Professional Documents
Culture Documents
مشكلات الترجمة حسام الخطيب
مشكلات الترجمة حسام الخطيب
أب دأ بش ٍ
كر جزيل للس ادة الفاض لين وأع وانهم ،ال ذين غمرونا بلطفهم وك ريم وف ادتهم ،وك ذلك إلى
جميع اإلخوة الحاضرين في هذه الفرصة الثمينة التي فهمت منها أنني سأعالج موضوعاً عملي اً
إجرائي اً بعي داً عن القي ود والف ذلكات األكاديمية ال تي أكلت من عمر العبد الفق ير معظم طاقت ه،
وأمالً في أن تك ون المعالجة قريبة من اهتمام ات وهم وم إخواننا في الحرفة من الع املين في
مج ال النش ر ،ومعظمهم من ح املي األمانة ول وال جه ودهم لما أتيحت لنا ولجمهورنا فرصة
التفاعل وإ بالغ الرسالة أياً كانت.
1
أوالً :مدخل
قبل أن نخ وض في الموض وع ينبغي أن نت ذكر أن مص طلح الترجمة يضم أنواع اً مختلفة من
أبرزها الترجمة المعرفية التي ينصرف إليها الذهن عادة إذا لم تكن هناك صفة محددة
الترجمة ُ
مث ل :الترجمة العلمية والترجمة التقنية والترجمة الرس مية والترجمة الوثائقية والترجمة األدبية
والترجمة الشعرية والترجمة الدينية.
وهن اك أيض اً ترجم ات مح ددة بالتخصص الن وعي مثل الترجمة الفورية والترجمة اآللية
توسع هائل( ،)1وتنطلق منها تفرع ات متوال دة
والترجمة الرقمية ،digitalوكلها اآلن موضع ّ
ٍ
ولكل من هذه الترجمات مشكالتها وضوابطها. يومياً حسب التطور االجتماعي والحضاري.
وإ لى ج انب ذلك علينا أال ننسى أن الترجمة ك انت مذ ق ديم الزم ان وس يلة التواصل المع رفي
والعملي والتج اري بين البش ر ،وأن أهميتها ظلت تتزايد نوعي اً مع تق دم الحض ارة اإلنس انية
وتس هيالت التواصل بين األمم س واء ك ان ه ذا التواصل إيجابي اً أو س لبياً كما هو ش أن الح روب
والغ زوات ال تي تزيد يومي اً من أهمية الترجمة ألجل إح راز النصر والغلَب ة" :من تعلم لغة ق وم
أمن من مكرهم".
ومنذ الب دء يؤس فني أن أص ّرح أن ثقافة الترجمة المعرفية بوجه خ اص تك اد تك ون ش به مهملة
وتع اني من مق والت ومع ايير بعي دة عن الص واب .ذلك أن كلمة "م ترجم" مرتبطة في األذه ان
بص ورة ذلك الم ترجم ال ذي يجلس على كرس ّيه أو تحت خيمته أو في دك اكين الترجمة ق رب
1
.كتبت عنها الكثير في مجلة "مركز تعريب التعليم العالي في الوطن العربي" ،التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ،تصدر من دمشق منذ
عدة سنوات.
2
أب واب ال وزارات والمؤسس ات العام ة ،ويحمل معه في األغلب ِ
ص يغاً وبيان ات ج اهزة
لموضوعات معينة يختار منها ما يناسب الزبون.
والمع ذرة من إخواننا جميع اً حين نؤكد أن س وق الكت اب الم ترجم تحت اج إلى مع ايير تتض ّمن
المعني على األقل .مع التأكيد
ّ مؤهالت المترجم وأمانته في النقل وإ جادته اللغتين في الموضوع
أن معظم الن اس ي دركون أن الس باق في س وق الكت اب ال ي رحم عن دما يك ون الكت اب المقص ود
ترجمته من ت أليف أديب ذي ش هرة أو زعيم ذي عظمة والس يما الم ذكرات والس ير الذاتي ة ،أو
يعالج موضوعاً ساخناً ال يحتمل التأخير.
وهنا البد من الت ذكير أن س معة الم ترجم نفسه هي ك ذلك لها ت أثير كب ير في َر ْوز مص داقية
الترجمة مثلما هي للم ؤلفين ،وللكت اب الم ترجم سمعتُه الخاص ة .وأذكر أن ني في س تينات القرن
رت ترجمة الس يرة الذاتية
الماضي حين كنت أع ّد رس الة ال دكتوراة في بريطانيا (ك امبردج) ُنش ْ
لج ان ب ول س ارتر ،وق وبلت الترجمة بتهليل مرتفع النغمة ال يتناسب مع ب رودة وحص افة كتّ اب
الص فحات األدبية في الجرائد والمجالت البريطاني ة ،والس يما في ملحق التايمز األدبي Times
.Literary Supplementوبالطبع كانت شهرة سارتر هي العامل األول ،ولكن كان هناك
تهليل بل ضجيج خاص حول مترجمه البارع ودار النشر.
3
ثانيا ً :إطاللة حول مشكلة ترجمة الشعر
وهنا يمكن أن نت ذكر أن الترجمة الحاذقة قد تس بق أو تض ارع العمل األص لي من خالل إكس ابه
نكهة مض افة والس يما في الش عر ال ذي تميل به الترجمة الحرفية أو الضعيفة إلى تشويه لمعان ه،
وقد تكسبه ألقاً مضافاً ،فمثالً يشير ألدوس هكسلي Aldous Huxleyفي "الموسيقى في الليل"
إلى أن إعجاب الشاعر الفرنسي بودلير بالشاعر اإلنكليزي إدغار ألَن بو يعود إلى أن الترجمة
إلى الفرنسية قد تجاوزت طريقة النظم اإلنكليزية (التي تعاني عادة من الجفاف الموسيقي) ،مما
جعل بودل ير يط رب لترجمة ش عر إدغ ار َآلن بو ألنها تتمتع بلطافة موس يقية أُحكمت موازينها
على نمط الشعر الفرنسي الموزون (بتأثير المترجم طبعاً).
وإ ذا بدا للمتلقي أن الحادثة السابقة التي توحي بأن اللغة المترجمة إلى الفرنسية تكتسب بالطبيعة
ألقاً خاصاً هي حادثة موغلة في القدم ،فسوف نرى في الحادثة التالية المعاصرة كيف أن ترجمة
اء من
عبد اللطيف اللع بي للش اعر الس وري محمد الم اغوط ،من العربية إلى الفرنس ية ،لقيت ثن ً
نق اد فرنس يين مش هود لهم ،رغم أن الم اغوط ك ان ش اعر نخبة (ت وفي قبل ع دة س نوات) وك انت
ج رأة انتق اده أشد تألق اً من إش عاع فن ه ،وتك اد الترجمة الفرنس ية لم ترجم ب ارع مثل اللع بي تف وق
األصل جمالياً على نحو ما ذكرنا سابقاً من إعجاب بودلير بجمال نظم إدغار ألَن بو(.)2
وتقتضي األمانة أن نش ير إلى أن ه ذا الموض وع تع رض إلى أخذ ورد على ص فحات الحياة في
تسعينات القرن الماضي ،واألفضل أن ال نغرق في هذا الموج االنتقادي المتضارب الذي يلهي
الق ارئ (عن كل مكرم ة) وال ينتهي به إلى ش اطئ الس المة .وعلى األرجح ينطبق ه ذا الحكم
المتعلق بالخالف ات حول الترجم ات الش عرية إلى الفرنسية على ترجمة الش عر بوجه ع ام .وهنا
ق أي نج اح أو رواج ،اللهم إال إذا
من الواضح أن الترجم ات الش عرية إلى اللغة العربية لم تل َ
كانت القصيدة المترجمة متعلقة بحادثة ما ذات أهمية أو باسم المع جداً.
2
.للتفصيل راجع :عبد اللطيف اللعبي " تلقيت سيالً من رسائل الشعراء والنقاد يثنون على [الفرنسي] ،جريدة الحياة ،في ،13/3/1992ص .16
ولكن بعد ذلك تعاقبت ردود تنقض هذا الثناء.
4
وهنا طبع اً نتذكر مقولة الجاحظ المعروفة " :الشعر ال يستطاع أن ُي ترجم وال يجوز عليه النقل،
وم تى تح ّول تقطّع نظمه وبطل وزنه وض اع موضع التعجب منه "...وك ان الجاحظ قاطع اً في
ه ذا المج ال وك ّرر مثل ه ذه الفك رة أك ثر من م رة .ومثله كث يرون في ه ذا العص ر ،وبعض هم
ي ذهب إلى التأكيد أن "ترجمة الش عر إلى لغة أخ رى مس تحيلة" مهما اختلفت الترجم ات ،بل إن
اختالف ترجم ات ش اعر مثل غوته وعمر الخي ام وغيرهما من المش اهير إلى اللغ ات األخ رى
تقدم أكبر دليل على ذلك(.)3
العولم ة ،اإلن ترنت ،الث ورة االتص الية ،تف ُّوق اللغة اإلنكليزي ة ،وغيرها من مؤش رات تط ور
رددات قد ت وحي ب تراجع الترجم ة ،ولكن ش هدت العق ود الثالثة األخ يرة من الق رن
ٌ العص ر ،م
العش رين والعقد األول من الق رن الح الي توس عاً م ذهالً في اإلقب ال على الترجمة بين اللغ ات.
وربما على تم ام المس توى من األهمية تط ور حقل الدراس ات المتعلقة بالترجمة من ن احيتي
النظرية والتط بيق .وقد تع ددت مناشط الترجمة وتن وعت وأص بحت تش كل حقالً معرفي اً قائم اً
بذات ه .وتش ير ال دالئل إلى أنه س يتبلور قريب اً في ش كل نظ ام مع رفي disciplineش أنه ش أن
األدب المق ارن أو النقد األدبي .وقد رفدته الدراس ات الثقافية المعاص رة Cultural Studies
رفداً قوياً من خالل تركيزها على قوة العامل الثقافي ذي التركيب المتداخل والمعقد ،في تشكيل
طرق تقرب البشر من شؤون المعرفة والعلم واألدب والفن من جهة وشؤون السلوك واألخالق
والعمل والتفاعل االجتم اعي من جهة أخ رى .وب الطبع هنا ت رد الترجمة بوص فها ع امالً فع االً
في تلقيح األفك ار وتطويرها وإ ع ادة تش كيلها ،وذلك بص رف النظر عن ص حتها أو دقتها أو
مناسبتها أو فائدتها المنظورة أو انسجامها مع طبيعة التراث المتلقي الذي تحاوره.
وقد ازداد الموقف المع رفي للترجمة ق وةً ،وكسب ْأي داً كب يراً من خالل الدراس ات األنثوية
،Feminine Studiesالتي رفعت من شأن الترجمة وقيمتها الفكرية ،وحاولت أن تنقلها من
3
.للتفصيل تمكن مراجعة كتاب قديم لحسام الخطيب بعنوان " :مالمح في األدب والثقافة واللغة " ،وزارة الثقافة ،دمشق ، 1976ص ...-322
5
خانة الحرفة إلى خانة نظام معرفي ٍ مستقبلي يك اد يطغى على أنظمة معرفية ك انت ح تى اآلن
تحديه إلى
تُعت بر اللس ان ال ذهبي للعصر مثل األدب المق ارن ،ال ذي ج رى في اآلونة األخ يرة ّ
درجة أن كاتبة مثل س وزان باس نت تجد فيما يس مى :دراس ات الترجمة Translation
ولكن الح ديث ج رى ح تى اآلن في إط ار الثقافة واألنظمة المعرفية األدبية ،وتعت بر الخط وة
تم علمي اً من وصل الترجمة بمج االت البحث اللس اني وس يميائيات التلقي
الرديفة في األهمية ما ّ
اص .إال أن ه ذا ليس كل ش يء ،فالترجمة تتجه منذ منتصف الق رن العش رين بق وة إلى أن
والتن ّ
تك ون علم اً موض وعياً بكل ما في الكلمة من مع نى .والحق انه مع تع دد نظري ات الترجمة
وتقنياتها وأنواعها وأغراض ها ب ات ض رورياً ج داً أن ينتظمها الق انون العلمي ،والس يما أن
الترجمة اآللية Machine Translationب اتت تطغى على الس وق العملي للترجمة وتنضج
طرقها وتأخذ مكانها في عجلة اإلنتاج الترجمي ذي الطاقة الهائلة والسرعة المذهلة والسيما في
المجاالت العلمية والتوثيقية والتجارية....
وإ ذا تركنا الناحية النظرية وتعقيداتها وأتينا إلى الناحية العملية ،نجد أنه أصبح من فضول القول
الح ديث عن أهمية الترجمة في التفاعل والتالقح بين الثقاف ات ،وفي تق ريب أفك ار البشر بعض ها
من بعض ،وفي إحالل التف اهم محل س وء الفهم والم رددات المتحزبة والتعميم ات الرائجة
، stereotypesوكذلك في إيقاظ كل ثقافة ،بل كل لغة ،من أوهام الكهف أي من المبالغة في
الرفع من شأن إرثها الثقافي واإلزراء بقيمة الثقافات األخرى.
4
.للتوسع تمكن مراجعة :
Suzan Bassnett-Mc. Quire:
Translation Studies. Methued : London and New York, 1980.
6
السيئات ،من مثل إدخال األفكار الهجين ة،
وبالمقابل يستطيع المرء أن يحصي للترجمة كثيراً من ّ
وانتق اء ما هو ب ّراق ومخ ادع من الثقاف ات األخ رى مقابل االنص راف عن الرص ين والعميق
والمفيد ،وكذلك سوء الترجمات وضعفها وخيانتها لألصل لدرجة أنها قد تزيف المضامين وتقدم
للمتلقي ض روباً من األوه ام واألباطيل من ش أنها أن تش كل ص ورة مش ّوهة تُب نى عليها فيما بعد
قناعات ومواقف ليس لها أساس ،وقد تتطور المسألة إلى درجة أن تصبح آف ةً تاريخية يتوارثها
اآلباء عن األجداد واألبناء عن اآلباء.
والحق أن اإلجم اع منعقد بين الع ارفين على أنه مع اتس اع حرك ات الترجمة في الع الم ،وازدي اد
ع دد اللغ ات الداخلة في الس باق ال ترجمي ،ومع ع دم ت وافر آلي ات (ميك انزم) ذات كفاية للض بط
واإلش راف ،تس ود يومي اً الترجم ات التجارية الرخيصة الس ريعة وتتس ابق على أب واب األس واق
ونوافذ الع رض ،بينما تقبع الترجم ات الرص ينة والدقيقة والمس ؤولة خلف كش افات األض واء ،أو
في عتمة الرفوف واألروقة ،ال يعبأ بها جمهور المتلقين ،هذا إذا علم بها أصالً.
7
رابعا ً :كلمة حول الترجمة العربية
لوحظ في الس نوات األخ يرة من الق رن العش رين وفي الس نوات القليلة األولى من الق رن الح الي
التفات قوي في الوطن العربي باتجاه الترجمة .وبعد أن كانت الترجمة مهملة نسبياً في مجال
النش اط الثق افي الع ربي ،كما ت دل على ذلك المتابع ات المس حية لليونس كو ،والس يما اإلص دار
ال دوري :فه رس الترجمة Index Translationumال ذي يت ابع تط ورات نشر الكتب
المترجمة في جميع أنحاء العالم.
وتش ير الق وائم المنش ورة ح تى أواخر الق رن العش رين في ه ذا ال دليل ح ول النش اط ال ترجمي في
البالد العربي ة ،تش ير إلى فقر ش ديد في ه ذا المج ال بالمقارنة مع بل دان الع الم األخ رى من
الن احيتين الكمية والكيفي ة ،وال يك اد يوجد أثر لخطط مس تقبلية أو تخصص ية ،اللهم إال ما تفعله
وزارات الثقافة والهيئ ات الرس مية أو ش به الرس مية من ناحية تخص يص سالسل معينة حسب
موض وعات مخت ارة مع تف اوت كب ير به ذا الش أن بين كل قطر ع ربي وآخ ر .وي أتي في مقدمة
هذه الخطط المشروع المتميز الذي سبق إليه المجلس الوطني للثقافة في دولة الكويت تحت اسم
"عالم المعرفة" وهي سلسلة متميزة في اختيار الموضوعات وكذلك في دقة الترجمة .وتاله بعد
ذلك ب زمن مش روع الش امل للمجلس األعلى للثقافة في مصر العربية ال ذي س بقته في مصر
ٍ
روعات أض يق موج ات ج ادة من االهتم ام بالترجم ة .إال أن مثل ه ذا المش روع وس واه من مش
نطاق اً مثل الجه ود الترجمية ل وزارات الثقافة في كل من س وريا والع راق وأقط ار عربية أخ رى
قد مضت دون أي تق ييم منهجي س وى التق ييم الكمي والمع رفي أي ع دد المنش ورات المترجمة
وأحيان اً تنوعات تخصصها ،مع تفاوت بين كل مشروع وآخ ر .وهذه كلها جهود رسمية غير
خاضعة لقانون العرض والطلب .والى ذلك كانت هناك دائماً إصدارات سباقة لدور النشر غير
الرس مية والس يما في لبن ان ومصر وك ان تركيزها بطبيعة الح ال على اإلنت اج الع المي ال رائج،
بق في إص دار المع اجم أيض اً.
والس يما في المج االت األدبية والسياس ية والترفيهي ة ،ولبعض ها س ُ
8
كما ظه رت في اآلونة األخ يرة مش روعات ترجمة ش املة وجريئة في دول الخليج الع ربي.
()5
وهناك مشروعات أخرى تمولها وتديرها دول أجنبية.
وهن اك إجم اع واضح على أن الترجمة العربية ك انت (وربما ما زالت) ش به س ائبة ،أي يختلط
فيها الحابل والناب ل ،وتفتقر إلى مع ايير للتق ييم ،س واء من ناحية األمانة العلمية أو من ناحية
الس المة اللغوية للّغة المس تهدفة ، Target Languageوهي غالب اً اللغة العربي ة ،وه ذا هو
العجب العجاب.
وهن اك اس تثناء وحيد هو ما تنش ره المجالت األدبية بين حين وآخر من مس اجالت ومش احنات
بشأن بعض الترجمات – والسيما األدبية والفكرية – التي ينشرها أساتذة ومترجمون لهم مكانة
رفيع ة .وبوجه ع ام ظلت النظ رة إلى الترجمة مشوبة بشيء من التصنيفية الس لبية ،أي اعتب ار
الترجمة عمالً مكمالً وبعيداً عن اإلبداع وال يستحق التدقيق.
وحتى يوم الناس هذا يصعب أن يطمئن المرء إلى وجود ُّ
تغير في الموقف العام من الترجمة،
اللهم إال من الناحية الكمية التي تتمثل في الجوانب التالية:
-زيادة ملحوظة في عدد المؤهلين المقبلين على مهنة الترجمة بينما كانت ُّ
تعد مهنة إضافية،
أي عمالً مكمالً ألنواع أخرى من المهن والسيما تدريس اللغات األجنبية.
-زيادة في كمية اإلنتاج الترجمي ،أي في عدد الترجمات المنشورة ،إال أن هذه الزيادة يجب
أن تقاس من خالل منظور نسبي أي ليس بالمقارنة مع الوضع السابق في الوطن العربي،
ولكنها إذا ق ورنت بالزي ادة ش به الخيالية في النش اط ال ترجمي على المس توى الع المي تب دو
باهتة شأنها شأن أنواع النشاط المعرفي األخرى في الوطن العربي.
-قفزة في مجال مؤتمرات الترجمة على المستوى العربي الشامل في بضع السنوات األولى
من الق رن الجدي د ،على حين ك انت هن اك ملتقي ات مح دودة في بعض األقط ار العربي ة ،أو
5
.انظر مثالً مشروع " فرنسا والعروبة" الذي يتميز بترجمات مختارة من الثقافة العربية القديمة والحديثة إلى جانب الترجمات من الفرنسية إلى
العربية.
9
ك انت هن اك بن ود مح ددة ح ول الترجمة كما ح دث أحيان اً في :م ؤتمرات االتح اد الع ام
لألدب اء والكت اب الع رب .وذلك كله إلى ج انب نش اطات مح دودة في بعض الجامع ات
العربية .ويالحظ أنه خالل السنوات القليلة الماضية عقدت مؤتمرات مهمة جداً في مجال
الترجمة على المس توى الع ربي الش امل .وذلك إلى ج انب نش وء مؤسس ات متخصصة
بالترجم ة ،غالب اً بفضل أف راد أثري اء مح بين للمعرف ة ،وأحيان اً أخ رى بمب ادرة من هيئ ات
المجتمع الم دني وب دعم من الع املين في مج االت الترجم ة ،وأحيان اً أخ رى من خالل
مؤسس ات عربية جامعة مثل "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعل وم"( .أنش أت للمركز
العربي للتع ريب والترجمة والنشر والت أليف وخصصت له ميزانية سنوية ال تكفي ألي بند
من ه ذه البن ود العريض ة) .ثم ك انت النقلة الرس مية باتج اه الترجمة من خالل إنش اء
"المنظمة العربية للترجمة".
وهك ذا ج اءت القف زة المذهلة من خالل تع دد مراكز الترجمة ومؤسس اتها في ال وطن الع ربي،
والس يما في اإلم ارات العربية المتح دة والمملكة العربية الس عودية ومن اطق أخ رى من الخليج
الع ربي ،وقد ج رت اإلش ارة س ابقاً إلى س بق المجلس الوط ني للثقافة في دولة الك ويت باإلنج از
المبكر لمش روع "ع الم المعرف ة" ،كأنما الع رب أف اقوا فج أة على أهمية الترجم ة ،وب دأوا كالع ادة
يتنافس ون في افتت اح المراك ز ،وإ نش اء دبلوم ات الترجمة في الجامع ات ولكن دون أي اهتم ام
بالتنسيق أو التكامل أو تجنب تكرار الجهود والتمويل للهدف الواحد.
هذا من الناحية الكمية ،وكله خير وبركة .ولكن يالحظ أن قانون التحوالت الكمية باتجاه تبلور
كيفي يص عب أن ينطبق على اإلنت اج المع رفي الح الي في البالد العربي ة ،ح تى في مج ال
الترجم ات األدبية والفكرية ذات الموض وع ال راقي ،وذلك بس بب فق دان المع ايير واض طراب
ترجمة المص طلح وغي اب أي منظومة للتق ييم والنقد متفق ٍ عليها اتفاق اً ملفوظ اً أو ملحوظ اً.
ونادراً ما نقرأ في الدراسات األدبية أية بحوث معمقة حول المستوى الفني واللغوي للترجمات،
بل مستوى األداء واألمانة ،باستثناء المشاحنات التي تثار في الجرائد والدوريات العامة .ومن
10
الم أمول أن يق ود التق دم الملح وظ في الدراس ات النظرية ح ول الترجمة إلى التوصل لما يش به
المعايير العامة.
أخيراً:
ت ذكرنا ه ذه المنافسة وه ذه التعددية بمقالة ميخائيل نعيمة المش هورة في أوائل الق رن الماضي
بعن وان "فلن ترجم" .إذ ت أخرت قراءتها ح والي ق رن من الزم ان .والشك أن جميع الع املين في
المج االت العامة يعرف ون جي داً أن ه ذه الظ اهرة التنافس ية التكرارية واردة ج داً في مختلف
مس تويات العمل السياسي واالجتم اعي والثق افي الع ربي .وقد أس ميتها في بعض دراس اتي
بظاهرة التفكير الموجي عند العرب ،إذ إن قانون التفكير الجماعي عند عرب هذا العصر يأتي
على ش كل موج ات ،فيوم اً فلس طين وبع دها الوح دة العربي ة ،وبع دها الس الم الع ادل ،وبع دها
الديمقراطي ة ،وهي انتق االت ال تع ني أن كل موجة اس تنفدت أغراض ها ،وإ نما ت أتي تهرب اً من
االلتزامات (غير اللفظية) المترتبة على كل موجة من الموجات العارمة.
منطقياً يجب على المترجم أن يكون مؤهالً وضليعاً باللغات التي تدخل في مجال عمله ...فهل
تحتاج هذه الحقيقة إلى تأكيد أو برهان؟
نعم ..إنها تحتاج إلى التأكيد في مجال الترجمة العربية الراهنة .ذلك أنه حتى ٍ
أمد قريب كانت
تتم غالب اً دون تأهي ل .وفي معظم الح االت ك انت المش كلة أش َّد وض وحاً حين
الترجمة العربية ّ
تك ون اللغة العربية لغة اله دف ،وذلك خالف اً لما يح دث في الح االت الطبيعية حيث يس هل على
الم ترجم أن ي ترجم من اللغة األجنبية إلى اللغة الوطنية ألن إتقانه اللغة األم مس ألة بديهي ة.
وباستثناء الترجمات التي يتوالها أدباء من ذوي الكفاءة باللغتين المرسلة والمستقبلة ظلت معظم
الترجم ات العربية الش ائعة تع اني من ض ٍ
عف ش ديد في مختلف المج االت المعرفي ة ،وك ان ق راء
الترجمات إلى العربية يشتكون بوجه خاص من ضعف لغة المترجمين واستهانتهم بقواعد اللغة
11
العربية وجمالي ات أس اليبها ،وأحيان اً ينف رون من أية اس تعماالت لغوية مس تعارة ح تى لو ك انت
ش ائعة على المس توى الع المي من مثل :يلعب دوراً play a roleوالالعب ون الكب ار Grand
، playersوعب ارات أخ رى كث يرة كث يرة ك ان يش مئز منها أس اتذة اللغة العربي ة ،ثم أص بحت
مألوفة في هذه األيام بعد أن أخذت اللغات بمبدأ االستعارة اللغوية والسيما حين يبلغ المصطلح
درجة االنتشار العالمي.
ب دأت به ذه المقدمة لكي أوضح أن ني لست من المتش ددين في مس ألة االس تعارات اللغوية على
المس توى الع المي ،ومن الواضح أن جميع لغ ات الع الم الي وم تتفاعل وتتكامل من خالل ه ذا
التفاعل .ولكن مشكلة المترجمين في المجال الع ربي لها وجه آخر يتمثل في الض عف اللغ وي
المستشري في الترجم ات بس بب غي اب أي تأهيل لغ وي ع ربي ل دى الم ترجمين .وأك ثرهم ال
يكلف ون أنفس هم مش قة تحس ين مع رفتهم باللغة األم .وهنا نت ذكر مقولة ك ان يرددها الموس يقار
والم ترجم األم ريكي تيد روريم مفادها أن فن الترجمة يكمن في إتق ان اللغة األم بمس توى أعمق
من معرفة اللغة األجنبي ة .وب الطبع ه ذا الحكم ينطبق على الترجمة من وإ لى األزواج اللغوية
المختلفة.
ومن المؤسف ج داً أن تعليم اللغ ات األجنبية في البالد العربية أخذ يوغل يومي اً في الترك يز على
تدرس اللغة
اللغة األجنبية قبل العربية ،كما أن المدارس األجنبية التي يشتد اإلقبال عليها أخذت ّ
العربية لألجيال الناشئة بطريقة هجينة تكاد توحي للمتعلم أن اللغة األصلية هي األجنبية وليست
مكملة للغة األجنبي ة ،ربما على س بيل رفع العتب والتحايل على الق وانين
اللغة العربية س وى ّ
والتعليم ات الرس مية المتعلقة بت دريس اللغة األم .ولكن ح تى ه ذه الق وانين ،أخ ذت تس ترخي في
بالد عربية كثيرة والسيما في معظم منطقة الخليج العربي .وفي هذه الحالة ال نتوقع تحسناً في
مستوى الترجمة من العربية وإ ليها ،بل قد ال نحتاج إلى الترجمة.
وهك ذا يتضح أن مس تقبل الترجمة العربية ق اتم ج داً ألن أقس ام اللغ ات األجنبية في الجامع ات
مدرس الترجمة في ٍ
مقرر لتدريس اللغة العربية ،وال ندري هل ّ العربية ترفض أيضاً تخصيص
12
ه ذه األقس ام مؤهل إلعط اء لغته الوطنية االهتم ام الك افي ،ومعظمهم طبع اً من متخ رجي
الجامع ات األجنبي ة .وهن اك اس تثناءات عائ دة طبع اً إلى وعي األس رة بض رورة االهتم ام باللغة
العربية في مراحل التعليم المبكرة.
وقد يقول قائل إن معظم الناشرين العرب لديهم مصحح لغوي .ولكن كما ذكرنا سابقاً ليس كل
من يحمل اإلج ازة في اللغة العربية يمكن أن يتص دى لمس ألة المراجع ة .ول ذلك نجد كث يرين –
وكاتب هذه السطور منهم -حين يبعث مخطوط اً ينبه إلى ضرورة عدم عرضها على المصحح
اللغ وي ألن تجاربنا ت دل على أن المص حح اللغ وي يك ون في الع ادة مدرس اً للغة العربية (ويا
ليتهم يتقنونها بعد أن ت دنى مس توى التعليم) ،ومعظمهم ال يط العون س وى الكتب المق ررة ال تي
تك ون ع ادة متخلفة عن المص طلحات واالس تعماالت اللغوية المس تجدة ألن اللغ ات المص احبة
لالكتشافات العلمية والعالقات الدولية متجددة باستمرار ،وفي كثير من األحيان يكون موضوع
المعد
ّ المخطوط المطروح للطباعة غريب اً عن ثقافة المصحح فتؤدي تدخالته إلى تشويه الكتاب
للطباع ة .وبالمناس بة نش ير إلى أن دور النشر المحترمة في الع الم ال تس مح بنشر أي كت اب إال
بعد مراجعته على يد متخصص ق دير ليس في اللغة فقط بل في المج ال المع رفي المقص ود في
المشروع المترجم.
يض اف إلى كل ما تق دم أن لغ ات الع الم المعاصر تحت اج دائم اً إلى تغذية تناسب التط ورات
العلمية والتجارية والعالقات الدولية ذات المفردات المتغيرة باستمرار .وال يجوز للمترجم وال
للمص حح اللغ وي اإلغض اء عن ه ذه التغ يرات ال تي تطالعنا يومي اً .ثم إن ال دالالت اللغوية
وإ يحاءاتها تخضع للتط ورات الناجمة عن حركة العولمة إلى ج انب التط ورات الطبيعية ال تي
تحكم لغة المجتمع ال ذي تتط ور احتياجاته ومفاهيمه تحت وط أة التط ورات الطبيعية للعالق ات
االجتماعية .وهنا يحسن أن نتذكر الحكاية الطريفة التي حدثت للرئيس األمريكي جيمي ك ارتر.
إذ حين أتيحت له زي ارة بولونيا في أواخر واليته اص طحب معه الم ترجم البول وني العامل في
ال بيت األبيض ،وك ان الم ترجم المس ّن من البولون يين ال ذين هرب وا مبك راً من الحقبة الش يوعية.
13
وفي خط اب لل رئيس ك ارتر على جمع حاشد في العاص مة البولونية الحظ ال رئيس ومرافق وه أن
الجمه ور ك ان يص فق ويض حك مع أن ال رئيس ك ارتر هو من أك ثر الن اس جدية ووق اراً .وبعد
وتبين لهم أن الم ترجم البولوني الذي غاب
االنتهاء من الخطبة حقق المس ؤولون في الموضوع ّ
عن بولونيا أربعين س نة لم يكن على اتص ال بتط ورات لغة وطن ه ،فك انت عباراته مض حكة.
وعند عودة الرئيس أنهى عمل المترجم فوراً وعزله ،ولكن الصحافة األمريكية ألسباب سياسية
وربما إنس انية ،احتجت على عملية ط رده إلى درجة أن ال رئيس اض طر إلى إعادته إلى وظيفته
(ربما ليدرس البولونية من جديد!!).
وتقودنا حكاية ك ارتر إلى مس ألة أخ رى ش ديدة األهمية وهي الحساس ية اللغوية ال تي بغيرها ال
تنجح الترجم ات ذات المس توى الف ني الرفي ع .ويظهر ذلك جلي اً في ترجمة الش عر وهن اك
مناقش ات عويصة وطريفة ح ول ه ذا الموض وع ت برهن على الص حة النس بية للمقولة اإليطالية
الدارجة :المترجم خائن.
ثم إن الدراسات األنثوية Feminine Studiesفتحت النار مجدداً بقيادة سوزان باسنت التي
رفعت من شأن الترجمة ودعت إلى اعتبارها مساقاً علمياً بديالً لألدب المقارن .ومهما يكن من
أمر ننادي مع ميخائيل نعيمة ":فلنترجم"؛ ولكن نضيف إليها الدعاء :ارحموا الترجمة وارحموا
اللغة العربية وامنحوها من االهتم ام بعض ما تمنحونه لإلنكليزية والفرنس ية وإ ال ِفل َم الترجمة
إلى العربي ة؟ ذلك الش اب الع ربي ال ذي يتقن االنكليزية أو غيرها من اللغ ات األجنبية ال يحت اج
إلى اللغة العربية لقراءة الترجمات من اللغات األخرى.
14