Professional Documents
Culture Documents
بقلم:أ.مجد القصص
كثيرون من الناس يعتقدون بأن المذهب الطبيعي هو نفسه المذهب الواقعي .مما الشك فيه أن هذا اللبس له ما يبرره ،فاذا بدأنا من معرفتنا
الصغيرة بأن ما من انسان في هذا الوجود إال وفيه قدر من الطبيعية وقدر من الواقعية ،بل ليس ثمة مجتمع من المجتمعات إال وفيه من هذا
وذاك ،ولكن إذا غلبت على هذا المجتمع سمات المذهب الطبيعي قلنا عنه مجتمع طبيعي وإذا غلبت عليه سمات المذهب الواقعي سميناه
مجتمعا واقعيا .دعونا اليوم نتعرف سوية على نشأة المذهبين والفرق بينهما وأهم الرواد سواء في األدب أو المسرح .ونتعمق في المذهب
الطبيعي وطريقة الكتابة المسرحية له.
لقد ضعفت ريح المذهب الرومانسي الحديث في فرنسا في القرن التاسع عشر وفي اوروبا وامريكا ،وأشتاق الناس إلى أن يحدثهم األدباء عن
حياتهم الواقعية ،وبالفعل أخذ الكتاب العظماء أمثال :ستندال ( )1842 – 1783وبلزاك ( )1850 – 1799وفلوبير ( )1880 – 1821
في فرنسا و دي فو ( )1731 – 1660و فيلدنج ( )1757 – 1707في انجلترا ،يكتبون القصص الواقعية المنتزعة من الحياة الواقعية
الصميمة وكانت اوروبا كلها تقبل على قصص هؤالء وتلتهمها التهاما.
إن الفرق بين المذهبين سواء في القصة أو المسرحية أو في سائر الفنون يتضح من مجرد النظر في اسم كل منهما ،فالشيء الطبيعي هو
الشيء المنسوب إلى الطبيعة ،الطبيعة كما خلقها هللا ،الطبيعة التي لم تتأثر بالعوامل الخارجية الطارئة التي يصنعها المجتمع في الغالب بما
يتواضع عليه من تقاليد وآداب ،وما يسنه من شرائع وقوانين ،وما يقيمه من معاهد للعلم أو منشآت للفنون ،وما يبتدعه من أصول الذوق
العام ،واألدب الطبيعي هو ما يحدثنا عن تلك الحياة الطبيعية الفجة التي لم تتأثر بهذه العوامل المكتسبة.
أما الشيء الواقعي فهو الشيء الذي تحول إليه الشيء الطبيعي بعد أن تأثر بتلك العوامل الخارجية الطارئة والعوامل التي صنعها المجتمع
بما تواضع عليه من عادات وتقاليد وآداب ،وما سنه من شرائع وقوانين ،وأقامه من معاهد للعلم ومنشآت للفنون ،وابتدعه من قواعد الذوق
العام .األدب الواقعي هو الذي يحدثنا عن تلك الحياة الواقعية المهذبة التي تأثرت بكل تلك العوامل المكتسبة وكل تلك اآلداب المرعية.
إن كتاب المسرح الطبيعي كما يدل اسمهم ال يعنون بالقواعد والقوانين في تصوير شخصياتهم ،فهم ينقلون إليك من الحياة صورة طبيعية
صادقة ،متحللة من القواعد ،طليقة من القوانين ،غير مقيدة باآلداب والشرائع ،فمسرحياتهم تضع شخصياتها بين يديك عارية سافرة ،كأنها
مقاطع طولية أو عرضية لهضبة أو سهل من السهول أراد منها راسمها أن يطلعك على ما تتركب منه تلك الهضبة أو ذلك السهل من طبقات
جيولوجية ،إن عملهم ينحصر في إعطائك صورة لهذا المقطع ،أما ما وراء هذا فمتروك لك أنت وحدك تستنتج منه ما يحلو لك من أفكار
وآراء ونظريات مبنية على ما ترى من ذلك المقطع .إن كل فنهم ينحصر في أن يصدقوا في هذا النقل فال يزخرفوه وال يشوهوه وال يجعلوه
أكثر جماال وال أقل بشاعة مما هو ،وال يعلقوا عليه وال يتدخلوا في فطرته ،وال يحللوا وال يستنبطوا.
إضافة الى ذلك فإن كتاب المسرح الطبيعي كانوا قد نهجوا وقصروا نشاطهم على تصوير الطبقة الدنيا ونقل ما تزخر به تلك الحياة إلى
المسرح ليراه الناس .بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فقاموا بتصوير كل ما يشين هذه الطبقة من إجرام وسقوط وتهافت أخالقي وشذوذ وضعة
ولؤم ودنس وحب بهيمي وسلوك مشين .لقد فعلوا ذلك ايمانا منهم بأن تصوير النفس اإلنسانية الغارقة في الرذيلة هو الذي يكشفها على
حقيقتها كشفا تاما دون أن يكسوها بأشكال الفضائل وأثواب النفاق والرياء الزائفة .كأنما الفضائل في نظر الطبيعيين نفاق مصطنع ورياء
مجلوب ،اخترعته الحضارة وتمسكت به اإلنسانية في أطوار ضعفها لتجعله سالحا للضعفاء يقيهم شر األقوياء بما يضمرونه في أنفسهم من
مصطلحات اآلداب ومتعارف التقاليد.
وسواء كان هذا أو ذاك فقد صرح الطبيعيون أنهم أرادوا أن يضعوا الناس أمام الحقيقة التي فطروا عليها وضعا صادقا مكشوفا ال لبس فيه
وال غموض وال تعمية ،وصرحوا بأن هدفهم من تصوير الناس على هذا النحو هو أن يفهم المصلحون حقيقة النفس اإلنسانية قبل أن
يحاولوا اصالحها ،فالطبيب هو الذي يتحسس موضع الداء ويتعرف على أسبابه وأصوله قبل أن يجد العالج .وما دامت المسألة عند
الطبيعيين هي مسألة تشخيص ألمراض النفس البشرية فليس يهمهم من هذه النفس إال أمراضها لذلك حصروا جهودهم في تصوير هذه
األمراض التي ال تتجلى صارخة مفزعة طب يعية إال في بيئات الطبقة الدنيا .مما ال شك فيه أن هذا الموقف إذا ما عرفنا بأن المذهبين الطبيعي
والواقعي ما هما إال انعكاس للبرجوازية آنذاك نستطيع عندها أن نفهم أن الطبيعيين يعتقدون أن األمراض النفسية موجودة فقط عند الطبقة
الدنيا متناسين بأن الطبقة الغنية ا لبرجوازية لها أمراض أكبر ولكنها لم تكن مفضوحة للقدرة على التستر عليها بسبب الثراء الفاحش.
للكاتب الطبيعي طريقته في كتابة مسرحياته ،فهو بداية يقلل ما أمكن من عناصر موضوعه ،ويجعل من عقدته ( – )Plotإن كانت له عقدة
غاية في البساطة ،كما يقلل من الحركة ( ،)Movementوهو يقتصد في حيل المذهب الرومانسي وزخارفه ،كهذه األحاديث الجانبية
( ) Asidesالتي يتمتم بها بعض الممثلين فيما بينهم حتى يسمع الجمهور حوار غيرهم من الممثلين ،وهو يقتصد أيضا في القطع الطويلة (
المنولوجات) التي يلقيها ممثل واحد ،والخطب المملة أو المؤثرة أو المفتعلة ،وهو يستعمل بدال عن ذلك الحوار الطبيعي الذي يتبادله
الممثلون كيفما اتفق ،الحوار الخالي من التنميق والذي ال تربط بين أطرافه روابط الصنعة البالغية فهو حوار سائب كالذي يحدث بين الناس
في حياتهم العامة ،كما أنه ال يعنى بسبك ذروة الموضوع ( )Climaxبل هو يؤثر أن يترك جمهوره في حيرة من أمر تلك الذروات ،ولكل
منهم أن يتصورها كما يحلو له ،إضافة إلى ذلك فإن الكاتب الطبيعي ال يخاطب الناس إال بلهجاتهم الدارجة التي خلفتها لهم البيئة وطول
الممارسة ،فلغته لهذا أبسط اللغات ،وهو ال يتورع أن يستخدم أكثر العبارات حوشية وأفضحها أسلوبا ،تلك العبارات التي يكفي مجرد ذكرها
لكشف أعماق الفكر ،فإذا عجزت هذه العبارات عن القيام بذلك فال بأس من أن يلجأ إلى اإلشارات الفاضحة والغمزات واللمزات التي
يستعملها أهل الطبقة الدنيا للتنويه عن تلك الخلجات واألحاسيس .وهنا يتفق الطبيعيون والرمزيون في استعمال هذا األسلوب اإليحائي
( )Suggestiveال األسلوب التام الصريح.
أما من حيث الموضوع فيفضل الكاتب الطبيعي أن يختار مسرحيته من أحداث العصر الذي يعيش فيه والبيئة التي يحيا بها ،وهو يلجأ إلى
حياة الرعاع بل أسفل طبقة من طبقاتها ،و يتعمد ذلك إما لطرافة ما يعرضه على المسرح من وسائل عيشهم ،أو مجاراة لريح الديمقراطية
الزائفة التي تستهوي هذه الطبقات بالعطف المصطنع عليها وتكلف الرحمة بها ،إضافة إلى ذلك فإن الطبيعيين يعنون أشد العناية بأن يكون
أبطال مسرحياتهم أبطاال سلبي ين يسهل قيادتهم والتأثير عليهم ،كما يعنون بعالم الجريمة واألمراض بوصفها نتيجة للظروف اإلجتماعية
والمرضية وظروف البيئة والوراثة ،تلك الظروف التي هي في نظر الطبيعيين بمثابة القضاء والقدر عند الكالسيكيين القدامى ،القضاء
السماوي الذي ال بد له أن ينفذ ،وال يمكن لمن قدر عليه أن يفلت منه ،ومن ثم كان معظم الطبيعيين أقرب إلى التشاؤم والنظرة السوداء إلى
الحياة ومستقبل اإلنسانية منهم إلى التفاؤل بالمستقبل ،إلى أن تقوم ثورة هدامة تقضي على تلك الظروف السوداء التي تسبب شقاء الطبقات
الدنيا وتقضي عليها بالتعاسة.
في هذا المبحث نتعرف على أهم زعماء المذهبين ،ومن أهم كتاب المذهب الواقعي كل من ستندال وبلزاك وفلوبير أما أهم زعماء المذهب
الطبيعي فهم األخوان دي جونككور واميل زوال ( )1902 -1840و جي دي موباسان ( )1892 – 1850والفونس دوديه ( -1840
.)1897
ستندال :أول زعماء المذهب الواقعي في القصة الفرنسية هو بال شك الكاتب القاص " هنري بايل" والذي عرف في عالم الكتابة باسم
"ستندال" .كانت قصة ستندال الخالدة ( األحمر واألسود ) أول محاولة جدية في إحالل المذهب الواقعي محل المذهب الرومانسي الحديث في
فرنسا ،وقد وصف فيها الحياة المعاصرة وصفا واقعيا بعيدا عن أية مسحة رومانسية ،أي وصفا خاليا من تكلف مشاعر الرقة والشفقة على
الفقراء والمحتاجين الذين يزاحمون المدرسة الرومانسية ،كما نالحظ في قصة البؤساء لفكتور هيجو ،لقد بشر ستندال في قصته هذه بمذهب
القوة والغلبة وذلك قبل أن يبشر به نيتشة األلماني فيما بعد ،وصور بطل قصته رجال افاقا شرسا يتوسل بقوته الجسمانية المخيفة إلى حياة
الدعة والرغد والعيش الحيواني الوضيع ،ثم مضى في تصوير بقية شخصياته على هذا المنوال واضعا نصب عينيه مطابقة الواقع واألمانة
التي ال تستحي في قول الصدق ،مما هو من سمات القصة الفرنسية في العصر الحديث.
بلزاك :يعتبر بلزاك خالق المذهب الواقعي ومرسي دعائمه فهو كما وصفه الناقد سانت بيف " أعظم رجل أنجبته فرنسا "حيث أنه تمتع
بشهرة ومكانة أدبية عظيمة تفوق بها على جميع الكتاب ومنهم ستندال نفسه .لقد تأثر بلزاك في أول نشأته بالمذهب الرومانسي إال أنه أفاق
فجأة على هاتف الخلود الذي أوحى له بفكرة سلسلة طويلة من القصص الرائعة التي سماها فيما بعد باسم " الملهاة اإلنسانية " والتي
استوعب فيها الحياة الفرنسية في مختلف أوضاعها ،ولم يترك صنفا من الناس إال وصفه وال جماعة من الجماعات إال أعطانا منها صورة ال
تبرح مخيلة قارئها .كان ال يبالي إذا كان يصف ملكا أو ملكة ،قائدا أو أديبا أو شاعرا ثم يقفز ليصف لنا طباخا أو جنديا أو امرأة عاهرة أو
جزارا أو فالحا عاديا .حيث كان يصفهم بنفس الحرارة والصدق الجريء ،ثم هو يثب من الوصف العام إلى الوصف الخاص الدقيق الذي
يتغلغل في أعماق المشاعر ودنيا األسرار ،ملونا صورة الواقعية هذه بلمحات حلوة جذابة من المذهب الرومانسي ،لكنه ال يسمح لتلك
اللمحات بالطغيان على األصل ،وهنا ميزة بلزاك ،وهذا كله موشى بكثير من النظرات الفلسفية والدراسات والتحليالت الرقيقة العميقة في آن
واحد.
فلوبير :أما جوستاف فلوبير فحسبه أنه منشىء ألروع قصة في األدب الواقعي وهي قصة " مدام بوفاري " ،والقصة صورة بارعة للحياة
الريفية الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر ،وصف فيها فلوبير الطبقة البرجوازية التي نشأ هو منها ،والعجيب أن فلوبير بالرغم من
واقعية موضوعاته إال أنه كان يحن إلى برقشة المذهب الرومانسي وزخارفه البيانية ،فلم يكد يفرغ من مدام بوفاري حتى عاد ليضرب في
تيه الرومانسية في قصته " ساالمبو" التي أحيا فيها ذكرى قرطاجنة في أسلوب مصنوع موشى بالزخارف طار به من عالم الواقع المرير
إلى عالم األحالم والعاطفة المشبوبة.
األخوان دي جونكور :الشك بأن األخوين دي جونكور :ادمون ( )1896 – 1822و جول ( )1870 – 1830هما مبتكرا المذهب
الطبيعي في األدب الفرنسي ،بل هما مبتكرا أيضا المذهب الرمزي .أو يعود إليهما الفضل في ابتكاره .كان نشاط هذين األخوين ال يقف عند
حد وكانت لهما ميزات أد بية وفنية متنوعة .فيؤثر أنهما أدخال مبادىء الفن الياباني في فرنسا .وقد ألف ادمون آخر كتبه عن الفنان الياباني
" كوساى" .وقد كتبا في كل شيء في األدب والصرف ،والرسائل ،والمقاالت ،والقصص والمسرحيات ،ومقاالتهما في وصف المجتمع
الفرنسي في القرن التاسع عشر من أمتع ما كتب في هذا الباب .إن شخصياتهما القصصية والمسرحية كانا يأخذانها بشكل مباشر من الحياة
العامة عمن يتصل بهم من الناس أخذا طبيعيا ال يزيدان فيه وال ينقصان ،إن عملهما األدبي ينحصر في تسجيل حركات الشخصيات بدون
تدخل حتى ال يكاد القارىء أن يحس بوجود الكاتب .إنهما آلة كاتبة أو " كاميرا" في يد البيئة أو يد الحياة .غرضهم الوحيد هو أن يوفرا
لألجيال القادمة أكبر قدر من المستندات الحية التي يعرفان بها أهل الجيل الحاضر معرفة كأنهم يرونهما بها رأي العين.
العجيب أن قصص دي جونكور ومسرحياتهما ال يقرأها أحد اليوم إال الذين يشتغلون بالحفريات األدبية .وأهم ما تركا خلفهما هو "جورنالهم"
الذي يؤرخ لحقبة طويلة حافلة من تاريخ األدب الفرنسي والذي استمر من عام 1851ولغاية 1895م وعلى الرغم من أن القارىء يصطدم
أثناء قراءته للجورنال بطائفة من الفضائح والمخزيات ،إال أنه يبتهج لما يشعر به من أنه يعيش في هذا الزمن ووسط أهله حيث أنهم تناولوا
في جورنالهم كال من جوته ،اميل زوال ،فلوبير ،رودان ،بودلير ،اوسكار وايلد وغيرهم.
اميل زوال :ولد اميل زوال في باريس سنة 1840م من أب فرنسي يجري في عروقه الدم االيطالي واليوناني ،وقد مات واميل زوال ما زال
طفال ،لذا قاسى الصبي حياة بؤس شديدة وبدأ حياته يكتب في إحدى دور النشر وباجر زهيد .لقي زوال األخوين دي جونكور عام 1868
فوصفاه " بالقلق والتشوف والعمق والتعقيد والتحفظ " وبأنه " ليس من اليسير ان يفهمه أحد على حقيقته " .أول ما فكر به كان كتابة
سلسلة من القصص الطبيعية الموسومة باسم روجين ماكارت ( )Roujon - macqurtوالتي ظل يكتبها ويصدرها طيلة ثالثين عاما.
تناول فيها زوال حياة أسرة من األسر العادية الفرنسية فصور أفرادها تصويرا مسهبا على طريقة دي جونكور ،تلك الطريقة التي ال تبرر
تصرفا من التصرفات وال تدافع عن خطة يختطها بطل القصة في الحياة بحيث تختفي شخصية الكاتب نهائيا فال يحس به القارىء طالما هو
منغمس في القراءة .إن كل قصة من هذه المجموعة تتناول مظهرا بعينه من مظاهر الحياة اليومية الزاخرة ،كاألسواق العامة والمشارب
والسكك الحديدية والمناجم وعالم االقتصاد واألوراق المالية وحالة الحرب سنة ،1870وترهات المعتقدات الدينية .لقد صور زوال حسب ما
قال جان كارير " رذائل عصره ومخزياته من حياة العرابيد واألفاقين واللصوص والعاهرات والسكارى والشاردين والمعتوهين وسفلة
البرجوزية والجنود الجبناء المهزومين الخ " .لقد وعد زوال بعالم زاخر بالحياة الصحيحة فأعطانا مستشفى وضالالت لطبقة ال يمكن
تصورها.
https://www.target-marketing.info/ward_detailsr.php?newsid=164&catno=4