You are on page 1of 31

‫دراسات‬

‫رحلة المسرح نحو األلفية الثالثة‬

‫❋‬
‫المختار العسري‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫(((‬ ‫«المسرح ّ‬
‫فن متحول يقوم على االبتكار»‬
‫ففضل عن‬‫ً‬ ‫تعددت التحديات التي واجهتها اإلنسانية مع مطلع القرن العشرين‪،‬‬
‫ًّ‬
‫ثقافيا‬ ‫كائنا‬
‫الرهانات السياسية واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬عرف اإلنسان باعتباره ً‬
‫رهانات أخرى مرتبطة بجانبه المضيء‪ ،‬وكان من نتائج ذلك ظهور العولمة التي خاض‬ ‫ٍ‬
‫مقتحما مرحلة ما بعد الحداثة بعد تخطي الحداثة ذاتها‪ ،‬ومن‬ ‫ً‬ ‫غمارها العا َلم الغربي‬
‫ٍ‬
‫‪-‬تحديات جديدة فرضتها ظروف األلفية الثالثة‪،‬‬ ‫عريقا‬
‫فنا ً‬‫ثمة عرف المسرح باعتباره ً ّ‬
‫التي ارتبطت بالتكنولوجيا الحديثة وتقنيات (الدوت كوم)‪ .‬ففي الوقت الذي استفادت‬
‫فيه السينما في وقت مبكـر من الفتوحات الصناعية والتقنية‪ ،‬فإن المسرح تأخر‬
‫في اللحوق بـركب التطور‪ ،‬وظلت األشكال التقليدية تسيطر على الفرجة حتى بداية‬
‫العقد األول من القرن العشرين‪ ،‬وقد كان للحربين العالميتين وما تلتهما من أزمات‬

‫❋ باحث في المسرح وفنون الفرجة من المغرب‪.‬‬


‫((( حسن المنيعي‪ ،‬شعرية الدراما المعاصرة‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة ‪ ،15‬ط‪ ،1‬مارس‪ ،2012‬ص‪.18‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪38‬‬


‫دراسات‬

‫دور كبير في التمهيد للمسرح الطليعي‪ ،‬الذي عمل على تقويض المسرح األرسطي‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫والتأسيس للمسرح الملحمي ومسرح القسوة ومسرح العبث‪ ،‬ثم التمهيد لمسرح ما‬
‫بعد الدراما‪ ،‬هذا األخير الذي يقدم أساليب جديدة ومغايرة تتجاوز الشكل التقليدي‪،‬‬
‫فانفتح المسرح على إمكانيات جديدة يتأسس فيها العرض المسرحي على مستويات‬
‫مغايرة تعيد التوازن ما بين النص والعـرض‪ ،‬وتعيد االعتبار للمخرج والممثل والمتلقي‪،‬‬
‫وتنفتح على تقنيات جديدة أسست لجماليات غير معتادة في بناء العرض المسرحي‪،‬‬
‫وفي هذا الصدد قام الباحث األلماني (هانز تيس ليمان) برصد العروض المسرحية‬
‫ً‬
‫محاول‬ ‫التجريبية المتمردة على الشكل األرسطي في مختلف المهرجانات األوربية‪،‬‬
‫مطلقا عليها تسمية (مسرح ما بعد‬‫ً‬ ‫استكشاف سماتها ومالمحها والجوامع بينها‪،‬‬
‫معتمدا القراءة والمشاهدة والتحليل ألعمال مخرجين كانت لهم بصمة فنية‬
‫ً‬ ‫الدراما)‪،‬‬
‫ممهدا بذلك الطريق للدارسين والنقاد لمزيد من البحث‬ ‫ً‬ ‫في منجزاتهم المسرحية‬
‫والتنقيب‪ ،‬فانتقل المسرح بذلك من الهجنة إلى المثاقفة إلى التناسج الذي يتأسس‬
‫من خالل دراماتورجية ركحية تجرب كل شيء إلنتاج عروض فرجوية‪.‬‬
‫ومن الجدير اإلشــارة إلى أن مصطلح (ما بعد الدراما) قد استعمل في مرحلة‬
‫الثمانينيات‪ ،‬إذ ظهر ألول مــرة في ألمانيا لوصف األشكال والنماذج المسرحية‬
‫المعاصرة عام ‪ 1987‬على يد (أندريز فيرت) في ورقة بحثية تقدم بها في جامعة‬
‫(جيسنـر) تحت عنوان (الواقع في المسرح ‪-‬باعتباره يوتوبيا جمالية‪ -‬تحوالت المسرح‬
‫في بيئة اإلعالم)‪ ،‬حيث يقول‪« :‬يفقد مسرح اللغة وضعه االحتكاري لصالح أشكال (ما‬
‫بعد الدراما) بحيث يظهر ذلك في تركيبات الصوت وأوبرا اللغة ومسرح الرقص»(((‪،‬‬
‫وتجاوزا للدراما‪ ،‬على الرغم مما ما تعرض له‬
‫ً‬ ‫استيعابا‬ ‫وشكل هذا النوع من المسرح‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫من سوء فهم بسبب الـ (ما بعد) الملحقة بـ (الدراما)‪ ،‬لهذا أكد الدكتور خالد أمين‬
‫ًّ‬
‫مرحليا يأتي بعد الدراما‪ ،‬أو نسيانً ا‬ ‫تصنيفا‬
‫ً‬ ‫إطالقا‬
‫ً‬ ‫أن بادئة الـ (ما بعد) ال تعني‬
‫نهائيا‪ ،‬بقدر ما هي حالة استمرارية تخضع للتغيرات‬ ‫ًّ‬ ‫للماضي الدرامي‪ ،‬أو إلغاءه‬
‫الحياتية المختلفة‪ ،‬وتقوم على جماليات متشظية ُتعلي من الممثل وجسده ومنفتحة‬
‫سلبيّ ا‪.‬‬
‫على التقنيات والوسائط‪ ،‬معيدة االعتبار للمتلقي الذي لم يعد ً‬

‫((( كريستل فايلر‪ :‬مسرح ما بعد الدراما‪ ،‬ضمن كتاب جماعي‪( ،‬مسرح ما بعد الدراما) أربع مقاربات‪ ،‬منشورات المركز الدولي‬
‫لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة ‪ ،15‬الطبعة األولى‪ ،2012 ،‬ص‪.7‬‬

‫‪39‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫ونظرا لتناسج الثقافات‪ ،‬فقد انتقلت مالمح مسرح ما بعد الدراما إلى المسرح‬
‫ً‬
‫ًّ‬
‫واقعيا تعكسه العديد من التجارب العربية‪.‬‬ ‫العربي‪ ،‬وصار ً‬
‫معطى‬
‫‪ - 1‬المسرح مسار الدراما إلى ما بعد الدراما‬
‫إن وجود سابقة (ما بعد) قبل (الدراما)‪ ،‬يقودنا إلى طرح التساؤالت اآلتية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫‪ -‬ما الدراما؟‬
‫‪ -‬ما داللة ما بعد الدراما؟‬
‫‪ -‬ما المالمح المميزة لمسرح ما بعد الدراما؟‬
‫‪ - 1 - 1‬ماهية الدراما‪:‬‬
‫تميز اإلنسان بوعيه الروحي على الرغم من بدائيته األولــى‪ ،‬إذ اتخذ الطقوس‬
‫والشعائر والرقى وسيلة لمواجهة الواقع‪ ،‬وانعكس ذلك في المآثر التاريخية‪ ،‬سواء‬
‫مدافن‪ ،‬كما تجلى ذلك في الشعائر الدينية (تراتيل‪/‬‬ ‫َ‬ ‫محاريب أو‬
‫َ‬ ‫كانت معاب َد أو‬
‫تضرعا لآللهة‪ ،‬من أجل تجنب الكوارث والفيضانات‪ ،‬وهكذا‬ ‫ً‬ ‫مزامير)‪ ،‬اتخذها الناس‬
‫حاكت البشرية باقي الكائنات أو الطبيعة لتخط َو أولى خطوات التجريب في مسار‬
‫ًّ‬
‫إنسانيا يعبر‬ ‫تعبيرا‬
‫ً‬ ‫أول حداثة حضارية ومجتمعية‪ ،‬ما أدى إلى ظهور الدراما بوصفها‬
‫اإلنسان بها عن حاجياته ومتطلباته اإلنسانية‪.‬‬
‫تعددا للرؤى في‬
‫ً‬ ‫إن الباحث في الكتب النقدية عن مفهوم الدراما (‪ )Dram‬يجد‬
‫تعريفها‪ ،‬لكنها «ظلت ضمن إطار الفعل كظاهرة مسرحية فحسب‪ ،‬دون الوقوف عند‬
‫قيما تخضع‬ ‫دالالت المعاني العظيمة التي تطرحها المظاهر الدرامية‪ ،‬بوصفها ً‬
‫تضرع ورُ قى عبادية‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫للتجسيد وفق وقائ َع وأحداث وابتهاالت وأناشي َد وتراني َم وطقوس‬
‫وليس كما عرفت أنها مجرد أفعال مؤلفة في نص مكتوب للمسرحية على منصة‬
‫عظيما‪ ،‬أو تجسيد الحدث‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬
‫مأساويا‬ ‫العرض»(((‪ ،‬والدراما «فعل ملحمي يحاكي حدثً ا‬
‫فنيا‪ ،‬وهو ما أطلق عليه (الديثرامب)‪ ...‬والدراما تشمل كل فعل‬ ‫أو إعادة إنتاج الحدث ً ّ‬
‫مؤثر في حياتنا‪ ،‬وهو يعني في اللغة السريانية (بيت الصراع)‪ ،‬وفي اللغة الفينيقية‬
‫وعموما‪ ،‬فالدراما هي كل نص يستوفي شرط التحول إلى فعل ُممسرح‪،‬‬ ‫ً‬ ‫(الصراع)‪.‬‬
‫قابل للتحقق على منصة العرض»(((‪.‬‬

‫((( منير الحافظ‪ ،‬مظاهر الدراما الشعائرية‪ ،‬النايا للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،2009 ،1‬ص‪.13‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.14‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪40‬‬


‫دراسات‬

‫ومن ثم فأصل كلمة دراما عند اإلغريق يدل على الحركة والفعل‪ ،‬وقد أشار أرسطو‬
‫إلى ذلك‪ ،‬فالدراما عنده «عبارة عن محاكاة لفعل بشري‪ ،‬والحقيقة أن المسرحية في‬
‫أوسع معنى لها عبارة عن فعل يؤديه إنسان‪ ،‬وال يعني الفعل هنا مجرد حركات الممثل‬
‫الجسمية التي يصوّ ر بها الشخصية‪ ،‬وإنما يشمل ‪-‬إلى جانب ذلك‪ -‬نشاطاته النفسية‬
‫والعقلية التي تحرك سلوكه الظاهري»(((‪.‬‬
‫ًّ‬
‫نسبيا من لغة أوروبية إلى أخرى‪،‬‬ ‫كما ُعرف مصطلح الدراما بدالالت مختلفة‬
‫مثل تستعمل كلمة دراما ‪-‬بشكل غالب‪ -‬للداللة على الكتابة‬ ‫«إن اللغة اإلنجليزية ً‬
‫المسرحية‪ ،‬والنصوص المسرحية المستعملة في هذا الفن (‪ ،)...‬وتستعمل الكلمة‬
‫تقريبا‪ ،‬فقد عبر (جورج‬‫ً‬ ‫نفسها في اللغة األلمانية للداللة على المعاني نفسها‬
‫لوكاتش) (‪ )1971-1885‬عن االزدواجية الموجودة بين الدراما والمسرح‪ ،‬في مجتمعه‪،‬‬
‫وتمييزه بينهما في مقالة نشرها سنة ‪ ،1914‬قال فيها‪« :‬إن الدراما‪ ،‬حتى القرن الثامن‬
‫طبيعيا عن المسرح‪ ،‬في حين أنها بعد ذلك قدمت نفسها للمسـرح‬ ‫ًّ‬ ‫عشر‪ ،‬قد نجمت‬
‫كوسيلة إلصالح المسرح‪ ،‬فالشعراء الدراميون المح َدثون هم (أرفع من المسرح)‪ ،‬قد‬
‫يهبطون إليه وينقبون فيه من الداخل‪ ،‬أو قد ينتظرون إلى أن يرتفع إلى مستواهم‪،‬‬
‫ولكنهم في كلتا الحالتين ليسوا رجال مسرح على غرار (موليير)‪ ،‬الذي اتُّفق أن‬
‫عظيما»‪ .‬فواضح أن (لوكاتش) يميز بشكل واضح بين‬ ‫ً‬ ‫أدبا‬ ‫ُ‬
‫كتاباته المسرحية ً‬ ‫اعتبــرت‬
‫المسرح والدراما‪ ،‬كما يعني بهذا المصطلح األخير الكتابة األدبية المرصودة للعرض‬
‫المسرحي‪ ،‬غير أن االستعمال الذي أعطاه هذا المؤلف الذي يكتب باأللمانية لكلمة‬
‫دراما غير متداول على أقالم الكتاب الفرنسيين‪ ،‬بحيث يغلب عند هؤالء استعمال‬
‫مصطلحات أخرى‪ ،‬مثل المسرح (‪ ،)théâtre‬أو النص المسرحي (‪،)texte théâtral‬‬
‫أو النص الدرامي (‪ )texte dramatique‬عند إرادة الحديث عن الكتابة للمسرح»(((‪.‬‬
‫أما األجيال األولــى من المسرحيين العرب الذين كانوا في أغلبهم من األدبــاء‬
‫والصحفيين فقد تأثروا بالمصطلحات الفرنسية أو اإلنجليزية‪ ،‬فتم الخلط بين الدراما‬
‫والمسرح‪.‬‬

‫((( إبراهيم حمادة‪ ،‬طبيعة الدراما‪ ،‬سلسلة كتابك‪ ،‬ع‪ ،69‬دار المعارف‪ ،‬بدون طبعة‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫((( رشيد بناني‪ ،‬المسرح المغربي قبل االستقالل‪ ،‬دراسة دراماتورجية‪ ،‬منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد اهلل‪ ،‬ط‪،2008 ،2‬‬
‫ص‪.131-130‬‬

‫‪41‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫■ الدراما في المعجم المسرحي لحنان قصاب حسن وماري إلياس‪:‬‬


‫يشير المعجم المسرحي لحنان قصاب حسن وماري إلياس إلى أن «أصل كلمة دراما‬
‫وصفة درامي (‪ )Dramatique‬موجودة‬ ‫من الفعل اليوناني (‪ )Dram‬الذي يعني الفعل‪ِ ،‬‬
‫في اللغة اليونانية (‪ ،)Dramatikos‬وفي الالتينية (‪ )Dramaticus‬للداللة على كل ما‬
‫يحمل اإلثارة أو الخطر‪ ،‬وتستخدم كلمة دراما في اللغة العربية بلفظها األجنبي»(((‪.‬‬
‫ولمصطلح الدراما حسب هذا المعجم عدة دالالت يحددها السياق‪ .‬فهي في‬
‫المعنى العام ُتطلق «على كل األعمال المكتوبة للمسرح‪ ،‬مهما كان نوعها‪ ،‬فيقال الدراما‬
‫اإلليزابيتية (‪ ،)Drame Elizabet‬ودراما عصر التنوير‪ ،‬والدراما الرومانسية‪ ،‬والدراما‬
‫الطبيعية أو الدراما الهندية‪ ...‬إلخ‪ ،‬وهذا المعنى اإلنجليزي للكلمة‪ ،‬حيث تدل كلمة‬
‫(‪ )Dram‬على المسرح كنص وكتاريخ وكجماليات مقابل كلمة (‪ )Performance‬التي‬
‫يقدم‬
‫تعني العرض أو األداء»(((‪ ،‬كما تشمل «كل عمل تمثيلي من ابتكار الخيال‪ ،‬حتى ولو َّ‬
‫على خشبة المسرح والتمثيليات اإلذاعية والتلفزيونية»(((‪.‬‬
‫أما في الفرنسية فإن «الدراما (‪ )le Dram‬بالمعنى الفرنسي هي نوع مسرحي‪،‬‬
‫ظهـر في القرن الثامن عشر في فرنسا‪ ،‬للداللة على المسرحيات التي تعالج مشكلة‬
‫من مشاكل الحياة الواقعية‪ ،‬فيها خلط بين الجد والهزل‪ ،‬بسبب اهتمامها بتصويـر‬
‫الحقيقة على خشبة المسرح‪ ،‬خالل المحاكاة اإليهامية‪ ،‬وظهـر هذا النوع كرد فعل‬
‫على الجماليات الكالسيكية التي قامت على الفصل بين األنواع وعلى قواعد مسرحية‬
‫صارمة‪ ،‬منها وحدة الزمان والمكان‪ ..‬إلخ‪ ،‬ولم يدم هذا النوع أكثر من عشرين سنة‪،‬‬
‫لكن التسمية ظلت مستعملة للداللة على مسرحية ال يمكن تصنيفها بشكل واضح‬
‫ضمن األنواع المسرحية‪ ،‬وعلى أي عمل فيه صراع درامي»(((‪.‬‬
‫■ الدراما في معجم المسرح لـ (باتريس بافيس)‪:‬‬
‫وبانتقالنا إلى معجم المسرح لـ (باتريس بافيس) نجده يعتبر الدرامي «أحد مبادئ‬

‫((( ماري إلياس‪ ،‬حنان قصاب حسن‪ ،‬المعجم المسرحي‪ ،‬مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،1997‬ص‪.194‬‬
‫((( ماري إلياس‪ ،‬حنان قصاب حسن‪ ،‬المعجم المسرحي‪ ،‬مفاهيم ومصطلحات المسرح وفنون العرض‪ ، ،‬ص‪.194‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.195‬‬
‫((( المرجع السابق نفسه‪.‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪42‬‬


‫دراسات‬

‫بناء النص‪ ،‬والعرض المسرحي الذي يأخذ في الحسبان توتر المشاهد وتتابع مراحل‬
‫الحكاية‪ ،‬من أجل حل العقدة (كارثة أو حل هزلي)»(((‪ .‬وهكذا فإن المسرح الدرامي‬
‫حسب (بافيس) هو المسرح الذي واجهه (بريشت) بالشكل الملحمي‪.‬‬
‫■ الدراما عند محمد الكغاط‪:‬‬
‫يقول‪« :‬إذا انطلقنا من أن المسرح بدأ حركة قبل أن تنضاف إليه الكلمة‪ ،‬وأن الدراما‬
‫باعتبارها حركة قد نشأت داخل المسرح‪ ،‬فإن باستطاعتنا أن نقول‪ :‬إن الدراما أشبه‬
‫بتـركيبة كيماوية لها قوانينها ومواصفاتها الخاصة‪ ،‬وهذه التركيبة تستمد عناصرها‬
‫األولية من بعض الفنون األخرى كالشعر‪ ،‬والرقص‪ ،‬والموسيقى‪ ،‬والتصوير‪ ،‬والنحت‪ ،‬إال‬
‫أن تلك الفنون ال تعيش في داخلها كوحدات متكاملة مستقلة‪ ،‬وإنما تتذاوب كجزئيات‬
‫بعد أن تتخلى عن خصائصها الفردية البحتة في سبيل إيجاد فن جديد له معالمه‬
‫الخاصة‪ ،‬وهو الدراما»(((‪.‬‬
‫من خالل ما سبق فالمسرح الدرامي هو كل مسرح يتخذ من النص غاية مقدسة ال‬
‫يخرج عنه قيد أنملة‪ ،‬ويتخذ الحوار والصراع بين الشخصيات أساس اإلنجاز المسرحي‪،‬‬
‫وهو بتعبير حسن المنيعي ما «يجعل من النص البنية العميقة والمحتوى الرئيس لفـن‬
‫الدراما»(((‪ ،‬وبذلك تصبح الدراما مرآة للواقع؛ ألنها تحاكيه وتصوره وتتنبأ بالمستقبل‪،‬‬
‫وهي تعكس ثقافة المجتمع وآماله‪ ،‬إنها «انعكاس حقيقي لثقافة المجتمع وقيمته وآماله‬
‫وأحالمه‪ ،‬وتطلعاته المستقبلية (‪ ،)...‬فالدراما هي الحياة‪ ،‬نسخة من الحياة‪ ،‬محاكاة‬
‫ـادرا على التعلم‪ ،‬وهذا مــردود إلى أن‬
‫الحياة‪ ،‬وعن طريق المحاكاة يكون اإلنسان قـ ً‬
‫المحاكاة وسيلة من وسائل المعرفة‪ ،‬والمعرفة في حد ذاتها مطلب إنساني»(((‪.‬‬
‫‪ - 2 - 1‬مسرح ما بعد الدراما من نحت المصطلح إلى الماهية‪:‬‬
‫على الرغم من كون المسرح ميدانً ا للتجريب‪ ،‬وإعادة التجريب‪ ،‬منذ الماضي البعيد‪،‬‬
‫تحول بمثل ما عرفه في النصف الثاني من القرن العشرين‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬ ‫إال أنه لم يعرف‬

‫((( باتريس بافيس‪ ،‬معجم المسرح‪ ،‬ترجمة‪ :‬مشال ف‪ .‬خطار‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1‬ص‪.190‬‬
‫((( محمد الكغاط‪ ،‬المسرح وفضاءاته‪ ،‬دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬القنيطرة‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1‬ص‪.172‬‬
‫((( حسن المنيعي‪ ،‬حركة الفرجة في المسرح والواقع والتطلعات‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬ط‪ ،2014 ،1‬ص‪.55‬‬
‫((( ناصر علي محمد أحمد برقي‪ :‬الدراما والتربية‪ :‬بين النظرية والتطبيق‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬ط‪ ،2009 ،1‬ص‪.10‬‬

‫‪43‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫انتفض مسرح (ألفريد جاري) على الجماليات األرسطية‪ ،‬وأعلن القطيعة والعصيان‬
‫عليها‪ ،‬ومعه بدأت التحوالت الجمالية والمعرفية والنقدية في المسرح الغربي‪ ،‬بعد‬
‫أن تم التمهيد لها منذ القرن التاسع عشـر مع ظهور المخرج‪ ،‬وما رافقه من تطورات‬
‫تكنولوجية أدت إلى التعجيل بانبعاث التيارات المسرحية التي مهدت بدورها لتجارب‬
‫الطليعيين‪ ،‬وهم الشيوخ المجـربون‪ ،‬الذيـن انتفضوا على الـرماد األرسطي الذي ظل‬
‫ً‬
‫مبجل لقرون عديدة‪ ،‬وأعلنوا القطيعة مع تعاليمه‪ ،‬وكفروا بمحرابه‪ ،‬ممهديـن لمسرح‬
‫ما بعد الدراما الذي استفاد من فلسفة ما بعد الحداثة ومبادئها‪.‬‬
‫■ فما داللة مسرح ما بعد الدراما؟ وما محدداته؟ وما خصائصه؟‬
‫إن مسرح ما بعد الدراما تسمية لحصر المسرح‪ ،‬الذي تخلص من المعايير األدبية‪،‬‬
‫«حيث عمل هذا المسرح منذ بداية ظهوره مع (هانس تيس ليمان) على االنفالت من‬
‫الدراما التقليدية‪ ،‬ومبادئها وخلخلة المفاهيم والمقوالت المؤسسة للدراما السابقة‪،‬‬
‫من خالل االنفتاح على آفاق رحبة لصناعة الفرجة وعرضها وتلقيها‪ ،‬وكذا االنفتاح‬
‫على جماليات وحساسيات جديدة تمكن المسرح من االنخراط في صلب التحوالت‬
‫الجديدة التي يعيشها العالم اليوم»(((‪.‬‬
‫ووظف مصطلح (ما بعد الدراما) سنة ‪ 1989‬من لدن (أندريز فيرت ‪،)Andrzej wirth -‬‬
‫عندما تقدم بورقة بحثية بجامعة (جسنير) بألمانيا‪ ،‬تحت عنوان (الواقع في المسرح‬
‫مسلطا الضوء على األشكال‬
‫ً‬ ‫باعتباره يوتوبيا جمالية‪ ،‬تحوالت المسرح في بيئة اإلعالم)‪،‬‬
‫المسرحية المعاصرة‪ ،‬حيث تنبأ بفقدان المسرح األرسطي مكانته لصالح أشكال (ما بعد‬
‫الدراما المعاصرة) ُتسمى بمسرح (ما بعد الدراما)‪« ،‬وهو المسرح الذي يقلص دور اللغة‬
‫في مقابل االتساع في استخدام عناصر مسرحية أخرى‪ ،‬مثل عناصر الصوت والرقص‬
‫والسينوغرافيا»(((‪.‬‬
‫وقد عمل (أندريز فيرت) على تحليل العديد من العروض المسرحية التي ُقدمت‬
‫معتمدا في تحليله على‬
‫ً‬ ‫بأوروبا ما بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي‪،‬‬
‫نظـريات التأويل والتلقي‪ ،‬ليستخلص من دراسته هذه «أن شكل المسرح قد تغير‪،‬‬

‫((( فاطمة أكنفر‪ ،‬نحو دراماتورجية بديلة‪ ...‬تناسج الثقافات الفرجوية وأسئلة ما بعد الدراما‪ ،‬مجلة دراسات الفرجة‪ ،‬العدد الثاني‪،‬‬
‫‪ ،2016‬ص‪.89‬‬
‫((( مروى مهدي‪ ،‬ما هو (مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬منشور ضمن كتاب جماعي‪ ،‬الدراماتورجية الجديدة‪ ،‬ط‪ ،2014 ،1‬ص‪.189‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪44‬‬


‫دراسات‬

‫خاصة في فترة ما بعد (بـرتولد بريشت)‪ ،‬وظهر هذا التغيير في االبتعاد عن الحوار‬
‫واللغة‪ ،‬في مقابل استخدام عناصر غير مألوفة في المسرح التقليدي»(((‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تغييرات فعلية في المسرح تهدف‬ ‫ـرارا «أن هناك‬
‫وهكذا أكد (أندريز فيرت) مـ ً‬
‫خاضعا لمقوالت‬
‫ً‬ ‫إلى فك ثنائية الدراما‪/‬المسرح التقليدية»(((‪ً ،‬‬
‫مبرزا أن المسرح ظل‬
‫(أرسطو) إلى أن قلب مسرح الطليعة الحساسيات الكالسيكية‪ ،‬المعتمدة على المقولة‬
‫األرسطية‪.‬‬
‫فضل عن جهود (فيرت)‪ ،‬فقد نشرت (هيلجا فينتر) ً‬
‫مقال سنة ‪ ،1985‬تحت عنوان‬ ‫ً‬
‫(عيون كاميرا مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬وتحدثت عن الهدف نفسه مبرزة الفوارق بين‬
‫أشكال المسرح القديمة والجديدة‪ ،‬حيث المسرح الجديد استطاع أن يخلق ً‬
‫شكل‬
‫جديدا من الدراما(((‪.‬‬
‫ً‬
‫وانتظر البحث العلمي أكثر من عقد‪ ،‬حتى ‪ 1999‬ليقوم (هانز تيس لمان‬
‫‪ )Hans This Lehmann -‬بإصدار كتابه (مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬حيث عمل‬
‫مخضعا المسرحيات التي‬
‫ً‬ ‫ـدودا له‪،‬‬
‫على ضبط المصطلح الجديد‪ ،‬ووضع حـ ً‬
‫قدمت بمسارح أوروبا منذ السبعينيات إلى عام ‪ 1999‬للدراسة والتحليل‪ ،‬من‬
‫أجل استجالء مالمح (ما بعد الدراما) واجتهد في «أن يضع يده على جمالياته‬
‫المغايرة التي تعطي له خصوصية وتميزه من األنواع المسرحية التقليدية‪ ،‬لكي‬
‫كافيا من المفاهيم‬
‫قدرا ً‬ ‫يصل في النهاية لتركيبة جديدة في مجال النقد‪ ،‬تملك ً‬
‫الجديدة التي تناسب شكل المسرح الجديد»(((‪.‬‬
‫وقد قام بالبحث عن المالمح التي تجمع بين مسرحيات القرن العشرين‪ ،‬وأهم‬
‫ما ميزها هو محاربة التقاليد القديمة في المسرح‪ ،‬والتمرد على القواعد الجامدة‬
‫المتوارثة‪.‬‬
‫لقد اختار (ليمان) مصطلح (ما بعد درامي) لنعت هذا النوع من المسرح الذي تمرد‬

‫((( مروى مهدي‪ ،‬ما هو (مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬ص‪.189‬‬


‫((( كريستل فايلر‪ ،‬مسرح ما بعد الدراما‪ ،‬ص‪.8‬‬
‫((( مروى مهدي‪ ،‬ما هو (مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬ص‪.189‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.190‬‬

‫‪45‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫على قواعد أرسطو‪ ،‬ومثلما أن مصطلح (ما بعد الحداثة) يبدأ بسابقة الـ (ما بعد) التي‬
‫انطباعا بوجود شيء سابق أو عالم أقدم ُسمي حداثة»(((‪ ،‬وفي هذا الصدد يؤكد‬ ‫ً‬ ‫«تعطي‬
‫الدكتور خالد أمين «أن بادئة (ما بعد) الملحقة بالدراما معرضة لسوء الفهم نفسه‬
‫الذي تعرضت له الـ «ما بعد» الملحقة بالحداثة‪ ،‬لهذا يجب التأكيد أن بادئة (ما بعد)‬
‫ًّ‬
‫مرحليا يأتي بعد الدراما‪ ،‬أو نسيانً ا للماضي الدرامي‪ ،‬أو إلغاءه‬ ‫تصنيفا‬
‫ً‬ ‫إطالقا‬
‫ً‬ ‫ال تعني‬
‫ًّ‬
‫نهائيا بقدر ما هي استيعاب وتجاوز للدراما في الوقت ذاته»(((‪.‬‬
‫لقد اتخذ (ليمان) مصطلح (مسرح ما بعد الدراما) للداللة على نوع جديد من‬
‫المسرح‪« ،‬قبل أن يدخل مغامرة غير محسوبة‪ ،‬حين قرر االبتعاد عن الدراما وعن‬
‫النصوص المسرحية؛ ألنها لم تكن مناسبة له‪ ،‬مما أدى إلى دخول مغامرة أخرى وهي‬
‫مغامرة هدم القيود والقواعد التقليدية والبحث عن قواعد جديدة تناسبه»(((‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من أن (هانس تيس ليمان) لم يقم بـ «نحت مصطلح مسرح ما بعد الدراما‪،‬‬
‫نسقا أرســى أسسه على جملة مالحظات‬ ‫فإن الفضل يعود إليه في فضيلة جعله ً‬
‫مستفيدا من قربه من (أندريز فيرت ‪ )AndejWirth -‬كمساعد له‪ ،‬في‬
‫ً‬ ‫وفرضيات»(((‪،‬‬
‫شعبة (علم المسرح التطبيقي) في (جامعة غيسن) األلمانية‪.‬‬
‫وجديدا للمسرح‪ ،‬عمل على تقريب‬‫ً‬ ‫ثانيا‬
‫وجها ً‬
‫وهكذا أضحى مسرح ما بعد الدراما ً‬
‫ناهل من حقول معرفة عديدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحضارات المختلفة‪ ،‬ورفض االنطواء واالنعزال‪،‬‬
‫محاول تجاوز إكراهات الهجنة‪ ،‬بعد تقويض التمركز‬ ‫ً‬ ‫داعيا إلى المشترك اإلنساني‬
‫ً‬
‫الغربي‪ ،‬واالنفتاح على أشكال وثقافات مغايرة‪ ،‬من أجل القدرة على االستمرارية‪،‬‬
‫والتطوير بعد أن أدرك الغرب أنه شـريك في الماضي الفكري اإلنساني‪ ،‬وليس المالك‬
‫الوحيد للتراث البشري‪ ،‬فانفتح المسرح الغربي على الشرق‪ ،‬واقتبس مسرحيوه األقنعة‬
‫والرقص الشرقيين‪ ،‬واكتشفوا جماليات جديدة؛ يتميز بها مسرح الـ (نو) والـ (كابوكي)‬
‫اليابانيين والـ (كتالكي) الهندي‪ ،‬ما ساعد المسرح الغربي على ضخ دماء جديدة في‬

‫((( مروى مهدي‪ ،‬ما هو (مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬ص‪.190‬‬


‫((( خالد أمين‪ ،‬الدراماتورجية الركحية وأسئلة ما بعد الدراما‪ ،‬ضمن كتاب جماعي‪( ،‬مسرح ما بعد الدراما) أربع مقاربات‪ ،‬منشورات‬
‫المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة ‪ ،15‬ط‪ ،2012 ،1‬ص‪.84‬‬
‫((( مروى مهدي‪ ،‬ما هو (مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬ص‪.191‬‬
‫((( باتريس بافيس‪ ،‬تأمالت في مسرح ما بعد الدراما‪ ،‬ترجمة‪ :‬المبارك العروسي‪ ،‬مجلة دراسات الفرجة‪ ،‬العدد الثالث‪ ،‬نوفمبر‪،‬‬
‫‪ ،2016‬ص‪.88‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪46‬‬


‫دراسات‬

‫شرايين الفرجة الغربية وتجاوز أزمة المسارح األوروبية وبنياتها المغلقة‪ ،‬وألجل ذلك‬
‫منتقل من محطة إلى أخرى‪ ،‬فمن هجنة األشكال‬ ‫ً‬ ‫ركب المسرح الغربي قطار التجريب‬
‫إلى مرحلة المثاقفة‪ ،‬إلى تناسج الثقافات الفرجوية‪ ،‬انتهاء بمحطة مسرح ما بعد‬
‫الدراما‪ ،‬الذي «يتميز بخاصية أساسية وهي عدم التركيز على النص الدرامي من حيث‬
‫هو وسيط يوجه الحدث المسرحي‪ ،‬غير أن هذا ال يعني اإلقصاء المطلق للنصوص‬
‫الدرامية‪ ،‬بقدر ما هو جنوح إلى تفكيك التقليد األرسطي‪ ،‬الذي وضع تراتبية في‬
‫سيرورة صناعة الفرجة المسرحية‪ ،‬وعلى رأسها النص الدرامي‪ ...‬إنه فرجة مخطط‬
‫لها ومفكر فيها بشكل تشاركي‪ /‬تفاعلي‪ ...‬كما أنه مسرح غير أدبي وهذا المنحى ال‬
‫يلغي شعرية المنجز المسرحي بكل مكوناته‪ ،‬فهو مسرح تجريبي‪ ،‬من حيث الشكل‬
‫والمضمون يهدف إلى خلخلة الطريقة التي نعيش بها ونصنع الفرجة المسرحية من‬
‫خاللها»(((‪.‬‬
‫والخالصة أن مصطلح (مسرح ما بعد الدراما) مصطلح زئبقي؛ أي أنه «مصطلح‬
‫عصي على التعريف ويتسم بالمرونة‪ ،‬ويرجع عدم تحديد هذا المفهوم في رأينا إلى‬
‫نوعا من الضبابية»(((‪ ،‬ذلك أن مسرح (ما بعد الدراما)‬
‫طبيعة المصطلح الذي يحمل ً‬
‫تجاوزا للدراما‪.‬‬
‫ً‬ ‫يجمع بين العناصر الدرامية والعناصـر التي عدت‬
‫وفضل عن مجهودات (ليمان) المؤسسة والمقعدة لمسرح (ما بعد الدراما)‪،‬‬ ‫ً‬
‫فقد ساهمت الباحثة األلمانية (إيـريكا فيشر لشته) «في رصد التغيرات التي لحقت‬
‫بالمسرح في القرن العشرين ونشرت بحثها في كتاب بعنوان (جماليات األداء ‪ -‬نظرية‬
‫في علم جمال العرض)‪ ،‬وركـزت على العرض المسرحي الحي وعلى التجربة الجمالية‬
‫الجديدة‪ ،‬التي عاشها المتفرج في عروض مسرح القرن العشرين»(((‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن هدف كل من (ليمان) و(فيشر) واحد وهو رصد مالمح مسرح‬
‫القرن العشرين‪ ،‬إال أنهما اختلفا في زاوية معالجة الموضوع‪ ،‬ذلك أن (فيشر) نظرت‬
‫إلى مسرح القرن العشرين من جهة العرض‪ ،‬بينما انطلق (ليمان) من زاوية الدراما‪ ،‬ما‬
‫نتج عنه اختالف النتائج المتوصل إليها‪.‬‬

‫((( خالد أمين‪ ،‬المسرح العربي بين الدراماتورجية الركحية وأسئلة ما بعد الدراما‪ ،‬ص‪.84‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫((( مروى مهدي‪ ،‬ما هو مسرح ما بعد الدراما‪ ،‬ص‪.19‬‬

‫‪47‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫‪ - 2‬مسرح (ما بعد الدراما)‪ :‬الخصائص والمالمح‬


‫عمل مسرح (ما بعد الدراما) منذ نحت مصطلحه على محاولة تجاوز المسرح‬
‫الدرامي‪ ،‬والكفــر بتعاليم أرسطو؛ لذلك قام بخلخلة المفاهيم والمقوالت المؤسسة‬
‫للدراما‪ ،‬عبر التشظي وغياب تكامل المشاهد واالنسجام داخل الفضاء المسرحي‪،‬‬
‫عنصرا كباقي‬
‫ً‬ ‫حيث يعلي من الممثل وجسده‪ ،‬والمخرج ورؤيته‪ ،‬في حين يصبح النص‬
‫العناصر‪ ،‬بعد أن كان محور العرض‪ ،‬منه يبتدئ المخرج وإليه يعود‪ ،‬وفي هذا الصدد‬
‫حدد (تيس ليمان) مجموعة من الخصائص والمواصفات التي تميز مسرح (ما بعد‬
‫الدراما) وتتمثل في كونه‪:‬‬
‫‪« -‬مسرح ال يسعى إلى تحقيق شمولية التركيب الجمالي‪ ،‬وإنما يسعى إلى إضفاء‬
‫وحضورا‬
‫ً‬ ‫طابع تشذري لهذا التركيب‪ ،‬الشيء الذي يخول له اكتشاف عالم الفرجة‪،‬‬
‫دوما على الدراما‪.‬‬
‫واسعا لتطوير مكونات مسرح ارتكز ً‬
‫ً‬ ‫وأفقا‬
‫متجددا للفنانين‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬مسرح ال يهتم بالصراعات قدر ما يهتم بوسائل التعبير وتنوعها‪.‬‬
‫موقفا وحالة‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬مسرح ال يرتكز على مبدأ (الحدث والحكاية ‪ ،)fable -‬وإنما يقدم‬
‫محايدا‪ ،‬ومن ثم فالسينوغرافيا تكتسي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فاعل ال‬ ‫عنصرا‬
‫ً‬ ‫كما أن الفضاء يعد فيه‬
‫أهمية ما دام النص لم يعد الدعامة األساسية لإلنجاز المسرحي» ‪.‬‬
‫(((‬

‫‪ -‬مسرح يتسم «بخاصية أساسية هي عدم التركيز على النص الدرامي من حيث هو‬
‫وسيط يوجه الحدث الدرامي»(((‪.‬‬
‫فتم تجاوز النص ومـركـزيته بعد ظهور وظيفة المخرج‪ ،‬مع (أندري أنطوان ‪Andre -‬‬
‫‪ )Antoine‬الذي عمل على تغيير قواعد العمل المسرحي‪ ،‬وإعالن بداية نهاية عصـر‬
‫المؤلفين‪ ،‬وواصل (قسطنطين ستانسالفسكي ‪ )Stanislask Constantin -‬تهميش‬
‫النص‪ ،‬فأولى اهتمامه في الدرجة األولى لتكوين الممثل أكثر من العمل على النص‪،‬‬
‫ويضم كتابه (إعداد الممثل) خالصة تجربته ومنهاجه في تكوين الممثل‪.‬‬
‫والخالصة أن مسرح (ما بعد الدراما) ال يعترف بسلطة النص وال بقدسيته‪ ،‬فهو‬

‫((( حسن المنيعي‪ ،‬المسرح العربي ما بعد الدراما‪ ،‬ضمن كتاب جماعي (مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬أربع مقاربات‪ ،‬المركز الدولي‬
‫لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة ‪ ،15‬ط‪ ،1‬مارس ‪ 2012‬ص‪.19-18‬‬
‫((( خالد أمين‪ ،‬المسرح العربي بين الدراماتورجية الركحية وأسئلة ما بعد الدراما‪ ،‬ص‪.91‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪48‬‬


‫دراسات‬

‫يتمرد على الكتابة الخطية ويسعى إلى تأسيس كتابته الخاصة‪ ،‬إنها الكتابة بالجسد‪،‬‬
‫وال يقوم على مبدأ الفعل والقصة وال تهمه الرسالة بل تهمه طريقة األداء؛ ألنه مسرح‬
‫وموقفا كما يهدف إلى استفزاز هيمنة السرد األحادي والتطور الخطي‬ ‫ً‬ ‫يعكس حالة‬
‫لألحداث‪ ،‬ذلك أن العناصر المشكلة لإلخراج والسينوغرافيا واألداء‪ ،‬لم تعد تابعة‬
‫للنص الدرامي‪ ،‬مسرح يسعى إلى خلق نوع من التشظي وغياب االنسجام داخل العرض‬
‫ثقافيا أن يعرض إمكانيات الجسد‪ ،‬ويسمح‬ ‫ًّ‬ ‫المسرحي‪ ،‬ويتيح للممثل بوصفه ً ّ‬
‫نصا‬
‫للمتلقي باكتشاف ذاته والعالم‪ ،‬ويتخلص من اإليهام الذي تمارسه التقاليد الدرامية‬
‫السابقة‪ ،‬مسرح يتمرد على التقاليد المسرحية األرسطية‪ ،‬ويتخذ التجريب عقيدة‪.‬‬
‫‪ - 1 - 2‬مسرح (ما بعد الدراما) نحو كتابة جديدة‪:‬‬
‫إن تاريخ المسرح «يؤكد أن أغلب الفرجات انبثقت من نصوص مسرحية مكتوبة»(((‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وإذا كان النص المسرحي في المسرح الدرامي يعد منطلق الفرجة المسرحية ونهايتها‬
‫واحدا من عناصر بناء الفرجة‪ ،‬بل إن دوره ُقزم‬
‫ً‬ ‫فإنه صار مع مسرح (ما بعد الدراما)‬
‫وحجم‪ ،‬ولعل تجربة (تادوش كانتور ‪ )Tadeusz Kantor -‬تعد من التجارب المسرحية‬ ‫ُ‬
‫منطلقا تحوم حوله العملية‬
‫ً‬ ‫مركزا أو‬
‫ً‬ ‫«شريكا ‪ pratenaire‬وليس‬
‫ً‬ ‫التي جعلت النص‬
‫منطلقا أو نقط َة بداية‪ ،‬حيث‬
‫ً‬ ‫ينف (كانتور) أهمية النص‪ ،‬ولكنه لم يتخذه‬‫اإلبداعية‪ ،‬لم ِ‬
‫إنه يسعى إلى إبداع مسرح للحركة‪ ،‬والصمت والطقوس‪ ،‬مسرح الموت‪ ،‬لذلك عول على‬
‫االرتجال من أجل صياغة النص وبداية اللعب»(((‪.‬‬
‫رجــات مهولة أنزلت النص من‬ ‫وقد شكلت هذه التغيرات التي عرفها المسرح‪ّ ،‬‬
‫سيادة عرشه‪ ،‬وتمت مراجعة مكانته ضمن فنون العرض‪ ،‬وتتعدد مواقف النقاد‬
‫ورجاالت المسرح المناهضة للنص‪ ،‬ولعل موقف (أنطونان أرتو) من أبرز المواقف‬
‫إلها يأمر وينهي دون مانع أو‬
‫تجاه المؤلف ونصه‪ .‬بعدما «أضحى المؤلف المسرحي ً‬
‫ً‬
‫طويل من الزمن إلى ديكتاتورية النص والمؤلف‪،‬‬ ‫ردحا‬
‫رادع‪ ،‬وبذلك خضع المسرح ً‬
‫وفقدت حتى الكلمات قيمتها الداللية العميقة من فرط استعمالها المجاني»(((‪ ،‬وبما‬
‫((( حسن يوسفي‪ ،‬في االفتتان المعرفي بالمسرح‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة رقم ‪ ،44‬ط‪ ،2017 ،1‬ص‪.81‬‬
‫نموذجا‪ ،‬ضمن كتاب المسرح اليوم‪ :‬الكتابة وفن األداء‪،‬‬
‫ً‬ ‫((( ياسين عوني‪ ،‬فنون العرض بين حضور النص وغياب العرض األدائي (إذا)‬
‫منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬ط‪ ،2017 ،1‬ص‪.93‬‬
‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬دائرة الثقافة واإلعالم‪ ،‬حكومة الشارقة‪ ،‬دولة اإلمارات العربية‬
‫المتحدة‪ ،‬ط‪ ،2014 ،1‬ص‪.115‬‬

‫‪49‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫أن «اللغة الكالمية محدودة‪ ،‬وال يمكنها التعبير عن كل المواقف والمشاعر التي يمكن‬
‫أن تنتاب اإلنسان‪ ،‬لهذا السبب‪ ،‬عمل (أرتو) على جعلها مجرد عنصر من العناصر‬
‫المكونة لمجموع نسق العرض‪ ،‬وفسح المجال للغة الهيروغليفية ‪ /‬الجسدية لتطفو‬
‫على السطح‪ ،‬وتعبر ببالغة عما تعجز عنه اللغة الكالمية»(((‪ .‬ومن ثم فقد ناصر (أرتو)‬
‫العرض‪ ،‬وجعل النص تحت إمرة المخرج يتصرف فيه كما يشاء‪ ،‬حيث «جعل من النص‬
‫المسرحي نقطة انطالق للمخرج الذي يتصرف فيه كما يحلو له‪ ،‬إلى درجة أنه يمكنه‬
‫أن يلغيه إذا كان ذلك يخدم تصوره اإلخراجي ورؤيته الجمالية»(((‪ ،‬ومن ثم عمل (أرتو)‬
‫على إعادة االعتبار للجسد بعد اإلهمال الذي طاله‪ ،‬مقابل االهتمام بالنص‪ ،‬ذلك‬
‫أن التداول المبتكر للغة‪ ،‬أفقدها وهجها‪ ،‬وبذلك يتم «قتل الكلمات وإفقارها بفعل‬
‫تفرغ من كل طاقتها لتصير مبتذلة وغير ذات بال‪ ،‬فتفقد بذلك‬ ‫تكرارها‪ ،‬ومن ثم َّ‬
‫قدرتها على العطاء واإليحاء وتوليد األفكار والتصورات» ‪ ،‬وهكذا عمل (أرتو) على‬
‫(((‬

‫تجاوز اللغة الكالمية‪ ،‬وتدميرها حتى يتسنى له تجاوز واقع المسرح الغربي‪ ،‬الذي‬
‫دخل مرحلة حرجة‪ ،‬إنها مرحلة اإلنعاش‪ ،‬وضخ األكسجين في جسد المسرح الغربي‬
‫من خالل االستفادة من المسرح الشرقي الذي يعلي من قيمة الجسد مقابل اللغة التي‬
‫عمل (أرتو) على «الحد من هيمنتها على المسرح‪ ،‬وإفساح المجال لباقي الوسائل‬
‫تصورا‬
‫ً‬ ‫التعبيرية األخرى التي هي من طبيعة مسرحية قحة»(((‪ ،‬وألجل ذلك فقد بلور‬
‫جديدا يجعل من اللغة وسيلة محدودة من بين وسائل أخرى‪ ،‬تنصهر وتتكامل فيما بينها‬
‫ً‬
‫لبناء فرجة مسرحية شاملة ال يطغى هذا الجانب على ذلك‪ ...‬و ُيعد نص (فصل بال‬
‫كامل‪ ،‬بل صار‬‫حوارا ً‬
‫كلمات) لـ (صمويل بكيت) دعوة إلى مراجعة النص‪ ،‬حيث لم يعد ً‬
‫تدوينا لحركات وأفعال‪ ،‬أو باألحرى إشارات ركحية»(((‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن هنا فقد عمل مسرح (ما بعد الدراما) على التأسيس لوعي جديد‪ ،‬بالظاهرة‬
‫المسرحية‪ ،‬وبسط فرش نظري‪ ،‬يواكب تحوالت الفرجة واألسئلة التي باتت تطرحها‪،‬‬
‫و«تجديد التفكير في المسلمات التي توارثها المسرحيون؛ ألجل إعادة فحص تقاليد‬
‫النص الدرامي‪.‬‬
‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.116-115‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪.116‬‬ ‫(( (‬
‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪.119‬‬ ‫((( ‬
‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪.124‬‬ ‫((( ‬
‫ياسين عوني‪ ،‬فنون العرض بين حضور النص وغيابه‪،‬ص‪.93‬‬ ‫((( ‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪50‬‬


‫دراسات‬

‫إن المسرح عمل جماعي‪ ،‬تتعاون وتتكامل فيه العديد من العناصر‪ ،‬ذلك أن «عبر‬ ‫َّ‬
‫التاريخ كتبت إبداعات درامية‪ ،‬لتظل الدراما‪ ،‬كما عبر عن ذلك (ماكس هيرمان)‪،‬‬
‫فرديا‪ ،‬بينما المسرح إبداع للمتفرجين والعاملين فيه‪ ،‬نحن بصدد تثمين ما‬ ‫ًّ‬ ‫إبداعا‬
‫ً‬
‫تنجزه الجماعة كل من زاوية اختصاصه» ؛ ولذلك فإن الفرجة التي يعمل مسرح (ما‬
‫(((‬

‫بعد الدراما) على صناعتها فرجة ال ترتكز على النص المسرحي بمواصفاته الصارمة‪،‬‬
‫حيث «يبدأ بقصة تتطور شيئً ا فشيئً ا نحو االنتهاء‪ ،‬إنه مسرح يستند على صناعة‬
‫مرورا بالنص‪ ،‬كمساهم‬ ‫ً‬ ‫بمواد متنوعة‪ ،‬أولها الجسد‪ ،‬وأداؤها على الخشبة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الفرجة‬
‫وصول إلى الوسائط المتعددة وما تطرحه من جماليات وتقنيات جديدة‬ ‫ً‬ ‫في الفرجة‬
‫على مستوى التأليف والعرض والتلقي» ‪ ،‬وبذلك أضحى مسرح (ما بعد الدراما) ذا‬
‫(((‬

‫لغة كوراغرافية ‪choragraphie‬؛ «أي كتابة بالفضاء والزمن والجسد ال بالنص »(((‪ ،‬كما‬
‫يقول (هانس تيس ليمان)‪.‬‬
‫‪ - 2 - 2‬مسرح (ما بعد الدراما) من توظيف التكنولوجيا إلى جمالية الوسائط‪:‬‬
‫لم يقتصر تأثير العصر الرقمي على الصناعات وطرق اإلنتاج خالل العقدين‪،‬‬
‫األخيرين من القرن الماضي‪ ،‬وإنما امتد ليشمل جانب المعرفة واإلعــام والثقافة‬
‫عموما‪ ،‬وذلك راجع لسلسلة من االختراعات التكنولوجية‪ ،‬التي ساهمت بشكل أو‬ ‫ً‬
‫بآخر في تطور الحركة المسرحية‪ ،‬ولعل اكتشاف اإلضاءة من بين األمثلة على ذلك‬
‫فضل عن «سلسلة من االختراعات التقنية‪( ،‬كالصحافة المطبوعة‪ ،‬والراديو‪ ،‬والسينما‬ ‫ً‬
‫والتلفزيون‪ ،)...‬واآلالت اإللكترونية من أجل معالجة المعطيات كالحواسيب»(((‪ .‬ووسائل‬
‫مكنت تلك المبادرة من‬ ‫االتصال السلكية والالسلكية‪ ،‬و«إطالق شبكة األنترنيت‪ ،‬حيث ّ‬
‫مضاعفة عرض المضامين والخدمات ووضعها رهـن إشارة المتصفحين»(((‪.‬‬
‫لقد أضحت هذه الحركية ذات تأثير بدأ يتجلى شيئً ا فشيئً ا‪ ،‬و«أصبحت السيرورة‬
‫الوسائطية تضع اللغات الواصفة موضع تساؤل‪ ،‬كما تستلزم دفع الجمهور إلى اختيار‬

‫((( الزهرة مكاش‪ ،‬تجربة الكتابة الركحية‪ ،‬حوار مع عبد المجيد الهوس‪ ،‬ضمن كتاب جماعي (المسرح اليوم‪ :‬الكتابة وفن األداء)‪ ،‬ص‪.116‬‬
‫((( فاطمة أكنفر‪ ،‬نحو دراماتورجية بديلة‪ ،‬تناسج الثقافات الفرجوية وأسئلة ما بعد الدراما‪ ،‬ص‪.90‬‬
‫((( حسن المنيعي‪ ،‬المسرح العربي ما بعد الدراما‪ ،‬ضمن كتاب (المسرح والوسائط)‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫((( ريمي ريفيل‪ ،‬الثقافة الرقمية ثورة ثقافية‪ ،‬ترجمة‪ :‬سعيد بلمبخوت‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬عدد ‪ ،462‬يوليو‪ ، 2018 ،‬ص ‪.25-24‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.25‬‬

‫‪51‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫إشكالية التمثيل المسرحي باستحضار وسيط معين ضمن وسيط آخر‪ ،(((»...‬وهكذا‬
‫صارت التكنولوجيا تتكلم من خاللنا‪ ،‬شئنا أم أبينا‪ ،‬لكن األفضل عدم تجاهل األمر(((‪.‬‬
‫التأقلم مع كل العصور واحتواء كل جديد واستيعابه؛ لذلك فقد‬ ‫وللمسرح قابلية ّ‬
‫استطاع الخروج من كل األزمــات التي مر بها وأضحى أكثر قوة‪ ،‬ووظف كل جديد‬
‫لتجديد نفسه‪ ،‬وأقحم التكنولوجيا في بناء العروض المسرحية‪ ،‬وعرضها سواء بشكل‬
‫مباشر أو مسجل‪ ،‬وما دام المسرح كما يقول الدكتور خالد أمين‪« :‬وسيط موسع يعرض‬
‫وسائط أخــرى»(((‪ ،‬فقد صار «سؤال الوسائط في المسرح‪ ،‬خالل السنوات األخيرة‬
‫ملحا مع التوافر المتزايد لمختلف تقنيات البث الرقمي؛ لذلك يصعب تجاهل مدى‬ ‫ًّ‬
‫تأثير كل هذه الوسائط على بعضها البعض من جهة‪ ،‬وعلى الفرجة المسرحية الحية‬
‫من جهة أخرى»(((‪ ،‬حيث استقطبت الوسائط فنون الفرجة‪ ،‬لما توفره من إمكانيات‬
‫مساعدة لتحقق الفرجة‪ ،‬وتمكنت الوسائطية من فرض نفسها‪ ،‬بل استهوتها العديد‬
‫جديدا في مجال دراسات الفرجة‪ ،‬حيث‬‫ً‬ ‫ًّ‬
‫تجريبيا‬ ‫من الفنون‪ ،‬إذ «تعد الوسائط ً‬
‫حقل‬
‫تقتحم التقنية ميدان الدراماتورجية‪ ،‬وتجعلها مشرعة على رحابة الفنون األخرى‬
‫والوسائط المتنوعة‪.(((»...‬‬
‫إن انفتاح المسرح على باقي فنون المدينة كما يرى الدكتور خالد أمين(((‪ ،‬قد‬
‫بدأ منذ اإلغريق القدامى‪ ،‬لكن «انتشار الوسائطية كخاصية مهيمنة يعده الكثيرون‬
‫من سمات مسرح ما بعد الدراما‪ ،‬وهذا ما دفع عدد من المتتبعين إلى الحديث عن‬
‫(منعطف وسائطي في المسرح)‪ ،‬حيث تواتر االشتغال بالتقنيات الرقمية في الفرجة‬
‫المسرحية‪ ،‬وقد أدى هذا االشتغال بدوره إلى خلخلة مفهوم المسرح»(((‪.‬‬
‫أملته التحوالت‬ ‫ًّ‬
‫حتميا‪ْ ،‬‬ ‫ـدرا‬
‫وهكذا أضحت «عالقة المسرح بوسائل االتصال قـ ً‬
‫السوسيو‪ -‬ثقافية المواكبة للثورة التكنولوجية الحديثة‪،‬؛ التي لم تسلم من تأثيرها‬

‫((( خالد أمين‪ ،‬المسرح العربي بين الدراماتورجيا الركحية وأسئلة ما بعد الدراما‪ ،‬ص‪.82-81‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.81‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.80‬‬
‫((( مجموعة من الباحثين‪ ،‬المسرح والوسائط‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة دراسات الفرجة ‪ ،20‬ط‪ ،2012 ،1‬ص‪.7‬‬
‫((( المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.8‬‬
‫((( المرجع السابق نفسه‪.‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪52‬‬


‫دراسات‬

‫مختلف الفنون»(((‪ .‬وذلك بعد التحول إلى ثقافة الصوت والصورة والميديا‪ ،‬فزالت‬
‫أنواعا جديدة من النصوص‬ ‫الحدود بين الحقول المعرفية‪ ،‬واتسع مفهوم النص ليشمل ً‬
‫المرئية لم تشملها الدراسة من قبل كالوسائط الجماهيرية وما يرتبط بالثقافة‬
‫البصرية‪ ،‬فوجد المسرح نفسه مرغما على تطوير سيرورته اإلنتاجية‪ ،‬وأشكال ّ‬
‫تلقيه‬ ‫ً‬
‫في خضم تحول المجتمعات الحديثة إلى مجتمعات للفرجة بامتياز‪ ،‬وحتى ال يبقى‬
‫ًّ‬
‫وسائطيا»(((‪ ،‬هذا االنفتاح على‬ ‫فنا محدود األثر «بات عليه ضرورة أن يصبح‬‫المسرح ً ّ‬
‫الوسائط والتكنولوجيا‪ ،‬كان من أجل إيجاد بديل للدراماتورجيا الكالسيكية‪ ،‬والبحث‬
‫عن دراماتورجيا بديلة‪ ،‬تعمل على االستفادة من الفضاء اإللكتروني‪ ،‬من أجل حل‬
‫إشكاليات اإلخراج والتمثيل والسينوغرافيا‪ ،‬ما ساهم في تحديد الخبرة الجمالية‪،‬‬
‫وعجل بانفتاح المسرح على الوسائط‪ ،‬وهو األمــر الــذي «قــوض العديد من الرؤى‬
‫السابقة حول مفهوم الممثل والسينوغرافيا‪ ،‬كما أعاد النظر في دور المؤلف والمخرج‬
‫المسرح َّيين‪ ،‬بحيث لم تعد السيرورة اإلبداعية المسرحية قضية متخ َّيل وحسب‪ ،‬وإنما‬
‫أصبحت قضية تقنية‪ ،‬واالعتماد على مهندسي المعلومات وتقنيي الوسائط الجديدة‬
‫معا»(((‪ .‬ويتجلى هذا األمر لدى العديد‬
‫لبناء هذه الفرجة‪ ،‬على صعيدي التصور واإلنجاز ً‬
‫من المخرجين الكبار غربيين وعرب‪ ،‬ومنهم (كريستوف شلينجشليف) في عرضه‬
‫(أرجوكم أحبو عيد الصفح)‪ ،‬و(راسيل ماليفانت ‪ )Russel maliphant -‬في عرضه (ال‬
‫تلقى الظالل)‪ ،‬ومن العرب نذكر (مروى مهدي‪ ،‬يوسف الريحاني‪ ،‬عبد المجيد الهوس)‪،‬‬
‫حيث يعملون على االستفادة من التكنولوجيا وشتى أنواع الوسائط الرقمية‪ ،‬ويدخلونها‬
‫في بناء العرض المسرحي‪ ،‬لكن أال يشكل اقتحام الوسائط لحصون الفرجة موت هذه‬
‫نقطة النهاية؟ وهو األمر الذي توجس منه (ريجيس دوبري ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫األخيرة ووصولها إلى‬
‫‪ ،)Régis Debray‬حيث قال‪« :‬عبر الفوتوغرافيا والسينما والحاسوب‪ ،‬استطاعت آالت‬
‫البصر في قرن ونصف بانتقالها من الكيميائي إلى الرقمي أن تحتوي الصورة القديمة‬
‫التي يصنعها اإلنسان بيديه‪ ،‬وقد نتج عن ذلك شاعرية جديدة؛ أي إعادة تنظيم عالم‬
‫الفنون البصرية‪ ،‬وفي هذه الرحلة دخلنا في عصر الشاشة بوصفه تقنية وأخالقية ال‬

‫((( حسن يوسفي‪ ،‬الفرجة الوسائطية وخلخلة المفاهيم المؤسسة للمسرح ‪ ،‬ضمن كتاب (المسرح والوسائط)‪ ،‬ص‪.45‬‬
‫((( المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.49‬‬

‫‪53‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫تشكل ذروة (مجتمع الفرجة)‪ ،‬وإنما تعلن عن نهايته»(((‪ ،‬وحسب الدكتور خالد أمين‬
‫(((‬

‫فإن الوسائطية داخل الفرجة المسرحية تتمظهر من خالل مستويين‪:‬‬


‫‪ -‬المستوى األول‪ :‬يتجلى في كيفية األداء المباشر للممثل داخل فضاء فرجوي‪،‬‬
‫مباشرا لحركة هذا األخير‪.‬‬
‫ً‬ ‫ما يبرز أيضا ً ّبثا‬
‫‪ -‬المستوى الثاني‪ُ :‬يعنى بجماع التعقيدات التي تطرحها بعض األعمال مثل‬
‫صورا مسجلة ً‬
‫قبل‪،‬‬ ‫فرجات (‪ )Robert Lopage‬التي تعتمد شاشات متعددة‪ ،‬تبث فيها ً‬
‫وأخرى مباشرة‪ ،‬كما يعتمد (لوباج) على نظام صوت قوي وآليات دينامية‪ ،‬تعيد ترتيب‬
‫ومؤدين فوق الخشبة‪ ،‬كل هذا التنويع يؤدي إلى‬‫ّ‬ ‫الفضاء الفرجوي وتقنيات أخرى‬
‫دوما‬
‫تجربة معقدة‪ .‬وعلى الرغم من أن المسرح عتيق‪ ،‬يحمل عبق التاريخ إال أنه كان ً‬
‫يجدد نفسه‪ ،‬ويأخذ من كل عصر ما يفيده ويطوره‪ ،‬واستفاد أشد استفادة من عصر‬
‫التكنولوجيا والثورة الصناعية والعولمة‪ ،‬ما ساهم في خلخلة المسرح من الداخل‪،‬‬
‫وهو الذي ُيعرف أنه ثورة على القوالب الجاهزة‪ ،‬تسعى إلى خلق فرجة مفتوحة على‬
‫كل الوسائط‪ ،‬وفرض عليه إعادة النظر في هويته وجوهره‪ ،‬ولذلك فإن التكنولوجيا‬
‫الجديدة‪ ،‬وانتشار وسائل البث واإلرسال المباشر والمسجل‪ ،‬وسهولة الولوج إلى العالم‬
‫االفتراضي سيجعل العروض المسرحية في متناول الجمهور في كل شبر من األرض‪،‬‬
‫ويبشرنا بأن المسرح تنتظره أيام زاهرة‪.‬‬
‫لقد شكل مسرح (ما بعد الــدرامــا) مرحلة جديدة‪ ،‬قدمت للمسرح دماء‬
‫جديدة‪ ،‬وأخرجته من قوقعته‪ ،‬وزودتــه بحساسيات جديدة مكنته من إعادة‬
‫االعتبار للفرجة المسرحية ومنافسة باقي أشكال الفرجة بقوة‪ ،‬حتى أصبحنا‬
‫اليوم أمام مهرجانات مسرحية تبث فرجتها مباشرة عبر (اإلنترنيت) وتقدم‬
‫فرجة رابسودية هجينة‪.‬‬
‫لكن ما كان للمسرح أن يصل إلى ما وصل إليه لوال جهود الشيوخ المسرحييــن‬
‫الطليعيين من أمثال (برتولد بريشت‪ ،‬وأنطونان أرتو‪ ،‬وصامويل بيكيت)‪.‬‬

‫((( يوسف الريحاني‪ ،‬نهاية مجتمعات الفرجة‪ ،‬اإلجابة عن سؤال ما هي الدراماتورجية البديلة ضمن كتاب (الدراماتورجية الجديدة)‪،‬‬
‫األشكال الخاصة بطالئع األلفية الثالثة‪ ،‬المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة رقم ‪ ،23‬ط‪ ،2014 ،1‬ص‪.229‬‬
‫((( خالد أمين‪ ،‬المسرح العربي بين الدراماتورجية الركحية وأسئلة ما بعد الدراما‪ ،‬ص‪.82‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪54‬‬


‫دراسات‬

‫نموذجا)‬
‫ً‬ ‫‪ - 3‬البواعث األولية لما بعد الدراما (المسرح البريشتي‬
‫ًّ‬
‫واجتماعيا‪ ،‬كان‬ ‫ًّ‬
‫واقتصاديا‬ ‫ًّ‬
‫فكريا‬ ‫إن المتغيرات الكبرى التي عرفها العالم الغربي‬
‫لها صداها في عالم اإلبداع والفن‪ ،‬باعتبار هذا األخير مرآة تعكس هيئة المجتمع‬
‫مخاضا‬
‫ً‬ ‫بدءا من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر‬ ‫وحالته‪ ،‬ذلك أن العالم خاض ً‬
‫جذريا على جميع المستويات‪ ،‬أعاد لإلنسان وهجه‪ ،‬فكانت بداية القرن العشرين‬ ‫ًّ‬
‫بداية لظهور مجموعة من المؤلفات في شتى العلوم والفنون‪ ،‬كما «شهد العقد األول‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫والثاني من القرن العشرين ميالد ونضوج مجموعة ال ُيستهان بها من ك ّتاب المسرح‪،‬‬
‫مثل (بيتس) و(سنج) و(بنابنتي) و(سيرا) و(جوركي) و(أندريف) و(لنرمادوبرناد)‪ ،‬وقد‬
‫ُقدر لهؤالء أن يعملوا على إثراء المسرح في الفترة المباشرة السابقة للحرب العالمية‬
‫األولى أو في أثنائها‪ ،‬كما ُقدر لتأثيرهم أن يندفع بالمسرحية في اتجاهات جديدة»(((‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن التجريب رديف المسرح منذ بداياته األولــى‪ ،‬إال أن المسرح‬
‫عرفه بوتيرة غير مسبوقة في القرن العشرين‪ ،‬إذ عرفت فنون عديدة التجريب قبل‬
‫المسرح‪ ،‬كالرقص والتصوير والتشكيل والموسيقى‪ ،‬فـ «سعت هذه الفنون إلى البحث‬
‫عن خصوصيتها المميزة لها‪ ،‬بعد أن أدرك المصورون على نحو خاص الحاجة إلى خلق‬
‫لغة‪ ،‬تستطيع أن ّ‬
‫تهشم الحياة حتى ال نعود نرى الوجه نفسه»(((‪ ،‬في المقابل بقي المسرح‬
‫متأخرا في اعتماد البحث والتجريب حتى تفاجأ المخرجون المسرحيون بالقدرات‬ ‫ً‬
‫الهائلة‪ ،‬التي باتت تعرفها السينما التي صارت تعرض الحياة والواقع المعيشي‪ ،‬ما‬
‫«أرغم المسرحيين على حتمية تجاوز االتجاه الطبيعي‪ ،‬بحثً ا عن المسرح وخصوصيته‬
‫وهويته الفنية المفقودة‪ ،‬وقد اقتنع المسرحيون وال سيما المخرجين بأن المسرح ال‬
‫االلتماعات التي تطاولها‬
‫ِ‬ ‫يجب أن يصور الواقع اليومي على نحو طبيعي‪ ،‬بل يصور ذلك‬
‫الكلمات»(((‪ ،‬وهكذا تعددت المذاهب‪ ،‬واختلفت المدارس المسرحية‪ ،‬حتى أصبح لكل‬
‫كاتب مسرحي شخصيته الفنية ومذهبه الخاص‪ ،‬وسنركز على المسرح الملحمي باعتباره‬
‫من المدارس المسرحية التي شكلت أرضية لمسرح ما بعد الدراما‪ ،‬وسنسلط الضوء‬
‫على تجربة (برتولد بريشت) وجهوده في تقويض المسرح األرسطي‪.‬‬

‫((( جمعة أحمد قاجة‪ ،‬المدارس المسرحية وطرق إخراجها منذ عصر اإلغريق حتى العصر الحاضر‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬والفنون والتراث‬
‫وإدارة الثقافة والفنون‪ ،‬ط‪ ،2009 ،1‬ص‪.135‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.145‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.146‬‬

‫‪55‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫‪ -‬المسرح الملحمي‪ :‬تجربة (برتولد بريشت)‬


‫على الرغم من أن الملحمة ضاربة في القدم‪ ،‬فهي رفيقة الدراما اإلغريقية‪ ،‬حيث‬
‫كان لهما حضور متميز في الطقوس الديونيزوسية اإلغريقية القديمة‪ ،‬إال أن المسرح‬
‫الملحمي شكل ثورة على كل مبادئ المسرح القديمة‪ ،‬واعتبر جماليات (أرسطو) «تراثً ا‬
‫قديما يتسم باالنحطاط األخالقي‪ ،‬وأصبح يمثـل طبقة طفيلية»(((‪.‬‬
‫ً‬
‫بمد التنوير الذي عاشته إنجلترا وفرنسا‬
‫وعلى الرغم من تأخر ألمانيا في اللحوق ِّ‬
‫في أوائل القرن السابع عشر‪ ،‬إذ كانت ترزح في نير التخلف واالنحطاط والتمزق‪ ،‬إال أنها‬
‫سرعان ما انطلقت مع الثلث األخير من القرن التاسع عشر‪ ،‬محاولة اللحوق بركب الحضارة‬
‫والتقدم‪ ،‬خاصة بعد توحيد ألمانيا تحت ملك واحد على يد (بيسمارك) (‪.)1985-1815‬‬
‫لقد استفادت ألمانيا من النهضة المسرحية التي كانت تعرفها إنجلترا وفرنسا‪ ،‬إذ‬
‫أحدث ظهور الكاتبين‪( :‬يوهان كريستوف كوتشيد ‪)Johan Christoph Gottsched -‬‬
‫متأثرا بالمسرح الفرنسي ويؤيد تقليده‪ ،‬و(كوتلود أفرايم‬
‫ً‬ ‫(‪ ،)1766 - 1700‬الذي كان‬
‫متأثرا هو اآلخر‬
‫ً‬ ‫لسنك ‪ ،)1781 - 1792( )Gotthold EphrainLessing -‬الــذي كــان‬
‫بالمسرح اإلنجليزي ويدعو إلى تقليده‪.‬‬
‫تنافسا ً ّ‬
‫حادا بين التيارين‪ ،‬ما نتج عنه ظهور الفرق المسرحية‬ ‫ً‬ ‫وهكذا عرفت ألمانيا‬
‫وتأسيس المسارح‪ ،‬وأثمر كل ذلك حركة ثقافية نشيطة ظهر معها بــوادر التنظيم‬
‫متأثرا هو اآلخر بالمسرح اإلنجليزي‪ ،‬الذي جعل من ألمانيا تسابق‬
‫ً‬ ‫المسرحي‪ ،‬الذي كان‬
‫الخطا للحوق بالنهضة المسرحية األوروبية وأخذ زمام المبادرة‪ ،‬فبدأت اإلرهاصات‬ ‫ُ‬
‫األولى للنظرية الملحمية بالظهور‪ ،‬وقد كان لحركة (العاصفة واالندفاع) األدبية (‪Strun‬‬
‫بارزا‪،‬‬ ‫‪ )und Dring) (1767- 1758‬التي م َّثلها (غوته)‪( ،‬شيلير)‪( ،‬لسنك)‪ ،‬و(هردر) ً‬
‫دورا ً‬
‫ودعوا إلى «تحريرها من جميع‬ ‫أعطوا األهمية الكبرى للعبقرية الشخصية‪َ ،‬‬ ‫فهم الذين َ‬
‫معيقاتها‪ ،‬وتشجيع ظهور أدب ألماني وطني يوازي أدب شكسبير»(((‪ ،‬وساهم هذا كله‬
‫في إنجاب ّكتاب متميزين في تاريخ المسرح الحديث‪« ،‬الذين كانوا سبّ اقين إلى التمرد‬
‫على الدراما التقليدية بمفهومها األرسطي»(((‪ ،‬ومن هؤالء الذين وضعوا أسس المسرح‬

‫((( عبد الرحمن بن إبراهيم‪ ،‬النظرية النقدية في المسرح الغربي‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬المغرب‪ ،2017 ،‬ص‪.212‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.195‬‬
‫((( المرجع السابق نفسه‪.‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪56‬‬


‫دراسات‬

‫الملحمي‪ ،‬ومهدوا للنظرية الملحمية‪( :‬كريسيان ديتريس كرابه ‪-‬‬


‫‪Chiristan Dietrich‬‬
‫‪ ،)Grabbe) (1801- 1837‬و(جورج بوشنر) (‪ ،)1837 1862-‬و(جيرهارت هوبيتمان‬
‫‪ ،)1946 - 1862( )Gerhart Huptman -‬و(فــرانــك فيدة كند ‪)Frank WedeKind -‬‬
‫(‪.)1918 - 1864‬‬
‫إن هؤالء األعالم يتقاسمون الموقف نفسه من الواقع اإلنساني‪« ،‬فالمسرح بالنسبة‬
‫لهم مرآة عاكسة لسخرية الحياة ولمأساة اإلنسان‪ ،‬المتمثلة في عزلته واغترابه‪ ،‬وإذا‬
‫كانت البطولة في المسرح الدرامي هي اإلتيان باألفعال النبيلة والقيام باألدوار الكبيرة‬
‫وحسب‪ ،‬فإنها في مسرح هؤالء أمست بطوالت الحرمان والعجز والبؤس واإلحباط‬
‫ً‬
‫فاشل‬ ‫وفاقدا لحريته وإلرادتــه‪،‬‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫سلبيا‬ ‫واالنكسار‪ ،‬ويبدو اإلنسان في مسرح هؤالء‬
‫وعاجزا عن اتخاذ القرار»(((‪ ،‬إذ صارت تتحكم باإلنسان قوى تاريخية وغيبية توجهه‬ ‫ً‬
‫وتتحكم في تصرفاته‪ ،‬إذ أصبح دمية تحكمه قيم وعادات اجتماعية يعجز عن فهمها‪،‬‬
‫أمس الحاجة إلى مسرح بديل‪ ،‬يسلط الضوء على معاناته ويسخر منها‪،‬‬ ‫فأضحى في ِّ‬
‫ويكشف زيف الحياة وبؤسها‪ ،‬فيميط اللثام عن وجهها البغيض‪ ،‬وهو ما سيتمظهر في‬
‫المسرح الملحمي مع (برتولد بريشت)‪.‬‬
‫‪ -‬برتولد بريشت رائد المسرح الملحمي‪:‬‬
‫ولد (برتولد بريشت) في ‪ 10‬فبراير ‪ 1898‬بمدينة أوكوسبورت‪ ،‬من عائلة ميسورة‬
‫مديرا ألكبر مصنع ورق في المدينة‪ ،‬ويشتغل تحت إمرته مئات العمال‪،‬‬‫الحال‪ ،‬كان والده ً‬
‫وسط هذه األجــواء‪ ،‬عايش التوتر الديالكتيكي‪ ،‬حيث الواقع الحامل للمتناقضات‪،‬‬
‫فالمجتمع الزراعي يكاد يندثر‪ ،‬ويحل مح َّله مجتمع صناعي مغاير‪ ،‬وأسرته البرجوازية‬
‫المنعمة‪ ،‬تقابلها معاناة الطبقة البرولتارية‪ ،‬التي يمثلها عمال مصنع أبيه‪ ،‬الذين تقابل‬
‫مساكنهم الحقيرة بيوت الطبقة الميسورة والبرجوازية‪ ،‬الموجودة في واجهة الشارع‪،‬‬
‫ووصل التناقض في حياة (بريشت) حتى التعاليم الدينية‪« ،‬أبوه مسيحي كاثوليكي‪،‬‬
‫وأمه مسيحية بروتستانتية‪ ،‬والخالف بينهما قائم طوال الليل‪ ،‬وال ينقضي إال مع‬
‫مطلع النهار(((»‪ .‬وبعد إنهاء (بريشت) دراسة الجامعية انخرط في الجيش سنة ‪،1918‬‬
‫كمساعد طبيب‪« ،‬وذلك في السنة األخيرة للحرب العالمية األولى‪ ،‬وكان لهذه الحرب‬
‫((( عبد الرحمن بن إبراهيم‪ ،‬النظرية النقدية في المسرح الغربي‪ ،‬ص‪.202-201‬‬
‫((( جمعة أحمد قاجة‪ ،‬المدارس المسرحية وطرق إخراجها منذ عصر اإلغريق حتى العصر الحاضر‪ ،‬ص‪.256‬‬

‫‪57‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫تأثيرها الكبير والعميق على تفكيره‪ ،‬ومساره الفني ونهجه السياسي»(((‪ ،‬وهناك في‬
‫جبهة القتال عايش التناقضات كلها‪ ،‬وعبر عنها بقوله‪« :‬إنني بحكم تعلمي طبيب‪،‬‬
‫استدعيت للحرب‪ ،‬وذهبت للعمل في أحد المستشفيات‪،‬‬ ‫شابا كبقية الشبان ُ‬
‫وبوصفي ً ّ‬
‫فضمدت الجروح‪ ،‬واستخدمت صبغة اليود‪ ،‬وأعطيت الحقن الشرجية‪ ،‬وقمت بعمليات‬ ‫َّ‬
‫نقل الدم‪ ،‬وإذا أمرني الطبيب‪« :‬اقطع الساق يا (بريشت) كان علي أن أجيب‪ :‬حاضر‬
‫أجر عملية تربنة‪ ،‬فتحت جمجمة إنسان ورتقت‬
‫يا سيدي‪ ،‬وأقطع الساق‪ ،‬وإذا قيل لي‪ِ :‬‬
‫مخه‪ ،‬لقد رأيت كيف ُترمم أشالء الناس‪ ،‬ويرحلون بأقصى سرعة إلى جبهة القتال» ‪.‬‬
‫(((‬

‫اشمئزازا‪ ،‬مثلما اشمأز من‬


‫ً‬ ‫لقد أثارت ويالت الحرب وهمجيتها في نفس (بريشت)‬
‫البرجوازية وكرهها من قبل‪ ،‬وأحب الكادحين‪ ،‬كما أحب السالم؛ لذلك أكد «أن أهم عامل‬
‫يقرر مصير الحياة اإلنسانية هو الظرف االجتماعي‪ ،‬وأن أيسر طريق وأجمل شكل يعطي‬
‫الحياة قيمتها‪ ،‬إنما هو الفن والشكل األدبي‪ ،‬أكثر من سواه الذي يستطيع أن يستوعب‬
‫مباشرا‪ ،‬وهو الدراما‪ ،‬إذن ُ‬
‫فليص َّب (بريشت)‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اتصال‬ ‫طرفي الصراع‪ ،‬الذي يتصل بالجمهور‬
‫مضامينه األدبية ومقوالته الفلسفية ومعطيات حياته في قالب المسرحية»(((‪.‬‬
‫‪ -‬المرجعيات الفلسفية والجمالية للمسرح الملحمي‪:‬‬
‫كان النبالج اسم (بريشت) في الميدان المسرحي إضافة نوعية للحقل المسرحي‬
‫وانقالبا في العمل المسرحي‪ ،‬حيث عمل‬ ‫شكل ظهوره عالمة فارقة‬‫المهترئ‪ ،‬إذ ّ‬
‫ً‬
‫مستفيدا من تجارب أساتذته‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫(بريشت) على كتابة مسرحياته بنفسه وإخراجها‪،‬‬
‫سيما (ماكس رينهاردت )‪ ،‬و(أوروين بيسكاتور)‪ ،‬الذي يرجع له الفضل في انبالج فكرة‬
‫المسرح الملحمي‪.‬‬
‫مبكرا في عشرينيات القرن العشرين‪ ،‬وأحدث‬ ‫لقد ظهر (بريشت) في حقل المسرح ً‬
‫ثورة جمالية في المسرح‪ ،‬كفرت بقواعد (أرسطو)‪« ،‬إن الذي يميز الثورة المسرحية‬
‫فجرها (برتولد بريشت ) هو الشمولية واالنسجام وااللتزام‪ ،‬فقد استطاع إحداث‬ ‫التي ّ‬
‫مس كل الجوانب الفنية والفكرية واأليديولوجية‪ ،‬التي أقيم عليها المسرح‪،‬‬
‫تغيير جذري َّ‬

‫((( عبد الرحمن بن إبراهيم‪ ،‬النظرية النقدية في المسرح الغربي‪ ،‬ص‪.204-203‬‬


‫((( جمعة أحمد قاجة‪ ،‬المدارس المسرحية وطرق إخراجها منذ عصر اإلغريق حتى العصر الحاضر‪ ،‬ص‪.257‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.257‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪58‬‬


‫دراسات‬

‫مسرحا للمقارعات الفكرية والفلسفية‬


‫ً‬ ‫مغايرا جعل المسرح الملحمي‬
‫ً‬ ‫تصورا‬
‫ً‬ ‫وطرح‬
‫والسياسية‪ ،‬وملتقى لتالقح الجماليات الشرقية والغربية»(((‪.‬‬
‫جاهدا على تحرير المجتمع‬
‫ً‬ ‫وقد أسفرت آراؤه عن نقاشات حامية الوطيس‪ ،‬إذ عمل‬
‫من الشقاء والفساد‪ ،‬فقد تميز (بريشت) بتثويره للجمهور‪ ،‬وفتح عيونه على حقيقة‬
‫الواقع‪ ،‬يقول (روالن بارث)‪« :‬يجب علينا أن نتوقف عن الصمت‪ ،‬والسخرية‪ ،‬ونرى ثورة‬
‫(بريشت) باعتبارها وضعت عاداتنا وأذواقنا وحركاتنا وقوانيننا التي نعمل بها موضع‬
‫تساؤل»(((‪ .‬وهكذا فقد «أطلق على عصره (النصف األول من القرن العشرين) (العصر‬
‫العلمي)‪ ،‬وفي ذلك إيــذان بأفول عصر (أرسطو) ونظريته الدرامية التي تجاوزت‬
‫عد «جماليات (أرسطو) تراثً ا‬ ‫المتغيرات التاريخية والمتحوالت االجتماعية‪ ،‬حيث َّ‬
‫بديل‬‫مسرحا ً‬
‫ً‬ ‫قديما‪ ،‬يتسم باالنحطاط األخالقي‪ ،‬وأصبح يمثل طبقة طفيلية‪ ،‬وأبدع‬
‫ً‬
‫ينطوي على دروس وتعاليم سياسة جاءت لتقلب مفاهيم المسرح التقليدي‪ ،‬وذلك‬
‫باحترام منظومة تجمع بين التنظير والممارسة وترمي إلى تثوير أفكارنا وعاداتنا‬
‫باعتمادها على اتجاه تعبيري درامي‪ ،‬هو ما أطلق عليه تسمية (المسرح الملحمي)»(((‪.‬‬
‫عمل (بريشت) على التنظير للمسرح‪ ،‬وتأليف نصوص جديدة ذات مضامين بديلة‬
‫للمواضيع السائدة في المسرح البرجوازي الكالسيكي‪ ،‬الذي يعجز أن يوصل رسالة‬
‫سياسية للجمهور‪ ،‬أو يستفز ويحرّ ض المتفرج‪ ،‬من أجل تغيير الواقع‪ ،‬وألجل تحقيق‬
‫هذه الغاية «وضع (بريشت) قواعد جديدة لمسرحه الملحمي‪ ،‬تستند إلى فضاءين‬
‫رئيسيين‪ :‬فضاء الفرجة‪ ،‬وفضاء الجمهور»(((‪.‬‬
‫‪-‬فضل عن الظروف االقتصادية‬ ‫ً‬ ‫لقد دفعته ظروف الحربين وما أفرزته من أزمات‬
‫واالجتماعية التي باتت تعرفها المجتمعات األوروبية‪ ،‬المتسمة بالصراع الطبقي ‪ -‬إلى‬
‫شعورا‬
‫ً‬ ‫تبني االشتراكية واتخاذها عقيدة فكرية وإيديولوجية‪« ،‬فولد كل هذا في نفسه‬
‫ملحا بضرورة الثورة والتغيير الجذري إلنصاف المضطهدين والمحرومين‪ ،‬ومن ثم‬ ‫ًّ‬
‫تشييد نظام اشتراكي يغيب فيه الصراع الطبقي‪ ،‬وتصبح البروليتاريا مالكة لزمام‬

‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.271‬‬


‫‪R.Parthes; la révolution Brechtienne; in ess ais; p51‬‬ ‫((( ‬
‫((( عبد الرحمن بن إبراهيم‪ ،‬النظرية النقدية في المسرح الغربي‪ ،‬ص‪.212 - 211‬‬
‫((( عبد الرحمن بن إبراهيم‪ ،‬الحداثة والتجريب في المسرح‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬المغرب‪ ،2014 ،‬ص‪.151-150‬‬

‫‪59‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫ًّ‬
‫تاريخيا‬ ‫نفوذا‪ ،‬وهي المؤهلة‬
‫اتساعا واألكثر ً‬
‫ً‬ ‫األمور‪ ،‬باعتبارها الطبقة الشعبية األكثر‬
‫كذلك لقلب الموازين وتصحيح المسارات»(((‪.‬‬
‫لقد آمن (بريشت) بأهمية الطبقة المستضعفة التي تشتغل أكثر وال تستفيد إال‬
‫النزر اليسير‪ ،‬عكس الطبقة المتعفنة‪ ،‬التي تستغل المحرومين‪ ،‬وتقتات على دمائهم‬
‫ومعاناتهم؛ لذلك أعطى األهمية لإلنسان وفكره الذي ما هو إال نتيجة للتاريخ‪.‬‬
‫إن (بريشت) يعتبر المادية التاريخية تابعة لقوانين عامة ولم توجد من العدم‪،‬‬
‫إنها مادية يمكن كشف مالبساتها من خالل (قانون الديالكتيك)‪ ،‬الذي يفسر ويوضح‬
‫حقيقة المادية‪ ،‬فكل شيء يوجد به نقيضه‪ ،‬الذي يخوض المعركة معه وهو يتطور‬
‫«يوجه بريشت رسالة صريحة إلى‬ ‫ّ‬ ‫معتمدا على ضــرورة الصراع‪ ،‬وهكذا‬‫ً‬ ‫ويستمر‬
‫اإلنسان المغترب داخل الحياة اليومية‪ ،‬وداخل المجتمعات الرأسمالية االستهالكية‬
‫من أجل إعماله عقله للتخلص من هذا االغتراب»(((‪ .‬وقد استعان في تحقيق الفرجة‬
‫مستفيدا من‬
‫ً‬ ‫خصائص مميزة لمسرحه الملحمي‪،‬‬
‫َ‬ ‫بعدد من الجماليات التي شكلت‬
‫وملفتا‬
‫ً‬ ‫غريبا‬
‫ً‬ ‫المادية التاريخية وتقنية االغتراب‪ ،‬لفتح بصيرة اإلنسان‪ ،‬وجعل ما ألفه‬
‫غامضا‪ ،‬وهو في ذلك يجمع بين الشمولية واالنسجام وااللتزام‪،‬‬
‫ً‬ ‫لألنظار‪َّ ،‬‬
‫وكل بديهي‬
‫من الكتابة الدرامية إلى الكتابة السينوغرافية‪ ،‬ويمكن بسط جماليات (بريشت) من‬
‫خالل العتبات اآلتية‪:‬‬
‫‪ -‬العتبة األولى‪ :‬التغريب (‪ )distanciation‬جمالية الهدم والبناء‬
‫عمل (بريشت) على خلخلة النفس اإلنسانية الساكنة‪ ،‬وإزالــة الغشاوة عن عين‬
‫غريبا‪ ،‬من خالل توظيف تقنية التغريب‪ .‬ويوضح‬‫ً‬ ‫اإلنسان‪ ،‬حتى يبدو األمر االعتيادي‬
‫يوما‬
‫ذلك بقوله‪« :‬إننا نستخدم عادة (تأثير التغريب) عندما نسأل أحدهم‪ :‬هل نظرت ً‬
‫بانتباه إلى ساعتك؟ إن السائل يعرف أني أنظر باستمرار إلى ساعتي‪ ،‬غير أنه بسؤاله‬
‫قد قضى على اعتيادية األمر بالنسبة لي‪ ،‬وللسبب ذاته قضى على تصوري للساعة‪،‬‬
‫الذي لم يكن ليعني لي شيئً ا‪ ،‬إنني أنظر إلى الساعة باستمرار ألحدد الوقت‪ ،‬غير‬
‫أنه عندما أسأل بإلحاح وإصرار عندها أفهم أني لم أنظر إلى الساعة نظرة مليئة‬

‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.272-271‬‬


‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.274‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪60‬‬


‫دراسات‬
‫(((‬
‫نواح عديدة تعتبر ماكنة مدهشة»‪.‬‬
‫بالدهشة‪ ،‬وأنها من ٍ‬
‫مدهشا‪ ،‬فيتجلى فهم جديد للحياة والموقف اإلنساني‪،‬‬‫ً‬ ‫وبذلك يصبح االعتيادي‬
‫يتجاوز البساطة وقبول الواقع؛ ألن «التغريب في أبسط معانيه هو جعل المألوف‬
‫ومثيرا لألسئلة واالستفسارات»(((‪ ،‬فيتعلم المتلقي طرح األسئلة وعدم‬ ‫ًّ‬
‫وشاذا‬ ‫غريبا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قبول األمور كما هي‪ ،‬فحتى القضايا البديهية والواضحة‪ ،‬تحمل في طياتها الغموض‬
‫وااللتباس والزيف والخداع‪ ،‬و«بواسطة التغريب يمكننا أن نزيل عنها قناعها‪ ،‬وندرك‬
‫معانيها القريبة والبعيدة»(((‪ ،‬وبذلك يصبح التغريب «وسيلة لتحرير الجمهور من‬
‫الــرواســب االجتماعية‪ ،‬والحد من تأثيرها عليه لحظة مشاهدة العرض لينشغل‬
‫بالتساؤالت المثيرة للنظر والتشكيك في كل ما يحيط به‪ ،‬نظرة متشككة ونقدية»(((‪،‬‬
‫َ‬
‫االنفصال عن القيم السائدة‬ ‫وعــدم قبول الواقع والرضى به‪ ،‬إذ يؤكد (ماركيوز)‬
‫واستيعاب قيم مضادة؛ ولتحقيق ذلك‪ ،‬عمل (بريشت) على وضع مسافة بين الممثل‬
‫تجنبا ألي اندماج بينهما‪ ،‬ويهدف (بريشت) من‬
‫والجمهور‪ ،‬وبين الممثل والشخصية‪ً ،‬‬
‫توظيف تقنية التغريب تحفيز‪ ،‬و«استنهاض الحساسية النقدية للمتفرج‪ ،‬وجعله يدرك‬
‫غالبا ما تصب‬‫بعمق حقيقة ما يقع أمامه‪ ،‬ومن ثم دفعه إلى إصدار أحكام قيميّ ة‪ً ،‬‬
‫في اتجاه تكريس وتثمين الرسالة السياسية التي يوجهها (بريشت) إلى الجماهير من‬
‫خالل مسرحه الملحمي‪ ،‬فعادة ما يترك نهاية مسرحياته مفتوحة كما هي الحال في‬
‫(دائرة الطباشير القوقازية) لي ُِوكل للجمهور مهمة القيام بهذه الخطوة‪ ،‬وهذا يعني أن‬
‫كل معركة نضالية يخوضها أبطال (بريشت) في المسرح يكون لها صدى وانعكاس في‬
‫الحياة العامة»(((‪.‬‬
‫إن التغريب البريشتي رؤية ممتدة ومتكاملة‪ ،‬تستهل مسارها من اللغة الدرامية‬
‫إلى الكتابة الركحية التي تتم بقلم السينوغرافيا التي ال تتوقف حتى تثير دهشة‬
‫المتفرجين‪ ،‬ومن أجل ذلك فقد وظف (بريشت) خصائص النص والعرض‪ ،‬وعمل على‬
‫وضع مسافة بين الممثل والجمهور‪ ،‬وبين العرض والمتلقي‪ ،‬ولتحقيق ذلك قام بتعويض‬
‫((( برتولد بريخت‪ ،‬نظرية المسرح الملحمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬جميل ناصف‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.143‬‬
‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.274‬‬
‫((( المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫((( عبد الرحمن بن إبراهيم‪ ،‬الحداثة والتجريب في المسرح‪ ،‬ص‪.151‬‬
‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.275‬‬

‫‪61‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫طعه‪ ،‬و«قادرة على خلق تأثيرات تحافظ على انفصال‬ ‫بسيطة ِق ُ‬


‫ٍ‬ ‫السينوغرافيا بديكور‬
‫الجمهور وتغريبه عن الحدث‪ ،‬ويشكل الممثل في هذه العملية العنصر الفاعل ويلعب‬
‫فيه الدور األساسي باعتباره صانع الفرجة»(((‪.‬‬
‫مهما في صناعة الفرجة‪ ،‬فإنه‬ ‫عنصرا ً‬
‫ً‬ ‫إن الممثل وعلى الرغم من كونه يشكل‬
‫مطالبا باالندماج مع الشخصية التي يلعبها‪ ،‬وال يسمح له بالتأثر بها‪ ،‬وإذا حصل‬
‫ً‬ ‫ليس‬
‫العكس فسيحرم الجمهور من التمييز بين الممثل والشخصية المسرحية‪ ،‬وهو ما‬
‫سيمنع الجمهور من تشغيل الفكر والنقد‪ ،‬وهو األمر الذي «الحظه (بريشت) ذاته‬
‫رابعا‬
‫جدارا ً‬
‫ً‬ ‫مطلقا كونه يمثل كما لو أن ثمة‬
‫ً‬ ‫في الممثل الصيني حين قال‪« :‬ال نلمس‬
‫مضافا إلى الثالثة األخرى‪ ،‬فهو يفصح عن وعي بأنه يرى من لدن الجمهور»(((‪.‬‬
‫ً‬
‫تأثر (بريشت) بالفرجة الشرقية‪ ،‬واستلهم معظم فرجاته وتصوراته الجمالية منها‪،‬‬
‫خاصة المسرح الصيني والياباني‪ ،‬حيث «انبهر بالعروض المسرحية التي قدمتها‬
‫أيضا ُأعجب بمسرح (النو ‪)NO‬‬ ‫إحدى الفرق الصينية باالتحاد السوفييتي‪ ،‬كما أنه ً‬
‫الياباني‪ ،‬والعبقرية الفذة للرسامين الصينيين الذين تعكس لوحاتهم نظام الحياة‬
‫المعقد والمنسجم في اآلن نفسه»(((‪.‬‬
‫ولبيان مدى تأثر (بريشت) بالشرق يستشهد الدكتور سعيد كريمي‪ ،‬بقول (جورج‬
‫بانو)‪« :‬إن اختيار بريشت في مقاربته للشرق يؤكد عشقه للواقع‪ ،‬فالشرق الذي يعشقه‬
‫ليس آخر وحسب‪ ،‬وإنما مجموع أشياء وممارسات وعالمات‪ ،‬كلها مجسدة‪ ،‬يختبرها‬
‫فضاء ً ّ‬
‫ماديا يمكن تجزيئه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫من أجل مالمسة العالم بشكل أفضل‪ ،‬فقد اعتبر الشرق‬
‫على اعتبار أن ليس له وحدة كيان مجرد‪ ،‬وال ثخانة مرجع مؤكد»(((‪.‬‬
‫لقد وجد (بريشت) في الثقافة الشرقية أرضية خصبة لتطبيق أفكاره االشتراكية‬
‫التي تدعو إلى األممية واالنفتاح على كل الشعوب واالهتمام بمشاكلها‪ ،‬وترفض كل‬
‫ّ‬
‫«شكل لقاء‬ ‫تعصب مهما كان نوعه‪ ،‬وفي هذا الصدد تقول (إريكا فيشر ليشته)‪:‬‬
‫(برتولد بريشت) بـ (ماي الن فانغ ‪ )Mei Lanfang -‬عمالق أوبرا بيكين‪ ،‬في موسكو‬

‫((( عبد الرحمن بن إبراهيم‪ ،‬الحداثة والتجريب في المسرح‪ ،‬ص‪.152-151‬‬


‫((( خالد أمين‪ ،‬ما بعد بريشت‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد المنعم الشنتوف‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة دراسات الفرجة ‪،2‬‬
‫ط‪ ،2008 ،2‬ص‪.9‬‬
‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.275‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.276‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪62‬‬


‫دراسات‬

‫عام ‪ ،1935‬لحظة فارقة في مسار المثاقفة المسرحية‪ ،‬إذ توجه (بريشت) إلى‬
‫موسكو بدعوة من (بسكاتور) لحضور مؤتمر للمنتجين المسرحين (‪ ،)...‬وقدم الفنان‬
‫الصيني الشهير (ماي الن فانغ) سلسلة من العروض ضمن مجموعة أوبرا بيكين‪،‬‬
‫عرضي (‪ )The Drunken Beauty & The Fishermans‬بكل من (موسكو)‬ ‫َ‬ ‫إذ قدم‬
‫العرضين‪ ،‬وحضر المناقشة النهائية بمعية‬ ‫َ‬ ‫و(سان بيترسبورغ)‪ ،‬شاهد (بريشت)‬
‫(ستناسالفسكي)‪ ،‬وبدعوة من (مايرهولد) يوم ‪ 14‬أبريل ‪.(((»1935‬‬
‫كان للثقافة الشرقية دور كبير في تطوير وتطعيم المسرح الملحمي‪ ،‬بعدما وصل‬
‫المسرح الغربي للطريق المسدودة‪ ،‬بفعل التمركز الغربي‪ ،‬فطوّ ر (بريشت) تقنياته‬
‫مستفيدا من لقائه بالشرق‪ ،‬حيث «تتيح‬ ‫ً‬ ‫المسرحية (اإلشــارات‪ ،‬األقنعة والبانتوميم)‪،‬‬
‫العالقة الجدلية المتكاملة بين الصوت والحركة في المسرح الكابوكي انزيا َح الحركة من‬
‫حيث هي وسيلة للتسنين‪ ،‬بموازاة مع الكلمة المنطوقة‪ ،‬واللغة الشفهية‪ ،‬ذلك ما الحظه‬
‫جدارا‬ ‫مطلقا كونه ّ‬
‫يمثل كما لو أن ثمة‬ ‫ً‬ ‫(بريشت) في الممثل الصيني‪ ،‬حيث قال‪« :‬ال نلمس‬
‫ً‬
‫مضافا إلى الثالثة األخرى‪ ،‬فهو يفصح عن وعي بأنه ُيرى من لدن الجمهور»(((‪.‬‬‫ً‬ ‫رابعا‬
‫ً‬
‫‪ -‬العتبة الثانية‪ :‬جمالية الكتابة الدرامية‬
‫تتميز كتابات (بريشت) المسرحية‪ ،‬بتأثرها بالنظرية الماركسية‪ ،‬و«بتراوحها بين‬
‫ما هو شعري وما هو نثري‪ ،‬وبمحافظتها على المنطق النحوي والتركيبي»(((‪ً ،‬‬
‫فضل عن‬
‫قوة لغتها وإيحاءاتها الثورية‪ ،‬كما تعتبر «الحكاية ‪ la fable‬من الثوابت األساسية في كل‬
‫المسرحيات التي كتبها (بريشت)‪ ،‬إال أنها تختلف في بنيتها ومضامينها وأهدافها عن‬
‫الحكاية األرسطية»(((‪.‬‬
‫‪ -‬العتبة الثالثة‪ :‬جماليات الفضاء البريشتي‬
‫رفض (برتولد بريشت) الطبقية‪ ،‬ورأى أن العلبة اإليطالية ترسخ هذه الطبقية؛‬
‫لذلك فقد دعا إلى تفجيرها‪ ،‬باعتبارها ال تنسجم مع رؤيته االشتراكية‪ ،‬فهي ال‬

‫((( إيريكا فيشر ليشته‪ ،‬من مسرح المثاقفة إلى تناسج الفرجة‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬خالد أمين‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات‬
‫الفرجة‪ ،‬سلسلة رقم ‪ ،42‬ط‪ ،2016 ،1‬ص‪.42-41‬‬
‫((( المرجع السابق نفسه‪.‬‬
‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.277‬‬
‫((( المرجع السابق نفسه‪.‬‬

‫‪63‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫تحقق العدالة بين الجمهور‪ ،‬فقد عمل (بريشت) على تفجريها من الداخل‪ ،‬باقتراحه‬
‫دفع القاعة في الخشبة وإزاحة الجدار الوهمي الرابع الذي يفصل بين الممثلين‬
‫تجنبا الندماج الممثلين‬
‫ً‬ ‫والمتفرجين‪ ،‬وحارب اإليهام‪ ،‬بعدما أعاد هندسة الخشبة‬
‫مع الجمهور أو الممثلين مع الشخصيات‪ ،‬وبذلك يظل الجمهور على وعي تام بأنه‬
‫تقريرا عن أحداث وقعت بالماضي‪ ،‬وهذا‬
‫ً‬ ‫جالس أمام الممثلين في المسرح‪ ،‬يشاهد‬
‫واحد من أوجه االختالف بين المسرح الدرامي والمسرح الملحمي‪ ،‬وما بعد الدراما‬
‫عموما‪ ،‬فاألول يقوم على الوهم‪ ،‬حيث تذوب ذات الممثل في الشخصية المسرحية‬ ‫ً‬
‫المجسدة‪ ،‬وهو األمر الذي كان يمقته ويشمئز منه (بريشت)‪ ،‬حيث يقول‪« :‬ال يوجد‬
‫وكليا في دوره‪ ،‬وينسى التصرف الملحمي‬ ‫اندماجا ً ّ‬
‫تاما ً ّ‬ ‫ً‬ ‫أسوأ من الممثل الذي يندمج‬
‫واالستعانة بالتغريب»(((‪ .‬والتغريب سبيل اتخذه المسرح الملحمي من أجل تقويض‬
‫التخدير الذي يمارسه المسرح البرجوازي الذي يقوم على اإليهام؛ لذلك «ال يخلو‬
‫أي مكون من مكونات المسرح الملحمي من أثر التغريب حتى إن تنظيم الفضاء‬
‫المسرحي تم تهييئه الستيعاب هذا العنصر المهم والفعال (‪ ،)...‬ويعمد (بريشت)‬
‫وفقيرا في اآلن نفسه‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بسيطا‬ ‫في تعامله مع الفضاء السينوغرافي إلى جعل الديكور‬
‫عكس المسارح التقليدية التي تلجأ إلى تكديس وتفخيم الديكور‪ ،‬ولكسر اإليهام‬
‫بالواقع‪ ،‬فإن الديكور يتم تغييره أمام المشاهدين‪ ،‬دون حاجة إلى إسدال الستار‬
‫لتغيير المناظر‪ ،‬ولعل جدلية العالقة بين الجهاز السينوغرافي واللعب المسرحي‬
‫هي التي أوحت إلى (بريشت) ضرورة تجاوز ثبات الديكور وجموده على امتداد‬
‫المسرحية (‪ ،)...‬واقترح بالمقابل سينوغرافية متحركة يستطيع الممثل تحريكها‬
‫وتغيير مواقعها على ساحة اللعب (‪ ،)...‬وبهذا يخضع الفضاء السينوغرافي نفسه‬
‫إلى التركيب الذي يتأسس على تقسيم الديكور وتوزيعه إلى أجزاء صغرى‪ ،‬يتم‬
‫الجمع بينها في رؤيــة تركيبية (‪ ،)...‬ومن ثم فإن المرمى العميق وراء تحريك‬
‫السينوغرافيا هو إبراز حركية الواقع‪ ،‬وتطور سيرورة العمليات االجتماعية حسب‬
‫قوانين تاريخية معينة»(((‪.‬‬

‫((( عدنان رشيد‪ ،‬مسرح بريشت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪1408 ،‬هـ‪1988/‬م‪ ،‬ص‪.235‬‬
‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.280 - 279 - 278‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪64‬‬


‫دراسات‬

‫إن توظيف (بريشت) للقطع السينوغرافية بهذا الشكل راجع لتأثره بالجمالية‬
‫الصينية‪ ،‬وهندسة معالمها الحضارية ورسوماتها التي تقوم على تكثيف األدوات‬
‫واألشكال في انسجام تام‪ّ ،‬‬
‫لكن «حركية الديكور تجد جذورها في المادية التاريخية‬
‫اعتمادا على العامل االقتصادي ووسائل‬
‫ً‬ ‫التي تقوم على مبدأ الصيرورة والتحول‬
‫وأدوات اإلنتاج‪ ،‬وتضرب عرض الحائط كل ما له عالقة بالثبات والسكون» ‪ ،‬وبذلك‬
‫(((‬

‫يخضع الديكور عند (بريشت) لتصوره الفكري‪ ،‬ويعكس توجهه االشتراكي‪ ،‬فهو يرفض‬
‫استقراره؛ ألن ذلك يفيد البرجوازية والطبقة الحاكمة‪ ،‬كما دعا (بريشت) إلى اعتماد‬
‫سينوغرافيا الفراغ‪« ،‬وهي تقنية تعتمد على البساطة وإلغاء الحشو‪ ،‬فالجمال عنده‬
‫ينبع من البساطة التي هي تمام األناقة على نحو ما يتجسد ذلك في المسرح الصيني‪،‬‬
‫وهذه األناقة كما يصفها (بانو) هي التي مكنت (بريشت) من االبتعاد عن الجمالية‬
‫الغربية التي تعتمد على مبدأ االمتالء‪ ،‬وفسحت المجال لبروز الجماليات الشرقية‬
‫التي تعتمد على االقتصاد والخفة»(((‪.‬‬
‫إن اعتماد (بريشت) جدلية الفراغ واالمتالء‪ ،‬واتخاذ الفراغ قاعدة راجعان بطبيعة‬
‫الحال لتأثره بالفرجة الشرقية‪ ،‬حيث يعتمد المؤدي باألساس على جسده‪ ،‬فهو ُ‬
‫آلته التي‬
‫يعزف بها‪ ،‬وبذلك «يتيح للممثل استغالل طاقاته الجسدية‪ ،‬والذهنية لتعويض اختزال‬
‫المكونات الركحية‪ ،‬وتطبيق تقنية التباعد والتغريب في أقصى حدودها‪ ،‬ومن جهة‬
‫أخرى يسمح للمتلقي بإعمال الذهن أكثر للتأويل‪ ،‬قصد ملء تلك الفراغات المقترحة‪،‬‬
‫أو المتعمدة ً‬
‫أصل لهذا الغرض»(((‪ ،‬كما لجأ (بريشت) إلى الصور السينمائية والعناوين‬
‫مستفيدا من (بسكاتور)‪ ،‬حيث أخذ عنه هذه التقنية وطورها‪ ،‬إلى نصوص وعناوين‬ ‫ً‬
‫مكتوبة‪ ،‬توازي العرض المسرحي‪.‬‬
‫‪ -‬العتبة الرابعة‪ :‬جمالية المؤثرات الصوتية والموسيقية‬
‫لقد ربط (بريشت) المؤثرات الصوتية والموسيقية بالتغريب‪ ،‬حيث َّ‬
‫توظف لتذكير‬
‫المتفرج بأنه في عرض مسرحي‪ ،‬ولذا ال ُيسمح للمتفرج بالتماهي‪ ،‬ومن أجل ذلك‬

‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.280‬‬


‫((( مصطفى الرمضاني‪ ،‬سلطة الجماليات الشرقية على المسرح الغربي الحديث‪ ،‬مجلة ضفاف‪ ،‬العدد السادس‪ ،‬فبراير‪،2004‬‬
‫ص‪.10-9‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.10‬‬

‫‪65‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫فقد «خص (بريشت) الموسيقى واألغاني بأهمية متميزة‪ ،‬وعن دورها في العرض‬
‫المسرحي يقول‪ ...« :‬يتعين على الممثلين أال ينتقلوا بصورة غير ملحوظة إلى الغناء‪،‬‬
‫بل عليهم أن يبرزوا هذا الغناء بشكل ملحوظ‪ ،‬ويميزوه من بقية الحدث» ومما يساعد‬
‫على ذلك بصورة خاصة عدد من الوسائل المسرحية النوعية‪ ،‬منها على سبيل المثال‪:‬‬
‫تغيير اإلنارة أو عرض العناوين‪ ،‬كما أن على الموسيقى من ناحيتها أن تقاوم (‪،)...‬‬
‫ويتعين عليها ال أن (تصاحب)‪ ،‬بل أن توضح الهدف‪ ،‬إن وظيفة الموسيقى واألغاني إذن‬
‫ليست هي مصاحبة الحدث لمساعدة المشاهد على االندماج‪ ،‬بل التعليق على هذا‬
‫الحدث ومناقشته وتوضيحه من خالل األغاني التي يتم توجيهها إلى المتفرج‪ ،‬وهي في‬
‫بعض الحاالت عبارة عن شعارات لتوقيف العرض وإتاحة الفرصة له لغربلة ما سبق أن‬
‫شاهده والتذكر بأنه في مسرح‪ ،‬وأن ما يشاهده من صنع المتخيل»(((‪.‬‬
‫وهكذا فإن كل عناصر العرض تتكاثف وتتداخل لتحقيق أهم مرتكزات المسرح‬
‫البريشتي وهو التغريب‪ ،‬الذي ُيعد من أهم اآلليات إليقاظ الجمهور من سباته‪ ،‬والقطع‬
‫مع المخلفات والرواسب االجتماعية التي يخضع المتفرج لها‪ ،‬عند مشاهدته للعروض‪،‬‬
‫وذلك من أجل إثارة الفكر وطرح التساؤالت والشك في كل ما يحيط بنا؛ ولذلك فالعرض‬
‫الملحمي ال تنتهي وظيفته بنهايته‪ ،‬وإنما وظيفته تبقى مستمرة‪ ،‬وهي التي تقوم على‬
‫نلخص المسرح البريشتي في‬ ‫خاصيتين اثنتين هما‪ :‬اللذة والتعليم‪ ،‬ولهذا يمكن أن ّ‬
‫كونه يسلط الضوء على العالم؛ ليراه المشاهد على حقيقته‪ ،‬ويفهم تناقضه وتناقض‬
‫الحياة في المجتمع الرأسمالي‪ ،‬حتى يتمكن من تغييره‪.‬‬
‫كبيرا في تحرير المسرح الغربي من تقديس‬‫فضل ً‬ ‫والخالصة أن للمسرح البريشتي ً‬
‫ً‬
‫مبجل‪ ،‬و(دراكــوال) يقتات على دماء المسارح التي جاءت‬ ‫رماد (أرسطو)‪ ،‬الذي ظل‬
‫بعده‪ ،‬على حد تعبير الناقد المسرحي العراقي محمد سيف‪ ،‬وبذلك شقَّ المسرح‬
‫طريق التغير والتجريب وربط االتصال بمسارح العالم‪ ،‬يغذيها ويجددها حتى صار‬
‫لهذه الموجة الجديدة مريدوها ومناصروها في أوروبا وأقطار المعمورة كافة‪ ،‬حتى إن‬
‫نفسه جرّ ب التعامل مع هذا التيار والبحث عن صيغة مسرحية لتأصيل‬ ‫المسرح العربي َ‬
‫العمل المسرحي في الوطن العربي واستنباته‪.‬‬

‫((( سعيد كريمي‪ ،‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬ص‪.281‬‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪66‬‬


‫دراسات‬

‫المراجع والمصادر‬
‫>إبراهيم حمادة‪ :‬طبيعة الدراما‪ ،‬سلسلة كتابك‪ ،‬ع‪ ،69‬دار المعارف‪ ،‬ب‪.‬ت‪.‬‬ ‫>‬
‫>إيريكا فيشر ليشته‪ :‬من مسرح المثاقفة إلى تناسج الفرجة‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬خالد‬ ‫>‬
‫أمين‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة رقم ‪ ،42‬ط‪.2016 ،1‬‬
‫>باتريس بافيس‪ :‬معجم المسرح‪ ،‬ترجمة‪ :‬مشال ف‪ .‬خطار‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪،‬‬ ‫>‬
‫ط‪.2015 ،1‬‬
‫>باتريس بافيس‪ :‬تأمالت في مسرح (ما بعد الدراما)‪ ،‬ترجمة المبارك العروسي‪ ،‬مجلة‬ ‫>‬
‫دراسات الفرجة‪ ،‬العدد الثالث‪ ،‬نوفمبر‪.2016 ،‬‬
‫>برتولد بريشت‪ :‬نظرية المسرح الملحمي‪ ،‬ترجمة‪ :‬جميل نــاصــف‪ ،‬عــالــم المعرفة‪،‬‬ ‫>‬
‫بيروت‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫>حسن المنيعي‪ :‬المسرح العربي ما بعد الدراما‪ ،‬ضمن كتاب جماعي (مسرح ما بعد‬ ‫>‬
‫الدراما)‪ ،‬أربع مقاربات‪ ،‬المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة ‪ ،15‬ط‪ ،1‬مارس‪.2012 ،‬‬
‫>جمعة أحمد قــاجــة‪ :‬ال ـمــدارس المسرحية وطــرق إخراجها منذ عصر اإلغــريــق حتى‬ ‫>‬
‫العصر الحاضر‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬والفنون والتراث وإدارة الثقافة والفنون‪ ،‬ط‪.2009 ،1‬‬
‫>حسن المنيعي‪ :‬حركة الفرجة في المسرح والواقع والتطلعات‪ ،‬منشورات المركز الدولي‬ ‫>‬
‫لدراسات الفرجة‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫>حسن المنيعي‪ :‬شعرية الدراما المعاصرة‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة‪،‬‬ ‫>‬
‫سلسلة ‪ ،15‬ط‪ ،1‬مارس‪.2012 ،‬‬
‫>حسن يوسفي‪ :‬فــي االفـتـتــان المعرفي بالمسرح‪ ،‬مـنـشــورات المركز الــدولــي لــدراســات‬ ‫>‬
‫الفرجة‪ ،‬سلسلة رقم ‪ ،44‬ط‪.2017 ،1‬‬
‫>خالد أمـيــن‪ :‬الــدرامــاتــورجـيــة الركحية وأسئلة مــا بعد الــدرامــا‪ ،‬ضمن كتاب جماعي‪،‬‬ ‫>‬
‫(مسرح ما بعد الــدرامــا)‪ ،‬أربــع مقاربات‪ ،‬منشورات المركز الــدولــي لــدراســات الفرجة‪،‬‬
‫سلسلة ‪ ،15‬ط‪.2012 ،1‬‬
‫>خالد أمين‪ :‬ما بعد بريشت‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد المنعم الشنتوف‪ ،‬منشورات المركز الدولي‬ ‫>‬
‫لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة دراسات الفرجة ‪ ،2‬ط‪.2008 ،2‬‬
‫>رشيد بناني‪ :‬المسرح المغربي قبل االستقالل‪ ،‬دراسة دراماتورجية‪ ،‬منشورات جامعة‬ ‫>‬
‫سيدي محمد بن عبد اهلل‪ ،‬ط‪.2008 ،2‬‬
‫>ريمي ريفيل‪ :‬الثقافة الرقمية ثــورة ثقافية‪ ،‬ترجمة‪ :‬سعيد بلمبخوت‪ ،‬سلسلة عالم‬ ‫>‬
‫المعرفة‪ ،‬عدد ‪ ،462‬يوليو‪.2018 ،‬‬

‫‪67‬‬ ‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬


‫دراسات‬

‫>سعيد كريمي‪ :‬مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة‪ ،‬دائــرة الثقافة واإلعــام‪،‬‬ ‫>‬
‫حكومة الشارقة‪ ،‬اإلمارات العربية‪ ،‬ط‪.2014 ،1‬‬
‫>عبد الرحمن بن إبراهيم‪ :‬الحداثة والتجريب في المسرح‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬المغرب‪.2014 ،‬‬ ‫>‬
‫>عبد الرحمن بن إبراهيم‪ :‬النظرية النقدية في المسرح الغربي‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬المغرب‬ ‫>‬
‫‪.2017‬‬
‫>عدنان رشيد‪ :‬مسرح بريشت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪1988 ،‬م‪.‬‬ ‫>‬
‫>فاطمة أكنفر‪ :‬نحو درامــاتــورجـيــة بديلة‪ ،‬تناسج الثقافات الفرجوية وأسئلة مــا بعد‬ ‫>‬
‫الدراما‪ ،‬مجلة دراسات الفرجة‪ ،‬العدد الثاني‪.2016 ،‬‬
‫>كريستل فايلر‪ :‬مسرح ما بعد الدراما‪ ،‬ضمن كتاب جماعي‪( ،‬مسرح ما بعد الدراما)‪،‬‬ ‫>‬
‫أربع مقاربات‪ ،‬منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة دراســات‪ ،‬سلسلة ‪،15‬‬
‫ط‪.2012 ،1‬‬
‫>مصطفى الرمضاني‪ :‬سلطة الجماليات الشرقية على المسرح الغربي الحديث‪ ،‬مجلة‬ ‫>‬
‫ضفاف‪ ،‬العدد السادس‪ ،‬فبراير‪.2004‬‬
‫>ماري إلياس‪ ،‬حنان قصاب حسن‪ :‬المعجم المسرحي‪ ،‬مفاهيم ومصطلحات المسرح‬ ‫>‬
‫وفنون العرض‪ ،‬مكتبة لبنان ناشرون‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫>محمد الكغاط‪ :‬المسرح وفضاءاته‪ ،‬دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬القنيطرة‪،‬‬ ‫>‬
‫ط‪.1996 ،1‬‬
‫>مروى مهدي‪ :‬ما هو (مسرح ما بعد الدراما)‪ ،‬منشور ضمن كتاب جماعي‪ ،‬الدراماتورجية‬ ‫>‬
‫الجديدة‪ ،‬ط‪.2014 ،1‬‬
‫>منير الحافظ‪ :‬مظاهر الدراما الشعائرية‪ ،‬النايا للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪،‬‬ ‫>‬
‫ط‪.2009 ،1‬‬
‫>ناصر علي محمد أحمد برقي‪ :‬الدراما والتربية‪ :‬بين النظرية والتطبيق‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬ط‪.1‬‬ ‫>‬
‫نموذجا‪،‬‬
‫ً‬ ‫>ياسين عوني‪ :‬فنون العرض بين حضور النص وغياب العرض األدائــي‪( ،‬إذا)‬ ‫>‬
‫ضـمــن كـتــاب (ال ـم ـســرح ال ـي ــوم‪ :‬الـكـتــابــة وف ــن األداء)‪ ،‬م ـن ـشــورات كلية اآلداب والـعـلــوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ط‪.2017 ،1‬‬
‫>يوسف الريحاني‪ :‬نهاية مجتمعات الفرجة‪ ،‬اإلجابة عن سؤال ما هي الدراماتورجية‬ ‫>‬
‫البديلة ضمن كتاب (الــدرامــاتــورجـيــة الـجــديــدة)‪ ،‬األشـكــال الخاصة بطالئع األلفية‬
‫الثالثة‪ ،‬المركز الدولي لدراسات الفرجة‪ ،‬سلسلة رقم ‪ ،23‬ط‪.2014 ،1‬‬
‫>‪R.Parthes; la révolution Brechtienne; in ess ais‬‬ ‫>‬

‫ال ـع ــدد ‪ 595‬ف ـبــرايــر ‪2020‬‬ ‫‪68‬‬

You might also like