You are on page 1of 8

‫وال شك أن نصوص الشرع محصورة‪ ،‬وأن الحوادث التي يحتاج المسلم لمعرفة حكم هللا فيها غير منتهية‪

،‬ولذلك اجتهد علماء أصول الفقه لوضع‬


‫آليات وقواعد يتوصل بها إلى حكم هللا تعالى‪ ،‬خاصة في الحوادث المسكوت عنها‪.‬‬

‫ويعتبر من أهم تلك القواعد‪ ،‬وهو الدليل الرابع من أدلة األحكام‪ ،‬ويأتي بعد القرآن والسنة واإلجماع‪ .‬والقي اس ه و إلح اق المس كوت عن ه ب المبين‬
‫حكمه إذا وجد جامع بينهما‪ ،‬هذا الجامع هو العلة‪ .‬وللوصول إلى العلة مسالك كثيرة مثل‪ :‬النص واإليماء والمناسبة وتنقيح المناط‪ .‬‬

‫وقد اختار الباحث أن يبحث في مسلك تنقيح المناط‪ ،‬وب دأ بق راءة م ا كتب في الموض وع من دراس ات س ابقة‪ ،‬وتتمث ل في كتب األص ول الحديث ة‬
‫والقديمة خاصة‪ ،‬ولم يجد الباحث في حدود اطالعه َمن بحث الموضوع بشكل مستقل؛ اللهم إال م ا ي ذكر في كتب األص ول القديم ة والحديث ة من‬
‫ذكر له ضمن مسالك العلة‪ ،‬وقد استفاد الباحث منها في معرفة المفاهيم األصولية المختلفة التي لها تعلق بموضوع البحث‪ ،‬وك ذا في الوق وف على‬
‫الفرق بين تلك المصلطحات‪ ،‬لكن الباحث لم يقف على مصدر أو مرجع واحد اهتم بذكر التطبيقات الفقهية لتنقيح المناط‪.‬‬

‫وتكمن أهمية هذا البحث في الجمع بين مسائل هذا المبحث األصولي ودراسته دراسة مستقلة‪ ،‬وكذلك في ذكر التطبيقات الفقهية له‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المبحث األول‬

‫مفهوم تنقيح المناط وحجيته‬

‫قبل أن نتطرق إلى أحكام تنقيح المناط وتطبيقاته والف رق بين ه وبين المص طلحات الش بيهة ب ه‪ ،‬يحس ن بن ا أن ن بين مع نى تنقيح المن اط في اللغ ة‬
‫واالصطالح‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المطلب األول‪ :‬تنقيح المناط لغة‪:‬‬

‫أوال‪ :‬التنقيح في اللغة‬

‫‪ ‬‬

‫التنقيح في اللغة يطلق على معان كثيرة منها‪:‬‬

‫‪ -1‬تنقيح الجذع‪ :‬تشذيبه‪.‬‬

‫‪ -2‬نقّح الشيء قشره‪.‬‬

‫‪ -3‬تنقيح ال ِّشعر‪ :‬تهذيبه‪.‬‬

‫‪ -4‬تنقّح شحم الناقة‪ :‬قل أو ذهب بعض ذهاب‪.‬‬

‫‪ -5‬نقّح الكالم‪ :‬فتشه وأحسن النظر فيه‪ ،‬وقيل‪ :‬أصلحه وأزال عيوبه‪.‬‬

‫‪ -6‬نقّح العظم ونقَحه ينقَحه نقحا وانتقحه‪ :‬استخرج مخه‪.‬‬

‫‪ -7‬أنقح الرجل إذا قلع حلية سيفه في أيام القحط والفقر‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫والمعنى المشترك بين هذه المعاني هو النزع واإلنقاص فكل ما نحيت عنه شيئا فقد نقحته[‪.]1‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثانيا‪ :‬المناط في اللغة‪:‬‬

‫المناط من ناط الشيء ينوطه نوطا‪ :‬علقه‪ ،‬ونياط كل شيء معلقه؛ كنياط القوس والقِربة‪ ،‬ويقال نُطت القِربة بنياطها‪ ،‬وكل م ا عل ق من ش يء فه و‬
‫نوط‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫ويشهد لهذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب أنه أتي إليه بمال كثير؛ فقال‪" :‬إني ألحسبكم قد أهلكتم الناس"‪ ،‬فقالوا‪" :‬وهللا ما أخذناه إال عفوا؛‬
‫بال سوط وال نوط"‪ .‬أي بال ضرب وال تعليق[‪.]2‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬تنقيح المناط في اصطالح األصوليين‪:‬‬

‫المناط عند األصوليين يراد به العلة‪ ،‬وه و من ب اب المج از اللغ وي وتش بيه المعق ول بالمحس وس‪ ،‬فك أن الحكم والعل ة أم ران محسوس ان‪ ،‬عل ق‬
‫الشارع األول بالثاني وناطه به[‪.]3‬‬

‫أما تنقيح المناط فقد اختلفت عبارات األصوليين فيه‪ ،‬حيث عرف ه الغ زالي هك ذا‪" :‬أن يض يف الش ارع الحكم إلى س بب وينوط ه ب ه‪ ،‬وتق ترن ب ه‬
‫أوصاف ال مدخل لها في اإلضافة‪ ،‬فيجب حذفها عن درجة االعتبار حتى يتسع الحكم"[‪ ،]4‬وعرفه المرداوي بأنه‪" :‬االجتهاد في تحص يل المن اط‬
‫الذي ربط به الشارع الحكم‪ ،‬فيبقي من األوصاف ما يصلح ويلغي ما ال يصلح"[‪ .]5‬ويالح ظ على ه ذين التع ريفين أنهم ا أدخال كلم تين من م ادة‬
‫المع َّرف وهما‪( :‬ينوطه) و(المناط) وهذا مما يعاب على التع اريف ألنه ا توق ع في ال دور‪ ،‬ولع ل ه ذا العيب أظه ر في المص طلحات ذات الكلم ة‬
‫الواحدة‪ ،‬أما في المصطلحات المركبة‪ ،‬مثل (تنقيح المناط) فالغموض فيه أقل‪ ،‬ذلك أن (المناط) في اصطالح األصوليين معروف معناه وهو العلة‬
‫كما تقدم‪ ،‬و(ينوطه) استعمله الغزالي بمعناه اللغوي أي (يعلقه)‪ .‬فلو استبدل الغزالي كلمة (ينوطه) بـ(علقه) والم رداوي (المن اط) بـ(العل ة) لك ان‬
‫تعريف كل منهما أوضح‪ ،‬ولسلما من النقد‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وعرفه اآلمدي فقال‪" :‬أما تنقيح المناط فهو النظر في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين؛ بح ذف م ا ال م دخل ل ه في االعتب ار من‬
‫األوصاف المقترنة به"[‪ ، ]6‬أما الزركشي فقال في تعريفه‪" :‬وحاصله‪ :‬إلحاق الفرع باألصل بإلغاء الفرق؛ بأن يقال‪ :‬ال ف رق بين األص ل والف رع‬
‫إال كذا وكذا‪ ،‬وذلك ال مدخل له في الحكم البتة فيل زم اش تراكهما في الحكم الش تراكهما في الم وجب ل ه"[‪ ،]7‬وأم ا الق رافي فعرف ه بقول ه‪" :‬تنقيح‬
‫المناط هو إلغاء الفارق فيشتركان في الحكم"[‪ ]8‬أي األصل والفرع‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وإذا تأملنا في التعاريف السابقة وجدنا تنقيح المناط يحصل بطريقتين‪:‬‬

‫األولى‪ :‬هي الواردة في كل من تعريف الزركشي والقرافي‪ ،‬وهي أن يبين المجتهد بأن الفرق بين األصل والف رع ال م دخل ل ه في الت أثير فيلح ق‬
‫الفرع باألصل‪ ،‬مثال ذلك قياس صب البول في الماء الراكد على التبول فيه مباشرة‪ ،‬حيث أن الن بي ‪ -‬ص لى هللا علي ه وس لم‪ -‬نهى عن التب ول في‬
‫الماء الراكد في قوله‪« :‬ال يبولن أحدكم في الماء الدائم»[‪ ،]9‬فيالحظ المجتهد أن ص ب الب ول في الم اء أو التب ول في ه مباش رة ال ف رق بينهم ا في‬
‫التأثير في الحكم‪ ،‬فيلحق الفرع باألصل[‪.]10‬‬

‫‪ ‬‬

‫الثانية‪ :‬هي الواردة في تعريف كل من الغزالي والمرداوي واآلمدي‪ ،‬وهي أن يدل النص على حكم‪ ،‬وتوجد مع ه أوص اف كث يرة‪ ،‬فيق وم المجته د‬
‫ول‬
‫ت يَ ا َر ُس َ‬ ‫بحذف ما ال مدخل له في العلية‪  .‬ويمثل له بما روي عن ع َْن أَبِي هُ َر ْي َرةَ أَ َّن َر ُجاًل َجا َء إِلَى النَّبِ ِّي ‪ -‬ص لى هللا علي ه وس لم‪ -‬فَقَ َ‬
‫ال‪ :‬هَلَ ْك ُ‬
‫ال‪ :‬اَل ‪ ،‬قَ ا َل‪ :‬أَت َْس ت َِطي ُع أَ ْن ت ُ‬
‫َص و َم َش ْه َري ِْن‬ ‫ضانَ ‪ ،‬فَقَا َل النَّبِ ُّي ‪ -‬ص لى هللا علي ه وس لم‪ :-‬أَتَ ِج ُد َرقَبَ ةً؟ قَ َ‬ ‫ْت أَ ْهلِي فِي َر َم َ‬ ‫هَّللا ِ‪ ،‬قَا َل‪َ :‬و َما َذا َ‬
‫ك؟ قَا َل‪َ :‬واقَع ُ‬
‫ول ِ[‪ .]11‬فه ذا نص ذك ر في ه الحكم وه و وج وب الكف ارة‪،‬‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫هَّللا‬
‫ُمتَتَابِ َعي ِْن؟ قَا َل‪ :‬اَل يَا َرسُو َل ِ‪ ،‬قا َل‪ :‬أفاَل تط ِع ُم ِستينَ ِم ْس ِكينا؟ ق ا َل‪ :‬اَل أ ِج ُد يَ ا َر ُس َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وذكرت مع الحكم أوصاف أخرى هي‪:‬‬

‫♦ كون السائل أعرابيا‪ ،‬فهذا الوصف ال يصلح للعلية؛ بل نلحق به كل من فعل فعلته‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫♦ كون التي جامعها زوجته‪ ،‬وهذا وصف يحذف كذلك‪ ،‬ألنه لو جامع سريته لما كان في ذلك فرق‪ ،‬ولو زنا لكان أشد في الحرمة‪.‬‬

‫♦ كون الجماع في رمضان تلك السنة وفي ذلك اليوم؛ وهذا وصف ملغي كذلك؛ لعلمنا أن الحكم ال يتغير بتغير السنة أو اليوم فقط‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫فيبقى وصف واحد صالح للتعليل هو كونه جماع مكلف[‪ .]12‬وسيأتي في المبحث الثالث اختالف الفقهاء في مناط الحكم هل هو الجم اع بعين ه أم‬
‫هتك حرمة الصيام‪.‬‬

‫‪ ‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬حجية تنقيح المناط‪:‬‬

‫يعتبر تنقيح المناط من أقوى مسالك العلة‪ ،‬وذهب التاج السبكي والبرماوي وغيرهما إلى أنه أجود مسالك العلة‪ .‬بل أجراه أبو حنيف ة في الكف ارات‬
‫مع منعه القياس‪ ،‬وسماه أكثر الحنفية استدالال‪ ،‬وفرقوا بينه وبين القياس بأن القياس ما ألحق فيه الفرع باألصل بذكر الجامع الذي ال يفي د إال غلب ة‬
‫الظن‪ ،‬واالستدالل ما يكون اإللحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد القطع حتى أجروه مجرى القطعي ات في النس خ‪ ،‬ب ل ح تى منك رو القي اس أق ر ب ه‬
‫أكثرهم لقوة داللته[‪.]13‬‬

‫‪ ‬‬

‫المبحث الثاني‬

‫الفرق بين تنقيح المناط والمصطلحات الشبيهة به‬

‫عرفنا في المبحث األول معنى تنقيح المناط في اللغة واالصطالح‪ ،‬ووج دنا أن تنقيح المن اط يتش ابه م ع تحقي ق المن اط وتخ ريج المن اط من حيث‬
‫التس مية‪ ،‬ووج دنا ل ه ش بها بمس لك الس بر والتقس يم من حيث المفه وم والم ؤدى‪ ،‬ومن هن ا يتب ادر إلى ذهنن ا الس ؤال اآلتي‪ :‬م ا الف رق بين تل ك‬
‫المصطلحات األصولية؟ وهذا ما سنجيب عنه في هذا المبحث‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المطلب األول‪ :‬الفرق بين تنقيح المناط وتحقيق المناط وتخريج المناط‪.‬‬

‫قبل أن نبين الفرق بين تنقيح المناط وتحقيق المناط وتخريج المناط يجدر بنا أن نعرف هذه المفاهيم األص ولية‪ ،‬وق د س بق أن عرفن ا تنقيح المن اط‬
‫في المبحث األول‪ ،‬وسنعرف هنا بتحقيق المناط وتخريج المناط‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -1‬تعريف تحقيق المناط‪:‬‬

‫عرف األصوليون تحقيق المناط تعريفات نذكر منها‪:‬‬

‫♦ "أما تحقيق المناط فهو النظر في وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها"[‪.]14‬‬

‫♦ "أما تحقيق المناط فهو أن يتفق على علية وصف بنص أو إجماع‪ ،‬فيجتهد في وجودها في صور النزاع"[‪.]15‬‬

‫‪ ‬‬

‫يظهر من هذه التعاريف أن تحقيق المناط اجتهاد في تنزيل النص وتطبيقه على آحاد الصور‪ ،‬بعد معرفة العلة؛ س واء ثبتت ب النص؛ ك التحقق من‬
‫ْث َم ا ُك ْنتُ ْم فَ َولُّوا ُو ُج وهَ ُك ْم َش ْ‬
‫ط َرهُ ﴾ [البق رة‪ ،]144 :‬أو باإلجم اع‪ ،‬أو‬ ‫جه ة القبل ة؛ ال تي أن اط هللا تع الى به ا وج وب االس تقبال في قول ه‪َ ﴿ :‬و َحي ُ‬
‫باالستنباط؛ مثل التحقق من وجود الشدة المطربة في النبيذ[‪.]16‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -2‬تعريف تخريج المناط‪:‬‬

‫عرفه اآلمدي فقال‪" :‬وأما تخريج المناط فهو النظر في إثبات علة حكم األصل بالرأي واالجتهاد"[‪ ،]17‬وعرف ه الزركش ي بقول ه‪" :‬وأم ا تخ ريج‬
‫المناط فهو االجتهاد في استخراج علة الحكم الذي دل النص أو اإلجماع عليه من غير تعرض لبيان علته أصال"[‪.]18‬‬

‫‪ ‬‬

‫يتضح من التعريفين السابقين أن تخريج المناط هو البحث عن العلة التي ناط الشارع الحكم بها‪ ،‬ويكون ذلك في النصوص التي لم تذكر فيه ا عل ة‬
‫الحكم‪ .‬مثال ذلك أن هللا تعالى حرم الخمر ولم يذكر العلة‪ ،‬فقام المجتهدون بتخريج المناط أو استخراج العلة‪ ،‬فقالوا‪ :‬العلة اإلسكار‪ ،‬وحرم الرسول‬
‫‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬الربا في البر فقال المستنبط‪ :‬العلة فيه كونه مطعوم ا‪ ،‬وأوجب العش ر في ال بر‪ ،‬فق ال بعض المجته دين‪ :‬العل ة كون ه قوت ا‬
‫فأوجب الزكاة في كل األقوات‪ ،‬وقال بعض المجتهدين‪ :‬العلة كونه نبات األرض وفائدتها فألحق كل ما أنبتت األرض[‪.]19‬‬

‫‪ ‬‬
‫‪ -3‬الفرق بين المصطلحات الثالثة‪:‬‬

‫يشترك تنقيح المناط مع تحقيق المناط وتخريج المناط في أن الثالثة كلها عمليات تتعلق بالمناط أو العلة‪ ،‬لكنها تختلف ب اختالف األصل (النص أو‬
‫اإلجماع) الذي يخضع لهذه العملية أو تلك‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأبسط تلك العمليات هي‪ :‬تحقيق المناط‪ ،‬وتكون في النص الذي بين الشارع فيه الحكم وذك ر العل ة ص راحة‪ ،‬فبقي للمجته د أن يتحق ق من وج ود‬
‫العلة في آحاد الصور‪ ،‬مثال ذلك ما روي عن أبي قتادة عن رس ول هللا ‪ -‬ص لى هللا علي ه وس لم‪ -‬أن ه ق ال في اله رة‪" :‬إنه ا ليس ت بنجس إنه ا من‬
‫الطوافين عليكم والطوافات"[‪ ، ]20‬فقد صرح النص بالحكم وهو طهارة الهرة وسؤرها‪ ،‬وصرح بالعلة؛ وهي أنها من الحيوانات األهلي ة الطواف ة‬
‫في البيت‪ ،‬لكن هل ينطبق الحكم على الفأرة؟ هنا يقوم المجتهد بتحقيق المناط؛ أي يتحقق من وجود العلة في الفرع‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أما تنقيح المناط فيكون في األصل الذي ذكر فيه الحكم مشوبا بأوصاف قد تصلح مناطا للحكم وق د ال تص لح‪ ،‬فيك ون عم ل المجته د ه و اس تبعاد‬
‫األوصاف التي ال تصلح للعلية‪ ،‬واستبقاء ما يصلح فيها‪ .‬بعد ذلك يقوم بتحقيق المناط وهو التأكد من وجود تلك العلة في الفرع‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وأما تخريج المناط فهو أص عب تل ك العملي ات؛ ألن ه يك ون في نص ذك ر في ه الحكم‪ ،‬ولم ت ذكر العل ة‪ ،‬فيق وم المجته د باس تخراج العل ة بطرقه ا‬
‫المختلفة‪ ،‬ثم يقوم بتحقيق المناط والتأكد من وجود تلك العلة في الفرع[‪.]21‬‬

‫‪ ‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬الفرق بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم‪.‬‬

‫عرفنا مفهوم تنقيح المناط في المبحث األول‪ ،‬وهنا سنتعرف على مفهوم السبر والتقسيم‪ ،‬والفرق بينه وبين تنقيح المناط‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -1‬تعريف السبر والتقسيم‪:‬‬

‫السبر هو‪" :‬اختبار الوصف في صالحيته وعدمها للتعليل به"[‪ ،]22‬والتقسيم هو‪" :‬حصر األوصاف المحتملة للتعليل؛ بأن يقال‪ :‬العلة إم ا ك ذا أو‬
‫كذا"[‪.]23‬‬

‫‪ ‬‬

‫أما عملية السبر والتقسيم فقد عرفت تعريفات كثيرة نذكر منها‪:‬‬

‫♦ "وذلك بأن يقول‪ :‬هذا الحكم معلل‪ ،‬وال علة له إال كذا أو كذا‪ ،‬وقد بطل أحدهما فتعين اآلخر"[‪.]24‬‬

‫♦ "ذكر أوصاف‪  ‬في األصل المقيس عليه محصورة‪ ،‬وإبطال بعضها بدليل فيتعين الباقي للعلية"[‪.]25‬‬

‫‪ ‬‬

‫فالسبر والتقسيم إذن هو أن يحصر المجتهد كل األوصاف المحتملة للعلية‪ ،‬ثم يختبرها وصفا وصفا فيح ذف م ا ال يص لح للعلي ة ب دليل‪ ،‬ويبقي م ا‬
‫يصلح‪ .‬مثال ذلك أن الشافعي حصر علة والية اإلجبار على النكاح إما في الصغر أو في البكارة‪ ،‬ثم أبطل أن يكون وصف الصغر صالحا للعلي ة‪،‬‬
‫ألنه يعني أن الثيب الصغيرة تجبر؛ وذلك مخالف لقوله عليه السالم‪« :‬الثيب أحق بنفسها»[‪ ،]26‬فلم يبق إال أن يعلل بالبكارة[‪.]27‬‬

‫‪ ‬‬

‫لكن يبدو مما سبق أن عملية التقسيم متقدمة على السبر في الواقع؛ فلماذا أخرت في الذكر؟ والجواب أن ذلك يرجع لسببين‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أن المجتهد يبدأ بالسبر؛ فيختبر المحل هل هو تعبدي أو أن ه معق ول المع نى‪ ،‬ف إذا وج د أن ه معق ول المع نى انتق ل إلى التقس يم وه و حص ر‬
‫األوصاف المحتملة للعلية‪ ،‬فالسبر إذا يسبق التقسيم‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫ثانيا‪ :‬عملية السبر هي العملية األساسية‪ ،‬أما التقسيم وجد تبعا للسبر‪ ،‬فقدم األولى واألهم[‪.]28‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -1‬الفرق بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم‪:‬‬

‫تبين مما سبق أن تنقيح المناط هو أن يذكر الشارع الحكم‪ ،‬ويذكر معه أوصافا؛ بعضها يصلح للعلية وبعضها ال يصلح‪ ،‬فيحذف المجته د منه ا م ا‬
‫ال يصلح‪ ،‬ويعلل الحكم بالوصف الصالح للعلية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫أما السبر والتقسيم فهو أن يذكر الشارع الحكم وال يذكر العلة فيقوم المجتهد بما يلي‪:‬‬

‫♦ السبر األول‪ :‬فينظر هل الحكم معلل أم تعبدي؟ فإذا وجده معلال انتقل إلى الخطوة الثانية‪.‬‬

‫♦ التقسيم‪ :‬يقوم بحصر األوصاف التي يمكن أن تكون صالحة للعلية‪.‬‬

‫♦ السبر الثاني‪ :‬يقوم باختبار تلك األوصاف وحذف ما ال يصلح للتعليل‪ ،‬ويبقي ما يصلح فيعلل به الحكم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫فما هو الفرق بين المسلكين؟ وهل هما أمر واحد أم مختلفان؟‬

‫ذهب إمام الحرمين إلى أنهما مسلك واحد وال فرق بينهما‪ ،‬لكن الجمهور ذهبوا إلى أنهما مسلكان مختلفان‪.‬‬

‫لكن المتأمل في تعاريف المسلكين يجد أنهما يتفقان في بعض الجزئيات ويختلفان في غيرها‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويمكن اختصار ذلك كاآلتي‪:‬‬

‫يختل ف المس لكان في أن العل ة في الس بر والتقس يم غ ير م ذكورة في النص البت ة‪ ،‬أم ا في تنقيح المن اط فهي م ذكورة في النص؛ لكن ذك ر معه ا‬
‫أوصاف أخرى؛ فوجب حذف ما ال يصلح للتعليل منها‪ .‬فمسلك السبر والتقسيم يوجد العلة‪ ،‬أما مس لك تنقيح المن اط فال يوج د العل ة ب ل ينقيه ا من‬
‫األوصاف غير الصالحة للتعليل‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ويتفقان في السبر الثاني؛ وهو إبطال األوصاف التي ال تصلح للعلية[‪.]29‬‬

‫‪ ‬‬

‫المبحث الثالث‬

‫التطبيقات الفقهية لتنقيح المناط‬

‫بعد أن تعرفنا على مفهوم تنقيح المناط والفرق بينه وبين المفاهيم األصولية ذات الصلة‪ ،‬نأتي إلى التطبيقات الفقهية لهذا المسلك‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المطلب األول‪ :‬الكفارة على من أكل أو شرب في نهار رمضان‪:‬‬

‫ْت أَ ْهلِي فِي َر َم َ‬


‫ضانَ ‪ ،‬فَقَا َل النَّبِ ُّي ‪-‬‬ ‫ال‪َ :‬واقَع ُ‬ ‫ك؟ ق َ َ‬ ‫ت يَا َرسُو َل هَّللا ِ‪ ،‬قَ َ‬
‫ال‪َ :‬و َما َذا َ‬ ‫ع َْن أَبِي ه َُري َْرةَ أَ َّن َر ُجاًل َجا َء إِلَى النَّبِ ِّي َ‬
‫صلَّى هَّللا ُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم فَقَا َل‪ :‬هَلَ ْك ُ‬
‫ُول هَّللا ِ‪ ،‬قَا َل‪ :‬أَفَاَل تُ ْ‬
‫ط ِع ُم ِستِّينَ ِم ْس ِكينًا؟ قَ َ‬
‫ال‪ :‬اَل‬ ‫ال‪ :‬اَل يَا َرس َ‬ ‫ال‪ :‬أَتَ ْست َِطي ُع أَ ْن تَصُو َم َش ْه َر ْي ِن ُمتَتَابِ َع ْي ِن؟ قَ َ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪ :-‬أَتَ ِج ُد َرقَبَةً؟ قَا َل‪ :‬اَل ‪ ،‬قَ َ‬
‫أَ ِج ُد يَا َرسُو َل هَّللا ِ[‪.]30‬‬
‫‪ ‬‬

‫فقد نص الحديث على وجوب الكفارة على من جامع زوجه في نهار رمضان‪ ،‬لكن هل تجب الكفارة على من أكل أو شرب في نهار رمضان؟‬

‫‪ ‬‬

‫اختلف الفقهاء في تنقيح مناط الكفارة في الحديث إلى مذهبين‪:‬‬

‫المذهب األول‪ :‬ذهب الشافعي وأحمد وأكثر أصحابهما إلى أن العلة في الحديث هي الجماع في نهار رمضان‪ ،‬ول ذلك لم يوجب وا الكف ارة على من‬
‫أكل أو شرب عمدا في نهار رمضان‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬إن شهوة األكل والشرب يكفي الدين لكبح جماحها‪ ،‬أما شهوة الجماع فال يكفي الدين لردعها عن د بعض الن اس؛ فش رعت الكف ارة ل ردعهم؛‬
‫ألنهم إن تذكروا أن عليهم الكفارة امتنعوا عن الجماع‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫وقالوا‪ :‬إن الكفارة شرعت لتكفير الذنب والمعصية‪ ،‬فكانت مناسبة لمن نقض صومه بالجماع‪ ،‬أما من أك ل وش رب عم دا في نه ار رمض ان؛ م ع‬
‫ضعف هذه الشهوة؛ فال تكفي الكفارة لمسح هذا الذنب الكبير‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المذهب الثاني‪ :‬ذهب أبو حنيفة ومالك وأكثر أصحابهما إلى أن علة الكف ارة هي إفس اد الص وم المح ترم‪ ،‬فهم ح ذفوا وص ف (الجم اع) عن من اط‬
‫الحكم‪ ،‬ولذلك أوجبوا الكفارة على من أكل أو شرب عمدا في نهار رمضان‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫قالوا‪ :‬الكفارة شرعت لزجر كل من أفسد صومه‪ ،‬وما الجماع المذكور في الحديث إال وسيلة لذلك النقض ال يختلف عنها األكل والشرب عمدا‪.‬كما‬
‫أن مناط القصاص هو القتل العمد العدوان‪ ،‬سواء كانت وسيلته السيف أو السكين أو الخنجر أو غيره[‪.]31‬‬

‫‪ ‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬حكم التطيب قبل اإلحرام‪:‬‬

‫ال‪َ :‬ك ْيفَ تَ أْ ُم ُرنِي أَ ْن‬


‫وق ‪-‬أَوْ قَا َل صُ ْف َرةٌ‪ -‬فَقَ َ‬‫ي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪َ -‬وهُ َو بِ ْال ِجع َْرانَ ِة َو َعلَ ْي ِه ُجبَّةٌ َو َعلَ ْي ِه أَثَ ُر ْال َخلُ ِ‬ ‫عن يعلى بن أمية أَ َّن َر ُجاًل أَتَى النَّبِ َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫الس ائِ ُل عَن ال ُع ْم َر ِة؟ اخل ْع َعن كَ ال ُجبَّة‪َ ،‬واغ ِس لْ أث َر‬ ‫َ‬
‫ي َعنهُ قا َل‪« :‬أ ْينَ َّ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫أَصْ نَ َع فِي ُع ْم َرتِي؟ فَأ َ ْن َز َل هَّللا ُ َعلَى النبِ ِّي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ ...-‬فل َّما ُس ِّر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ك َك َما تَصْ نَ ُع فِي َحجِّ كَ»[‪.]32‬‬ ‫ق الصُّ ْف َرةَ‪َ ،‬واصْ نَ ْع فِي ُع ْم َرتِ َ‬ ‫وق َع ْنكَ ‪َ ،‬وأَ ْن ِ‬
‫ْالخَ لُ ِ‬

‫‪ ‬‬

‫والخلوق هو "طيبٌ معروف ُم َركب يُتَّخذ من ال َّز ْعفَ َران وغيره من أ ْنواع الطّيب‪ ،‬وتَ ْغلب عليه ْالحُمرة والصُّ ْفرة"[‪]33‬‬

‫‪ ‬‬

‫في هذا الحديث أمر الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬الرجل أن يغسل أثر الخل وق‪ ،‬ف اختلف العلم اء في تنقيح من اط ه ذا الحكم‪ ،‬فه ل أم ره بغس ل‬
‫الخلوق لكونه طيبا‪ ،‬أم لكونه خلوقا لرجل وقد نهى ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أن يتزعفر الرجل؟‬

‫‪ ‬‬

‫المذهب األول‪ :‬مناط الحكم هو التطيب‪ ،‬فال يجوز للمحرم التطيب‪ ،‬وهو مذهب مالك‪ ،‬وإليه ذهب عطاء وابن عمر‪.‬‬

‫ب َوهُ َو بِال َّش َج َر ِة؛ فَقَ َ‬


‫ال‪ِ :‬م َّم ْن ِري ُح هَ َذا‬ ‫يح ِطي ٍ‬
‫ب َو َج َد ِر َ‬‫ب أَ َّن ُع َم َر ْبنَ ْالخَطَّا ِ‬
‫وهو مذهب عمر بن الخطاب؛ ف َع ْن نَافِ ٍع ع َْن أَ ْسلَ َم َموْ لَى ُع َم َر ب ِْن ْال َخطَّا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هَّللا‬
‫ك لَ َع ْم ُر ِ!‪ ،‬فق َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫اويَةُ بْنُ أَبِي ُس ْفيَانَ ‪ِ :‬منِّي يَا أَ ِمي َر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ‪ ،‬فَقَا َل‪ِ :‬م ْن َ‬ ‫الطِّي ِ‬
‫ال ُع َم رُ‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ير ال ُم ؤ ِمنِينَ ‪ ،‬فق َ‬ ‫َّ‬
‫اويَة‪ :‬إِن أ َّم َحبِيبَة طيَّبَتنِي يَا أ ِم َ‬
‫ال ُم َع ِ‬ ‫ب؟ فَقَا َل ُم َع ِ‬
‫ْ‬
‫ت َعلَ ْيكَ لَتَرْ ِج َع َّن فَلتَ ْغ ِسلَنَّهُ[‪.]34‬‬
‫َعزَ ْم ُ‬

‫‪ ‬‬
‫وهو مذهب عثمان كذلك‪ ،‬ف َع ْن َس ْع ِد ْب ِن إب َْرا ِهي َم ع َْن أَبِي ِه قَا َل‪ُ " :‬ك ْنت َم َع ع ُْث َمانَ بِ ِذي ْال ُحلَ ْيفَ ِة فَ َرأَى َر ُجاًل ي ُِري ُد أَ ْن يُحْ ِر َم َوقَ ْد َدهَنَ َر ْأ َس هُ‪ ،‬فَ أ َ َم َر بِ ِه‬
‫فَ َغ َس َل َر ْأ َسهُ بِالطِّي ِن"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫المذهب الثاني‪ :‬ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى أن مناط الحكم هو التطيب بالخلوق‪ ،‬وقد نهى الرسول أن يتزعفر الرج ل‪ ،‬فال يمن ع المح رم‬
‫ص‪َ ،‬وعَائِ َشةَ‪َ ،‬وأُ ِّم َحبِيبَةَ‪َ ،‬و ُم َع ِ‬
‫اويَةَ‪.‬‬ ‫الزبَي ِْر‪َ ،‬و َس ْع ِد ابْن أَبِي َوقَّا ٍ‬
‫س‪َ ،‬وا ْب ِن ُّ‬
‫من استدامة الطيب‪ ،‬وهو قَوْ ُل اب ِْن َعبَّا ٍ‬

‫‪ ‬‬

‫س قَا َل‪" :‬نَهَى النَّبِ ُّي ‪ - ‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬أَ ْن يَتَ َز ْعفَ َر ال َّر ُجلُ"[‪.]35‬‬
‫والدليل على حرمة التطيب بالزعفران للرجل ما رواه أَنَ ٍ‬

‫‪ ‬‬

‫ت أُ َ‬
‫طيِّبُ َرسُو َل هَّللا ِ ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬إِل ِ حْ َرا ِم ِه‬ ‫قالوا‪ :‬ولو سلمنا أن الحديث فيه نهي عن التطيب قبل اإلحرام‪ ،‬فهو منسوخ‪ ،‬بقَوْ ل عَائِ َشةَ‪ُ " :‬ك ْن ُ‬
‫ق ‪ -‬ص لى هللا علي ه وس لم‪َ -‬وهُ َو ُمحْ ِر ٌم"[‪ .]36‬وح ديث‬ ‫ب فِي َم ْف ِر ِ‬ ‫ت" وقالت‪َ " :‬كأَنِّي أَ ْنظُ ُر إِلَى َوبِ ِ‬
‫يص الطِّي ِ‬ ‫ِحينَ يُحْ ِر ُم َولِ ِحلِّ ِه قَ ْب َل أَ ْن يَطُوفَ بِ ْالبَ ْي ِ‬
‫عائشة عن حجة الوداع في السنة العاشرة‪ ،‬أما حديث األعرابي فهو في السنة الثامنة؛ فهو متأخر‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ال‪َ :‬م ا أُ ِحبُّ‬


‫ُص بِ ُح ُمحْ ِرمًا‪ ،‬فَقَ َ‬ ‫طيَّبُ ثُ َّم ي ْ‬‫ت َع ْب َد هَّللا ِ ْبنَ ُع َم َر عَن ال َّرج ُِل يَتَ َ‬ ‫ال‪َ " :‬سأ َ ْل ُ‬ ‫واستدلوا كذلك بما رواه إِب َْرا ِهيم ْب ِن ُم َح َّم ِد ْب ِن ْال ُم ْنتَ ِش ِر ع َْن أَبِي ِه قَ َ‬
‫ص بِ َح‬ ‫ال‪َ :‬م ا أُ ِحبُّ أَ ْن أُ ْ‬ ‫ت َعلَى عَائِ َشةَ فَأ َ ْخبَرْ تُهَ ا أَ َّن ا ْبنَ ُع َم َر قَ َ‬ ‫ي ِم ْن أَ ْن أَ ْف َع َل َذلِكَ‪ ،‬فَ َد َخ ْل ُ‬‫ض ُخ ِطيبًا‪ ،‬أَل َ ْن أَطَّلِ َي بِقَ ِط َرا ٍن أَ َحبُّ إِلَ َّ‬ ‫أَ ْن أُصْ بِ َح ُمحْ ِر ًما أَ ْن َ‬
‫ُ‬
‫ْت َرسُو َل ِ ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ِ -‬ع ْن َد إِحْ َرا ِم ِه ث َّم طَ افَ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ت عَائِ َشة‪ :‬أنَا َ‬
‫طيَّب ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي ِم ْن أ ْن أف َع َل َذلِكَ‪ ،‬فَقَالَ ْ‬ ‫ض ُخ ِطيبًا أَل َ ْن أطلِ َي بِقَ ِط َرا ٍن أ َحبُّ إِلَ َّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُمحْ ِر ًما أَ ْن َ‬
‫فِي نِ َسائِ ِه ثُ َّم أَصْ بَ َح ُمحْ ِر ًما"[‪.]37‬‬

‫‪ ‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬مسائل أخرى‪.‬‬

‫‪ -1‬حد العبد الزاني‪:‬‬

‫ب ﴾ [النساء‪ ]25:‬نجد في هذه اآلية حكما وأوصافا‪ ،‬أما‬ ‫ت ِمنَ ْال َع َذا ِ‬ ‫يقول هللا تعالى‪ ﴿ :‬فَإ ِ َذا أُحْ ِ‬
‫ص َّن فَإ ِ ْن أَتَ ْينَ بِفَا ِح َش ٍة فَ َعلَ ْي ِه َّن نِصْ فُ َما َعلَى ْال ُمحْ َ‬
‫صنَا ِ‬
‫الحكم فهو الجلد خمسين جلدة‪ ،‬أما األوصاف فهي‪ :‬الزنا‪ ،‬الرق‪ ،‬األنوث ة‪ ،‬فق ام الفقه اء بتنقيح المن اط‪ ،‬واختب ار تل ك األوص اف لح ذف م ا يص لح‬
‫للتعليل‪ ،‬وإبقاء الصالح‪ ،‬فحذفوا وصف األنوثة لكون ه غ ير ص الح للعلي ة‪ ،‬ألن ه ال ف رق بين ال ذكر واألن ثى في ه ذا الحكم‪ ،‬وأبق وا وص في الزن ا‬
‫والرق‪ ،‬ولذلك فإن حد العبد الزاني واألمة الزانية هو الجلد خمسين جلدة‪ .‬يقول ابن الهم ام‪" :‬وإن ك ان عب دا جل ده خمس ين لقول ه تع الى‪) :‬فَ َعلَ ْي ِه َّن‬
‫ب(‪ ...‬وال فرق بين الذكر واألنثى بتنقيح المناط"[‪.]38‬‬ ‫ت ِمنَ ْال َع َذا ِ‬ ‫صنَا ِ‬‫نِصْ فُ َما َعلَى ْال ُمحْ َ‬

‫‪ ‬‬

‫وذهب البعض إلى أن العبيد يدخلون في منطوق اآلية من طريق التغليب‪ ،‬وهو خطأ؛ ألن صيغة الذكور تعم اإلناث‪ ،‬وليس العكس[‪.]39‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ -2‬قضاء القاضي مشوش الذهن‪:‬‬

‫ضيَ َّن َح َك ٌم بَ ْينَ ْاثنَ ْي ِن َوهُ َو غ ْ‬


‫َض بَانُ »[‪ ،]40‬ففي الح ديث حكم ه و النهي عن‬ ‫ي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬يَقُولُ‪« :‬اَل يَ ْق ِ‬
‫ْت النَّبِ َّ‬
‫عن أبي بكرة قال‪َ :‬س ِمع ُ‬
‫القضاء‪ ،‬وقد أنيط هذا الحكم بوصف هو الغضب‪ ،‬لكن الفقهاء نقحوا المناط فقالوا‪ :‬العلة أعم من الغضب؛ بل هو تشوش الذهن؛ سواء ك ان بس بب‬
‫الغضب أو الجوع أو العطش أو غيره‪ ،‬ألنه ال فرق بين تلك األمور‪ .‬يق ول ابن عرف ة‪" :‬اتف ق العلم اء على إناط ة الحكم ب أعم من الغض ب؛ وه و‬
‫األمر الشاغل‪ ،‬وإلغاء خصوص الغضب‪ ،‬وسموا هذا اإللغاء واالعتبار بتنقيح المناط"[‪.]41‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬

‫تطرق هذا البحث إلى مسلك من مس الك العل ة وه و تنقيح المن اط‪ ،‬فب دأ بت بين مفهوم ه وحجيت ه‪ ،‬ثم التفري ق بين ه وبين المص طلحات الش بيهة ب ه‬
‫والقريبة منه‪ ،‬وهي‪ :‬تحقيق المناط‪ ،‬وتخريج المناط‪ ،‬والسبر والتقسيم‪ ،‬ثم انتهى بتقديم بعض التطبيقات الفقهية له ذا المس لك‪ .‬ويمكن إب راز النت ائج‬
‫التي انتهى إليها فيما يلي‪:‬‬
‫♦ التنقيح في اللغة هو التشذيب واإلنقاص‪ ،‬وكلما نحيت عنه شيئا فقد نقحته‪ .‬أما المناط في اللغة فهو التعليق‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫♦ المناط عند األصوليين هو العلة‪ ،‬وتنقيح المناط عندهم هو‪ :‬أن يضيف الشارع الحكم إلى سبب ويعلقه به‪ ،‬وتقترن به أوصاف ال م دخل له ا في‬
‫اإلضافة‪ ،‬فيجب حذفها عن درجة االعتبار حتى يتسع الحكم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫♦ يعتبر تنقيح المناط من أقوى مسالك العلة‪ ،‬واعتبره البعض أقوى حجة من القياس نفسه‪ ،‬ويدل على ذلك أن األحن اف ال ذين لم يج وزوا القي اس‬
‫في الكفارات استعملوه فيها‪ ،‬بل إن المانعين للقياس احتجوا به وقبلوه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫♦ يشترك تنقيح المناط مع تحقيق المناط وتخريج المناط في أن الثالثة كلها عمليات تتعلق بالمناط أو العلة‪ ،‬لكنها تختلف باختالف األص ل (النص‬
‫أو اإلجماع) الذي يخضع لهذه العملية أو تلك‪ .‬وأبسط تلك العمليات هي‪ :‬تحقيق المناط‪ ،‬وتكون في النص الذي بين الشارع في ه الحكم وذك ر العل ة‬
‫صراحة‪ ،‬فبقي للمجتهد أن يتحقق من وجود العلة في آحاد الصور فقط‪ .‬أما تنقيح المناط فيكون في األصل الذي ذكر فيه الحكم مشوبا بأوصاف قد‬
‫تصلح مناطا للحكم وقد ال تصلح‪ ،‬فيكون عمل المجتهد هو استبعاد األوصاف التي ال تصلح للعلية‪ ،‬واستبقاء ما يصلح لها‪ .‬بعد ذل ك يق وم بتحقي ق‬
‫المناط وهو التأكد من وجود تلك العلة في الفرع‪ .‬وأما تخريج المناط فهو أص عب تل ك العملي ات؛ ألن ه يك ون في نص ذك ر في ه الحكم‪ ،‬ولم ت ذكر‬
‫العلة‪ ،‬فيقوم المجتهد باستخراج العلة بطرقها المختلفة‪ ،‬ثم يقوم بتحقيق المناط والتأكد من وجود تلك العلة في الفرع‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫♦ يختلف المسلكان في أن العلة في (السبر والتقسيم) غير مذكورة في النص البتة‪ ،‬أما في (تنقيح المناط) فهي مذكورة في النص؛ لكن ذك ر معه ا‬
‫أوصاف أخرى؛ فوجب حذف ما ال يصلح للتعليل منها‪ .‬فمسلك (السبر والتقسيم) يوجد العلة‪ ،‬أما مسلك (تنقيح المناط) ال يوجد العلة بل ينقيه ا من‬
‫األوصاف غير الصالحة للتعليل‪ .‬ويتفقان في السبر الثاني؛ وهو إبطال األوصاف التي ال تصلح للعلية‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫♦ كان لمسلك تنقيح المناط أثر في اختالف الفقهاء في مسائل نذكر منها‪:‬‬

‫أوال‪ :‬الكفارة على من أكل أوشرب عمدا في نهار رمضان؛ حيث أوجبه ا مال ك وأب و حنيف ة ألنهم رأوا أن من اط الكف ارة في الح ديث ه و انته اك‬
‫حرمة الصوم‪ ،‬وليس المقصود الجماع بعينه‪ ،‬وأما الشافعي وأحمد فلم يوجبوا عليه الكفارة؛ ألنهم رأوا أن المناط هو الجماع بعينه‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثانيا‪ :‬التطيب قبل اإلحرام‪ :‬كره مالك ذلك بناء على حديث يعلى بن أمية الذي أمر فيه رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬رجال بغسل الخلوق عنه‪،‬‬
‫أما األئمة اآلخرون فجوزوا ذلك‪ ،‬بناء على أن مناط األمر بغس ل الخل وق ه و أن الرج ل منهي عن ال تزعفر‪ ،‬والخل وق مص نوع من الزعف ران‪،‬‬
‫وليس نهيا عن التطيب للمحرم‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثالثا‪ :‬حد العبد الزاني‪ :‬دلت اآلية الكريمة على أن حد األمة الزانية هو الجلد خمس ين جل دة‪ ،‬فح ذف الفقه اء وص ف األنوث ة عن درج ة االعتب ار‪،‬‬
‫وأثبتوا نفس الحكم للعبد الزاني‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫رابعا‪ :‬قضاء القاضي مشوش الذهن‪ :‬نهى النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أن يقضي الح اكم وه و غض بان‪ ،‬فح ذف الفقه اء وص ف الغض ب ليتس ع‬
‫الحكم‪ ،‬وقالوا‪ :‬العلة هي تشوش الذهن‪ ،‬فيلحق بالحكم قضاء الجائع والعطشان وغيره؛ مما يتوفر فيه وصف تشوش الذهن‪.‬‬

‫رابط الموضوع‪https://www.alukah.net/publications_competitions/0/39830/#ixzz5lxrOnED6 :‬‬


‫‪v‬‬

You might also like