You are on page 1of 14

‫مشكالت الترجمة العربية ‪ :‬مقاربة ميدانية‬

‫أ‪.‬د‪ .‬حسام الخطيب‬

‫مشرف عام مركز الترجمة‬


‫وزارة الثقافة والفنون والتراث‬
‫الدوحة ‪ ،‬قطر‬

‫أب دأ بش ٍ‬
‫كر جزيل للس ادة الفاض لين وأع وانهم‪ ،‬ال ذين غمرونا بلطفهم وك ريم وف ادتهم‪ ،‬وك ذلك إلى‬

‫جميع اإلخوة الحاضرين في هذه الفرصة الثمينة التي فهمت منها أنني سأعالج موضوعاً عملي اً‬
‫إجرائي اً بعي داً عن القي ود والف ذلكات األكاديمية ال تي أكلت من عمر العبد الفق ير معظم طاقت ه‪،‬‬
‫وأمالً في أن تك ون المعالجة قريبة من اهتمام ات وهم وم إخواننا في الحرفة من الع املين في‬
‫مج ال النش ر‪ ،‬ومعظمهم من ح املي األمانة ول وال جه ودهم لما أتيحت لنا ولجمهورنا فرصة‬
‫التفاعل وإ بالغ الرسالة أياً كانت‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أوالً ‪ :‬مدخل‬

‫قبل أن نخ وض في الموض وع ينبغي أن نت ذكر أن مص طلح الترجمة يضم أنواع اً مختلفة من‬
‫أبرزها الترجمة المعرفية التي ينصرف إليها الذهن عادة إذا لم تكن هناك صفة محددة‬
‫الترجمة ُ‬
‫مث ل‪ :‬الترجمة العلمية والترجمة التقنية والترجمة الرس مية والترجمة الوثائقية والترجمة األدبية‬
‫والترجمة الشعرية والترجمة الدينية‪.‬‬

‫وهن اك أيض اً ترجم ات مح ددة بالتخصص الن وعي مثل الترجمة الفورية والترجمة اآللية‬
‫توسع هائل(‪ ،)1‬وتنطلق منها تفرع ات متوال دة‬
‫والترجمة الرقمية ‪ ،digital‬وكلها اآلن موضع ّ‬
‫ٍ‬
‫ولكل من هذه الترجمات مشكالتها وضوابطها‪.‬‬ ‫يومياً حسب التطور االجتماعي والحضاري‪.‬‬

‫وإ لى ج انب ذلك علينا أال ننسى أن الترجمة ك انت مذ ق ديم الزم ان وس يلة التواصل المع رفي‬
‫والعملي والتج اري بين البش ر‪ ،‬وأن أهميتها ظلت تتزايد نوعي اً مع تق دم الحض ارة اإلنس انية‬
‫وتس هيالت التواصل بين األمم س واء ك ان ه ذا التواصل إيجابي اً أو س لبياً كما هو ش أن الح روب‬
‫والغ زوات ال تي تزيد يومي اً من أهمية الترجمة ألجل إح راز النصر والغلَب ة‪" :‬من تعلم لغة ق وم‬
‫أمن من مكرهم"‪.‬‬

‫وهك ذا ال نس تطيع أن نتح دث عن الترجمة بوجه ع ام‪ ،‬إذ في كل مج ال هن اك تفرع ات ت زداد‬


‫تخصص اً نوعي اً مع تق دم الحض ارة اإلنس انية‪ .‬وفي المناس بة الحالية نفضل أن نحصر الح ديث‬
‫بالترجمة المعرفية (المكتوب ة) ال تي تتن اول اآلداب واالجتماعي ات والتربية والعل وم‪ ،‬أي المتداولة‬
‫في الكتب والمؤلفات والمجالت التي ينشرها العاملون تحت عنوان الترجمة‪.‬‬

‫ومنذ الب دء يؤس فني أن أص ّرح أن ثقافة الترجمة المعرفية بوجه خ اص تك اد تك ون ش به مهملة‬
‫وتع اني من مق والت ومع ايير بعي دة عن الص واب‪ .‬ذلك أن كلمة "م ترجم" مرتبطة في األذه ان‬
‫بص ورة ذلك الم ترجم ال ذي يجلس على كرس ّيه أو تحت خيمته أو في دك اكين الترجمة ق رب‬
‫‪1‬‬
‫‪ .‬كتبت عنها الكثير في مجلة "مركز تعريب التعليم العالي في الوطن العربي"‪ ،‬التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم‪ ،‬تصدر من دمشق منذ‬
‫عدة سنوات‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫أب واب ال وزارات والمؤسس ات العام ة‪ ،‬ويحمل معه في األغلب ِ‬
‫ص يغاً وبيان ات ج اهزة‬
‫لموضوعات معينة يختار منها ما يناسب الزبون‪.‬‬

‫والمع ذرة من إخواننا جميع اً حين نؤكد أن س وق الكت اب الم ترجم تحت اج إلى مع ايير تتض ّمن‬
‫المعني على األقل‪ .‬مع التأكيد‬
‫ّ‬ ‫مؤهالت المترجم وأمانته في النقل وإ جادته اللغتين في الموضوع‬
‫أن معظم الن اس ي دركون أن الس باق في س وق الكت اب ال ي رحم عن دما يك ون الكت اب المقص ود‬
‫ترجمته من ت أليف أديب ذي ش هرة أو زعيم ذي عظمة والس يما الم ذكرات والس ير الذاتي ة‪ ،‬أو‬
‫يعالج موضوعاً ساخناً ال يحتمل التأخير‪.‬‬

‫وهنا البد من الت ذكير أن س معة الم ترجم نفسه هي ك ذلك لها ت أثير كب ير في َر ْوز مص داقية‬
‫الترجمة مثلما هي للم ؤلفين‪ ،‬وللكت اب الم ترجم سمعتُه الخاص ة‪ .‬وأذكر أن ني في س تينات القرن‬
‫رت ترجمة الس يرة الذاتية‬
‫الماضي حين كنت أع ّد رس الة ال دكتوراة في بريطانيا (ك امبردج) ُنش ْ‬
‫لج ان ب ول س ارتر‪ ،‬وق وبلت الترجمة بتهليل مرتفع النغمة ال يتناسب مع ب رودة وحص افة كتّ اب‬
‫الص فحات األدبية في الجرائد والمجالت البريطاني ة‪ ،‬والس يما في ملحق التايمز األدبي ‪Times‬‬

‫‪ .Literary Supplement‬وبالطبع كانت شهرة سارتر هي العامل األول‪ ،‬ولكن كان هناك‬
‫تهليل بل ضجيج خاص حول مترجمه البارع ودار النشر‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬إطاللة حول مشكلة ترجمة الشعر‬

‫وهنا يمكن أن نت ذكر أن الترجمة الحاذقة قد تس بق أو تض ارع العمل األص لي من خالل إكس ابه‬
‫نكهة مض افة والس يما في الش عر ال ذي تميل به الترجمة الحرفية أو الضعيفة إلى تشويه لمعان ه‪،‬‬
‫وقد تكسبه ألقاً مضافاً‪ ،‬فمثالً يشير ألدوس هكسلي ‪ Aldous Huxley‬في "الموسيقى في الليل"‬
‫إلى أن إعجاب الشاعر الفرنسي بودلير بالشاعر اإلنكليزي إدغار ألَن بو يعود إلى أن الترجمة‬
‫إلى الفرنسية قد تجاوزت طريقة النظم اإلنكليزية (التي تعاني عادة من الجفاف الموسيقي)‪ ،‬مما‬
‫جعل بودل ير يط رب لترجمة ش عر إدغ ار َآلن بو ألنها تتمتع بلطافة موس يقية أُحكمت موازينها‬
‫على نمط الشعر الفرنسي الموزون (بتأثير المترجم طبعاً)‪.‬‬

‫وإ ذا بدا للمتلقي أن الحادثة السابقة التي توحي بأن اللغة المترجمة إلى الفرنسية تكتسب بالطبيعة‬
‫ألقاً خاصاً هي حادثة موغلة في القدم‪ ،‬فسوف نرى في الحادثة التالية المعاصرة كيف أن ترجمة‬
‫اء من‬
‫عبد اللطيف اللع بي للش اعر الس وري محمد الم اغوط ‪ ،‬من العربية إلى الفرنس ية‪ ،‬لقيت ثن ً‬
‫نق اد فرنس يين مش هود لهم‪ ،‬رغم أن الم اغوط ك ان ش اعر نخبة (ت وفي قبل ع دة س نوات) وك انت‬
‫ج رأة انتق اده أشد تألق اً من إش عاع فن ه‪ ،‬وتك اد الترجمة الفرنس ية لم ترجم ب ارع مثل اللع بي تف وق‬
‫األصل جمالياً على نحو ما ذكرنا سابقاً من إعجاب بودلير بجمال نظم إدغار ألَن بو(‪.)2‬‬

‫وتقتضي األمانة أن نش ير إلى أن ه ذا الموض وع تع رض إلى أخذ ورد على ص فحات الحياة في‬
‫تسعينات القرن الماضي‪ ،‬واألفضل أن ال نغرق في هذا الموج االنتقادي المتضارب الذي يلهي‬
‫الق ارئ (عن كل مكرم ة) وال ينتهي به إلى ش اطئ الس المة‪ .‬وعلى األرجح ينطبق ه ذا الحكم‬
‫المتعلق بالخالف ات حول الترجم ات الش عرية إلى الفرنسية على ترجمة الش عر بوجه ع ام‪ .‬وهنا‬
‫ق أي نج اح أو رواج‪ ،‬اللهم إال إذا‬
‫من الواضح أن الترجم ات الش عرية إلى اللغة العربية لم تل َ‬
‫كانت القصيدة المترجمة متعلقة بحادثة ما ذات أهمية أو باسم المع جداً‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ .‬للتفصيل راجع ‪ :‬عبد اللطيف اللعبي " تلقيت سيالً من رسائل الشعراء والنقاد يثنون على [الفرنسي]‪ ،‬جريدة الحياة‪ ،‬في ‪ ،13/3/1992‬ص ‪.16‬‬
‫ولكن بعد ذلك تعاقبت ردود تنقض هذا الثناء‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وهنا طبع اً نتذكر مقولة الجاحظ المعروفة‪ " :‬الشعر ال يستطاع أن ُي ترجم وال يجوز عليه النقل‪،‬‬
‫وم تى تح ّول تقطّع نظمه وبطل وزنه وض اع موضع التعجب منه ‪ "...‬وك ان الجاحظ قاطع اً في‬
‫ه ذا المج ال وك ّرر مثل ه ذه الفك رة أك ثر من م رة‪ .‬ومثله كث يرون في ه ذا العص ر‪ ،‬وبعض هم‬
‫ي ذهب إلى التأكيد أن "ترجمة الش عر إلى لغة أخ رى مس تحيلة" مهما اختلفت الترجم ات‪ ،‬بل إن‬
‫اختالف ترجم ات ش اعر مثل غوته وعمر الخي ام وغيرهما من المش اهير إلى اللغ ات األخ رى‬
‫تقدم أكبر دليل على ذلك(‪.)3‬‬

‫ثالثا ً ‪ :‬الترجمة من الناحية المعرفية‬

‫العولم ة‪ ،‬اإلن ترنت‪ ،‬الث ورة االتص الية‪ ،‬تف ُّوق اللغة اإلنكليزي ة‪ ،‬وغيرها من مؤش رات تط ور‬
‫رددات قد ت وحي ب تراجع الترجم ة‪ ،‬ولكن ش هدت العق ود الثالثة األخ يرة من الق رن‬
‫ٌ‬ ‫العص ر‪ ،‬م‬
‫العش رين والعقد األول من الق رن الح الي توس عاً م ذهالً في اإلقب ال على الترجمة بين اللغ ات‪.‬‬
‫وربما على تم ام المس توى من األهمية تط ور حقل الدراس ات المتعلقة بالترجمة من ن احيتي‬

‫النظرية والتط بيق‪ .‬وقد تع ددت مناشط الترجمة وتن وعت وأص بحت تش كل حقالً معرفي اً قائم اً‬
‫بذات ه‪ .‬وتش ير ال دالئل إلى أنه س يتبلور قريب اً في ش كل نظ ام مع رفي ‪ discipline‬ش أنه ش أن‬
‫األدب المق ارن أو النقد األدبي‪ .‬وقد رفدته الدراس ات الثقافية المعاص رة ‪Cultural Studies‬‬

‫رفداً قوياً من خالل تركيزها على قوة العامل الثقافي ذي التركيب المتداخل والمعقد‪ ،‬في تشكيل‬
‫طرق تقرب البشر من شؤون المعرفة والعلم واألدب والفن من جهة وشؤون السلوك واألخالق‬

‫والعمل والتفاعل االجتم اعي من جهة أخ رى‪ .‬وب الطبع هنا ت رد الترجمة بوص فها ع امالً فع االً‬
‫في تلقيح األفك ار وتطويرها وإ ع ادة تش كيلها‪ ،‬وذلك بص رف النظر عن ص حتها أو دقتها أو‬
‫مناسبتها أو فائدتها المنظورة أو انسجامها مع طبيعة التراث المتلقي الذي تحاوره‪.‬‬

‫وقد ازداد الموقف المع رفي للترجمة ق وةً‪ ،‬وكسب ْأي داً كب يراً من خالل الدراس ات األنثوية‬
‫‪ ،Feminine Studies‬التي رفعت من شأن الترجمة وقيمتها الفكرية‪ ،‬وحاولت أن تنقلها من‬
‫‪3‬‬
‫‪ .‬للتفصيل تمكن مراجعة كتاب قديم لحسام الخطيب بعنوان ‪ " :‬مالمح في األدب والثقافة واللغة " ‪ ،‬وزارة الثقافة ‪ ،‬دمشق ‪ ، 1976‬ص ‪...-322‬‬

‫‪5‬‬
‫خانة الحرفة إلى خانة نظام معرفي ٍ مستقبلي يك اد يطغى على أنظمة معرفية ك انت ح تى اآلن‬
‫تحديه إلى‬
‫تُعت بر اللس ان ال ذهبي للعصر مثل األدب المق ارن‪ ،‬ال ذي ج رى في اآلونة األخ يرة ّ‬
‫درجة أن كاتبة مثل س وزان باس نت تجد فيما يس مى‪ :‬دراس ات الترجمة ‪Translation‬‬

‫وض اء له ذه الدراس ات في‬


‫‪ Studies‬حالً لما يعتقد أنه معض لة األدب المق ارن وتبشر بمس تقبل ّ‬
‫الس نوات القليلة القادم ة‪ .‬يالحظ هنا أن إس هام النس اء في الترجمة ودراس اتها في الغ رب أص بح‬
‫(‪)4‬‬
‫عامالً في "تأنيث" مفهومات الترجمة والدراسات المتعلقة بها‪.‬‬

‫ولكن الح ديث ج رى ح تى اآلن في إط ار الثقافة واألنظمة المعرفية األدبية‪ ،‬وتعت بر الخط وة‬
‫تم علمي اً من وصل الترجمة بمج االت البحث اللس اني وس يميائيات التلقي‬
‫الرديفة في األهمية ما ّ‬
‫اص‪ .‬إال أن ه ذا ليس كل ش يء‪ ،‬فالترجمة تتجه منذ منتصف الق رن العش رين بق وة إلى أن‬
‫والتن ّ‬
‫تك ون علم اً موض وعياً بكل ما في الكلمة من مع نى‪ .‬والحق انه مع تع دد نظري ات الترجمة‬
‫وتقنياتها وأنواعها وأغراض ها ب ات ض رورياً ج داً أن ينتظمها الق انون العلمي‪ ،‬والس يما أن‬
‫الترجمة اآللية ‪ Machine Translation‬ب اتت تطغى على الس وق العملي للترجمة وتنضج‬
‫طرقها وتأخذ مكانها في عجلة اإلنتاج الترجمي ذي الطاقة الهائلة والسرعة المذهلة والسيما في‬
‫المجاالت العلمية والتوثيقية والتجارية‪....‬‬

‫وإ ذا تركنا الناحية النظرية وتعقيداتها وأتينا إلى الناحية العملية‪ ،‬نجد أنه أصبح من فضول القول‬
‫الح ديث عن أهمية الترجمة في التفاعل والتالقح بين الثقاف ات‪ ،‬وفي تق ريب أفك ار البشر بعض ها‬
‫من بعض‪ ،‬وفي إحالل التف اهم محل س وء الفهم والم رددات المتحزبة والتعميم ات الرائجة‬
‫‪ ، stereotypes‬وكذلك في إيقاظ كل ثقافة‪ ،‬بل كل لغة‪ ،‬من أوهام الكهف أي من المبالغة في‬
‫الرفع من شأن إرثها الثقافي واإلزراء بقيمة الثقافات األخرى‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ .‬للتوسع تمكن مراجعة ‪:‬‬
‫‪Suzan Bassnett-Mc. Quire:‬‬
‫‪Translation Studies. Methued : London and New York, 1980.‬‬

‫‪6‬‬
‫السيئات‪ ،‬من مثل إدخال األفكار الهجين ة‪،‬‬
‫وبالمقابل يستطيع المرء أن يحصي للترجمة كثيراً من ّ‬
‫وانتق اء ما هو ب ّراق ومخ ادع من الثقاف ات األخ رى مقابل االنص راف عن الرص ين والعميق‬
‫والمفيد‪ ،‬وكذلك سوء الترجمات وضعفها وخيانتها لألصل لدرجة أنها قد تزيف المضامين وتقدم‬
‫للمتلقي ض روباً من األوه ام واألباطيل من ش أنها أن تش كل ص ورة مش ّوهة تُب نى عليها فيما بعد‬
‫قناعات ومواقف ليس لها أساس‪ ،‬وقد تتطور المسألة إلى درجة أن تصبح آف ةً تاريخية يتوارثها‬
‫اآلباء عن األجداد واألبناء عن اآلباء‪.‬‬

‫والحق أن اإلجم اع منعقد بين الع ارفين على أنه مع اتس اع حرك ات الترجمة في الع الم‪ ،‬وازدي اد‬
‫ع دد اللغ ات الداخلة في الس باق ال ترجمي‪ ،‬ومع ع دم ت وافر آلي ات (ميك انزم) ذات كفاية للض بط‬
‫واإلش راف‪ ،‬تس ود يومي اً الترجم ات التجارية الرخيصة الس ريعة وتتس ابق على أب واب األس واق‬
‫ونوافذ الع رض‪ ،‬بينما تقبع الترجم ات الرص ينة والدقيقة والمس ؤولة خلف كش افات األض واء‪ ،‬أو‬
‫في عتمة الرفوف واألروقة‪ ،‬ال يعبأ بها جمهور المتلقين‪ ،‬هذا إذا علم بها أصالً‪.‬‬

‫زين للم ترجم وتس هل له‬


‫والمش كلة انه في ص ميم تك وين عملية الترجمة توجد أرض ية قوية ت ّ‬
‫فرصة االنح راف إلى َع َرض االس تهواء وبه رج الزيف والطالء‪ .‬وإ ذا ك ان اإليط اليون يقول ون‬
‫إن الترجمة تع ني الخيانة ‪( traduttore traditore‬حرفي اً الم ترجم خ ائن)‪ ،‬فالفرنس يون –‬
‫على طريقتهم – أعطوا صورة أخرى طريفة إذ وصفوا الترجمات الزاهية بأنها الترجمات غير‬
‫المخلصة ‪( les belles infidèlles‬الجميالت الخائنات)‪ ،‬أي أن الترجمة إما أن تكون جميلة‬
‫ولكن خائنة وإ ما أن تكون أمينة فهي بالضرورة قبيحة‪ .‬وإ نه اختيار صعب أمام الم ترجم بل إن‬
‫ه ذا االختي ار أش به به اجس ي ؤرق الع املين في مج ال الترجمة في كل لحظة من عملهم ويس بب‬
‫له ذا العمل ك دراً كث يراً ناتج اً عن ال تردد والح يرة‪ ،‬على حين ينبغي أن يك ون عمل الترجمة‬
‫انس يابياً ومتماس كاً ليس تطيع أن يفي ب رواء الينب وع األص لي وأن يحمل مس حة من بكارته‬
‫وإ غوائه‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫رابعا ً ‪ :‬كلمة حول الترجمة العربية‬

‫لوحظ في الس نوات األخ يرة من الق رن العش رين وفي الس نوات القليلة األولى من الق رن الح الي‬
‫التفات قوي في الوطن العربي باتجاه الترجمة‪ .‬وبعد أن كانت الترجمة مهملة نسبياً في مجال‬
‫النش اط الثق افي الع ربي‪ ،‬كما ت دل على ذلك المتابع ات المس حية لليونس كو‪ ،‬والس يما اإلص دار‬
‫ال دوري ‪ :‬فه رس الترجمة ‪ Index Translationum‬ال ذي يت ابع تط ورات نشر الكتب‬
‫المترجمة في جميع أنحاء العالم‪.‬‬

‫وتش ير الق وائم المنش ورة ح تى أواخر الق رن العش رين في ه ذا ال دليل ح ول النش اط ال ترجمي في‬
‫البالد العربي ة‪ ،‬تش ير إلى فقر ش ديد في ه ذا المج ال بالمقارنة مع بل دان الع الم األخ رى من‬
‫الن احيتين الكمية والكيفي ة‪ ،‬وال يك اد يوجد أثر لخطط مس تقبلية أو تخصص ية‪ ،‬اللهم إال ما تفعله‬
‫وزارات الثقافة والهيئ ات الرس مية أو ش به الرس مية من ناحية تخص يص سالسل معينة حسب‬
‫موض وعات مخت ارة مع تف اوت كب ير به ذا الش أن بين كل قطر ع ربي وآخ ر‪ .‬وي أتي في مقدمة‬
‫هذه الخطط المشروع المتميز الذي سبق إليه المجلس الوطني للثقافة في دولة الكويت تحت اسم‬
‫"عالم المعرفة" وهي سلسلة متميزة في اختيار الموضوعات وكذلك في دقة الترجمة‪ .‬وتاله بعد‬
‫ذلك ب زمن مش روع الش امل للمجلس األعلى للثقافة في مصر العربية ال ذي س بقته في مصر‬
‫ٍ‬
‫روعات أض يق‬ ‫موج ات ج ادة من االهتم ام بالترجم ة‪ .‬إال أن مثل ه ذا المش روع وس واه من مش‬
‫نطاق اً مثل الجه ود الترجمية ل وزارات الثقافة في كل من س وريا والع راق وأقط ار عربية أخ رى‬
‫قد مضت دون أي تق ييم منهجي س وى التق ييم الكمي والمع رفي أي ع دد المنش ورات المترجمة‬
‫وأحيان اً تنوعات تخصصها‪ ،‬مع تفاوت بين كل مشروع وآخ ر‪ .‬وهذه كلها جهود رسمية غير‬
‫خاضعة لقانون العرض والطلب‪ .‬والى ذلك كانت هناك دائماً إصدارات سباقة لدور النشر غير‬
‫الرس مية والس يما في لبن ان ومصر وك ان تركيزها بطبيعة الح ال على اإلنت اج الع المي ال رائج‪،‬‬
‫بق في إص دار المع اجم أيض اً‪.‬‬
‫والس يما في المج االت األدبية والسياس ية والترفيهي ة‪ ،‬ولبعض ها س ُ‬

‫‪8‬‬
‫كما ظه رت في اآلونة األخ يرة مش روعات ترجمة ش املة وجريئة في دول الخليج الع ربي‪.‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وهناك مشروعات أخرى تمولها وتديرها دول أجنبية‪.‬‬

‫وهن اك إجم اع واضح على أن الترجمة العربية ك انت (وربما ما زالت) ش به س ائبة‪ ،‬أي يختلط‬
‫فيها الحابل والناب ل‪ ،‬وتفتقر إلى مع ايير للتق ييم‪ ،‬س واء من ناحية األمانة العلمية أو من ناحية‬
‫الس المة اللغوية للّغة المس تهدفة ‪ ، Target Language‬وهي غالب اً اللغة العربي ة‪ ،‬وه ذا هو‬
‫العجب العجاب‪.‬‬

‫وهن اك اس تثناء وحيد هو ما تنش ره المجالت األدبية بين حين وآخر من مس اجالت ومش احنات‬
‫بشأن بعض الترجمات – والسيما األدبية والفكرية – التي ينشرها أساتذة ومترجمون لهم مكانة‬
‫رفيع ة‪ .‬وبوجه ع ام ظلت النظ رة إلى الترجمة مشوبة بشيء من التصنيفية الس لبية‪ ،‬أي اعتب ار‬
‫الترجمة عمالً مكمالً وبعيداً عن اإلبداع وال يستحق التدقيق‪.‬‬

‫وحتى يوم الناس هذا يصعب أن يطمئن المرء إلى وجود ُّ‬
‫تغير في الموقف العام من الترجمة‪،‬‬
‫اللهم إال من الناحية الكمية التي تتمثل في الجوانب التالية‪:‬‬

‫‪ -‬زيادة ملحوظة في عدد المؤهلين المقبلين على مهنة الترجمة بينما كانت ُّ‬
‫تعد مهنة إضافية‪،‬‬
‫أي عمالً مكمالً ألنواع أخرى من المهن والسيما تدريس اللغات األجنبية‪.‬‬

‫‪ -‬زيادة في كمية اإلنتاج الترجمي‪ ،‬أي في عدد الترجمات المنشورة‪ ،‬إال أن هذه الزيادة يجب‬
‫أن تقاس من خالل منظور نسبي أي ليس بالمقارنة مع الوضع السابق في الوطن العربي‪،‬‬
‫ولكنها إذا ق ورنت بالزي ادة ش به الخيالية في النش اط ال ترجمي على المس توى الع المي تب دو‬
‫باهتة شأنها شأن أنواع النشاط المعرفي األخرى في الوطن العربي‪.‬‬

‫‪ -‬قفزة في مجال مؤتمرات الترجمة على المستوى العربي الشامل في بضع السنوات األولى‬
‫من الق رن الجدي د‪ ،‬على حين ك انت هن اك ملتقي ات مح دودة في بعض األقط ار العربي ة‪ ،‬أو‬

‫‪5‬‬
‫‪ .‬انظر مثالً مشروع " فرنسا والعروبة" الذي يتميز بترجمات مختارة من الثقافة العربية القديمة والحديثة إلى جانب الترجمات من الفرنسية إلى‬
‫العربية‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ك انت هن اك بن ود مح ددة ح ول الترجمة كما ح دث أحيان اً في ‪ :‬م ؤتمرات االتح اد الع ام‬
‫لألدب اء والكت اب الع رب‪ .‬وذلك كله إلى ج انب نش اطات مح دودة في بعض الجامع ات‬
‫العربية‪ .‬ويالحظ أنه خالل السنوات القليلة الماضية عقدت مؤتمرات مهمة جداً في مجال‬
‫الترجمة على المس توى الع ربي الش امل‪ .‬وذلك إلى ج انب نش وء مؤسس ات متخصصة‬
‫بالترجم ة‪ ،‬غالب اً بفضل أف راد أثري اء مح بين للمعرف ة‪ ،‬وأحيان اً أخ رى بمب ادرة من هيئ ات‬
‫المجتمع الم دني وب دعم من الع املين في مج االت الترجم ة‪ ،‬وأحيان اً أخ رى من خالل‬
‫مؤسس ات عربية جامعة مثل "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعل وم"‪( .‬أنش أت للمركز‬
‫العربي للتع ريب والترجمة والنشر والت أليف وخصصت له ميزانية سنوية ال تكفي ألي بند‬
‫من ه ذه البن ود العريض ة)‪ .‬ثم ك انت النقلة الرس مية باتج اه الترجمة من خالل إنش اء‬
‫"المنظمة العربية للترجمة"‪.‬‬

‫وهك ذا ج اءت القف زة المذهلة من خالل تع دد مراكز الترجمة ومؤسس اتها في ال وطن الع ربي‪،‬‬
‫والس يما في اإلم ارات العربية المتح دة والمملكة العربية الس عودية ومن اطق أخ رى من الخليج‬
‫الع ربي‪ ،‬وقد ج رت اإلش ارة س ابقاً إلى س بق المجلس الوط ني للثقافة في دولة الك ويت باإلنج از‬
‫المبكر لمش روع "ع الم المعرف ة" ‪ ،‬كأنما الع رب أف اقوا فج أة على أهمية الترجم ة‪ ،‬وب دأوا كالع ادة‬
‫يتنافس ون في افتت اح المراك ز‪ ،‬وإ نش اء دبلوم ات الترجمة في الجامع ات ولكن دون أي اهتم ام‬
‫بالتنسيق أو التكامل أو تجنب تكرار الجهود والتمويل للهدف الواحد‪.‬‬

‫هذا من الناحية الكمية‪ ،‬وكله خير وبركة‪ .‬ولكن يالحظ أن قانون التحوالت الكمية باتجاه تبلور‬
‫كيفي يص عب أن ينطبق على اإلنت اج المع رفي الح الي في البالد العربي ة‪ ،‬ح تى في مج ال‬
‫الترجم ات األدبية والفكرية ذات الموض وع ال راقي‪ ،‬وذلك بس بب فق دان المع ايير واض طراب‬
‫ترجمة المص طلح وغي اب أي منظومة للتق ييم والنقد متفق ٍ عليها اتفاق اً ملفوظ اً أو ملحوظ اً‪.‬‬
‫ونادراً ما نقرأ في الدراسات األدبية أية بحوث معمقة حول المستوى الفني واللغوي للترجمات‪،‬‬
‫بل مستوى األداء واألمانة‪ ،‬باستثناء المشاحنات التي تثار في الجرائد والدوريات العامة‪ .‬ومن‬

‫‪10‬‬
‫الم أمول أن يق ود التق دم الملح وظ في الدراس ات النظرية ح ول الترجمة إلى التوصل لما يش به‬
‫المعايير العامة‪.‬‬

‫أخيراً‪:‬‬

‫ت ذكرنا ه ذه المنافسة وه ذه التعددية بمقالة ميخائيل نعيمة المش هورة في أوائل الق رن الماضي‬
‫بعن وان "فلن ترجم"‪ .‬إذ ت أخرت قراءتها ح والي ق رن من الزم ان‪ .‬والشك أن جميع الع املين في‬
‫المج االت العامة يعرف ون جي داً أن ه ذه الظ اهرة التنافس ية التكرارية واردة ج داً في مختلف‬
‫مس تويات العمل السياسي واالجتم اعي والثق افي الع ربي‪ .‬وقد أس ميتها في بعض دراس اتي‬
‫بظاهرة التفكير الموجي عند العرب‪ ،‬إذ إن قانون التفكير الجماعي عند عرب هذا العصر يأتي‬
‫على ش كل موج ات‪ ،‬فيوم اً فلس طين وبع دها الوح دة العربي ة‪ ،‬وبع دها الس الم الع ادل‪ ،‬وبع دها‬
‫الديمقراطي ة‪ ،‬وهي انتق االت ال تع ني أن كل موجة اس تنفدت أغراض ها‪ ،‬وإ نما ت أتي تهرب اً من‬
‫االلتزامات (غير اللفظية) المترتبة على كل موجة من الموجات العارمة‪.‬‬

‫خامسا ً ‪ :‬معضلة اللغة العربية في الترجمة‬

‫منطقياً يجب على المترجم أن يكون مؤهالً وضليعاً باللغات التي تدخل في مجال عمله‪ ...‬فهل‬
‫تحتاج هذه الحقيقة إلى تأكيد أو برهان؟‬

‫نعم ‪ ..‬إنها تحتاج إلى التأكيد في مجال الترجمة العربية الراهنة‪ .‬ذلك أنه حتى ٍ‬
‫أمد قريب كانت‬
‫تتم غالب اً دون تأهي ل‪ .‬وفي معظم الح االت ك انت المش كلة أش َّد وض وحاً حين‬
‫الترجمة العربية ّ‬
‫تك ون اللغة العربية لغة اله دف‪ ،‬وذلك خالف اً لما يح دث في الح االت الطبيعية حيث يس هل على‬
‫الم ترجم أن ي ترجم من اللغة األجنبية إلى اللغة الوطنية ألن إتقانه اللغة األم مس ألة بديهي ة‪.‬‬
‫وباستثناء الترجمات التي يتوالها أدباء من ذوي الكفاءة باللغتين المرسلة والمستقبلة ظلت معظم‬
‫الترجم ات العربية الش ائعة تع اني من ض ٍ‬
‫عف ش ديد في مختلف المج االت المعرفي ة‪ ،‬وك ان ق راء‬
‫الترجمات إلى العربية يشتكون بوجه خاص من ضعف لغة المترجمين واستهانتهم بقواعد اللغة‬

‫‪11‬‬
‫العربية وجمالي ات أس اليبها‪ ،‬وأحيان اً ينف رون من أية اس تعماالت لغوية مس تعارة ح تى لو ك انت‬
‫ش ائعة على المس توى الع المي من مثل ‪ :‬يلعب دوراً ‪ play a role‬والالعب ون الكب ار ‪Grand‬‬

‫‪ ، players‬وعب ارات أخ رى كث يرة كث يرة ك ان يش مئز منها أس اتذة اللغة العربي ة‪ ،‬ثم أص بحت‬
‫مألوفة في هذه األيام بعد أن أخذت اللغات بمبدأ االستعارة اللغوية والسيما حين يبلغ المصطلح‬
‫درجة االنتشار العالمي‪.‬‬

‫ب دأت به ذه المقدمة لكي أوضح أن ني لست من المتش ددين في مس ألة االس تعارات اللغوية على‬
‫المس توى الع المي‪ ،‬ومن الواضح أن جميع لغ ات الع الم الي وم تتفاعل وتتكامل من خالل ه ذا‬
‫التفاعل‪ .‬ولكن مشكلة المترجمين في المجال الع ربي لها وجه آخر يتمثل في الض عف اللغ وي‬
‫المستشري في الترجم ات بس بب غي اب أي تأهيل لغ وي ع ربي ل دى الم ترجمين‪ .‬وأك ثرهم ال‬
‫يكلف ون أنفس هم مش قة تحس ين مع رفتهم باللغة األم‪ .‬وهنا نت ذكر مقولة ك ان يرددها الموس يقار‬
‫والم ترجم األم ريكي تيد روريم مفادها أن فن الترجمة يكمن في إتق ان اللغة األم بمس توى أعمق‬
‫من معرفة اللغة األجنبي ة‪ .‬وب الطبع ه ذا الحكم ينطبق على الترجمة من وإ لى األزواج اللغوية‬
‫المختلفة‪.‬‬

‫ومن المؤسف ج داً أن تعليم اللغ ات األجنبية في البالد العربية أخذ يوغل يومي اً في الترك يز على‬
‫تدرس اللغة‬
‫اللغة األجنبية قبل العربية‪ ،‬كما أن المدارس األجنبية التي يشتد اإلقبال عليها أخذت ّ‬
‫العربية لألجيال الناشئة بطريقة هجينة تكاد توحي للمتعلم أن اللغة األصلية هي األجنبية وليست‬
‫مكملة للغة األجنبي ة‪ ،‬ربما على س بيل رفع العتب والتحايل على الق وانين‬
‫اللغة العربية س وى ّ‬
‫والتعليم ات الرس مية المتعلقة بت دريس اللغة األم‪ .‬ولكن ح تى ه ذه الق وانين‪ ،‬أخ ذت تس ترخي في‬
‫بالد عربية كثيرة والسيما في معظم منطقة الخليج العربي‪ .‬وفي هذه الحالة ال نتوقع تحسناً في‬
‫مستوى الترجمة من العربية وإ ليها‪ ،‬بل قد ال نحتاج إلى الترجمة‪.‬‬

‫وهك ذا يتضح أن مس تقبل الترجمة العربية ق اتم ج داً ألن أقس ام اللغ ات األجنبية في الجامع ات‬
‫مدرس الترجمة في‬ ‫ٍ‬
‫مقرر لتدريس اللغة العربية‪ ،‬وال ندري هل ّ‬ ‫العربية ترفض أيضاً تخصيص‬

‫‪12‬‬
‫ه ذه األقس ام مؤهل إلعط اء لغته الوطنية االهتم ام الك افي‪ ،‬ومعظمهم طبع اً من متخ رجي‬
‫الجامع ات األجنبي ة‪ .‬وهن اك اس تثناءات عائ دة طبع اً إلى وعي األس رة بض رورة االهتم ام باللغة‬
‫العربية في مراحل التعليم المبكرة‪.‬‬

‫وقد يقول قائل إن معظم الناشرين العرب لديهم مصحح لغوي‪ .‬ولكن كما ذكرنا سابقاً ليس كل‬
‫من يحمل اإلج ازة في اللغة العربية يمكن أن يتص دى لمس ألة المراجع ة‪ .‬ول ذلك نجد كث يرين –‬
‫وكاتب هذه السطور منهم‪ -‬حين يبعث مخطوط اً ينبه إلى ضرورة عدم عرضها على المصحح‬
‫اللغ وي ألن تجاربنا ت دل على أن المص حح اللغ وي يك ون في الع ادة مدرس اً للغة العربية (ويا‬
‫ليتهم يتقنونها بعد أن ت دنى مس توى التعليم)‪ ،‬ومعظمهم ال يط العون س وى الكتب المق ررة ال تي‬
‫تك ون ع ادة متخلفة عن المص طلحات واالس تعماالت اللغوية المس تجدة ألن اللغ ات المص احبة‬
‫لالكتشافات العلمية والعالقات الدولية متجددة باستمرار‪ ،‬وفي كثير من األحيان يكون موضوع‬
‫المعد‬
‫ّ‬ ‫المخطوط المطروح للطباعة غريب اً عن ثقافة المصحح فتؤدي تدخالته إلى تشويه الكتاب‬
‫للطباع ة‪ .‬وبالمناس بة نش ير إلى أن دور النشر المحترمة في الع الم ال تس مح بنشر أي كت اب إال‬
‫بعد مراجعته على يد متخصص ق دير ليس في اللغة فقط بل في المج ال المع رفي المقص ود في‬
‫المشروع المترجم‪.‬‬

‫يض اف إلى كل ما تق دم أن لغ ات الع الم المعاصر تحت اج دائم اً إلى تغذية تناسب التط ورات‬
‫العلمية والتجارية والعالقات الدولية ذات المفردات المتغيرة باستمرار‪ .‬وال يجوز للمترجم وال‬
‫للمص حح اللغ وي اإلغض اء عن ه ذه التغ يرات ال تي تطالعنا يومي اً‪ .‬ثم إن ال دالالت اللغوية‬
‫وإ يحاءاتها تخضع للتط ورات الناجمة عن حركة العولمة إلى ج انب التط ورات الطبيعية ال تي‬
‫تحكم لغة المجتمع ال ذي تتط ور احتياجاته ومفاهيمه تحت وط أة التط ورات الطبيعية للعالق ات‬
‫االجتماعية‪ .‬وهنا يحسن أن نتذكر الحكاية الطريفة التي حدثت للرئيس األمريكي جيمي ك ارتر‪.‬‬
‫إذ حين أتيحت له زي ارة بولونيا في أواخر واليته اص طحب معه الم ترجم البول وني العامل في‬
‫ال بيت األبيض‪ ،‬وك ان الم ترجم المس ّن من البولون يين ال ذين هرب وا مبك راً من الحقبة الش يوعية‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وفي خط اب لل رئيس ك ارتر على جمع حاشد في العاص مة البولونية الحظ ال رئيس ومرافق وه أن‬
‫الجمه ور ك ان يص فق ويض حك مع أن ال رئيس ك ارتر هو من أك ثر الن اس جدية ووق اراً‪ .‬وبعد‬
‫وتبين لهم أن الم ترجم البولوني الذي غاب‬
‫االنتهاء من الخطبة حقق المس ؤولون في الموضوع ّ‬
‫عن بولونيا أربعين س نة لم يكن على اتص ال بتط ورات لغة وطن ه‪ ،‬فك انت عباراته مض حكة‪.‬‬
‫وعند عودة الرئيس أنهى عمل المترجم فوراً وعزله‪ ،‬ولكن الصحافة األمريكية ألسباب سياسية‬
‫وربما إنس انية‪ ،‬احتجت على عملية ط رده إلى درجة أن ال رئيس اض طر إلى إعادته إلى وظيفته‬
‫(ربما ليدرس البولونية من جديد!!)‪.‬‬

‫وتقودنا حكاية ك ارتر إلى مس ألة أخ رى ش ديدة األهمية وهي الحساس ية اللغوية ال تي بغيرها ال‬
‫تنجح الترجم ات ذات المس توى الف ني الرفي ع‪ .‬ويظهر ذلك جلي اً في ترجمة الش عر وهن اك‬
‫مناقش ات عويصة وطريفة ح ول ه ذا الموض وع ت برهن على الص حة النس بية للمقولة اإليطالية‬
‫الدارجة ‪ :‬المترجم خائن‪.‬‬

‫ثم إن الدراسات األنثوية ‪ Feminine Studies‬فتحت النار مجدداً بقيادة سوزان باسنت التي‬
‫رفعت من شأن الترجمة ودعت إلى اعتبارها مساقاً علمياً بديالً لألدب المقارن‪ .‬ومهما يكن من‬
‫أمر ننادي مع ميخائيل نعيمة ‪":‬فلنترجم"؛ ولكن نضيف إليها الدعاء ‪ :‬ارحموا الترجمة وارحموا‬
‫اللغة العربية وامنحوها من االهتم ام بعض ما تمنحونه لإلنكليزية والفرنس ية وإ ال ِفل َم الترجمة‬
‫إلى العربي ة؟ ذلك الش اب الع ربي ال ذي يتقن االنكليزية أو غيرها من اللغ ات األجنبية ال يحت اج‬
‫إلى اللغة العربية لقراءة الترجمات من اللغات األخرى‪.‬‬

‫‪14‬‬

You might also like