Professional Documents
Culture Documents
مفهوم تنقيح المناط وحجيته
مفهوم تنقيح المناط وحجيته
ويعتبر من أهم تلك القواعد ،وهو الدليل الرابع من أدلة األحكام ،ويأتي بعد القرآن والسنة واإلجماع .والقي اس ه و إلح اق المس كوت عن ه ب المبين
حكمه إذا وجد جامع بينهما ،هذا الجامع هو العلة .وللوصول إلى العلة مسالك كثيرة مثل :النص واإليماء والمناسبة وتنقيح المناط .
وقد اختار الباحث أن يبحث في مسلك تنقيح المناط ،وب دأ بق راءة م ا كتب في الموض وع من دراس ات س ابقة ،وتتمث ل في كتب األص ول الحديث ة
والقديمة خاصة ،ولم يجد الباحث في حدود اطالعه َمن بحث الموضوع بشكل مستقل؛ اللهم إال م ا ي ذكر في كتب األص ول القديم ة والحديث ة من
ذكر له ضمن مسالك العلة ،وقد استفاد الباحث منها في معرفة المفاهيم األصولية المختلفة التي لها تعلق بموضوع البحث ،وك ذا في الوق وف على
الفرق بين تلك المصلطحات ،لكن الباحث لم يقف على مصدر أو مرجع واحد اهتم بذكر التطبيقات الفقهية لتنقيح المناط.
وتكمن أهمية هذا البحث في الجمع بين مسائل هذا المبحث األصولي ودراسته دراسة مستقلة ،وكذلك في ذكر التطبيقات الفقهية له.
المبحث األول
قبل أن نتطرق إلى أحكام تنقيح المناط وتطبيقاته والف رق بين ه وبين المص طلحات الش بيهة ب ه ،يحس ن بن ا أن ن بين مع نى تنقيح المن اط في اللغ ة
واالصطالح.
-5نقّح الكالم :فتشه وأحسن النظر فيه ،وقيل :أصلحه وأزال عيوبه.
والمعنى المشترك بين هذه المعاني هو النزع واإلنقاص فكل ما نحيت عنه شيئا فقد نقحته[.]1
المناط من ناط الشيء ينوطه نوطا :علقه ،ونياط كل شيء معلقه؛ كنياط القوس والقِربة ،ويقال نُطت القِربة بنياطها ،وكل م ا عل ق من ش يء فه و
نوط.
ويشهد لهذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب أنه أتي إليه بمال كثير؛ فقال" :إني ألحسبكم قد أهلكتم الناس" ،فقالوا" :وهللا ما أخذناه إال عفوا؛
بال سوط وال نوط" .أي بال ضرب وال تعليق[.]2
المناط عند األصوليين يراد به العلة ،وه و من ب اب المج از اللغ وي وتش بيه المعق ول بالمحس وس ،فك أن الحكم والعل ة أم ران محسوس ان ،عل ق
الشارع األول بالثاني وناطه به[.]3
أما تنقيح المناط فقد اختلفت عبارات األصوليين فيه ،حيث عرف ه الغ زالي هك ذا" :أن يض يف الش ارع الحكم إلى س بب وينوط ه ب ه ،وتق ترن ب ه
أوصاف ال مدخل لها في اإلضافة ،فيجب حذفها عن درجة االعتبار حتى يتسع الحكم"[ ،]4وعرفه المرداوي بأنه" :االجتهاد في تحص يل المن اط
الذي ربط به الشارع الحكم ،فيبقي من األوصاف ما يصلح ويلغي ما ال يصلح"[ .]5ويالح ظ على ه ذين التع ريفين أنهم ا أدخال كلم تين من م ادة
المع َّرف وهما( :ينوطه) و(المناط) وهذا مما يعاب على التع اريف ألنه ا توق ع في ال دور ،ولع ل ه ذا العيب أظه ر في المص طلحات ذات الكلم ة
الواحدة ،أما في المصطلحات المركبة ،مثل (تنقيح المناط) فالغموض فيه أقل ،ذلك أن (المناط) في اصطالح األصوليين معروف معناه وهو العلة
كما تقدم ،و(ينوطه) استعمله الغزالي بمعناه اللغوي أي (يعلقه) .فلو استبدل الغزالي كلمة (ينوطه) بـ(علقه) والم رداوي (المن اط) بـ(العل ة) لك ان
تعريف كل منهما أوضح ،ولسلما من النقد.
وعرفه اآلمدي فقال" :أما تنقيح المناط فهو النظر في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين؛ بح ذف م ا ال م دخل ل ه في االعتب ار من
األوصاف المقترنة به"[ ، ]6أما الزركشي فقال في تعريفه" :وحاصله :إلحاق الفرع باألصل بإلغاء الفرق؛ بأن يقال :ال ف رق بين األص ل والف رع
إال كذا وكذا ،وذلك ال مدخل له في الحكم البتة فيل زم اش تراكهما في الحكم الش تراكهما في الم وجب ل ه"[ ،]7وأم ا الق رافي فعرف ه بقول ه" :تنقيح
المناط هو إلغاء الفارق فيشتركان في الحكم"[ ]8أي األصل والفرع.
األولى :هي الواردة في كل من تعريف الزركشي والقرافي ،وهي أن يبين المجتهد بأن الفرق بين األصل والف رع ال م دخل ل ه في الت أثير فيلح ق
الفرع باألصل ،مثال ذلك قياس صب البول في الماء الراكد على التبول فيه مباشرة ،حيث أن الن بي -ص لى هللا علي ه وس لم -نهى عن التب ول في
الماء الراكد في قوله« :ال يبولن أحدكم في الماء الدائم»[ ،]9فيالحظ المجتهد أن ص ب الب ول في الم اء أو التب ول في ه مباش رة ال ف رق بينهم ا في
التأثير في الحكم ،فيلحق الفرع باألصل[.]10
الثانية :هي الواردة في تعريف كل من الغزالي والمرداوي واآلمدي ،وهي أن يدل النص على حكم ،وتوجد مع ه أوص اف كث يرة ،فيق وم المجته د
ول
ت يَ ا َر ُس َ بحذف ما ال مدخل له في العلية .ويمثل له بما روي عن ع َْن أَبِي هُ َر ْي َرةَ أَ َّن َر ُجاًل َجا َء إِلَى النَّبِ ِّي -ص لى هللا علي ه وس لم -فَقَ َ
ال :هَلَ ْك ُ
ال :اَل ،قَ ا َل :أَت َْس ت َِطي ُع أَ ْن ت ُ
َص و َم َش ْه َري ِْن ضانَ ،فَقَا َل النَّبِ ُّي -ص لى هللا علي ه وس لم :-أَتَ ِج ُد َرقَبَ ةً؟ قَ َ ْت أَ ْهلِي فِي َر َم َ هَّللا ِ ،قَا َلَ :و َما َذا َ
ك؟ قَا َلَ :واقَع ُ
ول ِ[ .]11فه ذا نص ذك ر في ه الحكم وه و وج وب الكف ارة، هَّللا َ َ ً ِّ ْ ُ َ هَّللا
ُمتَتَابِ َعي ِْن؟ قَا َل :اَل يَا َرسُو َل ِ ،قا َل :أفاَل تط ِع ُم ِستينَ ِم ْس ِكينا؟ ق ا َل :اَل أ ِج ُد يَ ا َر ُس َ
َ َ
وذكرت مع الحكم أوصاف أخرى هي:
♦ كون السائل أعرابيا ،فهذا الوصف ال يصلح للعلية؛ بل نلحق به كل من فعل فعلته.
♦ كون التي جامعها زوجته ،وهذا وصف يحذف كذلك ،ألنه لو جامع سريته لما كان في ذلك فرق ،ولو زنا لكان أشد في الحرمة.
♦ كون الجماع في رمضان تلك السنة وفي ذلك اليوم؛ وهذا وصف ملغي كذلك؛ لعلمنا أن الحكم ال يتغير بتغير السنة أو اليوم فقط.
فيبقى وصف واحد صالح للتعليل هو كونه جماع مكلف[ .]12وسيأتي في المبحث الثالث اختالف الفقهاء في مناط الحكم هل هو الجم اع بعين ه أم
هتك حرمة الصيام.
المطلب الثالث :حجية تنقيح المناط:
يعتبر تنقيح المناط من أقوى مسالك العلة ،وذهب التاج السبكي والبرماوي وغيرهما إلى أنه أجود مسالك العلة .بل أجراه أبو حنيف ة في الكف ارات
مع منعه القياس ،وسماه أكثر الحنفية استدالال ،وفرقوا بينه وبين القياس بأن القياس ما ألحق فيه الفرع باألصل بذكر الجامع الذي ال يفي د إال غلب ة
الظن ،واالستدالل ما يكون اإللحاق فيه بإلغاء الفارق الذي يفيد القطع حتى أجروه مجرى القطعي ات في النس خ ،ب ل ح تى منك رو القي اس أق ر ب ه
أكثرهم لقوة داللته[.]13
المبحث الثاني
عرفنا في المبحث األول معنى تنقيح المناط في اللغة واالصطالح ،ووج دنا أن تنقيح المن اط يتش ابه م ع تحقي ق المن اط وتخ ريج المن اط من حيث
التس مية ،ووج دنا ل ه ش بها بمس لك الس بر والتقس يم من حيث المفه وم والم ؤدى ،ومن هن ا يتب ادر إلى ذهنن ا الس ؤال اآلتي :م ا الف رق بين تل ك
المصطلحات األصولية؟ وهذا ما سنجيب عنه في هذا المبحث.
المطلب األول :الفرق بين تنقيح المناط وتحقيق المناط وتخريج المناط.
قبل أن نبين الفرق بين تنقيح المناط وتحقيق المناط وتخريج المناط يجدر بنا أن نعرف هذه المفاهيم األص ولية ،وق د س بق أن عرفن ا تنقيح المن اط
في المبحث األول ،وسنعرف هنا بتحقيق المناط وتخريج المناط.
♦ "أما تحقيق المناط فهو النظر في وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها"[.]14
♦ "أما تحقيق المناط فهو أن يتفق على علية وصف بنص أو إجماع ،فيجتهد في وجودها في صور النزاع"[.]15
يظهر من هذه التعاريف أن تحقيق المناط اجتهاد في تنزيل النص وتطبيقه على آحاد الصور ،بعد معرفة العلة؛ س واء ثبتت ب النص؛ ك التحقق من
ْث َم ا ُك ْنتُ ْم فَ َولُّوا ُو ُج وهَ ُك ْم َش ْ
ط َرهُ ﴾ [البق رة ،]144 :أو باإلجم اع ،أو جه ة القبل ة؛ ال تي أن اط هللا تع الى به ا وج وب االس تقبال في قول هَ ﴿ :و َحي ُ
باالستنباط؛ مثل التحقق من وجود الشدة المطربة في النبيذ[.]16
عرفه اآلمدي فقال" :وأما تخريج المناط فهو النظر في إثبات علة حكم األصل بالرأي واالجتهاد"[ ،]17وعرف ه الزركش ي بقول ه" :وأم ا تخ ريج
المناط فهو االجتهاد في استخراج علة الحكم الذي دل النص أو اإلجماع عليه من غير تعرض لبيان علته أصال"[.]18
يتضح من التعريفين السابقين أن تخريج المناط هو البحث عن العلة التي ناط الشارع الحكم بها ،ويكون ذلك في النصوص التي لم تذكر فيه ا عل ة
الحكم .مثال ذلك أن هللا تعالى حرم الخمر ولم يذكر العلة ،فقام المجتهدون بتخريج المناط أو استخراج العلة ،فقالوا :العلة اإلسكار ،وحرم الرسول
-صلى هللا عليه وسلم -الربا في البر فقال المستنبط :العلة فيه كونه مطعوم ا ،وأوجب العش ر في ال بر ،فق ال بعض المجته دين :العل ة كون ه قوت ا
فأوجب الزكاة في كل األقوات ،وقال بعض المجتهدين :العلة كونه نبات األرض وفائدتها فألحق كل ما أنبتت األرض[.]19
-3الفرق بين المصطلحات الثالثة:
يشترك تنقيح المناط مع تحقيق المناط وتخريج المناط في أن الثالثة كلها عمليات تتعلق بالمناط أو العلة ،لكنها تختلف ب اختالف األصل (النص أو
اإلجماع) الذي يخضع لهذه العملية أو تلك.
وأبسط تلك العمليات هي :تحقيق المناط ،وتكون في النص الذي بين الشارع فيه الحكم وذك ر العل ة ص راحة ،فبقي للمجته د أن يتحق ق من وج ود
العلة في آحاد الصور ،مثال ذلك ما روي عن أبي قتادة عن رس ول هللا -ص لى هللا علي ه وس لم -أن ه ق ال في اله رة" :إنه ا ليس ت بنجس إنه ا من
الطوافين عليكم والطوافات"[ ، ]20فقد صرح النص بالحكم وهو طهارة الهرة وسؤرها ،وصرح بالعلة؛ وهي أنها من الحيوانات األهلي ة الطواف ة
في البيت ،لكن هل ينطبق الحكم على الفأرة؟ هنا يقوم المجتهد بتحقيق المناط؛ أي يتحقق من وجود العلة في الفرع.
أما تنقيح المناط فيكون في األصل الذي ذكر فيه الحكم مشوبا بأوصاف قد تصلح مناطا للحكم وق د ال تص لح ،فيك ون عم ل المجته د ه و اس تبعاد
األوصاف التي ال تصلح للعلية ،واستبقاء ما يصلح فيها .بعد ذلك يقوم بتحقيق المناط وهو التأكد من وجود تلك العلة في الفرع.
وأما تخريج المناط فهو أص عب تل ك العملي ات؛ ألن ه يك ون في نص ذك ر في ه الحكم ،ولم ت ذكر العل ة ،فيق وم المجته د باس تخراج العل ة بطرقه ا
المختلفة ،ثم يقوم بتحقيق المناط والتأكد من وجود تلك العلة في الفرع[.]21
عرفنا مفهوم تنقيح المناط في المبحث األول ،وهنا سنتعرف على مفهوم السبر والتقسيم ،والفرق بينه وبين تنقيح المناط.
السبر هو" :اختبار الوصف في صالحيته وعدمها للتعليل به"[ ،]22والتقسيم هو" :حصر األوصاف المحتملة للتعليل؛ بأن يقال :العلة إم ا ك ذا أو
كذا"[.]23
أما عملية السبر والتقسيم فقد عرفت تعريفات كثيرة نذكر منها:
♦ "وذلك بأن يقول :هذا الحكم معلل ،وال علة له إال كذا أو كذا ،وقد بطل أحدهما فتعين اآلخر"[.]24
♦ "ذكر أوصاف في األصل المقيس عليه محصورة ،وإبطال بعضها بدليل فيتعين الباقي للعلية"[.]25
فالسبر والتقسيم إذن هو أن يحصر المجتهد كل األوصاف المحتملة للعلية ،ثم يختبرها وصفا وصفا فيح ذف م ا ال يص لح للعلي ة ب دليل ،ويبقي م ا
يصلح .مثال ذلك أن الشافعي حصر علة والية اإلجبار على النكاح إما في الصغر أو في البكارة ،ثم أبطل أن يكون وصف الصغر صالحا للعلي ة،
ألنه يعني أن الثيب الصغيرة تجبر؛ وذلك مخالف لقوله عليه السالم« :الثيب أحق بنفسها»[ ،]26فلم يبق إال أن يعلل بالبكارة[.]27
لكن يبدو مما سبق أن عملية التقسيم متقدمة على السبر في الواقع؛ فلماذا أخرت في الذكر؟ والجواب أن ذلك يرجع لسببين:
أوال :أن المجتهد يبدأ بالسبر؛ فيختبر المحل هل هو تعبدي أو أن ه معق ول المع نى ،ف إذا وج د أن ه معق ول المع نى انتق ل إلى التقس يم وه و حص ر
األوصاف المحتملة للعلية ،فالسبر إذا يسبق التقسيم.
ثانيا :عملية السبر هي العملية األساسية ،أما التقسيم وجد تبعا للسبر ،فقدم األولى واألهم[.]28
تبين مما سبق أن تنقيح المناط هو أن يذكر الشارع الحكم ،ويذكر معه أوصافا؛ بعضها يصلح للعلية وبعضها ال يصلح ،فيحذف المجته د منه ا م ا
ال يصلح ،ويعلل الحكم بالوصف الصالح للعلية.
أما السبر والتقسيم فهو أن يذكر الشارع الحكم وال يذكر العلة فيقوم المجتهد بما يلي:
♦ السبر األول :فينظر هل الحكم معلل أم تعبدي؟ فإذا وجده معلال انتقل إلى الخطوة الثانية.
♦ السبر الثاني :يقوم باختبار تلك األوصاف وحذف ما ال يصلح للتعليل ،ويبقي ما يصلح فيعلل به الحكم.
ذهب إمام الحرمين إلى أنهما مسلك واحد وال فرق بينهما ،لكن الجمهور ذهبوا إلى أنهما مسلكان مختلفان.
لكن المتأمل في تعاريف المسلكين يجد أنهما يتفقان في بعض الجزئيات ويختلفان في غيرها.
يختل ف المس لكان في أن العل ة في الس بر والتقس يم غ ير م ذكورة في النص البت ة ،أم ا في تنقيح المن اط فهي م ذكورة في النص؛ لكن ذك ر معه ا
أوصاف أخرى؛ فوجب حذف ما ال يصلح للتعليل منها .فمسلك السبر والتقسيم يوجد العلة ،أما مس لك تنقيح المن اط فال يوج د العل ة ب ل ينقيه ا من
األوصاف غير الصالحة للتعليل.
المبحث الثالث
بعد أن تعرفنا على مفهوم تنقيح المناط والفرق بينه وبين المفاهيم األصولية ذات الصلة ،نأتي إلى التطبيقات الفقهية لهذا المسلك.
فقد نص الحديث على وجوب الكفارة على من جامع زوجه في نهار رمضان ،لكن هل تجب الكفارة على من أكل أو شرب في نهار رمضان؟
المذهب األول :ذهب الشافعي وأحمد وأكثر أصحابهما إلى أن العلة في الحديث هي الجماع في نهار رمضان ،ول ذلك لم يوجب وا الكف ارة على من
أكل أو شرب عمدا في نهار رمضان.
قالوا :إن شهوة األكل والشرب يكفي الدين لكبح جماحها ،أما شهوة الجماع فال يكفي الدين لردعها عن د بعض الن اس؛ فش رعت الكف ارة ل ردعهم؛
ألنهم إن تذكروا أن عليهم الكفارة امتنعوا عن الجماع.
وقالوا :إن الكفارة شرعت لتكفير الذنب والمعصية ،فكانت مناسبة لمن نقض صومه بالجماع ،أما من أك ل وش رب عم دا في نه ار رمض ان؛ م ع
ضعف هذه الشهوة؛ فال تكفي الكفارة لمسح هذا الذنب الكبير.
المذهب الثاني :ذهب أبو حنيفة ومالك وأكثر أصحابهما إلى أن علة الكف ارة هي إفس اد الص وم المح ترم ،فهم ح ذفوا وص ف (الجم اع) عن من اط
الحكم ،ولذلك أوجبوا الكفارة على من أكل أو شرب عمدا في نهار رمضان.
قالوا :الكفارة شرعت لزجر كل من أفسد صومه ،وما الجماع المذكور في الحديث إال وسيلة لذلك النقض ال يختلف عنها األكل والشرب عمدا.كما
أن مناط القصاص هو القتل العمد العدوان ،سواء كانت وسيلته السيف أو السكين أو الخنجر أو غيره[.]31
والخلوق هو "طيبٌ معروف ُم َركب يُتَّخذ من ال َّز ْعفَ َران وغيره من أ ْنواع الطّيب ،وتَ ْغلب عليه ْالحُمرة والصُّ ْفرة"[]33
في هذا الحديث أمر الرسول -صلى هللا عليه وسلم -الرجل أن يغسل أثر الخل وق ،ف اختلف العلم اء في تنقيح من اط ه ذا الحكم ،فه ل أم ره بغس ل
الخلوق لكونه طيبا ،أم لكونه خلوقا لرجل وقد نهى -صلى هللا عليه وسلم -أن يتزعفر الرجل؟
المذهب األول :مناط الحكم هو التطيب ،فال يجوز للمحرم التطيب ،وهو مذهب مالك ،وإليه ذهب عطاء وابن عمر.
وهو مذهب عثمان كذلك ،ف َع ْن َس ْع ِد ْب ِن إب َْرا ِهي َم ع َْن أَبِي ِه قَا َلُ " :ك ْنت َم َع ع ُْث َمانَ بِ ِذي ْال ُحلَ ْيفَ ِة فَ َرأَى َر ُجاًل ي ُِري ُد أَ ْن يُحْ ِر َم َوقَ ْد َدهَنَ َر ْأ َس هُ ،فَ أ َ َم َر بِ ِه
فَ َغ َس َل َر ْأ َسهُ بِالطِّي ِن".
المذهب الثاني :ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى أن مناط الحكم هو التطيب بالخلوق ،وقد نهى الرسول أن يتزعفر الرج ل ،فال يمن ع المح رم
صَ ،وعَائِ َشةََ ،وأُ ِّم َحبِيبَةََ ،و ُم َع ِ
اويَةَ. الزبَي ِْرَ ،و َس ْع ِد ابْن أَبِي َوقَّا ٍ
سَ ،وا ْب ِن ُّ
من استدامة الطيب ،وهو قَوْ ُل اب ِْن َعبَّا ٍ
س قَا َل" :نَهَى النَّبِ ُّي - صلى هللا عليه وسلم-أَ ْن يَتَ َز ْعفَ َر ال َّر ُجلُ"[.]35
والدليل على حرمة التطيب بالزعفران للرجل ما رواه أَنَ ٍ
ت أُ َ
طيِّبُ َرسُو َل هَّللا ِ -صلى هللا عليه وسلم -إِل ِ حْ َرا ِم ِه قالوا :ولو سلمنا أن الحديث فيه نهي عن التطيب قبل اإلحرام ،فهو منسوخ ،بقَوْ ل عَائِ َشةَُ " :ك ْن ُ
ق -ص لى هللا علي ه وس لمَ -وهُ َو ُمحْ ِر ٌم"[ .]36وح ديث ب فِي َم ْف ِر ِ ت" وقالتَ " :كأَنِّي أَ ْنظُ ُر إِلَى َوبِ ِ
يص الطِّي ِ ِحينَ يُحْ ِر ُم َولِ ِحلِّ ِه قَ ْب َل أَ ْن يَطُوفَ بِ ْالبَ ْي ِ
عائشة عن حجة الوداع في السنة العاشرة ،أما حديث األعرابي فهو في السنة الثامنة؛ فهو متأخر.
ب ﴾ [النساء ]25:نجد في هذه اآلية حكما وأوصافا ،أما ت ِمنَ ْال َع َذا ِ يقول هللا تعالى ﴿ :فَإ ِ َذا أُحْ ِ
ص َّن فَإ ِ ْن أَتَ ْينَ بِفَا ِح َش ٍة فَ َعلَ ْي ِه َّن نِصْ فُ َما َعلَى ْال ُمحْ َ
صنَا ِ
الحكم فهو الجلد خمسين جلدة ،أما األوصاف فهي :الزنا ،الرق ،األنوث ة ،فق ام الفقه اء بتنقيح المن اط ،واختب ار تل ك األوص اف لح ذف م ا يص لح
للتعليل ،وإبقاء الصالح ،فحذفوا وصف األنوثة لكون ه غ ير ص الح للعلي ة ،ألن ه ال ف رق بين ال ذكر واألن ثى في ه ذا الحكم ،وأبق وا وص في الزن ا
والرق ،ولذلك فإن حد العبد الزاني واألمة الزانية هو الجلد خمسين جلدة .يقول ابن الهم ام" :وإن ك ان عب دا جل ده خمس ين لقول ه تع الى) :فَ َعلَ ْي ِه َّن
ب( ...وال فرق بين الذكر واألنثى بتنقيح المناط"[.]38 ت ِمنَ ْال َع َذا ِ صنَا ِنِصْ فُ َما َعلَى ْال ُمحْ َ
وذهب البعض إلى أن العبيد يدخلون في منطوق اآلية من طريق التغليب ،وهو خطأ؛ ألن صيغة الذكور تعم اإلناث ،وليس العكس[.]39
الخاتمة:
تطرق هذا البحث إلى مسلك من مس الك العل ة وه و تنقيح المن اط ،فب دأ بت بين مفهوم ه وحجيت ه ،ثم التفري ق بين ه وبين المص طلحات الش بيهة ب ه
والقريبة منه ،وهي :تحقيق المناط ،وتخريج المناط ،والسبر والتقسيم ،ثم انتهى بتقديم بعض التطبيقات الفقهية له ذا المس لك .ويمكن إب راز النت ائج
التي انتهى إليها فيما يلي:
♦ التنقيح في اللغة هو التشذيب واإلنقاص ،وكلما نحيت عنه شيئا فقد نقحته .أما المناط في اللغة فهو التعليق.
♦ المناط عند األصوليين هو العلة ،وتنقيح المناط عندهم هو :أن يضيف الشارع الحكم إلى سبب ويعلقه به ،وتقترن به أوصاف ال م دخل له ا في
اإلضافة ،فيجب حذفها عن درجة االعتبار حتى يتسع الحكم.
♦ يعتبر تنقيح المناط من أقوى مسالك العلة ،واعتبره البعض أقوى حجة من القياس نفسه ،ويدل على ذلك أن األحن اف ال ذين لم يج وزوا القي اس
في الكفارات استعملوه فيها ،بل إن المانعين للقياس احتجوا به وقبلوه.
♦ يشترك تنقيح المناط مع تحقيق المناط وتخريج المناط في أن الثالثة كلها عمليات تتعلق بالمناط أو العلة ،لكنها تختلف باختالف األص ل (النص
أو اإلجماع) الذي يخضع لهذه العملية أو تلك .وأبسط تلك العمليات هي :تحقيق المناط ،وتكون في النص الذي بين الشارع في ه الحكم وذك ر العل ة
صراحة ،فبقي للمجتهد أن يتحقق من وجود العلة في آحاد الصور فقط .أما تنقيح المناط فيكون في األصل الذي ذكر فيه الحكم مشوبا بأوصاف قد
تصلح مناطا للحكم وقد ال تصلح ،فيكون عمل المجتهد هو استبعاد األوصاف التي ال تصلح للعلية ،واستبقاء ما يصلح لها .بعد ذل ك يق وم بتحقي ق
المناط وهو التأكد من وجود تلك العلة في الفرع .وأما تخريج المناط فهو أص عب تل ك العملي ات؛ ألن ه يك ون في نص ذك ر في ه الحكم ،ولم ت ذكر
العلة ،فيقوم المجتهد باستخراج العلة بطرقها المختلفة ،ثم يقوم بتحقيق المناط والتأكد من وجود تلك العلة في الفرع.
♦ يختلف المسلكان في أن العلة في (السبر والتقسيم) غير مذكورة في النص البتة ،أما في (تنقيح المناط) فهي مذكورة في النص؛ لكن ذك ر معه ا
أوصاف أخرى؛ فوجب حذف ما ال يصلح للتعليل منها .فمسلك (السبر والتقسيم) يوجد العلة ،أما مسلك (تنقيح المناط) ال يوجد العلة بل ينقيه ا من
األوصاف غير الصالحة للتعليل .ويتفقان في السبر الثاني؛ وهو إبطال األوصاف التي ال تصلح للعلية.
♦ كان لمسلك تنقيح المناط أثر في اختالف الفقهاء في مسائل نذكر منها:
أوال :الكفارة على من أكل أوشرب عمدا في نهار رمضان؛ حيث أوجبه ا مال ك وأب و حنيف ة ألنهم رأوا أن من اط الكف ارة في الح ديث ه و انته اك
حرمة الصوم ،وليس المقصود الجماع بعينه ،وأما الشافعي وأحمد فلم يوجبوا عليه الكفارة؛ ألنهم رأوا أن المناط هو الجماع بعينه.
ثانيا :التطيب قبل اإلحرام :كره مالك ذلك بناء على حديث يعلى بن أمية الذي أمر فيه رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -رجال بغسل الخلوق عنه،
أما األئمة اآلخرون فجوزوا ذلك ،بناء على أن مناط األمر بغس ل الخل وق ه و أن الرج ل منهي عن ال تزعفر ،والخل وق مص نوع من الزعف ران،
وليس نهيا عن التطيب للمحرم.
ثالثا :حد العبد الزاني :دلت اآلية الكريمة على أن حد األمة الزانية هو الجلد خمس ين جل دة ،فح ذف الفقه اء وص ف األنوث ة عن درج ة االعتب ار،
وأثبتوا نفس الحكم للعبد الزاني.
رابعا :قضاء القاضي مشوش الذهن :نهى النبي -صلى هللا عليه وسلم -أن يقضي الح اكم وه و غض بان ،فح ذف الفقه اء وص ف الغض ب ليتس ع
الحكم ،وقالوا :العلة هي تشوش الذهن ،فيلحق بالحكم قضاء الجائع والعطشان وغيره؛ مما يتوفر فيه وصف تشوش الذهن.