You are on page 1of 9

‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬

‫‪1‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬


‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬

‫إدغار موران‬
‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬
‫ترجمة‪ :‬د‪ .‬خديجة زتيلي‬

‫ما الذي يعنيه إلانسان ‪L’humain‬؟‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هذا السؤال الذي ال يثير اهتمام البعض منا وحسب بل جميعنا لم يعالج قط في‬
‫ّ‬
‫التربوية‪ ،‬سواء أكان ذلك في الابتدائي أو الثانوي أو في التعليم الجامعي‪ .‬هناك‬ ‫منظومتنا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بكل تأكيد اختصاص نطلق عليه ألانثروبولوجيا لكنه محصور في املجتمعات القديمة‬
‫''التي لم تعرف الكتابة''‪.‬‬
‫أن كلمة ''أنثروبولوجيا'' ّ‬ ‫ّ‬
‫املهمة كانت تعني في القرن التاسع عشر املعرفة التي‬ ‫غير‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والفيزيائية‪ ،‬في‬ ‫البيولوجية‬ ‫تضم العلوم املختلفة املتعلقة باإلنسان ومن بينها العلوم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن إلانسان اليوم‪ ،‬في شموليته ّ‬ ‫ّ‬
‫والتعليمية‬ ‫املعرفية‬ ‫وتنوعه‪ ،‬أصبح في منظومتنا‬ ‫حين‬
‫أن كلمة ''إلانسان'' ‪ّ L’homme /‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مهمة في هذا السياق‬ ‫غامضا متجاهال ومنسيا‪ .‬صحيح‬
‫لكنها ليست كافية ملاذا؟ بداية ّ‬ ‫كافية‪ ،‬و ّ‬ ‫إال ّأنها غير ّ‬ ‫ّ‬
‫ألنها تشير إلى الفرد وتستبعد‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫ثم ألن لها داللة مذكرة رغم أن الكلمة محايدة و تخفي في ثناياها‪ ،‬بشكل من‬ ‫املجتمع‪،‬‬
‫ّ‬
‫ألاشكال‪ ،‬مضمونا مؤنثا‪ .‬لهذا ّ‬
‫أفضل الاستناد على عبارة إلانسان ‪ L’humain‬بدال من‬
‫إلانسان ‪.L’homme‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬


‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬

‫إلانسان ثالثي التعريف‬

‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫إن التعريف ّ‬
‫ألاول‬
‫يتضمن الفرد فقط‪ ،‬بل املجتمع إلانساني والنوع‬ ‫ثالثي ألنه ال‬
‫أتطرق إلى هذا الثالوث فلكي أشير إلى العالقة‬ ‫البيولوجي أو باألحرى العرق البشري‪ .‬وإذ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املتينة التي تجمع بين هذه املواضيع الثالثة‪ ،‬ألننا ال نستطيع القول أن إلانسان هو‬
‫ّ‬
‫‪ %33‬فرد و‪ %33‬مجتمع و‪ %33‬بيولوجيا‪ .‬ما يمكن قوله‪ ،‬أن إلانسان هو ‪ %011‬فرد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الاجتماعية‪ ،‬أن‬ ‫و‪ %011‬اجتماعي و‪ %011‬بيولوجي‪ .‬ملاذا؟ ألن املؤكد‪ ،‬من وجهة النظر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتسرب إلى عقله‪ ،‬خالل تنشئته‪ ،‬الثقافة واللغة‬ ‫الانسان عنصر صغير من مجتمع ما‪،‬‬
‫ّ‬
‫وألاخالق وألافكار فيتغذى منذ والدته من املجتمع وعن طريقه‪.‬‬
‫خلية من‬‫كل ّ‬ ‫الكل‪ ،‬إذا علمنا أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتضمن الجزء‬‫ّ‬ ‫ليس من الغرابة في ش يء أن‬
‫ّ‬
‫جسمنا كجلدنا مثال إنما تحتوي على مجمل إلارث الجيني الوراثي‪ .‬وبطبيعة الحال‬
‫الكل بوصفه كذلك‬ ‫لكن ّ‬‫الخلية‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫تم التعبير عنه وتفعيله في‬ ‫يقتصر ألامر هنا على جزء ّ‬
‫يحضر في هذا الجزء الصغير‪ .‬وهو ما يمكن أن نطلق عليه مبدأ الصورة ّ‬
‫ثالثية ألابعاد‪.‬‬
‫أن ّ‬ ‫ّ‬
‫كل نقطة في الصورة تعكس نقطة أخرى من الش يء‬ ‫ففي التصوير الفوتوغرافي نجد‬
‫عمليا على مجمل‬‫ّ‬ ‫كل نقطة تحتوي‬ ‫عّر عنه كالسيارة مثال‪ .‬في الصورة ثالثية ألابعاد ّ‬ ‫امل ّ‬
‫ّ‬ ‫الكل فقط بل ّ‬ ‫الش يء‪ ،‬ال الجزء في ّ‬
‫الكل في الجزء‪ ،‬وهو ألامر الذي يستدعي القول أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الكل هو ‪ %011‬فردي‪ ،‬وأن الانسان هو أيضا ‪ %011‬اجتماعي ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وألامر نفسه يتعلق بالكائن البيولوجي‪ ،‬ألن الفرد إلانساني هو لحظة‪ ،‬وجزء صغير‬
‫عملية شاملة تتض ّمن بداخلها‬ ‫ّ‬ ‫ضمن نوع ونظام إنتاج متواصل‪ .‬وهذا الجزء هو نتاج‬
‫الكل‪ :‬ففي الدماغ توجد مجمل الجينات التي تكون حاضرة في الجسم أيضا‪ .‬واملبدأ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نفسه نجده ال في القول أننا ‪ %011‬أفراد‪ ،‬لكننا أيضا ‪ %011‬عناصر من النوع‬
‫البشري‪ .‬وال تتوقف‪ ،‬هنا‪ ،‬العالقة بين الفردي والاجتماعي والبيولوجي‪.‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬


‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬

‫إعادة إنتاج النوع‬

‫لنأخذ مثال العالقة التي تربط الفرد ونظام إنتاج النوع‪ ،‬فلكي يحافظ هذا النظام‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التطور‪.‬‬ ‫جنسيا إلنتاج نسل يواصل بدوره‬ ‫على بقائه يتطلب ألامر تزاوج فردين مختلفين‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عملية إعادة إنتاج النوع إلانساني‪ ،‬ولكننا في الوقت عينه‬ ‫بمعنى آخر نحن نتاج‬
‫املنتجون‪ ،‬أي نحن املنتج واملنتج في آن واحد‪ .‬وهو ألامر الذي يستدعي إدخال فكرة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املتكررة هي املسار الذي تكون‬ ‫''متكررة''‪ ،‬والحلقة‬ ‫أخرى‪ :‬تتعلق بوجود ''حلقة'' سميتها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيه املنتجات ضرورّية إلنتاجها الخ ّ‬
‫البشرية في النوع هي‬ ‫اص‪ .‬وهذا ألامر يعني أن ألافراد‬
‫من الضرورة بمكان إلنتاج النوع نفسه‪ ،‬وهو التماثل ذاته الذي نعثر عليه في املجتمع‪:‬‬
‫فالفرد هو منتج املجتمع الذي ينتجه‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكنه ي ّ‬ ‫ّ‬
‫تضمن أيضا عددا‬ ‫إن املجتمع هو حصيلة تفاعالت بين ألافراد ال حصر لها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخاصة به كالثقافة واللغة وسلطة الدولة‪ .‬وهذه املميزات تكتسب‬ ‫من السمات‬
‫ّ‬
‫الكل هو إضافة‬ ‫مشروعية وجودها انطالقا م ّما سميته ''نظاما'' ويعني ما يلي‪ :‬ليس‬ ‫ّ‬
‫الكل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مميزات وصفات جديدة نطلق عليها انبثاقات‪.‬‬ ‫ألاجزاء‪ ،‬بل تتشكل على مستوى‬
‫خاصة ال نجدها في ذ ّرات الهيدروجين وألاكسيجين التي‬ ‫ّ‬ ‫فمثال جزيء املاء له صفات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫البكتيريا‪ ،‬تشكل من مجموع تفاعالت بين جزيئات فيزيو ‪-‬‬ ‫الحي‪ ،‬حتى‬ ‫تشكله‪ .‬والكائن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كيميائية‪ ،‬لكن الكائن هذا يتمتع بصفات ال توجد على مستوى الجزيئات الفيزيو‪-‬‬
‫كيميائية‪ ،‬كالقدرة على إلانتاج الذاتي والترميم الذاتي وإلادراك‪ ،‬إلخ‪.‬‬ ‫ّ‬

‫يتم توطين اللغة والثقافة‪ ،‬وهما من خصائص املجتمع‪ ،‬في ألافراد وترسيخهما‬ ‫ّ‬
‫توقف ينتج هذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيهم‪ :‬فينضوي‪ ،‬عندئذ‪ّ ،‬‬
‫الكل عن طريق‬ ‫الكل تحت الجزء‪ ،‬ومن دون‬
‫دمرنا املجتمع بقنبلة ّ‬
‫نووية‪ ،‬ستسلم معالم مثل إلاليزيه‬ ‫التفاعالت بين ألافراد‪ .‬فلو ّ‬
‫وقصر البوربون ومدرسة الدراسات العليا والسوربون‪ّ ،‬‬
‫لكن البشر يختفون والنتيجة ال‬
‫جدد املجتمع ويعيد‬ ‫وجود للمجتمع‪ّ .‬إننا بوصفنا أفرادا‪ ،‬من خالل تفاعالتنا‪ ،‬من ي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إنسانيين على‬ ‫تجديده‪ ،‬وهو ألامر الذي يعني‪ ،‬عالوة على ذلك‪ ،‬أن املجتمع ينتج أفرادا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وجه الدقة‪ ،‬ألنه يضطلع بمهام اكتمالهم عن طريق تمكينهم من اللغة والثقافة‪ .‬ليس في‬
‫ّ‬
‫وسع املرء الفصل بين املفاهيم الثالثة املتعلقة بالفري والاجتماعي والبيولوجي‪ ،‬وال‬
‫‪4‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬
‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬
‫ّ‬
‫املبسط لهذا الثالوث يخفي في‬ ‫امكانية أن يعمل الواحد منها من دون لاخر‪ ،‬فالشكل‬‫ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫الواقع تفاعالت معقدة‪ ،‬إال أن هذا إلانسان الثالثي يغفله التعليم عندنا‪.‬‬

‫صورة إلانسان ‪L’humain‬‬

‫ّ‬
‫ألاساسية لإلنسان‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مأساويا بين هذه ألاقطاب الثالثة‬ ‫يعرض نظامنا التربوي فصال‬
‫ّ‬
‫ولعل خير‬ ‫فيتم تدريسه على نحو منفصل من منظور البيولوجيا ومن منطلق العلوم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مثال على ذلك طريقة التعاطي البيولوجي مع الدماغ وبشكل خاص في علم ألاعصاب في‬
‫ّ‬
‫الطبيعية والعلوم‬ ‫فيتم الفصل بين العلوم‬‫حين يسجل العقل في مجال علم النفس‪ّ ،‬‬
‫املكون لإلنسان‪ .‬كذلك هي العالقة‪ ،‬بين الفرد واملجتمع‪،‬‬ ‫إلانسانية لتحليل العنصر ذاته ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الانسانية في كثير من ألاحيان‪ .‬إن الاتجاه السائد في السوسيولوجيا‬ ‫منفصلة في العلوم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هو اعتبار ألافراد‪ّ ،‬‬
‫اجتماعية‪،‬‬ ‫محددين بدقة‪ ،‬كدمى‪ ،‬تقريبا‪ ،‬يعتمدون على سيرورات‬
‫على وضعيتهم في املجتمع‪ ،‬على طبقتهم وعلى عاداتهم‪ ،‬إلخ‪ ،‬فيميل الفرد إلى الذوبان في‬
‫السوسيولوجيا‪ ،‬واملجتمع إلى الذوبان في البسيكولوجيا‪ ،‬باستثناء علم النفس‬
‫الاجتماعي‪ ،‬وهو فرع من املعرفة هجين يجمع قدر املستطاع بين مجالين متباعدين‪.‬‬
‫ويعزى هذا التقارب‪ ،‬كما غيره من التقاربات‪ ،‬إلى أحداث بارزة تعود إلى القرن املاض ي‬
‫سمحت بإعادة التفكير في الحدود املوجودة بين علم النفس وعلم الاجتماع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الانسانية مجزوءة وتتقلص وشائج‬ ‫العامة‪ ،‬فإن العلوم‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬وفقا للقاعدة‬
‫تام لفكرة الانسان‪ .‬فاملجهودات‪،‬‬ ‫القربى فيما بينها بشكل جذري ما يفض ي إلى انهيار ّ‬
‫وتعد مساع ناقصة لم تأخذ‬ ‫ّ‬ ‫لوصل إلانساني بالبيولوجي كانت‪ ،‬بكل أسف‪ ،‬مختزلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫بعين الاعتبار الطبيعة املعقدة للكائن إلانساني‪ .‬لنأخذ حالة السوسيو بيولوجيا التي‬
‫البشرية انطالقا مما يحدث في املجتمعات الحيوانية‪ ،‬ال ّ‬
‫سيما‬ ‫ّ‬ ‫تزعم فهمها للمجتمعات‬
‫املحددة من الجينات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التعرف على السلوكيات‬‫ّ‬ ‫على مستوى الجينات‪ ،‬نجدها تحاول‬
‫وهو ما قام به ريتشارد داوكينس ‪ Richard Dawkins‬في كتابه الجين ألاناني ‪Le Gène‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ ،égoïste‬ووفق طرحه فإن الجينات هي التي تتحكم فينا أشخاصا وأفرادا ومجتمعا‪،‬‬

‫‪5‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬


‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬
‫ّ‬
‫العبثية‪ :‬ها هو جزيء كيميائي يكاد‬ ‫ولن نكون سوى ظواهر ودمى‪ .‬وبهذا نصل إلى هذه‬
‫ّ‬ ‫بقوة ّ‬ ‫يتمتع ّ‬‫ّ‬
‫الانسانية في‬ ‫إلهية‪ .‬من جهة أخرى وجدت محاوالت الختزال املجتمعات‬
‫الحيوانية كاملوجودة عند قردة الشمبانزي‬‫ّ‬ ‫الطريقة التي تسير عليها املجتمعات‬
‫ّ ّ‬
‫والبابوان‪ ،‬ومن الواضح أن ألامر هنا ال يخلو من سطحية ألنه ال يأخذ في الحسبان‬
‫ّ‬
‫الخاص باملجتمع إلانساني‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الشق‬
‫ّ‬
‫صحيح أننا من حيوانات ''الرئيسيات'' كأبناء عمومتنا الغوريال‪ ،‬وورثنا من‬
‫ألام وابنها‪ ،‬ونحن أيضا من الفقاريات‪ ،‬لكن ألامر ال يقتصر‬ ‫الثديات هذه العاطفة بين ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫على هذا‪ ،‬ألننا في املقام ألا ّول مجموعة منظمة من الخاليا‪ ،‬وخاليانا هي أخوات‪-‬بنات‬
‫الحية التي ظهرت على هذه ألارض قبل ثالث أو أربع مليارات سنة‪ .‬بمعنى‬ ‫للخاليا ألاولى ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫آخر نحن نحمل فينا تاريخ الحياة‪ ،‬ليس ّ‬
‫حي ألننا ال نحمل تاريخ الحشرات وال‬ ‫كل ما هو‬
‫تاريخ الزهور والنباتات بل التاريخ الذي يعود إلى الخاليا ألاولى‪.‬‬

‫إخفاء عالقتنا بالطبيعة‬

‫ّ‬
‫متأخرا‪ ،‬فالعالقة بالطبيعة ّ‬ ‫ّ‬
‫ألام‪ ،‬التي توجد في الكثير من‬ ‫بشأنها تشكل الوعي لدينا‬
‫تم طمسها في العالم الغربي‪ .‬والسبب ّ‬
‫ألاول في ذلك يعود إلى الدين‪،‬‬ ‫الثقافات ألاخرى‪ّ ،‬‬
‫الرب إلاله‪ ،‬وحض ي وفقا للنصوص بخلق‬ ‫ّ‬ ‫فوفق إلانجيل خلق الانسان على صورة‬
‫ّ‬
‫املسيحية من القيامة املتبوعة بحياة‬ ‫كل الحيوانات ألاخرى‪ ،‬ويستفيد في‬ ‫منفصل عن ّ‬
‫أن جميع الكائنات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحية ألاخرى مصيرها الفناء‪ .‬وقد‬ ‫أبدية إذا كان مؤمنا‪ ،‬في حين‬
‫حدة الوعي بالفصل بين الانسان والطبيعة أثناء ّ‬
‫تطور املجتمع والحضارة‬ ‫تعاظمت ّ‬
‫ّ‬
‫خاص في القرن السابع عشر ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الغربية‪ ،‬وبشكل‬
‫فالحيوان آلة منزوعة العقل والروح حسب ديكارت الذي قام بفصل ّ‬
‫تام بين‬
‫ّ‬
‫إلانسان الذي يتمتع بالعقل‪ ،‬والحيوان الذي ال يحظى به‪ ،‬وحسبه باستطاعة الانسان‬
‫ّ‬ ‫أن يصير ّ‬
‫سيدا على الطبيعة ومعلما لها بفضل العلم‪ .‬تحمل هذه الفكرة في ثناياها‬
‫تطور العالم الاقتصادي والرأسمالي والتجاري املهيمن على ثقافتنا‪ ،‬وهي الفكرة‬ ‫مسار ّ‬

‫‪6‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬


‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬
‫تظل حاضرة بقوة إلى غاية ماركس‪ ،‬مع وعي هذا ألاخير باز ّ‬
‫دواجية الواقع البشري‬ ‫التي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الانسانية‬ ‫ألنه كتب في مؤلفات الشباب هذا القول املأثور الذي أتبناه بدوري‪« :‬العلوم‬
‫ّ‬
‫الانسانية»‪ .‬إذن نحن‬ ‫ّ‬
‫الطبيعية العلوم‬ ‫ّ‬
‫الطبيعية مثلما تشمل العلوم‬ ‫تشمل العلوم‬
‫مشمولين بالطبيعة أيضا‪.‬‬

‫ظهور الوعي البيئي‪ /‬إلايكولوجي‬

‫كان يجب انتظار العقود ألاخيرة من القرن العشرين‪ ،‬ابتداء من عام ‪ ،0791‬لكي‬
‫ّ‬
‫يتجلى فهم العالقة الحميمة املوجودة بيننا وبين الطبيعة‪ ،‬أو ما يمكن أن نطلق عليه‬
‫ّ‬
‫البيئية‬ ‫ّ‬
‫السياسية‬ ‫الوعي البيئي‪ .‬فالوعي البيئي– وال أقصد في هذا السياق الحركة‬
‫الحالية حيث يوضع هذا الوعي نوعا ما بين أقواس – يسجل في علم جديد تط ّور حول‬
‫فكرة النظام البيئي‪ :‬إذ يخلق التفاعل بين النباتات والحيوانات واملناخ والجغرافيا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تلقائيا منظما بشكل ذاتي‪ .‬وتشكل جميع ألانظمة‬ ‫والجيولوجيا‪ ،‬في محيط ما‪ ،‬نظاما‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫نظن أننا نستطيع‬ ‫البيئية على كوكبنا ما نسميه املحيط الحيوي الذي يحتوينا‪ ،‬وكنا‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫السيطرة عليه والتالعب به‪ .‬غير أن املالحظ‪ ،‬بهذا الشأن‪ ،‬أننا كلما سيطرنا عليه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أفسدناه وأفسدنا ظروف حياتنا‪ ،‬وكلما صدقنا‪ ،‬في هذه العالقة‪ ،‬تملك الطبيعة كلما‬
‫كنا متملكين من طرف ّ‬ ‫ّ‬
‫قوة تقودنا إلى أقص ى النقيض‪ :‬إلى التدمير الذاتي‪ .‬لكن بفضل‬
‫الفيزيائية على ّ‬
‫حد‬ ‫ّ‬ ‫الوعي البيئي بدأنا نحاول إدراك عالقتنا مع الطبيعة ّ‬
‫الحية والطبيعة‬
‫سواء‪ ،‬وهو جانب آخر من تعقيدنا كبشر‪.‬‬
‫مادة فيزيو ‪-‬كيميائية ‪ ،‬بدءا بوحيد‬ ‫الحي مش ّكل بالكامل من ّ‬‫أن الكائن ّ‬‫ّ‬
‫إن اكتشاف‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫التقدم‬ ‫العلمية للقرن العشرين‪ ،‬وأحد الروابط بين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التطورات‬ ‫خلية‪ ،‬كان من أكّر‬ ‫ال ّ‬
‫والتقدم البيولوجي‪ .‬لقد ّتمت الّرهنة في عام ‪ ،0791‬بعد الاكتشافات التي قام‬ ‫ّ‬ ‫الفيزيائي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مسجلة في‬ ‫الوراثية‬ ‫بها واطسون ‪ Watson‬تحت إشراف كريك ‪ ،Crick‬أن الشيفرة‬
‫عنصر كيميائي هو الحمض النووي ‪ :ADN‬فالحمض النووي الريبي املنقوص‬
‫ألاكسجين هو ما ّ‬
‫يتم نقله من الحمض النووي الريبي إلى الّروتينات‪ ،‬على عكس ما كان‬

‫‪7‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬


‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحيويين‪ ،‬الذين اعتقدوا أن‬ ‫يؤمن به بعض علماء ألاحياء‪ ،‬الذين كنا نطلق عليهم‬
‫حية تختلف عن ا ّ‬
‫ملادة‬ ‫مادة ّ‬‫حيوية‪ ،‬وليس ّثمة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصة ذات ّ‬
‫قوة‬ ‫الحياة صادرة عن ّ‬
‫مادة‬
‫في عالم الجماد‪.‬‬
‫وهو الاكتشاف املعاكس‪ ،‬أيضا‪ ،‬ملوقف الاختزاليين الذين افترضوا إمكانية فهم‬
‫ّ‬
‫املعقد لهذه ّ‬
‫املادة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املكونة‬ ‫الحي بمصطلحات فيزيو‪-‬كيميائية‪ ،‬وتجاهلوا دائما أن النظام‬
‫ّ‬ ‫خصوصيات ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محددة تشكل صفات الحياة‪ ،‬أي‬ ‫النووية‪ ،‬يظهر‬ ‫من الّروتينات وألاحماض‬
‫اليون قد ّ‬
‫توهموا أنهم فازوا‪،‬‬ ‫النظام الذاتي وإلانتاج الذاتي واملعرفة‪ .‬وإذا كان الاختز ّ‬
‫ّ‬
‫الحيويين‪.‬‬ ‫فقد خسروا في واقع ألامر‪ ،‬مثلهم مثل‬

‫ّ‬
‫التطور الفيزيو – كيميائي‬ ‫ّ‬
‫قصة‬

‫الذي فاز في هذا إلاطار كان ''املذهب التنظيمي'' ‪ ، L’organisationnisme‬وهو‬


‫وخاصيات جديدة كجزيء‬ ‫ّ‬ ‫تنوعة نسميها انبثاقات أي صفات‬ ‫مكون من عناصر م ّ‬ ‫نظام ّ‬
‫تشكلت الخلية ّ‬ ‫ّ‬ ‫املاء مثال‪ .‬ليست الحياة ّ‬
‫الحية ألاولى‬ ‫مادة بل جملة من الوالدات‪ ،‬فقد‬
‫ّ‬
‫يتعلق بالجزئيات إلا ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫ضافية‪،‬‬ ‫تنظيمية حتى تصل إلى تنظيم أكثر تعقيدا‬ ‫انطالقا من ثورة‬
‫ّ‬
‫املعرفية‬ ‫كحد أدنى من املهارات‬‫ّ‬ ‫وهذا التنظيم سمح بالتكاثر الذاتي والترميم الذاتي‬
‫التعرف على محيطها وعلى املخاطر ‪ ،‬أو على الطعام‪ ،‬ما نطلق عليه الحياة‬ ‫ّ‬ ‫ت ّ‬
‫سوغ‬
‫يتعلق بالطابع املدهش لظهور الحياة ف ّ‬ ‫ّ‬
‫يظن الكثير من‬ ‫ومجموع هذه الصفات‪ .‬أما فيما‬
‫الحي ّ‬
‫أن قدوم الكائن ّ‬ ‫ّ‬
‫ألاول هو حدث‬ ‫الناس اليوم‪ ،‬وفق جاك مونو ‪،Jacques Monod‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫غير قابل للتصديق ونادر الحصول كقولنا أن قصيدة لشكسبير مؤلفة من طرف قرد‬
‫يرقن على آلة كاتبة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بشأن هذا املوضوع تناهى إلى علمنا مؤخرا أن ذ ّرات الكربون الضرورّية لنشأة‬
‫الحي ولدت من التقاء ثالث ذرات للهيليوم في موقد ناري لنجمة سابقة عن‬ ‫جسم الكائن ّ‬
‫ّ‬
‫شمسنا‪ ،‬وبتفككها لفظت هذه الذ ّرات فوجدت مجتمعة وأعطت الحياة لكوكبنا‪ .‬لنفهم‬
‫وأن هذه الذ ّرات ّ‬‫ّ‬ ‫نتكون من جزئيات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تجمعت من‬ ‫تجمعت هي ألاخرى من ذرات‪،‬‬ ‫أننا‬

‫‪8‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬


‫إدغار موران‬ ‫اإلنسان والثالوث‪ :‬البيو‪ -‬سوسيو‪ -‬أنتروبولوجي‬
‫ّ‬
‫جسيمات ظهرت في الثواني ألاولى للعالم‪ ،‬وندرك أن تاريخ هذا الكون الذي يعود إلى‬
‫الكل‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬موجود في الجزء‪ ،‬واملغامرة‬ ‫ّ‬ ‫ثالث عشرة مليار سنة هو فينا‪.‬‬
‫الانسانية‪ ،‬التي ال نعلم وجهتها‪ ،‬تشارك في مغامرة ّ‬
‫كونية ال نعلم أيضا إلى أين تحملنا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يؤكد لنا هذا املبدأ الثالثي ألابعاد‪ :‬أننا متحدون بالكون‪ .‬فنحن جزء من عاملنا‬
‫الفيزيائي والبيولوجي والكوني‪ ،‬في الوقت الذي نختلف فيه بثقافتنا ووعينا واز ّ‬
‫دواجية‬
‫ّ‬
‫والبيوكونية‬ ‫دواجية ّ‬
‫هويتنا ألانثروبولوجية‬ ‫البيولوجية وألانثروبولوجية و باز ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هويتنا‬
‫فضال عن ذلك‪.‬‬

‫************************‬

‫‪Edgard Morin, «L’humain et la trinité bio – socio – anthropologique»,‬‬


‫‪dans penser global : L’homme et son univers, (Paris : Éditions Robert‬‬
‫‪l’affont 2015).‬‬

‫ّ‬
‫أكاديمية وكاتبة من الجزائر‪.‬‬ ‫(*)‬

‫‪9‬‬ ‫‪www.couua.com‬‬ ‫|‬

You might also like