You are on page 1of 25

‫"مغامرة رأس اململوك جابر"‬

‫بني املتعة الفنية واملتعة الذهنية‬


‫د‪ .‬حمفوظ غزال‬

‫اإلهداء‪ :‬عرفانا له بجميل العلم الذي عل َّــمنيه أهدي هذا العمل إلى والدي علي غزال الذي َّ‬
‫فجر‬
‫لي زمزم العربية القرآن‪.‬‬

‫كبير بالخصوص على عمل األستاذين الهاشمي حسين‬


‫تعويل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تنبيه‪ :‬هذا العمل فيه‬
‫وعمار بن سالم فشك ار لهما من القلب‪.‬‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫اعد به معادلةٌ هلا يف التاريخ ما يؤكدها وهلا أحياان ما يُنَ ِّسبها‬
‫املسرح والشعب الكرمي الو ُ‬
‫لكنها تبقى املعادلةَ األشهر يف التنبيه على العالقة بني املسرح وصناعة الشعوب‪ ،‬وكيف ال‬
‫يطمئن اإلنسان إىل الفنان إن هو استبطن عالَمه وخاطبه من وراء حجاب اللغة فأرسل حبل‬
‫التأويل على غاربه‪ ،‬مث كيف ال يالمس الفنان شغاف القلوب وأيخذ ابأللباب وهو حيملها‬
‫ابلفرجة واخلطاب إىل ما هو خلف احلجاب فيُخفف أزماته ويكشف له كثريا من مشاغل حياتِّه‬
‫دون أن يكون الفن استنساخا للواقع‪.‬‬
‫ئ مسرية املسرح عند الغرب يرى أن النقلة النوعية اليت حصلت له كانت يف‬ ‫إن ُم ْستَ ْق ِّر َ‬
‫زمن األزمات والقالقل والتوترات وهي اليت يف اآلن نفسه أوقعت املسرح يف أزمة وطالبْته أبن‬
‫سبيل اخلالص منها لذلك كان "املسرح التسييسي امللحمي" حمطة مهمة يف اتريخ‬ ‫يكون هو َ‬
‫املسرح الغريب وخاصة يف أملانيا ألنه ُولِّد يف ظرف مأزوم فكان رغبة يف إاثرة روح التمرد على‬
‫السائد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫ما هو املسرح التسييسي امللحمي؟‬ ‫‪-1‬‬
‫هو " ذلك النوع من املسرح الذي ازدهر يف أملانيا يف أعقاب احلرب العاملية األوىل‬
‫أو يف أمريكا إ َّبن أزمة ‪ 1929‬االقتصادية وجاء ُحمح ّمال بوعي سياسي متوسال أبساليب فنية‬
‫جديدة سواء يف أسلوب صياغة هذه الرسالة أدبيا أو يف أسلوب عرضها على املسرح‪."1‬‬
‫وليس ارتباط املسرح ابألزمات والتحوالت حكرا على الغرب أو العرب بل هو األمر نفسه الذي‬
‫اهتدى إليه "جورج لوكاتش" يف حديثه عن الدراما اإلغريقية يف قوله‪" :‬من املؤكد أنه ليس من‬
‫َبب الصدفة أن تتفق فرتات الرتاجيداي العظيمة مع التغريات التارخيية العاملية العظيمة يف‬
‫اجملتمع اإلنساين وقد رأى هيغل َبلفعل يف الصراع الذي ينشب يف أنتيغون سوفوكليس رغم‬
‫غموض رؤيته ذلك الصدام الذي نشأ بني تلك القوى االجتماعية اليت أدت إىل حتطيم‬
‫األشكال البدائية للمجتمع وإىل ظهور املدينة اإلغريقية‪ ."2‬وكذلك كان األمر يف املسرح‬
‫االليزابيت ومع شكسبري حتديدا "مبا حيمله من فكر سياسي واترخيي‪ ...‬يف فرتة متيزت َبلصراع‬
‫التارخيي احلاد بني اجملتمع اإلقطاعي وبني اجملتمع الرأمسايل‪."3‬‬
‫يف أملانيا كانت هزمية ‪ 1919‬مدمرة من حيث آاثرها اقتصاداي واجتماعيا وسياسيا ومل‬
‫يلبث العامل غري قليل حىت اهتز لألزمة االقتصادية سنة ‪ 1929‬اليت كشفت بؤسا كبريا لإلنسان‬
‫وما رمسه من أحالم قوته‪ .‬وبعد مرور األزمة بقليل وجد الفنانون أنفسهم أمام واقع جديد خاصة‬
‫يف املسرح ال يستطيع املسرح القدمي السطحي التعامل معه وال تناوله‪ُ ،‬فولد يف أملانيا املسرح‬
‫التعبريي واملسرح السياسي رد َة فعل على احلروب والنظام الرأمسايل واالستغالل الفاحش لإلنسان‬
‫املسرحني "ففي حني اجته املسرح‬
‫ْ‬ ‫ونَ َش َد املسرحان تبصري الناس وتوعيتهم‪ ،‬غري أنه مثة فرق بني‬
‫السياسي إىل أساليب مباشرة ختدم هدف التوعية السياسية اجته املسرح التعبريي إىل أساليب‬
‫عاطفية ترتجم أفكار الشخصيات وخياالهتا وأحالمها‪ ."4‬لكن سرعان ما اختفى املسرح‬

‫‪1‬العبوطي أمني‪ :‬املسرح السياسي‪ :‬جملة عامل الفكر اجمللد ‪ 14‬العدد‪ 4‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مارس ‪ .1984‬ص‪.79:‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Lukacs Georg, The Historical Novil, Hannah and Stanley Mitchell, London,1962/ P :97.‬‬
‫‪3‬العبوطي أمني‪ :‬املسرح السياسي‪ :‬جملة عامل الفكر اجمللد ‪ 14‬العدد‪ 4‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مارس ‪ .1984‬ص ص‪.81-80:‬‬
‫‪4‬العبوطي أمني‪ :‬املسرح السياسي‪ :‬جملة عامل الفكر اجمللد ‪ 14‬العدد‪ 4‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مارس ‪ .1984‬ص‪.83:‬‬
‫‪2‬‬
‫التعبريي ليفسح اجملال للمسرح السياسي ويفسر "بريشت" سبب اختفاء املسرح التعبريي بقوله‪:‬‬
‫"إن التعبريية اليت أغنت وسائل تعبري املسرح كثريا وجاءت حبصيلة مل تُستن حفد حىت اآلن‬
‫كشفت عن عجزها التام يف تفسري العامل كموضوع نشاط إنساين ودمرت القيمة التعليمية‬
‫للمسرح‪ ."5‬ولذلك كانت رسالة املسرح السياسي واضحة املعامل "التأثري يف اجلماهري من أجل‬
‫توعيتها واجتذاهبا إىل جانب املعركة ضد اجملتمع الرأمسايل الطبقي للوصول إىل جمتمع العدالة‬
‫االجتماعية والسالم‪ ،‬ومل يكن األمر جمرد طرح أفكار بقدر ما كان استفزاز اجلماهري‬
‫وحتريضها على الثورة‪."6‬‬
‫ومن األمساء اليت ارتبطت يف أملانيا ابملسرح امللحمي التسييسي جند "ايروين بيسكاتور"‬
‫الذي يرى ضرورة قيام املسرح بتفكيك الواقع السياسي واالجتماعي يف املستوى األول من العمل‬
‫املسرحي فتكون القصة املتعلقة ابلشخصية يف املستوى الثاين من العمل‪ ،‬ومثال ذلك ما قام به‬
‫يف مسرحية "راسبوتني تولوستوي" إذ استخدم فيها تقنيات سينمائية متكِّن من جعل اخللفية‬
‫التارخيية ظاهرة يف املستوى األول من العمل‪ ،‬ف "َبلنسبة إىل بيسكاتور كان املسرح برملاان‬
‫واجلمهور هيئة تشريعية وقد ُع ِرضت أمام هذا الربملان بوضوح املسائل العامة الكبرية اليت‬
‫هي حباجة إىل قرار‪."7‬‬
‫ومن األمساء الشهرية يف املسرح امللحمي التسييسي يف أملانيا أيضا "برتولد بريشت"‬
‫الذي مثل حمطة مهمة يف اتريخ هذا املسرح فقد كانت مسرحيته "طبول يف الليل" اليت عُرضت‬
‫سنة ‪ " 1922‬حتمل البذور األوىل ملسرح بريشت امللحمي من توجه خبطاب مباشر إىل‬
‫اجلمهور وتنبيهه إىل أن ما جيري على خشبة املسرح ليس إال متثيال وهكذا ُحت ِطم املسرحية‬
‫اإليهام املسرحي وتدعو اجلمهور إىل التفكري‪ ،‬كذلك ي ِ‬
‫دخل بريشت العامل املوضوعي إىل‬‫ُ‬

‫‪5‬بريشتربتولد‪" :‬حول املسرح النجرييب" مسرح التغيري مقاالت يف منهج بريشت الفين‪ ،‬اختيار ومراجعة قيس البيدي‪ ،‬بريوت ‪،1978‬‬
‫ص‪.183 :‬‬
‫‪6‬العبوطي أمني‪ :‬املسرح السياسي‪ :‬جملة عامل الفكر اجمللد ‪ 14‬العدد‪ 4‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مارس ‪ .1984‬ص‪.83:‬‬
‫‪7‬العبوطي أمني‪ :‬املسرح السياسي‪ :‬جملة عامل الفكر اجمللد ‪ 14‬العدد‪ 4‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مارس ‪ .1984‬ص‪.84:‬‬
‫‪3‬‬
‫جمال احلدث حبيث يؤكد عامل الثورة والعالقات البشرية ال عامل الذات‪ ."8‬وكانت مسرحيته‬
‫هذه إىل جانب مسرحية "بعل" و"يف ظلمات املدينة" و"اإلنسان هو اإلنسان" متهيدا ملسرحه‬
‫امللحمي الذي سيظهر قواي يف "األم حشجاعة" مثال‪ .‬وكان "بريشت" يف مسرحه التسييسي‬
‫امللحمي دائم التوق إىل التثوير إذ يرى أن مسؤولية الفنان كبرية يف تبصري الشعب وتوعيته وتثويره‬
‫لذلك مل يكن يتوق من خالل القصص اليت تظهر يف احلبكة املسرحية إىل استبطان عامل البطل‬
‫املشرتك مع بين جنسه حماوال طمس‬ ‫يف حد ذاته بل كان سعيه دؤواب إىل استبطان عامل اإلنسان ِّ‬
‫الذاتية يف معامل مشرتكة لإلنسانية غايتها استفزاز اجلمهور وهو ما كان يتوق له يف مسرحية "األم‬
‫َشجاعة" لكنه ُمنِّ َي خبيبة أمل ألن اجلمهور عوض أن ينقم على األم ألفعاهلا الوضيعة االنتهازية‬
‫تعاطف معها تعاطفا مفاجئا وهو األمر الذي سيقع مع "اململوك جابر" يف مسرحية "ونُّوس"‪.‬‬
‫أهم مالمح املسرح التسييسي امللحمي‪:‬‬
‫• التاريخ تراكم أحداث على املشاهد أن يفهمها وليست أحداث املسرحية نقال‬
‫للواقع اآلن‪.‬‬
‫• ال بد من االنفصال عن الشخصية وهو دور املخرج يف حتقيق التغريب أي عدم‬
‫توحد اجلمهور مع الشخصية‪.‬فالتغريب "ليس يف حقيقة األمر سوى وسيلة لسرد‬
‫ملحمة ولتصوير األحداث على أهنا حالة اترخيية تنتمي إىل املاضي حىت ولو‬
‫كانت معاصرة‪."9‬‬
‫• احلرص على كسر اإليهام ابعتماد الديكور الذي جيب أال حياكي الواقع‪.‬‬
‫• يظل ستار املسرح مفتوحا ليتابع املشاهدون حىت عملية إعداد بعض اللوحات‬
‫واملشاهد بل وميكن أن يتوجه هلم املمثلون ببعض كالم ليشاركوا هم بردود أفعال‬

‫‪8‬العبوطي أمني‪ :‬املسرح السياسي‪ :‬جملة عامل الفكر اجمللد ‪ 14‬العدد‪ 4‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مارس ‪ .1984‬ص‪.85:‬‬
‫‪ 9‬العبوطي أمني‪ :‬املسرح السياسي‪ :‬جملة عامل الفكر اجمللد ‪ 14‬العدد‪ 4‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مارس ‪ .1984‬ص‪.88:‬‬
‫‪4‬‬
‫ويقع تواصل بني اجلمهور واملمثلني يهدم اجلدار الرابع املضروب قدميا على املسرح‬
‫ويُقصد به التزام اجلمهور الصمت التام واالقتصار على االنفعال ال على التفاعل‪.‬‬
‫• املوسيقى تسري عكس األحداث لتحقق التغريب ومثال ذلك موسيقى هادئة يف‬
‫احلدث العاصف وموسيقى عاصفة يف احلدث اهلادئ‪.‬‬
‫• عدم توحد املمثل مع الشخصية فهو كالقصاص يروي لنا حداث ف "التمثيل يف‬
‫املسرح امللحمي يعين سرد حكاية‪."10‬‬
‫‪ /2‬سعد هللا ونوس ومسرح األزمات‪:‬‬
‫أتخر ظهور املسرح يف العامل العريب ألسباب خمتلفة لعل أمهها كون حركة الرتمجة والنقل‬
‫أايم العباسيني وجدت الرتاجيداي اليواننية يف صراع أبطاهلا مع القوى الغيبية مناكِّدة ملنطق‬
‫الشريعة اإلسالمية القائم على التسليم ال على الصراع يف عالقة اإلنسان ابلغيب‪ .‬ولكن هذا‬
‫ظهوره جناحا كبريا رغم وجود جتارب غربية عديدة أفاد منها العرب يف خطواهتم‬ ‫التأخر مل مينح َ‬
‫املسرحية األوىل ورغم بعض النجاحات األوىل اليت حققها‪ ،‬فهل ُولِّد املسرح العريب مأزوما؟‬
‫يرى سعد هللا ونوس أن املسرح العريب مل يشهد أزمة ألن ذلك يعين أنه كان قبل األزمة‬
‫مزدهرا‪ ،‬يقول ونوس‪" :‬حينما نقول إ ّن هناك أزمة فمعىن ذلك أ ّن املسرح عرف عصر ازدهار‬
‫كبري مث احنسر بعد ذلك‪ ...‬ولكين أرى أ ّن كل ما حدث يف املسرح العريب كان نوعا من‬
‫مبشرة‪ ...‬جمموعة من النشاطات املسرحية‬‫التوسع الكمي مل حخيخل من بعض نوعيات جديدة ِ‬
‫ُ‬
‫بدأت يف مصر أوال ومنها انتقلت إىل بعض األقطار العربية األخرى كسوراي ولبنان‪ ...‬ويف‬
‫الوقت نفسه كانت هناك جتارب مشاهبة يف املغرب‪."11‬‬
‫تتاىل تعث ُُّر املسرية املسرحية عند العرب ألسباب خمتلفة منها ما يعود إىل االختيارات‬
‫الفنية ومنها ما يعود إىل النصوص املسرحية ذاهتا ومنها ما يعود إىل اهلزائم والنكسات اليت عانتها‬

‫‪"10‬عمل بريشت مع املمثلني"‪ ،‬من كتاب "العمل الفين" فرقة برلني ‪ 1952‬ترمجة حممد خليل خليفة ص‪.97:‬‬
‫‪11‬حوار مع الكاتب السوري سعد هللا ونوس كتبه فؤاد دوارة‪ ،‬جملة اهلالل‪ ،‬القاهرة أبريل ‪ 1977‬ص‪.180 :‬‬
‫‪5‬‬
‫الشعوب العربية خاصة وهي اليت تزامن ظهور مسارحها مع دخول املستعمر وبسط هيمنته على‬
‫كثري من املناطق العربية فكان املسرح يف مأزق الوفاء لدوره النضايل التوعوي رغم قيصرية والدته‪.‬‬
‫ت هذه الشعوب ببعض استقالل تتالت هزائم من نوع آخر أمهها الصراع العريب‬ ‫ِّ‬
‫مث ل ما نع َم ْ‬
‫الصهيوين الذي أانخ بكلكله على الواقع العريب وكان املسرحيون والفنانون عموما يلتمسون‬
‫حالوة اإلميان يف الفن رغم مرارة الواقع‪.‬‬
‫وقد تكون هزمية ‪ 1967‬أشد اهلزائم مرارة ألهنا وقعت يف فرتة احللم العريب الكبري إبابدة‬
‫إسرائيل و"إرساهلا للبحر " أو على األقل احلد من توسعها االستيطاين فإذا اجملتمع الدويل ممثال‬
‫يف قواه الكربى يقلب املوازين وتعود الشعوب العربية إىل ليايل مهومها اليت تطاولت وما آب راعي‬
‫جنومها ‪ ،‬والتمس الفنانون مرة أخرى يف الفن عزاءهم وكانت خوالد األعمال شاهدة على ذلك‬
‫حىت لكأن مجيل الفنون ال يكون إال يف زمن املآسي واآلالم‪ .‬ولذلك رمبا كان املسرح امللحمي‬
‫متصال ابلقالقل واالضطراابت يف الغرب وعند العرب أيضا ف "املسرح السياسي هو يف أساسه‬
‫مسرح أزمات‪ ،‬فهو ال يزدهر إال يف ظل األزمات االقتصادية والسياسية واالجتماعية سواء‬
‫يف أملانيا اهلزمية والقهر النازي أو يف أمريكا األزمة االقتصادية وهلذا فلم يكن من الغريب أن‬
‫حيفر املسرح السياسي واملسرح امللحمي أثرا عميقا يف املسرح العريب يف ظل الصراع العريب‬
‫الصهيوين الذي ألقى بظله الكئيب على الساحة العربية وعلى وجه اخلصوص بعد هزمية‬
‫‪ 1967‬بكل آاثرها التارخيية واإلنسانية‪."12‬‬
‫و"سعد هللا ونوس" الكاتب املسرحي السوري املتأثر مبسرح "بريشت" و"بيسكاتور" من‬
‫أولئك الذين التمسوا يف الفن ثورة ويف الركح رايدة رغم اهلزائم احلضارية وأمهها هزمية ‪1967‬‬
‫ولذلك تُمثل أعماله حمطة مهمة من مراحل تطور املسرح العريب فقد ساهم مع ثلة من الفنانني‬
‫أمثال "رفيق الصبان" و"شريف خزندار" يف احلركة اليت تروم مسرحا مغايرا ملا كان من أشكال‬
‫مسرحية مبتذلة سائدة‪ .‬وكان مسرحه على ِّ‬
‫حد عبارته هو مسرحا تسييسيا‪ .‬يقول ونُّوس ‪" :‬بعد‬
‫‪1967‬طـُرحت العالقة بني املسرح و السياسة بشكل حاد‪ .‬كانت التجارب قبله تتوهّم أنه‬

‫‪ 12‬العبوطي أمني‪ :‬املسرح السياسي‪ :‬جملة عامل الفكر اجمللد ‪ 14‬العدد‪ 4‬يناير‪-‬فرباير‪-‬مارس ‪ .1984‬ص‪.93:‬‬
‫‪6‬‬
‫َبإلمكان ممارسة جتربة مسرحية حدودها الفن‪ ...‬وأ ّن اهتمام املسرح َبلقضااي والشؤون‬
‫السياسية إمنا يُشك ـِـل عدواان على فنـ ـِـية املسرح"‪.‬‬
‫ّد‬
‫وقد حرص "ونُّوس" على تسمية مسرحه ب مسرح التسييس وعرفه كالتايل‪" :‬يتحد ُ‬
‫مفهوم التسييس من زاويتني متكاملتني‪ .‬األوىل فكرية وتعين أننا نطرح املشكلة السياسية‬
‫وحناول استشفاف أفق تقدمي حلل هذه املشاكل‪ ،‬والطبقات الفعلية اليت حتتاج إىل التسييس‬
‫سة‪ .‬والزاوية الثانية هتتم َبجلانب اجلمايل"‪.‬‬ ‫هي الطبقات الشعبية أل ّن الطبقة احلاكمة ُم ح‬
‫سيّ ح‬
‫ويقول أيضا‪" :‬إ ّن مفهوم التسييس حماولة لإلجابة على هذين السؤالني‪ :‬أية سياسة؟‬
‫وكيف؟‪ .‬يف اجلواب على السؤال األول حندد االجتاه السياسي واجلمهور ويف اجلواب على‬
‫السؤال الثاين نبحث عن الصيغة"‪.‬‬
‫لقد حرص "ونُّوس" ضمن مشروعه الثقايف والسياسي على اجلمع بني اثلوث متعالق‬
‫األطراف‪ :‬السياس ة والثقافة واجملتمع‪ .‬فإميانه األول ابلعالقة الثنائية بني السياسة والثقافة أنتجت‬
‫لرب السلطة لذلك رأى أن حرب حزيران قد كشفت‬ ‫برجا عاجيا يعيش فيه املثقف وبرجا آخر ِّ‬
‫مدى تضليل الثقافة لإلنسان العريب‪ .‬وانطالقا من هذا الثالوث عاجل اثلواث آخر " ُحمرما" يف‬
‫اجملتمع العريب اإلسالمي هو اثل وث السياسة والدين واجلنس‪ .‬يقول أمحد جاسم احلسني‪:‬‬
‫" توقف يف مسرحه عند مهوم كثرية غري أن األفصح هي ثالثة مهوم كانت األمور األخرى‬
‫تدور يف فلكها‪ :‬السياسة ‪ /‬الدين‪ /‬اجلنس‪.‬‬
‫وقد وجدان القضااي املتصلة مبسرح "ونُّوس" عديدة جدا لذا رأينا طلبا للنجاعة املرجوة للتالميذ‬
‫أن نقتصر على ما جاء يف سفر الربامج الرمسية لتالميذ الباكالوراي حمددا كالتايل‪:‬‬
‫يتم االهتمام يف مغامرة رأس اململوك جابر لسعد اله ونُّوس ابملسائل التالية‪:‬‬

‫يف اجلانب الفين‪:‬‬


‫بناء النص املسرحي‪ :‬التضمني‪ -‬التناوب بني السرد واحلوار‪-‬التداول بني املرئي واحملكي‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫اإلشارات الركحية ودورها يف بناء املسرحية ( السياقات التارخيية‪ ،‬حتديد فضاءات األحداث)‪-‬‬

‫‪7‬‬
‫أنواع العقد واملفاجآت ومسامهتها يف منو النص املسرحي‪ -‬النهاية املأسوية‪ -‬دور املوارد الرتاثية يف‬
‫بناء النص املسرحي‪ -‬عناصر الفرجة ( الديكور‪ ،‬األضواء‪ ،‬الظالل)‪.‬‬
‫‪ -‬الشخصية املرحية‪ :‬البطل الرتاجيدي الكوميدي (بناء الشخصية‪ ،‬خطاهبا‪،‬رمزي تها‪ :‬بني العق ل‬
‫والعاطفة‪ ،‬بني الرباءة واخليانة‪ ،‬بني السذاجة واخلبث‪ ،‬املساومة‪ ،‬املغامرة يف سبيل املكافأة)‪-‬‬
‫الراوي (بناء الشخصية‪ ،‬دورها‪ ،‬مراجعها)‪ -‬السائس (بناء الشخصية نفسيا وذهنيا)‪ -‬املتفرجون‬
‫(التنوع واالختالف‪ ،‬أوجه االتفاق‪ ،‬احلاجة‪ ،‬الطموح‪.)...‬‬
‫‪ -‬العالقات بني الشخصيات‪:‬أوجه التقابل بني اخلليفة والوزير وأعوان كل منهما‪ -‬أوجه اخلالف‬
‫بني الراعي والرعية‪ -‬أوجه االختالف واالئتالف بني احلكوايت وحرف اء املقهى‪ -‬الظاه ر والباطن‬
‫يف عالقة العجم ابلعرب‪ -‬احلب‪.‬‬
‫‪ -‬احلوار املسرحي‪:‬‬
‫• أصنافه‪ :‬منفرد‪ ،‬ثنائي‪،‬مجاعي‪.‬‬
‫• بناؤه‪ :‬مواضيعه‪ ،‬أطرافه‪ ،‬موجهاته‪ ،‬تناميه‪.‬‬
‫• تنظيمه‪ :‬توزيع األدوار‪ ،‬تنظيم املواقف‪ ،‬توقيت التدخالت‪.‬‬
‫• لغته‪ :‬بنية اجلملة‪ ،‬أساليب احلذف و االختزال‪ ،‬املعاجم املتداولة‪.‬‬
‫• أساليبه‪ :‬الغنائية‪ ،‬التقريرية‪ ،‬احلجاجية‪...‬‬
‫• سجالته‪ :‬العامية‪ ،‬الفصحى‪...‬‬
‫يف اجلانب املضموين‪:‬‬
‫عالقة الراعي ابلرعية‪ ،‬عالقة الراعي ابحلاشية‪ ،‬الفنت السياسية‪ ،‬املثقف واجملتمع‪ ،‬احلب والسياسة‪،‬‬
‫العقل والعاطفة‪ ،‬مفهوم السعادة والشرف‪ ،‬الزمن والتاريخ‪ ،‬توظيف الرتاث يف الفن املسرحي‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫اخلصائص الفنية‪:‬‬
‫‪ /1‬بناء النص املسرحي‪:‬‬
‫‪ 1-1‬التضمني‪ :‬يتجلى التضمني داخل املسرحية يف وجود "مغامرة اململوك جابر" داخل إطار‬
‫جو املقه ى وزابئنه‪ ،‬وهي حكاية قدمية جتري أحداثها يف بغداد أايم آخر خلفائها‪ .‬يف حني‬
‫يكون املقهى واحلكوايت والزابئن يف العصر احلاضر‪ .‬ف "ونُّوس" من هذه الناحية قد استفاد من‬
‫تقنية املسرح داخل املسرح يف أعمال "بريانديللو" اإليطايل و"شكسبري" اإلنقليزي‪ .‬وهذا‬
‫التضمني هو الذي مكن من وجود فضائني وزمانني ومكانني ومسرحيتني‪.‬‬
‫‪ 2-1‬التناوب بني السرد واحلوار‪ :‬متأثرا ب "بيسكاتور" آمن "ونُّوس" يف مسرحه بضرورة جتاوز‬
‫ختطي قوانينه اجلامدة والسعي إىل خلق مسرح روائي يعتمد على‬ ‫"مطلقية الشكل الدرامي" و ِّ‬
‫املشاهد املتنوعة املختلفة املستقلة‪ .‬ويتم إدغام هذه املشاهد عضواي يف احلدث الدرامي العام‬
‫ولذلك جند النص املسرحي يف مغامرة رأس اململوك جابر قائما على التناوب بني احلكي (السرد)‬
‫يؤمنه احلكوايت الذي ميثِّل حلقة الوصل بني الزابئن يف املقهى‬
‫واحملاكاة (التمثيل)‪ .‬وهذا التناوب ِّ‬
‫وبني األحداث يف بغداد وصال حياداي ما أمكنه‪.‬‬
‫ولعل أكثر معامل التأثر وضوحا وفعالية يف املسرحية أتيت من مسرح "بريشت" امللحمي‬
‫التغرييب التعليمي‪ .‬فقد راح ونُّوس يستعري من أدواته الدرامية اجلمالية ما يالئم خصوصية‬
‫مض مونه اجلدي د واملعاصر األصيل يف آن وما ينسجم مع ميوله الفكرية ورؤيته التارخيية‬
‫السياسية املستقبلية مقتبسا منها أيضا ما يتالءم مع غاايته التعليمية من أساليب تغريبية تعينه‬
‫على حتقيق مهمته املعرفية اجلم الية‪ .‬ومن أبرز هذه األساليب امللحمية التغريبية‪:‬‬
‫• االعتماد على احلكاية وعلى شخصية الراوي (احلكوايت) الذي يقوم بسرد‬
‫وقائعها‪.‬‬
‫• تفتيت وحدة الزمان واملكان واحلدث‪.‬‬
‫• هدم اجلدار الرابع وكسر اإليهام املسرحي وحتطيم ظاهرة االندماج أو التقمص‬
‫أي الفصل بني الشخص والشخصية‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫وعلى هذا األساس يقع التداول بني املرئي واحملكي‪ .‬وقد ذهب "ونُّوس" يف استغالل‬
‫مذهب مسرحة بعض املشاهد احلكائية يف ركح داخلي بسيط كمشهد‬
‫َ‬ ‫هذه التقنية اجلمالية‬
‫التعريف جبابر ومشهد احلالقة‪..‬‬
‫‪ 3-1‬اإلشارات الركحية ودورها يف بناء املسرحية‪:‬‬
‫‪ -‬أنواعها‪:‬‬
‫‪ +‬إشارات ركحية وصفية تسبق احلوار وتتخلله وتعقبه‪.‬‬
‫‪ +‬إشارات سردية تسبق اللوحات وتتخلل احلوار فتقطع مراحله وتتلوه أحياان معلقة عليه‪.‬‬
‫‪ -‬وظائفها‪:‬‬
‫‪ +‬حتديد السياقات التارخيية‪:‬‬
‫أ‪ /‬سياق اترخيي حديث هو عامل املقهى‪" :‬حنن يف مقهى شعيب‪..‬مثة عدد من الزَبئن‪"...‬‬
‫ب‪ /‬سياق اترخيي قدمي هو عامل اخلالفة ببغداد يف العصور الوسيطة‪" :‬يدخل املمثلون اخلمسة‬
‫الذين رأيناهم من قبل ميثلون أهل بغداد"‪.‬‬
‫‪ +‬حتديد فضاءات األحداث‪:‬‬
‫أ‪ /‬الفضاء اخلارجي احلديث‪ :‬املقهى ومؤثثاته وُرواده‪.‬‬
‫ب‪ /‬الفضاء الداخلي بتنويعاته‪ :‬رواق الوزي ر‪ ،‬ديوانه‪ ،‬ديوان اخلليفة‪ ،‬برج احلراسة‪ ،‬قصر ملك‬
‫العجم‪ ،‬فضاء املقصلة‪ ،‬فضاء املعركة‪...‬‬
‫وقد حقق هذا التنوع يف الفضاءات حتطيم مبدأ الوحدات الثالث ذلك أن "ونُّوس" قد‬
‫جتاوز وح دة املكان والزمان واحلدث‪ ،‬فمن حيث املكان وجدان بغداد وبالد العجم واملقهى ومن‬
‫حيث الزمان قارب ونُّوس بني زمانني يتشاهبان يف واقع التخلف واجلهل واالحنطاط والظلم‪.‬‬
‫‪ 4-1‬أنواع العقد واملفاجآت ومسامهتها يف منو النص املسرحي‪:‬‬
‫• مفاجأة جابر للوزير بفكرة كتابة الرسالة على جلدة رأسه‪.‬‬
‫• مفاجأة ملك الروم جلابر ابجلزاء‪.‬‬
‫• مفاجأة السياف للجمهور بنص الرسالة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وقد سامهت هذه املفاجآت يف تصعيد الفعل الدرامي ويف بناء الشخص ية الرتاجي دية‬
‫على اخل بث واخليانة كما سامهت يف تعريض املشاهدين لصدمات متنع تعاطفهم مع البطل‬
‫الرتاجيدي ِّ‬
‫الشرير‪.‬‬
‫‪ 5-1‬مظاهر الصراع الرتاجيدي‪:‬‬
‫‪ +‬الصراع القائم بني الوزير واخلليفة ومها رمزان للحكم االستبدادي‪ .‬يقول احلكوايت‪" :‬وكلعبة‬
‫الشطرنج كل حيك رأسه الالعبان خليفة بغداد و وزيرها"‪.‬‬
‫‪ +‬الصراع بني السلطة املستبدة هذه والرعية املسلوبة حقوقُها‪.‬‬
‫‪ 6-1‬النهاية املأسوية‪:‬‬
‫هي هناية مفزعة مفاجئة للجمهور والقراء بقطع اجلالد لرأس اململوك جابر حيث تبعث‬
‫النهاية على الرعب واالمشئزاز‪ .‬يقول الزبون األول معلقا‪" :‬هناية غري عادلة" ويقول الزبون الثاين‪:‬‬
‫"إننا ال نقبل"‪ .‬والنهاية مرعبة أيضا يف مشهد دخول العجم إىل بغداد وحرقها وهتك أعراضها‬
‫يقول احلكوات ي‪" :‬وكانت جيوش العجم تزحف كعاصفة هوجاء حنو بغداد ويف طريقها‬
‫خ ّربت كل ما هو قائم"‪.‬‬
‫‪ 7-1‬دور املوارد الرتاثية يف بناء النص املسرحي‪( :‬هلذا العنصر عالقة ابلتضمني)‪:‬‬
‫ضمن ونُّوس حكاية اململوك جابر يف مسرحيته وبىن عليها كل الفعل الدرامي واستلهم‬
‫منها ما حققه من مشاهد ركحية وما فرعه من لوحات‪ .‬لكن ذلك مل مينع أنه قد حور يف‬
‫شخوصها الثانوية ابإلضاف ة والتخيُّل‪ .‬مث إن صورة املقهى الشعيب ومكوانته عناصر تراثية موظفة‬
‫مبا فيها من مسر وإحياء للسهرات ابحلكاية والشاي والنارجيلة‪.‬‬
‫ولكن احلكاية املهيمنة حكاية اململوك جابر ومادهتا الدرامية مستقاة من تلك احلكاية الشعبية‬
‫الرتاثية القدمية الواردة يف سرية "الظاهر بيربس" واليت تصف ما شهدته بغداد يف هناية احلكم‬
‫العباسي من فتنة عاصفة نتيجة احتداد الشقاق وأتزم الصراع الدموي العنيف على السلطة بني‬
‫اخلليفة "شعبان املقتدر ابهلل" ووزيره "حممد العلقمي"‪ .‬لكن ما أضفاه ونُّوس من روح درامية وما‬
‫شحن به النص من حمتوى سياسي واجتماعي وأخالقي جديد مسحا له خبلق شخصيات اترخيية‬

‫‪11‬‬
‫تراجيدية تفوق يف نضجها وكماهلا وإنسانيتها تلك األمناط اهلزيلة واملسطحة واجلوفاء اليت‬
‫تطالعنا أحياان يف كتب التاريخ‪.‬‬
‫وبذلك يكون ونُّوس قد جلأ ونُّوس إىل اقتطاع مرحلة اترخيية من مراحل الضعف‬
‫واالحنطاط اليت شهدها اترخينا العريب القدمي وحرص على أن يقرأها برؤية واعية معاصرة وجيسدها‬
‫بشكل فين درامي يسمح للقارئ العريب بقراءة التاريخ قراءة واعية مشولية موضوعية وابكتشاف‬
‫بواعث الضعف وعوامل االهن يار واالحنطاط املتأصلة يف نسيج البنيان التارخيي للفرتتني‪.‬‬
‫فاملسرحية هبذا االستلهام ِّ‬
‫جتسد واقع اهلزمية العريب يف ‪ 1967‬مرموزا إليه جبو املقهى السكوين‬
‫الرتيب اخلانق وبزابئنه املتواكلني الغارقني يف الكسل والتخلف واجلهل والعبث‪.‬‬
‫‪ 8-1‬عناصر الفرجة‪:‬‬
‫‪ -‬أتثيث الركح اخلارجي‪ :‬أدوات املقهى كالكراسي املبعثرة والكؤوس الصينية واملوقد والنارجيلة‪.‬‬
‫‪ -‬أتثيث الركح الداخلي‪ :‬رواق الوزير املمثل بقطع ديكور بسيطة جدا وخمبزة بغداد‪...‬‬
‫‪ -‬تنوير الركح‪ :‬ومثال ذلك تسليط الضوء على احلكوايت بعد خفوته من انحية الفضاء الثاين‬
‫عندما يريد ونوس أن يُفسح اجملال للسرد أو تسليط الضوء على رأس جابر بعد حالقته‪.‬‬
‫‪ -‬بعث املوسيقى املصاحبة للحركة كمشهد غناء الصبية وراء احلالق وهو حيلق رأس اململوك أو‬
‫كغناء جابر على خبب جواده وغناء اجلالد بعد حفل الدم‪.‬‬
‫‪ -‬إلقاء اجلالد الرأس للمتفرجني وخماطبتهم شعرا أو خروج الرجل الرابع وزمردة من بني املوتى يف‬
‫النهاية‪.‬‬
‫‪ 9-1‬الشخصية املسرحية‪:‬‬
‫اعتمد ونُّوس الشخصية املسرحية الرتاجيدية السلبية الشريرة إبسناد دور البطولة هلا‪.‬‬
‫وقد أطلق "لوكاتش" على هذه الرتاجيداي اسم "تراجيداي األخطاء" ألهنا أشد لذعا ما دامت‬
‫وليدة محاقة وطيش‪ .‬وليس اململوك جابر يف طابعه األخالقي املرتهل وانتمائه االجتماعي الطبقي‬
‫ُّ‬
‫الدوين سوى صورة ألبطال بريشت السيئني األشرار‪.‬‬
‫لكن مع هذا الطابع الرتاجيدي جند يف شخصية جابر تكوينا كوميداي يف متثيله لكل ما‬
‫هو اتف ه ومبتذل‪ .‬وميكن أن نتبني مالحمه من خالل خطابه فقد كان خطااب شبقيا سافال‬
‫‪12‬‬
‫وخطااب سياسيا انتهازاي وخطااب نفعيا وعاطفيا‪ .‬فهو إذن رمز للتجاذب بني العقل والعاطفة لكن‬
‫العاطفة تغلب‪ .‬يقول الزبون الرابع عندما رأى إعجاب الزابئن به ‪" :‬ال تزيدوها ما هو إال ولد‬
‫ذكي وهناز فرص"‪ .‬وهو جيمع أيضا بي ن الرباءة واخليانة والسذاجة واخلبث واملساومة واملغامرة يف‬
‫سبيل املكافأة‪.‬‬
‫‪ 10-1‬الراوي والشخصيات‪:‬‬
‫واملقصود به احلكوايت‪ .‬شخصية قومية رصينة "رجل جتاوز اخلمسني" وامسه "العم مؤنس" مرتبط‬
‫ابلوقار والوظيفة (اإليناس) ويتميز ابحلياد البارد رغم الفوضى اليت حتيط به‪ .‬واملهم يف كل هذا أنه‬
‫ميتلك رؤية اترخيية مستقبلية واسعة جتعالنه ممثال حقيقا للتاريخ وصوات واعيا موضوعيا‪ .‬وهو يربط‬
‫لوحات املشاهد والفصول بشكل يضمن حتقيق مبدأ التغريب اهلادف إىل إيقاظ املتلقي وتوعيته‬
‫إضافة إىل كونه حيقق املزاوجة بني احلكي والتمثيل فهو إذن الشخصية القطب يف الركح اخلارجي‬
‫حيث الكل ينتظر قدوم العم مؤنس‪ .‬ومن املهم يف خصيته أنه يُنتج الدرس التعليمي يف ثنااي‬
‫اللوحات و يف أثناء اخلطاب السردي‪.‬‬
‫ومن انحية دوره الذهين هو يربط أحداث التاريخ بقوانني ضروراهتا املوضوعية إلميانه‬
‫بكوهنا نتاج تسلسل منطقي إذ يقول للزابئن وقد طلبوا سرية الظاهر بيربس‪" :‬ما جاء دور‬
‫الظاهر بعد"‪ .‬إنه يؤكد على التسلسل التتابعي العلِّي للتاريخ‪ .‬وبقطع النظر عن وظائفه الفنية‬
‫والذهنية نتبني أنه ذو مرجعيات خمتلفة حيث حييلنا يف الرتاث على حكاايت وأخبار األصفهاين‬
‫وهو حييل شعبيا على وظيفة احلكوايت وحييل أدبيا على مسامرات التوحيدي‪.‬‬
‫* الوزير‪ :‬يقول احلكوايت‪" :‬الوزير جتاوز األربعني وهو بدين ويف تقاطيع وجهه لؤم قدمي‬
‫ومزمن‪ "..‬وهو رسم هزيل ساخر ينضاف إىل مرتبته السياسية لرتتسم مالم حه ابعثة على التنافر‬
‫بني امل رت بة والشخص‪.‬‬
‫اخلليفة‪ُ :‬رسم رمسا هتكميا فاضحا ويف املقابل له صورة مرهبة حيث يقول ايسر‪" :‬ح ـ ـ ـ ـراس‬
‫موالن ـ ـا اخلليفة اي حفيظ ‪ "..‬ومع ذلك رمسه ونُّوس من الناحية الذهنية ضعيفا ففي اإلشارة‬
‫املسرح ية يرس مه "مفكرا وسامها"‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ميثل اخلليفة والوزير رمزين للحكم االستبدادي الذي يتالعب مبصري البالد والعباد‪ ،‬ويف‬
‫ذلك نفَس تعليمي مضمونه يتعلق بكون األنظمة الدكتاتورية هي اليت تقود إىل الرتدي واهلزمية‬
‫كما احلال سنة ‪.1967‬‬
‫املتفرجون‪ :‬جعلهم ونُّوس أرقاما ليكونوا مناذج اجتماعية ونوع أجناسهم فهم يف الركح الداخلي‬
‫أربعة رجال وامرأاتن ولكنه جعل الرجل الرابع خمتلفا عنهم فهما وإدراكا ألن اآلخرين يتبن ون‬
‫موقفا اهنزاميا مستسلما إلرادة السلطة املستبدة‪.‬‬
‫‪ 11-1‬العالقة بني الشخصيات‪:‬‬
‫يبدو الوزير مواجها للخليفة ومصارعا له بكل األسلحة إذ يقول ملساعده عبد اللطيف‪:‬‬
‫"الصراع واضح األبعاد"‪ .‬واخلليفة من انحيته مرتبِّص ابلوزير ُحيكم قبضته على املدينة حماوال‬
‫حماصرة الوزير ومنع استمداده مددا من العجم‪ .‬ويف وجه آخر للصراع جند الرعية والراعي حيث‬
‫ال تعري السلطة املستبدة للرعية وزان‪ .‬يقول الوزير لعبد اللطيف‪" :‬العامة؟ ومن يبايل َبلعامة"‪.‬‬
‫أما يف الركح اخلارجي فنجد اختالفا بني فوضى حياة الزابئن وانتظام حياة العم مؤنس‪ ،‬وجند‬
‫اختالفا أيضا يف فهم التاريخ فهو وسيلة ترويح عند الزابئن وهو درس لالعتبار وإيقاظ العقول‬
‫عند احلكوايت‪ .‬ولعل وجه االئتالف الوحيد يتمثل يف رؤيتهم للواقع املأزوم الذي يعيشونه رغم‬
‫اختالفهم يف سبل التعامل معه‪.‬‬
‫ويف املسرحية وجه آخر للتقابل ماثل بني الظاهر والباطن يف عالقة العرب ابلعجم ففي‬
‫الظاهر هي عالقة مساعدة وإنقاذ لدولة من االهنيار ودعم لطبقة التجار ضد تسلط اإلقطاعيني‬
‫من األمراء املناصرين للخليفة‪ ،‬ولكن الباطن غريُ ذلك فهم يرغبون يف االستحواذ واهليمنة‬
‫وطمس معامل حضارة العرب حتقيقا للمصلحة الفردية‪ .‬يقول عبد اللطيف للوزير‪" :‬أنت تعرف‬
‫ماذا يعين اجليش الغازي عندما ينتصر‪ .‬إنه خراب طائش قد تستحيل السيطرة عليه"‪.‬‬
‫ومن العالقات اليت ميكن أن نتبينها يف املسرحية عالقة احلب وهي العالقة اجلامعة بني‬
‫زمرد وجابر ضمن فضاء سياسي حتكمه املصاحل واألهواء ويسوده العفن والرغبة الفردية اجلاحمة‪.‬‬
‫وعالقة احلب هذه متثل حافزا مهما يُنَ ِّمي الفعل الدرامي يف املغامرة‪.‬‬
‫‪ 12-1‬احلوار املسرحي‪:‬‬
‫‪14‬‬
‫‪ -‬أنواعه‪:‬‬
‫‪ +‬حوار منفرد ينجزه احلكوايت يف مواجهة اجلمهور أو ينجزه البطل يف التغين الشعري أبجماد‬
‫مأمولة أو ينجزه اجلالد بعد قطع رأس اململوك‪.‬‬
‫‪ +‬حوار ثنائي أمثلته عديدة كالذي جيري بني منصور وجابر أو بني الوزير وعبد اللطيف أو ب ني‬
‫جابر وزمرد يف السجن‪.‬‬
‫‪ +‬احلوار اجلماعي ومثاله حوار املمثلني من عامة بغداد أو حوار املماليك الثالثة يف قصر الوزير‬
‫أو حوار الزابئن‪.‬‬
‫شهد احلوار أبنواعه بناء تصاعداي يف الفصل األول وتنازليا يف الفصل الثاين‪ .‬وبني‬
‫توجهه إما نفسية أو عاطفية كحال جابر و زمرد أو شبقية حسية‬ ‫موجهات ِّ‬‫التصاعد والتنازل مثة ِّ‬
‫عند جابر‪ .‬لذلك كانت املواضيع خمتلفة فنجد مواضيع اجتماعية كالغذاء والقوت وسياسية‬
‫كاألمن والسلطة ونفسية كالشهرة والشهوة وحضارية كعالقة العرب ابلعجم‪.‬‬
‫‪ -‬توزيع احلوار ‪ :‬مت توزيعه حسب أمهية األطراف املسامهة يف إنت اجه وهم احلكوايت والزابئن‬
‫واملمثلون‪ .‬فلسان احلكوايت يُ لِّ ُّم بفضاء احلكاية وظروفها وهو يُفسح اجملال للتمثيل كلما توفرت‬
‫حلظة درامية تبين لوحة كلوحة حوارات العامة أو لوحة حوار املماليك أو غريها ويرتك للزابئن‬
‫فضاء التعليق على ما شاهدوه يف فرتة االسرتاحة بني الفصلني يف النهاية املفزعة‪ .‬يقول احلكوايت‪:‬‬
‫"وهنا نستأذن املستمعني األكارم َبسرتاحة قصرية نشرب فيها فنجاان من الشاي"‪ .‬ومن‬
‫تقنيات توزيع احلوار أن احلكوايت يقطع تدخل الزابئن الفوضوي أثناء التمثيل‪ .‬فاحلكوايت العم‬
‫مؤنس والكاتب الضمين يتحكمان يف توقيت التدخالت ويوجهاهنا خلدمة غاايت املسرح‬
‫امللحمي التعليمي ألن مسة احلوار الفين الناضج يف املسرحية الناجحة أن يكون فيه "لكل‬
‫خطاب طوله الصحيح َبلضبط"‪.‬‬
‫‪ -‬لغة احلوار‪:‬‬
‫تراوح احلوار بني اجلمل الفعلية البسيطة يف خطاب العامة واجلمل املركبة يف خطاب‬
‫الساسة واجلمل الوصفية يف خطاب احلكوايت‪ .‬وقد اعتمد ونُّوس تقنية احلذف واالختزال يف‬
‫اإلخبار عن املشاهد اليت تقع خارج الركح أو يف األداء اإلميائي لدخول العجم مدينةَ بغداد‪ .‬أما‬
‫‪15‬‬
‫املعاجم املتداولة فمنها السياسي (عدل ‪ /‬ظلم‪ /‬أمن) ومنها الوجداين (حب ‪/‬حزن ‪ /‬فراق ‪/‬‬
‫ش وق) ومنها الديين (مقدسة‪ /‬دين‪ .)..‬وقد مجعت اللغة أيضا بني العامية اليت أدجمها ونوس‬
‫مصدرا معرفيا (ما تزيدوها‪ /‬هس) والفصحى اليت يقوم عليها النص‪ .‬ومل يرد توظيف العامية إال‬
‫للتنديد مبثل هذه الشرائح االجتماعية الرثة الدونية‪.‬‬
‫ومن انحية اخلطاب توزع بني التقرير يف اخلطاب السياسي اجلازم واحلجاج يف خطاب‬
‫جابر ومنصور أو جابر وايسر أو بني الوزير وعبد اللطيف‪ .‬وجند اخلطاب الغنائي يف اللغة‬
‫الشاعرية الغنية املكثفة اليت متتلك طاقات درامية مجالية خالقة‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫أهم القضااي الفكرية والسياسية واالجتماعية املطروحة‬
‫‪ /1‬عالقة الراعي َبلرعية‪:‬‬
‫العالقة اليت يروم ونُّوس تصويرها بل التنبيه إىل وخيم نتائجها هي العالقة العمودية‬
‫املستبدة‪ ،‬عالقة حاكم يضرب بقوة على أيدي الرعية املظلومة املضطهدة‪ .‬فاحلكام املصورون‬
‫ُ‬
‫ساعون إىل حماصرة الشعب فكراي وسياسيا وروحيا وسحقه اقتصاداي واجتماعيا‪ .‬وليس من‬
‫الضروري أن يكون هذا اإلخضاع ابلقوة فقد يكون جبعله يتخبط يف اجلهل والتخلف‬
‫واالستسالم واالهنزام وذلك برفع العصا يف وجهه دون أن تقع على الشعب فيكون ذلك استباقا‬
‫ملا قد يبديه من معارضة وثورة أو تثوير‪ .‬والذي يغلب على نظرة احلاكم إىل احملكوم هي نظرة‬
‫ازدراء واحتقار‪ .‬يقول الوزير‪" :‬العامة؟ ومن يبايل َبلعامة‪...‬يكفي أن ِ‬
‫تلوح هلم َبلعصا حىت‬
‫ميّحوا وتبتلعهم ظلمات بيوهتم"‪.‬‬
‫إن االحتماء ابجلهل والعجز واخلوف ميثل الوصفة السحرية لألمان بل إن التقوقع على‬
‫الذات يبدو "س ّر األمان"‪ .‬وقد كشف حوار الرجل األول واجملموعة عن املدى الذي يبلغه‬
‫اخلنوع والذل‪:‬‬
‫‪ -‬الرجل األول‪ :‬وأيمروننا َبلبيعة‪.‬‬
‫‪ -‬اجملموعة‪ :‬فنبايع‪.‬‬
‫‪ -‬الرجل األول‪ :‬وأيمروننا َبلطاعة‪.‬‬
‫‪ -‬اجملموعة‪ :‬فنطيع‪.‬‬
‫‪ -‬املرأة األوىل‪ :‬ذلك هو سر األمان يف هذا الزمان‪.‬‬
‫‪ -‬الرجل الثالث‪ :‬تعل ـّـمناه من اجلالدين وسياطهم املرصعة َبملسامري‪.‬‬
‫هذه العالقة املرتدية بني الراعي والرعية ال بد أن تؤول إىل ترد اقتصادي وتفكك اجتماعي‬
‫واحنالل أخالقي وذلك لرتابط اجملاالت بعضها ببعض‪ .‬فالفقر قد يدفع الناس إىل بيع أعراضهم‬
‫وهتك الشرف ومثال ذلك دعوة الرجل األول زوجته لسفح شرفها‪.‬‬
‫‪ /2‬عالقة الراعي َبحلاشية‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫تدرج هرمي تبدو هذه العالقة مثاال مصغرا للعالقة السابقة بني الراعي والرعية فعالقة‬
‫يف ُّ‬
‫الراعي ابحلاشية عالقة توجيه وقهر واحتقار فالوزير مثال يكاد يقطع رأس ايسر جملرد اإلخبار‬
‫ويُذيِّل الرسالة اليت كتبها على رأس اململوك جابر بقطع رأسه‪ .‬وهي إىل جانب ذلك عالقة‬
‫توجس وخوف وهي أيضا عالقة مصانعة وخدمة‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫‪ /3‬الفنت السياسية‪:‬‬
‫إن اإلقرار بكون الفنت السياسية ال خيلو منها زمان ال يعين أبي حال صرف النظر عن‬
‫بواعثها‪ .‬ولعل أهم ابعث هو الصراع على السلطة وامتالك النفوذ وخري مثال على ذلك الصراع‬
‫الدموي العنيف بني اخلليفة العباسي شعبان املقتدر ابهلل ووزيره حممد العلقمي‪ .‬وال خيفى ما هلذه‬
‫الفنت من نتائج اجتماعية وسياسية واقتصادية مدمرة للبالد والعباد خملة ابألم ن‪ .‬فالغليان‬
‫والفوض ى واالضطراب جعلت العصر‪" :‬كالبحر اهلائج ال يستقر على وضع" ويقول منصور‪:‬‬
‫"لو اندلعت النار فسنكون احلطب الذي يغذيها"‪.‬‬
‫ومن النتائج السلبية على الواقع السياسي ضعف املؤسسة السياسية ووقوع اخلليفة يف‬
‫التنازل املهني عن الوالايت فقط ألجل ِّ‬
‫سد املطامع أمام الوزير‪ .‬وهذه األحوال ال ختلو من مغبة‬
‫متكني النزعة الوص ولي ة واالنتهازية‪ .‬فاململوك جابر نتاج منوذجي هلذه العقلية حيث أنه مبجرد‬
‫تبيُّنه الفرصة يسعى إىل الوصولية واالنتهاز مدفوعا أباننيته اليت كانت وليدة بيئة رانت عليها قيم‬
‫مرذولة شرعتها الفنت اليت تزين القبيح وتُ ِّ‬
‫شرع الشر‪.‬‬
‫‪ /4‬املثقف واجملتمع‪:‬‬
‫املثقف يف اجملتمع نور يف دجيور وعالمة يف طريق الضياع‪ .‬هو صاحب املعرفة والعلم‬
‫واخلربة والعقل لكنه صوت منفرد تتكاثف األصوات املسكتتة له وكأنه صدى خلطيب الشايب‬
‫كلما قام يف البالد خطي ـ ـ ـ ـب موقظ شعبه يريد صـالحـ ـه‬ ‫يف قوله‪:‬‬
‫أمخدوا صوته اإلهلي َبلعسـ ـ ـ ف أماتوا صياحه و نواحه‬
‫خريج سجون كحال الرجل الرابع‪:‬‬‫واألصوات املسكتتة له هي السياط اليت ختزيه ليتحول ِّ‬

‫كنت يف السجن؟‪.‬‬
‫‪ -‬املرأة الثانية‪ :‬هل ح‬
‫‪18‬‬
‫كنت يف السجن‪.‬‬
‫‪ -‬الرجل الرابع‪ :‬إي وحق هللا ُ‬
‫واملثقفون يف مغامرة اململوك جابر متثلهم جمموعة من الشخصيات يف املسرحية‪ .‬ففي‬
‫املثقف احلكوايت والزبو ُن الرابع‪ .‬ويف الركح الداخلي ميثله الرجل الرابع‬
‫َ‬ ‫الركح اخلارجي ميثل‬
‫ومنصور‪ .‬واملثقف يف النماذج املذكورة ‪-‬رغم ما يلقاه‪ -‬يبقى رمز الرسالة النبيلة املنقذة لإلنسانية‬
‫املوجهة لعقول املتفرجني ‪.‬فاملثقف يعمد إىل‬ ‫من جربوت الظلم إذ يؤسس الرجل الرابع اجملموعة ِّ‬
‫قراءة األحداث التارخي ية بتعقل وتدبر وحكمة‪ .‬فهو يرى أن ما آلت إليه بغداد ليس سوى‬
‫نتيجة حتمية لوجود سلطة مستبدة و ِّ‬
‫لتفشي روح التواكل والالمباالة واالستسالم يف اجملتمع‪.‬‬
‫‪/5‬احلب والسياسة‪:‬‬
‫قد يكون اجلمع بني احلب والسياسة غريبا ألول وهلة على القارئ ولكن نظرة متأنية‬
‫للمسرحية تكشف لنا أن احلب قد ُولد يف وسط السياسة وأنه قد حرك البنية الدرامية للمأساة‬
‫فعالقة اململوك جابر وزمرد هي اليت كانت البعث على أن يكون جابر صاحب فكرة البطولة‬
‫الظاهرية والرغبة الباطنية امللحة يف حتسني وضعه والزواج من زمرد‪ .‬فاحلب إذن دافع على املغامرة‬
‫السياسية اليت خاضها جابر حيث يقول خماطبا منصور‪" :‬آه من هذه البنت اي منصور هلا‬
‫طريقة ال ُجتارى يف رواية األخبار‪...‬يف كل مرة أراها جتعلين أخور كالثور"‪ .‬ورغم ما سيقوم به‬
‫جابر من نبل التضحية يف منطق العشاق لكي جيمعه بزمرد سقف واحد تبقى الطريق غري مأمونة‬
‫ما دامت طريق السياسة حيث تقول زمرد عندما علمت عزم جابر على املغامرة‪" :‬ما تزال بيننا‬
‫مسافة حمفوفة َبملخاطر"‪.‬‬
‫‪/6‬العقل والعاطفة‪:‬‬
‫اململوك جابر أحسن من ميثل هذا الصراع فرغم متيزه بذكاء حاد وق اد أشاد به احلكوايت‬
‫طوف به بعيدا يف األهواء‪ .‬فونُّوس أراد من خالل‬ ‫نفسه يشهد انفالات غري عادي للغريزة اليت تُ ِّ‬
‫شخصيته أن يُنبه إىل املخاطر الكامنة وراء اتباع اإلنسان شهواته ويُنبِّه إىل ضرورة إع مال العقل‬
‫واملنطق والقانون األخالقي اإلنساين العام‪ .‬فاملقام األول للعقل قبل العواطف واالنفعاالت‬
‫والغرائز مبعىن أن العقل لو كان االحتكام إليه هو الفيصل يف القرار لكانت مصلحة العام‬
‫(الوطن) مقدمة على املصلحة الذاتية النفعية االنتهازية‪ .‬وقد بلغ ونُّوس يف مغامرة اململوك جابر‬
‫‪19‬‬
‫شأوا بعيدا يف جعل الغرائز وأهواء النفس سببا للتدهور حيث اعترب أن ما بلغه اململوك جابر من‬
‫انتهازية ليس سوى نتاج حتمي لواقع اجتماعي طغت فيه الشهوات واستجاب فيه اإلنسان‬
‫لغرائزه ونزواته فكان هذا التدهور األخالقي الذي شهده اجملتمع نتيجة مباشرة ملا كان من أمر‬
‫تغليب العاطفة على العقل‪ .‬وليس ما وقع للمملوك جابر استثنائيا بل هو النهاية املوعودة لكل‬
‫وصويل انتهازي ولعلها الغايةُ التعليمية اليت أراد ونُّوس أن يُبلغها‪ .‬فالسياف يردد ذلك وهو‬
‫يستعد لبرت رأس اململوك جابر‪" :‬كان موته حتت فروة رأسه ومل يدر"‪.‬‬
‫ويؤكد الكاتب ابلنهاية املأسوية درسا تعليميا إنسانيا مضمونه أن على اإلنسان لَ ْج َم‬
‫شهواته وغرائزه وإخضاعها للعقل واملنطق والقانون األخالقي اإلنساين وإال كان مصريه تراجيداي‬
‫قاسيا أليما‪ .‬وما حدث للمملوك جابر ذي األطماع الفردية الغرائزية عربةٌ ينتجها املسرح‬
‫امللحمي التعليمي عند بريشت وغريه من املعاصرين‪ .‬وتلك املفارقة الرتاجيدية القاسية هي اليت‬
‫تضفي على خامتة املسرحية بعدا مأسواي مغزاه عند ونُّوس أنه ال بقاء خلائن فيكون اخلطاب‬
‫عندئذ تعليميا توعواي‪ .‬وألجل ذلك حرص على أال حيصل اإلعجاب بشخصية اململوك جابر‬
‫االنتهازية وامليل إىل حتقريه وازدرائه والتنديد بتصرف اته وشجب جرائمه‪ .‬ولكن إدانته ال تقف عند‬
‫نطاق الشخصية وعاملها الذايت فحسب بل متتد لتشمل الواقع املوضوعي الذي أفرزها وعمل‬
‫على خلقها وتكوينها أي أهنا إدانة تشمل الشخصية والواقع التارخيي‪.‬‬
‫‪/7‬مفهوم السعادة والشرف‪:‬‬
‫مسرية اململوك جابر تُ ِّ‬
‫عرف السعادة على أساس كوهنا امتال َك أدوات السمو االجتماعي‬
‫والسياسي وذلك ابد يف قوله‪" :‬كل ما ينتظرين ال حيب الصرب أو الفراق ال الزوجة وال الثروة‬
‫وال املراتب"‪ .‬والسعادة يف وجه آخر هي أتمني ما يقيم به اإلنسان ْأوَده‪ ،‬وذلك يظهر يف كالم‬
‫الرجل الثالث‪" :‬هذا هو الصواب‪ .‬نشرتي أرغفتنا وخنتفي يف بيوتنا"‪ .‬ففي ظل احلاجة املادية‬
‫تنتفي قيمة الشرف األخالقي لدى العامة‪ .‬ولكن عند املثقف األمر خمتلف‪ .‬فالسعادة هي معرفة‬
‫كيفية تسيري األمور و القدرة على الفعل التغيريي‪.‬‬
‫‪/8‬الزمن و التاريخ‪:‬‬
‫تُتناول هذه الثنائية يف بعدين‪:‬‬
‫‪20‬‬
‫‪ -‬بعد حضاري متصل ابلعالقة بني العرب والعجم (الغرب)‪.‬‬
‫‪ -‬بعد ذهين مرتبط بوعي اإلنسان ابلزمن ومدى قدرته على مصارعته لتحقيق وجوده وحنت‬
‫كيانه‪.‬‬
‫وقد ينشأ لدى التلميذ خلط بينهما أو ضبابية يف تبني احلدود بني الزمن والتاريخ ولكن‬
‫هذا اخللط يزول ابلتعريف‪ .‬فالتاريخ هو فعل اإلنسان يف الزمن وما يرتكه من آاثر دالة ع لى هذا‬
‫املاضي من أجماد األمة‪ .‬يف حني أن‬
‫َ‬ ‫الفع ل يف املك ان‪ .‬وللتاريخ مفهوم متصل ابلرتاث إذ ميثل‬
‫الزمن فله مفهوم فيزايئي‪ ،‬هو الكم الذي تقاس به الساعات واألايم والشهور‪.‬‬
‫ولفهم ثنائية الزمن والتاريخ يف مغامرة رأس اململوك جابر ميكن أن حندد بعدين‪:‬‬
‫* بعد حضاري‪ :‬زمنه هو احلاضر أي حاضر الغرب وهو يهزم العرب يف هزمية ‪ 1967‬فيدعوهم‬
‫إىل اخلروج من كهف املاضي ليبنوا أبنفسهم اترخيا وكانوا قبل ذلك قد أُنذروا يف محلة انبليون‬
‫بوانابرت على مصر‪.‬‬
‫* بعد ذهين‪ :‬يكون فيه الزمن قوة موجهة ملصري األمة‪.‬‬
‫وقد اختلفت درجات الوعي ابلزمن يف املسرحية ابختالف الشرائح والفئات‪:‬‬
‫‪ -‬الزمن عند زابئن املقهى سريورة رتيبة ممتدة تورث السآمة لذلك ينقدهم الراوي بقوله‪" :‬يعود جو‬
‫املقهى إىل الرتاخي والفوضى" بل هم يطلبون احلكاية ال لالعتبار والوعي بل تزجية للوقت يف‬
‫زمن اهلموم واالضطراابت‪ .‬فقد أرادوا أن يهربوا من الزمن بطلب مساع قصة الظاهر بيربس‪" :‬فال‬
‫أقل من أن ننسى مهنا يف حكاية مفرحة"‪ .‬وهذا املوقف السليب من الزمن موجود أيضا عند‬
‫عامة بغداد الذين هم ممثلو الشعوب العربية بعد هزمية ‪ 1967‬حيث يقول الزبون الثالث بعد‬
‫مساع أهايل بغداد واستكانتهم‪" :‬اي سيدي من زمان هذا هو طريق األمان"‪.‬‬
‫‪ -‬الزمن عند احلكوايت وعي علمي موضوعي كما ترى املادية التارخيية يف الفكر املاركسي وكما يراه‬
‫ونُّوس من وراء ذلك‪ .‬لذلك يُصر احلوايت على ترتيب احلكاايت‪" :‬لن نفهم أايم الظاهر إال إذا‬
‫فهمنا ما تقدّمها من أوضاع وأزمان‪ .‬ال تنسوا أ ّن التاريخ متسلسل"‪ .‬وهذا الوعي ابلتاريخ‬
‫عند احلكوايت يدعمه موقف الرجل الرابع أيضا‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫‪ -‬هناك اختالف إذن يف حتديد وظيفة التاريخ‪ /‬املاضي حنو احلاضر فهي وظي فة التس لية‬
‫والتخدير عند الزابئن وهي وظيفة تعليمية تبين العقول وتُ ِّ‬
‫عودها قراءة الواقع قراءة موضوعية‬
‫للبحث عن عوامل اهلزمية يف البنية اهليكلية للمجتمع للشخصية كما جيسد ذلك احلكوايت‪.‬‬
‫إن ونُّوس مل ينظر إىل التاريخ ابعتباره ظاهرة سكونية بل نظر إليه ابعتباره سلسلة‬
‫متصلة عرب ترتيب دقيق‪ .‬وهلذا فالتاريخ عنده عملية تطورية جدلية خالقة ومستمرة‪ .‬ولعل املقاربة‬
‫الفنية اليت اعتمدها ونُّوس بني العصر القدمي املندثر واجلديد احلاضر تسمح للمتلقي بقراءة الواقع‬
‫التارخيي العريب قراءة مشولية وتتيح له اكتشاف بواعث الضعف واالهنيار املتأصلة يف نسيج‬
‫بنياهنما التارخيي املوضوعي‪.‬‬
‫املسرحية متثل واقع اهلزمية العريب مرموزا إليه جبو املقهى السكوين الرتيب اخلانق وبزابئنه‬
‫املتواكلني املتبلِّدين الغارقني يف الكسل والتخلف واجلهل والعبث واملستسلمني ملصائرهم وأقدارهم‬
‫كليا بشكل سليب‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫إبداء الرأي يف املسرحية فنا وداللة‬
‫‪ /1‬فنا‪:‬‬
‫• إن جتريب االستفادة من السرد وتقنياته يف الركح ومشهديته غريُ مأمون النتائج فالدراما ظلت‬
‫سجينة منطق احلكاية السكوين‪ .‬ومنو الفعل فيها يقرره منطق السرد أكثر من منطق الدراما ألن‬
‫توظيف احلكاية قد قصد االستفادة من عربهتا أكثر من االستفادة من قوهتا الدرامية‪.‬‬
‫• ما خلقه ونُّوس من حوارات دعم اجلانب الدرامي يف بناء الشخصية نفسيا وذهنيا لكنه بناء‬
‫حمكوم ابملوقف اإليديولوجي واملوقف الطبقي من صراع املثقف والسلطة‪ .‬وهو ما جعل طريقة‬
‫البناء متيل إىل السخرية فغلبت النزعة الكوميدية على ص ور كل من جاب ر والوزير واخلليفة ومل‬
‫يُقَدم ابستواء اتم غري احلكوايت والرجل الرابع‪.‬‬
‫• الشخصيات يف املسرحية غري انمية فهي حتافظ على رتيب مظاهرها وخصائصها منذ البداية‬
‫حىت النهاية وال تتعرض إىل تقلبات جتعلها تتأرجح بني اخلري والشر ألن الكاتب توجه أكثر إىل‬
‫اخلدمة التعليمية من رمسها ومل يدعم املقومات اجلمالية كثريا‪.‬‬
‫• التكثيف من مظاهر التجريب املسرحي قد أوقع نصه يف احلشد والتكث يف ويف التك رار‬
‫والتمطيط فاملشهد االحتفايل حلالقة رأس اململوك جابر استعراضي أكثر منه درامي وتكرار طلب‬
‫سرية الظاهر من قبل الزابئن يف الفصل الثاين وهم يف نشوة االنتظار ملعرفة هناية جابر ضرب من‬
‫التمطيط املعطل لنمو الفعل الدرامي منوا طبيعيا‪.‬‬
‫• لغة احلوار قد مالت إىل التصريح واخلطاب املباشر يف أكثر من موضع فجاءت املواقف سافرة‪.‬‬
‫• أتصيل املسرح العريب يف جذوران الثقافية مشروع مهم ورائد‪ .‬وجهد ونُّوس يف ذلك حمرتم‪ .‬لكن‬
‫االختيار بني مجاليات ثقافة عربية مؤسسة على سحر الكلمة ومجاليات ثقافة غربية مؤسسة على‬
‫سحر احلركة قد يوقع يف االرتباك فاعتناء ونُّوس بقوة الكلمة قد كان على حساب احلركة ال‬
‫سي ما والنص مكتوب يف عصر صار عامليًّ ا مييل أكثر إىل الصورة والتعبري الصامت‪ .‬لذلك حييل‬
‫ونُّوس يف بعض اإلشارات املسرحية على أداء إميائي لبعض املشاهد‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫• كسر اإليهام وحتقيق التغريب اعتمد ظاهرة تشريك اجلمهور يف إنتاج نص املسرحية‪ .‬لكن‬
‫اجلمهور ال يُشارك عفواي يف مسرح له بل اختريت الشخصيات سلفا ونُ ِّس قت مداخالهتا بشكل‬
‫مسبق وُوضع هلا توقيتها مما جيعل العملية مصطنعة يف حلظة الكتابة وممكنة يف تقنيات اإلخراج‪.‬‬
‫• مسرحية ونُّوس قد صاحبتها الكثري من اإلشارت إىل العرض لكن الرتكيز على الرسالة التعليمية‬
‫هلذا املسرح يف خطاب مباشر وُم َؤ ْدلَج بشكل واضح قد جيعل منها نصا يقبل القراءة أكثر من‬
‫قابليته للتمثيل‪ ،‬فيكون بذلك مسرحا يف كتاب ال مسرحا داخل املسرح مبعىن أنه مسرح يسعه‬
‫الكتاب وال تسعه األخشاب‪.‬‬
‫‪ /2‬داللة‪:‬‬
‫تلح املسرحية إحلاحا شديدا على أتكيد مسؤولية الشعب نفسه ال عن الغزو اخل ارجي والدم ار‬ ‫• ُّ‬
‫وإمنا على السكوت عن احلكم واحلاكم وعدم املباالة بشؤون السياسة‪ .‬فتُ َح ِّم ل الشعب مسؤولية‬
‫الرضا ابحلاكم وتلومه على رفضه التدخل يف شؤون السياسة‪ .‬وهذه الدعوة رغم بعدها التقدمي‬
‫قدم منوذجا لذلك العمل وال شكال له‬ ‫الواضح الواثق ابجلماهري تبقى قاصرة ألن املسرحية مل ت ِّ‬
‫ُ‬
‫قدم شكال إجيابيا عمليا حيقق‬ ‫واكتفت ابلدعوة الشعارية الغامضة احلماسية الصارخة أي أهنامل ت ِّ‬
‫ُ‬
‫ابملمارسة تلك الدعوة‪.‬‬
‫• إن املسرحية تسعى من وراء جابر إىل إدانة الوصويل االنتهازي الذي يعي الواقع بذكاء ولكنه‬
‫يعمل فيه لصاحله اخلاص منتهزا الفرص كي حيقق مآربه الشخصية على حساب الفوضى‬
‫السائدة‪ .‬ولكن جابر ال يثري مشاعر االزدراء وال يستقطب الشعور ابإلدانة بل إنه يثري الشعور‬
‫ابإلعجاب به لذكائه واإلحساس ابلشفقة عليه ملا لقيه من مصري فاجع حتطم فيه حل مه اجلميل‬
‫ويؤكد ذلك تعليقات الزابئن أنفسهم‪ .‬ويبدو جابر شبيها ابألم "شـحـجاعة" يف مسرحية "األم‬
‫شـحـجاعة" ‪ 1939‬لربيشت وفيها تستغل تلك األم ظروف احلرب وتنتهزها لتكسب املال وحتقق‬
‫رحبا‪ .‬ولكنها تكتوي بنارها وتدفع مثن انتهازها غاليا إذ تفقد أبناءها الثالثة وكان يُراد منها إاثرة‬
‫مشاعر االزدراء واملقت واإلدانة ولك نها أاثرت مشاع ر اإلعجاب والشفقة والعطف‪.‬‬
‫• جابر حالة فردية خاصة ظهرت يف ظرف قلق مضطرب وليست منطا عاما وال شكال س ائدا‪.‬‬
‫وإذا كان حيمل قدرا من اإلدانة فإنه حيملها وحده وال ميكن أن يكون ممثال للشعب وال لطبقة‬
‫‪24‬‬
‫فيه وال لفئة فيه‪ .‬وهو بعد ذلك كله عبد مملوك يعيش يف قصر الوزير مبعىن أنه إحدى صنائعه‬
‫فليس غريبا بعد ذلك أن يفعل ما يفعل وليس الشعب مسؤوال يف شيء عن أفعاله كلها‪.‬‬
‫• كما ابلغت املسرحية يف اإلحلاح على أمهية مشاركة الناس يف حتمل املسؤولية السياسية ابلغت‬
‫أيضا يف تصويرهم غري مبالني ابلواقع السياسي حىت أهنا جعلتهم يكتفون بتأمني القوت اليومي‬
‫ويرفضون ذكر قضية ما من قضااي السياسة ولو ذكرا‪ .‬وهو تصوير ال خيلو من املغالطة فالشعب‬
‫مل يقف يف التاريخ مثل ذلك املوقف وطبيعة الشعوب تقت ضي أن تنتفض وتثور حني يزداد‬
‫الضغط عليها‪ .‬وحني تبدو الشعوب يف تلك احلالة اهلادئة فما هو هبدوء اهلادئ املستسلم وإمنا‬
‫هو هدوء َمن يُعِّ ُّد ويتهي أ منتظرا الوقت املناسب للعمل‪ .‬فهو اهلدوء الذي يسبق العاصفة‪ .‬وهو‬
‫تصوير ال خيلو من تناقض فاملسرحية تشري يف غري موضع إىل اقتحام البيوت وتفتيشها كما تشري‬
‫إىل اعتقال الرجال‪ .‬فهناك إذن أانس يتم البحث عنهم العتقاهلم وهناك آخرون معتقلون وال‬
‫يُعقل أن يكون هؤالء من الصامتني غري املبالني أبمور السياسة وقضاايها‪.‬‬
‫• إذا كان اخلالف بني اخلليفة والوزير ال ميكن أن يكون املسؤول وحده عن الغزو اخلارجي وال أن‬
‫يكون أيضا السبب املباشر فيه فكذلك ال ميكن أن يكون إمهال الشعب للقضااي السياسية‬
‫وعدم مباالته بشؤون احلكم سببا يف خالف احلكام واستبدادهم وبطشهم أو سببا وحيدا مباشرا‬
‫يف الغزو اخلارجي وما أحلقه ابلشعب من دمار‪.‬‬
‫• إن رد سقوط بغداد إىل تقصري الشعب يف حتمل مسؤوليته عن الواقع هو إسقاط معاصر على‬
‫املاضي ال يُراد منه تفسري التاريخ تفسريا جديدا ألن املسرحية ال تعتمد التاريخ أساسا مصدرا هلا‬
‫وإمنا تعتمد احلكاية الشعبية لتصنع بواسطتها املناخ التارخيي‪ .‬وإمنا يُراد به تفسري حلدث معاصر‬
‫من خالل تفسري حدث ماض يشبهه ومياثله‪ .‬وما احلدث املعاصر إال نكسة اخلامس من حزيران‬
‫سنة ‪ 1967‬اليت متاثل يف املسرحية سقوط بغداد‪.‬‬

‫عوان وتوفيقا إن شاء هللا‬

‫‪25‬‬

You might also like