Professional Documents
Culture Documents
إضاءات سينمائية
إضاءات سينمائية
إضاءات سينمائية
4
نقد أفالم
-134اللجاة .1993 -
-142إيجاد فورسرت – .2000
-146تهريب .2000 -
-151أطفال شاتيال – مجلة “الفن السابع” املرصية .2001
-161ملا حكيت مريم – جريدة “النور” السورية .2003
-164زفاف رنا – جريدة “النور” السورية .2003
-168جواز بقرار جمهوري -جريدة “النور” السورية .2003
-174سهر الليايل -جريدة “النور” السورية .2003
-181إزاي البنات تحبك -جريدة “النور” السورية .2003
-184صاحب صاحبه -جريدة “النور” السورية .2003
-187أآلم املسيح -موقع «سينامئيون» .2004
-193ما يطلبه املستمعون – مجلة “الوردة” السورية .2004
-199أوعى وشك -مجلة “الوردة” السورية .2004
-204باركوا املرأة – مجلة “الوردة” السورية .2005
-212تحت السقف -مجلة “الوردة” السورية .2006
-218عالقات عامة – مجلة “الوردة” السورية .2006
5
حول السينما يف سوريا
6
ورقة العمل
حول واقع ومستقبل السينام يف سورية
«إنــه واقــع يــرح نفســه منــذ عــرات األعــوام ،فيلــم واحــد يف العــام ،قطيعــة بني الســينام
والحيــاة االجتامعيــة ،وغربــة بــن الجمهــور وطقــس الحضــور ،وخــراب صــاالت العــرض،
وعــدم توفــر األفــام التــي ميكــن أن تشــاهد» .بهــذه الكلــات تبــدأ مقدمــة ورقــة العمــل
حــول واقــع ومســتقبل الســينام يف ســورية التــي وقعهــا 42ســينامئياً و 6مــن أصحــاب
دور العــرض .مــا ال شــك فيــه أن هــذه الورقــة تأخــرت كثــرا ً (إذا اخرتنــا التعبــر األكــر
ديبلوماســية) ،ورمبــا لــو أجتمــع الســينامئيون منــذ زمــن بعيــد لصياغــة هكــذا ورقــة ملــا
وصلــت الســينام يف ســوريا إىل هــذا الواقــع املــزري عــى جميــع املســتويات.
لكــن املهــم اآلن أنهــم اجتمعــوا ـ وإن يكــن كــرد فعــل عــى محــاوالت مــن قبــل «لجنــة
عليــا» تســعى بصــورة تعســفية إىل حــل األزمــة بعيــدا ً عنهــم ـ وقــرروا أن يبــادروا بصياغــة
ورقــة عمــل تحــاول توصيــف الواقــع الســيناميئ الراهــن مــن كافــة جوانبــه ،وطــرح ســبل
الخــروج مــن األزمــة الخانقــة التــي يعانيهــا .وألهميــة هــذه املبــادرة نــرى مــن الــروري
إضــاءة بعــض نواحيهــا ،وإبــداء عــدد مــن املالحظــات حــول بعضهــا اآلخــر ،كمســاهمة يف
صياغــة الخطــوط األساســية التــي تطرحهــا ورقــة العمــل ،والتــي بنــاء عليهــا ســتتبلور يف
7
مؤمتــر الســينامئيني القــادم مالمــح الواقــع الســيناميئ الجديــد يف ســورية.
تؤكــد الورقــة يف مقدمتهــا عــى «أن الــدور الجوهــري للقطــاع العــام يف ميــدان الثقافــة
الوطنيــة رضوري وغــر قابــل للنقــاش ،ولكــن تجســد هــذا الــدور يف مجــال الســينام يعنــي
بالــرورة حاميــة الدولــة ودعمهــا لهــذه الصناعــة االســراتيجية» ،وبنــاء عــى ذلــك تدعــو
«بــأن يكــون لإلنتــاج الســيناميئ حصتــه الكافيــة يف توزيــع الدخــل الوطنــي ،وأن يصبــح
بنــدا ً يف دراســة وإقــرار ميزانيــة الدولــة» ،ويشــر الســينامئيون هنــا إىل أنهــم ال يطمعــون
«بالتأكيــد مبلياريــن ونصــف ،ولكــن مليونــن ونصــف املليــون دوالر ..عــى األقــل ،إن جــاء
معهــا االنفتــاح عــى اإلنتــاج املشــرك الســوري والعــريب والعاملــي وترافقــت مــع الخطــوات
األخــرى التــي ذكــرت ســتكون كفيلــة بتجــاوز الواقــع ،وصــوالً إىل الهــدف األســايس وهــو:
نشــوء صناعــة ســينامئية ســورية» ويؤكــدون «إن نشــوء هــذه الصناعــة يتطلــب قطاع ـاً
عام ـاً قوي ـاً وحــارضا ً ومنفتح ـاً عــى تعــدد الجهــات املنتجــة .ذلــك أن الجميــع يجــب أن
يكــون مدعــوا ً للمســاهمة يف هــذه املهمــة الوطنيــة».
ورد املخــرج هيثــم حقــي عــى هــذا التوجــه متســائالً« :يف أي مــكان مــن العــامل تنتــج
الدولــة أفالم ـاً؟ هــل تنتــج أفالم ـاً يف الســويد أو الــروج أو الدامنــارك؟ يف أي مــكان مــن
العــامل :وفرنســا وأملانيــا وبريطانيــا؟ أم يف اليابــان أم يف الهنــد أم يف إيــران؟ يف هــذه الــدول
كلهــا تدعــم الدولــة إنتــاج األفــام ،الدولــة مل تعــد تنتــج أفالم ـاً إال يف الــدول االشــراكية».
ومــا يقولــه املخــرج حقــي صحيــح ،فدعــم الدولــة للســينام كجــزء مــن سياســة ثقافيــة
8
متكاملــة -فيــا لــو وجــدت سياســية ثقافيــة لديهــا أصـاً -هــو نهــج متبــع يف العديــد مــن
دول العــامل ،لكننــي أعتقــد بــأن هــذا النهــج يتخــذ أهميــة خاصــة يف الــدول املتخلفــة التــي
تفتقــد إىل بنــى ثقافيــة قويــة وصناعــة ســينامئية راســخة أنتجــت تقاليدهــا وارتباطاتهــا عــر
الســنني ،حيــث طبيعــة الدعــم ال ميكــن أن تكــون مامثلــة لتلــك الســائدة يف الــدول املتقدمــة
ســينامئياً ،وبالتــايل ال ضــر يف أن يتمثــل الدعــم فيهــا بإنتــاج أفــام ،وال ننــى وجــود عــدد
كبــر مــن الــدول يف العــامل التــي ليــس لديهــا أي إنتــاج ســيناميئ عــى اإلطــاق .ويف الواقــع
أن املخــرج حقــي مــدرك متام ـاً لهــذه النقطــة إذ يقــرح« :إحــداث مديريــة إنتــاج لــدى
املؤسســة العامــة للســينام تحصــل عــى متويــل مــن الدولــة مببلــغ 50مليــون لــرة ســورية
مــن أجــل إنتــاج الفيلــم األول والثــاين للســيناميئ» .إذا ً الخــاف ليــس حــول دعــم الدولــة
بحــد ذاتــه وإمنــا حــول حجمــه وكيفيــة تقدميــه ودور القطــاع العــام املتمثــل يف املؤسســة
العامــة للســينام بصــورة عامــة.
ورغــم أهميــة االقــراح الــذي يقدمــه حقــي ،ودوره يف إخــراج الســينامئيني الشــبان مــن
دائــرة البطالــة ،واالنتظــار عقــد مــن الزمــن يف طابــور املؤسســة قبــل الــروع بإخــراج
الفيلــم األول ،ولكننــي أرى أنــه مــن املبكــر بعــد الســر وفــق هــذه اآلليــة ،إذ أعتقــد أنــه
مــن املجحــف يف حــق الســينامئيني «القدامــى» نــزع اإلمكانيــة الوحيــدة املتوفــرة لديهــم
اليــوم لإلنتــاج ـ أي املؤسســة ـ يف الوقــت الــذي مل يتبلــور فيــه واقــع جديــد يفــرز إمكانيــات
بديلــة لهــم ،فهــؤالء يف النهايــة كانــوا ضحايــا واقــع وآليــات عمــل وقوانــن فرضــت عليهــم،
9
وال يجــوز بــن ليلــة وضحاهــا أن يحملــوا وزرهــا وحدهــم.
يف هــذا األمــر يبــدو طــرح الورقــة يف مكانــه متامـاً ،غــر أن الطــرح يتجــاوز ذلــك يف تركيــزه
عــى دور الدولــة يف إنشــاء «صناعــة ســينامئية ســورية» .وهــذا أمــر غــر ممكــن يف الواقــع،
فالدولــة ميكــن لهــا أن تدعــم الصناعــة الســينامئية ،لكــن قبــل ذلــك عــى هــذه الصناعــة أن
تظهــر إىل الوجــود ،فحتــى صناعــة الســينام يف االتحــاد الســوفيتي الســابق والتــي أنتجــت
مــن قبــل الدولــة بصــورة كاملــة ،كان لهــا وجــود مــن قبــل الثــورة ،ووصــل عــدد األفــام
املنتجــة حتــى عــام 1917إىل حــوايل 2000فيلــم.
يف الواقــع إذا مــا عدنــا للبدايــات نجــد أن إنشــاء املؤسســة مل يكــن حصيلــة إرهاصــات
ســينامئية مــن أي نــوع يف البــاد ،مبعنــى أنــه مل يكــن غايتهــا تنظيــم حالــة ســينامئية قامئــة
أو دعمهــا أو تنشــيطها ،بــل إن عــدد الســينامئيني مل يكــن يف ذلــك الوقــت يتجــاوز أصابــع
اليــد لدرجــة أن تــم اســتقدام مصــور يوغوســايف لتصويــر أول أفــام املخــرج صــاح دهنــي
التســجيلية ،وحتــى القطــاع الخــاص مل يكــن قــد انطلــق بعــد .لذلــك ال ميكننــا ربــط الســياق
التاريخــي الــذي ولــدت املؤسســة يف إطــاره ســوى بالتغيــرات السياســية التــي جــاء بهــا عــام
1963والتــي مل يفتهــا املكانــة الكبــرة التــي حظيــت الســينام بهــا يف شــتى النظــم السياســية
رشقــاً وغربــاً كأداة فعالــة يف دعــم وترويــج أيديولوجياتهــا وسياســاتها والــدور الفاعــل
الــذي لعبتــه يف هــذا االتجــاه ،وهــو مــا انعكــس بصــورة واضحــة يف األفــام التــي أنتجتهــا
املؤسســة يف بدايــة الســبعينات ،حيــث متحــورت معظــم موضوعاتهــا حــول الــراع الطبقــي
10
يف املــايض والقضيــة الفلســطينية مــع تغييــب شــبه كامــل لعــدد كبــر مــن املوضوعــات
املرتبطــة بالداخــل واملعــارص .وعندمــا أخــذت أجهــزة التلفزيــون تنتــر بصــورة واســعة
بــن املواطنــن تراجعــت أهميــة الســينام لصالــح األداة الجديــدة التــي بــدت أكــر فاعليــة
وأقــل مجازفــة ،فرفعــت الدولــة يدهــا عــن املؤسســة بتطبيــق املرســوم 18عليهــا ،ليرتاجــع
إنتاجهــا بعــد أن وصــل إىل خمســة أفــام عــام 1974إىل فيلــم واحــد وســطياً كل عــام ،بــدا
كافيـاً كــادة دعائيــة الســتهالك اإلعــام واملهرجانــات ودون أن يحظــى الجمهور الســوري يف
كثــر مــن األحيــان مبشــاهدته يف مواقيــت مناســبة ولفــرة مالمئــة .هــذا باإلضافــة إىل وجــود
أكــر مــن جهــة حكوميــة أخــرى لديهــا إمكانيــة اإلنتــاج الســيناميئ ومل تقــم طيلــة تاريخهــا
بإنتــاج أكــر مــن فيلــم واحــد أو فيلمــن مثــل دائــرة اإلنتــاج الســيناميئ يف التلفزيــون وقســم
الســينام يف اإلدارة السياســية للجيــش .فهــل كانــت الدولــة معنيــة حقـاً بتطــور الســينام يف
البــاد؟
إن نشــوء هــذه الصناعــة يف ســوريا مرتبــط بصــورة مبــارشة وحتميــة بالقطــاع الخــاص
وتطــوره ،بــل وبتطــور الواقــع االقتصــادي واالجتامعــي للبــاد .مــن هنــا نجــد بــأن الطــرح
ال يفصــل متام ـاً بــن الســينام كإنتــاج ثقــايف أو تجريبــي ال يخضــع لقوانــن الســوق والربــح
والخســارة ،وهــي الســينام التــي عــى الدولــة أن تقــوم بتمويلهــا وتحريرهــا مــن أي عــبء
تجــاري يف إطــار املؤسســة العامــة للســينام ،وحيــث يكــون الدعــم منســجامً مــع هــذه
الوظيفــة ال أكــر ،وبــن الســينام كـ«ســلعة» صناعيــة ـ تجاريــة عــى الدولــة أن تزيــح كخطوة
11
أوىل وأساســية جميــع العوائــق الترشيعيــة أمــام ظهورهــا عــى أرض الواقــع ،وتقديــم جميع
التســهيالت املمكنــة لهــا.
تتطــرق ورقــة العمــل بدايــة إىل واقــع املؤسســة العامــة للســينام ،حيــث تــرى «أن الفهــم
القائــم لـــ «مؤسســة اقتصاديــة ذات طابــع ثقــايف» يتجاهــل الخصوصيــة الثقافيــة إلنتــاج
املؤسســة ويســاوي الثقافــة والســينام بالخضــار معتــرا ً كليهــا «ســلعة» جعــل «مــن الطابــع
االقتصــادي عبئ ـاً ثقي ـاً يكبــل املؤسســة ويرتكهــا عالقــة يف دوامــات إداريــة وماليــة بعيــدا ً
عــن جوهرهــا الثقــايف».
رغم اتفاقنا مع هذه الرؤية من حيث املبدأ ،غري أنه البد من اإلشارة إىل نقطتني:
أوالً :أن التناقــض «التاريخــي» بــن الجانــب الثقــايف للمؤسســة مــن جهــة واالقتصــادي مــن
جهــة أخــرى ،والــذي تفاقــم بصــورة مأســاوية بعــد حــر اســترياد األفــام الســينامئية
وتوزيعهــا باملؤسســة مل يكبــل عملهــا وحدهــا ،وإمنــا كان أحــد األســباب األساســية يف انهيــار
القطــاع الخــاص ،الــذي مل يســتطع الصمــود يف وجــه املنافســة القادمة مــن الخــارج ،واملتمثلة
يف اســترياد املؤسســة منــذ منتصــف الســبعينات ألعــداد كبــرة مــن األفــام التجاريــة األكــر
تطــورا ً مــن الناحيــة التقنيــة والفنيــة والدراميــة مقارنــة باإلنتــاج املحــي ،واملشــابه لــه
مــن حيــث الســوية الفكريــة ،ملبيــة بذلــك حاجــة الســوق التــي كان يقتــات عليهــا القطــاع
الخــاص .ومــن ثــم مــع ابتعــاد الجمهــور تدريجي ـاً عــن هــذه األفــام ،انقطعــت تقاليــد
الفرجــة ،وتحولــت صــاالت العــرض إىل مرتــع لألطفــال املرشديــن والعاطلــن عــن العمــل
12
وعابــري الســبيل ،مــا مل يشــجع أصحابهــا عــى إصالحهــا وتحديثهــا مــع الزمــن ،لتــؤول
إىل الحالــة املزريــة الراهنــة .أي أن هــذا التناقــض أدى يف نهايــة األمــر إىل تدهــور الواقــع
الســيناميئ يف ســورية بأكملــه.
ثانيـاً :إن غــرق املؤسســة يف الدوامــات املاليــة واإلداريــة «بعيــدا ً عــن جوهرهــا الثقــايف» ال
ميكــن ربطــه فقــط بهــذا التناقــض ،بل إن ذلــك يعــود وبدرجة أكــر إىل اآلليــات البريوقراطية
والتعســفية التــي تحكــم عمــل القطــاع العــام يف ســوريا بصــورة عامــة واملؤسســة بصــورة
خاصــة ،والتــي ســمحت لعــدد كبــر مــن املوظفــن ذوي الكفــاءات اإلداريــة الســيئة وأحيانـاً
الفاســدة ،والذيــن يفتقــدون إىل روح املبــادرة بنظرتهــم الضيقــة واملحــدودة بتبــوء العديــد
مــن املناصــب اإلداريــة الفعالــة .وأعتقــد بأنــه كان عــى الورقــة التطــرق إىل هــذه الجوانــب
الهامــة ،إذ مــن دون رؤيــة شــمولية إلشــكاليات املــايض ،مــن الصعــب التكهــن بعــدم تكــرار
ذات األخطــاء يف املســتقبل .وتشــر الورقــة إىل «أن إعــادة الحيــاة إىل املؤسســة تتطلــب
تحريرهــا مــن هــذا العــبء بإصــدار الترشيعــات الداعمــة ملهمتهــا الثقافيــة .وفــق منطــق
شــامل ومــدروس يحيــط بالواقــع مــن كل النواحــي ويفتــح أمــام املؤسســة أبــواب التقــدم
املغلقــة» .وبغيــة ذلــك تقــدم الورقــة مجموعــة مــن االقرتاحــات الهامــة عــى الصعيــد املــايل
واإلداري للمؤسســة .نلخصهــا فيــا يــي:
1ـ «أن تحتمــل الدولــة (وزارة الثقافــة ـ وزارة املاليــة) كتلــة الرواتــب واألجور يف املؤسســة،
مــا يحقــق الفصــل بــن النفقــات اإلداريــة ونفقــات اإلنتاج».
13
2ـ إيجاد حل للتضخم يف عدد املوظفني داخل املؤسسة.
3ـ «دعــم وحاميــة وتحديــث إنتــاج املؤسســة الثقــايف…» وذلــك بــأن «تتلقــى املؤسســة
مســاعدات ماليــة ســنوية كافيــة مــن الدولــة».
4ـ تطويــر آليــات التوزيــع والتســويق الخارجــي إلنتــاج املؤسســة ســواء يف مجــال العــرض
الســيناميئ أو الفضــايئ.
5ـ االنفتــاح عــى اإلنتــاج املشــرك مــع القطــاع الخــاص (يف حــال ظهــوره) والجهــات
العربيــة والعامليــة املختلفــة ،ملــا يضمنــه ذلــك مــن دعــم يف التقنيــة والتوزيــع والعــرض،
وذلــك دون اإلخــال باســتقاللية الهويــة الثقافيــة.
6ـ اســتثامر القاعــدة التقنيــة الهامــة التــي متتلكهــا املؤسســة ،والتــي «ميكنهــا أن تشــكل
األرضيــة للصناعــة الســينامئية الســورية» ،وخاصــة إذا مــا تــم إنجــاز املدينــة الســينامئية
وأنطلــق القطــاع الخــاص ،حيــث «ســيعود عليهــا ذلــك بدخــل جيــد يدعــم قدرتهــا اإلنتاجية
الذاتيــة ويخفــض مــن كلفــة اإلنتــاج املحــي الخــاص ،كــا سيســتقطب اإلنتــاج العــريب أيضاً».
7ـ تحديث صاالت العرض التي متتلكها املؤسسة أو متتلك نسباً فيهاً.
8ـ إعادة النظر يف اآللية اإلدارية لعمل املؤسسة ،وقوانينها الداخلية.
9ـ «إعــادة تشــكيل اللجــان املفصليــة يف املؤسســة (مجلــس اإلدارة ،إدارة شــؤون اإلنتــاج،
االســترياد ،التخطيــط ،اللجنــة الفكريــة) بحيــث يكــون عــدد الســينامئيني فيهــا مســاوياً لعــدد
اإلداريــن حتــى لــو كان اإلداري ســينامئياً».
14
وهكــذا تحيــط ورقــة العمــل بجميــع القضايــا التــي مــن شــأنها بعــث الــروح يف املؤسســة
العامــة للســينام ،مبقرتحــات عمليــة واضحــة ،وليســت مســتحيلة التحقيــق فيــا لــو وجــدت
الرغبــة واإلرادة عنــد «أوليــاء األمــور» ،وهنــا بيــت القصيــد ،فمعظــم هــذه القضايــا وإن
يكــن بأشــكال ومســتويات مختلفــة ـ طــرح مئــات املــرات يف الصحــف الســورية والعربيــة
طيلــة عقديــن ونيــف مــن الزمــن ـ والنتيجــة ال يشء .حتــى مــروع الصنــدوق الوطنــي
للســينام الــذي يــرى فيــه البعــض جهــة إنتاجيــة بديلــة للمؤسســة ،طرح منــذ عــام 1977ومل
يجــد كذلــك تجاوبـاً لــدى الجهــات املعنيــة .إذن املســألة ال تكمــن فقــط يف وجــود املؤسســة
أو الصيغــة املناســبة لوجودهــا أو إلغائهــا ،وال يف إحــداث املجلــس الوطنــي للســينام وإرشافه
عــى الصنــدوق الوطنــي للســينام أو عــدم إحداثــه .وإمنــا يف قــدرة الســينامئيني عــى فــرض
تصوراتهــم وآرائهــم ،ويف أن يكونــوا جــزءا ً فاعـاً مــن القــرار الســيناميئ يف البــاد.
بعــد ذلــك تنتقــل الورقــة إىل القطــاع الخــاص وتشــر إىل أن «لــدى القطــاع الخــاص الــذي
كان يعمــل يف بالدنــا ،والــذي ميكــن أن يعــود للعمــل ،اهتــام عمــي بتحويــل الســينام
إىل صناعــة رابحــة ،إن تزاوج ـاً بــن هــذه الــروح وبــن الــروح اإلبداعيــة الثقافيــة للعمــل
الســيناميئ ســيعطي دفعـاً باتجــاه تأســيس الصناعــة الســينامئية الوطنيــة الحيــة ،والتنســيق
بــن القطاعــن بوجــود قــوي للمؤسســة ســيضمن أال تســيطر عــى اإلنتــاج الوطنــي منــاذج
الســعي إىل الربــح وحــده».
يبــدو واضحـاً مــن هــذا الطــرح أنــه حتــى اآلن مل تســتوعب لدينــا تجربــة القطــاع الخــاص
15
يف الســتينات والســبعينات يف ســياقها التاريخــي ،بــل ومفهــوم الصناعــة الســينامئية عمومـاً.
فمنــذ الســبعينات وحتــى هــذه اللحظــة مل يــزل هــذا القطــاع موضــع اتهــام يف أنــه مل
يقــدم شــيئاً قي ـاً ســواء عــى املســتوى الفكــري أو الفنــي .وكــم مــن الرصخــات أطلقــت
للقضــاء عليــه يف حينــه ،وكــم مــن اآلراء تــرى عــدم جــدواه اآلن .لــن نجــادل بالتأكيــد يف
صحــة االتهــام املوجــه لتجربــة القطــاع الخــاص .ولكــن الســؤال الــذي يجــب طرحــه هــل
كان لهــذه التجربــة أن تأخــذ منحــى آخــر .أعتقــد بــأن ذلــك مل يكــن ممكنـاً عــى اإلطــاق،
ولــو حــدث ذلــك لــكان ظاهــرة فريــدة مــن نوعهــا تســتدعي التوقــف واإلمعــان طويـاً يف
ماهيتهــا الالمنطقيــة .إذ مــن املعــروف أنــه قبــل هــذه املرحلــة مل يكــن يف ســوريا أي وجــود
إلنتــاج ســيناميئ متواتــر ،أي أنهــا كانــت املــرة األوىل التــي تشــهد فيهــا البــاد مالمــح صناعــة
ســينامئية يف أطوارهــا البدائيــة األوىل .ومــن املعــروف أيضـاً أنــه يف جميــع دول العــامل التــي
اســتطاعت يف وقــت الحــق التأســيس لصناعــة ســينامئية يعتــد بهــا ،كانــت بداياتهــا تحــايك
أســوء النــاذج الفنيــة والفكريــة ،مبــا فيهــا تلــك الــدول التــي دخلــت عــامل الســينام وهــي
تحمــل موروث ـاً أدبي ـاً ومرسحي ـاً وتشــكيلياً عظي ـاً مــن القــرن التاســع عــر .باإلضافــة إىل
ذلــك علينــا أن نعــرف بــأن الكــم األكــر والطاغــي مــن اإلنتــاج الســيناميئ يف العــامل أجمــع
ينتمــي إىل الســينام الســائدة التــي تســعى وراء الربــح التجــاري ال غــر .فكيــف كان لتجربــة
القطــاع الخــاص الناشــئة أن تكــون عــى غــر ذلــك يف ســورية .وكيــف ميكــن االســتنتاج عــى
أســاس طابعهــا التجــاري املبتــذل أنــه يجــب إلغائهــا .إن مثــل هــذا االســتنتاج يعــر عــن
16
عجــز كامــل يف النظــر إىل هــذه التجربــة كظاهــرة طبيعيــة يف ســياقها التاريخــي والحضــاري،
وإىل كونهــا قابلــة للتطــور مــع الزمــن .والحقيقــة أن بعــض إنتاجــات القطــاع الخــاص يف
الثامنينــات أكــدت بالفعــل وجــود هــذه القابليــة.
مــن جهــة أخــرى أعتقــد أن مــن الهــام جــدا ً تجــاوز النظــرة النقدية الضيقة إىل ســوية ســينام
القطــاع الخــاص ،ومحاولــة التوقــف عندهــا وتقييمهــا كظاهــرة أكــر مــن كونهــا مجــرد
أفــام ،عندهــا بالتأكيــد ســنجد أكــر مــن نقطــة إيجابيــة تحســب لهــا .منهــا مــا حملتــه يف
وقتهــا مــن قيــم تحرريــة منفتحــة ـ وإن يكــن عــى املســتوى الشــكيل ـ تركــت تأثريهــا حتــى
عــى أفــام املؤسســة يف بدايــة الســبعينات ،لكنهــا مــا فتــأت الحق ـاً أن انحــرت بصــورة
مريعــة لدرجــة أننــا مل نعــد نذكــر املــرة األخــرة التــي شــاهدنا فيهــا قبلــة يف فيلــم ســوري،
حتــى وإن قــام بأكملــه عــى قصــة حــب .كــا أكــدت هــذه الظاهــرة وألول مــرة يف بالدنــا
قــدرة الســينام عــى اجتــذاب الرأســال الخــاص للمســاهمة يف عمليــة إنتاجهــا فيــا لــو
توفــر لــه الظــرف املالئــم ،ومــن املعــروف أن الظــرف حينــذاك مل يكــن نتاجـاً محليـاً رصفـاً،
بــل محصلــة لجملــة مــن العوامــل التــي أحاطــت بالســينام املرصيــة واللبنانيــة ودفعــت
بالعديــد مــن مخرجيهــا للعمــل يف ســورية ،ولألســف مل تلتفــت الدولــة إىل أهميــة هــذا
االســتقطاب للســينامئيني العــرب ،وبــدالً مــن أن تعمــل عــى حاميتــه وتشــجيعه خرجــت
عــام 1975باملرســوم رقــم 264الــذي ينــص عــى تطبيــق أحــكام املرســوم الترشيعــي رقــم
18عــى املؤسســة العامــة للســينام ،لتصبــح بذلــك مؤسســة إنتاجيــة اقتصاديــة عليهــا
17
أن تغطــي نفقاتهــا بنفســها ،ليضعهــا أمــام تناقــض مأســاوي بــن غايتهــا الثقافيــة املعلنــة
ووســيلتها الــا ثقافيــة املامرســة يف تغطيــة نفقاتهــا اإلنتاجيــة مــن خــال اســتريادها ألفــام
أقــل مــا يقــال عنهــا أنهــا ال تتفــق و«تنميــة الشــعور وتوجيهــه ورفــع املســتوى الفنــي
والثقــايف واالجتامعــي لــدى الجامهــر» كــا عللــت أســباب حــر اســترياد األفــام وتوزيعهــا
باملؤسســة يف قانــون عــام ،1969وهــو مــا وضــع املؤسســة والقطــاع الخــاص يف مجابهــة
مفتوحــة مل يســتطع األخــر الصمــود فيهــا أمــام منافســة األفــام املســتوردة األكــر تطــورا ً
مــن الناحيــة التقنيــة والحرفيــة والدراميــة مقارنــة بأعاملــه ،واملشــابهة لــه مــن حيــث
ســويتها الفنيــة ومضامينهــا الفكريــة ،ملبيــة بذلــك حاجــة الســوق التــي كان يقتــات عليهــا
القطــاع الخــاص ،ومــع ارتفــاع تكاليــف أفالمــه وتشــدد الرقابــة تجاههــا والتدهــور الفظيــع
الــذي أصــاب صــاالت العــرض ،الســوق الطبيعــي لــه ،زال هــذا القطــاع متامـاً .والغريــب أن
الدولــة ممثلــة يف املؤسســة مل تكتــف بالوقــوف متفرجــة عــى ذلــك فحســب ،بــل أنهــا مل
تســتطع أو مل تــرد مواكبــة التغيــرات يف أمزجــة وأذواق ومتطلبــات الجمهــور واالرتقــاء
بأفالمهــا التجاريــة املســتوردة مبــا يتــاءم مــع هــذه التغيــرات مــا كان ســيحافظ عــى
الصــاالت مزدهــرة بــل وســيدر عــى املؤسســة املزيــد مــن األربــاح.
مــن كل ذلــك نريــد القــول أنــه يجــب أن ال تكــون لــدى الســينامئيني اليــوم أوهامـاً بصــدد
طبيعــة القطــاع الخــاص الــذي قــد يكــون يف طريقــه ـ كــا نأمــل ـ إىل االنطــاق يف مرحلــة
تأسيســية جديــدة ،وعليهــم أن يتقبلــوا ـ يف الوقــت الراهــن عــى األقــل ـ حقيقــة عــدم
18
إمكانيــة أي تــزاوج بــن االهتــام العمــي «بتحويــل الســينام إىل صناعــة رابحــة» لــدى
القطــاع الخــاص وبــن «الــروح اإلبداعيــة الثقافيــة للعمــل الســيناميئ» لديهــم .كــا عليهــم
أن يتقبلــوا وبصــدر رحــب إمكانيــة أن «تســيطر عــى اإلنتــاج الوطنــي منــاذج الســعي إىل
الربــح وحــده» كــا يف كل مــكان مــن العــامل ،فمــن غــر الــوارد أن تســتطيع مؤسســة
ذات طابــع ثقــايف مجــاراة قطــاع يســعى وراء شــباك التذاكــر بالدرجــة األوىل ،وال يوجــد
طريــق آخــر نحــو نشــوء صناعــة ســينامئية ســورية ،ســتفرز بالتأكيــد يف املســتقبل مناذجهــا
اإليجابيــة .فالرتاكــم الكمــي لإلنتــاج الخــاص ،واملتابعــة النقديــة املوضوعيــة لــه ،ونــر
الثقافــة الســينامئية ،كل ذلــك مــن شــأنه أن يســاهم مــع الزمــن (الطويــل جــدا ً) يف تطويــر
املســتوى الفكــري والفنــي لهــذا القطــاع.
وقــد يبــدو للكثرييــن أن هــذا الــكالم برمتــه عــن انطــاق اإلنتــاج املحــي الخــاص رضب ـاً
مــن األحــام الرومانســية ،وهــم بذلــك ال يبتعــدون كثــرا ً عــن الحقيقــة .فاليــوم حتــى
أكــر الــدول تقدم ـاً وإنتاج ـاً لألفــام تعــاين مــن املنافســة الشــديدة للســينام األمريكيــة،
فهــل سيســتطيع الفيلــم املحــي بإمكانياتــه املاديــة والتقنيــة والفنيــة املحــدودة الصمــود
يف وجههــا ،وألــن يبــدو االســتثامر يف مجــال بنــاء الصــاالت الســينامئية وتحديثهــا واســترياد
األفــام وتوزيعهــا أكــر ربح ـاً وضامنــة مــن الخــوض يف تجربــة اإلنتــاج بالنســبة للقطــاع
الخــاص؟ رمبــا ولكــن ذلــك ال يعفــي الدولــة مــن واجبهــا يف إيجــاد صيغــة مــا لحاميــة
الفيلــم املحــي ،كفــرض «نســبة مــن العــرض املحــي تشــجيعاً لإلنتــاج املحــي» كــا اقرتحــت
19
الورقــة .تناقــش الورقــة بعــد ذلــك ســبل تشــجيع القطــاع الخــاص فتؤكــد عــى النقــاط
التاليــة:
1ـ رضورة دعــم االســتثامر يف املجــال الســيناميئ ،وتقديــم لــه التســهيالت املمكنــة مبــا
فيهــا اإلقــراض والرضائــب واملســاعدة التقنيــة ،و«أن تتناســب التســهيالت طــردا ً مــع ازديــاد
العامــل الثقــايف».
2ـ «إعــادة النظــر يف نظــام حــر االســترياد عــى أســاس االنفتــاح والتشــجيع مــع رقابــة
الدولــة «املرنــة واملتطــورة» بحيــث يعطــى القطــاع الخــاص تســهيالت إداريــة وجمركيــة
وتكــون عائــدات الرضائــب عــى االســترياد لصالــح املؤسســة العامــة للســينام .ويرفــق فتــح
هــذا البــاب بفــرض نســبة مــن العــرض املحــي تشــجيعاً لإلنتــاج املحــي ،مفرتضــن زيــادة
هــذا اإلنتــاج».
3ـ «تقديــم تســهيالت للقطــاع الخــاص مــن أجــل تحســن صاالتــه وتطويرهــا وحتــى هدمها
إلنشــاء صــاالت جديــدة… وعليــه ميكــن الســاح برفــع أســعار البطاقــات مقابــل رســوم
معقولــة عــى األربــاح وهــذا يقتــي تســهيالت يف مجــال الرتخيــص والعمــران والقــروض
واالســتثامر والرضائــب والرســوم».
4ـ أن تقــوم املؤسســة بتقديــم الخدمــات التقنيــة للقطــاع الخــاص «بتخفيضــات عاليــة
تتناســب مــع ســوية العمــل .مــا ســيخفض مــن كلفــة إنتــاج الفيلــم املحــي الخــاص،
وســيعود عــى املؤسســة بأربــاح ترفــد ميزانيــة إنتاجهــا».
20
عــى الرغــم مــن أن هــذه املطالــب تحيــط بجميــع الجوانــب املتعلقــة بالقطــاع الخــاص ،غري
أنــه البــد مــن التوقــف عنــد بعــض النقــاط بــيء مــن التفصيــل .فلــو توقفنــا عنــد النقطــة
األوىل التــي تطرحهــا الورقــة والخاصــة باإلنتــاج ســوف نتســاءل أي صيغــة ترشيعيــة تلــك
التــي ســتتمكن مــن اإلحاطــة مبطلــب كهــذا ،فهــذا يعنــي وببســاطة غيــاب نــص ترشيعــي
واضــح يحــدد قيمــة القــروض والرضائــب عــى األفــام ،طاملــا أن قيمتهــا يجــب أن تتناســب
«طــردا ً مــع ازديــاد العامــل الثقــايف» .وهكــذا ميكننــا تصــور اللوحــة التاليــة :يك يحصــل فيلــم
مــا عــى قــرض مناســب ســيكون عليــه تقديــم الســيناريو إىل لجنــة خاصــة تقــرر بعــد قراءته
نســبة «العامــل الثقــايف» فيــه ،وعــى أساســها تحــدد قيمــة القــرض .ويك يعفــى الفيلــم املنتج
مــن أكــر قــدر مــن الرضائــب عليــه أن يخضــع للجنــة أخــرى تحــدد نســبة هــذا «العامــل
الثقــايف» داخلــه ،وعــى أساســه كذلــك يحــدد حجــم الرضائــب عليــه .وبالتــايل إن مــا ينتظــر
أي فيلــم تجــاري ال هــم ثقــايف لــه عــى اإلطــاق ،أدىن حــد مــن القــروض ،وأعــى نســبة
مــن الرضائــب ،وأعــى تكلفــة مقابــل املســاعدة التقنيــة املقدمــة .فهــل تبــدو مثــل هــذه
املقدمــات مشــجعة إلنعــاش اإلنتــاج الســيناميئ الخــاص؟ حتـاً ال ،ففــي الوقــت الراهــن ال
نعتقــد أنــه مــن املفيــد وضــع أي عراقيــل «ثقافيــة» أمــام نهضــة هــذا القطــاع ،بــل يجــب
تقديــم أكــر قــدر ممكــن مــن الدعــم واملســاعدات لــه بترشيعــات واضحــة ال لبــس فيهــا
وبغــض النظــر عــن «العامــل الثقــايف» .ونقــرح إعفــاء رشكات اإلنتــاج واالســتثامر يف مختلف
القطاعــات الســينامئية مــن الرضائــب لفــرة خمــس ســنوات ،وخاصــة أن اإلنتــاج الخــاص
21
يدخــل منــذ البدايــة مجازفــة كبــرة .إذ أن اســترياد وتوزيــع األفــام العربيــة واألجنبيــة مــن
قبــل القطــاع الخــاص ســوف يشــكل منافســة غــر متكافئــة بالنســبة للفيلــم املحــي ،ومــا
تقرتحــه الورقــة مــن فــرض «نســبة مــن العــرض املحــي تشــجيعاً لإلنتــاج املحــي» ،هــو
يشء جيــد ومتبــع يف العديــد مــن دول العــامل ،لكــن يف جميــع األحــوال نحــن ال نــزال نتكلــم
عــن افرتاضــات مجــردة ،فــا أحــد يســتطيع أن يجــزم بــأن اإلنتــاج املحــي ســوف ينطلــق
غــدا ً ،والخطــوة األوىل التــي ســيقوم بهــا القطــاع الخــاص البــد أن ترتكــز عــى تحديــث
وبنــاء صــاالت العــرض التــي يجــب تتناســب أســعار بطاقاتهــا مــع درجاتهــا واســتثامرها
عــى أســاس إلغــاء قانــون حــر االســترياد ـ مســتفيدا ً يف هــذا املجــال مــن تجربــة مــر
ولبنــان يف الســنوات األخــرة ـ وعــى الدولــة بدورهــا تقديــم كل املســاعدات والتســهيالت
املمكنــة لــه .وأعتقــد بأنــه ســيتحتم علينــا االنتظــار بضعــة ســنوات قبــل أن يبــدأ القطــاع
الخــاص باإلنتــاج املحــي املتواتــر .مــا يعنــي أن القيــام اآلن بإصــدار ترشيــع يفــرض نســبة
مــن العــرض املحــي عــى دور العــرض يف الوقــت الــذي مل ينطلــق فيــه اإلنتــاج املحــي بعــد،
ويف ظــل املنافســة الخارجيــة القويــة لــن يســاهم يف تطويــر هــذا اإلنتــاج عــى اإلطــاق،
وســيغلفه لفــرة طويلــة بطابــع شــكيل ،حيــث ســيقوم القطــاع الخــاص يف هــذه الحالــة
مضطــرا ً إىل إنتــاج أعــال هزيلــة التكلفــة رسيعــة الطبــخ ،ال تشــكل الخســارة مــن جــراء
عرضهــا عبئـاً كبــرا ً عليــه .لذلــك أعتقــد أنــه يجــب البحــث عــن صيــغ أخــرى تحمــي اإلنتــاج
املحــي يف حــال انطالقــه دون الدفــع بــه إىل اإلنتــاج امليكانيــي والشــكيل.
22
بعــد ذلــك تتطــرق الورقــة ملجموعــة مــن املســائل شــديدة االرتبــاط بتطــور الواقــع
الســيناميئ وهــي:
1ـ املجلــس الوطنــي للســينام .حيــث تؤكــد عــى رضورة «إحداثــه كجهــة تنســيق وربــط
وتخطيــط تجمــع األطــراف الثالثــة (الســينامئيني ،املؤسســة ،ممثلــن عــن القطــاع الخــاص)
وترســم اآلفــاق املشــركة لإلنتــاج الســيناميئ يف ســوريا… وصــوالً إىل إنشــاء الصنــدوق
الوطنــي لدعــم الســينام».
2ـ املعهــد العــايل للســينام .وتدعــو إىل «وضــع مرشوعــه باالعتــاد عــى الكوادر الســينامئية
الســورية وعــى القاعــدة التقنيــة للمؤسســة… إذ صــار رضورة ملحــة الحتيــاج الســينام
الســورية إىل كــوادر شــابة…».
3ـ مهرجــان دمشــق الســيناميئ .وتقــرح بغيــة إنعاشــه منحــه «هامشـاً أعــرض مــن الحريــة
اإلداريــة والتنفيذيــة وبفصــل إدارتــه عــن إدارة املؤسســة».
4ـ العمــل عــى نــر الثقافــة الســينامئية .وذلــك «بتشــجيع النــوادي الســينامئية وتنشــيطها
ودعمهــا… وتشــجيع ســينام الهــواة والتظاهــرات الخاصــة والعــروض يف الصــاالت غــر
املخصصة…الــخ».
5ـ إعــادة النظــر بقوانــن الرقابــة وآليــات عملهــا .فتطلــب مــن الرقابــة «أن تعــر عــن
ذائقــة الجمهــور وأن تحرتمــه ال أن تكــون وصيــة عليــه فيصبــح تحديــد الفئــات العمريــة
أســاس آليــة عملهــا».
23
عــى الرغــم مــن أن الورقــة تؤكــد عــى رضورة إنشــاء الصنــدوق الوطنــي لدعــم الســينام،
غــر أنهــا تغفــل الجانــب األهــم مــن املوضــوع ،واملتعلــق مبصــادر متويــل هــذا الصنــدوق.
فمــن خــال كل مــا جــاء يف الورقــة ال نجــد أي إشــارة إىل هــذه املصــادر ،وأعتقــد هنــا بــأن
عائــدات الرضائــب عــى االســترياد يجــب أن تكــون مــن نصيــب هــذا الصنــدوق وليــس
لصالــح مؤسســة الســينام ،باإلضافــة إىل الــواردات التــي ميكــن أن يحصــل عليهــا عــن طريــق
اقتطــاع جــزء مــن أســعار البطاقــات ،بــل وميكــن إصــدار ترشيعــات تعفــي أي مؤسســة
تجاريــة خاصــة مــن نســبة معينــة مــن الرضائــب مبختلــف أنواعهــا ،تتناســب طــردا ً مــع
حجــم مســاهمتها يف دعــم هــذا الصنــدوق .مــن جهــة أخــرى ســيكون مــن األجــدى أن
يتمتــع هــذا املجلــس باســتقاللية كاملــة عــن املؤسســة وأن يتشــكل مجلــس إدارتــه مــن
الســينامئيني وممثلــن عــن غرفــة صناعــة الســينام ،إذ عــى عاتقــه بالــذات تقــع مهمــة دعــم
اإلنتــاج املحــي بجميــع اتجاهاتــه ،والتأســيس لصناعــة ســينامئية ســورية ،وكذلــك تبنــي
متويــل األفــام ذات الطابــع التجريبــي ،ودعــم النــوادي والكتــب والدوريــات الســينامئية،
والتأســيس ألرشــيف ســيناميئ يف ســوريا .أمــا املؤسســة فيجــب أن تقنــع بوجودهــا كجهــة
ســينامئية ـ ثقافيــة رافــده لهــذه الصناعــة ،وليســت مركــزا ً لهــا .كــا أن مثــل هــذه
االســتقاللية كفيلــة بخلــق منافســة إيجابيــة بــن املؤسســة واملجلــس الوطنــي ،تــؤدي حتـاً
إىل تطويــر أداء كل منهــا .وهنــا يطــرح ســؤال علينــا نفســه :عــن أي جهــة ســوف ينتخــب
الســينامئيون إىل املجلــس الوطنــي؟ إذ مــن املعــروف أن الســينامئيني يف ســورية يندرجــون
24
يف نقابــة الفنانــن جنبـاً إىل جنــب مــع املمثلــن واملغنــن والراقصــات… الــخ ،وليــس هنــاك
نقابــة (أو اتحــاد) خاصــة بهــم ،تســمح لهــم بالتــداول يف شــؤون الســينام وقضاياهــا بصــورة
دامئــة ،وتدافــع عــن مصالحهــم ومطالبهــم .لذلــك أعتقــد أنــه حــان الوقــت ـ وخاصــة أن
النشــاط الســيناميئ لــن يعــود محصــورا ً يف إطــار املؤسســة ـ لتأســيس اتحــاد للســينامئيني يف
ســورية ،ينتخــب منــه كل بضعــة أعــوام ممثلــن إىل املجلــس الوطنــي.
أمــا املطالــب املتبقيــة فإنهــا تعيــد للذهــن مــن جديــد املــرات الكثــرة التــي طرحــت فيهــا،
وتجعلنــا نتســاءل إىل متــى ســيبقى الســينامئيون واملثقفــون عموم ـاً عــى هامــش القــرار
والفعــل ،دون أن يشــكلوا أداة ضغــط حقيقيــة وراء مطالبهــم ،وإىل متــى ســتبقى املبــادرة
املســتقلة عــن الدولــة غائبــة لديهــم ،فــإن مل تــرع الدولــة بتأســيس املعهــد العــايل للســينام،
أال يســتطيع الســينامئيون إحــداث معاهــد صغــرة خاصــة تؤهــل حــد أدىن مــن املســاعدين
الفنيــن لدخــول املجــال الســيناميئ ،وأال يشــكل واقــع النــادي الســيناميئ بدمشــق الــذي عــاد
إىل نشــاطه منــذ أكــر مــن عــام دون أن يســتطيع خاللــه تقديــم أكــر مــن أربعــة عــروض
دليـاً عــى بعــد الســينامئيني وعــدم التفافهــم ودعمهــم لــه.
وأخــرا ً نتســاءل مــاذا ســيكون مصــر جميــع هــذه الحــوارات والنقاشــات واالقرتاحــات
واملشــاريع واملطالــب التــي تطــرح اليــوم والحــال كذلــك .أعتقــد أنــه إذا مل تــدرك الدولــة
املســؤولية الكبــرة امللقــاة عــى عاتقهــا اليــوم ،والتــي تكمــن يف إقــرار ووضــع الصيــغ
الترشيعيــة ملــا ســيجتمع الســينامئيون عليــه مــن توصيــات يف مؤمترهــم القــادم ،وليــس
25
بفــرض ترشيعاتهــا الخاصــة عليهــم بصــورة تعســفية .وإذا مل يــدرك الســينامئيون بــأن عليهم
ليــس فقــط الخــروج بتوصيــات ،بــل والعمــل الحثيــث عــى أن تخــرج هــذه التوصيــات إىل
الحيــاة بصــورة فعليــة ،والضغــط يف هــذا االتجــاه .أعتقــد أنــه إذا مل نــدرك كل هــذا اليــوم
ســنعود بعــد عــرة أعــوام ونكــرر كل مــا قيــل قبــل عرشيــن عام ـاً.
26
مهرجاننا السيناميئ وإشكالية الهوية
يف ظــل الواقــع املأســاوي الــذي مل تــزل الســينام الســورية تعايشــه عام ـاً بعــد عــام عــى
كافــة املســتويات مــن حجــم اإلنتــاج الســنوي املتواضــع ،إىل حالــة صــاالت العــرض املرتديــة
وعددهــا القليــل وغيــاب األفــام الجديــدة والجيــدة عــن شاشــاتها وابتعــاد الجمهــور نتيجــة
ذلــك عنهــا ،إىل قلــة التظاهــرات الســينامئية وعشــوائية تنظيمهــا ،وعزلــة وركــود النــوادي
الســينامئية وتعرثهــا املســتمر ،يبــدو مهرجــان دمشــق حالــة اســتثنائية مــن حيــث الزخــم
والــراء والتنــوع .إذ نجــد عشــاق الســينام والذيــن يشــكل الجمهــور الشــاب قســمهم األعظم
يلهثــون بــن الصــاالت محاولــن التوفيــق بــن كالســيكيات الســينام وآخــر األفــام الكبــرة
يف الوطــن العــريب والعــامل وعــروض املســابقة الرســمية ،محطمــن األرقــام القياســية يف
املشــاهدة التــي وصلــت يف املهرجــان املــايض إىل خمســة أو ســتة أفــام يف اليــوم .مــا جعــل
الكثــرون يتســاءلون مــن اإلعيــاء وللمــرة األلــف إىل متــى يســتمر واقــع الســينام املــردي يف
ســورية عــى مــا هــو عليــه؟ وأال يبــدو املهرجــان بتكاليفــه املاديــة العاليــة واملمــول مــن قبل
الدولــة وســط هــذا الواقــع ظاهــرة دعائيــة إعالميــة أكــر مــا هــو غايــة ثقافيــة فنيــة؟!
التســاؤل أصبــح أكــر إلحاحـاً قبــل عامــن عندمــا تقــرر إلغــاء طابعــه القديــم مــن مهرجــان
للقــارات الثــاث إىل مهرجــان منفتــح عــى العــامل بأجمعــه ،ســعياً إىل تحويلــه فيــا لــو
27
اســتوىف رشوط االتحــاد الــدويل للمنتجــن FIAPFإىل «مهرجــان دويل» .أمــا عــن جــدوى
مثــل هــذه التحــول أو عــدم جــدواه ـ الســؤال الــذي كان يفــرض أن يطــرح لنقــاش واســع يف
وســائل اإلعــام ،يشــارك فيــه الســينامئيون والصحفيــون والنقــاد ،قبــل أن تجــزم وتبــت بــه
الجهــات املعنيــة متفــردة كالعــادة ـ نجــد أنــه البــد مــن الوقــوف عــى مضمونــه وإمكانيــة
تحقيقــه ،بغيــة الوصــول إىل إجابــة أو تصــور أكــر موضوعيــة ،كمقدمــة لحــوار نرجــو أن
يســاهم فيــه جميــع املعنيــن ،ونحــن عــى عشــية الــدورة الثالثــة عــرة للمهرجــان.
ال شــك أن هــذا االنفتــاح انعكــس إيجابي ـاً عــى ســوية األعــال التــي شــاركت يف مســابقة
األفــام الطويلــة يف الــدورة الســابقة .لكــن ذلــك مل يكــن صدفــة ،فمعظمهــا شــارك يف
مهرجانــات أخــرى وبعضهــا حصــد عــددا ً غــر قليــل مــن الجوائــز .والنتيجــة أن جميــع
األفــام التــي نالــت جوائــز هــذه املســابقة« :أبرديــن»« ،الــكل مشــهور»« ،خبــز وزنبــق»
كانــت مــن إنتــاج أوريب وحطــت يف دمشــق بعــد أن دارت مهرجانــات العــامل ورشــحت
أو نالــت الكثــر مــن جوائزهــا .أمــا حصــة آســيا وإفريقيــا وأمريــكا الالتينيــة فقــد متثلــت
يف جائــزة واحــدة ولفيلــم ســوري ،لتبــدو جوائــز األفــام القصــرة والتســجيلية وكأنهــا
نــوع مــن الرتضيــة للقــارات الثالثــة .دون أن ننــى ابتــكار املهرجــان لجائــزة أفضــل فيلــم
عــريب ،وكأنــه يفــرض مســبقاً عــدم أهليــة الســينامت العربيــة للمنافســة عــى جوائــزه
األساســية .مــا يجعلنــا نتســاءل عــن املعنــى يف تكريــم أفــام ســبق أن كرمــت يف العديــد
مــن املهرجانــات األخــرى ،ودعمهــا ماديـاً يف الوقــت الــذي يتخبــط املخرجــون العــرب فيــه
28
داخــل دائــرة العجــز املســتمر والبحــث عــن فرصــة لتمويــل أعاملهــم.
قــد تكــون اإلجابــة أنــه دون هــذا التحــول واالنفتــاح والتغيــر يف هويــة املهرجــان ،لــن
يســتطيع أن ينــال اعــراف االتحــاد الــدويل للمنتجــن .إن هــذه النقطــة التــي بــدت وكأنهــا
بديهيــة يف العديــد مــن الترصيحــات واملقــاالت ،هــي أبعــد مــا تكــون عــن الحقيقــة.
إذ يعــرف االتحــاد الــدويل للمنتجــن بأربعــة أقســام مــن املهرجانــات .القســم األول منهــا
مهرجانــات تضــم مســابقة دوليــة وعددهــا ،12ويشــار إليهــا غالبـاً بالفئــة Aوهــي :برلــن،
مــار ديــل بالتــا ،كان ،شــنغهاي ،موســكو ،كارلــويف فــاري ،لوكارنــو ،مونرتيــال ،فينيســيا،
ســان سيباســتيان ،القاهــرة ،طوكيــو .الثــاين يضــم مهرجانــات متخصصــة مــع مســابقة،
ومنهــا مهرجــان كارتاغينــا ألفــام أمريــكا الالتينيــة ،ومهرجــان بروكســل للفيلــم األوريب،
ومهرجــان نامــور لألفــام الناطقــة بالفرنســية ومهرجــان نيودلهــي لألفــام األســيوية .أمــا
القســم الثالــث فيضــم مهرجانــات مــن غــر مســابقة مثــل مهرجــان هونــغ كونــغ و ســيدين
و تورنتــو و لنــدن .والرابــع خــاص باألفــام الروائيــة القصــرة أوالتســجيلية مثــل مهرجــان
أبرهــاوزن وكاركــو وتامبــر .ومجمــوع هــذه املهرجانــات املعــرف بهــا مــن قبــل االتحــاد
حــوايل 56مهرجان ـاً مقابــل أكــر مــن ثالثــة آالف تقــام يف أنحــاء العــامل.
إذن مــن حيــث املبــدأ ميكــن ملهرجــان دمشــق حتــى يف صيغتــه القدميــة أن يحصــل عــى
اعــراف االتحــاد ،لينضــم إىل قســم املهرجانــات املتخصصــة مــع مســابقة .أمــا بصيغتــه
الجديــدة فهــو يســعى لالنضــام إىل القســم األول منهــا ،أي إىل املهرجانــات األكــر شــهرة يف
29
العــامل!! وهنــا تطــرح مجموعــة مــن األســئلة نفســها :هــل نســتطيع حقـاً أن ننضــم إىل هــذه
الفئــة مــن املهرجانــات؟ وهــل مثــة جــدوى مــن االنضــام إليهــا أصـاً؟
نالحــظ أنــه ضمــن مهرجانــات هــذه الفئــة ال يوجــد أي مهرجــان أمريــي ،أي أن الدولــة
التــي متتلــك أكــر صناعــة ســينامئية يف العــامل ،ليــس عندهــا مهرجــان دويل مــع مســابقة
معــرف بــه مــن قبــل االتحــاد ،علــاً أنــه يقــام يف الواليــات املتحــدة أكــر مــن 120
مهرجانـاً .بــل إن دوالً كثــرة متقدمــة ســينامئياً ومبراحــل طويلــة عــى ســوريا ال متلــك هكــذا
مهرجانــات .األمــر الــذي يفــرض أن يدفعنــا إىل التوقــف واإلمعــان طويـاً يف هــذه الظاهرة،
والتســاؤل بقــوة عــن الســبب وراء عــدم ســعي هــذه الــدول للحصــول عــى اعــراف االتحاد
مبهرجاناتهــا الكثــرة.
رمبــا يكمــن الســبب يف الــروط التــي يضعهــا االتحــاد لالعــراف بهــذا النــوع مــن
املهرجانــات .إذ يجــب أن تنظــم ســنوياً ومبواعيــد محــددة ،كــا أنهــا ال تســتطيع قبــول أي
فيلــم يف مســابقتها فيــا لــو شــارك يف مســابقة مهرجان آخــر .ويحــدد االتحــاد رشوط اختيار
ونقــل وحفــظ وعــرض األفــام فيهــا ،ويراقــب مســتوى التغطيــة اإلعالميــة والتنظيــم وقــوة
تواجــد أربــاب صناعــة الســينام خــال ســرها .فاعــراف االتحــاد مبهرجانــات هــذه الفئــة،
هــو يف واقــع األمــر اعــراف بأهليتهــا كســوق ســيناميئ عاملــي ،قــادر بالفعــل عــى ربــط
شــبكات املنتجــن واملوزعــن والعارضــن بعضهــم ببعــض .وهــذا بالضبــط مــا تؤكــده فيليــس
موليــت مديــرة املهرجانــات واألعــام يف االتحــاد ،إذ تشــر إىل أن أهدافــه هــي الدفــاع عــن
30
مصالــح املنتجــن والرتويــج ألفالمهــم وتوزيعهــا ،ومــن هنــا يــأيت اهتاممهــم بســمعة وهيبــة
ومســتوى املهرجــان الــذي يذهبــون بأفالمهــم إليــه ،ومــن هنــا نســتطيع أن نفهــم الســبب
يف تبايــن أهميــة مهرجانــات هــذه الفئــة نفســها بالنســبة للمنتجــن واملوزعــن الســينامئيني
يف العــامل.
مــن كل ذلــك نســتنتج أن ســوريا الفقــرة ســينامئياً بإنتاجهــا وســوقها وعــدد صاالتهــا
وإعالمهــا تفتقــد متامــاً إىل البنية التحتيــة التــي تخــول االتحــاد االعــراف مبهرجانهــا.
والحقيقــة أنــه إذا مــا تــم تجــاوز هــذا الواقــع الســيناميئ املريــر يف ســوريا ولــو مــن أجــل
خاطــر عيــون االتحــاد الــدويل للمنتجــن ،فــا شــك أن ذلــك أمــر يســتحق كل تقديــر .لكــن
دعونــا نفكــر مــا الــذي ســنجنيه مــن اعــراف االتحــاد مبهرجاننــا عــى مســتوى عروضــه؟
أليــس مــن الوهــم االعتقــاد أن فيل ـاً كبــرا ً مــا ســيرتك كان وفينيســيا وبرلــن ومونرتيــال
ويــأيت إىل دمشــق .جميعنــا نعلــم أنــه حتــى األفــام الكبــرة التــي تنتــج يف آســيا وأفريقيــا
وأمريــكا الالتينيــة تفضــل املشــاركة يف املهرجانــات الدوليــة ذات الســمعة املرموقــة ،والتــي
تحقــق لهــا أفضــل مســتوى مــن االنتشــار والتوزيــع ،وســتبقى بعيــدة عــن مهرجــان دمشــق
حتــى فيــا لــو حصــل عــى اعــراف االتحــاد الــدويل للمنتجــن بــه.
إذن ملــاذا نقيــد أنفســنا مــن غــر هــدف واضــح .أليــس جديــرا ً بنــا أن نعــرف بأنفســنا أوالً
مبــا لدينــا ،ومبــا ينقصنــا ،ومبــا نصبــو إليــه قبــل أن نبحــث عــن اعــراف اآلخريــن .أليــس مــن
األجــدى وضــع سياســة ثقافيــة ســينامئية متكاملــة تنهــض بالواقــع الســيناميئ يف البــاد ضمن
31
اإلمكانيــات املتاحــة التــي ال يجــب التفريــط بهــا لغايــات دعائيــة بــأي شــكل مــن األشــكال،
وذلــك عــر حــوار هــادئ ورصيــح يشــارك فيــه كل مــن يــرى يف الســينام ه ـاً شــخصياً،
وشــأناً وطنيـاً آن لــه أن ينهــض بعــد طــول ســبات.
جريدة «النور» السورية .2003
32
قبل أن ينقرض السينامئيون
منــذ فــرة غــر بعيــدة اجتمــع رئيــس الجمهوريــة مــع عــدد مــن الفنانــن ،حيــث جــرت
مناقشــة العديــد مــن القضايــا واملســائل والقوانــن ،فأقــرح املمثــل جــال ســليامن «التوقف
لفــرة عــن قبــول دفعــات جديــدة يف قســم النقــد» كــا جــاء عــى لســانه يف اللقــاء الــذي
أجرتــه «الكفــاح العــريب» معــه يف ،2003/06/24ليقــرح «بــدالً عنهــا دفعــات مــن الشــباب
الراغــب يف دراســة املهــن التقنيــة والفنيــة» مــررا ً وجهــة نظــره هــذه بــأن «القســم خــرج
منــذ إنشــائه حــوايل 200خريــج وألســباب البــد مــن تفحصهــا ال يعمــل يف مجــال النقــد
إال أقــل مــن خمســة باملائــة» إذ تحــاول البقيــة العمــل يف مجــاالت فنيــة أخــرى ،باملقابــل
يــرى أننــا «يف املــرح والتلفزيــون والســينام نفتقــر إىل تقنيــن لخدمــة العمــل الفنــي».
عــى الجهــة األخــرى أصــدر مجموعــة مــن طــاب وخريجــي املعهــد وعــدد مــن املثقفــن
والفنانــن بيانـاً ينــدد باالقــراح ،ويشــر إىل «حملــة شــعواء» يقودهــا املمثــل ســليامن عــى
قســم النقــد «مطالبـاً بإغالقــه واســتبداله بقســم للتقنيــات املرسحيــة» ،ووصــول األمــر بــه
إىل «اســتعداء أعــى ســلطة يف البلــد عــى هــذا القســم ووجــوده» ،ليناشــد البيــان «الجهــات
الثقافيــة أن تتضامــن معهــم يك ال تنجــح هــذه الحملــة التــي تعــود ألســباب محض شــخصية،
كونهــا تحمــل يف جوهرهــا ضيقـاً بالنقــد والنقــاد»...
33
قبــل التوقــف عنــد جوهــر املســألة املرتبــط أساسـاً ليــس فقــط بقســم النقــد وإمنــا بواقــع
تدريــس الفنــون الســمعية -البرصيــة عمومـاً ،البــد مــن التطــرق إىل داللــة هــذه الواقعــة
لصلتهــا الوثيقــة بالطريقــة التــي قــد يتــم تنــاول املســألة بهــا مســتقبالً ،أو رمبــا تجاهلهــا
متام ـاً .فــا حــدث ال ميثــل ظاهــرة دميقراطيــة يف الواقــع بقــدر مــا يعكــس حالــة مرضيــة
ناجمــة عــن غيــاب آليــات حقيقيــة وفعالــة للحــوار ،واألخطــر انتفــاء آليــات متممــة لرتجمة
هــذا حــوار إىل واقــع جديــد يتجــاوز القديــم.
وإال ملــاذا ال تطــرح مســألة إيقــاف «قســم النقــد» مــع كل مربراتهــا يف أروقــة املعهــد العــايل
للفنــون املرسحيــة ،أو يف وســائل األعــام املحليــة ملداولتهــا وإشــباعها جــدالً ومــن ثــم
الخــروج برؤيــة مشــركة حولهــا ،وإمنــا عــى مســتوى لقــاء مــع رئيــس الجمهوريــة؟ وملــاذا
يــأيت الــرد يف صيغــة بيــان عنيــف ومقتضــب يتجاهــل جميــع اإلشــكاليات والتســاؤالت
املتعلقــة بهــذا القســم ،ودون أن يحمــل أي رؤى أو إجابــات أو اقرتاحــات بشــأنها ،بــل
يختزلهــا بصــورة كاريكاتوريــة إىل «أســباب محــض شــخصية»؟
إن األمــر برمتــه يعكــس خل ـاً كبــرا ً يف شــبكة العالقــات القامئــة بــن الدولــة واملؤسســات
واألعــام واملثقفــن .فاألعــام لدينــا يبــدو حتــى اآلن مغيبـاً عندمــا يتعلــق األمــر باملســائل
ذات الحساســية ،التــي جــرى التقليــد عــى تجاهلهــا تخوفـاً مــن أعبــاء أي مســائلة قــد متــس
الطمــوح الجامــح للبعــض يف املحافظــة عــى مناصبــه أو التــدرج بهــا إىل األعــى ،أو إقصائهــا
مــن قبــل الرقيــب الــذي يفضــل املنــع عــى املجازفــة ،وكأن هــذه املســائل مــن اختصــاص
34
الصحافــة اللبنانيــة وحدهــا .أمــا املؤسســات فقــد أفقدتهــا اتكاليتهــا وعــدم اســتقالليتها
بصــورة فعليــة واعتيادهــا عــى انتظــار األوامــر مــن فــوق وتخوفهــا مــن املســؤولية جــزءا ً
هامــاً مــن حيويتهــا وفعاليتهــا وقدرتهــا عــى التــرف بشــؤونها مبــا ترتئيــه الرتقائهــا
وتطورهــا .فافتقــد نتيجــة ذلــك املثقفــون مــن باحثــن وتكنوقراطيــن ومبدعــن القاعــدة
املؤسســاتية -اإلداريــة للحــراك الداخــي الفعــال ضمــن وظائفهــم ،وضجــروا االقــراب مــن
األعــام املحــي بعــد أن كــف عــن كونــه ســلطة رابعــة تقــوم عــر مامرســتها لصالحياتهــا يف
النقــد والرقابــة بــدور املحــرض الخارجــي لهــذه املؤسســات باتجــاه تصويــب أعاملهــا ،مــا
أوقعهــم يف حالــة عجــز ،ودفعهــم للبحــث عــن أشــكال ومنافــذ أخــرى للتعبــر.
كل ذلــك أوجــد قناعــة راســخة يف املجتمــع أن التغيــر منــوط بصــورة أساســية مبراكــز
صناعــة القــرار ،والتــي يف الواقــع ال تصنعــه بقــدر مــا تعطــي التوجيهــات للمؤسســة املعنيــة
بــه مــن أجــل إعــداده بعــد دراســة كافــة الجوانــب ذات العالقــة ،لكــن الطامــة الكــرى أن
الكثــر مــن هــذه املؤسســات مل تعتــد التعامــل مــع صيــغ دميقراطيــة يســهم مــن خاللهــا
أكــر عــدد مــن املختصــن والباحثــن يف الوصــول للصيغــة األمثــل لهــذا القــرار ،ومــن هنــا
ميكننــا فهــم داللــة البيــان كــرد فعــل وقــايئ تجــاه ذلــك الســلوك التعســفي الــذي كثــرا ً مــا
متارســه مؤسســات الدولــة بإصدارهــا قوانــن ومراســيم وتعليــات تنفيذيــة بعيــدا ً عن رؤى
أصحــاب املصلحــة املبــارشة فيهــا واملعنيــن عضوي ـاً بهــا ،كــا حــدث قبــل بضــع ســنوات
عندمــا حاولــت وزارة الثقافــة متريــر قانــون يتعلــق مبســتقبل املؤسســة العامــة للســينام
35
متجاهلــة موقــف الســينامئيني منــه ،الــذي جــاء فيــا بعــد ضمــن ورقــة عمــل وقعهــا أكــر
مــن أربعــن شــخصاً!!
عــى كل حــال وطاملــا طرحــت مســألة قســم النقــد ،دعونــا نتطــرق إىل مــا هــو أبعــد مــن
ذلــك ،وأكــر مأســاوية مــن إغالقــه ،إال وهــو عــدم وجــود حتــى اللحظــة يف ســوريا أي
معهــد للدراســات الســينامئية ،عــى الرغــم مــن توفــر كادر كبــر مــن املخرجــن وأقــل مــن
مديــري التصويــر واملونترييــن ومهنــديس الصــوت ومصممــي الديكــور ...الــخ ،مــن ذوي
التأهيــل األكادميــي العــايل والخــرة الجيــدة .وخاصــة أن إيفــاد الطــاب إىل الخــارج لدراســة
هــذه الفنــون قــد تراجــع بصــورة كبــرة يف العقــد األخــر ،إن مل يتوقــف متامـاً .األمــر الــذي
يهــدد يف املســتقبل مبــوت الســينام الســورية ،ليــس بســبب ضعــف التمويــل والتوزيــع ،وال
بســبب غيــاب الصــاالت واملشــاهدين ،بــل وببســاطة شــديدة بســبب انقــراض الســينامئيني
الســوريني.
إن وجــود مثــل هــذا املعهــد مــن شــأنه أن يحــل تلقائيـاً إحــدى اإلشــكاليات املتعلقــة بقســم
النقــد املرسحــي ،وأقصــد تحديــدا ً توجــه جــزء كبــر مــن خريجيــه للعمــل يف مجــاالت
إبداعيــة أخــرى كالســيناريو أو اإلخــراج أو الديكــور أو غــر ذلــك .فهــذا األمــر يحــدث مــن
وجهــة نظــري لكــون هــذا القســم ميثــل امللجــأ الوحيــد لجميــع أصحــاب امليــول الفنيــة
الســمعبرصية ،والــذي ميكــن االنطــاق منــه فيــا بعــد نحــو العمــل املرغــوب أساس ـاً مــن
قبــل الخريــج .مــا يعنــي أن هــذا الحالــة ســوف تتغــر حت ـاً فيــا لــو وجــدت أقســام
36
أخــرى يف املعهــد ،أو تــم تأســيس معهــد للدراســات الســينامئية ،أو معهــد أوســع للفنــون
الســمعية -البرصيــة ،وهــو األفضــل ،حيــث ميكــن ربــط تدريــس العديــد مــن االختصاصــات
بعالقتهــا مــع الســينام واملــرح والتلفزيــون معـاً ،إذ عــى الرغــم مــن متايــز االختصاصــات
الســمعبرصية يف كل مــن هــذه املجــاالت أو بعضهــا ،لكــن مثــة أيض ـاً الكثــر مــن القواســم
املشــركة فيــا بينهــا ،وطاملــا أثبــت الواقــع العمــي أن أصحــاب املهــن الفنيــة يتنقلــون بــن
جميــع هــذه الفنــون ،ســوف يشــكل مثــل هــذا املعهــد القاعــدة العلميــة املعرفيــة لرفدهــا
بصــورة مســتمرة بالكــوادر املؤهلــة والخــرات الالزمــة لهــا.
لكــن هــل يجــري طــرح هــذه املســألة للمــرة األوىل؟ بالتأكيــد ال .ورمبــا ســوف يطــرح
مجــددا ً بعــد عــرة أو عرشيــن عام ـاً ،ولنتذكــر يف هــذا الســياق وكمثــال فاقــع كــم مــن
الســنني تطلــب إلغــاء قانــون حــر االســترياد لألفــام الســينامئية ،ولنعــود إىل ورقــة العمــل
التــي قدمهــا الســينامئيون قبــل ســنوات ونتســاءل إىل مــاذا انتهــت؟ صحيــح أن الخلــل
القائــم يف شــبكة العالقــات التــي أرشنــا إليهــا آنف ـاً أدى إىل إقصــاء املثقــف بدرجــة كبــرة
عــن الواقــع وتقليــص دوره وتأثــره فيــه ،لكــن مــن جهــة أخــرى ســوف تصبــح جميــع
الطروحــات واملشــاريع الثقافيــة رضب ـاً مــن العبــث يف حــال ركــون املثقــف لهــذا الواقــع،
واكتفائــه باالنتظــار يف كل مــرة إىل أن تســتجيب مؤسســات الدولــة تلقائي ـاً ملــا يطرحــه،
متجاهــاً الــدور الــذي ميكــن أن تلعبــه أدوات الضغــط واملتابعــة لتحقيــق االســتجابة
املطلوبــة .ومــا كانــت ورقــة عمــل الســينامئيني يف اعتقــادي ـ وقبلهــا الكثــر مــن اآلراء
37
واملشــاريع ـ لتلقــى هــذا املصــر مــن اإلهــال لــو كان مثــة اتحــاد مســتقل للســينامئيني
الســوريني ،يشــكل الحامــل الرشعــي والدميقراطــي لطموحاتهــم وتوجهاتهــم ومشــاريعهم
وحلولهــم لقضاياهــم ،ومــن ثــم عامــل ضغــط لتحقيــق الترشيعــات التــي تصــب يف مصلحــة
الســينام والســينامئيني.
38
يك يبقى الحوار مستمراً
(مالحظات عىل مداخلة األحمد)
الغايــة مــن أي ملــف صحفــي تســليط وتكثيــف األضــواء بصــورة منهجيــة عــى القضيــة
موضــوع امللــف ،دون أن يعنــي ذلــك اســتنفاذ اآلراء واقتصارهــا عــى مــا جــاء فيــه .لذلــك
إذا مــا عدنــا إىل ملــف الســينام الســورية الــذي طرحتــه صحيفــة «النــور» منــذ فــرة
ســنفاجئ بغيــاب أي منهجيــة واضحــة يف طــرح وتوصيــف ومناقشــة واقــع الســينام يف
ســوريا بشــتى جوانبــه ،فاختفــت تقريب ـاً الدراســات الخاصــة التــي تعالــج قضيــة بعينهــا
تحــت عناويــن عريضــة محــددة ومــا أكرثهــا :املؤسســة العامــة للســينام ،اإلنتــاج الســيناميئ،
مهرجــان دمشــق الســيناميئ ،دور العــرض ،النــوادي الســينامئية ،الترشيعــات الســينامئية،
الرقابــة ...الــخ ،مــا جعــل مــواد امللــف تتأرجح مــا بــن الذكريــات واالنطباعات والشــهادات
والتأريــخ واإلحصــاء والــردود ،بــل ومل يجــد أحدهــم أي غضاضــة يف املشــاركة مبقالــة نرشها
مــن قبــل يف صحيفــة أخــرى .وهــو مــا أدى عــى الرغــم مــن اإلضــاءات واآلراء واالنتقــادات
الكثــرة والهامــة التــي قدمهــا امللــف عــى مــدى 11حلقــة ومســاهمة 18شــخصاً إىل خلــوه
مــن دراســات تتطــرق إىل قضايــا هامــة كاإلنتــاج الســيناميئ للقطــاع الخــاص وواقــع النــوادي
الســينامئية يف البــاد .ويف الواقــع يكفــي أن نعــود إىل الخامتــة التــي أنهــى املخــرج رميــون
39
بطــرس فيهــا امللــف يك نــدرك الكــم الهائــل مــن املســائل التــي مل يتطــرق إليهــا واملشــكالت
التــي مل يكشــف عنهــا وذلــك يف إطــار املؤسســة العامــة للســينام فحســب.
مــع انتهــاء امللــف قــررت الصحيفــة لألســف إغــاق الحــوار حــول كل مــا طــرح فيــه مــن
آراء ووجهــات نظــر ،لكــن طاملــا أن جميــع القضايــا اإلشــكالية املتعلقــة بواقعنــا الســيناميئ
ال تــزال قامئــة ،يجــب أن يبقــى الحــوار حولهــا مســتمرا ً وال يحــق ألحــد إغالقــه ،وانطالقـاً
مــن هــذه القناعــة ندفــع بهــذه املقالــة إىل النــر عــن طريــق اإلنرتنــت.
تكتســب املداخلــة التــي قدمهــا األســتاذ محمــد األحمــد ضمــن امللــف أهميتهــا ليــس فقــط
مــن كونهــا متــس الكثــر مــن القضايــا األساســية العالقــة واإلشــكالية يف ســينامنا ،بــل ومــن
كونهــا تصــدر عنــه بالــذات بصفتــه مديــرا ً للمؤسســة العامــة للســينام التــي ال تــزال العصــب
األســايس للواقــع الســيناميئ يف البــاد ،ولهــذا األمــر داللتــه الكبــرة ،إذ يعــر عــن العقليــة
التــي تتحكــم يف هــذا العصــب وتحــدد اســراتيجيات عملــه وأطــر حراكــه املســتقبلية ،لــذاك
وجدنــا لزامــاً علينــا مناقشــة بعــض القضايــا املطروحــة يف املداخلــة ،والتــي نختلــف يف
تصوراتنــا ورؤيتنــا لهــا.
مذكرة ...وصاالت
ال شــك أنــه ألمــر مفــرح ويدعــو لكثــر مــن التفــاؤل أن تتشــكل لجنــة تضــم ممثلــن عــن
شــتى الفعاليــات الســينامئية باإلضافــة إىل أعضــاء مــن مجلــس الشــعب ،وتصــدر بعــد
40
اجتامعــات عديــدة مذكــرة إىل رئيــس الجمهوريــة تتطــرق «إىل جميــع نواحــي العمليــة
الســينامئية ،وتتضمــن توصيــات عــدة تتعلــق باملؤسســة واملهرجــان ودعــم القطــاع
الخــاص» .لكــن مــا ال يبــدو مفهومـاً عــى اإلطــاق ملــاذا هــذا التعتيــم والتســر عــى مذكــرة
بهــذا القــدر مــن األهميــة ،أليــس مــن حــق الجميــع معرفــة أســاء أعضــاء اللجنــة التــي
صاغتهــا ،واألهــم حقنــا يف معرفــة ماهيــة التوصيــات التــي جــاءت فيهــا .ولــوال تطــرق
األســتاذ األحمــد ملوضــوع الصــاالت ملــا علمنــا شــيئاً عــا تقرتحــه مــن حلــول بشــأنها .بــل
أن مــن حــق جميــع الفعاليــات الســينامئية مــن خــارج هــذه اللجنــة املســاهمة يف النقــاش
حولهــا ،وكل مــا كان يتطلبــه األمــر نــر مــروع هــذه املذكــرة يف وســائل اإلعــام ،ومــن
ثــم قيــام اللجنــة بدراســة املســاهامت واألبحــاث واملقــاالت املقدمــة بشــأنها أو عــى األقــل
االســتئناس بهــا قبــل وضــع صيغتهــا النهائيــة لهــا ورفعهــا للتوقيــع .بــدالً مــن أن تضطــر
الفعاليــات الســينامئية للقيــام بذلــك بعــد ترشيــع القوانــن والتوقيــع عليهــا ،أي عندمــا
ال يعــود لذلــك أي فائــدة كــا تعلمنــا التجربــة ،ويف أفضــل األحــوال قــد تجــري بعــض
التعديــات عليهــا بعــد مــي ســنوات .ولنــا يف القانــون رقــم 4الخــاص بتحديــث الصــاالت
خــر مثــال عــى ذلــك ،إذ مل تخــل مــادة منــه مــن الثغــرات ،فقــد حــدد فــرة اإلعفــاء
مــن الرســوم الجمركيــة عــى التجهيــزات بفــرات قصــرة مفرتض ـاً ســلفاً وجــود الســيولة
املاليــة املناســبة لــدى أصحــاب الصــاالت ،وربــط إعفاءهــا مــن رضيبــة الدخــل ورســوم
اإلدارة املحليــة واملالهــي (ومل يعفهــا مــن الرضائــب والرســوم األخــرى والكثــرة) بإجــراء
41
عمليــة التحديــث أوالً ،بــدالً مــن إعفاءهــا مبــارشة يك يســمح للصــاالت بتحقيــق أربــاح
تســاعدها عــى التحديــث الحق ـاً ،وهــدد أصحــاب الصــاالت ألســباب عصيــة عــى الفهــم
بدفــع كامــل الرســوم الجمركيــة وغرامــة تعــادل خمســة أضعافهــا فيــا لــو مل تســتخدم
التجهيــزات املســتورة خــال ســنة ونصــف! ومل ينــس تخصيــص مبلــغ يقتطــع مــن كل
فيلــم مســتورد لصالــح املؤسســة .هــذا دون أن يقــوم القانــون بإلغــاء أو تعديــل مراســيم
وقوانــن ســابقة وذات صلــة مبوضــوع الصــاالت .ونالحــظ أن توصيــات املذكــرة املشــار إليهــا
تســتدرك جميــع هــذه الثغــرات ،لكــن ملــاذا اآلن وليــس قبــل ثــاث ســنوات عندمــا ســن
القانــون رقــم 4؟ أعتقــد أن الســبب يعــود إىل آليــات العمــل القامئــة عــى إقصــاء الفعاليــات
الســينامئية عــن املســاهمة الفعليــة يف صياغــة الترشيعــات املنظمــة ملجالهــم ،وهــو مــا
جعــل القانــون املذكــور يخــرج بهــذه الصــورة عدميــة الفاعليــة ،وتطلــب اآلن ترشيــع قانــون
أخــر يبــدو مــن خــال املقتطفــات التــي قدمهــا لنــا األســتاذ األحمــد يف مداخلتــه أكــر اتزانـاً
بعــد أن توســعت مســاهمة ممثــي هــذه الفعاليــات يف صياغتــه ،ومــن املمكــن اســتدراك مــا
قــد يشــوبه مــن ثغــرات بنــر املذكــرة بصفتهــا مــروع أويل لــه ـ وفتــح الحــوار حولهــا.
42
ال يتــم وال يجــوز أن يتــم بــأي مثــن .فللمؤسســة دور تثقيفــي وتنويــري ال يقــدر عــى
القيــام بــه أي منتــج خــاص ،ولهــذا مثنــه ورضيبتــه» ،وهــذا الــكالم الــذي نتفــق معــه (مــع
تحفظنــا ملــا ميكــن للقطــاع الخــاص القيــام بــه فيــا لــو أتيحــت لــه الظــروف املالمئــة) يعنــي
أن املؤسســة تعمــل وفــق قوانــن غــر مجديــة طاملــا أن «هــذا ال يتــم» ،وطاملــا أنــه «ال
يجــوز أن يتــم بــأي مثــن» فذلــك يعنــي منطقيـاً رضورة تغيــر هــذه القوانــن .لكــن ورغــم
إقــرار األســتاذ األحمــد باإلضافــة إىل ذلــك أن إزالــة الطابــع االقتصــادي للمؤسســة كفيــل
بطــوي العديــد مــن الهمــوم واإلشــكاليات ،نجــده بــات اآلن متأكــدا ً «مــن رضورة أن تبقــى
املؤسســة عــى طابعهــا االقتصــادي رغــم كل يشء»! ويــرر هــذا التبــدل يف املوقــف بقولــه
أن «الســينام اقتصــاد قبــل أن تكــون فنــاً .هــذا هــو قدرهــا ،وهــو أحــد أرسار عظمتهــا
وازدهارهــا وهــو يف الوقــت نفســه نقطــة ضعفهــا» .ونســارع ونقــول إن ذلــك أيضـاً صحيح،
لكــن األســتاذ األحمــد يقفــز هنــا مــن تشــخيص حالــة محــددة خاصــة بواقــع املؤسســة
الراهــن مؤكــدا ً مــا تتضمنــه مــن تناقــض صــارخ إىل الدفــاع عــن حالــة عموميــة ال عالقــة
لنــا بهــا .نعــم املقولــة آنفــة الذكــر صحيحــة لكــن ليــس يف املطلــق وإمنــا ضمــن ســياقات
محــددة تصبــح خارجهــا مجــرد شــعارات ال معنــى لهــا .الســينام اقتصــاد حيــث توجــد
اقتصاديــات للســينام ،أي حيــث توجــد منظومــة ضخمــة ومتكاملــة مــن رشكات اإلنتــاج
ورشكات التوزيــع وصــاالت العــرض التــي تتــداول األفــام املتنافســة وتغــري بإعالناتهــا
جمهــورا ً ضخــاً لريتادهــا ويرفــع مــن حجــم إيراداتهــا ،أمــا بغيــاب كل ذلــك كــا هــو
43
الحــال عندنــا فعــن أي اقتصــاد ميكــن أن نتكلــم .وحتــى بوجــود هــذه االقتصاديــات يبقــى
للدولــة دورا ً أساســياً يف دعــم الســينام للحفــاظ عــى جانــب هــام مــن عظمتهــا وازدهارهــا
ميكــن أن يضمحــل ويــذوب مــن دونهــا .ولعلــه مــن املفيــد اإلشــارة هنــا إىل أن الكثــر مــن
النقاشــات تجــري اليــوم يف أوربــا حــول طبيعــة دور الدولــة يف هــذا االتجــاه ،وذلــك بــن
تياريــن أحدهــا ينطلــق مــن مفهــوم اقتصــادي بحــت يــرى أن عــى الدولــة دعــم األعــال
القــادرة عــى تحقيــق األربــاح ومنافســة نظريتهــا األمريكيــة يف الســوق املحليــة ،وأخــر
يقــف مــع دعــم األفــام التــي ال تســتطيع مجــاراة قوانــن الســوق الصارمــة عــى رغــم مــا
قــد تحملــه مــن قيــم فنيــة وثقافيــة .وال يــزال الواقــع يفــرض دعــم النوعيــة الثانيــة رغــم
انخفــاض هــذا الدعــم يف بعــض البلــدان مؤخــرا ً ،فاألفــام املجديــة اقتصاديـاً يتكفــل الســوق
نفســه بدعمهــا ســواء مــن ناحيــة اإليــرادات أو اســتقطاب رشكات اإلنتــاج لصناعهــا .دون
أن يعنــي ذلــك عــدم حصــول هــذه النوعيــة عــى أشــكال معينــة مــن الدعــم .لذلــك ال
يبــدو مفهومـاً عــى اإلطــاق معنــى االقتصــاد الــذي يطرحــه األســتاذ األحمــد ،فاإلشــكالية
آنفــة الذكــر ليــس لهــا وجــود أصـاً يف ســوريا ،وحتــى إذا مــا ظهــرت يومـاً مــا (بعــد عمــر
طويــل) يف ظــل ازدهــار الواقــع الســيناميئ بكافــة معطياتــه يبقــى مــن واجــب الدولــة
دعــم الســينام الضعيفــة التــي ال تســتطيع االســتمرار مــن دونهــا كــا هــو األمــر يف العــامل
أجمــع ،أي أن «إعــادة تنظيــم الســوق الداخليــة وصاالتهــا» لــن يغــر شــيئاً يف املوضــوع .ثــم
أال تكفــي تجربــة ربــع قــرن مــن هيمنــة الطابــع االقتصــادي للمؤسســة يك تقنعنــا حصيلتهــا
44
اإلنتاجيــة «الباهــرة» وإيراداتهــا «الخياليــة» مــن األفــام بعــدم جــدواه؟ أال يكفــي هــذا
الثمــن الباهــظ الــذي دفعتــه الســينام الســورية؟ ومــا الــذي تغــر اليــوم يك يؤمــن األســتاذ
األحمــد «بقدرتنــا كســينامئيني وإدارة عــى تحويــل نقطــة ضعــف املؤسســة ـ االقتصــاد ـ إىل
نقطــة قــوة» واألهــم كيــف!؟
أمــا القــول أن «املوافقــة عــى تحويــل املؤسســة إىل هيئــة إداريــة تعنــي املوافقــة عــى
استســامها للرتهــل والغــرق يف املزيــد مــن البريوقراطيــة والروتــن» فأعتقــد أنــه يحتــاج إىل
الكثــر مــن التدقيــق .فاملؤسســة مل تســلم طيلــة ربــع قــرن مــن هيمنــة الطابــع االقتصــادي
عليهــا ال مــن الرتهــل وال البريوقراطيــة وال الروتــن ،وبالتأكيــد لــن تســلم مبجــرد تغيــر
طابعهــا ،ألن هــذه اآلفــات ال عالقــة لهــا بطابــع املؤسســة ،وســنجدها يف أي مؤسســة قطــاع
عــام لدينــا الرتباطهــا مبجمــل تركيبــة الدولــة ومــا أفرزتــه مــن عقليــات وســلوكيات وآليــات
عمــل تتســم باالنتهازيــة والوصوليــة والالمبــاالة ،تكرســت وتفاقمــت يف ظــل هشاشــة األداء
اإلعالمــي والجهــاز القضــايئ ،وتهميــش مؤسســات املجتمــع املــدين وتقليــص دورهــا إىل
الدرجــة التــي غابــت معهــا مفاهيــم كالنقــد واملكاشــفة واملراقبــة واملحاســبة والشــفافية
مبعناهــا الحقيقــي والفعــي الــذي يشــمل كل القضايــا وميتــد ليطــول الجميــع دون اســتثناء،
وكذلــك يف ظــل الهيكليــة اإلداريــة الداخليــة للمؤسســات ،القامئــة عــى املركزيــة الشــديدة
التــي تخــول املديــر العــام اإلمســاك بجميــع الخيــوط الرئيســية فيهــا والتحكــم بهــا دون
رقيــب أو حســيب ،مــا يجعــل منــه إله ـاً مطلــق الســلطة داخلهــا والجميــع مــن حولــه
45
مجــرد أشــباح تســعى لرضــاه ومباركتــه ،وال تخــرج املؤسســة العامــة للســينام عــن هــذا
اإلطــار فنجــد أن املديــر العــام فيهــا هــو رئيــس مجلــس اإلدارة ورئيــس تحريــر مجلــة
الحيــاة الســينامئية ورئيــس اللجنــة الفكريــة ومديــر مهرجــان دمشــق الســيناميئ عــى
الرغــم مــن اختــاف وتبايــن مهــام كل منهــا .وتحــت أغــراء الســلطة التــي متنحهــا هكــذا
هيكليــة يصبــح مــن الصعــب عــى أي كان االنفصــال عــن آليــات عمــل املؤسســة بــكل مــا
تحملــه مــن ترهــل وبريوقراطيــة وروتــن ...هــذا كحــد أدىن ،...والخطــوة األوىل للتخلــص
مــن هــذه الســلبيات تكــون بتقديــم املزيــد مــن االســتقاللية لجميــع هــذه اللجــان والهيئــات
مبــا يكفــل لهــا فاعليــة أكــر وأداء أفضــل.
46
هــي أخــر مــا ميكــن أن يواجــه أي مؤسســة لإلنتــاج الســيناميئ يف العــامل ،عــى العكــس
املشــكلة تكمــن وكقاعــدة عامــة يف اختيــار األفضــل ـ بغــض النظــر عــن معيــار هــذا األفضــل
ـ مــن بــن كــم هائــل مــن الســيناريوهات .عــى ســبيل املثــال يقــدم إىل رشكات اإلنتــاج يف
الواليــات املتحــدة حــوايل 30ألــف ســيناريو ســنوياً ينتــج منهــا حــوايل 600فيلــم .حتــى
إذا افرتضنــا أن جميــع املخرجــن الســوريني مل يقدمــوا مــن الســيناريوهات إال تلــك التــي
أخرجوهــا الحقـاً ـ رغــم صعوبــة تصديــق أن جميــع هــؤالء املخرجــن مل يقدمــوا نصوصهــم
األوىل إال بعــد مــي زمــن يعــادل الزمــن الــذي قضــوه عــى مقاعــد املعاهــد الســينامئية
حيــث درســوا وأحيان ـاً كثــرة يتجــاوزه بســنوات مبحــض إرادتهــم ـ فهــل كانــت املؤسســة
عاجــزة طيلــة هــذه العقــود عــى أن تجــد اآلليــات املناســبة التــي تســمح لهــا باقتنــاء
الســيناريوهات وإنتاجهــا بوجــود كل هــذا العــدد مــن الكتــاب لدينــا ،ويف الوقــت الــذي
يبحــث فيــه عــرات املخرجــن املتميزيــن مــن شــتى البلــدان العربيــة عــن جهــات إنتاجيــة،
وهــي تجربــة خاضتهــا املؤسســة يف الســبعينات مــع توفيــق صالــح وبرهــان علويــة وقيــس
الزبيــدي .الغريــب أن ورقــة العمــل التــي وقعهــا الســينامئيون الســوريون قبــل بضعــة أعوام
طرحــت وباســتفاضة إشــكالية التمويــل يف املؤسســة ،فكيــف يجعــل منهــا األســتاذ األحمــد
اآلن أكذوبــة وقــد ذيــل بتوقيعــه الورقــة ذاتهــا ،ويختــزل أســباب ضعــف إنتاجيــة املخرجــن
الســوريني يف «أن ربــة اإللهــام تــزور بعــض الســينامئيني أكــر مــن بعضهــم اآلخــر» ،بينــا
يف الواقــع أن ضعــف إنتاجيــة املؤسســة التــي حكمتهــا أســباب متعــددة تصــب جميعهــا يف
47
النهايــة يف رؤيــة الدولــة القــارصة ألهميــة الســينام وقيمتهــا ودورهــا وبالنتيجــة متويلهــا لهــا
يف الحــدود الدنيــا ،هــي التــي قتلــت عــى مــر عقــود ربــة اإللهــام لــدى مخرجينــا الســوريني.
يف املهرجان
إن طابــع أي مهرجــان ســيناميئ مرتبــط إىل حــد بعيــد بالغايــة التــي يقــام مــن أجلهــا ،فثمــة
مهرجانــات تتخصــص بتيمــة محــددة ،وأخــرى بجنــس فيلمــي أو نــوع بعينــه وأخــرى تقيــد
نفســها باللغــة أو بالجغرافيــا أو بالســن أو بالجنــس ...الــخ ،لكــن جميــع املهرجانــات يف العامل
تحقــق بســويات مختلفــة ثــاث مهــام :أوالً تعريــف املشــاهد عــى اإلنتاجــات الســينامئية
الحديثــة وتلــك التــي ال يتســنى لــه عــادة مشــاهدتها ،ثاني ـاً إنشــاء روابــط بــن أقطــاب
الصناعــة الســينامئية مــن مخرجــن ومنتجــن وموزعــن وعارضــن ونقــاد وصحفيــن ،ثالث ـاً
تشــجيع ودعــم وترويــج األفضــل واألبــرز مــن األفــام وصناعهــا .وأعتقــد أنــه إذا مــا أردنــا
أن نقيــم مهرجاننــا الســيناميئ مبوضوعيــة البــد لنــا مــن التســاؤل عــن غايتــه وإىل مــدى
اســتطاع الوصــول إليهــا.
الصيغــة القدميــة للمهرجــان حــددت لنفســها إطــارا ً جغرافيـاً يشــمل الــدول العربيــة وآســيا
وأمريــكا الالتينيــة ،وهــو أمــر كان لــه مــا يــرره لوجــود ســات مشــركة بــن العديــد مــن
بلــدان هــذه املجموعــات ســواء مــن ناحيــة تقــارب فــرات اســتقالل معظمهــا ،أو مــن
ناحيــة بناهــا االقتصاديــة املتخلفــة ،وبالتــايل وجــود إشــكاليات وعراقيــل وظــروف ســينامئية
48
متشــابهة إىل حــد مــا ،تتطلــب تبــادل يف الخــرات واملعــارف بــن ســيناميئ هــذه البلــدان
للتصــدي لهــا .ويف ظــل هــذا التوجــه تطــرق النظــام األســايس للمهرجــان إىل جميــع املهــام
الثالثــة املذكــورة ،فحــدد أهدافــه بـــ :
«1ـ تطويــر الســينام الوطنيــة العربيــة والنهــوض بهــا ،ودعــم اتجاه الســينام الشــابة امللتصقة
بواقــع الجامهــر واملعــرة عــن قضاياهــا وتطلعاتها األساســية.
2ـ تدعيــم االتجاهــات الجــادة يف الســينام اآلســيوية بشــكل خــاص وســينام العــامل الثالــث
بشــكل عــام والتعريــف بهــا.
3ـ خلــق عالقــة متجــددة مشــركة بــن الســينام والســينامئيني مــن جهــة والجمهــور مــن
جهــة أخــرى.
4ـ بنــاء جســور ثقافيــة وفكريــة بــن الســينامئيني العــرب مــن جهــة ،وبينهــم وبــن
الســينامئيني يف بلــدان العــامل الثالــث والعــامل مــن جهــة أخــرى.
5ـ تنفيذ مهامت ثقافية وفنية وتربوية واإلسهام يف نرش الثقافة السينامئية».
وبغــض النظــر عــن صيغــة هــذا النــص ودقتهــا وواقعيتهــا ،مــا يهــم هنــا أن املهرجــان ســابقاً
حــدد غايــة وأهدافـاً لــه ،أمــا إىل أي حــد نجــح بتحقيقهــا طيلــة إحــدى عــر دورة ،وأيــن
فشــل وملــاذا؟ فهــذه أســئلة تحتــاج إىل دراســة موســعة وعميقــة ،عــى أساســها كان ميكــن
تحديــد مــا يجــب تعديلــه أو إلغــاءه مــن الشــكل القديــم لــه ،وصياغــة شــكل معــارص
يتجــاوز عــرات املــايض .طبعـاً هــذا مل يحــدث ،وقررنــا بصــورة اعتباطيــة كالعــادة االنتقــال
49
إىل شــكل جديــد دون مســوغات وحجــج وغايــات مقنعــة .لذلــك مل يبــق لنــا إال أن نقيــم
املهرجــان الجديــد عــى قاعــدة مــا أصــاب مــن نجــاح أو فشــل عــى مســتوى املهــام املذكورة
التــي تنــاط بــأي مهرجــان.
ال شــك أن املهرجــان يف دورتيــه األخريتــن حقــق قفــزة نوعيــة عــى مســتوى العــروض
كـاً ونوعـاً ،ســواء تلــك املدرجــة يف املســابقة الرســمية أو يف التظاهــرات الكثــرة املرافقــة،
والتــي وصلــت يف الــدورة األخــرة إىل 18تظاهــرة ،وهــو عــدد كبــر حتــى مبقاييــس أبــرز
املهرجانــات الســينامئية يف العــامل وهــو أمــر يحســب ملنظميــه .لكــن ال يفوتنــا هنــا الفــارق
الجوهــري يف داللــة التظاهــرات بــن مهرجاننــا ومهرجانــات مــن نــوع كان أو برلــن ،فهنــاك
هــي تحمــل طابع ـاً احتفالي ـاً بســينام مــا أو مخــرج مــا ،وإمكانيــة االطــاع عــى األفــام
التــي تتضمنهــا متوفــرة دامئ ـاً لوجــود أرشــيف وطنــي للســينام يســعى باســتمرار القتنــاء
الجديــد ،بــل والكثــر منهــا متوفــر يف ســوق الفيديــو وميكــن اليــوم ألي كان حجــز نســخته
حتــى عــن طريــق األنرتنــت ،أمــا لدينــا فهــي فرصــة قــد ال تتكــرر إال مبــرور عقــد أو أكــر
مــن الزمــن ملشــاهدتها .ومثــل هــذا األرشــيف هــو مــا علينــا أن نســعى إىل إنشــائه ،فمــن
دونــه ســوف نبقــى منقطعــن عــن الــراث الســيناميئ يف العــامل ،وغــر قادريــن عــى التواصــل
مــع املنجــزات املعــارصة لهــذا الفــن العظيــم .أمــا أن يصبــح املهرجــان تعويضـاً عــن الطقــس
الســيناميئ الغائــب لدينــا فهــذه قمــة العبثيــة ،فــإن كانــت الدولــة مهتمــة حقـاً بهــذا الطقس
وعودتــه ،وهــي مــن الســخاء بحيــث تقــدم نصــف مليــون دوالر لدعمــه طيلــة عــرة أيــام،
50
فمــن املنطقــي إذن أن متنــح أصحــاب الصــاالت أضعــاف هــذا املبلــغ لتحديثهــا واملحافظــة
عــى هــذا الطقــس طيلــة الســنتني الفاصلتــن بــن دورات املهرجــان .وطاملــا نتحــدث عــن
العــروض البــد مــن اإلشــارة إىل ناحيــة تنظيميــة تتعلــق بتوقيــت بعضهــا ،وخاصــة األفــام
الســورية واملرصيــة وبعــض أفــام الســوق الــدويل ،فــاألوىل جــرى تقليــد ســيئ بــأن يكــون
عرضهــا األول يف املهرجــان (أمــا عروضهــا الالحقــة لــه فمؤجلــة حتــى إشــعار أخــر!) وال
أدري ملــاذا ،ورغــم أن االزدحــام واللغــط الــذي ينشــأ عــن ذلــك يتكــرر يف كل دورة ويحــرم
الكثــر مــن الضيــوف غــر الســوريني مــن مشــاهدتها (إذا افرتضنــا أن الفرصــة ســوف تســنح
الحق ـاً لســيئي الحــظ مــن الســوريني مبشــاهدتها) تــر إدارة املهرجــان عــى عــدم إلغــاء
هــذا التقليــد .أمــا بالنســبة لألفــام األخــرى املذكــورة والتــي دلــت التجربــة أن لهــا جمهــورا ً
واســعاً فيمكــن للمؤسســة أن تســتوردها قبــل املهرجــان أو تنســق مــع بعــض الصــاالت
للقيــام بذلــك.
نــأيت إىل مســألة الصــات والروابــط التــي ينظمهــا املهرجــان ،وأقــول ينظمهــا تجــاوزا ً لتلــك
التــي تنشــأ وتتطــور بفعــل الحــدث بحــد ذاتــه ،وتتفاعــل عــن طريــق العالقــات الشــخصية
والحيويــة الذاتيــة للمعنيــن فيــه بشــتى اختصاصاتهــم ،عل ـاً أن هــذا النــوع مــن التفاعــل
يرتتــب عليــه الكثــر مــن األعبــاء املاديــة مــا يدفــع الكثــرون لالنكفــاء عنــه أو يخرجــون
مــن املهرجــان وعــى أكتافهــم ديــون بــاآلالف .فــإذا مــا توقفنــا عنــد مــا ينظمــه املهرجــان
ســنجد أنــه يقتــر عــى نــدوة أساســية ،ونــدوات صباحيــة تناقــش بعــض األفــام املعروضــة
51
يف اليــوم الســابق ،وأحيانـاً بعــض املؤمتــرات الصحفيــة لنجــوم الســينام .وهــذا ال يكفــي عــى
اإلطــاق ،إذ عــى عاتــق إدارة املهرجــان تقــع مســؤولية إنشــاء أكــر قــدر مــن شــبكات
العالقــات الفاعلــة بــن أربــاب صناعــة الســينام مــن خــال تنظيــم ورشــات عمــل نوعيــة
ومفتوحــة تجمــع املوزعــن مــع العارضــن ،املنتجــن مــع املوزعــن ،املخرجــن مــع املنتجــن،
النقــاد مــع املخرجــن أو كل مــن هــذه الفئــات عــى حــدة وذلــك بحســب املحــاور والقضايــا
املطروحــة ،مــا يعــزز مــن تواجــد ضيــوف املهرجــان ويحقــق مشــاركة فعالــة ومرموقــة
للســينامئيني الســوريني الذيــن غالبـاً مــا يبــدون مغيبــن عــن فعالياتــه وأنشــطته.
وأخــرا ً لنناقــش جانــب الدعــم والتشــجيع يف املهرجــان والــذي ينعكــس بصــورة أساســية
يف املســابقة الرســمية لــه ،وهــي مســألة ذو أهميــة جوهريــة الرتباطهــا املبــارش بطابعــه،
وتقييمنــا ورؤيتنــا لهــا البــد أن تقــوم عــى أســاس إمكانياتنــا وأولوياتنــا يف ســياق الواقــع
الســيناميئ العــام يف البلــد ويف العــامل وبالتــايل تحديــد االتجــاه الــذي يجــب أن تنحــوه .فهــذا
الواقــع بالــذات يفــرض علينــا التفكــر والتســاؤل مــن وملــاذا علينــا أن ندعــم ونشــجع.
والتســاؤل يف الحقيقــة ليــس جديــدا ً بــل كان يطرح حتــى ضمن الصيغــة القدميــة للمهرجان،
ومل يكــن مجديـاً يف نظــر البعــض التكــرم بجوائــزه ملخرجــن مــن وراء البحار ليســوا يف حاجة
لهــا ،وأعتقــد أن لهــذا الطــرح مــا يــرره يف ظــل الحالــة الثقافيــة عمومـاً والســينامئية بصورة
خاصــة لدينــا ـ والتــي ال يخفــى عــى أحــد مــا تعانيــه مــن فاقــة وعجــز ـ وميــي ذا صدقيــة
أكــر ضمــن الصيغــة الجديــدة للمهرجــان .فمعظــم الســينامت األوربيــة تحظــى بأشــكال
52
مختلفــة مــن دعــم الدولــة ،والكثــر مــن الســينامت يف أســيا وأمريــكا الالتينيــة حققــت
خطــوات كبــرة لألمــام يف العقــد األخــر ،أمــا الســينام األمريكيــة فهــي ال تكتفــي مبــا تجنيــه
يف الســوق املحليــة مــن إيــرادات ،بــل غــدت تســيطر حتــى عــى األســواق األوربيــة وبنســب
تصــل أحيانـاً إىل 75%مــن حجــم العــروض .أي أن معظــم هــذه الســينامت ليســت يف حاجــة
عمليـاً إىل جوائــز املهرجــان ال مــن ناحيــة قيمتهــا املاديــة الرمزيــة أو حتــى املعنويــة ،فهــو
بالنهايــة مجــرد مهرجــان أخــر منفتــح عــى الجميــع مــن بــن مئــات املهرجانــات التــي
تقــام يف شــتى بقــاع العــامل ،ال يســعون هــم إليــه مبقــدار مــا يســعى هــو وراءهــم .ولنتأكــد
مــن ذلــك يكفــي أن نلقــي نظــرة عــى عــدد املخرجــن الــذي يرافقــون أفالمهــم إليــه،
ونتذكــر حفــل الختــام يف الــدورة األخــرة حيــث طغــى الظهــور املتكــرر لســفراء الــدول
عــى الســينامئيني أثنــاء توزيــع الجوائــز.
ولــن كان املهرجــان قــد أســس خــال تاريخــه لتقاليــد بروتوكوليــة أكــر منهــا ســينامئية يف
منــح الجوائــز تحــول دون خــروج املشــاركة الســورية بالدرجــة األوىل واملرصيــة بالدرجــة
الثانيــة خاليــة الوفــاض ،وهــو مــا أضعــف دومـاً مــن مصداقيته ،فــإن اســتمرار هــذه التقاليد
بعــد أن اتســعت املنافســة واشــتدت داخــل املســابقة الرســمية يف الدورتــن األخريتــن
جعلتــه أقــل مصداقيــة حتــى مــن الســابق .ليعــود فيلــم مبســتوى «وداعـاً لينــن» إىل بــاده
كــا جــاء ،مــن دون حتــى مجــرد إشــادة صغــرة ،وهــو الــذي نــال ســتة جوائــز يف مهرجــان
الفيلــم األوريب وحــده .ونــرد ســلفاً عــى مــن يقــول أن هــذا األمــر يحــدث حتــى يف أكــر
53
املهرجانــات واملســابقات ،بــأن حدوثــه يرتافــق دوم ـاً مبوجــة عارمــة مــن االنتقــادات كــا
جــرى هــذا العــام يف حفــل األوســكار عندمــا اســتبعد الفيلــم املذكــور نفســه مــن املنافســة
عــى جائــزة أفضــل فيلــم أجنبــي.
وهــذا التناقــض لــن يســتطع املهرجــان بصيغتــه الراهنــة حلــه ،فهــو إمــا أن يســعى إىل
توطيــد مصداقيــة وســمعة مرموقــة لــه مبنــح جوائــزه لألعــال األجــدر بهــا ولكــن ليــس
بالــرورة التــي تحتاجهــا وبالتــايل يخــر جــزءا ً كبــرا ً مــن مرشوعيتــه ،أو مينحهــا انطالقـاً
مــن اعتبــارات وطنيــة أو أخالقيــة لألعــال التــي يحتــاج منتجوهــا ومخرجوهــا حقـاً للدعــم
والتشــجيع ،ورغــم أن هــذه األعــال قــد تكــون متميــزة حقــاً ،لكــن عندمــا يتــم ذلــك
عــى حســاب أعــال أكــر متيــزا ً يفقــد املهرجــان الكثــر مــن مصداقيتــه .وللخــروج مــن
هــذه الحالــة البــد مــن تغيــر جــذري يف الصيغــة التــي وضــع املهرجــان داخلهــا ،وصــوالً إىل
صيغــة جديــدة تتبلــور انطالقـاً مــن الســؤال املطــروح آنفـاً :مــن يجــب أن يدعــم املهرجــان
ويشــجع؟
إن نظــرة متفحصــة لواقــع اإلنتــاج الســيناميئ يف البلــدان العربيــة تجعلنــا نوقــن وجــود
أزمــة عميقــة فيــه ،فمــن بلــدان ال متلــك أي إنتاجــات عــى اإلطــاق إىل أخــرى تكتفــي
ببضعــة أفــام ســنوياً انتهــاء مبــر الدولــة الوحيــدة التــي متتلــك صناعــة ســينامئية وتعــاين
مــن تراجــع هائــل يف اإلنتــاج كـاً ونوعـاً عــى حــد ســواء ،ومل يعــد رسا ً أن نخبــة مخرجــي
هــذه البلــدان يعانــون األمريــن إليجــاد ممــول ألعاملهــم ومشــاريعهم املؤجلــة ،ومــن يجــد
54
هــذا املمــول قــد ال يجــد مــن يــوزع فيلمــه املنجــز ليبقــى محتجب ـاً لســنني طويلــة عــن
جمهــور يفــرض أنــه صنــع ألجلــه ،بــل أن العديــد مــن األعــال أصبحنــا نشــاهدها حــرا ً
عــر شاشــة أريت الفرنســية!
أمــام هــذه الصــورة القامتــة لواقــع اإلنتــاج والتوزيــع الســيناميئ يصبــح مــن أولويــة أي
مهرجــان ســيناميئ عــريب املســاهمة قــدر اإلمــكان يف الخــروج مــن هــذا الواقــع ،وذلــك بدعم
أضعــف مكوناتــه أي املخرجــن عــر مســابقته الرســمية وجوائزهــا املتعــددة ،باإلضافــة ملــا
يقدمــه لهــم مــن ترويــج ألفالمهــم وربطهــم بشــبكات مــن املنتجــن واملوزعــن املهتمــن
بدعــم الســينام العربيــة وتطويرهــا ،أي أن مهرجــان لألفــام الناطقــة بالعربيــة ميكــن لــه
أن يركــز شــتى الطاقــات املطلوبــة لدعــم هــذه الســينامت والنهــوض بهــا ،وهــذا بالتأكيــد
ال يتعــارض مــع عــرض أخــر إنتاجــات الســينام العامليــة وأبرزهــا يف التظاهــرات املرافقــة
للمهرجــان.
55
رسي يعمل جابياً للرضائب عند الدولة
مأمــون رسي رجــل ولــد يف الســينام وحتــى اللحظــة يعــد نفســه هاويـاً لهــا ،امتهنهــا باكــرا ً
وهــو يف الثامنــة عــرة مــن العمــر ليعمــل إىل جانــب والــده الــذي بــدأ باســتثامر صالــة
«الدنيــا» منــذ عــام ،1946وعــى الرغــم مــن نيلــه شــهادة يف الحقــوق مــن جامعــة دمشــق
عــام 1963مل يفــارق الســينام ومل ينخــرط يومــاً يف أي نشــاطات أخــرى تبعــده عشــقه
األوحــد .باإلضافــة لعملــه يف إدارة الصالــة ،كانــت لــه مســاهامت كبــرة يف مجــال توزيــع
األفــام عــى كافــة صــاالت القطــر ،ومتويــل العديــد مــن أفــام القطــاع الخــاص يف الســتينات
لدريــد لحــام «مقلــب يف املكســيك» وزيــاد مولــوي ومحمــد الــرواس وآخريــن .عــن همــوم
دور الســينام ومــا كانــت عليــه وعــن األســباب التــي جعلتهــا تــؤول إىل مــا هــي عليــه اليــوم
وســبل الخــروج مــن هــذا الواقــع كان هــذا الحــوار معــه
س ـ هــل لــك أســتاذ مأمــون أن تحدثنــا عــن واقــع توزيــع األفــام ونوعيــة العــروض داخــل
القطــر قبــل صــدور قانــون الحــر مــن خــال تجربتكــم الشــخصية؟
ـ كانــت لدينــا يف ذلــك الوقــت عالقــات مــع كــرى الــركات األمريكيــة مثــل ميــرو غولدين
مايــر وبارامونــت ويونيفرســال ،نقــوم باســترياد األفــام منهــم وتوزيعهــا ،ومل تكــن هــذه
56
األفــام تقتــر عــى نوعيــة محــددة ،إذ كنــا نحــرص عــى تقديــم كل إنتاجــات هوليــوود
بعــد فــرة قصــرة مــن عرضهــا يف الواليــات املتحــدة ،وعــن طريقنــا تعــرف الجمهــور
الســوري عــى أفــام مثــل «ســبارتاكوس» «ســيديت الجميلــة» وغريهــا ،وكذلــك عــى أفــام
نورمــان ويــزدوم التــي تعاقدنــا مــع رشكــة رانــك اإلنكليزيــة الســتريادها ،هــذا باإلضافــة
طبعـاً إىل اإلنتــاج املــري والهنــدي ،وقــد وصــل عــدد األفــام املســتوردة يف ســوريا حينذاك
إىل حــوايل 250فيلـاً .كل ذلــك جعــل إقبــال الجمهــور عــى الســينام كبــرا ً رغــم أن ســعر
البطاقــة كان نصــف لــرة للصالــة و 75ق س للبلكــون ،وكــم كنــت أشــعر بالغبطــة عنــد
رؤيــة حشــود املتفرجــن أمــام أبــواب الصالــة والذيــن كانــوا حريصــن عــى عــدم تفويــت
حتــى املناظــر التــي تقــدم عــادة قبــل بدايــة العــرض وتتضمــن أفالمــاً قصــرة متنوعــة
وإعالنــات عــن العــروض القادمــة ،لألســف هــذا التقليــد غــاب عــن صاالتنــا فيــا بعــد إذ مل
تســتطع املؤسســة بعــد تأميــم االســترياد تغطيــة حاجــة الصــاالت مــن هــذه األفــام.
س ـ كالمــك هــذا يحيلنــا إىل الســؤال الثــاين حــول اآلثــار التــي تركهــا قانــون حــر االســترياد
عــى املوزعــن والعارضــن وواقــع الصاالت؟
ـ أوالً ألغــى هــذا القانــون وظيفــة املوزعــن ،وفــرض عليهــم رشاء األفــام مــن املؤسســة
عــن طريــق املــزاد العلنــي ،هــل ســمعت بأحــد يشــري األفــام بهــذه الطريقــة؟ كــا قامــت
الــركات األمريكيــة مبقاطعــة الســوق الســورية ،انطالقـاً مــن مبــدأ رفــض االحتــكار الــذي
57
مارســته املؤسســة بعــد تأميــم االســترياد .نتيجــة ذلــك مل يعــد يف ســوريا اليــوم أكــر مــن
خمســة موزعــن بعــد أن وصــل عددهــم إىل حــوايل 50موزعـاً قبــل هــذا القانــون ،وتراجــع
عــدد الصــاالت مــن 115صالــة إىل 25صالــة ال أكــر.
س ـ منــذ بضــع ســنوات ظهــر قانــون ألغــى حــر االســترياد ،ملــاذا مل يســتفد املوزعــون منــه
ومل يقدمــوا عــى اســترياد األفــام؟
ـ عندمــا تــم إلغــاء الحــر قــررت املؤسســة أن تقتطــع لنفســها رس ـاً مبقــدار خمســون
ألــف ل س عــن كل فيلــم مســتورد .صحيــح أننــا كنــا يف املــايض ندفــع مبالــغ أكــر مــن
هــذه ،لكــن اآلن الواقــع تغــر فمــع ظهــور الفيديــو والفيديــو CDوبصــورة خاصــة االنتشــار
الواســع للفضائيــات التــي تؤمــن للمشــاهد الكثــر مــن العــروض املتنوعــة ابتعــد الكثــرون
عــن صــاالت الســينام.
س ـ ومــاذا عــن القانــون الخــاص بتحديــث الصــاالت ،ملــاذا مل نتلمــس أيــة آثــار إيجابيــة لــه
حتــى اللحظــة؟
ـ ال يوجــد يف الســوق مــا يشــجع عــى التحديــث .دعنــي أعــدد لــك الرضائــب التــي تدفعهــا
الصــاالت حاليـاً:
-1رضيبة مؤسسة السينام وتعادل 10%من قيمة كل تذكرة.
58
-2رضيبــة املالهــي وتعــادل 5%مــن قيمــة كل تذكــرة ـ أي أن وزارة املاليــة تصنــف دور
الســينام يف حقــل دور اللهــو.
-3رضيبة اإلدارة املحلية لصالح املالية وتعادل 2%من قيمة كل تذكرة.
-4رضيبة اإلدارة املحلية لصالح املحافظة وتعادل 25ق س من كل تذكرة.
-5رضيبــة عمــل شــعبي مفروضــة مــن قبــل محافظــة ريــف دمشــق وقدرهــا 5ق س مــن
كل تذكــرة.
-6رضيبــة الخدمــات (القاممــة) التــي تفرضهــا املحافظــة وتــراوح مــا بــن 15إىل 25ألــف
ل س ســنوياً تختلــف مــن صالــة إىل أخــرى بحســب عــدد املقاعــد.
-7رضيبــة مؤسســة اإلعــان التــي تفــرض رس ـاً شــهرياً عــن واجهــات الصــور املوجــودة
والثابتــة أمــام كل دار ســينام يــراوح مــا بــن ألفــن إىل ثالثــة آالف (أي مــن 24إىل 36ألــف
ل س ســنوياً).
-8وأخريا ً وليس أخرا ً رضيبة دخل عىل أجور العاملني يف الصالة.
-9ورضيبــة أربــاح يف نهايــة كل عــام ـ يف وقــت ال أربــاح فيــه داخــل الصــاالت ـ تصــل إىل
حــوايل 200ألــف ل س تختلــف مــن صالــة إىل أخــرى وفق ـاً للتصنيــف وعــدد البطاقــات
املباعــة.
-10رسم تأمني.
59
كام تفرض عىل األفالم املستوردة:
-1رضيبة إجازة استرياد.
-2رضيبة جمرك.
-3رضيبة غري مقيمني ـ يدفعها املستورد املحيل عن املورد األجنبي.
-4رسوم رقابة ـ تدفع لتغطية نفقات لجنة الرقابة يف وزارة الثقافة.
-5باإلضافــة إىل الرســم الــذي تســتوفيه املؤسســة عــن كل فيلــم ويبلــغ 50ألــف ل س ،أي
أننــي أعمــل جابي ـاً للرضائــب عنــد الدولــة وبــدون راتــب .أقــول لكــم رصاحــة أنــه دون
إعفــاء الصــاالت واألفــام مــن جميــع هــذه الرضائــب والرســوم ال ميكــن لــدور الســينام
أن تنتعــش وتحقــق أرباحـاً تســاعد أصحابهــا عــى تحديثهــا ،ودعنــي أنــوه بهــذه املناســبة
أن صــاالت فنــدق الشــام ال تدفــع أي مــن هــذه الرضائــب والرســوم ســواء عــن الصالــة
أو األفــام ،وهــو اســتثناء ال ميكــن فهمــه وال يســمح بــأي حــال مــن األحــوال باملنافســة
الرشيفــة والعادلــة بــن الصــاالت .كــا أنــه مــن الــروري إيقــاف االنتشــار العشــوايئ ألفــام
الفيديــو و CDو DVDوالحفــاظ عــى حقــوق املوزعــن والعارضــن .باإلضافــة إىل ذلــك
مــن الــروري إلغــاء القــرار رقــم 1/2850تاريــخ 1982/5/20الــذي ينــص عــى أنــه «ال
يحــق ألصحــاب دور العــرض إغالقهــا وعندمــا تغلــق البــد لــوزارة الثقافــة مــن أن تضــع
اليــد عليهــا» ،إذ أنــه ال يشــجع عــى اإلطــاق املســتثمرين إلنشــاء صــاالت جديــدة ،ألنهــم
ال يســتطيعون تغيــر هــذه املهنــة فيــا لــو أرادوا ذلــك.
جريدة «النور» السورية 2004
60
صاالت السينام يف سوريا بني الرضائب والقوانني
بعــد ثالثــن عام ـاً مــن احتــكار الدولــة الســترياد األفــام وتوزيعهــا يف ســوريا صــدر منــذ
ثــاث ســنوات قانــون ألغــى هــذا االحتــكار الــذي أوصــل دور الســينام إىل حالــة يــرىث لهــا
ســواء مــن ناحيــة آلياتهــا وتجهيزاتهــا وخدماتهــا التــي مل تحـ ّدث منــذ خمســن عامـاً أو مــن
ناحيــة نوعيــة األفــام املقدمــة التــي يطغــى عليهــا الــرديء والقديــم واملكــرر ،وهــو مــا
أفــى إىل تراجــع كبــر يف أعــداد روادهــا ونوعيتهــم ،وأدى بــدوره إىل إغــاق الكــم األكــر
مــن الصــاالت خــال هــذه العقــود.
ويف محاولــة إلخــراج الصــاالت مــن هــذا الواقــع املــزري صــدر قانــون أخــر يف نفــس الفــرة
«يشــجعها» عــى تحديــث خدماتهــا .ومــن الواضــح أنــه ال ميكــن تفعيــل القانــون األول
واالســتفادة مــن نتائجــه بصــورة حقيقيــة قبــل أن يعطــي القانــون الثــاين مثــاره التــي مــا
زلنــا ننتظرهــا ورمبــا ننتظرهــا ثالثــن عامـاً أخــرى .فحتــى اللحظــة مل تســتجب ســوى صالــة
واحــدة يف حلــب إىل هــذا القانــون ،وال يفتــأ الكثــرون يتســألون بنــوع مــن الــراءة أو رمبــا
الســذاجة البلهــاء ملــاذا مل يقــم أصحــاب الصــاالت بتحديــث صاالتهــم؟ وهــو مــا ســنحاول
هنــا اإلجابــة عليــه.
دعونــا ننظــر أوال إىل فحــوى القانــون املشــجع رقــم .4لقــد قــام هــذا القانــون بإعفــاء
61
صــاالت الســينام التــي ســتعمل عــى تحديــث خدماتهــا مــن الرســوم الجمركيــة عــى
التجهيــزات املســتوردة عــى أن يتــم إدخالهــا للبــاد خــال ثــاث ســنوات ،وكذلــك مــن
رضيبــة الدخــل ورســوم اإلدارة املحليــة واملالهــي ملــدة خمــس ســنوات (تــم متديــد هــذه
الفــرات الحقـاً) ،كــا هــدد وتوعــد يف مادتــه الثانيــة باســتيفاء «جميــع الرســوم والرضائــب
املرتتبــة عــى التجهيــزات املســتوردة مــع غرامــة تعــادل خمســة أمثــال قيمتهــا» فيــا إذا
«مل يتــم اســتخدام التجهيــزات املعفــاة مــن الرســوم خــال مثانيــة عــر شــهرا ً مــن تاريــخ
اســتالمها» ،ومل ينــس يف مادتــه الثالثــة تخصيــص «مبلــغ عــن كل فيلــم ســيناميئ يســتورد
ويجــاز للعــرض الســيناميئ» لصالــح املؤسســة العامــة للســينام.
هــل يبــدو هــذا القانــون مشــجعاً فعــاً لصــاالت تعــاين مــن خــراب تــام عمــره عقــود
مــن الزمــن اختفــى خاللهــا مشــاهدي الســينام يف البــاد .الحظــوا كيــف تــم ربــط اإلعفــاء
مــن الرســوم الجمركيــة بفــرة زمنيــة محــددة مــن ظهــور القانــون ،وكأنــه يفــرض مســبقاً
وجــود ســيولة ماليــة مناســبة وجاهــزة لــدى أصحــاب الصــاالت تؤهلهــم لتحديثهــا بعــد
الخســائر الهائلــة التــي تكبدوهــا طويــاً جــراء قانــون الحــر ،ودون اإلشــارة حتــى إىل
إمكانيــة تقديــم قــروض طويلــة األمــد وبفوائــد مخفضــة لهــم بغيــة تحقيــق هــذا الهــدف،
وعندمــا شــارفت الســنوات الثالثــة عــى االنتهــاء دون أن يحــرك أحــد ســاكناً كل مــا قامــت
بــه الدولــة هــو متديــد الفــرة دون أن تجهــد نفســها وتتســاءل ملــاذا مل يتغــر يشء .ثــم
مــا معنــى والغايــة مــن املــادة الثانيــة ،مــا الــذي ســيدفع أي مســتثمر لعــدم اســتخدام
62
تجهيــزات اســتوردها ودفــع مثنهــا (وهــو مثــن باهــظ جــدا ً) مــا مل يكــن لديــه مــا يوجــب
ذلــك مــن األســباب القاهــرة كأن تصــل التجهيــزات وتتأخــر جاهزيــة الصالــة ألســباب
تتعلــق بالتمويــل والقوانــن والروتــن والبريوقراطيــة ،أو ألســباب تجاريــة بحتــة كأن يحصــل
املســتثمر عــى صفقــة جيــدة قبــل أن يبــارش عمليــات التحديــث يف الصالــة التــي قــد تســتمر
أكــر مــن مثانيــة عــر شــهرا ً (ولنــا يف صالــة الكنــدي خــر مثــال) .أمــا املــادة الثالثــة فهــي
تتجاهــل وبصــورة ســافرة مطالــب الســينامئيني ـ كــا تجلــت يف ورقــة العمــل الشــهرية
التــي وقعهــا معظــم الســينامئيني الســوريني قبــل ســنوات ـ بــرورة تأســيس صنــدوق لدعم
الســينام ميــول مــن نســبة تقتطــع مــن بطاقــات الدخــول إىل الصــاالت ،وفصــل النفقــات
اإلداريــة داخــل املؤسســة العامــة للســينام عــن نفقــات اإلنتــاج وتغطيــة األخــرة مــن قبــل
وزارة الثقافــة .وهــو مــا يعنــي تهــرب الدولــة مجــددا ً مــن التمويــل املبــارش للمؤسســة
«بــأن يكــون لإلنتــاج الســيناميئ حصتــه الكافيــة يف توزيــع الدخــل الوطنــي ،وأن يصبــح بنــدا ً
يف دراســة وإقــرار ميزانيــة الدولــة» كــا جــاء يف ورقــة العمــل .بــل ويعنــي العــودة للعمــل
بنفــس روح قانــون الحــر ،إذ أن مقــدار املبالــغ التــي ســوف تســتوفيها املؤسســة عــن
كل فيلــم ســيناميئ مســتورد ســيحدد قدرتهــا عــى تغطيــة أجــور العاملــن لديهــا ونفقاتهــا
اإلداريــة والتقنيــة وإنتاجهــا مــن األفــام ،ومــن جهــة أخــرى ســتحدد هــذه املبالــغ قيمــة
األربــاح الصافيــة التــي ســيحققها املوزعــون وأصحــاب الصــاالت الســينامئية مــن جــراء
اســتريادهم لألفــام وعرضهــا ،أي أن هــذه املــادة وضعــت املؤسســة والقطــاع الخــاص مــرة
63
أخــرى يف مجابهــة علنيــة ،وجعلــت ازدهــار أحدهــا متناســباً مــع انحــدار اآلخــر .وقــد
وصــل هــذه املبلــغ بعيــد ظهــور القانــون إىل حــوايل 5آالف دوالر خفــض ال حقـاً إىل ألــف
دوالر ،وإذا مــا توقفنــا عنــد العــدد املتواضــع مــن األفــام التــي تدخــل إىل ســوريا يف الوقــت
الراهــن ،والتــي ال يوجــد أي مــؤرش إىل تزايدهــا يف األفــق املنظــور ،ميكننــا أن نــدرك أن
هــذه املبالــغ املحصلــة لــن تلعــب دورا ً فاعـاً يف إنتاجيــة املؤسســة ،لكنهــا ذات تأثــر كبــر
عــى املوزعــن والعارضــن بســبب الرتاجــع املريــع يف أعــداد املشــاهدين.
يف الواقــع إن هــذه النقطــة هــي األكــر حساســية لــدى أصحــاب الصــاالت ،وهــو مــا
انعكــس يف شــهادات بعضهــم التــي ظهــرت مؤخــرا ً يف امللــف الخــاص بالســينام الســورية
عــى صفحــات صحيفــة «النــور» .فالرضائــب والرســوم التــي يدفعهــا هــؤالء عــن الصــاالت
واألفــام املســتوردة تصــل إىل أكــر مــن 15نوعـاً .بعضهــا يقتطــع نســبة مــن ســعر التذكــرة،
لتصــل مبجموعهــا إىل ( 22%رســوم مالهــي وإدارة محليــة ودعــم الســينام) ،وبعضهــا اآلخــر
يســتويف مبالــغ مقطوعــة عــن نشــاط الصالــة مثــل رضيبــة الدخــل أو الخدمــات أو اإلعــان،
ويصــل مجمــوع الرضائــب املذكــورة إىل حــوايل 5آالف دوالر ســنوياً يزيــد أو ينقــص وفقـاً
لتصنيــف الصالــة وعــدد مقاعدهــا والتذاكــر املباعــة .أمــا النــوع الثالــث فيســتويف مبلغ ـاً
مقطوع ـاً مــن قيمــة التذكــرة ،وهــو ذو طابــع بريوقراطــي بحــت ال ينفــع أولئــك الذيــن
يجبونــه لصالحهــم ويرهــق الذيــن يدفعونــه بحســاباته ،كالرضيبــة التــي تقتطعهــا املحافظــة
بقيمــة 25قــرش ســوري عــن كل تذكــرة ،فتحصــل عــى دوالر واحــد مــن كل 200تذكــرة،
64
أو تلــك التــي تحصلهــا محافظــة ريــف دمشــق واملســاة رضيبــة عمــل شــعبي وهــي ال
تتجــاوز 5قــروش مــن قيمــة التذكــرة ،أي أنهــا تفــوز بــدوالر واحــد عــن كل ألــف تذكــرة !!
هــذا فيــا يخــص الصــاالت ،أمــا عــن األفــام فيدفــع املســتورد باإلضافــة إىل الرســم الخــاص
باملؤسســة (ألــف دوالر) عــن كل فيلــم رضيبــة إجــازة اســترياد وجمــرك وغــر مقيم ورســوم
رقابــة .باإلضافــة إىل املصاريــف اإلداريــة التــي قــد تصــل إىل حــوايل 12ألــف دوالر ســنوياً.
وهكــذا نالحــظ أن القانــون رقــم 4مل يعــف الصــاالت ســوى مــن جــزء بســيط مــن جملــة
الرضائــب والرســوم املرتتبــة عليهــا ،بــل واشــرط تحديثهــا بدايــة ،رغــم أن املنطــق يفــرض
إعفائهــا مــن جميــع هــذه الرضائــب بوضعهــا الراهــن ،يك يتســنى ملالكيهــا ومســتثمريها
تحقيــق تراكــم معقــول مــن األربــاح يســمح لهــم بتحديثهــا الحقـاً.
عــدا ذلــك كان يفــرض أن يرتافــق هــذا القانــون مــع إلغــاء أو تعديــل أو ترشيــع أو تطبيــق
العديــد مــن القوانــن واملراســيم ذات الصلــة ،كالقانــون الخــاص بتصنيــف الصــاالت وذاك
الخــاص بتحديــد أســعار البطاقــات ،وكذلــك قانــون الرقابــة الــذي يعــود إىل عــام .1960
ويشــكل القــرار رقــم 1/2850لعــام 1982العائــق األكــر أمــام إنشــاء صــاالت جديــدة،
إذ ينــص عــى أنــه «ال يحــق ألصحــاب دور العــرض إغالقهــا وعندمــا تغلــق البــد لــوزارة
الثقافــة مــن أن تضــع اليــد عليهــا» ،فهــل ميكــن ألي مســتثمر مجــرد التفكــر يف الدخــول
إىل قطــاع مــن األعــال ال يســمح القانــون لــه بالخــروج منــه إذا مل يوفــق لســبب أو ألخــر
فيــه ،بالطبــع ال.
65
لقــد شــكل ســوق الفيديــو ( )VHC,CD,DVDيف ســوريا عــى مــدى أعــوام طويلــة البديــل
الوحيــد ملشــاهدة األفــام الحديثــة الغائبــة عــن صــاالت الســينام ،ولــن كان الجميــع لهــذا
الســبب صامتـاً حتــى اآلن عــن تجــاوزات وزارة الثقافــة املتمثلــة برتخيصهــا ألفــام مهربــة
غــر مســتوردة مــن مصادرهــا األصليــة ،غــر أنــه حــان الوقــت إلدراك النتائــج الســلبية التــي
تخلفهــا هــذه املامرســة عــى صــاالت الســينام ،فاألفــام األمريكيــة يتــم تداولهــا يف ســوقنا
حتــى قبــل أن تنــزل إىل ســوق الفيديــو يف الواليــات املتحــدة ،مــا يخلــق منافســة حقيقيــة
للصــاالت ويحرمهــا مــن عــدد كبــر مــن املشــاهدين ،ويزيــد مــن اتســاع الفجــوة الكبــرة
أصـاً بــن االثنــن .لذلــك البــد مــن أن تعيــد الــوزارة النظــر يف آليــة منــح الرتاخيــص لألفــام
تشــجيعاً وحاميــة لــدور الســينام ،وخاصــة بعــد أن انضمــت ســوريا يف بدايــة هــذا العــام إىل
معاهــدة بــرن لحاميــة الحقــوق األدبيــة والفنيــة.
وطاملــا نتحــدث عــن القوانــن املنظمــة أو املؤثــرة عــى عمــل صــاالت العــرض وتحديثهــا
وإنشــاء الجديــد منهــا ،يجــب التأكيــد عــى رضورة العمــل وفــق مبــدأ مســاواة الجميــع أمام
القانــون ،وإلغــاء أي نــوع مــن أنــواع التمييــز بينهــا كــا هــو واقــع األمــر اآلن .فصــاالت
فنــادق الشــام اســتثنيت مــن قانــون حــر اســترياد األفــام يف وقتــه ،وال تــزال مســتثناة مــن
دفــع الرســوم والرضائــب التــي تجبــى مــن بقيــة الصــاالت ،أمــا ملــاذا فــا أحــد يعلــم!
وأخــرا ً إذا زدنــا عــى ذلــك كلــه واقــع االســتثامر بصــورة عامــة يف ســوريا ومــا يواجهــه مــن
صعوبــات وعقبــات عــى مســتوى القوانــن واإلجــراءات اإلداريــة والبريوقراطيــة ،واملخلفات
66
الســلبية التــي تنعكــس عليــه جــراء انعــدام الثقــة يف القضــاء واســتقالليته والتخــوف مــن
تدخــل األجهــزة املختلفــة ،وذكرنــا مبســتوى الدخــل املتــدين للفــرد يف ســوريا الــذي يدفعــه
للركــض جــل وقتــه وراء لقمــة عيشــه ،وال يســمح لــه باالســتمتاع يف أي أنشــطة ترفيهيــة أو
ثقافيــة ،رمبــا عندهــا لــن نتســاءل بكثــر مــن العجــب ملــاذا مل يتغــر واقــع الصــاالت لدينــا.
67
يف السينما السوفيتية -الروسية
68
سريجي بوندراتشوك
الذي رسم األدب بالضوء
يف الحيــاة ال يوجــد فقــط أشــخاص محظوظــون ،بــل لعلــه مثــة كذلــك أجيــال أكــر حظ ـاً
مــن أجيــال أخــرى ،وهنــا قــد تبــدأ املشــكلة… فمــن هــو املحظــوظ حق ـاً؟ وهــل ميكننــا
أن نصنــف املحظوظــن والــا محظوظــن مبقاربتهــم مــن حجــم املعانــاة الحياتيــة التــي
عايشــوها يف حقبــة محــددة مــن الزمــن؟ قــد نســارع باإلجابــة وبصــورة قطعيــة نعــم ميكننــا
ذلــك ،ولكننــا ســنختلف حتـاً يف املعنــى .فــإذا كان البعــض يــرى يف جيــل املعانــاة رضب مــن
الحشــود التعيســة الحــظ ،فــإن البعــض اآلخــر يجــد يف معايشــة هــذه املعانــاة بالــذات كل
الحــظ ،إذ مــن مخاضهــا ســوف تتفجــر طاقــة إبداعيــة خالقــة ،تعطــي لحيــاة جيــل بأكملــه
أكــر وأعمــق مغــزى حيــايت وتاريخــي وإنســاين .وهــذا أقــل مــا ميكــن لجيــل املعانــاة أن
يعــزي نفســه بــه ،وخاصــة إن كانــت بذلــك الحجــم كالــذي ولدتــه الحــرب العامليــة الثانيــة.
وســرغي بوندارتشــوك املولــود يف عــام 1920هــو واحــد مــن أبنــاء هــذا الجيــل بالتأكيــد.
فــإن كانــت الحــرب ســبباً يف تأخــر دراســته التــي بدأهــا يف املعهــد املرسحــي يف مدينــة
روســتوف ،ومــن ثــم أنهاهــا يف معهــد الدولــة الســيناميئ (فغيــك) يف موســكو عــام ،1948
لكنهــا مــن جهــة أخــرى مل متــر يف حياتــه دون أن تــرك بصامتهــا العميقــة ،شــأنه يف ذلــك
69
شــأن مئــات املبدعــن مــن أبنــاء جيلــه ،بــل واألجيــال التــي تلتــه.
كان الظهــور األول لبوندارتشــوك عــى الشاشــة مــع معلمــه املخــرج املعــروف ســرغي
غرياســيموف يف فيلمــه «الحــرس الفتــي» عــام .1948أمــا نجاحــه الكبــر األول كممثــل فقــد
تحقــق يف أدائــه الــدور الرئيــي يف «تــاراس شفتشــينكو» للمخــرج ايغــور سافتشــينكو،
حيــث اســتطاع أن يعكــس بصــورة عميقــة ومعــرة روح الشــخصية الشــعبية للشــاعر
والرســام األوكراينــي الكبــر شفتشــينكو.
شــارك بوندارتشــوك يف عــدد ال بــأس بــه مــن األفــام خــال فــرة امتــدت ألكــر مــن عــر
ســنوات ،قبــل أن يخــرج فيلمــه األول .وقــد حملــت هــذه األفــام تواقيــع ونكهــة مخرجــن
ينتمــون إىل أجيــال متباعــدة متامــاً ،فعمــل مــع الكســندر دوفجينكــو يف «ميتشــورين»،
وفريدريــخ إرملــر يف «قصــة غــر منتهيــة» ،وميخائيــل روم يف «األمــرال أوشــاكوف»
و«الســفن تهاجــم األبــراج املحصنــة» ،ويــويل رايزمــن يف «صديــق النجمــة الذهبيــة»،
وتيمــويف ليفتشــوك يف «ايفــان فرانكــو» ،وليونيــد لوكــوف يف «ال يجــوز نســيان ذلــك»
وغريهــم.
إال أن أبــرز أدواره يف هــذه الفــرة ،كان أداؤه لشــخصية عطيــل يف فيلــم بنفــس العنــوان
مــن إخــراج ســرغي يوتكيفيتــش عــام 1955عــن املرسحيــة املعروفــة لشكســبري ،حيــث
اســتطاع النفــاذ إىل العــامل الداخــي للشــخصية ،مــرزا ً جوهرهــا البعيــد عــن الدهــاء واملكــر
إىل الحــد الــذي ال تســتطيع معــه أن تحــدس مبــا يحــاك لهــا مــن مؤامــرات ،وخصالهــا
70
األصيلــة كالطيبــة والبســاطة ونقــاء الــروح ،التــي تدفعهــا إىل االنتحــار تكفــرا ً عــن جرميتهــا.
وتجــدر اإلشــارة إىل أن هــذا الــدور الــذي أداه العديــد مــن املمثلــن مــن قبــل ،وأهمهــم
أورســون ويلــز يف عــام ،1952قــد نــال إعجــاب لورانــس أوليفيــه الشــديد ،الــذي قــام بعــد
ذلــك بعــرة ســنوات بــأداء الــدور نفســه مــع املخــرج ســتيوارت بــورغ.
يف أواســط الخمســينات وبدايــة الســتينات جــرت يف االتحــاد الســوفيتي مجموعــة مــن
التغيــرات الكبــرة يف املجتمــع ،نتيجــة النقــد الرســمي للسياســة الســتالينية ومامرســاتها
يف مختلــف املجــاالت ،وبــدأ املنــاخ الثقــايف بالتحــرر نســبياً مــن القيــود الرقابيــة املفروضــة،
والقوالــب الجامــدة واملتعســفة التــي ســادت يف العالقــة بــن الدولــة واملؤسســات الثقافيــة
واملثقفــن عموم ـاً.
وكان لذلــك انعكاســاته اإليجابيــة عــى املنــاخ الســيناميئ يف البــاد ،إذ بــدأت يف الظهــور ـ كام
يف العرشينــات ـ االتجاهــات الفنيــة املتنوعــة ،والفعاليــات اإلبداعيــة املتفــردة يف أســاليبها،
ســواء يف أوســاط الجيــل القديــم مــن املخرجــن كـــ دونســكوي وزارخــي وكاالتــوزوف
وبرييــف وخيفيتــس وروم ورايزمــن وغريهــم ،أو لــدى أولئــك املخرجــن الذيــن أخــذت
تظهــر أعاملهــم األوىل يف هــذه الفــرة كـــ تاركوفســي وأبــوالدزه وآلــوف وناومــوف ودانيليا
وباراجانــوف وكوليدجانــوف وتاالنكني وروسوتســي وخوتســييف وتشــوخراي وتشــيخيدزه
وشــفيترس وبوندارتشــوك وغريهــم.
كل ذلــك أدى إىل توســع مجــال املوضوعــات الســينامئية ،واألجنــاس الفيلميــة ،واملخططــات
71
الرسديــة للحــدث ،والســعي لتقديــم شــخصيات أشــد عمقـاً وأكــر أصالــة وارتباطـاً بالواقــع.
ومــن جديــد ازدهــرت األبحــاث الفنيــة حــول اإلمكانيــات التعبرييــة للفيلــم ،وإشــكاليات
تنــاول املــادة الحياتيــة يف ســياق البحــث عــن الوســائل الفنيــة املالمئــة لتجســيدها الســيناميئ،
وذلــك يف صلــة وثيقــة مــع مــا تــم معالجتــه ســابقاً يف العرشينــات والثالثينــات.
إن هــذه الرؤيــة الفنيــة الجديــدة انعكســت كذلــك يف األفــام التــي تطرقــت ملوضوعــة
الحــرب يف تلــك الفــرة ،متجليــة يف غناهــا البــري ـ التعبــري ،وبعدهــا اإلنســاين العميــق،
وظهــور اإلنســان البســيط ـ الجنــدي كمحــور للحــدث التاريخــي ـ املصــري فيهــا .مــن أهــم
هــذه األفــام ميكننــا أن نذكــر «الغرانــق تطــر» 1لكاالتــوزوف ،و«البيــت الــذي أعيــش
فيــه» لكوليدجانــوف ،و«أنشــودة عــن جنــدي» 2لتشــوخراي ،و«الســام عــى اآليت» آللــوف
وناومــوف ،وعمــل بوندارتشــوك األول «مصــر إنســان» عــن قصــة بنفــس العنــوان للكاتــب
ميخائيــل شــولوخوف.
يقــول بوندارتشــوك« :منــذ القــراءة األوىل لـــ «مصــر إنســان» رأيتــه مبــارشة بصــورة
ســينامئية ،وقــررت أن أصنــع فيلــاً مهــا يكــن ،واتجهــت إىل اإلخــراج ألننــي وجــدت
وراء كل صفحــة حيــاة مفعمــة باألجســاد والحيويــة واألحــداث» .قبــل الــروع يف إخــراج
العمــل التقــى بوندارتشــوك الكاتــب شــولوخوف وعــرض عليــه الســيناريو األويل للفيلــم،
لكــن بعــد قراءتــه بقــي األخــر صامتـاً ومل يعلــق بــيء ،وكان يقــول لآلخريــن أن العمــل مل
72
ينجــز بعــد ،وعندمــا ينتهــي فحســب ميكــن الحديــث عنــه ،إذ ال يجــوز إعاقــة اإلنســان وهــو
يعمــل .وهــذا كان يعنــي الثقــة ،لقــد آمــن الكاتــب الكبــر باملخــرج الشــاب ،وهــذا كل مــا
كان بوندارتشــوك بحاجــة إليــه يف ذلــك الوقــت.
«مصــر إنســان» فيلــم املصــر الرتاجيــدي الــذي عايشــه يف فــرة الحــرب املاليــن مــن الجنــود
الســوفييت :املعــارك الدمويــة القاســية عــى الجبهــة ،معســكرات االعتقــال النازيــة ،واملــوت
الــذي كان يرتبــص بهــم يف كل لحظــة ومــن كل زاويــة.
لكــن األمــر مل يتوقــف عنــد هــذا الحــد مــن املأســاة ،فاملأســاة كانــت أكــر مــن أن يحجمهــا
االنتصــار وانتهــاء الحــرب ،فــا أن يعــود الجنــدي أندريــه ســوكولوف البطــل الرئيــي يف
الفيلــم ـ الــذي أدى دوره بوندارتشــوك نفســه ـ إىل ديــاره حتــى يجــد أن الحــرب اختطفــت
منــه أقــرب النــاس إليــه زوجتــه وأطفالــه ،وهنــا كان عليــه أن يواجــه صــورة أخــرى للموت:
األمل والحــزن والوحــدة ،كل ذلــك كان كفيــاً بــأن يدمــر روحــه ويقتلــه ،لــو مل تجمعــه
الصدفــة مــع فانيــا الصبــي املتــرد الصغــر الــذي يقاســمه املصــر نفســه ،فهــو اآلخــر فقــد
والديــه يف الحــرب ومل يعــد لديــه مــن يحتضنــه ســوى الشــوارع ،وعندمــا يعلــم ســوكولوف
ذلــك يقــرر عــى الفــور إخبــاره أنــه والــده ،يف مشــهد مؤثــر تســمو املشــاعر اإلنســانية
املتأججــة فيــه إىل ذروة عنفوانهــا ،وأداء متثيــي صــارم وصــادق إىل أقــى الحــدود .ومل يكــن
هــذا املشــهد اســتثنائياً عــى اإلطــاق ،فالفيلــم يزخــر بعــرات املشــاهد املشــابهة يف قوتهــا
ومصداقيتهــا .وبانتشــال ســوكولوف لفانيــا مــن بؤســه ،يف ذات اللحظــة ينتشــل نفســه ،فمــع
73
هــذا الصبــي الــذي فقــد مثلــه كل مــا لديــه يســتطيع ســوكولوف مــن جديــد اإلحســاس
بطعــم الحيــاة ،رغــم كل مــرارة الحــرب التــي ســتبقى يف قلبــه إىل األبــد.
ومما ال شـك فيـه أن الفضـل يف املسـتوى الفنـي العـايل الـذي حققـه العمـل يعـود كذلك إىل
الطاقـم الفنـي الـذي أختـاره بوندارتشـوك بعنايـة ،كالفنـان إبوليـت نوفوديريوجكين الـذي
اسـتطاع بواسـطة ديكوراتـه ومعالجاتـه التشـكيلية للمشـاهد أن يعكـس برباعـة األجـواء
التـي تجـري يف خضمهـا األحـداث .وكذلـك مديـر التصويـر فالدميير موناخـوف ،الـذي يعـد
«مصير إنسـان» أحـد أهـم أعاملـه ،إذ متيـزت الصـورة يف الفيلـم بديناميكيتهـا ،وواقعيتهـا
القاسـية ،واكتمال تكوينها التشـكييل ومعالجتهـا الضوئية .إن بروز ظاهرة اسـتخدام الكامريا
املحمولـة يف أفلام هـذه الفترة ،وجد انعكاسـه هنـا أيضاً يف العديـد من املشـاهد ،ولعل من
أبرزهـا ذاك الـذي يشير إليـه الناقـد بوغدانـوف« :يف مشـهد هـروب البطل مـن األرس كانت
الغابـة تتحـرك باندفاع وعشـوائية نحو املشـاهد ،مـن حني ألخر كانت تلوح جذوع األشـجار،
األغصـان صفعـت الشاشـة .لقـد صـور مديـر التصوير موناخـوف هذا الـكادر جاريا ببسـاطة
يف الغابـة وبيـده الكاميرا .ولـو تخيلنـا للحظـة أن هـذه اللقطـة مل تكـن موجودة يف املشـهد،
ملـا كان هنـاك ذلـك اإلحسـاس القـوي بخفقان قلـب البطل ،قلقـه العظيم وتوتـر جميع قواه
الداخليـة» .ورغـم أن «مصير إنسـان» كان العمـل األول ملخرجـه إال أنـه لقي نجاحـاً منقطع
النظير يف جميـع أنحـاء العـامل ،ونـال عـددا ً كبيرا ً مـن الجوائـز املحليـة والعامليـة ،ويعـد إىل
اليـوم من كالسـيكيات السـينام الروسـية.
74
ابتــدا ًء مــن عــام 1962يبــدأ بوندارتشــوك عملــه يف ملحمتــه الســينامئية الضخمــة ،املأخــوذة
عــن رائعــة الكاتــب الــرويس الكبــر ليــف تولســتوي «الحــرب والســلم» ،التــي تعكــس
مرحلــة الحــرب الوطنيــة يف روســيا ضــد جيــوش نابليــون عــام .1912
ومل تكــن هــذه هــي املــرة األوىل التــي تنقــل بهــا ملحمــة تولســتوي إىل الشاشــة ،إذ قــام
املخرجــان الروســيان غارديــن وبروتوزانــوف يف عــام 1915بأفلمتهــا للمــرة األوىل ،أمــا أهــم
أفلمــة ســابقة لهــا فتعــود للمخــرج األمريــي كينــغ فيــدور يف عــام .1956التــي شــكلت
أحــد الدوافــع وراء أفلمــة الروايــة يف روســيا ،فبعــد عــرض فيلــم فيــدور هنــاك ،أخــذت
العديــد مــن األصــوات تتســاءل عــن الســبب وراء عــدم وجــود أفلمــة وطنيــة لـــ «الحــرب
والسلم» .
باإلضافــة إىل ذلــك يشــر كاتبــا الســيناريو فاســييل ســولوفيوف وبوندارتشــوك إىل العديــد
مــن األســباب األخــرى التــي دفعتهــا ألفلمــة جديــدة لهــذه امللحمــة األدبيــة ،فيقــول
ســولوفيوف( :عنــد كتابــة الســيناريو اسرتشــدنا القانــون الداخــي الــذي حــدده تولســتوي
نفســه لبنيــة الروايــة بوصفــه «قانــون تشــابك الشــخصيات»… نحــن نحــرم عميــق االحرتام
ذلــك الجهــد الكبــر الــذي بذلــه الســينامئيون األجانــب مــن أجــل نقــل «الحــرب والســلم»
إىل الشاشــة .ولكــن األفــام التــي أنتجوهــا مل ترضنــا ،ألن األفضليــة عــادت هنــاك إىل خــط
الحــب ،إىل الثــايث العاطفــي .ويف مثــل هــذه البنيــة ضــاع الرئيــي :الخــط الشــعبي يف
الروايــة .وإذا ســلكنا طريق ـاً آخــر وأخذنــا فقــط مشــاهد املعــارك واملشــاهد التاريخيــة،
75
األمــر الــذي حاولنــا أن نفعلــه يف إحــدى صيــغ الســيناريو ،شــحبت كــرة مــن الطبائــع
اإلنســانية .ويف الحالتــن نفقــد األبطــال ،نفقــد تولســتوي) .وقــد أكــد بوندارتشــوك هــذا
التوجــه بقولــه( :إننــا نســعى إىل أن نكــون أقــرب مــا ميكــن إىل الروايــة… وهــدف أبحاثنــا
اإلبداعيــة أن نجســد عــى الشاشــة بأكمــل وأتــم وجــه روايــة الحــرب والســلم… وإنهــا
لقريبــة إلينــا نزعــة تولســتوي اإلنســانية الكــرى ،وإميانــه بانتصــار الحيــاة عــى املــوت،
بانتصــار الخــر عــى الــر ،وأحالمــه بوحــدة النــاس ذوي اإلرادة الطيبــة).
لقــد وجــد كاتبــا الســيناريو أنــه ال يجــوز التعامــل مــع مؤلــف لكاتــب بحجــم تولســتوي
بصــورة انتقائيــة فجــة ،تخولهــم التحويــر أو اإلضافــة ،كالقيــام عــى ســبيل املثــال بانتقــاء
األحــداث واملشــاهد والخطــوط الدراميــة التــي تبــدو أكــر عرصيــة ،وإمنــا االحتفــاظ بأقــى
حــد ممكــن مــن بنيــة الروايــة .والبــد أن لهــذا التطلــع مــا يــرره فعـاً ،إذ ال تــزال األفــكار
الكبــرة التــي تضمنتهــا هــذه امللحمــة الروائيــة ،وجســدها الفيلــم حيويــة بالنســبة لزماننــا
املعــارص ،ولعلهــا ســتبقى كذلــك إىل زمــن بعيــد ،كالفكــرة التــي تقــول بحتميــة إفــاس
تعســف الفــرد يف التاريــخ ،وحتميــة ســقوط الفــرد املرفــوع إىل مصــايف اآللهــة ،أو تلــك
الفكــرة التــي تــردد يف بدايــة الفيلــم ونهايتــه( :إن جميــع األفــكار التــي تنجــم عنهــا عواقب
جســيمة ـ بســيطة دومـاً .إن كل فكــريت ترتكــز عــى أنــه إذا كان النــاس الفاســدون مرتابطــن
فيــا بينهــم ويشــكلون قــوة ،فأنــه ينبغــي عــى النــاس الرشفــاء أن يفعلــوا األمــر نفســه،
وكــم ذلــك بســيط).
76
إن ســعي كاتبــا الســيناريو نحــو التجســيد األكمــل لــروح الروايــة وجــد انعكاســه يف الواقعية
الصارمــة التــي صبغــت الفيلــم بأكملــه ،فالديكــورات واملالبــس واإلكسســوارات اســتطاعت
أن تعــر بدقــة عــن العــر الــذي تجــري فيــه األحــداث ،وميكننــا أن نتصــور أي جهــد جبــار
تطلبــه ذلــك ،خاصــة عندمــا كان األمــر يتعلــق مبشــاهد املعــارك الضخمــة التــي شــارك فيهــا
آالف األشــخاص.
ويشــكل املونولــوج الداخــي (صــوت مــن خــارج الــكادر) الــذي تــم اســتخدامه بكــرة يف
الفيلــم معــادالً ســينامئياً لنظــره يف الروايــة ،كــا أن اســتخدام أســلوب تقطيــع الشاشــة
إىل قســمني أو ثالثــة للتعبــر عــن مجموعــة أحــداث تجــري يف وقــت واحــد كبديــل عــن
املونتــاج املتــوازي يقــدم مثــاالً ســاطعاً عــى التــزام بوندارتشــوك حتــى بهــذا الجانــب منهــا،
عل ـاً أن الكثرييــن مــن النقــاد واملخرجــن يــرون يف هــذه الوســائل ،عمليــة إقحــام فجــة
لوســيلة تعبرييــة أدبيــة يف الفــن الســيناميئ الــذي ميتلــك وســائله الخاصــة البعيــدة عــن
جميــع التأثــرات األدبيــة أو املرسحيــة.
ورغــم جميــع مســاعي بوندارتشــوك ،والجهــد الجبــار الــذي كرســه لهــذا العمــل ،رأى
العديــد مــن النقــاد أن الفيلــم مل يصــل إىل مســتوى الروايــة يف العديــد مــن الجوانــب ،ولعــل
أهمهــا ذاك الــذي يشــر إليــه الناقــد رومانينكــو( :لقــد متكــن بوندارتشــوك دون شــك مــن
نقــل الحــس امللحمــي للروايــة ،لكــن عنــد تولســتوي األســس امللحميــة تقــرن مــع التغلغــل
العميــق يف العــامل الداخــي لألبطــال .وبحثهــم عــن االحتياجــات الروحيــة ،ال يقــل أهميــة
77
عــن لوحــات الحيــاة الحربيــة« .املصــر الشــعبي» و «مصــر اإلنســان» يتالحــان بصــورة
عضويــة يف وحــدة متكاملــة .لألســف هــذا االندمــاج العضــوي غائــب يف الفيلــم ،ويبــدو
ذلــك ملموسـاً يف الجــزء الرابــع خاصــة ،حيــث تــم الرتكيــز عــى الوقائــع التاريخيــة ،ومــرح
األحــداث الحربيــة والجيــش والقــادة… الــخ .ويظهــر بيــر 3هنــا كشــخص متنبــه ومالحــظ
ذيك لألحــداث التــي تحيــط بــه ،وليــس كإنســان يبحــث عــن الحقيقــة ،وعــن مغــزى الحيــاة
بصــورة مؤملــة كــا يف الروايــة).
لقــد شــارك يف هــذه امللحمــة الســينامئية الضخمــة التــي وصلــت مدتهــا إىل مثــان ســاعات
وخمــس وأربعــن دقيقــة ،وبلغــت تكاليــف إنتاجهــا حــوايل 100.000.000دوالر ،واســتمر
العمــل عليهــا خمــس ســنوات ،عــدد كبــر مــن فنــاين الديكــور ،ويف طليعتهــم ميخائيــل
بوغدانــوف وغينــادي مياســنيكوف الــذي عمــل خاصــة عــى اللوحــات امللحميــة الكــرى،
التــي متيــزت بوضــوح الغايــة ،واملعالجــة اللونيــة والغرافيكيــة الغنيــة بالــدالالت املجازيــة.
مديــر التصويــر األول يف العمــل كان أناتــويل بيرتيتســي ،الــذي اســتطاع يف اللقطــات القريبــة
واملتوســطة النفــاذ بعمــق يف عــوامل الشــخصيات التــي لعــب أدوارهــا نخبــة مــن كبــار
املمثلــن الــروس كأناستاســيا فريتينســكايا ونونــا مورديوكوفــا وأناتــويل كتــوروف وإيرينــا
سكوبتســيفا وفاســييل النوفــوي وفيتشيســاف تيخانــوف وانتوينــا شــورانوفا وفالديســاف
-3بيري بيزوخوف إحدى الشخصيات األساسية يف الفيلم وقد أدى دوره بوندارتشوك نفسه
78
سرتيجيلتشــيك وغريهــم ،ليعكــس برباعــة ســاتها الذاتيــة ،ومشــاعرها ،وأفكارهــا.
أمــا يف مشــاهد املعــارك الضخمــة التــي وصــل عــدد الكومبــارس أثنــاء تصويــر بعضهــا
ـ كمعركــة بوريدينــو ـ إىل حــوايل 13000شــخص ،فقــد متيــز إبــداع بيرتيتســي بالتنــوع
والتواتــر يف أحجــام اللقطــات وخاصــة بــن العامــة واملتوســطة ،واالســتفادة مــن عمــق
الحقــل يف تقديــم الصــور البانوراميــة ،واســتخدام الكامــرا املتحركــة ،وزوايــا التصويــر
املتنوعــة ،كالتصويــر مــن الحوامــات ،أو زرع الكامــرات يف الرتبــة لتصويــر معــارك الخيالــة
مــن نقــط منخفضــة .كل ذلــك يك يســتطيع الفيلــم بعــث األجــواء الحقيقيــة لهــذه املعركــة.
ومــن الجديــر بالذكــر أن بوندارتشــوك اســتفاد مــع مديــري التصويــر وفنــاين الديكــور مــن
تقاليــد الفــن التشــكييل الــرويس يف القــرن التاســع عــر يف إبــداع هــذه اللوحــة املعــرة
واملعقــدة لدرجــة كبــرة بتكوينهــا وبنائهــا التشــكييل وتدرجاتهــا اللونيــة الرائعــة ،حتــى
غــدت هــذه املعركــة ـ املشــهد بحــد ذاتــه موضوعــاً للعديــد مــن الدراســات التحليليــة
النقديــة .وليصبــح «الحــرب والســلم» أول فيلــم ســوفيتي يفــوز باألوســكار عــن أفضــل
فيلم أجنبي يف عام .1968
يف عــام 1970قــام بوندارتشــوك بإخــراج ملحمــة تاريخيــة جديــدة بعنــوان «واترلــو» مــن
إنتــاج ســوفيتي ـ إيطــايل مشــرك ،عــن املعركــة الشــهرية التــي هــزم فيهــا نابليــون بصــورة
نهائيــة .ومل تكــن هــذه هــي املــرة األوىل التــي يتعامــل فيهــا بوندارتشــوك مــع فنانــن مــن
خــارج االتحــاد الســوفيتي ،فقــد شــارك مــن قبــل يف فيلــم روبريتــو روســيليني «كان الوقــت
79
ليـاً يف رومــا» مؤديـاً دور جنــدي رويس مــن األنصــار ،وكذلــك يف فيلــم املخــرج اليوغوســايف
فيلكــو بواليتــش «معركــة عــى نرييتفــا» عــن حــرب األنصــار يف يوغســافيا ضــد الفاشــية.
إن ســعي بوندارتشــوك إلخــراج أعــال ذات طابــع ملحمــي ،وإنتــاج ضخــم مل ترتبــط يومـاً
بنزعــة نحــو االســتعراض البــري املجــرد ،فهــو إذ اســتند يف أفالمــه عــى أعــال أدبيــة
كبــرة لشــولوخوف وتشــيخوف وتولســتوي وبوشــكني وريــد ،فقــد كان ذلــك لتقديــره الكبري
لهــا ،وإحساســه مبــا تحتويــه مــن تحليــل عميــق للتاريــخ والشــخصيات الفاعلــة فيــه ،الكبــرة
منهــا أو تلــك التــي مل يعــد التاريــخ نفســه يذكرهــا ،ويف الواقــع تلــك هــي إحــدى أعظــم
وأســمى مآثــر الفــن ،إذ يغــدو الذاكــرة الروحيــة لإلنســانية ،حيــث تســتحيل ماليــن األســاء
املنســية التــي يحيلهــا التاريــخ إىل مجــرد أرقــام ،إىل جملــة مــن املشــاعر واألفــكار الحيــة،
إىل شــخصيات تحــب وتكــره وتتــأمل وتقلــق وتتأمــل ،وتصنــع التاريــخ نفســه .لذلــك كان
بوندارتشــوك يحــرص عــى انتقــاء طاقمــه الفنــي بعنايــة كبــرة ،ســواء عــى مســتوى مديري
التصويــر وفنــاين الديكــور واملالبــس وامللحنــن ،أو عــى مســتوى املمثلــن.
ومل يكــن «واترلــو» اســتثناء ،فقــد شــارك يف هــذا الفيلــم طاقــم «عاملــي» مــن الفنانــن،
فــأدار التصويــر اإليطــايل أرمانــدو نانــوزي ،ووضــع موســيقاه أحــد أكــر امللحنــن يف الســينام
اإليطاليــة والعامليــة نينــو روتــا ،وشــارك يف التمثيــل باإلضافــة إىل الفنانــن الــروس فالدميــر
دروجنيكــوف وغينــادي يوديــن وإيرينــا سكوبتســيفا ـ زوجــة املخــرج التــي شــاركت يف
معظــم أعاملــه ـ مجموعــة مــن املمثلــن الربيطانيــن كجــاك هوكينــز وفريجينــا ماكينــا،
80
والعديــد مــن ممثلــن الواليــات املتحــدة وعــى رأســهم رود ســتيغر والغنــي عــن التعريــف
أورســون ويلــز.
يف ســينام الســبعينات عــادت موضوعــة الحــرب للظهــور مجــددا ً ،وذلــك ضمــن اتجاهــن
أساســيني .ارتكــز األول عــى امللحميــة ـ الروائيــة املمتزجــة بالدقــة الوثائقيــة يف تصويــر
املعــارك الضخمــة والشــخصيات التاريخيــة الفاعلــة يف الحــرب ،ومختلــف جوانــب املأســاة
التــي فرضتهــا الحــرب عــى النــاس .فأخــرج أوزيــروف سلســلته الطويلــة «التحريــر»
املكونــة مــن خمســة أفــام («القــوس النــاري»« ،االخــراق»« ،اتجــاه الرضبــة الرئيســية»،
«معركــة برلــن»« ،االنقضــاض األخــر») ،ويرشــوف «الحصــار» ،وليفتشــوك ثالثيتــه «أفــكار
عــن كوفبــاك» .أمــا االتجــاه الثــاين الــذي ينتمــي معظــم مخرجيــه إىل جيــل مــا بعــد الحــرب،
فقــد وضــع نصــب عينيــه تقديــم رؤيــة جديــدة أكــر معــارصة وعمق ـاً وموضوعيــة لهــذا
الحــدث التاريخــي ،يف محاولــة لتلمــس مختلــف اإلشــكاليات األخالقيــة واألزمــات الروحيــة
والنفســية التــي فجرتهــا هــذه الحــرب ،ســواء يف إطارهــا الزمنــي ـ التاريخــي أو عــر
امتدادهــا واســتمراريتها يف الزمــن املعــارص .وذلــك مــن خــال موضوعــات وأســاليب فنيــة
وأشــكال رسديــة جــدا ً متنوعــة .مــن أهــم أفــام هــذا االتجــاه ميكننــا أن نذكــر «الفجــر
هــادئ هنــا» لروسوتســي ،و«الثلــج الحــار» ليغيــازاروف ،و«عــرون يوم ـاً دون حــرب»
لغريمــن ،و«الصعــود» لشــيبتيكو ،و«الطيــور الجريحــة» لغوبينكــو ،و«إىل املعركــة ميــي
(الشــيوخ) فحســب» لبيكــوف .ضمــن هــذا االتجــاه أخــرج بوندارتشــوك عــام 1974فيلمــه
81
الرابــع «قاتلــوا يف ســبيل الوطــن» املقتبــس عــن روايــة بنفــس العنــوان للكاتــب ميخائيــل
شــولوخوف.
لقــد أكتســب هــذا الفيلــم أهميــة خاصــة بــن أفــام الحــرب يف الســبعينات لعــدة أســباب،
لعــل أهمهــا تقدميــه الوجــه البشــع للحــرب ،وللمــوت الــذي كانــت تحملــه معهــا يف كل
خطــوة ،واملعانــاة الطويلــة التــي توجــب عــى املاليــن مــن أبنــاء الشــعب أن يتذوقــوا
مرارتهــا ،مــن وجهــة نظــر الجنــدي البســيط تحديــدا ً ،يف خليــط متشــابك مــن التقاطعــات
العامــة املشــركة بــن جميــع الجنــود ،والســات الخاصــة التــي عكســت تفاصيــل الطبائــع
املختلفــة للشــخصيات ،وذلــك املزيــج مــن املشــاعر واألفــكار والذكريــات واألحــام
والســلوكيات التــي كانــت تســيطر عليهــا ،والتــي رغــم كل مــا قــد تتصــف بــه مــن الغرابــة
أو الســطحية أو االضطــراب أو الفجاجــة ،كانــت تبــدو طبيعيــة يف ظــل الظــروف القاســية
التــي فرضتهــا الحــرب عليهــم .وجــاء األســلوب الــردي يف الفيلــم منســجامً متامـاً مــع هــذه
الغايــة ،إذ ليــس هنــاك قصــة باملفهــوم التقليــدي ،فالفيلــم بأكملــه يبــدو كصــورة مقتطعــة
مــن لوحــة كبــرة ،مــن هنــا كانــت جميــع التفاصيــل الصغــرة (التــي شــكلت جوهــر الفيلم)
عــى مســتوى واحــد مــن األهميــة ،ســواء تلــك التي ظهــرت يف مشــاهد املعــارك الرشســة أو
التــي تخللــت هــذه املشــاهد كالتحايــل للحصــول عــى وجبــة طعــام ،واألحاديــث املبتذلــة
بــن الجنــود ،واملعاتبــات املتبادلــة ،والرسقــة الرسيعــة لقبلــة عابــرة ،وطبيعــة العالقــة التــي
نشــأت بــن الجنــود املنســحبني والســكان املدنيني…الــخ.
82
لقــد اســتطاع بوندارتشــوك مــع مديــر التصويــر الكبــر فاديــم يوســوف ـ الــذي عمــل يف
جميــع أفــام تاركوفســي األوىل ـ عكــس طبيعــة األماكــن واألجــواء والشــخصيات بصــورة
واقعيــة فــذة ال تحتمــل أي تزويــق ،ودون أن تخلــو يف نفــس الوقــت مــن التعابــر الدالليــة
الجميلــة .ومــا الشــك فيــه أن مشــاركة مجموعــة كبــرة مــن نجــوم التمثيــل يف الســينام
الروســية كالكاتــب والسيناريســت واملخــرج واملمثــل فاســييل شوكشــن 4الــذي أدى الــدور
الرئيــي يف الفيلــم وغيورغــي بوركــوف وإيفــان البيكــوف ويــوري نيكولــن وفيتشيســاف
تيخونــوف وليديــا فيدوســييفا ونونــا مورديوكوفــا ،باإلضافــة إىل املخــرج نيقــوالي غوبينكــو،
قــد ســاهم بصــورة فعالــة يف نجــاح هــذا العمــل الضخــم.
لقــد شــكل األدب الكالســييك واملعــارص منبعـاً أصيـاً للســينام الســوفيتية منــذ بداياتهــا ويف
كافــة مراحــل تطورهــا ،وقــد ترســخت مــع الســنني تقاليــد صارمة يف أفلمــة األعــال األدبية،
تعتمــد خلــق نظــر بــري للمؤلــف املقتبــس ،محاولــة «ترجمتــه» إىل لغــة الســينام مــع
املحافظــة عــى روحــه ومضمونــه ،عــن طريــق تكثيفهــا للحــدث واختــزال الخطــوط الثانوية
فيــه ،واالبتعــاد عــن الرتجمــة الحرفيــة للنــص األديب .وقــد أنتجــت يف جميــع العقــود أفــام
مقتبســة عــى مســتوى فنــي راق .وكذلــك كان األمــر يف الســبعينات ،فأخــرج كوليدجانــوف
«الجرميــة والعقــاب» عــن دوستويفســي ،وبانفيلــوف «فاســا» وموتيــل «الغجــر يصعــدون
إىل الســاء» عــن غــوريك ،وألــوف وناومــوف «الهــروب» عــن بولغاكــوف ،وتاالنكــن «والــد
ســرغي» عــن تولســتوي.
-4كان هذا أخر دور يؤديه فاسييل شوكشني يف حياته ،إذ تويف يف نفس العام عن 45عاماً.
83
أمــا عــن تشــيخوف فقــد أخــرج ميخالكــوف «مقطوعــة غــر منتهيــة للبيانــو امليكانيــي»،
وأخــرج بوندارتشــوك الــذي اعتمــد يف معظــم أعاملــه عىل املصــادر األدبية فيلمه «الســهب»
عــام ،1977عل ـاً أنــه قــد بــدأ العمــل عــى خطوطــه األساســية منــذ بدايــة الســتينات.
وكــا يف فيلمــه الســابق بالــكاد نســتطيع هنــا أيضـاً أن نتلمــس شــخصيات وأحداثـاً ثانويــة.
لتتخــذ جميــع التفاصيــل واملشــاهد أهميــة واحــدة ،ورغــم البعــد الزمنــي بــن شــخصيات
«الســهب» و«قاتلــوا يف ســبيل الوطــن» ،إال أنهــا تشــرك مــع بعضهــا يف جوهــر طبائعهــا،
الــذي يعكــس يف كال الفيلمــن الخلــق الــرويس يف تجلياتــه املتنوعــة ،و«فلســفته» الخاصــة
إن جــاز التعبــر.
لقــد لعبــت الطبيعــة دوم ـاً دورا ً هام ـاً يف جميــع أعــال بوندارتشــوك ،غــر أنهــا مل تضلــع
يومــاً مبثــل هــذه األهميــة االســتثنائية والــدور املعقــد كــا يف «الســهب» .فالســهب يف
الفيلــم ليــس مجــرد مــكان تــدور األحــداث يف محيطــه ،وإمنــا مجموعــة مــن الصــور الحيــة
واملثــرة مبعالجاتهــا التشــكيلية ـ التــي أبدعهــا مديــر التصويــر ليونيــد كاالشــنيكوف ـ
لـ«ســلوكياته» و«انفعاالتــه» :الســهب الحــار املنغلــق عــى نفســه ،والســهب الجامــح بأعمدة
الغبــار املتصاعــدة ،والســهب الســاطع بألوانــه يف ســاعة الغروب…الــخ .كل ذلــك أعطــى
الســهب أبعــادا ً دالليــة تعكــس أفــكار تشــيخوف الخاصــة بشــخصيات القصــة ،واألرض التــي
يعيشــون عليهــا.
غــر أن العديــد مــن النقــاد يأخــذون عــى الفيلــم إيقاعــه الــردي املتمهــل ،وغيــاب الرؤيــة
84
الذاتيــة للصبــي الصغــر يف الفيلــم ،وبالتــايل النظــرة املزدوجــة إىل األحــداث ،وابتعــاد الكثــر
مــن املشــاهد عــن الســخرية التشــيخوفية الرقيقــة.
إىل جانــب متثيــل بوندارتشــوك يف أفالمــه الخاصــة ،بقــي يشــارك مــن حــن إىل أخــر يف أفــام
مخرجــن آخريــن ،فعمــل مــع ميتالنيكــوف يف «صمــت الدكتــور إيفانــس» ،ومــع تاالنكــن
يف «اختيــار األهــداف» و«والــد ســرغي» ،أمــا أهــم أدواره يف الســبعينات ،فقــد تجلــت يف
أدائــه لشــخصية الطبيــب أســروف إىل جانــب املثــل الكبــر إينوكينتــي سموكتونوفســي يف
فيلــم «الخــال فانيــا» للمخــرج أندريــه كونتشالوفســي .إذ اســتطاع أن يعــر عــن الفــراغ
الروحــي والقلــق واملعانــاة الداخليــة التــي تتعايــش معهــا الشــخصية بنــوع مــن اإلذعــان
املســامل ،بأســلوب أبعــد مــا يكــون عــن املبالغــة الحركيــة أو اإلميائيــة ،وإمنــا برتابــة حديثــه،
وحركاتــه شــبه الســاكنة ،ونظراتــه املذهولــة حينـاً ،الضائعــة حينـاً آخــر ،والحزينــة دومـاً.
يف بدايــة الثامنينــات عــاد بوندارتشــوك مجــددا ً إىل تجربــة اإلنتــاج املشــرك مع إيطاليــا ،التي
انضمــت إليهــا هــذه املــرة املكســيك يف إخراجــه لفيلــم «األجــراس الحمــراء» .وهــو ثنائيــة
مأخــوذة عــن أعــال الكاتــب الصحفــي األمريــي جــون ريــد ،الــذي لعــب دوره يف الفيلــم
املمثــل اإليطــايل املعــروف فرانكــو نــرو .وقــد ظهــر الجــزء األول منهــا بعنــوان «املكســيك
تحــت النــران» الــذي يصــور فيــه كــا يف كتــاب ريــد «املكســيك الثائــرة» األحــداث الثوريــة
التــي اجتاحــت املكســيك خــال األعــوام 1910ـ ،1917وقــد نــال بوندارتشــوك عــن هــذا
الفيلــم الجائــزة األوىل يف مهرجــان كارلــويف فــاري الســيناميئ لعــام .1982
85
أمــا الجــزء الثــاين فقــد كان بعنــوان «أنــا رأيــت والدة العــامل الجديــد» عــن كتابــه الشــهري
«عــرة أيــام هــزت العــامل» ،الــذي يقــدم ريــد فيــه شــهادته عــن أحــداث ثــورة أكتوبــر يف
روســيا عــام .1917ومــن الجديــر بالذكــر أنــه يف ذات الفــرة قــام املخــرج األمريــي املعروف
ووريــن بيتــي بإخــراج فيلــم يســتند إىل ذات املؤلــف عــن حيــاة جــون ريــد بعنــوان «حمر»،
ونــال عنــه جائــزة األوســكار ألفضــل إخــراج يف عــام .1981
لقــد بــدأ بوندارتشــوك العمــل عــى ســيناريو هــذا الفيلــم مــع السيناريســت فالنتــن يجــوف
قبــل فــرة متتــد إىل حــوايل عــر ســنوات ،ويشــر بوندارتشــوك يف إحــدى حواراتــه الصحفية
أن مــا دفعــه إىل أفلمــة مؤلفــات جــون ريــد ،هــي رغبتــه يف متابعــة «أكتوبــر» أيزنشــتني،
بطريقتــه ورؤيتــه ووســائله الفنيــة الخاصــة ،والتعبــر عــا دعــاه بـــ (حركــة الحشــود
الشــعبية يف الزمــن) ،املوضــوع الــذي يشــكل حســب رأيــه قاسـاً مشــركاً يف إبــداع كل مــن
ريــد وأيزنشــتني ،وهــذا مــا شــكل جوهــر الفيلــم يف جزئيــه بالنســبة لــه.
لقــد كان بوندارتشــوك ينتمــي إىل ذلــك النــوع مــن املخرجــن الذيــن ال يخوضــون ســينامئياً
يف موضــوع مــا ،مــا مل يلمــوا بعمــق وبصــورة شــاملة بــأدق تفاصيلــه وجزيئاتــه ،وهــذا مــا
يفــر إىل حــد بعيــد إخراجــه لهــذا العــدد القليــل مــن األفــام خــال حياتــه الفنيــة التــي
امتــدت إىل أكــر مــن أربعــة عقــود .لكــن معظــم هــذه األفــام تركــت تأثريهــا الكبــر عــى
مســرة الفــن الســيناميئ يف روســيا ،وأمســت مــن كالســيكيات الســينام العامليــة .وقــد بقــي
األدب الكبــر هاجــس بوندارتشــوك حتــى نهايــة حياتــه فأخــرج يف عــام 1986تراجيديــا
86
شــاعر روســيا الكبــر الكســندر بوشــكني «بوريــس غودونــوف» ،وخــال فــرة تدريســه يف
معهــد الـــ (فغيــك) التــي بــدأت منــذ عــام ،1971حــاول دوم ـاً دفــع طالبــه الشــبان نحــو
هــذا األدب( :كثــرا ً مــا أقــول لطــايب أن املمثــل يتعلــم مــن أدواره ،واملخــرج؟ املخــرج
عــى األغلــب يعلمــه األدب ،وخاصــة إذا كان مؤلفــوه شــولوخوف أو تولســتوي .ســموا يل
أي عمــل لدوستويفســي ،تولســتوي ،تشــيخوف ،شــولوخوف ،يف كل منهــا مثــة إجابــة عــى
الســؤال :مــن أيــن؟ وإىل أيــن وملــاذا؟).
ومــا ال شــك فيــه أن أعــال ســرغي بوندارتشــوك ســتظل لفــرة طويلــة مــن الزمــن
تشــكل مــادة خصبــة لــكل باحــث أو ناقــد ســيناميئ يســعى للخــوض يف اإلشــكاليات الكثــرة
واملتعــددة الجوانــب لعالقــة األدب بالســينام ،التــي كانــت وال تــزال إحــدى القضايــا الكبــرة
يف الفــن الســيناميئ.
87
الكسندر دوفجينكو
مزيج من الشعر والفكاهة والوالء للثورة
أعتقــد بأنــه ســتبقى مرحلــة العرشينــات مــن القــرن العرشيــن ،ذات أهميــة ونكهــة خاصــة
يف تاريــخ الســينام ،إذ يف هــذه الســنوات بالــذات بــدأت الســينام تفــرض نفســها كفــن
مســتقل عــن الفنــون األخــرى ،ليــس عــر أفــام ال تــزال خالــدة حتــى اليــوم فحســب ،بــل
وتــراث نقــدي وتنظــري قيــم ،كان مبثابــة الخطــوات التأسيســية ملــا يعــرف اليــوم باللغــة
الســينامئية .ولعلنــا ال نبالــغ إذ نقــول أن املخرجــن مــن االتحــاد الســوفيتي قــد ســاهموا
يف هــذه املرحلــة الذهبيــة مــن تاريــخ الســينام بالقســط األكــر مــن هــذا الــراث .إىل هــذه
األســاء املبدعــة الكبــرة مــن املخرجــن واملعروفــة يف العــامل أجمــع مثــل كوليشــوف،
و فريتــوف ،و أيزنشــتني ،و بودوفكــن ،ينتمــي بجــدارة املخــرج األوكراينــي الكســندر
دوفجينكــو.
يف الواقــع إن املســرة الســينامئية لهــذا املخــرج الفــذ املولــود عــام 1894يف قريــة سونســيتا
الواقعــة عــى ضفــاف نهــر الديســينا ،قــد تأخــرت بداياتهــا قلي ـاً مقارنــة مبعارصيــه مــن
املخرجــن .وقــد يعــود ذلــك لســببني أساســيني ،األول مرتبــط بالواقــع الســيناميئ املتخلــف
نســبياً يف أوكراينــا ،فربغــم مــن أن اإلنتــاج املتواتــر لألفــام بــدأ فيهــا منــذ عــام ،1907إال أن
88
هــذه األفــام مل تشــهد ذات التطــور والتنــوع والكــم الــذي حظيــت بــه نظرياتهــا يف روســيا،
واقتــر اإلنتــاج غالب ـاً عــى األفــام التســجيلية ،وأفلمــة العــروض املرسحيــة .أمــا الســبب
األخــر فيعــود إىل أن دوفجينكــو نفســه كان بحاجــة إىل هــذا الزمــن يك يصــل أخــرا ً إىل الفــن
األكــر قــدرة عــى التعبــر عــن كل املشــاعر واألفــكار التــي كانــت تختلــج وتنمــو يف عقلــه
وروحــه ،والتــي أخــذت تــزداد إلحاحــا لديــه بعــد الثــورة بصــورة خاصــة.
إن قيــام ثــورة أكتوبــر عــام 1917ومــن ثــم نشــوب الحــرب األهليــة كان البــد أن يفــرض
مجموعــة كبــرة مــن املتغــرات عــى الحيــاة الســينامئية .فرتاجــع اإلنتــاج الســيناميئ بصــورة
واضحــة ،وعــاىن الســينامئيون مــن قلــة املــواد الخــام ،عــدد كبــر مــن املعــدات الســينامئية
أخفيــت ،أو نقلــت إىل املناطــق املحتلــة ،وهاجــر عــدد كبــر مــن العاملــن املحرتفــن يف
القطــاع الســيناميئ مــع أصحــاب الســتديوهات إىل خــارج البــاد .أمــا التغــر األكــر جوهريــة
فقــط أرتبــط بالنظــرة الجديــدة إىل الســينام كأداة سياســية ـ ثقافيــة فاعلــة يف التحــوالت
الثوريــة التــي كانــت تعيشــها البــاد .وهكــذا عــى ركام عــرات األفــام األخباريــة ـ
التســجيلية التــي كانــت تصــور مختلــف جوانــب هــذه التحــوالت ،ونتيجــة الحاجــة إىل
مســتوى أرفــع يف التعبــر ،وأكــر قــدرة عــى التأثــر يف وعــي الجمهــور ظهــر ألول مــرة
يف تاريــخ الســينام مصطلــح «أغيــت فيلــم» (الفيلــم التحريــي) ،وقــد أنتــج حتــى عــام
1921أكــر مــن خمســن فيل ـاً مــن هــذا النــوع (أفــام قصــرة غالب ـاً) .إن هــذه النظــرة
الجديــدة إىل الســينام والتــي عــرت عــن التفاعــات العميقــة التــي ولدتهــا الثــورة يف وعــي
89
اإلنتليجنســيا عموم ـاً والســينامئيني بصــورة خاصــة ،كانــت مجــرد البدايــة نحــو مجموعــة
كبــرة مــن األبحــاث واألطروحــات واالكتشــافات يف مجــال بنيــة الفيلــم ومكوناتــه ووســائله
التعبرييــة وقيمــه الجامليــة ،وشــتى ارتباطاتــه بالواقــع والفكــر واإلنســان ،حتــى ليبــدو
الفصــل شــديد الصعوبــة يف تلــك التحــف الســينامئية التــي أنتجــت يف العرشينــات بــن
موضوعــة الثــورة التــي شــكلت نســيجها األســايس ،وبــن األشــكال واألســاليب «الثوريــة»
الجديــدة يف التنــاول واملعالجــة الســينامئية.
وهكـذا ظهـر يف السـينام السـوفيتية الوليـدة جنـس فيلمـي جديـد ،أنـه امللحمـة التاريخية ـ
الثوريـة ،التـي تطلبت مبادئ وأسـاليب مبتكـرة يف الرسد ،ويف تناول املـادة التاريخية والزمن
الفيلمـي .كما أنهـا فرضـت منظومـات مجازية مختلفـة ،ونوعاً آخـر من الشـخصيات ،حيث
ظهـر على الشاشـة بطـل «جامعـي» جديـد ،هـو الشـعب بأكملـه ،وأخذت تعكـس رصاعات
الشـخصيات الرئيسـية وطبائعهـا وتطلعاتهـا املنفـردة محتوى املتغيرات االجتامعيـة العامة.
فأخـرج سيرغي أيزنشـتني «اإلرضاب» و«املدرعة بوتيومكين» و«أكتوبر» ،وأخرج فيسـفولد
بودوفكين «األم» و«نهايـة سـانت بطرسـبورغ» و«سـلف جنكيـز خـان» ،وأخـرج غريغـوري
كوزينتسـوف مـع ليونيـد تراوبـرغ «بابـل الجديـدة» .إىل هـذه النوعيـة مـن األفلام تنتمـي
األعمال القيمـة األوىل لدوفجينكـو« :زفينيغورا» و«الرتسـانة».
يف عــام 1923عــاد دوفجينكــو مــن أملانيــا بعــد قضائــه عامــن هنــاك يعمــل يف الســلك
الديبلومــايس حيــث درس يف هــذه األثنــاء الفــن التشــكييل يف ميونــخ ،وعمــل يف صحيفــة
90
«فيســتي فوتســيك» كرســام كاريكاتــر .أمــا نشــاطه الســيناميئ فقــد بــدأ يف عــام 1926عندما
كتــب ســيناريو الفيلــم الكوميــدي «فاســيا املصلــح» وعمــل كمســاعد مخــرج فيــه .وكتــب
وأخــرج يف نفــس العــام الفيلــم الكوميــدي القصــر «مثــرات الحــب» .أمــا يف عــام 1927فقــد
أخــرج فيلــم املغامــرات «حقيبــة املراســل الديبلومــايس» ومثــل فيــه .بالرغــم مــن أن هــذه
األفــام مل تكــن ذات قيمــة فنيــة عاليــة ،إال أنهــا بــدت مشــحونة بالقلــق اإلبداعــي عنــد
دوفجينكــو حــول مــا تســتطيع الســينام كشــفه مــن جوانــب متعــددة للواقــع.
يف عــام 1928أخــرج دوفجينكــو أول أفالمــه الكبــرة «زفينيغــورا» ،الــذي يتحــدث فيــه
عــن وقائــع الحــرب األهليــة بأســلوب مــزج مــا بــن امللحميــة والشــاعرية والفكاهــة .وقــد
متيــز بالعمــق والتنــوع عــى مســتوى الفكــرة ،مــع بنيــة فنيــة معقــدة وغــر مألوفــة مليئــة
باالســتعارات الجريئــة عــى مســتوى الشــكل .وكان بدايــة تعاونــه مــع املمثــل ســيميون
سافشــينكو ،الــذي سيســند لــه الحق ـاً بطولــة فيلميــه «الرتســانة» و«األرض».
ينــوه ســرغي يوتكيفتــش يف كتابــه «الســينام هــي حقيقــة 24كادر يف الثانيــة» أن
هــذه الفيلــم مل يأخــذ حقــه مــن التقييــم ،إذ يــرى أنــه «قبــل وقــت طويــل مــن ظهــور
االبتــكارات التــي اشــتهر بهــا فيلينــي وبريغــان وآالن رينيــه ،أجــرى دوفجينكــو إحــدى أكرث
التجــارب جــرأة يف التعامــل مــع املــكان والزمــان ،وذلــك ليــس لرغبتــه يف إبهــار شــخص مــا
باالبتــكارات الشــكلية ،وإمنــا إلصغائــه إىل صــوت حدســه الشــعري ،الــذي اعتمــد دامئـاً عــى
التقاليــد الفلكلوريــة ،التــي شــكلت لــه مصــادر للخيــال ال تنضــب… زفينيغــورا يبقــى يف
91
تاريــخ الســينام العامليــة أحــد أكــر النــاذج ســطوعاً لســينام املؤلــف يف أفضــل تعريــف لهــذا
املصطلــح ،الــذي حصــل حقــه يف الوجــود فقــط بعــد ثالثــن عامـاً .لقــد اســتخدم دوفجينكــو
املــكان والزمــان فيــه بتلــك الحريــة التــي عــدت حتــى اآلن مــن صالحيــة األدب فحســب».
ويتابــع دوفجينكــو موضوعــة الثــورة يف فيلمــه الثــاين «الرتســانة» عــام ،1929الــذي يتحــدث
عــن انتفاضــة عــال مصنــع األســلحة يف كييــف عــام 1918ضــد الحكومــة الربجوازيــة ،حيث
تعمــق مــن جهــة أســلوبه الــذي يجمــع مــا بــن البنيــة الشــاعرية والتهكــم الهــزيل والتوجــه
الســيايس ـ االجتامعــي ،وأصبــح مــن جهــة أخــرى أكــر وضوحـاً .وقــد ســعت تيــرات الفيلــم
إىل إعطــاء املشــاهد شــحنة عاطفيــة أكــر مــا كانــت تبغــي تقديــم معلومــات لــه ،دون أن
يقلــل ذلــك مــن أهميتهــا ،فلهــذا الســبب بالــذات مل يكــن مــن املمكــن دونهــا فهــم الفيلــم
عــى اإلطــاق.
يشــر جــورج ســادول إىل ثالثــة مشــاهد يف الفيلــم تدشــن حســب رأيــه أســلوباً ســينامئياً
جديــدا ً وهــي :كارثــة القطــار واإلرضاب وســحق العصيــان .يف األول نشــاهد قطــارا ً يحمــل
جنــودا ً مرسحــن متلؤهــم الغبطــة ،وفجــأة تأخــذ حركــة القطــار يف التســارع نتيجــة خطــأ
الســائق ،فيــدب الرعــب بينهــم ،ويقفــزون مــن القطــار متدحرجــن ومبعرثيــن ومحطمــن
عــى األرض .أمــا يف مشــهد اإلرضاب فيســتخدم دوفجينكــو «الســكون» كوســيلة دراميــة
شــديدة التأثــر ،حيــث ميتــزج صمــت اآلالت التــي أوقفهــا العــال يف املصنــع ،مــع توجــس
مواجهــي اإلرضاب الجامديــن يف غرفهــم ،الذيــن يصيخــون الســمع إىل هــذا الصمــت
92
الرهيــب .وتــأيت نهايــة الفيلــم عــر مشــهد آثــار ولفــرة طويلــة الكثــر مــن الجــدل لرتكيبتــه
الرمزيــة .أمــام نــران الغايدامــاك (العصابــات املعاديــة للثــورة يف أوكراينا) يتســاقط عرشات
األشــخاص ،أمــا تيمــوش العامــل األوكراينــي فيبــدو وكأن الطلقــات ترفــض أن تالمســه،
يقــف أمامهــم كاشــفاً صــدره لهــم ،يرمونــه بثــاث رشــقات مــن النــران ،وإذ يــرون عــدم
جــدوى طلقاتهــم ،يرصخــون فيــه :أســقط… أســقط .لكــن تيمــوش يبقــى منتصبـاً كتمثــال
حديــدي.
وبالتأكيــد ال نســتطيع أن نغفــل هنــا الــدور الــذي لعبــه يف هــذه املشــاهد جميعــاً ،ويف
اإلبداعــات األوىل لدوفجينكــو عمومــاً ،مديــر التصويــر دانييــل دميوتســي التــي متيــز
باســتخداماته املبتكــرة لزوايــا التصويــر ،وعنايتــه الخاصــة بتبايــن الضــوء والظــل داخــل
الــكادر.
إذا كانــت يف مســرة كل مخــرج عالمــة بــارزة يصــل فيهــا إىل قمــة إبداعــه ،فيبــدو أن
دوفجينكــو وصــل هــذه القمــة مــع فيلمــه «األرض» عــام .1930الــذي دخــل ضمــن الئحــة
أفضــل األفــام يف كافــة األزمنــة ،نتيجــة اســتفتاء أجــراه األرشــيف الســيناميئ البلجيــي يف
عــام .1958
تــدور أحــداث الفيلــم حــول رصاع الفالحــن يف أوكراينــا مــن أجــل التعاونيــات الزراعيــة.
حيــث قــام دوفجينكــو مبعالجــة الحبــكات الرتاجيديــة عــى خلفيــة شــاعرية غنيــة تتمثــل يف
صــور الطبيعــة الخصبــة.
93
يف الواقــع نســتطيع أن نتلمــس شــاعرية دوفجينكــو منــذ الســطور األوىل للســيناريو« :هــل
حــدث ذلــك حقـاً ،أم أننــي حلمــت بــه ،أم أن األحــام تداخلــت مــع الذكريــات وذكريــات
الذكريــات ،مل أعــد أذكــر .أذكــر فقــط أن الجــد كان طاعــن يف الســن ،كــا أذكــر أنــه كان
شــبيه بصــورة إلحــدى اآللهــة التــي تحمــي بيتنــا الريفــي وتزينــه».
إن صــورة املــوت عنــد دوفجينكــو كانــت تتخــذ دومـاً أبعــادا ً فلســفية ،مــن خــال العالقــة
الوشــيجة التــي يربــط فيهــا بــن اإلنســان والطبيعــة .فالجــد ميــوت وســط بســتان التفــاح يف
الفيلــم ،دون أن تبعــث نهايتــه عــى أيــة تغــرات يف الفضــاء املحيــط كــا يســجل هو نفســه:
«مل يــدوي الرعــد ،ومل متــزق الــروق املقــدرة الســاء بوميض احتفــايل ،ومل تنتشــل العواصف
أشــجار الــدوب املعمــرة والعظيمــة مــن جذورهــا» ،ورغــم ذلــك يشء مــا غــر مــريئ تغــر يف
ذلــك املــكان الحــي املمتلــئ بالجــال واالنســجام« :اضطــراب غامــض ســيطر عــى األحفــاد
بصــورة خفيفــة ،ودون أن يشــعروا المســوا جميعهــم ال حدوديــة الزمــن واتســاق قوانينــه»،
وهكــذا تتحــول الطبيعــة إىل رمــز للحيــاة ،املــوت والحيــاة يســران جنبـاً إىل جنــب ،وليــس
مثــة مــا هــو مرعــب يف املــوت عنــد دوفجينكــو طاملــا إىل جانبــه تنضــج حيــاة جديــدة :فــإذ
نشــاهد الجــد يحتــر تحــت شــجرة التفــاح يف املشــهد األول ،نــرى يف نفــس الوقــت األحفاد
مــن حولــه يلعبــون ،وعــى أســاس هــذا املشــهد ســوف تتطــور املنظومــة املجازيــة للفيلــم
بأكملــه ،حيــث تبــدو األرض والغيــوم والثــار واألطفــال اســتعارات تشــكيلية قريبــة مــن
الرمــوز ،لتعــر طيلــة الفيلــم حســب ســادول «عــن حــاالت العشــق التــي يعيشــها بســكون
94
شــبان وشــابات يف كل مــكان» وحيــث يبــدو «النفــس هــو الحركــة الوحيــدة عنــد هــؤالء
األزواج الجامديــن جمــود التامثيــل يف حالــة وجــد ذات الشــهوانية العنيفــة التــي مل تســبق
مطلقـاً عــى الشاشــة… وليــس البطــل إال واحــد مــن هــؤالء العاشــقني» .مــن جديــد تتالقــى
يف املشــاهد األخــرة للفيلــم خطــوط الحــب واملــوت والطبيعــة .فبعــد أن يفــارق البطــل
فاســيل أحضــان حبيبتــه ،يعــود يف درب ريفــي محاطـاً بالســياجات ،ويبــدأ الرقــص وروحــة
منتعشــة بالنشــوة والفــرح ،ويتســارع إيقــاع الرقصــة ،لكــن فجــأة تخــرق طلقــة الســكون،
ويهــوي فاســيل رصيعـاً .وعندمــا يحمــل أهلــه وأصدقائــه جثامنــه مبحــاذاة الحقــول نشــاهد
كيــف تالمــس األوراق واألغصــان املثقلــة بالثــار وجهــه وكأمنــا تقــوم بطبــع قبالتهــا األخرية
مودعــة إيــاه ،وتتلبــد الســاء بالغيــوم ويهطــل املطــر ليمســح األحــزان ويبعــث األمــل يف
النفــوس.
إن الصــور الســامية لــوالدة ومــوت اإلنســان ،للحــب والطبيعــة تداخلــت يف «األرض» عــر
مزيــج فلســفي ـ شــاعري يقــرب بروحــة مــن الــراث الشــعبي األوكــراين.
لقــد أدرك دوفجينكــو مبكــرا ً األهميــة االســتثنائية للصــوت يف أفالمــه ،ورغــم أنــه مل يكــن
يف وســعه بعــد بلــوغ غايتــه ،إال أن ســيناريو الفيلــم كان مــيء بهمســات الطبيعــة وأصــوات
البــر واألغــاين واملوســيقا .فقــد كتــب يف وصفــه ملشــهد الــذروة الــذي يســبق مقتــل البطــل
الرئيــي فاســيل« :كل يشء كان ممتلــئ بأصــوات ليليــة خاصــة بالــكاد تتاميــز عــن بعضهــا،
وعــر أغــان الفتيــات البعيــدة التــي كانــت تصــدح مبهابــة مــن مــكان مــا ،لعلــه كان يســمع
95
كذلــك كيــف تنمــو األعشــاب ،والخيــار ،وكيــف تتحــرك جــذوع القــرع الطويلــة بصــورة
مريبــة يف العتمــة الدافئــة والرطبــة…».
لقــد قــام ذات يــوم الناقــد الفرنــي مارســيل أومــس بتجربــة تحــدد بصــورة أكــر دقــة
جوهــر إبــداع دوفجينكــو .معتمــدا ً يف دراســته عــى أســس غــر ســينامئية أو أدبيــة وإمنــا
موســيقية« :لقــد قمــت بتجربــة تعتمــد تزامــن «األرض» مــع الســيمفونية التاســعة
لبيتهوفــن .النتيجــة كانــت مذهلــة L,allergro ma non troppo :الجــزء األول التقــى مــع
مــوت الجــد تحــت التفاحــات ،مــع الخطــوات األوىل للطفــل ،مــع الحــوار مــع غريغــوري،
ومــع بســاتني الفواكــه التــي تتســاقط منهــا الثــار ،ومــع الجــودار املتأرجــح مــع الريــاح.
Molto vivaceالجــزء الثــاين ترافــق مــع مشــاهد الشــبان الكومســموليني ،والجــرارات
املتبخــرة ،والحــركات الرسيعــة للفالحــن املرحــن ،وينتهــي املشــهد بلقطــات الحتفــاالت
الحصــاد L,adagio molto e cantabile .الجــزء الثالــث منــح مشــهد اللقــاء الليــي لفاســيل
الرصانــة ،الهادئــة يف البدايــة ،ومــن ثــم القلقــة ،وأخــرا ً الكئيبــة».
مــع ارتفــاع عــدد دور العــرض وتزايــد اإلنتــاج الســيناميئ يف بدايــة الثالثينــات ،بــدت الحاجــة
ملحــة لتواصــل الســينام مــع ماليني املشــاهدين ذوي املســتويات والكفــاءات الثقافيــة املختلفة
يف البــاد ،مــا جعــل املخرجــن يســعون نحــو البســاطة يف التعبــر والطــرح بحيــث تصــل
أفالمهــم بســهولة ويــر إىل الجميــع ،ومــا ســاهم يف تعميــق هــذا االتجــاه عــدم تبلــور بعــد
التوجــه الفنــي الجديــد الــذي ســيحدد بالتدريــج مالمــح املنطلقــات املنهجيــة للحركــة الفنيــة
96
الســوفيتية بصــورة عامــة إال وهــو الواقعيــة االشــراكية .لذلــك عندمــا ســعى دوفجينكــو إىل
درجــة عاليــة مــن الوضــوح يف فيلمــه الناطــق األول «إيفــان» الــذي أخرجــه يف عــام ،1932
ولعــب الــدور األســايس فيــه املمثــل األوكــراين املعــروف بيوتــر ماســوخا ،الــذي شــاركه يف
معظــم أعاملــه ،بــدا اهتاممــه باملوضــوع ومعالجتــه لــه دون مســتوى أعاملــه الســابقة ،دون
أن يعنــي ذلــك ابتعــاده عــن نزعاتــه الجامليــة ـ الشــعرية والتــي ظهــرت بصــورة خاصــة يف
مجــال التصويــر .فقــد عمــل يف الفيلــم باإلضافــة إىل دميوتســي ،مديــرا التصويــر ميخائيــل
غليديــر ،وكذلــك يــوري يكيلتشــيك ،الــذي متيــزت املشــاهد الخارجيــة لديــه ببناءاتهــا
التشــكيلية املعقــدة ـ التــي تســتند إىل تعامــل محكــم مــع جميــع عنــارص الــكادر ـ وعمقهــا
امللحمــي ،وثقلهــا العاطفــي ـ الشــعري ،وغناهــا الرمــزي ،وقدرتهــا التعبرييــة الهائلــة ،كل ذلــك
جعــل مــن يكيلتشــيك صاحــب لغــة برصيــة رفيعــة املســتوى .ولعــل ذلــك هــو الســبب وراء
التقييــم العــايل الــذي منحــه الناقــد اإليطــايل فيليبــو ســايك للفيلــم عندمــا عــرض يف مهرجــان
فينيســيا عــام .1934وعمومـاً يــرى العديــد مــن النقــاد يف أفــام دوفجينكــو مؤلفــات ملحميــة
ـ شــاعرية ،تتحقــق بصــورة أساســية بالوســائل التشــكيلية ،فاهتاممــه الشــديد ببنيــة وإضــاءة
كل لقطــة للتعبــر عــن غاياتــه الفكريــة ،جعــل مــن كادرات أفالمــه لوحات تشــكيلية مســتقلة
بذاتهــا ،تخضــع الفيلــم لتتابعهــا االنســيايب وتراكمهــا.
عــدد كبــر مــن الخطــوط الدراميــة املســتقلة تالقــت يف فيلمــه «آيروغــراد» الــذي أخرجــه
عــام 1935عــن املدينــة الجديــدة عــى ســاحل املحيــط الهــادي يف الــرق األقــى مــن
97
روســيا ،معــرا ً عــن إميانــه بهــذه املنطقــة مبــا متتلكــه مــن ثــروات طبيعيــة .وقــد أرتبــط
أحــد أهــم الخطــوط فيــه مبوضوعــة طاملــا ســتتعرض لهــا الســينام الســوفيتية الحقــاً
بأشــكال وأســاليب متنوعــة ،إال وهــي التناقــض الــذي قــد تفرضــه ظــروف الثــورة والحــرب
بــن مشــاعر الصداقــة والحــب عنــد اإلنســان مــن جهــة ،وواجبــه الوطنــي والثــوري مــن
جهــة أخــرى .وغالب ـاً (إن مل يكــن دوم ـاً) مــا ســينترص الجانــب الثــاين عــى األول كــا يف
«آيروغــراد» ،حيــث تفــرق الخيانــة بــن الصديقــن القدميــن صيــادي التايغــا غلوشــاك
وخودياكــوف ،ويقــوم األول بقتــل الثــاين يف أعــاق الغابــة بعيــدا ً عــن أعــن النــاس ،وحيــث
يبــدو األخــر مستســلامً لقــدره يف مشــهد مصنــوع حســب تعبــر املخــرج غريغــوري روشــال
«بصــورة اصطالحيــة ،ولكــن بتــرب مدهــش إىل أعمــق أعــاق الــروح البرشيــة».
تابــع دوفجينكــو يف هــذا الفيلــم تعاونــه مــع املمثــل ســتيبان شــكورات (خودياكــوف)،
الــذي عمــل معــه ســابقاً يف «األرض» و«إيفــان» .وعمــل معــه ألول مــرة يف مجــال التصويــر
باإلضافــة للفنــان ميخائيــل غينديــن ،مبــدع الروائــع األيزنشــتينية الكبــر إدوارد تيســه.
أمــا موســيقا الفيلــم التــي وضعهــا دميــري كاباليفســي جعلــت مارســيل أومــس يــرى يف
هــذا الفيلــم «أول أوبــرا ســينامئية حقيقيــة ،تلعــب املوســيقا فيهــا دورا ً عاطفي ـاً ،ويتطــور
الحــدث متتبع ـاً قواعــد الفــن الغنــايئ :اإللقــاء ،الغنــاء املنفــرد ،الثنائيــات والفــرق التــي
يرافقهــا غنــاء الجوقــة ،كل ذلــك يجــد اســتمراريته يف جــال املجــازات املنســجمة ،ودون أن
تفقــد الحقيقــة العميقــة مصداقيتهــا عــى اإلطــاق».
98
يف عــام 1939أخــرج دوفجينكــو ملحمتــه البطوليــة «شــورس» ،الــذي يعــود فيهــا مجــددا ً إىل
موضوعــة الحــرب األهليــة يف أوكراينــا ،حيث شــكلت املســرة العســكرية لفصيلة «شــورس»
عــر املعــارك الدمويــة والضاريــة لتحريــر أوكراينــا الحامــل الــردي للحــدث يف الفيلــم ،إال
أن مــكان األمنــاط العامــة والرمزيــة للشــخصيات يف «الرتســانة» ،ظهــرت شــخصيات تاريخيــة
محــددة ،كشــورس قائــد الفصيلــة الشــاب الــذي مل يتجــاوز الرابعــة والعرشيــن مــن العمــر
والــذي أدى دوره املمثــل يفغينــي ســاموئيلوف ،باإلضافــة إىل العديــد مــن املشــركني
الفعليــن يف األحــداث التاريخيــة الواقعيــة التــي يرويهــا الفيلــم ،مــا يجعــل هــذا العمــل
ينتمــي إىل موجــة أفــام الســر الذاتيــة التــي ظهــرت بقــوة يف الثالثينــات داخــل الســينام
الســوفيتية كـــ «تشــابايف» لألخــوة فاســيليف و «ياكــوف ســفريدلوف» لســرغي يوتكيفتش
و«بيوتــر األول» لفالدميــر بيــروف و«لينــن يف أكتوبــر» مليخائيــل روم «الكســندر نيفســي»
لرسغــي أيزنشــتني وغريهــا .هــذه األفــام متيــزت بســعيها الحثيــث نحــو الدقــة التاريخيــة،
والتغلغــل إىل جوهــر املأثــرة الحياتيــة للبطــل التاريخــي ،مــن خالل الرســم املحكــم للظروف
االجتامعيــة املحيطــة بــه ،وتقديــم سلســلة مــن الرصاعــات الدراميــة املفصليــة املرتبطــة
بتطــور شــخصيته .لكنهــا يف نفســه الوقــت متايــزت باألســلوب التعبــري الخــاص لــكل مــن
هــؤالء املخرجــن ،لذلــك ســنجد يف «شــورس» إضافــة إىل كل ذلــك النكهــة الدوفجينكيــة
الخاصــة بــه وحــده ،فمــن جديــد ســتتقاطع يف الفيلــم الوثائقيــة واملجازيــة والتلوينــات
الهزليــة املســتمدة مــن الفكاهــة الشــعبية ،وبالطبــع الــروح الشــاعرية .يعــر دوفجينكــو
99
عــن أســلوب هــذا الفيلــم يف الســيناريو الــذي كتبــه عــى النحــو التــايل« :حــروا أنقــى
األلــوان أيهــا الرســامون ،فإننــا سرنســم عهــد شــبابنا الــذي مــى .تفحصــوا جميــع الفنانــن
وجيئــوين بالفنانــن الجميلــن والجديــن ،فأنــا أريــد أن أحــس يف عيونهــم العقــل النبيــل
والشــعور الســامي… أضيئوهــم أيهــا املصــورون بنــور صــاف ،يك تنعكــس يف وجوههــم كل
الروعــة التــي حملوهــا يف ســهوب أوكرانيــا ،ولــي تنتقــل إىل املشــاهدين وتحــرك قلــوب
األبنــاء واألحفــاد بانفعــاالت ســامية» .فواقعيــة الشــخصيات واألحــداث يف الفيلــم مل تحــد
مــن مجاالتهــا الرومانســية الحميمــة عــى اإلطــاق ،التــي متثلــت عــى ســبيل املثــال يف
كلــات شــورس نفســه حيــث تتالقــى أحــام البطــل واملخــرج معاً«:كثــرا ً مــا أفكــر… متــر
األعــوام وتنتــر الثــورة ،ويعيــش النــاس ـ األخــوة عــى األرض .كــم مــن األقاصيــص ســوف
يــروون عنــا… كــم مــن األغــاين سينشــدون عنــا» .كــا أنهــا متثلــت يف الجــال التشــكييل
لصــور الســهوب املغطــاة بالثلــوج ،واألعاصــر ،ودخــان الحرائــق ،وحقــول عبــاد الشــمس
الشاســعة التــي أبدعهــا مديــر التصويــر يــوري يكيلتشــيك.
لقــد كتــب غريغــوري كوزينتســوف عــن دوفجينكــو« :كان لديــه إحســاس رائــع يف الســمع.
هــو مل يســمع فقــط أصــوات النــاس ،بــل وكذلــك صمــت الليــل املقمــر وخرخــرة ميــاه
الدنيــر» ،إن هــذا الوصــف املجــازي الهتــام دوفجينكــو باألصــوات ،والــذي بــدا واضح ـاً
يف ســيناريو «األرض» ،وموســيقا «إيروغــراد» اســتمر هنــا أيض ـاً ،فــكل املنظومــة الصوتيــة
مــن طلقــات وانفجــارات ورصخــات وأجــراس وأبــواق نحاســية ،واملوســيقا التــي وضعهــا
100
كاباليفســي اختــرت بعنايــة لتنســجم مــع األســلوب الرومانــي العــام يف الفيلــم.
يف فــرة الحــرب العامليــة الثانيــة انحــر إبــداع دوفجينكــو عــى إخــراج األفــام الوثائقيــة
مثــل «التحريــر» و«معركــة يف ســبيل أوكرانيــا الســوفيتية» وغريهــا .كــا أنــه أنكــب عــى
كتابــة املقــاالت والقصــص وكذلــك ســيناريوهات ألفــام لــن يخرجهــا أبــدا ً.
إن املرحلــة الســتالينية يف تاريــخ الدولــة الســوفيتية تركــت أثارهــا املأســاوية ـ وإن يكــن
مبســتويات متنوعــة وأشــكال مختلفــة ـ عــى معظــم الفنانــن واألدبــاء يف البــاد .وليــس
عبثـاً أن يكتــب دوفجينكــو مــن عــام 1940وحتــى وفاتــه يف عــام 1956ســتة ســيناريوهات:
«تــاراس بولبــا» و«أوكرانيــا تحــت النــران» و«اكتشــاف األنرتاكتيــد» و«قصيــدة عــن البحــر»
و«قصــة األعــوام املتقــدة» و«الديســينا املســحور» .يف الوقــت الــذي مل يخــرج فيــه ســوى
فيلــم روايئ واحــد هــو «ميتشــورين» عــام ،1949ليطــرح فيــه مجــددا ً إشــكالية االنســجام
والتــوازن بــن اإلنســان والطبيعــة ،مقدمـاً مــع مديــري التصويــر ليونيــد كوســاتوف ويــويل
كــون تراكيــب لونيــة مبتكــرة ،عــى خلفيــة موســيقية مــن إبــداع دميــري شوســتاكوفيتش.
عنـد الحديـث عـن دوفجينكـو ال ميكن بأي حال من األحـوال إغفال الدور الكبير الذي لعبته
زوجتـه يوليـا سونتسـيفا يف مسيرته اإلبداعيـة ـ الفنيـة سـواء أثنـاء حياتـه حيـث سـاهمت
معـه يف معظـم أفالمـه الروائيـة كممثلـة يف «األرض» وكمستشـار يف «األرض» و«إيفـان»
و«آيروغـراد» وكمخـرج مسـاعد يف «شـورس» و«ميتشـورين» ،كام شـاركت يف إعداد معظم
األفلام الوثائقيـة التـي أخرجهـا .أو بعـد موتـه إذ أخرجـت ثالثة أفلام عن سـيناريوهاته.
101
األول كان «قصيــدة عــن البحــر» يف عــام ،1958الــذي أبــرز فيــه مجموعــة مــن االرتباطــات
العاطفيــة الشــائكة ،مــن خــال تركيبــة رسديــة غــر مألوفــة اعتمــدت يف بنائهــا خطــوط
دراميــة متناوبــة ومتوازيــة ،تعــر عــن اســتحالة خضــوع اإلنســان للمشــاعر التــي تحــط مــن
كرامتــه ،ورضورة رصاعــه معهــا وتغلبــه عليهــا.
عــن تأمــات دوفجينكــو يف حيــاة النــاس ومصائــر األجيــال أخرجــت سونتســيفا عــام 1961
«قصــة األعــوام املتقــدة» الــذي حصلــت عنــه يف ذات العــام عــى جائــزة أفضــل إخــراج يف
مهرجــان كان الســيناميئ .حيــث اســتطاعت أن تعكــس بطــوالت الشــعب وصــورة الوجــه
البشــع للحــرب القاســية دون أي تزويــق ،كــا متيــز الفيلــم يف التصويــر املدهــش ملشــاهد
املعــارك ،وذلــك كلــه يف أســلوب يجمــع مــا بــن الواقعيــة والرومانســية والفكاهــة الشــعبية،
فــا يبتعــد بذلــك عــن املزيــج الدوفجينــي التقليــدي األصيــل.
يف «الديســينا املســحور» يعــود دوفجينكــو إىل طفولتــه ،مســرجعاً مالمــح قريتــه الواقعــة
عــى ضفــاف نهــر الديســينا ،كلــات أمــه وحبهــا وتقديســها لــأرض ومثارهــا ،وصــور جــده
وعاداتــه وأقاصيصــه ،ورصاعــات أبيــه مــع الطبيعــة والحيــاة… والكثــر غــر ذلــك مــا كان
يف املــايض البعيــد .لكــن هــذا الفيلــم الــذي أخرجتــه سونتســيفا عــام 1964يتجــاوز كونــه
مجــرد ســرة ذاتيــة لكاتــب الســيناريو .ففيــه تتشــابك الذكريــات عــن التفاصيــل الحميمــة
يف طفولتــه ،مــع الحديــث عــن املصاعــب التــي واجهتــه يف الدفــاع عــن مبادئــه كمواطــن
ومبــدع يف ســنوات الســتالينية ،يف إطــار النظــرة الســطحية التــي كانــت ســائدة إىل الفــن.
102
ومــع تأمالتــه يف مغــزى حيــاة اإلنســان ،ويف الصلــة بــن اإلنســان الفــرد والشــعب ـ املوضــوع
الــذي عكســه دومـاً يف أعاملــه ،وتأثــر اآلخريــن مــن خــال طباعهــم وســلوكياتهم يف حيــاة
الفنــان ،معــرا ً يف كل ذلــك عــن تفاؤلــه يف الحيــاة والعــر وقــدرات الفــن.
بعــد ذلــك قامــت سونتســيفا يف عــام 1968بإخــراج فيلــم مقتبــس عــن األقاصيــص الحربيــة
لدوفجينكــو بعنــوان «غــر املنــي» ،ويف عــام 1971أخرجــت فيلــم «البوابــات الذهبيــة»
الــذي يتكلــم عــن املســرة اإلبداعيــة لــه .كــا لعبــت دورا ً هامـاً يف تحضــر وطباعــة مؤلفاته
املختــارة.
لقــد كان دوفجينكــو برتاثــه الســيناميئ القيــم وآرائــه النظريــة الجامليــة ،أحــد العالمــات
البــارزة يف تاريــخ الســينام الســوفيتية والعامليــة ،التــي ســاهمت وعــى مــدى بضعــة عقــود
يف تأســيس اللغــة الســينامئية وإغنــاء مفرداتهــا وتعميقهــا .ومــا ال شــك فيــه أنــه مــارس
تأثــرا ً كبــرا ً عــى العديــد مــن املخرجــن يف الســتينات والســبعينات مــن أمثــال ســرغي
باراجانــوف ويــوري إلينكــو ،بــل لعلنــا ســنجد تأثرياتــه تتغلغــل يف إبداعــات أحــد كبــار
املخرجــن يف نهايــة القــرن العرشيــن إال وهــو إمــر كوســتاريكا ،إذ نســتطيع هنــا أيض ـاً أن
نستشــف بســهولة ذلــك املزيــج مــن امللحميــة والشــاعرية ـ الغنائيــة والفكاهــة التــي طاملــا
أرتبــط بإبداعــات الكســندر دوفجينكــو العظيمــة.
103
تداعيات التباين
يف سينام نيكيتا ميخالكوف
يف إبداعــات أي مخــرج كبــر ـ ومهــا تنوعــت املوضوعــات واألجنــاس الفيلميــة واألســاليب
التــي تتضمنهــا ـ نســتطيع عــى الــدوام أن نستشــف هاجســاً مــا ،يكمــن خلــف هــذه
اإلبداعــات ،يحركهــا ويشــكل مركــز الثقــل فيهــا .وإن كان مــن البديهــي أن تتقاطــع هــذه
الهواجــس يف أعــال مخرجــن ينتمــون إىل أجيــال أو ثقافــات أو اتجاهــات فنيــة أو تيــارات
سياســية مختلفــة ،بــل ورمبــا متناقضــة ،فذلــك يعنــي أنــه البــد مــن أن يتخــذ ذات الهاجــس
صيغ ـاً مختلفــة عنــد هــذا املخــرج أو ذاك.
نيكيتــا ميخالكــوف هــو أحــد أولئــك املخرجــن ،الذيــن حملــوا عــى الــدوام هاجســهم
الخــاص يف داخلهــم ،وحاولــوا بصــورة مســتمرة أن يدفعــوه إىل األمــام مــن فيلــم إىل آخــر.
لكــن يف الواقــع ذلــك الهاجــس ال يختلــف يف جوهــره عــن هاجس كبــار املخرجني يف الســينام
العامليــة ،فنحــن نتكلــم عــن إحــدى أكــر القضايــا إشــكالية وغنــى يف الفيلــم الســيناميئ ،إال
وهــي مفهــوم التبايــن بــكل مــا ينطــوي عليــه مــن معايــر ومجــاالت غــر محــدودة لإلبــداع،
ابتــداء مــن املوضوعــة نفســها التــي يتبناهــا الفيلــم ووصــوالً إىل تركيبــة الشــخصيات يف
داخلــه ،باإلضافــة إىل جميــع الغايــات املتنوعــة التــي يوظــف ألجلهــا ،واألشــكال التــي يتجىل
104
مــن خاللهــا ،ومــا يرتتــب عــى هــذا املفهــوم مــن جــدل وســيجال ال ينتهــي .فــا هــي الصيــغ
التــي أتخذهــا هــذا املفهــوم يف أعــال ميخالكــوف ،وكيــف تطــورت هــذه الصيغــة ،وإىل
مــاذا آلــت.
ولــد نيكيتــا ميخالكــوف يف عــام ،1945يف عائلــة خــرج منهــا العديــد مــن الفنانــن واألدبــاء
الكبــار ،فجــد أمــه هــو الرســام الــرويس الكبــر فاســييل ســوريكوف ،وجده هــو الرســام بيوتر
كونتشالوفســي ،وأمــه الشــاعرة ناتاليــا كونتشالوفســكايا ،ووالــده الكاتــب والسيناريســت
ســرغي ميخالكــوف ،أمــا أخــوه األكــر فهــو املخــرج املعــروف أندريــه كونتشالوفســي.
لقــد كان أول ظهــور مليخالكــوف يف الســينام مــع املخــرج قســطنطني فوينــوف يف فيلــم
«الشــمس تــيء الجميــع» عــام .1959أمــا الــدور األول الــذي لفــت األنظــار إليــه فقــد كان
يف فيلــم غيرنيــخ بوغدانوفيتــش أوغانســيان «مغامــرات كروشــا» .ليلعــب الــدور الرئيــي يف
فيلــم املخــرج الفــذ غريغــوري دانيليــا «أنــا أتجــول يف موســكو» الــذي حقــق نجاحـاً باهــرا ً
يف ذلــك الوقــت ،وحيــث بــدأ ميخالكــوف الشــاب يشــعر للمــرة األوىل بلمســات املخــرج
الســحرية يف خلقــه ألجــواء يشــعر املمثلــون داخلهــا بالحريــة والثقــة بالنفــس والتحــرر مــن
شــتى أشــكال الضغــوط املحيطــة .مــا كان ينعكــس بصــورة إيجابيــة عــى أدائهــم ،الــذي
تجــاوز يف الفيلــم توقعاتهــم نفســها.
درس ميخالكــوف التمثيــل يف البدايــة يف اســتديو األطفــال يف مــرح ستانسالفســي ،ومــن
ثــم أنتقــل يف عــام 1963إىل معهــد شــوكني املرسحــي ،ودرس يف قســم التمثيــل ملــدة ثالثــة
105
ســنوات ،طــرد بعدهــا الشــراكه يف فيلــم دانيليــا خارقـاً بذلــك نظــام الحظــر عــى العمــل يف
الســينام املتبــع داخــل املعهــد .بعــد ذلــك أنتســب إىل معهــد الدولــة الســيناميئ (الفغيــك)،
ليتخــرج مــن ورشــة املخــرج ميخائيــل روم يف عــام .1971دون أن يتوقــف يف الوقــت
نفســه عــن املشــاركة يف العديــد مــن األفــام ،كان أهمهــا «االســتدعاء» مــع املخــرج دانييــل
خرابروفيتســي ،و«عــش النبــاء» مــع أندريــه كونتشالوفســي ،و«أنشــودة عــن مانشــوك»
للمخــرج ماجيــت بيغالــن.
وهكــذا مــن دور إىل آخــر كانــت معلوماتــه النظريــة تُـثـــقل ،وهــو يتعلــم بصــورة عمليــة
كيفيــة بنــاء الشــخصية والتحكــم يف تطورهــا والتــدرب عليهــا ،ليــس فقــط كممثــل ،وإمنــا
مــن وجهــة نظــر إخراجيــة كذلــك .مــن جهــة أخــرى كان لتجربتــه يف التمثيــل ـ قبــل
خوضــه مجــال اإلخــراج ـ مــع العديــد مــن املخرجــن الذيــن تــم ذكرهــم ،باإلضافــة إىل
فاســييل أوردينســي وغريغــوري روشــال وميخائيــل كاالتــوزوف دورا ً كبــرا ً يف قدرتــه عــى
تفهــم النــاذج املختلفــة للممثلــن الذيــن عملــوا معــه الحق ـاً .فمالمســته لصعوبــة هــذا
الفــن وإدراكــه لتعقيداتــه ،جعلتــه يشــعر عــى الــدوام بعميــق الحــب والتقديــر واالمتنــان
تجاههــم.
لقــد بــدا واضحـاً مــن األفــام األوىل التــي أخرجهــا ميخالكــوف أثناء دراســته يف املعهــد «وأنا
أعــود إىل البيــت» و«يــوم هــادئ يف نهايــة الحــرب» الكثــر مــن ميولــه الفنيــة كاالهتــام
بالتفاصيــل الصغــرة ودالالتهــا ،والعالقــات املتبادلــة بــن مختلــف الشــخصيات املتفــردة
106
بطبائعهــا ،والســعي للتنقــل بــن الحــاالت الدراميــة املتباينــة ،والســعي نحــو ســر النفــس
البرشيــة مــن خــال الســلوكيات التــي قــد تبــدو متناقضــة ظاهريـاً ولكنهــا مــررة متامـاً مــن
داخــل الشــخصية .هــذه امليــول التــي ستشــكل بالتدريــج مالمــح أســلوبه اإلخراجــي فيــا
بعــد.
يف عــام 1974قــام ميخالكــوف بإخــراج فيلمــه الــروايئ الطويــل األول «قريــب بــن الغربــاء،
غريــب بــن األقربــاء» ،وهــو ينتمــي إىل أفــام املغامــرات التــي أخــذت تســتمد الكثــر
مــن مواضيعهــا يف هــذه الفــرة مــن عهــد الثــورة والحــرب األهليــة ،وخاصــة بعــد النجــاح
الــذي حققــه يف هــذا االتجــاه فيلــم فالدميــر موتيــل «شــمس الصحــراء البيضــاء» عــام
.1969فالفيلــم يتحــدث عــن رسقــة قطــار محمــل بالذهــب مــن قبــل «البيــض» ،ومــن ثــم
عمليــة البحــث عنــه واســتعادته .لكــن يف الواقــع مل تكــن حكايــة الفيلــم املأخــوذة عــن
قصــة بعنــوان «الذهــب األحمــر» إلدوارد فولودارســي ذات أهميــة جوهريــة بالنســبة
مليخالكــوف والطاقــم الفنــي الــذي بــدأ العمــل معــه يف هــذا الفيلــم ،والــذي سيشــكل فريقـاً
مشــركاً ومتكام ـاً يف جميــع أفالمــه يف الســبعينات ،بــل وســيبقى العديــد مــن فنانيــه إىل
جانبــه ملــا بعــد ذلــك .مــن أهــم هــؤالء السيناريســت وفنــان الديكــور الكســندر أداباشــيان
ومديــر التصويــر بافــل ليبيشــيف وامللحــن إدوارد أرتيمييــف والفنــان الكســندر ســامولكني،
واملمثلــن يــوري بوغاترييــف والكســندر كالياغــن ونيقــوالي باســتوخوف.
لقــد وجــد هــذا الطاقــم الفنــي الشــاب واملتقــد حامســة يف فيلــم املغامــرات جنسـاً فيلميـاً
107
يتيــح لــه مــن اإلمكانيــات ،مــا يســمح للجميــع وكل يف مجالــه مــن اختبــار قدراتــه الحرفيــة
أمــام عــامل الســينام الواســع ،وهــذا بالضبــط مــا جعــل الفيلــم مليئـاً بالعنــارص غــر الالزمــة
والرضوريــة كــا أكــد ميخالكــوف نفســه فيــا بعــد.
عــن املمثلــة الروســية أولغــا فوزنيسينســكايا التــي عاشــت يف فــرة مــا قبــل الثــورة كان
فيلــم ميخالكــوف «عبــدة الحــب» عــام ،1976وهــو عنــوان ألحــد أفــام املمثلــة التــي
اشــتهرت يف أدوارهــا امليلودراميــة .وقــد تطلــب الفيلــم مــن فريــق العمــل قضــاء أوقــات
طويلــة يف االطــاع عــى مختلــف الوثائــق مــن صحــف ومجــات وصــور فوتوغرافيــة
وأفــام يك يســتطيعوا نقــل أجــواء تلــك املرحلــة إىل املشــاهد بصــورة دقيقــة ،فرضتهــا
طبيعــة املوضــوع القامئــة عــى الــراع الــذي تعيشــه املمثلــة بــأداء إلينــا ســولوفيه مــع كل
إفــرازات هــذا املرحلــة ،ليقــدم مــن خاللهــا شــخصية تحــاول االنغــاق عــى عاملهــا الخــاص
يف مواجهــة عــامل يتحــرك برسعــة محطـاً يف طريقــه كل الدعائــم واملنظومــات التقليديــة يف
املجتمــع ،ليطــرح ميخالكــوف يف إطــار تبايــن اإلنســان ـ الزمــن أســئلة كثــرة عــن ماهيــة
الفــن وغايــة اإلبــداع ودور الفنــان يف املجتمــع والتاريــخ.
مــن جهــة أخــرى رأى العديــد مــن النقــاد يف هــذا الفيلــم مرشوعـاً أوليـاً للعــامل التشــيخويف
الــذي ســيظهر يف فيلمــه التــايل «مقطوعــة غــر منتهيــة للبيانــو امليكانيــي» عــام .1977
فمــع هــذا الفيلــم سيســطع أســم ميخالكــوف للمــرة األوىل .حيــث يجــد يف عــامل تشــيخوف
بأبعــاده الفلســفية واإلنســانية العامــة املجــال األكــر حيويــة للتعبــر عــن هواجســه الفكريــة
108
والفنيــة .معتمــدا ً يف معالجتــه عــى رؤيــة خاصــة جــدا ً يف األفلمــة الســينامئية ،إذ اســتند إىل
مرسحيــة غــر معروفــة ومكتملــة بعنــوان (بالتونــوف) كتبهــا املؤلــف عندما كان يف الســابعة
عــر مــن عمــره فحســب .مــا جعلــه أكــر حريــة يف قراءتهــا وتقدميهــا ،فاملرسحيــة كانــت
مجــرد أســاس للســيناريو الــذي مل يــرد ميخالكــوف مــن خاللــه تقديــم تشــيخوف ،بقــدر
رغبتــه يف تقديــم إحســاس تشــيخوف ،ويشــر ميخالكــوف إىل هــذه النقطــة بقولــه( :فيــا
لــو اخرتنــا أي مؤلــف كالســييك معــروف للجميــع ،ألصبحنــا مقيديــن بــه بصــورة أو بأخــرى،
بإرادتنــا أو ال ،ألنــه يف مثــل هــذه الحالــة توجــد إمكانيتــان فحســب :إمــا العمــل وفــق مــا
كتــب أو العمــل ال كــا كتــب ،ونحــن أردنــا أن نبــدع تشــيخوف كــا نتصــوره ،أو مبعنــى
أدق النظــر إىل العــامل بعــن معــارصة مــن خــال تشــيخوف).
وقــد كانــت هــذه النظــرة الخاصــة إحــدى أهــم عوامــل نجــاح الفيلــم ،فــا بــدا يف بدايتــه
مناقض ـاً متام ـاً ألجــواء تشــيخوف كاملســاحات الواســعة واأللــوان الســاطعة والديكــورات
األنيقــة والرثثــرة املتدفقــة دون انقطــاع ،بالتدريــج أخــذ يفصــح عــن تباينــه مع الشــخصيات
التــي تتحــرك يف داخلــه بكآبتهــا وازدواجيتهــا وفراغهــا الروحــي وعزلتهــا الداخليــة ،فــكل ما
كان يحيــط بالشــخصيات مل يكــن يعكــس عاملهــا الداخــي ،وإمنــا يشــكل امتــدادا ً ملــا تحــاول
االختفــاء ورائــه مــن املظاهــر الخارجيــة املتأنقــة واملتصنعــة .وهــي معادلــة قــد تبــدو
غريبــة نوعـاً مــا ،إذ جــرت العــادة ـ وبصــورة خاصــة يف األعــال الســينامئية الكبــرة ـ عــى
تحميــل الوســط الــذي تتحــرك ضمنــه الشــخصيات مدلــوالت مبــارشة تعمــق مــن إدراك
109
عاملهــا الداخــي وبالتــايل فهــم نوازعهــا وســلوكياتها ودوافعهــا املختلفــة ،لكــن ميخالكــوف
قــام يف هــذا الفيلــم بعكــس املعادلــة ،إذ أظهــر تبايــن الشــخصيات مــع الوســط كجــزء مــن
تناقضاتهــا الكبــرة مــع ذاتهــا .مــا جعــل هــذه التناقضــات تكتــي بعــدا ً أعمــق ،وأكــر
انســجاماً مــع روح تشــيخوف.
لقـد شـكل تشـيخوف عىل الـدوام تحدياً كبيرا ً ألي مخـرج مرسحي كان أو سـيناميئ ،وخاصة
يف مجـال األداء التمثيلي .وسـبب نجـاح هذا الفيلـم يعود بدرجة كبرية إىل قـدرة ميخالكوف
على تجـاوز هـذا التحـدي ،إذ اسـتطاع األداء العايل واملقنـع للممثلني أن يعبر بعمق عن عامل
الشـخصيات وطبائعهـا وعالقاتهـا ،دون أن يخل باالنسـجام بين جانبيها السـاخر والرتاجيدي،
لرتسـم يف نهايـة املطـاف لوحـة متكاملـة عـن األزمـة الروحيـة التـي تعيشـها اإلنتلجينسـيا
الروسـية ،وتجعلهـا عاجـزة عـن الفعل .ومام تجدر اإلشـارة إليـه ،أن نجاح أفلام ميخالكوف
ال ميكـن فهمـه إال يف سـياق تجربتـه الخاصـة ،فعلى الصعيـد النقـدي كانـت معظـم أفالمـه
مثـار جـدال واسـع ،وقلما أجتمع النقاد على رأي واحد حولهـا ،أما عىل الصعيـد الجامهريي
فيرى ميخالكـوف بـأن أفالمـه ليسـت جامهرييـة باملعنـى السـائد للكلمـة ،لكن األفلام التي
مل يتقبلهـا الجمهـور يف البدايـة ،مـع الزمـن اسـتطاعت أن تخلـق جمهورهـا الخـاص ،هـذا
الجمهـور الـذي يقـول ميخالكـوف عنـه( :مـن املفـرح أن يتوسـع نطاقـه ،وسـيكون محزناً إذ
يضيـق ،لكـن يف كل األحـوال الجوهـري بالنسـبة لنـا ليـس العـدد املجـرد للبطاقـات املباعة،
وإمنـا عالقـة الجمهـور الجديـة مبا نقـوم به).
110
خــال ثالثــة أشــهر اســتطاع ميخالكــوف تصويــر فيلمــه الرابــع «خمــس أمســيات»،
وبالتحديــد يف الفــرة الواقعــة بــن تصويــر الجــزء ألول لفيلمــه «بضعــة أيــام مــن حيــاة
أبلومــوف» الــذي جــرت أحداثــه يف الصيــف ،والجــزء الثــاين الــذي صــور يف الشــتاء .فقد رأى
املخــرج أن فــرة التوقــف هــذه بــن الفصلــن قــد تــؤدي إىل تشــتت العــال الفنيــن ،ولــن
تكــون عمليــة جمعهــم ثانيــة بتلــك البســاطة ،مــا قــد يؤجــل الــروع بالجــزء الثــاين مــن
العمــل لفــرة طويلــة وغــر محــددة ،فقــرر جمعهــم بنفســه يف عمــل جديــد مــن إخراجــه،
وهكــذا ظهــر إىل النــور هــذا الفيلــم الــذي حقــق مليخالكــوف نجاح ـاً مل مياثلــه أي فيلــم
ســابق عنــد عرضــه األول.
ومــن البديهــي أن الظــروف اإلنتاجيــة التــي فرضــت نفســها عــى العمــل لعبــت دورا ً
كبــرا ً ،إن مل يكــن حاس ـاً يف خيــار ميخالكــوف وأداباشــيان ملرسحيــة الكســندر فولوديــن
التــي ســتكون أساس ـاً للفيلــم .وبالفعــل متيــز الفيلــم ببســاطة قصتــه ووضوحهــا ،فأبطــال
الفيلــم شــخصان :رجــل وامــرأة أحبــا بعضهــا قبــل أن تفرقهــا الحــرب ،فيحــاول كل
منهــا ولســنوات طويلــة أن يتغلــب عــى مشــاعره تجــاه اآلخــر بطريقتــه الخاصــة .تامــارا
فاســيليفنا (لودميــا غورتشــينكو) تغلــق أبــواب املــايض ،وتحــاول أال تعــود بذاكرتهــا
إليــه أبــدا ً ،شــاغلة نفســها بالعمــل واالهتــام باآلخريــن ،دون أن يعرتيهــا الشــك لحظــة
بإمكانيــة تدخــل القــدر يف حياتهــا وتغيريهــا ،واســتعادتها لقدرتهــا عــى الحــب .أمــا إيلــن
(ستانيســاف لوبشــن) فبالرغــم مــا يوحــي بــه مظهــره الخارجــي مــن القــوة والثقــة ،إال
111
أن افتقــاده هــو اآلخــر للحــب ،جعــل حياتــه بــكل مــا فيهــا مــن صخــب ومــرح تبــدو فارغــة
يف جوهرهــا .وهكــذا حــاول كل منهــا أن يتصالــح مــع نفســه بطريقتــه مــا ،مســلامً بواقــع
فقدانــه اآلخــر ،دون أن يــدركا مــا تتســم بــه هــذه املصالحــة مــن زيــف ،واضطرارهــا
للتعايــش مــع هــذا الزيــف ،ومــع كل التناقضــات التــي كان يفجرهــا يف أعامقهــا وحياتهــا
اليوميــة .لكــن وبعــد مــرور خمســة عــر عام ـاً تجمعهــا الصدفــة مــن جديــد ،لريصــد
لنــا الفيلــم تفاعلهــا مــع هــذا اللقــاء املباغــت ،الــذي يقلــب حياتهــا رأس ـاً عــى عقــب،
ويقــوم بتعريتهــا بالتدريــج مــن كل القشــور الكاذبــة التــي حــاوال االختفــاء تحتهــا ،ليجــدا
أنفســهام يف النهايــة أمــام حقيقــة حبهــا ،وحاجتهــا لبعضهــا البعــض .يقــول ميخالكــوف
عــن هــذا العمــل( :لقــد أردنــا أن نقــول يف هــذا الفيلــم ،أن الرابطــة الحقيقيــة الوحيــدة بــن
النــاس هــي الحــب) .وهــو ال يخفــي رصاحــة انتــاء العمــل إىل امليلودرامــا التــي شــهدت
يف الســبعينات تطــورا ً كبــرا ً يف الســينام الروســية ،وقدمــت العديــد مــن النــاذج املرشقــة،
لتؤكــد مــن جديــد أنــه ال توجــد أجنــاس فنيــة ســيئة ،وإمنــا مثــة أفــام ســيئة بغــض النظــر
عــن الجنــس الفنــي الــذي تنتمــي إليــه.
يف «بضعــة أيــام مــن حيــاة أبلومــوف» حــاول ميخالكــوف أن يجســد قراءتــه الخاصــة
لروايــة (أبلومــوف) للكاتــب إيفــان غونتشــاروف التــي أقتبــس العمــل عنهــا ،مبتعــدا ً عــن
رؤيــة الكاتــب ذاتــه للشــخصيات ،أو مبعنــى آخــر تعامــل مــع الروايــة بصــورة جدليــة
كاشــفاً عــن جوانــب جديــدة يف شــخصياتها ،أغنــت مــن أبعادهــا وعمقتهــا .فالروايــة تنتقــد
112
الالمبــاالة كموقــف حيــايت مــن خــال شــخصية أبلومــوف ،بينــا يقــوم الفيلــم بالتأكيــد عــى
الجوانــب املضيئــة التــي تحملهــا هــذه الشــخصية بالرغــم مــن كل ســلبيتها كالطيبــة والنبــل
ودماثــة األخــاق واالرتبــاط بــاألرض .مــن جهــة أخــرى انصــب اهتــام الفيلــم عــى إدانــة
االنتهازيــة الرباغامتيــة املتمثلــة بشــخصية شــولتس التــي بــدت أضعــف يف الروايــة منهــا يف
الفيلــم ،فهــذه الشــخصية مبــا متثلــه مــن قيــم أخــذت تتفــى بقــوة يف الســبعينات داخــل
املجتمــع الســوفيتي ،بــدت مليخالكــوف أكــر حيويــة ومعــارصة ،وإدانتهــا ليــس ســوى إدانــة
لفئــة متفســخة كاملــة تعيــش يف املجتمــع .حيــث النبــل والشــهامة والكــرم ليســوا ســوى
مظاهــر خارجيــة مزيفــة ،ال ترتبــط بأيــة نزعــات روحيــة داخليــة عنــد هــذه الشــخصية
و(الفئــة التــي متثلهــا) ،وإمنــا تفرضهــا الرغبــة يف املحافظــة عــى مظهــر جــذاب وســمعة
مرموقــة أمــام اآلخريــن فحســب ،مــا يجعلهــا يف الواقــع عاجــزة عــن إدراك مشــاعرهم
ومعاناتهــم ،فقدرتهــا عــى التواصــل اإلنســاين معهــم تبــدو مناقضــة متامـاً لجوهرهــا ،الــذي
تشــكل املنفعــة الشــخصية الضيقــة أساس ـاً لــه.
فاملخــرج يتابــع يف هــذا الفيلــم ذات التباينــات التــي عالجهــا يف أفالمــه الســابقة ،بــن ظاهــر
الشــخصيات وجوهرهــا الحقيقــي ،ومــا تنطــوي عليــه هــذه التباينــات مــن تجــي متعــدد
الصياغــات يف االرتبــاط مــع الحيــاة واألشــخاص املحيطــن.
إن ســمة التبايــن هــذه بــن «الظاهــري» و«الجوهــري» التــي طبعــت أعــال ميخالكــوف
جميع ـاً ،بــدأت تأخــذ منــذ منتصــف الثامنينــات منح ـاً يعمــم مــن تناقضــات الشــخصيات
113
مــع الواقــع أو مــع نفســها أو مــع اآلخريــن ملــا هــو أبعــد مــن ذلــك ،لتدخــل يف ســياق
معايــر أخالقيــة وقوميــة وإنســانية أكــر اتســاعاً وشــموالً وتعقيــدا ً.
يعـود ميخالكـوف يف عـام 1987إىل عـامل تشـيخوف مـن جديـد ،ليخـرج عـن مجموعـة مـن
قصصـه ـ أهمهـا «السـيدة مـع الكلـب» التـي قـام بأفلمتهـا عـام 1959جوزيـف خيفيتـس ـ
فيلمـه «العيـون السـود» الـذي تـم إنتاجـه باالشتراك مـع إيطاليا.
رومانـو (مارسـيلو ماسـتورياين) رجل يف منتصف العمر ،متسـح الكآبة والحـزن وجهه ،يرفض
أن يتخلى عـن ماضيـه وينسـاه ،فيقـوم ببعثـه بصـورة مسـتمرة عبر فيـض مـن الذكريـات،
وهـو يـروي قصتـه ألي غريـب يجالسـه .وهي ليسـت قصة تقليديـة عن االنحـدار التدريجي
مـن واقـع اجتامعـي مترف إىل حالـة مزريـة ،يـراد اسـتنباط العبر األخالقيـة منهـا ،كما قـد
يهيـأ يف البدايـة ،بـل لعـل العكـس هـو الصحيـح .فرومانـو املهنـدس املعماري الطمـوح كان
ذات يـوم يعيـش حيـاة مرتفـة ـ مل تخلـو حتـى مـن الخليلات ـ تحققـت لـه بعـد زواجه من
إيليـزا (سـيلفانا مانغانـو) ابنـة املصريف الغنيـة ،وبدت مسـتقرة متاماً إىل أن تعـرف يف إحدى
سـفراته بفتـاة روسـية شـابة تدعـى آنا سيرغييفنا (إلينا سـوفونوفا) ،فيقعا يف حـب بعضهام،
مستسـلمني يف الوقـت نفسـه لحقيقـة كونهما متزوجين ،وال يسـتطيعان فعـل يشء حيـال
ذلـك .لكـن حـب رومانـو لهـا ال يتلاىش مـع عودتـه إىل ديـاره ،ويكتشـف مـع مـرور الوقت
أنـه ال يسـتطيع العيـش مـن دونهـا ،فيقرر السـفر إىل روسـيا بحثـاً عنها .ومـا أن يجدها حتى
يتعاهـدان على الـزواج بعـد تدبير أمـر الطلاق من أزواجهما .لكن مـا أن يعـود رومانو إىل
114
إيطاليـا مصمماً على تنفيـذ مـا عاهـد آنـا عليـه ،حتـى يجد زوجتـه وقـد فقـدت كل ثروتها،
فتخفـق يف هـذه اللحظـة جميـع مخططاتـه ،فإحساسـه بالوفـاء نحوهـا مينعـه مـن مغادرتها
يف مثـل هـذا ظـرف .وهكـذا يفقـد رومانـو حبه الكبير ،وحياته املرتفـة يف آن واحـد .وكل ما
يتبقـى لديـه هـو هـذه القصة ،التـي يحملها معـه وهو يجوب العـامل ،ال ميل تكرارهـا وبعثها
يف كل فرصـة ،وكأن مغـزى حياتـه بأكملهـا قـد تجسـد فيها.
رومانــو كان مســتعدا ً للتخــي عــن زوجتــه وثروتهــا يف ســبيل الحــب ،واســتطاع أن يضحــي
بهــذا الحــب يف ســبيل الوفــاء إليهــا عندمــا فقــدت ثروتهــا .فأخالقياتــه التــي بــدت تافهــة
جــدا ً ،اســتطاعت أن تســمو بنفســها يف لحظــات حياتــه الحرجــة ،وهــي بالــذات التــي أودت
بــه إىل الحالــة املزريــة التــي يعيشــها .لقــد أراد ميخالكــوف يف هــذا الفيلــم أن يؤكــد مــن
جديــد عــى أن الجوهــري يف اإلنســان غالب ـاً مــا يكــون أبعــد مــن مجــال الرؤيــة العاديــة
لآلخريــن.
ولعــل «أورغــا» ـ الحائــز عــى جائــزة الــدب الذهبــي يف فينيســيا ،والــذي قــام ميخالكــوف
بتصويــره يف الصــن ـ يعــد أحــد أكــر اللوحــات الســينامئية جــاالً وعمقـاً يف تجربتــه ،حيــث
ترتقــي التباينــات يف داخلــه إىل مســتوى فلســفي وإنســاين متميــز إىل حــد كبــر.
عائلــة منغوليــة تعيــش داخــل خيمــة كبــرة عــى الحــدود الصينيــة الروســية حيــاة بســيطة
وســاحرة منعزلــة عــن صخــب املــدن ،وســط ســهل شاســع مرتامــي األطــراف ،يقتحــم ســائق
شــاحنة رويس حياتهــا عــن طريــق الصدفــة .فــإذ هــو يعــر الســهل بشــاحنته ،يغــط يف النــوم
115
فــوق مقــوده فتنزلــق الشــاحنة إىل ضفــة البحــرة ،لتنجــده العائلــة وتقــوم باســتضافته
عندهــا .منــذ البدايــة يطــرح ميخالكــوف يف الفيلــم مواجهــة ذات طابــع حضــاري ،بــل وقــد
يجــد البعــض فيهــا إعالنـاً رصيحـاً ضــد التطــور املــدين مــع نهايــة الفيلــم ،فــا بــدأ بدخــول
التلفزيــون إىل خيمــة العائلــة ينتهــي بدخــول مصنــع الغــاز إىل الســهب الــذي عاشــت فيــه.
لكنهــا يف الواقــع ليســت ســوى دعــوة للمحافظــة عــى الهويــة الثقافيــة والذاكــرة والعالقــات
اإلنســانية .فبســاطة الحيــاة وغناهــا اإلنســاين والعالقــات التقليديــة الحميمــة التــي تعيشــها
العائلــة املنغوليــة ،تجعلهــا ســعيدة بالرغــم مــن العزلــة والفــراغ املــكاين الــذي يحيــط بهــا،
ويف املقابــل نجــد حيــاة املدينــة املعقــدة والقاســية ،تجعــل العزلــة والفــراغ يعششــان يف
داخــل البــر أنفســهم ،ليفقــدوا مالمحهــم اإلنســانية ،ويســيطر عليهــم اإلحســاس بالتعاســة
واملــرارة.
مــن جهــة أخــرى تتخــذ الشــخصية الروســية يف الفيلــم بعــدا ً إضافيـاً يف اضطرابهــا وتخبطهــا،
إذ ال تســتطيع التكيــف مــع املجتمعــات األخــرى ،بعــد أن تغربــت عــن مجتمعهــا بــكل
مــا يحملــه مــن أصالــة قوميــة ـ ثقافيــة وفقــدت القــدرة عــى التعايــش معــه ،وضياعهــا
ليــس ســوى رســالة إىل العائلــة املنغوليــة (وللمشــاهدين بطبيعــة الحــال) تقــول بــأن مــن
يفقــد جــذوره مــرة يفقدهــا إىل األبــد .وال داع إىل االعتقــاد بوجــود نزعــة شــوفينية ضيقــة
وراء هــذه الرســالة ،فالهويــة الثقافيــة تبــدو يف الفيلــم شــديدة االرتبــاط برتكيبــة العالقــات
اإلنســانية ،وانهيارهــا ســوف يــؤدي بصــورة حتميــة إىل تفــكك هــذه العالقــات وإفالســها.
116
ورمبــا مــن هــذه الزاويــة بالــذات يقــف الفيلــم ضــد التحــوالت املدنيــة والحضاريــة التــي
تجــرف يف طريقهــا كل خصوصيــة قوميــة وثقافيــة يف املجتمعــات ،محطمــة بالتــايل القيــم
اإلنســانية فيهــا.
مــع بدايــة التحــوالت الدميقراطيــة يف االتحــاد الســوفيتي يف منتصــف الثامنينــات ،غــدا
املــايض املغلــق بــأرساره ومآســيه مــادة جديــدة يســتلهم الســينامئيون منهــا أفالمهــم،
يف إطــار أشــكال وأســاليب أكــر جــرأة مــن حيــث الطــرح واملعالجــة .مــن أبــرز أفــام
هــذا االتجــاه ميكننــا أن نذكــر «غــدا ً كانــت الحــرب» «صيــف 1953البــارد» «املقربــون»
«جنــازة ســتالني» وغريهــا .ضمــن هــذا االتجــاه أخــرج ميخالكــوف فيلمــه املنهكــون مــن
الشــمس الــذي حصــل عنــه عــى أوســكار أفضــل فيلــم أجنبــي لعــام .1994وقــد تجســدت
يف هــذا الفيلــم بصــورة ســاطعة كل العنــارص التــي شــكلت عــى مــدى ســنوات طويلــة
جوهــر أســلوبية ميخالكــوف الخاصــة واملميــزة ،فمــن خلــف األجــواء املرشقــة والبهجــة
والحيــاة الصاخبــة وعــرات التفاصيــل الصغــرة التــي توحــي لنــا بــأن كل يشء يجــري لــدى
عائلــة كوتــوف ـ أحــد أبطــال الثــورة والصديــق القديــم لســتالني ـ عــى أفضــل وجهــه،
نبــدأ بالتدريــج بتلمــس مشــاعر الخــوف والشــك واألمل التــي تأخــذ باالمتــداد والتشــعب
يف كل جــزء مــن أجــزاء البيــت الريفــي مــع وصــول ميتيــا العشــيق القديــم للزوجــة
ماروســيا مبالمحــه الربيئــة ومزاجــه اللطيــف ،حيــث تختلــط األحقــاد الشــخصية باالتهامــات
السياســية وتنتهــي باعتقــال كوتــوف مــن قبــل رجــل األمــن ميتيــا وأعوانــه .لقــد اســتطاع
117
ميخالكــوف يف هــذا الفيلــم مــن خــال رســمه الدقيــق والعميــق للشــخصيات ،أن يصــور
الــراع الداخــي املضنــي الــذي عاشــه املاليــن مــن مواطنيــه طيلــة عقــود ،بــن إميانهــم
باملثــل العليــا ومتســكهم باملشــاعر اإلنســانية والوطنيــة الكبــرة ،وبــن الواقــع الرتاجيــدي
الــذي كان يفــرغ بصــورة مســتمرة كل هــذه املثــل واملشــاعر مــن جوهرهــا ،ويحــط يف
داخلهــم مــن كل مــا هــو جميــل وحــر وإنســاين .وذلــك يف قالــب متثيــي بــارع اســتطاع أن
يقــدم هــذه النــاذج بــكل تنوعهــا وتفاعالتهــا وتطورهــا مــن خــال أداء أليــغ مينتشــيكوف
وإنغيبورغــا دابكونايتــه وميخالكــوف نفســه ،الــذي لعــب يف الفيلــم أطــول وأعظــم دور يف
عمــل مــن إخراجــه.
لقــد قــام ميخالكــوف خــال مســرته الفنيــة كلهــا بإخــراج فيلــم تســجييل واحــد بعنــوان
«آنّــا» ،وعــا حــذا بــه للخــوض يف هــذه التجربــة يقــول( :يف الوقــت الــذي انتهيــت فيــه
للتــو مــن تصويــر «بضعــة أيــام مــن حيــاة أبلومــوف» ،حيــث كانــت طفولــة البطــل أساســية
يف فهــم شــخصيته ،كنــت مدفوعـاً برغبــة ال واعيــة للمقارنــة بــن طفولــة أليوشــا أبلومــوف
يف روســيا التــي مضــت ،وطفــل اليــوم الــذي يعيــش يف اإلمرباطوريــة الســوفيتية) .مل يكــن
هــذا الطفــل ســوى أبنتــه آنّــا ،التــي قــرر أن يدخــل معهــا يف تجربــة ســينامئية فريــدة مــن
نوعهــا ،إذ بــدأ منــذ أن كانــت يف السادســة مــن عمرهــا عــام 1980وملــدة ثالثــة عــر عامـاً
بطــرح ذات األســئلة عليهــا :مــا الــذي تحبينــه أكــر مــن أي يشء؟ مــا الــذي تكرهينــه أكــر
مــن أي يشء؟ مــا الــذي يخيفــك أكــر مــن أي يشء؟ مــا الــذي تريدينــه أكــر مــن أي يشء
118
آخــر؟ مــا الــذي تنتظرينــه مــن الحيــاة؟ وهكــذا كان يتابــع رغباتهــا وأحالمهــا ومخاوفهــا،
التــي كانــت تتغــر مــع تقدمهــا يف العمــر ،متأثــرة بالتغــرات االجتامعيــة والسياســية التــي
اجتاحــت البــاد يف فــرة البرييســرويكا بــكل مــا رافقهــا مــن فــوىض وحــروب وانحــال
وانقالبــات.
ففــي البدايــة مل تكــن أجوبتهــا تختلــف عــن أجوبــة أي طفــل أخــر ،لكننــا تدريجـاً نتلمــس
إدراكهــا الخــاص للعــامل ،والــراع الــذي ينمــو يف داخلهــا ،إذ تتكشــف ســنة بعــد أخــرى
مخاوفهــا مــن العــامل بعــد أن تفجــرت التناقضــات الكبــرة يف وجههــا بــن املثــل اإليديولوجية
التــي تلقنتهــا وانهياراتهــا ،ويشــر ميخالكــوف بهــذا الصــدد( :كان هدفنــا إظهــار عاملنــا يف
كافــة تحوالتــه وحركتــه ،كــا يُــرى مــن خــال عيــون فتــاة صغــرة تكــر وتتغــر يف نفــس
الوقــت).
يف الواقــع إن صيغــة الجمــع التــي يتكلــم ميخالكــوف مــن خاللهــا هنــا ذات داللــة كبــرة
بالنســبة لهــذا الفيلــم ،فــإن كان احرتامــه وتقديــره لجهــود الفنانــن الذيــن عملــوا معــه
جعــل مــن هــذه الصيغــة تقليــدا ً شــبه دائــم يف حواراتــه وترصيحاتــه ،إال أن فيلــم «آنّــا» ملــا
ظهــر للضــوء عــى اإلطــاق لــوال هــؤالء األصدقــاء .فالفيلــم صــور بالــر بعيــدا ً عــن عيــون
الرقابــة ضمــن ظــروف ال تنســجم عــى اإلطــاق مــع الــروط الفنيــة والتقنيــة للعمــل،
وهــو مــا جعلــه ال يخلــو مــن العديــد مــن اإلشــكاليات التشــكيلية ـ الضوئيــة والصوتيــة،
ومــا زاد مــن إضعــاف جودتــه الــروط الســيئة التــي تــم حفــظ النيغاتيــف فيهــا لســنوات
119
طويلــة .باإلضافــة إىل مــا شــكله ذلــك مــن مجازفــة كبــرة لهــم جميع ـاً .أمــا املســاهمة
األهــم فهــي تعــود إىل املخــرج التســجييل ســرغي مريوتشنيتشــينكو .فمشــاهد أبنتــه يف
الفيلــم امتزجــت مبقتطفــات مــن النــرات األخباريــة واألفــام الدعائيــة التــي تتعقــب
التغــرات يف البــاد منــذ نهايــة عهــد بريجنيــف ،ومقتطفــات مــن أفالمــه الســابقة ،مبــا فيهــا
بعــض املشــاهد املحظــورة .مــا جعــل الربــط بــن مــا قــام بتصويــره ،وبــن الحجــم الهائــل
للمعلومــات والصــور واملشــاهد التــي جمعهــا عمليــة شــديدة التعقيــد ،وخاصــة أنــه أراد
أن يقــدم عملــه بأكــر قــدر مــن املوضوعيــة .وهــو مــا حــاول نيكيتــا ميخالكــوف القيــام
بــه طيلــة حياتــه ،ومــا كان يدفعــه باســتمرار لتطويــر أدواتــه الفنيــة ووســائله التعبرييــة
وأشــكاله الرسديــة للوصــول إىل مســتوى أعــى يف تصويــر النــاذج البرشيــة يف فسيفســائها
وتناقضاتهــا الالمحــدودة التنــوع .ومــا ال شــك فيــه أنــه مل يــزل لــدى هــذا الفنــان ذو
الســمعة العامليــة املرموقــة الكثــر ليقدمــه للســينام يف بــاده والعــامل.
120
مخرج الروائع يف سينام الحرب
يوري أوزيروف
«إذا مــا بقيــت حي ـاً ســوف أحــي عــن الجيــش العظيــم الــذي حاربــت فيــه» .هــذا مــا
قــرره أوزيــروف الشــاب قبيــل نهايــة الحــرب .لكــن كان يجــب أن ميــي ربــع قــرن قبــل أن
يتحــول الحلــم إىل واقــع ،ويبــدأ أوزيــروف مســرة ستســتمر ربــع قــرن آخــر مــن اإلبــداع
وفــاء للعهــد الــذي قطعــه عــى نفســه.
ولــد أوزيــروف عــام 1921يف عائلــة مثقفــة خــرج منهــا العديــد مــن الشــخصيات اإلبداعيــة،
وعــى رأســها والــده مغنــي األوبــرا نيقــوالي .منــذ صبــاه الباكــر هــوى أوزيــروف الرســم
وأخــذ دروس ـاً فيــه ،ويف عــام 1939دخــل معهــد لوناتشارســي للفنــون املرسحيــة ،لكنــه
يف العــام نفســه اســتدعي للخدمــة العســكرية .ليعيــش الحــرب بــكل فظاعتهــا ومآســيها
منــذ اللحظــة األوىل وحتــى النهايــة ،مشــاركاً يف العديــد مــن العمليــات العســكرية الضخمــة
كمعركــة موســكو وتحريــر أوكراينــا وبولونيــا واقتحــام كينغســبريغ .مــع نهايــة الحــرب
تابــع دراســته املرسحيــة ملــدة عــام ،ومــن ثــم أنتســب إىل الـــفغيك يف عــام ،1947ليــدرس يف
ورشــة املخــرج املعــروف سافتشــينكوإىل جانــب عــدد مــن كبــار املخرجــن الســينامئيني يف
االتحــاد الســوفيتي كآلــوف وناومــوف وبارادجانــوف وخوتســيف.
121
ابتــداء مــن أفالمــه األوىل «حلبــة الشــجعان» « ،1953االبــن» « ،1955كوتشــبي» ،1958
«الطريــق الكبــر» 1962اســتطاع أوزيــروف أن يلفــت انتبــاه الصحافــة والنقــاد إليــه ،وينــال
العديــد مــن الجوائــز .ليبــدأ مســرته اإلبداعيــة الطويلــة يف ســينام الحــرب مــع ملحمتــه
الشــهرية «التحريــر» ،1971وذلــك باالشــراك مــع طاقــم سيســتمر معــه يف معظــم أعاملــه
القادمــة عــى مــدى خمســة وعــرون عامـاً مــن أهمهــم مديــر التصويــر إيغور ســابنيفتش،
وفنــان الديكــور ألكســاندر مياخكــوف ،واملوســيقار يــوري ليفتــن واملمثــل ميخائيــل
أوليانــوف يف دور املارشــال جوكــوف.
كتــب أوزيــروف يف معــرض تفســره لدوافعــه وراء صنــع هــذه امللحمــة« :أفــام كثــرة
صــورت عــن الحــرب ،لكــن هــذه األفــام أظهــرت مقاطعـاً مجتزئــة عــن الحــرب ،منوذجيــة،
ولكنهــا متخيلــة غــر محــددة… لقــد أردت أن أتحــدث عــن الحــرب بأجملهــا ،أن أظهــر
حقيقتهــا ،أن أصنــع فيل ـاً مــن نــوع الوثيقــة التاريخيــة» .خمســة أفــام طويلــة تضمنتهــا
هــذه امللحمــة الســينامئية «القــوس النــاري» «االخــراق» «اتجــاه الرضبــة الرئيســية»
«معركــة برلــن» «االقتحــام األخــر» ،حيــث انضــوت تحت قيــادة أوزيــروف مئــات الدبابات
واملدافــع والطائــرات وحــوايل ثالثــة آالف مقاتــل ،باإلضافــة إىل عــدد مــن الجــراالت ـ
املستشــارين ومهنــديس املتفجــرات ،وعــرات الخرائــط واملخططــات وأجهــزة االتصــاالت،
ليفتــح أوزيــروف عــى حــد تعبــره «أوربــا مــن جديــد».
مـع هـذه امللحمـة التي أصبحت حدثاً سـينامئياً بكل معنـى الكلمة يف البلاد ،ودخلت تقاليد
122
العـروض التلفزيونيـة الدامئـة يف عيـد النصر والجيـش ،وجالـت يف أكثر مـن 115دولـة ،بـدأ
أوزيـروف يؤسـس لرؤيتـه الخاصـة يف املـزج بين الـروايئ ـ املجـازي والتسـجييل ـ الواقعي يف
السـينام .لينجـز عـام 1977ملحمـة أخرى من أربعـة أفالم بعنوان «جنـود الحرية» ،اعتمدت
على إنتـاج مشترك قيـايس مـع بولونيـا وبلغاريـا ورومانيـا وهنغاريـا وإيطاليـا ويوغسلافيا
وأملانيـا الدميقراطيـة وتشيكوسـلوفاكيا .ويعـد هـذا الفيلـم ـ امللحمـة أول عمـل يف تاريـخ
السـينام الـذي يتطـرق مبثـل هـذه الشـمولية إىل رصاع كل شـعب مـن الـدول املحتلـة مـع
الفاشـية خلال الحـرب العامليـة الثانية.
بعــد إخراجــه لعــدد مــن األفــام الوثائقيــة الرياضية يف نهايــة الســبعينات وبدايــة الثامنينات
عــاد أوزيــروف ابتــداء مــن عــام 1985إىل موضوعــة الحــرب املفضلــة لديــه ،فأخــرج عــن
معركــة موســكو فيلــاً مــن أربعــة أجــزاء بنفــس العنــوان .وعــام « 1989ســتالينغراد»
ويف عــام « 1992مالئكــة املــوت» الــذي عــرض يف العــام التــايل باملركــز الثقــايف الــرويس
يف دمشــق بحضــور أوزيــروف نفســه .يف الذكــرى الخمســن للنــر عــى الفاشــية عــام
1995ينتهــي أوزيــروف مــن مسلســله التلفزيــوين الكبــر «مأســاة القــرن» املكــون مــن 24
حلقــة .والغريــب أن املسلســل مل يعــرض طيلــة ثــاث ســنوات كاملــة عــى شاشــة التلفزيــون
الــرويس ،وعندمــا تــم عرضــه فيــا بعــد ـ أشــار أوزيروفــإىل أنــه «متــت قصقصتــه بطريقــة
مل يحلــم أي شــيوعيني بهــا» .أمــا آخــر مــا أنهــى أوزيــروف بــه رحلتــه الســينامئية ـ الحربيــة
كان فيلمــه «القائــد العســكري العظيــم جوكــوف» عــام .1996ومــن الجديــر بالذكــر أن
123
األعــال الثالثــة األخــرة قــد متــت بإنتــاج مشــرك مــع املنتــج الســوري عبــد الــرزاق غانــم،
ومســاهمة املنتــج الســوري نــادر األتــايس (باســتثناء الفيلــم األخــر).
مــات أوزيــروف عــن مثانــن عامــاً بعــد أن تــرك ورائــه عــدد هائــل مــن األفــام التــي
صــورت الحــرب مــن شــتى الزوايــا واملســتويات ،حيــث اســتطاع أن ميــزج بدقــة عاليــة بــن
الواقعــي واملتخيــل مــن األحــداث والشــخصيات ،ليغطــي مرحلــة مــن أكــر مراحــل القــرن
العرشيــن تعقيــدا ً ودمويــة .بالتأكيــد ميكــن االختــاف أو االتفــاق مــع الخلفيــة اإليديولوجية
ألعــال أوزيــروف ،ويف ضــوء الوقائــع والوثائــق الجديــدة التــي ظهــرت يف العقــد األخــر
حــول هــذه الحــرب ،ولكــن مــن الصعــب عــى أحــد أن ينكــر الحرفيــة الســينامئية التــي
صنعــت مــن خاللهــا هــذه األفــام وقيمتهــا الفنيــة العاليــة التــي ســتبقى ماثلــة أمــام أي
مخــرج يشــق طريقــه يف ســينام الحــرب.
124
السينام الروسية املعارصة أمام تحدياتها
يف كل مرحلــة مــن تاريــخ الســينام مثــة أســئلة تطفــو عــى الســطح وتطــرح نفســها بقــوة
يف وجــه هــذه الصناعــة الســينامئية أو تلــك ،ولعــل أحــد أبــرز األســئلة امللحــة يف بدايــة
األلفيــة الثالثــة تتعلــق بإمكانيــة اســتمرار الســينامت الوطنيــة يف العديــد مــن الــدول أمــام
املنافســة الحــادة مــن قبــل الســينام األمريكيــة التــي تــكاد تقصيهــا متام ـاً مــن الوجــود.
لذلــك ليــس عبث ـاً أن يســتعر الجــدل بــن الباحثــن واملختصــن يف غــر مــكان مــن العــامل
حــول الســينام الواجــب عــى الدولــة دعمهــا .ويف روســيا كان لذلــك الجــدل نكهــة خاصــة
فرضتهــا الظــروف االســتثنائية التــي عاشــتها البــاد يف التســعينات ومعهــا الســينام.
خارج الرعاية
وشـهدت هـذه املرحلـة تحـوالت جذريـة ليـس فقـط يف الواقـع السـيناميئ ،بـل ويف البنيـة
الطبقيـة والثقافيـة والنفسـية لجمهـور املشـاهدين كذلـك .إذ وجـدت إحدى أضخـم وأعرق
الصناعـات السـينامئية يف العـامل نفسـها ألول مـرة خارج رعايـة الدولة ودعمهـا ،مام أدى إىل
تراجـع وتيرة اإلنتـاج بصورة ملحوظة ،وتوقف العمل يف الكثري من االسـتوديوهات وانتشـار
البطالـة بني السـينامئيني والفنيين العاملني فيها ،وإفالس عدد كبري من دور السـينام وإغالقها،
125
أو بيعها وتحويلها إىل منشـآت ترفيهية (كازينوات وديسـكوتيك) أو تجارية (صالونات عرض
وبيـع للسـيارات أو املوبيليـا ومخـازن) ،لتفرض األفلام األمريكية يف الدور املتبقية سـيطرتها
بصـورة شـبه مطلقـة .كما انحـدرت تقاليـد الفرجة على نحو مريع وشـهدت نسـبة الحضور
يف الصـاالت تراجعـاً غير مسـبوق نتيجـة تدهـور متوسـط الدخـل لـدى السـكان ،واالنتشـار
املتزايـد ألجهـزة الفيديـو ،ومزاحمـة التلفزيـون بقنواتـه وعروضـه الجديـدة والجذابـة،
التـي كانـت تلتقـط لحظـة بلحظـة املشـاهد املتدفقـة والديناميكيـة ملـا يجـري يف البلاد من
اضطرابـات ومواجهـات واغتيـاالت وفضائـح ،وكأننـا أمام مسلسـل مـن دون نهايـة ال ينقصه
التشـويق أو األكشـن أو الرومانسـية ،مسلسـل ال تضاهيـه سـوى امليلودرامـات املكسـيكية
ومسلسلات السـوب ـ أوبـرا األمريكيـة التـي اقتحمـت بيوت املشـاهدين الـروس ألول مرة
وسـحرت أنظارهـم وقلوبهـم إىل درجـة يصعـب تصديقها.
كل ذلــك أفــى إىل تغيــرات بنيويــة يف نتاجــات الســينام الروســية وتركيبــة أفالمهــا ،فاتجــه
معظــم مخرجيهــا إىل محــاكاة النمــوذج الهوليــوودي ألفــام العصابــات بــكل مــا تحويــه مــن
عنــف وقتــل وابتــزاز ومطــاردات ،وإن كان مثــة بالفعــل معــادل ومــرر لذلــك يف الواقــع،
يتمثــل باملافيــا الروســية وتشــعباتها وعالقاتهــا وســلوكياتها ،غــر أن معظــم هــذه األفــام مل
يســتطع التوغــل إىل عمــق الحالــة الروســية وخاصيتهــا الذاتيــة ،ومل تكــن حالهــا بأفضــل مــن
ناحيــة اللغــة والوســائل التعبرييــة ،إذ بــدت هــذه األفــام كتقليــد ســيئ لألصــل األمريــي،
ال يؤهلهــا للتنافــس معــه يف صــاالت الســينام املتاحــة لــه بســهولة .ويشــر أحــد النقــاد إىل
126
أن خــال العــرة أعــوام املاضيــة مل يســتطع ســوى فيلمــن تحقيــق أربــاح يف شــباك التذاكــر
هــا« :حــاق ســيبرييا» لنيكيتــا ميخالكــوف و«األخ »2لســرغي باالبانــوف .ســبب أخــر
زاد مــن اتســاع الفجــوة بــن الســينام بتوجههــا العــام والجمهــور ،أال وهــو ابتعادهــا عــن
مالمســة العديــد مــن جوانــب الواقــع املعــارص بإفرازاتــه وتناقضاتــه ورصاعاتــه وإشــكالياته
عــى كافــة املســتويات والصعــد ،وتقولبهــا ضمــن أشــكال فنيــة وأجنــاس فيلميــة بعينهــا
لدرجــة اختفــت معهــا تقريبـاً األعــال الكوميديــة واالســتعراضية والتاريخيــة واالقتباســات
األدبيــة وتلــك املوجهــة لألطفــال .لــكل ذلــك مل يعــد أصحــاب الصــاالت أنفســهم يســتقبلون
أفــام مواطنيهــم ،ليكتفــي الكثــر مــن املنتجــن بعرضهــا عــى القنــوات التلفزيونيــة ،بــل
وأصبحــت تصنــع خصيصـاً لهــذه الغايــة ،بينــا فضّ ل آخــرون التحــول نحو إنتاج املسلســات
التلفزيونيــة ،التــي وصلــت يف بعــض الســنوات األخــرة إىل أكــر مــن 35عمـاً.
الرأسامل يتدخل
جميــع هــذه التحــوالت اســتمرت بفــرض تأثريهــا حتــى بعدمــا أخــذت الصــورة تتغــر
تدريجي ـاً يف نهايــة التســعينات وبــدأ الرأســال الخــاص يتوجــه إىل الســينام ويضــع ثقلــه
فيهــا ،لتشــييد أو إعــادة تحديــث مئــات الصــاالت .وتظهــر ألول مــرة شــبكات مــن دور
العــرض مثــل «كارو – فيلــم» و«امبرييــا كينــو» املدعومــة بــركات توزيــع ضخمــة تضــخ
ثالثــة أفــام أســبوعياً ،وتتأســس رشكات جــادة تســاهم بصــورة فعالــة يف اإلنتــاج الســيناميئ
127
مثــل «إس يك يف»« ،إن يت يف بروفيــت»« ،ســلوفا»« ،بيغامليــون»« ،يونايتــد مولتيميديــا
بروجيكــت»« ،أرك فيلــم»« ،ريكــون كينــو»« ،تريتــي» وغريهــا.
الدولــة عــادت هــي األخــرى لتتحمــل مســؤولياتها تجــاه الســينام ،فــزادت مــن حصتهــا يف
املوازنــة العامــة ،لتصــل عــام 2002إىل 1.5بليــون روبــل ،وتتخطــى هــذا العــام البليونــن
(نحــو 67مليــون دوالر) ،وقــد ســاهم يف هــذه الزيــادة إىل حــد بعيــد برنامــج الدولــة
املســمى «ســينام روســيا» والــذي يتضمــن باإلضافــة إىل دعــم البنــى التحتيــة للســينام يف
البــاد متويــل 100فيلــم متثيــي طويــل و 330فيل ـاً تســجيلياً و 65فيلــم رســوم متحركــة
ســنوياً ،يك تحقــق الســينام الروســية حتــى عــام 2005نســبة ال تقــل عــن 20يف املئــة مــن
مجمــل العــروض التــي تــراوح يف الوقــت الحــايل مــن 3إىل 7يف املئــة فحســب ،وتــرى وزارة
الثقافــة أن دون هــذا الرقــم لــن تســتطيع الســينام الروســية أن متثــل ظاهــرة اجتامعيــة
وثقافيــة يف املســتقبل.
ولعـل الصبغـة املبالـغ يف تفاؤلها للربنامج كانت السـبب وراء النقاشـات الطويلة حوله والتي
مل تتوقـف حتـى اللحظـة ،وإمنـا تزايـدت مـع فشـله يف تحقيـق غايتـه هـذا العـام .فاملسـألة
مـن وجهـة نظـر البعـض ال تتعلـق بإمـكان إنتـاج هـذا العـدد مـن األفلام أو ال ،وإمنـا يف
الغايـة مـن ذلـك ،فما معنـى إنتـاج هـذا الكـم طاملـا أن معظـم األفلام عاجـز عـن الوصول
إىل الشاشـة الكبيرة ،وحتـى تلـك التـي تعـرض بالـكاد تسـتطيع تغطيـة ميزانيتهـا ،لتنحصر
األعمال الناجحـة بأسماء مجموعـة محـدودة مـن املخرجني فحسـب مثل الكسي باالبانوف
128
ونيقـوالي ليبيـدوف ودينيـس يفسـتغنييف والكسـندر روكوجكين وفاليري تودوروفسكي
ودميتري استراخان وإيغـور كونتشالوفسكي .لذلـك يدعـو هـؤالء إىل الرتكيـز على دعم أكرب
لعـدد أقـل مـن األفلام ( )15 – 10بغيـة تحقيق مسـتوى فني وحـريف عال يؤهلها للمنافسـة
يف السـوق .األمـر الـذي ال تسـاعد املوازنة املرصـودة يف الربنامج عىل تحقيقه ،فـإذا ما توقفنا
عنـد ميزانيـات بعـض االنتاجـات البـارزة للمقارنـة نجـد أن «الشرق ـ الغـرب» تكلـف 12
مليـون دوالر «انتـي كيلـر» 5ماليين «الحـرب» 4ماليين ،هـذا مـن دون التكلـم عن «حالق
سـيبرييا» الـذي وصلـت ميزانيتـه إىل 45مليـون دوالر ،أو مقارنتهـا بنظريتهـا األمريكية .عىل
الجانـب األخـر ال تبـدو القـدرة التنافسـية لألفالم هي ما يشـغل بـال الكثري من النقـاد الذين
يشـكون الرتاجـع املريع يف سـوية السـينام الروسـية عموماً ،وإنجابهـا املتزايد ألفلام ميتة لن
يشـاهدها أحـد بعـد بضع سـنوات ،مـا يجعل التخـوف مربرا ً من مسـاهمة برنامـج الدعم يف
تفاقـم األزمـة بدالً مـن حلها.
بالطبــع إن مفهومــي القــدرة التنافســية والســوية الفنيــة قــد يلتقيــان ولكن ليــس بالرضورة،
ولعــل املثــال األكــر تــداوالً اليــوم يف هــذا الصــدد يتعلــق باملخــرج الكســندر ســوكوروف
وأعاملــه ،التــي عــى رغــم نجاحهــا يف املهرجانــات ال تجــد اإلقبــال نفســه مــن املشــاهدين،
لكــن قدرتهــا الضعيفــة عــى املنافســة ليســت مــررا ً عــى اإلطــاق لعــدم دعمهــا طاملــا أن
املشــهد الســيناميئ ال ميكــن أن يكتمــل مــن دونهــا بصفتــه «ظاهــرة اجتامعيــة ثقافيــة» ،بــل
لعلــه يكتســب مرشوعيتــه وغنــاه تحديــدا ً بوجودهــا.
129
والحقيقــة أن ترصيحــات وزارة الثقافــة عــن طبيعــة األفــام التــي تضــع لهــا األولويــة يف
الدعــم تبــدو أكــر انســجاماً مــع هــذه النوعيــة مــن األعــال ،إذ مــن املســتبعد أن تحقــق
ســينام األطفــال واألعــال األوىل للمخرجــن واألفــام التاريخيــة وتلــك ذات الصبغــة الوطنية
ضمــن املبالــغ املرصــودة لهــا قــدرة تنافســية ال ميكــن كذلــك تجاهــل أهميتهــا بــأي حــال
مــن األحــوال.
الجمهور املنقسم
وهنــا تجــدر اإلشــارة إىل مســألة يف غايــة األهميــة تتعلــق بجمهــور الســينام يف روســيا،
الــذي تبلــور انقســامه بصــورة شــديدة الوضــوح يف الســنوات األخــرة ،بــن أقليــة محــدودة
معظمهــا مــن الجيــل الشــاب ذي الدخــل املرتفــع والقــادر عــى دخــول الصــاالت الحديثــة
الفاخــرة بعروضهــا القويــة (األمريكيــة غالب ـاً) وأســعارها الباهظــة ،والتــي تضــخ القســم
األكــر مــن األربــاح (نحــو )70%عــى املنتجــن واملوزعــن ،وتتمركــز بصــورة رئيســة يف
موســكو وســان بيرتســبورغ ،وبــن الغالبيــة التــي ابتعــدت عــن الســينام أو ترتــاد الصــاالت
األقــل كلفــة واملنتــرة يف أنحــاء البــاد .هــذا الواقــع دفــع البعــض إىل االســتنتاج أن عــى
املخرجــن الــروس إذا مــا أرادوا املنافســة حق ـاً التوجــه بصــورة أساســية إىل الفئــة األوىل
املؤهلــة لــدر األمــوال عــى الســينام ،بصناعــة أفــام تالمــس مشــكالتها وواقعهــا الحيــايت
وتســتجيب إىل أذواقهــا وثقافتهــا وتكوينهــا النفــي.
130
والحقيقــة أن بغــض النظــر عــن عــدم توافــق إســراتيجية الدولــة للدعــم مــع هــذا االتجــاه،
لكنــه قــد يفــرض نفســه تدريجيـاً عــى الصناعــة الســينامئية ،وذلــك لســببني :أوالً أن أصحاب
رشكات اإلنتــاج وشــبكات التوزيــع ينتمــون إىل هــذه الفئــة بالــذات ،وبالتــايل هــم قــادرون
عــى إدراك احتياجاتهــا بســهولة ،وثانيـاً أن ابســط قوانــن الســوق ســتفرض عليهــم تصنيــع
بضاعتهــم وفــق املواصفــات املطلوبــة مــن املســتهلكني.
عــل كل ذلــك مجــرد افــراض ،والســينام الروســية مل تخــرج مــن أزمتهــا بعد عىل رغــم جميع
العقبــات التــي تجاوزتهــا يف األعــوام األخــرة وتقدميهــا العديــد مــن األفــام املثــرة التــي
نذكــر منهــا« :قبلــة الــدب» لســرغي بــودروف« ،منــزل الحمقــى» الندريــه كونتشالوفســي،
«كوكوشــكا» أللكســندر روكوجكــن« ،الفلــك الــرويس» أللكســندر ســوكوروف« ،لنــارس
الحــب» لدينيــس يفســتغنييف« ،النجمــة» لنيقــوالي ليبــدوف« ،الحرب» أللكــي باالبانوف،
«ال تفكــر بذلــك حتــى» لروســان بالتســر« ،البذلــة» لباختــر خودوينــازاروف« ،مواضيــع
تشــيخوفية» لكــرا موراتوفــا« ،ســاء .طائــرة .فتــاة» لفــرا ســتوروجيفا« ،كوبيــك» إليفــان
ديخوفيتشــني« ،العاشــق» لفالــري تودوروفســي ،و«يف حــراك» لفيليــب يانكوفســي مــن
إنتــاج .2002
أمــا مــن أبــرز أعــال هــذه الســنة فنذكــر «األب واالبــن» اللكســندر ســوكوروف« ،مــع
الحــب ليليــا» لالريســا ســاديلوفا« ،النزهــة» اللكــي أوتشــيتل« ،العجــزة» لغينــادي
ســيدوروف« ،بابوســيا» لليديــا بوبروفــا« ،كوكتيبــل» لبوريــس خليبنيكــوف ،و«العــودة»
131
للمخــرج اندريــه زفياغينتســوف الــذي نــال عنــه األســد الذهبــي يف مهرجــان فينســيا هــذا
العــام .وعــى رغــم أنــه مــن الصعــب التكهــن مبــا ســتقدمه يف الســنوات املقبلــة وإىل أيــن
ســتصل ،لكــن املؤكــد أن هــذه الســينام متتلــك الكثــر مــن مقومــات النهضــة ،ولعــل الســينام
الروســية الجديــدة ال تــزال يف طــور املخــاض ومل تقــل كلمتهــا بعــد يف األلفيــة الجديــدة،
ومنــذ اآلن مثــة مــن يهمــس بـــ «املوجــة الجديــدة» يف روســيا التــي ســترتك تأثريهــا عــى
الســينام األوربيــة بأكملهــا.
132
نقد أفالم
133
اللجاة
إن موضوعــة “قهــر املــرأة” ليســت جديــدة عــى الســينام العربيــة عمومــاً ويف الســينام
الســورية عــى وجــه الخصــوص ،فــا الجديــد الــذي جــاء بــه املخــرج الراحــل ريــاض شــيا يف
فيلمــه اليتيــم “اللجــاة” ،الــذي أثــار منــذ ظهــوره عــام 1993الكثــر مــن اللغــط والجــدال.
هــذا مــا ســنحاول تلمســه يف هــذه املقالــة.
يبــدأ الفيلــم مبشــهد لجنــازة يصــور ثلــة مــن الرجــال يســرون مطأطئــي الــرؤوس خلــف
بعضهــم عــى وقــع صــوت همهمــة وآيــات قرآنيــة .مشــهد ســوف ميهــد للمنــاخ الجنائــزي
العــام الــذي يخيــم عــى أجــواء الفيلــم بأكملــه ،لينتهــي بــذات املشــهد بعــد أن نكــون
قــد أدركنــا جوهــره والشــخوص التــي تقــف خلــف املأســاة التــي أودت إىل هــذه الجنــازة
ببعدهــا الواقعــي والرمــزي معـاً .بعــد ذلــك مبــارشة تأخذنــا الكامــرا لنتعــرف بإيجــاز إىل
أبطــال الفيلــم .العمــة أم متعــب (ثنــاء دبــي) التــي يوصــد قــي وجههــا بــاب ضخــم ملنــزل
أخيهــا .العــم الــذي ترصــده الكامــرا الثابتــة يف لقطــات عامــة قبــل أن تتحــول إىل لقطــة
قريبــة عندمــا يجلــس يف غرفتــه ويتأمــل لوحـاً حجريـاً كبــرا ً ســدت بــه النافــذة لتــي تقــع
أمامــه .ســلمى (حنــان شــقري) التــي تســتعد للنــوم مــع ابنــة عمهــا وتصورهــا الكامــرا مــن
خــارج الغرفــة عــر إطــار النافــذة التــي تبــدو كقضبــان ســجن (مشــهد ســيتكرر أكــر مــن
مــرة للتأكيــد عــى هــذه الداللــة) ،نســمع مــن خاللهــا ســلمى تبــوح بأمنيتهــا الخــروج
134
مــن هــذا املنــزل ،حتــى أنهــا تأخــذ عــى نفســها عهــدا ً (نــذرا ً) بإشــعال عــرة أقــراص
مــن الجلــة عندمــا تتحقــق هــذه األمنيــة (أقــراص يتــم صنعهــا مــن روث الحيوانــات ومــن
ثــم تجفــف وتخــزن الســتخدامها يف املواقــد) .ال ميكــن أن يغيــب عــن الذهــن هنــا الربــط
املتناقــض بــن الرغبــة يف التحــرر مــن جهــة وإشــعال النــار كرمــز غــارق يف املــوروث الدينــي
املاضــوي – األســطوري حــال تحقــق هــذه الرغبــة مــن جهــة ثانيــة .لذلــك يف املشــهد الــذي
يليــه متام ـاً سنســمع ترتيــل لتامئــم دينيــة يقرأهــا صبــي مقعــد مصــاب بالشــلل الســفيل،
ســيتكرر ســاعها عــدة مــرات يف الفيلــم (باإلضافــة إىل مناجــاة القمــر والتبــارك بهاللــه)
وكأنهــا تربــط كل حلقاتــه مــرة بعــد أخــرى يف إطــار هــذا التبايــن ،بــل إن محتــوى التامئــم
نفســها يحيلنــا إىل جملــة مــن املتناقضــات امليتافيزيقــة مــن نــوع “يــا نفــس حتــى متــى
وإىل متــى وأنــت يف عــامل الكــون تطوفــن واردة وصــادرة وذاهبــة وراجعــة ...يــا نفــس
ليــس مــن خليــل تصحبينــه فيخشــن لــك منــه جانــب إال والن لــك منــه جانــب ...معتقــد
لــك الغــدر والخــذالن وأنــت معتقــدة لــه الوفــاء واملســاعدة ...فهــو دامئ ـاً يقابلــك مبــا يف
جوهــره وطبعــه وأنــت دامئ ـاً تقابلينــه مبــا يف جوهــرك وطبعــك ...ثــم يعقبــك بعــد هــذا
كلــه بالقطيعــة الكليــة والفــراق القاطــع عــى غــر جــرم أجرمتــه وال ذنــب جنيتــه وال رش
صنعتــه .“...وكأن هــذه التامئــم ترســم خلفيــة لوقائــع وأحــداث الفيلــم ومصائــر شــخصياته
ببعدهــا الرتاجيــدي وضبــط إيقاعهــا الزمــاين ،بــل إن حالــة العجــز اإلنســاين التــي توحــي بهــا
والعجــز الفيزيولوجــي للصبــي الــذي يقرأهــا يحيلنــا مــن جديــد إىل ذات التبايــن الصــارخ.
135
الكامــرا الثابتــة بدورهــا ســتكون خيــارا ً فني ـاً يصــور أحــداث الفيلــم بأكملــه ،فــا نجدهــا
ترافــق الشــخصيات يف حراكهــم ،يدخلــون الــكادر ويخرجــون منــه ،أمــا الكامــرا فــا تتحرك،
تبقــى ثابتــة عــى تفاصيــل املــكان بحجارتــه الســوداء الكتيمــة وجدرانــه الصامتــة وطرقــه
الوعــرة الضيقــة النــي تحــارص الجميــع حيــث كل يشء يــي بالعزلــة واالنغــاق عــى املــايض
والطقــوس والتقاليــد ورتابــة الحيــاة اليوميــة.
أمنيــة ســلمى ال تفتــأ أن تتحقــق .بضــع مشــاهد موجــزة ومكثفــة وصامتــة .تلتقــي بشــاب
يعجــب فيهــا عنــد نبــع املــاء ،مجموعــة مــن الرجــال بعاممئهــم البيضــاء يدخلــون بيــت
عمهــا ،يــأيت العــم إىل منــزل عمتهــا لي ـاً ويصطحبهــا معــه ...لنصــل إىل مشــهد مفتاحــي
يف إدراك كنــه املأســاة التــي تعيشــها ســلمى ،والتناقــض الــذي ينبــض الفيلــم يف تحــري
أثــاره .فنشــاهدها تبــي يف بدايــة املشــهد ومــن ثــم ميتــزج بكائهــا بالضحــك ،فهــي حزينــة
لزواجهــا بشــخص بالــكاد تعرفــه ويف ذات الوقــت ســعيدة بتحقــق أمنيتهــا بالحريــة ،وهــو
مــا يجعلهــا تفــي بنذرهــا وتشــعل النــار.
طقــوس العــرس والتحضــرات لــه اقتــرت عــى بضــع مشــاهد قصــرة ومختزلــة يف داللتهــا
الرمزيــة وتأويالتهــا كمشــهد االســتحامم ،وتحلــق مجموعــة مــن النســوة حــول منســف
كبــر وتناولهــن اللحــم منــه ،وزغــرودة يتيمــة تخــرق العتمــة والصمــت املطبــق...
يف دارهــا الجديــدة ال تبــدو األمــور كــا متنتهــا ســلمى .تســتمر الحيــاة برتابتهــا اململــة،
وزوجهــا ســعيد مبالمحــه الجامــدة البــاردة ال يبادلهــا أي مشــاعر حــارة أو كلــات (هــو ال
136
ينطــق بكلمــة واحــدة طــوال الفيلــم) ،إىل ذلــك توحــي العديــد مــن املشــاهد بشــبهة عالقــة
جنســية بــن زوجهــا وزوجــة أبيــه الكهــل ،كعناقهــا للــزوج ومحاولــة اســتاملته ملضاجعتهــا
بينــا هــو يغــط يف نــوم عميــق ،نظراتهــا العدائيــة نحــو ســلمى وتلــك املليئــة بالرغبــة تجــاه
ســعيد ،مشــهد ســعيد وهــو يقــود محــراث تجــره الثــران يف الحقــل ،لقطــة مقربــة أليب
ســعيد والدمــوع تنهمــر مــن عينيــه...
ســعيد هــو اآلخــر ال يبــدو راضيــاً عــن حياتــه بفقرهــا ورتابتهــا وهواجســها ،كل ذلــك
تنطــق بــه نظراتــه التــي ترنــو للبعيــد بينــا ســلمى تضــع رأســها عــى كتفــه ،وكأنهــا متهــد
للمشــهد القــادم صباحـاً عندمــا يــرك قميصــه عــى مســار إىل جانــب رسيــر ســلمى النامئــة،
ويغــادر بحقيبــة الصغــرة مبتعــدا ً يف عمــق حقــل الــكادر ،لتعــود الكامــرا بلقطــة قريبــة
عــى القميــص املعلــق وحيــدا ً تهــزه الريــاح كــا هــي الحــال التــي تــرك ســلمى عليهــا متامـاً.
ســيعزز هــذا اإلحســاس مشــهد الحــق تتالعــب قيــه الريــاح بكــرة يابســة مــن القــش...
مــن الصعــب أن نجــزم أيهــا أشــد قســوة كلــات ســلمى التــي تعــر عــن خيبــة أملهــا
الكبــرة بالــزواج الــذي كانــت متنــي نفســها بعــده برؤيــة “نــاس وبــاد ودنيــا” لكــن شــيئاً
مــن هــذا مل يتحقــق ،أم مواســاة عمتهــا أم متعــب لهــا بكلــات“ :مــا يف شــدة عــى مخلــوق
دامــت ...وإن دامــت الشــدة مــا دامــت املــدة ...وإن دامــت املــدة مــا دام صاحبهــا”...
وكأنهــا ترســم املصــر املشــؤوم لســلمى كعرافــة عتيقــة مــن الزمــن الســحيق.
للوهلــة األوىل يبــدو فعــاً أن “الشــدة” يف طريقهــا إىل الــزوال ،واألغصــان اليابســة قــد
137
تخــر مــرة أخــرى عندمــا ستشــاهد ســلمى وجــه املعلــم عبــد الكريــم عــى ســطح املــاء
بالضبــط كــا شــاهدت زوجهــا ســعيد للمــرة األوىل ،مــا يعــزز االعتقــاد أنهــا ليســت مجــرد
نزعــة جامليــة تلــك التــي تقــف خلــف اللقطتــن ،مــن جديــد يســعى املخــرج إىل التكثيــف
الرمــزي الــداليل ألحــد “عنــارص الطبيعــة األربعــة” ،املــاء كعنــر ارتبــط يف امليثيالوجيــا
مبعنــى اإلرواء والخصــب والــوالدة والتجــدد والحيــاة ...فهــل ســتنجدها امليــاه مــن العطــش
كاملــرة األوىل...؟ وإىل متــى...؟
قصــة الحــب التــي يعيشــها االثنــان تصورهــا الكامــرا بلقطــات عامــة تظهــر الســهوب
الشاســعة التــي تحيــط بهــا كفضــاء حــر ال تقيــده أيــة حــدود (كنقيــض للغــرف املغلقــة
واملحــارصة بالحجــارة البازلتيــة الســوداء) .يف ذات الوقــت يبــدوان فيهــا كائنــن صغرييــن
أضعــف مــن أن يحتمــا ثقــل هــذا الفضــاء مبورثاتــه الراســخة كالحجــارة الســوداء الصــاء
التــي تحيــط بهــا .قصــة حبهــا تصطــدم بواقــع أنهــا متزوجــة ،وعليــه ال ميكنهــا أن تتحقــق
إال بالهــروب ،الــذي بــدا لهــا لوهلــة ســهالً وبســيطاً ،ورفــع مــن أمالهــا صديــق عبــد
الكريــم املغنــي حليــم الــذي يعيــش وحيــدا ً ويشــدو مواويــل العشــق ويعــوي مــن حــن إىل
أخــر كالذئــاب ،فيعدهــا أن جميــع مشــاكلهم ســوف تحــل مــا أن يصــا إىل دار الشــيخ أبــو
نايــف صاحــب املنزلــة الكبــرة يف الجبــل.
مــع هــروب ســلمى وعشــيقها مــن الضيعــة تنفجــر كل التناقضــات والتباينــات الراســخة يف
هــذا املجتمــع الصغــر املنغلــق والتــي مهــد الفيلــم لهــا ســابقاً كــا رأينــا ،بــل ولتأخــذ أبعادا ً
138
جديــدة وتكشــف عــن تناقضــات أكــر عبثيــة وســخرية ومــرارة .مــا أن يســمع العــم بهروب
ابنــة أخيــه حتــى يخلــع كوفيتــه ،وهــو فعــل يقــوم بــه مــن أصيــب يف رشفــه ومســت كرامته
بحســب معتقــدات املنطقــة (هــي عــادة قدميــة منتــرة عنــد بعــض العــرب) .يف ذات
الوقــت يســتقبل أبــو نايــف الهاربــن املســتجريين بــه ويؤويهــا يف داره طالب ـاً مــن عبــد
الكريــم أن يعــد ســلمى مبثابــة أختــه طاملــا هــا تحــت ســقف بيتــه ،ويعدهــا بالذهــاب
صباحـاً للتوســط عنــد عمهــا وحــل املشــكلة .أي أن مثــة مخرجـاً للمعضلــة املطروحــة وعــى
أرضيــة ذات التقاليــد واملــوروث والعــادات والديــن .فــا الــذي حــدث؟
يف اللقــاء املنفــرد بــن الرجلــن العــم صيــاح وأبــو نايــف الحريصــن كــا بــدا عــى التمســك
مبقدســاتهم القبليــة ،والــذي تــم تصويــره مــن خــارج مضافــة العــم حيــث ال نســمع الحــوار
بينهــا ،إمنــا نشــاهد مــا حــدث ،وليــس عــى املتابــع أن يكــون مــن أبنــاء املنطقــة أو حتــى
قريب ـاً إليهــا يك يفهــم مــا حــدث :يغــادر العــم الغرفــة تــاركاً الضيــف أبــو نايــف وحــده
فيهــا ،وبعــد لحظــات ينهــض هــذا الضيــف وبغــادر الغرفــة وحــده دون أن يقــم أحــد
مبرافقتــه ووداعــه ،يركــب فرســه ويغــادر مكســورا ً مطأطــئ الــرأس .بعدهــا فقــط نشــاهد
العــم يغلــق نوافــذ منزلــه الواحــدة تلــو األخــرى ،وأخــرا ً يغلــق البــاب الكبــر وراء الضيــف.
وهكــذا دون كلمــة واحــدة نــدرك ليــس فقــط فشــل وســاطة أبــو نايــف ،وانغــاق البــاب
أمــام كل وســاطة ممكنــة يف املســتقبل ،بــل وعــدم اكــراث صيــاح بــذات التقاليــد واألعــراف
التــي بــدا ظاهريـاً أنــه شــديد التمســك فيهــا .وهنــا نصــل إىل جوهــر القضيــة التــي يعريهــا
139
الفيلــم (والتــي مل نصــل إىل ذروتهــا بعــد) ،أال وهــي تلــك االنتهازيــة والنفعيــة واالزدواجيــة
التــي يتــم التعامــل عربهــا مــع مــا يصــور عــى أنــه “مقدســات ال يجــوز املــس بهــا” بــأي
شــكل مــن األشــكال ،ويف ذات الوقــت القيــام بخرقهــا وحرقهــا ومســح األرض بهــا عنــد
الرغبــة والحاجــة .كــا عندمــا ســيقتحم أحــد رجــال العائلــة منــزل العمــة دون اســتئذان،
فتقــوم األخــرة بخلــع منديلهــا عــن رأســها كــا لــو أن الــذي يقــف أمامهــا ليــس رج ـاً
والبصــاق عليــه ،لكــن حتــى هــذا ال يوقــف ثــوران هــؤالء الرجــال فيقتحمــون غرفــة ســلمى
يف بيــت زوجهــا ويقومــون بحــرق أغراضهــا وكأنهــم يتطهــرون بالنــار مــن نجاســتها .أمــا
ذاك املشــهد حيــث يتــم ســحب نعجــة (وحدهــا دون غريهــا) مــن القطيــع ووشــمها يف
وجههــا ،يــأيت يف الســياق التمهيــدي للمصــر الــذي ســتلقاه ســلمى.
أخــرا ً ينقلنــا الفيلــم إىل مســتوى جديــد مــن االنتهــاكات التــي ميارســها “حــراس الهيــكل”
الــذي يدعــون الحفــاظ عــى املقدســات .كــا أنهــم مل يحرتمــوا تقاليــد الضيافــة ســابقاً ،لــن
يحرتمــوا تقاليــد االســتجارة اآلن ،مــع فــارق رئيــي هــذه املــرة ،أولئــك الذيــن ســيقتحمون
دار أبــو نايــف ويخرجــون ســلمى عنــوة منــه ويســحبونها كــا ســحبوا الشــاة يف املشــهد
املــايض ،ويجرونهــا معهــم إىل مصريهــا ليســوا هــم أنفســهم بــل عنــارص الرشطــة ،يف إشــارة
ال تقبــل أي لبــس إىل توافــق مصالــح الســلطة السياســية الســائدة مــع مصالــح الســلطة
الذكوريــة – البطرياركيــة التقليديــة.
وهكــذا يف مشــهد صباحــي تجــر ســلمى مقيــدة اليديــن خلــف خيــول الرشطــة بعــد أن
140
تحــاول ابنــة أيب نايــف عاجــزة الدفــاع عنهــا ،ونلمــح يف لقطــة فريبــة الدمــوع تســيل عــى
وجنــة العجــوز أيب نايــف الــذي طعــن يف عزتــه وكرامتــه ،وتغيــب ســلمى والرجــال الذيــن
يقتادونهــا تدريجيـاً يف الضبــاب ،بينــا يغلــق أبــو نايــف أبــواب بيتــه مــن الداخــل منكفئـاً
عــى انكســاره وظلمتــه ،لينتهــي الفيلــم بــذات األصــوات – الهمهــات الجنائزيــة املبهمــة
التــي بــدأ منهــا.
إذن القضيــة التــي يطرحهــا الفيلــم أكــر مــن مجــرد قصــة حــب خالفــت األعــراف املتبعــة،
وأكــر مــن مســألة “قهــر املــرأة” الــذي تعيشــه يف املجتمعــات املنغلقــة ،الفيلــم ال ينتقــد
تلــك القيــود واألغــال املفروضــة عليهــا تحــت مســميات الديــن أو العــادات أو األعــراف أو
التقاليــد وغريهــا فحســب ،بــل يظهــر مــدى هشاشــة هــذه املنظومــات وتهافتهــا وســقوطها
أمــام املصالــح والنزعــات الشــخصية مــن جهــة ،وارتباطهــا وانســجامها مــع املنظومــة
السياســية املهيمنــة مــن جهــة أخــرى .لكــن األهــم مــن كل ذلــك أن املخــرج اســتطاع أن
ينقــل كل ذلــك ويعــر عنــه بلغــة ســينامئية راقيــة ،تجعــل منــه عالمــة فارقــة يف تاريــخ
الســينام الســورية.
141
«إيجاد فورسرت»
الرصاع واملصالحة مع الذات واآلخرين
روب بــراون ممثــل شــاب يخــوض تجربــة التمثيــل ألول مــرة يف حياتــه ليلعــب شــخصية
جــال وولــز التــي ال تغيــب عــن الشاشــة إال يف بضعــة مشــاهد ،يف فيلــم املخــرج غــاس فــان
ســانت »( «Finding Forresterإيجــاد فورســر) ،وهــو املخــرج الــذي يتذكــره البعــض مــن
خــال فيلميــه » «Drugstore Cowboyو» «My Own Private Idahoاللذيــن قدمهــا
يف نهايــة الثامنينــات وبدايــة التســعينات ،وحقــق معهــا نجاح ـاً نقدي ـاً كبــرا ً ،ليصــل اىل
قمــة نجاحــه عــام 1997عندمــا حصــل عــى جائــزة األوســكار عــن فيلمــه «Good Will
».Hunting
جمال وولـز هـو منـوذج للمعانـاة التـي يعيشـها أي شـاب زنجـي أمريكي يخـرج مـن
األحيـاء الشـعبية ،ليواجـه الحيـاة مـن خلال نظـرة اآلخريـن املتشـككة اىل خلفيتـه العرقية
واالجتامعيـة ،ولكنـه ليـس منوذج بسـيط لهذه الحالة ،بـل أنه منوذج شـديد الخصوصية ،فهو
شـاب متفـوق يف دراسـته ،كاتـب موهـوب ،شـخص واسـع اإلطلاع والثقافة ،وريـايض ماهر.
ورغـم كل ذلـك ال يسـتطيع التخلـص مـن نظرة العـامل إليه .وقد عبر الفيلم عن هـذه الحالة
يف العديـد مـن املشـاهد كانزعـاج جمال من نعتـه بالزنجي ،شـك الربوفيسير يف قدراته عىل
142
الكتابـة ،كلامتـه حـول «تجربتـه الكبيرة يف عـدم مسـاعدة اآلخريـن له»…الخ.
منــذ الدقائــق األوىل للفيلــم يالحــظ وولــز وأصدقائــه يف امللعــب شــخصاً مــا يراقبهــم مــن
نافذتــه غــر البعيــدة ،ليقــرروا بعــد ســيل مــن األقاويــل والشــائعات التــي يتداولونهــا فيــا
بينهــم ،وبكثــر مــن الخــوف التســلل اىل شــقته ومعرفــة هويتــه ،لكــن املهمــة تفشــل ويفقــد
وولــز حقيبتــه يف منــزل الغريــب الــذي يرمــي بهــا إليــه الحقاًعندمــا ميــر تحــت نافذتــه،
ليكتشــف وولــز أن الغريــب قــرأ جميــع كتاباتــه ،ومألهــا مبالحظاتــه الكثــرة.
مــن هنــا تبــدأ العالقــة بــن االثنــن ،وبنفــس الصيغــة الرسديــة املألوفــة للمشــاهدين مبــا
تتضمنــه مــن بدايــة يرفــض فيهــا أحــد الطرفــن التعاطــي مــع اآلخــر ،ومــن ثــم تشــهد
هــذه العالقــة الكثــر مــن التوتــرات والتصاعــد والفتــور ،اىل أن تنتهــي بــأن يصبحــا أفضــل
صديقــن يف العــامل.
فالغريــب هــو ويليــم فورســر( ،اقتبســت شــخصيته عــن الــروايئ األمريــي جــي دي
ســالينجر وأدى دوره املمثــل شــن كونــري) كاتــب نــر روايــة واحــدة يف شــبابه منــذ
أربعــن عامـاً لتصبــح مــن كالســيكيات األدب املعــارص ،ليعيــش بعــد ذلــك يف شــقته منعــزالً
عــن العــامل مكتفي ـاً مبراقبتــه عــر النافــذة ،إىل أن أىت إليــه جــال وولــز .وهكــذا نعيــش
حواريــة ســينامئية سلســة بــن كاتبــن ،أحدهــا وصــل اىل قمــة املجــد والشــهرة لينكفــئ
عــى ذاتــه بعــد ذلــك ،وآخــر مل يــزل يبحــث عــن طريقــه يف الحيــاة واألدب .ليســاعد كل
منهــا اآلخــر بالتدريــج يف الكشــف عــن نواحــي جديــدة مــن شــخصيته ،والنظــر اىل نفســه
143
مــن زاويــة مختلفــة ،مــا يدفعهــا وكل عــى طريقتــه الخاصــة اىل التصالــح مــع الــذات
ومــع العــامل .فيخــرج فورســر يف النهايــة مــن عزلتــه وميــي اىل زيــارة موطنــه يف اســكتلندا،
ويصبــح جــال أكــر قــوة وثقــة باآلخريــن .وقــد اســتطاع املمثــل الكبــر كونــري ،واملمثــل
املبتــدأ بــراون التعبــر عــن الحــاالت النفســية املتنوعــة التــي عكســها فورســر يف عجرفتــه
وغضبــه وكراهيتــه لآلخريــن ،و وولــز يف إظهــار قوتــه وهيجانــه وتخبطــه الداخــي وســكونه
الخارجــي .لكــن البــد مــن التأكيــد بــأن فكــرة هــذه الحواريــة وغاياتهــا ،كانــت أكــر وأعقــد
مــن الصيغــة التــي تجســدت مــن خاللهــا يف الســيناريو ،إذ جــاءت شــديدة االختزال ،مشــبعة
بالتفاصيــل غــر املكتملــة ،وأحيان ـاً غــر الرضوريــة.
أمــا املحــرك الدرامــي األســايس لهــذه الحواريــة ،فقــد تجــى يف حصــول جــال عــى منحــة
دراســية يف مدرســة منهاتــن الخاصــة ،ومواجهتــه املؤسســة التعليميــة والربوفيســور املعتــد
بنفســه روبــرت كروفــورد (ف.مــوري أبراهــام) لدرجــة رفضــه أي نقــد يوجــه لــه ،كنمــوذج
منطــي للــر قلــا تســتغني عنــه الســينام األمريكيــة .وتبلــغ الحبكــة ذروتهــا عندمــا يســتعري
جــال عنــوان مقالــة لفورســر نــرت منــذ زمــن طويــل ،فيكتشــف كروفــورد ذلــك،
ويطلــب مــن جــال كتابــة رســالة اعتــذار وقراءتهــا أمــام الطــاب .فيســأل جــال ـ الــذي مل
يكــن عــى علــم أن املقالــة التــي أنتحــل عنوانهــا قــد نــرت ـ مــن صديقــه فورســر التدخــل
والتأكيــد للجميــع أن املوضــوع مــن تأليفــه ،لكــن الكاتــب الكبــر يرفــض ذلــك يك ال يكشــف
عــن نفســه بعــد كل هــذه الســنني ،فيغضــب جــال ويتهــم فورســر بالجــن إزاء الخــروج
144
مــن حجرتــه ومســاعدة اآلخريــن ،رغــم أنــه ال يتــواىن عــن تقديــم شــتى النصائــح األخالقيــة
لــه ،غمــن دون هــؤالء «اآلخريــن» ال معنــى لكتاباتــه التــي ال يقرأهــا أحــد…
وتتصاعــد الحبكــة عندمــا يقــوم مجلــس اإلدارة بعقــد «صفقــة» مــع جــال ،مفادهــا أن
املجلــس ســيغض البــر عــا حــدث إذا مــا اســتطاع جــال مــع فريــق املدرســة لكرة الســلة
الفــوز بالبطولــة ،ولكــن مــع نهايــة املبــاراة ،التــي توقفــت نتيجتهــا عــى رميــات جــال
الفاشــلة األخــرة ،نــدرك أنــه رفــض الصفقــة ،رفــض املســاومة عــى الحقيقــة ،وقــرر أن
يخــر املبــاراة ويربــح نفســه.
يصبــح واضحـاً أن ال مفــر أمــام جــال إال االعتــذار العلنــي ،بنفــس القــدر الــذي يغــدو فيــه
واضحـاً للمشــاهدين أن مثــل هــذا االعتــذار لــن يحــدث أبــدا ً .فــا ال شــك فيــه أن الكاتــب
العجــوز فورســر ســيتدخل يف اللحظــات األخــرة وينقــذ صديقــه الشــاب ،ومــا أن يحــدث
ذلــك حتــى نكتشــف أنــه بخروجــه اىل العــامل مل ينقــذ صديقــه فحســب ،بــل ونفســه كذلــك.
145
«تهريب»
الزوايا القذرة لحرب املخدرات
«تهريــب» فيلــم يصــور مالمــح الحــرب ضــد املخــدرات مــن خــال نظــرة شــمولية تعالــج
مختلــف جوانــب هــذه الظاهــرة ومســتوياتها :ارتبــاط السياســة باملافيــا ،األســاليب التــي
يتبعهــا رجــال األمــن يف محاربتهــا ،الفســاد املســترشي يف أوســاط الرشطــة ،قنــوات التوزيــع
والبيــع ووســائل التهريــب ،الــراع بــن العصابــات ،وصــوالً إىل الضحايــا الذيــن يشــكل
مدمنــي املخــدرات الشــباب الجــزء األهــم منهــم.
يقــوم الفيلــم بعــرض ثالثــة محــاور منفصلــة ،تشــكل مبجموعهــا لوحــة بانوراميــة متكاملــة
عــن عــامل املخــدرات .ويف كل مــن هــذه الخطــوط الثــاث نســتطيع أن نتلمــس مســتويني
مــن مقاربــة املوضــوع .املســتوى األول يتوقــف عنــد الشــخصيات املركزيــة الفاعلــة يف
الــراع وعواملهــا :مديــر مكافحــة املخــدرات ،الجــرال املكســييك ،زعيــم مافيــا .والثــاين
يصــور الشــخصيات التــي تصطــدم بصــورة مبــارشة مــع هــذا العــامل :رجــال الرشطــة ،ابنــة
الســيناتور ،الشــاهد ،القاتــل املأجــور… .وقــد ســمح هــذا املدخــل إىل املوضــوع بالكشــف
عــن التناقضــات الكبــرة الواقعــة بــن هذيــن املســتويني ،والتفاصيــل الكثــرة املرتبطــة بهــا.
إذ يف الوقــت الــذي يســقط فيــه العــرات مــن رجــال الرشطــة املكســيكيني يف حربهــم
146
ضــد املخــدرات ،وال يتــواىن بعضهــم كالضابــط خافيــر رودريغــوس (ديــل تــورو ـ أوســكار
أفضــل دور ثانــوي لعــام )2001عــن املخاطــرة بحياتــه يف ســبيل القبــض عــى قاتــل مأجــور
خطــر .نكتشــف باملقابــل تعامــل العــرات غريهــم مــع املهربــن ،ليبــدو «كمتعهديــن يف
املكســيك» .وتصــل الفجيعــة إىل قمتهــا عندمــا نعلــم أن الجــرال ســاالزار (تومــاس ميليــان)
نفســه ـ الــذي نعتقــد يف البدايــة مــن خــال مالحقتــه لألشــخاص املتورطــن بقتــل رجالــه يف
مقاطعــة تيخوانــا ،أنــه مناضــل رشس يف مواجهــة تجــار املخــدرات ـ يهــدف مــن وراء تصفيته
لتكتــل تيخوانــا ،إىل احتــكار تكتــل خواريــز لســوق املخــدرات .أمــا مــن يحــاول ترسيــب
معلومــات إىل إدارة مكافحــة املخــدرات األمريكيــة «مــن أجــل حفنــة مــن الــدوالرات»
فمصــره رصاصــة يف الــرأس فحســب ،كــا حــدث مــع صديــق خافيــر الرشطــي مانولــو
سانشــيز (جيكــوب فارغــاس).
يف املحــور الثــاين نالحــظ أن منــذ اللحظــة التــي يتســلم فيهــا الســيناتور روبــرت هدســون
ويكفيلــد (مايــكل دوغــاس) منصــب رئيــس مكافحــة املخــدرات نجــده يصطــدم مبجموعــة
مــن املعطيــات القاســية واملتناقضــة ،فيظهــر اهتــام الدولــة منصب ـاً بالدرجــة األوىل عــى
الجانــب الربوتوكــويل والدعــايئ ـ الســيايس لهــذا املنصــب ،وليــس عــى أهميتــه يف «مكافحــة
املخــدرات» ،وال يبــدو أن السياســيني متفائلــن يف هــذه الحــرب عــى اإلطــاق ،مــادام أن
25%مــن الطــاب يتعاطــون املخــدرات ومــادام أن معاهــد التأهيــل مل تعــد تجــدي نفع ـاً
مــع املدمنــن .أمــا االصطــدام األكــر الــذي يواجهــه الســيناتور ،فيبــدأ عنــد اكتشــافه إلدمــان
147
أبنتــه كارولــن ( إريــكا كريستينســن) عــى املخــدرات .ويف الواقــع إن الســؤال الــذي تطرحه
املحققــة عــى كارولــن عــا يدفعهــا إىل املخــدرات رغــم أنهــا تعيــش حيــاة مســتقرة
ألبويــن ميســوري الحــال ،ولديهــا معــدل درايس ممتــاز ،ومتــارس عم ـاً تطوعي ـاً ،وتشــارك
يف جميــع أنشــطة املدرســة الرياضيــة واالجتامعيــة… هــو ســؤال عــن األســباب الحقيقيــة
التــي تدفــع أعــدادا ً كبــرة مــن الشــباب األمريــي إىل عــامل املخــدرات .ســؤال نســتطيع أن
نستشــف اإلجابــة عليــه مــن خــال ذلــك الحــوار الــذي يجــري بــن كارولــن وأصدقائهــا،
حيــث نكتشــف الخــواء الروحــي املعشــش يف داخلهــم ،وعــدم قدرتهــم عــى رؤيــة هــدف
مــا لحياتهــم يف ظــل الفــراغ املحيــط بهــم والرتابــة التــي تخنقهــم وكراهيتهــم لــكل يشء،
لتمــي املخــدرات الشــكل األمثــل مــن وجهــة نظرهــم للتعبــر عــن وجودهــم ،والتواصــل
مــع متعــة الحيــاة.
وهكــذا يقــع الســيناتور يف تناقــض كبــر بــن منصبــه ومــا ميليــه عليــه مــن اجتامعــات
ومباحثــات ولقــاءات ال تنتهــي مــع شــخصيات كبــرة ومؤسســات ضخمــة يف حربــه ضــد
املخــدرات ،وبــن ضعفــه وعجــزه عــن إنقــاذ ضحيــة واحــدة لهــذه الحــرب أال وهــي ابنتــه،
ليعــرف يف النهايــة خــال مؤمتــر صحفــي أنــه أمــام حقيقــة وجــود أفــراد مــن عائالتهــم
متورطــن يف عــامل املخــدرات ال يــدري كيــف ميكــن لهــم أن يشــنوا حرب ـاً ضــد أنفســهم.
أمــا يف املحــور الثالــث فنجــد أن الشــخصية األساســية املتمثلــة بزعيــم املافيــا كارلــوس أيــاال
(ســتيفن بــاور) ،تبقــى دامئ ـاً مبنــأى عــن معانــاة الشــخصيات املشــاركة يف الــراع ســواء
148
تلــك التــي تعمــل معهــا أو ضدهــا .ولــن يتغــر األمــر حتــى عندمــا يلقــى القبــض عليــه
ويقــدم إىل املحاكمــة اســتنادا ً لشــهادة أحــد رجالــه ضــده .فرجــل الرشطــة والقاتــل املأجــور
والشــاهد وصديقــه املقــرب آرين (دينيــس كيــد) جميع ـاً يقتلــون يف مراحــل مختلفــة مــن
هــذا الــراع ،حتــى زوجتــه هيلينــا (كاتريــن زيتــا ـ جونــز) تجــد نفســها يف مــأزق أمــام
مطالبــة رجــال العصابــات بدفــع مبالــغ مســتحقة عــى زوجهــا ،ومحاولتهــا إنقــاذ العائلــة
مــن االنهيــار .أمــا هــو فيعــود إىل بيتــه يف النهايــة ويتابــع حياتــه كأن شــيئاً مل يكــن ،يف إشــارة
واضحــة إىل عجــز أجهــزة الدولــة عــن الوصــول إىل رؤوس املافيــا.
رغــم أن املحــور املتعلــق بعمــل رئيــس مكافحــة املخــدرات وإدمــان أبنتــه هــو األطــول
بــن املحــاور الثــاث مــن حيــث عــدد املشــاهد ،غــر أننــا نالحــظ عمومـاً توازنـاً يف إيقاعهــا،
وتوازيــاً مدروســاً بدقــة يف ســرورتها .ويف الواقــع إن هــذه املحــاور الثــاث مل ترتبــط
ببعضهــا مــن ناحيــة املوضــوع فحســب ،بــل ومــن خــال الشــخصيات الفاعلــة فيهــا كذلــك.
فمنــذ اللحظــة التــي يبــارش فيهــا ويكفيلــد عملــه ،يشــر إليــه معاونــه أن نقــاط تركيزهــم
هــي املكســيك تحديــدا ً ،ويف عــدة مشــاهد متفرقــة مــن هــذا الخــط ســتكون املكســيك
وتكتالتهــا اإلجراميــة والعمــاء الرسيــون الذيــن ميكــن التعامــل معهــم يف داخلهــا محــور
اهتــام رئيــس مكافحــة املخــدرات.
أمــا التداخــل الحقيقــي األول فيبــدأ عنــد لقــاء خافيــر مــع العمــاء األمريكيــن ،وبعــد ذلــك
ويكفيلــد مــع ســاليزار يف املكســيك ،ومــن ثــم لقــاء هيلينــا مــع القاتــل املأجــور فرانــي،
149
األمــر الــذي يــؤدي فيــا بعــد إىل مقتلــه عــى يــد مــن وىش بهــم مــن العصابــات املكســيكية.
وأخــرا ً مقابلتهــا ـ بعــد مشــهد عــام متــر فيــه مــن أمــام خافيــر ـ لتجــار املخــدرات يف
تيخوانــا والوصــول معهــم إىل اتفــاق يخولهــا (وزوجهــا) أن تكــون املــوزع الحــري
لبضاعتهــم يف الواليــات املتحــدة ،ليقــرر خافيــر يف املشــهد الــذي يليــه مبــارشة التعــاون
مــع إدارة مكافحــة املخــدرات األمريكيــة .وتظهــر النتيجــة املبــارشة لهــذه اللقــاءات األخــرة
جميعـاً بعــد بضعــة مشــاهد ،فيقتــل الشــاهد ويخــرج كارلــوس مــن ســجنه ،ويقتــل ســاليزار
ويقبــض خافيــر عــى مجموعــة إجراميــة مــن تجــار املخــدرات.
ال بــد يف النهايــة مــن اإلشــارة إىل أن ذلــك التنــوع األســلويب الــذي أتبعــه املخــرج الشــاب
ســتيفن ســوديربرغ يف «تهريــب» ـ بــدءا ً مــن اللقطــات العامــة لشــخصيات قليلــة داخــل
معســكر ســاليزار ،والتداخــل الصــويت بــن املشــاهد ،واملونتــاج املتداخــل ملشــهد كارولــن
وأصدقائهــا وهــم يرثثــرون تحــت تأثــر املخــدرات ،إىل املشــهد الصامــت للقــاء خافيــر مــع
الصحافيــن ـ كان مــن املمكــن أن يخــل كثــرا ً بتــوازن أســلوبية الفيلــم لــوال زمنــه الطويــل
( 147د) ،الــذي قــد تصــب مثــل هــذه التنويعــات يف صالحــه مــن جهــة التشــويق.
150
أطفال شاتيال
رغــم كــرة األفــام التســجيلية التــي تبثهــا املحطــات التلفزيونيــة يف العــامل ،إال أن معظــم
هــذه األفــام يتســم بطابــع أخبــاري بحــت ،غالب ـاً مــا تغيــب عنــه اللمســات اإلبداعيــة،
التــي مــن شــأنها أن ترتقــي بالشــخصيات واألحــداث الواقعيــة مــن مســتواها «الــردي»
واملعلومــايت البســيط ،إىل مســتواها الــداليل العميــق الــذي يقــوم عــى ســر أبعادهــا
اإلنســانية والروحيــة والجامليــة ،أي كل مــا جعــل الســينام التســجيلية وال يــزال فنـاً راقيـاً.
فالســينام التســجيلية هــي «فــن الحقيقــة» ،الــذي ال يجعلنــا نعــي الوقائــع فحســب ،بــل
ونتواصــل بأحاسيســنا مــع كل جــزء منهــا ،حيــث تتجــرد الرؤيــة مــن حيادهــا ،لتســتحيل إىل
نــوع مــن املعايشــة الصادقــة ،والتأمــل يف الــرط الوجــودي لإلنســان .وهــذا بالضبــط مــا
تدعونــا إليــه املخرجــة اللبنانيــة مــي املــري يف فيلمهــا التســجييل القصــر «أطفال شــاتيال».
الشــك أن العنــوان وحــده كفيــل بإنعــاش ذكريــات قاســية مــن فصــول املأســاة الفلســطينية.
ذكريــات ال تــزال تفتــح البــاب أمــام أســئلة كثــرة ،قــد ال يســتطيع أي فيلــم يف الوقــت
الراهــن طرحهــا… لكــن الفيلــم يتجــاوز دهاليــز الصمــت والسياســة ،لريســم مالمــح عــامل
يفــرض أننــا نعرفــه ونــدرك كنهــه ،فأبطــال الفيلــم أطفــال ،يشــبهون كل األطفــال يف العــامل.
ذلــك مــا يخيــل لنــا للوهلــة األوىل ،إال أننــا بالتدريــج… وكلــا أوغلنــا الرؤيــة يف دروب هــذا
151
العــامل ،وبينــا منــي مــع الطفلــن عيــى وفــرح عــر املشــاهد املتتاليــة التــي تبــدو كفيــض
مــن اآلالم املرتاكمــة ،تتملكنــا قناعــة بائســة بالغــن ،إذ نــدرك فجــأة ضحالــة معارفنــا بعــوامل
الطفولــة!! وقــد يتســاءل البعــض فيــا لــو كانــوا أولئــك أطفــاالً حقـاً.
األطفــال يف الفيلــم ليســوا مجــرد كائنــات صغــرة ،أو رمــوز تحــاول اختــزال مأســاة مباضيهــا
وواقعهــا ،بــل أنهــم يتعــدون ذلــك بكثــر ،ليمســوا التجســيد الحــي واليومــي للذاكــرة
والواقــع واألحــام التــي فجرتهــا هــذه املأســاة ،والتــي اســتطاع الفيلــم أن يعكــس بشــفافية
عاليــة مالمحهــا والرتابــط العضــوي لــكل امتداداتهــا الزمنيــة ،يف وعــي يفــرض أنــه مل يــزل
يف طــور التكويــن ،ليصعقنــا بعمــق واتســاق تكوينــه.
تواجهنــا الذاكــرة يف الفيلــم منــذ املشــهد األول ،فمــن لقطــة بانوراميــة عامــة للمخيــم،
تتوقــف الكامــرا أمــام طفــل يــروي لنــا «متذكــرا ً» وهــو يشــر إىل مــكان املجــزرة كيــف
كانــت اآلليــات تحمــل الجثــث املرتاميــة عــى طــول الشــارع وترمــي بهــا يف الحفــر ،وبينهــا
كانــت خالتــه التــي أطاحــت برأســها بلطــة ،ونتســاءل أمل تفتــه حقـاً مشــاهدة طقــوس زراعة
القتــل ومواســم حصــاد الجثــث يف املخيــات؟ رمبــا… لكــن أال يعنــي ذلــك أن أطفــاالً كانــوا
يف عمــره عندمــا شــاهدوا بأعينهــم الربيئــة كل هــذا… ومــا زالــوا يتذكــرون؟
بعــد لقطــات وثائقيــة الجتيــاح بــروت ،وأخــرى ملــا خلفتــه املجــزرة مــن آالم ورصخــات
وجثــث وذهــول ...تطــل عــى خلفيــة الشــارة رؤوس األطفــال مــن فجــوات جــدار مهــدم
مــزق وجهــه الرصــاص ،ومــن بينهــا نلمــح عيــى ـ لكننــا ال نعــي بعــد أنــه ســيكون إحــدى
152
الشــخصيات املحوريــة يف الفيلــم ،إذ يختلــط عيــى يف اللقطــة مــع أطفــال آخريــن ،فهــو
مجــرد واحــد منهــم ،والحالــة التــي ميثلهــا بــكل أبعادهــا متســهم جميعـاً بصــورة أو بأخــرى.
ومــع املشــهد التــايل مبــارشة نبــدأ بالتعــرف عليــه عــن كثــب :والــده أصيــب بالشــلل
وتعــذب ومــات .ويؤكــد أنــه مــات «لحالــو»… وكأنــه يتكلــم عــن حالــة اســتثنائية للمــوت
الــذي ارتبــط يف وعيــه بســبب أكــر إقناع ـاً يدعــى القتــل.
يف وقفــة العيــد ميضــون جميع ـاً لزيــارة أرضحــة ضحاياهــم ـ يتابــع عيــى ـ ومــن جديــد
وســط األطفــال الذيــن يزينــون مواقــع األرضحــة نلمــح الطفلــة فــرح كأي فــرد منهــم.
فالفيلــم مل يشــأ أن يرســم صــورة مجــردة ،أو متجزئــة لعــامل الطفولــة هــذا ،عــر حــوارات
انتقائيــة لعــدد كبــر مــن األطفــال ،لكنــه اســتطاع تقديــم صــورة حيــة ومتكاملــة «ملواطنني»
فحســب مــن ســكان هــذا العــامل ،مــا جعلــه أشــد مصداقيــة ،وأكــر عمقـاً وتأثــرا ً .و بصورة
دامئــة كان يذكرنــا بشــمولية الحالــة ،عــن طريــق انتقالــه مــن «العــام» املتمثــل بحشــود
األطفــال إىل «الخــاص» املتجســد يف شــخصيتي عيــى وفــرح وبالعكــس.
مـع ظهـور كاميرا الفيديـو بين أيديهـم ـ التـي عكسـت رؤيتهـم الخاصـة إىل العـامل املحيـط
بهـم ،ومـا يشـعرون برغبـة يف تثبيته وحفظه يف الصـورة ،وكأنهم يحاولون بهـذه الطريقة أال
تضيـع منهـم بعـض الوجـوه واألشـياء واللحظـات الحميمة ـ نبدأ يف مالمسـة مسـتوى جديد
مـن الذاكـرة ،أو مفهـوم أكثر تعقيـدا ً ميكننـا أن نطلـق عليه أسـم (الذاكرة املشتركة) ،حيث
يبعـث مـايض األجـداد يف ذاكرة األطفال ،لتتحـول ذاكرة الجيلني إىل ذاكـرة واحدة ال تنفصم.
153
تنتقــل كامــرا الفيديــو بــن أيــدي األطفــال ،لنشــاهدهم مــن خــال عدســتها املضطربــة،
التــي تتوقــف أخــرا ً أمــام عجــوز يجيبهــم عــى أســئلتهم متذكــرا ً إحساســه يــوم غــادر
فلســطني ،والصعوبــات التــي واجهتهــم يف درب الهجــرة ،واألطفــال والعجائــز الــذي ســقطوا
مــن اإلعيــاء ،وبدايــات تشــكيل الفصائــل الثوريــة .وفيــا بعــد عندمــا تصــل هــذه الكامــرا
إىل يــد عيــى ...نشــاهد القصــة ذاتهــا تتكــرر :عدســة مضطربــة تعــر وجــوه أصدقائــه يف
الورشــة ،ووجــوه األطفــال يف الشــارع ،ومــن ثــم يهــرع إىل جــده ليســأله إن كان يحــب
العــودة إىل فلســطني.
لقــد اســتطاعت املخرجــة أن تخلــق املعــادل البــري املنســجم متامـاً يف دالالتــه مــع فكــرة
(الذاكــرة املشــركة) بــن األجيــال ،وذلــك باســتخدامها للمونتــاج غــر املتطابــق يف الصــوت
والصــورة ،ففــي حــن نشــاهد جــد عيــى يبيــع امليــاه والحلويــات يف دكانــه الصغــرة،
نســمع يف نفــس الوقــت صــوت عيــى الــذي يخربنــا أن امليــاه تــأيت صفــراء وقــذرة إىل
شــاتيال .ومــن ثــم نشــاهد عيــى جالسـاً يصغــي إىل جــده ،ليعــود ويطغــى صــوت عيــى،
مشــكالً جــرا ً ننتقــل مــن خاللــه إىل غرفــة «اعرتافاتــه» ،حيــث يتابــع تفاصيــل حديثــه مــع
الجــد ،ونعــود مــرة أخــرى إىل غرفــة الجــد وهــو يتابــع الحديــث بصوتــه ،لكــن املشــهد
يختتــم كــا بــدأ بصــوت عيــى .وهكــذا تنســاب الذكريــات يف كال االتجاهــن مــن صــورة
إىل أخــرى ومــن صــوت إىل آخــر ،وكأنهــا بهــذه الحركــة تثبــت وجودهــا مؤكــدة عــى أنهــا
حيــة وباقيــة مــادام بقــي هــؤالء األطفــال أحيــاء.
154
إن هــذا األســلوب مل يرتبــط مبشــهد بذاتــه يف الفيلــم ،بــل امتــد ليحيــط بالنســيج الدرامــي
للفيلــم بأكملــه ويحــدد إيقاعــه .فبنفــس اآلليــة نتابــع الذاكــرة يف تنقلهــا بــن فــرح وجدتهــا،
التــي كانــت يف الرابعــة مــن عمرهــا عندمــا أتــت إىل لبنــان مــع أهلهــا ،فعندمــا ســمع
جدهــا مبجــزرة ديــر ياســن خــاف عــى أطفالــه «قــام قــال لــروح ع لبنــان بتكــون هديــت
األحــوال…» وتنهــي فــرح املشــهد بكلامتهــا…« :وبعدهــن لهلــق بقولــوا بكــره مرنجــع ع
فلســطني».
ونالحــظ أن هــذه الجمــل املونتاجيــة الثالثــة :األطفــال والعجــوز ،وعيــى وجــده ،وفــرح
وجدتهــا ،رغــم أنهــا ال تتبــع بعضهــا مبــارشة ،إال أن ارتباطهــا كان واضحـاً متامـاً ســواء مــن
ناحيــة الشــخصيات (األطفــال والعجائــز) أم الحــدث الــذي تســتنهضه ذاكرتهــم املشــركة
عــا دفعهــم للخــروج مــن فلســطني.
وقبــل أن تأخذنــا املخرجــة إىل ذاكــرة أكــر حضــورا ً ،تعــود لتؤكــد عالقــات الخــاص والعــام
يف الفيلــم وتشــابكها .فمــن املشــهد الــذي نــرى فيــه عيــى وفــرح مع ـاً ألول مــرة ،تنقلنــا
مبــارشة إىل مشــهد نراهــا فيــه يلعبــان مــع أطفــال آخريــن .وبعــد ذلــك فقــط نســمع
صوتيهــا وهــا يســتحرضان الذاكــرة يف مشــهدين منفصلــن يجمعهــا «الحــدث» مــن
جديــد.
تخربنــا فــرح عــن مقتــل خاليهــا محمــد وأحمــد يف حــرب املخيــات ،لتتابــع أمهــا التفاصيــل
املؤملــة :لقــد استشــهد أخاهــا محمــد قبــل أن تتــم فــرح عامهــا األول بأربعــة أشــهر ،دون أن
155
يســتطيع الوفــاء بوعــده عنــد والدتهــا ،واالحتفــال بعيــد ميالدهــا… تتوقــف الكامــرا عــى
وجــه فــرح التــي يبــدو أنهــا كــرت كثــرا ً منــذ ذلــك الحــن ،ودون أن تحظــى بعيــد ميــاد
واحــد للذكــرى ،فمثــل هــذه الذكريــات ليســت لفــرح ،التــي تحتفــظ بــدالً عنهــا بصــورة
مــن إحــدى الصحــف لعمتهــا التــي استشــهدت يف االجتيــاح اإلرسائيــي وقــد كتــب فوقهــا
«األم تستشــهد والطفــل يولــد حيـاً».
أمــا عيــى فيجلــس مــع جــده ،صوتاهــا يتداخــان ،يتذكــران شــهداءهام أمــام صــور كبــرة
لهــم ،فخالــه أحمــد كان واحــدا ً مــن ضحايــا املجــزرة ،وخالــه محمــد قطعــت قذيفــة رقبتــه،
وعمتــه نعمــت ســقطت بطلقــة طائشــة… وال يخلــو تشــابه أســاء خــايل فــرح وعيــى مــن
داللتــه الرمزيــة حــول شــمولية الحالــة ،والتــي يؤكدهــا الجــد يف نهايــة املشــهد بقولــه أن يف
كل البيــوت شــهداء…
هكــذا يصبــح األطفــال يف الفيلــم ذاكــرة حيــة ملأســاة عمرهــا خمســون عامـاً ،ذاكــرة تزخــر
بالجثــث املشــوهة واألحــزان ،بصــور التهجــر واملقاومــة ،وصــور الشــهداء املعلقــة عــى
الجــدران الكئيبــة ،وقــد احتفظــوا بقصــة عــن كل منهــا ،ويف كل واحــدة تعرفــوا عــى وجــه
للمــوت مغايــر للــذي ســبقه يف تقاســيم القباحــة والقســوة والوحشــية.
ذاكــرة كل مــا فيهــا مــؤمل ومرعــب ،لكــن األمل مل يعــد يخيــف الفلســطينيني ،لقــد اعتــادوه
وألفــوه منــذ زمــن بعيــد ،أو يخــال إلينــا أنــه بعيــد ،وأمــى جــزءا ً مــن طعامهــم ورشابهــم
وأحاديثهــم وضحكاتهــم وأغانيهــم ،لقــد أمــى جــزءا ً مــن جيناتهــم ،وأطفالهــم يحملونــه
156
اليــوم وســيحملونه طوي ـاً مبحــض الوراثــة ،ولعــل يف هــذا يكمــن اللغــز يف قــدرة هــؤالء
األطفــال عــى العيــش مــع كل هــذه الذاكــرة.
لقــد اســتطاع الفيلــم عــر الكثــر مــن التفاصيــل الصغــرة أن يرســم بصــورة دقيقــة مالمــح
الواقــع الــذي يعيــش يف خضمــه أطفــال شــاتيال ،هــذه املالمــح التــي كانــت تنتصــب عــى
خلفيــة مشــاهد الفيلــم حين ـاً ،وتغــدو موضوع ـاً للمشــهد نفســه حين ـاً آخــر ،وصلــت إىل
ذروة العمــق والتعبــر يف مجموعــة مــن املشــاهد املتفرقــة التــي شــكلت خطــاً دراميــاً
متكام ـاً يف غاياتــه ،يقــوم عــى رصــد لحظــات الســعادة العابــرة التــي يحــاول األطفــال
رسقتهــا مــن براثــن هــذا الواقــع ،كالنزهــة عــى عربــة الطفــل غــازي الــذي يعمــل يف نقــل
الرمــال والحجــارة وبيعهــا ألصحــاب البيــوت املهدمــة ،أو مشــاهدة فرقــة اســتعراضية
أتــت مــن أوربــا ليــوم واحــد ومضــت ،وغريهــا مــن املشــاهد التــي منحهــا ثقلهــا الدرامــي
وقوتهــا مشــهد أويل يــرز بوضــوح ذلــك التبايــن الصــارخ بــن مــا قــد توحيــه إلينــا عيــون
األطفــال الفرحــة وابتســاماتهم وضحكاتهــم مــن وهــم الســعادة ،وبــن اإلحســاس الحقيقــي
بــاألمل الكامــن يف أعامقهــم .ونقصــد تحديــدا ً مشــهد اســتئجار عيــى لدراجــة يلهــو بهــا،
فــإذ نشــاهده يعــر بدراجتــه خرائــب املخيــم وشــوارعه القــذرة واملوحلــة ،نســمع صوتــه
يخــرق املشــهد… ونعلــم أن مثــة لحظــات تتملــك فيهــا الكراهيــة هــذا الطفــل نحــو كل يش:
البيــت واآلخريــن وحتــى نفســه ،ليلعــن اللحظــة التــي جــاء فيهــا إىل هــذا العــامل .يعــرف
عيــى بهــذه الحقيقــة ،لنكتشــف أن الخرائــب التــي تعشــش يف روحــه أكــر بكثــر مــن تلــك
157
التــي نراهــا يف كل بيــت وســاحة وزاويــة للمخيــم ،وأن مــا يبــدو لنــا كشــكل للفــرح ليــس
إال ألوان ـاً زاهيــة للحــزن.
لقــد قــدم الفيلــم صــورا ً متعــددة عــن أقــى مــا ميكــن أن يحظــى بــه أطفــال شــاتيال مــن
الفــرح يف ظــل واقعهــم ،وجعلنــا نالمــس االنكســارات الكبــرة التــي خلفهــا هــذا الواقــع يف
نفوســهم ،لنســتنتج بأنفســنا الحجــم املأســاوي ملعاناتهــم.
الفيلــم الــذي بــدأ مبشــاهد مفتوحــة عــى ذكريــات املــايض ،انتهــى مبشــاهد األحــام املرشعة
عــى املســتقبل .ومل تفــرض هــذه الصيغــة نفســها كإطــار زمنــي ذي قيمــة شــكلية للفيلــم
فحســب ،بــل تجــاوزت ذلــك للتعبــر عــن التداخــل العضــوي لجميــع مســتويات الزمــن
يف وعــي األطفــال .فالفيلــم كــا قــام بالربــط بــن الذاكــرة والواقــع ،قــام بواســطة هــذه
الصيغــة بالربــط بــن الحلــم والذاكــرة مــن جهــة ،والحلــم والواقــع مــن جهــة أخــرى.
فمــن إحــد املشــاهد األوىل يف الفيلــم ،تظهــر حــوارت األطفــال مــع العجــوز ،وهــي تحمــل
أســئلة عــن املــايض ،وأســئلة للمســتقبل يف آن واحــد .ومــع هــذه األســئلة األخــرة يبــدأ
الفيلــم يف رســم األحــام املشــركة ،كــا رأينــاه يرســم الذاكــرة املشــركة .فرغــم إحساســه
الداخــي أن شــخصاً يف مثــل عمــره قــد ال يــرى فلســطني أبــدا ً ،يقــول العجــوز لهــم أنــه لــن
يفقــد األمــل حتــى ولــو بلــغ املائــة ،وال يتــواىن حتــى عــن إخبارهــم مبشــاريعه الكبــرة عنــد
العــودة ،إذ كل مــا يســتطيعه اآلن هــو اإلبقــاء عــى الحلــم ،وبعثــه يف أرواحهــم .لتنتهــي
اللوحــة مــع مشــاهد الفيلــم األخــرة حيــث نعيــش الحلــم ذاتــه مجــددا ً ،لكــن هــذه املــرة
158
مــع األطفــال ،وهــم يرســمون فلســطني التــي يحلمــون بإعــادة كل يش فيهــا إىل مــا كان
عليــه :األرض والبيــوت ،بــل وحتــى «النــاس يــي أكلوهــن… يرجعوهــن زي مــا كانــوا».
ومــع كلــات عيــى األخــرة« :بلــي لقيــت العصافــر هنيــك غــر هــدول… هلــق عنــدك
عصفــور بتعــرف العصفــور يــي بــره شــو بــدو يكــون لونــو… بتمنــى أنــو يرجعونــا عالبلــد
يــي ألنــا» ،نشــاهد فــرح أمــام لوحــة جداريــة تعــج باأللــوان الصارخــة الزاهيــة لفلســطني
كــا يحــب هــؤالء األطفــال أن يروهــا .فالحلــم هنــا ال يــرز كامتــداد للذاكــرة فحســب ،بــل
وكبديــل بصورتــه الجميلــة للواقــع البشــع ،الــذي أخــذ يصــوغ حتــى أحالمهــم الشــخصية.
فــإذا كانــت فــرح تحلــم يف أن تصبــح طبيبــة ،فذلــك ألنهــا تكــره رؤيــة الصغــار يتأملــون،
وهــي إذ تــرى أطفــاالً ينتشــلون املالبــس مــن وســط القاممــة ،وآخريــن يعملــون يف تصليــح
األحذيــة ،تعلــم كــم مــن الصغــار يف املخيــم يتأملــون .ولعــل هــذا القبــح هــو الــذي يدفــع
بهــا يف بعــض األحيــان إىل إغــاض عينيهــا عــن العــامل لرؤيــة األطيــاف الجميلــة املرتاقصــة
يف العتمــة… كــا تدفــع عيــى للحلــم بــأن يكــون أمــرا ً يقــود فرســه يف الشــوارع ويــوزع
األمــوال عــى النــاس .األطفــال هــم الركــن األشــد ظلمــة يف املأســاة ،ولكــن مــن هــذا الركــن
بالــذات تتوالــد أكــر اإلرشاقــات صدق ـاً وتألق ـاً ودفئ ـاً .لقــد اســتطاع الفيلــم أن يبــث فينــا
هــذا الشــعور ،ليســيطر علينــا دون أن يفارقنــا للحظــة واحــدة منــذ اللقطــة األوىل ،وحتــى
املشــهد األخــر .واعتقــد أن هــذه الفكــرة قــد متثلــت بصــورة أو بأخــرى يف وعــي املخرجــة
وشــكلت الهاجــس الحقيقــي وراء خيارهــا ملوضوعــة الفيلــم.
159
يف الفيلــم بأكملــه كان مثــة خطــان أساســيان يتوازيــان حينـاً ويتقاطعــان حينـاً آخــر ،لريســا
مالمــح الطفولــة يف املخيــم بذاكرتهــا وواقعهــا وأحالمهــا ،الخــط األول تبــدى يف الحــوار
املبــارش مــع الشــخصيتني الرئيســيتني عيــى وفــرح ،والثــاين يف حــوار هذيــن الطفلــن مــع
اآلخريــن .لكــن الفيلــم خــرج يف بعــض املشــاهد ،التــي ارتبطــت بالحــوارات املبــارشة مــع
والــدي فــرح عــن املوضوعــة التــي طرحهــا بنفســه ،وبصــورة أكــر مــع الســياق العــام
ألســلوبه .وعــى الرغــم مــا تنضــح بــه هــذه الحــوارات مــن ذكريــات قاســية عــن الحــرب
األهليــة ،ووقائــع ال تقــل قســوة يعايشــها الالجئــون بصــورة يوميــة ،وأحــام تحــاول
أال تتكــر عــى مشــارف الواقــع ،وعــى الرغــم مــن املســتوى التعبــري الرائــع واملــيء
بالــدالالت والرمــوز الــذي وصلــت إليــه املخرجــة يف اختيارهــا ومونتاجهــا للمشــاهد التــي
ترافقــت والحــوار مــع والــد فــرح ،والجوانــب املأســاوية لحيــاة الالجئــن الفلســطينيني يف
لبنــان التــي يعريهــا هــذا الحــوار ،إال أننــا ندخــل هنــا يف مســتوى آخــر مــن الوعــي ذي
أبعــاد مختلفــة يف جوهرهــا عــن ذاك الــذي نتعامــل معــه يف الســياق الداخــي للفيلــم ،وإن
تقاطــع معــه يف الكثــر مــن الجوانــب.
160
ملا حكيت مريم
قــد تبــدو املوضوعــة التــي يالمســها الفيلــم األول للمخــرج اللبنــاين الشــاب أســد فــوالدكار
«ملــا حكيــت مريــم» شــديدة البســاطة ،قصــة مكــررة مل تــزل تعيــد نفســها ،حدثــت وتحدث
وســتحدث مــادام الكثــر مــن املفاهيــم والقيــم الذكوريــة املتخلفــة تســيطر يف مجتمعاتنــا
العربيــة .ومــن هنــا يتســاءل املــرء مــا الــذي دفــع املخــرج للخــوض يف موضوعــة تــم التطرق
إليهــا ســابقاً يف عــدد غــر قليــل مــن األفــام واملسلســات التلفزيونيــة العربيــة؟ الســبب
فيــا أعتقــد رغبــة املخــرج يف تقديــم هــذه املوضوعــة التقليديــة مــن خــال رؤيتــه الخاصــة
ســواء عــى مســتوى الطــرح أو عــى مســتوى املعالجــة الفنيــة.
فعــى املســتوى األول نجــد فــوالدكار يركــز عــى التحــوالت التــي تطــرأ شــيئاً فشــيئاً عــى
الزوجــن زيــاد (طــال الجــارودي) ومريــم (برناديــت حديــب) ،وتغــر نظرتهــا تجــاه
مشــكلة عقــر مريــم وزواج زيــاد مــن أخــرى ،ليؤكــد مــن خــال هــذه التحــوالت عــى تلــك
الســطوة الهائلــة التــي متارســها مجتمعاتنــا عــى أفرادهــا ليبــدوا مســتلبي اإلرادة متامـاً أمــام
العقــل الباطنــي الجمعــي لهــذه املجتمعــات.
ففــي البدايــة ال تبــدو مســألة عــدم اإلنجــاب تشــغل الزوجــن عــى اإلطــاق ،ويبــدو الحــب
الــذي يجمعهــا قــادرا ً عــى أن يبقيهــا معـاً حتــى أخــر لحظــات حياتهــا .لكــن مــا الــذي
161
يتغــر…؟ مــا الــذي يدفــع مريــم التــي ال تثــق بخرافــات املشــعوذين إىل اإلميان بهــا بالتدريج
وبصــورة مطلقــة؟ ومــا الــذي يجعــل زيــادا ً يخضــع يف نهايــة األمــر إىل رغبــات أمــه التــي
تتحــول إىل رغبتــه هــو نفســه بإنجــاب طفــل مــن صلبــه؟ إن مل يكــن ذاك العقــل الباطنــي
الجمعــي الــذي يدفعهــا إىل االنســياق نحــو ذات األوهــام والتصــورات التــي رفضاهــا يف
البدايــة؟ ولعــل ظهــور األمهــات يف الفيلــم بوصفــه محرضـاً أساســياً لهــذا االنســياق ال يخلــو
مــن الداللــة ،إذ تبــدو املــرأة وكأنهــا تدعــم ذات القيــم التــي تغــذي قهرهــا مــن خــال
متاهيهــا معهــا أو الخضــوع لهــا .واملخــرج مــن خــال هــذا الطــرح يقــدم الواقــع كــا هــو
عليــه ،ال كــا يريــد ويتمنــى الكثــرون لــه أن يكــون ،فيبتعــد عــن تقديــم منــاذج اســتثنائية
أو بطوليــة ،رغــم وجودهــا هــي األخــرى يف مجتمعاتنــا ،غــر أنهــا بالتأكيــد ال متثــل حالــة
عامــة وال تعكــس عمــق املشــكلة ومأســويتها.
أمــا عــى املســتوى الثــاين فيظهــر متيــز الفيلــم الحقيقــي ،وهــو يــأيت مــن األســلوب التهكمــي
الســاخر الــذي يســلط فــوالدكار األضــواء مــن خاللــه عــى اإلشــكالية موضــوع الفيلــم .إذ
يظهــر موهبــة رفيعــة ومقــدرة كبرية يف إدارة املشــاهد والشــخصيات مبا ينســجم واألســلوب
الــذي اختــاره .وال شــك أن تقديــم إشــكالية ذات بعــد مأســاوي بأســلوب تهكمــي ســاخر أمر
شــديد التعقيــد وينطــوي عــى مغامــرة غــر محمــودة العواقــب ـ وأن يواجهــه مخــرج يف
عملــه األول لهــو شــجاعة كبــرة ـ إذ يتطلــب توازن ـاً دقيق ـاً وانســجاماً هائ ـاً بــن بعديــه
املأســاوي والســاخر يك ال يختــل متاســك الفيلــم وإيقاعــه .وإذا كان فــوالدكار قــد نجــح عموماً
162
يف املحافظــة عــى هــذا اإليقــاع ألكــر مــن منتصــف الفيلــم ،غــر أن متاســكه بــدأ يختــل يف
الجــزء الثالــث منــه لصالــح الجانــب املأســاوي .ويف الواقــع كان مثــة عنــر آخــر يصــب يف
ذات الجانــب منــذ بدايــة الفيلــم ،أال وهــو املوســيقا التــي غلفــت الكثــر مــن املشــاهد
بنغــات مبالــغ يف عاطفيتهــا ،بــدت متناقضــة متامـاً مــع روح الفيلــم ومزاجــه العــام الــذي
ظهــر حتــى يف ذلــك املشــهد ـ حيــث يقــوم زيــاد بغســل مريــم ـ الــذي يتكــرر كالزمــة
طيلــة الفيلــم ونحــن نعتقــد أنــه نــوع مــن التواصــل الحميــم ،لنكتشــف يف النهايــة أنــه عــى
العكــس متام ـاً ،ميثــل لحظــة الفــراق املــؤمل ،إذ يقــوم بغســلها قبيــل دفنهــا .لتحمــل هــذه
املفارقــة النكهــة املأســاوية ـ التهكميــة ذاتهــا التــي صبغــت الفيلــم.
وقــد اســتطاع فيلــم «ملــا حكيــت مريــم» الــذي تــم إنتاجــه بصــورة مشــركة بــن املخــرج
والجامعــة األمريكيــة يف بــروت بكلفــة مل تتجــاوز 15ألــف دوالر أن يحصــد عــددا ً مــن
الجوائــز الهامــة يف املهرجانــات الكثــرة التــي طافهــا ،كجائــزة أفضــل فيلــم يف مهرجــان
اإلســكندرية الســيناميئ ،وجائــزة الجمهــور يف مهرجــان فيــزول للســينام اآلســيوية ،وجائــزة
النقــاد يف مهرجــان مونبليــه وكالهــا يف فرنســا .األمــر الــذي يؤكــد أهميــة هــذه التجربــة
األوىل للمخــرج فــوالدكار التــي حملــت يف طياتهــا رؤى إبداعيــة متميــزة تنبــؤ بــوالدة
مخــرج موهــوب.
163
زفاف رنا
كيـف ميكـن ألمـر عـادي وبسـيط يجـري يف كل لحظـة ويف كل بقعـة مـن األرض ـ كالزفاف ـ
أن يتجلى يف مـكان تعيـش كل زاويـة مـن زوايـاه ،كل بيـت وحـارة وجامع وكنيسـة ومقهى
ورصيـف وحافلـة ظروفـاً غير اعتياديـة ميليهـا واقع االحتلال والقمـع والقهر الذي يعايشـه
الفلسـطينيون على مـدار الثانيـة .انطالقـاً مـن هـذه الفكـرة يأخذنـا املخـرج هاين أبو سـعد
لنتابـع خطـوة بخطـوة تحضيرات رنا وعشـيقها خليـل لزفافهام على خلفية تعـج بالتفاصيل
واملواقـف السـاخرة واملريـرة يف آن معاً ،لنشـهد بانوراما زاخـرة للحياة الفلسـطينية اليومية
ومنغصاتهـا حيـث كل شـئ معقـد ومـؤمل واسـتثنايئ .فالحصـول على وثيقـة ما قد يـؤدي إىل
سـحب الهويـة ،وإغلاق الحواجـز ميكنـه أن مينـع يف أي وقـت رنـا وخليـل ـ واآلالف معهم ـ
مـن أن يلتقيـا ،واملواجهـة بين حجـارة األطفال ورشاشـات الجنـود ال أكرث مـن تقاطع طريق،
وحيـث الجنائـز واالعتقـاالت واإلصابـات واملواطنون املسـلحون من اليهود واحتلال البيوت
وكاميرات املراقبـة ،كلهـا مجـرد تفاصيـل «صغيرة» يف املشـهد العـام ،الـذي تصبـح فيـه أي
رصخـة غضـب كفيلـة باسـتفزاز أسـلحة الجنود اإلرسائيليين ،وال ميكن أن يفسر وجود كيس
نايلـون منسي على جانـب الطريق بأقـل من قنبلـة تسـتنفر الجميع.
قــدم أبــو ســعد هــذه البانورامــا املأســاوية بأســلوب تهكمــي ،وبشــفافية عاليــة تنــأى عــن
164
الشــعاراتية واملبــارشة والخطابيــة ،عــى خلفيــة قصــة إنســانية بســيطة تنتهــي بزفــاف رنــا
عــى الرغــم مــن كل هــذا الكــم مــن الكوابيــس اللحظيــة ،بإشــارة لعلهــا ال تقبــل التأويــل
إىل انتصــار الحــب عــى الكراهيــة والحيــاة عــى املــوت.
لكــن هــل كانــت قصــة الزفــاف عاديــة حقـاً؟ يف الواقــع ليــس متامـاً .فاإلشــكالية كــا يقدمهــا
الفيلــم يف بدايتــه تكمــن يف رفــض والــد رنــا للشــخص الــذي اختارتــه ،ليقــدم لهــا بــدالً مــن
ذلــك الئحــة تتضمــن أســاء نخبــة مــن وجــوه البلــد مــن محامــن وأطبــاء ومهندســن يك
تختــار أحدهــم للــزواج ،وإال فســوف يصطحبهــا معــه إىل مــر عنــد الســاعة الرابعــة ـ
موعــد ســفره.
واتضـح مـن سـياق الفيلـم أنه مل يكـن يف نيته على اإلطالق معالجـة موضوعة القهـر األبوي،
لذلـك أصبـح مـن البديهـي التسـاؤل عن سـبب إقحامهـا يف نسـيجه ،واإلخالل بقـوة املفارقة
الدراميـة التـي قدمهـا وأرشنـا إليهـا بدايـة .رغـم أنـه مـن الصعـب تقبل ذلـك وتربيـره فنياً،
لكـن ميكـن على األقل تفهمـه ،إذ بدت هذه املوضوعة اإلشـكالية ـ وخاصـة عندما ُربط حلها
بفترة زمنيـة قصيرة تسـبق موعـد سـفر األب ـ رضوريـة ومناسـبة متامـاً مـن أجـل التصعيد
الدرامـي يف الفيلـم القـادر على اإلحاطـة بحجم التفاصيل التـي قدمها ،ولهذا السـبب بالذات
مل يأبـه املخـرج إىل غيـاب املنطـق يف موافقـة األب على خيـار ابنتـه بهذه الرسعة والبسـاطة
مـع نهايـة الفيلـم .فهـل كان مـن الصعـب إيجـاد «قصـة عاديـة» حقـاً تحقـق تلـك اإلحاطـة
بواقـع اسـتثنايئ دون الحاجـة إىل هـذه الدرجـة مـن التأزيم التـي تطلبتها قصـة الفيلم؟
165
ثــم أليــس غريبـاً أن يبــدو إيقــاع الفيلــم شــديد الرتابــة بالنســبة إىل قصة متأزمــة تطلبت من
رنــا البحــث عــن عشــيقها والذهــاب إليــه يف الخليــل واتخاذهــا قــرار الــزواج والبحــث عــن
املــأذون وإحضــار ثــوب العــرس وإجــراء املعامــات القانونيــة وإقنــاع والدهــا بالــزواج…
وكل ذلــك خــال بضــع ســاعات ،أو بالنســبة للواقــع األكــر تأزم ـاً الــذي يــدور الحــدث يف
إطــاره ويتأثــر بقــوة بــكل جزيئاتــه.
أعتقــد أن الســبب وراء تلــك الرتابــة يعــود مــن ناحيــة إىل أن الحــوار افتقــد يف معظــم
أجــزاء الفيلــم إىل الحــرارة والصدقيــة ،ســواء عــى مســتوى نــص الســيناريو أم أداء املمثلــن،
فظهــر بــاردا ً باهت ـاً مقتطع ـاً إىل أقــى درجــة ،لذلــك مل يســتطع إشــباع اللقطــات بزخــم
الحالــة التــي تواجههــا الشــخصيات وعكــس تأزمهــا ،فأضطــر املخــرج إىل مــلء هــذا الفــراغ
بلقطــات مطولــة مــن التأمــل كــا يف مشــهد الجنــازة حيــث تتوقــف رنــا مذهولــة بصــورة
غــر مفهومــة وســط املشــيعني ،وكأنهــا تــرى ألول مــرة يف حياتهــا شــيئاً كهــذا ،أو الصمــت
كــا يف مشــهد الســيارة التــي تحملهــم مــن طريــق إىل آخــر .ومــن ناحيــة أخــرى إىل الثغرات
التــي تخللــت اإلخــراج ،فبــدت فكــرة العديــد مــن املواقــف الدراميــة التهكميــة أقــوى مــن
الطريقــة اإلخراجيــة التــي نفــذت بهــا كمشــهد لقــاء رنــا لخليــل يف املــرح عــى ســبيل
املثــال .أمــا االنتقــال مــن الحالــة الخاصــة يف مشــهد كامــرا املراقبــة التــي تتقنــص تحــركات
رنــا وخليــل يف الشــارع ،إىل حالــة عامــة تعكــس مالحقتهــا لنوافــذ البيــوت وأســطحتها يف
كل مــكان مل يكــن فقــط عديــم الجــدوى ألن مثــل هــذا التعميــم يســتطيع أي مشــاهد
166
أن يســتنتجه ذهني ـاً ،بــل وأضعــف مــن أهميــة الحالــة األوىل وعمقهــا وفاعليتهــا .دون أن
ننــى تلــك املشــاهد التــي نفــذت بطريقــة تركيبيــة مفتعلــة كمشــهد املواجهــة بــن الجنــود
اإلرسائيليــن واألطفــال ،الــذي ميكــن ألي لقطــة تســجيلية ـ أخباريــة أن تتفــوق عليــه ســواء
عــى مســتوى تأثريهــا يف املشــاهدين أو تركيبهــا الجــايل.
«زفــاف رنــا» حمــل فكــرة جميلــة ومذهلــة ،لكــن لألســف مل تســتطع عنــارصه مــن درامــا
وحــوار ومتثيــل وإيقــاع وإخــراج أن ترتقــي بهــا ســينامئياً إىل مســتواها.
167
جواز بقرار جمهوري
كثــرة القضايــا التــي يســلط املخــرج خالــد يوســف الضــوء عليهــا يف فيلمــه الثــاين «جــواز
بقــرار جمهــوري» ،مــن اإلهــال والتهميــش الــذي تعيشــه األحيــاء الشــعبية الفقــرة
وســكانها مــن قبــل الســلطة إىل فســاد املســؤولني وســطوة األجهــزة األمنيــة ،واألهــم تلــك
الصــورة التــي يرســمها لشــخصية رئيــس الجمهوريــة يف نظــام شــبه شــمويل يؤهلــه لإلمســاك
بجميــع مفاتيــح الحــل والربــط حتــى ليمــي إله ـاً كيل القــدرة بنظــر الجميــع.
كل ذلــك يالمســه الفيلــم بشــفافية مــن خــال قصــة بســيطة تنشــأ بإرســال هــاين رمــزي
بطاقــة دعــوة إىل عرســه لرئيــس الجمهوريــة الــذي يقــرر فعــاً حضــور العــرس ،فتبــدأ
التحضــرات لهــذا «الحــدث التاريخــي» وتتفجــر معهــا شــتى املفارقــات الســاخرة واملريــرة
يف آن معـاً ،إذ تنقلــب الحيــاة رأسـاً عــى عقــب يف الحــي حيــث ســتجري مراســم العــرس،
بعــد أن تحــول إىل ورشــة لإلصــاح والتحديــث ،فتعبــد الشــوارع وتبلــط األرصفــة وتدهــن
جــدران املنــازل املتداعيــة وتثبــت مصابيــح اإلضــاءة وتشــجر الزوايــا وترمــم التمديــدات
الصحيــة وحتــى أســم الشــارع يبــدل مــن ميمــون القــرد إىل ميمــون بــك القــرد!! لكــن ليــس
ذلــك وحــده مــا يشــغل بــال أهــل الحــي ،فترتاكــم عــى طاولــة رمــزي آالف األوراق التــي
تحمــل همومهــم وأحالمهــم واحتياجاتهــم يك يســلمها ليــد الرئيــس عنــد لقائــه معــه.
168
غــر أن الســيناريو مل يســتطع إشــباع هــذا الخــط رغــم غنــاه بالتفاصيــل والتوســع فيــه،
فاضطــر إىل إقفالــه مؤقتـاً ـ بحجــة الخــوف مــن االنفــات األمنــي الــذي قــد يحــدث يف الحي
ونقــل العــرس إىل أحــد الفنــادق ،لتتوقــف عمليــات اإلصــاح وتســتبدل بإجــراءات معاكســة
تعيــد الحــي إىل مــا كان عليــه مــن قبــل .وينتقــل الفيلــم إىل خــط أخــر ،فبعــد أن أصبــح
العــرس الــذي ســيحرضه الرئيــس موضــوع الســاعة الــذي يتداولــه املجتمــع واإلعالم ،ينشــب
خــاف بــن العروســن ويقــرران االنفصــال ،مــا يهــدد بإلغــاء «الحــدث التاريخــي» املنتظــر،
وهــو مــا ال ميكــن أن تســمح الســلطة بــه ،وتعمــل جاهــدة إىل رأب الصــدع الناشــئ بينهــا
تــارة بالــكالم الجميــل واملفاوضــات ،وتــارة أخــرى بالتهديــد والوعيــد وحبــك املؤامــرات.
إىل أن تنجــح أخــرا ً مبؤامــرة تعــول عــى اســتيقاظ الحــب بينهــا ،وهــو مــا يحــدث ليمضيــا
إىل العــرس الــذي أقيــم يف الحــي الشــعبي نفســه بعــد أن رصح الرئيــس برغبتــه يف رؤيــة
«النــاس الغالبــة عايشــة إزاي» ،وبالطبــع هــو ـ القــادم مــن املريــخ ـ لــن يــرى ذلــك بعــد
أن تــم تلميــع الحــي وتجميلــه .أمــا رمــزي فلــم ينــس الطلبــات والتوصيــات املرتاكمــة يف
غرفتــه ،فيحملهــا مبســاعدة الغالبــة أنفســهم ويقدمهــا للرئيــس ،وينتهــي الفيلــم.
املشــكلة األساســية عنــد تقييــم هــذه النوعيــة مــن األفــام التفــاوت الظاهــر بــن أهميــة
الفكــرة التــي يطرحهــا والقالــب الفنــي الــذي صبــت فيــه .لكــن قبــل التطــرق إىل بعــض
الجوانــب الفنيــة للفيلــم دعونــا نتوقــف قلي ـاً ونتتبــع الرؤيــة السياســية التــي تبناهــا.
الفيلــم يعلــن منــذ بدايتــه أنــه «ال يســتند إىل وقائــع تاريخيــة قــد حدثــت بالفعــل ولكنــه
169
مجــرد خيــال درامــي» رغــم أن املشــاهد ليــس بحاجــة إىل هــذه الجملــة يك يــدرك أن هــذه
الوقائــع مل تحــدث ،لكــن هــل مــا حــدث يف الفيلــم مــن حيــث الجوهــر خيــال درامــي ،أم
واقــع تســجييل يحــدث هنــا واآلن بدليــل ظهــور شــخصية الرئيــس حســني مبــارك فيــه؟
فهــل أتــت هــذه الجملــة نوعـاً مــن التحايــل عــى أجهــزة الرقابــة التــي خــاض الفيلــم معهــا
معركــة طويلــة قبــل أن تصــادق عليــه أم لتنســف إي مقاربــة بــن الفيلــم والواقــع؟
صحيــح أن الفيلــم يشــكل إدانــة واضحــة للنظــام الســيايس الحاكــم إلفقــاره املجتمــع
وإفســاده وخداعــه وتســلطه عليــه حتــى يف أبســط املســائل .لكــن مــن الــروري هنــا أن
نلتفــت إىل كيفيــة تنــاول الفيلــم لــرأس هــذا النظــام املتمثــل برئيــس الجمهوريــة ودوره يف
كل املوبقــات التــي يدينهــا .منــذ البدايــة يبــدو هــذا الرئيــس مهتـاً برغبــة إنســان بســيط
يدعــوه إىل عرســه ،ويســتجيب لهــا بــكل رحابــة صــدر وعــن طيــب خاطــر ،بــل ويــر عــى
حضــور العــرس بــكل تواضــع يف ذات الحــي الشــعبي حيــث يعيــش هــذا اإلنســان ،وهــي
مناســبة يك يشــاهد بــأم عينــه حيــاة الغالبــة ،لكنــه ال يســتطيع ...ملــاذا؟ ألن الحاشــية التــي
تــدور يف فلكــه متنعــه مــن ذلــك .ويف النهايــة يحمــل بيديــه املباركتــن أرطــاالً مــن األوراق
التــي خطتهــا الجامهــر ليلــة العــرس .أي أن الفيلــم يســتثني الرئيــس بــكل بســاطة مــن
اإلدانــة ،فهــو شــخص طيــب ونزيــه ومتواضــع ومخلــص ومهتــم بشــؤون بلــده وشــعبه ،وكل
املشــكلة فيمــن حولــه .وهــذه النظــرة عــى ســذاجتها ليســت جديــدة وســنجدها يف عــدد
كبــر مــن الخطابــات التــي تحيــط بشــخصية الزعيــم األول يف الدولــة الشــمولية يف محاولــة
170
إلخراجهــا مــن دائــرة االتهــام واإلدانــة عــن كل مــا اقرتفتــه أنظمتهــا القمعيــة مــن جرائــم
وويــات بحــق بالدهــا وشــعوبها .وإن كنــا نقــر باســتحالة متريــر فيلــم يقــدم مثــل هــذه
اإلدانــة وبهــذه املبــارشة عــى أرض عربيــة ،غــر أن فيلــم «جــواز بقــرار جمهــوري» مل
يكتــف بعــدم اإلدانــة وإمنــا وقــف موقــف املدافــع واملــرر عــن رأس الدولــة فاص ـاً بينــه
وبــن النظــام الســيايس الــذي أوجــده.
عــى الصعيــد الفنــي وقــع الفيلــم يف عــدة مطبــات ،فهــو مل يســتطع يف بدايتــه أن يجــد مــررا ً
درامي ـاً قوي ـاً لدعــوة الرئيــس ،إذ يبــدو مــن غــر املنطقــي أن تتنطــح فتــاة طــرأ تحســن
بســيط عــى الوضــع املعــايش لعائلتهــا لدعــوة رجــاالت الدولــة مــن وزراء ومســؤولني إىل
زفافهــا ،لينجــر الشــاب إىل املنافســة ويدعــو رئيــس الجمهوريــة شــخصياً إليــه .كــا يبــدو
مــن الغريــب حق ـاً أن تحتمــل معالجــة موضــوع بهــذا الزخــم والتشــعب والغنــى كالــذي
تطــرق إليــه الفيلــم كل تلــك املشــاهد الثانويــة غــر املــررة والتــي ليــس لهــا أي وظيفــة
دراميــة تصــب لصالــح هــذه املعالجــة وخاصــة يف النصــف ســاعة األوىل منــه.
ال نســتطيع أن نجــزم بعــدم وجــود ارتبــاط بــن الفكــرة التــي اســتحوذت عــى النصــف
األول مــن الفيلــم حــول التغيــرات املرافقــة لزيــارة الرئيــس إىل الحــي الشــعبي وانعكاســها
عليــه وعــى ســكانه ،وبــن الفكــرة التــي حركــت جــزأه الثــاين الــذي متحــور حــول عمــل
أجهــزة الرئيــس إلخضــاع العروســن للــزواج رغــم إرادتهــا ،فالفكرتــان مرتبطــان مبفهــوم
اإلرادة العليــا للزعيــم ـ التــي يقدمهــا الفيلــم عــى أنهــا إرادة األجهــزة املحيطــة بــه ـ
171
لكــن املشــكلة أن الســيناريو مل يدمجهــا بصــورة متداخلــة تؤكــد هــذه الرابطــة ،عــى
العكــس قــام بفصلهــا ليــس فقــط عــى مســتوى الــرد وإمنــا كذلــك عــى مســتوى املــكان،
فأحــداث الجــزء األول تجــري يف معظمهــا ضمــن شــوارع الحــي وبيوتــه الفقــرة ،بينــا
ينتقــل بنــا الجــزء الثــاين إىل أجــواء الفنــادق الفخمــة واملنتجعــات الســياحية الفاخــرة ،مــا
يعــزز رضورة تداخــل الخطــن إلبــراز ذلــك التناقــض الصــارخ ال فصلهــا ،هــذا إذا افرتضنــا
أن التبــدل الجوهــري يف مــكان الحــدث جــرى يف الفيلــم مــن ذلــك املنطلــق ومل يكــن الدافــع
وراءه مجــرد تحقيــق االســتجامم البــري للمشــاهدين ،وهــو التربيــر األرجــح بغيــاب
مشــاهد ذات داللــة واضحــة عــى التناقــض املذكــور .ومــن املفيــد التذكــر هنــا أن ذلــك
الخــط مل يســتطع تتبــع فكرتــه حتــى النهايــة ،فالعــرس نجــح ليــس بســبب تدخــل األجهــزة
بعــد كل مــا قامــت بــه ،وإمنــا لصحــوة الحــب بــن العروســن!!
أمــا أكــر مــا يلفــت النظــر يف الفيلــم فهــو عجــز املخــرج عــن املحافظــة عــى إيقــاع كوميــدي
واحــد يف عمــل يحفــل باملفارقــات الســاخرة النابعــة مــن صلــب القصــة وخيوطهــا املتداخلة،
ليلجــأ يف كثــر مــن األحيــان إىل مواقــف مــن خارجهــا تعتمــد املبالغــة يف التصعيــد (اتهــام
رمــزي حــاه أنــه يتاجــر باملخــدرات مبجــرد رؤيــة عنــارص الرشطــة يف بيتــه أو إدعــاء
الــرك بــأن رمــزي يتحــرش بهــا عــى الشــاطئ ليقــوم شــابان ضخــان بتأديبــه) أو حتــى إىل
مشــاهد ال لــزوم لهــا حــرت ملجــرد اإلضحــاك (الطريقــة الرشهــة لتنــاول رمــزي الطعــام
يف الحفلــة التــي حصــل بالصدفــة عــى بطاقــات دعــوة إليهــا).
172
عــى الرغــم مــن جميــع املطبــات التــي وقــع فيهــا «جــواز بقــرار جمهــوري» عــى املســتوى
الفنــي والفكــري يبقــى يف النهايــة فيل ـاً جريئ ـاً قــدم الكثــر مــن الحــاالت والشــخصيات
والصــور الواقعيــة ملــر اليــوم ،األمــر الــذي يعنــي التــزام مخرجــه بتقديــم ســينام تحــاول
أن تكــون مختلفــة عــا هــو ســائد ،وهــو أقــل مــا ميكــن أن نتوقعــه مــن تلميــذ ليوســف
شــاهني ،رغــم أن املرحلــة التــي تتلمــذ فيهــا ال تعــد بنظــر العديــد مــن النقــاد األكــر متيــزا ً
وإبداع ـاً يف تاريــخ املخــرج الكبــر.
173
سهر الليايل
مــا يحســب بالتأكيــد للسيناريســت تامــر حبيــب واملخــرج هــاين خليفــة جرأتهــا التــي
ال ريــب فيهــا ،فـــ «ســهر الليــايل» هــو فيلمهــا األول وعــى الرغــم مــن ذلــك مل تنقصهــا
الجــرأة يف الخــروج عــن األمنــاط الســينامئية الســائدة يف الســينام املرصيــة اليــوم وتقديــم
عمــل ذي نكهــة خاصــة يحــاول مالمســة أربــع قضايــا شــائكة ومعقــدة يف آن واحــد،
وبعضهــا مــن النــوع الــذي نــادرا ً مــا تتطــرق إليهــا الســينام العربيــة ويعــده البعــض مــن
املحرمــات التــي ال يجــوز الخــوض فيهــا علن ـاً ،بــل ومل يتــوان عــن خلــق معــادل بــري
لهــا .كــا كانــت لديهــا الجــرأة للعمــل عــى مثــان شــخصيات أساســية عــى الرغــم مــن
الصعوبــات والتعقيــدات الناجمــة عــن ذلــك ســواء عــى مســتوى الســيناريو أو اإلخــراج.
لكــن مــن البديهــي أن الجــرأة وحدهــا ال تصنــع فيلـاً ناجحـاً ومتقنـاً فنيـاً ،رغــم الحرفيــة
العاليــة التــي ميــزت عنــارص أساســية يف الفيلــم ولــو بصــورة متفاوتــة كالحــوار والتمثيــل
واملونتــاج والتصويــر.
يقــدم لنــا الفيلــم يف جزئــه األول أربــع ثنائيــات ترتبــط بصداقــة تعــود بالنســبة للشــباب
إىل زمــن الجامعــة ،وترســم كل منهــا خطـاً دراميـاً يالمــس مشــكلة محــددة .األول يتطــرق
إىل الخيانــة الزوجيــة (فتحــي عبــد الوهــاب ـ منــى زيك) ،الثــاين إىل التفــاوت الطبقــي بــن
174
الزوجــن (أحمــد حلمــي ـ حنــان تــرك) ،الثالــث إىل عــدم التوافــق الجنــي بــن الطرفــن
(خالــد أبــو النجــا ـ جيهــان فاضــل) ،والرابــع إىل العالقــة الحــرة والهــروب مــن االرتبــاط مــن
جانــب الرجــل (رشيــف منــر ـ عــا غانــم).
ال شــك أن التوقــف عنــد هــذا الطيــف الواســع مــن القضايــا اإلشــكالية يتطلــب مــن الفيلــم
مســتوى عاليـاً مــن التكثيــف .األمــر الــذي يحققــه الفيلــم يف بدايتــه إىل حــد ما عندمــا يتنقل
برسعــة بــن هــذه الثنائيــات ،غــر أن متهيــده للكشــف عنهــا جــاء متفاوتـاً وأحيانـاً معدومـاً.
فبينــا ينكشــف فعــل الخيانــة مبشــهد واحــد ،نتوصــل إىل إدراك األســباب التــي تدفــع
جيهــان فاضــل لطلــب الطــاق بصــورة تدريجيــة ـ بدايــة مــن خــال حديثهــا مــع قريــب
لهــا ومــن ثــم عــن طريــق نظراتهــا لشــاب وســيم وأخــرا ً عنــد ســاع مكاشــفاتها الرصيحــة
يف عيــادة طبيــب نفــي .أمــا الخــط الثــاين فيبــدو مــن بدايتــه مفتعـاً بخالفــات ليــس لهــا
عالقــة بجوهــر القضيــة التــي ســيطرحها وبالقطيعــة التــي ســتتم ال حقـاً بــن الزوجــن ،بــل
تبــدو وكأنهــا نتــاج الضجــر مــن رتابــة الحيــاة الزوجيــة ال أكــر .املشــكلة نفســها تتكــرر يف
الخــط الرابــع ،فالعالقــة التــي تجمــع رشيــف منــر وعــا غانــم تبــدو يف غايــة الرومانســية
والجــال ،وحتــى إذا رأينــا يف القصــة املتداخلــة مــع هــذا الخــط واملرتبطــة بطمــوح عــا
للعمــل لــدى رجــل ثــري يكرهــه صديقهــا مقدمــات للخــاف بينهــا ،ســوف نفاجــأ بــأن
الخــاف الــذي ســيقع الحقـاً ليــس لــه أيــة عالقــة بهــا.
بعــد هــذه الجولــة ينتقــل املخــرج إىل مشــهد مفصــي يجمــع الــكل يف حفلــة عيــد ميــاد،
175
إذ تشــهد جميــع هــذه الخطــوط مــن بعــده يف آن واحــد تحــوالً دراماتيكيـاً يف الفيلــم .فــا
أن تعــود هــذه الثنائيــات كل إىل بيتــه حتــى تتفجــر خالفاتهــم دفعــة واحــدة وكأن مثــة
اتفــاق ضمنــي بينهــم عــى ذلــك .وإذا كان ذلــك متوقعـاً ومنطقيـاً يف الخــط األول والثالــث،
ومحصلــة طبيعيــة ملــا قدمــه الفيلــم حتــى اآلن ،فأنــه يبــدو مفتع ـاً وفاقــدا ً ألي أســاس
ســابق وقــوي يف الفيلــم يف الخطــن اآلخريــن .لذلــك أضطــر الســيناريو يف الخــط الثــاين أن
يســتند إىل مشــهد الحفلــة والتمهيــد لخــاف الزوجــن انطالقـاً مــن ســلوكهام فيهــا وجدلهــا
حولــه الــذي رسعــان مــا يتصاعــد لدرجــة أن يتهمهــا هــو بأنهــا تزوجتــه يك تغيــظ خطيبهــا
الســابق وصديقــه خالــد أبــو النجــا .وتقــوم هــي بتعيــره بفقــره قبــل زواجــه منهــا وتذكــره
مبــا قدمتــه عائلتهــا لــه ،ليصــل خالفهــا إىل نقطــة الــا عــودة ويــرك الــزوج املطعــون
بكرامتــه البيــت.
الخــط الرابــع يطــرح كذلــك تأزمــه بصــورة مفاجئــة عندمــا ال يبــدي رشيــف منري اســتعداده
بعــد للــزواج مــن عــا غانــم فترتكــه .غــر أن هــذا الخــط تضمــن قصــة ال تخلــو مــن داللــة
أخالقيــة تؤكــد أن االلتــزام العاطفــي والحميمــي غــر مرتبــط مبؤسســة الــزواج وميكــن أن
يوجــد خارجهــا ،فهــي ال تقــوم بخيانتــه مــع الرجــل الــري (مدحــت العــدل) عــى الرغــم
مــن أنهــا غــر مرتبطــن يف إطارهــا ،وعــى الرغــم مــن األبــواب الكثــرة التــي قــد تفتــح
لهــا فيــا لــو أقدمــت عــى تلــك الخطــوة .أمــا إىل أي حــد خدمــت هــذه القصــة منطــق
انفصالهــا فهــذه مســألة أخــرى ،إذ نالحــظ أنــه ليــس هــو مــن بــادر إىل ذلــك كنتيجــة
176
مثـاً لتمســكها بالعمــل لــدى الــري املذكــور مــع علمهــا أنــه يســعى إىل جســدها أكــر مــن
ســعيه لخدماتهــا الوظيفيــة ،ومعرفتهــا بكراهيتــه ألمثالــه ،مــا كان ســربط ســلوكه نوع ـاً
مــا بالقصــة ،بــل هــي التــي انفصلــت عنــه لعــدم اســتعداده لالرتبــاط الزوجــي.
وهكــذا ينفصــل الجميــع عــن بعضهــم ،ويجتمــع الشــباب األربعــة ويقــررون القيــام برحلــة
إىل اإلســكندرية يتذكــرون خاللهــا أيــام املــايض عندمــا كانــوا طلبــة وينســون يف أجوائهــا
همومهــم اآلنيــة.
لنتابــع بصــورة متوازيــة التحــوالت واملكاشــفات واألحــداث التــي تحيــط بالشــخصيات
الذكوريــة يف اإلســكندرية مــن جهــة ،والشــخصيات األنثويــة يف القاهــرة مــن جهــة أخــرى،
والتــي يفــرض أن تقودنــا يف نهايــة األمــر إىل قناعــة بالنهايــة الســعيدة التــي آل إليهــا الفيلــم
مــن مصالحــة كاملــة بــن الجميــع ،بتقديــم آليــات فعالــة مــن حيــث منطقهــا الدرامــي لحــل
إشــكاليات الخطــوط التــي قدمهــا ،فهــل فعــل الفيلــم ذلــك؟
منــى زيك عــى الرغــم مــن ترصيحاتهــا بعــدم قدرتهــا عــى احتــال خيانــة زوجهــا املتواصلــة
لهــا ،لكــن يبــدو واضحـاً أنهــا متعلقــة بــه ولديهــا االســتعداد النفــي للتســامح معــه عنــد
عودتــه ،وخاصــة مــع مجــيء وليدهــا الجديــد ،األمــر الــذي رمبــا يدفعهــا يك تصــدق أنــه
ســوف يتغــر كــا وعدهــا .عــى الجانــب اآلخــر هــو ال يشــعر حتــى بالنفــور مــن دعــوة
عاهــرة يك تقــوم بتســليته وأصحابــه ،وال يذكــره هــذا الوضــع للحظــة بســبب وجــوده
بعيــدا ً عــن زوجتــه الحامــل يف أشــهرها األخــرة! أي أنــه يف الواقــع مل يتغــر كــا وعــد .إذن
177
املصالحــة بينهــا تبــدو ممكنــة ،غــر أنهــا مصالحــة قامئــة عــى الطيبــة والتســامح مــن جهــة
والكــذب والخــداع مــن جهــة أخــرى ،أي أنهــا مصالحــة مؤقتــة وبائســة ال تعــر األجــواء
املرحــة التــي رســمها املشــهد األخــر عنهــا عــى اإلطــاق.
كــا بــدأت إشــكالية الخــط الثــاين دون مقدمــات تذكــر ،انتهــت كذلــك دون مــررات تذكــر،
فصحيــح أن أحمــد حلمــي ســيقتنع بحــب زوجتــه لــه وبــأن كل مــا كان بينهــا وبــن صديقــه
أبــو النجــا قــد انتهــى بعــد حديثــه معــه (وكأنــه مل يكــن عــى قناعــة بذلــك) ،لكــن هــل
يغــر ذلــك مــن حقيقــة إحساســه الكبــر باملهانــة الكتشــافه عــدم نســيان زوجتــه ملنشــئه
الطبقــي وتعيريهــا لــه بــه؟ رمبــا لتغلــب عــى هــذا اإلحســاس مــع مــرور الوقــت أو بظهــور
عوامــل مــا تدفعــه إىل ذلــك ،لكــن مــا هــي املــررات التــي قدمهــا الفيلــم يك يتجــاوزه بتلــك
البســاطة يف بضعــة أيــام فحســب؟ ال يشء ،رضورات النهايــة الســعيدة فحســب.
جيهــان فاضــل بعــد ترددهــا الطويــل تستســلم أخــرا ً لغرائزهــا وعواطفهــا التــي ال تفتــأ
تثريهــا االتصــاالت املتكــررة وامللحــة مــن قبــل شــاب تعجــب بــه ،لكنهــا عنــد لقائــه ويف
اللحظــة الحاســمة ترتاجــع وترفــض مامرســة الجنــس معــه ،عــى الرغــم مــن كل الرتاكــات
التــي دفعتهــا إىل هــذا اللقــاء وجعلتهــا مســتعدة عــى املســتوى النفــي لــه ومدركــة متامـاً
للغايــة منــه ،فــا الــذي حــدث وجعلهــا ترتاجــع؟ إن الحــل هنــا يحمــل طابعـاً أخالقيـاً أكــر
مــا هــو نتــاج الصــرورة الدراميــة للحالــة التــي قدمهــا الفيلــم ،إذ كان مــن املمكــن تفهــم
ذلــك الرتاجــع جزئي ـاً فيــا لــو أن الفيلــم مهــد لــه مبشــاهد تشــر إىل رغبتهــا يف التمســك
178
بزوجهــا وبحثهــا عــن إمكانــات ملســاعدته بشــكل مــن األشــكال ،لكــن الفيلــم مل يفعــل
ذلــك وفضــل تقديــم حــل مصطنــع ،غــر أنــه رضوري للوصــول إىل الحــل النهــايئ وتحقيــق
املصالحــة انطالقـاً مــن مبــدأ أخالقــي مــن ناحيــة وعاطفــي مــن ناحيــة أخــرى يدفعهــا إىل
التســامح معــه حتــى بعــد اعرتافــه بخيانتهــا مــع العاهــرة يف محاولــة فاشــلة إلثبــات الــذات،
وهــو يف الحالتــن ال ميــت ألصــل القضيــة املطروحــة بأيــة صلــة.
الخــط الرابــع مل يكــن أوفــر حظــاً مــن الثــاين ،فهنــا أيضــاً لــن نجــد مــررات كافيــة ال
النفصــال الحبيبــن وال لعودتهــا ،ومــا يجــدر مالحظتــه ضمــن هــذا الخــط تركيــزه عــى
حجــج ومــررات رشيــف منــر لعــدم االرتبــاط أكــر مــن تســليطه الضــوء عــى مــا ميكــن
للمــرأة الرشقيــة أن تعانيــه مــن املجتمــع املحيــط عنــد ارتباطهــا بعالقــة حــرة ،وتغــر نظــرة
هــذا املجتمــع نفســه للمســألة عندمــا تتعلــق بالرجــل.
اآلن هــل كان املطلــوب مــن الفيلــم تجــاوز جميــع هــذه النقــاط التــي تحدثنــا عنهــا
أو بعضهــا عــى األقــل؟ ال شــك أن الفيلــم مل يضــع نصــب عينيــه معالجــة أو مالمســة
اإلشــكاليات األربعــة التــي طرحهــا يف العمــق ،ولعلــه مل يــرد أكــر مــن القــول بوجودهــا
وتســليط الضــوء عــى بعــض جوانبهــا بصــورة عابــرة ،وهــو مــا عكســته األجــواء التهكميــة
والطريفــة بأحداثهــا وحواراتهــا التــي ســيطرت عــى الكثــر مــن مشــاهد الفيلــم ،لكننــا
ال نســتطيع القــول بــأن الكوميديــا هــي األســلوب الــذي اختــاره املخــرج للفيلــم ،إذ أن
اإلطــار الواقعــي الصــارم الــذي أحــاط باملشــاهد ذات الصلــة املبــارشة بإشــكاليات الفيلــم
179
والكثــر مــن إرهاصاتهــا وتداعياتهــا ،ومســتوى القســوة الــذي أفرزتــه ال ينســجم إطالقـاً مــع
الكوميديــا املقدمــة ،ويتناقــض بالتأكيــد مــع املالمســة العابــرة والحلــول املفتعلــة واملركبــة
للقضايــا التــي طرحهــا.
180
إزاي البنات تحبك
يف الســينام ال يوجــد جنــس فيلمــي راق وأخــر متــدن مــن الناحيــة الفنيــة ،وإمنــا يف كل
جنــس ميكننــا أن نجــد هاتــن القيمتــن .ومــن املعــروف أن االلتــزام بجنــس محــدد عنــد
صناعــة فيلــم مــا أســهل بكثــر مــن إبــداع فيلــم يخلــق قوانينــه الخاصــة خــارج األطــر
املألوفــة لهــذا الجنــس ،حيــث القوانــن واضحــة ومختــرة وتوجــد مئــات النــاذج واألمثلــة
التطبيقيــة الســابقة عليهــا .لكــن عندمــا ال يســتطيع مخــرج االلتــزام عــى األقــل بهــذا الحــد
األدىن مــن القواعــد الســينامئية فــا الــذي ســيصنعه؟
منــذ البدايــة ويف ســياق تعرفنــا عــى شــخصيتني أساســيتني فيــه هــا عــي (هــاين ســامة)
وعاطــف (أحمــد عيــد) يصدمنــا فيلــم «إزاي البنــات تحبــك» مبشــاهد هزليــة جــدا ً تصــور
طــرق وصولهــا إىل األكادمييــة الســياحية وتعارفهــا وقبولهــا يف الفحــص ،ثــم وضعهــا
يف غرفــة واحــدة للســكن .فتبــدو هــذه املقدمــة كأنهــا متهــد للمنــاخ العــام الــذي ســيهيمن
عــى الفيلــم ،وتتأكــد هــذه القناعــة مــع تتــايل املشــاهد واستشــفافنا لخيــار السيناريســت
أحمــد البيــه يف بنــاء املفارقــات الهزليــة الالحقــة عــى التبايــن الحــاد بــن هاتــن الشــخصيتني
مــن خــال تنميطهــا إىل أقــى حــد .فــاألول وســيم وأنيــق وذيك وغنــي وقــوي والثــاين عــى
النقيــض مــن جميــع هــذه الصفــات .صحيــح أننــا ســنجد بعــض هــذه املفارقــات املتناثــرة
181
هنــا وهنــاك يف الفيلــم عنــد تفاعــل هذيــن الشــابني مــع اآلخريــن ،لكــن منــذ اللحظــة التــي
يبــدأ فيهــا هــذا التفاعــل مــع بــدء تــودد عــي إىل نــدى (املمثلــة اللبنانيــة نــور) ونشــوء
العــداوة بينــه وبــن وليــد (أحمــد رجــب) ينتهــي الوهــم بأننــا نشــاهد كوميديــا وتطغــى
أجــواء أخــرى عــى الفيلــم أقــرب إىل امليلودرامــا ،لتفقــد املقدمــة التهكميــة الصارخــة
مربراتهــا ،وندخــل يف تنميــط تقليــدي آخــر يضــع الشــابني «الطيبــن» يف مواجهــة مجموعــة
مــن الطلبــة «األرشار» الذيــن يتزعمهــم وليــد ،حتــى دون مســوغات مقنعــة لذلــك ،إذ
تنطلــق مــن رغبــة صبيانيــة يف الفــوز بالطالبتــن املنتســبتني تــوا ً إىل املعهــد نــدى وبــويس
(ســمية الخشــاب) قبــل اآلخريــن ،وقــد حــاول السيناريســت ـ وهــو الــذي بــدأت مــع
فيلمــه «إســاعيلية رايــح جــاي» موجــة مــا ســمي الكوميديــا الشــبابية ـ الحقـاً أن يدعمهــا
بنصيحــة أبويــة لـــ وليــد تدعــوه للتقــرب مــن نــدى ألن والدهــا رجــل ثــري جــدا ً.
مــا زاد مــن ركاكــة هــذه املواجهــة افتقــاد معالجتهــا ألي منطــق ،إذ ال يبــدو مفهومـاً عــى
اإلطــاق مــا يدفــع مرينــا (املمثلــة التونســية هنــد صــري) صديقــة وليــد بالــذات والتــي
تنتظــر منــه أن يتزوجهــا ،يك تقــوم مبســاعدته عــى إفشــال العالقــة بــن عــي ونــدى لدرجــة
أن تحــاول إغــواءه أمــام أنظارهــا!!
عندمــا نصــل يف لحظــة مــا مــن نهايــة الفيلــم إىل التســاؤل :ومــاذا بعــد .فذلــك يعنــي
أن الــراع الدرامــي فيــه قــد انتهــى ،أمــا الفيلــم فــا .مــع وصــول الشــابني والفتاتــن إىل
ســويرسا مبنحــة مــن األكادمييــة نستشــعر هــذه اللحظــة ،فيقــدم لنــا الفيلــم وصلــة غنائيــة
182
يك ال نضجــر ،وهــي ليســت األوىل بطبيعــة الحــال ،فقــد حفــل الفيلــم بأربــع أغــان طويلــة
صــورت بأســلوب الفيديــو كليــب الــذي يجيــده مديــر التصويــر محســن أحمــد صاحــب
الخــرة يف هــذا املجــال ،لكنــه اســتخدم هــذا األســلوب هنــا دون أن يلتفــت النســجام ذلــك
مــع طبيعــة العمــل .عــى العمــوم قــد يبــدو التصوير هــو الرابــح األكــر يف الفيلم ،فــكل يشء
يف داخلــه نظيــف وجميــل ومرتــب :الطبيعــة والوجــوه واألماكــن والديكــورات واملالبــس...
ومــا عــى املصــور ســوى أن يجســدها عــى رشيــط الســلولويد .هــل هــي مصادفــة أم مجــرد
توجــه بــريء؟ ال نســتطيع أن نجــزم ،لكننــا ســنجد أكــر مــن إشــارة يف الصحافــة املرصيــة
عــن أفــام صنعــت خصيصـاً لغايــات إعالنيــة بحتــة ،إذ تعــود ملكيــة أماكــن التصويــر مــن
قــرى ســياحية وتجمعــات تجاريــة إىل منتجــي هــذه األفــام أنفســهم.
مــع النهايــة يــأىب الفيلــم أال يســتنفذ مــا تبقــى لــه مــن عنــارص ميلودراميــة ،فبعــد أن قامــت
«صحــوة الضمــر» عنــد مرينــا بإفشــاء مؤامــرات عشــيقها ملديــر األكادمييــة ،ليفــوز الرباعــي
املذكــور باملنحــة إىل ســويرسا ،يجــد املخــرج لزامــاً عليــه معاقبــة «الرشيــر» فريســله يف
أعقابهــم ليقــوم باختطــاف نــدى ،التــي ســينقذها بالطبــع عشــيقها البطــل عــر مطــاردات
ومشــاجرات عــى طريقــة األكشــن ،تنتهــي بوصــول الرشطة الســويرسية يف الوقت املناســب،
لنصــل إىل «النهايــة الســعيدة» املنتظــرة يف فيلــم هــو مزيــج مــن الكوميديــا وامليلودرامــا
واالســتعراض واألكشــنُ ،خلــط بصــورة عشــوائية خــارج أي اتســاق درامــي وفنــي.
جريدة «النور» السورية .2003
183
صاحب صاحبه
منــذ البدايــة يقــدم املخــرج ســعيد حامــد يف تجربتــه الجديــدة مــع السيناريســت ماهــر
عــواد شــخصيتني تجمــع بينهــا صداقــة قويــة لدرجــة أن يضحــي أحدهــا بالبقــاء يف
مــر للعنايــة بوالــدة اآلخــر املســافر إىل الخليــج عــى الرغــم مــن أن لديــه الفرصــة ذاتهــا
للســفر .وكل مــا ســيفعله الفيلــم حتــى أخــر لقطــة فيــه هــو التأكيــد عــى هــذه الرابطــة
الوشــيجة التــي تجمعهــا ،لينتهــي عملي ـاً مــن حيــث انطلــق .صداقتهــا لــن تتأثــر حتــى
بتلــك املواجهــة الناشــئة بينهــا عندمــا يســعى محمــد هنيــدي إىل اختــاق شــتى الخــدع
واملقالــب الطريفــة لحــث أرشف عبــد الباقــي للعــودة والبقــاء يف مــر ،والتــي قدمــت يف
إطــار كوميــدي بــريء ،لتشــكل مبجموعهــا املحــرك األســايس لألحــداث يف النصــف األول مــن
الفيلــم .بعــد فشــل جميــع هــذه املحــاوالت يطلــق هنيــدي ذروة خدعــه بإيهــام صديقــه
بواســطة طبيــب مزيــف أنــه مصــاب بــورم خبيــث ومل يتبــق مــن حياتــه ســوى بضعة أشــهر،
ليتخــذ الفيلــم يف نصفــه الثــاين محــركاً أخــر لألحــداث يســتند إىل التضحيــات املختلفــة التــي
يبــدي عبــد الباقــي اســتعداده لتقدميهــا يف ســبيل صديقــه.
مــا ســيتغري يف الفيلــم ليــس املحــرك الدرامــي وحــده ،وإمنــا الطابــع الكوميــدي الــذي يغلفــه
كذلــك .يف الجــزء األول نالحــظ عمومـاً اعتــاد املخــرج عــى نــوع مــن املحــاكاة الســاخرة،
184
التــي ظهــرت يف مقطعــن طويلــن مــرة للحالــة الخليجيــة وإفرازاتهــا مــن بــزخ وتظاهــر
وخضــوع البعــض لهــا ومجاراتهــا ،وأخــرى للطقــس التفــاويض الــذي يؤديــه هنيــدي وعبــد
الباقــي قبيــل زواج جــد األول مــن والــدة الثــاين بأســلوب تهكمــي ينســجم والوضــع الــذي
انعكســت فيــه مواقــع الجميــع .ومــن الواضــح هنــا أن مثة تفــاوت كبري مــن الناحيــة الفكرية
بــن مســتوى املحاكاتــن .بينــا تعتمــد املواقــف الكوميديــة يف الجــزء الثــاين بصــورة أساســية
عــى التناقــض القائــم يف شــخصية عبــد الباقــي ،بــن بخلــه الــذي ال يســتطيع التخلــص منــه
يف البدايــة ورغبتــه يف تقديــم كل مــا قــد يفــرح صديقــه هنيــدي ،كــا تأرجــح هــذا الجــزء
بــن الكوميديــا والنكهــة امليلودراميــة التــي أخــذت تطغــى عليــه ،وتخاطــب مشــاعر مــن
نــوع أخــر عنــد املشــاهدين ،لتســيطر عليــه بصــورة كاملــة يف النهايــة.
كــا أن الفيلــم تنقــل مــن مــأزق إىل أخــر ،بدايــة أفتقــد لجديــة املواجهــة بــن الشــخصيتني ـ
وهــو مــا كان ســيؤجج مــن قــوة الكوميديــا ـ لتأخــذ منحــى املقالــب الربيئــة التي ال يســتطيع
الفيلــم االســتمرار بهــا إىل مــا النهايــة مــن خــال محاكاتــه املتعــددة ،ليغــر منحــاه مســتمدا ً
طرافتــه مــن تناقــض إحــدى شــخصياته ،بــكل مــا يســتتبعه ذلــك مــن شــحن عاطفــي باتجــاه
التأكيــد التدريجــي عــى وفائهــا للصداقــة ،أي يك يثبــت الفيلــم مــا أعلنــه أصـاً منــذ اللحظــة
األوىل .باإلضافــة إىل ذلــك ميكننــا مالحظــة انفصــال املقاطــع الكوميديــة األساســية يف الفيلــم
بعضهــا عــن بعــض ،لدرجــة أنــه ميكــن إعــادة ترتيبهــا أو حتــى إلغــاء بعضهــا دون أن يشــكل
ذلــك فارق ـاً .تطلــب هــذا االنفصــام للروابــط عنــارص أخــرى تقــوم بســد الفــراغ الناشــئ،
185
كأغنيــة تــأيت غالبـاً يف نهايــة املقطــع أو ظهــور شــخصية ثانويــة ليــس لهــا أي دور وظيفــي
وتتحــرك خــارج أي ســياق كاللــص هشــام جمعــة ،وأحيانـاً أخــرى بــروز مشــاهد عاطفيــة
ترافقهــا موســيقا مفرطــة يف رومانســيتها للداللــة عليهــا.
هــذا التفــكك الــذي حفــل بــه الســيناريو ،جعــل جميــع الشــخصيات األخــرى يف الفيلــم
باهتــة بالــكاد نتلمــس وجودهــا ،رمبــا ألنهــا باألصــل حــرت فيــه دون رؤيــة واضحــة
لوظيفتهــا ودورهــا ،اللهــم رضورة تزيــن الفيلــم بوجــه نســايئ ينتظــر الحبيــب الغائــب
متثلــه أمــرة نايــف ،أو اختــاق قصــة حــب تقليديــة عابــرة للطبقــات تشــارك فيهــا أريهــام
عبــد الغفــور ،أو الحاجــة إىل اسكتشــات قصــرة لالســراحة يؤديهــا مهــرج أو عجــوزان
يهرجــان.
مــع محمــد هنيــدي حققــت الســينام املرصيــة قبــل ســنوات إيــرادات خياليــة تجــاوزت
العرشيــن مليــون جنيــه ،ومعــه انطلقــت موجــة مغايــرة مــن األفــام انتقدهــا الكثــرون
ووقــف معهــا آخــرون ،لكــن يبقــى رهانهــا األول واألخــر عــى الجمهــور ،مــا يدفعنــا
للتســاؤل هــل ســيؤدي فشــل «صاحــب صاحبــه» عــى املســتوى الجامهــري إلعــادة العديــد
مــن املنتجــن واملخرجــن والنجــوم النظــر يف توجهاتهــم الســينامئية ونوعيــة األفــام التــي
ســيصنعونها مســتقبالً.
186
آالم املسيح
بني التوثيق التاريخي والخلق الفني
منــذ زمــن بعيــد مل يــر فيلــم مــا أثــاره «آالم املســيح» مــن جــدل وســجال مل ينتهيــا حتــى
اللحظــة ،ولــن كان مــن املتوقــع أن تتمحــور هــذه الســجاالت يف معظمهــا حــول قضايــا
دينيــة وتاريخيــة وسياســية تــأيت مــن خــارج الفيلــم ،لتشــكل أحداثــه بذلــك مجــرد حافــز
النطالقهــا ،وهــو أمــر شــبه تقليــدي يف هــذه النوعيــة مــن األعــال ،غــر أن البنــاء الدرامــي
والفنــي للفيلــم ســاهم بصــورة كبــرة بــل وحاســمة يف تكريــس هــذا التوجــه .فالفيلــم
يصــور الســاعات الـــ 12األخــرة مــن حيــاة الســيد املســيح ،ويدعــي ارتقــاءه إىل مســتوى
الوثيقــة التاريخيــة املقتبســة حرفيــاً عــن األناجيــل األربعــة .وهــذا التوجــه مــن ناحيــة
التكثيــف الزمنــي يحمــل الكثــر مــن املجازفــة يف حــد ذاتــه ،إذ يجعــل مــن الصعوبــة مبــكان
رســم بورتريــه إنســاين لشــخصية الســيد املســيح ،مــن دونــه يصبــح التامهــي أو التعاطــف
مــع عذاباتهــا التــي يقدمهــا الفيلــم عــى مــدى أكــر مــن ســاعتني عمليــة صعبــة إن مل تكــن
مســتحيلة .بالطبــع هــذا الــكالم يبــدو متناقض ـاً مــع الوقائــع الكثــرة التــي بثتهــا وســائل
األعــام حــول األثــر الكبــر الــذي تركــه الفيلــم يف نفــوس مشــاهديه (رجــل ديــن أصيــب
بأزمــة قلبيــة مــات عــى أثرهــا ،مجــرم اعــرف بجرميــة ارتكبهــا منــذ زمــن ...الــخ) ،لكــن
187
هــذا األثــر نابــع يف جوهــره مــن خــارج الفيلــم وليــس مــن داخلــه .فهــو منــذ البدايــة
اســتند إىل املخــزون املعــريف والوجــداين واملتخيــل املتأصــل يف وعــي املشــاهدين عــن حيــاة
وشــخصية الســيد املســيح ،لذلــك مل يجــد رضورة يف إعــادة بنــاء الشــخصية دراميـاً ،فبــدت
مجــردة مــن مكوناتهــا النفســية والثقافيــة واألخالقيــة ،ومســتلبة عــن الســياق التاريخــي
الــذي جــاءت فيــه ،وبــدا تفاعلهــا مــع اآلخريــن ومــع القضيــة التــي كرســت حياتهــا لهــا يف
كثــر مــن املواضــع ال مبالي ـاً أو حيادي ـاً بــل ومتعالي ـاً ،ليعجــز بذلــك عــن أنســنتها.
ال نســتطيع الجــزم بعــدم قصديــة ذلــك مــن منطلــق تغليــب «اإللهــي» عــى «اإلنســاين»
يف الشــخصية مــن جهــة ،واألمانــة لتوثيــق الــرد اإلنجيــي مــن جهــة أخــرى .ويف هــذه
الحالــة يضعنــا الفيلــم أمــام أكــر مــن إشــكالية ،فالحديــث عــن آالم يســتبعد قطعـاً «اإللهي»
بصفتــه مجــرد ال ميتلــك أحاســيس ويدفــع إىل املقدمــة الجانــب اإلنســاين لشــخصية الســيد
املســيح ،والتــي ميكــن أن نجــد لهــا حقـاً مرتكــزات يف العهــد الجديــد تدعــم هــذا الجانــب
وتحيــط بأبعــاده النفســية واألخالقيــة ،غــر أن الفيلــم مل يقــم باســتغاللها وتســليط الضــوء
عليهــا .هــذا دون التأكيــد عــى الخيــال الخــاق الــذي ال غنــى ألي عمــل فنــي عنــه والكفيــل
بخلقهــا .لكــن هــل مثــة مجــال للخلــق الفنــي يف فيلــم مل يــرد أن يختلــق شــيئاً؟ األمــر
الــذي يعيدنــا إىل النقطــة الثانيــة ـ التوثيــق .كــا هــو معــروف مل تــرو األحــداث األخــرة
مــن حيــاة الســيد املســيح بنفــس التفاصيــل يف الصفحــات األخــرة مــن األناجيــل األربعــة،
وقــد تبــدو الخالفــات الصغــرة بينهــا ليســت بــذي أهميــة ،لكنهــا تؤكــد هنــا أن الدوافــع
188
الفنيــة وأحيان ـاً السياســية التــي حــددت الخيــارات التــي وقعــت عــى بعــض التفاصيــل
دون غريهــا مل تكــن غائبــة عــن نســيج الفيلــم .فنجــد مثـاً بيالطــس البنطــي يغســل يديــه
مــن دم املســيح فــرد كهنــة اليهــود عليــه «دمــه علينــا وعــى أبناءنــا» فقــط يف إنجيــل
متــى ،وغيبســون اختــار هــذه الحادثــة تحديــدا ً ،ويف نفــس الوقــت مل يقــم برتجمــة هــذه
العبــارة إىل التــرات اإلنكليزيــة ،وهــذا خيــار أخــر ال ميكــن تجاهــل دور الحملــة التــي
شــنتها الجمعيــات اليهوديــة ضــد الفيلــم واتهامــه بالالســامية يف تحديــده .األمــر نفســه
يتكــرر مــع حادثــة إرســال الســيد املســيح إىل هــردوس التــي مل تــرد ســوى يف إنجيــل لوقــا
ورغــم ذلــك وقــع خيــار غيبســون عليهــا يف الفيلــم ،ألســباب تتعلــق بتكثيــف حالــة مــا قبــل
الصلــب يف الفيلــم .هــذا باإلضافــة لوجــود تفاصيــل أخــرى ال عالقــة لهــا بــأي مــن األناجيــل
كحادثــة تعليــق املســيح مــن قدميــه فــوق الجــر ،أو قيــام الغــراب بفقــيء عينــي أحــد
اللصــن املعلقــن إىل جانبيــه عــى الصليــب ،والتــي رمبــا تكــون مقتبســة مــن مراجــع أخــرى
قيــل إن الفيلــم أعتمــد عليهــا مثــل مذكــرات راهبــة مــن القــرن التاســع عــر تدعــى آن
كاثريــن امريتــش .ثــم مــن أيــن جــاء هــذا التوصيــف لعمليــة الجلــد القاســية كــا يقدمهــا
الفيلــم ،أيضـاً كان خيــارا ً ليــس لــه عالقــة بــأي توثيــق مــن داخــل األناجيــل .خالصــة القــول
إن اتــكاء الفيلــم عــى «التوثيــق» وإيجــاد مســوغات للرتكيبــة التــي طلــع بهــا عــى هــذا
األســاس ال يبــدو دقيقـاً ،فالفيلــم كان يف النهايــة قامئـاً عــى خيــارات محــددة بدقــة تعكــس
رؤيــة محــددة لصانــع الفيلــم تجــاه األحــداث التــي يصورهــا ،وهــذا هــو شــأن الفــن ـ
189
فهــو يف النهايــة خيــار فكــري وإبداعــي وتخيــي مــن دونــه يفقــد العمــل روحــه وأصالتــه،
و «آالم املســيح» فقدهــا يف جوهــره أي يف شــخصيته املحوريــة والوحيــدة عملي ـاً عندمــا
قــام بتعريتهــا مــن وجههــا اإلنســاين .نعــم حــاول الفيلــم خلــق عالقــة تراكميــة بــن بعــض
املشــاهد ـ األوقــات التــي عايشــها الســيد املســيح ماضيـاً وصــوالً إىل النهايــة التــي آل إليهــا،
لكــن املحاولــة مل تكــن فاشــلة الســتنادها لــذات البعــد «اإللهــي» املجــرد للشــخصية ،أو
الختــزال هــذه املشــاهد واقتطاعهــا عــن ســياق يفــرض املخــرج إدراك املشــاهدين ملاهيتــه
فحســب ،وإمنــا كذلــك بســبب القطــع املونتاجــي الفــظ لحــاالت دراميــة قويــة والعــودة
إىل الــوراء (فــاش بــاك) إىل مشــاهد تســبق الســاعات األخــرة مــن حيــاة الســيد املســيح
ويفــرض أن تؤســس للحالــة الراهنــة ،فــا هــي أسســت ومل تــدع املشــاهد املقطعــة توصــل
شــحنتها الدراميــة للمتفرجــن.
لكــن عــن أي متفرجــن نحــن نتكلــم؟ ملــاذا الرتكيــز عــى ذلــك املتفــرج البعيــد معرفي ـاً
ووجداني ـاً عــن شــخصية الســيد املســيح وحياتــه وتاريخــه والــذي مل يصنــع بــكل تأكيــد
ميــل غيبســون فيلمــه ألجلــه ،وهــو مــا ميثــل الخيــار األكــر لــه؟ الســبب ببســاطة أننــا
نتنــاول فيلـاً وليــس وثيقــة دينيــة ،وكل فيلــم ســيناميئ هــو عــامل لــه اســتقالليته وقوانينــه
ومنطقــه الخــاص ،وعندمــا يعجــز أي فيلــم بهــذا املســتوى أو ذاك عــن خلــق هــذا العــامل،
هــذه الوحــدة الدراميــة والفنيــة املتكاملــة واملتجانســة عضويـاً ،يعنــي أن مثــة خلـاً بنيويـاً
يف داخلــه ،وهــو مــا حاولنــا اإلشــارة إليــه .مــن جهــة أخــرى لــن نكــون منصفــن إذا مــا
190
اتهمنــا غيبســون بأنــه مل يكــن واعيـاً وموقنـاً لذلــك الخلــل ،وهــو املخــرج أو املمثــل ألفــام
هوليووديــة بــكل املقاييــس مثــل «قلــب شــجاع» و«الوطنــي» ال مــكان فيهــا لخلــل بهــذا
الحجــم .أي أنــه مل يكــن مجــرد خطــأ أو صدفــة ،بــل كان تعبــرا ً عــن رؤيــة واضحــة ذي
خلفيــة دينيــة متزمتــة تحــاول أن تعيــد للســيد املســيح يف الســينام الوجــه «اإللهــي» بعــد
أن حاولــت أعــال ســينامئية كبــرة مثــل «اإلنجيــل كــا رواه متــى» لبازولينــي و «اإلغــواء
األخــر للمســيح» لسكورســيزي إعــادة االعتبــار لوجهــه اإلنســاين وهــو مــا جعلهــا تواجــه يف
حينــه بالكثــر مــن العــداء والهجــوم مــن قبــل الكنيســة ،ويف نفــس الوقــت تقــوم بامتهــان
هــذا «اإللهــي» عــى املســتوى املــادي املتمثــل بجســد الســيد املســيح مــن خــال تعريضــه
لشــتى أنــواع العــذاب ،األمــر الــذي البــد أن يــرك األثــر الكبــر يف النفــوس وهــو مــا حــدث
بالفعــل.
إىل ذلــك ال ميكننــا الحديــث عــن الفيلــم دون اإلشــارة إىل القضيــة التــي أثــارت الكثــر
مــن النقاشــات حولــه ،ونقصــد تحديــدا ً مســألة العــداء للســامية التــي رفعــت شــعارها
جمعيــات وتنظيــات وشــخصيات يهوديــة مختلفــة ،وأنســاق إليهــا ومعهــا بعــض الكتــاب
والصحفيــن العــرب الذيــن وجــدوا مســوغاً يف الفيلــم للهجــوم عــى اليهــود والصهيونيــة
وإرسائيــل جميعـاً ،مؤسســن هجومهــم عــى «املســؤولية التاريخيــة» لليهــود يف قتــل الســيد
املســيح وتحميلهــا إىل جميــع يهــود األرض حيثــا وأينــا وجــدوا .وهــو أمــر عــدا عــن أنــه
يصــب يف ذات اإلدعــاء العنــري بــأن اليهــود «شــعب اللــه املختــار» مــا دام أن التعامــل
191
معهــم يجــري عــى ذات األســاس العرقــي املطلــق ،يؤســس لــذات املنطلقــات العنرصيــة
التــي تطلقهــا الصهيونيــة حــول «الحــق التاريخــي» يف فلســطني .فبــاذا يفيدنــا مثــل هــذا
االنســياق األعمــى ملفاهيــم تقــوم الصهيونيــة نفســها بالرتويــج لهــا؟
192
ما يطلبه املستمعون
عــاذا يتكلــم فيلــم عبــد اللطيــف عبــد الحميــد الســادس «مــا يطلبــه املســتمعون»؟ نطــرح
الســؤال ألن اإلجابــة عليــه قــد ال تكــون واضحــة متام ـاً بــل وقــد يحتمــل عــدة إجابــات،
وعــى أســاس إجابتنــا ميكننــا الوقــوف عنــد خطوطــه وشــخصياته والعالقــات التــي يرســمها
ودالالتهــا ،وتحليــل كل ذلــك يف محاولــة لتقييمــه .هــل ميكــن عــده فيلـاً مناهضـاً للحــرب
العدوانيــة اإلرسائيليــة ال أكــر؟ ال شــك أن الفيلــم مناهــض لهــذه الحــرب ،بــل وناهضهــا
مبعالجــة ســينامئية جميلــة وراقيــة ،لكــن تلــك ليســت املوضوعة األساســية لــه ،وإال التخذت
عنــارص البهجــة مــن حــب ورقــص وموســيقا مســاحة أكــر يف الفيلــم ،إن مل تكــن املســاحة
بأكملهــا كعامــل تبايــن صــارخ مــع الحــرب ومــا تجلبــه معهــا مــن دمــار ومــوت وتعاســة
وحــزن ،بينــا نجــد أن الفيلــم مل يركــز عــى هــذه العنــارص يف الضيعــة فحســب وإمنــا كان
أمينــاً للواقــع الــذي يصــوره وقــدم نقيضهــا كذلــك .إذن هــل ميكــن عــد الفيلــم مجــرد
لوحــة بانوراميــة ترتصــد بيئــة محــددة مبــا تفــرزه مــن عالقــات ومنــاذج إنســانية متنوعــة
ومتناقضــة تعكــس يف املحصلــة أفراحهــا وأحزانهــا الكبــرة والصغــرة يف نهايــة الســتينات
مــن القــرن املــايض؟ ذلــك ممكــن ،والفيلــم قــدم بالفعــل هــذه البانورامــا .لكــن عندهــا ال
يعــود مثــة معنــى لــكل تلــك املشــاهد املتعلقــة بالحــرب ،ويصبــح املشــهد األخــر بالفيلــم
193
مجــرد خيــار مــن بــن عــدة خيــارات محتملــة إلنهائــه ،وميكــن أن يســتبدل بــأي مشــهد ـ
خيــار أخــر ،وتــم اعتــاده فقــط لقوتــه الدراميــة وقدرتــه عــى هــز مشــاعر املشــاهدين.
أمــا القــراءة الثالثــة التــي نتبناهــا وســنحاول الربهنــة عليهــا تقــول أن «مــا يطلبــه
املســتمعون» هــو فيلــم عــن العزلــة بامتيــاز .فمنــذ املشــهد األول وانتقــال الكامــرا مــن
صنــدوق الربيــد إىل البحــر املمتــد إىل الالنهايــة ،يضعنــا الفيلــم يف صميــم التناقــض الــذي
يطرحــه بــن عــامل الضيعــة املنغلــق عــى نفســه كـ«الصنــدوق الربيــدي» والعــامل الخارجــي
الالمتناهــي كـ«البحــر» ،ليصبــح الراديــو هــو الصلــة الوحيــدة تقريب ـاً التــي تربــط ســكانها
مبــا يجــري يف العــامل مــن حولهــم ،بــل وأحــد املــرات القليلــة يف حياتهــم ،لدرجــة ترقبهــم
األســبوعي لربنامــج «مــا يطلبــه املســتمعون» كل ثالثــاء.
والحقيقــة أن معظــم شــخصيات الفيلــم برتكيبتهــا املتفــردة وتفاعالتهــا املتبادلــة تخلــق
إيقاع ـاً خاص ـاً يف الفيلــم يعكــس مجازي ـاً قطبــي هــذه العزلــة ـ الضيعــة املنغلقــة الســاكنة
واملنطويــة عــى ذاتهــا ،والعــامل الخارجــي بانفتاحــه واضطرابــه وهيجانــه .ميكننــا أن نالحــظ
تجســد ذلــك بصــورة واضحــة يف الثنائيــات املتناقضــة التاليــة :أبــو جــال (جــال قبــش)
الــزوج الســاكن الصبــور ،وأم جــال (نبــال جزائــري) الزوجــة الهائجــة التــي ال تنفــك تــرخ
بالجميــع وتلعــن الجميــع .الفتــاة عزيــزة (ريــم عــي) التــي تخفــي رسا ً عشــقها لجــال،
وجــال (إبراهيــم عيــى) الــذي عــر عــن حبــه لهــا راقصــاً وصارخــاً .صالــح (مأمــون
الخطيــب) الســاكن دوم ـاً والحزيــن دوم ـاً والجائــع دوم ـاً إىل الطعــام والعاطفــة والجنــس،
194
ووظيفــة (إميــان الجابــر) خطيبتــه الجامحــة والراكضــة طيلــة الوقــت هرب ـاً مــن رصخــات
ســيدها وزوجتــه .أمــا ســليم األخــرس (فايــز قــزق) فهــو بانفعاالتــه وترصفاتــه عــامل منعــزل
بحــد ذاتــه ال يفهمــه يف كثــر مــن األحيــان حتــى أقــرب األشــخاص إليــه ويعــد االختــزال
األكــر للحالــة بقطبيهــا.
طيلــة الفيلــم ســوف نتابــع انفعــاالت هــذه الشــخصيات وتفاعلهــا مــع بعضهــا يف إيقــاع
متصاعــد تــارة عــر الصخــب والغضــب والركــض والفــرح والرقــص واملفرقعــات والضحــك،
ويخفــت تــارة أخــرى تحــت وطــأة الصمــت واألمل والجــوع والكبــت والرضــوخ والحــزن.
لريســم هــذا اإليقــاع لنــا يف املحصلــة صــورة متكاملــة عــن اإلفــرازات التــي أنتجهــا واقــع
العزلــة الــذي تعيشــه الضيعــة عــى مســتوى تركيبتهــا الطبقيــة وعالقاتهــا وعاداتهــا
وثقافتها...الــخ .غــر أننــا نالحــظ تفــوق الخــط املتصاعــد لــه وســيطرته عــى حســاب الخــط
اآلخــر الــذي بــدا باهتـاً إىل حــد مــا ،عــى الرغــم مــن القــدرات الدراميــة الكبــرة الكامنــة
يف شــخصيات الفيلــم وخطوطــه للتعبــر عنــه.
هل هذه صدفة أم إشكالية أم غاية مقصودة يف الفيلم؟
لإلجابــة عــى هــذا الســؤال البــد مــن ربطــه بآليــة اتصــال الضيعــة بالعــامل الخارجــي إال
وهــي الراديــو ،وهــي مســألة جوهريــة يقــوم الفيلــم بأكملــه عليهــا ،ولعلــه ال ميكــن تحليــل
أي مســألة فيــه مبعــزل عنهــا .يف بدايــة الفيلــم تبــدو هــذه األداة مجــرد وســيلة للرتفيــه مــن
خــال برنامــج «مــا يطلبــه املســتمعون» ،وحتــى عندمــا يُقطــع الربنامــج بخــر عــن الغــارات
195
اإلرسائيليــة ،ينصــب غضــب أهــل القريــة عــى إرسائيــل بصــورة أساســية ألنهــا تســببت
بقطــع الربنامــج ،وعندمــا يخــرون البائــع املتجــول مبــا جــرى نجــده ال يأبــه كثــرا ً وينتقــل
لعــرض بضائعــه عليهــم دون تعليــق كبــر عــى الحــدث يف أحــد أكــر مشــاهد الفيلــم
أهميــة وداللــة عــى واقــع العزلــة املحيــط بالضيعــة والــذي جعلهــا منغلقــة عــى أفراحهــا
وأحزانهــا وبعيــدة كل البعــد عــن البلــد ومــا يحيــط بــه ،أمــا تواصلهــا الحقيقــي معــه ســوف
يحــدث عندمــا تفجــع فجــأة بأحــد أبنائهــا ،وإليصــال إحساســها بحجــم الكارثــة التــي وقعت
عليهــا كان البــد مــن التخفيــف قليـاً مــن الجانــب املأســاوي يف حياتهــا ،ولــو عــى املســتوى
الشــكيل لصالــح الجوانــب األكــر مرح ـاً وفكاهــة ورومانســية وصخب ـاً رغــم أن أي منهــا مل
يخــل مــن املأســاوي بصــورة أو بأخــرى .ومــن هنــا ميكننــا أن نفهــم الــدور الوظيفــي الــذي
لعبــه الــا تــوازن يف اإليقــاع املشــار إليــه أنفـاً.
لكــن إىل أي مــدى اســتطاع الراديــو فع ـاً أن يــؤدي وظيفتــه يف الفيلــم عــى النحــو املــراد
منــه ،كأداة تربــط الضيعــة بالخــارج وتغــر مــن عالقتهــا معــه بالتدريــج ،وخاصــة يف مشــهد
الــذروة األخــر مــع وصــول جثــان جــال إليهــا حيــث التحــول ســيصبح جوهريـاً ،وســيكف
الراديــو عــن كونــه مجــرد أغــان بالنســبة لهــم ،ورمبــا ســتجمعهم بعــد اليــوم نــرات األخبار
أكــر مــن برنامجهــم املحبــب ،وأخبــار الغــارات ســتكون رديفــة للمــوت ،ولــن يعــرض البائع
املتجــول بضاعتــه ببســاطة بعــد هكــذا خــر ،فالضيعــة ســتغدو منــذ هــذه اللحظــة جــزءا ً
مــن البلــد يتجــاوز الجغرافيــا ملــا هــو أعمــق وأبعــد.
196
هنــا تــرز اإلشــكالية األكــر يف الفيلــم ،إذ أننــا مل نلمــس هــذا التحــول يف املشــهد املذكــور،
فالراديــو ـ وإن كنــا نســمعه عــى خلفيــة الصــورة ـ بقــي يف هــذا املشــهد كــا كان طيلــة
الفيلــم يبــث األغــاين وكأن ال يشء تغــر يف الضيعــة ،فافقــد الوظيفــة التــي وجــد ألجلهــا
غايتهــا .ال شــك أن هــذا التبايــن بــن الصــورة والصوت يف املشــهد ،بثقلــه الدرامــي والعاطفي
الكبرييــن أغريــا املخــرج بهــذا الخيــار ولــو عــى حســاب املنطــق الدرامــي للفيلــم ،ورمبــا
لــو مل يكــن هــذا املشــهد هــو األخــر كان تقبلــه ممكنـاً ،لكنــه كان األخــر .أمــا عــى مســتوى
الصــورة ،فقــد بــدت مراســم الجنــازة يف بــؤرة املشــهد ومركــز ثقلــه ،رغــم أنهــا ليســت عــى
هــذا القــدر مــن األهميــة يف حــد ذاتهــا ،فاألســايس يف ســياق الفيلــم هــو داللتهــا كنقطــة
تحــول يف حيــاة الضيعــة ،التــي تراجــع موقعهــا نتيجــة ذلــك إىل الدرجــة الثانيــة ،وطغــت
صورتهــا الجامعيــة عــى االنفعــاالت الذاتيــة لألشــخاص األكــر قرب ـاً مــن جــال :عائلتــه
وعشــيقته وصديقــه األخــرس ،القــادرة عــى عكــس حجــم املأســاة بأكــر صورهــا تعبــرا ً،
فبــدت باهتــة مقارنــة معهــا .والحقيقــة أن مــا يســرعي املالحظــة هنــا أن عالقــة هــؤالء
تحديــدا ً بالراديــو مل تتغــر كثــرا ً خــال الفيلــم حتــى بعدمــا اســتدعي جــال إىل الجبهــة،
لذلــك كنــا بعيديــن عــن تتبــع التحــول التدريجــي الــذي يفــرض أنــه طــرأ بعــد ذلــك عــى
عالقتهــم بالخــارج وصــوالً إىل ذروتــه يف املشــهد األخــر ،الــذي جعلنــا نتكهــن بهــذا التحــول
أكــر مــا دفعنــا لإلحســاس بــه.
املــكان يف الفيلــم لعــب كذلــك دورا ً هامـاً يف التأكيــد عــى مفهــوم العزلــة ومــا تولــده مــن
197
انغــاق وضيــق يف الضيعــة ،بــدءا ً مــن منازلهــا التــي صــورت متباعــدة ومنعزلــة عــن بعضهــا
البعــض ،مــرورا ً بالغــرف الضيقــة واألرسة الضيقــة ،وانتهــاء بالربميــل الــذي ال يخلــو من ذات
الداللــة .لكــن األهــم مــن كل ذلــك أن الفيلــم حافــظ عــى وحــدة هــذا املــكان ـ الضيعــة
وأكــد مشــهدياً عــى انفصالــه عــن الخــارج طيلــة الفيلــم تقريب ـاً ،ومل يخــل بهــذه الوحــدة
إال يف بضعــة مشــاهد خــرج فيهــا وراء جــال إىل أجــواء املهاجــع واملعــارك والشــوارع،
وأعتقــد أنــه أخطــأ يف ذلــك وكــر الحالــة التــي خلقهــا وحافــظ عليهــا معظــم الوقــت دون
مــررات تخــدم موضوعتــه ،فقبــل هــذا الكــر القــري لوحــدة املــكان كنــا نــرى مــا يجــري
خــارج الضيعــة مــن زاويــة محــددة للرؤيــة تخــص أهلهــا تحديــدا ً ونتفاعــل معــه عــى هــذا
األســاس ،ويف ذلــك تكمــن إحــدى أهــم نقــاط القــوة يف الفيلــم ،غــر أنهــا انتكســت عندمــا
أصبحنــا فجــأة نشــاهد هــذا «الخــارج» مــن زاويــة أخــرى ال تفيــد عــى اإلطــاق التصعيــد
التدريجــي للزاويــة األساســية التــي اعتمدهــا الفيلــم والتحــول الجوهــري الــذي يطالهــا يف
النهايــة.
198
أوعى وشك
عــى مــدى تاريــخ الســينام املرصيــة كان للميلودرامــا مكانــة متميــزة يف نتاجهــا ،فهيمنــت
بصــورة خاصــة يف العقــود األوىل مــن نشــأتها ،كــا تشــعبت وازدهــرت يف الخمســينات
والســتينات ،ومل تتوقــف عنارصهــا عــن التغلغــل يف شــتى األعــال خــال الســبعينات
والثامنينــات .ومــع نهايــة التســعينات وظهــور مــا اصطلــح عــى تســميته املوجــة الشــبابية،
التــي دشــن بداياتهــا كــا يــرى البعــض فيلــم «اســاعيلية رايــح جــاي» ووصلــت إىل ذروتهــا
مــن ناحيــة اإليــرادات مــع فيلــم «اللمبــي» ،عــادت امليلودرامــا لتطــل برأســها مــن جديــد
يف الســينام املرصيــة.
فالبنيــة األساســية لهــذه األفــام قامــت كــا هــو معــروف عــى الكوميديــا ،التــي تعتمــد
منهجي ـاً يف الكثــر مــن أنواعهــا وأجناســها عــى عنــارص ميلودراميــة متعــددة (شــخصيات
منطيــة ،حلــول تعســفية للحبكــة ،نهايــة ســعيدة )...تنســجم وهــذه األنــواع واألجنــاس .مــن
جهــة أخــرى نجــد أن امليلودرامــا يف الســينام والتلفزيــون تلجــأ أحيانـاً كثــرة إىل مقومــات
تنتمــي إىل أنــواع محــددة مــن الكوميديــا .وبالتــايل نحــن أمــام جنســن فيلميــن عــى رغــم
تداخلهــا غــر أنهــا مختلفــان متامـاً ،وجوهــر االختــاف يعــود إىل الثقــل األســايس يف بنيــة
كل منهــا :ميلودرامــي أم كوميــدي.
199
ولعــل أحــد أكــر إشــكاليات «الســينام الشــبابية» املعــارصة يف مــر عــدم قدرتهــا عــى
خلــق هــذا الثقــل األســايس يف العمــل ،وبالتــايل تحقيــق إيقــاع منســجم للســرورة الدراميــة
وتعبرياتهــا وتجلياتهــا ومتثلهــا يف داخلــه .ولتوضيــح هــذه الفكــرة ميكننــا تنــاول فيلــم
املخــرج ســعيد حامــد «أوعــى وشــك» كنمــوذج لهــذه النوعيــة مــن األعــال.
مــن املعــروف أن املشــاهد األوىل ألي فيلــم إمــا تدخلنــا مبــارشة يف مناخــه العــام أو متهــد
لــه ،أو عــى العكــس قــد تضعنــا يف أجــواء مناقضــة ملناخــه يك تصدمنــا بــه الحقـاً .لذلــك إذا
مــا عندنــا إىل املشــاهد األوىل يف فيلــم «أوعــى وشــك» بعــد االنتهــاء مــن مشــاهدته ملحاولــة
فهــم الوظيفــة التــي لعبتهــا يف هــذا الســياق ســوف نصــاب بارتبــاك شــديد ،إذ ميكننــا
التأكيــد عــى أنهــا أدخلتنــا مبــارشة يف أجوائــه ،طاملــا أن الجرعــة الكوميديــة مبــا حملتــه مــن
طابــع كاريكاتــوري للشــخصيات الرئيســية الفاعلــة واســتهزايئ تجــاه الشــخصيات الثانويــة
املفعــول فيهــا ،وســمت معظــم مراحــل الفيلــم وكانــت جــزءا ً فاعـاً يف نســيجه .لكــن مــن
جهــة أخــرى ميكننــا التأكيــد عــى العكــس ،أي أنــه اســتخدم بغيــة صدمنــا بأجــواء أخــرى
ذات طابــع مأســاوي ـ ميلودرامــي أخــذت كذلــك حيــزا ً واســعاً يف تركيبــه ،وخاصــة يف جزئــه
األخــر.
مــن حيــث املبــدأ األمــر بحــد ذاتــه ال ميكــن رفضــه ،مل ال؟ فــكل يشء يف الســينام مبــاح،
حتــى ذلــك املــزج بــن أجنــاس مختلفــة وأجــواء متناقضــة ومســتويات انفعاليــة متباينــة،
رشط أن يتمكــن املخــرج مــن ابتــكار قوانــن داخليــة منســجمة يف الفيلــم تــرر ذلــك املــزج
200
دراميـاً وفنيـاً .يف حالتنــا هــذا مل يحــدث ،واملــزج بــدا نوعـاً مــن الخلــط االعتباطــي ألجنــاس
وأجــواء ومســتويات انفعاليــة تتحــرك كل منهــا وفــق قوانينهــا الخاصــة وصيغهــا الجاهــزة
املســتوردة مــن خارجــه.
فالفيلــم يســتثمر الحالــة الكوميديــة التــي أسســها يف املشــاهد األوىل ،والقامئــة بصــورة
أساســية عــى املبالغــة يف ســلوكيات الشــخصيات الرئيســية حــودة (أحمــد رزق) وصديقــه
جعفــر (أحمــد عيــد) وردود فعــل الشــخصيات األخــرى واالســتهزاء والســخرية منهــا طيلــة
الفيلــم (كأن يعلنــا عــن وظائــف يف ليبيــا ومــن ثــم جمــع املتقدمــن ووضعهــم يف صحــراء
تتوســطها شــاخصة تشــر إىل بلــدان عديــدة .أو أن يعــرض حــودة كلبـاً للبيــع عــى أشــخاص
بســعر مرتفــع ومــن ثــم يــأيت جعفــر باحثـاً عــن كلــب مشــابه لرشائــه بســعر أغــى فيقــوم
«الحمقــى» بــراء الكلــب لبيعــه لحــودة الــذي يختفــي عــن األنظــار) وذلــك مــن خــال
خطــن دراميــن ترتكــز أحــداث أولهــا عــى عمليــات النصــب التــي يقومــان بهــا ،وثانيهــا
عــى رصاعهــا مــع عبــده املجنــون ـ نســيم باشــا (طلعــت زكريــا) .ومنــذ املشــهد األول
حيــث يتبــدى الــراع بــن الثالثــة عندمــا يرفــض عبــده إعطــاء الطفلــن املراهقــن حصتهــم
مــن عمليــة النصــب التــي قامــوا بهــا ســوية ،ومــن ثــم انتقــام الطفلــن منــه ورسقتــه،
يؤســس الفيلــم لحالــة ميلودراميــة تقــوم عــى رصاع منطــي بــن الظــامل واملظلــوم ،ينتهــي
كالعــادة بالقصــاص العــادل مــن األخــر ،ويف املشــهد الــذي يليــه نــرى شــابني (حــودة وجعفر
نفســهام) يف زي الرشطــة يحصــان مخالفــات ـ أتــاوات مــن الســيارات العابــرة ـ وقــد عجــز
201
اإلخــراج كليـاً يف نقــل اإلحســاس بهــذه املســافة الزمنيــة التــي انقضــت ـ لتتدخــل الصدفــة
ويلتقيــا مــع عبــدو الــذي كــر وأصبــح نســيم باشــا ،فيتعرفــون عــى بعضهــم البعــض ويبــدأ
يف مطاردتهــا.
وقلنــا يؤســس ألن عنــارص امليلودرامــا آنفــة الذكر ســوف تتوســع وتتطــور وتفــرض بالتدريج
إيقاعهــا عــى الفيلــم بأكملــه .التوســع يــأيت مــع دخــول العنــر النســايئ :عائشــة (حنــان
مطــاوع) وآيــة (منــة شــلبي) حيــث ســتقع األوىل بحــب جعفــر والثانيــة يف حــب حــودة،
لتتكشــف مــن خاللــه الجوانــب اإلنســانية والخــرة يف شــخصية النصابــن الظريفــن ،وكذلــك
الجوانــب الالإنســانية والرشيــرة يف شــخصية غرميهــا نســيم باشــا .ويتطــور األمــر ليشــكل
هــذا العنــر كــا هــو متوقــع الــرادع األخالقــي للتوقــف عــن أعاملهــا .وعنــد هــذه
اللحظــة ميكــن للمشــاهد أن يــودع الكوميديــا لفــرة ،ويستســلم لنغمــة مــن نــوع أخــر.
فــا أن يقــرر حــودة التوقــف بســبب حبــه آليــة ،حتــى ينشــب الخــاف بــن الصديقــن،
وتــزداد حــدة الصــدام وينفصــان ،ويتذكــران طفولتهــا ويحنــان إليهــا ،وميــي جعفــر إىل
آيــة ويخربهــا بحقيقــة عملهــا ،فتصــدم بهــا وتطــرد عشــيقها حــودة الــذي خدعــت بــه،
وتبــي بلوعــة وأىس عــى حبهــا الضائــع .لكــن املأســاة ال تســتمر طويـاً ـ فحبهــا لــه ونبتتــه
الصالحــة تســمح لهــا باملغفــرة ،ويعــود الصديقــان فيتصالحــا ،ويتحــول الجميــع إىل شــلة مــن
النصابــن الرشفــاء! أمــا هدفهــم هــذه املــرة فهــو عبــده ـ نســيم باشــا بالــذات .بعــد هــذه
الــدورة امليلودراميــة املتكاملــة والتــي مل يتخللهــا أدىن حــد مــن الفكاهــة ،يعــود املخــرج
202
مــن جديــد إىل أجــواء الكوميديــا وبنفــس الســوية مــن املبالغــة والســخرية واالســتهزاء يف
مشــهد ينجــح األربعــة فيــه بتمثيــل دور وفــد صينــي مــن رجــال األعــال أمــام نســيم باشــا،
فينجحــون يف أدائــه ويقبضــون منــه شــيكاً مببلــغ كبــر .ليقومــوا بعــد ذلــك بإحقــاق الحــق
وإعــادة مــا نهبــوه مــن فرائســهم الســهلة والغبيــة إليهــا مــن جديــد .بعــد هــذه املرحلــة
يقــرر املخــرج أن ي َّبهــر فيلمــه بــيء مــن التشــويق البوليــي ،فيخطــف نســيم باشــا عائشــة
ووالدهــا وجعفــر ،ويتصــل مهــددا ً حــودة بقتلهــم فيــا إذا مل يحــر األمــوال والوثائــق التي
تــدل عــى ماضيــه ورسقاتــه ،فينفــذ حــودة األمــر لكــن نســيم باشــا ال يكتفــي بذلــك فيقــوم
بتقييــده داخــل غرفــة ويفتــح جــرة الغــاز عليــه بغيــة قتلــه ،لكــن هيهــات ...فالقدريــة
امليلودراميــة البــد مــن أن تتدخــل مــن جديــد ،عــى صــورة عامــل تنظيــف للبنــاء يشــاهده
مــن خــارج نافــذة الغرفــة ويقــوم بإنقــاذه ،ليلحــق بطلنــا بالرشيــر وبعــد معركــة ال تخلــو
مــن األكشــن ينتــر عليــه محققـاً النهايــة الســعيدة املرجــوة.
وهكــذا نجــد أن الفيلــم تكــون مــن حلقــات منفصلــة مــن النغــات واإليقاعــات .فبــدأ
كوميديـاً بــروح ميلودراميــة ،لتســيطر عليــه الحقـاً إمــا مقاطــع مــن امليلودرامــا املطلقــة أو
الكوميديــا املطلقــة ،ولينتهــي ميلودرامي ـاً بنكهــة بوليســية .نحــن هنــا نتكلــم عــن مجــرد
منــوذج يعــاين مــن إشــكالية قلــا أصبحنــا نشــاهد فيلـاً مرصيـاً يخلــو منهــا ،عــى قلــة هــذا
األفــام التــي مل تتجــاوز العرشيــن يف العــام الفائــت.
مجلة «الوردة» السورية .2004
203
«باركوا املرأة»
عندما يستعاد التاريخ برؤية جديدة
مــن الطبيعــي جــدا ً أن تعــود الســينام الروســية املعــارصة مــرة تلــو األخــرى إىل املــايض ،يف
محاولــة إلضــاءة هــذا الجانــب أو ذاك مــن التاريــخ الســوفيتي للبــاد الــذي بقــي منغلق ـاً
عــى الكثــر مــن أرساره طيلــة ســبعة عقــود مــن الزمــن .ولــن بــدأت هــذه املحــاوالت
بصــورة متزامنــة مــع انطــاق البريســروكيا يف أواســط مثانينــات القــرن املنــرم ،غــر
أن اهتــام األفــام األوىل مثــل «صيــف 1953البــارد» و«غــدا ً كانــت الحــرب» و«الذيــن
أنهكتهــم الشــمس» كان منصبـاً بالدرجــة األوىل عــى تقديــم توصيــف جديــد للــايض بغيــة
الكشــف عــن مالمــح مل تكــن معروفــة ســابقاً عنــه وكان التطــرق إليهــا رضبـاً مــن االســتحالة
يف ظــل املنظومــة السياســية الســابقة املهيمنــة عــى البــاد والعبــاد .أمــا التحليــات األكــر
عمقـاً لهــذه املرحلــة فهــي مل تــزل يف أطوارهــا األوىل ،وليــس فيلــم ستانســاف غافاروخــن
األخــر «باركــوا املــرأة» 2003إال منوذج ـاً عنهــا.
يف تلــك الســنوات الالحقــة للبريســروكيا ابتعــد غافاروخــن عــن الســينام الروائيــة ،واتجــه
إىل ســينام مل يألفهــا ومل يتعامــل معهــا يومـاً ســواء عــى مســتوى الجنــس الفنــي أو املضمــون
الفيلمــي .فاســم غافاروخــن ارتبــط يف الســبعينات والثامنينــات بصــورة لصيقــة بأفــام
204
املغامــرات والتشــويق ،وكان أحــد أبــرز مخرجــي هــذا النــوع غــر املنتــر بكــرة يف الســينام
الســوفيتية ،واســتطاع خــال هذيــن العقديــن تحقيــق العديــد مــن األفــام التــي غــدت
مــن روائعهــا الكالســيكية ،ومل تــزل تعــرض عــى شاشــات التلفــزة حتــى اللحظــة مثــل
«قراصنــة القــرن العرشيــن» « 1979مــكان اللقــاء ال يتبــدل» « 1979البحــث عــن الكابــن
غرانــت» .1984لكــن مــا أن بــدأت التغيــرات تعصــف بالبــاد حتــى أنخــرط غافاروخــن
يف الحيــاة السياســية ،واتجــه إىل الســينام التســجيلية محققـاً ثالثــة أفــام جعلــت منــه أحــد
أهــم ممثليهــا يف الســينام الروســية املعــارصة .أولهــا «ال يجــوز العيــش هكــذا» 1990الــذي
صــور فيــه أكــر الجوانــب ســوداوية وبؤسـاً يف املجتمــع الــرويس ،ليعــود يف الثــاين «روســيا
التــي أضعناهــا» 1992ويتطــرق إىل أبــرز املحطــات املأســاوية التــي مــر الشــعب الــرويس
بهــا بــدءا ً مــن ثــورة أكتوبــر وحتــى منتصــف الثامنينــات ،أمــا يف الثالــث «الثــورة اإلجراميــة
العظمــى» 1994فتوقــف عنــد هيمنــة املافيــات عــى مختلــف جوانــب الحيــاة السياســية
واالقتصاديــة يف مرحلــة مــا بعــد البريســرويكا .ويغــرق غافاروخــن يف السياســة طويــاً
مبتعــدا ً عــن الســينام ،ليعــود إليهــا عــام 1999مــع فيلمــه «القنــاص» الــذي ال يختلــف يف
توجهــه عــن األعــال الروائيــة التــي اعتــاد إخراجهــا ،لكــن ذلــك ســيتغري متامـاً مــع فيلمــه
األخــر الــذي نحــن بصــدده.
عنــد االنتهــاء مــن مشــاهدة الفيلــم قــد نعتقــد أن مــا تابعنــاه للتــو ال يعــدو كونــه
ميلودرامــا جميلــة تبــدأ بقصــة حــب مــن النظــرة األوىل وتختتــم بنهايــة ســعيدة لقصــة
205
حــب أخــرى لــذات الشــخصية .لكــن هــذا االعتقــاد األويل بحــد ذاتــه يدفعنــا لطــرح الكثــر
مــن التســاؤالت حــول خيــارات املخــرج وغاياتهــا ســواء فيــا يتعلــق ببنيــة الــرد أو
املســاحة الزمنيــة التــي غطاهــا الفيلــم والتــي تصــل إىل حــوايل ثالثــن عام ـاً أو التوظيــف
الدرامــي للشــخصيات أو املفاصــل التاريخيــة التــي توقــف عندهــا والكيفيــة التــي تــم فيهــا
ذلــك وحتــى عنــوان الفيلــم نفســه ،كل ذلــك يجعلنــا مضطريــن إلعــادة النظــر يف رؤيتنــا لــه.
يف قريـة نائيـة يف الجنـوب تلتقـي فيرا (سـفيتالنا خودتشـينكوفا) التـي مل تتـم الثامنـة عرشة
مـن عمرهـا على شـاطئ البحـر مـع ضابط يف سـن والدهـا ،وتقع يف حبـه من النظـرة األوىل،
وال متضي بضعـة مشـاهد حتـى تتزوجـه وتسـافر معـه تاركـة وراءهـا أمهـا وأخاهـا وأختهـا
الصغيرة ،أمـا األب فلا نعـرف شـيئاً عنـه .كل ذلك يحدث برسعـة عجيبة ويف أجـواء أبعد ما
تكـون عـن الرومانسـية ،وتنطـوي عىل الكثري مـن الغرابة :رجل عسـكري يف منتهـى الرصامة
ال يعـرف وجهـه االبتسـامة على اإلطلاق ،ومل يصرح بكلمـة حب واحـدة أو حتـى أي كلمة
توحـي بالتـودد واإلعجـاب ،تتعلـق فيـه وتقـع يف حبه فتاة على النقيض منـه يف منتهى الرقة
والـود واملـرح دون أي مقدمـات ومسـوغات ومتضي معـه .وهكـذا يتـم تفتيت الرومانسـية
التـي نستشـفها يف املشـهد األول لفيرا وهـي تسـبح عاريـة يف البحـر وتغنـي على الشـاطئ
الرملي لصالـح مشـهدية قامتـة للمسـكن الجديـد الـذي انتقلـت إليه مـع زوجها الريتشـيف.
ومل نقـم بتوصيـف مسـهب لهـذه البدايـة التـي قـد تبـدو متكلفـة ومتصنعـة إال ألنها تشـكل
املفتـاح الرئيسي لولـوج عـامل الفيلـم بأكملـه كام سنرى الحقاً.
206
كل مــا ســيفعله الفيلــم يف جزئــه األول املمتــد لحــوايل ســاعة وربــع هــو التأســيس عــى هذه
البدايــة بغيــة تعميقهــا وترســيخها عــى خلفيــة األحــداث التــي متــر بهــا هاتــان الشــخصيتان.
فأحــداث الفيلــم تبــدأ عــام ،1935وهــو تاريــخ ال يخلــو مــن الداللــة ،إذ مــن املعــروف أن
ســلطة ســتالني ترســخت بصــورة كاملــة يف منتصــف الثالثينــات ،ليقــدم لنــا الفيلــم إشــارات
رسيعــة ومقتضبــة إىل بعــض إفــرازات هــذا النظــام داخــل املؤسســة العســكرية يف البــاد
مثــل اإلعدامــات الجامعيــة للضبــاط قبيــل الحــرب ،الخســائر البرشيــة الكبــرة التــي تعــرض
لهــا الجيــش األحمــر يف حربــه مــع فنلنــدا ،الدعايــة الكاذبــة فيــا يتعلــق بالحــرب مــع
أملانيــا النازيــة ،انتشــار الوشــاية بــن العســكريني وصعــود االنتهازيــن منهــم إىل املناصــب
القياديــة ،التشــكيك بوطنيــة الجنــود الذيــن وقعــوا يف األرس لــدى النازيــن والنظــر إليهــم
بريبــة ال تخلــو أحيانـاً كثــرة مــن التخويــن املبــارش واإلعفــاء مــن الخدمــة الحقـاً ـ هــذا يف
أحســن األحــوال.
ليتضــح لنــا أن اختيــار مهنــة الــزوج كضابــط عســكري مل يكــن صدفــة عــى اإلطــاق ،وهــذا
الخيــار مل يكــن يســعى إلعــادة طــرح املــآيس املتعلقــة باملؤسســة العســكرية فحســب ،إذ أنها
لطاملــا طرحــت يف ســنوات مــا بعــد البريســرويكا وأصبحــت معروفــة للجميــع ،بقــدر مــا
أراد غافاروخــن توظيفــه يف تحليــل منظومــة كاملــة مــن العالقــات االجتامعيــة والتاريخيــة
التــي نشــأت وترســخت يف ظــل النظــام التوتاليتــاري الســوفيتي.
العســكري محكــوم بالرضــوخ ،إىل حيــث يؤمــر باالنتقــال عليــه أن ينتقــل وزوجتــه ،وهنــا
207
االنتقــال الــذي ال ينفــك يتكــرر ويتكــرر يف الفيلــم إىل درجــة تصــل حــد العبــث التهكمــي
ليــس مجــرد فعــل إجــرايئ ،فعــن طريقــه يتــم تفتيــت املــكان ليــس بصفتــه جغرافيــا ـ
فاألمكنــة ال تســمى يف الفيلــم ـ وإمنــا بوصفــه حاضــن للبــر والروابط واملشــاعر والذكريات،
التــي تفقدهــا العائلــة يف الفيلــم مــرات كثــرة يف ترحالهــا .وهــذه الصيغــة األوليــة مــن
الرضــوخ تتطــور تصاعدي ـاً لتمــي أكــر عمق ـاً وشــمولية ،عندمــا يقــف الريتشــيف عاجــزا ً
عــن مواجهــة شــتى االنتهــاكات الفظيعــة التــي تتــم داخــل جســد املؤسســة العســكرية مــن
قبــل طغمتهــا املهيمنــة أو مامرســتها تجــاه الخــارج .وهنــا مييــز غافاروخــن عــر الشــخصيات
العســكرية التــي يقدمهــا بــن نوعــن مــن الرضــوخ :القــري والــذي ميثلــه الريتشــيف
نفســه ،واالندماجــي املتامهــي مــع املؤسســة ،ويف كال الحالتــن تقــوم شــخوصه بإعــادة
إنتــاج مامرســاتها عــى مــن هــم أدىن يف التسلســل الهرمــي داخــل املؤسســة أو خارجهــا.
وهــذا التمييــز ال يــأيت بغيــة وضــع النوعــن عــى قــدم املســاواة وبالتــايل إدانتهــا معـاً ،أو
التفريــق بينهــا وإدانــة أحدهــا عــى حســاب اآلخــر ،وإمنــا الغايــة منــه تســليط الضــوء
عــى تجليــات مختلفــة للتكيــف مــع املؤسســة السياســية ـ العســكرية املهيمنــة تــرز عــى
مســتوى الرتكيبــة النفســية والســلوكية للشــخصيات املقدمــة .وبــن الضابــط الــذي يعجــز
متام ـاً عــن التكيــف معهــا وينهــي حياتــه منتحــرا ً (يــؤدي الــدور غافاروخــن نفســه) وبــن
األخــر املتكيــف إىل درجــة الذوبــان الكامــل فيهــا يقــف الريتشــيف ،فــكل الرصامــة والتجهم
واالنغــاق والــكالم املقتضــب واملشــاعر املكبوتــة لشــخصيته التــي عكســها برباعــة املمثــل
208
الكســندر بالويــف ،كل ذلــك ليــس إال شــكالً مــن أشــكال التكيــف .فاإلنســان يتحــول يف
مقاومتــه غــر املعلنــة لبطــش الســلطة إىل قنــاع ال نســتطيع حتــى التكهــن مبــا يخفــي خلفــه
مــن مكنونــات إنســانية ،اســتطاع الفيلــم أن يوحــي بوجودهــا بصــورة شــفافة ،فنحــن ال
ندركهــا وبالــكاد نســتطيع تلمســها ،غــر أننــا حتـاً نشــعر بهــا يف مكان مــا داخل الشــخصية،
وبصــورة خاصــة مــن خــال عالقــة الريتشــيف مــع زوجتــه فــرا.
إذ أننــا عــى املســتوى الظاهــري لهــذه العالقــة ســرى أمامنــا رجـاً قاســياً تقليديـاً إىل أقــى
حــد ،منــذ اللحظــة األوىل للــزواج يوضــح بصيغــة األمــر األســاس الــذي يجــب أن تقــوم عليــه
العالقــة بــن الطرفــن مــن وجهــة نظــره :الرجــل عليــه أن يعمــل ويجنــي األمــوال واملــرأة
عليهــا أن تعتنــي باملنــزل وتؤمــن لــه الراحــة داخلــه .وهــذا األمــر ـ كأي أمــر عســكري ـ غــر
قابــل للنقــاش والجــدال وإمنــا للتنفيــذ فحســب ،وهــو مــا تذعــن فــرا طواعيــة لــه ،وتســتمر
يف ذلــك حتــى عندمــا يطالبهــا بالتخــي عــن «أبنائهــا» واحــدا ً تلــو األخــرى فيجربهــا أن
تجهــض طفلهــا األول ،ومــن ثــم يأخــذ أبنــه الــذي وجــدت فيــه تعويضــاً عــن أمومتهــا
املفقــودة بعيــدا ً عنهــا ليضعــه يف مدرســة داخليــة لأليتــام ،ومــن ثــم تخــر طفــي صديقتهــا
ماشــا ســمولينا املمرضــة يف إحــدى املشــايف خــال الحــرب عندمــا يقــرر حملهــا معــه إىل
مــكان جديــد.
وهكــذا يعيــد الــزوج الراضــخ للمؤسســة العســكرية إنتــاج مامرســاتها القمعيــة الفوقيــة
تجــاه الزوجــة التــي ترضــخ بدورهــا وكأنهــا فــردا ً يف ذات املؤسســة ،بينــا يحــدث ذلــك يف
209
إطــار املؤسســة األبويــة املهيمنــة عليهــا .والحقيقــة إن قســوة الريتشــيف تجــاه فــرا تبــدو
أبويــة بــكل معنــى الكلمــة ،والغايــة منهــا ليــس تحطيمهــا معنويــا أو جســدياً ـ فهــو مل يقــم
مــرة واحــدة بشــتمها أو رضبهــا ـ وإمنــا حاميتهــا وتأهيلهــا للتكيــف مــع الواقــع املحيــط
الــذي ال يريــد أن ينجــب طفـاً يف ظلــه ،ويخــى أال يســتطيع طفلــه األول التأقلــم معــه إذ
مــا أفســدته فــرا بداللهــا وجعلــت منــه إنســاناً هش ـاً .لنصبــح أمــام حالــة مــن التجــاذب
والتامهــي بــن املؤسســتني ـ العســكرية واألبويــة يف مواجهــة املــرأة التــي تخضــع لهــا بصــدر
رحــب.
مــع مــوت الريتشــيف يبــدأ الجــزء الثــاين مــن الفيلــم والــذي ال يســتمر أكــر مــن 45دقيقــة
وتســيطر عــى مجرياتــه أربعــة نســاء :فــرا ووالدتهــا وفــرا الصغــرة أبنــه ماشــا واملمثلــة
الشــهرية واملتقاعــدة كونينــا التــي مل تعــد أجــواء املدينــة تناســبها ،فتنتقــل للعيــش معهــن.
أي أننــا إزاء ثالثــة أجيــال مــن النســاء تعيــش مبعــزل عــن االســتبداد الذكــوري ،لنعــود
إىل ذات الحالــة التــي بــدأ منهــا الفيلــم ،مــع عــدة فــوارق جوهريــة ،فــاألرسة الجديــدة
ال تربطهــا صلــة الــدم وحدهــا لتنتهــي هــذه الصلــة متام ـاً مــع مــوت األم ،وهــي إشــارة
واضحــة إىل التفــكك الــذي أصــاب الروابــط األرسيــة التقليديــة داخــل املجتمــع الســوفيتي
والشــكل الجديــد مــن العالقــات التــي حلــت مكانهــا ،كــا ال ميكننــا أن نتوقــع أن يعيــد
التاريــخ نفســه بالنســبة لفــرا الشــخصية الرئيســية ،فهــي مل تعــد تلــك الفتــاة املراهقــة التــي
ميكــن أن تنســاق ببســاطة وراء مشــاعرها ،وإمنــا امــرأة ناضجــة خــرت الحيــاة وعرفــت
210
حلوهــا ومرهــا يف تنقالتهــا املســتمرة ،وتوســعت الخيــارات املتاحــة أمامهــا بعــد نجاحهــا
عــى الصعيــد املهنــي وإدارتهــا لفنــدق يتيــح لهــا االختــاط اليومــي مــع عــدد غــر محــدود
مــن الرجــال .لكــن توقعاتنــا ســوف تخيــب متامـاً ،وتقــع فــرا للمــرة الثانيــة يف حــب رجــل
عســكري يف عمــر والدهــا ولــه الكثــر مــن األوالد واألحفــاد .ولــن عارضــت والدتهــا يف
املــرة األوىل ارتباطهــا بالريتشــيف ،نجــد أن أعضــاء أرستهــا الجديــدة يرحبــون بخيارهــا
ويفرحــون ألجلهــا ويحزنــون كذلــك عنــد اعتقادهــم أنــه تخــى عنهــا ،لتعــود وتعــم الفرحــة
الجميــع عندمــا يطــرق «األب العســكري» بابهــم مجــددا ً للــزواج منهــا ،وينتهــي الفيلــم
مــع هــذه «النهايــة الســعيدة» بعــد أن يذكرنــا بلقطــة يف بدايتــه تجمــع بــن الريتشــيف
بلباســه العســكري وفــرا بجاملهــا الــرويس النموذجــي .وهنــا ال يعــود مثــة لبــس يف املســتوى
التعميمــي الــذي يرتقــي الفيلــم إليــه مــن خــال ربطــه بــن الجــذور العميقــة للنظــام
األبــوي يف روســيا وبــن تقبــل املواطنــن الســوفيت للنظــام التوتاليتــاري طيلــة ســبعة عقــود.
ونشــر يف هــذا الســياق أن «ســتالني أب الشــعوب» كان أحــد أكــر الشــعارات تــداوالً يف
املرحلــة الســتالينية التــي تبــدأ أحــداث الفيلــم خاللهــا ،ونشــهد معهــا تعميــم العســكريتاريا
عــى كافــة بنــى املجتمــع مبــا يف ذلــك األرسة ،حيــث املــرأة هــي األكــر معانــاة مــن بطــش
املنظومــة الديكتاتوريــة ـ األبويــة ويف الوقــت ذاتــه هــي أكــر مــن خفــف مــن تبعاتهــا عــى
املســتوى اإلنســاين.
مجلة «الوردة» السورية .2005
211
تحت السقف
الفيلــم األول .مــن املؤكــد أنــه يعنــي الكثــر ألي مخــرج يف العــامل ،فكيــف الحــال عندمــا
يتعلــق األمــر مبخــرج يعيــش يف بــاد يعــد فيهــا الوقــوف وراء الكامــرا لتصويــر فيلــم روايئ
طويــل فرصــة ذهبيــة قــد ال تتكــرر إال بعــد عــر ســنوات ،كــا أنهــا مل تــأت إال بعــد نحــو
عــر ســنوات مــن التخــرج األكادميــي .مــن هنــا يخلــق تشــويق اســتثنايئ لــدى املتتبــع
الســوري عــا ســيحمله مثــل هــذا الفيلــم ،ومــا يرفــع مــن وتــرة هــذا التشــويق أننــا
نــادرا ً مــا نشــاهد فيلـاً أول كــا هــو الحــال مــع «تحــت الســقف» الفيلــم األول للمخــرج
نضــال الدبــس.
إىل ذلــك يــأيت هــذا الفيلــم بعــد انبثــاق جملــة مــن الظواهــر الالفتــة يف عــامل الســينام
خــال الســنوات العــرة األخــرة مثــل حركــة دوغــا 95التــي حققــت انتشــارا ً واســعاً
يف العــامل ،وانتصــارات الســينام اإليرانيــة وســينامت رشق أســيا ،والتطــور الهائــل لكامــرات
التصويــر الرقميــة واســتخدامها عــى نطــاق واســع حتــى مــن قبــل مخرجــن محرتفــن،
واتســاع دائــرة اإلنتاجــات املشــركة بصــورة غــر مســبوقة ،ووصــول الســينام األمريكيــة
إىل ســوية مــن الحرفيــة والجاذبيــة أهلتهــا للهيمنــة شــبه املطلقــة عــى شاشــات العــامل،
دون أن ننــى التجــارب امللهمــة التــي قدمهــا ســينامئيون أوربيــون مــن أمثــال تورناتــوري
212
وأملودوفــار وكوســتاريكا وغريهــم ،والعديــد مــن األعــال املميــزة يف الســينامت العربيــة
التــي اســتطاعت أن تحــوز عــى اإلعجــاب والتقديــر داخــل بلدانهــا وخارجهــا.
إذا مــا أخذنــا كل ذلــك يف عــن االعتبــار مضــاف إليــه تــراث الســينام الســورية نفســه،
البــد مــن أن نتوقــع فيلـاً أول بنكهــة جديــدة مختلفــة وطازجــة تحمــل الكثــر مــن روح
الشــباب والتجريــب واملبــادرة ســواء مــن ناحيــة موضوعتــه أو معالجتهــا الســينامئية .لكــن
هــذا مل يحــدث ،ومل يســتطع الفيلــم الخــروج مــن «معطــف» الســينام الســورية ،والكثــر
مــن تقاليدهــا ومالمحهــا أرخــى بظاللــه عليــه .فمــرة أخــرى نحــن مــع «ســينام املؤلــف»
وتقاطعــات مــع الســرة الذاتيــة وجرعــات عابــرة مــن السياســة وحتــى مــع جهــة اإلنتــاج
نفســها .بالطبــع جميــع هــذه العنــارص ال تشــكل بحــد ذاتهــا إدانــة للفيلــم أو منطلقــات
لتناولــه وتحليلــه بقــدر مــا تســتدعي التســاؤل حــول غيــاب أشــكال أخــرى مــن املرجعيــات
والتقاليــد واألســاليب واالتجاهــات يف ظــل مــا ذكرنــاه أنف ـاً مــن تحــوالت ســينامئية.
التقاطــع األغــرب واألطــرف جــاء مــع الفيلــم الســوري اآلخــر «عالقــات عامــة» للمخــرج
ســمري ذكــرى ،ونقصــد تحديــدا ً ثنائيــة «فــارس الحلــو ـ ســافة معــار» اللذيــن أديــا دور
زوجــن يف كيل الفيلمــن ،علــاً أن العملــن املذكوريــن هــا كل مــا اقتــر عليــه إنتــاج
املؤسســة العامــة للســينام يف مجــال الفيلــم الــروايئ الطويــل خــال الســنتني املنرصمتــن.
ومــن جديــد ال يشــكل هــذا األمــر بحــد ذاتــه إدانــة للفيلــم بقــدر مــا يبعــث عــى الضحــك،
وطبع ـاً عــى التســاؤل :ملــاذا؟
213
رمبــا املســؤولية تقــع عــى مخــرج ثالــث هــو أســامة محمــد الــذي ظهــر اســمه يف تــر
الفيلمــن بصفــة :تعــاون فنــي .وهــو أمــر مفهــوم ومــرر متامـاً بــل ورضوري عندمــا يكــون
بــن مخرجــن ينتميــان إىل جيــل واحــد ،أو ينحــدران مــن مدرســة أو تيــار فنــي واحــد،
ويحمــان رؤى وتوجهــات ســينامئية متقاربــة .لكــن مــا الــذي يجمــع بــن أســامة محمــد
ونضــال الدبــس؟ طبعـاً ال أســتطيع أن أجــزم بعــدم وجــود مــا يجمــع بينهــا فكريـاً وفنيـاً،
لكــن إن صــح ذلــك فهــذا يعنــي أن اإلشــكالية أكــر مــن الفيلــم نفســه .فــإذا مــا تركنــا جانبـاً
اإلحســاس بالوصايــة الــذي ميكــن أن يســيطر عــى أي مخــرج شــاب يقــف إىل جانبــه مخــرج
أكــر ســناً لــه أســمه ومكانتــه وبصمتــه عــى الســاحة الســينامئية ،والتأثــر الناجــم عــن مثــل
هــذه الوصايــة عــى عملــه ،ال نســتطيع أن ننفــي إمكانيــة إعــادة إنتــاج ذات الــرؤى الفنيــة
والفكريــة الســابقة بغــض النظــر عــن قيمــة هــذه الــرؤى ،فاملشــكلة هنــا ليســت يف قيمتهــا
وإمنــا يف اســتمرار إنتاجهــا ضمــن ذات اآلليــات والقوالــب واألدوات والوســائل.
ولعــل مــا يعــزز الشــعور بثقــل «اإلرث الســيناميئ الســوري» عــى الفيلــم منــذ البدايــة
طبيعــة املوضوعــة التــي يتناولهــا .إذ يحــاول الفيلــم أن يقابــل بــن زمنــن يفصــل بينهام نحو
عرشيــن عامـاً .زمــن األحــام الرومانســية الكبــرة املغلفــة بالشــعارات الطنانــة والجــداالت
التــي ال تنتهــي عــى إيقــاع أقــداح العــرق وأغــاين مارســيل خليفــة ـ زمــن بدايــة الثامنينــات.
وزمــن االنكســارات الكبــرة التــي جــاءت كمحصلــة للزمــن األول ـ الزمــن املعــارص .وقــد
ربــط الفيلــم نفســه مبنــاخ واقعــي ـ تاريخــي ،تؤكــده اإلشــارات املتكــررة إىل محطــات
214
تاريخيــة بعينهــا ال تخلــو مــن الداللــة مثــل هزميــة عــام ،1967اجتيــاح بــروت ،حــرب
الخليــج .كــا قــام بتعزيــزه الــرد الــذايت املتكــرر واألغــاين املرافقــة وحتــى ملصــق فيلــم
«كارمــن».
إذن أراد الفيلــم أن يعــر عــن تبعــات مرحلــة مؤطــرة تاريخي ـاً مــن خــال مجموعــة مــن
الشــخصيات ذي املالمــح املحــددة عمريــاً وإيديولوجيــاً ونفســياً ،مــن هنــا كان رضوريــاً
ربــط هــذه املجموعــة بالســياق التاريخــي واالجتامعــي الــذي تحركــت ضمنــه وخرجــت
منــه ،وتفــرض هــذه الــرورة حاجــة معرفيــة وأخــرى فنيــة .عــى املســتوى األول كان لزاماً
عــى الفيلــم طاملــا ربــط نفســه بالواقعيــة والتاريــخ أن يتعمــق أكــر يف تركيبــة الشــخصيات
املقدمــة .فاملســألة ليســت مجــرد «أحــام تكــرت» ،بــل هــي أحــام هــذه الشــخصيات
دون غريهــا ،شــخصيات انتمــت إىل فئــات اجتامعيــة محــددة ومنظومة إيديولوجيــة محددة
وحــراك ســيايس محــدد وجيــل محــدد عــاش يف زمــن محــدد .ولعلهــا كانــت أخــر كوكبــة من
الحاملــن (رغــم أننــي ال أســتطيع أن أجــزم غيــاب األحــام الثوريــة يف التســعينات) ،فاألحــام
الكبــرة تكــرت قبــل ذلــك غــر مــرة ،ويف كل مــرة كان لالنكســار خصوصيتــه التــي حددتها
طبيعــة املرحلــة والســياق الســيايس وبنيــة الوعــي ،لذلــك كان البــد مــن الخــوض بعمــق أكرب
يف تفاصيــل تكشــف املالمــح الداخليــة لهــذه الشــخصيات وخصوصيــة انكســاراتها ،وخاصــة
أنهــا بانتامءاتهــا املذكــورة تعــد مجهولــة لــدى الجــزء األكــر مــن املشــاهدين كــا كانــت
بعيــدة يف زمانهــا ألســباب موضوعيــة عديــدة عــن عامــة الجامهــر.
215
أمــا عــى املســتوى الفنــي فمــن دون هــذه التفاصيــل تضيــع مالمــح الشــخصيات يف هيــوىل
عموميــة تتــوارى خلفهــا فــرادة مالمحهــم اإلنســانية ،وتفقــد جميــع املظاهــر الســلوكية
والنفســية لهــا كــا تجلــت يف الفيلــم الحامــل الســببي الــذي يربرها دراميـاً ،وال يعــود مثة أي
معنــى للتقابــل الــذي قدمــه الفيلــم بــن األزمنــة .وهــذه النقطــة املتعلقــة بالزمــن يف الفيلــم
البــد أن تســتوقفنا ملــا لهــا مــن أهميــة جوهريــة يف بنائــه .إذ رغــم أن مثــة نحــو عرشيــن
عامـاً تفصــل بــن املرحلتــن ،غــر أننــا ال نشــعر بهــذا الفاصــل عــى اإلطــاق .فنجــد أن الهيئة
الخارجيــة للممثلــن ال تتغــر طــوال الفيلــم ،رغــم أن الجــزء األكــر مــن أحداثــه يجــري يف
الزمــن املعــارص ،يف زمــن يفــرض بالشــخصيات أنهــا تجــاوزت األربعــن عامـاً ،لكننــا نجدهــم
بــذات النضــارة والشــباب التــي كانــوا عليهــا يف الزمــن األول ،حتــى ال توجــد أي تغيــرات يف
املكيــاج تدلــل عــى مــرور الزمــن .وهــذه املســألة مــن البديهيــة إىل حــد يصعــب تصديــق
عــدم تداركهــا واالنتبــاه إليهــا ،لدرجــة أننــي مل أســتطع يف البدايــة أن اســتبعد احتــال
قصديــة ذلــك لغايــات ودالالت فنيــة معينــة ،مث ـاً كإشــارة إىل احتباســهم يف ذلــك الزمــن
وعــدم قدرتهــم عــى الخــروج مــن أجوائــه وأوهامــه ،ويعــزز هــذه الفرضيــة األداء التمثييل
الــذي بــدا يف معظــم الفيلــم ثابتـاً وراســخاً ال يتطــور وال يبعــث عــى اإلحســاس بســرورة
الزمــن .غــر أن العــامل الداخــي الــذي عكســه هــذا األداء يجعلنــا نلغــي تلــك الفرضيــة متامـاً،
فهــو يف مجملــه ميكــن عــده كمحصلــة للزمــن األول وليــس اســتمرارا ً لــه يف الزمــن املعــارص.
إذ نجــد أنفســنا إزاء كتلــة متناقضــة مــن املشــاعر والســلوكيات عند الشــخصيتني الرئيســيتني
216
(ســافة معــار ورامــي حنــا) ســواء تجــاه بعضهــم البعــض أو تجــاه مــن حولهــم ،محملــة
بكثــر مــن الالمبــاالة واليــأس والعدميــة واالضطــراب والحــزن ،...وهــذه الكتلــة ال ميكــن
لهــا أن تنتمــي بــأي حــال مــن األحــوال إىل زمــن «األحــام الكبــرة» ،كــا ميكنهــا أن تنجــم
عــن أســباب أخــرى ليســت بالــرورة مرتبطــة بانكســار هــذه األحــام مــا دام أننــا مل نــدرك
أص ـاً طبيعتهــا ،ســياقها التاريخــي ،حاضنتهــا االجتامعيــة ،وإطارهــا الســيايس .مــا يجعــل
مــن الثبــات الشــكيل للممثلــن أو اختيارهــم إشــكالية ،ومــن عــدم تطــور أدائهــم إشــكالية
أخــرى ،ومــن عــدم وضــوح بواعثــه إشــكالية ثالثــة.
217
عالقات عامة ...شديدة الخصوصية
عــر مدخــل ســاخر تهكمــي أراد «عالقــات عامــة» أن يســلط الضــوء بصــورة بعيــدة عــن
امليلودرامــا والرصامــة الواقعيــة والتجهــم عــى أشــكال عميقــة مــن التشــوهات اإلنســانية
التــي تطفــو عــى ســطح املجتمــع محملــة بكثــر مــن الالمبــاالة والعبثيــة .ذلــك مــا يتبــدى
جليـاً يف الرتكيبــة الذاتيــة للشــخصيات األساســية الثالثــة يف الفيلــم ويف ســلوكياتها وعالقاتهــا
بعضهــا ببعــض ،والتــي تبــدو أبعــد مــا تكــون عــن النمطيــة.
فيمكننــا أن نستشــعر يف كل مــن تلــك الشــخصيات رجــل األعــال (ســلوم حــداد) وزوجتــه
(ســافة معــار) ومهنــدس الكهربــاء (فــارس الحلــو) العديــد مــن املالمــح املتناقضــة
وغــر املألوفــة .فــاألول صاحــب مشــاريع ضخمــة وشــبكة عالقــات واســعة ونافــذة تصــل
إىل أجهــزة األمــن .لكنــه ليــس أســرا ً لرثائــه ونفــوذه ،فهــو شــخص مــرح خفيــف الظــل
ومتســامح وكريــم ،وقــد تعــود هــذه الوضعيــة إىل ثقتــه الكبــرة برســوخ مكانتــه وعــدم
وجــود أي تهديــد مــن شــأنه أن يزعزعهــا وإميانــه بدميومتهــا إىل األبــد .مهنــدس الكهربــاء
يظهــر عــى أنــه شــخص طيــب بســيط عاطفــي لديــه رعــب شــبه مــريض مــن الســلطة فيبدو
مهــزوزا ً مضطربـاً ومتلعثـاً يف حــرة رجــل األعــال ،إىل أن تتكشــف حقيقــة شــخصيته مبــا
تحملــه مــن مكــر وخبــث يف النهايــة .أمــا الزوجــة التــي يتمحــور حولهــا «رصاع» الرجلــن
218
فرغــم أنهــا فتــاة متعلمــة قويــة الشــخصية ومتوازنــة نفســياً ومســتقلة يف عملهــا كدليــل
ســياحي ،فهــي متزوجــة عرفيـاً مــن رجــل األعــال ،حامــل منــه وتعيــش يف شــقة فارهــة لــه
يف بنــاء يبــدو أنــه ملجــأ لفتيــات الرجــال النافذيــن ،دون أن نتلمــس ولــو بقايــا مــن مشــاعر
الحــب أو يشء مــن االحــرام تجاهــه.
أمــور كثــرة قــد ال تبــدو منطقيــة يف روابــط هــذا املثلــث ،مــن نــوع تســامح رجــل األعــال
لعالقــة زوجتــه مــع املهنــدس ـ التــي تطــورت بدورهــا بصــورة مكوكيــة ـ ومــن ثــم تأييــده
لهــا ومباركتــه لزواجهــا بــل ودفعــه ملهــر يصــل إىل مليــون لــرة وتنازلــه عــن شــقته لهــا .أو
املواجهــة النديــة بينــه وبــن زوجتــه ســواء فيــا يتعلــق بطفلهــا الحامــل بــه أو عالقتهــا مــع
املهنــدس ،رغــم عــدم وجــود أي أســاس لهــذه النديــة .أو عالقتــه مــع املهنــدس الــذي يســعى
إىل جذبــه نحــو مملكتــه ،رمبــا لجعلــه نســخة مطابقــة لــه تنبذهــا الزوجــة وتعــود لــه.
والحقيقــة إن مدخــل الفيلــم نفســه الــذي تســيطر عليــه مجموعــة مــن املشــاهد املتتاليــة
حيــث يلتقــي املهنــدس والزوجــة مبحــض الصدفــة املتكــررة يؤســس ملناخــه العبثــي
التهكمــي .فالتشــوهات التــي أصابــت املجتمــع وشــخوصه أمســت بالنســبة للمخــرج فاجعــة
لدرجــة كاريكاتوريــة ،يتطلــب التعبــر عنهــا مســتوى عالي ـاً مــن الســخرية .مــن هنــا لــن
يكــون مجديـاً تنــاول الفيلــم مــن منطلقــات واقعيــة بحتــة ،والبحــث عــن تربيــرات منطقيــة
صارمــة لســرورة األحــداث وســلوكيات الشــخصيات فيــه ،فالفيلــم مل يــرد االنطــاق مــن
هــذا املنظــور وال يجــوز تحميلــه تبعــات منطــق فنــي مل يختــاره وتقيمــه عــى أساســه.
219
لكــن املعضلــة التــي تواجــه أي مخــرج يف مثــل هــذه النوعيــة مــن األعــال تكمــن يف قدرتــه
عــى املحافظــة عــى أســلوبية الفيلــم ،فــا يشــتط بــه الخيــال ويزيــح ثقــل الفيلــم نحــو
الكوميديــا الــرف ،وال يخضــع ملغريــات الواقعيــة واللحظــات الدراميــة املؤثــرة ،إذ يف كيل
الحالتــن ســوف يحــدث اختــال يف تــوازن املنــاخ العــام للفيلــم وأجوائــه .ولألســف يف حــل
هــذه املعضلــة تحديــدا ً تــرز إشــكالية الفيلــم األساســية التــي تجلــت عــى عــدة مســتويات.
مــع مقدمــة الفيلــم وعــى اإليقــاع الرتيــب لظهــور أســاء منجزيــه نفاجــئ بثالثــة خلفيــات
متنوعــة :مناظــر ملناطــق أثريــة ،ولوحــات جداريــة كنســية ،ورســوم كاريكاتوريــة .وعــدا
عــن التــازج القبيــح واملتناقــض تشــكيلياً لهــذه الخلفيــات ،ال أســتطيع أن أفهــم جدواهــا،
إذ أن وظيفتهــا ال تتعــدى التهيئــة ألجــواء الفيلــم التــي تعكســها الرســوم الكاريكاتوريــة
وحدهــا .وتعــود يف بدايــة الفيلــم ونهايتــه لتتكــرر مناظــر اآلثــار! ملــاذا؟ هــل هــي نــوع
مــن االســتعارة التعميميــة للواقــع الــذي يتصــدى الفيلــم لترشيحــه أو ملقابلــة هــذا الواقــع
بالتاريــخ الحضــاري الباهــر للبــاد .رمبــا ،لكنهــا يف هــذه الحالــة اســتعارة بائســة جاهــزة،
تــأيت مــن خــارج الفيلــم وال تفرضهــا أحداثــه وأجوائــه ،وميكــن اســتخدامها بهــذه الطريقــة
ولــذات الدوافــع يف أي فيلــم أخــر دون أن يشــكل ذلــك فارق ـاً.
العديــد مــن مجريــات الفيلــم جــاءت كذلــك مقحمــة مــن خــارج ســياقه ،وأبرزهــا ذاك
الخيــط الدرامــي املتعلــق بعائلــة الزوجــة .فهــذا الخيــط مل يقــدم أي إضافــة للخــط األســايس
القائــم عــى العالقــة الثالثيــة بــن الشــخصيات .وال أفهــم ملــاذا تــم إقحــام هــذا الخــط يف
220
الوقــت الــذي اســتغنى الفيلــم فيــه متامـاً عــن الروابــط العائليــة للرجلــن اآلخريــن ،وحســناً
فعــل مــادام أن ال وظيفــة دراميــة لهــا كــا هــو حــال هــذا الخيــط .األســوأ مــن ذلــك
هــو األســلوب الــذي تــم مــن خاللــه تناولــه ،فكأننــا إزاء فيلــم أخــر ال ميــت للفيلــم الــذي
نشــاهده بــأدىن صلــة ـ باســتثناء املشــاهد التــي ظهــر فيهــا املهنــدس لــدى العائلــة ـ دمــوع
ورصاخ وبــؤس ...درامــا واقعيــة قاســية بــكل معنــى الكلمــة ال تنقصهــا القــوة املشــهدية
والتمثيليــة ،ورغــم ذلــك ولهــذا الســبب تحديــدا ً أطاحــت باملنــاخ التهكمــي العــام للفيلــم
ومزقــت أجوائــه املرحــة إىل أشــاء .وهــو مــا قامــت بــه كذلــك طيلــة الفيلــم املوســيقا
التصويريــة ،التــي جــاءت يف عاطفيتهــا املفرطــة وميلودراميتهــا غــر منســجمة عــى اإلطــاق
معــه.
يف مــكان أخــر مــن الفيلــم مل تكــن الســيطرة عــى األجــواء هــي املشــكلة ،كــا يف مشــهد
بيــت الرفيــق الشــيوعي ،فلــو جــاء هــذا املشــهد يف ســياق بانورامــي يصــور منــاذج مختلفــة
مــن الشــخوص الذيــن يلتقــي معهــم املهنــدس بحكــم عملــه ،لــكان موقعــه يف الفيلــم مــررا ً،
لكــن املشــهد جــاء يتي ـاً منقطــع الصلــة عــن أي ســياق ،حتــى أنــه مل يضــف مــا يغنــي
شــخصيته دراميــاً ويضيــف معلومــات جديــدة عنــه للمشــاهد ،ومل يــر الخــط الدرامــي
األســايس بــأي صــورة كانــت.
وإذا كنــا قــد أرشنــا إىل رصامــة وجديــة الخــط العائــي للزوجــة ،الــذي وصــل إىل ذروتــه
يف األداء التمثيــي لوالدتهــا .فنجــد عــى الطــرف األخــر أداء مناقضـاً متامـاً ينــدرج يف إطــار
221
كوميــدي تهريجــي مطلــق ،ونقصــد تحديــدا ً شــخصيات رجــال املرافقــة لرجــل األعــال،
الذيــن جعلهــم الفيلــم جميع ـاً جمع ـاً مــن الخرســان ،لكــن هــل تنســجم هــذه الجرعــة
الزائــدة مــن املبالغــة الكوميديــة ـ مــع مــا تحملــه مــن رمزيــة إىل عــامل هــذا الرجــل املغلــف
بــاألرسار ـ وســوية الســخرية املهيمنــة عــى منــاخ الفيلــم؟ أشــك يف ذك .ومــا دمنــا نتكلــم
عــن األداء التمثيــي ال يســعنا ســوى اإلشــادة بــأداء أبطالــه الثــاث فــارس الحلــو وســلوم
حــداد وســافة معــار الذيــن كانــوا مطالبــن بتأديــة أدوار مركبــة تتطلــب انفعــاالت تقــع
يف مســاحة وســطى بــن الجــد والهــزل ،وقــد نجحــوا غالب ـاً يف ذلــك.
الفيلــم امتــد ألكــر مــن ســاعتني وأعتقــد أنــه لــو مل يكــن املونتــاج خائف ـاً مــرددا ً وعاجــزا ً
عــن التدخــل يف اللحظــة املناســبة والقطــع حيــث يجــب لجــاء الفيلــم أكــر متاســكاً وتوازنـاً
ومتعــة.
222