You are on page 1of 223

‫ن ّوار جالحج‬

‫إضاءات سينمائية‬

‫تصميم الغالف واإلخراج ّ‬


‫الفن‪ :‬فرح أبو عسلي‬
‫صورة الغالف‪ :‬ن ّوار جالحج‬
‫إهداء‬
‫إىل الصديق املخرج رياض ش ّيا‬
‫الفهرس‬

‫حول السينام يف سوريا‬


‫‪ -7‬ورقة العمل حول واقع ومستقبل السينام يف سوريا‪.‬‬
‫‪ -27‬مهرجاننا السيناميئ وإشكالية الهوية ‪ -‬جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬
‫‪ -33‬قبل أن ينقرض السينامئيون ‪ -‬جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬
‫‪ -39‬يك يبقى الحوار مستمرا ً‪.‬‬
‫‪ -56‬رسي يعمل جابياً للرضائب عند الدولة ‪ -‬جريدة «النور» السورية ‪.2004‬‬
‫‪ -61‬صاالت السينام يف سورية بني الرضائب والقوانني – جريدة «الحياة» اللندنية ‪.2004‬‬

‫يف السينام السوفيتية – الروسية‬


‫‪ -69‬سريجي بوندراتشوك‪ :‬الذي رسم األدب بالضوء – مجلة «الفن السابع» املرصية ‪.2000‬‬
‫‪ -88‬الكسندر دوفجينكو‪ :‬مزيج من الشعر والفكاهة والوالء للثورة – مجلة «الفن السابع»‬
‫املرصية ‪.2000‬‬
‫‪ -104‬تداعيات التباين يف سينام نيكيتا ميخالكوف – مجلة «الفن السابع» املرصية ‪.2001‬‬
‫‪ -121‬يوري أوزيروف مخرج الروائع يف سينام الحرب‪.‬‬
‫‪ -125‬السينام الروسية املعارصة أمام تحدياتها – جريدة «الحياة» اللندنية ‪.2004‬‬

‫‪4‬‬
‫نقد أفالم‬
‫‪ -134‬اللجاة ‪.1993 -‬‬
‫‪ -142‬إيجاد فورسرت – ‪.2000‬‬
‫‪ -146‬تهريب ‪.2000 -‬‬
‫‪ -151‬أطفال شاتيال – مجلة “الفن السابع” املرصية ‪.2001‬‬
‫‪ -161‬ملا حكيت مريم – جريدة “النور” السورية ‪.2003‬‬
‫‪ -164‬زفاف رنا – جريدة “النور” السورية ‪.2003‬‬
‫‪ -168‬جواز بقرار جمهوري ‪ -‬جريدة “النور” السورية ‪.2003‬‬
‫‪ -174‬سهر الليايل ‪ -‬جريدة “النور” السورية ‪.2003‬‬
‫‪ -181‬إزاي البنات تحبك ‪ -‬جريدة “النور” السورية ‪.2003‬‬
‫‪ -184‬صاحب صاحبه ‪ -‬جريدة “النور” السورية ‪.2003‬‬
‫‪ -187‬أآلم املسيح ‪ -‬موقع «سينامئيون» ‪.2004‬‬
‫‪ -193‬ما يطلبه املستمعون – مجلة “الوردة” السورية ‪.2004‬‬
‫‪ -199‬أوعى وشك ‪ -‬مجلة “الوردة” السورية ‪.2004‬‬
‫‪ -204‬باركوا املرأة – مجلة “الوردة” السورية ‪.2005‬‬
‫‪ -212‬تحت السقف ‪ -‬مجلة “الوردة” السورية ‪.2006‬‬
‫‪ -218‬عالقات عامة – مجلة “الوردة” السورية ‪.2006‬‬

‫‪5‬‬
‫حول السينما يف سوريا‬

‫‪6‬‬
‫ورقة العمل‬
‫حول واقع ومستقبل السينام يف سورية‬

‫«إنــه واقــع يــرح نفســه منــذ عــرات األعــوام‪ ،‬فيلــم واحــد يف العــام‪ ،‬قطيعــة بني الســينام‬
‫والحيــاة االجتامعيــة‪ ،‬وغربــة بــن الجمهــور وطقــس الحضــور‪ ،‬وخــراب صــاالت العــرض‪،‬‬
‫وعــدم توفــر األفــام التــي ميكــن أن تشــاهد»‪ .‬بهــذه الكلــات تبــدأ مقدمــة ورقــة العمــل‬
‫حــول واقــع ومســتقبل الســينام يف ســورية التــي وقعهــا ‪ 42‬ســينامئياً و‪ 6‬مــن أصحــاب‬
‫دور العــرض‪ .‬مــا ال شــك فيــه أن هــذه الورقــة تأخــرت كثــرا ً (إذا اخرتنــا التعبــر األكــر‬
‫ديبلوماســية)‪ ،‬ورمبــا لــو أجتمــع الســينامئيون منــذ زمــن بعيــد لصياغــة هكــذا ورقــة ملــا‬
‫وصلــت الســينام يف ســوريا إىل هــذا الواقــع املــزري عــى جميــع املســتويات‪.‬‬
‫لكــن املهــم اآلن أنهــم اجتمعــوا ـ وإن يكــن كــرد فعــل عــى محــاوالت مــن قبــل «لجنــة‬
‫عليــا» تســعى بصــورة تعســفية إىل حــل األزمــة بعيــدا ً عنهــم ـ وقــرروا أن يبــادروا بصياغــة‬
‫ورقــة عمــل تحــاول توصيــف الواقــع الســيناميئ الراهــن مــن كافــة جوانبــه‪ ،‬وطــرح ســبل‬
‫الخــروج مــن األزمــة الخانقــة التــي يعانيهــا‪ .‬وألهميــة هــذه املبــادرة نــرى مــن الــروري‬
‫إضــاءة بعــض نواحيهــا‪ ،‬وإبــداء عــدد مــن املالحظــات حــول بعضهــا اآلخــر‪ ،‬كمســاهمة يف‬
‫صياغــة الخطــوط األساســية التــي تطرحهــا ورقــة العمــل‪ ،‬والتــي بنــاء عليهــا ســتتبلور يف‬

‫‪7‬‬
‫مؤمتــر الســينامئيني القــادم مالمــح الواقــع الســيناميئ الجديــد يف ســورية‪.‬‬
‫تؤكــد الورقــة يف مقدمتهــا عــى «أن الــدور الجوهــري للقطــاع العــام يف ميــدان الثقافــة‬
‫الوطنيــة رضوري وغــر قابــل للنقــاش‪ ،‬ولكــن تجســد هــذا الــدور يف مجــال الســينام يعنــي‬
‫بالــرورة حاميــة الدولــة ودعمهــا لهــذه الصناعــة االســراتيجية»‪ ،‬وبنــاء عــى ذلــك تدعــو‬
‫«بــأن يكــون لإلنتــاج الســيناميئ حصتــه الكافيــة يف توزيــع الدخــل الوطنــي‪ ،‬وأن يصبــح‬
‫بنــدا ً يف دراســة وإقــرار ميزانيــة الدولــة»‪ ،‬ويشــر الســينامئيون هنــا إىل أنهــم ال يطمعــون‬
‫«بالتأكيــد مبلياريــن ونصــف‪ ،‬ولكــن مليونــن ونصــف املليــون دوالر‪ ..‬عــى األقــل‪ ،‬إن جــاء‬
‫معهــا االنفتــاح عــى اإلنتــاج املشــرك الســوري والعــريب والعاملــي وترافقــت مــع الخطــوات‬
‫األخــرى التــي ذكــرت ســتكون كفيلــة بتجــاوز الواقــع‪ ،‬وصــوالً إىل الهــدف األســايس وهــو‪:‬‬
‫نشــوء صناعــة ســينامئية ســورية» ويؤكــدون «إن نشــوء هــذه الصناعــة يتطلــب قطاع ـاً‬
‫عام ـاً قوي ـاً وحــارضا ً ومنفتح ـاً عــى تعــدد الجهــات املنتجــة‪ .‬ذلــك أن الجميــع يجــب أن‬
‫يكــون مدعــوا ً للمســاهمة يف هــذه املهمــة الوطنيــة»‪.‬‬
‫ورد املخــرج هيثــم حقــي عــى هــذا التوجــه متســائالً‪« :‬يف أي مــكان مــن العــامل تنتــج‬
‫الدولــة أفالم ـاً؟ هــل تنتــج أفالم ـاً يف الســويد أو الــروج أو الدامنــارك؟ يف أي مــكان مــن‬
‫العــامل‪ :‬وفرنســا وأملانيــا وبريطانيــا؟ أم يف اليابــان أم يف الهنــد أم يف إيــران؟ يف هــذه الــدول‬
‫كلهــا تدعــم الدولــة إنتــاج األفــام‪ ،‬الدولــة مل تعــد تنتــج أفالم ـاً إال يف الــدول االشــراكية»‪.‬‬
‫ومــا يقولــه املخــرج حقــي صحيــح‪ ،‬فدعــم الدولــة للســينام كجــزء مــن سياســة ثقافيــة‬

‫‪8‬‬
‫متكاملــة ‪ -‬فيــا لــو وجــدت سياســية ثقافيــة لديهــا أصـاً ‪ -‬هــو نهــج متبــع يف العديــد مــن‬
‫دول العــامل‪ ،‬لكننــي أعتقــد بــأن هــذا النهــج يتخــذ أهميــة خاصــة يف الــدول املتخلفــة التــي‬
‫تفتقــد إىل بنــى ثقافيــة قويــة وصناعــة ســينامئية راســخة أنتجــت تقاليدهــا وارتباطاتهــا عــر‬
‫الســنني‪ ،‬حيــث طبيعــة الدعــم ال ميكــن أن تكــون مامثلــة لتلــك الســائدة يف الــدول املتقدمــة‬
‫ســينامئياً‪ ،‬وبالتــايل ال ضــر يف أن يتمثــل الدعــم فيهــا بإنتــاج أفــام‪ ،‬وال ننــى وجــود عــدد‬
‫كبــر مــن الــدول يف العــامل التــي ليــس لديهــا أي إنتــاج ســيناميئ عــى اإلطــاق‪ .‬ويف الواقــع‬
‫أن املخــرج حقــي مــدرك متام ـاً لهــذه النقطــة إذ يقــرح‪« :‬إحــداث مديريــة إنتــاج لــدى‬
‫املؤسســة العامــة للســينام تحصــل عــى متويــل مــن الدولــة مببلــغ ‪ 50‬مليــون لــرة ســورية‬
‫مــن أجــل إنتــاج الفيلــم األول والثــاين للســيناميئ»‪ .‬إذا ً الخــاف ليــس حــول دعــم الدولــة‬
‫بحــد ذاتــه وإمنــا حــول حجمــه وكيفيــة تقدميــه ودور القطــاع العــام املتمثــل يف املؤسســة‬
‫العامــة للســينام بصــورة عامــة‪.‬‬
‫ورغــم أهميــة االقــراح الــذي يقدمــه حقــي‪ ،‬ودوره يف إخــراج الســينامئيني الشــبان مــن‬
‫دائــرة البطالــة‪ ،‬واالنتظــار عقــد مــن الزمــن يف طابــور املؤسســة قبــل الــروع بإخــراج‬
‫الفيلــم األول‪ ،‬ولكننــي أرى أنــه مــن املبكــر بعــد الســر وفــق هــذه اآلليــة‪ ،‬إذ أعتقــد أنــه‬
‫مــن املجحــف يف حــق الســينامئيني «القدامــى» نــزع اإلمكانيــة الوحيــدة املتوفــرة لديهــم‬
‫اليــوم لإلنتــاج ـ أي املؤسســة ـ يف الوقــت الــذي مل يتبلــور فيــه واقــع جديــد يفــرز إمكانيــات‬
‫بديلــة لهــم‪ ،‬فهــؤالء يف النهايــة كانــوا ضحايــا واقــع وآليــات عمــل وقوانــن فرضــت عليهــم‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫وال يجــوز بــن ليلــة وضحاهــا أن يحملــوا وزرهــا وحدهــم‪.‬‬
‫يف هــذا األمــر يبــدو طــرح الورقــة يف مكانــه متامـاً‪ ،‬غــر أن الطــرح يتجــاوز ذلــك يف تركيــزه‬
‫عــى دور الدولــة يف إنشــاء «صناعــة ســينامئية ســورية»‪ .‬وهــذا أمــر غــر ممكــن يف الواقــع‪،‬‬
‫فالدولــة ميكــن لهــا أن تدعــم الصناعــة الســينامئية‪ ،‬لكــن قبــل ذلــك عــى هــذه الصناعــة أن‬
‫تظهــر إىل الوجــود‪ ،‬فحتــى صناعــة الســينام يف االتحــاد الســوفيتي الســابق والتــي أنتجــت‬
‫مــن قبــل الدولــة بصــورة كاملــة‪ ،‬كان لهــا وجــود مــن قبــل الثــورة‪ ،‬ووصــل عــدد األفــام‬
‫املنتجــة حتــى عــام ‪ 1917‬إىل حــوايل ‪ 2000‬فيلــم‪.‬‬
‫يف الواقــع إذا مــا عدنــا للبدايــات نجــد أن إنشــاء املؤسســة مل يكــن حصيلــة إرهاصــات‬
‫ســينامئية مــن أي نــوع يف البــاد‪ ،‬مبعنــى أنــه مل يكــن غايتهــا تنظيــم حالــة ســينامئية قامئــة‬
‫أو دعمهــا أو تنشــيطها‪ ،‬بــل إن عــدد الســينامئيني مل يكــن يف ذلــك الوقــت يتجــاوز أصابــع‬
‫اليــد لدرجــة أن تــم اســتقدام مصــور يوغوســايف لتصويــر أول أفــام املخــرج صــاح دهنــي‬
‫التســجيلية‪ ،‬وحتــى القطــاع الخــاص مل يكــن قــد انطلــق بعــد‪ .‬لذلــك ال ميكننــا ربــط الســياق‬
‫التاريخــي الــذي ولــدت املؤسســة يف إطــاره ســوى بالتغيــرات السياســية التــي جــاء بهــا عــام‬
‫‪ 1963‬والتــي مل يفتهــا املكانــة الكبــرة التــي حظيــت الســينام بهــا يف شــتى النظــم السياســية‬
‫رشقــاً وغربــاً كأداة فعالــة يف دعــم وترويــج أيديولوجياتهــا وسياســاتها والــدور الفاعــل‬
‫الــذي لعبتــه يف هــذا االتجــاه‪ ،‬وهــو مــا انعكــس بصــورة واضحــة يف األفــام التــي أنتجتهــا‬
‫املؤسســة يف بدايــة الســبعينات‪ ،‬حيــث متحــورت معظــم موضوعاتهــا حــول الــراع الطبقــي‬

‫‪10‬‬
‫يف املــايض والقضيــة الفلســطينية مــع تغييــب شــبه كامــل لعــدد كبــر مــن املوضوعــات‬
‫املرتبطــة بالداخــل واملعــارص‪ .‬وعندمــا أخــذت أجهــزة التلفزيــون تنتــر بصــورة واســعة‬
‫بــن املواطنــن تراجعــت أهميــة الســينام لصالــح األداة الجديــدة التــي بــدت أكــر فاعليــة‬
‫وأقــل مجازفــة‪ ،‬فرفعــت الدولــة يدهــا عــن املؤسســة بتطبيــق املرســوم ‪ 18‬عليهــا‪ ،‬ليرتاجــع‬
‫إنتاجهــا بعــد أن وصــل إىل خمســة أفــام عــام ‪ 1974‬إىل فيلــم واحــد وســطياً كل عــام‪ ،‬بــدا‬
‫كافيـاً كــادة دعائيــة الســتهالك اإلعــام واملهرجانــات ودون أن يحظــى الجمهور الســوري يف‬
‫كثــر مــن األحيــان مبشــاهدته يف مواقيــت مناســبة ولفــرة مالمئــة‪ .‬هــذا باإلضافــة إىل وجــود‬
‫أكــر مــن جهــة حكوميــة أخــرى لديهــا إمكانيــة اإلنتــاج الســيناميئ ومل تقــم طيلــة تاريخهــا‬
‫بإنتــاج أكــر مــن فيلــم واحــد أو فيلمــن مثــل دائــرة اإلنتــاج الســيناميئ يف التلفزيــون وقســم‬
‫الســينام يف اإلدارة السياســية للجيــش‪ .‬فهــل كانــت الدولــة معنيــة حقـاً بتطــور الســينام يف‬
‫البــاد؟‬
‫إن نشــوء هــذه الصناعــة يف ســوريا مرتبــط بصــورة مبــارشة وحتميــة بالقطــاع الخــاص‬
‫وتطــوره‪ ،‬بــل وبتطــور الواقــع االقتصــادي واالجتامعــي للبــاد‪ .‬مــن هنــا نجــد بــأن الطــرح‬
‫ال يفصــل متام ـاً بــن الســينام كإنتــاج ثقــايف أو تجريبــي ال يخضــع لقوانــن الســوق والربــح‬
‫والخســارة‪ ،‬وهــي الســينام التــي عــى الدولــة أن تقــوم بتمويلهــا وتحريرهــا مــن أي عــبء‬
‫تجــاري يف إطــار املؤسســة العامــة للســينام‪ ،‬وحيــث يكــون الدعــم منســجامً مــع هــذه‬
‫الوظيفــة ال أكــر‪ ،‬وبــن الســينام كـ«ســلعة» صناعيــة ـ تجاريــة عــى الدولــة أن تزيــح كخطوة‬

‫‪11‬‬
‫أوىل وأساســية جميــع العوائــق الترشيعيــة أمــام ظهورهــا عــى أرض الواقــع‪ ،‬وتقديــم جميع‬
‫التســهيالت املمكنــة لهــا‪.‬‬
‫تتطــرق ورقــة العمــل بدايــة إىل واقــع املؤسســة العامــة للســينام‪ ،‬حيــث تــرى «أن الفهــم‬
‫القائــم لـــ «مؤسســة اقتصاديــة ذات طابــع ثقــايف» يتجاهــل الخصوصيــة الثقافيــة إلنتــاج‬
‫املؤسســة ويســاوي الثقافــة والســينام بالخضــار معتــرا ً كليهــا «ســلعة» جعــل «مــن الطابــع‬
‫االقتصــادي عبئ ـاً ثقي ـاً يكبــل املؤسســة ويرتكهــا عالقــة يف دوامــات إداريــة وماليــة بعيــدا ً‬
‫عــن جوهرهــا الثقــايف»‪.‬‬
‫رغم اتفاقنا مع هذه الرؤية من حيث املبدأ‪ ،‬غري أنه البد من اإلشارة إىل نقطتني‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬أن التناقــض «التاريخــي» بــن الجانــب الثقــايف للمؤسســة مــن جهــة واالقتصــادي مــن‬
‫جهــة أخــرى‪ ،‬والــذي تفاقــم بصــورة مأســاوية بعــد حــر اســترياد األفــام الســينامئية‬
‫وتوزيعهــا باملؤسســة مل يكبــل عملهــا وحدهــا‪ ،‬وإمنــا كان أحــد األســباب األساســية يف انهيــار‬
‫القطــاع الخــاص‪ ،‬الــذي مل يســتطع الصمــود يف وجــه املنافســة القادمة مــن الخــارج‪ ،‬واملتمثلة‬
‫يف اســترياد املؤسســة منــذ منتصــف الســبعينات ألعــداد كبــرة مــن األفــام التجاريــة األكــر‬
‫تطــورا ً مــن الناحيــة التقنيــة والفنيــة والدراميــة مقارنــة باإلنتــاج املحــي‪ ،‬واملشــابه لــه‬
‫مــن حيــث الســوية الفكريــة‪ ،‬ملبيــة بذلــك حاجــة الســوق التــي كان يقتــات عليهــا القطــاع‬
‫الخــاص‪ .‬ومــن ثــم مــع ابتعــاد الجمهــور تدريجي ـاً عــن هــذه األفــام‪ ،‬انقطعــت تقاليــد‬
‫الفرجــة‪ ،‬وتحولــت صــاالت العــرض إىل مرتــع لألطفــال املرشديــن والعاطلــن عــن العمــل‬

‫‪12‬‬
‫وعابــري الســبيل‪ ،‬مــا مل يشــجع أصحابهــا عــى إصالحهــا وتحديثهــا مــع الزمــن‪ ،‬لتــؤول‬
‫إىل الحالــة املزريــة الراهنــة‪ .‬أي أن هــذا التناقــض أدى يف نهايــة األمــر إىل تدهــور الواقــع‬
‫الســيناميئ يف ســورية بأكملــه‪.‬‬
‫ثانيـاً‪ :‬إن غــرق املؤسســة يف الدوامــات املاليــة واإلداريــة «بعيــدا ً عــن جوهرهــا الثقــايف» ال‬
‫ميكــن ربطــه فقــط بهــذا التناقــض‪ ،‬بل إن ذلــك يعــود وبدرجة أكــر إىل اآلليــات البريوقراطية‬
‫والتعســفية التــي تحكــم عمــل القطــاع العــام يف ســوريا بصــورة عامــة واملؤسســة بصــورة‬
‫خاصــة‪ ،‬والتــي ســمحت لعــدد كبــر مــن املوظفــن ذوي الكفــاءات اإلداريــة الســيئة وأحيانـاً‬
‫الفاســدة‪ ،‬والذيــن يفتقــدون إىل روح املبــادرة بنظرتهــم الضيقــة واملحــدودة بتبــوء العديــد‬
‫مــن املناصــب اإلداريــة الفعالــة‪ .‬وأعتقــد بأنــه كان عــى الورقــة التطــرق إىل هــذه الجوانــب‬
‫الهامــة‪ ،‬إذ مــن دون رؤيــة شــمولية إلشــكاليات املــايض‪ ،‬مــن الصعــب التكهــن بعــدم تكــرار‬
‫ذات األخطــاء يف املســتقبل‪ .‬وتشــر الورقــة إىل «أن إعــادة الحيــاة إىل املؤسســة تتطلــب‬
‫تحريرهــا مــن هــذا العــبء بإصــدار الترشيعــات الداعمــة ملهمتهــا الثقافيــة‪ .‬وفــق منطــق‬
‫شــامل ومــدروس يحيــط بالواقــع مــن كل النواحــي ويفتــح أمــام املؤسســة أبــواب التقــدم‬
‫املغلقــة»‪ .‬وبغيــة ذلــك تقــدم الورقــة مجموعــة مــن االقرتاحــات الهامــة عــى الصعيــد املــايل‬
‫واإلداري للمؤسســة‪ .‬نلخصهــا فيــا يــي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ «أن تحتمــل الدولــة (وزارة الثقافــة ـ وزارة املاليــة) كتلــة الرواتــب واألجور يف املؤسســة‪،‬‬
‫مــا يحقــق الفصــل بــن النفقــات اإلداريــة ونفقــات اإلنتاج»‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫‪ 2‬ـ إيجاد حل للتضخم يف عدد املوظفني داخل املؤسسة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ «دعــم وحاميــة وتحديــث إنتــاج املؤسســة الثقــايف…» وذلــك بــأن «تتلقــى املؤسســة‬
‫مســاعدات ماليــة ســنوية كافيــة مــن الدولــة»‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تطويــر آليــات التوزيــع والتســويق الخارجــي إلنتــاج املؤسســة ســواء يف مجــال العــرض‬
‫الســيناميئ أو الفضــايئ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ االنفتــاح عــى اإلنتــاج املشــرك مــع القطــاع الخــاص (يف حــال ظهــوره) والجهــات‬
‫العربيــة والعامليــة املختلفــة‪ ،‬ملــا يضمنــه ذلــك مــن دعــم يف التقنيــة والتوزيــع والعــرض‪،‬‬
‫وذلــك دون اإلخــال باســتقاللية الهويــة الثقافيــة‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ اســتثامر القاعــدة التقنيــة الهامــة التــي متتلكهــا املؤسســة‪ ،‬والتــي «ميكنهــا أن تشــكل‬
‫األرضيــة للصناعــة الســينامئية الســورية»‪ ،‬وخاصــة إذا مــا تــم إنجــاز املدينــة الســينامئية‬
‫وأنطلــق القطــاع الخــاص‪ ،‬حيــث «ســيعود عليهــا ذلــك بدخــل جيــد يدعــم قدرتهــا اإلنتاجية‬
‫الذاتيــة ويخفــض مــن كلفــة اإلنتــاج املحــي الخــاص‪ ،‬كــا سيســتقطب اإلنتــاج العــريب أيضاً»‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ تحديث صاالت العرض التي متتلكها املؤسسة أو متتلك نسباً فيهاً‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ إعادة النظر يف اآللية اإلدارية لعمل املؤسسة‪ ،‬وقوانينها الداخلية‪.‬‬
‫‪9‬ـ «إعــادة تشــكيل اللجــان املفصليــة يف املؤسســة (مجلــس اإلدارة‪ ،‬إدارة شــؤون اإلنتــاج‪،‬‬
‫االســترياد‪ ،‬التخطيــط‪ ،‬اللجنــة الفكريــة) بحيــث يكــون عــدد الســينامئيني فيهــا مســاوياً لعــدد‬
‫اإلداريــن حتــى لــو كان اإلداري ســينامئياً»‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫وهكــذا تحيــط ورقــة العمــل بجميــع القضايــا التــي مــن شــأنها بعــث الــروح يف املؤسســة‬
‫العامــة للســينام‪ ،‬مبقرتحــات عمليــة واضحــة‪ ،‬وليســت مســتحيلة التحقيــق فيــا لــو وجــدت‬
‫الرغبــة واإلرادة عنــد «أوليــاء األمــور»‪ ،‬وهنــا بيــت القصيــد‪ ،‬فمعظــم هــذه القضايــا وإن‬
‫يكــن بأشــكال ومســتويات مختلفــة ـ طــرح مئــات املــرات يف الصحــف الســورية والعربيــة‬
‫طيلــة عقديــن ونيــف مــن الزمــن ـ والنتيجــة ال يشء‪ .‬حتــى مــروع الصنــدوق الوطنــي‬
‫للســينام الــذي يــرى فيــه البعــض جهــة إنتاجيــة بديلــة للمؤسســة‪ ،‬طرح منــذ عــام ‪ 1977‬ومل‬
‫يجــد كذلــك تجاوبـاً لــدى الجهــات املعنيــة‪ .‬إذن املســألة ال تكمــن فقــط يف وجــود املؤسســة‬
‫أو الصيغــة املناســبة لوجودهــا أو إلغائهــا‪ ،‬وال يف إحــداث املجلــس الوطنــي للســينام وإرشافه‬
‫عــى الصنــدوق الوطنــي للســينام أو عــدم إحداثــه‪ .‬وإمنــا يف قــدرة الســينامئيني عــى فــرض‬
‫تصوراتهــم وآرائهــم‪ ،‬ويف أن يكونــوا جــزءا ً فاعـاً مــن القــرار الســيناميئ يف البــاد‪.‬‬
‫بعــد ذلــك تنتقــل الورقــة إىل القطــاع الخــاص وتشــر إىل أن «لــدى القطــاع الخــاص الــذي‬
‫كان يعمــل يف بالدنــا‪ ،‬والــذي ميكــن أن يعــود للعمــل‪ ،‬اهتــام عمــي بتحويــل الســينام‬
‫إىل صناعــة رابحــة‪ ،‬إن تزاوج ـاً بــن هــذه الــروح وبــن الــروح اإلبداعيــة الثقافيــة للعمــل‬
‫الســيناميئ ســيعطي دفعـاً باتجــاه تأســيس الصناعــة الســينامئية الوطنيــة الحيــة‪ ،‬والتنســيق‬
‫بــن القطاعــن بوجــود قــوي للمؤسســة ســيضمن أال تســيطر عــى اإلنتــاج الوطنــي منــاذج‬
‫الســعي إىل الربــح وحــده»‪.‬‬
‫يبــدو واضحـاً مــن هــذا الطــرح أنــه حتــى اآلن مل تســتوعب لدينــا تجربــة القطــاع الخــاص‬

‫‪15‬‬
‫يف الســتينات والســبعينات يف ســياقها التاريخــي‪ ،‬بــل ومفهــوم الصناعــة الســينامئية عمومـاً‪.‬‬
‫فمنــذ الســبعينات وحتــى هــذه اللحظــة مل يــزل هــذا القطــاع موضــع اتهــام يف أنــه مل‬
‫يقــدم شــيئاً قي ـاً ســواء عــى املســتوى الفكــري أو الفنــي‪ .‬وكــم مــن الرصخــات أطلقــت‬
‫للقضــاء عليــه يف حينــه‪ ،‬وكــم مــن اآلراء تــرى عــدم جــدواه اآلن‪ .‬لــن نجــادل بالتأكيــد يف‬
‫صحــة االتهــام املوجــه لتجربــة القطــاع الخــاص‪ .‬ولكــن الســؤال الــذي يجــب طرحــه هــل‬
‫كان لهــذه التجربــة أن تأخــذ منحــى آخــر‪ .‬أعتقــد بــأن ذلــك مل يكــن ممكنـاً عــى اإلطــاق‪،‬‬
‫ولــو حــدث ذلــك لــكان ظاهــرة فريــدة مــن نوعهــا تســتدعي التوقــف واإلمعــان طويـاً يف‬
‫ماهيتهــا الالمنطقيــة‪ .‬إذ مــن املعــروف أنــه قبــل هــذه املرحلــة مل يكــن يف ســوريا أي وجــود‬
‫إلنتــاج ســيناميئ متواتــر‪ ،‬أي أنهــا كانــت املــرة األوىل التــي تشــهد فيهــا البــاد مالمــح صناعــة‬
‫ســينامئية يف أطوارهــا البدائيــة األوىل‪ .‬ومــن املعــروف أيضـاً أنــه يف جميــع دول العــامل التــي‬
‫اســتطاعت يف وقــت الحــق التأســيس لصناعــة ســينامئية يعتــد بهــا‪ ،‬كانــت بداياتهــا تحــايك‬
‫أســوء النــاذج الفنيــة والفكريــة‪ ،‬مبــا فيهــا تلــك الــدول التــي دخلــت عــامل الســينام وهــي‬
‫تحمــل موروث ـاً أدبي ـاً ومرسحي ـاً وتشــكيلياً عظي ـاً مــن القــرن التاســع عــر‪ .‬باإلضافــة إىل‬
‫ذلــك علينــا أن نعــرف بــأن الكــم األكــر والطاغــي مــن اإلنتــاج الســيناميئ يف العــامل أجمــع‬
‫ينتمــي إىل الســينام الســائدة التــي تســعى وراء الربــح التجــاري ال غــر‪ .‬فكيــف كان لتجربــة‬
‫القطــاع الخــاص الناشــئة أن تكــون عــى غــر ذلــك يف ســورية‪ .‬وكيــف ميكــن االســتنتاج عــى‬
‫أســاس طابعهــا التجــاري املبتــذل أنــه يجــب إلغائهــا‪ .‬إن مثــل هــذا االســتنتاج يعــر عــن‬

‫‪16‬‬
‫عجــز كامــل يف النظــر إىل هــذه التجربــة كظاهــرة طبيعيــة يف ســياقها التاريخــي والحضــاري‪،‬‬
‫وإىل كونهــا قابلــة للتطــور مــع الزمــن‪ .‬والحقيقــة أن بعــض إنتاجــات القطــاع الخــاص يف‬
‫الثامنينــات أكــدت بالفعــل وجــود هــذه القابليــة‪.‬‬
‫مــن جهــة أخــرى أعتقــد أن مــن الهــام جــدا ً تجــاوز النظــرة النقدية الضيقة إىل ســوية ســينام‬
‫القطــاع الخــاص‪ ،‬ومحاولــة التوقــف عندهــا وتقييمهــا كظاهــرة أكــر مــن كونهــا مجــرد‬
‫أفــام‪ ،‬عندهــا بالتأكيــد ســنجد أكــر مــن نقطــة إيجابيــة تحســب لهــا‪ .‬منهــا مــا حملتــه يف‬
‫وقتهــا مــن قيــم تحرريــة منفتحــة ـ وإن يكــن عــى املســتوى الشــكيل ـ تركــت تأثريهــا حتــى‬
‫عــى أفــام املؤسســة يف بدايــة الســبعينات‪ ،‬لكنهــا مــا فتــأت الحق ـاً أن انحــرت بصــورة‬
‫مريعــة لدرجــة أننــا مل نعــد نذكــر املــرة األخــرة التــي شــاهدنا فيهــا قبلــة يف فيلــم ســوري‪،‬‬
‫حتــى وإن قــام بأكملــه عــى قصــة حــب‪ .‬كــا أكــدت هــذه الظاهــرة وألول مــرة يف بالدنــا‬
‫قــدرة الســينام عــى اجتــذاب الرأســال الخــاص للمســاهمة يف عمليــة إنتاجهــا فيــا لــو‬
‫توفــر لــه الظــرف املالئــم‪ ،‬ومــن املعــروف أن الظــرف حينــذاك مل يكــن نتاجـاً محليـاً رصفـاً‪،‬‬
‫بــل محصلــة لجملــة مــن العوامــل التــي أحاطــت بالســينام املرصيــة واللبنانيــة ودفعــت‬
‫بالعديــد مــن مخرجيهــا للعمــل يف ســورية‪ ،‬ولألســف مل تلتفــت الدولــة إىل أهميــة هــذا‬
‫االســتقطاب للســينامئيني العــرب‪ ،‬وبــدالً مــن أن تعمــل عــى حاميتــه وتشــجيعه خرجــت‬
‫عــام ‪ 1975‬باملرســوم رقــم ‪ 264‬الــذي ينــص عــى تطبيــق أحــكام املرســوم الترشيعــي رقــم‬
‫‪ 18‬عــى املؤسســة العامــة للســينام‪ ،‬لتصبــح بذلــك مؤسســة إنتاجيــة اقتصاديــة عليهــا‬

‫‪17‬‬
‫أن تغطــي نفقاتهــا بنفســها‪ ،‬ليضعهــا أمــام تناقــض مأســاوي بــن غايتهــا الثقافيــة املعلنــة‬
‫ووســيلتها الــا ثقافيــة املامرســة يف تغطيــة نفقاتهــا اإلنتاجيــة مــن خــال اســتريادها ألفــام‬
‫أقــل مــا يقــال عنهــا أنهــا ال تتفــق و«تنميــة الشــعور وتوجيهــه ورفــع املســتوى الفنــي‬
‫والثقــايف واالجتامعــي لــدى الجامهــر» كــا عللــت أســباب حــر اســترياد األفــام وتوزيعهــا‬
‫باملؤسســة يف قانــون عــام ‪ ،1969‬وهــو مــا وضــع املؤسســة والقطــاع الخــاص يف مجابهــة‬
‫مفتوحــة مل يســتطع األخــر الصمــود فيهــا أمــام منافســة األفــام املســتوردة األكــر تطــورا ً‬
‫مــن الناحيــة التقنيــة والحرفيــة والدراميــة مقارنــة بأعاملــه‪ ،‬واملشــابهة لــه مــن حيــث‬
‫ســويتها الفنيــة ومضامينهــا الفكريــة‪ ،‬ملبيــة بذلــك حاجــة الســوق التــي كان يقتــات عليهــا‬
‫القطــاع الخــاص‪ ،‬ومــع ارتفــاع تكاليــف أفالمــه وتشــدد الرقابــة تجاههــا والتدهــور الفظيــع‬
‫الــذي أصــاب صــاالت العــرض‪ ،‬الســوق الطبيعــي لــه‪ ،‬زال هــذا القطــاع متامـاً‪ .‬والغريــب أن‬
‫الدولــة ممثلــة يف املؤسســة مل تكتــف بالوقــوف متفرجــة عــى ذلــك فحســب‪ ،‬بــل أنهــا مل‬
‫تســتطع أو مل تــرد مواكبــة التغيــرات يف أمزجــة وأذواق ومتطلبــات الجمهــور واالرتقــاء‬
‫بأفالمهــا التجاريــة املســتوردة مبــا يتــاءم مــع هــذه التغيــرات مــا كان ســيحافظ عــى‬
‫الصــاالت مزدهــرة بــل وســيدر عــى املؤسســة املزيــد مــن األربــاح‪.‬‬
‫مــن كل ذلــك نريــد القــول أنــه يجــب أن ال تكــون لــدى الســينامئيني اليــوم أوهامـاً بصــدد‬
‫طبيعــة القطــاع الخــاص الــذي قــد يكــون يف طريقــه ـ كــا نأمــل ـ إىل االنطــاق يف مرحلــة‬
‫تأسيســية جديــدة‪ ،‬وعليهــم أن يتقبلــوا ـ يف الوقــت الراهــن عــى األقــل ـ حقيقــة عــدم‬

‫‪18‬‬
‫إمكانيــة أي تــزاوج بــن االهتــام العمــي «بتحويــل الســينام إىل صناعــة رابحــة» لــدى‬
‫القطــاع الخــاص وبــن «الــروح اإلبداعيــة الثقافيــة للعمــل الســيناميئ» لديهــم‪ .‬كــا عليهــم‬
‫أن يتقبلــوا وبصــدر رحــب إمكانيــة أن «تســيطر عــى اإلنتــاج الوطنــي منــاذج الســعي إىل‬
‫الربــح وحــده» كــا يف كل مــكان مــن العــامل‪ ،‬فمــن غــر الــوارد أن تســتطيع مؤسســة‬
‫ذات طابــع ثقــايف مجــاراة قطــاع يســعى وراء شــباك التذاكــر بالدرجــة األوىل‪ ،‬وال يوجــد‬
‫طريــق آخــر نحــو نشــوء صناعــة ســينامئية ســورية‪ ،‬ســتفرز بالتأكيــد يف املســتقبل مناذجهــا‬
‫اإليجابيــة‪ .‬فالرتاكــم الكمــي لإلنتــاج الخــاص‪ ،‬واملتابعــة النقديــة املوضوعيــة لــه‪ ،‬ونــر‬
‫الثقافــة الســينامئية‪ ،‬كل ذلــك مــن شــأنه أن يســاهم مــع الزمــن (الطويــل جــدا ً) يف تطويــر‬
‫املســتوى الفكــري والفنــي لهــذا القطــاع‪.‬‬
‫وقــد يبــدو للكثرييــن أن هــذا الــكالم برمتــه عــن انطــاق اإلنتــاج املحــي الخــاص رضب ـاً‬
‫مــن األحــام الرومانســية‪ ،‬وهــم بذلــك ال يبتعــدون كثــرا ً عــن الحقيقــة‪ .‬فاليــوم حتــى‬
‫أكــر الــدول تقدم ـاً وإنتاج ـاً لألفــام تعــاين مــن املنافســة الشــديدة للســينام األمريكيــة‪،‬‬
‫فهــل سيســتطيع الفيلــم املحــي بإمكانياتــه املاديــة والتقنيــة والفنيــة املحــدودة الصمــود‬
‫يف وجههــا‪ ،‬وألــن يبــدو االســتثامر يف مجــال بنــاء الصــاالت الســينامئية وتحديثهــا واســترياد‬
‫األفــام وتوزيعهــا أكــر ربح ـاً وضامنــة مــن الخــوض يف تجربــة اإلنتــاج بالنســبة للقطــاع‬
‫الخــاص؟ رمبــا ولكــن ذلــك ال يعفــي الدولــة مــن واجبهــا يف إيجــاد صيغــة مــا لحاميــة‬
‫الفيلــم املحــي‪ ،‬كفــرض «نســبة مــن العــرض املحــي تشــجيعاً لإلنتــاج املحــي» كــا اقرتحــت‬

‫‪19‬‬
‫الورقــة‪ .‬تناقــش الورقــة بعــد ذلــك ســبل تشــجيع القطــاع الخــاص فتؤكــد عــى النقــاط‬
‫التاليــة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ رضورة دعــم االســتثامر يف املجــال الســيناميئ‪ ،‬وتقديــم لــه التســهيالت املمكنــة مبــا‬
‫فيهــا اإلقــراض والرضائــب واملســاعدة التقنيــة‪ ،‬و«أن تتناســب التســهيالت طــردا ً مــع ازديــاد‬
‫العامــل الثقــايف»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ «إعــادة النظــر يف نظــام حــر االســترياد عــى أســاس االنفتــاح والتشــجيع مــع رقابــة‬
‫الدولــة «املرنــة واملتطــورة» بحيــث يعطــى القطــاع الخــاص تســهيالت إداريــة وجمركيــة‬
‫وتكــون عائــدات الرضائــب عــى االســترياد لصالــح املؤسســة العامــة للســينام‪ .‬ويرفــق فتــح‬
‫هــذا البــاب بفــرض نســبة مــن العــرض املحــي تشــجيعاً لإلنتــاج املحــي‪ ،‬مفرتضــن زيــادة‬
‫هــذا اإلنتــاج»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ «تقديــم تســهيالت للقطــاع الخــاص مــن أجــل تحســن صاالتــه وتطويرهــا وحتــى هدمها‬
‫إلنشــاء صــاالت جديــدة… وعليــه ميكــن الســاح برفــع أســعار البطاقــات مقابــل رســوم‬
‫معقولــة عــى األربــاح وهــذا يقتــي تســهيالت يف مجــال الرتخيــص والعمــران والقــروض‬
‫واالســتثامر والرضائــب والرســوم»‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن تقــوم املؤسســة بتقديــم الخدمــات التقنيــة للقطــاع الخــاص «بتخفيضــات عاليــة‬
‫تتناســب مــع ســوية العمــل‪ .‬مــا ســيخفض مــن كلفــة إنتــاج الفيلــم املحــي الخــاص‪،‬‬
‫وســيعود عــى املؤسســة بأربــاح ترفــد ميزانيــة إنتاجهــا»‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫عــى الرغــم مــن أن هــذه املطالــب تحيــط بجميــع الجوانــب املتعلقــة بالقطــاع الخــاص‪ ،‬غري‬
‫أنــه البــد مــن التوقــف عنــد بعــض النقــاط بــيء مــن التفصيــل‪ .‬فلــو توقفنــا عنــد النقطــة‬
‫األوىل التــي تطرحهــا الورقــة والخاصــة باإلنتــاج ســوف نتســاءل أي صيغــة ترشيعيــة تلــك‬
‫التــي ســتتمكن مــن اإلحاطــة مبطلــب كهــذا‪ ،‬فهــذا يعنــي وببســاطة غيــاب نــص ترشيعــي‬
‫واضــح يحــدد قيمــة القــروض والرضائــب عــى األفــام‪ ،‬طاملــا أن قيمتهــا يجــب أن تتناســب‬
‫«طــردا ً مــع ازديــاد العامــل الثقــايف»‪ .‬وهكــذا ميكننــا تصــور اللوحــة التاليــة‪ :‬يك يحصــل فيلــم‬
‫مــا عــى قــرض مناســب ســيكون عليــه تقديــم الســيناريو إىل لجنــة خاصــة تقــرر بعــد قراءته‬
‫نســبة «العامــل الثقــايف» فيــه‪ ،‬وعــى أساســها تحــدد قيمــة القــرض‪ .‬ويك يعفــى الفيلــم املنتج‬
‫مــن أكــر قــدر مــن الرضائــب عليــه أن يخضــع للجنــة أخــرى تحــدد نســبة هــذا «العامــل‬
‫الثقــايف» داخلــه‪ ،‬وعــى أساســه كذلــك يحــدد حجــم الرضائــب عليــه‪ .‬وبالتــايل إن مــا ينتظــر‬
‫أي فيلــم تجــاري ال هــم ثقــايف لــه عــى اإلطــاق‪ ،‬أدىن حــد مــن القــروض‪ ،‬وأعــى نســبة‬
‫مــن الرضائــب‪ ،‬وأعــى تكلفــة مقابــل املســاعدة التقنيــة املقدمــة‪ .‬فهــل تبــدو مثــل هــذه‬
‫املقدمــات مشــجعة إلنعــاش اإلنتــاج الســيناميئ الخــاص؟ حتـاً ال‪ ،‬ففــي الوقــت الراهــن ال‬
‫نعتقــد أنــه مــن املفيــد وضــع أي عراقيــل «ثقافيــة» أمــام نهضــة هــذا القطــاع‪ ،‬بــل يجــب‬
‫تقديــم أكــر قــدر ممكــن مــن الدعــم واملســاعدات لــه بترشيعــات واضحــة ال لبــس فيهــا‬
‫وبغــض النظــر عــن «العامــل الثقــايف»‪ .‬ونقــرح إعفــاء رشكات اإلنتــاج واالســتثامر يف مختلف‬
‫القطاعــات الســينامئية مــن الرضائــب لفــرة خمــس ســنوات‪ ،‬وخاصــة أن اإلنتــاج الخــاص‬

‫‪21‬‬
‫يدخــل منــذ البدايــة مجازفــة كبــرة‪ .‬إذ أن اســترياد وتوزيــع األفــام العربيــة واألجنبيــة مــن‬
‫قبــل القطــاع الخــاص ســوف يشــكل منافســة غــر متكافئــة بالنســبة للفيلــم املحــي‪ ،‬ومــا‬
‫تقرتحــه الورقــة مــن فــرض «نســبة مــن العــرض املحــي تشــجيعاً لإلنتــاج املحــي»‪ ،‬هــو‬
‫يشء جيــد ومتبــع يف العديــد مــن دول العــامل‪ ،‬لكــن يف جميــع األحــوال نحــن ال نــزال نتكلــم‬
‫عــن افرتاضــات مجــردة‪ ،‬فــا أحــد يســتطيع أن يجــزم بــأن اإلنتــاج املحــي ســوف ينطلــق‬
‫غــدا ً‪ ،‬والخطــوة األوىل التــي ســيقوم بهــا القطــاع الخــاص البــد أن ترتكــز عــى تحديــث‬
‫وبنــاء صــاالت العــرض التــي يجــب تتناســب أســعار بطاقاتهــا مــع درجاتهــا واســتثامرها‬
‫عــى أســاس إلغــاء قانــون حــر االســترياد ـ مســتفيدا ً يف هــذا املجــال مــن تجربــة مــر‬
‫ولبنــان يف الســنوات األخــرة ـ وعــى الدولــة بدورهــا تقديــم كل املســاعدات والتســهيالت‬
‫املمكنــة لــه‪ .‬وأعتقــد بأنــه ســيتحتم علينــا االنتظــار بضعــة ســنوات قبــل أن يبــدأ القطــاع‬
‫الخــاص باإلنتــاج املحــي املتواتــر‪ .‬مــا يعنــي أن القيــام اآلن بإصــدار ترشيــع يفــرض نســبة‬
‫مــن العــرض املحــي عــى دور العــرض يف الوقــت الــذي مل ينطلــق فيــه اإلنتــاج املحــي بعــد‪،‬‬
‫ويف ظــل املنافســة الخارجيــة القويــة لــن يســاهم يف تطويــر هــذا اإلنتــاج عــى اإلطــاق‪،‬‬
‫وســيغلفه لفــرة طويلــة بطابــع شــكيل‪ ،‬حيــث ســيقوم القطــاع الخــاص يف هــذه الحالــة‬
‫مضطــرا ً إىل إنتــاج أعــال هزيلــة التكلفــة رسيعــة الطبــخ‪ ،‬ال تشــكل الخســارة مــن جــراء‬
‫عرضهــا عبئـاً كبــرا ً عليــه‪ .‬لذلــك أعتقــد أنــه يجــب البحــث عــن صيــغ أخــرى تحمــي اإلنتــاج‬
‫املحــي يف حــال انطالقــه دون الدفــع بــه إىل اإلنتــاج امليكانيــي والشــكيل‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫بعــد ذلــك تتطــرق الورقــة ملجموعــة مــن املســائل شــديدة االرتبــاط بتطــور الواقــع‬
‫الســيناميئ وهــي‪:‬‬
‫‪1‬ـ املجلــس الوطنــي للســينام‪ .‬حيــث تؤكــد عــى رضورة «إحداثــه كجهــة تنســيق وربــط‬
‫وتخطيــط تجمــع األطــراف الثالثــة (الســينامئيني‪ ،‬املؤسســة‪ ،‬ممثلــن عــن القطــاع الخــاص)‬
‫وترســم اآلفــاق املشــركة لإلنتــاج الســيناميئ يف ســوريا… وصــوالً إىل إنشــاء الصنــدوق‬
‫الوطنــي لدعــم الســينام»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ املعهــد العــايل للســينام‪ .‬وتدعــو إىل «وضــع مرشوعــه باالعتــاد عــى الكوادر الســينامئية‬
‫الســورية وعــى القاعــدة التقنيــة للمؤسســة… إذ صــار رضورة ملحــة الحتيــاج الســينام‬
‫الســورية إىل كــوادر شــابة…»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ مهرجــان دمشــق الســيناميئ‪ .‬وتقــرح بغيــة إنعاشــه منحــه «هامشـاً أعــرض مــن الحريــة‬
‫اإلداريــة والتنفيذيــة وبفصــل إدارتــه عــن إدارة املؤسســة»‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ العمــل عــى نــر الثقافــة الســينامئية‪ .‬وذلــك «بتشــجيع النــوادي الســينامئية وتنشــيطها‬
‫ودعمهــا… وتشــجيع ســينام الهــواة والتظاهــرات الخاصــة والعــروض يف الصــاالت غــر‬
‫املخصصة…الــخ»‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ إعــادة النظــر بقوانــن الرقابــة وآليــات عملهــا‪ .‬فتطلــب مــن الرقابــة «أن تعــر عــن‬
‫ذائقــة الجمهــور وأن تحرتمــه ال أن تكــون وصيــة عليــه فيصبــح تحديــد الفئــات العمريــة‬
‫أســاس آليــة عملهــا»‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫عــى الرغــم مــن أن الورقــة تؤكــد عــى رضورة إنشــاء الصنــدوق الوطنــي لدعــم الســينام‪،‬‬
‫غــر أنهــا تغفــل الجانــب األهــم مــن املوضــوع‪ ،‬واملتعلــق مبصــادر متويــل هــذا الصنــدوق‪.‬‬
‫فمــن خــال كل مــا جــاء يف الورقــة ال نجــد أي إشــارة إىل هــذه املصــادر‪ ،‬وأعتقــد هنــا بــأن‬
‫عائــدات الرضائــب عــى االســترياد يجــب أن تكــون مــن نصيــب هــذا الصنــدوق وليــس‬
‫لصالــح مؤسســة الســينام‪ ،‬باإلضافــة إىل الــواردات التــي ميكــن أن يحصــل عليهــا عــن طريــق‬
‫اقتطــاع جــزء مــن أســعار البطاقــات‪ ،‬بــل وميكــن إصــدار ترشيعــات تعفــي أي مؤسســة‬
‫تجاريــة خاصــة مــن نســبة معينــة مــن الرضائــب مبختلــف أنواعهــا‪ ،‬تتناســب طــردا ً مــع‬
‫حجــم مســاهمتها يف دعــم هــذا الصنــدوق‪ .‬مــن جهــة أخــرى ســيكون مــن األجــدى أن‬
‫يتمتــع هــذا املجلــس باســتقاللية كاملــة عــن املؤسســة وأن يتشــكل مجلــس إدارتــه مــن‬
‫الســينامئيني وممثلــن عــن غرفــة صناعــة الســينام‪ ،‬إذ عــى عاتقــه بالــذات تقــع مهمــة دعــم‬
‫اإلنتــاج املحــي بجميــع اتجاهاتــه‪ ،‬والتأســيس لصناعــة ســينامئية ســورية‪ ،‬وكذلــك تبنــي‬
‫متويــل األفــام ذات الطابــع التجريبــي‪ ،‬ودعــم النــوادي والكتــب والدوريــات الســينامئية‪،‬‬
‫والتأســيس ألرشــيف ســيناميئ يف ســوريا‪ .‬أمــا املؤسســة فيجــب أن تقنــع بوجودهــا كجهــة‬
‫ســينامئية ـ ثقافيــة رافــده لهــذه الصناعــة‪ ،‬وليســت مركــزا ً لهــا‪ .‬كــا أن مثــل هــذه‬
‫االســتقاللية كفيلــة بخلــق منافســة إيجابيــة بــن املؤسســة واملجلــس الوطنــي‪ ،‬تــؤدي حتـاً‬
‫إىل تطويــر أداء كل منهــا‪ .‬وهنــا يطــرح ســؤال علينــا نفســه‪ :‬عــن أي جهــة ســوف ينتخــب‬
‫الســينامئيون إىل املجلــس الوطنــي؟ إذ مــن املعــروف أن الســينامئيني يف ســورية يندرجــون‬

‫‪24‬‬
‫يف نقابــة الفنانــن جنبـاً إىل جنــب مــع املمثلــن واملغنــن والراقصــات… الــخ‪ ،‬وليــس هنــاك‬
‫نقابــة (أو اتحــاد) خاصــة بهــم‪ ،‬تســمح لهــم بالتــداول يف شــؤون الســينام وقضاياهــا بصــورة‬
‫دامئــة‪ ،‬وتدافــع عــن مصالحهــم ومطالبهــم‪ .‬لذلــك أعتقــد أنــه حــان الوقــت ـ وخاصــة أن‬
‫النشــاط الســيناميئ لــن يعــود محصــورا ً يف إطــار املؤسســة ـ لتأســيس اتحــاد للســينامئيني يف‬
‫ســورية‪ ،‬ينتخــب منــه كل بضعــة أعــوام ممثلــن إىل املجلــس الوطنــي‪.‬‬
‫أمــا املطالــب املتبقيــة فإنهــا تعيــد للذهــن مــن جديــد املــرات الكثــرة التــي طرحــت فيهــا‪،‬‬
‫وتجعلنــا نتســاءل إىل متــى ســيبقى الســينامئيون واملثقفــون عموم ـاً عــى هامــش القــرار‬
‫والفعــل‪ ،‬دون أن يشــكلوا أداة ضغــط حقيقيــة وراء مطالبهــم‪ ،‬وإىل متــى ســتبقى املبــادرة‬
‫املســتقلة عــن الدولــة غائبــة لديهــم‪ ،‬فــإن مل تــرع الدولــة بتأســيس املعهــد العــايل للســينام‪،‬‬
‫أال يســتطيع الســينامئيون إحــداث معاهــد صغــرة خاصــة تؤهــل حــد أدىن مــن املســاعدين‬
‫الفنيــن لدخــول املجــال الســيناميئ‪ ،‬وأال يشــكل واقــع النــادي الســيناميئ بدمشــق الــذي عــاد‬
‫إىل نشــاطه منــذ أكــر مــن عــام دون أن يســتطيع خاللــه تقديــم أكــر مــن أربعــة عــروض‬
‫دليـاً عــى بعــد الســينامئيني وعــدم التفافهــم ودعمهــم لــه‪.‬‬
‫وأخــرا ً نتســاءل مــاذا ســيكون مصــر جميــع هــذه الحــوارات والنقاشــات واالقرتاحــات‬
‫واملشــاريع واملطالــب التــي تطــرح اليــوم والحــال كذلــك‪ .‬أعتقــد أنــه إذا مل تــدرك الدولــة‬
‫املســؤولية الكبــرة امللقــاة عــى عاتقهــا اليــوم‪ ،‬والتــي تكمــن يف إقــرار ووضــع الصيــغ‬
‫الترشيعيــة ملــا ســيجتمع الســينامئيون عليــه مــن توصيــات يف مؤمترهــم القــادم‪ ،‬وليــس‬

‫‪25‬‬
‫بفــرض ترشيعاتهــا الخاصــة عليهــم بصــورة تعســفية‪ .‬وإذا مل يــدرك الســينامئيون بــأن عليهم‬
‫ليــس فقــط الخــروج بتوصيــات‪ ،‬بــل والعمــل الحثيــث عــى أن تخــرج هــذه التوصيــات إىل‬
‫الحيــاة بصــورة فعليــة‪ ،‬والضغــط يف هــذا االتجــاه‪ .‬أعتقــد أنــه إذا مل نــدرك كل هــذا اليــوم‬
‫ســنعود بعــد عــرة أعــوام ونكــرر كل مــا قيــل قبــل عرشيــن عام ـاً‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫مهرجاننا السيناميئ وإشكالية الهوية‬

‫يف ظــل الواقــع املأســاوي الــذي مل تــزل الســينام الســورية تعايشــه عام ـاً بعــد عــام عــى‬
‫كافــة املســتويات مــن حجــم اإلنتــاج الســنوي املتواضــع‪ ،‬إىل حالــة صــاالت العــرض املرتديــة‬
‫وعددهــا القليــل وغيــاب األفــام الجديــدة والجيــدة عــن شاشــاتها وابتعــاد الجمهــور نتيجــة‬
‫ذلــك عنهــا‪ ،‬إىل قلــة التظاهــرات الســينامئية وعشــوائية تنظيمهــا‪ ،‬وعزلــة وركــود النــوادي‬
‫الســينامئية وتعرثهــا املســتمر‪ ،‬يبــدو مهرجــان دمشــق حالــة اســتثنائية مــن حيــث الزخــم‬
‫والــراء والتنــوع‪ .‬إذ نجــد عشــاق الســينام والذيــن يشــكل الجمهــور الشــاب قســمهم األعظم‬
‫يلهثــون بــن الصــاالت محاولــن التوفيــق بــن كالســيكيات الســينام وآخــر األفــام الكبــرة‬
‫يف الوطــن العــريب والعــامل وعــروض املســابقة الرســمية‪ ،‬محطمــن األرقــام القياســية يف‬
‫املشــاهدة التــي وصلــت يف املهرجــان املــايض إىل خمســة أو ســتة أفــام يف اليــوم‪ .‬مــا جعــل‬
‫الكثــرون يتســاءلون مــن اإلعيــاء وللمــرة األلــف إىل متــى يســتمر واقــع الســينام املــردي يف‬
‫ســورية عــى مــا هــو عليــه؟ وأال يبــدو املهرجــان بتكاليفــه املاديــة العاليــة واملمــول مــن قبل‬
‫الدولــة وســط هــذا الواقــع ظاهــرة دعائيــة إعالميــة أكــر مــا هــو غايــة ثقافيــة فنيــة؟!‬
‫التســاؤل أصبــح أكــر إلحاحـاً قبــل عامــن عندمــا تقــرر إلغــاء طابعــه القديــم مــن مهرجــان‬
‫للقــارات الثــاث إىل مهرجــان منفتــح عــى العــامل بأجمعــه‪ ،‬ســعياً إىل تحويلــه فيــا لــو‬

‫‪27‬‬
‫اســتوىف رشوط االتحــاد الــدويل للمنتجــن ‪ FIAPF‬إىل «مهرجــان دويل»‪ .‬أمــا عــن جــدوى‬
‫مثــل هــذه التحــول أو عــدم جــدواه ـ الســؤال الــذي كان يفــرض أن يطــرح لنقــاش واســع يف‬
‫وســائل اإلعــام‪ ،‬يشــارك فيــه الســينامئيون والصحفيــون والنقــاد‪ ،‬قبــل أن تجــزم وتبــت بــه‬
‫الجهــات املعنيــة متفــردة كالعــادة ـ نجــد أنــه البــد مــن الوقــوف عــى مضمونــه وإمكانيــة‬
‫تحقيقــه‪ ،‬بغيــة الوصــول إىل إجابــة أو تصــور أكــر موضوعيــة‪ ،‬كمقدمــة لحــوار نرجــو أن‬
‫يســاهم فيــه جميــع املعنيــن‪ ،‬ونحــن عــى عشــية الــدورة الثالثــة عــرة للمهرجــان‪.‬‬
‫ال شــك أن هــذا االنفتــاح انعكــس إيجابي ـاً عــى ســوية األعــال التــي شــاركت يف مســابقة‬
‫األفــام الطويلــة يف الــدورة الســابقة‪ .‬لكــن ذلــك مل يكــن صدفــة‪ ،‬فمعظمهــا شــارك يف‬
‫مهرجانــات أخــرى وبعضهــا حصــد عــددا ً غــر قليــل مــن الجوائــز‪ .‬والنتيجــة أن جميــع‬
‫األفــام التــي نالــت جوائــز هــذه املســابقة‪« :‬أبرديــن»‪« ،‬الــكل مشــهور»‪« ،‬خبــز وزنبــق»‬
‫كانــت مــن إنتــاج أوريب وحطــت يف دمشــق بعــد أن دارت مهرجانــات العــامل ورشــحت‬
‫أو نالــت الكثــر مــن جوائزهــا‪ .‬أمــا حصــة آســيا وإفريقيــا وأمريــكا الالتينيــة فقــد متثلــت‬
‫يف جائــزة واحــدة ولفيلــم ســوري‪ ،‬لتبــدو جوائــز األفــام القصــرة والتســجيلية وكأنهــا‬
‫نــوع مــن الرتضيــة للقــارات الثالثــة‪ .‬دون أن ننــى ابتــكار املهرجــان لجائــزة أفضــل فيلــم‬
‫عــريب‪ ،‬وكأنــه يفــرض مســبقاً عــدم أهليــة الســينامت العربيــة للمنافســة عــى جوائــزه‬
‫األساســية‪ .‬مــا يجعلنــا نتســاءل عــن املعنــى يف تكريــم أفــام ســبق أن كرمــت يف العديــد‬
‫مــن املهرجانــات األخــرى‪ ،‬ودعمهــا ماديـاً يف الوقــت الــذي يتخبــط املخرجــون العــرب فيــه‬

‫‪28‬‬
‫داخــل دائــرة العجــز املســتمر والبحــث عــن فرصــة لتمويــل أعاملهــم‪.‬‬
‫قــد تكــون اإلجابــة أنــه دون هــذا التحــول واالنفتــاح والتغيــر يف هويــة املهرجــان‪ ،‬لــن‬
‫يســتطيع أن ينــال اعــراف االتحــاد الــدويل للمنتجــن‪ .‬إن هــذه النقطــة التــي بــدت وكأنهــا‬
‫بديهيــة يف العديــد مــن الترصيحــات واملقــاالت‪ ،‬هــي أبعــد مــا تكــون عــن الحقيقــة‪.‬‬
‫إذ يعــرف االتحــاد الــدويل للمنتجــن بأربعــة أقســام مــن املهرجانــات‪ .‬القســم األول منهــا‬
‫مهرجانــات تضــم مســابقة دوليــة وعددهــا ‪ ،12‬ويشــار إليهــا غالبـاً بالفئــة ‪ A‬وهــي‪ :‬برلــن‪،‬‬
‫مــار ديــل بالتــا‪ ،‬كان‪ ،‬شــنغهاي‪ ،‬موســكو‪ ،‬كارلــويف فــاري‪ ،‬لوكارنــو‪ ،‬مونرتيــال‪ ،‬فينيســيا‪،‬‬
‫ســان سيباســتيان‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬طوكيــو‪ .‬الثــاين يضــم مهرجانــات متخصصــة مــع مســابقة‪،‬‬
‫ومنهــا مهرجــان كارتاغينــا ألفــام أمريــكا الالتينيــة‪ ،‬ومهرجــان بروكســل للفيلــم األوريب‪،‬‬
‫ومهرجــان نامــور لألفــام الناطقــة بالفرنســية ومهرجــان نيودلهــي لألفــام األســيوية‪ .‬أمــا‬
‫القســم الثالــث فيضــم مهرجانــات مــن غــر مســابقة مثــل مهرجــان هونــغ كونــغ و ســيدين‬
‫و تورنتــو و لنــدن‪ .‬والرابــع خــاص باألفــام الروائيــة القصــرة أوالتســجيلية مثــل مهرجــان‬
‫أبرهــاوزن وكاركــو وتامبــر‪ .‬ومجمــوع هــذه املهرجانــات املعــرف بهــا مــن قبــل االتحــاد‬
‫حــوايل ‪ 56‬مهرجان ـاً مقابــل أكــر مــن ثالثــة آالف تقــام يف أنحــاء العــامل‪.‬‬
‫إذن مــن حيــث املبــدأ ميكــن ملهرجــان دمشــق حتــى يف صيغتــه القدميــة أن يحصــل عــى‬
‫اعــراف االتحــاد‪ ،‬لينضــم إىل قســم املهرجانــات املتخصصــة مــع مســابقة‪ .‬أمــا بصيغتــه‬
‫الجديــدة فهــو يســعى لالنضــام إىل القســم األول منهــا‪ ،‬أي إىل املهرجانــات األكــر شــهرة يف‬

‫‪29‬‬
‫العــامل!! وهنــا تطــرح مجموعــة مــن األســئلة نفســها‪ :‬هــل نســتطيع حقـاً أن ننضــم إىل هــذه‬
‫الفئــة مــن املهرجانــات؟ وهــل مثــة جــدوى مــن االنضــام إليهــا أصـاً؟‬
‫نالحــظ أنــه ضمــن مهرجانــات هــذه الفئــة ال يوجــد أي مهرجــان أمريــي‪ ،‬أي أن الدولــة‬
‫التــي متتلــك أكــر صناعــة ســينامئية يف العــامل‪ ،‬ليــس عندهــا مهرجــان دويل مــع مســابقة‬
‫معــرف بــه مــن قبــل االتحــاد‪ ،‬علــاً أنــه يقــام يف الواليــات املتحــدة أكــر مــن ‪120‬‬
‫مهرجانـاً‪ .‬بــل إن دوالً كثــرة متقدمــة ســينامئياً ومبراحــل طويلــة عــى ســوريا ال متلــك هكــذا‬
‫مهرجانــات‪ .‬األمــر الــذي يفــرض أن يدفعنــا إىل التوقــف واإلمعــان طويـاً يف هــذه الظاهرة‪،‬‬
‫والتســاؤل بقــوة عــن الســبب وراء عــدم ســعي هــذه الــدول للحصــول عــى اعــراف االتحاد‬
‫مبهرجاناتهــا الكثــرة‪.‬‬
‫رمبــا يكمــن الســبب يف الــروط التــي يضعهــا االتحــاد لالعــراف بهــذا النــوع مــن‬
‫املهرجانــات‪ .‬إذ يجــب أن تنظــم ســنوياً ومبواعيــد محــددة‪ ،‬كــا أنهــا ال تســتطيع قبــول أي‬
‫فيلــم يف مســابقتها فيــا لــو شــارك يف مســابقة مهرجان آخــر‪ .‬ويحــدد االتحــاد رشوط اختيار‬
‫ونقــل وحفــظ وعــرض األفــام فيهــا‪ ،‬ويراقــب مســتوى التغطيــة اإلعالميــة والتنظيــم وقــوة‬
‫تواجــد أربــاب صناعــة الســينام خــال ســرها‪ .‬فاعــراف االتحــاد مبهرجانــات هــذه الفئــة‪،‬‬
‫هــو يف واقــع األمــر اعــراف بأهليتهــا كســوق ســيناميئ عاملــي‪ ،‬قــادر بالفعــل عــى ربــط‬
‫شــبكات املنتجــن واملوزعــن والعارضــن بعضهــم ببعــض‪ .‬وهــذا بالضبــط مــا تؤكــده فيليــس‬
‫موليــت مديــرة املهرجانــات واألعــام يف االتحــاد‪ ،‬إذ تشــر إىل أن أهدافــه هــي الدفــاع عــن‬

‫‪30‬‬
‫مصالــح املنتجــن والرتويــج ألفالمهــم وتوزيعهــا‪ ،‬ومــن هنــا يــأيت اهتاممهــم بســمعة وهيبــة‬
‫ومســتوى املهرجــان الــذي يذهبــون بأفالمهــم إليــه‪ ،‬ومــن هنــا نســتطيع أن نفهــم الســبب‬
‫يف تبايــن أهميــة مهرجانــات هــذه الفئــة نفســها بالنســبة للمنتجــن واملوزعــن الســينامئيني‬
‫يف العــامل‪.‬‬
‫مــن كل ذلــك نســتنتج أن ســوريا الفقــرة ســينامئياً بإنتاجهــا وســوقها وعــدد صاالتهــا‬
‫وإعالمهــا تفتقــد متامــاً إىل البنية‪ ‬التحتيــة التــي تخــول االتحــاد االعــراف مبهرجانهــا‪.‬‬
‫والحقيقــة أنــه إذا مــا تــم تجــاوز هــذا الواقــع الســيناميئ املريــر يف ســوريا ولــو مــن أجــل‬
‫خاطــر عيــون االتحــاد الــدويل للمنتجــن‪ ،‬فــا شــك أن ذلــك أمــر يســتحق كل تقديــر‪ .‬لكــن‬
‫دعونــا نفكــر مــا الــذي ســنجنيه مــن اعــراف االتحــاد مبهرجاننــا عــى مســتوى عروضــه؟‬
‫أليــس مــن الوهــم االعتقــاد أن فيل ـاً كبــرا ً مــا ســيرتك كان وفينيســيا وبرلــن ومونرتيــال‬
‫ويــأيت إىل دمشــق‪ .‬جميعنــا نعلــم أنــه حتــى األفــام الكبــرة التــي تنتــج يف آســيا وأفريقيــا‬
‫وأمريــكا الالتينيــة تفضــل املشــاركة يف املهرجانــات الدوليــة ذات الســمعة املرموقــة‪ ،‬والتــي‬
‫تحقــق لهــا أفضــل مســتوى مــن االنتشــار والتوزيــع‪ ،‬وســتبقى بعيــدة عــن مهرجــان دمشــق‬
‫حتــى فيــا لــو حصــل عــى اعــراف االتحــاد الــدويل للمنتجــن بــه‪.‬‬
‫إذن ملــاذا نقيــد أنفســنا مــن غــر هــدف واضــح‪ .‬أليــس جديــرا ً بنــا أن نعــرف بأنفســنا أوالً‬
‫مبــا لدينــا‪ ،‬ومبــا ينقصنــا‪ ،‬ومبــا نصبــو إليــه قبــل أن نبحــث عــن اعــراف اآلخريــن‪ .‬أليــس مــن‬
‫األجــدى وضــع سياســة ثقافيــة ســينامئية متكاملــة تنهــض بالواقــع الســيناميئ يف البــاد ضمن‬

‫‪31‬‬
‫اإلمكانيــات املتاحــة التــي ال يجــب التفريــط بهــا لغايــات دعائيــة بــأي شــكل مــن األشــكال‪،‬‬
‫وذلــك عــر حــوار هــادئ ورصيــح يشــارك فيــه كل مــن يــرى يف الســينام ه ـاً شــخصياً‪،‬‬
‫وشــأناً وطنيـاً آن لــه أن ينهــض بعــد طــول ســبات‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬

‫‪32‬‬
‫قبل أن ينقرض السينامئيون‬

‫منــذ فــرة غــر بعيــدة اجتمــع رئيــس الجمهوريــة مــع عــدد مــن الفنانــن‪ ،‬حيــث جــرت‬
‫مناقشــة العديــد مــن القضايــا واملســائل والقوانــن‪ ،‬فأقــرح املمثــل جــال ســليامن «التوقف‬
‫لفــرة عــن قبــول دفعــات جديــدة يف قســم النقــد» كــا جــاء عــى لســانه يف اللقــاء الــذي‬
‫أجرتــه «الكفــاح العــريب» معــه يف ‪ ،2003/06/24‬ليقــرح «بــدالً عنهــا دفعــات مــن الشــباب‬
‫الراغــب يف دراســة املهــن التقنيــة والفنيــة» مــررا ً وجهــة نظــره هــذه بــأن «القســم خــرج‬
‫منــذ إنشــائه حــوايل ‪ 200‬خريــج وألســباب البــد مــن تفحصهــا ال يعمــل يف مجــال النقــد‬
‫إال أقــل مــن خمســة باملائــة» إذ تحــاول البقيــة العمــل يف مجــاالت فنيــة أخــرى‪ ،‬باملقابــل‬
‫يــرى أننــا «يف املــرح والتلفزيــون والســينام نفتقــر إىل تقنيــن لخدمــة العمــل الفنــي»‪.‬‬
‫عــى الجهــة األخــرى أصــدر مجموعــة مــن طــاب وخريجــي املعهــد وعــدد مــن املثقفــن‬
‫والفنانــن بيانـاً ينــدد باالقــراح‪ ،‬ويشــر إىل «حملــة شــعواء» يقودهــا املمثــل ســليامن عــى‬
‫قســم النقــد «مطالبـاً بإغالقــه واســتبداله بقســم للتقنيــات املرسحيــة»‪ ،‬ووصــول األمــر بــه‬
‫إىل «اســتعداء أعــى ســلطة يف البلــد عــى هــذا القســم ووجــوده»‪ ،‬ليناشــد البيــان «الجهــات‬
‫الثقافيــة أن تتضامــن معهــم يك ال تنجــح هــذه الحملــة التــي تعــود ألســباب محض شــخصية‪،‬‬
‫كونهــا تحمــل يف جوهرهــا ضيقـاً بالنقــد والنقــاد»‪...‬‬

‫‪33‬‬
‫قبــل التوقــف عنــد جوهــر املســألة املرتبــط أساسـاً ليــس فقــط بقســم النقــد وإمنــا بواقــع‬
‫تدريــس الفنــون الســمعية ‪ -‬البرصيــة عمومـاً‪ ،‬البــد مــن التطــرق إىل داللــة هــذه الواقعــة‬
‫لصلتهــا الوثيقــة بالطريقــة التــي قــد يتــم تنــاول املســألة بهــا مســتقبالً‪ ،‬أو رمبــا تجاهلهــا‬
‫متام ـاً‪ .‬فــا حــدث ال ميثــل ظاهــرة دميقراطيــة يف الواقــع بقــدر مــا يعكــس حالــة مرضيــة‬
‫ناجمــة عــن غيــاب آليــات حقيقيــة وفعالــة للحــوار‪ ،‬واألخطــر انتفــاء آليــات متممــة لرتجمة‬
‫هــذا حــوار إىل واقــع جديــد يتجــاوز القديــم‪.‬‬
‫وإال ملــاذا ال تطــرح مســألة إيقــاف «قســم النقــد» مــع كل مربراتهــا يف أروقــة املعهــد العــايل‬
‫للفنــون املرسحيــة‪ ،‬أو يف وســائل األعــام املحليــة ملداولتهــا وإشــباعها جــدالً ومــن ثــم‬
‫الخــروج برؤيــة مشــركة حولهــا‪ ،‬وإمنــا عــى مســتوى لقــاء مــع رئيــس الجمهوريــة؟ وملــاذا‬
‫يــأيت الــرد يف صيغــة بيــان عنيــف ومقتضــب يتجاهــل جميــع اإلشــكاليات والتســاؤالت‬
‫املتعلقــة بهــذا القســم‪ ،‬ودون أن يحمــل أي رؤى أو إجابــات أو اقرتاحــات بشــأنها‪ ،‬بــل‬
‫يختزلهــا بصــورة كاريكاتوريــة إىل «أســباب محــض شــخصية»؟‬
‫إن األمــر برمتــه يعكــس خل ـاً كبــرا ً يف شــبكة العالقــات القامئــة بــن الدولــة واملؤسســات‬
‫واألعــام واملثقفــن‪ .‬فاألعــام لدينــا يبــدو حتــى اآلن مغيبـاً عندمــا يتعلــق األمــر باملســائل‬
‫ذات الحساســية‪ ،‬التــي جــرى التقليــد عــى تجاهلهــا تخوفـاً مــن أعبــاء أي مســائلة قــد متــس‬
‫الطمــوح الجامــح للبعــض يف املحافظــة عــى مناصبــه أو التــدرج بهــا إىل األعــى‪ ،‬أو إقصائهــا‬
‫مــن قبــل الرقيــب الــذي يفضــل املنــع عــى املجازفــة‪ ،‬وكأن هــذه املســائل مــن اختصــاص‬

‫‪34‬‬
‫الصحافــة اللبنانيــة وحدهــا‪ .‬أمــا املؤسســات فقــد أفقدتهــا اتكاليتهــا وعــدم اســتقالليتها‬
‫بصــورة فعليــة واعتيادهــا عــى انتظــار األوامــر مــن فــوق وتخوفهــا مــن املســؤولية جــزءا ً‬
‫هامــاً مــن حيويتهــا وفعاليتهــا وقدرتهــا عــى التــرف بشــؤونها مبــا ترتئيــه الرتقائهــا‬
‫وتطورهــا‪ .‬فافتقــد نتيجــة ذلــك املثقفــون مــن باحثــن وتكنوقراطيــن ومبدعــن القاعــدة‬
‫املؤسســاتية ‪ -‬اإلداريــة للحــراك الداخــي الفعــال ضمــن وظائفهــم‪ ،‬وضجــروا االقــراب مــن‬
‫األعــام املحــي بعــد أن كــف عــن كونــه ســلطة رابعــة تقــوم عــر مامرســتها لصالحياتهــا يف‬
‫النقــد والرقابــة بــدور املحــرض الخارجــي لهــذه املؤسســات باتجــاه تصويــب أعاملهــا‪ ،‬مــا‬
‫أوقعهــم يف حالــة عجــز‪ ،‬ودفعهــم للبحــث عــن أشــكال ومنافــذ أخــرى للتعبــر‪.‬‬
‫كل ذلــك أوجــد قناعــة راســخة يف املجتمــع أن التغيــر منــوط بصــورة أساســية مبراكــز‬
‫صناعــة القــرار‪ ،‬والتــي يف الواقــع ال تصنعــه بقــدر مــا تعطــي التوجيهــات للمؤسســة املعنيــة‬
‫بــه مــن أجــل إعــداده بعــد دراســة كافــة الجوانــب ذات العالقــة‪ ،‬لكــن الطامــة الكــرى أن‬
‫الكثــر مــن هــذه املؤسســات مل تعتــد التعامــل مــع صيــغ دميقراطيــة يســهم مــن خاللهــا‬
‫أكــر عــدد مــن املختصــن والباحثــن يف الوصــول للصيغــة األمثــل لهــذا القــرار‪ ،‬ومــن هنــا‬
‫ميكننــا فهــم داللــة البيــان كــرد فعــل وقــايئ تجــاه ذلــك الســلوك التعســفي الــذي كثــرا ً مــا‬
‫متارســه مؤسســات الدولــة بإصدارهــا قوانــن ومراســيم وتعليــات تنفيذيــة بعيــدا ً عن رؤى‬
‫أصحــاب املصلحــة املبــارشة فيهــا واملعنيــن عضوي ـاً بهــا‪ ،‬كــا حــدث قبــل بضــع ســنوات‬
‫عندمــا حاولــت وزارة الثقافــة متريــر قانــون يتعلــق مبســتقبل املؤسســة العامــة للســينام‬

‫‪35‬‬
‫متجاهلــة موقــف الســينامئيني منــه‪ ،‬الــذي جــاء فيــا بعــد ضمــن ورقــة عمــل وقعهــا أكــر‬
‫مــن أربعــن شــخصاً!!‬
‫عــى كل حــال وطاملــا طرحــت مســألة قســم النقــد‪ ،‬دعونــا نتطــرق إىل مــا هــو أبعــد مــن‬
‫ذلــك‪ ،‬وأكــر مأســاوية مــن إغالقــه‪ ،‬إال وهــو عــدم وجــود حتــى اللحظــة يف ســوريا أي‬
‫معهــد للدراســات الســينامئية‪ ،‬عــى الرغــم مــن توفــر كادر كبــر مــن املخرجــن وأقــل مــن‬
‫مديــري التصويــر واملونترييــن ومهنــديس الصــوت ومصممــي الديكــور‪ ...‬الــخ‪ ،‬مــن ذوي‬
‫التأهيــل األكادميــي العــايل والخــرة الجيــدة‪ .‬وخاصــة أن إيفــاد الطــاب إىل الخــارج لدراســة‬
‫هــذه الفنــون قــد تراجــع بصــورة كبــرة يف العقــد األخــر‪ ،‬إن مل يتوقــف متامـاً‪ .‬األمــر الــذي‬
‫يهــدد يف املســتقبل مبــوت الســينام الســورية‪ ،‬ليــس بســبب ضعــف التمويــل والتوزيــع‪ ،‬وال‬
‫بســبب غيــاب الصــاالت واملشــاهدين‪ ،‬بــل وببســاطة شــديدة بســبب انقــراض الســينامئيني‬
‫الســوريني‪.‬‬
‫إن وجــود مثــل هــذا املعهــد مــن شــأنه أن يحــل تلقائيـاً إحــدى اإلشــكاليات املتعلقــة بقســم‬
‫النقــد املرسحــي‪ ،‬وأقصــد تحديــدا ً توجــه جــزء كبــر مــن خريجيــه للعمــل يف مجــاالت‬
‫إبداعيــة أخــرى كالســيناريو أو اإلخــراج أو الديكــور أو غــر ذلــك‪ .‬فهــذا األمــر يحــدث مــن‬
‫وجهــة نظــري لكــون هــذا القســم ميثــل امللجــأ الوحيــد لجميــع أصحــاب امليــول الفنيــة‬
‫الســمعبرصية‪ ،‬والــذي ميكــن االنطــاق منــه فيــا بعــد نحــو العمــل املرغــوب أساس ـاً مــن‬
‫قبــل الخريــج‪ .‬مــا يعنــي أن هــذا الحالــة ســوف تتغــر حت ـاً فيــا لــو وجــدت أقســام‬

‫‪36‬‬
‫أخــرى يف املعهــد‪ ،‬أو تــم تأســيس معهــد للدراســات الســينامئية‪ ،‬أو معهــد أوســع للفنــون‬
‫الســمعية ‪ -‬البرصيــة‪ ،‬وهــو األفضــل‪ ،‬حيــث ميكــن ربــط تدريــس العديــد مــن االختصاصــات‬
‫بعالقتهــا مــع الســينام واملــرح والتلفزيــون معـاً‪ ،‬إذ عــى الرغــم مــن متايــز االختصاصــات‬
‫الســمعبرصية يف كل مــن هــذه املجــاالت أو بعضهــا‪ ،‬لكــن مثــة أيض ـاً الكثــر مــن القواســم‬
‫املشــركة فيــا بينهــا‪ ،‬وطاملــا أثبــت الواقــع العمــي أن أصحــاب املهــن الفنيــة يتنقلــون بــن‬
‫جميــع هــذه الفنــون‪ ،‬ســوف يشــكل مثــل هــذا املعهــد القاعــدة العلميــة املعرفيــة لرفدهــا‬
‫بصــورة مســتمرة بالكــوادر املؤهلــة والخــرات الالزمــة لهــا‪.‬‬
‫لكــن هــل يجــري طــرح هــذه املســألة للمــرة األوىل؟ بالتأكيــد ال‪ .‬ورمبــا ســوف يطــرح‬
‫مجــددا ً بعــد عــرة أو عرشيــن عام ـاً‪ ،‬ولنتذكــر يف هــذا الســياق وكمثــال فاقــع كــم مــن‬
‫الســنني تطلــب إلغــاء قانــون حــر االســترياد لألفــام الســينامئية‪ ،‬ولنعــود إىل ورقــة العمــل‬
‫التــي قدمهــا الســينامئيون قبــل ســنوات ونتســاءل إىل مــاذا انتهــت؟ صحيــح أن الخلــل‬
‫القائــم يف شــبكة العالقــات التــي أرشنــا إليهــا آنف ـاً أدى إىل إقصــاء املثقــف بدرجــة كبــرة‬
‫عــن الواقــع وتقليــص دوره وتأثــره فيــه‪ ،‬لكــن مــن جهــة أخــرى ســوف تصبــح جميــع‬
‫الطروحــات واملشــاريع الثقافيــة رضب ـاً مــن العبــث يف حــال ركــون املثقــف لهــذا الواقــع‪،‬‬
‫واكتفائــه باالنتظــار يف كل مــرة إىل أن تســتجيب مؤسســات الدولــة تلقائي ـاً ملــا يطرحــه‪،‬‬
‫متجاهــاً الــدور الــذي ميكــن أن تلعبــه أدوات الضغــط واملتابعــة لتحقيــق االســتجابة‬
‫املطلوبــة‪ .‬ومــا كانــت ورقــة عمــل الســينامئيني يف اعتقــادي ـ وقبلهــا الكثــر مــن اآلراء‬

‫‪37‬‬
‫واملشــاريع ـ لتلقــى هــذا املصــر مــن اإلهــال لــو كان مثــة اتحــاد مســتقل للســينامئيني‬
‫الســوريني‪ ،‬يشــكل الحامــل الرشعــي والدميقراطــي لطموحاتهــم وتوجهاتهــم ومشــاريعهم‬
‫وحلولهــم لقضاياهــم‪ ،‬ومــن ثــم عامــل ضغــط لتحقيــق الترشيعــات التــي تصــب يف مصلحــة‬
‫الســينام والســينامئيني‪.‬‬

‫جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬

‫‪38‬‬
‫يك يبقى الحوار مستمراً‬
‫(مالحظات عىل مداخلة األحمد)‬

‫الغايــة مــن أي ملــف صحفــي تســليط وتكثيــف األضــواء بصــورة منهجيــة عــى القضيــة‬
‫موضــوع امللــف‪ ،‬دون أن يعنــي ذلــك اســتنفاذ اآلراء واقتصارهــا عــى مــا جــاء فيــه‪ .‬لذلــك‬
‫إذا مــا عدنــا إىل ملــف الســينام الســورية الــذي طرحتــه صحيفــة «النــور» منــذ فــرة‬
‫ســنفاجئ بغيــاب أي منهجيــة واضحــة يف طــرح وتوصيــف ومناقشــة واقــع الســينام يف‬
‫ســوريا بشــتى جوانبــه‪ ،‬فاختفــت تقريب ـاً الدراســات الخاصــة التــي تعالــج قضيــة بعينهــا‬
‫تحــت عناويــن عريضــة محــددة ومــا أكرثهــا‪ :‬املؤسســة العامــة للســينام‪ ،‬اإلنتــاج الســيناميئ‪،‬‬
‫مهرجــان دمشــق الســيناميئ‪ ،‬دور العــرض‪ ،‬النــوادي الســينامئية‪ ،‬الترشيعــات الســينامئية‪،‬‬
‫الرقابــة‪ ...‬الــخ‪ ،‬مــا جعــل مــواد امللــف تتأرجح مــا بــن الذكريــات واالنطباعات والشــهادات‬
‫والتأريــخ واإلحصــاء والــردود‪ ،‬بــل ومل يجــد أحدهــم أي غضاضــة يف املشــاركة مبقالــة نرشها‬
‫مــن قبــل يف صحيفــة أخــرى‪ .‬وهــو مــا أدى عــى الرغــم مــن اإلضــاءات واآلراء واالنتقــادات‬
‫الكثــرة والهامــة التــي قدمهــا امللــف عــى مــدى ‪ 11‬حلقــة ومســاهمة ‪ 18‬شــخصاً إىل خلــوه‬
‫مــن دراســات تتطــرق إىل قضايــا هامــة كاإلنتــاج الســيناميئ للقطــاع الخــاص وواقــع النــوادي‬
‫الســينامئية يف البــاد‪ .‬ويف الواقــع يكفــي أن نعــود إىل الخامتــة التــي أنهــى املخــرج رميــون‬

‫‪39‬‬
‫بطــرس فيهــا امللــف يك نــدرك الكــم الهائــل مــن املســائل التــي مل يتطــرق إليهــا واملشــكالت‬
‫التــي مل يكشــف عنهــا وذلــك يف إطــار املؤسســة العامــة للســينام فحســب‪.‬‬
‫مــع انتهــاء امللــف قــررت الصحيفــة لألســف إغــاق الحــوار حــول كل مــا طــرح فيــه مــن‬
‫آراء ووجهــات نظــر‪ ،‬لكــن طاملــا أن جميــع القضايــا اإلشــكالية املتعلقــة بواقعنــا الســيناميئ‬
‫ال تــزال قامئــة‪ ،‬يجــب أن يبقــى الحــوار حولهــا مســتمرا ً وال يحــق ألحــد إغالقــه‪ ،‬وانطالقـاً‬
‫مــن هــذه القناعــة ندفــع بهــذه املقالــة إىل النــر عــن طريــق اإلنرتنــت‪.‬‬
‫تكتســب املداخلــة التــي قدمهــا األســتاذ محمــد األحمــد ضمــن امللــف أهميتهــا ليــس فقــط‬
‫مــن كونهــا متــس الكثــر مــن القضايــا األساســية العالقــة واإلشــكالية يف ســينامنا‪ ،‬بــل ومــن‬
‫كونهــا تصــدر عنــه بالــذات بصفتــه مديــرا ً للمؤسســة العامــة للســينام التــي ال تــزال العصــب‬
‫األســايس للواقــع الســيناميئ يف البــاد‪ ،‬ولهــذا األمــر داللتــه الكبــرة‪ ،‬إذ يعــر عــن العقليــة‬
‫التــي تتحكــم يف هــذا العصــب وتحــدد اســراتيجيات عملــه وأطــر حراكــه املســتقبلية‪ ،‬لــذاك‬
‫وجدنــا لزامــاً علينــا مناقشــة بعــض القضايــا املطروحــة يف املداخلــة‪ ،‬والتــي نختلــف يف‬
‫تصوراتنــا ورؤيتنــا لهــا‪.‬‬

‫مذكرة‪ ...‬وصاالت‬
‫ال شــك أنــه ألمــر مفــرح ويدعــو لكثــر مــن التفــاؤل أن تتشــكل لجنــة تضــم ممثلــن عــن‬
‫شــتى الفعاليــات الســينامئية باإلضافــة إىل أعضــاء مــن مجلــس الشــعب‪ ،‬وتصــدر بعــد‬

‫‪40‬‬
‫اجتامعــات عديــدة مذكــرة إىل رئيــس الجمهوريــة تتطــرق «إىل جميــع نواحــي العمليــة‬
‫الســينامئية‪ ،‬وتتضمــن توصيــات عــدة تتعلــق باملؤسســة واملهرجــان ودعــم القطــاع‬
‫الخــاص»‪ .‬لكــن مــا ال يبــدو مفهومـاً عــى اإلطــاق ملــاذا هــذا التعتيــم والتســر عــى مذكــرة‬
‫بهــذا القــدر مــن األهميــة‪ ،‬أليــس مــن حــق الجميــع معرفــة أســاء أعضــاء اللجنــة التــي‬
‫صاغتهــا‪ ،‬واألهــم حقنــا يف معرفــة ماهيــة التوصيــات التــي جــاءت فيهــا‪ .‬ولــوال تطــرق‬
‫األســتاذ األحمــد ملوضــوع الصــاالت ملــا علمنــا شــيئاً عــا تقرتحــه مــن حلــول بشــأنها‪ .‬بــل‬
‫أن مــن حــق جميــع الفعاليــات الســينامئية مــن خــارج هــذه اللجنــة املســاهمة يف النقــاش‬
‫حولهــا‪ ،‬وكل مــا كان يتطلبــه األمــر نــر مــروع هــذه املذكــرة يف وســائل اإلعــام‪ ،‬ومــن‬
‫ثــم قيــام اللجنــة بدراســة املســاهامت واألبحــاث واملقــاالت املقدمــة بشــأنها أو عــى األقــل‬
‫االســتئناس بهــا قبــل وضــع صيغتهــا النهائيــة لهــا ورفعهــا للتوقيــع‪ .‬بــدالً مــن أن تضطــر‬
‫الفعاليــات الســينامئية للقيــام بذلــك بعــد ترشيــع القوانــن والتوقيــع عليهــا‪ ،‬أي عندمــا‬
‫ال يعــود لذلــك أي فائــدة كــا تعلمنــا التجربــة‪ ،‬ويف أفضــل األحــوال قــد تجــري بعــض‬
‫التعديــات عليهــا بعــد مــي ســنوات‪ .‬ولنــا يف القانــون رقــم ‪ 4‬الخــاص بتحديــث الصــاالت‬
‫خــر مثــال عــى ذلــك‪ ،‬إذ مل تخــل مــادة منــه مــن الثغــرات‪ ،‬فقــد حــدد فــرة اإلعفــاء‬
‫مــن الرســوم الجمركيــة عــى التجهيــزات بفــرات قصــرة مفرتض ـاً ســلفاً وجــود الســيولة‬
‫املاليــة املناســبة لــدى أصحــاب الصــاالت‪ ،‬وربــط إعفاءهــا مــن رضيبــة الدخــل ورســوم‬
‫اإلدارة املحليــة واملالهــي (ومل يعفهــا مــن الرضائــب والرســوم األخــرى والكثــرة) بإجــراء‬

‫‪41‬‬
‫عمليــة التحديــث أوالً‪ ،‬بــدالً مــن إعفاءهــا مبــارشة يك يســمح للصــاالت بتحقيــق أربــاح‬
‫تســاعدها عــى التحديــث الحق ـاً‪ ،‬وهــدد أصحــاب الصــاالت ألســباب عصيــة عــى الفهــم‬
‫بدفــع كامــل الرســوم الجمركيــة وغرامــة تعــادل خمســة أضعافهــا فيــا لــو مل تســتخدم‬
‫التجهيــزات املســتورة خــال ســنة ونصــف! ومل ينــس تخصيــص مبلــغ يقتطــع مــن كل‬
‫فيلــم مســتورد لصالــح املؤسســة‪ .‬هــذا دون أن يقــوم القانــون بإلغــاء أو تعديــل مراســيم‬
‫وقوانــن ســابقة وذات صلــة مبوضــوع الصــاالت‪ .‬ونالحــظ أن توصيــات املذكــرة املشــار إليهــا‬
‫تســتدرك جميــع هــذه الثغــرات‪ ،‬لكــن ملــاذا اآلن وليــس قبــل ثــاث ســنوات عندمــا ســن‬
‫القانــون رقــم ‪4‬؟ أعتقــد أن الســبب يعــود إىل آليــات العمــل القامئــة عــى إقصــاء الفعاليــات‬
‫الســينامئية عــن املســاهمة الفعليــة يف صياغــة الترشيعــات املنظمــة ملجالهــم‪ ،‬وهــو مــا‬
‫جعــل القانــون املذكــور يخــرج بهــذه الصــورة عدميــة الفاعليــة‪ ،‬وتطلــب اآلن ترشيــع قانــون‬
‫أخــر يبــدو مــن خــال املقتطفــات التــي قدمهــا لنــا األســتاذ األحمــد يف مداخلتــه أكــر اتزانـاً‬
‫بعــد أن توســعت مســاهمة ممثــي هــذه الفعاليــات يف صياغتــه‪ ،‬ومــن املمكــن اســتدراك مــا‬
‫قــد يشــوبه مــن ثغــرات بنــر املذكــرة بصفتهــا مــروع أويل لــه ـ وفتــح الحــوار حولهــا‪.‬‬

‫الطابع االقتصادي للمؤسسة‬


‫يقــول األســتاذ األحمــد «أجــل املؤسســة هيئــة اقتصاديــة‪ ،‬وهــي تعمــل وفــق قوانــن‬
‫االقتصــاد وبوســائله‪ ،‬وينبغــي عليهــا أن متــول مشــاريعها مــن وارداتهــا الذاتيــة‪ .‬ولكــن هــذا‬

‫‪42‬‬
‫ال يتــم وال يجــوز أن يتــم بــأي مثــن‪ .‬فللمؤسســة دور تثقيفــي وتنويــري ال يقــدر عــى‬
‫القيــام بــه أي منتــج خــاص‪ ،‬ولهــذا مثنــه ورضيبتــه»‪ ،‬وهــذا الــكالم الــذي نتفــق معــه (مــع‬
‫تحفظنــا ملــا ميكــن للقطــاع الخــاص القيــام بــه فيــا لــو أتيحــت لــه الظــروف املالمئــة) يعنــي‬
‫أن املؤسســة تعمــل وفــق قوانــن غــر مجديــة طاملــا أن «هــذا ال يتــم»‪ ،‬وطاملــا أنــه «ال‬
‫يجــوز أن يتــم بــأي مثــن» فذلــك يعنــي منطقيـاً رضورة تغيــر هــذه القوانــن‪ .‬لكــن ورغــم‬
‫إقــرار األســتاذ األحمــد باإلضافــة إىل ذلــك أن إزالــة الطابــع االقتصــادي للمؤسســة كفيــل‬
‫بطــوي العديــد مــن الهمــوم واإلشــكاليات‪ ،‬نجــده بــات اآلن متأكــدا ً «مــن رضورة أن تبقــى‬
‫املؤسســة عــى طابعهــا االقتصــادي رغــم كل يشء»! ويــرر هــذا التبــدل يف املوقــف بقولــه‬
‫أن «الســينام اقتصــاد قبــل أن تكــون فنــاً‪ .‬هــذا هــو قدرهــا‪ ،‬وهــو أحــد أرسار عظمتهــا‬
‫وازدهارهــا وهــو يف الوقــت نفســه نقطــة ضعفهــا»‪ .‬ونســارع ونقــول إن ذلــك أيضـاً صحيح‪،‬‬
‫لكــن األســتاذ األحمــد يقفــز هنــا مــن تشــخيص حالــة محــددة خاصــة بواقــع املؤسســة‬
‫الراهــن مؤكــدا ً مــا تتضمنــه مــن تناقــض صــارخ إىل الدفــاع عــن حالــة عموميــة ال عالقــة‬
‫لنــا بهــا‪ .‬نعــم املقولــة آنفــة الذكــر صحيحــة لكــن ليــس يف املطلــق وإمنــا ضمــن ســياقات‬
‫محــددة تصبــح خارجهــا مجــرد شــعارات ال معنــى لهــا‪ .‬الســينام اقتصــاد حيــث توجــد‬
‫اقتصاديــات للســينام‪ ،‬أي حيــث توجــد منظومــة ضخمــة ومتكاملــة مــن رشكات اإلنتــاج‬
‫ورشكات التوزيــع وصــاالت العــرض التــي تتــداول األفــام املتنافســة وتغــري بإعالناتهــا‬
‫جمهــورا ً ضخــاً لريتادهــا ويرفــع مــن حجــم إيراداتهــا‪ ،‬أمــا بغيــاب كل ذلــك كــا هــو‬

‫‪43‬‬
‫الحــال عندنــا فعــن أي اقتصــاد ميكــن أن نتكلــم‪ .‬وحتــى بوجــود هــذه االقتصاديــات يبقــى‬
‫للدولــة دورا ً أساســياً يف دعــم الســينام للحفــاظ عــى جانــب هــام مــن عظمتهــا وازدهارهــا‬
‫ميكــن أن يضمحــل ويــذوب مــن دونهــا‪ .‬ولعلــه مــن املفيــد اإلشــارة هنــا إىل أن الكثــر مــن‬
‫النقاشــات تجــري اليــوم يف أوربــا حــول طبيعــة دور الدولــة يف هــذا االتجــاه‪ ،‬وذلــك بــن‬
‫تياريــن أحدهــا ينطلــق مــن مفهــوم اقتصــادي بحــت يــرى أن عــى الدولــة دعــم األعــال‬
‫القــادرة عــى تحقيــق األربــاح ومنافســة نظريتهــا األمريكيــة يف الســوق املحليــة‪ ،‬وأخــر‬
‫يقــف مــع دعــم األفــام التــي ال تســتطيع مجــاراة قوانــن الســوق الصارمــة عــى رغــم مــا‬
‫قــد تحملــه مــن قيــم فنيــة وثقافيــة‪ .‬وال يــزال الواقــع يفــرض دعــم النوعيــة الثانيــة رغــم‬
‫انخفــاض هــذا الدعــم يف بعــض البلــدان مؤخــرا ً‪ ،‬فاألفــام املجديــة اقتصاديـاً يتكفــل الســوق‬
‫نفســه بدعمهــا ســواء مــن ناحيــة اإليــرادات أو اســتقطاب رشكات اإلنتــاج لصناعهــا‪ .‬دون‬
‫أن يعنــي ذلــك عــدم حصــول هــذه النوعيــة عــى أشــكال معينــة مــن الدعــم‪ .‬لذلــك ال‬
‫يبــدو مفهومـاً عــى اإلطــاق معنــى االقتصــاد الــذي يطرحــه األســتاذ األحمــد‪ ،‬فاإلشــكالية‬
‫آنفــة الذكــر ليــس لهــا وجــود أصـاً يف ســوريا‪ ،‬وحتــى إذا مــا ظهــرت يومـاً مــا (بعــد عمــر‬
‫طويــل) يف ظــل ازدهــار الواقــع الســيناميئ بكافــة معطياتــه يبقــى مــن واجــب الدولــة‬
‫دعــم الســينام الضعيفــة التــي ال تســتطيع االســتمرار مــن دونهــا كــا هــو األمــر يف العــامل‬
‫أجمــع‪ ،‬أي أن «إعــادة تنظيــم الســوق الداخليــة وصاالتهــا» لــن يغــر شــيئاً يف املوضــوع‪ .‬ثــم‬
‫أال تكفــي تجربــة ربــع قــرن مــن هيمنــة الطابــع االقتصــادي للمؤسســة يك تقنعنــا حصيلتهــا‬

‫‪44‬‬
‫اإلنتاجيــة «الباهــرة» وإيراداتهــا «الخياليــة» مــن األفــام بعــدم جــدواه؟ أال يكفــي هــذا‬
‫الثمــن الباهــظ الــذي دفعتــه الســينام الســورية؟ ومــا الــذي تغــر اليــوم يك يؤمــن األســتاذ‬
‫األحمــد «بقدرتنــا كســينامئيني وإدارة عــى تحويــل نقطــة ضعــف املؤسســة ـ االقتصــاد ـ إىل‬
‫نقطــة قــوة» واألهــم كيــف!؟‬
‫أمــا القــول أن «املوافقــة عــى تحويــل املؤسســة إىل هيئــة إداريــة تعنــي املوافقــة عــى‬
‫استســامها للرتهــل والغــرق يف املزيــد مــن البريوقراطيــة والروتــن» فأعتقــد أنــه يحتــاج إىل‬
‫الكثــر مــن التدقيــق‪ .‬فاملؤسســة مل تســلم طيلــة ربــع قــرن مــن هيمنــة الطابــع االقتصــادي‬
‫عليهــا ال مــن الرتهــل وال البريوقراطيــة وال الروتــن‪ ،‬وبالتأكيــد لــن تســلم مبجــرد تغيــر‬
‫طابعهــا‪ ،‬ألن هــذه اآلفــات ال عالقــة لهــا بطابــع املؤسســة‪ ،‬وســنجدها يف أي مؤسســة قطــاع‬
‫عــام لدينــا الرتباطهــا مبجمــل تركيبــة الدولــة ومــا أفرزتــه مــن عقليــات وســلوكيات وآليــات‬
‫عمــل تتســم باالنتهازيــة والوصوليــة والالمبــاالة‪ ،‬تكرســت وتفاقمــت يف ظــل هشاشــة األداء‬
‫اإلعالمــي والجهــاز القضــايئ‪ ،‬وتهميــش مؤسســات املجتمــع املــدين وتقليــص دورهــا إىل‬
‫الدرجــة التــي غابــت معهــا مفاهيــم كالنقــد واملكاشــفة واملراقبــة واملحاســبة والشــفافية‬
‫مبعناهــا الحقيقــي والفعــي الــذي يشــمل كل القضايــا وميتــد ليطــول الجميــع دون اســتثناء‪،‬‬
‫وكذلــك يف ظــل الهيكليــة اإلداريــة الداخليــة للمؤسســات‪ ،‬القامئــة عــى املركزيــة الشــديدة‬
‫التــي تخــول املديــر العــام اإلمســاك بجميــع الخيــوط الرئيســية فيهــا والتحكــم بهــا دون‬
‫رقيــب أو حســيب‪ ،‬مــا يجعــل منــه إله ـاً مطلــق الســلطة داخلهــا والجميــع مــن حولــه‬

‫‪45‬‬
‫مجــرد أشــباح تســعى لرضــاه ومباركتــه‪ ،‬وال تخــرج املؤسســة العامــة للســينام عــن هــذا‬
‫اإلطــار فنجــد أن املديــر العــام فيهــا هــو رئيــس مجلــس اإلدارة ورئيــس تحريــر مجلــة‬
‫الحيــاة الســينامئية ورئيــس اللجنــة الفكريــة ومديــر مهرجــان دمشــق الســيناميئ عــى‬
‫الرغــم مــن اختــاف وتبايــن مهــام كل منهــا‪ .‬وتحــت أغــراء الســلطة التــي متنحهــا هكــذا‬
‫هيكليــة يصبــح مــن الصعــب عــى أي كان االنفصــال عــن آليــات عمــل املؤسســة بــكل مــا‬
‫تحملــه مــن ترهــل وبريوقراطيــة وروتــن‪ ...‬هــذا كحــد أدىن‪ ،...‬والخطــوة األوىل للتخلــص‬
‫مــن هــذه الســلبيات تكــون بتقديــم املزيــد مــن االســتقاللية لجميــع هــذه اللجــان والهيئــات‬
‫مبــا يكفــل لهــا فاعليــة أكــر وأداء أفضــل‪.‬‬

‫أزمة إنتاج أم ربة الهام‬


‫أكــر مــا يلفــت النظــر يف مداخلــة األســتاذ األحمــد تفنيــده ملــا اســاه «أكذوبــة» مفادهــا‬
‫«أن قلــة الفــرص يف املؤسســة هــي التــي تجعــل بعــض املخرجــن ينتظــرون عــر ســنوات‬
‫أو أكــر يك يحققــوا فيلمهــم التــايل» وذلــك بدليــل أن ليــس لديهــم نصــوص مرتاكمــة! هــل‬
‫ميكننــا أن نســتنتج مــن هــذا الــكالم أن الفــرص يف املؤسســة أكــر مــن ســانحة وهــي قــادرة‬
‫عــى إنتــاج عــرة أفــام ســنوياً فيــا لــو تقــدم املخرجــون بنصــوص أكــر لهــا‪ .‬إن كان األمــر‬
‫كذلــك فهــذا يعنــي وببســاطة شــديدة فشــل مؤسســة الســينام يف أداء أحــد أهــم مهامهــا‪ :‬أي‬
‫اإلنتــاج ـ وألضعــف حجــة ميكــن أن تتــذرع بهــا مؤسســة إنتاجيــة‪ ،‬فمشــكلة كــم النصــوص‬

‫‪46‬‬
‫هــي أخــر مــا ميكــن أن يواجــه أي مؤسســة لإلنتــاج الســيناميئ يف العــامل‪ ،‬عــى العكــس‬
‫املشــكلة تكمــن وكقاعــدة عامــة يف اختيــار األفضــل ـ بغــض النظــر عــن معيــار هــذا األفضــل‬
‫ـ مــن بــن كــم هائــل مــن الســيناريوهات‪ .‬عــى ســبيل املثــال يقــدم إىل رشكات اإلنتــاج يف‬
‫الواليــات املتحــدة حــوايل ‪ 30‬ألــف ســيناريو ســنوياً ينتــج منهــا حــوايل ‪ 600‬فيلــم‪ .‬حتــى‬
‫إذا افرتضنــا أن جميــع املخرجــن الســوريني مل يقدمــوا مــن الســيناريوهات إال تلــك التــي‬
‫أخرجوهــا الحقـاً ـ رغــم صعوبــة تصديــق أن جميــع هــؤالء املخرجــن مل يقدمــوا نصوصهــم‬
‫األوىل إال بعــد مــي زمــن يعــادل الزمــن الــذي قضــوه عــى مقاعــد املعاهــد الســينامئية‬
‫حيــث درســوا وأحيان ـاً كثــرة يتجــاوزه بســنوات مبحــض إرادتهــم ـ فهــل كانــت املؤسســة‬
‫عاجــزة طيلــة هــذه العقــود عــى أن تجــد اآلليــات املناســبة التــي تســمح لهــا باقتنــاء‬
‫الســيناريوهات وإنتاجهــا بوجــود كل هــذا العــدد مــن الكتــاب لدينــا‪ ،‬ويف الوقــت الــذي‬
‫يبحــث فيــه عــرات املخرجــن املتميزيــن مــن شــتى البلــدان العربيــة عــن جهــات إنتاجيــة‪،‬‬
‫وهــي تجربــة خاضتهــا املؤسســة يف الســبعينات مــع توفيــق صالــح وبرهــان علويــة وقيــس‬
‫الزبيــدي‪ .‬الغريــب أن ورقــة العمــل التــي وقعهــا الســينامئيون الســوريون قبــل بضعــة أعوام‬
‫طرحــت وباســتفاضة إشــكالية التمويــل يف املؤسســة‪ ،‬فكيــف يجعــل منهــا األســتاذ األحمــد‬
‫اآلن أكذوبــة وقــد ذيــل بتوقيعــه الورقــة ذاتهــا‪ ،‬ويختــزل أســباب ضعــف إنتاجيــة املخرجــن‬
‫الســوريني يف «أن ربــة اإللهــام تــزور بعــض الســينامئيني أكــر مــن بعضهــم اآلخــر»‪ ،‬بينــا‬
‫يف الواقــع أن ضعــف إنتاجيــة املؤسســة التــي حكمتهــا أســباب متعــددة تصــب جميعهــا يف‬

‫‪47‬‬
‫النهايــة يف رؤيــة الدولــة القــارصة ألهميــة الســينام وقيمتهــا ودورهــا وبالنتيجــة متويلهــا لهــا‬
‫يف الحــدود الدنيــا‪ ،‬هــي التــي قتلــت عــى مــر عقــود ربــة اإللهــام لــدى مخرجينــا الســوريني‪.‬‬

‫يف املهرجان‬
‫إن طابــع أي مهرجــان ســيناميئ مرتبــط إىل حــد بعيــد بالغايــة التــي يقــام مــن أجلهــا‪ ،‬فثمــة‬
‫مهرجانــات تتخصــص بتيمــة محــددة‪ ،‬وأخــرى بجنــس فيلمــي أو نــوع بعينــه وأخــرى تقيــد‬
‫نفســها باللغــة أو بالجغرافيــا أو بالســن أو بالجنــس‪ ...‬الــخ‪ ،‬لكــن جميــع املهرجانــات يف العامل‬
‫تحقــق بســويات مختلفــة ثــاث مهــام‪ :‬أوالً تعريــف املشــاهد عــى اإلنتاجــات الســينامئية‬
‫الحديثــة وتلــك التــي ال يتســنى لــه عــادة مشــاهدتها‪ ،‬ثاني ـاً إنشــاء روابــط بــن أقطــاب‬
‫الصناعــة الســينامئية مــن مخرجــن ومنتجــن وموزعــن وعارضــن ونقــاد وصحفيــن‪ ،‬ثالث ـاً‬
‫تشــجيع ودعــم وترويــج األفضــل واألبــرز مــن األفــام وصناعهــا‪ .‬وأعتقــد أنــه إذا مــا أردنــا‬
‫أن نقيــم مهرجاننــا الســيناميئ مبوضوعيــة البــد لنــا مــن التســاؤل عــن غايتــه وإىل مــدى‬
‫اســتطاع الوصــول إليهــا‪.‬‬
‫الصيغــة القدميــة للمهرجــان حــددت لنفســها إطــارا ً جغرافيـاً يشــمل الــدول العربيــة وآســيا‬
‫وأمريــكا الالتينيــة‪ ،‬وهــو أمــر كان لــه مــا يــرره لوجــود ســات مشــركة بــن العديــد مــن‬
‫بلــدان هــذه املجموعــات ســواء مــن ناحيــة تقــارب فــرات اســتقالل معظمهــا‪ ،‬أو مــن‬
‫ناحيــة بناهــا االقتصاديــة املتخلفــة‪ ،‬وبالتــايل وجــود إشــكاليات وعراقيــل وظــروف ســينامئية‬

‫‪48‬‬
‫متشــابهة إىل حــد مــا‪ ،‬تتطلــب تبــادل يف الخــرات واملعــارف بــن ســيناميئ هــذه البلــدان‬
‫للتصــدي لهــا‪ .‬ويف ظــل هــذا التوجــه تطــرق النظــام األســايس للمهرجــان إىل جميــع املهــام‬
‫الثالثــة املذكــورة‪ ،‬فحــدد أهدافــه بـــ ‪:‬‬
‫«‪1‬ـ تطويــر الســينام الوطنيــة العربيــة والنهــوض بهــا‪ ،‬ودعــم اتجاه الســينام الشــابة امللتصقة‬
‫بواقــع الجامهــر واملعــرة عــن قضاياهــا وتطلعاتها األساســية‪.‬‬
‫‪2‬ـ تدعيــم االتجاهــات الجــادة يف الســينام اآلســيوية بشــكل خــاص وســينام العــامل الثالــث‬
‫بشــكل عــام والتعريــف بهــا‪.‬‬
‫‪3‬ـ خلــق عالقــة متجــددة مشــركة بــن الســينام والســينامئيني مــن جهــة والجمهــور مــن‬
‫جهــة أخــرى‪.‬‬
‫‪4‬ـ بنــاء جســور ثقافيــة وفكريــة بــن الســينامئيني العــرب مــن جهــة‪ ،‬وبينهــم وبــن‬
‫الســينامئيني يف بلــدان العــامل الثالــث والعــامل مــن جهــة أخــرى‪.‬‬
‫‪5‬ـ تنفيذ مهامت ثقافية وفنية وتربوية واإلسهام يف نرش الثقافة السينامئية»‪.‬‬
‫وبغــض النظــر عــن صيغــة هــذا النــص ودقتهــا وواقعيتهــا‪ ،‬مــا يهــم هنــا أن املهرجــان ســابقاً‬
‫حــدد غايــة وأهدافـاً لــه‪ ،‬أمــا إىل أي حــد نجــح بتحقيقهــا طيلــة إحــدى عــر دورة‪ ،‬وأيــن‬
‫فشــل وملــاذا؟ فهــذه أســئلة تحتــاج إىل دراســة موســعة وعميقــة‪ ،‬عــى أساســها كان ميكــن‬
‫تحديــد مــا يجــب تعديلــه أو إلغــاءه مــن الشــكل القديــم لــه‪ ،‬وصياغــة شــكل معــارص‬
‫يتجــاوز عــرات املــايض‪ .‬طبعـاً هــذا مل يحــدث‪ ،‬وقررنــا بصــورة اعتباطيــة كالعــادة االنتقــال‬

‫‪49‬‬
‫إىل شــكل جديــد دون مســوغات وحجــج وغايــات مقنعــة‪ .‬لذلــك مل يبــق لنــا إال أن نقيــم‬
‫املهرجــان الجديــد عــى قاعــدة مــا أصــاب مــن نجــاح أو فشــل عــى مســتوى املهــام املذكورة‬
‫التــي تنــاط بــأي مهرجــان‪.‬‬
‫ال شــك أن املهرجــان يف دورتيــه األخريتــن حقــق قفــزة نوعيــة عــى مســتوى العــروض‬
‫كـاً ونوعـاً‪ ،‬ســواء تلــك املدرجــة يف املســابقة الرســمية أو يف التظاهــرات الكثــرة املرافقــة‪،‬‬
‫والتــي وصلــت يف الــدورة األخــرة إىل ‪ 18‬تظاهــرة‪ ،‬وهــو عــدد كبــر حتــى مبقاييــس أبــرز‬
‫املهرجانــات الســينامئية يف العــامل وهــو أمــر يحســب ملنظميــه‪ .‬لكــن ال يفوتنــا هنــا الفــارق‬
‫الجوهــري يف داللــة التظاهــرات بــن مهرجاننــا ومهرجانــات مــن نــوع كان أو برلــن‪ ،‬فهنــاك‬
‫هــي تحمــل طابع ـاً احتفالي ـاً بســينام مــا أو مخــرج مــا‪ ،‬وإمكانيــة االطــاع عــى األفــام‬
‫التــي تتضمنهــا متوفــرة دامئ ـاً لوجــود أرشــيف وطنــي للســينام يســعى باســتمرار القتنــاء‬
‫الجديــد‪ ،‬بــل والكثــر منهــا متوفــر يف ســوق الفيديــو وميكــن اليــوم ألي كان حجــز نســخته‬
‫حتــى عــن طريــق األنرتنــت‪ ،‬أمــا لدينــا فهــي فرصــة قــد ال تتكــرر إال مبــرور عقــد أو أكــر‬
‫مــن الزمــن ملشــاهدتها‪ .‬ومثــل هــذا األرشــيف هــو مــا علينــا أن نســعى إىل إنشــائه‪ ،‬فمــن‬
‫دونــه ســوف نبقــى منقطعــن عــن الــراث الســيناميئ يف العــامل‪ ،‬وغــر قادريــن عــى التواصــل‬
‫مــع املنجــزات املعــارصة لهــذا الفــن العظيــم‪ .‬أمــا أن يصبــح املهرجــان تعويضـاً عــن الطقــس‬
‫الســيناميئ الغائــب لدينــا فهــذه قمــة العبثيــة‪ ،‬فــإن كانــت الدولــة مهتمــة حقـاً بهــذا الطقس‬
‫وعودتــه‪ ،‬وهــي مــن الســخاء بحيــث تقــدم نصــف مليــون دوالر لدعمــه طيلــة عــرة أيــام‪،‬‬

‫‪50‬‬
‫فمــن املنطقــي إذن أن متنــح أصحــاب الصــاالت أضعــاف هــذا املبلــغ لتحديثهــا واملحافظــة‬
‫عــى هــذا الطقــس طيلــة الســنتني الفاصلتــن بــن دورات املهرجــان‪ .‬وطاملــا نتحــدث عــن‬
‫العــروض البــد مــن اإلشــارة إىل ناحيــة تنظيميــة تتعلــق بتوقيــت بعضهــا‪ ،‬وخاصــة األفــام‬
‫الســورية واملرصيــة وبعــض أفــام الســوق الــدويل‪ ،‬فــاألوىل جــرى تقليــد ســيئ بــأن يكــون‬
‫عرضهــا األول يف املهرجــان (أمــا عروضهــا الالحقــة لــه فمؤجلــة حتــى إشــعار أخــر!) وال‬
‫أدري ملــاذا‪ ،‬ورغــم أن االزدحــام واللغــط الــذي ينشــأ عــن ذلــك يتكــرر يف كل دورة ويحــرم‬
‫الكثــر مــن الضيــوف غــر الســوريني مــن مشــاهدتها (إذا افرتضنــا أن الفرصــة ســوف تســنح‬
‫الحق ـاً لســيئي الحــظ مــن الســوريني مبشــاهدتها) تــر إدارة املهرجــان عــى عــدم إلغــاء‬
‫هــذا التقليــد‪ .‬أمــا بالنســبة لألفــام األخــرى املذكــورة والتــي دلــت التجربــة أن لهــا جمهــورا ً‬
‫واســعاً فيمكــن للمؤسســة أن تســتوردها قبــل املهرجــان أو تنســق مــع بعــض الصــاالت‬
‫للقيــام بذلــك‪.‬‬
‫نــأيت إىل مســألة الصــات والروابــط التــي ينظمهــا املهرجــان‪ ،‬وأقــول ينظمهــا تجــاوزا ً لتلــك‬
‫التــي تنشــأ وتتطــور بفعــل الحــدث بحــد ذاتــه‪ ،‬وتتفاعــل عــن طريــق العالقــات الشــخصية‬
‫والحيويــة الذاتيــة للمعنيــن فيــه بشــتى اختصاصاتهــم‪ ،‬عل ـاً أن هــذا النــوع مــن التفاعــل‬
‫يرتتــب عليــه الكثــر مــن األعبــاء املاديــة مــا يدفــع الكثــرون لالنكفــاء عنــه أو يخرجــون‬
‫مــن املهرجــان وعــى أكتافهــم ديــون بــاآلالف‪ .‬فــإذا مــا توقفنــا عنــد مــا ينظمــه املهرجــان‬
‫ســنجد أنــه يقتــر عــى نــدوة أساســية‪ ،‬ونــدوات صباحيــة تناقــش بعــض األفــام املعروضــة‬

‫‪51‬‬
‫يف اليــوم الســابق‪ ،‬وأحيانـاً بعــض املؤمتــرات الصحفيــة لنجــوم الســينام‪ .‬وهــذا ال يكفــي عــى‬
‫اإلطــاق‪ ،‬إذ عــى عاتــق إدارة املهرجــان تقــع مســؤولية إنشــاء أكــر قــدر مــن شــبكات‬
‫العالقــات الفاعلــة بــن أربــاب صناعــة الســينام مــن خــال تنظيــم ورشــات عمــل نوعيــة‬
‫ومفتوحــة تجمــع املوزعــن مــع العارضــن‪ ،‬املنتجــن مــع املوزعــن‪ ،‬املخرجــن مــع املنتجــن‪،‬‬
‫النقــاد مــع املخرجــن أو كل مــن هــذه الفئــات عــى حــدة وذلــك بحســب املحــاور والقضايــا‬
‫املطروحــة‪ ،‬مــا يعــزز مــن تواجــد ضيــوف املهرجــان ويحقــق مشــاركة فعالــة ومرموقــة‬
‫للســينامئيني الســوريني الذيــن غالبـاً مــا يبــدون مغيبــن عــن فعالياتــه وأنشــطته‪.‬‬
‫وأخــرا ً لنناقــش جانــب الدعــم والتشــجيع يف املهرجــان والــذي ينعكــس بصــورة أساســية‬
‫يف املســابقة الرســمية لــه‪ ،‬وهــي مســألة ذو أهميــة جوهريــة الرتباطهــا املبــارش بطابعــه‪،‬‬
‫وتقييمنــا ورؤيتنــا لهــا البــد أن تقــوم عــى أســاس إمكانياتنــا وأولوياتنــا يف ســياق الواقــع‬
‫الســيناميئ العــام يف البلــد ويف العــامل وبالتــايل تحديــد االتجــاه الــذي يجــب أن تنحــوه‪ .‬فهــذا‬
‫الواقــع بالــذات يفــرض علينــا التفكــر والتســاؤل مــن وملــاذا علينــا أن ندعــم ونشــجع‪.‬‬
‫والتســاؤل يف الحقيقــة ليــس جديــدا ً بــل كان يطرح حتــى ضمن الصيغــة القدميــة للمهرجان‪،‬‬
‫ومل يكــن مجديـاً يف نظــر البعــض التكــرم بجوائــزه ملخرجــن مــن وراء البحار ليســوا يف حاجة‬
‫لهــا‪ ،‬وأعتقــد أن لهــذا الطــرح مــا يــرره يف ظــل الحالــة الثقافيــة عمومـاً والســينامئية بصورة‬
‫خاصــة لدينــا ـ والتــي ال يخفــى عــى أحــد مــا تعانيــه مــن فاقــة وعجــز ـ وميــي ذا صدقيــة‬
‫أكــر ضمــن الصيغــة الجديــدة للمهرجــان‪ .‬فمعظــم الســينامت األوربيــة تحظــى بأشــكال‬

‫‪52‬‬
‫مختلفــة مــن دعــم الدولــة‪ ،‬والكثــر مــن الســينامت يف أســيا وأمريــكا الالتينيــة حققــت‬
‫خطــوات كبــرة لألمــام يف العقــد األخــر‪ ،‬أمــا الســينام األمريكيــة فهــي ال تكتفــي مبــا تجنيــه‬
‫يف الســوق املحليــة مــن إيــرادات‪ ،‬بــل غــدت تســيطر حتــى عــى األســواق األوربيــة وبنســب‬
‫تصــل أحيانـاً إىل ‪ 75%‬مــن حجــم العــروض‪ .‬أي أن معظــم هــذه الســينامت ليســت يف حاجــة‬
‫عمليـاً إىل جوائــز املهرجــان ال مــن ناحيــة قيمتهــا املاديــة الرمزيــة أو حتــى املعنويــة‪ ،‬فهــو‬
‫بالنهايــة مجــرد مهرجــان أخــر منفتــح عــى الجميــع مــن بــن مئــات املهرجانــات التــي‬
‫تقــام يف شــتى بقــاع العــامل‪ ،‬ال يســعون هــم إليــه مبقــدار مــا يســعى هــو وراءهــم‪ .‬ولنتأكــد‬
‫مــن ذلــك يكفــي أن نلقــي نظــرة عــى عــدد املخرجــن الــذي يرافقــون أفالمهــم إليــه‪،‬‬
‫ونتذكــر حفــل الختــام يف الــدورة األخــرة حيــث طغــى الظهــور املتكــرر لســفراء الــدول‬
‫عــى الســينامئيني أثنــاء توزيــع الجوائــز‪.‬‬
‫ولــن كان املهرجــان قــد أســس خــال تاريخــه لتقاليــد بروتوكوليــة أكــر منهــا ســينامئية يف‬
‫منــح الجوائــز تحــول دون خــروج املشــاركة الســورية بالدرجــة األوىل واملرصيــة بالدرجــة‬
‫الثانيــة خاليــة الوفــاض‪ ،‬وهــو مــا أضعــف دومـاً مــن مصداقيته‪ ،‬فــإن اســتمرار هــذه التقاليد‬
‫بعــد أن اتســعت املنافســة واشــتدت داخــل املســابقة الرســمية يف الدورتــن األخريتــن‬
‫جعلتــه أقــل مصداقيــة حتــى مــن الســابق‪ .‬ليعــود فيلــم مبســتوى «وداعـاً لينــن» إىل بــاده‬
‫كــا جــاء‪ ،‬مــن دون حتــى مجــرد إشــادة صغــرة‪ ،‬وهــو الــذي نــال ســتة جوائــز يف مهرجــان‬
‫الفيلــم األوريب وحــده‪ .‬ونــرد ســلفاً عــى مــن يقــول أن هــذا األمــر يحــدث حتــى يف أكــر‬

‫‪53‬‬
‫املهرجانــات واملســابقات‪ ،‬بــأن حدوثــه يرتافــق دوم ـاً مبوجــة عارمــة مــن االنتقــادات كــا‬
‫جــرى هــذا العــام يف حفــل األوســكار عندمــا اســتبعد الفيلــم املذكــور نفســه مــن املنافســة‬
‫عــى جائــزة أفضــل فيلــم أجنبــي‪.‬‬
‫وهــذا التناقــض لــن يســتطع املهرجــان بصيغتــه الراهنــة حلــه‪ ،‬فهــو إمــا أن يســعى إىل‬
‫توطيــد مصداقيــة وســمعة مرموقــة لــه مبنــح جوائــزه لألعــال األجــدر بهــا ولكــن ليــس‬
‫بالــرورة التــي تحتاجهــا وبالتــايل يخــر جــزءا ً كبــرا ً مــن مرشوعيتــه‪ ،‬أو مينحهــا انطالقـاً‬
‫مــن اعتبــارات وطنيــة أو أخالقيــة لألعــال التــي يحتــاج منتجوهــا ومخرجوهــا حقـاً للدعــم‬
‫والتشــجيع‪ ،‬ورغــم أن هــذه األعــال قــد تكــون متميــزة حقــاً‪ ،‬لكــن عندمــا يتــم ذلــك‬
‫عــى حســاب أعــال أكــر متيــزا ً يفقــد املهرجــان الكثــر مــن مصداقيتــه‪ .‬وللخــروج مــن‬
‫هــذه الحالــة البــد مــن تغيــر جــذري يف الصيغــة التــي وضــع املهرجــان داخلهــا‪ ،‬وصــوالً إىل‬
‫صيغــة جديــدة تتبلــور انطالقـاً مــن الســؤال املطــروح آنفـاً‪ :‬مــن يجــب أن يدعــم املهرجــان‬
‫ويشــجع؟‬
‫إن نظــرة متفحصــة لواقــع اإلنتــاج الســيناميئ يف البلــدان العربيــة تجعلنــا نوقــن وجــود‬
‫أزمــة عميقــة فيــه‪ ،‬فمــن بلــدان ال متلــك أي إنتاجــات عــى اإلطــاق إىل أخــرى تكتفــي‬
‫ببضعــة أفــام ســنوياً انتهــاء مبــر الدولــة الوحيــدة التــي متتلــك صناعــة ســينامئية وتعــاين‬
‫مــن تراجــع هائــل يف اإلنتــاج كـاً ونوعـاً عــى حــد ســواء‪ ،‬ومل يعــد رسا ً أن نخبــة مخرجــي‬
‫هــذه البلــدان يعانــون األمريــن إليجــاد ممــول ألعاملهــم ومشــاريعهم املؤجلــة‪ ،‬ومــن يجــد‬

‫‪54‬‬
‫هــذا املمــول قــد ال يجــد مــن يــوزع فيلمــه املنجــز ليبقــى محتجب ـاً لســنني طويلــة عــن‬
‫جمهــور يفــرض أنــه صنــع ألجلــه‪ ،‬بــل أن العديــد مــن األعــال أصبحنــا نشــاهدها حــرا ً‬
‫عــر شاشــة أريت الفرنســية!‬
‫أمــام هــذه الصــورة القامتــة لواقــع اإلنتــاج والتوزيــع الســيناميئ يصبــح مــن أولويــة أي‬
‫مهرجــان ســيناميئ عــريب املســاهمة قــدر اإلمــكان يف الخــروج مــن هــذا الواقــع‪ ،‬وذلــك بدعم‬
‫أضعــف مكوناتــه أي املخرجــن عــر مســابقته الرســمية وجوائزهــا املتعــددة‪ ،‬باإلضافــة ملــا‬
‫يقدمــه لهــم مــن ترويــج ألفالمهــم وربطهــم بشــبكات مــن املنتجــن واملوزعــن املهتمــن‬
‫بدعــم الســينام العربيــة وتطويرهــا‪ ،‬أي أن مهرجــان لألفــام الناطقــة بالعربيــة ميكــن لــه‬
‫أن يركــز شــتى الطاقــات املطلوبــة لدعــم هــذه الســينامت والنهــوض بهــا‪ ،‬وهــذا بالتأكيــد‬
‫ال يتعــارض مــع عــرض أخــر إنتاجــات الســينام العامليــة وأبرزهــا يف التظاهــرات املرافقــة‬
‫للمهرجــان‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫رسي يعمل جابياً للرضائب عند الدولة‬

‫مأمــون رسي رجــل ولــد يف الســينام وحتــى اللحظــة يعــد نفســه هاويـاً لهــا‪ ،‬امتهنهــا باكــرا ً‬
‫وهــو يف الثامنــة عــرة مــن العمــر ليعمــل إىل جانــب والــده الــذي بــدأ باســتثامر صالــة‬
‫«الدنيــا» منــذ عــام ‪ ،1946‬وعــى الرغــم مــن نيلــه شــهادة يف الحقــوق مــن جامعــة دمشــق‬
‫عــام ‪ 1963‬مل يفــارق الســينام ومل ينخــرط يومــاً يف أي نشــاطات أخــرى تبعــده عشــقه‬
‫األوحــد‪ .‬باإلضافــة لعملــه يف إدارة الصالــة‪ ،‬كانــت لــه مســاهامت كبــرة يف مجــال توزيــع‬
‫األفــام عــى كافــة صــاالت القطــر‪ ،‬ومتويــل العديــد مــن أفــام القطــاع الخــاص يف الســتينات‬
‫لدريــد لحــام «مقلــب يف املكســيك» وزيــاد مولــوي ومحمــد الــرواس وآخريــن‪ .‬عــن همــوم‬
‫دور الســينام ومــا كانــت عليــه وعــن األســباب التــي جعلتهــا تــؤول إىل مــا هــي عليــه اليــوم‬
‫وســبل الخــروج مــن هــذا الواقــع كان هــذا الحــوار معــه‬

‫س ـ هــل لــك أســتاذ مأمــون أن تحدثنــا عــن واقــع توزيــع األفــام ونوعيــة العــروض داخــل‬
‫القطــر قبــل صــدور قانــون الحــر مــن خــال تجربتكــم الشــخصية؟‬
‫ـ كانــت لدينــا يف ذلــك الوقــت عالقــات مــع كــرى الــركات األمريكيــة مثــل ميــرو غولدين‬
‫مايــر وبارامونــت ويونيفرســال‪ ،‬نقــوم باســترياد األفــام منهــم وتوزيعهــا‪ ،‬ومل تكــن هــذه‬

‫‪56‬‬
‫األفــام تقتــر عــى نوعيــة محــددة‪ ،‬إذ كنــا نحــرص عــى تقديــم كل إنتاجــات هوليــوود‬
‫بعــد فــرة قصــرة مــن عرضهــا يف الواليــات املتحــدة‪ ،‬وعــن طريقنــا تعــرف الجمهــور‬
‫الســوري عــى أفــام مثــل «ســبارتاكوس» «ســيديت الجميلــة» وغريهــا‪ ،‬وكذلــك عــى أفــام‬
‫نورمــان ويــزدوم التــي تعاقدنــا مــع رشكــة رانــك اإلنكليزيــة الســتريادها‪ ،‬هــذا باإلضافــة‬
‫طبعـاً إىل اإلنتــاج املــري والهنــدي‪ ،‬وقــد وصــل عــدد األفــام املســتوردة يف ســوريا حينذاك‬
‫إىل حــوايل ‪ 250‬فيلـاً‪ .‬كل ذلــك جعــل إقبــال الجمهــور عــى الســينام كبــرا ً رغــم أن ســعر‬
‫البطاقــة كان نصــف لــرة للصالــة و‪ 75‬ق س للبلكــون‪ ،‬وكــم كنــت أشــعر بالغبطــة عنــد‬
‫رؤيــة حشــود املتفرجــن أمــام أبــواب الصالــة والذيــن كانــوا حريصــن عــى عــدم تفويــت‬
‫حتــى املناظــر التــي تقــدم عــادة قبــل بدايــة العــرض وتتضمــن أفالمــاً قصــرة متنوعــة‬
‫وإعالنــات عــن العــروض القادمــة‪ ،‬لألســف هــذا التقليــد غــاب عــن صاالتنــا فيــا بعــد إذ مل‬
‫تســتطع املؤسســة بعــد تأميــم االســترياد تغطيــة حاجــة الصــاالت مــن هــذه األفــام‪.‬‬

‫س ـ كالمــك هــذا يحيلنــا إىل الســؤال الثــاين حــول اآلثــار التــي تركهــا قانــون حــر االســترياد‬
‫عــى املوزعــن والعارضــن وواقــع الصاالت؟‬
‫ـ أوالً ألغــى هــذا القانــون وظيفــة املوزعــن‪ ،‬وفــرض عليهــم رشاء األفــام مــن املؤسســة‬
‫عــن طريــق املــزاد العلنــي‪ ،‬هــل ســمعت بأحــد يشــري األفــام بهــذه الطريقــة؟ كــا قامــت‬
‫الــركات األمريكيــة مبقاطعــة الســوق الســورية‪ ،‬انطالقـاً مــن مبــدأ رفــض االحتــكار الــذي‬

‫‪57‬‬
‫مارســته املؤسســة بعــد تأميــم االســترياد‪ .‬نتيجــة ذلــك مل يعــد يف ســوريا اليــوم أكــر مــن‬
‫خمســة موزعــن بعــد أن وصــل عددهــم إىل حــوايل ‪ 50‬موزعـاً قبــل هــذا القانــون‪ ،‬وتراجــع‬
‫عــدد الصــاالت مــن ‪ 115‬صالــة إىل ‪ 25‬صالــة ال أكــر‪.‬‬

‫س ـ منــذ بضــع ســنوات ظهــر قانــون ألغــى حــر االســترياد‪ ،‬ملــاذا مل يســتفد املوزعــون منــه‬
‫ومل يقدمــوا عــى اســترياد األفــام؟‬
‫ـ عندمــا تــم إلغــاء الحــر قــررت املؤسســة أن تقتطــع لنفســها رس ـاً مبقــدار خمســون‬
‫ألــف ل س عــن كل فيلــم مســتورد‪ .‬صحيــح أننــا كنــا يف املــايض ندفــع مبالــغ أكــر مــن‬
‫هــذه‪ ،‬لكــن اآلن الواقــع تغــر فمــع ظهــور الفيديــو والفيديــو ‪ CD‬وبصــورة خاصــة االنتشــار‬
‫الواســع للفضائيــات التــي تؤمــن للمشــاهد الكثــر مــن العــروض املتنوعــة ابتعــد الكثــرون‬
‫عــن صــاالت الســينام‪.‬‬

‫س ـ ومــاذا عــن القانــون الخــاص بتحديــث الصــاالت‪ ،‬ملــاذا مل نتلمــس أيــة آثــار إيجابيــة لــه‬
‫حتــى اللحظــة؟‬
‫ـ ال يوجــد يف الســوق مــا يشــجع عــى التحديــث‪ .‬دعنــي أعــدد لــك الرضائــب التــي تدفعهــا‬
‫الصــاالت حاليـاً‪:‬‬
‫‪ -1‬رضيبة مؤسسة السينام وتعادل ‪ 10%‬من قيمة كل تذكرة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫‪ -2‬رضيبــة املالهــي وتعــادل ‪ 5%‬مــن قيمــة كل تذكــرة ـ أي أن وزارة املاليــة تصنــف دور‬
‫الســينام يف حقــل دور اللهــو‪.‬‬
‫‪ -3‬رضيبة اإلدارة املحلية لصالح املالية وتعادل ‪2%‬من قيمة كل تذكرة‪.‬‬
‫‪ -4‬رضيبة اإلدارة املحلية لصالح املحافظة وتعادل ‪ 25‬ق س من كل تذكرة‪.‬‬
‫‪ -5‬رضيبــة عمــل شــعبي مفروضــة مــن قبــل محافظــة ريــف دمشــق وقدرهــا ‪ 5‬ق س مــن‬
‫كل تذكــرة‪.‬‬
‫‪ -6‬رضيبــة الخدمــات (القاممــة) التــي تفرضهــا املحافظــة وتــراوح مــا بــن ‪ 15‬إىل ‪ 25‬ألــف‬
‫ل س ســنوياً تختلــف مــن صالــة إىل أخــرى بحســب عــدد املقاعــد‪.‬‬
‫‪ -7‬رضيبــة مؤسســة اإلعــان التــي تفــرض رس ـاً شــهرياً عــن واجهــات الصــور املوجــودة‬
‫والثابتــة أمــام كل دار ســينام يــراوح مــا بــن ألفــن إىل ثالثــة آالف (أي مــن ‪ 24‬إىل ‪ 36‬ألــف‬
‫ل س ســنوياً)‪.‬‬
‫‪ -8‬وأخريا ً وليس أخرا ً رضيبة دخل عىل أجور العاملني يف الصالة‪.‬‬
‫‪ -9‬ورضيبــة أربــاح يف نهايــة كل عــام ـ يف وقــت ال أربــاح فيــه داخــل الصــاالت ـ تصــل إىل‬
‫حــوايل ‪ 200‬ألــف ل س تختلــف مــن صالــة إىل أخــرى وفق ـاً للتصنيــف وعــدد البطاقــات‬
‫املباعــة‪.‬‬
‫‪ -10‬رسم تأمني‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫كام تفرض عىل األفالم املستوردة‪:‬‬
‫‪ -1‬رضيبة إجازة استرياد‪.‬‬
‫‪ -2‬رضيبة جمرك‪.‬‬
‫‪ -3‬رضيبة غري مقيمني ـ يدفعها املستورد املحيل عن املورد األجنبي‪.‬‬
‫‪ -4‬رسوم رقابة ـ تدفع لتغطية نفقات لجنة الرقابة يف وزارة الثقافة‪.‬‬
‫‪ -5‬باإلضافــة إىل الرســم الــذي تســتوفيه املؤسســة عــن كل فيلــم ويبلــغ ‪ 50‬ألــف ل س‪ ،‬أي‬
‫أننــي أعمــل جابي ـاً للرضائــب عنــد الدولــة وبــدون راتــب‪ .‬أقــول لكــم رصاحــة أنــه دون‬
‫إعفــاء الصــاالت واألفــام مــن جميــع هــذه الرضائــب والرســوم ال ميكــن لــدور الســينام‬
‫أن تنتعــش وتحقــق أرباحـاً تســاعد أصحابهــا عــى تحديثهــا‪ ،‬ودعنــي أنــوه بهــذه املناســبة‬
‫أن صــاالت فنــدق الشــام ال تدفــع أي مــن هــذه الرضائــب والرســوم ســواء عــن الصالــة‬
‫أو األفــام‪ ،‬وهــو اســتثناء ال ميكــن فهمــه وال يســمح بــأي حــال مــن األحــوال باملنافســة‬
‫الرشيفــة والعادلــة بــن الصــاالت‪ .‬كــا أنــه مــن الــروري إيقــاف االنتشــار العشــوايئ ألفــام‬
‫الفيديــو و‪ CD‬و‪ DVD‬والحفــاظ عــى حقــوق املوزعــن والعارضــن‪ .‬باإلضافــة إىل ذلــك‬
‫مــن الــروري إلغــاء القــرار رقــم ‪ 1/2850‬تاريــخ ‪ 1982/5/20‬الــذي ينــص عــى أنــه «ال‬
‫يحــق ألصحــاب دور العــرض إغالقهــا وعندمــا تغلــق البــد لــوزارة الثقافــة مــن أن تضــع‬
‫اليــد عليهــا»‪ ،‬إذ أنــه ال يشــجع عــى اإلطــاق املســتثمرين إلنشــاء صــاالت جديــدة‪ ،‬ألنهــم‬
‫ال يســتطيعون تغيــر هــذه املهنــة فيــا لــو أرادوا ذلــك‪.‬‬
‫جريدة «النور» السورية ‪2004‬‬

‫‪60‬‬
‫صاالت السينام يف سوريا بني الرضائب والقوانني‬

‫بعــد ثالثــن عام ـاً مــن احتــكار الدولــة الســترياد األفــام وتوزيعهــا يف ســوريا صــدر منــذ‬
‫ثــاث ســنوات قانــون ألغــى هــذا االحتــكار الــذي أوصــل دور الســينام إىل حالــة يــرىث لهــا‬
‫ســواء مــن ناحيــة آلياتهــا وتجهيزاتهــا وخدماتهــا التــي مل تحـ ّدث منــذ خمســن عامـاً أو مــن‬
‫ناحيــة نوعيــة األفــام املقدمــة التــي يطغــى عليهــا الــرديء والقديــم واملكــرر‪ ،‬وهــو مــا‬
‫أفــى إىل تراجــع كبــر يف أعــداد روادهــا ونوعيتهــم‪ ،‬وأدى بــدوره إىل إغــاق الكــم األكــر‬
‫مــن الصــاالت خــال هــذه العقــود‪.‬‬
‫ويف محاولــة إلخــراج الصــاالت مــن هــذا الواقــع املــزري صــدر قانــون أخــر يف نفــس الفــرة‬
‫«يشــجعها» عــى تحديــث خدماتهــا‪ .‬ومــن الواضــح أنــه ال ميكــن تفعيــل القانــون األول‬
‫واالســتفادة مــن نتائجــه بصــورة حقيقيــة قبــل أن يعطــي القانــون الثــاين مثــاره التــي مــا‬
‫زلنــا ننتظرهــا ورمبــا ننتظرهــا ثالثــن عامـاً أخــرى‪ .‬فحتــى اللحظــة مل تســتجب ســوى صالــة‬
‫واحــدة يف حلــب إىل هــذا القانــون‪ ،‬وال يفتــأ الكثــرون يتســألون بنــوع مــن الــراءة أو رمبــا‬
‫الســذاجة البلهــاء ملــاذا مل يقــم أصحــاب الصــاالت بتحديــث صاالتهــم؟ وهــو مــا ســنحاول‬
‫هنــا اإلجابــة عليــه‪.‬‬
‫دعونــا ننظــر أوال إىل فحــوى القانــون املشــجع رقــم ‪ .4‬لقــد قــام هــذا القانــون بإعفــاء‬

‫‪61‬‬
‫صــاالت الســينام التــي ســتعمل عــى تحديــث خدماتهــا مــن الرســوم الجمركيــة عــى‬
‫التجهيــزات املســتوردة عــى أن يتــم إدخالهــا للبــاد خــال ثــاث ســنوات‪ ،‬وكذلــك مــن‬
‫رضيبــة الدخــل ورســوم اإلدارة املحليــة واملالهــي ملــدة خمــس ســنوات (تــم متديــد هــذه‬
‫الفــرات الحقـاً)‪ ،‬كــا هــدد وتوعــد يف مادتــه الثانيــة باســتيفاء «جميــع الرســوم والرضائــب‬
‫املرتتبــة عــى التجهيــزات املســتوردة مــع غرامــة تعــادل خمســة أمثــال قيمتهــا» فيــا إذا‬
‫«مل يتــم اســتخدام التجهيــزات املعفــاة مــن الرســوم خــال مثانيــة عــر شــهرا ً مــن تاريــخ‬
‫اســتالمها»‪ ،‬ومل ينــس يف مادتــه الثالثــة تخصيــص «مبلــغ عــن كل فيلــم ســيناميئ يســتورد‬
‫ويجــاز للعــرض الســيناميئ» لصالــح املؤسســة العامــة للســينام‪.‬‬
‫هــل يبــدو هــذا القانــون مشــجعاً فعــاً لصــاالت تعــاين مــن خــراب تــام عمــره عقــود‬
‫مــن الزمــن اختفــى خاللهــا مشــاهدي الســينام يف البــاد‪ .‬الحظــوا كيــف تــم ربــط اإلعفــاء‬
‫مــن الرســوم الجمركيــة بفــرة زمنيــة محــددة مــن ظهــور القانــون‪ ،‬وكأنــه يفــرض مســبقاً‬
‫وجــود ســيولة ماليــة مناســبة وجاهــزة لــدى أصحــاب الصــاالت تؤهلهــم لتحديثهــا بعــد‬
‫الخســائر الهائلــة التــي تكبدوهــا طويــاً جــراء قانــون الحــر‪ ،‬ودون اإلشــارة حتــى إىل‬
‫إمكانيــة تقديــم قــروض طويلــة األمــد وبفوائــد مخفضــة لهــم بغيــة تحقيــق هــذا الهــدف‪،‬‬
‫وعندمــا شــارفت الســنوات الثالثــة عــى االنتهــاء دون أن يحــرك أحــد ســاكناً كل مــا قامــت‬
‫بــه الدولــة هــو متديــد الفــرة دون أن تجهــد نفســها وتتســاءل ملــاذا مل يتغــر يشء‪ .‬ثــم‬
‫مــا معنــى والغايــة مــن املــادة الثانيــة‪ ،‬مــا الــذي ســيدفع أي مســتثمر لعــدم اســتخدام‬

‫‪62‬‬
‫تجهيــزات اســتوردها ودفــع مثنهــا (وهــو مثــن باهــظ جــدا ً) مــا مل يكــن لديــه مــا يوجــب‬
‫ذلــك مــن األســباب القاهــرة كأن تصــل التجهيــزات وتتأخــر جاهزيــة الصالــة ألســباب‬
‫تتعلــق بالتمويــل والقوانــن والروتــن والبريوقراطيــة‪ ،‬أو ألســباب تجاريــة بحتــة كأن يحصــل‬
‫املســتثمر عــى صفقــة جيــدة قبــل أن يبــارش عمليــات التحديــث يف الصالــة التــي قــد تســتمر‬
‫أكــر مــن مثانيــة عــر شــهرا ً (ولنــا يف صالــة الكنــدي خــر مثــال)‪ .‬أمــا املــادة الثالثــة فهــي‬
‫تتجاهــل وبصــورة ســافرة مطالــب الســينامئيني ـ كــا تجلــت يف ورقــة العمــل الشــهرية‬
‫التــي وقعهــا معظــم الســينامئيني الســوريني قبــل ســنوات ـ بــرورة تأســيس صنــدوق لدعم‬
‫الســينام ميــول مــن نســبة تقتطــع مــن بطاقــات الدخــول إىل الصــاالت‪ ،‬وفصــل النفقــات‬
‫اإلداريــة داخــل املؤسســة العامــة للســينام عــن نفقــات اإلنتــاج وتغطيــة األخــرة مــن قبــل‬
‫وزارة الثقافــة‪ .‬وهــو مــا يعنــي تهــرب الدولــة مجــددا ً مــن التمويــل املبــارش للمؤسســة‬
‫«بــأن يكــون لإلنتــاج الســيناميئ حصتــه الكافيــة يف توزيــع الدخــل الوطنــي‪ ،‬وأن يصبــح بنــدا ً‬
‫يف دراســة وإقــرار ميزانيــة الدولــة» كــا جــاء يف ورقــة العمــل‪ .‬بــل ويعنــي العــودة للعمــل‬
‫بنفــس روح قانــون الحــر‪ ،‬إذ أن مقــدار املبالــغ التــي ســوف تســتوفيها املؤسســة عــن‬
‫كل فيلــم ســيناميئ مســتورد ســيحدد قدرتهــا عــى تغطيــة أجــور العاملــن لديهــا ونفقاتهــا‬
‫اإلداريــة والتقنيــة وإنتاجهــا مــن األفــام‪ ،‬ومــن جهــة أخــرى ســتحدد هــذه املبالــغ قيمــة‬
‫األربــاح الصافيــة التــي ســيحققها املوزعــون وأصحــاب الصــاالت الســينامئية مــن جــراء‬
‫اســتريادهم لألفــام وعرضهــا‪ ،‬أي أن هــذه املــادة وضعــت املؤسســة والقطــاع الخــاص مــرة‬

‫‪63‬‬
‫أخــرى يف مجابهــة علنيــة‪ ،‬وجعلــت ازدهــار أحدهــا متناســباً مــع انحــدار اآلخــر‪ .‬وقــد‬
‫وصــل هــذه املبلــغ بعيــد ظهــور القانــون إىل حــوايل ‪ 5‬آالف دوالر خفــض ال حقـاً إىل ألــف‬
‫دوالر‪ ،‬وإذا مــا توقفنــا عنــد العــدد املتواضــع مــن األفــام التــي تدخــل إىل ســوريا يف الوقــت‬
‫الراهــن‪ ،‬والتــي ال يوجــد أي مــؤرش إىل تزايدهــا يف األفــق املنظــور‪ ،‬ميكننــا أن نــدرك أن‬
‫هــذه املبالــغ املحصلــة لــن تلعــب دورا ً فاعـاً يف إنتاجيــة املؤسســة‪ ،‬لكنهــا ذات تأثــر كبــر‬
‫عــى املوزعــن والعارضــن بســبب الرتاجــع املريــع يف أعــداد املشــاهدين‪.‬‬
‫يف الواقــع إن هــذه النقطــة هــي األكــر حساســية لــدى أصحــاب الصــاالت‪ ،‬وهــو مــا‬
‫انعكــس يف شــهادات بعضهــم التــي ظهــرت مؤخــرا ً يف امللــف الخــاص بالســينام الســورية‬
‫عــى صفحــات صحيفــة «النــور»‪ .‬فالرضائــب والرســوم التــي يدفعهــا هــؤالء عــن الصــاالت‬
‫واألفــام املســتوردة تصــل إىل أكــر مــن ‪ 15‬نوعـاً‪ .‬بعضهــا يقتطــع نســبة مــن ســعر التذكــرة‪،‬‬
‫لتصــل مبجموعهــا إىل ‪( 22%‬رســوم مالهــي وإدارة محليــة ودعــم الســينام)‪ ،‬وبعضهــا اآلخــر‬
‫يســتويف مبالــغ مقطوعــة عــن نشــاط الصالــة مثــل رضيبــة الدخــل أو الخدمــات أو اإلعــان‪،‬‬
‫ويصــل مجمــوع الرضائــب املذكــورة إىل حــوايل ‪ 5‬آالف دوالر ســنوياً يزيــد أو ينقــص وفقـاً‬
‫لتصنيــف الصالــة وعــدد مقاعدهــا والتذاكــر املباعــة‪ .‬أمــا النــوع الثالــث فيســتويف مبلغ ـاً‬
‫مقطوع ـاً مــن قيمــة التذكــرة‪ ،‬وهــو ذو طابــع بريوقراطــي بحــت ال ينفــع أولئــك الذيــن‬
‫يجبونــه لصالحهــم ويرهــق الذيــن يدفعونــه بحســاباته‪ ،‬كالرضيبــة التــي تقتطعهــا املحافظــة‬
‫بقيمــة ‪ 25‬قــرش ســوري عــن كل تذكــرة‪ ،‬فتحصــل عــى دوالر واحــد مــن كل ‪ 200‬تذكــرة‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫أو تلــك التــي تحصلهــا محافظــة ريــف دمشــق واملســاة رضيبــة عمــل شــعبي وهــي ال‬
‫تتجــاوز ‪ 5‬قــروش مــن قيمــة التذكــرة‪ ،‬أي أنهــا تفــوز بــدوالر واحــد عــن كل ألــف تذكــرة !!‬
‫هــذا فيــا يخــص الصــاالت‪ ،‬أمــا عــن األفــام فيدفــع املســتورد باإلضافــة إىل الرســم الخــاص‬
‫باملؤسســة (ألــف دوالر) عــن كل فيلــم رضيبــة إجــازة اســترياد وجمــرك وغــر مقيم ورســوم‬
‫رقابــة‪ .‬باإلضافــة إىل املصاريــف اإلداريــة التــي قــد تصــل إىل حــوايل ‪ 12‬ألــف دوالر ســنوياً‪.‬‬
‫وهكــذا نالحــظ أن القانــون رقــم ‪ 4‬مل يعــف الصــاالت ســوى مــن جــزء بســيط مــن جملــة‬
‫الرضائــب والرســوم املرتتبــة عليهــا‪ ،‬بــل واشــرط تحديثهــا بدايــة‪ ،‬رغــم أن املنطــق يفــرض‬
‫إعفائهــا مــن جميــع هــذه الرضائــب بوضعهــا الراهــن‪ ،‬يك يتســنى ملالكيهــا ومســتثمريها‬
‫تحقيــق تراكــم معقــول مــن األربــاح يســمح لهــم بتحديثهــا الحقـاً‪.‬‬
‫عــدا ذلــك كان يفــرض أن يرتافــق هــذا القانــون مــع إلغــاء أو تعديــل أو ترشيــع أو تطبيــق‬
‫العديــد مــن القوانــن واملراســيم ذات الصلــة‪ ،‬كالقانــون الخــاص بتصنيــف الصــاالت وذاك‬
‫الخــاص بتحديــد أســعار البطاقــات‪ ،‬وكذلــك قانــون الرقابــة الــذي يعــود إىل عــام ‪.1960‬‬
‫ويشــكل القــرار رقــم ‪ 1/2850‬لعــام ‪ 1982‬العائــق األكــر أمــام إنشــاء صــاالت جديــدة‪،‬‬
‫إذ ينــص عــى أنــه «ال يحــق ألصحــاب دور العــرض إغالقهــا وعندمــا تغلــق البــد لــوزارة‬
‫الثقافــة مــن أن تضــع اليــد عليهــا»‪ ،‬فهــل ميكــن ألي مســتثمر مجــرد التفكــر يف الدخــول‬
‫إىل قطــاع مــن األعــال ال يســمح القانــون لــه بالخــروج منــه إذا مل يوفــق لســبب أو ألخــر‬
‫فيــه‪ ،‬بالطبــع ال‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫لقــد شــكل ســوق الفيديــو (‪ )VHC,CD,DVD‬يف ســوريا عــى مــدى أعــوام طويلــة البديــل‬
‫الوحيــد ملشــاهدة األفــام الحديثــة الغائبــة عــن صــاالت الســينام‪ ،‬ولــن كان الجميــع لهــذا‬
‫الســبب صامتـاً حتــى اآلن عــن تجــاوزات وزارة الثقافــة املتمثلــة برتخيصهــا ألفــام مهربــة‬
‫غــر مســتوردة مــن مصادرهــا األصليــة‪ ،‬غــر أنــه حــان الوقــت إلدراك النتائــج الســلبية التــي‬
‫تخلفهــا هــذه املامرســة عــى صــاالت الســينام‪ ،‬فاألفــام األمريكيــة يتــم تداولهــا يف ســوقنا‬
‫حتــى قبــل أن تنــزل إىل ســوق الفيديــو يف الواليــات املتحــدة‪ ،‬مــا يخلــق منافســة حقيقيــة‬
‫للصــاالت ويحرمهــا مــن عــدد كبــر مــن املشــاهدين‪ ،‬ويزيــد مــن اتســاع الفجــوة الكبــرة‬
‫أصـاً بــن االثنــن‪ .‬لذلــك البــد مــن أن تعيــد الــوزارة النظــر يف آليــة منــح الرتاخيــص لألفــام‬
‫تشــجيعاً وحاميــة لــدور الســينام‪ ،‬وخاصــة بعــد أن انضمــت ســوريا يف بدايــة هــذا العــام إىل‬
‫معاهــدة بــرن لحاميــة الحقــوق األدبيــة والفنيــة‪.‬‬
‫وطاملــا نتحــدث عــن القوانــن املنظمــة أو املؤثــرة عــى عمــل صــاالت العــرض وتحديثهــا‬
‫وإنشــاء الجديــد منهــا‪ ،‬يجــب التأكيــد عــى رضورة العمــل وفــق مبــدأ مســاواة الجميــع أمام‬
‫القانــون‪ ،‬وإلغــاء أي نــوع مــن أنــواع التمييــز بينهــا كــا هــو واقــع األمــر اآلن‪ .‬فصــاالت‬
‫فنــادق الشــام اســتثنيت مــن قانــون حــر اســترياد األفــام يف وقتــه‪ ،‬وال تــزال مســتثناة مــن‬
‫دفــع الرســوم والرضائــب التــي تجبــى مــن بقيــة الصــاالت‪ ،‬أمــا ملــاذا فــا أحــد يعلــم!‬
‫وأخــرا ً إذا زدنــا عــى ذلــك كلــه واقــع االســتثامر بصــورة عامــة يف ســوريا ومــا يواجهــه مــن‬
‫صعوبــات وعقبــات عــى مســتوى القوانــن واإلجــراءات اإلداريــة والبريوقراطيــة‪ ،‬واملخلفات‬

‫‪66‬‬
‫الســلبية التــي تنعكــس عليــه جــراء انعــدام الثقــة يف القضــاء واســتقالليته والتخــوف مــن‬
‫تدخــل األجهــزة املختلفــة‪ ،‬وذكرنــا مبســتوى الدخــل املتــدين للفــرد يف ســوريا الــذي يدفعــه‬
‫للركــض جــل وقتــه وراء لقمــة عيشــه‪ ،‬وال يســمح لــه باالســتمتاع يف أي أنشــطة ترفيهيــة أو‬
‫ثقافيــة‪ ،‬رمبــا عندهــا لــن نتســاءل بكثــر مــن العجــب ملــاذا مل يتغــر واقــع الصــاالت لدينــا‪.‬‬

‫جريدة “الحياة” اللندنية ‪.2004‬‬

‫‪67‬‬
‫يف السينما السوفيتية ‪ -‬الروسية‬

‫‪68‬‬
‫سريجي بوندراتشوك‬
‫الذي رسم األدب بالضوء‬

‫يف الحيــاة ال يوجــد فقــط أشــخاص محظوظــون‪ ،‬بــل لعلــه مثــة كذلــك أجيــال أكــر حظ ـاً‬
‫مــن أجيــال أخــرى‪ ،‬وهنــا قــد تبــدأ املشــكلة… فمــن هــو املحظــوظ حق ـاً؟ وهــل ميكننــا‬
‫أن نصنــف املحظوظــن والــا محظوظــن مبقاربتهــم مــن حجــم املعانــاة الحياتيــة التــي‬
‫عايشــوها يف حقبــة محــددة مــن الزمــن؟ قــد نســارع باإلجابــة وبصــورة قطعيــة نعــم ميكننــا‬
‫ذلــك‪ ،‬ولكننــا ســنختلف حتـاً يف املعنــى‪ .‬فــإذا كان البعــض يــرى يف جيــل املعانــاة رضب مــن‬
‫الحشــود التعيســة الحــظ‪ ،‬فــإن البعــض اآلخــر يجــد يف معايشــة هــذه املعانــاة بالــذات كل‬
‫الحــظ‪ ،‬إذ مــن مخاضهــا ســوف تتفجــر طاقــة إبداعيــة خالقــة‪ ،‬تعطــي لحيــاة جيــل بأكملــه‬
‫أكــر وأعمــق مغــزى حيــايت وتاريخــي وإنســاين‪ .‬وهــذا أقــل مــا ميكــن لجيــل املعانــاة أن‬
‫يعــزي نفســه بــه‪ ،‬وخاصــة إن كانــت بذلــك الحجــم كالــذي ولدتــه الحــرب العامليــة الثانيــة‪.‬‬
‫وســرغي بوندارتشــوك املولــود يف عــام ‪ 1920‬هــو واحــد مــن أبنــاء هــذا الجيــل بالتأكيــد‪.‬‬
‫فــإن كانــت الحــرب ســبباً يف تأخــر دراســته التــي بدأهــا يف املعهــد املرسحــي يف مدينــة‬
‫روســتوف‪ ،‬ومــن ثــم أنهاهــا يف معهــد الدولــة الســيناميئ (فغيــك) يف موســكو عــام ‪،1948‬‬
‫لكنهــا مــن جهــة أخــرى مل متــر يف حياتــه دون أن تــرك بصامتهــا العميقــة‪ ،‬شــأنه يف ذلــك‬

‫‪69‬‬
‫شــأن مئــات املبدعــن مــن أبنــاء جيلــه‪ ،‬بــل واألجيــال التــي تلتــه‪.‬‬
‫كان الظهــور األول لبوندارتشــوك عــى الشاشــة مــع معلمــه املخــرج املعــروف ســرغي‬
‫غرياســيموف يف فيلمــه «الحــرس الفتــي» عــام ‪ .1948‬أمــا نجاحــه الكبــر األول كممثــل فقــد‬
‫تحقــق يف أدائــه الــدور الرئيــي يف «تــاراس شفتشــينكو» للمخــرج ايغــور سافتشــينكو‪،‬‬
‫حيــث اســتطاع أن يعكــس بصــورة عميقــة ومعــرة روح الشــخصية الشــعبية للشــاعر‬
‫والرســام األوكراينــي الكبــر شفتشــينكو‪.‬‬
‫شــارك بوندارتشــوك يف عــدد ال بــأس بــه مــن األفــام خــال فــرة امتــدت ألكــر مــن عــر‬
‫ســنوات‪ ،‬قبــل أن يخــرج فيلمــه األول‪ .‬وقــد حملــت هــذه األفــام تواقيــع ونكهــة مخرجــن‬
‫ينتمــون إىل أجيــال متباعــدة متامــاً‪ ،‬فعمــل مــع الكســندر دوفجينكــو يف «ميتشــورين»‪،‬‬
‫وفريدريــخ إرملــر يف «قصــة غــر منتهيــة»‪ ،‬وميخائيــل روم يف «األمــرال أوشــاكوف»‬
‫و«الســفن تهاجــم األبــراج املحصنــة»‪ ،‬ويــويل رايزمــن يف «صديــق النجمــة الذهبيــة»‪،‬‬
‫وتيمــويف ليفتشــوك يف «ايفــان فرانكــو»‪ ،‬وليونيــد لوكــوف يف «ال يجــوز نســيان ذلــك»‬
‫وغريهــم‪.‬‬
‫إال أن أبــرز أدواره يف هــذه الفــرة‪ ،‬كان أداؤه لشــخصية عطيــل يف فيلــم بنفــس العنــوان‬
‫مــن إخــراج ســرغي يوتكيفيتــش عــام ‪ 1955‬عــن املرسحيــة املعروفــة لشكســبري‪ ،‬حيــث‬
‫اســتطاع النفــاذ إىل العــامل الداخــي للشــخصية‪ ،‬مــرزا ً جوهرهــا البعيــد عــن الدهــاء واملكــر‬
‫إىل الحــد الــذي ال تســتطيع معــه أن تحــدس مبــا يحــاك لهــا مــن مؤامــرات‪ ،‬وخصالهــا‬

‫‪70‬‬
‫األصيلــة كالطيبــة والبســاطة ونقــاء الــروح‪ ،‬التــي تدفعهــا إىل االنتحــار تكفــرا ً عــن جرميتهــا‪.‬‬
‫وتجــدر اإلشــارة إىل أن هــذا الــدور الــذي أداه العديــد مــن املمثلــن مــن قبــل‪ ،‬وأهمهــم‬
‫أورســون ويلــز يف عــام ‪ ،1952‬قــد نــال إعجــاب لورانــس أوليفيــه الشــديد‪ ،‬الــذي قــام بعــد‬
‫ذلــك بعــرة ســنوات بــأداء الــدور نفســه مــع املخــرج ســتيوارت بــورغ‪.‬‬
‫يف أواســط الخمســينات وبدايــة الســتينات جــرت يف االتحــاد الســوفيتي مجموعــة مــن‬
‫التغيــرات الكبــرة يف املجتمــع‪ ،‬نتيجــة النقــد الرســمي للسياســة الســتالينية ومامرســاتها‬
‫يف مختلــف املجــاالت‪ ،‬وبــدأ املنــاخ الثقــايف بالتحــرر نســبياً مــن القيــود الرقابيــة املفروضــة‪،‬‬
‫والقوالــب الجامــدة واملتعســفة التــي ســادت يف العالقــة بــن الدولــة واملؤسســات الثقافيــة‬
‫واملثقفــن عموم ـاً‪.‬‬
‫وكان لذلــك انعكاســاته اإليجابيــة عــى املنــاخ الســيناميئ يف البــاد‪ ،‬إذ بــدأت يف الظهــور ـ كام‬
‫يف العرشينــات ـ االتجاهــات الفنيــة املتنوعــة‪ ،‬والفعاليــات اإلبداعيــة املتفــردة يف أســاليبها‪،‬‬
‫ســواء يف أوســاط الجيــل القديــم مــن املخرجــن كـــ دونســكوي وزارخــي وكاالتــوزوف‬
‫وبرييــف وخيفيتــس وروم ورايزمــن وغريهــم‪ ،‬أو لــدى أولئــك املخرجــن الذيــن أخــذت‬
‫تظهــر أعاملهــم األوىل يف هــذه الفــرة كـــ تاركوفســي وأبــوالدزه وآلــوف وناومــوف ودانيليا‬
‫وباراجانــوف وكوليدجانــوف وتاالنكني وروسوتســي وخوتســييف وتشــوخراي وتشــيخيدزه‬
‫وشــفيترس وبوندارتشــوك وغريهــم‪.‬‬
‫كل ذلــك أدى إىل توســع مجــال املوضوعــات الســينامئية‪ ،‬واألجنــاس الفيلميــة‪ ،‬واملخططــات‬

‫‪71‬‬
‫الرسديــة للحــدث‪ ،‬والســعي لتقديــم شــخصيات أشــد عمقـاً وأكــر أصالــة وارتباطـاً بالواقــع‪.‬‬
‫ومــن جديــد ازدهــرت األبحــاث الفنيــة حــول اإلمكانيــات التعبرييــة للفيلــم‪ ،‬وإشــكاليات‬
‫تنــاول املــادة الحياتيــة يف ســياق البحــث عــن الوســائل الفنيــة املالمئــة لتجســيدها الســيناميئ‪،‬‬
‫وذلــك يف صلــة وثيقــة مــع مــا تــم معالجتــه ســابقاً يف العرشينــات والثالثينــات‪.‬‬
‫إن هــذه الرؤيــة الفنيــة الجديــدة انعكســت كذلــك يف األفــام التــي تطرقــت ملوضوعــة‬
‫الحــرب يف تلــك الفــرة‪ ،‬متجليــة يف غناهــا البــري ـ التعبــري‪ ،‬وبعدهــا اإلنســاين العميــق‪،‬‬
‫وظهــور اإلنســان البســيط ـ الجنــدي كمحــور للحــدث التاريخــي ـ املصــري فيهــا‪ .‬مــن أهــم‬
‫هــذه األفــام ميكننــا أن نذكــر «الغرانــق تطــر»‪ 1‬لكاالتــوزوف‪ ،‬و«البيــت الــذي أعيــش‬
‫فيــه» لكوليدجانــوف‪ ،‬و«أنشــودة عــن جنــدي»‪ 2‬لتشــوخراي‪ ،‬و«الســام عــى اآليت» آللــوف‬
‫وناومــوف‪ ،‬وعمــل بوندارتشــوك األول «مصــر إنســان» عــن قصــة بنفــس العنــوان للكاتــب‬
‫ميخائيــل شــولوخوف‪.‬‬
‫يقــول بوندارتشــوك‪« :‬منــذ القــراءة األوىل لـــ «مصــر إنســان» رأيتــه مبــارشة بصــورة‬
‫ســينامئية‪ ،‬وقــررت أن أصنــع فيلــاً مهــا يكــن‪ ،‬واتجهــت إىل اإلخــراج ألننــي وجــدت‬
‫وراء كل صفحــة حيــاة مفعمــة باألجســاد والحيويــة واألحــداث»‪ .‬قبــل الــروع يف إخــراج‬
‫العمــل التقــى بوندارتشــوك الكاتــب شــولوخوف وعــرض عليــه الســيناريو األويل للفيلــم‪،‬‬
‫لكــن بعــد قراءتــه بقــي األخــر صامتـاً ومل يعلــق بــيء‪ ،‬وكان يقــول لآلخريــن أن العمــل مل‬

‫‪ -1‬يرتجم يف بعض املراجع تحت عنوان «عندما يطري البجع»‬


‫‪ -2‬يرتجم يف بعض املراجع تحت عنوان «أنشودة الجندي»‬

‫‪72‬‬
‫ينجــز بعــد‪ ،‬وعندمــا ينتهــي فحســب ميكــن الحديــث عنــه‪ ،‬إذ ال يجــوز إعاقــة اإلنســان وهــو‬
‫يعمــل‪ .‬وهــذا كان يعنــي الثقــة‪ ،‬لقــد آمــن الكاتــب الكبــر باملخــرج الشــاب‪ ،‬وهــذا كل مــا‬
‫كان بوندارتشــوك بحاجــة إليــه يف ذلــك الوقــت‪.‬‬
‫«مصــر إنســان» فيلــم املصــر الرتاجيــدي الــذي عايشــه يف فــرة الحــرب املاليــن مــن الجنــود‬
‫الســوفييت‪ :‬املعــارك الدمويــة القاســية عــى الجبهــة‪ ،‬معســكرات االعتقــال النازيــة‪ ،‬واملــوت‬
‫الــذي كان يرتبــص بهــم يف كل لحظــة ومــن كل زاويــة‪.‬‬
‫لكــن األمــر مل يتوقــف عنــد هــذا الحــد مــن املأســاة‪ ،‬فاملأســاة كانــت أكــر مــن أن يحجمهــا‬
‫االنتصــار وانتهــاء الحــرب‪ ،‬فــا أن يعــود الجنــدي أندريــه ســوكولوف البطــل الرئيــي يف‬
‫الفيلــم ـ الــذي أدى دوره بوندارتشــوك نفســه ـ إىل ديــاره حتــى يجــد أن الحــرب اختطفــت‬
‫منــه أقــرب النــاس إليــه زوجتــه وأطفالــه‪ ،‬وهنــا كان عليــه أن يواجــه صــورة أخــرى للموت‪:‬‬
‫األمل والحــزن والوحــدة‪ ،‬كل ذلــك كان كفيــاً بــأن يدمــر روحــه ويقتلــه‪ ،‬لــو مل تجمعــه‬
‫الصدفــة مــع فانيــا الصبــي املتــرد الصغــر الــذي يقاســمه املصــر نفســه‪ ،‬فهــو اآلخــر فقــد‬
‫والديــه يف الحــرب ومل يعــد لديــه مــن يحتضنــه ســوى الشــوارع‪ ،‬وعندمــا يعلــم ســوكولوف‬
‫ذلــك يقــرر عــى الفــور إخبــاره أنــه والــده‪ ،‬يف مشــهد مؤثــر تســمو املشــاعر اإلنســانية‬
‫املتأججــة فيــه إىل ذروة عنفوانهــا‪ ،‬وأداء متثيــي صــارم وصــادق إىل أقــى الحــدود‪ .‬ومل يكــن‬
‫هــذا املشــهد اســتثنائياً عــى اإلطــاق‪ ،‬فالفيلــم يزخــر بعــرات املشــاهد املشــابهة يف قوتهــا‬
‫ومصداقيتهــا‪ .‬وبانتشــال ســوكولوف لفانيــا مــن بؤســه‪ ،‬يف ذات اللحظــة ينتشــل نفســه‪ ،‬فمــع‬

‫‪73‬‬
‫هــذا الصبــي الــذي فقــد مثلــه كل مــا لديــه يســتطيع ســوكولوف مــن جديــد اإلحســاس‬
‫بطعــم الحيــاة‪ ،‬رغــم كل مــرارة الحــرب التــي ســتبقى يف قلبــه إىل األبــد‪.‬‬
‫ومما ال شـك فيـه أن الفضـل يف املسـتوى الفنـي العـايل الـذي حققـه العمـل يعـود كذلك إىل‬
‫الطاقـم الفنـي الـذي أختـاره بوندارتشـوك بعنايـة‪ ،‬كالفنـان إبوليـت نوفوديريوجكين الـذي‬
‫اسـتطاع بواسـطة ديكوراتـه ومعالجاتـه التشـكيلية للمشـاهد أن يعكـس برباعـة األجـواء‬
‫التـي تجـري يف خضمهـا األحـداث‪ .‬وكذلـك مديـر التصويـر فالدميير موناخـوف‪ ،‬الـذي يعـد‬
‫«مصير إنسـان» أحـد أهـم أعاملـه‪ ،‬إذ متيـزت الصـورة يف الفيلـم بديناميكيتهـا‪ ،‬وواقعيتهـا‬
‫القاسـية‪ ،‬واكتمال تكوينها التشـكييل ومعالجتهـا الضوئية‪ .‬إن بروز ظاهرة اسـتخدام الكامريا‬
‫املحمولـة يف أفلام هـذه الفترة‪ ،‬وجد انعكاسـه هنـا أيضاً يف العديـد من املشـاهد‪ ،‬ولعل من‬
‫أبرزهـا ذاك الـذي يشير إليـه الناقـد بوغدانـوف‪« :‬يف مشـهد هـروب البطل مـن األرس كانت‬
‫الغابـة تتحـرك باندفاع وعشـوائية نحو املشـاهد‪ ،‬مـن حني ألخر كانت تلوح جذوع األشـجار‪،‬‬
‫األغصـان صفعـت الشاشـة‪ .‬لقـد صـور مديـر التصوير موناخـوف هذا الـكادر جاريا ببسـاطة‬
‫يف الغابـة وبيـده الكاميرا‪ .‬ولـو تخيلنـا للحظـة أن هـذه اللقطـة مل تكـن موجودة يف املشـهد‪،‬‬
‫ملـا كان هنـاك ذلـك اإلحسـاس القـوي بخفقان قلـب البطل‪ ،‬قلقـه العظيم وتوتـر جميع قواه‬
‫الداخليـة»‪ .‬ورغـم أن «مصير إنسـان» كان العمـل األول ملخرجـه إال أنـه لقي نجاحـاً منقطع‬
‫النظير يف جميـع أنحـاء العـامل‪ ،‬ونـال عـددا ً كبيرا ً مـن الجوائـز املحليـة والعامليـة‪ ،‬ويعـد إىل‬
‫اليـوم من كالسـيكيات السـينام الروسـية‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫ابتــدا ًء مــن عــام ‪ 1962‬يبــدأ بوندارتشــوك عملــه يف ملحمتــه الســينامئية الضخمــة‪ ،‬املأخــوذة‬
‫عــن رائعــة الكاتــب الــرويس الكبــر ليــف تولســتوي «الحــرب والســلم»‪ ،‬التــي تعكــس‬
‫مرحلــة الحــرب الوطنيــة يف روســيا ضــد جيــوش نابليــون عــام ‪.1912‬‬
‫ومل تكــن هــذه هــي املــرة األوىل التــي تنقــل بهــا ملحمــة تولســتوي إىل الشاشــة‪ ،‬إذ قــام‬
‫املخرجــان الروســيان غارديــن وبروتوزانــوف يف عــام ‪ 1915‬بأفلمتهــا للمــرة األوىل‪ ،‬أمــا أهــم‬
‫أفلمــة ســابقة لهــا فتعــود للمخــرج األمريــي كينــغ فيــدور يف عــام ‪ .1956‬التــي شــكلت‬
‫أحــد الدوافــع وراء أفلمــة الروايــة يف روســيا‪ ،‬فبعــد عــرض فيلــم فيــدور هنــاك‪ ،‬أخــذت‬
‫العديــد مــن األصــوات تتســاءل عــن الســبب وراء عــدم وجــود أفلمــة وطنيــة لـــ «الحــرب‬
‫والسلم»‪ .‬‬
‫باإلضافــة إىل ذلــك يشــر كاتبــا الســيناريو فاســييل ســولوفيوف وبوندارتشــوك إىل العديــد‬
‫مــن األســباب األخــرى التــي دفعتهــا ألفلمــة جديــدة لهــذه امللحمــة األدبيــة‪ ،‬فيقــول‬
‫ســولوفيوف‪( :‬عنــد كتابــة الســيناريو اسرتشــدنا القانــون الداخــي الــذي حــدده تولســتوي‬
‫نفســه لبنيــة الروايــة بوصفــه «قانــون تشــابك الشــخصيات»… نحــن نحــرم عميــق االحرتام‬
‫ذلــك الجهــد الكبــر الــذي بذلــه الســينامئيون األجانــب مــن أجــل نقــل «الحــرب والســلم»‬
‫إىل الشاشــة‪ .‬ولكــن األفــام التــي أنتجوهــا مل ترضنــا‪ ،‬ألن األفضليــة عــادت هنــاك إىل خــط‬
‫الحــب‪ ،‬إىل الثــايث العاطفــي‪ .‬ويف مثــل هــذه البنيــة ضــاع الرئيــي‪ :‬الخــط الشــعبي يف‬
‫الروايــة‪ .‬وإذا ســلكنا طريق ـاً آخــر وأخذنــا فقــط مشــاهد املعــارك واملشــاهد التاريخيــة‪،‬‬

‫‪75‬‬
‫األمــر الــذي حاولنــا أن نفعلــه يف إحــدى صيــغ الســيناريو‪ ،‬شــحبت كــرة مــن الطبائــع‬
‫اإلنســانية‪ .‬ويف الحالتــن نفقــد األبطــال‪ ،‬نفقــد تولســتوي)‪ .‬وقــد أكــد بوندارتشــوك هــذا‬
‫التوجــه بقولــه‪( :‬إننــا نســعى إىل أن نكــون أقــرب مــا ميكــن إىل الروايــة… وهــدف أبحاثنــا‬
‫اإلبداعيــة أن نجســد عــى الشاشــة بأكمــل وأتــم وجــه روايــة الحــرب والســلم… وإنهــا‬
‫لقريبــة إلينــا نزعــة تولســتوي اإلنســانية الكــرى‪ ،‬وإميانــه بانتصــار الحيــاة عــى املــوت‪،‬‬
‫بانتصــار الخــر عــى الــر‪ ،‬وأحالمــه بوحــدة النــاس ذوي اإلرادة الطيبــة)‪.‬‬
‫لقــد وجــد كاتبــا الســيناريو أنــه ال يجــوز التعامــل مــع مؤلــف لكاتــب بحجــم تولســتوي‬
‫بصــورة انتقائيــة فجــة‪ ،‬تخولهــم التحويــر أو اإلضافــة‪ ،‬كالقيــام عــى ســبيل املثــال بانتقــاء‬
‫األحــداث واملشــاهد والخطــوط الدراميــة التــي تبــدو أكــر عرصيــة‪ ،‬وإمنــا االحتفــاظ بأقــى‬
‫حــد ممكــن مــن بنيــة الروايــة‪ .‬والبــد أن لهــذا التطلــع مــا يــرره فعـاً‪ ،‬إذ ال تــزال األفــكار‬
‫الكبــرة التــي تضمنتهــا هــذه امللحمــة الروائيــة‪ ،‬وجســدها الفيلــم حيويــة بالنســبة لزماننــا‬
‫املعــارص‪ ،‬ولعلهــا ســتبقى كذلــك إىل زمــن بعيــد‪ ،‬كالفكــرة التــي تقــول بحتميــة إفــاس‬
‫تعســف الفــرد يف التاريــخ‪ ،‬وحتميــة ســقوط الفــرد املرفــوع إىل مصــايف اآللهــة‪ ،‬أو تلــك‬
‫الفكــرة التــي تــردد يف بدايــة الفيلــم ونهايتــه‪( :‬إن جميــع األفــكار التــي تنجــم عنهــا عواقب‬
‫جســيمة ـ بســيطة دومـاً‪ .‬إن كل فكــريت ترتكــز عــى أنــه إذا كان النــاس الفاســدون مرتابطــن‬
‫فيــا بينهــم ويشــكلون قــوة‪ ،‬فأنــه ينبغــي عــى النــاس الرشفــاء أن يفعلــوا األمــر نفســه‪،‬‬
‫وكــم ذلــك بســيط)‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫إن ســعي كاتبــا الســيناريو نحــو التجســيد األكمــل لــروح الروايــة وجــد انعكاســه يف الواقعية‬
‫الصارمــة التــي صبغــت الفيلــم بأكملــه‪ ،‬فالديكــورات واملالبــس واإلكسســوارات اســتطاعت‬
‫أن تعــر بدقــة عــن العــر الــذي تجــري فيــه األحــداث‪ ،‬وميكننــا أن نتصــور أي جهــد جبــار‬
‫تطلبــه ذلــك‪ ،‬خاصــة عندمــا كان األمــر يتعلــق مبشــاهد املعــارك الضخمــة التــي شــارك فيهــا‬
‫آالف األشــخاص‪.‬‬
‫ويشــكل املونولــوج الداخــي (صــوت مــن خــارج الــكادر) الــذي تــم اســتخدامه بكــرة يف‬
‫الفيلــم معــادالً ســينامئياً لنظــره يف الروايــة‪ ،‬كــا أن اســتخدام أســلوب تقطيــع الشاشــة‬
‫إىل قســمني أو ثالثــة للتعبــر عــن مجموعــة أحــداث تجــري يف وقــت واحــد كبديــل عــن‬
‫املونتــاج املتــوازي يقــدم مثــاالً ســاطعاً عــى التــزام بوندارتشــوك حتــى بهــذا الجانــب منهــا‪،‬‬
‫عل ـاً أن الكثرييــن مــن النقــاد واملخرجــن يــرون يف هــذه الوســائل‪ ،‬عمليــة إقحــام فجــة‬
‫لوســيلة تعبرييــة أدبيــة يف الفــن الســيناميئ الــذي ميتلــك وســائله الخاصــة البعيــدة عــن‬
‫جميــع التأثــرات األدبيــة أو املرسحيــة‪.‬‬
‫ورغــم جميــع مســاعي بوندارتشــوك‪ ،‬والجهــد الجبــار الــذي كرســه لهــذا العمــل‪ ،‬رأى‬
‫العديــد مــن النقــاد أن الفيلــم مل يصــل إىل مســتوى الروايــة يف العديــد مــن الجوانــب‪ ،‬ولعــل‬
‫أهمهــا ذاك الــذي يشــر إليــه الناقــد رومانينكــو‪( :‬لقــد متكــن بوندارتشــوك دون شــك مــن‬
‫نقــل الحــس امللحمــي للروايــة‪ ،‬لكــن عنــد تولســتوي األســس امللحميــة تقــرن مــع التغلغــل‬
‫العميــق يف العــامل الداخــي لألبطــال‪ .‬وبحثهــم عــن االحتياجــات الروحيــة‪ ،‬ال يقــل أهميــة‬

‫‪77‬‬
‫عــن لوحــات الحيــاة الحربيــة‪« .‬املصــر الشــعبي» و «مصــر اإلنســان» يتالحــان بصــورة‬
‫عضويــة يف وحــدة متكاملــة‪ .‬لألســف هــذا االندمــاج العضــوي غائــب يف الفيلــم‪ ،‬ويبــدو‬
‫ذلــك ملموسـاً يف الجــزء الرابــع خاصــة‪ ،‬حيــث تــم الرتكيــز عــى الوقائــع التاريخيــة‪ ،‬ومــرح‬
‫األحــداث الحربيــة والجيــش والقــادة… الــخ‪ .‬ويظهــر بيــر ‪3‬هنــا كشــخص متنبــه ومالحــظ‬
‫ذيك لألحــداث التــي تحيــط بــه‪ ،‬وليــس كإنســان يبحــث عــن الحقيقــة‪ ،‬وعــن مغــزى الحيــاة‬
‫بصــورة مؤملــة كــا يف الروايــة)‪.‬‬
‫لقــد شــارك يف هــذه امللحمــة الســينامئية الضخمــة التــي وصلــت مدتهــا إىل مثــان ســاعات‬
‫وخمــس وأربعــن دقيقــة‪ ،‬وبلغــت تكاليــف إنتاجهــا حــوايل ‪ 100.000.000‬دوالر‪ ،‬واســتمر‬
‫العمــل عليهــا خمــس ســنوات‪ ،‬عــدد كبــر مــن فنــاين الديكــور‪ ،‬ويف طليعتهــم ميخائيــل‬
‫بوغدانــوف وغينــادي مياســنيكوف الــذي عمــل خاصــة عــى اللوحــات امللحميــة الكــرى‪،‬‬
‫التــي متيــزت بوضــوح الغايــة‪ ،‬واملعالجــة اللونيــة والغرافيكيــة الغنيــة بالــدالالت املجازيــة‪.‬‬
‫مديــر التصويــر األول يف العمــل كان أناتــويل بيرتيتســي‪ ،‬الــذي اســتطاع يف اللقطــات القريبــة‬
‫واملتوســطة النفــاذ بعمــق يف عــوامل الشــخصيات التــي لعــب أدوارهــا نخبــة مــن كبــار‬
‫املمثلــن الــروس كأناستاســيا فريتينســكايا ونونــا مورديوكوفــا وأناتــويل كتــوروف وإيرينــا‬
‫سكوبتســيفا وفاســييل النوفــوي وفيتشيســاف تيخانــوف وانتوينــا شــورانوفا وفالديســاف‬

‫‪ -3‬بيري بيزوخوف إحدى الشخصيات األساسية يف الفيلم وقد أدى دوره بوندارتشوك نفسه‬

‫‪78‬‬
‫سرتيجيلتشــيك وغريهــم‪ ،‬ليعكــس برباعــة ســاتها الذاتيــة‪ ،‬ومشــاعرها‪ ،‬وأفكارهــا‪.‬‬
‫أمــا يف مشــاهد املعــارك الضخمــة التــي وصــل عــدد الكومبــارس أثنــاء تصويــر بعضهــا‬
‫ـ كمعركــة بوريدينــو ـ إىل حــوايل ‪ 13000‬شــخص‪ ،‬فقــد متيــز إبــداع بيرتيتســي بالتنــوع‬
‫والتواتــر يف أحجــام اللقطــات وخاصــة بــن العامــة واملتوســطة‪ ،‬واالســتفادة مــن عمــق‬
‫الحقــل يف تقديــم الصــور البانوراميــة‪ ،‬واســتخدام الكامــرا املتحركــة‪ ،‬وزوايــا التصويــر‬
‫املتنوعــة‪ ،‬كالتصويــر مــن الحوامــات‪ ،‬أو زرع الكامــرات يف الرتبــة لتصويــر معــارك الخيالــة‬
‫مــن نقــط منخفضــة‪ .‬كل ذلــك يك يســتطيع الفيلــم بعــث األجــواء الحقيقيــة لهــذه املعركــة‪.‬‬
‫ومــن الجديــر بالذكــر أن بوندارتشــوك اســتفاد مــع مديــري التصويــر وفنــاين الديكــور مــن‬
‫تقاليــد الفــن التشــكييل الــرويس يف القــرن التاســع عــر يف إبــداع هــذه اللوحــة املعــرة‬
‫واملعقــدة لدرجــة كبــرة بتكوينهــا وبنائهــا التشــكييل وتدرجاتهــا اللونيــة الرائعــة‪ ،‬حتــى‬
‫غــدت هــذه املعركــة ـ املشــهد بحــد ذاتــه موضوعــاً للعديــد مــن الدراســات التحليليــة‬
‫النقديــة‪ .‬وليصبــح «الحــرب والســلم» أول فيلــم ســوفيتي يفــوز باألوســكار عــن أفضــل‬
‫فيلم أجنبي يف عام ‪ .1968‬‬
‫يف عــام ‪ 1970‬قــام بوندارتشــوك بإخــراج ملحمــة تاريخيــة جديــدة بعنــوان «واترلــو» مــن‬
‫إنتــاج ســوفيتي ـ إيطــايل مشــرك‪ ،‬عــن املعركــة الشــهرية التــي هــزم فيهــا نابليــون بصــورة‬
‫نهائيــة‪ .‬ومل تكــن هــذه هــي املــرة األوىل التــي يتعامــل فيهــا بوندارتشــوك مــع فنانــن مــن‬
‫خــارج االتحــاد الســوفيتي‪ ،‬فقــد شــارك مــن قبــل يف فيلــم روبريتــو روســيليني «كان الوقــت‬

‫‪79‬‬
‫ليـاً يف رومــا» مؤديـاً دور جنــدي رويس مــن األنصــار‪ ،‬وكذلــك يف فيلــم املخــرج اليوغوســايف‬
‫فيلكــو بواليتــش «معركــة عــى نرييتفــا» عــن حــرب األنصــار يف يوغســافيا ضــد الفاشــية‪.‬‬
‫إن ســعي بوندارتشــوك إلخــراج أعــال ذات طابــع ملحمــي‪ ،‬وإنتــاج ضخــم مل ترتبــط يومـاً‬
‫بنزعــة نحــو االســتعراض البــري املجــرد‪ ،‬فهــو إذ اســتند يف أفالمــه عــى أعــال أدبيــة‬
‫كبــرة لشــولوخوف وتشــيخوف وتولســتوي وبوشــكني وريــد‪ ،‬فقــد كان ذلــك لتقديــره الكبري‬
‫لهــا‪ ،‬وإحساســه مبــا تحتويــه مــن تحليــل عميــق للتاريــخ والشــخصيات الفاعلــة فيــه‪ ،‬الكبــرة‬
‫منهــا أو تلــك التــي مل يعــد التاريــخ نفســه يذكرهــا‪ ،‬ويف الواقــع تلــك هــي إحــدى أعظــم‬
‫وأســمى مآثــر الفــن‪ ،‬إذ يغــدو الذاكــرة الروحيــة لإلنســانية‪ ،‬حيــث تســتحيل ماليــن األســاء‬
‫املنســية التــي يحيلهــا التاريــخ إىل مجــرد أرقــام‪ ،‬إىل جملــة مــن املشــاعر واألفــكار الحيــة‪،‬‬
‫إىل شــخصيات تحــب وتكــره وتتــأمل وتقلــق وتتأمــل‪ ،‬وتصنــع التاريــخ نفســه‪ .‬لذلــك كان‬
‫بوندارتشــوك يحــرص عــى انتقــاء طاقمــه الفنــي بعنايــة كبــرة‪ ،‬ســواء عــى مســتوى مديري‬
‫التصويــر وفنــاين الديكــور واملالبــس وامللحنــن‪ ،‬أو عــى مســتوى املمثلــن‪.‬‬
‫ومل يكــن «واترلــو» اســتثناء‪ ،‬فقــد شــارك يف هــذا الفيلــم طاقــم «عاملــي» مــن الفنانــن‪،‬‬
‫فــأدار التصويــر اإليطــايل أرمانــدو نانــوزي‪ ،‬ووضــع موســيقاه أحــد أكــر امللحنــن يف الســينام‬
‫اإليطاليــة والعامليــة نينــو روتــا‪ ،‬وشــارك يف التمثيــل باإلضافــة إىل الفنانــن الــروس فالدميــر‬
‫دروجنيكــوف وغينــادي يوديــن وإيرينــا سكوبتســيفا ـ زوجــة املخــرج التــي شــاركت يف‬
‫معظــم أعاملــه ـ مجموعــة مــن املمثلــن الربيطانيــن كجــاك هوكينــز وفريجينــا ماكينــا‪،‬‬

‫‪80‬‬
‫والعديــد مــن ممثلــن الواليــات املتحــدة وعــى رأســهم رود ســتيغر والغنــي عــن التعريــف‬
‫أورســون ويلــز‪.‬‬
‫يف ســينام الســبعينات عــادت موضوعــة الحــرب للظهــور مجــددا ً‪ ،‬وذلــك ضمــن اتجاهــن‬
‫أساســيني‪ .‬ارتكــز األول عــى امللحميــة ـ الروائيــة املمتزجــة بالدقــة الوثائقيــة يف تصويــر‬
‫املعــارك الضخمــة والشــخصيات التاريخيــة الفاعلــة يف الحــرب‪ ،‬ومختلــف جوانــب املأســاة‬
‫التــي فرضتهــا الحــرب عــى النــاس‪ .‬فأخــرج أوزيــروف سلســلته الطويلــة «التحريــر»‬
‫املكونــة مــن خمســة أفــام («القــوس النــاري»‪« ،‬االخــراق»‪« ،‬اتجــاه الرضبــة الرئيســية»‪،‬‬
‫«معركــة برلــن»‪« ،‬االنقضــاض األخــر»)‪ ،‬ويرشــوف «الحصــار»‪ ،‬وليفتشــوك ثالثيتــه «أفــكار‬
‫عــن كوفبــاك»‪ .‬أمــا االتجــاه الثــاين الــذي ينتمــي معظــم مخرجيــه إىل جيــل مــا بعــد الحــرب‪،‬‬
‫فقــد وضــع نصــب عينيــه تقديــم رؤيــة جديــدة أكــر معــارصة وعمق ـاً وموضوعيــة لهــذا‬
‫الحــدث التاريخــي‪ ،‬يف محاولــة لتلمــس مختلــف اإلشــكاليات األخالقيــة واألزمــات الروحيــة‬
‫والنفســية التــي فجرتهــا هــذه الحــرب‪ ،‬ســواء يف إطارهــا الزمنــي ـ التاريخــي أو عــر‬
‫امتدادهــا واســتمراريتها يف الزمــن املعــارص‪ .‬وذلــك مــن خــال موضوعــات وأســاليب فنيــة‬
‫وأشــكال رسديــة جــدا ً متنوعــة‪ .‬مــن أهــم أفــام هــذا االتجــاه ميكننــا أن نذكــر «الفجــر‬
‫هــادئ هنــا» لروسوتســي‪ ،‬و«الثلــج الحــار» ليغيــازاروف‪ ،‬و«عــرون يوم ـاً دون حــرب»‬
‫لغريمــن‪ ،‬و«الصعــود» لشــيبتيكو‪ ،‬و«الطيــور الجريحــة» لغوبينكــو‪ ،‬و«إىل املعركــة ميــي‬
‫(الشــيوخ) فحســب» لبيكــوف‪ .‬ضمــن هــذا االتجــاه أخــرج بوندارتشــوك عــام ‪ 1974‬فيلمــه‬

‫‪81‬‬
‫الرابــع «قاتلــوا يف ســبيل الوطــن» املقتبــس عــن روايــة بنفــس العنــوان للكاتــب ميخائيــل‬
‫شــولوخوف‪.‬‬
‫لقــد أكتســب هــذا الفيلــم أهميــة خاصــة بــن أفــام الحــرب يف الســبعينات لعــدة أســباب‪،‬‬
‫لعــل أهمهــا تقدميــه الوجــه البشــع للحــرب‪ ،‬وللمــوت الــذي كانــت تحملــه معهــا يف كل‬
‫خطــوة‪ ،‬واملعانــاة الطويلــة التــي توجــب عــى املاليــن مــن أبنــاء الشــعب أن يتذوقــوا‬
‫مرارتهــا‪ ،‬مــن وجهــة نظــر الجنــدي البســيط تحديــدا ً‪ ،‬يف خليــط متشــابك مــن التقاطعــات‬
‫العامــة املشــركة بــن جميــع الجنــود‪ ،‬والســات الخاصــة التــي عكســت تفاصيــل الطبائــع‬
‫املختلفــة للشــخصيات‪ ،‬وذلــك املزيــج مــن املشــاعر واألفــكار والذكريــات واألحــام‬
‫والســلوكيات التــي كانــت تســيطر عليهــا‪ ،‬والتــي رغــم كل مــا قــد تتصــف بــه مــن الغرابــة‬
‫أو الســطحية أو االضطــراب أو الفجاجــة‪ ،‬كانــت تبــدو طبيعيــة يف ظــل الظــروف القاســية‬
‫التــي فرضتهــا الحــرب عليهــم‪ .‬وجــاء األســلوب الــردي يف الفيلــم منســجامً متامـاً مــع هــذه‬
‫الغايــة‪ ،‬إذ ليــس هنــاك قصــة باملفهــوم التقليــدي‪ ،‬فالفيلــم بأكملــه يبــدو كصــورة مقتطعــة‬
‫مــن لوحــة كبــرة‪ ،‬مــن هنــا كانــت جميــع التفاصيــل الصغــرة (التــي شــكلت جوهــر الفيلم)‬
‫عــى مســتوى واحــد مــن األهميــة‪ ،‬ســواء تلــك التي ظهــرت يف مشــاهد املعــارك الرشســة أو‬
‫التــي تخللــت هــذه املشــاهد كالتحايــل للحصــول عــى وجبــة طعــام‪ ،‬واألحاديــث املبتذلــة‬
‫بــن الجنــود‪ ،‬واملعاتبــات املتبادلــة‪ ،‬والرسقــة الرسيعــة لقبلــة عابــرة‪ ،‬وطبيعــة العالقــة التــي‬
‫نشــأت بــن الجنــود املنســحبني والســكان املدنيني…الــخ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫لقــد اســتطاع بوندارتشــوك مــع مديــر التصويــر الكبــر فاديــم يوســوف ـ الــذي عمــل يف‬
‫جميــع أفــام تاركوفســي األوىل ـ عكــس طبيعــة األماكــن واألجــواء والشــخصيات بصــورة‬
‫واقعيــة فــذة ال تحتمــل أي تزويــق‪ ،‬ودون أن تخلــو يف نفــس الوقــت مــن التعابــر الدالليــة‬
‫الجميلــة‪ .‬ومــا الشــك فيــه أن مشــاركة مجموعــة كبــرة مــن نجــوم التمثيــل يف الســينام‬
‫الروســية كالكاتــب والسيناريســت واملخــرج واملمثــل فاســييل شوكشــن ‪ 4‬الــذي أدى الــدور‬
‫الرئيــي يف الفيلــم وغيورغــي بوركــوف وإيفــان البيكــوف ويــوري نيكولــن وفيتشيســاف‬
‫تيخونــوف وليديــا فيدوســييفا ونونــا مورديوكوفــا‪ ،‬باإلضافــة إىل املخــرج نيقــوالي غوبينكــو‪،‬‬
‫قــد ســاهم بصــورة فعالــة يف نجــاح هــذا العمــل الضخــم‪.‬‬
‫لقــد شــكل األدب الكالســييك واملعــارص منبعـاً أصيـاً للســينام الســوفيتية منــذ بداياتهــا ويف‬
‫كافــة مراحــل تطورهــا‪ ،‬وقــد ترســخت مــع الســنني تقاليــد صارمة يف أفلمــة األعــال األدبية‪،‬‬
‫تعتمــد خلــق نظــر بــري للمؤلــف املقتبــس‪ ،‬محاولــة «ترجمتــه» إىل لغــة الســينام مــع‬
‫املحافظــة عــى روحــه ومضمونــه‪ ،‬عــن طريــق تكثيفهــا للحــدث واختــزال الخطــوط الثانوية‬
‫فيــه‪ ،‬واالبتعــاد عــن الرتجمــة الحرفيــة للنــص األديب‪ .‬وقــد أنتجــت يف جميــع العقــود أفــام‬
‫مقتبســة عــى مســتوى فنــي راق‪ .‬وكذلــك كان األمــر يف الســبعينات‪ ،‬فأخــرج كوليدجانــوف‬
‫«الجرميــة والعقــاب» عــن دوستويفســي‪ ،‬وبانفيلــوف «فاســا» وموتيــل «الغجــر يصعــدون‬
‫إىل الســاء» عــن غــوريك‪ ،‬وألــوف وناومــوف «الهــروب» عــن بولغاكــوف‪ ،‬وتاالنكــن «والــد‬
‫ســرغي» عــن تولســتوي‪.‬‬
‫‪ -4‬كان هذا أخر دور يؤديه فاسييل شوكشني يف حياته‪ ،‬إذ تويف يف نفس العام عن ‪ 45‬عاماً‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫أمــا عــن تشــيخوف فقــد أخــرج ميخالكــوف «مقطوعــة غــر منتهيــة للبيانــو امليكانيــي»‪،‬‬
‫وأخــرج بوندارتشــوك الــذي اعتمــد يف معظــم أعاملــه عىل املصــادر األدبية فيلمه «الســهب»‬
‫عــام ‪ ،1977‬عل ـاً أنــه قــد بــدأ العمــل عــى خطوطــه األساســية منــذ بدايــة الســتينات‪.‬‬
‫وكــا يف فيلمــه الســابق بالــكاد نســتطيع هنــا أيضـاً أن نتلمــس شــخصيات وأحداثـاً ثانويــة‪.‬‬
‫لتتخــذ جميــع التفاصيــل واملشــاهد أهميــة واحــدة‪ ،‬ورغــم البعــد الزمنــي بــن شــخصيات‬
‫«الســهب» و«قاتلــوا يف ســبيل الوطــن»‪ ،‬إال أنهــا تشــرك مــع بعضهــا يف جوهــر طبائعهــا‪،‬‬
‫الــذي يعكــس يف كال الفيلمــن الخلــق الــرويس يف تجلياتــه املتنوعــة‪ ،‬و«فلســفته» الخاصــة‬
‫إن جــاز التعبــر‪.‬‬
‫لقــد لعبــت الطبيعــة دوم ـاً دورا ً هام ـاً يف جميــع أعــال بوندارتشــوك‪ ،‬غــر أنهــا مل تضلــع‬
‫يومــاً مبثــل هــذه األهميــة االســتثنائية والــدور املعقــد كــا يف «الســهب»‪ .‬فالســهب يف‬
‫الفيلــم ليــس مجــرد مــكان تــدور األحــداث يف محيطــه‪ ،‬وإمنــا مجموعــة مــن الصــور الحيــة‬
‫واملثــرة مبعالجاتهــا التشــكيلية ـ التــي أبدعهــا مديــر التصويــر ليونيــد كاالشــنيكوف ـ‬
‫لـ«ســلوكياته» و«انفعاالتــه»‪ :‬الســهب الحــار املنغلــق عــى نفســه‪ ،‬والســهب الجامــح بأعمدة‬
‫الغبــار املتصاعــدة‪ ،‬والســهب الســاطع بألوانــه يف ســاعة الغروب…الــخ‪ .‬كل ذلــك أعطــى‬
‫الســهب أبعــادا ً دالليــة تعكــس أفــكار تشــيخوف الخاصــة بشــخصيات القصــة‪ ،‬واألرض التــي‬
‫يعيشــون عليهــا‪.‬‬
‫غــر أن العديــد مــن النقــاد يأخــذون عــى الفيلــم إيقاعــه الــردي املتمهــل‪ ،‬وغيــاب الرؤيــة‬

‫‪84‬‬
‫الذاتيــة للصبــي الصغــر يف الفيلــم‪ ،‬وبالتــايل النظــرة املزدوجــة إىل األحــداث‪ ،‬وابتعــاد الكثــر‬
‫مــن املشــاهد عــن الســخرية التشــيخوفية الرقيقــة‪.‬‬
‫إىل جانــب متثيــل بوندارتشــوك يف أفالمــه الخاصــة‪ ،‬بقــي يشــارك مــن حــن إىل أخــر يف أفــام‬
‫مخرجــن آخريــن‪ ،‬فعمــل مــع ميتالنيكــوف يف «صمــت الدكتــور إيفانــس»‪ ،‬ومــع تاالنكــن‬
‫يف «اختيــار األهــداف» و«والــد ســرغي»‪ ،‬أمــا أهــم أدواره يف الســبعينات‪ ،‬فقــد تجلــت يف‬
‫أدائــه لشــخصية الطبيــب أســروف إىل جانــب املثــل الكبــر إينوكينتــي سموكتونوفســي يف‬
‫فيلــم «الخــال فانيــا» للمخــرج أندريــه كونتشالوفســي‪ .‬إذ اســتطاع أن يعــر عــن الفــراغ‬
‫الروحــي والقلــق واملعانــاة الداخليــة التــي تتعايــش معهــا الشــخصية بنــوع مــن اإلذعــان‬
‫املســامل‪ ،‬بأســلوب أبعــد مــا يكــون عــن املبالغــة الحركيــة أو اإلميائيــة‪ ،‬وإمنــا برتابــة حديثــه‪،‬‬
‫وحركاتــه شــبه الســاكنة‪ ،‬ونظراتــه املذهولــة حينـاً‪ ،‬الضائعــة حينـاً آخــر‪ ،‬والحزينــة دومـاً‪.‬‬
‫يف بدايــة الثامنينــات عــاد بوندارتشــوك مجــددا ً إىل تجربــة اإلنتــاج املشــرك مع إيطاليــا‪ ،‬التي‬
‫انضمــت إليهــا هــذه املــرة املكســيك يف إخراجــه لفيلــم «األجــراس الحمــراء»‪ .‬وهــو ثنائيــة‬
‫مأخــوذة عــن أعــال الكاتــب الصحفــي األمريــي جــون ريــد‪ ،‬الــذي لعــب دوره يف الفيلــم‬
‫املمثــل اإليطــايل املعــروف فرانكــو نــرو‪ .‬وقــد ظهــر الجــزء األول منهــا بعنــوان «املكســيك‬
‫تحــت النــران» الــذي يصــور فيــه كــا يف كتــاب ريــد «املكســيك الثائــرة» األحــداث الثوريــة‬
‫التــي اجتاحــت املكســيك خــال األعــوام ‪ 1910‬ـ ‪ ،1917‬وقــد نــال بوندارتشــوك عــن هــذا‬
‫الفيلــم الجائــزة األوىل يف مهرجــان كارلــويف فــاري الســيناميئ لعــام ‪.1982‬‬

‫‪85‬‬
‫أمــا الجــزء الثــاين فقــد كان بعنــوان «أنــا رأيــت والدة العــامل الجديــد» عــن كتابــه الشــهري‬
‫«عــرة أيــام هــزت العــامل»‪ ،‬الــذي يقــدم ريــد فيــه شــهادته عــن أحــداث ثــورة أكتوبــر يف‬
‫روســيا عــام ‪ .1917‬ومــن الجديــر بالذكــر أنــه يف ذات الفــرة قــام املخــرج األمريــي املعروف‬
‫ووريــن بيتــي بإخــراج فيلــم يســتند إىل ذات املؤلــف عــن حيــاة جــون ريــد بعنــوان «حمر»‪،‬‬
‫ونــال عنــه جائــزة األوســكار ألفضــل إخــراج يف عــام ‪.1981‬‬
‫لقــد بــدأ بوندارتشــوك العمــل عــى ســيناريو هــذا الفيلــم مــع السيناريســت فالنتــن يجــوف‬
‫قبــل فــرة متتــد إىل حــوايل عــر ســنوات‪ ،‬ويشــر بوندارتشــوك يف إحــدى حواراتــه الصحفية‬
‫أن مــا دفعــه إىل أفلمــة مؤلفــات جــون ريــد‪ ،‬هــي رغبتــه يف متابعــة «أكتوبــر» أيزنشــتني‪،‬‬
‫بطريقتــه ورؤيتــه ووســائله الفنيــة الخاصــة‪ ،‬والتعبــر عــا دعــاه بـــ (حركــة الحشــود‬
‫الشــعبية يف الزمــن)‪ ،‬املوضــوع الــذي يشــكل حســب رأيــه قاسـاً مشــركاً يف إبــداع كل مــن‬
‫ريــد وأيزنشــتني‪ ،‬وهــذا مــا شــكل جوهــر الفيلــم يف جزئيــه بالنســبة لــه‪.‬‬
‫لقــد كان بوندارتشــوك ينتمــي إىل ذلــك النــوع مــن املخرجــن الذيــن ال يخوضــون ســينامئياً‬
‫يف موضــوع مــا‪ ،‬مــا مل يلمــوا بعمــق وبصــورة شــاملة بــأدق تفاصيلــه وجزيئاتــه‪ ،‬وهــذا مــا‬
‫يفــر إىل حــد بعيــد إخراجــه لهــذا العــدد القليــل مــن األفــام خــال حياتــه الفنيــة التــي‬
‫امتــدت إىل أكــر مــن أربعــة عقــود‪ .‬لكــن معظــم هــذه األفــام تركــت تأثريهــا الكبــر عــى‬
‫مســرة الفــن الســيناميئ يف روســيا‪ ،‬وأمســت مــن كالســيكيات الســينام العامليــة‪ .‬وقــد بقــي‬
‫األدب الكبــر هاجــس بوندارتشــوك حتــى نهايــة حياتــه فأخــرج يف عــام ‪ 1986‬تراجيديــا‬

‫‪86‬‬
‫شــاعر روســيا الكبــر الكســندر بوشــكني «بوريــس غودونــوف»‪ ،‬وخــال فــرة تدريســه يف‬
‫معهــد الـــ (فغيــك) التــي بــدأت منــذ عــام ‪ ،1971‬حــاول دوم ـاً دفــع طالبــه الشــبان نحــو‬
‫هــذا األدب‪( :‬كثــرا ً مــا أقــول لطــايب أن املمثــل يتعلــم مــن أدواره‪ ،‬واملخــرج؟ املخــرج‬
‫عــى األغلــب يعلمــه األدب‪ ،‬وخاصــة إذا كان مؤلفــوه شــولوخوف أو تولســتوي‪ .‬ســموا يل‬
‫أي عمــل لدوستويفســي‪ ،‬تولســتوي‪ ،‬تشــيخوف‪ ،‬شــولوخوف‪ ،‬يف كل منهــا مثــة إجابــة عــى‬
‫الســؤال‪ :‬مــن أيــن؟ وإىل أيــن وملــاذا؟)‪.‬‬
‫ومــا ال شــك فيــه أن أعــال ســرغي بوندارتشــوك ســتظل لفــرة طويلــة مــن الزمــن‬
‫تشــكل مــادة خصبــة لــكل باحــث أو ناقــد ســيناميئ يســعى للخــوض يف اإلشــكاليات الكثــرة‬
‫واملتعــددة الجوانــب لعالقــة األدب بالســينام‪ ،‬التــي كانــت وال تــزال إحــدى القضايــا الكبــرة‬
‫يف الفــن الســيناميئ‪.‬‬

‫مجلة «الفن السابع» املرصية ‪.2000‬‬

‫‪87‬‬
‫الكسندر دوفجينكو‬
‫مزيج من الشعر والفكاهة والوالء للثورة‬

‫أعتقــد بأنــه ســتبقى مرحلــة العرشينــات مــن القــرن العرشيــن‪ ،‬ذات أهميــة ونكهــة خاصــة‬
‫يف تاريــخ الســينام‪ ،‬إذ يف هــذه الســنوات بالــذات بــدأت الســينام تفــرض نفســها كفــن‬
‫مســتقل عــن الفنــون األخــرى‪ ،‬ليــس عــر أفــام ال تــزال خالــدة حتــى اليــوم فحســب‪ ،‬بــل‬
‫وتــراث نقــدي وتنظــري قيــم‪ ،‬كان مبثابــة الخطــوات التأسيســية ملــا يعــرف اليــوم باللغــة‬
‫الســينامئية‪ .‬ولعلنــا ال نبالــغ إذ نقــول أن املخرجــن مــن االتحــاد الســوفيتي قــد ســاهموا‬
‫يف هــذه املرحلــة الذهبيــة مــن تاريــخ الســينام بالقســط األكــر مــن هــذا الــراث‪ .‬إىل هــذه‬
‫األســاء املبدعــة الكبــرة مــن املخرجــن واملعروفــة يف العــامل أجمــع مثــل كوليشــوف‪،‬‬
‫و فريتــوف‪ ،‬و أيزنشــتني‪ ،‬و بودوفكــن‪ ،‬ينتمــي بجــدارة املخــرج األوكراينــي الكســندر‬
‫دوفجينكــو‪.‬‬
‫يف الواقــع إن املســرة الســينامئية لهــذا املخــرج الفــذ املولــود عــام ‪ 1894‬يف قريــة سونســيتا‬
‫الواقعــة عــى ضفــاف نهــر الديســينا‪ ،‬قــد تأخــرت بداياتهــا قلي ـاً مقارنــة مبعارصيــه مــن‬
‫املخرجــن‪ .‬وقــد يعــود ذلــك لســببني أساســيني‪ ،‬األول مرتبــط بالواقــع الســيناميئ املتخلــف‬
‫نســبياً يف أوكراينــا‪ ،‬فربغــم مــن أن اإلنتــاج املتواتــر لألفــام بــدأ فيهــا منــذ عــام ‪ ،1907‬إال أن‬

‫‪88‬‬
‫هــذه األفــام مل تشــهد ذات التطــور والتنــوع والكــم الــذي حظيــت بــه نظرياتهــا يف روســيا‪،‬‬
‫واقتــر اإلنتــاج غالب ـاً عــى األفــام التســجيلية‪ ،‬وأفلمــة العــروض املرسحيــة‪ .‬أمــا الســبب‬
‫األخــر فيعــود إىل أن دوفجينكــو نفســه كان بحاجــة إىل هــذا الزمــن يك يصــل أخــرا ً إىل الفــن‬
‫األكــر قــدرة عــى التعبــر عــن كل املشــاعر واألفــكار التــي كانــت تختلــج وتنمــو يف عقلــه‬
‫وروحــه‪ ،‬والتــي أخــذت تــزداد إلحاحــا لديــه بعــد الثــورة بصــورة خاصــة‪.‬‬
‫إن قيــام ثــورة أكتوبــر عــام ‪ 1917‬ومــن ثــم نشــوب الحــرب األهليــة كان البــد أن يفــرض‬
‫مجموعــة كبــرة مــن املتغــرات عــى الحيــاة الســينامئية‪ .‬فرتاجــع اإلنتــاج الســيناميئ بصــورة‬
‫واضحــة‪ ،‬وعــاىن الســينامئيون مــن قلــة املــواد الخــام‪ ،‬عــدد كبــر مــن املعــدات الســينامئية‬
‫أخفيــت‪ ،‬أو نقلــت إىل املناطــق املحتلــة‪ ،‬وهاجــر عــدد كبــر مــن العاملــن املحرتفــن يف‬
‫القطــاع الســيناميئ مــع أصحــاب الســتديوهات إىل خــارج البــاد‪ .‬أمــا التغــر األكــر جوهريــة‬
‫فقــط أرتبــط بالنظــرة الجديــدة إىل الســينام كأداة سياســية ـ ثقافيــة فاعلــة يف التحــوالت‬
‫الثوريــة التــي كانــت تعيشــها البــاد‪ .‬وهكــذا عــى ركام عــرات األفــام األخباريــة ـ‬
‫التســجيلية التــي كانــت تصــور مختلــف جوانــب هــذه التحــوالت‪ ،‬ونتيجــة الحاجــة إىل‬
‫مســتوى أرفــع يف التعبــر‪ ،‬وأكــر قــدرة عــى التأثــر يف وعــي الجمهــور ظهــر ألول مــرة‬
‫يف تاريــخ الســينام مصطلــح «أغيــت فيلــم» (الفيلــم التحريــي)‪ ،‬وقــد أنتــج حتــى عــام‬
‫‪ 1921‬أكــر مــن خمســن فيل ـاً مــن هــذا النــوع (أفــام قصــرة غالب ـاً)‪ .‬إن هــذه النظــرة‬
‫الجديــدة إىل الســينام والتــي عــرت عــن التفاعــات العميقــة التــي ولدتهــا الثــورة يف وعــي‬

‫‪89‬‬
‫اإلنتليجنســيا عموم ـاً والســينامئيني بصــورة خاصــة‪ ،‬كانــت مجــرد البدايــة نحــو مجموعــة‬
‫كبــرة مــن األبحــاث واألطروحــات واالكتشــافات يف مجــال بنيــة الفيلــم ومكوناتــه ووســائله‬
‫التعبرييــة وقيمــه الجامليــة‪ ،‬وشــتى ارتباطاتــه بالواقــع والفكــر واإلنســان‪ ،‬حتــى ليبــدو‬
‫الفصــل شــديد الصعوبــة يف تلــك التحــف الســينامئية التــي أنتجــت يف العرشينــات بــن‬
‫موضوعــة الثــورة التــي شــكلت نســيجها األســايس‪ ،‬وبــن األشــكال واألســاليب «الثوريــة»‬
‫الجديــدة يف التنــاول واملعالجــة الســينامئية‪.‬‬
‫وهكـذا ظهـر يف السـينام السـوفيتية الوليـدة جنـس فيلمـي جديـد‪ ،‬أنـه امللحمـة التاريخية ـ‬
‫الثوريـة‪ ،‬التـي تطلبت مبادئ وأسـاليب مبتكـرة يف الرسد‪ ،‬ويف تناول املـادة التاريخية والزمن‬
‫الفيلمـي‪ .‬كما أنهـا فرضـت منظومـات مجازية مختلفـة‪ ،‬ونوعاً آخـر من الشـخصيات‪ ،‬حيث‬
‫ظهـر على الشاشـة بطـل «جامعـي» جديـد‪ ،‬هـو الشـعب بأكملـه‪ ،‬وأخذت تعكـس رصاعات‬
‫الشـخصيات الرئيسـية وطبائعهـا وتطلعاتهـا املنفـردة محتوى املتغيرات االجتامعيـة العامة‪.‬‬
‫فأخـرج سيرغي أيزنشـتني «اإلرضاب» و«املدرعة بوتيومكين» و«أكتوبر»‪ ،‬وأخرج فيسـفولد‬
‫بودوفكين «األم» و«نهايـة سـانت بطرسـبورغ» و«سـلف جنكيـز خـان»‪ ،‬وأخـرج غريغـوري‬
‫كوزينتسـوف مـع ليونيـد تراوبـرغ «بابـل الجديـدة»‪ .‬إىل هـذه النوعيـة مـن األفلام تنتمـي‬
‫األعمال القيمـة األوىل لدوفجينكـو‪« :‬زفينيغورا» و«الرتسـانة»‪.‬‬
‫يف عــام ‪ 1923‬عــاد دوفجينكــو مــن أملانيــا بعــد قضائــه عامــن هنــاك يعمــل يف الســلك‬
‫الديبلومــايس حيــث درس يف هــذه األثنــاء الفــن التشــكييل يف ميونــخ‪ ،‬وعمــل يف صحيفــة‬

‫‪90‬‬
‫«فيســتي فوتســيك» كرســام كاريكاتــر‪ .‬أمــا نشــاطه الســيناميئ فقــد بــدأ يف عــام ‪ 1926‬عندما‬
‫كتــب ســيناريو الفيلــم الكوميــدي «فاســيا املصلــح» وعمــل كمســاعد مخــرج فيــه‪ .‬وكتــب‬
‫وأخــرج يف نفــس العــام الفيلــم الكوميــدي القصــر «مثــرات الحــب»‪ .‬أمــا يف عــام ‪ 1927‬فقــد‬
‫أخــرج فيلــم املغامــرات «حقيبــة املراســل الديبلومــايس» ومثــل فيــه‪ .‬بالرغــم مــن أن هــذه‬
‫األفــام مل تكــن ذات قيمــة فنيــة عاليــة‪ ،‬إال أنهــا بــدت مشــحونة بالقلــق اإلبداعــي عنــد‬
‫دوفجينكــو حــول مــا تســتطيع الســينام كشــفه مــن جوانــب متعــددة للواقــع‪.‬‬
‫يف عــام ‪ 1928‬أخــرج دوفجينكــو أول أفالمــه الكبــرة «زفينيغــورا»‪ ،‬الــذي يتحــدث فيــه‬
‫عــن وقائــع الحــرب األهليــة بأســلوب مــزج مــا بــن امللحميــة والشــاعرية والفكاهــة‪ .‬وقــد‬
‫متيــز بالعمــق والتنــوع عــى مســتوى الفكــرة‪ ،‬مــع بنيــة فنيــة معقــدة وغــر مألوفــة مليئــة‬
‫باالســتعارات الجريئــة عــى مســتوى الشــكل‪ .‬وكان بدايــة تعاونــه مــع املمثــل ســيميون‬
‫سافشــينكو‪ ،‬الــذي سيســند لــه الحق ـاً بطولــة فيلميــه «الرتســانة» و«األرض»‪.‬‬
‫ينــوه ســرغي يوتكيفتــش يف كتابــه «الســينام هــي حقيقــة ‪ 24‬كادر يف الثانيــة» أن‬
‫هــذه الفيلــم مل يأخــذ حقــه مــن التقييــم‪ ،‬إذ يــرى أنــه «قبــل وقــت طويــل مــن ظهــور‬
‫االبتــكارات التــي اشــتهر بهــا فيلينــي وبريغــان وآالن رينيــه‪ ،‬أجــرى دوفجينكــو إحــدى أكرث‬
‫التجــارب جــرأة يف التعامــل مــع املــكان والزمــان‪ ،‬وذلــك ليــس لرغبتــه يف إبهــار شــخص مــا‬
‫باالبتــكارات الشــكلية‪ ،‬وإمنــا إلصغائــه إىل صــوت حدســه الشــعري‪ ،‬الــذي اعتمــد دامئـاً عــى‬
‫التقاليــد الفلكلوريــة‪ ،‬التــي شــكلت لــه مصــادر للخيــال ال تنضــب… زفينيغــورا يبقــى يف‬

‫‪91‬‬
‫تاريــخ الســينام العامليــة أحــد أكــر النــاذج ســطوعاً لســينام املؤلــف يف أفضــل تعريــف لهــذا‬
‫املصطلــح‪ ،‬الــذي حصــل حقــه يف الوجــود فقــط بعــد ثالثــن عامـاً‪ .‬لقــد اســتخدم دوفجينكــو‬
‫املــكان والزمــان فيــه بتلــك الحريــة التــي عــدت حتــى اآلن مــن صالحيــة األدب فحســب»‪.‬‬
‫ويتابــع دوفجينكــو موضوعــة الثــورة يف فيلمــه الثــاين «الرتســانة» عــام ‪ ،1929‬الــذي يتحــدث‬
‫عــن انتفاضــة عــال مصنــع األســلحة يف كييــف عــام ‪ 1918‬ضــد الحكومــة الربجوازيــة‪ ،‬حيث‬
‫تعمــق مــن جهــة أســلوبه الــذي يجمــع مــا بــن البنيــة الشــاعرية والتهكــم الهــزيل والتوجــه‬
‫الســيايس ـ االجتامعــي‪ ،‬وأصبــح مــن جهــة أخــرى أكــر وضوحـاً‪ .‬وقــد ســعت تيــرات الفيلــم‬
‫إىل إعطــاء املشــاهد شــحنة عاطفيــة أكــر مــا كانــت تبغــي تقديــم معلومــات لــه‪ ،‬دون أن‬
‫يقلــل ذلــك مــن أهميتهــا‪ ،‬فلهــذا الســبب بالــذات مل يكــن مــن املمكــن دونهــا فهــم الفيلــم‬
‫عــى اإلطــاق‪.‬‬
‫يشــر جــورج ســادول إىل ثالثــة مشــاهد يف الفيلــم تدشــن حســب رأيــه أســلوباً ســينامئياً‬
‫جديــدا ً وهــي‪ :‬كارثــة القطــار واإلرضاب وســحق العصيــان‪ .‬يف األول نشــاهد قطــارا ً يحمــل‬
‫جنــودا ً مرسحــن متلؤهــم الغبطــة‪ ،‬وفجــأة تأخــذ حركــة القطــار يف التســارع نتيجــة خطــأ‬
‫الســائق‪ ،‬فيــدب الرعــب بينهــم‪ ،‬ويقفــزون مــن القطــار متدحرجــن ومبعرثيــن ومحطمــن‬
‫عــى األرض‪ .‬أمــا يف مشــهد اإلرضاب فيســتخدم دوفجينكــو «الســكون» كوســيلة دراميــة‬
‫شــديدة التأثــر‪ ،‬حيــث ميتــزج صمــت اآلالت التــي أوقفهــا العــال يف املصنــع‪ ،‬مــع توجــس‬
‫مواجهــي اإلرضاب الجامديــن يف غرفهــم‪ ،‬الذيــن يصيخــون الســمع إىل هــذا الصمــت‬

‫‪92‬‬
‫الرهيــب‪ .‬وتــأيت نهايــة الفيلــم عــر مشــهد آثــار ولفــرة طويلــة الكثــر مــن الجــدل لرتكيبتــه‬
‫الرمزيــة‪ .‬أمــام نــران الغايدامــاك (العصابــات املعاديــة للثــورة يف أوكراينا) يتســاقط عرشات‬
‫األشــخاص‪ ،‬أمــا تيمــوش العامــل األوكراينــي فيبــدو وكأن الطلقــات ترفــض أن تالمســه‪،‬‬
‫يقــف أمامهــم كاشــفاً صــدره لهــم‪ ،‬يرمونــه بثــاث رشــقات مــن النــران‪ ،‬وإذ يــرون عــدم‬
‫جــدوى طلقاتهــم‪ ،‬يرصخــون فيــه‪ :‬أســقط… أســقط‪ .‬لكــن تيمــوش يبقــى منتصبـاً كتمثــال‬
‫حديــدي‪.‬‬
‫وبالتأكيــد ال نســتطيع أن نغفــل هنــا الــدور الــذي لعبــه يف هــذه املشــاهد جميعــاً‪ ،‬ويف‬
‫اإلبداعــات األوىل لدوفجينكــو عمومــاً‪ ،‬مديــر التصويــر دانييــل دميوتســي التــي متيــز‬
‫باســتخداماته املبتكــرة لزوايــا التصويــر‪ ،‬وعنايتــه الخاصــة بتبايــن الضــوء والظــل داخــل‬
‫الــكادر‪.‬‬
‫إذا كانــت يف مســرة كل مخــرج عالمــة بــارزة يصــل فيهــا إىل قمــة إبداعــه‪ ،‬فيبــدو أن‬
‫دوفجينكــو وصــل هــذه القمــة مــع فيلمــه «األرض» عــام ‪ .1930‬الــذي دخــل ضمــن الئحــة‬
‫أفضــل األفــام يف كافــة األزمنــة‪ ،‬نتيجــة اســتفتاء أجــراه األرشــيف الســيناميئ البلجيــي يف‬
‫عــام ‪.1958‬‬
‫تــدور أحــداث الفيلــم حــول رصاع الفالحــن يف أوكراينــا مــن أجــل التعاونيــات الزراعيــة‪.‬‬
‫حيــث قــام دوفجينكــو مبعالجــة الحبــكات الرتاجيديــة عــى خلفيــة شــاعرية غنيــة تتمثــل يف‬
‫صــور الطبيعــة الخصبــة‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫يف الواقــع نســتطيع أن نتلمــس شــاعرية دوفجينكــو منــذ الســطور األوىل للســيناريو‪« :‬هــل‬
‫حــدث ذلــك حقـاً‪ ،‬أم أننــي حلمــت بــه‪ ،‬أم أن األحــام تداخلــت مــع الذكريــات وذكريــات‬
‫الذكريــات‪ ،‬مل أعــد أذكــر‪ .‬أذكــر فقــط أن الجــد كان طاعــن يف الســن‪ ،‬كــا أذكــر أنــه كان‬
‫شــبيه بصــورة إلحــدى اآللهــة التــي تحمــي بيتنــا الريفــي وتزينــه»‪.‬‬
‫إن صــورة املــوت عنــد دوفجينكــو كانــت تتخــذ دومـاً أبعــادا ً فلســفية‪ ،‬مــن خــال العالقــة‬
‫الوشــيجة التــي يربــط فيهــا بــن اإلنســان والطبيعــة‪ .‬فالجــد ميــوت وســط بســتان التفــاح يف‬
‫الفيلــم‪ ،‬دون أن تبعــث نهايتــه عــى أيــة تغــرات يف الفضــاء املحيــط كــا يســجل هو نفســه‪:‬‬
‫«مل يــدوي الرعــد‪ ،‬ومل متــزق الــروق املقــدرة الســاء بوميض احتفــايل‪ ،‬ومل تنتشــل العواصف‬
‫أشــجار الــدوب املعمــرة والعظيمــة مــن جذورهــا»‪ ،‬ورغــم ذلــك يشء مــا غــر مــريئ تغــر يف‬
‫ذلــك املــكان الحــي املمتلــئ بالجــال واالنســجام‪« :‬اضطــراب غامــض ســيطر عــى األحفــاد‬
‫بصــورة خفيفــة‪ ،‬ودون أن يشــعروا المســوا جميعهــم ال حدوديــة الزمــن واتســاق قوانينــه»‪،‬‬
‫وهكــذا تتحــول الطبيعــة إىل رمــز للحيــاة‪ ،‬املــوت والحيــاة يســران جنبـاً إىل جنــب‪ ،‬وليــس‬
‫مثــة مــا هــو مرعــب يف املــوت عنــد دوفجينكــو طاملــا إىل جانبــه تنضــج حيــاة جديــدة‪ :‬فــإذ‬
‫نشــاهد الجــد يحتــر تحــت شــجرة التفــاح يف املشــهد األول‪ ،‬نــرى يف نفــس الوقــت األحفاد‬
‫مــن حولــه يلعبــون‪ ،‬وعــى أســاس هــذا املشــهد ســوف تتطــور املنظومــة املجازيــة للفيلــم‬
‫بأكملــه‪ ،‬حيــث تبــدو األرض والغيــوم والثــار واألطفــال اســتعارات تشــكيلية قريبــة مــن‬
‫الرمــوز‪ ،‬لتعــر طيلــة الفيلــم حســب ســادول «عــن حــاالت العشــق التــي يعيشــها بســكون‬

‫‪94‬‬
‫شــبان وشــابات يف كل مــكان» وحيــث يبــدو «النفــس هــو الحركــة الوحيــدة عنــد هــؤالء‬
‫األزواج الجامديــن جمــود التامثيــل يف حالــة وجــد ذات الشــهوانية العنيفــة التــي مل تســبق‬
‫مطلقـاً عــى الشاشــة… وليــس البطــل إال واحــد مــن هــؤالء العاشــقني»‪ .‬مــن جديــد تتالقــى‬
‫يف املشــاهد األخــرة للفيلــم خطــوط الحــب واملــوت والطبيعــة‪ .‬فبعــد أن يفــارق البطــل‬
‫فاســيل أحضــان حبيبتــه‪ ،‬يعــود يف درب ريفــي محاطـاً بالســياجات‪ ،‬ويبــدأ الرقــص وروحــة‬
‫منتعشــة بالنشــوة والفــرح‪ ،‬ويتســارع إيقــاع الرقصــة‪ ،‬لكــن فجــأة تخــرق طلقــة الســكون‪،‬‬
‫ويهــوي فاســيل رصيعـاً‪ .‬وعندمــا يحمــل أهلــه وأصدقائــه جثامنــه مبحــاذاة الحقــول نشــاهد‬
‫كيــف تالمــس األوراق واألغصــان املثقلــة بالثــار وجهــه وكأمنــا تقــوم بطبــع قبالتهــا األخرية‬
‫مودعــة إيــاه‪ ،‬وتتلبــد الســاء بالغيــوم ويهطــل املطــر ليمســح األحــزان ويبعــث األمــل يف‬
‫النفــوس‪.‬‬
‫إن الصــور الســامية لــوالدة ومــوت اإلنســان‪ ،‬للحــب والطبيعــة تداخلــت يف «األرض» عــر‬
‫مزيــج فلســفي ـ شــاعري يقــرب بروحــة مــن الــراث الشــعبي األوكــراين‪.‬‬
‫لقــد أدرك دوفجينكــو مبكــرا ً األهميــة االســتثنائية للصــوت يف أفالمــه‪ ،‬ورغــم أنــه مل يكــن‬
‫يف وســعه بعــد بلــوغ غايتــه‪ ،‬إال أن ســيناريو الفيلــم كان مــيء بهمســات الطبيعــة وأصــوات‬
‫البــر واألغــاين واملوســيقا‪ .‬فقــد كتــب يف وصفــه ملشــهد الــذروة الــذي يســبق مقتــل البطــل‬
‫الرئيــي فاســيل‪« :‬كل يشء كان ممتلــئ بأصــوات ليليــة خاصــة بالــكاد تتاميــز عــن بعضهــا‪،‬‬
‫وعــر أغــان الفتيــات البعيــدة التــي كانــت تصــدح مبهابــة مــن مــكان مــا‪ ،‬لعلــه كان يســمع‬

‫‪95‬‬
‫كذلــك كيــف تنمــو األعشــاب‪ ،‬والخيــار‪ ،‬وكيــف تتحــرك جــذوع القــرع الطويلــة بصــورة‬
‫مريبــة يف العتمــة الدافئــة والرطبــة…»‪.‬‬
‫لقــد قــام ذات يــوم الناقــد الفرنــي مارســيل أومــس بتجربــة تحــدد بصــورة أكــر دقــة‬
‫جوهــر إبــداع دوفجينكــو‪ .‬معتمــدا ً يف دراســته عــى أســس غــر ســينامئية أو أدبيــة وإمنــا‬
‫موســيقية‪« :‬لقــد قمــت بتجربــة تعتمــد تزامــن «األرض» مــع الســيمفونية التاســعة‬
‫لبيتهوفــن‪ .‬النتيجــة كانــت مذهلــة‪ L,allergro ma non troppo :‬الجــزء األول التقــى مــع‬
‫مــوت الجــد تحــت التفاحــات‪ ،‬مــع الخطــوات األوىل للطفــل‪ ،‬مــع الحــوار مــع غريغــوري‪،‬‬
‫ومــع بســاتني الفواكــه التــي تتســاقط منهــا الثــار‪ ،‬ومــع الجــودار املتأرجــح مــع الريــاح‪.‬‬
‫‪ Molto vivace‬الجــزء الثــاين ترافــق مــع مشــاهد الشــبان الكومســموليني‪ ،‬والجــرارات‬
‫املتبخــرة‪ ،‬والحــركات الرسيعــة للفالحــن املرحــن‪ ،‬وينتهــي املشــهد بلقطــات الحتفــاالت‬
‫الحصــاد‪ L,adagio molto e cantabile .‬الجــزء الثالــث منــح مشــهد اللقــاء الليــي لفاســيل‬
‫الرصانــة‪ ،‬الهادئــة يف البدايــة‪ ،‬ومــن ثــم القلقــة‪ ،‬وأخــرا ً الكئيبــة»‪.‬‬
‫مــع ارتفــاع عــدد دور العــرض وتزايــد اإلنتــاج الســيناميئ يف بدايــة الثالثينــات‪ ،‬بــدت الحاجــة‬
‫ملحــة لتواصــل الســينام مــع ماليني املشــاهدين ذوي املســتويات والكفــاءات الثقافيــة املختلفة‬
‫يف البــاد‪ ،‬مــا جعــل املخرجــن يســعون نحــو البســاطة يف التعبــر والطــرح بحيــث تصــل‬
‫أفالمهــم بســهولة ويــر إىل الجميــع‪ ،‬ومــا ســاهم يف تعميــق هــذا االتجــاه عــدم تبلــور بعــد‬
‫التوجــه الفنــي الجديــد الــذي ســيحدد بالتدريــج مالمــح املنطلقــات املنهجيــة للحركــة الفنيــة‬

‫‪96‬‬
‫الســوفيتية بصــورة عامــة إال وهــو الواقعيــة االشــراكية‪ .‬لذلــك عندمــا ســعى دوفجينكــو إىل‬
‫درجــة عاليــة مــن الوضــوح يف فيلمــه الناطــق األول «إيفــان» الــذي أخرجــه يف عــام ‪،1932‬‬
‫ولعــب الــدور األســايس فيــه املمثــل األوكــراين املعــروف بيوتــر ماســوخا‪ ،‬الــذي شــاركه يف‬
‫معظــم أعاملــه‪ ،‬بــدا اهتاممــه باملوضــوع ومعالجتــه لــه دون مســتوى أعاملــه الســابقة‪ ،‬دون‬
‫أن يعنــي ذلــك ابتعــاده عــن نزعاتــه الجامليــة ـ الشــعرية والتــي ظهــرت بصــورة خاصــة يف‬
‫مجــال التصويــر‪ .‬فقــد عمــل يف الفيلــم باإلضافــة إىل دميوتســي‪ ،‬مديــرا التصويــر ميخائيــل‬
‫غليديــر‪ ،‬وكذلــك يــوري يكيلتشــيك‪ ،‬الــذي متيــزت املشــاهد الخارجيــة لديــه ببناءاتهــا‬
‫التشــكيلية املعقــدة ـ التــي تســتند إىل تعامــل محكــم مــع جميــع عنــارص الــكادر ـ وعمقهــا‬
‫امللحمــي‪ ،‬وثقلهــا العاطفــي ـ الشــعري‪ ،‬وغناهــا الرمــزي‪ ،‬وقدرتهــا التعبرييــة الهائلــة‪ ،‬كل ذلــك‬
‫جعــل مــن يكيلتشــيك صاحــب لغــة برصيــة رفيعــة املســتوى‪ .‬ولعــل ذلــك هــو الســبب وراء‬
‫التقييــم العــايل الــذي منحــه الناقــد اإليطــايل فيليبــو ســايك للفيلــم عندمــا عــرض يف مهرجــان‬
‫فينيســيا عــام ‪ .1934‬وعمومـاً يــرى العديــد مــن النقــاد يف أفــام دوفجينكــو مؤلفــات ملحميــة‬
‫ـ شــاعرية‪ ،‬تتحقــق بصــورة أساســية بالوســائل التشــكيلية‪ ،‬فاهتاممــه الشــديد ببنيــة وإضــاءة‬
‫كل لقطــة للتعبــر عــن غاياتــه الفكريــة‪ ،‬جعــل مــن كادرات أفالمــه لوحات تشــكيلية مســتقلة‬
‫بذاتهــا‪ ،‬تخضــع الفيلــم لتتابعهــا االنســيايب وتراكمهــا‪.‬‬
‫عــدد كبــر مــن الخطــوط الدراميــة املســتقلة تالقــت يف فيلمــه «آيروغــراد» الــذي أخرجــه‬
‫عــام ‪ 1935‬عــن املدينــة الجديــدة عــى ســاحل املحيــط الهــادي يف الــرق األقــى مــن‬

‫‪97‬‬
‫روســيا‪ ،‬معــرا ً عــن إميانــه بهــذه املنطقــة مبــا متتلكــه مــن ثــروات طبيعيــة‪ .‬وقــد أرتبــط‬
‫أحــد أهــم الخطــوط فيــه مبوضوعــة طاملــا ســتتعرض لهــا الســينام الســوفيتية الحقــاً‬
‫بأشــكال وأســاليب متنوعــة‪ ،‬إال وهــي التناقــض الــذي قــد تفرضــه ظــروف الثــورة والحــرب‬
‫بــن مشــاعر الصداقــة والحــب عنــد اإلنســان مــن جهــة‪ ،‬وواجبــه الوطنــي والثــوري مــن‬
‫جهــة أخــرى‪ .‬وغالب ـاً (إن مل يكــن دوم ـاً) مــا ســينترص الجانــب الثــاين عــى األول كــا يف‬
‫«آيروغــراد»‪ ،‬حيــث تفــرق الخيانــة بــن الصديقــن القدميــن صيــادي التايغــا غلوشــاك‬
‫وخودياكــوف‪ ،‬ويقــوم األول بقتــل الثــاين يف أعــاق الغابــة بعيــدا ً عــن أعــن النــاس‪ ،‬وحيــث‬
‫يبــدو األخــر مستســلامً لقــدره يف مشــهد مصنــوع حســب تعبــر املخــرج غريغــوري روشــال‬
‫«بصــورة اصطالحيــة‪ ،‬ولكــن بتــرب مدهــش إىل أعمــق أعــاق الــروح البرشيــة»‪.‬‬
‫تابــع دوفجينكــو يف هــذا الفيلــم تعاونــه مــع املمثــل ســتيبان شــكورات (خودياكــوف)‪،‬‬
‫الــذي عمــل معــه ســابقاً يف «األرض» و«إيفــان»‪ .‬وعمــل معــه ألول مــرة يف مجــال التصويــر‬
‫باإلضافــة للفنــان ميخائيــل غينديــن‪ ،‬مبــدع الروائــع األيزنشــتينية الكبــر إدوارد تيســه‪.‬‬
‫أمــا موســيقا الفيلــم التــي وضعهــا دميــري كاباليفســي جعلــت مارســيل أومــس يــرى يف‬
‫هــذا الفيلــم «أول أوبــرا ســينامئية حقيقيــة‪ ،‬تلعــب املوســيقا فيهــا دورا ً عاطفي ـاً‪ ،‬ويتطــور‬
‫الحــدث متتبع ـاً قواعــد الفــن الغنــايئ‪ :‬اإللقــاء‪ ،‬الغنــاء املنفــرد‪ ،‬الثنائيــات والفــرق التــي‬
‫يرافقهــا غنــاء الجوقــة‪ ،‬كل ذلــك يجــد اســتمراريته يف جــال املجــازات املنســجمة‪ ،‬ودون أن‬
‫تفقــد الحقيقــة العميقــة مصداقيتهــا عــى اإلطــاق»‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫يف عــام ‪ 1939‬أخــرج دوفجينكــو ملحمتــه البطوليــة «شــورس»‪ ،‬الــذي يعــود فيهــا مجــددا ً إىل‬
‫موضوعــة الحــرب األهليــة يف أوكراينــا‪ ،‬حيث شــكلت املســرة العســكرية لفصيلة «شــورس»‬
‫عــر املعــارك الدمويــة والضاريــة لتحريــر أوكراينــا الحامــل الــردي للحــدث يف الفيلــم‪ ،‬إال‬
‫أن مــكان األمنــاط العامــة والرمزيــة للشــخصيات يف «الرتســانة»‪ ،‬ظهــرت شــخصيات تاريخيــة‬
‫محــددة‪ ،‬كشــورس قائــد الفصيلــة الشــاب الــذي مل يتجــاوز الرابعــة والعرشيــن مــن العمــر‬
‫والــذي أدى دوره املمثــل يفغينــي ســاموئيلوف‪ ،‬باإلضافــة إىل العديــد مــن املشــركني‬
‫الفعليــن يف األحــداث التاريخيــة الواقعيــة التــي يرويهــا الفيلــم‪ ،‬مــا يجعــل هــذا العمــل‬
‫ينتمــي إىل موجــة أفــام الســر الذاتيــة التــي ظهــرت بقــوة يف الثالثينــات داخــل الســينام‬
‫الســوفيتية كـــ «تشــابايف» لألخــوة فاســيليف و «ياكــوف ســفريدلوف» لســرغي يوتكيفتش‬
‫و«بيوتــر األول» لفالدميــر بيــروف و«لينــن يف أكتوبــر» مليخائيــل روم «الكســندر نيفســي»‬
‫لرسغــي أيزنشــتني وغريهــا‪ .‬هــذه األفــام متيــزت بســعيها الحثيــث نحــو الدقــة التاريخيــة‪،‬‬
‫والتغلغــل إىل جوهــر املأثــرة الحياتيــة للبطــل التاريخــي‪ ،‬مــن خالل الرســم املحكــم للظروف‬
‫االجتامعيــة املحيطــة بــه‪ ،‬وتقديــم سلســلة مــن الرصاعــات الدراميــة املفصليــة املرتبطــة‬
‫بتطــور شــخصيته‪ .‬لكنهــا يف نفســه الوقــت متايــزت باألســلوب التعبــري الخــاص لــكل مــن‬
‫هــؤالء املخرجــن‪ ،‬لذلــك ســنجد يف «شــورس» إضافــة إىل كل ذلــك النكهــة الدوفجينكيــة‬
‫الخاصــة بــه وحــده‪ ،‬فمــن جديــد ســتتقاطع يف الفيلــم الوثائقيــة واملجازيــة والتلوينــات‬
‫الهزليــة املســتمدة مــن الفكاهــة الشــعبية‪ ،‬وبالطبــع الــروح الشــاعرية‪ .‬يعــر دوفجينكــو‬

‫‪99‬‬
‫عــن أســلوب هــذا الفيلــم يف الســيناريو الــذي كتبــه عــى النحــو التــايل‪« :‬حــروا أنقــى‬
‫األلــوان أيهــا الرســامون‪ ،‬فإننــا سرنســم عهــد شــبابنا الــذي مــى‪ .‬تفحصــوا جميــع الفنانــن‬
‫وجيئــوين بالفنانــن الجميلــن والجديــن‪ ،‬فأنــا أريــد أن أحــس يف عيونهــم العقــل النبيــل‬
‫والشــعور الســامي… أضيئوهــم أيهــا املصــورون بنــور صــاف‪ ،‬يك تنعكــس يف وجوههــم كل‬
‫الروعــة التــي حملوهــا يف ســهوب أوكرانيــا‪ ،‬ولــي تنتقــل إىل املشــاهدين وتحــرك قلــوب‬
‫األبنــاء واألحفــاد بانفعــاالت ســامية»‪ .‬فواقعيــة الشــخصيات واألحــداث يف الفيلــم مل تحــد‬
‫مــن مجاالتهــا الرومانســية الحميمــة عــى اإلطــاق‪ ،‬التــي متثلــت عــى ســبيل املثــال يف‬
‫كلــات شــورس نفســه حيــث تتالقــى أحــام البطــل واملخــرج معاً‪«:‬كثــرا ً مــا أفكــر… متــر‬
‫األعــوام وتنتــر الثــورة‪ ،‬ويعيــش النــاس ـ األخــوة عــى األرض‪ .‬كــم مــن األقاصيــص ســوف‬
‫يــروون عنــا… كــم مــن األغــاين سينشــدون عنــا»‪ .‬كــا أنهــا متثلــت يف الجــال التشــكييل‬
‫لصــور الســهوب املغطــاة بالثلــوج‪ ،‬واألعاصــر‪ ،‬ودخــان الحرائــق‪ ،‬وحقــول عبــاد الشــمس‬
‫الشاســعة التــي أبدعهــا مديــر التصويــر يــوري يكيلتشــيك‪.‬‬
‫لقــد كتــب غريغــوري كوزينتســوف عــن دوفجينكــو‪« :‬كان لديــه إحســاس رائــع يف الســمع‪.‬‬
‫هــو مل يســمع فقــط أصــوات النــاس‪ ،‬بــل وكذلــك صمــت الليــل املقمــر وخرخــرة ميــاه‬
‫الدنيــر»‪ ،‬إن هــذا الوصــف املجــازي الهتــام دوفجينكــو باألصــوات‪ ،‬والــذي بــدا واضح ـاً‬
‫يف ســيناريو «األرض»‪ ،‬وموســيقا «إيروغــراد» اســتمر هنــا أيض ـاً‪ ،‬فــكل املنظومــة الصوتيــة‬
‫مــن طلقــات وانفجــارات ورصخــات وأجــراس وأبــواق نحاســية‪ ،‬واملوســيقا التــي وضعهــا‬

‫‪100‬‬
‫كاباليفســي اختــرت بعنايــة لتنســجم مــع األســلوب الرومانــي العــام يف الفيلــم‪.‬‬
‫يف فــرة الحــرب العامليــة الثانيــة انحــر إبــداع دوفجينكــو عــى إخــراج األفــام الوثائقيــة‬
‫مثــل «التحريــر» و«معركــة يف ســبيل أوكرانيــا الســوفيتية» وغريهــا‪ .‬كــا أنــه أنكــب عــى‬
‫كتابــة املقــاالت والقصــص وكذلــك ســيناريوهات ألفــام لــن يخرجهــا أبــدا ً‪.‬‬
‫إن املرحلــة الســتالينية يف تاريــخ الدولــة الســوفيتية تركــت أثارهــا املأســاوية ـ وإن يكــن‬
‫مبســتويات متنوعــة وأشــكال مختلفــة ـ عــى معظــم الفنانــن واألدبــاء يف البــاد‪ .‬وليــس‬
‫عبثـاً أن يكتــب دوفجينكــو مــن عــام ‪ 1940‬وحتــى وفاتــه يف عــام ‪ 1956‬ســتة ســيناريوهات‪:‬‬
‫«تــاراس بولبــا» و«أوكرانيــا تحــت النــران» و«اكتشــاف األنرتاكتيــد» و«قصيــدة عــن البحــر»‬
‫و«قصــة األعــوام املتقــدة» و«الديســينا املســحور»‪ .‬يف الوقــت الــذي مل يخــرج فيــه ســوى‬
‫فيلــم روايئ واحــد هــو «ميتشــورين» عــام ‪ ،1949‬ليطــرح فيــه مجــددا ً إشــكالية االنســجام‬
‫والتــوازن بــن اإلنســان والطبيعــة‪ ،‬مقدمـاً مــع مديــري التصويــر ليونيــد كوســاتوف ويــويل‬
‫كــون تراكيــب لونيــة مبتكــرة‪ ،‬عــى خلفيــة موســيقية مــن إبــداع دميــري شوســتاكوفيتش‪.‬‬
‫عنـد الحديـث عـن دوفجينكـو ال ميكن بأي حال من األحـوال إغفال الدور الكبير الذي لعبته‬
‫زوجتـه يوليـا سونتسـيفا يف مسيرته اإلبداعيـة ـ الفنيـة سـواء أثنـاء حياتـه حيـث سـاهمت‬
‫معـه يف معظـم أفالمـه الروائيـة كممثلـة يف «األرض» وكمستشـار يف «األرض» و«إيفـان»‬
‫و«آيروغـراد» وكمخـرج مسـاعد يف «شـورس» و«ميتشـورين»‪ ،‬كام شـاركت يف إعداد معظم‬
‫األفلام الوثائقيـة التـي أخرجهـا‪ .‬أو بعـد موتـه إذ أخرجـت ثالثة أفلام عن سـيناريوهاته‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫األول كان «قصيــدة عــن البحــر» يف عــام ‪ ،1958‬الــذي أبــرز فيــه مجموعــة مــن االرتباطــات‬
‫العاطفيــة الشــائكة‪ ،‬مــن خــال تركيبــة رسديــة غــر مألوفــة اعتمــدت يف بنائهــا خطــوط‬
‫دراميــة متناوبــة ومتوازيــة‪ ،‬تعــر عــن اســتحالة خضــوع اإلنســان للمشــاعر التــي تحــط مــن‬
‫كرامتــه‪ ،‬ورضورة رصاعــه معهــا وتغلبــه عليهــا‪.‬‬
‫عــن تأمــات دوفجينكــو يف حيــاة النــاس ومصائــر األجيــال أخرجــت سونتســيفا عــام ‪1961‬‬
‫«قصــة األعــوام املتقــدة» الــذي حصلــت عنــه يف ذات العــام عــى جائــزة أفضــل إخــراج يف‬
‫مهرجــان كان الســيناميئ‪ .‬حيــث اســتطاعت أن تعكــس بطــوالت الشــعب وصــورة الوجــه‬
‫البشــع للحــرب القاســية دون أي تزويــق‪ ،‬كــا متيــز الفيلــم يف التصويــر املدهــش ملشــاهد‬
‫املعــارك‪ ،‬وذلــك كلــه يف أســلوب يجمــع مــا بــن الواقعيــة والرومانســية والفكاهــة الشــعبية‪،‬‬
‫فــا يبتعــد بذلــك عــن املزيــج الدوفجينــي التقليــدي األصيــل‪.‬‬
‫يف «الديســينا املســحور» يعــود دوفجينكــو إىل طفولتــه‪ ،‬مســرجعاً مالمــح قريتــه الواقعــة‬
‫عــى ضفــاف نهــر الديســينا‪ ،‬كلــات أمــه وحبهــا وتقديســها لــأرض ومثارهــا‪ ،‬وصــور جــده‬
‫وعاداتــه وأقاصيصــه‪ ،‬ورصاعــات أبيــه مــع الطبيعــة والحيــاة… والكثــر غــر ذلــك مــا كان‬
‫يف املــايض البعيــد‪ .‬لكــن هــذا الفيلــم الــذي أخرجتــه سونتســيفا عــام ‪ 1964‬يتجــاوز كونــه‬
‫مجــرد ســرة ذاتيــة لكاتــب الســيناريو‪ .‬ففيــه تتشــابك الذكريــات عــن التفاصيــل الحميمــة‬
‫يف طفولتــه‪ ،‬مــع الحديــث عــن املصاعــب التــي واجهتــه يف الدفــاع عــن مبادئــه كمواطــن‬
‫ومبــدع يف ســنوات الســتالينية‪ ،‬يف إطــار النظــرة الســطحية التــي كانــت ســائدة إىل الفــن‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫ومــع تأمالتــه يف مغــزى حيــاة اإلنســان‪ ،‬ويف الصلــة بــن اإلنســان الفــرد والشــعب ـ املوضــوع‬
‫الــذي عكســه دومـاً يف أعاملــه‪ ،‬وتأثــر اآلخريــن مــن خــال طباعهــم وســلوكياتهم يف حيــاة‬
‫الفنــان‪ ،‬معــرا ً يف كل ذلــك عــن تفاؤلــه يف الحيــاة والعــر وقــدرات الفــن‪.‬‬
‫بعــد ذلــك قامــت سونتســيفا يف عــام ‪ 1968‬بإخــراج فيلــم مقتبــس عــن األقاصيــص الحربيــة‬
‫لدوفجينكــو بعنــوان «غــر املنــي»‪ ،‬ويف عــام ‪ 1971‬أخرجــت فيلــم «البوابــات الذهبيــة»‬
‫الــذي يتكلــم عــن املســرة اإلبداعيــة لــه‪ .‬كــا لعبــت دورا ً هامـاً يف تحضــر وطباعــة مؤلفاته‬
‫املختــارة‪.‬‬
‫لقــد كان دوفجينكــو برتاثــه الســيناميئ القيــم وآرائــه النظريــة الجامليــة‪ ،‬أحــد العالمــات‬
‫البــارزة يف تاريــخ الســينام الســوفيتية والعامليــة‪ ،‬التــي ســاهمت وعــى مــدى بضعــة عقــود‬
‫يف تأســيس اللغــة الســينامئية وإغنــاء مفرداتهــا وتعميقهــا‪ .‬ومــا ال شــك فيــه أنــه مــارس‬
‫تأثــرا ً كبــرا ً عــى العديــد مــن املخرجــن يف الســتينات والســبعينات مــن أمثــال ســرغي‬
‫باراجانــوف ويــوري إلينكــو‪ ،‬بــل لعلنــا ســنجد تأثرياتــه تتغلغــل يف إبداعــات أحــد كبــار‬
‫املخرجــن يف نهايــة القــرن العرشيــن إال وهــو إمــر كوســتاريكا‪ ،‬إذ نســتطيع هنــا أيض ـاً أن‬
‫نستشــف بســهولة ذلــك املزيــج مــن امللحميــة والشــاعرية ـ الغنائيــة والفكاهــة التــي طاملــا‬
‫أرتبــط بإبداعــات الكســندر دوفجينكــو العظيمــة‪.‬‬

‫مجلة «الفن السابع» املرصية ‪.2000‬‬

‫‪103‬‬
‫تداعيات التباين‬
‫يف سينام نيكيتا ميخالكوف‬

‫يف إبداعــات أي مخــرج كبــر ـ ومهــا تنوعــت املوضوعــات واألجنــاس الفيلميــة واألســاليب‬
‫التــي تتضمنهــا ـ نســتطيع عــى الــدوام أن نستشــف هاجســاً مــا‪ ،‬يكمــن خلــف هــذه‬
‫اإلبداعــات‪ ،‬يحركهــا ويشــكل مركــز الثقــل فيهــا‪ .‬وإن كان مــن البديهــي أن تتقاطــع هــذه‬
‫الهواجــس يف أعــال مخرجــن ينتمــون إىل أجيــال أو ثقافــات أو اتجاهــات فنيــة أو تيــارات‬
‫سياســية مختلفــة‪ ،‬بــل ورمبــا متناقضــة‪ ،‬فذلــك يعنــي أنــه البــد مــن أن يتخــذ ذات الهاجــس‬
‫صيغ ـاً مختلفــة عنــد هــذا املخــرج أو ذاك‪.‬‬
‫نيكيتــا ميخالكــوف هــو أحــد أولئــك املخرجــن‪ ،‬الذيــن حملــوا عــى الــدوام هاجســهم‬
‫الخــاص يف داخلهــم‪ ،‬وحاولــوا بصــورة مســتمرة أن يدفعــوه إىل األمــام مــن فيلــم إىل آخــر‪.‬‬
‫لكــن يف الواقــع ذلــك الهاجــس ال يختلــف يف جوهــره عــن هاجس كبــار املخرجني يف الســينام‬
‫العامليــة‪ ،‬فنحــن نتكلــم عــن إحــدى أكــر القضايــا إشــكالية وغنــى يف الفيلــم الســيناميئ‪ ،‬إال‬
‫وهــي مفهــوم التبايــن بــكل مــا ينطــوي عليــه مــن معايــر ومجــاالت غــر محــدودة لإلبــداع‪،‬‬
‫ابتــداء مــن املوضوعــة نفســها التــي يتبناهــا الفيلــم ووصــوالً إىل تركيبــة الشــخصيات يف‬
‫داخلــه‪ ،‬باإلضافــة إىل جميــع الغايــات املتنوعــة التــي يوظــف ألجلهــا‪ ،‬واألشــكال التــي يتجىل‬

‫‪104‬‬
‫مــن خاللهــا‪ ،‬ومــا يرتتــب عــى هــذا املفهــوم مــن جــدل وســيجال ال ينتهــي‪ .‬فــا هــي الصيــغ‬
‫التــي أتخذهــا هــذا املفهــوم يف أعــال ميخالكــوف‪ ،‬وكيــف تطــورت هــذه الصيغــة‪ ،‬وإىل‬
‫مــاذا آلــت‪.‬‬
‫ولــد نيكيتــا ميخالكــوف يف عــام ‪ ،1945‬يف عائلــة خــرج منهــا العديــد مــن الفنانــن واألدبــاء‬
‫الكبــار‪ ،‬فجــد أمــه هــو الرســام الــرويس الكبــر فاســييل ســوريكوف‪ ،‬وجده هــو الرســام بيوتر‬
‫كونتشالوفســي‪ ،‬وأمــه الشــاعرة ناتاليــا كونتشالوفســكايا‪ ،‬ووالــده الكاتــب والسيناريســت‬
‫ســرغي ميخالكــوف‪ ،‬أمــا أخــوه األكــر فهــو املخــرج املعــروف أندريــه كونتشالوفســي‪.‬‬
‫لقــد كان أول ظهــور مليخالكــوف يف الســينام مــع املخــرج قســطنطني فوينــوف يف فيلــم‬
‫«الشــمس تــيء الجميــع» عــام ‪ .1959‬أمــا الــدور األول الــذي لفــت األنظــار إليــه فقــد كان‬
‫يف فيلــم غيرنيــخ بوغدانوفيتــش أوغانســيان «مغامــرات كروشــا»‪ .‬ليلعــب الــدور الرئيــي يف‬
‫فيلــم املخــرج الفــذ غريغــوري دانيليــا «أنــا أتجــول يف موســكو» الــذي حقــق نجاحـاً باهــرا ً‬
‫يف ذلــك الوقــت‪ ،‬وحيــث بــدأ ميخالكــوف الشــاب يشــعر للمــرة األوىل بلمســات املخــرج‬
‫الســحرية يف خلقــه ألجــواء يشــعر املمثلــون داخلهــا بالحريــة والثقــة بالنفــس والتحــرر مــن‬
‫شــتى أشــكال الضغــوط املحيطــة‪ .‬مــا كان ينعكــس بصــورة إيجابيــة عــى أدائهــم‪ ،‬الــذي‬
‫تجــاوز يف الفيلــم توقعاتهــم نفســها‪.‬‬
‫درس ميخالكــوف التمثيــل يف البدايــة يف اســتديو األطفــال يف مــرح ستانسالفســي‪ ،‬ومــن‬
‫ثــم أنتقــل يف عــام ‪ 1963‬إىل معهــد شــوكني املرسحــي‪ ،‬ودرس يف قســم التمثيــل ملــدة ثالثــة‬

‫‪105‬‬
‫ســنوات‪ ،‬طــرد بعدهــا الشــراكه يف فيلــم دانيليــا خارقـاً بذلــك نظــام الحظــر عــى العمــل يف‬
‫الســينام املتبــع داخــل املعهــد‪ .‬بعــد ذلــك أنتســب إىل معهــد الدولــة الســيناميئ (الفغيــك)‪،‬‬
‫ليتخــرج مــن ورشــة املخــرج ميخائيــل روم يف عــام ‪ .1971‬دون أن يتوقــف يف الوقــت‬
‫نفســه عــن املشــاركة يف العديــد مــن األفــام‪ ،‬كان أهمهــا «االســتدعاء» مــع املخــرج دانييــل‬
‫خرابروفيتســي‪ ،‬و«عــش النبــاء» مــع أندريــه كونتشالوفســي‪ ،‬و«أنشــودة عــن مانشــوك»‬
‫للمخــرج ماجيــت بيغالــن‪.‬‬
‫وهكــذا مــن دور إىل آخــر كانــت معلوماتــه النظريــة تُـثـــقل‪ ،‬وهــو يتعلــم بصــورة عمليــة‬
‫كيفيــة بنــاء الشــخصية والتحكــم يف تطورهــا والتــدرب عليهــا‪ ،‬ليــس فقــط كممثــل‪ ،‬وإمنــا‬
‫مــن وجهــة نظــر إخراجيــة كذلــك‪ .‬مــن جهــة أخــرى كان لتجربتــه يف التمثيــل ـ قبــل‬
‫خوضــه مجــال اإلخــراج ـ مــع العديــد مــن املخرجــن الذيــن تــم ذكرهــم‪ ،‬باإلضافــة إىل‬
‫فاســييل أوردينســي وغريغــوري روشــال وميخائيــل كاالتــوزوف دورا ً كبــرا ً يف قدرتــه عــى‬
‫تفهــم النــاذج املختلفــة للممثلــن الذيــن عملــوا معــه الحق ـاً‪ .‬فمالمســته لصعوبــة هــذا‬
‫الفــن وإدراكــه لتعقيداتــه‪ ،‬جعلتــه يشــعر عــى الــدوام بعميــق الحــب والتقديــر واالمتنــان‬
‫تجاههــم‪.‬‬
‫لقــد بــدا واضحـاً مــن األفــام األوىل التــي أخرجهــا ميخالكــوف أثناء دراســته يف املعهــد «وأنا‬
‫أعــود إىل البيــت» و«يــوم هــادئ يف نهايــة الحــرب» الكثــر مــن ميولــه الفنيــة كاالهتــام‬
‫بالتفاصيــل الصغــرة ودالالتهــا‪ ،‬والعالقــات املتبادلــة بــن مختلــف الشــخصيات املتفــردة‬

‫‪106‬‬
‫بطبائعهــا‪ ،‬والســعي للتنقــل بــن الحــاالت الدراميــة املتباينــة‪ ،‬والســعي نحــو ســر النفــس‬
‫البرشيــة مــن خــال الســلوكيات التــي قــد تبــدو متناقضــة ظاهريـاً ولكنهــا مــررة متامـاً مــن‬
‫داخــل الشــخصية‪ .‬هــذه امليــول التــي ستشــكل بالتدريــج مالمــح أســلوبه اإلخراجــي فيــا‬
‫بعــد‪.‬‬
‫يف عــام ‪ 1974‬قــام ميخالكــوف بإخــراج فيلمــه الــروايئ الطويــل األول «قريــب بــن الغربــاء‪،‬‬
‫غريــب بــن األقربــاء»‪ ،‬وهــو ينتمــي إىل أفــام املغامــرات التــي أخــذت تســتمد الكثــر‬
‫مــن مواضيعهــا يف هــذه الفــرة مــن عهــد الثــورة والحــرب األهليــة‪ ،‬وخاصــة بعــد النجــاح‬
‫الــذي حققــه يف هــذا االتجــاه فيلــم فالدميــر موتيــل «شــمس الصحــراء البيضــاء» عــام‬
‫‪ .1969‬فالفيلــم يتحــدث عــن رسقــة قطــار محمــل بالذهــب مــن قبــل «البيــض»‪ ،‬ومــن ثــم‬
‫عمليــة البحــث عنــه واســتعادته‪ .‬لكــن يف الواقــع مل تكــن حكايــة الفيلــم املأخــوذة عــن‬
‫قصــة بعنــوان «الذهــب األحمــر» إلدوارد فولودارســي ذات أهميــة جوهريــة بالنســبة‬
‫مليخالكــوف والطاقــم الفنــي الــذي بــدأ العمــل معــه يف هــذا الفيلــم‪ ،‬والــذي سيشــكل فريقـاً‬
‫مشــركاً ومتكام ـاً يف جميــع أفالمــه يف الســبعينات‪ ،‬بــل وســيبقى العديــد مــن فنانيــه إىل‬
‫جانبــه ملــا بعــد ذلــك‪ .‬مــن أهــم هــؤالء السيناريســت وفنــان الديكــور الكســندر أداباشــيان‬
‫ومديــر التصويــر بافــل ليبيشــيف وامللحــن إدوارد أرتيمييــف والفنــان الكســندر ســامولكني‪،‬‬
‫واملمثلــن يــوري بوغاترييــف والكســندر كالياغــن ونيقــوالي باســتوخوف‪.‬‬
‫لقــد وجــد هــذا الطاقــم الفنــي الشــاب واملتقــد حامســة يف فيلــم املغامــرات جنسـاً فيلميـاً‬

‫‪107‬‬
‫يتيــح لــه مــن اإلمكانيــات‪ ،‬مــا يســمح للجميــع وكل يف مجالــه مــن اختبــار قدراتــه الحرفيــة‬
‫أمــام عــامل الســينام الواســع‪ ،‬وهــذا بالضبــط مــا جعــل الفيلــم مليئـاً بالعنــارص غــر الالزمــة‬
‫والرضوريــة كــا أكــد ميخالكــوف نفســه فيــا بعــد‪.‬‬
‫عــن املمثلــة الروســية أولغــا فوزنيسينســكايا التــي عاشــت يف فــرة مــا قبــل الثــورة كان‬
‫فيلــم ميخالكــوف «عبــدة الحــب» عــام ‪ ،1976‬وهــو عنــوان ألحــد أفــام املمثلــة التــي‬
‫اشــتهرت يف أدوارهــا امليلودراميــة‪ .‬وقــد تطلــب الفيلــم مــن فريــق العمــل قضــاء أوقــات‬
‫طويلــة يف االطــاع عــى مختلــف الوثائــق مــن صحــف ومجــات وصــور فوتوغرافيــة‬
‫وأفــام يك يســتطيعوا نقــل أجــواء تلــك املرحلــة إىل املشــاهد بصــورة دقيقــة‪ ،‬فرضتهــا‬
‫طبيعــة املوضــوع القامئــة عــى الــراع الــذي تعيشــه املمثلــة بــأداء إلينــا ســولوفيه مــع كل‬
‫إفــرازات هــذا املرحلــة‪ ،‬ليقــدم مــن خاللهــا شــخصية تحــاول االنغــاق عــى عاملهــا الخــاص‬
‫يف مواجهــة عــامل يتحــرك برسعــة محطـاً يف طريقــه كل الدعائــم واملنظومــات التقليديــة يف‬
‫املجتمــع‪ ،‬ليطــرح ميخالكــوف يف إطــار تبايــن اإلنســان ـ الزمــن أســئلة كثــرة عــن ماهيــة‬
‫الفــن وغايــة اإلبــداع ودور الفنــان يف املجتمــع والتاريــخ‪.‬‬
‫مــن جهــة أخــرى رأى العديــد مــن النقــاد يف هــذا الفيلــم مرشوعـاً أوليـاً للعــامل التشــيخويف‬
‫الــذي ســيظهر يف فيلمــه التــايل «مقطوعــة غــر منتهيــة للبيانــو امليكانيــي» عــام ‪.1977‬‬
‫فمــع هــذا الفيلــم سيســطع أســم ميخالكــوف للمــرة األوىل‪ .‬حيــث يجــد يف عــامل تشــيخوف‬
‫بأبعــاده الفلســفية واإلنســانية العامــة املجــال األكــر حيويــة للتعبــر عــن هواجســه الفكريــة‬

‫‪108‬‬
‫والفنيــة‪ .‬معتمــدا ً يف معالجتــه عــى رؤيــة خاصــة جــدا ً يف األفلمــة الســينامئية‪ ،‬إذ اســتند إىل‬
‫مرسحيــة غــر معروفــة ومكتملــة بعنــوان (بالتونــوف) كتبهــا املؤلــف عندما كان يف الســابعة‬
‫عــر مــن عمــره فحســب‪ .‬مــا جعلــه أكــر حريــة يف قراءتهــا وتقدميهــا‪ ،‬فاملرسحيــة كانــت‬
‫مجــرد أســاس للســيناريو الــذي مل يــرد ميخالكــوف مــن خاللــه تقديــم تشــيخوف‪ ،‬بقــدر‬
‫رغبتــه يف تقديــم إحســاس تشــيخوف‪ ،‬ويشــر ميخالكــوف إىل هــذه النقطــة بقولــه‪( :‬فيــا‬
‫لــو اخرتنــا أي مؤلــف كالســييك معــروف للجميــع‪ ،‬ألصبحنــا مقيديــن بــه بصــورة أو بأخــرى‪،‬‬
‫بإرادتنــا أو ال‪ ،‬ألنــه يف مثــل هــذه الحالــة توجــد إمكانيتــان فحســب‪ :‬إمــا العمــل وفــق مــا‬
‫كتــب أو العمــل ال كــا كتــب‪ ،‬ونحــن أردنــا أن نبــدع تشــيخوف كــا نتصــوره‪ ،‬أو مبعنــى‬
‫أدق النظــر إىل العــامل بعــن معــارصة مــن خــال تشــيخوف)‪.‬‬
‫وقــد كانــت هــذه النظــرة الخاصــة إحــدى أهــم عوامــل نجــاح الفيلــم‪ ،‬فــا بــدا يف بدايتــه‬
‫مناقض ـاً متام ـاً ألجــواء تشــيخوف كاملســاحات الواســعة واأللــوان الســاطعة والديكــورات‬
‫األنيقــة والرثثــرة املتدفقــة دون انقطــاع‪ ،‬بالتدريــج أخــذ يفصــح عــن تباينــه مع الشــخصيات‬
‫التــي تتحــرك يف داخلــه بكآبتهــا وازدواجيتهــا وفراغهــا الروحــي وعزلتهــا الداخليــة‪ ،‬فــكل ما‬
‫كان يحيــط بالشــخصيات مل يكــن يعكــس عاملهــا الداخــي‪ ،‬وإمنــا يشــكل امتــدادا ً ملــا تحــاول‬
‫االختفــاء ورائــه مــن املظاهــر الخارجيــة املتأنقــة واملتصنعــة‪ .‬وهــي معادلــة قــد تبــدو‬
‫غريبــة نوعـاً مــا‪ ،‬إذ جــرت العــادة ـ وبصــورة خاصــة يف األعــال الســينامئية الكبــرة ـ عــى‬
‫تحميــل الوســط الــذي تتحــرك ضمنــه الشــخصيات مدلــوالت مبــارشة تعمــق مــن إدراك‬

‫‪109‬‬
‫عاملهــا الداخــي وبالتــايل فهــم نوازعهــا وســلوكياتها ودوافعهــا املختلفــة‪ ،‬لكــن ميخالكــوف‬
‫قــام يف هــذا الفيلــم بعكــس املعادلــة‪ ،‬إذ أظهــر تبايــن الشــخصيات مــع الوســط كجــزء مــن‬
‫تناقضاتهــا الكبــرة مــع ذاتهــا‪ .‬مــا جعــل هــذه التناقضــات تكتــي بعــدا ً أعمــق‪ ،‬وأكــر‬
‫انســجاماً مــع روح تشــيخوف‪.‬‬
‫لقـد شـكل تشـيخوف عىل الـدوام تحدياً كبيرا ً ألي مخـرج مرسحي كان أو سـيناميئ‪ ،‬وخاصة‬
‫يف مجـال األداء التمثيلي‪ .‬وسـبب نجـاح هذا الفيلـم يعود بدرجة كبرية إىل قـدرة ميخالكوف‬
‫على تجـاوز هـذا التحـدي‪ ،‬إذ اسـتطاع األداء العايل واملقنـع للممثلني أن يعبر بعمق عن عامل‬
‫الشـخصيات وطبائعهـا وعالقاتهـا‪ ،‬دون أن يخل باالنسـجام بين جانبيها السـاخر والرتاجيدي‪،‬‬
‫لرتسـم يف نهايـة املطـاف لوحـة متكاملـة عـن األزمـة الروحيـة التـي تعيشـها اإلنتلجينسـيا‬
‫الروسـية‪ ،‬وتجعلهـا عاجـزة عـن الفعل‪ .‬ومام تجدر اإلشـارة إليـه‪ ،‬أن نجاح أفلام ميخالكوف‬
‫ال ميكـن فهمـه إال يف سـياق تجربتـه الخاصـة‪ ،‬فعلى الصعيـد النقـدي كانـت معظـم أفالمـه‬
‫مثـار جـدال واسـع‪ ،‬وقلما أجتمع النقاد على رأي واحد حولهـا‪ ،‬أما عىل الصعيـد الجامهريي‬
‫فيرى ميخالكـوف بـأن أفالمـه ليسـت جامهرييـة باملعنـى السـائد للكلمـة‪ ،‬لكن األفلام التي‬
‫مل يتقبلهـا الجمهـور يف البدايـة‪ ،‬مـع الزمـن اسـتطاعت أن تخلـق جمهورهـا الخـاص‪ ،‬هـذا‬
‫الجمهـور الـذي يقـول ميخالكـوف عنـه‪( :‬مـن املفـرح أن يتوسـع نطاقـه‪ ،‬وسـيكون محزناً إذ‬
‫يضيـق‪ ،‬لكـن يف كل األحـوال الجوهـري بالنسـبة لنـا ليـس العـدد املجـرد للبطاقـات املباعة‪،‬‬
‫وإمنـا عالقـة الجمهـور الجديـة مبا نقـوم به)‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫خــال ثالثــة أشــهر اســتطاع ميخالكــوف تصويــر فيلمــه الرابــع «خمــس أمســيات»‪،‬‬
‫وبالتحديــد يف الفــرة الواقعــة بــن تصويــر الجــزء ألول لفيلمــه «بضعــة أيــام مــن حيــاة‬
‫أبلومــوف» الــذي جــرت أحداثــه يف الصيــف‪ ،‬والجــزء الثــاين الــذي صــور يف الشــتاء‪ .‬فقد رأى‬
‫املخــرج أن فــرة التوقــف هــذه بــن الفصلــن قــد تــؤدي إىل تشــتت العــال الفنيــن‪ ،‬ولــن‬
‫تكــون عمليــة جمعهــم ثانيــة بتلــك البســاطة‪ ،‬مــا قــد يؤجــل الــروع بالجــزء الثــاين مــن‬
‫العمــل لفــرة طويلــة وغــر محــددة‪ ،‬فقــرر جمعهــم بنفســه يف عمــل جديــد مــن إخراجــه‪،‬‬
‫وهكــذا ظهــر إىل النــور هــذا الفيلــم الــذي حقــق مليخالكــوف نجاح ـاً مل مياثلــه أي فيلــم‬
‫ســابق عنــد عرضــه األول‪.‬‬
‫ومــن البديهــي أن الظــروف اإلنتاجيــة التــي فرضــت نفســها عــى العمــل لعبــت دورا ً‬
‫كبــرا ً‪ ،‬إن مل يكــن حاس ـاً يف خيــار ميخالكــوف وأداباشــيان ملرسحيــة الكســندر فولوديــن‬
‫التــي ســتكون أساس ـاً للفيلــم‪ .‬وبالفعــل متيــز الفيلــم ببســاطة قصتــه ووضوحهــا‪ ،‬فأبطــال‬
‫الفيلــم شــخصان‪ :‬رجــل وامــرأة أحبــا بعضهــا قبــل أن تفرقهــا الحــرب‪ ،‬فيحــاول كل‬
‫منهــا ولســنوات طويلــة أن يتغلــب عــى مشــاعره تجــاه اآلخــر بطريقتــه الخاصــة‪ .‬تامــارا‬
‫فاســيليفنا (لودميــا غورتشــينكو) تغلــق أبــواب املــايض‪ ،‬وتحــاول أال تعــود بذاكرتهــا‬
‫إليــه أبــدا ً‪ ،‬شــاغلة نفســها بالعمــل واالهتــام باآلخريــن‪ ،‬دون أن يعرتيهــا الشــك لحظــة‬
‫بإمكانيــة تدخــل القــدر يف حياتهــا وتغيريهــا‪ ،‬واســتعادتها لقدرتهــا عــى الحــب‪ .‬أمــا إيلــن‬
‫(ستانيســاف لوبشــن) فبالرغــم مــا يوحــي بــه مظهــره الخارجــي مــن القــوة والثقــة‪ ،‬إال‬

‫‪111‬‬
‫أن افتقــاده هــو اآلخــر للحــب‪ ،‬جعــل حياتــه بــكل مــا فيهــا مــن صخــب ومــرح تبــدو فارغــة‬
‫يف جوهرهــا‪ .‬وهكــذا حــاول كل منهــا أن يتصالــح مــع نفســه بطريقتــه مــا‪ ،‬مســلامً بواقــع‬
‫فقدانــه اآلخــر‪ ،‬دون أن يــدركا مــا تتســم بــه هــذه املصالحــة مــن زيــف‪ ،‬واضطرارهــا‬
‫للتعايــش مــع هــذا الزيــف‪ ،‬ومــع كل التناقضــات التــي كان يفجرهــا يف أعامقهــا وحياتهــا‬
‫اليوميــة‪ .‬لكــن وبعــد مــرور خمســة عــر عام ـاً تجمعهــا الصدفــة مــن جديــد‪ ،‬لريصــد‬
‫لنــا الفيلــم تفاعلهــا مــع هــذا اللقــاء املباغــت‪ ،‬الــذي يقلــب حياتهــا رأس ـاً عــى عقــب‪،‬‬
‫ويقــوم بتعريتهــا بالتدريــج مــن كل القشــور الكاذبــة التــي حــاوال االختفــاء تحتهــا‪ ،‬ليجــدا‬
‫أنفســهام يف النهايــة أمــام حقيقــة حبهــا‪ ،‬وحاجتهــا لبعضهــا البعــض‪ .‬يقــول ميخالكــوف‬
‫عــن هــذا العمــل‪( :‬لقــد أردنــا أن نقــول يف هــذا الفيلــم‪ ،‬أن الرابطــة الحقيقيــة الوحيــدة بــن‬
‫النــاس هــي الحــب)‪ .‬وهــو ال يخفــي رصاحــة انتــاء العمــل إىل امليلودرامــا التــي شــهدت‬
‫يف الســبعينات تطــورا ً كبــرا ً يف الســينام الروســية‪ ،‬وقدمــت العديــد مــن النــاذج املرشقــة‪،‬‬
‫لتؤكــد مــن جديــد أنــه ال توجــد أجنــاس فنيــة ســيئة‪ ،‬وإمنــا مثــة أفــام ســيئة بغــض النظــر‬
‫عــن الجنــس الفنــي الــذي تنتمــي إليــه‪.‬‬
‫يف «بضعــة أيــام مــن حيــاة أبلومــوف» حــاول ميخالكــوف أن يجســد قراءتــه الخاصــة‬
‫لروايــة (أبلومــوف) للكاتــب إيفــان غونتشــاروف التــي أقتبــس العمــل عنهــا‪ ،‬مبتعــدا ً عــن‬
‫رؤيــة الكاتــب ذاتــه للشــخصيات‪ ،‬أو مبعنــى آخــر تعامــل مــع الروايــة بصــورة جدليــة‬
‫كاشــفاً عــن جوانــب جديــدة يف شــخصياتها‪ ،‬أغنــت مــن أبعادهــا وعمقتهــا‪ .‬فالروايــة تنتقــد‬

‫‪112‬‬
‫الالمبــاالة كموقــف حيــايت مــن خــال شــخصية أبلومــوف‪ ،‬بينــا يقــوم الفيلــم بالتأكيــد عــى‬
‫الجوانــب املضيئــة التــي تحملهــا هــذه الشــخصية بالرغــم مــن كل ســلبيتها كالطيبــة والنبــل‬
‫ودماثــة األخــاق واالرتبــاط بــاألرض‪ .‬مــن جهــة أخــرى انصــب اهتــام الفيلــم عــى إدانــة‬
‫االنتهازيــة الرباغامتيــة املتمثلــة بشــخصية شــولتس التــي بــدت أضعــف يف الروايــة منهــا يف‬
‫الفيلــم‪ ،‬فهــذه الشــخصية مبــا متثلــه مــن قيــم أخــذت تتفــى بقــوة يف الســبعينات داخــل‬
‫املجتمــع الســوفيتي‪ ،‬بــدت مليخالكــوف أكــر حيويــة ومعــارصة‪ ،‬وإدانتهــا ليــس ســوى إدانــة‬
‫لفئــة متفســخة كاملــة تعيــش يف املجتمــع‪ .‬حيــث النبــل والشــهامة والكــرم ليســوا ســوى‬
‫مظاهــر خارجيــة مزيفــة‪ ،‬ال ترتبــط بأيــة نزعــات روحيــة داخليــة عنــد هــذه الشــخصية‬
‫و(الفئــة التــي متثلهــا)‪ ،‬وإمنــا تفرضهــا الرغبــة يف املحافظــة عــى مظهــر جــذاب وســمعة‬
‫مرموقــة أمــام اآلخريــن فحســب‪ ،‬مــا يجعلهــا يف الواقــع عاجــزة عــن إدراك مشــاعرهم‬
‫ومعاناتهــم‪ ،‬فقدرتهــا عــى التواصــل اإلنســاين معهــم تبــدو مناقضــة متامـاً لجوهرهــا‪ ،‬الــذي‬
‫تشــكل املنفعــة الشــخصية الضيقــة أساس ـاً لــه‪.‬‬
‫فاملخــرج يتابــع يف هــذا الفيلــم ذات التباينــات التــي عالجهــا يف أفالمــه الســابقة‪ ،‬بــن ظاهــر‬
‫الشــخصيات وجوهرهــا الحقيقــي‪ ،‬ومــا تنطــوي عليــه هــذه التباينــات مــن تجــي متعــدد‬
‫الصياغــات يف االرتبــاط مــع الحيــاة واألشــخاص املحيطــن‪.‬‬
‫إن ســمة التبايــن هــذه بــن «الظاهــري» و«الجوهــري» التــي طبعــت أعــال ميخالكــوف‬
‫جميع ـاً‪ ،‬بــدأت تأخــذ منــذ منتصــف الثامنينــات منح ـاً يعمــم مــن تناقضــات الشــخصيات‬

‫‪113‬‬
‫مــع الواقــع أو مــع نفســها أو مــع اآلخريــن ملــا هــو أبعــد مــن ذلــك‪ ،‬لتدخــل يف ســياق‬
‫معايــر أخالقيــة وقوميــة وإنســانية أكــر اتســاعاً وشــموالً وتعقيــدا ً‪.‬‬
‫يعـود ميخالكـوف يف عـام ‪ 1987‬إىل عـامل تشـيخوف مـن جديـد‪ ،‬ليخـرج عـن مجموعـة مـن‬
‫قصصـه ـ أهمهـا «السـيدة مـع الكلـب» التـي قـام بأفلمتهـا عـام ‪ 1959‬جوزيـف خيفيتـس ـ‬
‫فيلمـه «العيـون السـود» الـذي تـم إنتاجـه باالشتراك مـع إيطاليا‪.‬‬
‫رومانـو (مارسـيلو ماسـتورياين) رجل يف منتصف العمر‪ ،‬متسـح الكآبة والحـزن وجهه‪ ،‬يرفض‬
‫أن يتخلى عـن ماضيـه وينسـاه‪ ،‬فيقـوم ببعثـه بصـورة مسـتمرة عبر فيـض مـن الذكريـات‪،‬‬
‫وهـو يـروي قصتـه ألي غريـب يجالسـه‪ .‬وهي ليسـت قصة تقليديـة عن االنحـدار التدريجي‬
‫مـن واقـع اجتامعـي مترف إىل حالـة مزريـة‪ ،‬يـراد اسـتنباط العبر األخالقيـة منهـا‪ ،‬كما قـد‬
‫يهيـأ يف البدايـة‪ ،‬بـل لعـل العكـس هـو الصحيـح‪ .‬فرومانـو املهنـدس املعماري الطمـوح كان‬
‫ذات يـوم يعيـش حيـاة مرتفـة ـ مل تخلـو حتـى مـن الخليلات ـ تحققـت لـه بعـد زواجه من‬
‫إيليـزا (سـيلفانا مانغانـو) ابنـة املصريف الغنيـة‪ ،‬وبدت مسـتقرة متاماً إىل أن تعـرف يف إحدى‬
‫سـفراته بفتـاة روسـية شـابة تدعـى آنا سيرغييفنا (إلينا سـوفونوفا)‪ ،‬فيقعا يف حـب بعضهام‪،‬‬
‫مستسـلمني يف الوقـت نفسـه لحقيقـة كونهما متزوجين‪ ،‬وال يسـتطيعان فعـل يشء حيـال‬
‫ذلـك‪ .‬لكـن حـب رومانـو لهـا ال يتلاىش مـع عودتـه إىل ديـاره‪ ،‬ويكتشـف مـع مـرور الوقت‬
‫أنـه ال يسـتطيع العيـش مـن دونهـا‪ ،‬فيقرر السـفر إىل روسـيا بحثـاً عنها‪ .‬ومـا أن يجدها حتى‬
‫يتعاهـدان على الـزواج بعـد تدبير أمـر الطلاق من أزواجهما‪ .‬لكن مـا أن يعـود رومانو إىل‬

‫‪114‬‬
‫إيطاليـا مصمماً على تنفيـذ مـا عاهـد آنـا عليـه‪ ،‬حتـى يجد زوجتـه وقـد فقـدت كل ثروتها‪،‬‬
‫فتخفـق يف هـذه اللحظـة جميـع مخططاتـه‪ ،‬فإحساسـه بالوفـاء نحوهـا مينعـه مـن مغادرتها‬
‫يف مثـل هـذا ظـرف‪ .‬وهكـذا يفقـد رومانـو حبه الكبير‪ ،‬وحياته املرتفـة يف آن واحـد‪ .‬وكل ما‬
‫يتبقـى لديـه هـو هـذه القصة‪ ،‬التـي يحملها معـه وهو يجوب العـامل‪ ،‬ال ميل تكرارهـا وبعثها‬
‫يف كل فرصـة‪ ،‬وكأن مغـزى حياتـه بأكملهـا قـد تجسـد فيها‪.‬‬
‫رومانــو كان مســتعدا ً للتخــي عــن زوجتــه وثروتهــا يف ســبيل الحــب‪ ،‬واســتطاع أن يضحــي‬
‫بهــذا الحــب يف ســبيل الوفــاء إليهــا عندمــا فقــدت ثروتهــا‪ .‬فأخالقياتــه التــي بــدت تافهــة‬
‫جــدا ً‪ ،‬اســتطاعت أن تســمو بنفســها يف لحظــات حياتــه الحرجــة‪ ،‬وهــي بالــذات التــي أودت‬
‫بــه إىل الحالــة املزريــة التــي يعيشــها‪ .‬لقــد أراد ميخالكــوف يف هــذا الفيلــم أن يؤكــد مــن‬
‫جديــد عــى أن الجوهــري يف اإلنســان غالب ـاً مــا يكــون أبعــد مــن مجــال الرؤيــة العاديــة‬
‫لآلخريــن‪.‬‬
‫ولعــل «أورغــا» ـ الحائــز عــى جائــزة الــدب الذهبــي يف فينيســيا‪ ،‬والــذي قــام ميخالكــوف‬
‫بتصويــره يف الصــن ـ يعــد أحــد أكــر اللوحــات الســينامئية جــاالً وعمقـاً يف تجربتــه‪ ،‬حيــث‬
‫ترتقــي التباينــات يف داخلــه إىل مســتوى فلســفي وإنســاين متميــز إىل حــد كبــر‪.‬‬
‫عائلــة منغوليــة تعيــش داخــل خيمــة كبــرة عــى الحــدود الصينيــة الروســية حيــاة بســيطة‬
‫وســاحرة منعزلــة عــن صخــب املــدن‪ ،‬وســط ســهل شاســع مرتامــي األطــراف‪ ،‬يقتحــم ســائق‬
‫شــاحنة رويس حياتهــا عــن طريــق الصدفــة‪ .‬فــإذ هــو يعــر الســهل بشــاحنته‪ ،‬يغــط يف النــوم‬

‫‪115‬‬
‫فــوق مقــوده فتنزلــق الشــاحنة إىل ضفــة البحــرة‪ ،‬لتنجــده العائلــة وتقــوم باســتضافته‬
‫عندهــا‪ .‬منــذ البدايــة يطــرح ميخالكــوف يف الفيلــم مواجهــة ذات طابــع حضــاري‪ ،‬بــل وقــد‬
‫يجــد البعــض فيهــا إعالنـاً رصيحـاً ضــد التطــور املــدين مــع نهايــة الفيلــم‪ ،‬فــا بــدأ بدخــول‬
‫التلفزيــون إىل خيمــة العائلــة ينتهــي بدخــول مصنــع الغــاز إىل الســهب الــذي عاشــت فيــه‪.‬‬
‫لكنهــا يف الواقــع ليســت ســوى دعــوة للمحافظــة عــى الهويــة الثقافيــة والذاكــرة والعالقــات‬
‫اإلنســانية‪ .‬فبســاطة الحيــاة وغناهــا اإلنســاين والعالقــات التقليديــة الحميمــة التــي تعيشــها‬
‫العائلــة املنغوليــة‪ ،‬تجعلهــا ســعيدة بالرغــم مــن العزلــة والفــراغ املــكاين الــذي يحيــط بهــا‪،‬‬
‫ويف املقابــل نجــد حيــاة املدينــة املعقــدة والقاســية‪ ،‬تجعــل العزلــة والفــراغ يعششــان يف‬
‫داخــل البــر أنفســهم‪ ،‬ليفقــدوا مالمحهــم اإلنســانية‪ ،‬ويســيطر عليهــم اإلحســاس بالتعاســة‬
‫واملــرارة‪.‬‬
‫مــن جهــة أخــرى تتخــذ الشــخصية الروســية يف الفيلــم بعــدا ً إضافيـاً يف اضطرابهــا وتخبطهــا‪،‬‬
‫إذ ال تســتطيع التكيــف مــع املجتمعــات األخــرى‪ ،‬بعــد أن تغربــت عــن مجتمعهــا بــكل‬
‫مــا يحملــه مــن أصالــة قوميــة ـ ثقافيــة وفقــدت القــدرة عــى التعايــش معــه‪ ،‬وضياعهــا‬
‫ليــس ســوى رســالة إىل العائلــة املنغوليــة (وللمشــاهدين بطبيعــة الحــال) تقــول بــأن مــن‬
‫يفقــد جــذوره مــرة يفقدهــا إىل األبــد‪ .‬وال داع إىل االعتقــاد بوجــود نزعــة شــوفينية ضيقــة‬
‫وراء هــذه الرســالة‪ ،‬فالهويــة الثقافيــة تبــدو يف الفيلــم شــديدة االرتبــاط برتكيبــة العالقــات‬
‫اإلنســانية‪ ،‬وانهيارهــا ســوف يــؤدي بصــورة حتميــة إىل تفــكك هــذه العالقــات وإفالســها‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ورمبــا مــن هــذه الزاويــة بالــذات يقــف الفيلــم ضــد التحــوالت املدنيــة والحضاريــة التــي‬
‫تجــرف يف طريقهــا كل خصوصيــة قوميــة وثقافيــة يف املجتمعــات‪ ،‬محطمــة بالتــايل القيــم‬
‫اإلنســانية فيهــا‪.‬‬
‫مــع بدايــة التحــوالت الدميقراطيــة يف االتحــاد الســوفيتي يف منتصــف الثامنينــات‪ ،‬غــدا‬
‫املــايض املغلــق بــأرساره ومآســيه مــادة جديــدة يســتلهم الســينامئيون منهــا أفالمهــم‪،‬‬
‫يف إطــار أشــكال وأســاليب أكــر جــرأة مــن حيــث الطــرح واملعالجــة‪ .‬مــن أبــرز أفــام‬
‫هــذا االتجــاه ميكننــا أن نذكــر «غــدا ً كانــت الحــرب» «صيــف ‪ 1953‬البــارد» «املقربــون»‬
‫«جنــازة ســتالني» وغريهــا‪ .‬ضمــن هــذا االتجــاه أخــرج ميخالكــوف فيلمــه املنهكــون مــن‬
‫الشــمس الــذي حصــل عنــه عــى أوســكار أفضــل فيلــم أجنبــي لعــام ‪ .1994‬وقــد تجســدت‬
‫يف هــذا الفيلــم بصــورة ســاطعة كل العنــارص التــي شــكلت عــى مــدى ســنوات طويلــة‬
‫جوهــر أســلوبية ميخالكــوف الخاصــة واملميــزة‪ ،‬فمــن خلــف األجــواء املرشقــة والبهجــة‬
‫والحيــاة الصاخبــة وعــرات التفاصيــل الصغــرة التــي توحــي لنــا بــأن كل يشء يجــري لــدى‬
‫عائلــة كوتــوف ـ أحــد أبطــال الثــورة والصديــق القديــم لســتالني ـ عــى أفضــل وجهــه‪،‬‬
‫نبــدأ بالتدريــج بتلمــس مشــاعر الخــوف والشــك واألمل التــي تأخــذ باالمتــداد والتشــعب‬
‫يف كل جــزء مــن أجــزاء البيــت الريفــي مــع وصــول ميتيــا العشــيق القديــم للزوجــة‬
‫ماروســيا مبالمحــه الربيئــة ومزاجــه اللطيــف‪ ،‬حيــث تختلــط األحقــاد الشــخصية باالتهامــات‬
‫السياســية وتنتهــي باعتقــال كوتــوف مــن قبــل رجــل األمــن ميتيــا وأعوانــه‪ .‬لقــد اســتطاع‬

‫‪117‬‬
‫ميخالكــوف يف هــذا الفيلــم مــن خــال رســمه الدقيــق والعميــق للشــخصيات‪ ،‬أن يصــور‬
‫الــراع الداخــي املضنــي الــذي عاشــه املاليــن مــن مواطنيــه طيلــة عقــود‪ ،‬بــن إميانهــم‬
‫باملثــل العليــا ومتســكهم باملشــاعر اإلنســانية والوطنيــة الكبــرة‪ ،‬وبــن الواقــع الرتاجيــدي‬
‫الــذي كان يفــرغ بصــورة مســتمرة كل هــذه املثــل واملشــاعر مــن جوهرهــا‪ ،‬ويحــط يف‬
‫داخلهــم مــن كل مــا هــو جميــل وحــر وإنســاين‪ .‬وذلــك يف قالــب متثيــي بــارع اســتطاع أن‬
‫يقــدم هــذه النــاذج بــكل تنوعهــا وتفاعالتهــا وتطورهــا مــن خــال أداء أليــغ مينتشــيكوف‬
‫وإنغيبورغــا دابكونايتــه وميخالكــوف نفســه‪ ،‬الــذي لعــب يف الفيلــم أطــول وأعظــم دور يف‬
‫عمــل مــن إخراجــه‪.‬‬
‫لقــد قــام ميخالكــوف خــال مســرته الفنيــة كلهــا بإخــراج فيلــم تســجييل واحــد بعنــوان‬
‫«آنّــا»‪ ،‬وعــا حــذا بــه للخــوض يف هــذه التجربــة يقــول‪( :‬يف الوقــت الــذي انتهيــت فيــه‬
‫للتــو مــن تصويــر «بضعــة أيــام مــن حيــاة أبلومــوف»‪ ،‬حيــث كانــت طفولــة البطــل أساســية‬
‫يف فهــم شــخصيته‪ ،‬كنــت مدفوعـاً برغبــة ال واعيــة للمقارنــة بــن طفولــة أليوشــا أبلومــوف‬
‫يف روســيا التــي مضــت‪ ،‬وطفــل اليــوم الــذي يعيــش يف اإلمرباطوريــة الســوفيتية)‪ .‬مل يكــن‬
‫هــذا الطفــل ســوى أبنتــه آنّــا‪ ،‬التــي قــرر أن يدخــل معهــا يف تجربــة ســينامئية فريــدة مــن‬
‫نوعهــا‪ ،‬إذ بــدأ منــذ أن كانــت يف السادســة مــن عمرهــا عــام ‪ 1980‬وملــدة ثالثــة عــر عامـاً‬
‫بطــرح ذات األســئلة عليهــا‪ :‬مــا الــذي تحبينــه أكــر مــن أي يشء؟ مــا الــذي تكرهينــه أكــر‬
‫مــن أي يشء؟ مــا الــذي يخيفــك أكــر مــن أي يشء؟ مــا الــذي تريدينــه أكــر مــن أي يشء‬

‫‪118‬‬
‫آخــر؟ مــا الــذي تنتظرينــه مــن الحيــاة؟ وهكــذا كان يتابــع رغباتهــا وأحالمهــا ومخاوفهــا‪،‬‬
‫التــي كانــت تتغــر مــع تقدمهــا يف العمــر‪ ،‬متأثــرة بالتغــرات االجتامعيــة والسياســية التــي‬
‫اجتاحــت البــاد يف فــرة البرييســرويكا بــكل مــا رافقهــا مــن فــوىض وحــروب وانحــال‬
‫وانقالبــات‪.‬‬
‫ففــي البدايــة مل تكــن أجوبتهــا تختلــف عــن أجوبــة أي طفــل أخــر‪ ،‬لكننــا تدريجـاً نتلمــس‬
‫إدراكهــا الخــاص للعــامل‪ ،‬والــراع الــذي ينمــو يف داخلهــا‪ ،‬إذ تتكشــف ســنة بعــد أخــرى‬
‫مخاوفهــا مــن العــامل بعــد أن تفجــرت التناقضــات الكبــرة يف وجههــا بــن املثــل اإليديولوجية‬
‫التــي تلقنتهــا وانهياراتهــا‪ ،‬ويشــر ميخالكــوف بهــذا الصــدد‪( :‬كان هدفنــا إظهــار عاملنــا يف‬
‫كافــة تحوالتــه وحركتــه‪ ،‬كــا يُــرى مــن خــال عيــون فتــاة صغــرة تكــر وتتغــر يف نفــس‬
‫الوقــت)‪.‬‬
‫يف الواقــع إن صيغــة الجمــع التــي يتكلــم ميخالكــوف مــن خاللهــا هنــا ذات داللــة كبــرة‬
‫بالنســبة لهــذا الفيلــم‪ ،‬فــإن كان احرتامــه وتقديــره لجهــود الفنانــن الذيــن عملــوا معــه‬
‫جعــل مــن هــذه الصيغــة تقليــدا ً شــبه دائــم يف حواراتــه وترصيحاتــه‪ ،‬إال أن فيلــم «آنّــا» ملــا‬
‫ظهــر للضــوء عــى اإلطــاق لــوال هــؤالء األصدقــاء‪ .‬فالفيلــم صــور بالــر بعيــدا ً عــن عيــون‬
‫الرقابــة ضمــن ظــروف ال تنســجم عــى اإلطــاق مــع الــروط الفنيــة والتقنيــة للعمــل‪،‬‬
‫وهــو مــا جعلــه ال يخلــو مــن العديــد مــن اإلشــكاليات التشــكيلية ـ الضوئيــة والصوتيــة‪،‬‬
‫ومــا زاد مــن إضعــاف جودتــه الــروط الســيئة التــي تــم حفــظ النيغاتيــف فيهــا لســنوات‬

‫‪119‬‬
‫طويلــة‪ .‬باإلضافــة إىل مــا شــكله ذلــك مــن مجازفــة كبــرة لهــم جميع ـاً‪ .‬أمــا املســاهمة‬
‫األهــم فهــي تعــود إىل املخــرج التســجييل ســرغي مريوتشنيتشــينكو‪ .‬فمشــاهد أبنتــه يف‬
‫الفيلــم امتزجــت مبقتطفــات مــن النــرات األخباريــة واألفــام الدعائيــة التــي تتعقــب‬
‫التغــرات يف البــاد منــذ نهايــة عهــد بريجنيــف‪ ،‬ومقتطفــات مــن أفالمــه الســابقة‪ ،‬مبــا فيهــا‬
‫بعــض املشــاهد املحظــورة‪ .‬مــا جعــل الربــط بــن مــا قــام بتصويــره‪ ،‬وبــن الحجــم الهائــل‬
‫للمعلومــات والصــور واملشــاهد التــي جمعهــا عمليــة شــديدة التعقيــد‪ ،‬وخاصــة أنــه أراد‬
‫أن يقــدم عملــه بأكــر قــدر مــن املوضوعيــة‪ .‬وهــو مــا حــاول نيكيتــا ميخالكــوف القيــام‬
‫بــه طيلــة حياتــه‪ ،‬ومــا كان يدفعــه باســتمرار لتطويــر أدواتــه الفنيــة ووســائله التعبرييــة‬
‫وأشــكاله الرسديــة للوصــول إىل مســتوى أعــى يف تصويــر النــاذج البرشيــة يف فسيفســائها‬
‫وتناقضاتهــا الالمحــدودة التنــوع‪ .‬ومــا ال شــك فيــه أنــه مل يــزل لــدى هــذا الفنــان ذو‬
‫الســمعة العامليــة املرموقــة الكثــر ليقدمــه للســينام يف بــاده والعــامل‪.‬‬

‫مجلة «الفن السابع» املرصية ‪.2001‬‬

‫‪120‬‬
‫مخرج الروائع يف سينام الحرب‬
‫يوري أوزيروف‬

‫«إذا مــا بقيــت حي ـاً ســوف أحــي عــن الجيــش العظيــم الــذي حاربــت فيــه»‪ .‬هــذا مــا‬
‫قــرره أوزيــروف الشــاب قبيــل نهايــة الحــرب‪ .‬لكــن كان يجــب أن ميــي ربــع قــرن قبــل أن‬
‫يتحــول الحلــم إىل واقــع‪ ،‬ويبــدأ أوزيــروف مســرة ستســتمر ربــع قــرن آخــر مــن اإلبــداع‬
‫وفــاء للعهــد الــذي قطعــه عــى نفســه‪.‬‬
‫ولــد أوزيــروف عــام ‪ 1921‬يف عائلــة مثقفــة خــرج منهــا العديــد مــن الشــخصيات اإلبداعيــة‪،‬‬
‫وعــى رأســها والــده مغنــي األوبــرا نيقــوالي‪ .‬منــذ صبــاه الباكــر هــوى أوزيــروف الرســم‬
‫وأخــذ دروس ـاً فيــه‪ ،‬ويف عــام ‪ 1939‬دخــل معهــد لوناتشارســي للفنــون املرسحيــة‪ ،‬لكنــه‬
‫يف العــام نفســه اســتدعي للخدمــة العســكرية‪ .‬ليعيــش الحــرب بــكل فظاعتهــا ومآســيها‬
‫منــذ اللحظــة األوىل وحتــى النهايــة‪ ،‬مشــاركاً يف العديــد مــن العمليــات العســكرية الضخمــة‬
‫كمعركــة موســكو وتحريــر أوكراينــا وبولونيــا واقتحــام كينغســبريغ‪ .‬مــع نهايــة الحــرب‬
‫تابــع دراســته املرسحيــة ملــدة عــام‪ ،‬ومــن ثــم أنتســب إىل الـــفغيك يف عــام ‪ ،1947‬ليــدرس يف‬
‫ورشــة املخــرج املعــروف سافتشــينكوإىل جانــب عــدد مــن كبــار املخرجــن الســينامئيني يف‬
‫االتحــاد الســوفيتي كآلــوف وناومــوف وبارادجانــوف وخوتســيف‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫ابتــداء مــن أفالمــه األوىل «حلبــة الشــجعان» ‪« ،1953‬االبــن» ‪« ،1955‬كوتشــبي» ‪،1958‬‬
‫«الطريــق الكبــر» ‪ 1962‬اســتطاع أوزيــروف أن يلفــت انتبــاه الصحافــة والنقــاد إليــه‪ ،‬وينــال‬
‫العديــد مــن الجوائــز‪ .‬ليبــدأ مســرته اإلبداعيــة الطويلــة يف ســينام الحــرب مــع ملحمتــه‬
‫الشــهرية «التحريــر» ‪ ،1971‬وذلــك باالشــراك مــع طاقــم سيســتمر معــه يف معظــم أعاملــه‬
‫القادمــة عــى مــدى خمســة وعــرون عامـاً مــن أهمهــم مديــر التصويــر إيغور ســابنيفتش‪،‬‬
‫وفنــان الديكــور ألكســاندر مياخكــوف‪ ،‬واملوســيقار يــوري ليفتــن واملمثــل ميخائيــل‬
‫أوليانــوف يف دور املارشــال جوكــوف‪.‬‬
‫كتــب أوزيــروف يف معــرض تفســره لدوافعــه وراء صنــع هــذه امللحمــة‪« :‬أفــام كثــرة‬
‫صــورت عــن الحــرب‪ ،‬لكــن هــذه األفــام أظهــرت مقاطعـاً مجتزئــة عــن الحــرب‪ ،‬منوذجيــة‪،‬‬
‫ولكنهــا متخيلــة غــر محــددة… لقــد أردت أن أتحــدث عــن الحــرب بأجملهــا‪ ،‬أن أظهــر‬
‫حقيقتهــا‪ ،‬أن أصنــع فيل ـاً مــن نــوع الوثيقــة التاريخيــة»‪ .‬خمســة أفــام طويلــة تضمنتهــا‬
‫هــذه امللحمــة الســينامئية «القــوس النــاري» «االخــراق» «اتجــاه الرضبــة الرئيســية»‬
‫«معركــة برلــن» «االقتحــام األخــر»‪ ،‬حيــث انضــوت تحت قيــادة أوزيــروف مئــات الدبابات‬
‫واملدافــع والطائــرات وحــوايل ثالثــة آالف مقاتــل‪ ،‬باإلضافــة إىل عــدد مــن الجــراالت ـ‬
‫املستشــارين ومهنــديس املتفجــرات‪ ،‬وعــرات الخرائــط واملخططــات وأجهــزة االتصــاالت‪،‬‬
‫ليفتــح أوزيــروف عــى حــد تعبــره «أوربــا مــن جديــد»‪.‬‬
‫مـع هـذه امللحمـة التي أصبحت حدثاً سـينامئياً بكل معنـى الكلمة يف البلاد‪ ،‬ودخلت تقاليد‬

‫‪122‬‬
‫العـروض التلفزيونيـة الدامئـة يف عيـد النصر والجيـش‪ ،‬وجالـت يف أكثر مـن ‪ 115‬دولـة‪ ،‬بـدأ‬
‫أوزيـروف يؤسـس لرؤيتـه الخاصـة يف املـزج بين الـروايئ ـ املجـازي والتسـجييل ـ الواقعي يف‬
‫السـينام‪ .‬لينجـز عـام ‪ 1977‬ملحمـة أخرى من أربعـة أفالم بعنوان «جنـود الحرية»‪ ،‬اعتمدت‬
‫على إنتـاج مشترك قيـايس مـع بولونيـا وبلغاريـا ورومانيـا وهنغاريـا وإيطاليـا ويوغسلافيا‬
‫وأملانيـا الدميقراطيـة وتشيكوسـلوفاكيا‪ .‬ويعـد هـذا الفيلـم ـ امللحمـة أول عمـل يف تاريـخ‬
‫السـينام الـذي يتطـرق مبثـل هـذه الشـمولية إىل رصاع كل شـعب مـن الـدول املحتلـة مـع‬
‫الفاشـية خلال الحـرب العامليـة الثانية‪.‬‬
‫بعــد إخراجــه لعــدد مــن األفــام الوثائقيــة الرياضية يف نهايــة الســبعينات وبدايــة الثامنينات‬
‫عــاد أوزيــروف ابتــداء مــن عــام ‪ 1985‬إىل موضوعــة الحــرب املفضلــة لديــه‪ ،‬فأخــرج عــن‬
‫معركــة موســكو فيلــاً مــن أربعــة أجــزاء بنفــس العنــوان‪ .‬وعــام ‪« 1989‬ســتالينغراد»‬
‫ويف عــام ‪« 1992‬مالئكــة املــوت» الــذي عــرض يف العــام التــايل باملركــز الثقــايف الــرويس‬
‫يف دمشــق بحضــور أوزيــروف نفســه‪ .‬يف الذكــرى الخمســن للنــر عــى الفاشــية عــام‬
‫‪ 1995‬ينتهــي أوزيــروف مــن مسلســله التلفزيــوين الكبــر «مأســاة القــرن» املكــون مــن ‪24‬‬
‫حلقــة‪ .‬والغريــب أن املسلســل مل يعــرض طيلــة ثــاث ســنوات كاملــة عــى شاشــة التلفزيــون‬
‫الــرويس‪ ،‬وعندمــا تــم عرضــه فيــا بعــد ـ أشــار أوزيروفــإىل أنــه «متــت قصقصتــه بطريقــة‬
‫مل يحلــم أي شــيوعيني بهــا»‪ .‬أمــا آخــر مــا أنهــى أوزيــروف بــه رحلتــه الســينامئية ـ الحربيــة‬
‫كان فيلمــه «القائــد العســكري العظيــم جوكــوف» عــام ‪ .1996‬ومــن الجديــر بالذكــر أن‬

‫‪123‬‬
‫األعــال الثالثــة األخــرة قــد متــت بإنتــاج مشــرك مــع املنتــج الســوري عبــد الــرزاق غانــم‪،‬‬
‫ومســاهمة املنتــج الســوري نــادر األتــايس (باســتثناء الفيلــم األخــر)‪.‬‬
‫مــات أوزيــروف عــن مثانــن عامــاً بعــد أن تــرك ورائــه عــدد هائــل مــن األفــام التــي‬
‫صــورت الحــرب مــن شــتى الزوايــا واملســتويات‪ ،‬حيــث اســتطاع أن ميــزج بدقــة عاليــة بــن‬
‫الواقعــي واملتخيــل مــن األحــداث والشــخصيات‪ ،‬ليغطــي مرحلــة مــن أكــر مراحــل القــرن‬
‫العرشيــن تعقيــدا ً ودمويــة‪ .‬بالتأكيــد ميكــن االختــاف أو االتفــاق مــع الخلفيــة اإليديولوجية‬
‫ألعــال أوزيــروف‪ ،‬ويف ضــوء الوقائــع والوثائــق الجديــدة التــي ظهــرت يف العقــد األخــر‬
‫حــول هــذه الحــرب‪ ،‬ولكــن مــن الصعــب عــى أحــد أن ينكــر الحرفيــة الســينامئية التــي‬
‫صنعــت مــن خاللهــا هــذه األفــام وقيمتهــا الفنيــة العاليــة التــي ســتبقى ماثلــة أمــام أي‬
‫مخــرج يشــق طريقــه يف ســينام الحــرب‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫السينام الروسية املعارصة أمام تحدياتها‬

‫يف كل مرحلــة مــن تاريــخ الســينام مثــة أســئلة تطفــو عــى الســطح وتطــرح نفســها بقــوة‬
‫يف وجــه هــذه الصناعــة الســينامئية أو تلــك‪ ،‬ولعــل أحــد أبــرز األســئلة امللحــة يف بدايــة‬
‫األلفيــة الثالثــة تتعلــق بإمكانيــة اســتمرار الســينامت الوطنيــة يف العديــد مــن الــدول أمــام‬
‫املنافســة الحــادة مــن قبــل الســينام األمريكيــة التــي تــكاد تقصيهــا متام ـاً مــن الوجــود‪.‬‬
‫لذلــك ليــس عبث ـاً أن يســتعر الجــدل بــن الباحثــن واملختصــن يف غــر مــكان مــن العــامل‬
‫حــول الســينام الواجــب عــى الدولــة دعمهــا‪ .‬ويف روســيا كان لذلــك الجــدل نكهــة خاصــة‬
‫فرضتهــا الظــروف االســتثنائية التــي عاشــتها البــاد يف التســعينات ومعهــا الســينام‪.‬‬

‫خارج الرعاية‬
‫وشـهدت هـذه املرحلـة تحـوالت جذريـة ليـس فقـط يف الواقـع السـيناميئ‪ ،‬بـل ويف البنيـة‬
‫الطبقيـة والثقافيـة والنفسـية لجمهـور املشـاهدين كذلـك‪ .‬إذ وجـدت إحدى أضخـم وأعرق‬
‫الصناعـات السـينامئية يف العـامل نفسـها ألول مـرة خارج رعايـة الدولة ودعمهـا‪ ،‬مام أدى إىل‬
‫تراجـع وتيرة اإلنتـاج بصورة ملحوظة‪ ،‬وتوقف العمل يف الكثري من االسـتوديوهات وانتشـار‬
‫البطالـة بني السـينامئيني والفنيين العاملني فيها‪ ،‬وإفالس عدد كبري من دور السـينام وإغالقها‪،‬‬

‫‪125‬‬
‫أو بيعها وتحويلها إىل منشـآت ترفيهية (كازينوات وديسـكوتيك) أو تجارية (صالونات عرض‬
‫وبيـع للسـيارات أو املوبيليـا ومخـازن)‪ ،‬لتفرض األفلام األمريكية يف الدور املتبقية سـيطرتها‬
‫بصـورة شـبه مطلقـة‪ .‬كما انحـدرت تقاليـد الفرجة على نحو مريع وشـهدت نسـبة الحضور‬
‫يف الصـاالت تراجعـاً غير مسـبوق نتيجـة تدهـور متوسـط الدخـل لـدى السـكان‪ ،‬واالنتشـار‬
‫املتزايـد ألجهـزة الفيديـو‪ ،‬ومزاحمـة التلفزيـون بقنواتـه وعروضـه الجديـدة والجذابـة‪،‬‬
‫التـي كانـت تلتقـط لحظـة بلحظـة املشـاهد املتدفقـة والديناميكيـة ملـا يجـري يف البلاد من‬
‫اضطرابـات ومواجهـات واغتيـاالت وفضائـح‪ ،‬وكأننـا أمام مسلسـل مـن دون نهايـة ال ينقصه‬
‫التشـويق أو األكشـن أو الرومانسـية‪ ،‬مسلسـل ال تضاهيـه سـوى امليلودرامـات املكسـيكية‬
‫ومسلسلات السـوب ـ أوبـرا األمريكيـة التـي اقتحمـت بيوت املشـاهدين الـروس ألول مرة‬
‫وسـحرت أنظارهـم وقلوبهـم إىل درجـة يصعـب تصديقها‪.‬‬
‫كل ذلــك أفــى إىل تغيــرات بنيويــة يف نتاجــات الســينام الروســية وتركيبــة أفالمهــا‪ ،‬فاتجــه‬
‫معظــم مخرجيهــا إىل محــاكاة النمــوذج الهوليــوودي ألفــام العصابــات بــكل مــا تحويــه مــن‬
‫عنــف وقتــل وابتــزاز ومطــاردات‪ ،‬وإن كان مثــة بالفعــل معــادل ومــرر لذلــك يف الواقــع‪،‬‬
‫يتمثــل باملافيــا الروســية وتشــعباتها وعالقاتهــا وســلوكياتها‪ ،‬غــر أن معظــم هــذه األفــام مل‬
‫يســتطع التوغــل إىل عمــق الحالــة الروســية وخاصيتهــا الذاتيــة‪ ،‬ومل تكــن حالهــا بأفضــل مــن‬
‫ناحيــة اللغــة والوســائل التعبرييــة‪ ،‬إذ بــدت هــذه األفــام كتقليــد ســيئ لألصــل األمريــي‪،‬‬
‫ال يؤهلهــا للتنافــس معــه يف صــاالت الســينام املتاحــة لــه بســهولة‪ .‬ويشــر أحــد النقــاد إىل‬

‫‪126‬‬
‫أن خــال العــرة أعــوام املاضيــة مل يســتطع ســوى فيلمــن تحقيــق أربــاح يف شــباك التذاكــر‬
‫هــا‪« :‬حــاق ســيبرييا» لنيكيتــا ميخالكــوف و«األخ ‪ »2‬لســرغي باالبانــوف‪ .‬ســبب أخــر‬
‫زاد مــن اتســاع الفجــوة بــن الســينام بتوجههــا العــام والجمهــور‪ ،‬أال وهــو ابتعادهــا عــن‬
‫مالمســة العديــد مــن جوانــب الواقــع املعــارص بإفرازاتــه وتناقضاتــه ورصاعاتــه وإشــكالياته‬
‫عــى كافــة املســتويات والصعــد‪ ،‬وتقولبهــا ضمــن أشــكال فنيــة وأجنــاس فيلميــة بعينهــا‬
‫لدرجــة اختفــت معهــا تقريبـاً األعــال الكوميديــة واالســتعراضية والتاريخيــة واالقتباســات‬
‫األدبيــة وتلــك املوجهــة لألطفــال‪ .‬لــكل ذلــك مل يعــد أصحــاب الصــاالت أنفســهم يســتقبلون‬
‫أفــام مواطنيهــم‪ ،‬ليكتفــي الكثــر مــن املنتجــن بعرضهــا عــى القنــوات التلفزيونيــة‪ ،‬بــل‬
‫وأصبحــت تصنــع خصيصـاً لهــذه الغايــة‪ ،‬بينــا فضّ ل آخــرون التحــول نحو إنتاج املسلســات‬
‫التلفزيونيــة‪ ،‬التــي وصلــت يف بعــض الســنوات األخــرة إىل أكــر مــن ‪ 35‬عمـاً‪.‬‬

‫الرأسامل يتدخل‬
‫جميــع هــذه التحــوالت اســتمرت بفــرض تأثريهــا حتــى بعدمــا أخــذت الصــورة تتغــر‬
‫تدريجي ـاً يف نهايــة التســعينات وبــدأ الرأســال الخــاص يتوجــه إىل الســينام ويضــع ثقلــه‬
‫فيهــا‪ ،‬لتشــييد أو إعــادة تحديــث مئــات الصــاالت‪ .‬وتظهــر ألول مــرة شــبكات مــن دور‬
‫العــرض مثــل «كارو – فيلــم» و«امبرييــا كينــو» املدعومــة بــركات توزيــع ضخمــة تضــخ‬
‫ثالثــة أفــام أســبوعياً‪ ،‬وتتأســس رشكات جــادة تســاهم بصــورة فعالــة يف اإلنتــاج الســيناميئ‬

‫‪127‬‬
‫مثــل «إس يك يف»‪« ،‬إن يت يف بروفيــت»‪« ،‬ســلوفا»‪« ،‬بيغامليــون»‪« ،‬يونايتــد مولتيميديــا‬
‫بروجيكــت»‪« ،‬أرك فيلــم»‪« ،‬ريكــون كينــو»‪« ،‬تريتــي» وغريهــا‪.‬‬
‫الدولــة عــادت هــي األخــرى لتتحمــل مســؤولياتها تجــاه الســينام‪ ،‬فــزادت مــن حصتهــا يف‬
‫املوازنــة العامــة‪ ،‬لتصــل عــام ‪ 2002‬إىل ‪ 1.5‬بليــون روبــل‪ ،‬وتتخطــى هــذا العــام البليونــن‬
‫(نحــو ‪ 67‬مليــون دوالر)‪ ،‬وقــد ســاهم يف هــذه الزيــادة إىل حــد بعيــد برنامــج الدولــة‬
‫املســمى «ســينام روســيا» والــذي يتضمــن باإلضافــة إىل دعــم البنــى التحتيــة للســينام يف‬
‫البــاد متويــل ‪ 100‬فيلــم متثيــي طويــل و‪ 330‬فيل ـاً تســجيلياً و‪ 65‬فيلــم رســوم متحركــة‬
‫ســنوياً‪ ،‬يك تحقــق الســينام الروســية حتــى عــام ‪ 2005‬نســبة ال تقــل عــن ‪ 20‬يف املئــة مــن‬
‫مجمــل العــروض التــي تــراوح يف الوقــت الحــايل مــن ‪ 3‬إىل ‪ 7‬يف املئــة فحســب‪ ،‬وتــرى وزارة‬
‫الثقافــة أن دون هــذا الرقــم لــن تســتطيع الســينام الروســية أن متثــل ظاهــرة اجتامعيــة‬
‫وثقافيــة يف املســتقبل‪.‬‬
‫ولعـل الصبغـة املبالـغ يف تفاؤلها للربنامج كانت السـبب وراء النقاشـات الطويلة حوله والتي‬
‫مل تتوقـف حتـى اللحظـة‪ ،‬وإمنـا تزايـدت مـع فشـله يف تحقيـق غايتـه هـذا العـام‪ .‬فاملسـألة‬
‫مـن وجهـة نظـر البعـض ال تتعلـق بإمـكان إنتـاج هـذا العـدد مـن األفلام أو ال‪ ،‬وإمنـا يف‬
‫الغايـة مـن ذلـك‪ ،‬فما معنـى إنتـاج هـذا الكـم طاملـا أن معظـم األفلام عاجـز عـن الوصول‬
‫إىل الشاشـة الكبيرة‪ ،‬وحتـى تلـك التـي تعـرض بالـكاد تسـتطيع تغطيـة ميزانيتهـا‪ ،‬لتنحصر‬
‫األعمال الناجحـة بأسماء مجموعـة محـدودة مـن املخرجني فحسـب مثل الكسي باالبانوف‬

‫‪128‬‬
‫ونيقـوالي ليبيـدوف ودينيـس يفسـتغنييف والكسـندر روكوجكين وفاليري تودوروفسكي‬
‫ودميتري استراخان وإيغـور كونتشالوفسكي‪ .‬لذلـك يدعـو هـؤالء إىل الرتكيـز على دعم أكرب‬
‫لعـدد أقـل مـن األفلام (‪ )15 – 10‬بغيـة تحقيق مسـتوى فني وحـريف عال يؤهلها للمنافسـة‬
‫يف السـوق‪ .‬األمـر الـذي ال تسـاعد املوازنة املرصـودة يف الربنامج عىل تحقيقه‪ ،‬فـإذا ما توقفنا‬
‫عنـد ميزانيـات بعـض االنتاجـات البـارزة للمقارنـة نجـد أن «الشرق ـ الغـرب» تكلـف ‪12‬‬
‫مليـون دوالر «انتـي كيلـر» ‪ 5‬ماليين «الحـرب» ‪ 4‬ماليين‪ ،‬هـذا مـن دون التكلـم عن «حالق‬
‫سـيبرييا» الـذي وصلـت ميزانيتـه إىل ‪ 45‬مليـون دوالر‪ ،‬أو مقارنتهـا بنظريتهـا األمريكية‪ .‬عىل‬
‫الجانـب األخـر ال تبـدو القـدرة التنافسـية لألفالم هي ما يشـغل بـال الكثري من النقـاد الذين‬
‫يشـكون الرتاجـع املريع يف سـوية السـينام الروسـية عموماً‪ ،‬وإنجابهـا املتزايد ألفلام ميتة لن‬
‫يشـاهدها أحـد بعـد بضع سـنوات‪ ،‬مـا يجعل التخـوف مربرا ً من مسـاهمة برنامـج الدعم يف‬
‫تفاقـم األزمـة بدالً مـن حلها‪.‬‬
‫بالطبــع إن مفهومــي القــدرة التنافســية والســوية الفنيــة قــد يلتقيــان ولكن ليــس بالرضورة‪،‬‬
‫ولعــل املثــال األكــر تــداوالً اليــوم يف هــذا الصــدد يتعلــق باملخــرج الكســندر ســوكوروف‬
‫وأعاملــه‪ ،‬التــي عــى رغــم نجاحهــا يف املهرجانــات ال تجــد اإلقبــال نفســه مــن املشــاهدين‪،‬‬
‫لكــن قدرتهــا الضعيفــة عــى املنافســة ليســت مــررا ً عــى اإلطــاق لعــدم دعمهــا طاملــا أن‬
‫املشــهد الســيناميئ ال ميكــن أن يكتمــل مــن دونهــا بصفتــه «ظاهــرة اجتامعيــة ثقافيــة»‪ ،‬بــل‬
‫لعلــه يكتســب مرشوعيتــه وغنــاه تحديــدا ً بوجودهــا‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫والحقيقــة أن ترصيحــات وزارة الثقافــة عــن طبيعــة األفــام التــي تضــع لهــا األولويــة يف‬
‫الدعــم تبــدو أكــر انســجاماً مــع هــذه النوعيــة مــن األعــال‪ ،‬إذ مــن املســتبعد أن تحقــق‬
‫ســينام األطفــال واألعــال األوىل للمخرجــن واألفــام التاريخيــة وتلــك ذات الصبغــة الوطنية‬
‫ضمــن املبالــغ املرصــودة لهــا قــدرة تنافســية ال ميكــن كذلــك تجاهــل أهميتهــا بــأي حــال‬
‫مــن األحــوال‪.‬‬

‫الجمهور املنقسم‬
‫وهنــا تجــدر اإلشــارة إىل مســألة يف غايــة األهميــة تتعلــق بجمهــور الســينام يف روســيا‪،‬‬
‫الــذي تبلــور انقســامه بصــورة شــديدة الوضــوح يف الســنوات األخــرة‪ ،‬بــن أقليــة محــدودة‬
‫معظمهــا مــن الجيــل الشــاب ذي الدخــل املرتفــع والقــادر عــى دخــول الصــاالت الحديثــة‬
‫الفاخــرة بعروضهــا القويــة (األمريكيــة غالب ـاً) وأســعارها الباهظــة‪ ،‬والتــي تضــخ القســم‬
‫األكــر مــن األربــاح (نحــو ‪ )70%‬عــى املنتجــن واملوزعــن‪ ،‬وتتمركــز بصــورة رئيســة يف‬
‫موســكو وســان بيرتســبورغ‪ ،‬وبــن الغالبيــة التــي ابتعــدت عــن الســينام أو ترتــاد الصــاالت‬
‫األقــل كلفــة واملنتــرة يف أنحــاء البــاد‪ .‬هــذا الواقــع دفــع البعــض إىل االســتنتاج أن عــى‬
‫املخرجــن الــروس إذا مــا أرادوا املنافســة حق ـاً التوجــه بصــورة أساســية إىل الفئــة األوىل‬
‫املؤهلــة لــدر األمــوال عــى الســينام‪ ،‬بصناعــة أفــام تالمــس مشــكالتها وواقعهــا الحيــايت‬
‫وتســتجيب إىل أذواقهــا وثقافتهــا وتكوينهــا النفــي‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫والحقيقــة أن بغــض النظــر عــن عــدم توافــق إســراتيجية الدولــة للدعــم مــع هــذا االتجــاه‪،‬‬
‫لكنــه قــد يفــرض نفســه تدريجيـاً عــى الصناعــة الســينامئية‪ ،‬وذلــك لســببني‪ :‬أوالً أن أصحاب‬
‫رشكات اإلنتــاج وشــبكات التوزيــع ينتمــون إىل هــذه الفئــة بالــذات‪ ،‬وبالتــايل هــم قــادرون‬
‫عــى إدراك احتياجاتهــا بســهولة‪ ،‬وثانيـاً أن ابســط قوانــن الســوق ســتفرض عليهــم تصنيــع‬
‫بضاعتهــم وفــق املواصفــات املطلوبــة مــن املســتهلكني‪.‬‬
‫عــل كل ذلــك مجــرد افــراض‪ ،‬والســينام الروســية مل تخــرج مــن أزمتهــا بعد عىل رغــم جميع‬
‫العقبــات التــي تجاوزتهــا يف األعــوام األخــرة وتقدميهــا العديــد مــن األفــام املثــرة التــي‬
‫نذكــر منهــا‪« :‬قبلــة الــدب» لســرغي بــودروف‪« ،‬منــزل الحمقــى» الندريــه كونتشالوفســي‪،‬‬
‫«كوكوشــكا» أللكســندر روكوجكــن‪« ،‬الفلــك الــرويس» أللكســندر ســوكوروف‪« ،‬لنــارس‬
‫الحــب» لدينيــس يفســتغنييف‪« ،‬النجمــة» لنيقــوالي ليبــدوف‪« ،‬الحرب» أللكــي باالبانوف‪،‬‬
‫«ال تفكــر بذلــك حتــى» لروســان بالتســر‪« ،‬البذلــة» لباختــر خودوينــازاروف‪« ،‬مواضيــع‬
‫تشــيخوفية» لكــرا موراتوفــا‪« ،‬ســاء‪ .‬طائــرة‪ .‬فتــاة» لفــرا ســتوروجيفا‪« ،‬كوبيــك» إليفــان‬
‫ديخوفيتشــني‪« ،‬العاشــق» لفالــري تودوروفســي‪ ،‬و«يف حــراك» لفيليــب يانكوفســي مــن‬
‫إنتــاج ‪.2002‬‬
‫أمــا مــن أبــرز أعــال هــذه الســنة فنذكــر «األب واالبــن» اللكســندر ســوكوروف‪« ،‬مــع‬
‫الحــب ليليــا» لالريســا ســاديلوفا‪« ،‬النزهــة» اللكــي أوتشــيتل‪« ،‬العجــزة» لغينــادي‬
‫ســيدوروف‪« ،‬بابوســيا» لليديــا بوبروفــا‪« ،‬كوكتيبــل» لبوريــس خليبنيكــوف‪ ،‬و«العــودة»‬

‫‪131‬‬
‫للمخــرج اندريــه زفياغينتســوف الــذي نــال عنــه األســد الذهبــي يف مهرجــان فينســيا هــذا‬
‫العــام‪ .‬وعــى رغــم أنــه مــن الصعــب التكهــن مبــا ســتقدمه يف الســنوات املقبلــة وإىل أيــن‬
‫ســتصل‪ ،‬لكــن املؤكــد أن هــذه الســينام متتلــك الكثــر مــن مقومــات النهضــة‪ ،‬ولعــل الســينام‬
‫الروســية الجديــدة ال تــزال يف طــور املخــاض ومل تقــل كلمتهــا بعــد يف األلفيــة الجديــدة‪،‬‬
‫ومنــذ اآلن مثــة مــن يهمــس بـــ «املوجــة الجديــدة» يف روســيا التــي ســترتك تأثريهــا عــى‬
‫الســينام األوربيــة بأكملهــا‪.‬‬

‫جريدة «الحياة» اللندنية ‪.2004‬‬

‫‪132‬‬
‫نقد أفالم‬

‫‪133‬‬
‫اللجاة‬

‫إن موضوعــة “قهــر املــرأة” ليســت جديــدة عــى الســينام العربيــة عمومــاً ويف الســينام‬
‫الســورية عــى وجــه الخصــوص‪ ،‬فــا الجديــد الــذي جــاء بــه املخــرج الراحــل ريــاض شــيا يف‬
‫فيلمــه اليتيــم “اللجــاة”‪ ،‬الــذي أثــار منــذ ظهــوره عــام ‪ 1993‬الكثــر مــن اللغــط والجــدال‪.‬‬
‫هــذا مــا ســنحاول تلمســه يف هــذه املقالــة‪.‬‬
‫يبــدأ الفيلــم مبشــهد لجنــازة يصــور ثلــة مــن الرجــال يســرون مطأطئــي الــرؤوس خلــف‬
‫بعضهــم عــى وقــع صــوت همهمــة وآيــات قرآنيــة‪ .‬مشــهد ســوف ميهــد للمنــاخ الجنائــزي‬
‫العــام الــذي يخيــم عــى أجــواء الفيلــم بأكملــه‪ ،‬لينتهــي بــذات املشــهد بعــد أن نكــون‬
‫قــد أدركنــا جوهــره والشــخوص التــي تقــف خلــف املأســاة التــي أودت إىل هــذه الجنــازة‬
‫ببعدهــا الواقعــي والرمــزي معـاً‪ .‬بعــد ذلــك مبــارشة تأخذنــا الكامــرا لنتعــرف بإيجــاز إىل‬
‫أبطــال الفيلــم‪ .‬العمــة أم متعــب (ثنــاء دبــي) التــي يوصــد قــي وجههــا بــاب ضخــم ملنــزل‬
‫أخيهــا‪ .‬العــم الــذي ترصــده الكامــرا الثابتــة يف لقطــات عامــة قبــل أن تتحــول إىل لقطــة‬
‫قريبــة عندمــا يجلــس يف غرفتــه ويتأمــل لوحـاً حجريـاً كبــرا ً ســدت بــه النافــذة لتــي تقــع‬
‫أمامــه‪ .‬ســلمى (حنــان شــقري) التــي تســتعد للنــوم مــع ابنــة عمهــا وتصورهــا الكامــرا مــن‬
‫خــارج الغرفــة عــر إطــار النافــذة التــي تبــدو كقضبــان ســجن (مشــهد ســيتكرر أكــر مــن‬
‫مــرة للتأكيــد عــى هــذه الداللــة)‪ ،‬نســمع مــن خاللهــا ســلمى تبــوح بأمنيتهــا الخــروج‬

‫‪134‬‬
‫مــن هــذا املنــزل‪ ،‬حتــى أنهــا تأخــذ عــى نفســها عهــدا ً (نــذرا ً) بإشــعال عــرة أقــراص‬
‫مــن الجلــة عندمــا تتحقــق هــذه األمنيــة (أقــراص يتــم صنعهــا مــن روث الحيوانــات ومــن‬
‫ثــم تجفــف وتخــزن الســتخدامها يف املواقــد)‪ .‬ال ميكــن أن يغيــب عــن الذهــن هنــا الربــط‬
‫املتناقــض بــن الرغبــة يف التحــرر مــن جهــة وإشــعال النــار كرمــز غــارق يف املــوروث الدينــي‬
‫املاضــوي – األســطوري حــال تحقــق هــذه الرغبــة مــن جهــة ثانيــة‪ .‬لذلــك يف املشــهد الــذي‬
‫يليــه متام ـاً سنســمع ترتيــل لتامئــم دينيــة يقرأهــا صبــي مقعــد مصــاب بالشــلل الســفيل‪،‬‬
‫ســيتكرر ســاعها عــدة مــرات يف الفيلــم (باإلضافــة إىل مناجــاة القمــر والتبــارك بهاللــه)‬
‫وكأنهــا تربــط كل حلقاتــه مــرة بعــد أخــرى يف إطــار هــذا التبايــن‪ ،‬بــل إن محتــوى التامئــم‬
‫نفســها يحيلنــا إىل جملــة مــن املتناقضــات امليتافيزيقــة مــن نــوع “يــا نفــس حتــى متــى‬
‫وإىل متــى وأنــت يف عــامل الكــون تطوفــن واردة وصــادرة وذاهبــة وراجعــة‪ ...‬يــا نفــس‬
‫ليــس مــن خليــل تصحبينــه فيخشــن لــك منــه جانــب إال والن لــك منــه جانــب‪ ...‬معتقــد‬
‫لــك الغــدر والخــذالن وأنــت معتقــدة لــه الوفــاء واملســاعدة‪ ...‬فهــو دامئ ـاً يقابلــك مبــا يف‬
‫جوهــره وطبعــه وأنــت دامئ ـاً تقابلينــه مبــا يف جوهــرك وطبعــك‪ ...‬ثــم يعقبــك بعــد هــذا‬
‫كلــه بالقطيعــة الكليــة والفــراق القاطــع عــى غــر جــرم أجرمتــه وال ذنــب جنيتــه وال رش‬
‫صنعتــه‪ .“...‬وكأن هــذه التامئــم ترســم خلفيــة لوقائــع وأحــداث الفيلــم ومصائــر شــخصياته‬
‫ببعدهــا الرتاجيــدي وضبــط إيقاعهــا الزمــاين‪ ،‬بــل إن حالــة العجــز اإلنســاين التــي توحــي بهــا‬
‫والعجــز الفيزيولوجــي للصبــي الــذي يقرأهــا يحيلنــا مــن جديــد إىل ذات التبايــن الصــارخ‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫الكامــرا الثابتــة بدورهــا ســتكون خيــارا ً فني ـاً يصــور أحــداث الفيلــم بأكملــه‪ ،‬فــا نجدهــا‬
‫ترافــق الشــخصيات يف حراكهــم‪ ،‬يدخلــون الــكادر ويخرجــون منــه‪ ،‬أمــا الكامــرا فــا تتحرك‪،‬‬
‫تبقــى ثابتــة عــى تفاصيــل املــكان بحجارتــه الســوداء الكتيمــة وجدرانــه الصامتــة وطرقــه‬
‫الوعــرة الضيقــة النــي تحــارص الجميــع حيــث كل يشء يــي بالعزلــة واالنغــاق عــى املــايض‬
‫والطقــوس والتقاليــد ورتابــة الحيــاة اليوميــة‪.‬‬
‫أمنيــة ســلمى ال تفتــأ أن تتحقــق‪ .‬بضــع مشــاهد موجــزة ومكثفــة وصامتــة‪ .‬تلتقــي بشــاب‬
‫يعجــب فيهــا عنــد نبــع املــاء‪ ،‬مجموعــة مــن الرجــال بعاممئهــم البيضــاء يدخلــون بيــت‬
‫عمهــا‪ ،‬يــأيت العــم إىل منــزل عمتهــا لي ـاً ويصطحبهــا معــه‪ ...‬لنصــل إىل مشــهد مفتاحــي‬
‫يف إدراك كنــه املأســاة التــي تعيشــها ســلمى‪ ،‬والتناقــض الــذي ينبــض الفيلــم يف تحــري‬
‫أثــاره‪ .‬فنشــاهدها تبــي يف بدايــة املشــهد ومــن ثــم ميتــزج بكائهــا بالضحــك‪ ،‬فهــي حزينــة‬
‫لزواجهــا بشــخص بالــكاد تعرفــه ويف ذات الوقــت ســعيدة بتحقــق أمنيتهــا بالحريــة‪ ،‬وهــو‬
‫مــا يجعلهــا تفــي بنذرهــا وتشــعل النــار‪.‬‬
‫طقــوس العــرس والتحضــرات لــه اقتــرت عــى بضــع مشــاهد قصــرة ومختزلــة يف داللتهــا‬
‫الرمزيــة وتأويالتهــا كمشــهد االســتحامم‪ ،‬وتحلــق مجموعــة مــن النســوة حــول منســف‬
‫كبــر وتناولهــن اللحــم منــه‪ ،‬وزغــرودة يتيمــة تخــرق العتمــة والصمــت املطبــق‪...‬‬
‫يف دارهــا الجديــدة ال تبــدو األمــور كــا متنتهــا ســلمى‪ .‬تســتمر الحيــاة برتابتهــا اململــة‪،‬‬
‫وزوجهــا ســعيد مبالمحــه الجامــدة البــاردة ال يبادلهــا أي مشــاعر حــارة أو كلــات (هــو ال‬

‫‪136‬‬
‫ينطــق بكلمــة واحــدة طــوال الفيلــم)‪ ،‬إىل ذلــك توحــي العديــد مــن املشــاهد بشــبهة عالقــة‬
‫جنســية بــن زوجهــا وزوجــة أبيــه الكهــل‪ ،‬كعناقهــا للــزوج ومحاولــة اســتاملته ملضاجعتهــا‬
‫بينــا هــو يغــط يف نــوم عميــق‪ ،‬نظراتهــا العدائيــة نحــو ســلمى وتلــك املليئــة بالرغبــة تجــاه‬
‫ســعيد‪ ،‬مشــهد ســعيد وهــو يقــود محــراث تجــره الثــران يف الحقــل‪ ،‬لقطــة مقربــة أليب‬
‫ســعيد والدمــوع تنهمــر مــن عينيــه‪...‬‬
‫ســعيد هــو اآلخــر ال يبــدو راضيــاً عــن حياتــه بفقرهــا ورتابتهــا وهواجســها‪ ،‬كل ذلــك‬
‫تنطــق بــه نظراتــه التــي ترنــو للبعيــد بينــا ســلمى تضــع رأســها عــى كتفــه‪ ،‬وكأنهــا متهــد‬
‫للمشــهد القــادم صباحـاً عندمــا يــرك قميصــه عــى مســار إىل جانــب رسيــر ســلمى النامئــة‪،‬‬
‫ويغــادر بحقيبــة الصغــرة مبتعــدا ً يف عمــق حقــل الــكادر‪ ،‬لتعــود الكامــرا بلقطــة قريبــة‬
‫عــى القميــص املعلــق وحيــدا ً تهــزه الريــاح كــا هــي الحــال التــي تــرك ســلمى عليهــا متامـاً‪.‬‬
‫ســيعزز هــذا اإلحســاس مشــهد الحــق تتالعــب قيــه الريــاح بكــرة يابســة مــن القــش‪...‬‬
‫مــن الصعــب أن نجــزم أيهــا أشــد قســوة كلــات ســلمى التــي تعــر عــن خيبــة أملهــا‬
‫الكبــرة بالــزواج الــذي كانــت متنــي نفســها بعــده برؤيــة “نــاس وبــاد ودنيــا” لكــن شــيئاً‬
‫مــن هــذا مل يتحقــق‪ ،‬أم مواســاة عمتهــا أم متعــب لهــا بكلــات‪“ :‬مــا يف شــدة عــى مخلــوق‬
‫دامــت‪ ...‬وإن دامــت الشــدة مــا دامــت املــدة‪ ...‬وإن دامــت املــدة مــا دام صاحبهــا”‪...‬‬
‫وكأنهــا ترســم املصــر املشــؤوم لســلمى كعرافــة عتيقــة مــن الزمــن الســحيق‪.‬‬
‫للوهلــة األوىل يبــدو فعــاً أن “الشــدة” يف طريقهــا إىل الــزوال‪ ،‬واألغصــان اليابســة قــد‬

‫‪137‬‬
‫تخــر مــرة أخــرى عندمــا ستشــاهد ســلمى وجــه املعلــم عبــد الكريــم عــى ســطح املــاء‬
‫بالضبــط كــا شــاهدت زوجهــا ســعيد للمــرة األوىل‪ ،‬مــا يعــزز االعتقــاد أنهــا ليســت مجــرد‬
‫نزعــة جامليــة تلــك التــي تقــف خلــف اللقطتــن‪ ،‬مــن جديــد يســعى املخــرج إىل التكثيــف‬
‫الرمــزي الــداليل ألحــد “عنــارص الطبيعــة األربعــة”‪ ،‬املــاء كعنــر ارتبــط يف امليثيالوجيــا‬
‫مبعنــى اإلرواء والخصــب والــوالدة والتجــدد والحيــاة‪ ...‬فهــل ســتنجدها امليــاه مــن العطــش‬
‫كاملــرة األوىل‪...‬؟ وإىل متــى‪...‬؟‬
‫قصــة الحــب التــي يعيشــها االثنــان تصورهــا الكامــرا بلقطــات عامــة تظهــر الســهوب‬
‫الشاســعة التــي تحيــط بهــا كفضــاء حــر ال تقيــده أيــة حــدود (كنقيــض للغــرف املغلقــة‬
‫واملحــارصة بالحجــارة البازلتيــة الســوداء)‪ .‬يف ذات الوقــت يبــدوان فيهــا كائنــن صغرييــن‬
‫أضعــف مــن أن يحتمــا ثقــل هــذا الفضــاء مبورثاتــه الراســخة كالحجــارة الســوداء الصــاء‬
‫التــي تحيــط بهــا‪ .‬قصــة حبهــا تصطــدم بواقــع أنهــا متزوجــة‪ ،‬وعليــه ال ميكنهــا أن تتحقــق‬
‫إال بالهــروب‪ ،‬الــذي بــدا لهــا لوهلــة ســهالً وبســيطاً‪ ،‬ورفــع مــن أمالهــا صديــق عبــد‬
‫الكريــم املغنــي حليــم الــذي يعيــش وحيــدا ً ويشــدو مواويــل العشــق ويعــوي مــن حــن إىل‬
‫أخــر كالذئــاب‪ ،‬فيعدهــا أن جميــع مشــاكلهم ســوف تحــل مــا أن يصــا إىل دار الشــيخ أبــو‬
‫نايــف صاحــب املنزلــة الكبــرة يف الجبــل‪.‬‬
‫مــع هــروب ســلمى وعشــيقها مــن الضيعــة تنفجــر كل التناقضــات والتباينــات الراســخة يف‬
‫هــذا املجتمــع الصغــر املنغلــق والتــي مهــد الفيلــم لهــا ســابقاً كــا رأينــا‪ ،‬بــل ولتأخــذ أبعادا ً‬

‫‪138‬‬
‫جديــدة وتكشــف عــن تناقضــات أكــر عبثيــة وســخرية ومــرارة‪ .‬مــا أن يســمع العــم بهروب‬
‫ابنــة أخيــه حتــى يخلــع كوفيتــه‪ ،‬وهــو فعــل يقــوم بــه مــن أصيــب يف رشفــه ومســت كرامته‬
‫بحســب معتقــدات املنطقــة (هــي عــادة قدميــة منتــرة عنــد بعــض العــرب)‪ .‬يف ذات‬
‫الوقــت يســتقبل أبــو نايــف الهاربــن املســتجريين بــه ويؤويهــا يف داره طالب ـاً مــن عبــد‬
‫الكريــم أن يعــد ســلمى مبثابــة أختــه طاملــا هــا تحــت ســقف بيتــه‪ ،‬ويعدهــا بالذهــاب‬
‫صباحـاً للتوســط عنــد عمهــا وحــل املشــكلة‪ .‬أي أن مثــة مخرجـاً للمعضلــة املطروحــة وعــى‬
‫أرضيــة ذات التقاليــد واملــوروث والعــادات والديــن‪ .‬فــا الــذي حــدث؟‬
‫يف اللقــاء املنفــرد بــن الرجلــن العــم صيــاح وأبــو نايــف الحريصــن كــا بــدا عــى التمســك‬
‫مبقدســاتهم القبليــة‪ ،‬والــذي تــم تصويــره مــن خــارج مضافــة العــم حيــث ال نســمع الحــوار‬
‫بينهــا‪ ،‬إمنــا نشــاهد مــا حــدث‪ ،‬وليــس عــى املتابــع أن يكــون مــن أبنــاء املنطقــة أو حتــى‬
‫قريب ـاً إليهــا يك يفهــم مــا حــدث‪ :‬يغــادر العــم الغرفــة تــاركاً الضيــف أبــو نايــف وحــده‬
‫فيهــا‪ ،‬وبعــد لحظــات ينهــض هــذا الضيــف وبغــادر الغرفــة وحــده دون أن يقــم أحــد‬
‫مبرافقتــه ووداعــه‪ ،‬يركــب فرســه ويغــادر مكســورا ً مطأطــئ الــرأس‪ .‬بعدهــا فقــط نشــاهد‬
‫العــم يغلــق نوافــذ منزلــه الواحــدة تلــو األخــرى‪ ،‬وأخــرا ً يغلــق البــاب الكبــر وراء الضيــف‪.‬‬
‫وهكــذا دون كلمــة واحــدة نــدرك ليــس فقــط فشــل وســاطة أبــو نايــف‪ ،‬وانغــاق البــاب‬
‫أمــام كل وســاطة ممكنــة يف املســتقبل‪ ،‬بــل وعــدم اكــراث صيــاح بــذات التقاليــد واألعــراف‬
‫التــي بــدا ظاهريـاً أنــه شــديد التمســك فيهــا‪ .‬وهنــا نصــل إىل جوهــر القضيــة التــي يعريهــا‬

‫‪139‬‬
‫الفيلــم (والتــي مل نصــل إىل ذروتهــا بعــد)‪ ،‬أال وهــي تلــك االنتهازيــة والنفعيــة واالزدواجيــة‬
‫التــي يتــم التعامــل عربهــا مــع مــا يصــور عــى أنــه “مقدســات ال يجــوز املــس بهــا” بــأي‬
‫شــكل مــن األشــكال‪ ،‬ويف ذات الوقــت القيــام بخرقهــا وحرقهــا ومســح األرض بهــا عنــد‬
‫الرغبــة والحاجــة‪ .‬كــا عندمــا ســيقتحم أحــد رجــال العائلــة منــزل العمــة دون اســتئذان‪،‬‬
‫فتقــوم األخــرة بخلــع منديلهــا عــن رأســها كــا لــو أن الــذي يقــف أمامهــا ليــس رج ـاً‬
‫والبصــاق عليــه‪ ،‬لكــن حتــى هــذا ال يوقــف ثــوران هــؤالء الرجــال فيقتحمــون غرفــة ســلمى‬
‫يف بيــت زوجهــا ويقومــون بحــرق أغراضهــا وكأنهــم يتطهــرون بالنــار مــن نجاســتها‪ .‬أمــا‬
‫ذاك املشــهد حيــث يتــم ســحب نعجــة (وحدهــا دون غريهــا) مــن القطيــع ووشــمها يف‬
‫وجههــا‪ ،‬يــأيت يف الســياق التمهيــدي للمصــر الــذي ســتلقاه ســلمى‪.‬‬
‫أخــرا ً ينقلنــا الفيلــم إىل مســتوى جديــد مــن االنتهــاكات التــي ميارســها “حــراس الهيــكل”‬
‫الــذي يدعــون الحفــاظ عــى املقدســات‪ .‬كــا أنهــم مل يحرتمــوا تقاليــد الضيافــة ســابقاً‪ ،‬لــن‬
‫يحرتمــوا تقاليــد االســتجارة اآلن‪ ،‬مــع فــارق رئيــي هــذه املــرة‪ ،‬أولئــك الذيــن ســيقتحمون‬
‫دار أبــو نايــف ويخرجــون ســلمى عنــوة منــه ويســحبونها كــا ســحبوا الشــاة يف املشــهد‬
‫املــايض‪ ،‬ويجرونهــا معهــم إىل مصريهــا ليســوا هــم أنفســهم بــل عنــارص الرشطــة‪ ،‬يف إشــارة‬
‫ال تقبــل أي لبــس إىل توافــق مصالــح الســلطة السياســية الســائدة مــع مصالــح الســلطة‬
‫الذكوريــة – البطرياركيــة التقليديــة‪.‬‬
‫وهكــذا يف مشــهد صباحــي تجــر ســلمى مقيــدة اليديــن خلــف خيــول الرشطــة بعــد أن‬

‫‪140‬‬
‫تحــاول ابنــة أيب نايــف عاجــزة الدفــاع عنهــا‪ ،‬ونلمــح يف لقطــة فريبــة الدمــوع تســيل عــى‬
‫وجنــة العجــوز أيب نايــف الــذي طعــن يف عزتــه وكرامتــه‪ ،‬وتغيــب ســلمى والرجــال الذيــن‬
‫يقتادونهــا تدريجيـاً يف الضبــاب‪ ،‬بينــا يغلــق أبــو نايــف أبــواب بيتــه مــن الداخــل منكفئـاً‬
‫عــى انكســاره وظلمتــه‪ ،‬لينتهــي الفيلــم بــذات األصــوات – الهمهــات الجنائزيــة املبهمــة‬
‫التــي بــدأ منهــا‪.‬‬
‫إذن القضيــة التــي يطرحهــا الفيلــم أكــر مــن مجــرد قصــة حــب خالفــت األعــراف املتبعــة‪،‬‬
‫وأكــر مــن مســألة “قهــر املــرأة” الــذي تعيشــه يف املجتمعــات املنغلقــة‪ ،‬الفيلــم ال ينتقــد‬
‫تلــك القيــود واألغــال املفروضــة عليهــا تحــت مســميات الديــن أو العــادات أو األعــراف أو‬
‫التقاليــد وغريهــا فحســب‪ ،‬بــل يظهــر مــدى هشاشــة هــذه املنظومــات وتهافتهــا وســقوطها‬
‫أمــام املصالــح والنزعــات الشــخصية مــن جهــة‪ ،‬وارتباطهــا وانســجامها مــع املنظومــة‬
‫السياســية املهيمنــة مــن جهــة أخــرى‪ .‬لكــن األهــم مــن كل ذلــك أن املخــرج اســتطاع أن‬
‫ينقــل كل ذلــك ويعــر عنــه بلغــة ســينامئية راقيــة‪ ،‬تجعــل منــه عالمــة فارقــة يف تاريــخ‬
‫الســينام الســورية‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫«إيجاد فورسرت»‬
‫الرصاع واملصالحة مع الذات واآلخرين‬

‫روب بــراون ممثــل شــاب يخــوض تجربــة التمثيــل ألول مــرة يف حياتــه ليلعــب شــخصية‬
‫جــال وولــز التــي ال تغيــب عــن الشاشــة إال يف بضعــة مشــاهد‪ ،‬يف فيلــم املخــرج غــاس فــان‬
‫ســانت »‪( «Finding Forrester‬إيجــاد فورســر)‪ ،‬وهــو املخــرج الــذي يتذكــره البعــض مــن‬
‫خــال فيلميــه »‪ «Drugstore Cowboy‬و»‪ «My Own Private Idaho‬اللذيــن قدمهــا‬
‫يف نهايــة الثامنينــات وبدايــة التســعينات‪ ،‬وحقــق معهــا نجاح ـاً نقدي ـاً كبــرا ً‪ ،‬ليصــل اىل‬
‫قمــة نجاحــه عــام ‪ 1997‬عندمــا حصــل عــى جائــزة األوســكار عــن فيلمــه ‪«Good Will‬‬
‫»‪.Hunting‬‬
‫جمال وولـز هـو منـوذج للمعانـاة التـي يعيشـها أي شـاب زنجـي أمريكي يخـرج مـن‬
‫األحيـاء الشـعبية‪ ،‬ليواجـه الحيـاة مـن خلال نظـرة اآلخريـن املتشـككة اىل خلفيتـه العرقية‬
‫واالجتامعيـة‪ ،‬ولكنـه ليـس منوذج بسـيط لهذه الحالة‪ ،‬بـل أنه منوذج شـديد الخصوصية‪ ،‬فهو‬
‫شـاب متفـوق يف دراسـته‪ ،‬كاتـب موهـوب‪ ،‬شـخص واسـع اإلطلاع والثقافة‪ ،‬وريـايض ماهر‪.‬‬
‫ورغـم كل ذلـك ال يسـتطيع التخلـص مـن نظرة العـامل إليه‪ .‬وقد عبر الفيلم عن هـذه الحالة‬
‫يف العديـد مـن املشـاهد كانزعـاج جمال من نعتـه بالزنجي‪ ،‬شـك الربوفيسير يف قدراته عىل‬

‫‪142‬‬
‫الكتابـة‪ ،‬كلامتـه حـول «تجربتـه الكبيرة يف عـدم مسـاعدة اآلخريـن له»…الخ‪.‬‬
‫منــذ الدقائــق األوىل للفيلــم يالحــظ وولــز وأصدقائــه يف امللعــب شــخصاً مــا يراقبهــم مــن‬
‫نافذتــه غــر البعيــدة‪ ،‬ليقــرروا بعــد ســيل مــن األقاويــل والشــائعات التــي يتداولونهــا فيــا‬
‫بينهــم‪ ،‬وبكثــر مــن الخــوف التســلل اىل شــقته ومعرفــة هويتــه‪ ،‬لكــن املهمــة تفشــل ويفقــد‬
‫وولــز حقيبتــه يف منــزل الغريــب الــذي يرمــي بهــا إليــه الحقاًعندمــا ميــر تحــت نافذتــه‪،‬‬
‫ليكتشــف وولــز أن الغريــب قــرأ جميــع كتاباتــه‪ ،‬ومألهــا مبالحظاتــه الكثــرة‪.‬‬
‫مــن هنــا تبــدأ العالقــة بــن االثنــن‪ ،‬وبنفــس الصيغــة الرسديــة املألوفــة للمشــاهدين مبــا‬
‫تتضمنــه مــن بدايــة يرفــض فيهــا أحــد الطرفــن التعاطــي مــع اآلخــر‪ ،‬ومــن ثــم تشــهد‬
‫هــذه العالقــة الكثــر مــن التوتــرات والتصاعــد والفتــور‪ ،‬اىل أن تنتهــي بــأن يصبحــا أفضــل‬
‫صديقــن يف العــامل‪.‬‬
‫فالغريــب هــو ويليــم فورســر‪( ،‬اقتبســت شــخصيته عــن الــروايئ األمريــي جــي دي‬
‫ســالينجر وأدى دوره املمثــل شــن كونــري) كاتــب نــر روايــة واحــدة يف شــبابه منــذ‬
‫أربعــن عامـاً لتصبــح مــن كالســيكيات األدب املعــارص‪ ،‬ليعيــش بعــد ذلــك يف شــقته منعــزالً‬
‫عــن العــامل مكتفي ـاً مبراقبتــه عــر النافــذة‪ ،‬إىل أن أىت إليــه جــال وولــز‪ .‬وهكــذا نعيــش‬
‫حواريــة ســينامئية سلســة بــن كاتبــن‪ ،‬أحدهــا وصــل اىل قمــة املجــد والشــهرة لينكفــئ‬
‫عــى ذاتــه بعــد ذلــك‪ ،‬وآخــر مل يــزل يبحــث عــن طريقــه يف الحيــاة واألدب‪ .‬ليســاعد كل‬
‫منهــا اآلخــر بالتدريــج يف الكشــف عــن نواحــي جديــدة مــن شــخصيته‪ ،‬والنظــر اىل نفســه‬

‫‪143‬‬
‫مــن زاويــة مختلفــة‪ ،‬مــا يدفعهــا وكل عــى طريقتــه الخاصــة اىل التصالــح مــع الــذات‬
‫ومــع العــامل‪ .‬فيخــرج فورســر يف النهايــة مــن عزلتــه وميــي اىل زيــارة موطنــه يف اســكتلندا‪،‬‬
‫ويصبــح جــال أكــر قــوة وثقــة باآلخريــن‪ .‬وقــد اســتطاع املمثــل الكبــر كونــري‪ ،‬واملمثــل‬
‫املبتــدأ بــراون التعبــر عــن الحــاالت النفســية املتنوعــة التــي عكســها فورســر يف عجرفتــه‬
‫وغضبــه وكراهيتــه لآلخريــن‪ ،‬و وولــز يف إظهــار قوتــه وهيجانــه وتخبطــه الداخــي وســكونه‬
‫الخارجــي‪ .‬لكــن البــد مــن التأكيــد بــأن فكــرة هــذه الحواريــة وغاياتهــا‪ ،‬كانــت أكــر وأعقــد‬
‫مــن الصيغــة التــي تجســدت مــن خاللهــا يف الســيناريو‪ ،‬إذ جــاءت شــديدة االختزال‪ ،‬مشــبعة‬
‫بالتفاصيــل غــر املكتملــة‪ ،‬وأحيان ـاً غــر الرضوريــة‪.‬‬
‫أمــا املحــرك الدرامــي األســايس لهــذه الحواريــة‪ ،‬فقــد تجــى يف حصــول جــال عــى منحــة‬
‫دراســية يف مدرســة منهاتــن الخاصــة‪ ،‬ومواجهتــه املؤسســة التعليميــة والربوفيســور املعتــد‬
‫بنفســه روبــرت كروفــورد (ف‪.‬مــوري أبراهــام) لدرجــة رفضــه أي نقــد يوجــه لــه‪ ،‬كنمــوذج‬
‫منطــي للــر قلــا تســتغني عنــه الســينام األمريكيــة‪ .‬وتبلــغ الحبكــة ذروتهــا عندمــا يســتعري‬
‫جــال عنــوان مقالــة لفورســر نــرت منــذ زمــن طويــل‪ ،‬فيكتشــف كروفــورد ذلــك‪،‬‬
‫ويطلــب مــن جــال كتابــة رســالة اعتــذار وقراءتهــا أمــام الطــاب‪ .‬فيســأل جــال ـ الــذي مل‬
‫يكــن عــى علــم أن املقالــة التــي أنتحــل عنوانهــا قــد نــرت ـ مــن صديقــه فورســر التدخــل‬
‫والتأكيــد للجميــع أن املوضــوع مــن تأليفــه‪ ،‬لكــن الكاتــب الكبــر يرفــض ذلــك يك ال يكشــف‬
‫عــن نفســه بعــد كل هــذه الســنني‪ ،‬فيغضــب جــال ويتهــم فورســر بالجــن إزاء الخــروج‬

‫‪144‬‬
‫مــن حجرتــه ومســاعدة اآلخريــن‪ ،‬رغــم أنــه ال يتــواىن عــن تقديــم شــتى النصائــح األخالقيــة‬
‫لــه‪ ،‬غمــن دون هــؤالء «اآلخريــن» ال معنــى لكتاباتــه التــي ال يقرأهــا أحــد…‬
‫وتتصاعــد الحبكــة عندمــا يقــوم مجلــس اإلدارة بعقــد «صفقــة» مــع جــال‪ ،‬مفادهــا أن‬
‫املجلــس ســيغض البــر عــا حــدث إذا مــا اســتطاع جــال مــع فريــق املدرســة لكرة الســلة‬
‫الفــوز بالبطولــة‪ ،‬ولكــن مــع نهايــة املبــاراة‪ ،‬التــي توقفــت نتيجتهــا عــى رميــات جــال‬
‫الفاشــلة األخــرة‪ ،‬نــدرك أنــه رفــض الصفقــة‪ ،‬رفــض املســاومة عــى الحقيقــة‪ ،‬وقــرر أن‬
‫يخــر املبــاراة ويربــح نفســه‪.‬‬
‫يصبــح واضحـاً أن ال مفــر أمــام جــال إال االعتــذار العلنــي‪ ،‬بنفــس القــدر الــذي يغــدو فيــه‬
‫واضحـاً للمشــاهدين أن مثــل هــذا االعتــذار لــن يحــدث أبــدا ً ‪ .‬فــا ال شــك فيــه أن الكاتــب‬
‫العجــوز فورســر ســيتدخل يف اللحظــات األخــرة وينقــذ صديقــه الشــاب‪ ،‬ومــا أن يحــدث‬
‫ذلــك حتــى نكتشــف أنــه بخروجــه اىل العــامل مل ينقــذ صديقــه فحســب‪ ،‬بــل ونفســه كذلــك‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫«تهريب»‬
‫الزوايا القذرة لحرب املخدرات‬

‫«تهريــب» فيلــم يصــور مالمــح الحــرب ضــد املخــدرات مــن خــال نظــرة شــمولية تعالــج‬
‫مختلــف جوانــب هــذه الظاهــرة ومســتوياتها‪ :‬ارتبــاط السياســة باملافيــا‪ ،‬األســاليب التــي‬
‫يتبعهــا رجــال األمــن يف محاربتهــا‪ ،‬الفســاد املســترشي يف أوســاط الرشطــة‪ ،‬قنــوات التوزيــع‬
‫والبيــع ووســائل التهريــب‪ ،‬الــراع بــن العصابــات‪ ،‬وصــوالً إىل الضحايــا الذيــن يشــكل‬
‫مدمنــي املخــدرات الشــباب الجــزء األهــم منهــم‪.‬‬
‫يقــوم الفيلــم بعــرض ثالثــة محــاور منفصلــة‪ ،‬تشــكل مبجموعهــا لوحــة بانوراميــة متكاملــة‬
‫عــن عــامل املخــدرات‪ .‬ويف كل مــن هــذه الخطــوط الثــاث نســتطيع أن نتلمــس مســتويني‬
‫مــن مقاربــة املوضــوع‪ .‬املســتوى األول يتوقــف عنــد الشــخصيات املركزيــة الفاعلــة يف‬
‫الــراع وعواملهــا‪ :‬مديــر مكافحــة املخــدرات‪ ،‬الجــرال املكســييك‪ ،‬زعيــم مافيــا‪ .‬والثــاين‬
‫يصــور الشــخصيات التــي تصطــدم بصــورة مبــارشة مــع هــذا العــامل‪ :‬رجــال الرشطــة‪ ،‬ابنــة‬
‫الســيناتور‪ ،‬الشــاهد‪ ،‬القاتــل املأجــور…‪ .‬وقــد ســمح هــذا املدخــل إىل املوضــوع بالكشــف‬
‫عــن التناقضــات الكبــرة الواقعــة بــن هذيــن املســتويني‪ ،‬والتفاصيــل الكثــرة املرتبطــة بهــا‪.‬‬
‫إذ يف الوقــت الــذي يســقط فيــه العــرات مــن رجــال الرشطــة املكســيكيني يف حربهــم‬

‫‪146‬‬
‫ضــد املخــدرات‪ ،‬وال يتــواىن بعضهــم كالضابــط خافيــر رودريغــوس (ديــل تــورو ـ أوســكار‬
‫أفضــل دور ثانــوي لعــام ‪ )2001‬عــن املخاطــرة بحياتــه يف ســبيل القبــض عــى قاتــل مأجــور‬
‫خطــر‪ .‬نكتشــف باملقابــل تعامــل العــرات غريهــم مــع املهربــن‪ ،‬ليبــدو «كمتعهديــن يف‬
‫املكســيك»‪ .‬وتصــل الفجيعــة إىل قمتهــا عندمــا نعلــم أن الجــرال ســاالزار (تومــاس ميليــان)‬
‫نفســه ـ الــذي نعتقــد يف البدايــة مــن خــال مالحقتــه لألشــخاص املتورطــن بقتــل رجالــه يف‬
‫مقاطعــة تيخوانــا‪ ،‬أنــه مناضــل رشس يف مواجهــة تجــار املخــدرات ـ يهــدف مــن وراء تصفيته‬
‫لتكتــل تيخوانــا‪ ،‬إىل احتــكار تكتــل خواريــز لســوق املخــدرات‪ .‬أمــا مــن يحــاول ترسيــب‬
‫معلومــات إىل إدارة مكافحــة املخــدرات األمريكيــة «مــن أجــل حفنــة مــن الــدوالرات»‬
‫فمصــره رصاصــة يف الــرأس فحســب‪ ،‬كــا حــدث مــع صديــق خافيــر الرشطــي مانولــو‬
‫سانشــيز (جيكــوب فارغــاس)‪.‬‬
‫يف املحــور الثــاين نالحــظ أن منــذ اللحظــة التــي يتســلم فيهــا الســيناتور روبــرت هدســون‬
‫ويكفيلــد (مايــكل دوغــاس) منصــب رئيــس مكافحــة املخــدرات نجــده يصطــدم مبجموعــة‬
‫مــن املعطيــات القاســية واملتناقضــة‪ ،‬فيظهــر اهتــام الدولــة منصب ـاً بالدرجــة األوىل عــى‬
‫الجانــب الربوتوكــويل والدعــايئ ـ الســيايس لهــذا املنصــب‪ ،‬وليــس عــى أهميتــه يف «مكافحــة‬
‫املخــدرات»‪ ،‬وال يبــدو أن السياســيني متفائلــن يف هــذه الحــرب عــى اإلطــاق‪ ،‬مــادام أن‬
‫‪ 25%‬مــن الطــاب يتعاطــون املخــدرات ومــادام أن معاهــد التأهيــل مل تعــد تجــدي نفع ـاً‬
‫مــع املدمنــن‪ .‬أمــا االصطــدام األكــر الــذي يواجهــه الســيناتور‪ ،‬فيبــدأ عنــد اكتشــافه إلدمــان‬

‫‪147‬‬
‫أبنتــه كارولــن ( إريــكا كريستينســن) عــى املخــدرات‪ .‬ويف الواقــع إن الســؤال الــذي تطرحه‬
‫املحققــة عــى كارولــن عــا يدفعهــا إىل املخــدرات رغــم أنهــا تعيــش حيــاة مســتقرة‬
‫ألبويــن ميســوري الحــال‪ ،‬ولديهــا معــدل درايس ممتــاز‪ ،‬ومتــارس عم ـاً تطوعي ـاً‪ ،‬وتشــارك‬
‫يف جميــع أنشــطة املدرســة الرياضيــة واالجتامعيــة… هــو ســؤال عــن األســباب الحقيقيــة‬
‫التــي تدفــع أعــدادا ً كبــرة مــن الشــباب األمريــي إىل عــامل املخــدرات‪ .‬ســؤال نســتطيع أن‬
‫نستشــف اإلجابــة عليــه مــن خــال ذلــك الحــوار الــذي يجــري بــن كارولــن وأصدقائهــا‪،‬‬
‫حيــث نكتشــف الخــواء الروحــي املعشــش يف داخلهــم‪ ،‬وعــدم قدرتهــم عــى رؤيــة هــدف‬
‫مــا لحياتهــم يف ظــل الفــراغ املحيــط بهــم والرتابــة التــي تخنقهــم وكراهيتهــم لــكل يشء‪،‬‬
‫لتمــي املخــدرات الشــكل األمثــل مــن وجهــة نظرهــم للتعبــر عــن وجودهــم‪ ،‬والتواصــل‬
‫مــع متعــة الحيــاة‪.‬‬
‫وهكــذا يقــع الســيناتور يف تناقــض كبــر بــن منصبــه ومــا ميليــه عليــه مــن اجتامعــات‬
‫ومباحثــات ولقــاءات ال تنتهــي مــع شــخصيات كبــرة ومؤسســات ضخمــة يف حربــه ضــد‬
‫املخــدرات‪ ،‬وبــن ضعفــه وعجــزه عــن إنقــاذ ضحيــة واحــدة لهــذه الحــرب أال وهــي ابنتــه‪،‬‬
‫ليعــرف يف النهايــة خــال مؤمتــر صحفــي أنــه أمــام حقيقــة وجــود أفــراد مــن عائالتهــم‬
‫متورطــن يف عــامل املخــدرات ال يــدري كيــف ميكــن لهــم أن يشــنوا حرب ـاً ضــد أنفســهم‪.‬‬
‫أمــا يف املحــور الثالــث فنجــد أن الشــخصية األساســية املتمثلــة بزعيــم املافيــا كارلــوس أيــاال‬
‫(ســتيفن بــاور)‪ ،‬تبقــى دامئ ـاً مبنــأى عــن معانــاة الشــخصيات املشــاركة يف الــراع ســواء‬

‫‪148‬‬
‫تلــك التــي تعمــل معهــا أو ضدهــا‪ .‬ولــن يتغــر األمــر حتــى عندمــا يلقــى القبــض عليــه‬
‫ويقــدم إىل املحاكمــة اســتنادا ً لشــهادة أحــد رجالــه ضــده‪ .‬فرجــل الرشطــة والقاتــل املأجــور‬
‫والشــاهد وصديقــه املقــرب آرين (دينيــس كيــد) جميع ـاً يقتلــون يف مراحــل مختلفــة مــن‬
‫هــذا الــراع‪ ،‬حتــى زوجتــه هيلينــا (كاتريــن زيتــا ـ جونــز) تجــد نفســها يف مــأزق أمــام‬
‫مطالبــة رجــال العصابــات بدفــع مبالــغ مســتحقة عــى زوجهــا‪ ،‬ومحاولتهــا إنقــاذ العائلــة‬
‫مــن االنهيــار‪ .‬أمــا هــو فيعــود إىل بيتــه يف النهايــة ويتابــع حياتــه كأن شــيئاً مل يكــن‪ ،‬يف إشــارة‬
‫واضحــة إىل عجــز أجهــزة الدولــة عــن الوصــول إىل رؤوس املافيــا‪.‬‬
‫رغــم أن املحــور املتعلــق بعمــل رئيــس مكافحــة املخــدرات وإدمــان أبنتــه هــو األطــول‬
‫بــن املحــاور الثــاث مــن حيــث عــدد املشــاهد‪ ،‬غــر أننــا نالحــظ عمومـاً توازنـاً يف إيقاعهــا‪،‬‬
‫وتوازيــاً مدروســاً بدقــة يف ســرورتها‪ .‬ويف الواقــع إن هــذه املحــاور الثــاث مل ترتبــط‬
‫ببعضهــا مــن ناحيــة املوضــوع فحســب‪ ،‬بــل ومــن خــال الشــخصيات الفاعلــة فيهــا كذلــك‪.‬‬
‫فمنــذ اللحظــة التــي يبــارش فيهــا ويكفيلــد عملــه‪ ،‬يشــر إليــه معاونــه أن نقــاط تركيزهــم‬
‫هــي املكســيك تحديــدا ً‪ ،‬ويف عــدة مشــاهد متفرقــة مــن هــذا الخــط ســتكون املكســيك‬
‫وتكتالتهــا اإلجراميــة والعمــاء الرسيــون الذيــن ميكــن التعامــل معهــم يف داخلهــا محــور‬
‫اهتــام رئيــس مكافحــة املخــدرات‪.‬‬
‫أمــا التداخــل الحقيقــي األول فيبــدأ عنــد لقــاء خافيــر مــع العمــاء األمريكيــن‪ ،‬وبعــد ذلــك‬
‫ويكفيلــد مــع ســاليزار يف املكســيك‪ ،‬ومــن ثــم لقــاء هيلينــا مــع القاتــل املأجــور فرانــي‪،‬‬

‫‪149‬‬
‫األمــر الــذي يــؤدي فيــا بعــد إىل مقتلــه عــى يــد مــن وىش بهــم مــن العصابــات املكســيكية‪.‬‬
‫وأخــرا ً مقابلتهــا ـ بعــد مشــهد عــام متــر فيــه مــن أمــام خافيــر ـ لتجــار املخــدرات يف‬
‫تيخوانــا والوصــول معهــم إىل اتفــاق يخولهــا (وزوجهــا) أن تكــون املــوزع الحــري‬
‫لبضاعتهــم يف الواليــات املتحــدة‪ ،‬ليقــرر خافيــر يف املشــهد الــذي يليــه مبــارشة التعــاون‬
‫مــع إدارة مكافحــة املخــدرات األمريكيــة‪ .‬وتظهــر النتيجــة املبــارشة لهــذه اللقــاءات األخــرة‬
‫جميعـاً بعــد بضعــة مشــاهد‪ ،‬فيقتــل الشــاهد ويخــرج كارلــوس مــن ســجنه‪ ،‬ويقتــل ســاليزار‬
‫ويقبــض خافيــر عــى مجموعــة إجراميــة مــن تجــار املخــدرات‪.‬‬
‫ال بــد يف النهايــة مــن اإلشــارة إىل أن ذلــك التنــوع األســلويب الــذي أتبعــه املخــرج الشــاب‬
‫ســتيفن ســوديربرغ يف «تهريــب» ـ بــدءا ً مــن اللقطــات العامــة لشــخصيات قليلــة داخــل‬
‫معســكر ســاليزار‪ ،‬والتداخــل الصــويت بــن املشــاهد‪ ،‬واملونتــاج املتداخــل ملشــهد كارولــن‬
‫وأصدقائهــا وهــم يرثثــرون تحــت تأثــر املخــدرات‪ ،‬إىل املشــهد الصامــت للقــاء خافيــر مــع‬
‫الصحافيــن ـ كان مــن املمكــن أن يخــل كثــرا ً بتــوازن أســلوبية الفيلــم لــوال زمنــه الطويــل‬
‫(‪ 147‬د)‪ ،‬الــذي قــد تصــب مثــل هــذه التنويعــات يف صالحــه مــن جهــة التشــويق‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫أطفال شاتيال‬

‫رغــم كــرة األفــام التســجيلية التــي تبثهــا املحطــات التلفزيونيــة يف العــامل‪ ،‬إال أن معظــم‬
‫هــذه األفــام يتســم بطابــع أخبــاري بحــت‪ ،‬غالب ـاً مــا تغيــب عنــه اللمســات اإلبداعيــة‪،‬‬
‫التــي مــن شــأنها أن ترتقــي بالشــخصيات واألحــداث الواقعيــة مــن مســتواها «الــردي»‬
‫واملعلومــايت البســيط‪ ،‬إىل مســتواها الــداليل العميــق الــذي يقــوم عــى ســر أبعادهــا‬
‫اإلنســانية والروحيــة والجامليــة‪ ،‬أي كل مــا جعــل الســينام التســجيلية وال يــزال فنـاً راقيـاً‪.‬‬
‫فالســينام التســجيلية هــي «فــن الحقيقــة»‪ ،‬الــذي ال يجعلنــا نعــي الوقائــع فحســب‪ ،‬بــل‬
‫ونتواصــل بأحاسيســنا مــع كل جــزء منهــا‪ ،‬حيــث تتجــرد الرؤيــة مــن حيادهــا‪ ،‬لتســتحيل إىل‬
‫نــوع مــن املعايشــة الصادقــة‪ ،‬والتأمــل يف الــرط الوجــودي لإلنســان‪ .‬وهــذا بالضبــط مــا‬
‫تدعونــا إليــه املخرجــة اللبنانيــة مــي املــري يف فيلمهــا التســجييل القصــر «أطفال شــاتيال»‪.‬‬
‫الشــك أن العنــوان وحــده كفيــل بإنعــاش ذكريــات قاســية مــن فصــول املأســاة الفلســطينية‪.‬‬
‫ذكريــات ال تــزال تفتــح البــاب أمــام أســئلة كثــرة‪ ،‬قــد ال يســتطيع أي فيلــم يف الوقــت‬
‫الراهــن طرحهــا… لكــن الفيلــم يتجــاوز دهاليــز الصمــت والسياســة‪ ،‬لريســم مالمــح عــامل‬
‫يفــرض أننــا نعرفــه ونــدرك كنهــه‪ ،‬فأبطــال الفيلــم أطفــال‪ ،‬يشــبهون كل األطفــال يف العــامل‪.‬‬
‫ذلــك مــا يخيــل لنــا للوهلــة األوىل‪ ،‬إال أننــا بالتدريــج… وكلــا أوغلنــا الرؤيــة يف دروب هــذا‬

‫‪151‬‬
‫العــامل‪ ،‬وبينــا منــي مــع الطفلــن عيــى وفــرح عــر املشــاهد املتتاليــة التــي تبــدو كفيــض‬
‫مــن اآلالم املرتاكمــة‪ ،‬تتملكنــا قناعــة بائســة بالغــن‪ ،‬إذ نــدرك فجــأة ضحالــة معارفنــا بعــوامل‬
‫الطفولــة!! وقــد يتســاءل البعــض فيــا لــو كانــوا أولئــك أطفــاالً حقـاً‪.‬‬
‫األطفــال يف الفيلــم ليســوا مجــرد كائنــات صغــرة‪ ،‬أو رمــوز تحــاول اختــزال مأســاة مباضيهــا‬
‫وواقعهــا‪ ،‬بــل أنهــم يتعــدون ذلــك بكثــر‪ ،‬ليمســوا التجســيد الحــي واليومــي للذاكــرة‬
‫والواقــع واألحــام التــي فجرتهــا هــذه املأســاة‪ ،‬والتــي اســتطاع الفيلــم أن يعكــس بشــفافية‬
‫عاليــة مالمحهــا والرتابــط العضــوي لــكل امتداداتهــا الزمنيــة‪ ،‬يف وعــي يفــرض أنــه مل يــزل‬
‫يف طــور التكويــن‪ ،‬ليصعقنــا بعمــق واتســاق تكوينــه‪.‬‬
‫تواجهنــا الذاكــرة يف الفيلــم منــذ املشــهد األول‪ ،‬فمــن لقطــة بانوراميــة عامــة للمخيــم‪،‬‬
‫تتوقــف الكامــرا أمــام طفــل يــروي لنــا «متذكــرا ً» وهــو يشــر إىل مــكان املجــزرة كيــف‬
‫كانــت اآلليــات تحمــل الجثــث املرتاميــة عــى طــول الشــارع وترمــي بهــا يف الحفــر‪ ،‬وبينهــا‬
‫كانــت خالتــه التــي أطاحــت برأســها بلطــة‪ ،‬ونتســاءل أمل تفتــه حقـاً مشــاهدة طقــوس زراعة‬
‫القتــل ومواســم حصــاد الجثــث يف املخيــات؟ رمبــا… لكــن أال يعنــي ذلــك أن أطفــاالً كانــوا‬
‫يف عمــره عندمــا شــاهدوا بأعينهــم الربيئــة كل هــذا… ومــا زالــوا يتذكــرون؟‬
‫بعــد لقطــات وثائقيــة الجتيــاح بــروت‪ ،‬وأخــرى ملــا خلفتــه املجــزرة مــن آالم ورصخــات‬
‫وجثــث وذهــول‪ ...‬تطــل عــى خلفيــة الشــارة رؤوس األطفــال مــن فجــوات جــدار مهــدم‬
‫مــزق وجهــه الرصــاص‪ ،‬ومــن بينهــا نلمــح عيــى ـ لكننــا ال نعــي بعــد أنــه ســيكون إحــدى‬

‫‪152‬‬
‫الشــخصيات املحوريــة يف الفيلــم‪ ،‬إذ يختلــط عيــى يف اللقطــة مــع أطفــال آخريــن‪ ،‬فهــو‬
‫مجــرد واحــد منهــم‪ ،‬والحالــة التــي ميثلهــا بــكل أبعادهــا متســهم جميعـاً بصــورة أو بأخــرى‪.‬‬
‫ومــع املشــهد التــايل مبــارشة نبــدأ بالتعــرف عليــه عــن كثــب‪ :‬والــده أصيــب بالشــلل‬
‫وتعــذب ومــات‪ .‬ويؤكــد أنــه مــات «لحالــو»… وكأنــه يتكلــم عــن حالــة اســتثنائية للمــوت‬
‫الــذي ارتبــط يف وعيــه بســبب أكــر إقناع ـاً يدعــى القتــل‪.‬‬
‫يف وقفــة العيــد ميضــون جميع ـاً لزيــارة أرضحــة ضحاياهــم ـ يتابــع عيــى ـ ومــن جديــد‬
‫وســط األطفــال الذيــن يزينــون مواقــع األرضحــة نلمــح الطفلــة فــرح كأي فــرد منهــم‪.‬‬
‫فالفيلــم مل يشــأ أن يرســم صــورة مجــردة‪ ،‬أو متجزئــة لعــامل الطفولــة هــذا‪ ،‬عــر حــوارات‬
‫انتقائيــة لعــدد كبــر مــن األطفــال‪ ،‬لكنــه اســتطاع تقديــم صــورة حيــة ومتكاملــة «ملواطنني»‬
‫فحســب مــن ســكان هــذا العــامل‪ ،‬مــا جعلــه أشــد مصداقيــة‪ ،‬وأكــر عمقـاً وتأثــرا ً‪ .‬و بصورة‬
‫دامئــة كان يذكرنــا بشــمولية الحالــة‪ ،‬عــن طريــق انتقالــه مــن «العــام» املتمثــل بحشــود‬
‫األطفــال إىل «الخــاص» املتجســد يف شــخصيتي عيــى وفــرح وبالعكــس‪.‬‬
‫مـع ظهـور كاميرا الفيديـو بين أيديهـم ـ التـي عكسـت رؤيتهـم الخاصـة إىل العـامل املحيـط‬
‫بهـم‪ ،‬ومـا يشـعرون برغبـة يف تثبيته وحفظه يف الصـورة‪ ،‬وكأنهم يحاولون بهـذه الطريقة أال‬
‫تضيـع منهـم بعـض الوجـوه واألشـياء واللحظـات الحميمة ـ نبدأ يف مالمسـة مسـتوى جديد‬
‫مـن الذاكـرة‪ ،‬أو مفهـوم أكثر تعقيـدا ً ميكننـا أن نطلـق عليه أسـم (الذاكرة املشتركة)‪ ،‬حيث‬
‫يبعـث مـايض األجـداد يف ذاكرة األطفال‪ ،‬لتتحـول ذاكرة الجيلني إىل ذاكـرة واحدة ال تنفصم‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫تنتقــل كامــرا الفيديــو بــن أيــدي األطفــال‪ ،‬لنشــاهدهم مــن خــال عدســتها املضطربــة‪،‬‬
‫التــي تتوقــف أخــرا ً أمــام عجــوز يجيبهــم عــى أســئلتهم متذكــرا ً إحساســه يــوم غــادر‬
‫فلســطني‪ ،‬والصعوبــات التــي واجهتهــم يف درب الهجــرة‪ ،‬واألطفــال والعجائــز الــذي ســقطوا‬
‫مــن اإلعيــاء‪ ،‬وبدايــات تشــكيل الفصائــل الثوريــة‪ .‬وفيــا بعــد عندمــا تصــل هــذه الكامــرا‬
‫إىل يــد عيــى‪ ...‬نشــاهد القصــة ذاتهــا تتكــرر‪ :‬عدســة مضطربــة تعــر وجــوه أصدقائــه يف‬
‫الورشــة‪ ،‬ووجــوه األطفــال يف الشــارع‪ ،‬ومــن ثــم يهــرع إىل جــده ليســأله إن كان يحــب‬
‫العــودة إىل فلســطني‪.‬‬
‫لقــد اســتطاعت املخرجــة أن تخلــق املعــادل البــري املنســجم متامـاً يف دالالتــه مــع فكــرة‬
‫(الذاكــرة املشــركة) بــن األجيــال‪ ،‬وذلــك باســتخدامها للمونتــاج غــر املتطابــق يف الصــوت‬
‫والصــورة‪ ،‬ففــي حــن نشــاهد جــد عيــى يبيــع امليــاه والحلويــات يف دكانــه الصغــرة‪،‬‬
‫نســمع يف نفــس الوقــت صــوت عيــى الــذي يخربنــا أن امليــاه تــأيت صفــراء وقــذرة إىل‬
‫شــاتيال‪ .‬ومــن ثــم نشــاهد عيــى جالسـاً يصغــي إىل جــده‪ ،‬ليعــود ويطغــى صــوت عيــى‪،‬‬
‫مشــكالً جــرا ً ننتقــل مــن خاللــه إىل غرفــة «اعرتافاتــه»‪ ،‬حيــث يتابــع تفاصيــل حديثــه مــع‬
‫الجــد‪ ،‬ونعــود مــرة أخــرى إىل غرفــة الجــد وهــو يتابــع الحديــث بصوتــه‪ ،‬لكــن املشــهد‬
‫يختتــم كــا بــدأ بصــوت عيــى‪ .‬وهكــذا تنســاب الذكريــات يف كال االتجاهــن مــن صــورة‬
‫إىل أخــرى ومــن صــوت إىل آخــر‪ ،‬وكأنهــا بهــذه الحركــة تثبــت وجودهــا مؤكــدة عــى أنهــا‬
‫حيــة وباقيــة مــادام بقــي هــؤالء األطفــال أحيــاء‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫إن هــذا األســلوب مل يرتبــط مبشــهد بذاتــه يف الفيلــم‪ ،‬بــل امتــد ليحيــط بالنســيج الدرامــي‬
‫للفيلــم بأكملــه ويحــدد إيقاعــه‪ .‬فبنفــس اآلليــة نتابــع الذاكــرة يف تنقلهــا بــن فــرح وجدتهــا‪،‬‬
‫التــي كانــت يف الرابعــة مــن عمرهــا عندمــا أتــت إىل لبنــان مــع أهلهــا‪ ،‬فعندمــا ســمع‬
‫جدهــا مبجــزرة ديــر ياســن خــاف عــى أطفالــه «قــام قــال لــروح ع لبنــان بتكــون هديــت‬
‫األحــوال…» وتنهــي فــرح املشــهد بكلامتهــا‪…« :‬وبعدهــن لهلــق بقولــوا بكــره مرنجــع ع‬
‫فلســطني»‪.‬‬
‫ونالحــظ أن هــذه الجمــل املونتاجيــة الثالثــة‪ :‬األطفــال والعجــوز‪ ،‬وعيــى وجــده‪ ،‬وفــرح‬
‫وجدتهــا‪ ،‬رغــم أنهــا ال تتبــع بعضهــا مبــارشة‪ ،‬إال أن ارتباطهــا كان واضحـاً متامـاً ســواء مــن‬
‫ناحيــة الشــخصيات (األطفــال والعجائــز) أم الحــدث الــذي تســتنهضه ذاكرتهــم املشــركة‬
‫عــا دفعهــم للخــروج مــن فلســطني‪.‬‬
‫وقبــل أن تأخذنــا املخرجــة إىل ذاكــرة أكــر حضــورا ً‪ ،‬تعــود لتؤكــد عالقــات الخــاص والعــام‬
‫يف الفيلــم وتشــابكها‪ .‬فمــن املشــهد الــذي نــرى فيــه عيــى وفــرح مع ـاً ألول مــرة‪ ،‬تنقلنــا‬
‫مبــارشة إىل مشــهد نراهــا فيــه يلعبــان مــع أطفــال آخريــن‪ .‬وبعــد ذلــك فقــط نســمع‬
‫صوتيهــا وهــا يســتحرضان الذاكــرة يف مشــهدين منفصلــن يجمعهــا «الحــدث» مــن‬
‫جديــد‪.‬‬
‫تخربنــا فــرح عــن مقتــل خاليهــا محمــد وأحمــد يف حــرب املخيــات‪ ،‬لتتابــع أمهــا التفاصيــل‬
‫املؤملــة‪ :‬لقــد استشــهد أخاهــا محمــد قبــل أن تتــم فــرح عامهــا األول بأربعــة أشــهر‪ ،‬دون أن‬

‫‪155‬‬
‫يســتطيع الوفــاء بوعــده عنــد والدتهــا‪ ،‬واالحتفــال بعيــد ميالدهــا… تتوقــف الكامــرا عــى‬
‫وجــه فــرح التــي يبــدو أنهــا كــرت كثــرا ً منــذ ذلــك الحــن‪ ،‬ودون أن تحظــى بعيــد ميــاد‬
‫واحــد للذكــرى‪ ،‬فمثــل هــذه الذكريــات ليســت لفــرح‪ ،‬التــي تحتفــظ بــدالً عنهــا بصــورة‬
‫مــن إحــدى الصحــف لعمتهــا التــي استشــهدت يف االجتيــاح اإلرسائيــي وقــد كتــب فوقهــا‬
‫«األم تستشــهد والطفــل يولــد حيـاً»‪.‬‬
‫أمــا عيــى فيجلــس مــع جــده‪ ،‬صوتاهــا يتداخــان‪ ،‬يتذكــران شــهداءهام أمــام صــور كبــرة‬
‫لهــم‪ ،‬فخالــه أحمــد كان واحــدا ً مــن ضحايــا املجــزرة‪ ،‬وخالــه محمــد قطعــت قذيفــة رقبتــه‪،‬‬
‫وعمتــه نعمــت ســقطت بطلقــة طائشــة… وال يخلــو تشــابه أســاء خــايل فــرح وعيــى مــن‬
‫داللتــه الرمزيــة حــول شــمولية الحالــة‪ ،‬والتــي يؤكدهــا الجــد يف نهايــة املشــهد بقولــه أن يف‬
‫كل البيــوت شــهداء…‬
‫هكــذا يصبــح األطفــال يف الفيلــم ذاكــرة حيــة ملأســاة عمرهــا خمســون عامـاً‪ ،‬ذاكــرة تزخــر‬
‫بالجثــث املشــوهة واألحــزان‪ ،‬بصــور التهجــر واملقاومــة‪ ،‬وصــور الشــهداء املعلقــة عــى‬
‫الجــدران الكئيبــة‪ ،‬وقــد احتفظــوا بقصــة عــن كل منهــا‪ ،‬ويف كل واحــدة تعرفــوا عــى وجــه‬
‫للمــوت مغايــر للــذي ســبقه يف تقاســيم القباحــة والقســوة والوحشــية‪.‬‬
‫ذاكــرة كل مــا فيهــا مــؤمل ومرعــب‪ ،‬لكــن األمل مل يعــد يخيــف الفلســطينيني‪ ،‬لقــد اعتــادوه‬
‫وألفــوه منــذ زمــن بعيــد‪ ،‬أو يخــال إلينــا أنــه بعيــد‪ ،‬وأمــى جــزءا ً مــن طعامهــم ورشابهــم‬
‫وأحاديثهــم وضحكاتهــم وأغانيهــم‪ ،‬لقــد أمــى جــزءا ً مــن جيناتهــم‪ ،‬وأطفالهــم يحملونــه‬

‫‪156‬‬
‫اليــوم وســيحملونه طوي ـاً مبحــض الوراثــة‪ ،‬ولعــل يف هــذا يكمــن اللغــز يف قــدرة هــؤالء‬
‫األطفــال عــى العيــش مــع كل هــذه الذاكــرة‪.‬‬
‫لقــد اســتطاع الفيلــم عــر الكثــر مــن التفاصيــل الصغــرة أن يرســم بصــورة دقيقــة مالمــح‬
‫الواقــع الــذي يعيــش يف خضمــه أطفــال شــاتيال‪ ،‬هــذه املالمــح التــي كانــت تنتصــب عــى‬
‫خلفيــة مشــاهد الفيلــم حين ـاً‪ ،‬وتغــدو موضوع ـاً للمشــهد نفســه حين ـاً آخــر‪ ،‬وصلــت إىل‬
‫ذروة العمــق والتعبــر يف مجموعــة مــن املشــاهد املتفرقــة التــي شــكلت خطــاً دراميــاً‬
‫متكام ـاً يف غاياتــه‪ ،‬يقــوم عــى رصــد لحظــات الســعادة العابــرة التــي يحــاول األطفــال‬
‫رسقتهــا مــن براثــن هــذا الواقــع‪ ،‬كالنزهــة عــى عربــة الطفــل غــازي الــذي يعمــل يف نقــل‬
‫الرمــال والحجــارة وبيعهــا ألصحــاب البيــوت املهدمــة‪ ،‬أو مشــاهدة فرقــة اســتعراضية‬
‫أتــت مــن أوربــا ليــوم واحــد ومضــت‪ ،‬وغريهــا مــن املشــاهد التــي منحهــا ثقلهــا الدرامــي‬
‫وقوتهــا مشــهد أويل يــرز بوضــوح ذلــك التبايــن الصــارخ بــن مــا قــد توحيــه إلينــا عيــون‬
‫األطفــال الفرحــة وابتســاماتهم وضحكاتهــم مــن وهــم الســعادة‪ ،‬وبــن اإلحســاس الحقيقــي‬
‫بــاألمل الكامــن يف أعامقهــم‪ .‬ونقصــد تحديــدا ً مشــهد اســتئجار عيــى لدراجــة يلهــو بهــا‪،‬‬
‫فــإذ نشــاهده يعــر بدراجتــه خرائــب املخيــم وشــوارعه القــذرة واملوحلــة‪ ،‬نســمع صوتــه‬
‫يخــرق املشــهد… ونعلــم أن مثــة لحظــات تتملــك فيهــا الكراهيــة هــذا الطفــل نحــو كل يش‪:‬‬
‫البيــت واآلخريــن وحتــى نفســه‪ ،‬ليلعــن اللحظــة التــي جــاء فيهــا إىل هــذا العــامل‪ .‬يعــرف‬
‫عيــى بهــذه الحقيقــة‪ ،‬لنكتشــف أن الخرائــب التــي تعشــش يف روحــه أكــر بكثــر مــن تلــك‬

‫‪157‬‬
‫التــي نراهــا يف كل بيــت وســاحة وزاويــة للمخيــم‪ ،‬وأن مــا يبــدو لنــا كشــكل للفــرح ليــس‬
‫إال ألوان ـاً زاهيــة للحــزن‪.‬‬
‫لقــد قــدم الفيلــم صــورا ً متعــددة عــن أقــى مــا ميكــن أن يحظــى بــه أطفــال شــاتيال مــن‬
‫الفــرح يف ظــل واقعهــم‪ ،‬وجعلنــا نالمــس االنكســارات الكبــرة التــي خلفهــا هــذا الواقــع يف‬
‫نفوســهم‪ ،‬لنســتنتج بأنفســنا الحجــم املأســاوي ملعاناتهــم‪.‬‬
‫الفيلــم الــذي بــدأ مبشــاهد مفتوحــة عــى ذكريــات املــايض‪ ،‬انتهــى مبشــاهد األحــام املرشعة‬
‫عــى املســتقبل‪ .‬ومل تفــرض هــذه الصيغــة نفســها كإطــار زمنــي ذي قيمــة شــكلية للفيلــم‬
‫فحســب‪ ،‬بــل تجــاوزت ذلــك للتعبــر عــن التداخــل العضــوي لجميــع مســتويات الزمــن‬
‫يف وعــي األطفــال‪ .‬فالفيلــم كــا قــام بالربــط بــن الذاكــرة والواقــع‪ ،‬قــام بواســطة هــذه‬
‫الصيغــة بالربــط بــن الحلــم والذاكــرة مــن جهــة‪ ،‬والحلــم والواقــع مــن جهــة أخــرى‪.‬‬
‫فمــن إحــد املشــاهد األوىل يف الفيلــم‪ ،‬تظهــر حــوارت األطفــال مــع العجــوز‪ ،‬وهــي تحمــل‬
‫أســئلة عــن املــايض‪ ،‬وأســئلة للمســتقبل يف آن واحــد‪ .‬ومــع هــذه األســئلة األخــرة يبــدأ‬
‫الفيلــم يف رســم األحــام املشــركة‪ ،‬كــا رأينــاه يرســم الذاكــرة املشــركة‪ .‬فرغــم إحساســه‬
‫الداخــي أن شــخصاً يف مثــل عمــره قــد ال يــرى فلســطني أبــدا ً‪ ،‬يقــول العجــوز لهــم أنــه لــن‬
‫يفقــد األمــل حتــى ولــو بلــغ املائــة‪ ،‬وال يتــواىن حتــى عــن إخبارهــم مبشــاريعه الكبــرة عنــد‬
‫العــودة‪ ،‬إذ كل مــا يســتطيعه اآلن هــو اإلبقــاء عــى الحلــم‪ ،‬وبعثــه يف أرواحهــم‪ .‬لتنتهــي‬
‫اللوحــة مــع مشــاهد الفيلــم األخــرة حيــث نعيــش الحلــم ذاتــه مجــددا ً‪ ،‬لكــن هــذه املــرة‬

‫‪158‬‬
‫مــع األطفــال‪ ،‬وهــم يرســمون فلســطني التــي يحلمــون بإعــادة كل يش فيهــا إىل مــا كان‬
‫عليــه‪ :‬األرض والبيــوت‪ ،‬بــل وحتــى «النــاس يــي أكلوهــن… يرجعوهــن زي مــا كانــوا»‪.‬‬
‫ومــع كلــات عيــى األخــرة‪« :‬بلــي لقيــت العصافــر هنيــك غــر هــدول… هلــق عنــدك‬
‫عصفــور بتعــرف العصفــور يــي بــره شــو بــدو يكــون لونــو… بتمنــى أنــو يرجعونــا عالبلــد‬
‫يــي ألنــا»‪ ،‬نشــاهد فــرح أمــام لوحــة جداريــة تعــج باأللــوان الصارخــة الزاهيــة لفلســطني‬
‫كــا يحــب هــؤالء األطفــال أن يروهــا‪ .‬فالحلــم هنــا ال يــرز كامتــداد للذاكــرة فحســب‪ ،‬بــل‬
‫وكبديــل بصورتــه الجميلــة للواقــع البشــع‪ ،‬الــذي أخــذ يصــوغ حتــى أحالمهــم الشــخصية‪.‬‬
‫فــإذا كانــت فــرح تحلــم يف أن تصبــح طبيبــة‪ ،‬فذلــك ألنهــا تكــره رؤيــة الصغــار يتأملــون‪،‬‬
‫وهــي إذ تــرى أطفــاالً ينتشــلون املالبــس مــن وســط القاممــة‪ ،‬وآخريــن يعملــون يف تصليــح‬
‫األحذيــة‪ ،‬تعلــم كــم مــن الصغــار يف املخيــم يتأملــون‪ .‬ولعــل هــذا القبــح هــو الــذي يدفــع‬
‫بهــا يف بعــض األحيــان إىل إغــاض عينيهــا عــن العــامل لرؤيــة األطيــاف الجميلــة املرتاقصــة‬
‫يف العتمــة… كــا تدفــع عيــى للحلــم بــأن يكــون أمــرا ً يقــود فرســه يف الشــوارع ويــوزع‬
‫األمــوال عــى النــاس‪ .‬األطفــال هــم الركــن األشــد ظلمــة يف املأســاة‪ ،‬ولكــن مــن هــذا الركــن‬
‫بالــذات تتوالــد أكــر اإلرشاقــات صدق ـاً وتألق ـاً ودفئ ـاً‪ .‬لقــد اســتطاع الفيلــم أن يبــث فينــا‬
‫هــذا الشــعور‪ ،‬ليســيطر علينــا دون أن يفارقنــا للحظــة واحــدة منــذ اللقطــة األوىل‪ ،‬وحتــى‬
‫املشــهد األخــر‪ .‬واعتقــد أن هــذه الفكــرة قــد متثلــت بصــورة أو بأخــرى يف وعــي املخرجــة‬
‫وشــكلت الهاجــس الحقيقــي وراء خيارهــا ملوضوعــة الفيلــم‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫يف الفيلــم بأكملــه كان مثــة خطــان أساســيان يتوازيــان حينـاً ويتقاطعــان حينـاً آخــر‪ ،‬لريســا‬
‫مالمــح الطفولــة يف املخيــم بذاكرتهــا وواقعهــا وأحالمهــا‪ ،‬الخــط األول تبــدى يف الحــوار‬
‫املبــارش مــع الشــخصيتني الرئيســيتني عيــى وفــرح‪ ،‬والثــاين يف حــوار هذيــن الطفلــن مــع‬
‫اآلخريــن‪ .‬لكــن الفيلــم خــرج يف بعــض املشــاهد‪ ،‬التــي ارتبطــت بالحــوارات املبــارشة مــع‬
‫والــدي فــرح عــن املوضوعــة التــي طرحهــا بنفســه‪ ،‬وبصــورة أكــر مــع الســياق العــام‬
‫ألســلوبه‪ .‬وعــى الرغــم مــا تنضــح بــه هــذه الحــوارات مــن ذكريــات قاســية عــن الحــرب‬
‫األهليــة‪ ،‬ووقائــع ال تقــل قســوة يعايشــها الالجئــون بصــورة يوميــة‪ ،‬وأحــام تحــاول‬
‫أال تتكــر عــى مشــارف الواقــع‪ ،‬وعــى الرغــم مــن املســتوى التعبــري الرائــع واملــيء‬
‫بالــدالالت والرمــوز الــذي وصلــت إليــه املخرجــة يف اختيارهــا ومونتاجهــا للمشــاهد التــي‬
‫ترافقــت والحــوار مــع والــد فــرح‪ ،‬والجوانــب املأســاوية لحيــاة الالجئــن الفلســطينيني يف‬
‫لبنــان التــي يعريهــا هــذا الحــوار‪ ،‬إال أننــا ندخــل هنــا يف مســتوى آخــر مــن الوعــي ذي‬
‫أبعــاد مختلفــة يف جوهرهــا عــن ذاك الــذي نتعامــل معــه يف الســياق الداخــي للفيلــم‪ ،‬وإن‬
‫تقاطــع معــه يف الكثــر مــن الجوانــب‪.‬‬

‫مجلة «الفن السابع» املرصية ‪.2001‬‬

‫‪160‬‬
‫ملا حكيت مريم‬

‫قــد تبــدو املوضوعــة التــي يالمســها الفيلــم األول للمخــرج اللبنــاين الشــاب أســد فــوالدكار‬
‫«ملــا حكيــت مريــم» شــديدة البســاطة‪ ،‬قصــة مكــررة مل تــزل تعيــد نفســها‪ ،‬حدثــت وتحدث‬
‫وســتحدث مــادام الكثــر مــن املفاهيــم والقيــم الذكوريــة املتخلفــة تســيطر يف مجتمعاتنــا‬
‫العربيــة‪ .‬ومــن هنــا يتســاءل املــرء مــا الــذي دفــع املخــرج للخــوض يف موضوعــة تــم التطرق‬
‫إليهــا ســابقاً يف عــدد غــر قليــل مــن األفــام واملسلســات التلفزيونيــة العربيــة؟ الســبب‬
‫فيــا أعتقــد رغبــة املخــرج يف تقديــم هــذه املوضوعــة التقليديــة مــن خــال رؤيتــه الخاصــة‬
‫ســواء عــى مســتوى الطــرح أو عــى مســتوى املعالجــة الفنيــة‪.‬‬
‫فعــى املســتوى األول نجــد فــوالدكار يركــز عــى التحــوالت التــي تطــرأ شــيئاً فشــيئاً عــى‬
‫الزوجــن زيــاد (طــال الجــارودي) ومريــم (برناديــت حديــب)‪ ،‬وتغــر نظرتهــا تجــاه‬
‫مشــكلة عقــر مريــم وزواج زيــاد مــن أخــرى‪ ،‬ليؤكــد مــن خــال هــذه التحــوالت عــى تلــك‬
‫الســطوة الهائلــة التــي متارســها مجتمعاتنــا عــى أفرادهــا ليبــدوا مســتلبي اإلرادة متامـاً أمــام‬
‫العقــل الباطنــي الجمعــي لهــذه املجتمعــات‪.‬‬
‫ففــي البدايــة ال تبــدو مســألة عــدم اإلنجــاب تشــغل الزوجــن عــى اإلطــاق‪ ،‬ويبــدو الحــب‬
‫الــذي يجمعهــا قــادرا ً عــى أن يبقيهــا معـاً حتــى أخــر لحظــات حياتهــا‪ .‬لكــن مــا الــذي‬

‫‪161‬‬
‫يتغــر…؟ مــا الــذي يدفــع مريــم التــي ال تثــق بخرافــات املشــعوذين إىل اإلميان بهــا بالتدريج‬
‫وبصــورة مطلقــة؟ ومــا الــذي يجعــل زيــادا ً يخضــع يف نهايــة األمــر إىل رغبــات أمــه التــي‬
‫تتحــول إىل رغبتــه هــو نفســه بإنجــاب طفــل مــن صلبــه؟ إن مل يكــن ذاك العقــل الباطنــي‬
‫الجمعــي الــذي يدفعهــا إىل االنســياق نحــو ذات األوهــام والتصــورات التــي رفضاهــا يف‬
‫البدايــة؟ ولعــل ظهــور األمهــات يف الفيلــم بوصفــه محرضـاً أساســياً لهــذا االنســياق ال يخلــو‬
‫مــن الداللــة‪ ،‬إذ تبــدو املــرأة وكأنهــا تدعــم ذات القيــم التــي تغــذي قهرهــا مــن خــال‬
‫متاهيهــا معهــا أو الخضــوع لهــا‪ .‬واملخــرج مــن خــال هــذا الطــرح يقــدم الواقــع كــا هــو‬
‫عليــه‪ ،‬ال كــا يريــد ويتمنــى الكثــرون لــه أن يكــون‪ ،‬فيبتعــد عــن تقديــم منــاذج اســتثنائية‬
‫أو بطوليــة‪ ،‬رغــم وجودهــا هــي األخــرى يف مجتمعاتنــا‪ ،‬غــر أنهــا بالتأكيــد ال متثــل حالــة‬
‫عامــة وال تعكــس عمــق املشــكلة ومأســويتها‪.‬‬
‫أمــا عــى املســتوى الثــاين فيظهــر متيــز الفيلــم الحقيقــي‪ ،‬وهــو يــأيت مــن األســلوب التهكمــي‬
‫الســاخر الــذي يســلط فــوالدكار األضــواء مــن خاللــه عــى اإلشــكالية موضــوع الفيلــم‪ .‬إذ‬
‫يظهــر موهبــة رفيعــة ومقــدرة كبرية يف إدارة املشــاهد والشــخصيات مبا ينســجم واألســلوب‬
‫الــذي اختــاره‪ .‬وال شــك أن تقديــم إشــكالية ذات بعــد مأســاوي بأســلوب تهكمــي ســاخر أمر‬
‫شــديد التعقيــد وينطــوي عــى مغامــرة غــر محمــودة العواقــب ـ وأن يواجهــه مخــرج يف‬
‫عملــه األول لهــو شــجاعة كبــرة ـ إذ يتطلــب توازن ـاً دقيق ـاً وانســجاماً هائ ـاً بــن بعديــه‬
‫املأســاوي والســاخر يك ال يختــل متاســك الفيلــم وإيقاعــه‪ .‬وإذا كان فــوالدكار قــد نجــح عموماً‬

‫‪162‬‬
‫يف املحافظــة عــى هــذا اإليقــاع ألكــر مــن منتصــف الفيلــم‪ ،‬غــر أن متاســكه بــدأ يختــل يف‬
‫الجــزء الثالــث منــه لصالــح الجانــب املأســاوي‪ .‬ويف الواقــع كان مثــة عنــر آخــر يصــب يف‬
‫ذات الجانــب منــذ بدايــة الفيلــم‪ ،‬أال وهــو املوســيقا التــي غلفــت الكثــر مــن املشــاهد‬
‫بنغــات مبالــغ يف عاطفيتهــا‪ ،‬بــدت متناقضــة متامـاً مــع روح الفيلــم ومزاجــه العــام الــذي‬
‫ظهــر حتــى يف ذلــك املشــهد ـ حيــث يقــوم زيــاد بغســل مريــم ـ الــذي يتكــرر كالزمــة‬
‫طيلــة الفيلــم ونحــن نعتقــد أنــه نــوع مــن التواصــل الحميــم‪ ،‬لنكتشــف يف النهايــة أنــه عــى‬
‫العكــس متام ـاً‪ ،‬ميثــل لحظــة الفــراق املــؤمل‪ ،‬إذ يقــوم بغســلها قبيــل دفنهــا‪ .‬لتحمــل هــذه‬
‫املفارقــة النكهــة املأســاوية ـ التهكميــة ذاتهــا التــي صبغــت الفيلــم‪.‬‬
‫وقــد اســتطاع فيلــم «ملــا حكيــت مريــم» الــذي تــم إنتاجــه بصــورة مشــركة بــن املخــرج‬
‫والجامعــة األمريكيــة يف بــروت بكلفــة مل تتجــاوز ‪ 15‬ألــف دوالر أن يحصــد عــددا ً مــن‬
‫الجوائــز الهامــة يف املهرجانــات الكثــرة التــي طافهــا‪ ،‬كجائــزة أفضــل فيلــم يف مهرجــان‬
‫اإلســكندرية الســيناميئ‪ ،‬وجائــزة الجمهــور يف مهرجــان فيــزول للســينام اآلســيوية‪ ،‬وجائــزة‬
‫النقــاد يف مهرجــان مونبليــه وكالهــا يف فرنســا‪ .‬األمــر الــذي يؤكــد أهميــة هــذه التجربــة‬
‫األوىل للمخــرج فــوالدكار التــي حملــت يف طياتهــا رؤى إبداعيــة متميــزة تنبــؤ بــوالدة‬
‫مخــرج موهــوب‪.‬‬

‫جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬

‫‪163‬‬
‫زفاف رنا‬

‫كيـف ميكـن ألمـر عـادي وبسـيط يجـري يف كل لحظـة ويف كل بقعـة مـن األرض ـ كالزفاف ـ‬
‫أن يتجلى يف مـكان تعيـش كل زاويـة مـن زوايـاه‪ ،‬كل بيـت وحـارة وجامع وكنيسـة ومقهى‬
‫ورصيـف وحافلـة ظروفـاً غير اعتياديـة ميليهـا واقع االحتلال والقمـع والقهر الذي يعايشـه‬
‫الفلسـطينيون على مـدار الثانيـة‪ .‬انطالقـاً مـن هـذه الفكـرة يأخذنـا املخـرج هاين أبو سـعد‬
‫لنتابـع خطـوة بخطـوة تحضيرات رنا وعشـيقها خليـل لزفافهام على خلفية تعـج بالتفاصيل‬
‫واملواقـف السـاخرة واملريـرة يف آن معاً‪ ،‬لنشـهد بانوراما زاخـرة للحياة الفلسـطينية اليومية‬
‫ومنغصاتهـا حيـث كل شـئ معقـد ومـؤمل واسـتثنايئ‪ .‬فالحصـول على وثيقـة ما قد يـؤدي إىل‬
‫سـحب الهويـة‪ ،‬وإغلاق الحواجـز ميكنـه أن مينـع يف أي وقـت رنـا وخليـل ـ واآلالف معهم ـ‬
‫مـن أن يلتقيـا‪ ،‬واملواجهـة بين حجـارة األطفال ورشاشـات الجنـود ال أكرث مـن تقاطع طريق‪،‬‬
‫وحيـث الجنائـز واالعتقـاالت واإلصابـات واملواطنون املسـلحون من اليهود واحتلال البيوت‬
‫وكاميرات املراقبـة‪ ،‬كلهـا مجـرد تفاصيـل «صغيرة» يف املشـهد العـام‪ ،‬الـذي تصبـح فيـه أي‬
‫رصخـة غضـب كفيلـة باسـتفزاز أسـلحة الجنود اإلرسائيليين‪ ،‬وال ميكن أن يفسر وجود كيس‬
‫نايلـون منسي على جانـب الطريق بأقـل من قنبلـة تسـتنفر الجميع‪.‬‬
‫قــدم أبــو ســعد هــذه البانورامــا املأســاوية بأســلوب تهكمــي‪ ،‬وبشــفافية عاليــة تنــأى عــن‬

‫‪164‬‬
‫الشــعاراتية واملبــارشة والخطابيــة‪ ،‬عــى خلفيــة قصــة إنســانية بســيطة تنتهــي بزفــاف رنــا‬
‫عــى الرغــم مــن كل هــذا الكــم مــن الكوابيــس اللحظيــة‪ ،‬بإشــارة لعلهــا ال تقبــل التأويــل‬
‫إىل انتصــار الحــب عــى الكراهيــة والحيــاة عــى املــوت‪.‬‬
‫لكــن هــل كانــت قصــة الزفــاف عاديــة حقـاً؟ يف الواقــع ليــس متامـاً‪ .‬فاإلشــكالية كــا يقدمهــا‬
‫الفيلــم يف بدايتــه تكمــن يف رفــض والــد رنــا للشــخص الــذي اختارتــه‪ ،‬ليقــدم لهــا بــدالً مــن‬
‫ذلــك الئحــة تتضمــن أســاء نخبــة مــن وجــوه البلــد مــن محامــن وأطبــاء ومهندســن يك‬
‫تختــار أحدهــم للــزواج‪ ،‬وإال فســوف يصطحبهــا معــه إىل مــر عنــد الســاعة الرابعــة ـ‬
‫موعــد ســفره‪.‬‬
‫واتضـح مـن سـياق الفيلـم أنه مل يكـن يف نيته على اإلطالق معالجـة موضوعة القهـر األبوي‪،‬‬
‫لذلـك أصبـح مـن البديهـي التسـاؤل عن سـبب إقحامهـا يف نسـيجه‪ ،‬واإلخالل بقـوة املفارقة‬
‫الدراميـة التـي قدمهـا وأرشنـا إليهـا بدايـة‪ .‬رغـم أنـه مـن الصعـب تقبل ذلـك وتربيـره فنياً‪،‬‬
‫لكـن ميكـن على األقل تفهمـه‪ ،‬إذ بدت هذه املوضوعة اإلشـكالية ـ وخاصـة عندما ُربط حلها‬
‫بفترة زمنيـة قصيرة تسـبق موعـد سـفر األب ـ رضوريـة ومناسـبة متامـاً مـن أجـل التصعيد‬
‫الدرامـي يف الفيلـم القـادر على اإلحاطـة بحجم التفاصيل التـي قدمها‪ ،‬ولهذا السـبب بالذات‬
‫مل يأبـه املخـرج إىل غيـاب املنطـق يف موافقـة األب على خيـار ابنتـه بهذه الرسعة والبسـاطة‬
‫مـع نهايـة الفيلـم‪ .‬فهـل كان مـن الصعـب إيجـاد «قصـة عاديـة» حقـاً تحقـق تلـك اإلحاطـة‬
‫بواقـع اسـتثنايئ دون الحاجـة إىل هـذه الدرجـة مـن التأزيم التـي تطلبتها قصـة الفيلم؟‬

‫‪165‬‬
‫ثــم أليــس غريبـاً أن يبــدو إيقــاع الفيلــم شــديد الرتابــة بالنســبة إىل قصة متأزمــة تطلبت من‬
‫رنــا البحــث عــن عشــيقها والذهــاب إليــه يف الخليــل واتخاذهــا قــرار الــزواج والبحــث عــن‬
‫املــأذون وإحضــار ثــوب العــرس وإجــراء املعامــات القانونيــة وإقنــاع والدهــا بالــزواج…‬
‫وكل ذلــك خــال بضــع ســاعات‪ ،‬أو بالنســبة للواقــع األكــر تأزم ـاً الــذي يــدور الحــدث يف‬
‫إطــاره ويتأثــر بقــوة بــكل جزيئاتــه‪.‬‬
‫أعتقــد أن الســبب وراء تلــك الرتابــة يعــود مــن ناحيــة إىل أن الحــوار افتقــد يف معظــم‬
‫أجــزاء الفيلــم إىل الحــرارة والصدقيــة‪ ،‬ســواء عــى مســتوى نــص الســيناريو أم أداء املمثلــن‪،‬‬
‫فظهــر بــاردا ً باهت ـاً مقتطع ـاً إىل أقــى درجــة‪ ،‬لذلــك مل يســتطع إشــباع اللقطــات بزخــم‬
‫الحالــة التــي تواجههــا الشــخصيات وعكــس تأزمهــا‪ ،‬فأضطــر املخــرج إىل مــلء هــذا الفــراغ‬
‫بلقطــات مطولــة مــن التأمــل كــا يف مشــهد الجنــازة حيــث تتوقــف رنــا مذهولــة بصــورة‬
‫غــر مفهومــة وســط املشــيعني‪ ،‬وكأنهــا تــرى ألول مــرة يف حياتهــا شــيئاً كهــذا‪ ،‬أو الصمــت‬
‫كــا يف مشــهد الســيارة التــي تحملهــم مــن طريــق إىل آخــر‪ .‬ومــن ناحيــة أخــرى إىل الثغرات‬
‫التــي تخللــت اإلخــراج‪ ،‬فبــدت فكــرة العديــد مــن املواقــف الدراميــة التهكميــة أقــوى مــن‬
‫الطريقــة اإلخراجيــة التــي نفــذت بهــا كمشــهد لقــاء رنــا لخليــل يف املــرح عــى ســبيل‬
‫املثــال‪ .‬أمــا االنتقــال مــن الحالــة الخاصــة يف مشــهد كامــرا املراقبــة التــي تتقنــص تحــركات‬
‫رنــا وخليــل يف الشــارع‪ ،‬إىل حالــة عامــة تعكــس مالحقتهــا لنوافــذ البيــوت وأســطحتها يف‬
‫كل مــكان مل يكــن فقــط عديــم الجــدوى ألن مثــل هــذا التعميــم يســتطيع أي مشــاهد‬

‫‪166‬‬
‫أن يســتنتجه ذهني ـاً‪ ،‬بــل وأضعــف مــن أهميــة الحالــة األوىل وعمقهــا وفاعليتهــا‪ .‬دون أن‬
‫ننــى تلــك املشــاهد التــي نفــذت بطريقــة تركيبيــة مفتعلــة كمشــهد املواجهــة بــن الجنــود‬
‫اإلرسائيليــن واألطفــال‪ ،‬الــذي ميكــن ألي لقطــة تســجيلية ـ أخباريــة أن تتفــوق عليــه ســواء‬
‫عــى مســتوى تأثريهــا يف املشــاهدين أو تركيبهــا الجــايل‪.‬‬
‫«زفــاف رنــا» حمــل فكــرة جميلــة ومذهلــة‪ ،‬لكــن لألســف مل تســتطع عنــارصه مــن درامــا‬
‫وحــوار ومتثيــل وإيقــاع وإخــراج أن ترتقــي بهــا ســينامئياً إىل مســتواها‪.‬‬

‫جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬

‫‪167‬‬
‫جواز بقرار جمهوري‬

‫كثــرة القضايــا التــي يســلط املخــرج خالــد يوســف الضــوء عليهــا يف فيلمــه الثــاين «جــواز‬
‫بقــرار جمهــوري»‪ ،‬مــن اإلهــال والتهميــش الــذي تعيشــه األحيــاء الشــعبية الفقــرة‬
‫وســكانها مــن قبــل الســلطة إىل فســاد املســؤولني وســطوة األجهــزة األمنيــة‪ ،‬واألهــم تلــك‬
‫الصــورة التــي يرســمها لشــخصية رئيــس الجمهوريــة يف نظــام شــبه شــمويل يؤهلــه لإلمســاك‬
‫بجميــع مفاتيــح الحــل والربــط حتــى ليمــي إله ـاً كيل القــدرة بنظــر الجميــع‪.‬‬
‫كل ذلــك يالمســه الفيلــم بشــفافية مــن خــال قصــة بســيطة تنشــأ بإرســال هــاين رمــزي‬
‫بطاقــة دعــوة إىل عرســه لرئيــس الجمهوريــة الــذي يقــرر فعــاً حضــور العــرس‪ ،‬فتبــدأ‬
‫التحضــرات لهــذا «الحــدث التاريخــي» وتتفجــر معهــا شــتى املفارقــات الســاخرة واملريــرة‬
‫يف آن معـاً‪ ،‬إذ تنقلــب الحيــاة رأسـاً عــى عقــب يف الحــي حيــث ســتجري مراســم العــرس‪،‬‬
‫بعــد أن تحــول إىل ورشــة لإلصــاح والتحديــث‪ ،‬فتعبــد الشــوارع وتبلــط األرصفــة وتدهــن‬
‫جــدران املنــازل املتداعيــة وتثبــت مصابيــح اإلضــاءة وتشــجر الزوايــا وترمــم التمديــدات‬
‫الصحيــة وحتــى أســم الشــارع يبــدل مــن ميمــون القــرد إىل ميمــون بــك القــرد!! لكــن ليــس‬
‫ذلــك وحــده مــا يشــغل بــال أهــل الحــي‪ ،‬فترتاكــم عــى طاولــة رمــزي آالف األوراق التــي‬
‫تحمــل همومهــم وأحالمهــم واحتياجاتهــم يك يســلمها ليــد الرئيــس عنــد لقائــه معــه‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫غــر أن الســيناريو مل يســتطع إشــباع هــذا الخــط رغــم غنــاه بالتفاصيــل والتوســع فيــه‪،‬‬
‫فاضطــر إىل إقفالــه مؤقتـاً ـ بحجــة الخــوف مــن االنفــات األمنــي الــذي قــد يحــدث يف الحي‬
‫ونقــل العــرس إىل أحــد الفنــادق‪ ،‬لتتوقــف عمليــات اإلصــاح وتســتبدل بإجــراءات معاكســة‬
‫تعيــد الحــي إىل مــا كان عليــه مــن قبــل‪ .‬وينتقــل الفيلــم إىل خــط أخــر‪ ،‬فبعــد أن أصبــح‬
‫العــرس الــذي ســيحرضه الرئيــس موضــوع الســاعة الــذي يتداولــه املجتمــع واإلعالم‪ ،‬ينشــب‬
‫خــاف بــن العروســن ويقــرران االنفصــال‪ ،‬مــا يهــدد بإلغــاء «الحــدث التاريخــي» املنتظــر‪،‬‬
‫وهــو مــا ال ميكــن أن تســمح الســلطة بــه‪ ،‬وتعمــل جاهــدة إىل رأب الصــدع الناشــئ بينهــا‬
‫تــارة بالــكالم الجميــل واملفاوضــات‪ ،‬وتــارة أخــرى بالتهديــد والوعيــد وحبــك املؤامــرات‪.‬‬
‫إىل أن تنجــح أخــرا ً مبؤامــرة تعــول عــى اســتيقاظ الحــب بينهــا‪ ،‬وهــو مــا يحــدث ليمضيــا‬
‫إىل العــرس الــذي أقيــم يف الحــي الشــعبي نفســه بعــد أن رصح الرئيــس برغبتــه يف رؤيــة‬
‫«النــاس الغالبــة عايشــة إزاي»‪ ،‬وبالطبــع هــو ـ القــادم مــن املريــخ ـ لــن يــرى ذلــك بعــد‬
‫أن تــم تلميــع الحــي وتجميلــه‪ .‬أمــا رمــزي فلــم ينــس الطلبــات والتوصيــات املرتاكمــة يف‬
‫غرفتــه‪ ،‬فيحملهــا مبســاعدة الغالبــة أنفســهم ويقدمهــا للرئيــس‪ ،‬وينتهــي الفيلــم‪.‬‬
‫املشــكلة األساســية عنــد تقييــم هــذه النوعيــة مــن األفــام التفــاوت الظاهــر بــن أهميــة‬
‫الفكــرة التــي يطرحهــا والقالــب الفنــي الــذي صبــت فيــه‪ .‬لكــن قبــل التطــرق إىل بعــض‬
‫الجوانــب الفنيــة للفيلــم دعونــا نتوقــف قلي ـاً ونتتبــع الرؤيــة السياســية التــي تبناهــا‪.‬‬
‫الفيلــم يعلــن منــذ بدايتــه أنــه «ال يســتند إىل وقائــع تاريخيــة قــد حدثــت بالفعــل ولكنــه‬

‫‪169‬‬
‫مجــرد خيــال درامــي» رغــم أن املشــاهد ليــس بحاجــة إىل هــذه الجملــة يك يــدرك أن هــذه‬
‫الوقائــع مل تحــدث‪ ،‬لكــن هــل مــا حــدث يف الفيلــم مــن حيــث الجوهــر خيــال درامــي‪ ،‬أم‬
‫واقــع تســجييل يحــدث هنــا واآلن بدليــل ظهــور شــخصية الرئيــس حســني مبــارك فيــه؟‬
‫فهــل أتــت هــذه الجملــة نوعـاً مــن التحايــل عــى أجهــزة الرقابــة التــي خــاض الفيلــم معهــا‬
‫معركــة طويلــة قبــل أن تصــادق عليــه أم لتنســف إي مقاربــة بــن الفيلــم والواقــع؟‬
‫صحيــح أن الفيلــم يشــكل إدانــة واضحــة للنظــام الســيايس الحاكــم إلفقــاره املجتمــع‬
‫وإفســاده وخداعــه وتســلطه عليــه حتــى يف أبســط املســائل‪ .‬لكــن مــن الــروري هنــا أن‬
‫نلتفــت إىل كيفيــة تنــاول الفيلــم لــرأس هــذا النظــام املتمثــل برئيــس الجمهوريــة ودوره يف‬
‫كل املوبقــات التــي يدينهــا‪ .‬منــذ البدايــة يبــدو هــذا الرئيــس مهتـاً برغبــة إنســان بســيط‬
‫يدعــوه إىل عرســه‪ ،‬ويســتجيب لهــا بــكل رحابــة صــدر وعــن طيــب خاطــر‪ ،‬بــل ويــر عــى‬
‫حضــور العــرس بــكل تواضــع يف ذات الحــي الشــعبي حيــث يعيــش هــذا اإلنســان‪ ،‬وهــي‬
‫مناســبة يك يشــاهد بــأم عينــه حيــاة الغالبــة‪ ،‬لكنــه ال يســتطيع‪ ...‬ملــاذا؟ ألن الحاشــية التــي‬
‫تــدور يف فلكــه متنعــه مــن ذلــك‪ .‬ويف النهايــة يحمــل بيديــه املباركتــن أرطــاالً مــن األوراق‬
‫التــي خطتهــا الجامهــر ليلــة العــرس‪ .‬أي أن الفيلــم يســتثني الرئيــس بــكل بســاطة مــن‬
‫اإلدانــة‪ ،‬فهــو شــخص طيــب ونزيــه ومتواضــع ومخلــص ومهتــم بشــؤون بلــده وشــعبه‪ ،‬وكل‬
‫املشــكلة فيمــن حولــه‪ .‬وهــذه النظــرة عــى ســذاجتها ليســت جديــدة وســنجدها يف عــدد‬
‫كبــر مــن الخطابــات التــي تحيــط بشــخصية الزعيــم األول يف الدولــة الشــمولية يف محاولــة‬

‫‪170‬‬
‫إلخراجهــا مــن دائــرة االتهــام واإلدانــة عــن كل مــا اقرتفتــه أنظمتهــا القمعيــة مــن جرائــم‬
‫وويــات بحــق بالدهــا وشــعوبها‪ .‬وإن كنــا نقــر باســتحالة متريــر فيلــم يقــدم مثــل هــذه‬
‫اإلدانــة وبهــذه املبــارشة عــى أرض عربيــة‪ ،‬غــر أن فيلــم «جــواز بقــرار جمهــوري» مل‬
‫يكتــف بعــدم اإلدانــة وإمنــا وقــف موقــف املدافــع واملــرر عــن رأس الدولــة فاص ـاً بينــه‬
‫وبــن النظــام الســيايس الــذي أوجــده‪.‬‬
‫عــى الصعيــد الفنــي وقــع الفيلــم يف عــدة مطبــات‪ ،‬فهــو مل يســتطع يف بدايتــه أن يجــد مــررا ً‬
‫درامي ـاً قوي ـاً لدعــوة الرئيــس‪ ،‬إذ يبــدو مــن غــر املنطقــي أن تتنطــح فتــاة طــرأ تحســن‬
‫بســيط عــى الوضــع املعــايش لعائلتهــا لدعــوة رجــاالت الدولــة مــن وزراء ومســؤولني إىل‬
‫زفافهــا‪ ،‬لينجــر الشــاب إىل املنافســة ويدعــو رئيــس الجمهوريــة شــخصياً إليــه‪ .‬كــا يبــدو‬
‫مــن الغريــب حق ـاً أن تحتمــل معالجــة موضــوع بهــذا الزخــم والتشــعب والغنــى كالــذي‬
‫تطــرق إليــه الفيلــم كل تلــك املشــاهد الثانويــة غــر املــررة والتــي ليــس لهــا أي وظيفــة‬
‫دراميــة تصــب لصالــح هــذه املعالجــة وخاصــة يف النصــف ســاعة األوىل منــه‪.‬‬
‫ال نســتطيع أن نجــزم بعــدم وجــود ارتبــاط بــن الفكــرة التــي اســتحوذت عــى النصــف‬
‫األول مــن الفيلــم حــول التغيــرات املرافقــة لزيــارة الرئيــس إىل الحــي الشــعبي وانعكاســها‬
‫عليــه وعــى ســكانه‪ ،‬وبــن الفكــرة التــي حركــت جــزأه الثــاين الــذي متحــور حــول عمــل‬
‫أجهــزة الرئيــس إلخضــاع العروســن للــزواج رغــم إرادتهــا‪ ،‬فالفكرتــان مرتبطــان مبفهــوم‬
‫اإلرادة العليــا للزعيــم ـ التــي يقدمهــا الفيلــم عــى أنهــا إرادة األجهــزة املحيطــة بــه ـ‬

‫‪171‬‬
‫لكــن املشــكلة أن الســيناريو مل يدمجهــا بصــورة متداخلــة تؤكــد هــذه الرابطــة‪ ،‬عــى‬
‫العكــس قــام بفصلهــا ليــس فقــط عــى مســتوى الــرد وإمنــا كذلــك عــى مســتوى املــكان‪،‬‬
‫فأحــداث الجــزء األول تجــري يف معظمهــا ضمــن شــوارع الحــي وبيوتــه الفقــرة‪ ،‬بينــا‬
‫ينتقــل بنــا الجــزء الثــاين إىل أجــواء الفنــادق الفخمــة واملنتجعــات الســياحية الفاخــرة‪ ،‬مــا‬
‫يعــزز رضورة تداخــل الخطــن إلبــراز ذلــك التناقــض الصــارخ ال فصلهــا‪ ،‬هــذا إذا افرتضنــا‬
‫أن التبــدل الجوهــري يف مــكان الحــدث جــرى يف الفيلــم مــن ذلــك املنطلــق ومل يكــن الدافــع‬
‫وراءه مجــرد تحقيــق االســتجامم البــري للمشــاهدين‪ ،‬وهــو التربيــر األرجــح بغيــاب‬
‫مشــاهد ذات داللــة واضحــة عــى التناقــض املذكــور‪ .‬ومــن املفيــد التذكــر هنــا أن ذلــك‬
‫الخــط مل يســتطع تتبــع فكرتــه حتــى النهايــة‪ ،‬فالعــرس نجــح ليــس بســبب تدخــل األجهــزة‬
‫بعــد كل مــا قامــت بــه‪ ،‬وإمنــا لصحــوة الحــب بــن العروســن!!‬
‫أمــا أكــر مــا يلفــت النظــر يف الفيلــم فهــو عجــز املخــرج عــن املحافظــة عــى إيقــاع كوميــدي‬
‫واحــد يف عمــل يحفــل باملفارقــات الســاخرة النابعــة مــن صلــب القصــة وخيوطهــا املتداخلة‪،‬‬
‫ليلجــأ يف كثــر مــن األحيــان إىل مواقــف مــن خارجهــا تعتمــد املبالغــة يف التصعيــد (اتهــام‬
‫رمــزي حــاه أنــه يتاجــر باملخــدرات مبجــرد رؤيــة عنــارص الرشطــة يف بيتــه أو إدعــاء‬
‫الــرك بــأن رمــزي يتحــرش بهــا عــى الشــاطئ ليقــوم شــابان ضخــان بتأديبــه) أو حتــى إىل‬
‫مشــاهد ال لــزوم لهــا حــرت ملجــرد اإلضحــاك (الطريقــة الرشهــة لتنــاول رمــزي الطعــام‬
‫يف الحفلــة التــي حصــل بالصدفــة عــى بطاقــات دعــوة إليهــا)‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫عــى الرغــم مــن جميــع املطبــات التــي وقــع فيهــا «جــواز بقــرار جمهــوري» عــى املســتوى‬
‫الفنــي والفكــري يبقــى يف النهايــة فيل ـاً جريئ ـاً قــدم الكثــر مــن الحــاالت والشــخصيات‬
‫والصــور الواقعيــة ملــر اليــوم‪ ،‬األمــر الــذي يعنــي التــزام مخرجــه بتقديــم ســينام تحــاول‬
‫أن تكــون مختلفــة عــا هــو ســائد‪ ،‬وهــو أقــل مــا ميكــن أن نتوقعــه مــن تلميــذ ليوســف‬
‫شــاهني‪ ،‬رغــم أن املرحلــة التــي تتلمــذ فيهــا ال تعــد بنظــر العديــد مــن النقــاد األكــر متيــزا ً‬
‫وإبداع ـاً يف تاريــخ املخــرج الكبــر‪.‬‬

‫جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬

‫‪173‬‬
‫سهر الليايل‬

‫مــا يحســب بالتأكيــد للسيناريســت تامــر حبيــب واملخــرج هــاين خليفــة جرأتهــا التــي‬
‫ال ريــب فيهــا‪ ،‬فـــ «ســهر الليــايل» هــو فيلمهــا األول وعــى الرغــم مــن ذلــك مل تنقصهــا‬
‫الجــرأة يف الخــروج عــن األمنــاط الســينامئية الســائدة يف الســينام املرصيــة اليــوم وتقديــم‬
‫عمــل ذي نكهــة خاصــة يحــاول مالمســة أربــع قضايــا شــائكة ومعقــدة يف آن واحــد‪،‬‬
‫وبعضهــا مــن النــوع الــذي نــادرا ً مــا تتطــرق إليهــا الســينام العربيــة ويعــده البعــض مــن‬
‫املحرمــات التــي ال يجــوز الخــوض فيهــا علن ـاً‪ ،‬بــل ومل يتــوان عــن خلــق معــادل بــري‬
‫لهــا‪ .‬كــا كانــت لديهــا الجــرأة للعمــل عــى مثــان شــخصيات أساســية عــى الرغــم مــن‬
‫الصعوبــات والتعقيــدات الناجمــة عــن ذلــك ســواء عــى مســتوى الســيناريو أو اإلخــراج‪.‬‬
‫لكــن مــن البديهــي أن الجــرأة وحدهــا ال تصنــع فيلـاً ناجحـاً ومتقنـاً فنيـاً‪ ،‬رغــم الحرفيــة‬
‫العاليــة التــي ميــزت عنــارص أساســية يف الفيلــم ولــو بصــورة متفاوتــة كالحــوار والتمثيــل‬
‫واملونتــاج والتصويــر‪.‬‬
‫يقــدم لنــا الفيلــم يف جزئــه األول أربــع ثنائيــات ترتبــط بصداقــة تعــود بالنســبة للشــباب‬
‫إىل زمــن الجامعــة‪ ،‬وترســم كل منهــا خطـاً دراميـاً يالمــس مشــكلة محــددة‪ .‬األول يتطــرق‬
‫إىل الخيانــة الزوجيــة (فتحــي عبــد الوهــاب ـ منــى زيك)‪ ،‬الثــاين إىل التفــاوت الطبقــي بــن‬

‫‪174‬‬
‫الزوجــن (أحمــد حلمــي ـ حنــان تــرك)‪ ،‬الثالــث إىل عــدم التوافــق الجنــي بــن الطرفــن‬
‫(خالــد أبــو النجــا ـ جيهــان فاضــل)‪ ،‬والرابــع إىل العالقــة الحــرة والهــروب مــن االرتبــاط مــن‬
‫جانــب الرجــل (رشيــف منــر ـ عــا غانــم)‪.‬‬
‫ال شــك أن التوقــف عنــد هــذا الطيــف الواســع مــن القضايــا اإلشــكالية يتطلــب مــن الفيلــم‬
‫مســتوى عاليـاً مــن التكثيــف‪ .‬األمــر الــذي يحققــه الفيلــم يف بدايتــه إىل حــد ما عندمــا يتنقل‬
‫برسعــة بــن هــذه الثنائيــات‪ ،‬غــر أن متهيــده للكشــف عنهــا جــاء متفاوتـاً وأحيانـاً معدومـاً‪.‬‬
‫فبينــا ينكشــف فعــل الخيانــة مبشــهد واحــد‪ ،‬نتوصــل إىل إدراك األســباب التــي تدفــع‬
‫جيهــان فاضــل لطلــب الطــاق بصــورة تدريجيــة ـ بدايــة مــن خــال حديثهــا مــع قريــب‬
‫لهــا ومــن ثــم عــن طريــق نظراتهــا لشــاب وســيم وأخــرا ً عنــد ســاع مكاشــفاتها الرصيحــة‬
‫يف عيــادة طبيــب نفــي‪ .‬أمــا الخــط الثــاين فيبــدو مــن بدايتــه مفتعـاً بخالفــات ليــس لهــا‬
‫عالقــة بجوهــر القضيــة التــي ســيطرحها وبالقطيعــة التــي ســتتم ال حقـاً بــن الزوجــن‪ ،‬بــل‬
‫تبــدو وكأنهــا نتــاج الضجــر مــن رتابــة الحيــاة الزوجيــة ال أكــر‪ .‬املشــكلة نفســها تتكــرر يف‬
‫الخــط الرابــع‪ ،‬فالعالقــة التــي تجمــع رشيــف منــر وعــا غانــم تبــدو يف غايــة الرومانســية‬
‫والجــال‪ ،‬وحتــى إذا رأينــا يف القصــة املتداخلــة مــع هــذا الخــط واملرتبطــة بطمــوح عــا‬
‫للعمــل لــدى رجــل ثــري يكرهــه صديقهــا مقدمــات للخــاف بينهــا‪ ،‬ســوف نفاجــأ بــأن‬
‫الخــاف الــذي ســيقع الحقـاً ليــس لــه أيــة عالقــة بهــا‪.‬‬
‫بعــد هــذه الجولــة ينتقــل املخــرج إىل مشــهد مفصــي يجمــع الــكل يف حفلــة عيــد ميــاد‪،‬‬

‫‪175‬‬
‫إذ تشــهد جميــع هــذه الخطــوط مــن بعــده يف آن واحــد تحــوالً دراماتيكيـاً يف الفيلــم‪ .‬فــا‬
‫أن تعــود هــذه الثنائيــات كل إىل بيتــه حتــى تتفجــر خالفاتهــم دفعــة واحــدة وكأن مثــة‬
‫اتفــاق ضمنــي بينهــم عــى ذلــك‪ .‬وإذا كان ذلــك متوقعـاً ومنطقيـاً يف الخــط األول والثالــث‪،‬‬
‫ومحصلــة طبيعيــة ملــا قدمــه الفيلــم حتــى اآلن‪ ،‬فأنــه يبــدو مفتع ـاً وفاقــدا ً ألي أســاس‬
‫ســابق وقــوي يف الفيلــم يف الخطــن اآلخريــن‪ .‬لذلــك أضطــر الســيناريو يف الخــط الثــاين أن‬
‫يســتند إىل مشــهد الحفلــة والتمهيــد لخــاف الزوجــن انطالقـاً مــن ســلوكهام فيهــا وجدلهــا‬
‫حولــه الــذي رسعــان مــا يتصاعــد لدرجــة أن يتهمهــا هــو بأنهــا تزوجتــه يك تغيــظ خطيبهــا‬
‫الســابق وصديقــه خالــد أبــو النجــا‪ .‬وتقــوم هــي بتعيــره بفقــره قبــل زواجــه منهــا وتذكــره‬
‫مبــا قدمتــه عائلتهــا لــه‪ ،‬ليصــل خالفهــا إىل نقطــة الــا عــودة ويــرك الــزوج املطعــون‬
‫بكرامتــه البيــت‪.‬‬
‫الخــط الرابــع يطــرح كذلــك تأزمــه بصــورة مفاجئــة عندمــا ال يبــدي رشيــف منري اســتعداده‬
‫بعــد للــزواج مــن عــا غانــم فترتكــه‪ .‬غــر أن هــذا الخــط تضمــن قصــة ال تخلــو مــن داللــة‬
‫أخالقيــة تؤكــد أن االلتــزام العاطفــي والحميمــي غــر مرتبــط مبؤسســة الــزواج وميكــن أن‬
‫يوجــد خارجهــا‪ ،‬فهــي ال تقــوم بخيانتــه مــع الرجــل الــري (مدحــت العــدل) عــى الرغــم‬
‫مــن أنهــا غــر مرتبطــن يف إطارهــا‪ ،‬وعــى الرغــم مــن األبــواب الكثــرة التــي قــد تفتــح‬
‫لهــا فيــا لــو أقدمــت عــى تلــك الخطــوة‪ .‬أمــا إىل أي حــد خدمــت هــذه القصــة منطــق‬
‫انفصالهــا فهــذه مســألة أخــرى‪ ،‬إذ نالحــظ أنــه ليــس هــو مــن بــادر إىل ذلــك كنتيجــة‬

‫‪176‬‬
‫مثـاً لتمســكها بالعمــل لــدى الــري املذكــور مــع علمهــا أنــه يســعى إىل جســدها أكــر مــن‬
‫ســعيه لخدماتهــا الوظيفيــة‪ ،‬ومعرفتهــا بكراهيتــه ألمثالــه‪ ،‬مــا كان ســربط ســلوكه نوع ـاً‬
‫مــا بالقصــة‪ ،‬بــل هــي التــي انفصلــت عنــه لعــدم اســتعداده لالرتبــاط الزوجــي‪.‬‬
‫وهكــذا ينفصــل الجميــع عــن بعضهــم‪ ،‬ويجتمــع الشــباب األربعــة ويقــررون القيــام برحلــة‬
‫إىل اإلســكندرية يتذكــرون خاللهــا أيــام املــايض عندمــا كانــوا طلبــة وينســون يف أجوائهــا‬
‫همومهــم اآلنيــة‪.‬‬
‫لنتابــع بصــورة متوازيــة التحــوالت واملكاشــفات واألحــداث التــي تحيــط بالشــخصيات‬
‫الذكوريــة يف اإلســكندرية مــن جهــة‪ ،‬والشــخصيات األنثويــة يف القاهــرة مــن جهــة أخــرى‪،‬‬
‫والتــي يفــرض أن تقودنــا يف نهايــة األمــر إىل قناعــة بالنهايــة الســعيدة التــي آل إليهــا الفيلــم‬
‫مــن مصالحــة كاملــة بــن الجميــع‪ ،‬بتقديــم آليــات فعالــة مــن حيــث منطقهــا الدرامــي لحــل‬
‫إشــكاليات الخطــوط التــي قدمهــا‪ ،‬فهــل فعــل الفيلــم ذلــك؟‬
‫منــى زيك عــى الرغــم مــن ترصيحاتهــا بعــدم قدرتهــا عــى احتــال خيانــة زوجهــا املتواصلــة‬
‫لهــا‪ ،‬لكــن يبــدو واضحـاً أنهــا متعلقــة بــه ولديهــا االســتعداد النفــي للتســامح معــه عنــد‬
‫عودتــه‪ ،‬وخاصــة مــع مجــيء وليدهــا الجديــد‪ ،‬األمــر الــذي رمبــا يدفعهــا يك تصــدق أنــه‬
‫ســوف يتغــر كــا وعدهــا‪ .‬عــى الجانــب اآلخــر هــو ال يشــعر حتــى بالنفــور مــن دعــوة‬
‫عاهــرة يك تقــوم بتســليته وأصحابــه‪ ،‬وال يذكــره هــذا الوضــع للحظــة بســبب وجــوده‬
‫بعيــدا ً عــن زوجتــه الحامــل يف أشــهرها األخــرة! أي أنــه يف الواقــع مل يتغــر كــا وعــد‪ .‬إذن‬

‫‪177‬‬
‫املصالحــة بينهــا تبــدو ممكنــة‪ ،‬غــر أنهــا مصالحــة قامئــة عــى الطيبــة والتســامح مــن جهــة‬
‫والكــذب والخــداع مــن جهــة أخــرى‪ ،‬أي أنهــا مصالحــة مؤقتــة وبائســة ال تعــر األجــواء‬
‫املرحــة التــي رســمها املشــهد األخــر عنهــا عــى اإلطــاق‪.‬‬
‫كــا بــدأت إشــكالية الخــط الثــاين دون مقدمــات تذكــر‪ ،‬انتهــت كذلــك دون مــررات تذكــر‪،‬‬
‫فصحيــح أن أحمــد حلمــي ســيقتنع بحــب زوجتــه لــه وبــأن كل مــا كان بينهــا وبــن صديقــه‬
‫أبــو النجــا قــد انتهــى بعــد حديثــه معــه (وكأنــه مل يكــن عــى قناعــة بذلــك)‪ ،‬لكــن هــل‬
‫يغــر ذلــك مــن حقيقــة إحساســه الكبــر باملهانــة الكتشــافه عــدم نســيان زوجتــه ملنشــئه‬
‫الطبقــي وتعيريهــا لــه بــه؟ رمبــا لتغلــب عــى هــذا اإلحســاس مــع مــرور الوقــت أو بظهــور‬
‫عوامــل مــا تدفعــه إىل ذلــك‪ ،‬لكــن مــا هــي املــررات التــي قدمهــا الفيلــم يك يتجــاوزه بتلــك‬
‫البســاطة يف بضعــة أيــام فحســب؟ ال يشء‪ ،‬رضورات النهايــة الســعيدة فحســب‪.‬‬
‫جيهــان فاضــل بعــد ترددهــا الطويــل تستســلم أخــرا ً لغرائزهــا وعواطفهــا التــي ال تفتــأ‬
‫تثريهــا االتصــاالت املتكــررة وامللحــة مــن قبــل شــاب تعجــب بــه‪ ،‬لكنهــا عنــد لقائــه ويف‬
‫اللحظــة الحاســمة ترتاجــع وترفــض مامرســة الجنــس معــه‪ ،‬عــى الرغــم مــن كل الرتاكــات‬
‫التــي دفعتهــا إىل هــذا اللقــاء وجعلتهــا مســتعدة عــى املســتوى النفــي لــه ومدركــة متامـاً‬
‫للغايــة منــه‪ ،‬فــا الــذي حــدث وجعلهــا ترتاجــع؟ إن الحــل هنــا يحمــل طابعـاً أخالقيـاً أكــر‬
‫مــا هــو نتــاج الصــرورة الدراميــة للحالــة التــي قدمهــا الفيلــم‪ ،‬إذ كان مــن املمكــن تفهــم‬
‫ذلــك الرتاجــع جزئي ـاً فيــا لــو أن الفيلــم مهــد لــه مبشــاهد تشــر إىل رغبتهــا يف التمســك‬

‫‪178‬‬
‫بزوجهــا وبحثهــا عــن إمكانــات ملســاعدته بشــكل مــن األشــكال‪ ،‬لكــن الفيلــم مل يفعــل‬
‫ذلــك وفضــل تقديــم حــل مصطنــع‪ ،‬غــر أنــه رضوري للوصــول إىل الحــل النهــايئ وتحقيــق‬
‫املصالحــة انطالقـاً مــن مبــدأ أخالقــي مــن ناحيــة وعاطفــي مــن ناحيــة أخــرى يدفعهــا إىل‬
‫التســامح معــه حتــى بعــد اعرتافــه بخيانتهــا مــع العاهــرة يف محاولــة فاشــلة إلثبــات الــذات‪،‬‬
‫وهــو يف الحالتــن ال ميــت ألصــل القضيــة املطروحــة بأيــة صلــة‪.‬‬
‫الخــط الرابــع مل يكــن أوفــر حظــاً مــن الثــاين‪ ،‬فهنــا أيضــاً لــن نجــد مــررات كافيــة ال‬
‫النفصــال الحبيبــن وال لعودتهــا‪ ،‬ومــا يجــدر مالحظتــه ضمــن هــذا الخــط تركيــزه عــى‬
‫حجــج ومــررات رشيــف منــر لعــدم االرتبــاط أكــر مــن تســليطه الضــوء عــى مــا ميكــن‬
‫للمــرأة الرشقيــة أن تعانيــه مــن املجتمــع املحيــط عنــد ارتباطهــا بعالقــة حــرة‪ ،‬وتغــر نظــرة‬
‫هــذا املجتمــع نفســه للمســألة عندمــا تتعلــق بالرجــل‪.‬‬
‫اآلن هــل كان املطلــوب مــن الفيلــم تجــاوز جميــع هــذه النقــاط التــي تحدثنــا عنهــا‬
‫أو بعضهــا عــى األقــل؟ ال شــك أن الفيلــم مل يضــع نصــب عينيــه معالجــة أو مالمســة‬
‫اإلشــكاليات األربعــة التــي طرحهــا يف العمــق‪ ،‬ولعلــه مل يــرد أكــر مــن القــول بوجودهــا‬
‫وتســليط الضــوء عــى بعــض جوانبهــا بصــورة عابــرة‪ ،‬وهــو مــا عكســته األجــواء التهكميــة‬
‫والطريفــة بأحداثهــا وحواراتهــا التــي ســيطرت عــى الكثــر مــن مشــاهد الفيلــم‪ ،‬لكننــا‬
‫ال نســتطيع القــول بــأن الكوميديــا هــي األســلوب الــذي اختــاره املخــرج للفيلــم‪ ،‬إذ أن‬
‫اإلطــار الواقعــي الصــارم الــذي أحــاط باملشــاهد ذات الصلــة املبــارشة بإشــكاليات الفيلــم‬

‫‪179‬‬
‫والكثــر مــن إرهاصاتهــا وتداعياتهــا‪ ،‬ومســتوى القســوة الــذي أفرزتــه ال ينســجم إطالقـاً مــع‬
‫الكوميديــا املقدمــة‪ ،‬ويتناقــض بالتأكيــد مــع املالمســة العابــرة والحلــول املفتعلــة واملركبــة‬
‫للقضايــا التــي طرحهــا‪.‬‬

‫جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬

‫‪180‬‬
‫إزاي البنات تحبك‬

‫يف الســينام ال يوجــد جنــس فيلمــي راق وأخــر متــدن مــن الناحيــة الفنيــة‪ ،‬وإمنــا يف كل‬
‫جنــس ميكننــا أن نجــد هاتــن القيمتــن‪ .‬ومــن املعــروف أن االلتــزام بجنــس محــدد عنــد‬
‫صناعــة فيلــم مــا أســهل بكثــر مــن إبــداع فيلــم يخلــق قوانينــه الخاصــة خــارج األطــر‬
‫املألوفــة لهــذا الجنــس‪ ،‬حيــث القوانــن واضحــة ومختــرة وتوجــد مئــات النــاذج واألمثلــة‬
‫التطبيقيــة الســابقة عليهــا‪ .‬لكــن عندمــا ال يســتطيع مخــرج االلتــزام عــى األقــل بهــذا الحــد‬
‫األدىن مــن القواعــد الســينامئية فــا الــذي ســيصنعه؟‬
‫منــذ البدايــة ويف ســياق تعرفنــا عــى شــخصيتني أساســيتني فيــه هــا عــي (هــاين ســامة)‬
‫وعاطــف (أحمــد عيــد) يصدمنــا فيلــم «إزاي البنــات تحبــك» مبشــاهد هزليــة جــدا ً تصــور‬
‫طــرق وصولهــا إىل األكادمييــة الســياحية وتعارفهــا وقبولهــا يف الفحــص‪ ،‬ثــم وضعهــا‬
‫يف غرفــة واحــدة للســكن‪ .‬فتبــدو هــذه املقدمــة كأنهــا متهــد للمنــاخ العــام الــذي ســيهيمن‬
‫عــى الفيلــم‪ ،‬وتتأكــد هــذه القناعــة مــع تتــايل املشــاهد واستشــفافنا لخيــار السيناريســت‬
‫أحمــد البيــه يف بنــاء املفارقــات الهزليــة الالحقــة عــى التبايــن الحــاد بــن هاتــن الشــخصيتني‬
‫مــن خــال تنميطهــا إىل أقــى حــد‪ .‬فــاألول وســيم وأنيــق وذيك وغنــي وقــوي والثــاين عــى‬
‫النقيــض مــن جميــع هــذه الصفــات‪ .‬صحيــح أننــا ســنجد بعــض هــذه املفارقــات املتناثــرة‬

‫‪181‬‬
‫هنــا وهنــاك يف الفيلــم عنــد تفاعــل هذيــن الشــابني مــع اآلخريــن‪ ،‬لكــن منــذ اللحظــة التــي‬
‫يبــدأ فيهــا هــذا التفاعــل مــع بــدء تــودد عــي إىل نــدى (املمثلــة اللبنانيــة نــور) ونشــوء‬
‫العــداوة بينــه وبــن وليــد (أحمــد رجــب) ينتهــي الوهــم بأننــا نشــاهد كوميديــا وتطغــى‬
‫أجــواء أخــرى عــى الفيلــم أقــرب إىل امليلودرامــا‪ ،‬لتفقــد املقدمــة التهكميــة الصارخــة‬
‫مربراتهــا‪ ،‬وندخــل يف تنميــط تقليــدي آخــر يضــع الشــابني «الطيبــن» يف مواجهــة مجموعــة‬
‫مــن الطلبــة «األرشار» الذيــن يتزعمهــم وليــد‪ ،‬حتــى دون مســوغات مقنعــة لذلــك‪ ،‬إذ‬
‫تنطلــق مــن رغبــة صبيانيــة يف الفــوز بالطالبتــن املنتســبتني تــوا ً إىل املعهــد نــدى وبــويس‬
‫(ســمية الخشــاب) قبــل اآلخريــن‪ ،‬وقــد حــاول السيناريســت ـ وهــو الــذي بــدأت مــع‬
‫فيلمــه «إســاعيلية رايــح جــاي» موجــة مــا ســمي الكوميديــا الشــبابية ـ الحقـاً أن يدعمهــا‬
‫بنصيحــة أبويــة لـــ وليــد تدعــوه للتقــرب مــن نــدى ألن والدهــا رجــل ثــري جــدا ً‪.‬‬
‫مــا زاد مــن ركاكــة هــذه املواجهــة افتقــاد معالجتهــا ألي منطــق‪ ،‬إذ ال يبــدو مفهومـاً عــى‬
‫اإلطــاق مــا يدفــع مرينــا (املمثلــة التونســية هنــد صــري) صديقــة وليــد بالــذات والتــي‬
‫تنتظــر منــه أن يتزوجهــا‪ ،‬يك تقــوم مبســاعدته عــى إفشــال العالقــة بــن عــي ونــدى لدرجــة‬
‫أن تحــاول إغــواءه أمــام أنظارهــا!!‬
‫عندمــا نصــل يف لحظــة مــا مــن نهايــة الفيلــم إىل التســاؤل‪ :‬ومــاذا بعــد‪ .‬فذلــك يعنــي‬
‫أن الــراع الدرامــي فيــه قــد انتهــى‪ ،‬أمــا الفيلــم فــا‪ .‬مــع وصــول الشــابني والفتاتــن إىل‬
‫ســويرسا مبنحــة مــن األكادمييــة نستشــعر هــذه اللحظــة‪ ،‬فيقــدم لنــا الفيلــم وصلــة غنائيــة‬

‫‪182‬‬
‫يك ال نضجــر‪ ،‬وهــي ليســت األوىل بطبيعــة الحــال‪ ،‬فقــد حفــل الفيلــم بأربــع أغــان طويلــة‬
‫صــورت بأســلوب الفيديــو كليــب الــذي يجيــده مديــر التصويــر محســن أحمــد صاحــب‬
‫الخــرة يف هــذا املجــال‪ ،‬لكنــه اســتخدم هــذا األســلوب هنــا دون أن يلتفــت النســجام ذلــك‬
‫مــع طبيعــة العمــل‪ .‬عــى العمــوم قــد يبــدو التصوير هــو الرابــح األكــر يف الفيلم‪ ،‬فــكل يشء‬
‫يف داخلــه نظيــف وجميــل ومرتــب‪ :‬الطبيعــة والوجــوه واألماكــن والديكــورات واملالبــس‪...‬‬
‫ومــا عــى املصــور ســوى أن يجســدها عــى رشيــط الســلولويد‪ .‬هــل هــي مصادفــة أم مجــرد‬
‫توجــه بــريء؟ ال نســتطيع أن نجــزم‪ ،‬لكننــا ســنجد أكــر مــن إشــارة يف الصحافــة املرصيــة‬
‫عــن أفــام صنعــت خصيصـاً لغايــات إعالنيــة بحتــة‪ ،‬إذ تعــود ملكيــة أماكــن التصويــر مــن‬
‫قــرى ســياحية وتجمعــات تجاريــة إىل منتجــي هــذه األفــام أنفســهم‪.‬‬
‫مــع النهايــة يــأىب الفيلــم أال يســتنفذ مــا تبقــى لــه مــن عنــارص ميلودراميــة‪ ،‬فبعــد أن قامــت‬
‫«صحــوة الضمــر» عنــد مرينــا بإفشــاء مؤامــرات عشــيقها ملديــر األكادمييــة‪ ،‬ليفــوز الرباعــي‬
‫املذكــور باملنحــة إىل ســويرسا‪ ،‬يجــد املخــرج لزامــاً عليــه معاقبــة «الرشيــر» فريســله يف‬
‫أعقابهــم ليقــوم باختطــاف نــدى‪ ،‬التــي ســينقذها بالطبــع عشــيقها البطــل عــر مطــاردات‬
‫ومشــاجرات عــى طريقــة األكشــن‪ ،‬تنتهــي بوصــول الرشطة الســويرسية يف الوقت املناســب‪،‬‬
‫لنصــل إىل «النهايــة الســعيدة» املنتظــرة يف فيلــم هــو مزيــج مــن الكوميديــا وامليلودرامــا‬
‫واالســتعراض واألكشــن‪ُ ،‬خلــط بصــورة عشــوائية خــارج أي اتســاق درامــي وفنــي‪.‬‬
‫جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬

‫‪183‬‬
‫صاحب صاحبه‬

‫منــذ البدايــة يقــدم املخــرج ســعيد حامــد يف تجربتــه الجديــدة مــع السيناريســت ماهــر‬
‫عــواد شــخصيتني تجمــع بينهــا صداقــة قويــة لدرجــة أن يضحــي أحدهــا بالبقــاء يف‬
‫مــر للعنايــة بوالــدة اآلخــر املســافر إىل الخليــج عــى الرغــم مــن أن لديــه الفرصــة ذاتهــا‬
‫للســفر‪ .‬وكل مــا ســيفعله الفيلــم حتــى أخــر لقطــة فيــه هــو التأكيــد عــى هــذه الرابطــة‬
‫الوشــيجة التــي تجمعهــا‪ ،‬لينتهــي عملي ـاً مــن حيــث انطلــق‪ .‬صداقتهــا لــن تتأثــر حتــى‬
‫بتلــك املواجهــة الناشــئة بينهــا عندمــا يســعى محمــد هنيــدي إىل اختــاق شــتى الخــدع‬
‫واملقالــب الطريفــة لحــث أرشف عبــد الباقــي للعــودة والبقــاء يف مــر‪ ،‬والتــي قدمــت يف‬
‫إطــار كوميــدي بــريء‪ ،‬لتشــكل مبجموعهــا املحــرك األســايس لألحــداث يف النصــف األول مــن‬
‫الفيلــم‪ .‬بعــد فشــل جميــع هــذه املحــاوالت يطلــق هنيــدي ذروة خدعــه بإيهــام صديقــه‬
‫بواســطة طبيــب مزيــف أنــه مصــاب بــورم خبيــث ومل يتبــق مــن حياتــه ســوى بضعة أشــهر‪،‬‬
‫ليتخــذ الفيلــم يف نصفــه الثــاين محــركاً أخــر لألحــداث يســتند إىل التضحيــات املختلفــة التــي‬
‫يبــدي عبــد الباقــي اســتعداده لتقدميهــا يف ســبيل صديقــه‪.‬‬
‫مــا ســيتغري يف الفيلــم ليــس املحــرك الدرامــي وحــده‪ ،‬وإمنــا الطابــع الكوميــدي الــذي يغلفــه‬
‫كذلــك‪ .‬يف الجــزء األول نالحــظ عمومـاً اعتــاد املخــرج عــى نــوع مــن املحــاكاة الســاخرة‪،‬‬

‫‪184‬‬
‫التــي ظهــرت يف مقطعــن طويلــن مــرة للحالــة الخليجيــة وإفرازاتهــا مــن بــزخ وتظاهــر‬
‫وخضــوع البعــض لهــا ومجاراتهــا‪ ،‬وأخــرى للطقــس التفــاويض الــذي يؤديــه هنيــدي وعبــد‬
‫الباقــي قبيــل زواج جــد األول مــن والــدة الثــاين بأســلوب تهكمــي ينســجم والوضــع الــذي‬
‫انعكســت فيــه مواقــع الجميــع‪ .‬ومــن الواضــح هنــا أن مثة تفــاوت كبري مــن الناحيــة الفكرية‬
‫بــن مســتوى املحاكاتــن‪ .‬بينــا تعتمــد املواقــف الكوميديــة يف الجــزء الثــاين بصــورة أساســية‬
‫عــى التناقــض القائــم يف شــخصية عبــد الباقــي‪ ،‬بــن بخلــه الــذي ال يســتطيع التخلــص منــه‬
‫يف البدايــة ورغبتــه يف تقديــم كل مــا قــد يفــرح صديقــه هنيــدي‪ ،‬كــا تأرجــح هــذا الجــزء‬
‫بــن الكوميديــا والنكهــة امليلودراميــة التــي أخــذت تطغــى عليــه‪ ،‬وتخاطــب مشــاعر مــن‬
‫نــوع أخــر عنــد املشــاهدين‪ ،‬لتســيطر عليــه بصــورة كاملــة يف النهايــة‪.‬‬
‫كــا أن الفيلــم تنقــل مــن مــأزق إىل أخــر‪ ،‬بدايــة أفتقــد لجديــة املواجهــة بــن الشــخصيتني ـ‬
‫وهــو مــا كان ســيؤجج مــن قــوة الكوميديــا ـ لتأخــذ منحــى املقالــب الربيئــة التي ال يســتطيع‬
‫الفيلــم االســتمرار بهــا إىل مــا النهايــة مــن خــال محاكاتــه املتعــددة‪ ،‬ليغــر منحــاه مســتمدا ً‬
‫طرافتــه مــن تناقــض إحــدى شــخصياته‪ ،‬بــكل مــا يســتتبعه ذلــك مــن شــحن عاطفــي باتجــاه‬
‫التأكيــد التدريجــي عــى وفائهــا للصداقــة‪ ،‬أي يك يثبــت الفيلــم مــا أعلنــه أصـاً منــذ اللحظــة‬
‫األوىل‪ .‬باإلضافــة إىل ذلــك ميكننــا مالحظــة انفصــال املقاطــع الكوميديــة األساســية يف الفيلــم‬
‫بعضهــا عــن بعــض‪ ،‬لدرجــة أنــه ميكــن إعــادة ترتيبهــا أو حتــى إلغــاء بعضهــا دون أن يشــكل‬
‫ذلــك فارق ـاً‪ .‬تطلــب هــذا االنفصــام للروابــط عنــارص أخــرى تقــوم بســد الفــراغ الناشــئ‪،‬‬

‫‪185‬‬
‫كأغنيــة تــأيت غالبـاً يف نهايــة املقطــع أو ظهــور شــخصية ثانويــة ليــس لهــا أي دور وظيفــي‬
‫وتتحــرك خــارج أي ســياق كاللــص هشــام جمعــة‪ ،‬وأحيانـاً أخــرى بــروز مشــاهد عاطفيــة‬
‫ترافقهــا موســيقا مفرطــة يف رومانســيتها للداللــة عليهــا‪.‬‬
‫هــذا التفــكك الــذي حفــل بــه الســيناريو‪ ،‬جعــل جميــع الشــخصيات األخــرى يف الفيلــم‬
‫باهتــة بالــكاد نتلمــس وجودهــا‪ ،‬رمبــا ألنهــا باألصــل حــرت فيــه دون رؤيــة واضحــة‬
‫لوظيفتهــا ودورهــا‪ ،‬اللهــم رضورة تزيــن الفيلــم بوجــه نســايئ ينتظــر الحبيــب الغائــب‬
‫متثلــه أمــرة نايــف‪ ،‬أو اختــاق قصــة حــب تقليديــة عابــرة للطبقــات تشــارك فيهــا أريهــام‬
‫عبــد الغفــور‪ ،‬أو الحاجــة إىل اسكتشــات قصــرة لالســراحة يؤديهــا مهــرج أو عجــوزان‬
‫يهرجــان‪.‬‬
‫مــع محمــد هنيــدي حققــت الســينام املرصيــة قبــل ســنوات إيــرادات خياليــة تجــاوزت‬
‫العرشيــن مليــون جنيــه‪ ،‬ومعــه انطلقــت موجــة مغايــرة مــن األفــام انتقدهــا الكثــرون‬
‫ووقــف معهــا آخــرون‪ ،‬لكــن يبقــى رهانهــا األول واألخــر عــى الجمهــور‪ ،‬مــا يدفعنــا‬
‫للتســاؤل هــل ســيؤدي فشــل «صاحــب صاحبــه» عــى املســتوى الجامهــري إلعــادة العديــد‬
‫مــن املنتجــن واملخرجــن والنجــوم النظــر يف توجهاتهــم الســينامئية ونوعيــة األفــام التــي‬
‫ســيصنعونها مســتقبالً‪.‬‬

‫جريدة «النور» السورية ‪.2003‬‬

‫‪186‬‬
‫آالم املسيح‬
‫بني التوثيق التاريخي والخلق الفني‬

‫منــذ زمــن بعيــد مل يــر فيلــم مــا أثــاره «آالم املســيح» مــن جــدل وســجال مل ينتهيــا حتــى‬
‫اللحظــة‪ ،‬ولــن كان مــن املتوقــع أن تتمحــور هــذه الســجاالت يف معظمهــا حــول قضايــا‬
‫دينيــة وتاريخيــة وسياســية تــأيت مــن خــارج الفيلــم‪ ،‬لتشــكل أحداثــه بذلــك مجــرد حافــز‬
‫النطالقهــا‪ ،‬وهــو أمــر شــبه تقليــدي يف هــذه النوعيــة مــن األعــال‪ ،‬غــر أن البنــاء الدرامــي‬
‫والفنــي للفيلــم ســاهم بصــورة كبــرة بــل وحاســمة يف تكريــس هــذا التوجــه‪ .‬فالفيلــم‬
‫يصــور الســاعات الـــ ‪ 12‬األخــرة مــن حيــاة الســيد املســيح‪ ،‬ويدعــي ارتقــاءه إىل مســتوى‬
‫الوثيقــة التاريخيــة املقتبســة حرفيــاً عــن األناجيــل األربعــة‪ .‬وهــذا التوجــه مــن ناحيــة‬
‫التكثيــف الزمنــي يحمــل الكثــر مــن املجازفــة يف حــد ذاتــه‪ ،‬إذ يجعــل مــن الصعوبــة مبــكان‬
‫رســم بورتريــه إنســاين لشــخصية الســيد املســيح‪ ،‬مــن دونــه يصبــح التامهــي أو التعاطــف‬
‫مــع عذاباتهــا التــي يقدمهــا الفيلــم عــى مــدى أكــر مــن ســاعتني عمليــة صعبــة إن مل تكــن‬
‫مســتحيلة‪ .‬بالطبــع هــذا الــكالم يبــدو متناقض ـاً مــع الوقائــع الكثــرة التــي بثتهــا وســائل‬
‫األعــام حــول األثــر الكبــر الــذي تركــه الفيلــم يف نفــوس مشــاهديه (رجــل ديــن أصيــب‬
‫بأزمــة قلبيــة مــات عــى أثرهــا‪ ،‬مجــرم اعــرف بجرميــة ارتكبهــا منــذ زمــن‪ ...‬الــخ)‪ ،‬لكــن‬

‫‪187‬‬
‫هــذا األثــر نابــع يف جوهــره مــن خــارج الفيلــم وليــس مــن داخلــه‪ .‬فهــو منــذ البدايــة‬
‫اســتند إىل املخــزون املعــريف والوجــداين واملتخيــل املتأصــل يف وعــي املشــاهدين عــن حيــاة‬
‫وشــخصية الســيد املســيح‪ ،‬لذلــك مل يجــد رضورة يف إعــادة بنــاء الشــخصية دراميـاً‪ ،‬فبــدت‬
‫مجــردة مــن مكوناتهــا النفســية والثقافيــة واألخالقيــة‪ ،‬ومســتلبة عــن الســياق التاريخــي‬
‫الــذي جــاءت فيــه‪ ،‬وبــدا تفاعلهــا مــع اآلخريــن ومــع القضيــة التــي كرســت حياتهــا لهــا يف‬
‫كثــر مــن املواضــع ال مبالي ـاً أو حيادي ـاً بــل ومتعالي ـاً‪ ،‬ليعجــز بذلــك عــن أنســنتها‪.‬‬
‫ال نســتطيع الجــزم بعــدم قصديــة ذلــك مــن منطلــق تغليــب «اإللهــي» عــى «اإلنســاين»‬
‫يف الشــخصية مــن جهــة‪ ،‬واألمانــة لتوثيــق الــرد اإلنجيــي مــن جهــة أخــرى‪ .‬ويف هــذه‬
‫الحالــة يضعنــا الفيلــم أمــام أكــر مــن إشــكالية‪ ،‬فالحديــث عــن آالم يســتبعد قطعـاً «اإللهي»‬
‫بصفتــه مجــرد ال ميتلــك أحاســيس ويدفــع إىل املقدمــة الجانــب اإلنســاين لشــخصية الســيد‬
‫املســيح‪ ،‬والتــي ميكــن أن نجــد لهــا حقـاً مرتكــزات يف العهــد الجديــد تدعــم هــذا الجانــب‬
‫وتحيــط بأبعــاده النفســية واألخالقيــة‪ ،‬غــر أن الفيلــم مل يقــم باســتغاللها وتســليط الضــوء‬
‫عليهــا‪ .‬هــذا دون التأكيــد عــى الخيــال الخــاق الــذي ال غنــى ألي عمــل فنــي عنــه والكفيــل‬
‫بخلقهــا‪ .‬لكــن هــل مثــة مجــال للخلــق الفنــي يف فيلــم مل يــرد أن يختلــق شــيئاً؟ األمــر‬
‫الــذي يعيدنــا إىل النقطــة الثانيــة ـ التوثيــق‪ .‬كــا هــو معــروف مل تــرو األحــداث األخــرة‬
‫مــن حيــاة الســيد املســيح بنفــس التفاصيــل يف الصفحــات األخــرة مــن األناجيــل األربعــة‪،‬‬
‫وقــد تبــدو الخالفــات الصغــرة بينهــا ليســت بــذي أهميــة‪ ،‬لكنهــا تؤكــد هنــا أن الدوافــع‬

‫‪188‬‬
‫الفنيــة وأحيان ـاً السياســية التــي حــددت الخيــارات التــي وقعــت عــى بعــض التفاصيــل‬
‫دون غريهــا مل تكــن غائبــة عــن نســيج الفيلــم‪ .‬فنجــد مثـاً بيالطــس البنطــي يغســل يديــه‬
‫مــن دم املســيح فــرد كهنــة اليهــود عليــه «دمــه علينــا وعــى أبناءنــا» فقــط يف إنجيــل‬
‫متــى‪ ،‬وغيبســون اختــار هــذه الحادثــة تحديــدا ً‪ ،‬ويف نفــس الوقــت مل يقــم برتجمــة هــذه‬
‫العبــارة إىل التــرات اإلنكليزيــة‪ ،‬وهــذا خيــار أخــر ال ميكــن تجاهــل دور الحملــة التــي‬
‫شــنتها الجمعيــات اليهوديــة ضــد الفيلــم واتهامــه بالالســامية يف تحديــده‪ .‬األمــر نفســه‬
‫يتكــرر مــع حادثــة إرســال الســيد املســيح إىل هــردوس التــي مل تــرد ســوى يف إنجيــل لوقــا‬
‫ورغــم ذلــك وقــع خيــار غيبســون عليهــا يف الفيلــم‪ ،‬ألســباب تتعلــق بتكثيــف حالــة مــا قبــل‬
‫الصلــب يف الفيلــم‪ .‬هــذا باإلضافــة لوجــود تفاصيــل أخــرى ال عالقــة لهــا بــأي مــن األناجيــل‬
‫كحادثــة تعليــق املســيح مــن قدميــه فــوق الجــر‪ ،‬أو قيــام الغــراب بفقــيء عينــي أحــد‬
‫اللصــن املعلقــن إىل جانبيــه عــى الصليــب‪ ،‬والتــي رمبــا تكــون مقتبســة مــن مراجــع أخــرى‬
‫قيــل إن الفيلــم أعتمــد عليهــا مثــل مذكــرات راهبــة مــن القــرن التاســع عــر تدعــى آن‬
‫كاثريــن امريتــش‪ .‬ثــم مــن أيــن جــاء هــذا التوصيــف لعمليــة الجلــد القاســية كــا يقدمهــا‬
‫الفيلــم‪ ،‬أيضـاً كان خيــارا ً ليــس لــه عالقــة بــأي توثيــق مــن داخــل األناجيــل‪ .‬خالصــة القــول‬
‫إن اتــكاء الفيلــم عــى «التوثيــق» وإيجــاد مســوغات للرتكيبــة التــي طلــع بهــا عــى هــذا‬
‫األســاس ال يبــدو دقيقـاً‪ ،‬فالفيلــم كان يف النهايــة قامئـاً عــى خيــارات محــددة بدقــة تعكــس‬
‫رؤيــة محــددة لصانــع الفيلــم تجــاه األحــداث التــي يصورهــا‪ ،‬وهــذا هــو شــأن الفــن ـ‬

‫‪189‬‬
‫فهــو يف النهايــة خيــار فكــري وإبداعــي وتخيــي مــن دونــه يفقــد العمــل روحــه وأصالتــه‪،‬‬
‫و «آالم املســيح» فقدهــا يف جوهــره أي يف شــخصيته املحوريــة والوحيــدة عملي ـاً عندمــا‬
‫قــام بتعريتهــا مــن وجههــا اإلنســاين‪ .‬نعــم حــاول الفيلــم خلــق عالقــة تراكميــة بــن بعــض‬
‫املشــاهد ـ األوقــات التــي عايشــها الســيد املســيح ماضيـاً وصــوالً إىل النهايــة التــي آل إليهــا‪،‬‬
‫لكــن املحاولــة مل تكــن فاشــلة الســتنادها لــذات البعــد «اإللهــي» املجــرد للشــخصية‪ ،‬أو‬
‫الختــزال هــذه املشــاهد واقتطاعهــا عــن ســياق يفــرض املخــرج إدراك املشــاهدين ملاهيتــه‬
‫فحســب‪ ،‬وإمنــا كذلــك بســبب القطــع املونتاجــي الفــظ لحــاالت دراميــة قويــة والعــودة‬
‫إىل الــوراء (فــاش بــاك) إىل مشــاهد تســبق الســاعات األخــرة مــن حيــاة الســيد املســيح‬
‫ويفــرض أن تؤســس للحالــة الراهنــة‪ ،‬فــا هــي أسســت ومل تــدع املشــاهد املقطعــة توصــل‬
‫شــحنتها الدراميــة للمتفرجــن‪.‬‬
‫لكــن عــن أي متفرجــن نحــن نتكلــم؟ ملــاذا الرتكيــز عــى ذلــك املتفــرج البعيــد معرفي ـاً‬
‫ووجداني ـاً عــن شــخصية الســيد املســيح وحياتــه وتاريخــه والــذي مل يصنــع بــكل تأكيــد‬
‫ميــل غيبســون فيلمــه ألجلــه‪ ،‬وهــو مــا ميثــل الخيــار األكــر لــه؟ الســبب ببســاطة أننــا‬
‫نتنــاول فيلـاً وليــس وثيقــة دينيــة‪ ،‬وكل فيلــم ســيناميئ هــو عــامل لــه اســتقالليته وقوانينــه‬
‫ومنطقــه الخــاص‪ ،‬وعندمــا يعجــز أي فيلــم بهــذا املســتوى أو ذاك عــن خلــق هــذا العــامل‪،‬‬
‫هــذه الوحــدة الدراميــة والفنيــة املتكاملــة واملتجانســة عضويـاً‪ ،‬يعنــي أن مثــة خلـاً بنيويـاً‬
‫يف داخلــه‪ ،‬وهــو مــا حاولنــا اإلشــارة إليــه‪ .‬مــن جهــة أخــرى لــن نكــون منصفــن إذا مــا‬

‫‪190‬‬
‫اتهمنــا غيبســون بأنــه مل يكــن واعيـاً وموقنـاً لذلــك الخلــل‪ ،‬وهــو املخــرج أو املمثــل ألفــام‬
‫هوليووديــة بــكل املقاييــس مثــل «قلــب شــجاع» و«الوطنــي» ال مــكان فيهــا لخلــل بهــذا‬
‫الحجــم‪ .‬أي أنــه مل يكــن مجــرد خطــأ أو صدفــة‪ ،‬بــل كان تعبــرا ً عــن رؤيــة واضحــة ذي‬
‫خلفيــة دينيــة متزمتــة تحــاول أن تعيــد للســيد املســيح يف الســينام الوجــه «اإللهــي» بعــد‬
‫أن حاولــت أعــال ســينامئية كبــرة مثــل «اإلنجيــل كــا رواه متــى» لبازولينــي و «اإلغــواء‬
‫األخــر للمســيح» لسكورســيزي إعــادة االعتبــار لوجهــه اإلنســاين وهــو مــا جعلهــا تواجــه يف‬
‫حينــه بالكثــر مــن العــداء والهجــوم مــن قبــل الكنيســة‪ ،‬ويف نفــس الوقــت تقــوم بامتهــان‬
‫هــذا «اإللهــي» عــى املســتوى املــادي املتمثــل بجســد الســيد املســيح مــن خــال تعريضــه‬
‫لشــتى أنــواع العــذاب‪ ،‬األمــر الــذي البــد أن يــرك األثــر الكبــر يف النفــوس وهــو مــا حــدث‬
‫بالفعــل‪.‬‬
‫إىل ذلــك ال ميكننــا الحديــث عــن الفيلــم دون اإلشــارة إىل القضيــة التــي أثــارت الكثــر‬
‫مــن النقاشــات حولــه‪ ،‬ونقصــد تحديــدا ً مســألة العــداء للســامية التــي رفعــت شــعارها‬
‫جمعيــات وتنظيــات وشــخصيات يهوديــة مختلفــة‪ ،‬وأنســاق إليهــا ومعهــا بعــض الكتــاب‬
‫والصحفيــن العــرب الذيــن وجــدوا مســوغاً يف الفيلــم للهجــوم عــى اليهــود والصهيونيــة‬
‫وإرسائيــل جميعـاً‪ ،‬مؤسســن هجومهــم عــى «املســؤولية التاريخيــة» لليهــود يف قتــل الســيد‬
‫املســيح وتحميلهــا إىل جميــع يهــود األرض حيثــا وأينــا وجــدوا‪ .‬وهــو أمــر عــدا عــن أنــه‬
‫يصــب يف ذات اإلدعــاء العنــري بــأن اليهــود «شــعب اللــه املختــار» مــا دام أن التعامــل‬

‫‪191‬‬
‫معهــم يجــري عــى ذات األســاس العرقــي املطلــق‪ ،‬يؤســس لــذات املنطلقــات العنرصيــة‬
‫التــي تطلقهــا الصهيونيــة حــول «الحــق التاريخــي» يف فلســطني‪ .‬فبــاذا يفيدنــا مثــل هــذا‬
‫االنســياق األعمــى ملفاهيــم تقــوم الصهيونيــة نفســها بالرتويــج لهــا؟‬

‫موقع «سينامئيون» ‪.2004‬‬

‫‪192‬‬
‫ما يطلبه املستمعون‬

‫عــاذا يتكلــم فيلــم عبــد اللطيــف عبــد الحميــد الســادس «مــا يطلبــه املســتمعون»؟ نطــرح‬
‫الســؤال ألن اإلجابــة عليــه قــد ال تكــون واضحــة متام ـاً بــل وقــد يحتمــل عــدة إجابــات‪،‬‬
‫وعــى أســاس إجابتنــا ميكننــا الوقــوف عنــد خطوطــه وشــخصياته والعالقــات التــي يرســمها‬
‫ودالالتهــا‪ ،‬وتحليــل كل ذلــك يف محاولــة لتقييمــه‪ .‬هــل ميكــن عــده فيلـاً مناهضـاً للحــرب‬
‫العدوانيــة اإلرسائيليــة ال أكــر؟ ال شــك أن الفيلــم مناهــض لهــذه الحــرب‪ ،‬بــل وناهضهــا‬
‫مبعالجــة ســينامئية جميلــة وراقيــة‪ ،‬لكــن تلــك ليســت املوضوعة األساســية لــه‪ ،‬وإال التخذت‬
‫عنــارص البهجــة مــن حــب ورقــص وموســيقا مســاحة أكــر يف الفيلــم‪ ،‬إن مل تكــن املســاحة‬
‫بأكملهــا كعامــل تبايــن صــارخ مــع الحــرب ومــا تجلبــه معهــا مــن دمــار ومــوت وتعاســة‬
‫وحــزن‪ ،‬بينــا نجــد أن الفيلــم مل يركــز عــى هــذه العنــارص يف الضيعــة فحســب وإمنــا كان‬
‫أمينــاً للواقــع الــذي يصــوره وقــدم نقيضهــا كذلــك‪ .‬إذن هــل ميكــن عــد الفيلــم مجــرد‬
‫لوحــة بانوراميــة ترتصــد بيئــة محــددة مبــا تفــرزه مــن عالقــات ومنــاذج إنســانية متنوعــة‬
‫ومتناقضــة تعكــس يف املحصلــة أفراحهــا وأحزانهــا الكبــرة والصغــرة يف نهايــة الســتينات‬
‫مــن القــرن املــايض؟ ذلــك ممكــن‪ ،‬والفيلــم قــدم بالفعــل هــذه البانورامــا‪ .‬لكــن عندهــا ال‬
‫يعــود مثــة معنــى لــكل تلــك املشــاهد املتعلقــة بالحــرب‪ ،‬ويصبــح املشــهد األخــر بالفيلــم‬

‫‪193‬‬
‫مجــرد خيــار مــن بــن عــدة خيــارات محتملــة إلنهائــه‪ ،‬وميكــن أن يســتبدل بــأي مشــهد ـ‬
‫خيــار أخــر‪ ،‬وتــم اعتــاده فقــط لقوتــه الدراميــة وقدرتــه عــى هــز مشــاعر املشــاهدين‪.‬‬
‫أمــا القــراءة الثالثــة التــي نتبناهــا وســنحاول الربهنــة عليهــا تقــول أن «مــا يطلبــه‬
‫املســتمعون» هــو فيلــم عــن العزلــة بامتيــاز‪ .‬فمنــذ املشــهد األول وانتقــال الكامــرا مــن‬
‫صنــدوق الربيــد إىل البحــر املمتــد إىل الالنهايــة‪ ،‬يضعنــا الفيلــم يف صميــم التناقــض الــذي‬
‫يطرحــه بــن عــامل الضيعــة املنغلــق عــى نفســه كـ«الصنــدوق الربيــدي» والعــامل الخارجــي‬
‫الالمتناهــي كـ«البحــر»‪ ،‬ليصبــح الراديــو هــو الصلــة الوحيــدة تقريب ـاً التــي تربــط ســكانها‬
‫مبــا يجــري يف العــامل مــن حولهــم‪ ،‬بــل وأحــد املــرات القليلــة يف حياتهــم‪ ،‬لدرجــة ترقبهــم‬
‫األســبوعي لربنامــج «مــا يطلبــه املســتمعون» كل ثالثــاء‪.‬‬
‫والحقيقــة أن معظــم شــخصيات الفيلــم برتكيبتهــا املتفــردة وتفاعالتهــا املتبادلــة تخلــق‬
‫إيقاع ـاً خاص ـاً يف الفيلــم يعكــس مجازي ـاً قطبــي هــذه العزلــة ـ الضيعــة املنغلقــة الســاكنة‬
‫واملنطويــة عــى ذاتهــا‪ ،‬والعــامل الخارجــي بانفتاحــه واضطرابــه وهيجانــه‪ .‬ميكننــا أن نالحــظ‬
‫تجســد ذلــك بصــورة واضحــة يف الثنائيــات املتناقضــة التاليــة‪ :‬أبــو جــال (جــال قبــش)‬
‫الــزوج الســاكن الصبــور‪ ،‬وأم جــال (نبــال جزائــري) الزوجــة الهائجــة التــي ال تنفــك تــرخ‬
‫بالجميــع وتلعــن الجميــع‪ .‬الفتــاة عزيــزة (ريــم عــي) التــي تخفــي رسا ً عشــقها لجــال‪،‬‬
‫وجــال (إبراهيــم عيــى) الــذي عــر عــن حبــه لهــا راقصــاً وصارخــاً‪ .‬صالــح (مأمــون‬
‫الخطيــب) الســاكن دوم ـاً والحزيــن دوم ـاً والجائــع دوم ـاً إىل الطعــام والعاطفــة والجنــس‪،‬‬

‫‪194‬‬
‫ووظيفــة (إميــان الجابــر) خطيبتــه الجامحــة والراكضــة طيلــة الوقــت هرب ـاً مــن رصخــات‬
‫ســيدها وزوجتــه‪ .‬أمــا ســليم األخــرس (فايــز قــزق) فهــو بانفعاالتــه وترصفاتــه عــامل منعــزل‬
‫بحــد ذاتــه ال يفهمــه يف كثــر مــن األحيــان حتــى أقــرب األشــخاص إليــه ويعــد االختــزال‬
‫األكــر للحالــة بقطبيهــا‪.‬‬
‫طيلــة الفيلــم ســوف نتابــع انفعــاالت هــذه الشــخصيات وتفاعلهــا مــع بعضهــا يف إيقــاع‬
‫متصاعــد تــارة عــر الصخــب والغضــب والركــض والفــرح والرقــص واملفرقعــات والضحــك‪،‬‬
‫ويخفــت تــارة أخــرى تحــت وطــأة الصمــت واألمل والجــوع والكبــت والرضــوخ والحــزن‪.‬‬
‫لريســم هــذا اإليقــاع لنــا يف املحصلــة صــورة متكاملــة عــن اإلفــرازات التــي أنتجهــا واقــع‬
‫العزلــة الــذي تعيشــه الضيعــة عــى مســتوى تركيبتهــا الطبقيــة وعالقاتهــا وعاداتهــا‬
‫وثقافتها‪...‬الــخ‪ .‬غــر أننــا نالحــظ تفــوق الخــط املتصاعــد لــه وســيطرته عــى حســاب الخــط‬
‫اآلخــر الــذي بــدا باهتـاً إىل حــد مــا‪ ،‬عــى الرغــم مــن القــدرات الدراميــة الكبــرة الكامنــة‬
‫يف شــخصيات الفيلــم وخطوطــه للتعبــر عنــه‪.‬‬
‫هل هذه صدفة أم إشكالية أم غاية مقصودة يف الفيلم؟‬
‫لإلجابــة عــى هــذا الســؤال البــد مــن ربطــه بآليــة اتصــال الضيعــة بالعــامل الخارجــي إال‬
‫وهــي الراديــو‪ ،‬وهــي مســألة جوهريــة يقــوم الفيلــم بأكملــه عليهــا‪ ،‬ولعلــه ال ميكــن تحليــل‬
‫أي مســألة فيــه مبعــزل عنهــا‪ .‬يف بدايــة الفيلــم تبــدو هــذه األداة مجــرد وســيلة للرتفيــه مــن‬
‫خــال برنامــج «مــا يطلبــه املســتمعون»‪ ،‬وحتــى عندمــا يُقطــع الربنامــج بخــر عــن الغــارات‬

‫‪195‬‬
‫اإلرسائيليــة‪ ،‬ينصــب غضــب أهــل القريــة عــى إرسائيــل بصــورة أساســية ألنهــا تســببت‬
‫بقطــع الربنامــج‪ ،‬وعندمــا يخــرون البائــع املتجــول مبــا جــرى نجــده ال يأبــه كثــرا ً وينتقــل‬
‫لعــرض بضائعــه عليهــم دون تعليــق كبــر عــى الحــدث يف أحــد أكــر مشــاهد الفيلــم‬
‫أهميــة وداللــة عــى واقــع العزلــة املحيــط بالضيعــة والــذي جعلهــا منغلقــة عــى أفراحهــا‬
‫وأحزانهــا وبعيــدة كل البعــد عــن البلــد ومــا يحيــط بــه‪ ،‬أمــا تواصلهــا الحقيقــي معــه ســوف‬
‫يحــدث عندمــا تفجــع فجــأة بأحــد أبنائهــا‪ ،‬وإليصــال إحساســها بحجــم الكارثــة التــي وقعت‬
‫عليهــا كان البــد مــن التخفيــف قليـاً مــن الجانــب املأســاوي يف حياتهــا‪ ،‬ولــو عــى املســتوى‬
‫الشــكيل لصالــح الجوانــب األكــر مرح ـاً وفكاهــة ورومانســية وصخب ـاً رغــم أن أي منهــا مل‬
‫يخــل مــن املأســاوي بصــورة أو بأخــرى‪ .‬ومــن هنــا ميكننــا أن نفهــم الــدور الوظيفــي الــذي‬
‫لعبــه الــا تــوازن يف اإليقــاع املشــار إليــه أنفـاً‪.‬‬
‫لكــن إىل أي مــدى اســتطاع الراديــو فع ـاً أن يــؤدي وظيفتــه يف الفيلــم عــى النحــو املــراد‬
‫منــه‪ ،‬كأداة تربــط الضيعــة بالخــارج وتغــر مــن عالقتهــا معــه بالتدريــج‪ ،‬وخاصــة يف مشــهد‬
‫الــذروة األخــر مــع وصــول جثــان جــال إليهــا حيــث التحــول ســيصبح جوهريـاً‪ ،‬وســيكف‬
‫الراديــو عــن كونــه مجــرد أغــان بالنســبة لهــم‪ ،‬ورمبــا ســتجمعهم بعــد اليــوم نــرات األخبار‬
‫أكــر مــن برنامجهــم املحبــب‪ ،‬وأخبــار الغــارات ســتكون رديفــة للمــوت‪ ،‬ولــن يعــرض البائع‬
‫املتجــول بضاعتــه ببســاطة بعــد هكــذا خــر‪ ،‬فالضيعــة ســتغدو منــذ هــذه اللحظــة جــزءا ً‬
‫مــن البلــد يتجــاوز الجغرافيــا ملــا هــو أعمــق وأبعــد‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫هنــا تــرز اإلشــكالية األكــر يف الفيلــم‪ ،‬إذ أننــا مل نلمــس هــذا التحــول يف املشــهد املذكــور‪،‬‬
‫فالراديــو ـ وإن كنــا نســمعه عــى خلفيــة الصــورة ـ بقــي يف هــذا املشــهد كــا كان طيلــة‬
‫الفيلــم يبــث األغــاين وكأن ال يشء تغــر يف الضيعــة‪ ،‬فافقــد الوظيفــة التــي وجــد ألجلهــا‬
‫غايتهــا‪ .‬ال شــك أن هــذا التبايــن بــن الصــورة والصوت يف املشــهد‪ ،‬بثقلــه الدرامــي والعاطفي‬
‫الكبرييــن أغريــا املخــرج بهــذا الخيــار ولــو عــى حســاب املنطــق الدرامــي للفيلــم‪ ،‬ورمبــا‬
‫لــو مل يكــن هــذا املشــهد هــو األخــر كان تقبلــه ممكنـاً‪ ،‬لكنــه كان األخــر‪ .‬أمــا عــى مســتوى‬
‫الصــورة‪ ،‬فقــد بــدت مراســم الجنــازة يف بــؤرة املشــهد ومركــز ثقلــه‪ ،‬رغــم أنهــا ليســت عــى‬
‫هــذا القــدر مــن األهميــة يف حــد ذاتهــا‪ ،‬فاألســايس يف ســياق الفيلــم هــو داللتهــا كنقطــة‬
‫تحــول يف حيــاة الضيعــة‪ ،‬التــي تراجــع موقعهــا نتيجــة ذلــك إىل الدرجــة الثانيــة‪ ،‬وطغــت‬
‫صورتهــا الجامعيــة عــى االنفعــاالت الذاتيــة لألشــخاص األكــر قرب ـاً مــن جــال‪ :‬عائلتــه‬
‫وعشــيقته وصديقــه األخــرس‪ ،‬القــادرة عــى عكــس حجــم املأســاة بأكــر صورهــا تعبــرا ً‪،‬‬
‫فبــدت باهتــة مقارنــة معهــا‪ .‬والحقيقــة أن مــا يســرعي املالحظــة هنــا أن عالقــة هــؤالء‬
‫تحديــدا ً بالراديــو مل تتغــر كثــرا ً خــال الفيلــم حتــى بعدمــا اســتدعي جــال إىل الجبهــة‪،‬‬
‫لذلــك كنــا بعيديــن عــن تتبــع التحــول التدريجــي الــذي يفــرض أنــه طــرأ بعــد ذلــك عــى‬
‫عالقتهــم بالخــارج وصــوالً إىل ذروتــه يف املشــهد األخــر‪ ،‬الــذي جعلنــا نتكهــن بهــذا التحــول‬
‫أكــر مــا دفعنــا لإلحســاس بــه‪.‬‬
‫املــكان يف الفيلــم لعــب كذلــك دورا ً هامـاً يف التأكيــد عــى مفهــوم العزلــة ومــا تولــده مــن‬

‫‪197‬‬
‫انغــاق وضيــق يف الضيعــة‪ ،‬بــدءا ً مــن منازلهــا التــي صــورت متباعــدة ومنعزلــة عــن بعضهــا‬
‫البعــض‪ ،‬مــرورا ً بالغــرف الضيقــة واألرسة الضيقــة‪ ،‬وانتهــاء بالربميــل الــذي ال يخلــو من ذات‬
‫الداللــة‪ .‬لكــن األهــم مــن كل ذلــك أن الفيلــم حافــظ عــى وحــدة هــذا املــكان ـ الضيعــة‬
‫وأكــد مشــهدياً عــى انفصالــه عــن الخــارج طيلــة الفيلــم تقريب ـاً‪ ،‬ومل يخــل بهــذه الوحــدة‬
‫إال يف بضعــة مشــاهد خــرج فيهــا وراء جــال إىل أجــواء املهاجــع واملعــارك والشــوارع‪،‬‬
‫وأعتقــد أنــه أخطــأ يف ذلــك وكــر الحالــة التــي خلقهــا وحافــظ عليهــا معظــم الوقــت دون‬
‫مــررات تخــدم موضوعتــه‪ ،‬فقبــل هــذا الكــر القــري لوحــدة املــكان كنــا نــرى مــا يجــري‬
‫خــارج الضيعــة مــن زاويــة محــددة للرؤيــة تخــص أهلهــا تحديــدا ً ونتفاعــل معــه عــى هــذا‬
‫األســاس‪ ،‬ويف ذلــك تكمــن إحــدى أهــم نقــاط القــوة يف الفيلــم‪ ،‬غــر أنهــا انتكســت عندمــا‬
‫أصبحنــا فجــأة نشــاهد هــذا «الخــارج» مــن زاويــة أخــرى ال تفيــد عــى اإلطــاق التصعيــد‬
‫التدريجــي للزاويــة األساســية التــي اعتمدهــا الفيلــم والتحــول الجوهــري الــذي يطالهــا يف‬
‫النهايــة‪.‬‬

‫مجلة «الوردة» السورية ‪.2004‬‬

‫‪198‬‬
‫أوعى وشك‬

‫عــى مــدى تاريــخ الســينام املرصيــة كان للميلودرامــا مكانــة متميــزة يف نتاجهــا‪ ،‬فهيمنــت‬
‫بصــورة خاصــة يف العقــود األوىل مــن نشــأتها‪ ،‬كــا تشــعبت وازدهــرت يف الخمســينات‬
‫والســتينات‪ ،‬ومل تتوقــف عنارصهــا عــن التغلغــل يف شــتى األعــال خــال الســبعينات‬
‫والثامنينــات‪ .‬ومــع نهايــة التســعينات وظهــور مــا اصطلــح عــى تســميته املوجــة الشــبابية‪،‬‬
‫التــي دشــن بداياتهــا كــا يــرى البعــض فيلــم «اســاعيلية رايــح جــاي» ووصلــت إىل ذروتهــا‬
‫مــن ناحيــة اإليــرادات مــع فيلــم «اللمبــي»‪ ،‬عــادت امليلودرامــا لتطــل برأســها مــن جديــد‬
‫يف الســينام املرصيــة‪.‬‬
‫فالبنيــة األساســية لهــذه األفــام قامــت كــا هــو معــروف عــى الكوميديــا‪ ،‬التــي تعتمــد‬
‫منهجي ـاً يف الكثــر مــن أنواعهــا وأجناســها عــى عنــارص ميلودراميــة متعــددة (شــخصيات‬
‫منطيــة‪ ،‬حلــول تعســفية للحبكــة‪ ،‬نهايــة ســعيدة‪ )...‬تنســجم وهــذه األنــواع واألجنــاس‪ .‬مــن‬
‫جهــة أخــرى نجــد أن امليلودرامــا يف الســينام والتلفزيــون تلجــأ أحيانـاً كثــرة إىل مقومــات‬
‫تنتمــي إىل أنــواع محــددة مــن الكوميديــا‪ .‬وبالتــايل نحــن أمــام جنســن فيلميــن عــى رغــم‬
‫تداخلهــا غــر أنهــا مختلفــان متامـاً‪ ،‬وجوهــر االختــاف يعــود إىل الثقــل األســايس يف بنيــة‬
‫كل منهــا‪ :‬ميلودرامــي أم كوميــدي‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫ولعــل أحــد أكــر إشــكاليات «الســينام الشــبابية» املعــارصة يف مــر عــدم قدرتهــا عــى‬
‫خلــق هــذا الثقــل األســايس يف العمــل‪ ،‬وبالتــايل تحقيــق إيقــاع منســجم للســرورة الدراميــة‬
‫وتعبرياتهــا وتجلياتهــا ومتثلهــا يف داخلــه‪ .‬ولتوضيــح هــذه الفكــرة ميكننــا تنــاول فيلــم‬
‫املخــرج ســعيد حامــد «أوعــى وشــك» كنمــوذج لهــذه النوعيــة مــن األعــال‪.‬‬
‫مــن املعــروف أن املشــاهد األوىل ألي فيلــم إمــا تدخلنــا مبــارشة يف مناخــه العــام أو متهــد‬
‫لــه‪ ،‬أو عــى العكــس قــد تضعنــا يف أجــواء مناقضــة ملناخــه يك تصدمنــا بــه الحقـاً‪ .‬لذلــك إذا‬
‫مــا عندنــا إىل املشــاهد األوىل يف فيلــم «أوعــى وشــك» بعــد االنتهــاء مــن مشــاهدته ملحاولــة‬
‫فهــم الوظيفــة التــي لعبتهــا يف هــذا الســياق ســوف نصــاب بارتبــاك شــديد‪ ،‬إذ ميكننــا‬
‫التأكيــد عــى أنهــا أدخلتنــا مبــارشة يف أجوائــه‪ ،‬طاملــا أن الجرعــة الكوميديــة مبــا حملتــه مــن‬
‫طابــع كاريكاتــوري للشــخصيات الرئيســية الفاعلــة واســتهزايئ تجــاه الشــخصيات الثانويــة‬
‫املفعــول فيهــا‪ ،‬وســمت معظــم مراحــل الفيلــم وكانــت جــزءا ً فاعـاً يف نســيجه‪ .‬لكــن مــن‬
‫جهــة أخــرى ميكننــا التأكيــد عــى العكــس‪ ،‬أي أنــه اســتخدم بغيــة صدمنــا بأجــواء أخــرى‬
‫ذات طابــع مأســاوي ـ ميلودرامــي أخــذت كذلــك حيــزا ً واســعاً يف تركيبــه‪ ،‬وخاصــة يف جزئــه‬
‫األخــر‪.‬‬
‫مــن حيــث املبــدأ األمــر بحــد ذاتــه ال ميكــن رفضــه‪ ،‬مل ال؟ فــكل يشء يف الســينام مبــاح‪،‬‬
‫حتــى ذلــك املــزج بــن أجنــاس مختلفــة وأجــواء متناقضــة ومســتويات انفعاليــة متباينــة‪،‬‬
‫رشط أن يتمكــن املخــرج مــن ابتــكار قوانــن داخليــة منســجمة يف الفيلــم تــرر ذلــك املــزج‬

‫‪200‬‬
‫دراميـاً وفنيـاً‪ .‬يف حالتنــا هــذا مل يحــدث‪ ،‬واملــزج بــدا نوعـاً مــن الخلــط االعتباطــي ألجنــاس‬
‫وأجــواء ومســتويات انفعاليــة تتحــرك كل منهــا وفــق قوانينهــا الخاصــة وصيغهــا الجاهــزة‬
‫املســتوردة مــن خارجــه‪.‬‬
‫فالفيلــم يســتثمر الحالــة الكوميديــة التــي أسســها يف املشــاهد األوىل‪ ،‬والقامئــة بصــورة‬
‫أساســية عــى املبالغــة يف ســلوكيات الشــخصيات الرئيســية حــودة (أحمــد رزق) وصديقــه‬
‫جعفــر (أحمــد عيــد) وردود فعــل الشــخصيات األخــرى واالســتهزاء والســخرية منهــا طيلــة‬
‫الفيلــم (كأن يعلنــا عــن وظائــف يف ليبيــا ومــن ثــم جمــع املتقدمــن ووضعهــم يف صحــراء‬
‫تتوســطها شــاخصة تشــر إىل بلــدان عديــدة‪ .‬أو أن يعــرض حــودة كلبـاً للبيــع عــى أشــخاص‬
‫بســعر مرتفــع ومــن ثــم يــأيت جعفــر باحثـاً عــن كلــب مشــابه لرشائــه بســعر أغــى فيقــوم‬
‫«الحمقــى» بــراء الكلــب لبيعــه لحــودة الــذي يختفــي عــن األنظــار) وذلــك مــن خــال‬
‫خطــن دراميــن ترتكــز أحــداث أولهــا عــى عمليــات النصــب التــي يقومــان بهــا‪ ،‬وثانيهــا‬
‫عــى رصاعهــا مــع عبــده املجنــون ـ نســيم باشــا (طلعــت زكريــا)‪ .‬ومنــذ املشــهد األول‬
‫حيــث يتبــدى الــراع بــن الثالثــة عندمــا يرفــض عبــده إعطــاء الطفلــن املراهقــن حصتهــم‬
‫مــن عمليــة النصــب التــي قامــوا بهــا ســوية‪ ،‬ومــن ثــم انتقــام الطفلــن منــه ورسقتــه‪،‬‬
‫يؤســس الفيلــم لحالــة ميلودراميــة تقــوم عــى رصاع منطــي بــن الظــامل واملظلــوم‪ ،‬ينتهــي‬
‫كالعــادة بالقصــاص العــادل مــن األخــر‪ ،‬ويف املشــهد الــذي يليــه نــرى شــابني (حــودة وجعفر‬
‫نفســهام) يف زي الرشطــة يحصــان مخالفــات ـ أتــاوات مــن الســيارات العابــرة ـ وقــد عجــز‬

‫‪201‬‬
‫اإلخــراج كليـاً يف نقــل اإلحســاس بهــذه املســافة الزمنيــة التــي انقضــت ـ لتتدخــل الصدفــة‬
‫ويلتقيــا مــع عبــدو الــذي كــر وأصبــح نســيم باشــا‪ ،‬فيتعرفــون عــى بعضهــم البعــض ويبــدأ‬
‫يف مطاردتهــا‪.‬‬
‫وقلنــا يؤســس ألن عنــارص امليلودرامــا آنفــة الذكر ســوف تتوســع وتتطــور وتفــرض بالتدريج‬
‫إيقاعهــا عــى الفيلــم بأكملــه‪ .‬التوســع يــأيت مــع دخــول العنــر النســايئ‪ :‬عائشــة (حنــان‬
‫مطــاوع) وآيــة (منــة شــلبي) حيــث ســتقع األوىل بحــب جعفــر والثانيــة يف حــب حــودة‪،‬‬
‫لتتكشــف مــن خاللــه الجوانــب اإلنســانية والخــرة يف شــخصية النصابــن الظريفــن‪ ،‬وكذلــك‬
‫الجوانــب الالإنســانية والرشيــرة يف شــخصية غرميهــا نســيم باشــا‪ .‬ويتطــور األمــر ليشــكل‬
‫هــذا العنــر كــا هــو متوقــع الــرادع األخالقــي للتوقــف عــن أعاملهــا‪ .‬وعنــد هــذه‬
‫اللحظــة ميكــن للمشــاهد أن يــودع الكوميديــا لفــرة‪ ،‬ويستســلم لنغمــة مــن نــوع أخــر‪.‬‬
‫فــا أن يقــرر حــودة التوقــف بســبب حبــه آليــة‪ ،‬حتــى ينشــب الخــاف بــن الصديقــن‪،‬‬
‫وتــزداد حــدة الصــدام وينفصــان‪ ،‬ويتذكــران طفولتهــا ويحنــان إليهــا‪ ،‬وميــي جعفــر إىل‬
‫آيــة ويخربهــا بحقيقــة عملهــا‪ ،‬فتصــدم بهــا وتطــرد عشــيقها حــودة الــذي خدعــت بــه‪،‬‬
‫وتبــي بلوعــة وأىس عــى حبهــا الضائــع‪ .‬لكــن املأســاة ال تســتمر طويـاً ـ فحبهــا لــه ونبتتــه‬
‫الصالحــة تســمح لهــا باملغفــرة‪ ،‬ويعــود الصديقــان فيتصالحــا‪ ،‬ويتحــول الجميــع إىل شــلة مــن‬
‫النصابــن الرشفــاء! أمــا هدفهــم هــذه املــرة فهــو عبــده ـ نســيم باشــا بالــذات‪ .‬بعــد هــذه‬
‫الــدورة امليلودراميــة املتكاملــة والتــي مل يتخللهــا أدىن حــد مــن الفكاهــة‪ ،‬يعــود املخــرج‬

‫‪202‬‬
‫مــن جديــد إىل أجــواء الكوميديــا وبنفــس الســوية مــن املبالغــة والســخرية واالســتهزاء يف‬
‫مشــهد ينجــح األربعــة فيــه بتمثيــل دور وفــد صينــي مــن رجــال األعــال أمــام نســيم باشــا‪،‬‬
‫فينجحــون يف أدائــه ويقبضــون منــه شــيكاً مببلــغ كبــر‪ .‬ليقومــوا بعــد ذلــك بإحقــاق الحــق‬
‫وإعــادة مــا نهبــوه مــن فرائســهم الســهلة والغبيــة إليهــا مــن جديــد‪ .‬بعــد هــذه املرحلــة‬
‫يقــرر املخــرج أن ي َّبهــر فيلمــه بــيء مــن التشــويق البوليــي‪ ،‬فيخطــف نســيم باشــا عائشــة‬
‫ووالدهــا وجعفــر‪ ،‬ويتصــل مهــددا ً حــودة بقتلهــم فيــا إذا مل يحــر األمــوال والوثائــق التي‬
‫تــدل عــى ماضيــه ورسقاتــه‪ ،‬فينفــذ حــودة األمــر لكــن نســيم باشــا ال يكتفــي بذلــك فيقــوم‬
‫بتقييــده داخــل غرفــة ويفتــح جــرة الغــاز عليــه بغيــة قتلــه‪ ،‬لكــن هيهــات‪ ...‬فالقدريــة‬
‫امليلودراميــة البــد مــن أن تتدخــل مــن جديــد‪ ،‬عــى صــورة عامــل تنظيــف للبنــاء يشــاهده‬
‫مــن خــارج نافــذة الغرفــة ويقــوم بإنقــاذه‪ ،‬ليلحــق بطلنــا بالرشيــر وبعــد معركــة ال تخلــو‬
‫مــن األكشــن ينتــر عليــه محققـاً النهايــة الســعيدة املرجــوة‪.‬‬
‫وهكــذا نجــد أن الفيلــم تكــون مــن حلقــات منفصلــة مــن النغــات واإليقاعــات‪ .‬فبــدأ‬
‫كوميديـاً بــروح ميلودراميــة‪ ،‬لتســيطر عليــه الحقـاً إمــا مقاطــع مــن امليلودرامــا املطلقــة أو‬
‫الكوميديــا املطلقــة‪ ،‬ولينتهــي ميلودرامي ـاً بنكهــة بوليســية‪ .‬نحــن هنــا نتكلــم عــن مجــرد‬
‫منــوذج يعــاين مــن إشــكالية قلــا أصبحنــا نشــاهد فيلـاً مرصيـاً يخلــو منهــا‪ ،‬عــى قلــة هــذا‬
‫األفــام التــي مل تتجــاوز العرشيــن يف العــام الفائــت‪.‬‬
‫مجلة «الوردة» السورية ‪.2004‬‬

‫‪203‬‬
‫«باركوا املرأة»‬
‫عندما يستعاد التاريخ برؤية جديدة‬

‫مــن الطبيعــي جــدا ً أن تعــود الســينام الروســية املعــارصة مــرة تلــو األخــرى إىل املــايض‪ ،‬يف‬
‫محاولــة إلضــاءة هــذا الجانــب أو ذاك مــن التاريــخ الســوفيتي للبــاد الــذي بقــي منغلق ـاً‬
‫عــى الكثــر مــن أرساره طيلــة ســبعة عقــود مــن الزمــن‪ .‬ولــن بــدأت هــذه املحــاوالت‬
‫بصــورة متزامنــة مــع انطــاق البريســروكيا يف أواســط مثانينــات القــرن املنــرم‪ ،‬غــر‬
‫أن اهتــام األفــام األوىل مثــل «صيــف ‪ 1953‬البــارد» و«غــدا ً كانــت الحــرب» و«الذيــن‬
‫أنهكتهــم الشــمس» كان منصبـاً بالدرجــة األوىل عــى تقديــم توصيــف جديــد للــايض بغيــة‬
‫الكشــف عــن مالمــح مل تكــن معروفــة ســابقاً عنــه وكان التطــرق إليهــا رضبـاً مــن االســتحالة‬
‫يف ظــل املنظومــة السياســية الســابقة املهيمنــة عــى البــاد والعبــاد‪ .‬أمــا التحليــات األكــر‬
‫عمقـاً لهــذه املرحلــة فهــي مل تــزل يف أطوارهــا األوىل‪ ،‬وليــس فيلــم ستانســاف غافاروخــن‬
‫األخــر «باركــوا املــرأة» ‪ 2003‬إال منوذج ـاً عنهــا‪.‬‬
‫يف تلــك الســنوات الالحقــة للبريســروكيا ابتعــد غافاروخــن عــن الســينام الروائيــة‪ ،‬واتجــه‬
‫إىل ســينام مل يألفهــا ومل يتعامــل معهــا يومـاً ســواء عــى مســتوى الجنــس الفنــي أو املضمــون‬
‫الفيلمــي‪ .‬فاســم غافاروخــن ارتبــط يف الســبعينات والثامنينــات بصــورة لصيقــة بأفــام‬

‫‪204‬‬
‫املغامــرات والتشــويق‪ ،‬وكان أحــد أبــرز مخرجــي هــذا النــوع غــر املنتــر بكــرة يف الســينام‬
‫الســوفيتية‪ ،‬واســتطاع خــال هذيــن العقديــن تحقيــق العديــد مــن األفــام التــي غــدت‬
‫مــن روائعهــا الكالســيكية‪ ،‬ومل تــزل تعــرض عــى شاشــات التلفــزة حتــى اللحظــة مثــل‬
‫«قراصنــة القــرن العرشيــن» ‪« 1979‬مــكان اللقــاء ال يتبــدل» ‪« 1979‬البحــث عــن الكابــن‬
‫غرانــت» ‪ .1984‬لكــن مــا أن بــدأت التغيــرات تعصــف بالبــاد حتــى أنخــرط غافاروخــن‬
‫يف الحيــاة السياســية‪ ،‬واتجــه إىل الســينام التســجيلية محققـاً ثالثــة أفــام جعلــت منــه أحــد‬
‫أهــم ممثليهــا يف الســينام الروســية املعــارصة‪ .‬أولهــا «ال يجــوز العيــش هكــذا» ‪ 1990‬الــذي‬
‫صــور فيــه أكــر الجوانــب ســوداوية وبؤسـاً يف املجتمــع الــرويس‪ ،‬ليعــود يف الثــاين «روســيا‬
‫التــي أضعناهــا» ‪ 1992‬ويتطــرق إىل أبــرز املحطــات املأســاوية التــي مــر الشــعب الــرويس‬
‫بهــا بــدءا ً مــن ثــورة أكتوبــر وحتــى منتصــف الثامنينــات‪ ،‬أمــا يف الثالــث «الثــورة اإلجراميــة‬
‫العظمــى» ‪ 1994‬فتوقــف عنــد هيمنــة املافيــات عــى مختلــف جوانــب الحيــاة السياســية‬
‫واالقتصاديــة يف مرحلــة مــا بعــد البريســرويكا‪ .‬ويغــرق غافاروخــن يف السياســة طويــاً‬
‫مبتعــدا ً عــن الســينام‪ ،‬ليعــود إليهــا عــام ‪ 1999‬مــع فيلمــه «القنــاص» الــذي ال يختلــف يف‬
‫توجهــه عــن األعــال الروائيــة التــي اعتــاد إخراجهــا‪ ،‬لكــن ذلــك ســيتغري متامـاً مــع فيلمــه‬
‫األخــر الــذي نحــن بصــدده‪.‬‬
‫عنــد االنتهــاء مــن مشــاهدة الفيلــم قــد نعتقــد أن مــا تابعنــاه للتــو ال يعــدو كونــه‬
‫ميلودرامــا جميلــة تبــدأ بقصــة حــب مــن النظــرة األوىل وتختتــم بنهايــة ســعيدة لقصــة‬

‫‪205‬‬
‫حــب أخــرى لــذات الشــخصية‪ .‬لكــن هــذا االعتقــاد األويل بحــد ذاتــه يدفعنــا لطــرح الكثــر‬
‫مــن التســاؤالت حــول خيــارات املخــرج وغاياتهــا ســواء فيــا يتعلــق ببنيــة الــرد أو‬
‫املســاحة الزمنيــة التــي غطاهــا الفيلــم والتــي تصــل إىل حــوايل ثالثــن عام ـاً أو التوظيــف‬
‫الدرامــي للشــخصيات أو املفاصــل التاريخيــة التــي توقــف عندهــا والكيفيــة التــي تــم فيهــا‬
‫ذلــك وحتــى عنــوان الفيلــم نفســه‪ ،‬كل ذلــك يجعلنــا مضطريــن إلعــادة النظــر يف رؤيتنــا لــه‪.‬‬
‫يف قريـة نائيـة يف الجنـوب تلتقـي فيرا (سـفيتالنا خودتشـينكوفا) التـي مل تتـم الثامنـة عرشة‬
‫مـن عمرهـا على شـاطئ البحـر مـع ضابط يف سـن والدهـا‪ ،‬وتقع يف حبـه من النظـرة األوىل‪،‬‬
‫وال متضي بضعـة مشـاهد حتـى تتزوجـه وتسـافر معـه تاركـة وراءهـا أمهـا وأخاهـا وأختهـا‬
‫الصغيرة‪ ،‬أمـا األب فلا نعـرف شـيئاً عنـه‪ .‬كل ذلك يحدث برسعـة عجيبة ويف أجـواء أبعد ما‬
‫تكـون عـن الرومانسـية‪ ،‬وتنطـوي عىل الكثري مـن الغرابة‪ :‬رجل عسـكري يف منتهـى الرصامة‬
‫ال يعـرف وجهـه االبتسـامة على اإلطلاق‪ ،‬ومل يصرح بكلمـة حب واحـدة أو حتـى أي كلمة‬
‫توحـي بالتـودد واإلعجـاب‪ ،‬تتعلـق فيـه وتقـع يف حبه فتاة على النقيض منـه يف منتهى الرقة‬
‫والـود واملـرح دون أي مقدمـات ومسـوغات ومتضي معـه‪ .‬وهكـذا يتـم تفتيت الرومانسـية‬
‫التـي نستشـفها يف املشـهد األول لفيرا وهـي تسـبح عاريـة يف البحـر وتغنـي على الشـاطئ‬
‫الرملي لصالـح مشـهدية قامتـة للمسـكن الجديـد الـذي انتقلـت إليه مـع زوجها الريتشـيف‪.‬‬
‫ومل نقـم بتوصيـف مسـهب لهـذه البدايـة التـي قـد تبـدو متكلفـة ومتصنعـة إال ألنها تشـكل‬
‫املفتـاح الرئيسي لولـوج عـامل الفيلـم بأكملـه كام سنرى الحقاً‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫كل مــا ســيفعله الفيلــم يف جزئــه األول املمتــد لحــوايل ســاعة وربــع هــو التأســيس عــى هذه‬
‫البدايــة بغيــة تعميقهــا وترســيخها عــى خلفيــة األحــداث التــي متــر بهــا هاتــان الشــخصيتان‪.‬‬
‫فأحــداث الفيلــم تبــدأ عــام ‪ ،1935‬وهــو تاريــخ ال يخلــو مــن الداللــة‪ ،‬إذ مــن املعــروف أن‬
‫ســلطة ســتالني ترســخت بصــورة كاملــة يف منتصــف الثالثينــات‪ ،‬ليقــدم لنــا الفيلــم إشــارات‬
‫رسيعــة ومقتضبــة إىل بعــض إفــرازات هــذا النظــام داخــل املؤسســة العســكرية يف البــاد‬
‫مثــل اإلعدامــات الجامعيــة للضبــاط قبيــل الحــرب‪ ،‬الخســائر البرشيــة الكبــرة التــي تعــرض‬
‫لهــا الجيــش األحمــر يف حربــه مــع فنلنــدا‪ ،‬الدعايــة الكاذبــة فيــا يتعلــق بالحــرب مــع‬
‫أملانيــا النازيــة‪ ،‬انتشــار الوشــاية بــن العســكريني وصعــود االنتهازيــن منهــم إىل املناصــب‬
‫القياديــة‪ ،‬التشــكيك بوطنيــة الجنــود الذيــن وقعــوا يف األرس لــدى النازيــن والنظــر إليهــم‬
‫بريبــة ال تخلــو أحيانـاً كثــرة مــن التخويــن املبــارش واإلعفــاء مــن الخدمــة الحقـاً ـ هــذا يف‬
‫أحســن األحــوال‪.‬‬
‫ليتضــح لنــا أن اختيــار مهنــة الــزوج كضابــط عســكري مل يكــن صدفــة عــى اإلطــاق‪ ،‬وهــذا‬
‫الخيــار مل يكــن يســعى إلعــادة طــرح املــآيس املتعلقــة باملؤسســة العســكرية فحســب‪ ،‬إذ أنها‬
‫لطاملــا طرحــت يف ســنوات مــا بعــد البريســرويكا وأصبحــت معروفــة للجميــع‪ ،‬بقــدر مــا‬
‫أراد غافاروخــن توظيفــه يف تحليــل منظومــة كاملــة مــن العالقــات االجتامعيــة والتاريخيــة‬
‫التــي نشــأت وترســخت يف ظــل النظــام التوتاليتــاري الســوفيتي‪.‬‬
‫العســكري محكــوم بالرضــوخ‪ ،‬إىل حيــث يؤمــر باالنتقــال عليــه أن ينتقــل وزوجتــه‪ ،‬وهنــا‬

‫‪207‬‬
‫االنتقــال الــذي ال ينفــك يتكــرر ويتكــرر يف الفيلــم إىل درجــة تصــل حــد العبــث التهكمــي‬
‫ليــس مجــرد فعــل إجــرايئ‪ ،‬فعــن طريقــه يتــم تفتيــت املــكان ليــس بصفتــه جغرافيــا ـ‬
‫فاألمكنــة ال تســمى يف الفيلــم ـ وإمنــا بوصفــه حاضــن للبــر والروابط واملشــاعر والذكريات‪،‬‬
‫التــي تفقدهــا العائلــة يف الفيلــم مــرات كثــرة يف ترحالهــا‪ .‬وهــذه الصيغــة األوليــة مــن‬
‫الرضــوخ تتطــور تصاعدي ـاً لتمــي أكــر عمق ـاً وشــمولية‪ ،‬عندمــا يقــف الريتشــيف عاجــزا ً‬
‫عــن مواجهــة شــتى االنتهــاكات الفظيعــة التــي تتــم داخــل جســد املؤسســة العســكرية مــن‬
‫قبــل طغمتهــا املهيمنــة أو مامرســتها تجــاه الخــارج‪ .‬وهنــا مييــز غافاروخــن عــر الشــخصيات‬
‫العســكرية التــي يقدمهــا بــن نوعــن مــن الرضــوخ‪ :‬القــري والــذي ميثلــه الريتشــيف‬
‫نفســه‪ ،‬واالندماجــي املتامهــي مــع املؤسســة‪ ،‬ويف كال الحالتــن تقــوم شــخوصه بإعــادة‬
‫إنتــاج مامرســاتها عــى مــن هــم أدىن يف التسلســل الهرمــي داخــل املؤسســة أو خارجهــا‪.‬‬
‫وهــذا التمييــز ال يــأيت بغيــة وضــع النوعــن عــى قــدم املســاواة وبالتــايل إدانتهــا معـاً‪ ،‬أو‬
‫التفريــق بينهــا وإدانــة أحدهــا عــى حســاب اآلخــر‪ ،‬وإمنــا الغايــة منــه تســليط الضــوء‬
‫عــى تجليــات مختلفــة للتكيــف مــع املؤسســة السياســية ـ العســكرية املهيمنــة تــرز عــى‬
‫مســتوى الرتكيبــة النفســية والســلوكية للشــخصيات املقدمــة‪ .‬وبــن الضابــط الــذي يعجــز‬
‫متام ـاً عــن التكيــف معهــا وينهــي حياتــه منتحــرا ً (يــؤدي الــدور غافاروخــن نفســه) وبــن‬
‫األخــر املتكيــف إىل درجــة الذوبــان الكامــل فيهــا يقــف الريتشــيف‪ ،‬فــكل الرصامــة والتجهم‬
‫واالنغــاق والــكالم املقتضــب واملشــاعر املكبوتــة لشــخصيته التــي عكســها برباعــة املمثــل‬

‫‪208‬‬
‫الكســندر بالويــف‪ ،‬كل ذلــك ليــس إال شــكالً مــن أشــكال التكيــف‪ .‬فاإلنســان يتحــول يف‬
‫مقاومتــه غــر املعلنــة لبطــش الســلطة إىل قنــاع ال نســتطيع حتــى التكهــن مبــا يخفــي خلفــه‬
‫مــن مكنونــات إنســانية‪ ،‬اســتطاع الفيلــم أن يوحــي بوجودهــا بصــورة شــفافة‪ ،‬فنحــن ال‬
‫ندركهــا وبالــكاد نســتطيع تلمســها‪ ،‬غــر أننــا حتـاً نشــعر بهــا يف مكان مــا داخل الشــخصية‪،‬‬
‫وبصــورة خاصــة مــن خــال عالقــة الريتشــيف مــع زوجتــه فــرا‪.‬‬
‫إذ أننــا عــى املســتوى الظاهــري لهــذه العالقــة ســرى أمامنــا رجـاً قاســياً تقليديـاً إىل أقــى‬
‫حــد‪ ،‬منــذ اللحظــة األوىل للــزواج يوضــح بصيغــة األمــر األســاس الــذي يجــب أن تقــوم عليــه‬
‫العالقــة بــن الطرفــن مــن وجهــة نظــره‪ :‬الرجــل عليــه أن يعمــل ويجنــي األمــوال واملــرأة‬
‫عليهــا أن تعتنــي باملنــزل وتؤمــن لــه الراحــة داخلــه‪ .‬وهــذا األمــر ـ كأي أمــر عســكري ـ غــر‬
‫قابــل للنقــاش والجــدال وإمنــا للتنفيــذ فحســب‪ ،‬وهــو مــا تذعــن فــرا طواعيــة لــه‪ ،‬وتســتمر‬
‫يف ذلــك حتــى عندمــا يطالبهــا بالتخــي عــن «أبنائهــا» واحــدا ً تلــو األخــرى فيجربهــا أن‬
‫تجهــض طفلهــا األول‪ ،‬ومــن ثــم يأخــذ أبنــه الــذي وجــدت فيــه تعويضــاً عــن أمومتهــا‬
‫املفقــودة بعيــدا ً عنهــا ليضعــه يف مدرســة داخليــة لأليتــام‪ ،‬ومــن ثــم تخــر طفــي صديقتهــا‬
‫ماشــا ســمولينا املمرضــة يف إحــدى املشــايف خــال الحــرب عندمــا يقــرر حملهــا معــه إىل‬
‫مــكان جديــد‪.‬‬
‫وهكــذا يعيــد الــزوج الراضــخ للمؤسســة العســكرية إنتــاج مامرســاتها القمعيــة الفوقيــة‬
‫تجــاه الزوجــة التــي ترضــخ بدورهــا وكأنهــا فــردا ً يف ذات املؤسســة‪ ،‬بينــا يحــدث ذلــك يف‬

‫‪209‬‬
‫إطــار املؤسســة األبويــة املهيمنــة عليهــا‪ .‬والحقيقــة إن قســوة الريتشــيف تجــاه فــرا تبــدو‬
‫أبويــة بــكل معنــى الكلمــة‪ ،‬والغايــة منهــا ليــس تحطيمهــا معنويــا أو جســدياً ـ فهــو مل يقــم‬
‫مــرة واحــدة بشــتمها أو رضبهــا ـ وإمنــا حاميتهــا وتأهيلهــا للتكيــف مــع الواقــع املحيــط‬
‫الــذي ال يريــد أن ينجــب طفـاً يف ظلــه‪ ،‬ويخــى أال يســتطيع طفلــه األول التأقلــم معــه إذ‬
‫مــا أفســدته فــرا بداللهــا وجعلــت منــه إنســاناً هش ـاً‪ .‬لنصبــح أمــام حالــة مــن التجــاذب‬
‫والتامهــي بــن املؤسســتني ـ العســكرية واألبويــة يف مواجهــة املــرأة التــي تخضــع لهــا بصــدر‬
‫رحــب‪.‬‬
‫مــع مــوت الريتشــيف يبــدأ الجــزء الثــاين مــن الفيلــم والــذي ال يســتمر أكــر مــن ‪ 45‬دقيقــة‬
‫وتســيطر عــى مجرياتــه أربعــة نســاء‪ :‬فــرا ووالدتهــا وفــرا الصغــرة أبنــه ماشــا واملمثلــة‬
‫الشــهرية واملتقاعــدة كونينــا التــي مل تعــد أجــواء املدينــة تناســبها‪ ،‬فتنتقــل للعيــش معهــن‪.‬‬
‫أي أننــا إزاء ثالثــة أجيــال مــن النســاء تعيــش مبعــزل عــن االســتبداد الذكــوري‪ ،‬لنعــود‬
‫إىل ذات الحالــة التــي بــدأ منهــا الفيلــم‪ ،‬مــع عــدة فــوارق جوهريــة‪ ،‬فــاألرسة الجديــدة‬
‫ال تربطهــا صلــة الــدم وحدهــا لتنتهــي هــذه الصلــة متام ـاً مــع مــوت األم‪ ،‬وهــي إشــارة‬
‫واضحــة إىل التفــكك الــذي أصــاب الروابــط األرسيــة التقليديــة داخــل املجتمــع الســوفيتي‬
‫والشــكل الجديــد مــن العالقــات التــي حلــت مكانهــا‪ ،‬كــا ال ميكننــا أن نتوقــع أن يعيــد‬
‫التاريــخ نفســه بالنســبة لفــرا الشــخصية الرئيســية‪ ،‬فهــي مل تعــد تلــك الفتــاة املراهقــة التــي‬
‫ميكــن أن تنســاق ببســاطة وراء مشــاعرها‪ ،‬وإمنــا امــرأة ناضجــة خــرت الحيــاة وعرفــت‬

‫‪210‬‬
‫حلوهــا ومرهــا يف تنقالتهــا املســتمرة‪ ،‬وتوســعت الخيــارات املتاحــة أمامهــا بعــد نجاحهــا‬
‫عــى الصعيــد املهنــي وإدارتهــا لفنــدق يتيــح لهــا االختــاط اليومــي مــع عــدد غــر محــدود‬
‫مــن الرجــال‪ .‬لكــن توقعاتنــا ســوف تخيــب متامـاً‪ ،‬وتقــع فــرا للمــرة الثانيــة يف حــب رجــل‬
‫عســكري يف عمــر والدهــا ولــه الكثــر مــن األوالد واألحفــاد‪ .‬ولــن عارضــت والدتهــا يف‬
‫املــرة األوىل ارتباطهــا بالريتشــيف‪ ،‬نجــد أن أعضــاء أرستهــا الجديــدة يرحبــون بخيارهــا‬
‫ويفرحــون ألجلهــا ويحزنــون كذلــك عنــد اعتقادهــم أنــه تخــى عنهــا‪ ،‬لتعــود وتعــم الفرحــة‬
‫الجميــع عندمــا يطــرق «األب العســكري» بابهــم مجــددا ً للــزواج منهــا‪ ،‬وينتهــي الفيلــم‬
‫مــع هــذه «النهايــة الســعيدة» بعــد أن يذكرنــا بلقطــة يف بدايتــه تجمــع بــن الريتشــيف‬
‫بلباســه العســكري وفــرا بجاملهــا الــرويس النموذجــي‪ .‬وهنــا ال يعــود مثــة لبــس يف املســتوى‬
‫التعميمــي الــذي يرتقــي الفيلــم إليــه مــن خــال ربطــه بــن الجــذور العميقــة للنظــام‬
‫األبــوي يف روســيا وبــن تقبــل املواطنــن الســوفيت للنظــام التوتاليتــاري طيلــة ســبعة عقــود‪.‬‬
‫ونشــر يف هــذا الســياق أن «ســتالني أب الشــعوب» كان أحــد أكــر الشــعارات تــداوالً يف‬
‫املرحلــة الســتالينية التــي تبــدأ أحــداث الفيلــم خاللهــا‪ ،‬ونشــهد معهــا تعميــم العســكريتاريا‬
‫عــى كافــة بنــى املجتمــع مبــا يف ذلــك األرسة‪ ،‬حيــث املــرأة هــي األكــر معانــاة مــن بطــش‬
‫املنظومــة الديكتاتوريــة ـ األبويــة ويف الوقــت ذاتــه هــي أكــر مــن خفــف مــن تبعاتهــا عــى‬
‫املســتوى اإلنســاين‪.‬‬
‫مجلة «الوردة» السورية ‪.2005‬‬

‫‪211‬‬
‫تحت السقف‬

‫الفيلــم األول‪ .‬مــن املؤكــد أنــه يعنــي الكثــر ألي مخــرج يف العــامل‪ ،‬فكيــف الحــال عندمــا‬
‫يتعلــق األمــر مبخــرج يعيــش يف بــاد يعــد فيهــا الوقــوف وراء الكامــرا لتصويــر فيلــم روايئ‬
‫طويــل فرصــة ذهبيــة قــد ال تتكــرر إال بعــد عــر ســنوات‪ ،‬كــا أنهــا مل تــأت إال بعــد نحــو‬
‫عــر ســنوات مــن التخــرج األكادميــي‪ .‬مــن هنــا يخلــق تشــويق اســتثنايئ لــدى املتتبــع‬
‫الســوري عــا ســيحمله مثــل هــذا الفيلــم‪ ،‬ومــا يرفــع مــن وتــرة هــذا التشــويق أننــا‬
‫نــادرا ً مــا نشــاهد فيلـاً أول كــا هــو الحــال مــع «تحــت الســقف» الفيلــم األول للمخــرج‬
‫نضــال الدبــس‪.‬‬
‫إىل ذلــك يــأيت هــذا الفيلــم بعــد انبثــاق جملــة مــن الظواهــر الالفتــة يف عــامل الســينام‬
‫خــال الســنوات العــرة األخــرة مثــل حركــة دوغــا ‪ 95‬التــي حققــت انتشــارا ً واســعاً‬
‫يف العــامل‪ ،‬وانتصــارات الســينام اإليرانيــة وســينامت رشق أســيا‪ ،‬والتطــور الهائــل لكامــرات‬
‫التصويــر الرقميــة واســتخدامها عــى نطــاق واســع حتــى مــن قبــل مخرجــن محرتفــن‪،‬‬
‫واتســاع دائــرة اإلنتاجــات املشــركة بصــورة غــر مســبوقة‪ ،‬ووصــول الســينام األمريكيــة‬
‫إىل ســوية مــن الحرفيــة والجاذبيــة أهلتهــا للهيمنــة شــبه املطلقــة عــى شاشــات العــامل‪،‬‬
‫دون أن ننــى التجــارب امللهمــة التــي قدمهــا ســينامئيون أوربيــون مــن أمثــال تورناتــوري‬

‫‪212‬‬
‫وأملودوفــار وكوســتاريكا وغريهــم‪ ،‬والعديــد مــن األعــال املميــزة يف الســينامت العربيــة‬
‫التــي اســتطاعت أن تحــوز عــى اإلعجــاب والتقديــر داخــل بلدانهــا وخارجهــا‪.‬‬
‫إذا مــا أخذنــا كل ذلــك يف عــن االعتبــار مضــاف إليــه تــراث الســينام الســورية نفســه‪،‬‬
‫البــد مــن أن نتوقــع فيلـاً أول بنكهــة جديــدة مختلفــة وطازجــة تحمــل الكثــر مــن روح‬
‫الشــباب والتجريــب واملبــادرة ســواء مــن ناحيــة موضوعتــه أو معالجتهــا الســينامئية‪ .‬لكــن‬
‫هــذا مل يحــدث‪ ،‬ومل يســتطع الفيلــم الخــروج مــن «معطــف» الســينام الســورية‪ ،‬والكثــر‬
‫مــن تقاليدهــا ومالمحهــا أرخــى بظاللــه عليــه‪ .‬فمــرة أخــرى نحــن مــع «ســينام املؤلــف»‬
‫وتقاطعــات مــع الســرة الذاتيــة وجرعــات عابــرة مــن السياســة وحتــى مــع جهــة اإلنتــاج‬
‫نفســها‪ .‬بالطبــع جميــع هــذه العنــارص ال تشــكل بحــد ذاتهــا إدانــة للفيلــم أو منطلقــات‬
‫لتناولــه وتحليلــه بقــدر مــا تســتدعي التســاؤل حــول غيــاب أشــكال أخــرى مــن املرجعيــات‬
‫والتقاليــد واألســاليب واالتجاهــات يف ظــل مــا ذكرنــاه أنف ـاً مــن تحــوالت ســينامئية‪.‬‬
‫التقاطــع األغــرب واألطــرف جــاء مــع الفيلــم الســوري اآلخــر «عالقــات عامــة» للمخــرج‬
‫ســمري ذكــرى‪ ،‬ونقصــد تحديــدا ً ثنائيــة «فــارس الحلــو ـ ســافة معــار» اللذيــن أديــا دور‬
‫زوجــن يف كيل الفيلمــن‪ ،‬علــاً أن العملــن املذكوريــن هــا كل مــا اقتــر عليــه إنتــاج‬
‫املؤسســة العامــة للســينام يف مجــال الفيلــم الــروايئ الطويــل خــال الســنتني املنرصمتــن‪.‬‬
‫ومــن جديــد ال يشــكل هــذا األمــر بحــد ذاتــه إدانــة للفيلــم بقــدر مــا يبعــث عــى الضحــك‪،‬‬
‫وطبع ـاً عــى التســاؤل‪ :‬ملــاذا؟‬

‫‪213‬‬
‫رمبــا املســؤولية تقــع عــى مخــرج ثالــث هــو أســامة محمــد الــذي ظهــر اســمه يف تــر‬
‫الفيلمــن بصفــة‪ :‬تعــاون فنــي‪ .‬وهــو أمــر مفهــوم ومــرر متامـاً بــل ورضوري عندمــا يكــون‬
‫بــن مخرجــن ينتميــان إىل جيــل واحــد‪ ،‬أو ينحــدران مــن مدرســة أو تيــار فنــي واحــد‪،‬‬
‫ويحمــان رؤى وتوجهــات ســينامئية متقاربــة‪ .‬لكــن مــا الــذي يجمــع بــن أســامة محمــد‬
‫ونضــال الدبــس؟ طبعـاً ال أســتطيع أن أجــزم بعــدم وجــود مــا يجمــع بينهــا فكريـاً وفنيـاً‪،‬‬
‫لكــن إن صــح ذلــك فهــذا يعنــي أن اإلشــكالية أكــر مــن الفيلــم نفســه‪ .‬فــإذا مــا تركنــا جانبـاً‬
‫اإلحســاس بالوصايــة الــذي ميكــن أن يســيطر عــى أي مخــرج شــاب يقــف إىل جانبــه مخــرج‬
‫أكــر ســناً لــه أســمه ومكانتــه وبصمتــه عــى الســاحة الســينامئية‪ ،‬والتأثــر الناجــم عــن مثــل‬
‫هــذه الوصايــة عــى عملــه‪ ،‬ال نســتطيع أن ننفــي إمكانيــة إعــادة إنتــاج ذات الــرؤى الفنيــة‬
‫والفكريــة الســابقة بغــض النظــر عــن قيمــة هــذه الــرؤى‪ ،‬فاملشــكلة هنــا ليســت يف قيمتهــا‬
‫وإمنــا يف اســتمرار إنتاجهــا ضمــن ذات اآلليــات والقوالــب واألدوات والوســائل‪.‬‬
‫ولعــل مــا يعــزز الشــعور بثقــل «اإلرث الســيناميئ الســوري» عــى الفيلــم منــذ البدايــة‬
‫طبيعــة املوضوعــة التــي يتناولهــا‪ .‬إذ يحــاول الفيلــم أن يقابــل بــن زمنــن يفصــل بينهام نحو‬
‫عرشيــن عامـاً‪ .‬زمــن األحــام الرومانســية الكبــرة املغلفــة بالشــعارات الطنانــة والجــداالت‬
‫التــي ال تنتهــي عــى إيقــاع أقــداح العــرق وأغــاين مارســيل خليفــة ـ زمــن بدايــة الثامنينــات‪.‬‬
‫وزمــن االنكســارات الكبــرة التــي جــاءت كمحصلــة للزمــن األول ـ الزمــن املعــارص‪ .‬وقــد‬
‫ربــط الفيلــم نفســه مبنــاخ واقعــي ـ تاريخــي‪ ،‬تؤكــده اإلشــارات املتكــررة إىل محطــات‬

‫‪214‬‬
‫تاريخيــة بعينهــا ال تخلــو مــن الداللــة مثــل هزميــة عــام ‪ ،1967‬اجتيــاح بــروت‪ ،‬حــرب‬
‫الخليــج‪ .‬كــا قــام بتعزيــزه الــرد الــذايت املتكــرر واألغــاين املرافقــة وحتــى ملصــق فيلــم‬
‫«كارمــن»‪.‬‬
‫إذن أراد الفيلــم أن يعــر عــن تبعــات مرحلــة مؤطــرة تاريخي ـاً مــن خــال مجموعــة مــن‬
‫الشــخصيات ذي املالمــح املحــددة عمريــاً وإيديولوجيــاً ونفســياً‪ ،‬مــن هنــا كان رضوريــاً‬
‫ربــط هــذه املجموعــة بالســياق التاريخــي واالجتامعــي الــذي تحركــت ضمنــه وخرجــت‬
‫منــه‪ ،‬وتفــرض هــذه الــرورة حاجــة معرفيــة وأخــرى فنيــة‪ .‬عــى املســتوى األول كان لزاماً‬
‫عــى الفيلــم طاملــا ربــط نفســه بالواقعيــة والتاريــخ أن يتعمــق أكــر يف تركيبــة الشــخصيات‬
‫املقدمــة‪ .‬فاملســألة ليســت مجــرد «أحــام تكــرت»‪ ،‬بــل هــي أحــام هــذه الشــخصيات‬
‫دون غريهــا‪ ،‬شــخصيات انتمــت إىل فئــات اجتامعيــة محــددة ومنظومة إيديولوجيــة محددة‬
‫وحــراك ســيايس محــدد وجيــل محــدد عــاش يف زمــن محــدد‪ .‬ولعلهــا كانــت أخــر كوكبــة من‬
‫الحاملــن (رغــم أننــي ال أســتطيع أن أجــزم غيــاب األحــام الثوريــة يف التســعينات)‪ ،‬فاألحــام‬
‫الكبــرة تكــرت قبــل ذلــك غــر مــرة‪ ،‬ويف كل مــرة كان لالنكســار خصوصيتــه التــي حددتها‬
‫طبيعــة املرحلــة والســياق الســيايس وبنيــة الوعــي‪ ،‬لذلــك كان البــد مــن الخــوض بعمــق أكرب‬
‫يف تفاصيــل تكشــف املالمــح الداخليــة لهــذه الشــخصيات وخصوصيــة انكســاراتها‪ ،‬وخاصــة‬
‫أنهــا بانتامءاتهــا املذكــورة تعــد مجهولــة لــدى الجــزء األكــر مــن املشــاهدين كــا كانــت‬
‫بعيــدة يف زمانهــا ألســباب موضوعيــة عديــدة عــن عامــة الجامهــر‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫أمــا عــى املســتوى الفنــي فمــن دون هــذه التفاصيــل تضيــع مالمــح الشــخصيات يف هيــوىل‬
‫عموميــة تتــوارى خلفهــا فــرادة مالمحهــم اإلنســانية‪ ،‬وتفقــد جميــع املظاهــر الســلوكية‬
‫والنفســية لهــا كــا تجلــت يف الفيلــم الحامــل الســببي الــذي يربرها دراميـاً‪ ،‬وال يعــود مثة أي‬
‫معنــى للتقابــل الــذي قدمــه الفيلــم بــن األزمنــة‪ .‬وهــذه النقطــة املتعلقــة بالزمــن يف الفيلــم‬
‫البــد أن تســتوقفنا ملــا لهــا مــن أهميــة جوهريــة يف بنائــه‪ .‬إذ رغــم أن مثــة نحــو عرشيــن‬
‫عامـاً تفصــل بــن املرحلتــن‪ ،‬غــر أننــا ال نشــعر بهــذا الفاصــل عــى اإلطــاق‪ .‬فنجــد أن الهيئة‬
‫الخارجيــة للممثلــن ال تتغــر طــوال الفيلــم‪ ،‬رغــم أن الجــزء األكــر مــن أحداثــه يجــري يف‬
‫الزمــن املعــارص‪ ،‬يف زمــن يفــرض بالشــخصيات أنهــا تجــاوزت األربعــن عامـاً‪ ،‬لكننــا نجدهــم‬
‫بــذات النضــارة والشــباب التــي كانــوا عليهــا يف الزمــن األول‪ ،‬حتــى ال توجــد أي تغيــرات يف‬
‫املكيــاج تدلــل عــى مــرور الزمــن‪ .‬وهــذه املســألة مــن البديهيــة إىل حــد يصعــب تصديــق‬
‫عــدم تداركهــا واالنتبــاه إليهــا‪ ،‬لدرجــة أننــي مل أســتطع يف البدايــة أن اســتبعد احتــال‬
‫قصديــة ذلــك لغايــات ودالالت فنيــة معينــة‪ ،‬مث ـاً كإشــارة إىل احتباســهم يف ذلــك الزمــن‬
‫وعــدم قدرتهــم عــى الخــروج مــن أجوائــه وأوهامــه‪ ،‬ويعــزز هــذه الفرضيــة األداء التمثييل‬
‫الــذي بــدا يف معظــم الفيلــم ثابتـاً وراســخاً ال يتطــور وال يبعــث عــى اإلحســاس بســرورة‬
‫الزمــن‪ .‬غــر أن العــامل الداخــي الــذي عكســه هــذا األداء يجعلنــا نلغــي تلــك الفرضيــة متامـاً‪،‬‬
‫فهــو يف مجملــه ميكــن عــده كمحصلــة للزمــن األول وليــس اســتمرارا ً لــه يف الزمــن املعــارص‪.‬‬
‫إذ نجــد أنفســنا إزاء كتلــة متناقضــة مــن املشــاعر والســلوكيات عند الشــخصيتني الرئيســيتني‬

‫‪216‬‬
‫(ســافة معــار ورامــي حنــا) ســواء تجــاه بعضهــم البعــض أو تجــاه مــن حولهــم‪ ،‬محملــة‬
‫بكثــر مــن الالمبــاالة واليــأس والعدميــة واالضطــراب والحــزن‪ ،...‬وهــذه الكتلــة ال ميكــن‬
‫لهــا أن تنتمــي بــأي حــال مــن األحــوال إىل زمــن «األحــام الكبــرة»‪ ،‬كــا ميكنهــا أن تنجــم‬
‫عــن أســباب أخــرى ليســت بالــرورة مرتبطــة بانكســار هــذه األحــام مــا دام أننــا مل نــدرك‬
‫أص ـاً طبيعتهــا‪ ،‬ســياقها التاريخــي‪ ،‬حاضنتهــا االجتامعيــة‪ ،‬وإطارهــا الســيايس‪ .‬مــا يجعــل‬
‫مــن الثبــات الشــكيل للممثلــن أو اختيارهــم إشــكالية‪ ،‬ومــن عــدم تطــور أدائهــم إشــكالية‬
‫أخــرى‪ ،‬ومــن عــدم وضــوح بواعثــه إشــكالية ثالثــة‪.‬‬

‫مجلة «الوردة» السورية ‪.2004‬‬

‫‪217‬‬
‫عالقات عامة‪ ...‬شديدة الخصوصية‬

‫عــر مدخــل ســاخر تهكمــي أراد «عالقــات عامــة» أن يســلط الضــوء بصــورة بعيــدة عــن‬
‫امليلودرامــا والرصامــة الواقعيــة والتجهــم عــى أشــكال عميقــة مــن التشــوهات اإلنســانية‬
‫التــي تطفــو عــى ســطح املجتمــع محملــة بكثــر مــن الالمبــاالة والعبثيــة‪ .‬ذلــك مــا يتبــدى‬
‫جليـاً يف الرتكيبــة الذاتيــة للشــخصيات األساســية الثالثــة يف الفيلــم ويف ســلوكياتها وعالقاتهــا‬
‫بعضهــا ببعــض‪ ،‬والتــي تبــدو أبعــد مــا تكــون عــن النمطيــة‪.‬‬
‫فيمكننــا أن نستشــعر يف كل مــن تلــك الشــخصيات رجــل األعــال (ســلوم حــداد) وزوجتــه‬
‫(ســافة معــار) ومهنــدس الكهربــاء (فــارس الحلــو) العديــد مــن املالمــح املتناقضــة‬
‫وغــر املألوفــة‪ .‬فــاألول صاحــب مشــاريع ضخمــة وشــبكة عالقــات واســعة ونافــذة تصــل‬
‫إىل أجهــزة األمــن‪ .‬لكنــه ليــس أســرا ً لرثائــه ونفــوذه‪ ،‬فهــو شــخص مــرح خفيــف الظــل‬
‫ومتســامح وكريــم‪ ،‬وقــد تعــود هــذه الوضعيــة إىل ثقتــه الكبــرة برســوخ مكانتــه وعــدم‬
‫وجــود أي تهديــد مــن شــأنه أن يزعزعهــا وإميانــه بدميومتهــا إىل األبــد‪ .‬مهنــدس الكهربــاء‬
‫يظهــر عــى أنــه شــخص طيــب بســيط عاطفــي لديــه رعــب شــبه مــريض مــن الســلطة فيبدو‬
‫مهــزوزا ً مضطربـاً ومتلعثـاً يف حــرة رجــل األعــال‪ ،‬إىل أن تتكشــف حقيقــة شــخصيته مبــا‬
‫تحملــه مــن مكــر وخبــث يف النهايــة‪ .‬أمــا الزوجــة التــي يتمحــور حولهــا «رصاع» الرجلــن‬

‫‪218‬‬
‫فرغــم أنهــا فتــاة متعلمــة قويــة الشــخصية ومتوازنــة نفســياً ومســتقلة يف عملهــا كدليــل‬
‫ســياحي‪ ،‬فهــي متزوجــة عرفيـاً مــن رجــل األعــال‪ ،‬حامــل منــه وتعيــش يف شــقة فارهــة لــه‬
‫يف بنــاء يبــدو أنــه ملجــأ لفتيــات الرجــال النافذيــن‪ ،‬دون أن نتلمــس ولــو بقايــا مــن مشــاعر‬
‫الحــب أو يشء مــن االحــرام تجاهــه‪.‬‬
‫أمــور كثــرة قــد ال تبــدو منطقيــة يف روابــط هــذا املثلــث‪ ،‬مــن نــوع تســامح رجــل األعــال‬
‫لعالقــة زوجتــه مــع املهنــدس ـ التــي تطــورت بدورهــا بصــورة مكوكيــة ـ ومــن ثــم تأييــده‬
‫لهــا ومباركتــه لزواجهــا بــل ودفعــه ملهــر يصــل إىل مليــون لــرة وتنازلــه عــن شــقته لهــا‪ .‬أو‬
‫املواجهــة النديــة بينــه وبــن زوجتــه ســواء فيــا يتعلــق بطفلهــا الحامــل بــه أو عالقتهــا مــع‬
‫املهنــدس‪ ،‬رغــم عــدم وجــود أي أســاس لهــذه النديــة‪ .‬أو عالقتــه مــع املهنــدس الــذي يســعى‬
‫إىل جذبــه نحــو مملكتــه‪ ،‬رمبــا لجعلــه نســخة مطابقــة لــه تنبذهــا الزوجــة وتعــود لــه‪.‬‬
‫والحقيقــة إن مدخــل الفيلــم نفســه الــذي تســيطر عليــه مجموعــة مــن املشــاهد املتتاليــة‬
‫حيــث يلتقــي املهنــدس والزوجــة مبحــض الصدفــة املتكــررة يؤســس ملناخــه العبثــي‬
‫التهكمــي‪ .‬فالتشــوهات التــي أصابــت املجتمــع وشــخوصه أمســت بالنســبة للمخــرج فاجعــة‬
‫لدرجــة كاريكاتوريــة‪ ،‬يتطلــب التعبــر عنهــا مســتوى عالي ـاً مــن الســخرية‪ .‬مــن هنــا لــن‬
‫يكــون مجديـاً تنــاول الفيلــم مــن منطلقــات واقعيــة بحتــة‪ ،‬والبحــث عــن تربيــرات منطقيــة‬
‫صارمــة لســرورة األحــداث وســلوكيات الشــخصيات فيــه‪ ،‬فالفيلــم مل يــرد االنطــاق مــن‬
‫هــذا املنظــور وال يجــوز تحميلــه تبعــات منطــق فنــي مل يختــاره وتقيمــه عــى أساســه‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫لكــن املعضلــة التــي تواجــه أي مخــرج يف مثــل هــذه النوعيــة مــن األعــال تكمــن يف قدرتــه‬
‫عــى املحافظــة عــى أســلوبية الفيلــم‪ ،‬فــا يشــتط بــه الخيــال ويزيــح ثقــل الفيلــم نحــو‬
‫الكوميديــا الــرف‪ ،‬وال يخضــع ملغريــات الواقعيــة واللحظــات الدراميــة املؤثــرة‪ ،‬إذ يف كيل‬
‫الحالتــن ســوف يحــدث اختــال يف تــوازن املنــاخ العــام للفيلــم وأجوائــه‪ .‬ولألســف يف حــل‬
‫هــذه املعضلــة تحديــدا ً تــرز إشــكالية الفيلــم األساســية التــي تجلــت عــى عــدة مســتويات‪.‬‬
‫مــع مقدمــة الفيلــم وعــى اإليقــاع الرتيــب لظهــور أســاء منجزيــه نفاجــئ بثالثــة خلفيــات‬
‫متنوعــة‪ :‬مناظــر ملناطــق أثريــة‪ ،‬ولوحــات جداريــة كنســية‪ ،‬ورســوم كاريكاتوريــة‪ .‬وعــدا‬
‫عــن التــازج القبيــح واملتناقــض تشــكيلياً لهــذه الخلفيــات‪ ،‬ال أســتطيع أن أفهــم جدواهــا‪،‬‬
‫إذ أن وظيفتهــا ال تتعــدى التهيئــة ألجــواء الفيلــم التــي تعكســها الرســوم الكاريكاتوريــة‬
‫وحدهــا‪ .‬وتعــود يف بدايــة الفيلــم ونهايتــه لتتكــرر مناظــر اآلثــار! ملــاذا؟ هــل هــي نــوع‬
‫مــن االســتعارة التعميميــة للواقــع الــذي يتصــدى الفيلــم لترشيحــه أو ملقابلــة هــذا الواقــع‬
‫بالتاريــخ الحضــاري الباهــر للبــاد‪ .‬رمبــا‪ ،‬لكنهــا يف هــذه الحالــة اســتعارة بائســة جاهــزة‪،‬‬
‫تــأيت مــن خــارج الفيلــم وال تفرضهــا أحداثــه وأجوائــه‪ ،‬وميكــن اســتخدامها بهــذه الطريقــة‬
‫ولــذات الدوافــع يف أي فيلــم أخــر دون أن يشــكل ذلــك فارق ـاً‪.‬‬
‫العديــد مــن مجريــات الفيلــم جــاءت كذلــك مقحمــة مــن خــارج ســياقه‪ ،‬وأبرزهــا ذاك‬
‫الخيــط الدرامــي املتعلــق بعائلــة الزوجــة‪ .‬فهــذا الخيــط مل يقــدم أي إضافــة للخــط األســايس‬
‫القائــم عــى العالقــة الثالثيــة بــن الشــخصيات‪ .‬وال أفهــم ملــاذا تــم إقحــام هــذا الخــط يف‬

‫‪220‬‬
‫الوقــت الــذي اســتغنى الفيلــم فيــه متامـاً عــن الروابــط العائليــة للرجلــن اآلخريــن‪ ،‬وحســناً‬
‫فعــل مــادام أن ال وظيفــة دراميــة لهــا كــا هــو حــال هــذا الخيــط‪ .‬األســوأ مــن ذلــك‬
‫هــو األســلوب الــذي تــم مــن خاللــه تناولــه‪ ،‬فكأننــا إزاء فيلــم أخــر ال ميــت للفيلــم الــذي‬
‫نشــاهده بــأدىن صلــة ـ باســتثناء املشــاهد التــي ظهــر فيهــا املهنــدس لــدى العائلــة ـ دمــوع‬
‫ورصاخ وبــؤس‪ ...‬درامــا واقعيــة قاســية بــكل معنــى الكلمــة ال تنقصهــا القــوة املشــهدية‬
‫والتمثيليــة‪ ،‬ورغــم ذلــك ولهــذا الســبب تحديــدا ً أطاحــت باملنــاخ التهكمــي العــام للفيلــم‬
‫ومزقــت أجوائــه املرحــة إىل أشــاء‪ .‬وهــو مــا قامــت بــه كذلــك طيلــة الفيلــم املوســيقا‬
‫التصويريــة‪ ،‬التــي جــاءت يف عاطفيتهــا املفرطــة وميلودراميتهــا غــر منســجمة عــى اإلطــاق‬
‫معــه‪.‬‬
‫يف مــكان أخــر مــن الفيلــم مل تكــن الســيطرة عــى األجــواء هــي املشــكلة‪ ،‬كــا يف مشــهد‬
‫بيــت الرفيــق الشــيوعي‪ ،‬فلــو جــاء هــذا املشــهد يف ســياق بانورامــي يصــور منــاذج مختلفــة‬
‫مــن الشــخوص الذيــن يلتقــي معهــم املهنــدس بحكــم عملــه‪ ،‬لــكان موقعــه يف الفيلــم مــررا ً‪،‬‬
‫لكــن املشــهد جــاء يتي ـاً منقطــع الصلــة عــن أي ســياق‪ ،‬حتــى أنــه مل يضــف مــا يغنــي‬
‫شــخصيته دراميــاً ويضيــف معلومــات جديــدة عنــه للمشــاهد‪ ،‬ومل يــر الخــط الدرامــي‬
‫األســايس بــأي صــورة كانــت‪.‬‬
‫وإذا كنــا قــد أرشنــا إىل رصامــة وجديــة الخــط العائــي للزوجــة‪ ،‬الــذي وصــل إىل ذروتــه‬
‫يف األداء التمثيــي لوالدتهــا‪ .‬فنجــد عــى الطــرف األخــر أداء مناقضـاً متامـاً ينــدرج يف إطــار‬

‫‪221‬‬
‫كوميــدي تهريجــي مطلــق‪ ،‬ونقصــد تحديــدا ً شــخصيات رجــال املرافقــة لرجــل األعــال‪،‬‬
‫الذيــن جعلهــم الفيلــم جميع ـاً جمع ـاً مــن الخرســان‪ ،‬لكــن هــل تنســجم هــذه الجرعــة‬
‫الزائــدة مــن املبالغــة الكوميديــة ـ مــع مــا تحملــه مــن رمزيــة إىل عــامل هــذا الرجــل املغلــف‬
‫بــاألرسار ـ وســوية الســخرية املهيمنــة عــى منــاخ الفيلــم؟ أشــك يف ذك‪ .‬ومــا دمنــا نتكلــم‬
‫عــن األداء التمثيــي ال يســعنا ســوى اإلشــادة بــأداء أبطالــه الثــاث فــارس الحلــو وســلوم‬
‫حــداد وســافة معــار الذيــن كانــوا مطالبــن بتأديــة أدوار مركبــة تتطلــب انفعــاالت تقــع‬
‫يف مســاحة وســطى بــن الجــد والهــزل‪ ،‬وقــد نجحــوا غالب ـاً يف ذلــك‪.‬‬
‫الفيلــم امتــد ألكــر مــن ســاعتني وأعتقــد أنــه لــو مل يكــن املونتــاج خائف ـاً مــرددا ً وعاجــزا ً‬
‫عــن التدخــل يف اللحظــة املناســبة والقطــع حيــث يجــب لجــاء الفيلــم أكــر متاســكاً وتوازنـاً‬
‫ومتعــة‪.‬‬

‫مجلة «الوردة» السورية ‪.2006‬‬

‫‪222‬‬

You might also like