Professional Documents
Culture Documents
❋
المختار العسري
مقدمة:
((( «المسرح ّ
فن متحول يقوم على االبتكار»
ففضل عنً تعددت التحديات التي واجهتها اإلنسانية مع مطلع القرن العشرين،
ًّ
ثقافيا كائنا
الرهانات السياسية واالقتصادية واالجتماعية ،عرف اإلنسان باعتباره ً
رهانات أخرى مرتبطة بجانبه المضيء ،وكان من نتائج ذلك ظهور العولمة التي خاض ٍ
مقتحما مرحلة ما بعد الحداثة بعد تخطي الحداثة ذاتها ،ومن ً غمارها العا َلم الغربي
ٍ
-تحديات جديدة فرضتها ظروف األلفية الثالثة، عريقا
فنا ًثمة عرف المسرح باعتباره ً ّ
التي ارتبطت بالتكنولوجيا الحديثة وتقنيات (الدوت كوم) .ففي الوقت الذي استفادت
فيه السينما في وقت مبكـر من الفتوحات الصناعية والتقنية ،فإن المسرح تأخر
في اللحوق بـركب التطور ،وظلت األشكال التقليدية تسيطر على الفرجة حتى بداية
العقد األول من القرن العشرين ،وقد كان للحربين العالميتين وما تلتهما من أزمات
دور كبير في التمهيد للمسرح الطليعي ،الذي عمل على تقويض المسرح األرسطي، ٌ
والتأسيس للمسرح الملحمي ومسرح القسوة ومسرح العبث ،ثم التمهيد لمسرح ما
بعد الدراما ،هذا األخير الذي يقدم أساليب جديدة ومغايرة تتجاوز الشكل التقليدي،
فانفتح المسرح على إمكانيات جديدة يتأسس فيها العرض المسرحي على مستويات
مغايرة تعيد التوازن ما بين النص والعـرض ،وتعيد االعتبار للمخرج والممثل والمتلقي،
وتنفتح على تقنيات جديدة أسست لجماليات غير معتادة في بناء العرض المسرحي،
وفي هذا الصدد قام الباحث األلماني (هانز تيس ليمان) برصد العروض المسرحية
ً
محاول التجريبية المتمردة على الشكل األرسطي في مختلف المهرجانات األوربية،
مطلقا عليها تسمية (مسرح ما بعدً استكشاف سماتها ومالمحها والجوامع بينها،
معتمدا القراءة والمشاهدة والتحليل ألعمال مخرجين كانت لهم بصمة فنية
ً الدراما)،
ممهدا بذلك الطريق للدارسين والنقاد لمزيد من البحث ً في منجزاتهم المسرحية
والتنقيب ،فانتقل المسرح بذلك من الهجنة إلى المثاقفة إلى التناسج الذي يتأسس
من خالل دراماتورجية ركحية تجرب كل شيء إلنتاج عروض فرجوية.
ومن الجدير اإلشــارة إلى أن مصطلح (ما بعد الدراما) قد استعمل في مرحلة
الثمانينيات ،إذ ظهر ألول مــرة في ألمانيا لوصف األشكال والنماذج المسرحية
المعاصرة عام 1987على يد (أندريز فيرت) في ورقة بحثية تقدم بها في جامعة
(جيسنـر) تحت عنوان (الواقع في المسرح -باعتباره يوتوبيا جمالية -تحوالت المسرح
في بيئة اإلعالم) ،حيث يقول« :يفقد مسرح اللغة وضعه االحتكاري لصالح أشكال (ما
بعد الدراما) بحيث يظهر ذلك في تركيبات الصوت وأوبرا اللغة ومسرح الرقص»(((،
وتجاوزا للدراما ،على الرغم مما ما تعرض له
ً استيعابا وشكل هذا النوع من المسرح ّ
ً
من سوء فهم بسبب الـ (ما بعد) الملحقة بـ (الدراما) ،لهذا أكد الدكتور خالد أمين
ًّ
مرحليا يأتي بعد الدراما ،أو نسيانً ا تصنيفا
ً إطالقا
ً أن بادئة الـ (ما بعد) ال تعني
نهائيا ،بقدر ما هي حالة استمرارية تخضع للتغيرات ًّ للماضي الدرامي ،أو إلغاءه
الحياتية المختلفة ،وتقوم على جماليات متشظية ُتعلي من الممثل وجسده ومنفتحة
سلبيّ ا.
على التقنيات والوسائط ،معيدة االعتبار للمتلقي الذي لم يعد ً
((( كريستل فايلر :مسرح ما بعد الدراما ،ضمن كتاب جماعي( ،مسرح ما بعد الدراما) أربع مقاربات ،منشورات المركز الدولي
لدراسات الفرجة ،سلسلة ،15الطبعة األولى ،2012 ،ص.7
ونظرا لتناسج الثقافات ،فقد انتقلت مالمح مسرح ما بعد الدراما إلى المسرح
ً
ًّ
واقعيا تعكسه العديد من التجارب العربية. العربي ،وصار ً
معطى
- 1المسرح مسار الدراما إلى ما بعد الدراما
إن وجود سابقة (ما بعد) قبل (الدراما) ،يقودنا إلى طرح التساؤالت اآلتية: َّ
-ما الدراما؟
-ما داللة ما بعد الدراما؟
-ما المالمح المميزة لمسرح ما بعد الدراما؟
- 1 - 1ماهية الدراما:
تميز اإلنسان بوعيه الروحي على الرغم من بدائيته األولــى ،إذ اتخذ الطقوس
والشعائر والرقى وسيلة لمواجهة الواقع ،وانعكس ذلك في المآثر التاريخية ،سواء
مدافن ،كما تجلى ذلك في الشعائر الدينية (تراتيل/ َ محاريب أو
َ كانت معاب َد أو
تضرعا لآللهة ،من أجل تجنب الكوارث والفيضانات ،وهكذا ً مزامير) ،اتخذها الناس
حاكت البشرية باقي الكائنات أو الطبيعة لتخط َو أولى خطوات التجريب في مسار
ًّ
إنسانيا يعبر تعبيرا
ً أول حداثة حضارية ومجتمعية ،ما أدى إلى ظهور الدراما بوصفها
اإلنسان بها عن حاجياته ومتطلباته اإلنسانية.
تعددا للرؤى في
ً إن الباحث في الكتب النقدية عن مفهوم الدراما ( )Dramيجد
تعريفها ،لكنها «ظلت ضمن إطار الفعل كظاهرة مسرحية فحسب ،دون الوقوف عند
قيما تخضع دالالت المعاني العظيمة التي تطرحها المظاهر الدرامية ،بوصفها ً
تضرع ورُ قى عبادية،
ُّ للتجسيد وفق وقائ َع وأحداث وابتهاالت وأناشي َد وتراني َم وطقوس
وليس كما عرفت أنها مجرد أفعال مؤلفة في نص مكتوب للمسرحية على منصة
عظيما ،أو تجسيد الحدث، ً ًّ
مأساويا العرض»((( ،والدراما «فعل ملحمي يحاكي حدثً ا
فنيا ،وهو ما أطلق عليه (الديثرامب) ...والدراما تشمل كل فعل أو إعادة إنتاج الحدث ً ّ
مؤثر في حياتنا ،وهو يعني في اللغة السريانية (بيت الصراع) ،وفي اللغة الفينيقية
وعموما ،فالدراما هي كل نص يستوفي شرط التحول إلى فعل ُممسرح، ً (الصراع).
قابل للتحقق على منصة العرض»(((.
((( منير الحافظ ،مظاهر الدراما الشعائرية ،النايا للدراسات والنشر والتوزيع ،دمشق ،ط ،2009 ،1ص.13
((( المرجع السابق ،ص.14
ومن ثم فأصل كلمة دراما عند اإلغريق يدل على الحركة والفعل ،وقد أشار أرسطو
إلى ذلك ،فالدراما عنده «عبارة عن محاكاة لفعل بشري ،والحقيقة أن المسرحية في
أوسع معنى لها عبارة عن فعل يؤديه إنسان ،وال يعني الفعل هنا مجرد حركات الممثل
الجسمية التي يصوّ ر بها الشخصية ،وإنما يشمل -إلى جانب ذلك -نشاطاته النفسية
والعقلية التي تحرك سلوكه الظاهري»(((.
ًّ
نسبيا من لغة أوروبية إلى أخرى، كما ُعرف مصطلح الدراما بدالالت مختلفة
مثل تستعمل كلمة دراما -بشكل غالب -للداللة على الكتابة «إن اللغة اإلنجليزية ً
المسرحية ،والنصوص المسرحية المستعملة في هذا الفن ( ،)...وتستعمل الكلمة
تقريبا ،فقد عبر (جورجً نفسها في اللغة األلمانية للداللة على المعاني نفسها
لوكاتش) ( )1971-1885عن االزدواجية الموجودة بين الدراما والمسرح ،في مجتمعه،
وتمييزه بينهما في مقالة نشرها سنة ،1914قال فيها« :إن الدراما ،حتى القرن الثامن
طبيعيا عن المسرح ،في حين أنها بعد ذلك قدمت نفسها للمسـرح ًّ عشر ،قد نجمت
كوسيلة إلصالح المسرح ،فالشعراء الدراميون المح َدثون هم (أرفع من المسرح) ،قد
يهبطون إليه وينقبون فيه من الداخل ،أو قد ينتظرون إلى أن يرتفع إلى مستواهم،
ولكنهم في كلتا الحالتين ليسوا رجال مسرح على غرار (موليير) ،الذي اتُّفق أن
عظيما» .فواضح أن (لوكاتش) يميز بشكل واضح بين ً أدبا ُ
كتاباته المسرحية ً اعتبــرت
المسرح والدراما ،كما يعني بهذا المصطلح األخير الكتابة األدبية المرصودة للعرض
المسرحي ،غير أن االستعمال الذي أعطاه هذا المؤلف الذي يكتب باأللمانية لكلمة
دراما غير متداول على أقالم الكتاب الفرنسيين ،بحيث يغلب عند هؤالء استعمال
مصطلحات أخرى ،مثل المسرح ( ،)théâtreأو النص المسرحي (،)texte théâtral
أو النص الدرامي ( )texte dramatiqueعند إرادة الحديث عن الكتابة للمسرح»(((.
أما األجيال األولــى من المسرحيين العرب الذين كانوا في أغلبهم من األدبــاء
والصحفيين فقد تأثروا بالمصطلحات الفرنسية أو اإلنجليزية ،فتم الخلط بين الدراما
والمسرح.
((( إبراهيم حمادة ،طبيعة الدراما ،سلسلة كتابك ،ع ،69دار المعارف ،بدون طبعة ،د.ت ،ص.16
((( رشيد بناني ،المسرح المغربي قبل االستقالل ،دراسة دراماتورجية ،منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد اهلل ،ط،2008 ،2
ص.131-130
((( ماري إلياس ،حنان قصاب حسن ،المعجم المسرحي ،مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض ،مكتبة لبنان ناشرون ،ط،1
،1997ص.194
((( ماري إلياس ،حنان قصاب حسن ،المعجم المسرحي ،مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض ، ،ص.194
((( المرجع السابق ،ص.195
((( المرجع السابق نفسه.
بناء النص ،والعرض المسرحي الذي يأخذ في الحسبان توتر المشاهد وتتابع مراحل
الحكاية ،من أجل حل العقدة (كارثة أو حل هزلي)»((( .وهكذا فإن المسرح الدرامي
حسب (بافيس) هو المسرح الذي واجهه (بريشت) بالشكل الملحمي.
■ الدراما عند محمد الكغاط:
يقول« :إذا انطلقنا من أن المسرح بدأ حركة قبل أن تنضاف إليه الكلمة ،وأن الدراما
باعتبارها حركة قد نشأت داخل المسرح ،فإن باستطاعتنا أن نقول :إن الدراما أشبه
بتـركيبة كيماوية لها قوانينها ومواصفاتها الخاصة ،وهذه التركيبة تستمد عناصرها
األولية من بعض الفنون األخرى كالشعر ،والرقص ،والموسيقى ،والتصوير ،والنحت ،إال
أن تلك الفنون ال تعيش في داخلها كوحدات متكاملة مستقلة ،وإنما تتذاوب كجزئيات
بعد أن تتخلى عن خصائصها الفردية البحتة في سبيل إيجاد فن جديد له معالمه
الخاصة ،وهو الدراما»(((.
من خالل ما سبق فالمسرح الدرامي هو كل مسرح يتخذ من النص غاية مقدسة ال
يخرج عنه قيد أنملة ،ويتخذ الحوار والصراع بين الشخصيات أساس اإلنجاز المسرحي،
وهو بتعبير حسن المنيعي ما «يجعل من النص البنية العميقة والمحتوى الرئيس لفـن
الدراما»((( ،وبذلك تصبح الدراما مرآة للواقع؛ ألنها تحاكيه وتصوره وتتنبأ بالمستقبل،
وهي تعكس ثقافة المجتمع وآماله ،إنها «انعكاس حقيقي لثقافة المجتمع وقيمته وآماله
وأحالمه ،وتطلعاته المستقبلية ( ،)...فالدراما هي الحياة ،نسخة من الحياة ،محاكاة
ـادرا على التعلم ،وهذا مــردود إلى أن
الحياة ،وعن طريق المحاكاة يكون اإلنسان قـ ً
المحاكاة وسيلة من وسائل المعرفة ،والمعرفة في حد ذاتها مطلب إنساني»(((.
- 2 - 1مسرح ما بعد الدراما من نحت المصطلح إلى الماهية:
على الرغم من كون المسرح ميدانً ا للتجريب ،وإعادة التجريب ،منذ الماضي البعيد،
تحول بمثل ما عرفه في النصف الثاني من القرن العشرين ،حيث ً إال أنه لم يعرف
((( باتريس بافيس ،معجم المسرح ،ترجمة :مشال ف .خطار ،المنظمة العربية للترجمة ،ط ،2015 ،1ص.190
((( محمد الكغاط ،المسرح وفضاءاته ،دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع ،القنيطرة ،ط ،1996 ،1ص.172
((( حسن المنيعي ،حركة الفرجة في المسرح والواقع والتطلعات ،منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة ،ط ،2014 ،1ص.55
((( ناصر علي محمد أحمد برقي :الدراما والتربية :بين النظرية والتطبيق ،مكتبة اآلداب ،ط ،2009 ،1ص.10
انتفض مسرح (ألفريد جاري) على الجماليات األرسطية ،وأعلن القطيعة والعصيان
عليها ،ومعه بدأت التحوالت الجمالية والمعرفية والنقدية في المسرح الغربي ،بعد
أن تم التمهيد لها منذ القرن التاسع عشـر مع ظهور المخرج ،وما رافقه من تطورات
تكنولوجية أدت إلى التعجيل بانبعاث التيارات المسرحية التي مهدت بدورها لتجارب
الطليعيين ،وهم الشيوخ المجـربون ،الذيـن انتفضوا على الـرماد األرسطي الذي ظل
ً
مبجل لقرون عديدة ،وأعلنوا القطيعة مع تعاليمه ،وكفروا بمحرابه ،ممهديـن لمسرح
ما بعد الدراما الذي استفاد من فلسفة ما بعد الحداثة ومبادئها.
■ فما داللة مسرح ما بعد الدراما؟ وما محدداته؟ وما خصائصه؟
إن مسرح ما بعد الدراما تسمية لحصر المسرح ،الذي تخلص من المعايير األدبية،
«حيث عمل هذا المسرح منذ بداية ظهوره مع (هانس تيس ليمان) على االنفالت من
الدراما التقليدية ،ومبادئها وخلخلة المفاهيم والمقوالت المؤسسة للدراما السابقة،
من خالل االنفتاح على آفاق رحبة لصناعة الفرجة وعرضها وتلقيها ،وكذا االنفتاح
على جماليات وحساسيات جديدة تمكن المسرح من االنخراط في صلب التحوالت
الجديدة التي يعيشها العالم اليوم»(((.
ووظف مصطلح (ما بعد الدراما) سنة 1989من لدن (أندريز فيرت ،)Andrzej wirth -
عندما تقدم بورقة بحثية بجامعة (جسنير) بألمانيا ،تحت عنوان (الواقع في المسرح
مسلطا الضوء على األشكال
ً باعتباره يوتوبيا جمالية ،تحوالت المسرح في بيئة اإلعالم)،
المسرحية المعاصرة ،حيث تنبأ بفقدان المسرح األرسطي مكانته لصالح أشكال (ما بعد
الدراما المعاصرة) ُتسمى بمسرح (ما بعد الدراما)« ،وهو المسرح الذي يقلص دور اللغة
في مقابل االتساع في استخدام عناصر مسرحية أخرى ،مثل عناصر الصوت والرقص
والسينوغرافيا»(((.
وقد عمل (أندريز فيرت) على تحليل العديد من العروض المسرحية التي ُقدمت
معتمدا في تحليله على
ً بأوروبا ما بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي،
نظـريات التأويل والتلقي ،ليستخلص من دراسته هذه «أن شكل المسرح قد تغير،
((( فاطمة أكنفر ،نحو دراماتورجية بديلة ...تناسج الثقافات الفرجوية وأسئلة ما بعد الدراما ،مجلة دراسات الفرجة ،العدد الثاني،
،2016ص.89
((( مروى مهدي ،ما هو (مسرح ما بعد الدراما) ،منشور ضمن كتاب جماعي ،الدراماتورجية الجديدة ،ط ،2014 ،1ص.189
خاصة في فترة ما بعد (بـرتولد بريشت) ،وظهر هذا التغيير في االبتعاد عن الحوار
واللغة ،في مقابل استخدام عناصر غير مألوفة في المسرح التقليدي»(((.
ٍ
تغييرات فعلية في المسرح تهدف ـرارا «أن هناك
وهكذا أكد (أندريز فيرت) مـ ً
خاضعا لمقوالت
ً إلى فك ثنائية الدراما/المسرح التقليدية»(((ً ،
مبرزا أن المسرح ظل
(أرسطو) إلى أن قلب مسرح الطليعة الحساسيات الكالسيكية ،المعتمدة على المقولة
األرسطية.
فضل عن جهود (فيرت) ،فقد نشرت (هيلجا فينتر) ً
مقال سنة ،1985تحت عنوان ً
(عيون كاميرا مسرح ما بعد الدراما) ،وتحدثت عن الهدف نفسه مبرزة الفوارق بين
أشكال المسرح القديمة والجديدة ،حيث المسرح الجديد استطاع أن يخلق ً
شكل
جديدا من الدراما(((.
ً
وانتظر البحث العلمي أكثر من عقد ،حتى 1999ليقوم (هانز تيس لمان
)Hans This Lehmann -بإصدار كتابه (مسرح ما بعد الدراما) ،حيث عمل
مخضعا المسرحيات التي
ً ـدودا له،
على ضبط المصطلح الجديد ،ووضع حـ ً
قدمت بمسارح أوروبا منذ السبعينيات إلى عام 1999للدراسة والتحليل ،من
أجل استجالء مالمح (ما بعد الدراما) واجتهد في «أن يضع يده على جمالياته
المغايرة التي تعطي له خصوصية وتميزه من األنواع المسرحية التقليدية ،لكي
كافيا من المفاهيم
قدرا ً يصل في النهاية لتركيبة جديدة في مجال النقد ،تملك ً
الجديدة التي تناسب شكل المسرح الجديد»(((.
وقد قام بالبحث عن المالمح التي تجمع بين مسرحيات القرن العشرين ،وأهم
ما ميزها هو محاربة التقاليد القديمة في المسرح ،والتمرد على القواعد الجامدة
المتوارثة.
لقد اختار (ليمان) مصطلح (ما بعد درامي) لنعت هذا النوع من المسرح الذي تمرد
على قواعد أرسطو ،ومثلما أن مصطلح (ما بعد الحداثة) يبدأ بسابقة الـ (ما بعد) التي
انطباعا بوجود شيء سابق أو عالم أقدم ُسمي حداثة»((( ،وفي هذا الصدد يؤكد ً «تعطي
الدكتور خالد أمين «أن بادئة (ما بعد) الملحقة بالدراما معرضة لسوء الفهم نفسه
الذي تعرضت له الـ «ما بعد» الملحقة بالحداثة ،لهذا يجب التأكيد أن بادئة (ما بعد)
ًّ
مرحليا يأتي بعد الدراما ،أو نسيانً ا للماضي الدرامي ،أو إلغاءه تصنيفا
ً إطالقا
ً ال تعني
ًّ
نهائيا بقدر ما هي استيعاب وتجاوز للدراما في الوقت ذاته»(((.
لقد اتخذ (ليمان) مصطلح (مسرح ما بعد الدراما) للداللة على نوع جديد من
المسرح« ،قبل أن يدخل مغامرة غير محسوبة ،حين قرر االبتعاد عن الدراما وعن
النصوص المسرحية؛ ألنها لم تكن مناسبة له ،مما أدى إلى دخول مغامرة أخرى وهي
مغامرة هدم القيود والقواعد التقليدية والبحث عن قواعد جديدة تناسبه»((( ،وعلى
الرغم من أن (هانس تيس ليمان) لم يقم بـ «نحت مصطلح مسرح ما بعد الدراما،
نسقا أرســى أسسه على جملة مالحظات فإن الفضل يعود إليه في فضيلة جعله ً
مستفيدا من قربه من (أندريز فيرت )AndejWirth -كمساعد له ،في
ً وفرضيات»(((،
شعبة (علم المسرح التطبيقي) في (جامعة غيسن) األلمانية.
وجديدا للمسرح ،عمل على تقريبً ثانيا
وجها ً
وهكذا أضحى مسرح ما بعد الدراما ً
ناهل من حقول معرفة عديدة، ً الحضارات المختلفة ،ورفض االنطواء واالنعزال،
محاول تجاوز إكراهات الهجنة ،بعد تقويض التمركز ً داعيا إلى المشترك اإلنساني
ً
الغربي ،واالنفتاح على أشكال وثقافات مغايرة ،من أجل القدرة على االستمرارية،
والتطوير بعد أن أدرك الغرب أنه شـريك في الماضي الفكري اإلنساني ،وليس المالك
الوحيد للتراث البشري ،فانفتح المسرح الغربي على الشرق ،واقتبس مسرحيوه األقنعة
والرقص الشرقيين ،واكتشفوا جماليات جديدة؛ يتميز بها مسرح الـ (نو) والـ (كابوكي)
اليابانيين والـ (كتالكي) الهندي ،ما ساعد المسرح الغربي على ضخ دماء جديدة في
شرايين الفرجة الغربية وتجاوز أزمة المسارح األوروبية وبنياتها المغلقة ،وألجل ذلك
منتقل من محطة إلى أخرى ،فمن هجنة األشكال ً ركب المسرح الغربي قطار التجريب
إلى مرحلة المثاقفة ،إلى تناسج الثقافات الفرجوية ،انتهاء بمحطة مسرح ما بعد
الدراما ،الذي «يتميز بخاصية أساسية وهي عدم التركيز على النص الدرامي من حيث
هو وسيط يوجه الحدث المسرحي ،غير أن هذا ال يعني اإلقصاء المطلق للنصوص
الدرامية ،بقدر ما هو جنوح إلى تفكيك التقليد األرسطي ،الذي وضع تراتبية في
سيرورة صناعة الفرجة المسرحية ،وعلى رأسها النص الدرامي ...إنه فرجة مخطط
لها ومفكر فيها بشكل تشاركي /تفاعلي ...كما أنه مسرح غير أدبي وهذا المنحى ال
يلغي شعرية المنجز المسرحي بكل مكوناته ،فهو مسرح تجريبي ،من حيث الشكل
والمضمون يهدف إلى خلخلة الطريقة التي نعيش بها ونصنع الفرجة المسرحية من
خاللها»(((.
والخالصة أن مصطلح (مسرح ما بعد الدراما) مصطلح زئبقي؛ أي أنه «مصطلح
عصي على التعريف ويتسم بالمرونة ،ويرجع عدم تحديد هذا المفهوم في رأينا إلى
نوعا من الضبابية»((( ،ذلك أن مسرح (ما بعد الدراما)
طبيعة المصطلح الذي يحمل ً
تجاوزا للدراما.
ً يجمع بين العناصر الدرامية والعناصـر التي عدت
وفضل عن مجهودات (ليمان) المؤسسة والمقعدة لمسرح (ما بعد الدراما)، ً
فقد ساهمت الباحثة األلمانية (إيـريكا فيشر لشته) «في رصد التغيرات التي لحقت
بالمسرح في القرن العشرين ونشرت بحثها في كتاب بعنوان (جماليات األداء -نظرية
في علم جمال العرض) ،وركـزت على العرض المسرحي الحي وعلى التجربة الجمالية
الجديدة ،التي عاشها المتفرج في عروض مسرح القرن العشرين»(((.
وعلى الرغم من أن هدف كل من (ليمان) و(فيشر) واحد وهو رصد مالمح مسرح
القرن العشرين ،إال أنهما اختلفا في زاوية معالجة الموضوع ،ذلك أن (فيشر) نظرت
إلى مسرح القرن العشرين من جهة العرض ،بينما انطلق (ليمان) من زاوية الدراما ،ما
نتج عنه اختالف النتائج المتوصل إليها.
((( خالد أمين ،المسرح العربي بين الدراماتورجية الركحية وأسئلة ما بعد الدراما ،ص.84
((( المرجع السابق ،ص.85
((( مروى مهدي ،ما هو مسرح ما بعد الدراما ،ص.19
-مسرح يتسم «بخاصية أساسية هي عدم التركيز على النص الدرامي من حيث هو
وسيط يوجه الحدث الدرامي»(((.
فتم تجاوز النص ومـركـزيته بعد ظهور وظيفة المخرج ،مع (أندري أنطوان Andre -
)Antoineالذي عمل على تغيير قواعد العمل المسرحي ،وإعالن بداية نهاية عصـر
المؤلفين ،وواصل (قسطنطين ستانسالفسكي )Stanislask Constantin -تهميش
النص ،فأولى اهتمامه في الدرجة األولى لتكوين الممثل أكثر من العمل على النص،
ويضم كتابه (إعداد الممثل) خالصة تجربته ومنهاجه في تكوين الممثل.
والخالصة أن مسرح (ما بعد الدراما) ال يعترف بسلطة النص وال بقدسيته ،فهو
((( حسن المنيعي ،المسرح العربي ما بعد الدراما ،ضمن كتاب جماعي (مسرح ما بعد الدراما) ،أربع مقاربات ،المركز الدولي
لدراسات الفرجة ،سلسلة ،15ط ،1مارس 2012ص.19-18
((( خالد أمين ،المسرح العربي بين الدراماتورجية الركحية وأسئلة ما بعد الدراما ،ص.91
يتمرد على الكتابة الخطية ويسعى إلى تأسيس كتابته الخاصة ،إنها الكتابة بالجسد،
وال يقوم على مبدأ الفعل والقصة وال تهمه الرسالة بل تهمه طريقة األداء؛ ألنه مسرح
وموقفا كما يهدف إلى استفزاز هيمنة السرد األحادي والتطور الخطي ً يعكس حالة
لألحداث ،ذلك أن العناصر المشكلة لإلخراج والسينوغرافيا واألداء ،لم تعد تابعة
للنص الدرامي ،مسرح يسعى إلى خلق نوع من التشظي وغياب االنسجام داخل العرض
ثقافيا أن يعرض إمكانيات الجسد ،ويسمح ًّ المسرحي ،ويتيح للممثل بوصفه ً ّ
نصا
للمتلقي باكتشاف ذاته والعالم ،ويتخلص من اإليهام الذي تمارسه التقاليد الدرامية
السابقة ،مسرح يتمرد على التقاليد المسرحية األرسطية ،ويتخذ التجريب عقيدة.
- 1 - 2مسرح (ما بعد الدراما) نحو كتابة جديدة:
إن تاريخ المسرح «يؤكد أن أغلب الفرجات انبثقت من نصوص مسرحية مكتوبة»(((، َّ
وإذا كان النص المسرحي في المسرح الدرامي يعد منطلق الفرجة المسرحية ونهايتها
واحدا من عناصر بناء الفرجة ،بل إن دوره ُقزم
ً فإنه صار مع مسرح (ما بعد الدراما)
وحجم ،ولعل تجربة (تادوش كانتور )Tadeusz Kantor -تعد من التجارب المسرحية ُ
منطلقا تحوم حوله العملية
ً مركزا أو
ً «شريكا pratenaireوليس
ً التي جعلت النص
منطلقا أو نقط َة بداية ،حيث
ً ينف (كانتور) أهمية النص ،ولكنه لم يتخذهاإلبداعية ،لم ِ
إنه يسعى إلى إبداع مسرح للحركة ،والصمت والطقوس ،مسرح الموت ،لذلك عول على
االرتجال من أجل صياغة النص وبداية اللعب»(((.
رجــات مهولة أنزلت النص من وقد شكلت هذه التغيرات التي عرفها المسرحّ ،
سيادة عرشه ،وتمت مراجعة مكانته ضمن فنون العرض ،وتتعدد مواقف النقاد
ورجاالت المسرح المناهضة للنص ،ولعل موقف (أنطونان أرتو) من أبرز المواقف
إلها يأمر وينهي دون مانع أو
تجاه المؤلف ونصه .بعدما «أضحى المؤلف المسرحي ً
ً
طويل من الزمن إلى ديكتاتورية النص والمؤلف، ردحا
رادع ،وبذلك خضع المسرح ً
وفقدت حتى الكلمات قيمتها الداللية العميقة من فرط استعمالها المجاني»((( ،وبما
((( حسن يوسفي ،في االفتتان المعرفي بالمسرح ،منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة ،سلسلة رقم ،44ط ،2017 ،1ص.81
نموذجا ،ضمن كتاب المسرح اليوم :الكتابة وفن األداء،
ً ((( ياسين عوني ،فنون العرض بين حضور النص وغياب العرض األدائي (إذا)
منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،ط ،2017 ،1ص.93
((( سعيد كريمي ،مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة ،دائرة الثقافة واإلعالم ،حكومة الشارقة ،دولة اإلمارات العربية
المتحدة ،ط ،2014 ،1ص.115
أن «اللغة الكالمية محدودة ،وال يمكنها التعبير عن كل المواقف والمشاعر التي يمكن
أن تنتاب اإلنسان ،لهذا السبب ،عمل (أرتو) على جعلها مجرد عنصر من العناصر
المكونة لمجموع نسق العرض ،وفسح المجال للغة الهيروغليفية /الجسدية لتطفو
على السطح ،وتعبر ببالغة عما تعجز عنه اللغة الكالمية»((( .ومن ثم فقد ناصر (أرتو)
العرض ،وجعل النص تحت إمرة المخرج يتصرف فيه كما يشاء ،حيث «جعل من النص
المسرحي نقطة انطالق للمخرج الذي يتصرف فيه كما يحلو له ،إلى درجة أنه يمكنه
أن يلغيه إذا كان ذلك يخدم تصوره اإلخراجي ورؤيته الجمالية»((( ،ومن ثم عمل (أرتو)
على إعادة االعتبار للجسد بعد اإلهمال الذي طاله ،مقابل االهتمام بالنص ،ذلك
أن التداول المبتكر للغة ،أفقدها وهجها ،وبذلك يتم «قتل الكلمات وإفقارها بفعل
تفرغ من كل طاقتها لتصير مبتذلة وغير ذات بال ،فتفقد بذلك تكرارها ،ومن ثم َّ
قدرتها على العطاء واإليحاء وتوليد األفكار والتصورات» ،وهكذا عمل (أرتو) على
(((
تجاوز اللغة الكالمية ،وتدميرها حتى يتسنى له تجاوز واقع المسرح الغربي ،الذي
دخل مرحلة حرجة ،إنها مرحلة اإلنعاش ،وضخ األكسجين في جسد المسرح الغربي
من خالل االستفادة من المسرح الشرقي الذي يعلي من قيمة الجسد مقابل اللغة التي
عمل (أرتو) على «الحد من هيمنتها على المسرح ،وإفساح المجال لباقي الوسائل
تصورا
ً التعبيرية األخرى التي هي من طبيعة مسرحية قحة»((( ،وألجل ذلك فقد بلور
جديدا يجعل من اللغة وسيلة محدودة من بين وسائل أخرى ،تنصهر وتتكامل فيما بينها
ً
لبناء فرجة مسرحية شاملة ال يطغى هذا الجانب على ذلك ...و ُيعد نص (فصل بال
كامل ،بل صارحوارا ً
كلمات) لـ (صمويل بكيت) دعوة إلى مراجعة النص ،حيث لم يعد ً
تدوينا لحركات وأفعال ،أو باألحرى إشارات ركحية»(((.
ً
ومن هنا فقد عمل مسرح (ما بعد الدراما) على التأسيس لوعي جديد ،بالظاهرة
المسرحية ،وبسط فرش نظري ،يواكب تحوالت الفرجة واألسئلة التي باتت تطرحها،
و«تجديد التفكير في المسلمات التي توارثها المسرحيون؛ ألجل إعادة فحص تقاليد
النص الدرامي.
((( سعيد كريمي ،مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة ،ص.116-115
المرجع السابق ،ص.116 (( (
المرجع السابق ،ص.119 (((
المرجع السابق ،ص.124 (((
ياسين عوني ،فنون العرض بين حضور النص وغيابه،ص.93 (((
إن المسرح عمل جماعي ،تتعاون وتتكامل فيه العديد من العناصر ،ذلك أن «عبر َّ
التاريخ كتبت إبداعات درامية ،لتظل الدراما ،كما عبر عن ذلك (ماكس هيرمان)،
فرديا ،بينما المسرح إبداع للمتفرجين والعاملين فيه ،نحن بصدد تثمين ما ًّ إبداعا
ً
تنجزه الجماعة كل من زاوية اختصاصه» ؛ ولذلك فإن الفرجة التي يعمل مسرح (ما
(((
بعد الدراما) على صناعتها فرجة ال ترتكز على النص المسرحي بمواصفاته الصارمة،
حيث «يبدأ بقصة تتطور شيئً ا فشيئً ا نحو االنتهاء ،إنه مسرح يستند على صناعة
مرورا بالنص ،كمساهم ً بمواد متنوعة ،أولها الجسد ،وأداؤها على الخشبة،
َّ الفرجة
وصول إلى الوسائط المتعددة وما تطرحه من جماليات وتقنيات جديدة ً في الفرجة
على مستوى التأليف والعرض والتلقي» ،وبذلك أضحى مسرح (ما بعد الدراما) ذا
(((
لغة كوراغرافية choragraphie؛ «أي كتابة بالفضاء والزمن والجسد ال بالنص »((( ،كما
يقول (هانس تيس ليمان).
- 2 - 2مسرح (ما بعد الدراما) من توظيف التكنولوجيا إلى جمالية الوسائط:
لم يقتصر تأثير العصر الرقمي على الصناعات وطرق اإلنتاج خالل العقدين،
األخيرين من القرن الماضي ،وإنما امتد ليشمل جانب المعرفة واإلعــام والثقافة
عموما ،وذلك راجع لسلسلة من االختراعات التكنولوجية ،التي ساهمت بشكل أو ً
بآخر في تطور الحركة المسرحية ،ولعل اكتشاف اإلضاءة من بين األمثلة على ذلك
فضل عن «سلسلة من االختراعات التقنية( ،كالصحافة المطبوعة ،والراديو ،والسينما ً
والتلفزيون ،)...واآلالت اإللكترونية من أجل معالجة المعطيات كالحواسيب»((( .ووسائل
مكنت تلك المبادرة من االتصال السلكية والالسلكية ،و«إطالق شبكة األنترنيت ،حيث ّ
مضاعفة عرض المضامين والخدمات ووضعها رهـن إشارة المتصفحين»(((.
لقد أضحت هذه الحركية ذات تأثير بدأ يتجلى شيئً ا فشيئً ا ،و«أصبحت السيرورة
الوسائطية تضع اللغات الواصفة موضع تساؤل ،كما تستلزم دفع الجمهور إلى اختيار
((( الزهرة مكاش ،تجربة الكتابة الركحية ،حوار مع عبد المجيد الهوس ،ضمن كتاب جماعي (المسرح اليوم :الكتابة وفن األداء) ،ص.116
((( فاطمة أكنفر ،نحو دراماتورجية بديلة ،تناسج الثقافات الفرجوية وأسئلة ما بعد الدراما ،ص.90
((( حسن المنيعي ،المسرح العربي ما بعد الدراما ،ضمن كتاب (المسرح والوسائط) ،ص.20
((( ريمي ريفيل ،الثقافة الرقمية ثورة ثقافية ،ترجمة :سعيد بلمبخوت ،سلسلة عالم المعرفة ،عدد ،462يوليو ، 2018 ،ص .25-24
((( المرجع السابق ،ص.25
إشكالية التمثيل المسرحي باستحضار وسيط معين ضمن وسيط آخر ،(((»...وهكذا
صارت التكنولوجيا تتكلم من خاللنا ،شئنا أم أبينا ،لكن األفضل عدم تجاهل األمر(((.
التأقلم مع كل العصور واحتواء كل جديد واستيعابه؛ لذلك فقد وللمسرح قابلية ّ
استطاع الخروج من كل األزمــات التي مر بها وأضحى أكثر قوة ،ووظف كل جديد
لتجديد نفسه ،وأقحم التكنولوجيا في بناء العروض المسرحية ،وعرضها سواء بشكل
مباشر أو مسجل ،وما دام المسرح كما يقول الدكتور خالد أمين« :وسيط موسع يعرض
وسائط أخــرى»((( ،فقد صار «سؤال الوسائط في المسرح ،خالل السنوات األخيرة
ملحا مع التوافر المتزايد لمختلف تقنيات البث الرقمي؛ لذلك يصعب تجاهل مدى ًّ
تأثير كل هذه الوسائط على بعضها البعض من جهة ،وعلى الفرجة المسرحية الحية
من جهة أخرى»((( ،حيث استقطبت الوسائط فنون الفرجة ،لما توفره من إمكانيات
مساعدة لتحقق الفرجة ،وتمكنت الوسائطية من فرض نفسها ،بل استهوتها العديد
جديدا في مجال دراسات الفرجة ،حيثً ًّ
تجريبيا من الفنون ،إذ «تعد الوسائط ً
حقل
تقتحم التقنية ميدان الدراماتورجية ،وتجعلها مشرعة على رحابة الفنون األخرى
والوسائط المتنوعة.(((»...
إن انفتاح المسرح على باقي فنون المدينة كما يرى الدكتور خالد أمين((( ،قد
بدأ منذ اإلغريق القدامى ،لكن «انتشار الوسائطية كخاصية مهيمنة يعده الكثيرون
من سمات مسرح ما بعد الدراما ،وهذا ما دفع عدد من المتتبعين إلى الحديث عن
(منعطف وسائطي في المسرح) ،حيث تواتر االشتغال بالتقنيات الرقمية في الفرجة
المسرحية ،وقد أدى هذا االشتغال بدوره إلى خلخلة مفهوم المسرح»(((.
أملته التحوالت ًّ
حتمياْ ، ـدرا
وهكذا أضحت «عالقة المسرح بوسائل االتصال قـ ً
السوسيو -ثقافية المواكبة للثورة التكنولوجية الحديثة،؛ التي لم تسلم من تأثيرها
((( خالد أمين ،المسرح العربي بين الدراماتورجيا الركحية وأسئلة ما بعد الدراما ،ص.82-81
((( المرجع السابق ،ص.81
((( المرجع السابق ،ص.80
((( مجموعة من الباحثين ،المسرح والوسائط ،منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة ،سلسلة دراسات الفرجة ،20ط ،2012 ،1ص.7
((( المرجع السابق نفسه.
((( المرجع السابق ،ص.8
((( المرجع السابق نفسه.
مختلف الفنون»((( .وذلك بعد التحول إلى ثقافة الصوت والصورة والميديا ،فزالت
أنواعا جديدة من النصوص الحدود بين الحقول المعرفية ،واتسع مفهوم النص ليشمل ً
المرئية لم تشملها الدراسة من قبل كالوسائط الجماهيرية وما يرتبط بالثقافة
البصرية ،فوجد المسرح نفسه مرغما على تطوير سيرورته اإلنتاجية ،وأشكال ّ
تلقيه ً
في خضم تحول المجتمعات الحديثة إلى مجتمعات للفرجة بامتياز ،وحتى ال يبقى
ًّ
وسائطيا»((( ،هذا االنفتاح على فنا محدود األثر «بات عليه ضرورة أن يصبحالمسرح ً ّ
الوسائط والتكنولوجيا ،كان من أجل إيجاد بديل للدراماتورجيا الكالسيكية ،والبحث
عن دراماتورجيا بديلة ،تعمل على االستفادة من الفضاء اإللكتروني ،من أجل حل
إشكاليات اإلخراج والتمثيل والسينوغرافيا ،ما ساهم في تحديد الخبرة الجمالية،
وعجل بانفتاح المسرح على الوسائط ،وهو األمــر الــذي «قــوض العديد من الرؤى
السابقة حول مفهوم الممثل والسينوغرافيا ،كما أعاد النظر في دور المؤلف والمخرج
المسرح َّيين ،بحيث لم تعد السيرورة اإلبداعية المسرحية قضية متخ َّيل وحسب ،وإنما
أصبحت قضية تقنية ،واالعتماد على مهندسي المعلومات وتقنيي الوسائط الجديدة
معا»((( .ويتجلى هذا األمر لدى العديد
لبناء هذه الفرجة ،على صعيدي التصور واإلنجاز ً
من المخرجين الكبار غربيين وعرب ،ومنهم (كريستوف شلينجشليف) في عرضه
(أرجوكم أحبو عيد الصفح) ،و(راسيل ماليفانت )Russel maliphant -في عرضه (ال
تلقى الظالل) ،ومن العرب نذكر (مروى مهدي ،يوسف الريحاني ،عبد المجيد الهوس)،
حيث يعملون على االستفادة من التكنولوجيا وشتى أنواع الوسائط الرقمية ،ويدخلونها
في بناء العرض المسرحي ،لكن أال يشكل اقتحام الوسائط لحصون الفرجة موت هذه
نقطة النهاية؟ وهو األمر الذي توجس منه (ريجيس دوبري - ِ األخيرة ووصولها إلى
،)Régis Debrayحيث قال« :عبر الفوتوغرافيا والسينما والحاسوب ،استطاعت آالت
البصر في قرن ونصف بانتقالها من الكيميائي إلى الرقمي أن تحتوي الصورة القديمة
التي يصنعها اإلنسان بيديه ،وقد نتج عن ذلك شاعرية جديدة؛ أي إعادة تنظيم عالم
الفنون البصرية ،وفي هذه الرحلة دخلنا في عصر الشاشة بوصفه تقنية وأخالقية ال
((( حسن يوسفي ،الفرجة الوسائطية وخلخلة المفاهيم المؤسسة للمسرح ،ضمن كتاب (المسرح والوسائط) ،ص.45
((( المرجع السابق نفسه.
((( المرجع السابق ،ص.49
تشكل ذروة (مجتمع الفرجة) ،وإنما تعلن عن نهايته»((( ،وحسب الدكتور خالد أمين
(((
((( يوسف الريحاني ،نهاية مجتمعات الفرجة ،اإلجابة عن سؤال ما هي الدراماتورجية البديلة ضمن كتاب (الدراماتورجية الجديدة)،
األشكال الخاصة بطالئع األلفية الثالثة ،المركز الدولي لدراسات الفرجة ،سلسلة رقم ،23ط ،2014 ،1ص.229
((( خالد أمين ،المسرح العربي بين الدراماتورجية الركحية وأسئلة ما بعد الدراما ،ص.82
نموذجا)
ً - 3البواعث األولية لما بعد الدراما (المسرح البريشتي
ًّ
واجتماعيا ،كان ًّ
واقتصاديا ًّ
فكريا إن المتغيرات الكبرى التي عرفها العالم الغربي
لها صداها في عالم اإلبداع والفن ،باعتبار هذا األخير مرآة تعكس هيئة المجتمع
مخاضا
ً بدءا من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر وحالته ،ذلك أن العالم خاض ً
جذريا على جميع المستويات ،أعاد لإلنسان وهجه ،فكانت بداية القرن العشرين ًّ
بداية لظهور مجموعة من المؤلفات في شتى العلوم والفنون ،كما «شهد العقد األول ً
ُ
والثاني من القرن العشرين ميالد ونضوج مجموعة ال ُيستهان بها من ك ّتاب المسرح،
مثل (بيتس) و(سنج) و(بنابنتي) و(سيرا) و(جوركي) و(أندريف) و(لنرمادوبرناد) ،وقد
ُقدر لهؤالء أن يعملوا على إثراء المسرح في الفترة المباشرة السابقة للحرب العالمية
األولى أو في أثنائها ،كما ُقدر لتأثيرهم أن يندفع بالمسرحية في اتجاهات جديدة»(((.
وعلى الرغم من أن التجريب رديف المسرح منذ بداياته األولــى ،إال أن المسرح
عرفه بوتيرة غير مسبوقة في القرن العشرين ،إذ عرفت فنون عديدة التجريب قبل
المسرح ،كالرقص والتصوير والتشكيل والموسيقى ،فـ «سعت هذه الفنون إلى البحث
عن خصوصيتها المميزة لها ،بعد أن أدرك المصورون على نحو خاص الحاجة إلى خلق
لغة ،تستطيع أن ّ
تهشم الحياة حتى ال نعود نرى الوجه نفسه»((( ،في المقابل بقي المسرح
متأخرا في اعتماد البحث والتجريب حتى تفاجأ المخرجون المسرحيون بالقدرات ً
الهائلة ،التي باتت تعرفها السينما التي صارت تعرض الحياة والواقع المعيشي ،ما
«أرغم المسرحيين على حتمية تجاوز االتجاه الطبيعي ،بحثً ا عن المسرح وخصوصيته
وهويته الفنية المفقودة ،وقد اقتنع المسرحيون وال سيما المخرجين بأن المسرح ال
االلتماعات التي تطاولها
ِ يجب أن يصور الواقع اليومي على نحو طبيعي ،بل يصور ذلك
الكلمات»((( ،وهكذا تعددت المذاهب ،واختلفت المدارس المسرحية ،حتى أصبح لكل
كاتب مسرحي شخصيته الفنية ومذهبه الخاص ،وسنركز على المسرح الملحمي باعتباره
من المدارس المسرحية التي شكلت أرضية لمسرح ما بعد الدراما ،وسنسلط الضوء
على تجربة (برتولد بريشت) وجهوده في تقويض المسرح األرسطي.
((( جمعة أحمد قاجة ،المدارس المسرحية وطرق إخراجها منذ عصر اإلغريق حتى العصر الحاضر ،وزارة الثقافة ،والفنون والتراث
وإدارة الثقافة والفنون ،ط ،2009 ،1ص.135
((( المرجع السابق ،ص.145
((( المرجع السابق ،ص.146
((( عبد الرحمن بن إبراهيم ،النظرية النقدية في المسرح الغربي ،أفريقيا الشرق ،المغرب ،2017 ،ص.212
((( المرجع السابق ،ص.195
((( المرجع السابق نفسه.
تأثيرها الكبير والعميق على تفكيره ،ومساره الفني ونهجه السياسي»((( ،وهناك في
جبهة القتال عايش التناقضات كلها ،وعبر عنها بقوله« :إنني بحكم تعلمي طبيب،
استدعيت للحرب ،وذهبت للعمل في أحد المستشفيات، شابا كبقية الشبان ُ
وبوصفي ً ّ
فضمدت الجروح ،واستخدمت صبغة اليود ،وأعطيت الحقن الشرجية ،وقمت بعمليات َّ
نقل الدم ،وإذا أمرني الطبيب« :اقطع الساق يا (بريشت) كان علي أن أجيب :حاضر
أجر عملية تربنة ،فتحت جمجمة إنسان ورتقت
يا سيدي ،وأقطع الساق ،وإذا قيل ليِ :
مخه ،لقد رأيت كيف ُترمم أشالء الناس ،ويرحلون بأقصى سرعة إلى جبهة القتال» .
(((
ًّ
تاريخيا نفوذا ،وهي المؤهلة
اتساعا واألكثر ً
ً األمور ،باعتبارها الطبقة الشعبية األكثر
كذلك لقلب الموازين وتصحيح المسارات»(((.
لقد آمن (بريشت) بأهمية الطبقة المستضعفة التي تشتغل أكثر وال تستفيد إال
النزر اليسير ،عكس الطبقة المتعفنة ،التي تستغل المحرومين ،وتقتات على دمائهم
ومعاناتهم؛ لذلك أعطى األهمية لإلنسان وفكره الذي ما هو إال نتيجة للتاريخ.
إن (بريشت) يعتبر المادية التاريخية تابعة لقوانين عامة ولم توجد من العدم،
إنها مادية يمكن كشف مالبساتها من خالل (قانون الديالكتيك) ،الذي يفسر ويوضح
حقيقة المادية ،فكل شيء يوجد به نقيضه ،الذي يخوض المعركة معه وهو يتطور
«يوجه بريشت رسالة صريحة إلى ّ معتمدا على ضــرورة الصراع ،وهكذاً ويستمر
اإلنسان المغترب داخل الحياة اليومية ،وداخل المجتمعات الرأسمالية االستهالكية
من أجل إعماله عقله للتخلص من هذا االغتراب»((( .وقد استعان في تحقيق الفرجة
مستفيدا من
ً خصائص مميزة لمسرحه الملحمي،
َ بعدد من الجماليات التي شكلت
وملفتا
ً غريبا
ً المادية التاريخية وتقنية االغتراب ،لفتح بصيرة اإلنسان ،وجعل ما ألفه
غامضا ،وهو في ذلك يجمع بين الشمولية واالنسجام وااللتزام،
ً لألنظارَّ ،
وكل بديهي
من الكتابة الدرامية إلى الكتابة السينوغرافية ،ويمكن بسط جماليات (بريشت) من
خالل العتبات اآلتية:
-العتبة األولى :التغريب ( )distanciationجمالية الهدم والبناء
عمل (بريشت) على خلخلة النفس اإلنسانية الساكنة ،وإزالــة الغشاوة عن عين
غريبا ،من خالل توظيف تقنية التغريب .ويوضحً اإلنسان ،حتى يبدو األمر االعتيادي
يوما
ذلك بقوله« :إننا نستخدم عادة (تأثير التغريب) عندما نسأل أحدهم :هل نظرت ً
بانتباه إلى ساعتك؟ إن السائل يعرف أني أنظر باستمرار إلى ساعتي ،غير أنه بسؤاله
قد قضى على اعتيادية األمر بالنسبة لي ،وللسبب ذاته قضى على تصوري للساعة،
الذي لم يكن ليعني لي شيئً ا ،إنني أنظر إلى الساعة باستمرار ألحدد الوقت ،غير
أنه عندما أسأل بإلحاح وإصرار عندها أفهم أني لم أنظر إلى الساعة نظرة مليئة
عام ،1935لحظة فارقة في مسار المثاقفة المسرحية ،إذ توجه (بريشت) إلى
موسكو بدعوة من (بسكاتور) لحضور مؤتمر للمنتجين المسرحين ( ،)...وقدم الفنان
الصيني الشهير (ماي الن فانغ) سلسلة من العروض ضمن مجموعة أوبرا بيكين،
عرضي ( )The Drunken Beauty & The Fishermansبكل من (موسكو) َ إذ قدم
العرضين ،وحضر المناقشة النهائية بمعية َ و(سان بيترسبورغ) ،شاهد (بريشت)
(ستناسالفسكي) ،وبدعوة من (مايرهولد) يوم 14أبريل .(((»1935
كان للثقافة الشرقية دور كبير في تطوير وتطعيم المسرح الملحمي ،بعدما وصل
المسرح الغربي للطريق المسدودة ،بفعل التمركز الغربي ،فطوّ ر (بريشت) تقنياته
مستفيدا من لقائه بالشرق ،حيث «تتيح ً المسرحية (اإلشــارات ،األقنعة والبانتوميم)،
العالقة الجدلية المتكاملة بين الصوت والحركة في المسرح الكابوكي انزيا َح الحركة من
حيث هي وسيلة للتسنين ،بموازاة مع الكلمة المنطوقة ،واللغة الشفهية ،ذلك ما الحظه
جدارا مطلقا كونه ّ
يمثل كما لو أن ثمة ً (بريشت) في الممثل الصيني ،حيث قال« :ال نلمس
ً
مضافا إلى الثالثة األخرى ،فهو يفصح عن وعي بأنه ُيرى من لدن الجمهور»(((.ً رابعا
ً
-العتبة الثانية :جمالية الكتابة الدرامية
تتميز كتابات (بريشت) المسرحية ،بتأثرها بالنظرية الماركسية ،و«بتراوحها بين
ما هو شعري وما هو نثري ،وبمحافظتها على المنطق النحوي والتركيبي»(((ً ،
فضل عن
قوة لغتها وإيحاءاتها الثورية ،كما تعتبر «الحكاية la fableمن الثوابت األساسية في كل
المسرحيات التي كتبها (بريشت) ،إال أنها تختلف في بنيتها ومضامينها وأهدافها عن
الحكاية األرسطية»(((.
-العتبة الثالثة :جماليات الفضاء البريشتي
رفض (برتولد بريشت) الطبقية ،ورأى أن العلبة اإليطالية ترسخ هذه الطبقية؛
لذلك فقد دعا إلى تفجيرها ،باعتبارها ال تنسجم مع رؤيته االشتراكية ،فهي ال
((( إيريكا فيشر ليشته ،من مسرح المثاقفة إلى تناسج الفرجة ،ترجمة وتقديم :خالد أمين ،منشورات المركز الدولي لدراسات
الفرجة ،سلسلة رقم ،42ط ،2016 ،1ص.42-41
((( المرجع السابق نفسه.
((( سعيد كريمي ،مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة ،ص.277
((( المرجع السابق نفسه.
تحقق العدالة بين الجمهور ،فقد عمل (بريشت) على تفجريها من الداخل ،باقتراحه
دفع القاعة في الخشبة وإزاحة الجدار الوهمي الرابع الذي يفصل بين الممثلين
تجنبا الندماج الممثلين
ً والمتفرجين ،وحارب اإليهام ،بعدما أعاد هندسة الخشبة
مع الجمهور أو الممثلين مع الشخصيات ،وبذلك يظل الجمهور على وعي تام بأنه
تقريرا عن أحداث وقعت بالماضي ،وهذا
ً جالس أمام الممثلين في المسرح ،يشاهد
واحد من أوجه االختالف بين المسرح الدرامي والمسرح الملحمي ،وما بعد الدراما
عموما ،فاألول يقوم على الوهم ،حيث تذوب ذات الممثل في الشخصية المسرحية ً
المجسدة ،وهو األمر الذي كان يمقته ويشمئز منه (بريشت) ،حيث يقول« :ال يوجد
وكليا في دوره ،وينسى التصرف الملحمي اندماجا ً ّ
تاما ً ّ ً أسوأ من الممثل الذي يندمج
واالستعانة بالتغريب»((( .والتغريب سبيل اتخذه المسرح الملحمي من أجل تقويض
التخدير الذي يمارسه المسرح البرجوازي الذي يقوم على اإليهام؛ لذلك «ال يخلو
أي مكون من مكونات المسرح الملحمي من أثر التغريب حتى إن تنظيم الفضاء
المسرحي تم تهييئه الستيعاب هذا العنصر المهم والفعال ( ،)...ويعمد (بريشت)
وفقيرا في اآلن نفسه،
ً ً
بسيطا في تعامله مع الفضاء السينوغرافي إلى جعل الديكور
عكس المسارح التقليدية التي تلجأ إلى تكديس وتفخيم الديكور ،ولكسر اإليهام
بالواقع ،فإن الديكور يتم تغييره أمام المشاهدين ،دون حاجة إلى إسدال الستار
لتغيير المناظر ،ولعل جدلية العالقة بين الجهاز السينوغرافي واللعب المسرحي
هي التي أوحت إلى (بريشت) ضرورة تجاوز ثبات الديكور وجموده على امتداد
المسرحية ( ،)...واقترح بالمقابل سينوغرافية متحركة يستطيع الممثل تحريكها
وتغيير مواقعها على ساحة اللعب ( ،)...وبهذا يخضع الفضاء السينوغرافي نفسه
إلى التركيب الذي يتأسس على تقسيم الديكور وتوزيعه إلى أجزاء صغرى ،يتم
الجمع بينها في رؤيــة تركيبية ( ،)...ومن ثم فإن المرمى العميق وراء تحريك
السينوغرافيا هو إبراز حركية الواقع ،وتطور سيرورة العمليات االجتماعية حسب
قوانين تاريخية معينة»(((.
((( عدنان رشيد ،مسرح بريشت ،دار النهضة العربية ،بيروت1408 ،هـ1988/م ،ص.235
((( سعيد كريمي ،مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة ،ص.280 - 279 - 278
إن توظيف (بريشت) للقطع السينوغرافية بهذا الشكل راجع لتأثره بالجمالية
الصينية ،وهندسة معالمها الحضارية ورسوماتها التي تقوم على تكثيف األدوات
واألشكال في انسجام تامّ ،
لكن «حركية الديكور تجد جذورها في المادية التاريخية
اعتمادا على العامل االقتصادي ووسائل
ً التي تقوم على مبدأ الصيرورة والتحول
وأدوات اإلنتاج ،وتضرب عرض الحائط كل ما له عالقة بالثبات والسكون» ،وبذلك
(((
يخضع الديكور عند (بريشت) لتصوره الفكري ،ويعكس توجهه االشتراكي ،فهو يرفض
استقراره؛ ألن ذلك يفيد البرجوازية والطبقة الحاكمة ،كما دعا (بريشت) إلى اعتماد
سينوغرافيا الفراغ« ،وهي تقنية تعتمد على البساطة وإلغاء الحشو ،فالجمال عنده
ينبع من البساطة التي هي تمام األناقة على نحو ما يتجسد ذلك في المسرح الصيني،
وهذه األناقة كما يصفها (بانو) هي التي مكنت (بريشت) من االبتعاد عن الجمالية
الغربية التي تعتمد على مبدأ االمتالء ،وفسحت المجال لبروز الجماليات الشرقية
التي تعتمد على االقتصاد والخفة»(((.
إن اعتماد (بريشت) جدلية الفراغ واالمتالء ،واتخاذ الفراغ قاعدة راجعان بطبيعة
الحال لتأثره بالفرجة الشرقية ،حيث يعتمد المؤدي باألساس على جسده ،فهو ُ
آلته التي
يعزف بها ،وبذلك «يتيح للممثل استغالل طاقاته الجسدية ،والذهنية لتعويض اختزال
المكونات الركحية ،وتطبيق تقنية التباعد والتغريب في أقصى حدودها ،ومن جهة
أخرى يسمح للمتلقي بإعمال الذهن أكثر للتأويل ،قصد ملء تلك الفراغات المقترحة،
أو المتعمدة ً
أصل لهذا الغرض»((( ،كما لجأ (بريشت) إلى الصور السينمائية والعناوين
مستفيدا من (بسكاتور) ،حيث أخذ عنه هذه التقنية وطورها ،إلى نصوص وعناوين ً
مكتوبة ،توازي العرض المسرحي.
-العتبة الرابعة :جمالية المؤثرات الصوتية والموسيقية
لقد ربط (بريشت) المؤثرات الصوتية والموسيقية بالتغريب ،حيث َّ
توظف لتذكير
المتفرج بأنه في عرض مسرحي ،ولذا ال ُيسمح للمتفرج بالتماهي ،ومن أجل ذلك
فقد «خص (بريشت) الموسيقى واألغاني بأهمية متميزة ،وعن دورها في العرض
المسرحي يقول ...« :يتعين على الممثلين أال ينتقلوا بصورة غير ملحوظة إلى الغناء،
بل عليهم أن يبرزوا هذا الغناء بشكل ملحوظ ،ويميزوه من بقية الحدث» ومما يساعد
على ذلك بصورة خاصة عدد من الوسائل المسرحية النوعية ،منها على سبيل المثال:
تغيير اإلنارة أو عرض العناوين ،كما أن على الموسيقى من ناحيتها أن تقاوم (،)...
ويتعين عليها ال أن (تصاحب) ،بل أن توضح الهدف ،إن وظيفة الموسيقى واألغاني إذن
ليست هي مصاحبة الحدث لمساعدة المشاهد على االندماج ،بل التعليق على هذا
الحدث ومناقشته وتوضيحه من خالل األغاني التي يتم توجيهها إلى المتفرج ،وهي في
بعض الحاالت عبارة عن شعارات لتوقيف العرض وإتاحة الفرصة له لغربلة ما سبق أن
شاهده والتذكر بأنه في مسرح ،وأن ما يشاهده من صنع المتخيل»(((.
وهكذا فإن كل عناصر العرض تتكاثف وتتداخل لتحقيق أهم مرتكزات المسرح
البريشتي وهو التغريب ،الذي ُيعد من أهم اآلليات إليقاظ الجمهور من سباته ،والقطع
مع المخلفات والرواسب االجتماعية التي يخضع المتفرج لها ،عند مشاهدته للعروض،
وذلك من أجل إثارة الفكر وطرح التساؤالت والشك في كل ما يحيط بنا؛ ولذلك فالعرض
الملحمي ال تنتهي وظيفته بنهايته ،وإنما وظيفته تبقى مستمرة ،وهي التي تقوم على
نلخص المسرح البريشتي في خاصيتين اثنتين هما :اللذة والتعليم ،ولهذا يمكن أن ّ
كونه يسلط الضوء على العالم؛ ليراه المشاهد على حقيقته ،ويفهم تناقضه وتناقض
الحياة في المجتمع الرأسمالي ،حتى يتمكن من تغييره.
كبيرا في تحرير المسرح الغربي من تقديسفضل ً والخالصة أن للمسرح البريشتي ً
ً
مبجل ،و(دراكــوال) يقتات على دماء المسارح التي جاءت رماد (أرسطو) ،الذي ظل
بعده ،على حد تعبير الناقد المسرحي العراقي محمد سيف ،وبذلك شقَّ المسرح
طريق التغير والتجريب وربط االتصال بمسارح العالم ،يغذيها ويجددها حتى صار
لهذه الموجة الجديدة مريدوها ومناصروها في أوروبا وأقطار المعمورة كافة ،حتى إن
نفسه جرّ ب التعامل مع هذا التيار والبحث عن صيغة مسرحية لتأصيل المسرح العربي َ
العمل المسرحي في الوطن العربي واستنباته.
المراجع والمصادر
>إبراهيم حمادة :طبيعة الدراما ،سلسلة كتابك ،ع ،69دار المعارف ،ب.ت. >
>إيريكا فيشر ليشته :من مسرح المثاقفة إلى تناسج الفرجة ،ترجمة وتقديم :خالد >
أمين ،منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة ،سلسلة رقم ،42ط.2016 ،1
>باتريس بافيس :معجم المسرح ،ترجمة :مشال ف .خطار ،المنظمة العربية للترجمة، >
ط.2015 ،1
>باتريس بافيس :تأمالت في مسرح (ما بعد الدراما) ،ترجمة المبارك العروسي ،مجلة >
دراسات الفرجة ،العدد الثالث ،نوفمبر.2016 ،
>برتولد بريشت :نظرية المسرح الملحمي ،ترجمة :جميل نــاصــف ،عــالــم المعرفة، >
بيروت ،د.ط ،د.ت.
>حسن المنيعي :المسرح العربي ما بعد الدراما ،ضمن كتاب جماعي (مسرح ما بعد >
الدراما) ،أربع مقاربات ،المركز الدولي لدراسات الفرجة ،سلسلة ،15ط ،1مارس.2012 ،
>جمعة أحمد قــاجــة :ال ـمــدارس المسرحية وطــرق إخراجها منذ عصر اإلغــريــق حتى >
العصر الحاضر ،وزارة الثقافة ،والفنون والتراث وإدارة الثقافة والفنون ،ط.2009 ،1
>حسن المنيعي :حركة الفرجة في المسرح والواقع والتطلعات ،منشورات المركز الدولي >
لدراسات الفرجة ،ط.1
>حسن المنيعي :شعرية الدراما المعاصرة ،منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، >
سلسلة ،15ط ،1مارس.2012 ،
>حسن يوسفي :فــي االفـتـتــان المعرفي بالمسرح ،مـنـشــورات المركز الــدولــي لــدراســات >
الفرجة ،سلسلة رقم ،44ط.2017 ،1
>خالد أمـيــن :الــدرامــاتــورجـيــة الركحية وأسئلة مــا بعد الــدرامــا ،ضمن كتاب جماعي، >
(مسرح ما بعد الــدرامــا) ،أربــع مقاربات ،منشورات المركز الــدولــي لــدراســات الفرجة،
سلسلة ،15ط.2012 ،1
>خالد أمين :ما بعد بريشت ،ترجمة :عبد المنعم الشنتوف ،منشورات المركز الدولي >
لدراسات الفرجة ،سلسلة دراسات الفرجة ،2ط.2008 ،2
>رشيد بناني :المسرح المغربي قبل االستقالل ،دراسة دراماتورجية ،منشورات جامعة >
سيدي محمد بن عبد اهلل ،ط.2008 ،2
>ريمي ريفيل :الثقافة الرقمية ثــورة ثقافية ،ترجمة :سعيد بلمبخوت ،سلسلة عالم >
المعرفة ،عدد ،462يوليو.2018 ،
>سعيد كريمي :مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة ،دائــرة الثقافة واإلعــام، >
حكومة الشارقة ،اإلمارات العربية ،ط.2014 ،1
>عبد الرحمن بن إبراهيم :الحداثة والتجريب في المسرح ،أفريقيا الشرق ،المغرب.2014 ، >
>عبد الرحمن بن إبراهيم :النظرية النقدية في المسرح الغربي ،أفريقيا الشرق ،المغرب >
.2017
>عدنان رشيد :مسرح بريشت ،دار النهضة العربية ،بيروت1988 ،م. >
>فاطمة أكنفر :نحو درامــاتــورجـيــة بديلة ،تناسج الثقافات الفرجوية وأسئلة مــا بعد >
الدراما ،مجلة دراسات الفرجة ،العدد الثاني.2016 ،
>كريستل فايلر :مسرح ما بعد الدراما ،ضمن كتاب جماعي( ،مسرح ما بعد الدراما)، >
أربع مقاربات ،منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة ،سلسلة دراســات ،سلسلة ،15
ط.2012 ،1
>مصطفى الرمضاني :سلطة الجماليات الشرقية على المسرح الغربي الحديث ،مجلة >
ضفاف ،العدد السادس ،فبراير.2004
>ماري إلياس ،حنان قصاب حسن :المعجم المسرحي ،مفاهيم ومصطلحات المسرح >
وفنون العرض ،مكتبة لبنان ناشرون ،ط.1
>محمد الكغاط :المسرح وفضاءاته ،دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع ،القنيطرة، >
ط.1996 ،1
>مروى مهدي :ما هو (مسرح ما بعد الدراما) ،منشور ضمن كتاب جماعي ،الدراماتورجية >
الجديدة ،ط.2014 ،1
>منير الحافظ :مظاهر الدراما الشعائرية ،النايا للدراسات والنشر والتوزيع ،دمشق، >
ط.2009 ،1
>ناصر علي محمد أحمد برقي :الدراما والتربية :بين النظرية والتطبيق ،مكتبة اآلداب ،ط.1 >
نموذجا،
ً >ياسين عوني :فنون العرض بين حضور النص وغياب العرض األدائــي( ،إذا) >
ضـمــن كـتــاب (ال ـم ـســرح ال ـي ــوم :الـكـتــابــة وف ــن األداء) ،م ـن ـشــورات كلية اآلداب والـعـلــوم
اإلنسانية ،ط.2017 ،1
>يوسف الريحاني :نهاية مجتمعات الفرجة ،اإلجابة عن سؤال ما هي الدراماتورجية >
البديلة ضمن كتاب (الــدرامــاتــورجـيــة الـجــديــدة) ،األشـكــال الخاصة بطالئع األلفية
الثالثة ،المركز الدولي لدراسات الفرجة ،سلسلة رقم ،23ط.2014 ،1
>R.Parthes; la révolution Brechtienne; in ess ais >