Professional Documents
Culture Documents
الانثربولوجيا الطبيعية
الانثربولوجيا الطبيعية
Physical anthropology
المرحلة الثانية
1
مقدمة:
وبعد إكمال تلك المحاضرات أصبح لزاما علي أن أضع نصب عيني فائدة الطالب
ومصلحة القارئ المثقف معا وتحقيق الغرض األول يقتضي إعطاء الطالب مادة
موجزة وواضحة تأخذ بيده في طريق ممهدة ،وال تدفع به إلى متاهات الفروع والنقاط
التفصيلية.
أما تحقيق الغرض الثاني فيقتضي أن تهيأ للمثقف كل فرصة متيسرة لالستزادة
واإلطالع الواسع.
والحقيقة أن علم االنثروبولوجيا الطبيعية هو علم حديث لم تتحدد فيه بعد مقابالت
عربية لكثير من مصطلحاته العلمية لقلة ما ألف وترجم من كتب في اللغة العربية.
وأن المصادر العربية في االنثروبولوجيا الطبيعية سواء ما كان مؤلفا منها أو مترجما
محدود للغاية.
وفي هذا السياق كتبت الباحثة االنثروبولوجية الشهيرة ماركريت ميد ( Margaret
)Meadقائلة أن موضوع االنثروبولوجيا الطبيعية هو دراسة الخصائص والسمات
اإلنسانية الطبيعية والبيولوجية للجنس البشري عبر الزمان والمكان وبيان أوجه الشبه
واالختالف فيما بينها كأنساق مترابطة ومتغيرة في آن واحد.
2
وتتناول االنثروبولوجيا الطبيعية ظهور اإلنسان على األرض كساللة متميزة،
واكتسابه صفات خاصة كالسير منتصبا ،والقدرة على استعمال اليدين ،والقدرة على
الكالم ،وكبر الدماغ ،ثم تدرس تطوره حياتيا ،وانتشاره على األرض .وتدرس
السالالت البشرية القديمة وصفاتها ،والعناصر البشرية المعاصرة وصفاتها وأوصافها
الجسمية المختلفة ،وتوزيع العناصر على قارات األرض ،وتضع مقاييس وضوابط
لتلك العناصر ،كطول القامة ،وشكل الجمجمة ،ولون الشعر وكثافته ،ولون العين
وأشكالها ،ولون البشرة ،وأشكال األنوف .وتدرس الوراثة ،وانتقال ميزات الجنس
البشري من جيل آلخر .واألنثروبولوجا الفيزيقية (الطبيعية) احد فروع االنثروبولوجيا
تهتم بدراسة تطور اإلنسان وسلوكه ،والخصائص البيولوجية العديدة العامة ،
التي يتباين فيها البشر القدماء عن البشر المحدثين .وينظر هذا الفرع إلى اإلنسان
على أنه عضو في المملكة الحيوانية ،إذ يهتم بهذا الجانب فقط دون االهتمام
بالجوانب االجتماعية والثقافية األخرى .وعلى هذا األساس تعتبر االنثروبولوجيا
الطبيعية أقرب إلى العلوم الطبيعية منها إلى العلوم االجتماعية .وبالتالي نجدها أكثر
ارتباطا بعلم التشريح ) )Anatomyوعلم وظائف األعضاء ( ) physiologyوعلم
الحياة (. ) Biology
وعلى الرغم من االعتقاد بأن األجناس البشرية قد انحدرت عن أصل واحد هو
اإلنسان العاقل ( ، )Homo- Sapiensإال أن توزيعها على األرض ،وتفاعلها مع
البيئات المختلفة قد أدى إلى اختالف خصائصها .وقد أدى اهتمام االنثروبولوجيا
الطبيعية بجسم اإلنسان إلى تسميتها أحيانا بعلم دراسة الجسم ( ، )Somatolotyمن
حيث صفاته ومقاييسه ،أو من حيث أصوله وأجداده ،وأهم تخصصات هذا العلم
هي :علم العظام ) )Astrologyوعلم البنية البشرية (، )Human Morphology
ومقاييس جسم اإلنسان ( )Anthropomeltyودراسة مقاييس األجسام الحية
( ) Biometricوعلم األمصال اإلنساني( .)Human Serologyولعله يتضح لنا
أن هذه العلوم والتخصصات تدخل في صميم دراسات كليات الطب والعلوم
3
والتمريض .ولذلك نجد أن معظم المتخصصين فيها من األطباء وعلماء الحياة .وان
كانت هذه الدراسات تدخل في دائرة اهتمام أقسام االنثروبولوجيا بكليات العلوم
االجتماعية واآلداب.
ومن الواضح أن تاريخ االنثروبولوجيا الطبيعية يرجع أساسا إلى كتابات تشارلز
دارون ) )C. Darwinعن أصل األنواع ( )origin of speciesوالى بحوث بول
بروكا ( )Paul Brocaوفرانسيس جالتون ( .)Francis Call tonويرجع الفضل
إلى بروكا في تصميم أدوات الدراسة في االنثروبولوجيا الطبيعية حتى أصبحت
مرادفة لعلم قياس جسم اإلنسان (االنثروبومترى) ،أضف إلى هذا أن اعتماد
االنثروبولوجيا الطبيعية على علم التشريح أدى إلى تصنيف السالالت البشرية بناء
على توزيع السمات التشريحية ،وقد شهدت سنة 0381م بداية تقدم هذا العلم ،حينما
اتجه العلماء نحو دراسة التطور الجسمي لإلنسان ،ودراسة الحفريات األثرية للتعرف
على الهياكل البشرية والبقايا العظمية لإلنسان ،وهنا انقسمت هذه البحوث إلى
ميدانين رئيسيين وهما دراسة اإلنسان كنتاج لعملية التطور ،ودراسة وتحليل
الجماعات البشرية .ورغم أن المناهج المستخدمة في هذين الميدانين مختلفة ،إال إنها
ترتبط ببعضها وتسهم بإلقاء الضوء على المشكالت القائمة في الفرع اآلخر.
وباإلضافة الى ذلك ،فإن االنثروبولوجيا الطبيعية تسعى للتعرف على السمات
الفيزيقية لإلنسان القديم ،ولذلك يفتش الباحثون عن آثاره ومخلفاته ،ويقارنون بينها
وبين بعضها من ناحية ،وبينها وبين اإلنسان من ناحية أخرى .ومن خالل المقارنة
يتمكن الباحث من تعقب سمة بنائية معينة أو مجموعة كاملة من السمات منذ أقدم
الجماعات البشرية حتى أحدثها .وبالتالي نستطيع اكتشاف متى ظهرت سمة معينة
ألول مرة ،وكيف انتشرت بين الناس ،ونالحظ اختفاءها التدريجي في بعض
األحيان .وهنا يستطيع عالم االنثروبولوجيا الطبيعية اإلجابة على التساؤالت التالية:
4
متى وأين ظهرت أقدم الكائنات البشرية ألول مرة؟ وكيف كانت هيئة هذه الكائنات
البشرية؟ وكيف تتشابه أو تختلف بعضها عن بعض .وكيف تغيرت السمات الفيزيقية
لإلنسان خالل الفترة التي عاشها على األرض؟
5
المحاضرة األولى :مفاهيم انثروبولوجيه
أن اصطالح االنثروبولوجيا العامة هو اصطالح شامل وواسع ،اذ يشمل دراسة
المواضيع التالية:
وهو علم دراسة السجل البيولوجي لإلنسان إذ يبدأ بدراسة المنزلة الحيوانية
لإلنسان ويحاول توضيح أصل وتطور اإلنسان من خالل الدراسات المقارنة
للمتحجرات والحيوانات الليونة الحية ،ويقوم بفحص طبيعة االختالفات العنصرية بين
الشعوب واألقوام ويدرس نتائج العوامل االيكولوجية المختلفة على تشابه أو اختالف
أعضاء الجنس البشري وعلى نمو أو اضمحالل السكان.
6
ويعتمد الباحث االنثروبولوجي الطبيعي في بحوثه ودراساته هذه على عدة علوم
منها:
وهو علم دراسة الشعوب ،أي دراسة خصائص الشعوب اللغوية والثقافية
والساللية ،وتعرف أيضا بأنها علم تاريخ الحضارات والعالقات الحضارية بين
الشعوب وتصنيف الحضارات وتوزيعها وانتشارها في العالم.
هو العلم الذي يصف ويسجل معطيات الثقافات البدائية والحالية دون الرجوع الى
ماضي المجتمعات وتاريخها وحضاراتها.
وهو أحد المنابع التي اعتمدت عليها الدراسات األنثروبولوجيه في بداية نشأتها
وخاصة عندما كانت تعني بدراسة الحضارات وتهتم بالتاريخ التطوري ،وتعرف
االركيولوجيا أيضا بأنها الدراسة االنثولوجية واالثنوجرافية لحضارات شعوب بائدة من
اآلثار التي يجدها العلماء في الحفريات.
االنثروبومتريAnthropometry :
وهو أحد العلوم العضوية والتشريحية التي تسجل وتحلل مختلف المقاييس الجسمية
للكائن البشري ،ويعرف أيضا بأنه ذلك العلم الخاص بدراسة مقاييس الجسم البشري
الحاصل على كل الخصائص اإلنسانية.
7
السوموتولوجيا :Somatology :
وهو العلم الذي يهتم بدراسة األجسام العضوية ،مرك از على أبنية وتشريح ووظائف
األجسام البشرية ،أما المعنى اللغوي لمصطلح االنثروبولوجيا فيعني :أن كلمة
انثروبولوجي ( )Anthropologyلفظة إنكليزية مشتقة من أصل إغريقي (يوناني)
وتتكون من كلمتين األولى أنثروبوس ( )Anthroposومعناها اإلنسان
ولوجوس( ) Logosوتعني العلم ،وبهذا تعني هذه الكلمة األجنبية في اللغة
العربية(علم اإلنسان).
إال إننا حينما نستخدم الكلمة العربية المقابلة(علم اإلنسان) للمصطلح االنكليزي فأننا
نحدث نوعا من الخلل بين ماتعنية االنثروبولوجيا وتهتم به،وبين ما تدرسه العلوم
األخرى التي تدرس اإلنسان كالطب والبيولوجي وعلم النفس واالجتماع
والسياسة...وعلى هذا األساس ساد استخدام المصطلح األجنبي كما
هو( )Anthropologyفي اللغة االنكليزية ،كما ساد استخدام كلمة االنثروبولوجيا
وهو كما هي في اللغة العربية درءا لهذا االلتباس باعتبارها علم دراسة اإلنسان،
العلم الذي يدرس اإلنسان طبيعيا واجتماعيا كما هو الحال في الدول األوربية ومنها
بريطانيا وألمانيا ...وكذلك طبيعيا وثقافيا أو حضاريا كما هو الحال في الواليات
المتحدة األمريكية ألن العلماء األمريكان يرون أن الحضارة وليس المجتمع هي التي
تعطي لإلنسان الطابع المميز له.أما بالنسبة لعلم االنثروبولوجيا الطبيعية
( )physical Anthropologyفيعني العلم الذي يبحث عن طبائع األشياء وما
اختصت به من القوة والطبيعي نسبة إلى الطبيعة وعليه فالطبيعة هي السجية ومزاج
اإلنسان المركب من األخالط والقوة السارية في األجسام التي بها يصل الجسم إلى
كماله الطبيعي.
8
المحاضرة الثانية :اهتمامات علم االنثروبولوجيا الطبيعية:
وهنا يتردد إلى األذهان السؤال اآلتي :لماذا تدرس االنثروبولوجيا الطبيعية األجناس
البشرية؟
9
اليدوية وثنائية األبصار والقدرة على الكالم أو النطق ،باإلضافة إلى تركيب المخ
وحجمه وتعقد وظائفه بما يمتاز به من خصائص شوكيه وعصبية إذ إن مخ اإلنسان
أكبر حجما وتعقيدا وهو يعادل ثالثة أضعاف حجم مخ الغوريال ،وهذا التركيب
المعقد يتيح الفرصة لإلنسان العاقل لظهور قدرات يتميز بها عن سائر الرئيسيات
كالقدرة على الكالم والقدرة على التخيل والتذكر والتصور.
فقد أكدت التجارب التي أجريت على القردة العليا أن الشمبانزي يمتاز بقدرة ذكائية
ملحوظة .وقد أوضحت التجارب أن أذكى القردة العليا ال تستطيع الكالم أو ابتكار
أدوات جديدة تستخدمها لتعديل حياتها أو تطورها.
وخالصة القول أن دماغ اإلنسان يعتبر خاصية فيزيقية وتشريحية تميزه عن أشباهه،
على الرغم من كونه عضوا في عائلة رئيسية هائلة تجمعه الشمبانزي والغوريال
واألورانج أوتان في رتبة واحدة.
دراسة التأثير المتبادل بين اإلنسان والبيئة الطبيعية ومكونات وعناصر البيئة -2
سواء األرض والماء والهواء والكائنات الحية.
الكشف عن التنوع (ألساللي) واإلنساني حتى يمكن فهم مشكلة التكيف -8
البشري.
ويعتمد منهج الدراسة في االنثروبولوجيا الفيزيقية على المنهج التاريخي الذي يبحث
في أصل الجنس البشري قبل التاريخ ،وعما إذا كان ينحدر من أصل شبيهة
باإلنسان ،ويستعين في ذلك بالبقايا والحفريات واآلثار التي تخلفت ومازالت باقية
عبر الطبقات الجيولوجية مثل الهياكل العظمية وعظام األسنان .والثاني هو المنهج
المقارن :حيث تتم المقارنة اإلحصائية بين عدد كبير من العينات من مختلف
11
السالالت للتأكد من صحة افتراض ما أو نفيه إلثبات وجود عالقة بيولوجية بين
ساللة وأخرى.
وعموما تتنوع المناهج تبعا لتنوع الموضوعات واالهتمامات التي يهتم بها الباحث،
فهناك دراسات تجري بالمعامل يقوم بها علماء الوراثة واإليكولوجيين ،أما علماء
الحفريات والتشريح المقارن فهم يستندون إلى التحليل المقارن لألحداث المتوالية في
الماضي حتى يتمكنوا من استنتاج السمات والخصائص العامة لعملية التطور.
11
األقرب شبها باإلنسان ،عن طريق الشظايا وبقايا الجماجم ( Fragmentary
،)Skullsوالفكوك ) )jawsوعظام الحوضين( .)limb bones
إن كلتا الطريقتين تهتمان بالتنوع البشري ،وان كانت مناهج كل منهما تختلف كلية
عن األخرى ،ومع ذلك فنتائج كل فرع تساهم في إلقاء الضوء على موضوعات الفرع
اآلخر .وقد اتجهت اآلن نحو دراسة وسائل التفاعل بين اإلنسان والبيئة وأثر ذلك في
تنوع السالالت البشرية من حيث طبيعتها البيولوجية ثم صارت تتناول موضوع
الوراثة البشرية والميكانيزمات الوراثية والتكيف البيولوجي الذي يؤدي لتغيير
الخصائص الوراثية.
ابتكرت االنثروبولوجيا الطبيعية إذن أساليب أكثر حداثة مثل دراسة الهيموجلوبين
وعلم الوراثة والدراسات اإليكولوجية ،وأثر العوامل االنتخابية والوراثية وعالقتها
بالعوامل الثقافية واالجتماعية ،واهتمت بأنماط النمو لدى األطفال والتغذية بأنواعها
وعالقتها بالصحة والمرض والعالقة بين شكل الجسم والمهنة.
12
المحاضرة الثالثة :المجاالت التي تدرسها االنثروبولوجيا الطبيعية:
يتفق الجميع على أن العظام واالسنان من األجزاء الرئيسية التي يستدل منها على
التطور البشري ،فهي األجزاء الوحيدة التي ال تفنى بمرور الزمن ولذلك تزود الباحث
بالمعلومات الخاصة بتاريخ اإلنسان الطبيعي وتطوره باستخدام أشعة .X- Ray
فعن طريق األسنان يتحدد نوع الحيوان والغذاء الذي يعيش به فهناك حيوانات آكلة
لألعشاب وأخرى آكلة اللحوم يمكن التوصل إليها من خالل بقايا األسنان ،ومن
طولها وعرضها وارتفاعها تكشف عن السمات والخصائص التي تميز أسالف
األسنان ومدى البعد والقرب بين تلك األجناس.
ثالثا :علم األجنة والنمو :Embryology & Growth :يركز على الجنين داخل
الرحم ،ويهتم به منذ الحمل حتى الموت ،أي يتابع عمليات النمو بعد الوالدة خالل
المراحل العمرية المتوالية ،والتغيرات والتطورات في مالمحه الفيزيقية كالحجم والطول
والوزن ،وكذلك دراسة التشوهات التي يتبعها خلل وظيفي بالجسم ،والفروق في أجزاء
الجسم الواحد ،والتي لم تعد تقتصر على قياس مالمح الجسم فقط.
13
رابعا :تركيب الجسم وبناؤه :Body Composition & Build :تستخدم مناهج
جديدة لدراسة تكوين بنية الجسم البشري من حيث القوة والضعف مثل أشعة إكس
والموجات الصوتية.
ثامنا :الرئيسيات :Primatology :وهي دراسة الحيوانات الثديية التي تشبه اإلنسان
سواء كانت بشرية أو غير بشرية ومقارنتها باإلنسان لتحديد أوجه التباين والتنوع في
المالمح التشريحية أو تشابهها مثل السير على قدمين أو على أربع ،وأيضا أنماط
السلوك كالتعاون والعنف والعدوان.
14
تاسعا :االنثروبولوجيا التطبيقية :تحاول أن تقدم حلوال لمشكالت اإلنسان بناء على
النتائج التي توصلت إليها دراساتها كتصميم وسائل الراحة التي تتعلق بأساليب الحياة
أو األمراض التي تصيب اإلنسان.
عاش ار :الوراثة السكانية :Population Genetics :هذا المجال يبحث في
الديناميات الوراثية لدى الكائنات الحية ويهتم بالمواليد والوفيات والزواج والغذاء
والصحة وأثرها على العمليات الوراثية التي تؤدي الى تباين وتنوع السمات البيولوجية
لألفراد والجماعات.
15
األخرى ،والكشف عن المالمح الفريدة أو االستثنائية ( ) uniqueللمتوفى من خالل
فحص هيكله العظمى.
لم تبدأ االنثروبولوجيا الطبيعية االهتمام بدراسة عملية االنتخاب الطبيعي إال بعد نشر
كتاب داروين عن أصل األنواع بنصف قرن ،وقد اختلفت اآلراء حول دور االنتخاب
الطبيعي ومدى استم ارره في اإلنسان المعاصر :فهنالك فريق يرى أن االنتخاب
الطبيعي مازال يعمل في اإلنسان المعاصر ويدلل على ذلك بأن الحفريات دلت على
تكيف بعض السمات لدى بعض الجماعات السكانية .ويقرر الفريق الثاني أن
اإلجابة غير معروفة .بينما نجد أن الفريق الثالث يرى أن االنتخاب الطبيعي ال
يعمل في اإلنسان المعاصر ألن لديه ثقافة يتكيف بوسائلها مع البيئة .أما علماء
البيولوجيا البشرية فيرون أن االنتخاب الطبيعي له بصماته الواضحة في اإلنسان
المعاصر.
وهناك من يعارض وينكر إنكا ار تاما تأثير االختيار الطبيعي في تطور اإلنسان منذ
ظهور (اإلنسان القرد وانسان الصين) ويحلون محلها فكرة اإلختيار االجتماعي،
ويرى م .نستو رخ أن هذه النظرية خاطئة ،فاالختيار الطبيعي أثر في اإلنسان
البدائي وان كان بدرجات متفاوتة ،كما أن العمل والحياة في المجتمع لم تسيطر على
الطبيعة ،فالجنس البشري القديم كان يخضع للتأثير التكويني لالختيار الطبيعي،
ولكن بمرور الزمن وعملية االمتزاج تحطمت المالمح الوراثية وظهرت أجناس ذات
16
مالمح جديدة في بقاع مختلفة من العالم ،وتكونت أنماط ساللية مغايرة لضعف تأثير
البيئة.
لون البشرة :أن لون البشرة يرجع إلى وجود حبيبات ملونة تسمى أ-
) )Granulesتوجد في طبقات الجلد العميقة ،وأيضا إلى الظروف الفيزيقية
كالضوء والح اررة والرطوبة .وهناك اختالف بين البشر في تركيز الحبيبات الملونة
مثل مادة الميالنين ( ) Melaninالتي يفرزها الجلد .وهي تتواجد في الجسم على
هيئة بلورات أو محلول( ) .كما أن هناك عالقة بين األشعة فوق البنفسجية وبين
كمية المادة الملونة في الجسم .فاللون الداكن يمتص األشعة بمقدار( ) %31بينما
الفاتح ال يمتص أكثر من ( ) .%61وتؤثر تلك األشعة في البشرة البيضاء وتزودها
بفيتامين د ،أما السوداء فتمتص القليل منها ،لذلك فاألطفال الزنوج أكثر عرضة
للمرض من أطفال البيض ،وهناك اعتقاد بأنه كلما اتجهنا صوب خط االستواء ،كلما
مال لون البشرة إلى الداكن ،وتتدرج الى اللون الفاتح حتى تصل لألشقر في المناطق
الباردة شماال.
شكل الشعر ولونه :ينقسم نسيج الشعر إلى ثالثة أنواع رئيسية: ب-
17
الشعر المموج أو المجعد ( ) Smatrichyيسود في الجنس القوقازي في أوربا -2
وغرب آسيا وشمال أفريقيا والهند وأستراليا وهو ناعم ومستقيم.
والشعر الصوفي على نوعين هما الشعر المجعد ( )Spiralوينتشر في أفريقيا وجزر
ميالنيزيا لحماية الرأس من الشمس الحارقة والثاني الشعر المنسدل ( )Helicalينتشر
في الغابات المدارية المطيرة وقد يتسم بالنعومة أو الخشونة.
لون الشعر :يتدرج من األسود الداكن لألسود والبني والبني الفاتح واألصفر، ج-
ويسود الجنس القوقازي اللون األشقر بدرجاته واألصفر الذهبي والبني الفاتح ،أما
الجنس الزنجي والمغولي فيسود اللون األسود وينمو بغ ازرة في الجنس األبيض القديم
وقليال لدى الزنوج والمغول.
لون العين وشكلها :إن لون العيون يكون ما بين األزرق والعسلي واألسود د-
وفتحة العين واتساعها يتوقف على سمك الجفن وحجمه .كما أن العيون الفاتحة
صفة للسالالت الشمالية ،والعسلية تسود الجنس المغولي ،والسوداء الداكنة يتميز بها
الجنس الزنجي لحماية الطبقة الداخلية في تسرب األشعة البنفسجية إليها بعكس
العيون الفاتحة تجد صعوبة في رؤية األشياء في األضواء الباهرة .وتتسم عيون
الزنجي باألتساع وعدم اقتران بين الحواجب ،وفي الجنس المغولي توجد ثنية في
الجفن العلوي.
شكل األنف :توجد أنواع متعددة من شكل األنف ،فهناك األنف المفلطح، ه-
واألنف المدبب واألنف المعكوف أو المقوس ،وقد تكون الفتحة ضيقة أو واسعة.
مالمح الوجه :يمكن قياسها عن طريق بروز الفك أو البروز الرأسي وهو و-
قياس درجة بروز الفك العلوي إلى األمام ،أما بالنسبة للقوقازيين فيكون الوجه
والبروز فيها ضيقا ،أما المغول فالوجه أوسع والبروز فيها مسطح.
18
الشفاه :تنقسم إلى أربع مجموعات ،الرفيعة والمتوسطة والسميكة والغليظة، ز-
ويتميز األفارقة والميالنيزيون بالشفاه الغليظة ،أما الجنس القوقازي فيتسم بدقة الشفاه،
والمغول وسط بينهما.
وقد قام كلسو Kelsoبدراسة عن توزيع القامة جغرافيا للمناطق الرئيسية في العالم،
وحددها كما يلي:
أفريقيا 064،1
068،1 آسيا
أوربا 068،2
والقامة بصفة عامة ترتبط بالجينات الوراثية ،فالبعض يربط بين طول الجسم
والمناطق الحارة ،وفي المناطق الباردة تنعكس على األنف واألذنين وأصابع القدمين
19
واليدين ،فهي دقيقة وقصيرة .والقبائل الصحراوية يتسم أفردها بطول القامة والنحافة
ورقة العظام ،وفي القطب الشمالي تكون القامة قصيرة وأجسامهم تختزن الح اررة.
وبالتالي يتباين طول الجسم بين السالالت المختلفة ويتحدد المتوسط العام لطول
اإلنسان حوالي 065سم ،وتعتبر طول القامة من السمات الجنسية األساسية في
تصنيف البشر سواء األحياء أو األموات ،ويزيد الرجال عن النساء بمقدار 21سم
كل ساللة ،ويرجع الباحثون طول القامة إلى أشعة الشمس والهواء واالستقرار أي إلى
الظروف الفيزيقية ،وأيضا الوراثة.
21
المحاضرة الرابعة :الجوانب العلمية التي يدرسها علم االنثروبولوجيا الطبيعية:
أ.دراسة اإلنسان ككائن طبيعي ناتج عن سلسلة طويلة في الحلقات التطورية التي
تمتد لعشرات اآلالف من السنين.
ج.التأكيد على موضوع التنوع الحيوي للجماعات البشرية في العالم وهذا التنوع يعتبر
أساسا علميا ضروريا يساعد الباحثين على التعمق في مفهوم التكيف
البشري( ) Human Adaptationوفهم عالقاته المتشعبة والعمليات الطبيعية التي
تصاحبها.
د.يركز علماء االنثروبولوجيا الطبيعية على تاريخ الخصائص الطبيعية يبحث عن
بقايا اإلنسان البائد أي البقايا العظمية.
هـ.يركز علماء االنثروبولوجيا الطبيعية على مقارنة البقايا العظمية اإلنسانية التي
يعثرون عليها في طبقات األرض بعضها ببعض .كما يقارنوها بعظام اإلنسان
الحديث لتحديد اختالفاتها من جهة واالتجاهات التطورية التي تعبر عنها هذه
االختالفات من جهة ثانية.
و.تهدف هذه المقارنات إلى تتبع خصائص اإلنسان الحديث عبر الخطوط التطورية
الماضية وربطها بأصولها المتمثلة في الكائنات الحية البائدة.
ز.توضح انتشار بعض الخصائص البشرية الحديثة عبر األزمنة المختلفة وتحديد
أزمنة انتشارها.
21
ك.التعرف على الخصائص الطبيعية لإلنسان التي ظهرت خالل فترة من الزمن ثم
اختفت تدريجيا.
ل.معرفة آثار التفاعل البيولوجي (الزواج) الجاري بين المجموعات الرسية المختلفة
على هذه الخصائص خصوصا عندما يستمر هذا التفاعل لفترة طويلة من الزمن.
م .أ .يقدر الباحثون االنثروبولوجيون العمر العضوي التطوري لإلنسان بحوالي
005110111مليون ونصف عام.
22
اوال .دراسة اإلنسان ككائن طبيعي ناتج عن سلسلة طويلة في الحلقات التطورية
التي تمتد لعشرات اآلالف من السنين.
ثانيا .دراسة وتحليل الجماعات السكانية البشرية في العالم .ويبدو أن هذين الفرعين
مرتبطان ببعضهما وان تراكم المعلومات في أي منهما من شأنه أن يخدم الفرع
اآلخر ويوضح ويكشف عن مشاكله العلمية المشتركة.
أن هذين الفرعين يشددان كثي ار على موضوع التنوع الحيوي للجماعات البشرية في
العالم .أن هذا التنوع يعتبر أساسا علميا ضروريا يساعد الباحثين على التعمق في
مفهوم التكيف البشري Human Adaptationوفهم عالقاته المتشعبة والعمليات
الطبيعية التي تصاحبها .والحقيقة أن التكيف يسلط الضوء على بعض الجوانب
الحضارية للوجود البشري إضافة لكشفه الكثير من غوامض الوجود الطبيعي
لإلنسان.
ولكي نفهم اإلنسان كنتاج للتطور الطبيعي البد من اإلحاطة بتطور جميع أشكال
الحياة البيولوجية وطبيعتها .والمعروف عن المختصين في علم اإلنسان الطبيعي
وعلم اإلنسان الحضاري أنهم يركزون على تاريخ الخصائص الطبيعية والحضارية
كال في مجال اختصاصه .وينقبون عن بقايا اإلنسان البائد أي البقايا العظمية.
بالنسبة لعلماء اإلنسان الطبيعي واآلثار الحجرية والمعدنية التكنولوجية بالنسبة لعلماء
اإلنسان الحضاري واآلثاري.
ص..أن علماء اإلنسان الطبيعي بحكم تركيزهم على تطور اإلنسان الطبيعي
يقارنون البقايا العظمية اإلنسانية التي يعثرون عليها في طبقات األرض بعضها
ببعض .كما يقارنوها بعظام اإلنسان الحديث لتحديد اختالفاتها من جهة واالتجاهات
التطورية التي تعبر عنها هذه االختالفات من جهة ثانية .وهم من هذه المقارنات
يهدفون -فيما يهدفون -إلى تعقيب خصائص اإلنسان الحديث عبر خطوطها
التطورية السحيقة وربطها بأصولها المتمثلة في الكائنات الحية البائدة .كما تسهم هذه
23
المقارنات في توضيح انتشار بعض الخصائص البشرية الحديثة عبر األزمنة
المختلفة .وتحديد أزمنة انتشارها .يضاف الى كل ذلك التعرف على خصائص
طبيعية إنسانية أخرى ظهرت لفترة من الزمن ثم اختفت تدريجيا.
ع.أن االنثروبولوجيا الطبيعية قد عرفتنا بجوانب التماثل الموجود بين البشر في العالم
على الرغم من االختالفات الجسمية الظاهرية .ومعروف أن البشر حسب التصنيف
االنثروبولوجي الطبيعي ينتمون الى النوع البشري Homo sapiensالذي أصبح
تاريخه الطبيعي واضحا لذوي االختصاص .والمالحظ أن تاريخ الكائن اإلنساني
يكشف عن أنواع أخرى من الكائنات التي تمثل مستويات أدنى .كما توضح
الدراسات أن بعض الفتات الزمنية المتعاقبة في التاريخ القديم جدا قد خلت من
الكائنات البشرية أو شبه البشرية .فبعض الباحثين يقدرون العمر العضوي التطوري
لإلنسان بحوالي .005110111ويقدرون عمر الحضارة اإلنسانية بحوالي نصف
مليون عاما .بينما يمتد التاريخ العضوي للكائنات الحية بكل فصائلها عبر أكثر من
005110111ألف وخمسمائة مليون سنة .وهذا يشير بوضوح الى حقيقة أن الكرة
األرضية ظلت مشغولة بفصائل حية كثيرة ومتعددة عدى فصيلة اإلنسان لمئات
الماليين من السنين .وهذا يعني بالضرورة وكما يؤكد علم اإلنسان الطبيعي إن
اإلنسان الحديث هو نموذج قد تطور من نماذج عضوية غير إنسانية سبقته في
الظهور أزمنة طويلة.
ظ.يثير المختصون تساؤالت علمية مختلفة عن التزاوج الحاصل بين السالالت أو
العناصر البشرية المتباينة .وقد أدت هذه الدراسات الى تصحيح الكثير من
24
االنطباعات القديمة عن ذلك .هذا باإلضافة الى دراسة العالقات إن وجدت بين
المزاج Temperamentوالتركيب العنصري والذكاء والملكات والسلوك بصورة
عامة.
وقد نتج عن هذه الدراسات حقائق علمية جديدة أسهمت في الحد الفاعل للتفسيرات
العنصرية المتحيزة .ويالحظ أن أهم المنجزات التي حققها علم اإلنسان الطبيعي قد
حصلت في مجال علم الوراثة وفي ميدان التحليل السكاني .وال شك أن اإلنسان لم
يسبق له أن عاش حياة عزلة ألنه ينتمي عادة إلى أسرة أو قبيلة أو دولة أو أمة.
وحتى في أكثر المجتمعات عزلة يوجد احتكاك بدرجة أو أخرى بين القبائل المنفصلة
واألقطار واألمم .وال يخفى ما لهذا االحتكاك من آثار في تكوين اإلنسان والتبدالت
التي تط أر على هذا التكوين.
هذه بعض المجاالت التي يهتم بدراستها علم اإلنسان الطبيعي وأن ما ذكر عن هذا
االختصاص الدقيق ال يعرف به بصورة كافية بل يسلط ضوء قليال على ميادينه
الرئيسية التي تميزه عن بقية فروع علم اإلنسان العام.
25
المحاضرة الخامسة :المشكالت النظرية والواقعية التي تواجه علماء االنثروبولوجيا
الطبيعية:
من البديهي أن غاية أي علم هي الحصول على المعرفة وتوسيع رقعتها إلى أبعد
الحدود الممكنة .والشك أن كل علم يسعى إلى هذه الغاية بأساليبه الخاصة وبأطره
النظرية والفكرية التي يملكها وحسب ما تحتمه طبيعة الظواهر التي يريد بحثها.
ولو سأل سائل عن األسباب التي دفعت علماء االنثروبولوجيا على التركيز على هذا
النموذج من المجتمعات البشرية فإن ذلك قد يؤدي إلى ذكر عدد من األسباب
والمبررات .ومهما تعددت األسباب والتبريرات هذه فأنها تدور على األكثر حول
موقف عام يشترك فيه معظم المعنيين بهذا الموضوع .وهو طموح الباحثين في علم
االنثروبولوجيا إلى تجاوز الحدود التقليدية المتوارثة في العلوم االجتماعية والتي
انحصرت في دراسة المجتمعات األوربية والحضرية .االنثروبولوجيون أرادوا أن
يوسعوا من رقعة البحث ففعلوا ذلك بفتح أبواب علمهم للجماعات البسيطة والتقليدية
والقبلية غير األوربية باعتبار هذه الجماعات ظلت مهملة ومتروكة من قبل الباحثين
على الرغم من كونها تؤلف من الناحية السكانية والجغرافية والتاريخية واإلنسانية
26
جزءا كبي ار من العالم البشري ،على أن المعرفة والرغبة بتوسيع آفاقها لم تكن وحدها
العامل الرئيسي الذي دفع االنثربولوجيا إلى اختيار المجتمعات البدائية والبسيطة
والتركيز عليها في أوائل نشأتها وتطورها.فهناك عوامل عملية وواقعية أسهمت في
خلق هذا التركيز والتفضيل .ومن هذه العوامل:
أ .النشاط الملحوظ الذي قام به المبشرون المسيحيون في نشر الديانة المسيحية بين
كثير من الجماعات في العالم القديم ( أفريقيا وآسيا) والعالم الجديد (أمريكا الشمالية
والجنوبية) وفي جزر االوقيانوس ( )OCEANIAالتي تمتد على مساحات هائلة في
المحيط الهادي .أن الحمالت التبشيرية هذه أتاحت فرصا نادرة للكثيرين من القسس
باإلقامة مع العديد من الجماعات فترات طويلة من الزمن وكتابة الكتب والتقارير
االثنوغرافية التي تضمنت معلومات متفرقة عن أعرافها ونظمها وطقوسها وعقائدها
وغير ذلك مما تنطوي عليه حياة تلك الجماعات.
ج .المستكشفين والتجار :الذين جابوا البحار ونزلوا في مناطق مختلفة وكتبوا
عن سكانها المذكرات والقصص والتقارير وبذلك وفروا معلومات أولية لم تكن تخلوا
من تحيز ومبالغات .إال أنها مع ذلك خدمت علماء االنثروبولوجيا واالنثولوجيين
الذين راجعوها وأخذوا عنها بعض ما أمكن أخذه من تفصيالت.ومع تنوع مصادر
المعرفة فأن علم االنثروبولوجيا لم يغفل عن أهدافه الرئيسية التي تدور حول محورين
رئيسيين :فالمحور األول يتصل بالطموح إلى وضع المالحظات المختلفة عن
27
حضارات اإلنسان المتفرقة في صيغ وعموميات نظرية تتسم بالصدق والثبات
العاليين .ويتصل المحور الثاني بتطلعات المختصين في علم االنثربولوجيا لإلفادة
من المعلومات التي يتم الكشف عنها في مجاالت التطبيق والتنمية الهادفة إلشاعة
الرخاء بكل صورة في عالم البشر .أن االتجاهات الفكرية والنظرية والمنهجية لعلم
االنثروبولوجيا ودرجة االهتمام العالية بالجماعات البشرية البسيطة والتقليدية تدفع من
يالحظها إلى التساؤل عن جدوى الدراسات االنثربولوجية عن الحضارة والمجتمع.
ويالحظ عن مراجعة النقاش الجاري حول هذا االستفسار في الكتب االنثربولوجية أن
الباحثين ينقسمون إلى فئتين :أوالهما تركز على الطموح العلمي الصرف الذي يتطلع
إلى الكشف عن القوانين والنظريات التي تعبر عن كل عناصر الطبيعة الحضارية
واالجتماعية والنفسية لإلنسان .بينما تركز الفئة الثانية على غاية أخرى تتصل
بالرغبة في جمع المعلومات عن جميع نماذج التنظيم االجتماعي البشري لخدمة
اإلنسانية خدمة تطبيقية أو عملية.
ويجب أن نبادر إلى القول أن المعرفة التي يتم التوصل إليها في مجاالت العلم ال
يمكن أن تظل محصورة في الميادين النظرية الصرفة بل أنها في الواقع بحكم تأثيرها
في سلوك وفكر الناس تجد طريقها إلى مبادئ التطبيق والممارسة بدرجات تزداد أو
تنقص حسب درجة عالقتها بحياة الناس .ولهذا فإن الجدلية الدائرة بين أنصار العلم
النظري الخالص والعلم التطبيقية الصافي هي جدلية عقيمة تخلو من المعنى ألن
هذين الوجهين يترابطان يتحدان في واقع الفكر والبحث العلمي ،ولهذا فإن استمرار
االنثربولوجيين على توسيع حدود اختصاصهم بتنوع الظواهر التي يدرسوها ال
تتناقض بأية حال وتطلعاتهم الثابتة الهادفة إلى الصعود يعلمهم إلى أسمى المراتب
العلمية النظرية والتطبيقية،على أن ذلك ال يعني أن علماء االنثربولوجيا يتساوون أو
يتماثلون في مدى مساهمتهم في البحوث النظرية والبحوث التطبيقية بل هم يختلفون
كثي ار في هذا الصدد .فبعضهم يميل إلى البحوث النظرية أكثر من البحوث التطبيقية
بينما يميل بعضهم اآلخر إلى الميدان والتطبيق إلى مدى أبعد من اهتمامه بالبحوث
28
والدراسات النظرية .وهناك نوعان من المشكالت التطبيقية التي تثير اهتمام علماء
االنثروبولوجيا وهي:
النوع األول :يتصل بقضايا أو مسائل موجودة في الوقت الحاضر ذات آثار عملية
محسوسة تطالب بضرورة التصدي لها علميا للحد منها أو تغييرها لصالح المجتمع.
أما النوع الثاني ،فيتناول أمو ار أو ظواهر ال تظهر في الحاضر بل يتوقع ظهورها في
المستقبل وأن الباحثين بدراستهم لها يهيئون الخلفيات والخطط الضرورية لمواجهتها
وتدارك آثارها السلبية أو مضاعفة نتائجها اإليجابية.
وباإلضافة لما ذكر ينبغي اإلشارة إلى انطباع غير صحيح ظل قائما عن علم
االنثروبولوجيا ذلك هو أن هذا العلم ما زال يحصر الجانب األكبر من اهتمامه في
دراسة الجماعات البسيطة الرعوية والزراعية والقروية .والواقع أن علم االنثروبولوجيا
المعاصرة قد تعرض إلى تحوالت نظرية ومنهجية كبيرة خالل العقود األربعة الماضية
من القرن العشرين جعلته ينفتح انفتاحا نشيطا على دراسة المجتمعات الحضرية
والصناعية المتقدمة المعقدة ،ومع تزايد اتجاه الباحثين نحو المجتمعات األعقد فأن
علم االنثروبولوجيا لم يتخل عن اهتمامه بالجماعات التقليدية أو شبه التقليدية
البسيطة(النامية أو مبتدئة النمو من حيث التحضر والتصنيع) فالجماعات التقليدية
البسيطة قليلة التعلم تطرح أمام الباحثين مفاهيم وحاالت نسبية تسمح بمقارنة النظم
الحضارية في المجتمعات التي تمثل بداية التقدم وتلك التي حققت أعلى درجات
التقدم العلمي والتكنولوجي ،ومعروف عن علم االنثروبولوجي أنه يختلف عن علم
االجتماع من حيث أن األخير ركز على دراسة المجتمعات الغربية في أوربا وأمريكا
بعكس علم االنثروبولوجي الذي نقل التركيز العلمي من المجتمع الغربي إلى
المجتمعات التقليدية خارج حدود أوربا وأمريكا .ولكن هذين العلمين اقتربا من حيث
االهتمام في العقدين األخيرين بحكم اهتمامهما المتشابه في المجتمعات النامية
29
والمتقدمة وبمشكالت التنمية في العالم في الصنفين المذكورين من المجتمعات على
حد سواء.
والمشكالت النظرية والواقعية التي تواجه علماء االنثروبولوجيا بصورة عامة وعلماء
االنثروبولوجيا الطبيعية بصورة خاصة هي إضافة لما ذكر كثيرة ومعقدة .ومن أبرزها
ما يأتي:
ففي مجال البحث التاريخي الهادف إلى إعادة تركيب الحضارات البشرية -0
القديمة والبائدة توجد تحديات علمية هائلة ظلت تضايق المختصين ،أن هذه
التحديات تظهر بقوة أكبر في دراسة الحضارات القديمة للمجتمعات البدائية والبسيطة
أو غير المتعلمة حيث أن هذه الحضارات تفتقر للوثائق والنصوص المكتوبة مايجعل
المعلومات المطلوبة للكشف عن أوضاعها واألحداث التي وقعت وأثرت فيها نادرة
خصوصا بالنسبة للجوانب الروحية والسياسية والقرابية والتربوية لحياة سكان تلك
الحضارات .ولهذا فإن المعلومات التي تعتمد في هذا الصنف من الدراسات غالبا ما
تنحصر في المجاالت التكنولوجية بحكم ارتباطها باألدوات التي خلفها القدماء
وخاصة ما تركوه من آثار وبقايا مادية.
ومن المشكالت األخرى هي ما يتصل بدخول علم االنثروبولوجيا إلى دراسة -2
المجتمعات الحضارية المعقدة التي لم يألفها ولم تهيئ لها األساليب المنهجية
والميدانية لدراستها .فبينما اعتاد علم االجتماع والتاريخ على دراسة المجتمعات
المتحضرة فإن علم االنثروبولوجي شغل عن ذلك وقتا ليس قصي ار باهتمامه
بالمجتمعات غير الصناعية المتخلفة.
المشكلة الثالثة تتصل بالصعوبات الناتجة من البحوث الميدانية التي يجريها -8
الباحثون االنثروبولوجيون في المجتمعات القبلية والقروية التي يزورها علماء
االنثروبولوجيا (خصوصا تلك التي تفترق كثي ار عن نمط الحياة االجتماعية
والحضارية التي اعتادوا عليها) لما لها من التقاليد والممارسات الغريبة عما يألفه أو
31
يفهمه هؤالء الباحثون مما يعقد مهمتهم في البحث كما يتطلب ذلك منهم درجات
كبيرة من التكيف الذهني والنفسي لكي يستطيعوا من إنجاز المهام العلمية المطلوبة
منهم عن طريق اإلقامة مع سكان هذه الجماعات .على أن هذه المشكلة قد تضاءلت
نتيجة لتطور معرفة علماء االنثروبولوجيا ونموها عن المجتمعات التقليدية غير
األوربية ( ) non European Societiesبعد أن كانوا عموما يشعرون بغرابة
عاداتها ومعاييرها.
علم االنثروبولوجيا الطبيعية اليوم يواجه تحديا جديدا ينبع من سرعة تغير -4
المجتمعات النامية التي كانت تسمى تقليدية والتي كان ينظر إليها على أنها مستقرة
وربما ثابتة ،وهذا التحول في واقع هذه الجماعات يتطلب بديال أساسا ألدوات البحث
النظري والمنهجي في علم االنثروبولوجيا الطبيعية.
بالنظر لقلة السجالت والكتب والوثائق عن الجماعات القبلية والقروية البسيطة -5
غير المتعلمة التي اعتاد االنثربولوجيين على دراستها فأن هؤالء الباحثين يضطرون
إلى اإلقامة مع سكان هذه الجماعات وتقبل ما يجري في حياتها من ظروف قاسية
وصعبة من النواحي الصحية والغذائية والخدمية والترفيهية .وال شك أن إقامة الخبراء
مع هذه الجماعات تستدعي درجات كبرى من التكيف البدني والذهني والعاطفي
خصوصا عندما تتجاوز اإلقامة عاما أو عامين .علما بأن معظم الخبراء يأتون من
خلفيات أوربية حضرية تتسم بالنعومة والرفاه.
الصعوبة األخرى التي تواجه علماء االنثروبولوجيا الطبيعية تتصل باالتصال -6
والتفاهم ( )Communicationفبالنظر إلى أن الجماعات البدائية والبسيطة التي
يذهب إليها الباحثون االنثروبولوجيون ليست لها لغات مكتوبة تدرس في الجامعات
والمعاهد العليا فإن هؤالء الباحثين غالبا ما يصطدمون بعقبة جهلهم بالتخاطب مع
أهلها األمر الذي يضطرهم إلى قضاء وقت طويل قد يمتد عدة شهور لغرض تعلمهم
31
إياها .وكثي ار ما يعجزون عن تحقيق ذلك فيضطرون إلى االستعانة بالمترجمين إذا
وجدوا وقد ال يكون هؤالء في المستوى المطلوب من اللياقة اللغوية.
32
المحاضرة السادسة :المراحل التاريخية التي مر بها علم االنثروبولوجيا
العامة وعلم االنثروبولوجيا الطبيعية:
أن علم االنثروبولوجيا قد نما نموا تدريجيا عبر فترة تتجاوز مئة عاما بقليل .ويعزى
نموه المستمر إلى تراكم أفكار واجتهادات نماذج مختلفة من الباحثين الذين تباينت
اتجاهاتهم وتباعدت الموضوعات التي حظيت باهتمامهم ،كما اختلفت جنسياتهم
وقومياتهم اختالفا واسعا .وال نبالغ إذا أرجعنا جذور الفكر االنثروبولوجي الحديث إلى
بعض االتجاهات االنثولوجية االجتماعية والحضارية التي عبرت عنها كتابات قدامى
الكتاب والمؤرخين والفالسفة.
وتضمنت هذه المرحلة ( مرحلة الفالسفة والمفكرين القدماء) آراء وأفكار العلماء
والمفكرين القدماء ومنهم:
33
المؤرخ اإلغريقي القديم هيرودتس( Herodotus) (434- 424ق.م) :الذي أ-
عاش في القرن الخامس قبل ميالد السيد المسيح ....ويعتبر أول عالم أنثر
وبولوجي ترجع إليه بدايات الفكر االنثروبولوجي في مراحله التكوينية .فقد جمع
معلومات عن رحالت اثنولوجية وقعت في القرنين السابع والسادس قبل الميالد
إضافة إلى رحالته والبحوث التي أجراها جعلته على اطالع ووعي بعادات عدة
شعوب تختلف تماما عن سكان منطقته .ومن بين األسئلة الكثيرة التي كان يفكر
حولها هو تساؤله حول إمكانية تأثير المناخ في التركيب النفسي والجسمي
للجماعات؟ وهل أن هذا التركيب يتأثر بالتغذية .وهل أن الزوج هو الزعيم الطبيعي
لألسرة أم الزوجة؟ وهل باستطاعة البحث أن يحدد ما إذا كانت تقاليد الجماعات
اإلنسانية قد نشأت بصورة مستقلة عن بعضها أم أنها تعود إلى عملية االنتشار
واالقتباس التي أدت إلى انتقالها من موقع معين إلى مواقع أخرى .كما تساءل هذا
المؤرخ عن الزمن الذي يستدعيه ظهور التباين الحضاري الذي نتجت عنه نماذج
الحضارات المختلفة في العالم في وقته وال تتوفر أدلة توضح كم من أفكار هيرودتس
ترجع لفكرة األصيل. ترجع إلى اقتباسه عن غيره وكم منها
غير أن من الثابت أنه أقدم مؤلف قام بجمع وأوسع قدر من المعلومات االنثولوجية
عن اإلنسان في نماذجه الحضارية واالجتماعية والبيئية المختلفة .حسب درجاتها
المتفاوتة في سلم التقدم بدءا بالجماعات البدائية وصعودا إلى جماعات ذات
المدنيات العالية .واستطاع إلى جانب كل ذلك أن يوظف األسلوب العلمـي المقـارن (
)Comparative Methodsفي مقابلة أنظمة حضارية غير متماثلة ببعضها
وتحديده أوجه التشابه واالختالف بينها.
34
والنفسية لبعض الجماعات كاالسكيثيين ( ) Scythiansواستنتج من ذلك أن تلك
الخصائص تتسم بالمرونة حيث أنها تتبدل نتيجة آلثار البيئة الطبيعية .غير أنه
اعتقد بأن الوراثة الطبيعية تشمل الخصائص المكتسبة من المحيط إضافة إلى
السمات الطبيعية.
ألعالم أفالطون 847 -423( :ق.م) ( ) Flat tonفيلسوف إغريقي معروف ج-
أرسى نظريته عن الدولة على أساس فهمه لطبيعة الروح ،والمجتمع المثالي ،وهناك
ثالثة مبادئ أولية في نظره ينبغي أن يتركز عليها الفكر هي اإلله ( ،)Godوالمادة
،))Matterواألفكار ( .)Ideasفجميع األشياء حيوية أو غير حيوية تخضع إلى قوة
اإلله الذي يصنعها من المادة التي يعتبرها أم األشكال حيث أنها تتسم بالقدرة على
التحول إلى أي نموذج بناء على التأثير الذي تستقبله .ويعتقد أفالطون بوجود قوة
عاملة (اإلله) تنبثق عنها كل األشياء الموجودة في لكون .فالعقل اإللهي في نظره
يستوعب كل التصاميم األصلية لجميع األشكال الطبيعية وأن األفكار واألنماط
المتصلة بهذه التصاميم تمثل الحقيقة الوحيدة في الكون في اعتقاده.
كما يرى هذا الفيلسوف أن كال من المادة والعقل يوجدان جنبا إلى جنب وهما في
رأيه يسبقان في وجودهما األشكال .ومع ذلك يبقى العقل اإللهي المقدس مصدر لكل
ما يظهر من أشكال حيوية أو غير حيوية .ويعالج أفالطون مفهوم الحقائق الكونية
أو الشموليات () Universalsالتي تمثل النماذج األصلية للخليقة .فحيوانات
الفصيلة الواحدة قد تتنوع أشكالها بدرجة أو بأخرى ومع ذلك فهي تنتمي لنموذج
متشابه واحد.ويضيف أفالطون أن أفكارنا ال تأتي من الحواس بل هي حصيلة
ويقسم أفالطون مفهوم الدولة المثالية على أساس تقسيمه التأمل الفكري....
الثالثي للروح ،فالقادة الذين يمثلون الدور القانوني واإلداري يمثلون العقل .أما الطبقة
العسكرية في تصور أفالطون فتمثل الروح ( )Spiritبينما يمثل الشغيلة أو العمال
الشهوة أو الرغبة .ويصل أفالطون إلى نتيجة عامة من كل هذا وهي أن العدالة
35
يمكن أن تتحقق عن طريق تفاعل هذه األقسام الثالثة في صيغة متناسقة ومنسجمة
تخدم النفع العام للدولة بكل أجزائها .وليس األفراد في نظر أفالطون سوى عناصر
جزئية تدخل في تركيب الدولة المثالية .وهو يؤكد أنه كلما ارتفعت مكانة الفرد في
بناء الدولة كلما زادت ضغوط الواجب على نزعاته النفعية .واإلنسان خارج نطاق
الضبط االجتماعي في اعتقاد أفالطون ال يختلف عن الحيوان.
المفكر الفيلسوف أرسطو طاليس Aristotle ) (834- 822 ( :ق.م) وهو د-
الذي بني آراءه عن الدولة واإلنسان على أساس فلسفته العامة عن الحياة.وبينما
انطلق أفالطون من العموميات في نظريته عن اإلنسان يبدأ أرسطو بالحقائق الجزئية
ويمارس أسلوب االستقراء( ) inductionللوصول إلى العموميات.
فاختالف أرسطو عن أفالطون ليس قليال .ولو فحصنا مالحظاته عن اإلنسان نجد
توا شجا بينهما وبين بعض آراء علماء األحياء المحدثين .فاختالفه عن المختصين
في علم األحياء ليس كبي ار .أن أرسطو يعتقد أن سلسلة عالم الحياة ال تنفصم بل هي
متصلة بدء بأبسط عناصر الحياة ومرو ار بالنبات ثم الحيوان وأخي ار اإلنسان.
وان هذه الفئات المختلفة تتداخل مع بعضها البعض .وأن هذه المالحظات تدل على
فهم أرسطو للفروق وأوجه التماثل الشكلي والتركيبي بين الكائنات الحية .ومما
استطاع أن يحدد أوجه الشبه واالختالف بين الكائنات الحية..إذ أن هذا المفكر
أدخل فصيلة الخفاش في مرتبة الثدييات ( ) Mammalsوليس في فصيلة الطيور.
كما أدخل الحيتان في مرتبة الثدييات أيضا وليس في فصيلة السمك .وعلى ضوء
هذا الوعي العلمي فإن أرسطو طاليس جدير بأن يعتبر عالم الحيوان األول الذي
سبق في ظهوره العالم لينايوس( )Linnaeusالذي قام بتصنيف فصائل المملكة
الحيوانية وأكد على ضرورة إدخال اإلنسان في هذا التصنيف بحكم عالقاته الحيوية
بها.
36
ويختلف تفكير أرسطو طاليس عن فكر علماء األحياء المعاصرين والمحدثين ومنهم
العالم جارلس داروين( .).Charles .Dفقانون االنتخاب الطبيعي الذي طرحه
داروين كأحد مبادئ التطور الرئيسية لم يكن يتفق مع اإلطار الفكري الذي اعتمد
عليه أرسطو طاليس الذي اعتقد بثبوت خصائص الفصيلة الواحدة بدال من تبدل
سماتها وتطورها إلى أشكال مختلفة عنها مع مرور الزمن كما افترض داروين.
فالفيلسوف أرسطو طاليس يعتقد بالسبب النهائي ( )Final Causeوهو العامل
األساسي الذي يؤدي إلى حفظ النوع أو الفصيلة على حالتها .وهكذا فاإلنسان ينتج
إنسانا كما يقول أرسطو طاليس .أن منهج أرسطو طاليس في المالحظة يتسم بعملية
أكبر من النتائج الفكرية التي وصل إليها عن طبيعة الواقع البيولوجي للكائنات الحية
والتي تكشف بوضوح عن اعتقاده بثبوت أشكال الكائنات الحية بدال من تبدلها أو
تطورها.
ويتفق أرسطو طاليس مع أفالطون أيضا على أن الدولة تحدد سلوك األفراد فاإلنسان
بال قانون وقضاء قانوني حسب اعتقاده ال يعدو أن يكون كأي من الحيوانات
األخرى.
ويتفق هذان الفيلسوفان أيضا على نظرة عنصرية واحدة مؤداها أن البشر يختلفون
في استعداداتهم ومواهبهم بسبب تراكيبهم البيولوجية .ويالحظ أن أرسطو طاليس
بصفة خاصة يؤكد على اثر الوراثة البيولوجية ويظهر موقفه العنصري هذا في رأيه
القائل بأن اإلنسان يرث االستعداد الذي يجعله رئيسا أو تابعا.
أما رأي أرسطو طاليس عن اإلنسان كحيوان اجتماعي بالطبع فيعتمد على دراساته
البيولوجية وتشكل هذه الدراسات جزء من مالحظاته عن الفيزياء والميتافيزيقا .وهي
كلها تفترض اتحاد العناصر في كون واحد ومنطق واحد.
ومع كل ما ذكر فإن نظرة أرسطو إلى المشكالت الحيوية واالجتماعية تختلف عن
نظرة أستاذه أفالطون .فأفالطون هو مفكر تأملي بينما يميل أرسطو طاليس إلى
37
ممارسة األسلوب العلمي في فكره .فقد جمع أرسطو طاليس الكثير من الموجودات
الحيوية والحضارية كأساس الستقراء حقائق الوجود البيولوجي والحضاري
واالجتماعي لإلنسان .وهذا يدخله إلى أسرة علماء هذا العصر .ويمكن القول أن
أرسطو طاليس يمثل همزة الوصل بين الفلسفة والعلم في تاريخ الفكر األوربي
خصوصا والفكر اإلنساني عموما.
هـ -المفكر لوكريتس lacerates) (13- 55( :ق.م) :وهو من المفكرين القدامى
الذين كان لهم دور في وضع األسس التكوينية األولى للفكر االثنولوجي .فهو ينظر
إلى الكون نظرة يتبناها الكثير من العلماء .ويتركز تفكيره على مبدأ مؤداه أن العالم
وكل ما فيه كان قد تكون بفعل عوامل طبيعية خضعت للصدفة والتي ترتبط بمسلسل
ذرات ألالنهاية في مجال الوجود النهائي .ويستخلص هذا الفيلسوف وجود اإلله من
األحالم والتصورات التأملية .وهو يعتقد أن المجتمع المتمدن هو حصيلة سلسلة
طويلة من التطور .وهو يدلل على رأيه بمقارنة النماذج البشرية األقدم باألحداث
مشي ار إلى تخلف النموذج األقدم.
و -المفكر الديني سنت اوكستين : ) St. Augustine( :الذي ظهر خالل القرن
الخامس الميالدي وقد لعب دو ار ملحوظا في تثبيت الفكر الكنسي(فكر الكنيسة
الكاثوليكية) المتزمت لعدة قرون.
ز -المفكرون العرب خالل العصور الوسطى :لعب المفكرون العرب في هذه الفترة
دو ار مهما وكبي ار في تطور الفكر االنثروبولوجي .وهي فترة اتسمت بالضمور العلمي
في أوربا .فالمفكر والرحالة العربي الشهير ابن بطوطة قد نشط في رحالته إلى
مناطق حضارية متباعدة ومختلفة في آسيا وأفريقيا .كما نشط المفكر المعروف ابن
رشد والذي تأثر بأفكار الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس ،غير أن ابن رشد شدد
على ضرورة فصل الفكر الديني عن الفكر العلمي ،كما يجب ذكر العالم محمد بن
38
موسى الذي اخترع مفهوم الصفر واستحدث الكسور العشرية وأعطاها مراتب
رياضية .ويتألق أسم ابن سينا الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للطب الحديث.
ك -وفي القرن الخامس عشر الميالدي برزت ثالثة قوى أثرت في مجرى المدنية
الغربية .وكان أولها اكتشاف فن الطباعة وظهور صناعة الورق والتي يرجع الفضل
في إيصالها إلى أوربا إلى العرب وال يخفى ما لهذا الحدث من أثر كبير في مجال
الفكر .أما الحدث الثاني فكان سقوط القسطنطينية ونزوح الكثيرين من مفكريها إلى
الغرب حاملين معهم معارفهم والروح العلمية المتوثبة في مجاالت الفكر اعتمادا على
ما طرحه أرسطو طاليس من مناهج .وكان الحدث الثالث هو اكتشاف كريستوفر
كولومبس ( )Columbusللعالم الجديد (األمريكيتين) (عام 0418 -0412م) .هذه
األحداث الثالثة أثرت في حياة جميع الناس .فقد سادت روح المغامرة في أوربا
ودفعت الكثيرين إلى القيام برحالت استكشافية عبر المحيطات شرقا وغربا .وهكذا
فقد اتسعت خطوط المالحة التجارية وظهرت الدول البحرية القوية كأسبانيا والبرتغال
وبريطانيا ثم بعد وقت وجيز أضيفت فرنسا وهولندا كدولتين بحريتين كبيرتين،
وانتعاش الحركة التجارية ونشاط حركة العلم والمعرفة بفضل الرخاء االقتصادي
المتزايد وتصاعد روح حب االستطالع كلها أسهمت في تطوير المناخ الفكري .وقد
جاءت رحلة ماجالن( )Magellanحول العالم عامال ضخما في دعم النشاط
العلمي حيث إنها أثبتت كروية األرض بعد أن ساد االعتقاد بسطحيتها لعدة قرون.
وقد أثر اكتشاف األمريكيتين والسكان الذين يعيشون فيها من ناحية أخرى وذلك عن
طريق التعريف بعنصر بشري لم يتوقعه األوربيون والمتمثل بجماعات الهنود الحمر.
وكان األوربيون يجهلون وجود العناصر البشرية المتعددة متصورين أن جميع سكان
العالم من عنصر واحد كعنصرهم .وقد دفعت هذه المعرفة الجديدة األوربيين إلى
التساؤل عن أصل اإلنسان مع وجود العناصر المختلفة مما أثرى علم األحياء
واالثنولوجيا بفضل البحوث االستطالعية الكثيرة التي أجريت حول هذا الموضوع.
ومع تعرض الباحثين إلى ضغوط وتهديدات السلطات الكنسية التي منعت البحث في
39
أصل اإلنسان واعتبرته ضربا من اإللحاد إال أن المكتشفات العلمية الجديدة وسعت
من نظرة الناس وأضافت إلى معلوماتهم كما صححت بعض المفاهيم غير العلمية
التي سيطرت على تفكيرهم ردحا طويال من الزمن.
وأستنتج بعض المفكرين من السلوك غير الطبيعي الذي يطبع التعامل البشري في
حاالت الصراع والنزاع المشار إليها أعاله أن من الصعب لتسليم بأن المجتمع
اإلنساني كان موجودا دائما في القرون السحيقة وأن ظهور المجتمع قد حصل في
أزمنة متأخرة كوسيلة أراد منها اإلنسان تجنب الظروف الصعبة التي تواجهه عندما
يكون وحيدا.
فالبشر على ضوء هذا االفتراض قد تخلوا طواعية عن حالتهم الطبيعية التي منحتهم
الحرية واختاروا ان يخضعوا لنظام الدولة والمجتمع باعتباره أهون الشرور إذا ما
قورن بمشكالت الحياة الطبيعية الخالية من النظام والمليئة بالمخاطر.
وقد اجتذبت هذه الفرضية عددا من فالسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر وعلى
رأسهم توماس هوبز( ).Thomas .Hالذي اعتبر اإلنسان متوحشا بطبعه وأن
خضوعه للسلطة والنظام ال يأتي عفويا بل بصورة متكلفة .وقد سار على هذا المنوال
من التفكير المفكر جون لوك )).Gohon. Lالذي هو اآلخر اعتبر الهنود الحمر
األمريكيين نمطا يعكس الميول الطبيعية التي تفتقر التجاه الخضوع للقانون .ولم يشذ
جان جاك روسو عن هذا االتجاه ألنه اعتقد أن حياة اإلنسان البدائي كانت ضربا
41
من الحرية واالنطالق وان المدنية قد أفسدت حياة هذا اإلنسان وكبلته باألغالل .وهو
يعتقد أن البشر تنازلوا عن حريتهم وقبلوا بمنح السلطة للزعامة والخضوع لها ولكن
السلطة أخلت بالعقد االجتماعي وتنكرت لحقوقهم .وأطلق على نظرية جان جاك
روسو هذه بنظرية العقد االجتماعي التي كان لها دور كبير في تأجيج عواطف الثورة
لدى الفرنسيين الذين ثاروا في النهاية على نظامهم الملكي.
ن -البحوث العلمية االنثربولوجية :في القرن الثامن عشر ظهرت مجموعة من
البحوث العلمية المهمة التي طورت حركة الفكر االنثروبولوجي ومنها بحث العالم
السويدي الشهير لينايوس ( ) Linnaeusالذي نشر كتابه الموسوم النظام الطبيعي
) )System Natureعام 0787م .ويذكر في الكتاب تصنيفات حيوية عديدة منها
أن اإلنسان كائن حيوي يتواشج مع باقي الفصائل الحية األخرى ،كما كشف الكتاب
هذا عن أصناف متعددة للبشر.أما العالم يوهان بلومين باخ ( ) Blumenbachفقد
نجح بإرساء األسس األولية لقياس الجماجم البشرية .وقارن بين نماذج مختلفة من
الجماجم التي تنتمي إلى سالالت متباينة في العالم .وعلى ضوء هذه األطر القياسية
التي برزت تبين أن جماجم القوقازيين تتسم بالطول بينما تتسم جماجم العنصر
المغولي باالستدارة كما تكون جماجم الزنوج مستطيلة أيضا ومضغوطة من الجانبين.
ص -وفي نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر أصبح مفهوم التقدم
يحظى بعناية خاصة في كتابات المفكرين خصوصا العالم ألمارك .فقد رفض هذا
العالم الرأي الشائع في زمنه والقائل بثبوت خصائص اإلنسان وأكد الطبيعة المتبدلة
لهذا الكائن وبقية الفصائل الحيوانية .وقد دفعت أفكاره بعض الباحثين إلى استيعاب
41
صورة التطور التي كشف الكثير من جوانبها .واعتبر اإلنسان واحدا من الكائنات
الحية التي تعرضت لعمليات التحول التطوري عبر التاريخ العضوي الطويل.
42
ضوء الحقائق ليس فقط بالنسبة للبدو العرب بل والبدو من النوعيات األخرى كاألكراد
والتركمان وغيرهم ما دامت ظروف هؤالء البيئية تتماثل في حقائقها وبالتالي في
قوانينها االجتماعية.ويركز ابن خلدون بصفة خاصة على مفهوم التضامن
االجتماعي ) )Social Solidarityالذي أطلق عليه مصطلح العصبية باعتباره هذا
المفهوم يمثل سمة مميزة للجماعات من هذا الصنف .وعند استعراضه للمجتمع
البشري بصورة عامة يعتقد ابن خلدون أن البشر الذين يكونون جماعة واحدة شعروا
بضرورة االجتماع والتالحم .فالفرد الواحد يعجز عن االعتماد على نفسه بمفرده في
الطبيعة القاسية والصعبة وهو مضطر إلى االعتماد على اآلخرين والتعاون معهم
لضمان بقائه وللحصول على األدوات األساسية التي يحتاج إليها في إرضاء
احتياجاته المختلفة.فالتعاون بينه وبين اآلخرين يسهل له الحصول على القوت
واألدوات وهذا يضمن له ولبني جنسه البقاء.ولكن البشر بعد اتحادهم في تنظيم
اجتماعي هادف إلدامة بقائهم يواجهون مشكلة هامة وهي ضرورة االبتعاد عن
التناحر والصراع بعضهم مع بعض ،غير أن األسلحة التي تصبح في متناول يدهم
بفضل وجودهم في الجماعة ال تضمن أنهم يستعملونها ضد الحيوانات الوحشية فقط
بحكم قدرتهم على استعمالها بدون تفريق.وبالنظر إلى األخطار المحتلمة من
استعمال السالح ضد المجتمع نفسه فأن الحاجة تدعو إلى حصر استعماله وتنظيم
هذا االستعمال من قبل الزعامة أو القيادة التي تتزعم الجماعة لمنع األفراد من
مهاجمة بعضهم بعضا .وهكذا فالدولة هي سمة يتسم بها اإلنسان من دون الكائنات
الحية األخرى .وهو يعتقد أن العصبية والتضامن االجتماعي يكونان على أشدهما
في المجتمعات القبلية نتيجة لطبيعة الحياة البدوية.فسكان البادية يحتاجون للتعاون
المتبادل باستمرار ،ومن رأي ابن خلدون أن الدولة تستطيع أن تحقق تضامنا أكبر
في مجتمع حضري مما تحققه في مجتمع مكون من مجموعة قبائل وذلك بسبب كثرة
النزاعات في المجتمع األخير.
43
المحاضرة السابعة :مرحلة النهضة العلمية (فترة االلتقاء):
فقد سقطت في أوربا عهود ملكية مختلفة كانت تعارض التغير كما حدث في ثورة
0381التي أجبرت الملك شارل الخامس على التنحي عن عرشه في فرنسا لصالح
لويس فيليب ،كما حدثت ثورة في بلجيكيا ضد هولندا التي كانت تسيطر عليها ،
وتمرد الفالحون في بولندا ضد حكم النبالء عام 0380غير أن قوات الروس
المرتبطة بالحكم قد أخمدت تمردهم .وحدثت حركات تمرد في مواقع مختلفة من
إيطاليا ضد السلطة الدنيوية للبابوية مطالبة بأن تقتصر هذه السلطة على األمور
الدينية وكان ذلك عام . 0346ووقعت انتفاضات مماثلة في ألمانيا ضد حكم
مترنيخ الرجعي وكذلك في النمسا مطالبة باإلصالح .وحققت اليونان استقاللها عن
تركيا عام 0388وحصلت ثورات في إنجلت ار أدت إلى صدور الئحة اإلصالح عام
. 0388
كل هذه الحركات السياسية ترجع إلى انتشار األفكار االجتماعية والسياسية للكتاب
الموسوعيين والفالسفة الذين أشرنا إلى بعض أسمائهم خصوصا ما يتصل
بمالحظاتهم التي كتبوها عن اإلنسان الطبيعي والعقد االجتماعي وامكانية تنقيح
القوانين كضرورة اجتماعية أن هذه األفكار وأمثالها جاءت بوحي من المعلومات التي
44
توفرت عن الجماعات البدائية في القارات األخرى .وقد أصبحت عالقة الفرد بالدولة
مختلفة في القارة األوربية من جهة وفي إنجلت ار من جهة أخرى.
45
الدول على أساس تفاعل النقائض واألضداد وظهور نماذج جديدة من هذا التفاعل
بين القديم والجديد .أما ماركس فنظر إلى التطور من منظور سياسي واقتصادي
مختلف حيث أعتقد أن وسائل اإلنتاج هي التي تحدد نمط الفكر في المجتمع وأن
هناك نزاعا بين القوى المادية لإلنتاج من جهة وبين عالقات اإلنتاج وأن هذا النزاع
يلعب الدور األكبر في التطور االجتماعي .
وجاءت الثورة الصناعية في إنجلت ار وفي أوربا فخلقت ظروفا اجتماعية واقتصادية
تنطوي على كثير من الظواهر المعقدة والمشكالت الشائكة .ونتيجة لسيطرة اآللة
على الحياة وتعقد مجاالت العمل ظهرت حركة نشيطة تنادي بضرورة نشر التعليم
واعتباره المحك األهم لتقييم الحكومات .كما أدى وضع الشغيلة االقتصادي
واالجتماعي السيئ إلى ظهور نظريات ذات مضمون اشتراكي كما يالحظ في
كتابات األستاذ روبرت أون( ) Owenخصوصا سلسلة مقاالته الموسومة (نظرة
جديدة للمجتمع) ( )A New View of Societyوهو يرى ضرورة بناء المجتمع
على أساس رفع المستوى التعليمي باعتبار التعليم والبيئة يمارسان أعلى تأثير في
شخصية اإلنسان ،واقترح أن يتحقق ذلك عن طريق اإلصالح التدريجي .
وفي الوقت الذي تصاعدت فيه الروح الليبرالية ظهرت أحداث عديدة أثرت في الفكر
االنثروبولوجي وهي:
0ـ المكتشفات األثرية :في حدود الثالثينيات ـ في أوربا لم تكن المكتشفات األثرية عن
بقايا اإلنسان القديم تحظى بتأييد كبير بسبب اصطدامها بأفكار رئيس األساقفة
(أشر) ( ) Usherحيث أن تلك المكتشفات أرجعت أصل اإلنسان إلى أزمنة أبعد
بكثير مما قدره هذا القسيس ،فمثل هذه األفكار عن قدم أصل اإلنسان كانت تعتبر
من قبيل اإلشراك بأفكار الكنيسة ومؤيديها.
وتزايدت المكشفات التي نتجت عن التنقيبات األثرية والتي أيدت أن اإلنسان كان
موجودا من أزمنة ضاربة في العصور السحيقة المتزامنة مع كثير من الحيوانات التي
46
انقرضت ،ثم أعقب ذلك العثور على بقايا إنسان النيادرتال في عام . 0357والى
جانب هذه األنشطة التنقيبية فقد ضاعفت الحكومة الدانماركية تخصصاتها المالية
لدعم الحفريات في الدانمارك عن بقايا اإلنسان القديم .وقد أثمرت هذه الحفريات
عن نشوء نظرية المراحل الحضارية الثالث وهي المرحلة الحجرية .والبرونزية .
والمرحلة الحديدية .
2ـ رحلة العالم جارلس دارون :هناك حدث آخر هام له تأثيره في الفكر
االنثروبولوجي وهو رحلة دارون إلى أمريكا الجنوبية والجزر المقابلة لسواحلها
الجنوبية .فقد الحظ هذا العالم أن الحيوانات المتناظرة في فصائلها تختلف عن
بعضها في الجزر المتباعدة على الرغم من وحدة فصائلها .وقد أوحت له هذه
الرحلة باألفكار األساسية والتي نتج عنها كتابه (أصل األنواع) )Origin
)Speciesالذي نشر عام . 0351أي بعد () 20عام من رحلته التاريخية الهامة
إلى قارة أمريكا الجنوبية التي قضاها يق أر ويهيئ المعلومات واألطر النظرية التي
ذلك الكتاب . اعتمدها في تأليف
ويبرز بعد وقت قصير المفكر الفرنسي أوكست كونت الذي تأثر بأفكار سانت
سيمون أحد زعماء االشتراكية في فرنسا ،خصوصا بآراء هذا الزعيم حول اإلصالح
االجتماعي ،وأدرك كونت ضرورة استحداث علم جديد لدراسة الظواهر االجتماعية
واقترح له اسم (علم االجتماع) ( ) Sociologyووضعه من حيث المرتبة على قمة
هرم العلوم األخرى .ويعتقد كونت أن المجتمع اإلنساني مر بثالثة مراحل هي
المرحلة الالهوتية أو الخرافية .والمرحلة الميتافيزيقية أو مرحلة التجريد .والمرحلة
الوضعية أو العلمية .ويعترف كونت أن علم االجتماع هو أكثر العلوم تعقيدا ألن
الظواهر التي يبحثها تتسم بالتعقيد نتيجة تشعبها .ويفرق هذا المفكر بين الثبوت
االجتماعي( ( )Static Socialالستاتيكية االجتماعية) وبين الحركية
االجتماعية ()Dynamic Social (،الديناميكية االجتماعية) وهو يعتقد أن تقدم
47
العلوم يؤدي إلى وحدة النوع البشري أو اإلنسانية ألن هذه العلوم تطرح حقائق تنطبق
على البشر جميعا .
4ـالمفكر االنثروبولوجي ماينرز ( :)Mainersمن أعظم رواد هذا الفكر ،فقد بحث
هذا المفكر تباين الخصائص البيولوجية واالجتماعية ،واختار بعض جوانب العرف
االجتماعي للمجتمعات لغرض تبسيط البحث .وتضمنت الجوانب التي أهملها النظم
الروحية والجوانب العلمية ،مدعيا أن دراسة كل وجوه حياة المجتمعات تتطلب جهدا
ال يستطيع إنسان من تحقيقه.
وقد شعر هذا المفكر بضرورة إيجاد بديل لعلم (التاريخ السياسي) واقترح أن يسمى
هذا العلم بتاريخ اإلنسانية ومن الموضوعات التي اقترح التأكيد عليها للبحث هي
األغذية والمشروبات المخدرة ،والمساكن واأللبسة ،ومواد التجميل والزينة لدى
الشعوب .وآراء الجماعات المختلفة عن آثار الطبيعة ،وتاريخ بدايات أهم العلوم ،
كما ركز في بحوثه األخرى على تعليم الصغار ،معاملة النساء ،أشكال الحكومة
والقانون واألعراف ،ومفاهيم الثروة ومقاييس الحشمة واالتزان (الوقار) والشرف .
48
ومع التواضع الذي يعبر عنه هذا المفكر في كثير من بحوثه فإن هدفه النهائي كان
طموحا حيث أنه أراد اإلحاطة بمعرفة اإلنسان في كل األزمنة السابقة وفي جميع
المواقع ،وهذا بالتأكيد هو هدف علم اإلنسان الحديث .غير أن (ماينرز) لم يحدد
أي شكل هذه الجوانب المتباينة وكيف تتحد في الحياة اإلنسانية.
تشير الكتب إلى زعيم اثنولوجي آخر يشاد بآثاره 6ـ تيودور فيتز (:)waltz
العلمية ،ويالحظ أن معظم اهتماماته قد تمركزت حول النواحي النفسية في اإلنسان
،ومن بين الموضوعات التي درسها هي (العقلية البدائية) Primitive
49
))Mentalityومن آرائه الهامة رأيه القائل بعدم وجود تفاوت جوهري في القدرات
واالستعدادات الذهنية للشعوب والجماعات .أما الحضارة كما يراها فهي حصيلة
الظروف والعوامل التاريخية وهي ليست انعكاسا لقدرات أو مواهب موروثة لدى
الجماعات .
ويقسم فيتز الدراسات االنثروبولوجية إلى قسمين رئيسيين ،ويتألف القسم األول من
تشريح اإلنسان وفسلجته وسيكولوجيته .أما القسم الثاني فيتألف من تاريخ الحضارة
أو الحياة االجتماعية في بداياتها األولى .وهو يعتقد أن الفجوة كبيرة بين الفسلجة
وعلم النفس أما الفجوة الثانية فتبرز بين األجزاء الطبيعية واألجزاء التاريخية لهذا
العلم .وهو يشدد على ضرورة خلق ارتباط قوي بين الجانب الطبيعي والجانب
التاريخي لعلم اإلنسان باعتبار هذا االرتباط حسب رأيه يمثل أهم أهداف هذا
االختصاص .ويضيف إلى ذلك قناعته بأن دور علم اإلنسان الرئيسي هو الوساطة
والتنظيم العلمي بين العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية .
ومما يجعل هذا المفكر ذا منزلة كبيرة في هذا االختصاص عمقه في عرض
المشكالت وتحليل المعلومات االثنولوجية وتوثيقها ومقارنة اآلراء المختلفة بروح بالغة
الموضوعية .
أما (ريتر) فيعتبر علم الجغرافية نوعا من الفسلجة والتشريح المقارنين لألرض
واألنهار والجبال وغير ذلك من الظواهر الطبيعية ،باعتبارها حسب تعبيره ـ أعضاء
51
الجسد الذي يمثله القطر ولكل عضو منها وظائفه المتميزة عن وظائف األعضاء
األخرى ،أي الظواهر الطبيعية الباقية ،وكما أن اإلطار الجسدي يمثل أساس وجود
اإلنسان كذلك تركيب األرض أو القطر يكون العنصر الرئيسي في تقدم األمة .
ويعتبر( فون هامبولت ) أنشط المستكشفين وأغزر الباحثين الجغرافيين ،فقد استطاع
هذا العالم من توسيع اآلفاق الفكرية لألوربيين بشكل فاعل عن طريق بحوثه التي
اعتمدت على رحالته المتعددة إلى األمريكتين وسيبريا ،ويرجع إليه الفضل في
اختراع خطوط الح اررة المتساوية( )Isothermal Linesعلى سطح الكرة األرضية
التي مكنت الباحثين من مقارنة الظروف المناخية في األقطار المختلفة وقد أثرت
بحوثه المقارنة عن الحضارة اآلسيوية والبولينيزية واألمريكية في تفكير العالم
المعروف إدوارد تايلور فيما بعد .
يضاف إلى اآلثار العلمية السابقة التي رفدت حركة نمو علم االنثروبولوجي نشاطات
الرحالة الذين كتبوا عن مشاهداتهم للمناطق التي زاروها ،فباإلضافة إلى ابن بطوطة
الذي ذكرناه في الصفحات السابقة ،تبرز أسماء كل من أبي دوبوا الذي كتب عن
الهند ،و(وليم أليس) Ellisالذي كتب عن بولبنيزيا ،وجزيرة ماالغاسي (مدغشقر
سابقا) والمستكشف الكبير (سكولكرافت) ))Schoolcraftالذي أقام معظم حياته مع
قبائل الهنود الحمر وكتب العديد من البحوث والتقارير عنهم.
يضاف إلى هذه األنشطة نشطات البعثات التبشيرية التي انتشرت في قارات العالم.
فإلى جانب النشاط التبشيري قام أعضاء هذه البعثات بكتابة المذكرات والتقارير
والبحوث عما شاهدوه لدى الجماعات الوثنية في أصقاع العالم .وأتسع دور هؤالء
51
مع أتساع رقعة السيطرة االستعمارية الغربية في العالم القديم والجديد وجزر
المحيطات خصوصا األوقيانوس ،غير أن معظم كتابات هؤالء كانت غير علمية
وتعاني من التحيز وضيق النظر .
01ـ الهواة:
وال ننسى الخدمات التي قدمها الهواة الذين عكفوا على جمع القطع الفنية النادرة ذات
المغزى التاريخي واالجتماعي من مختلف الحضارات القديمة والحديثة في جميع
المواقع ،وقد نشط هؤالء في مجال المتاحف والمعارض الحضارية و االثنولوجية
والفنية وبهذا عرفوا الرأي العام األوربي بحضارات العديد من المجتمعات التي كانت
مجهولة بالنسبة لألوربيين .
52
المحاضرة الثامنة :المرحلة التطورية:
يتفق الباحثون على أن هذه الفترة تبدأ مع نشر كتاب (أصل األنواع Origin of
)Speciesعام ( )0351للعالم التطوري الكبير جارلس داروين ،وهي فترة صار
فيها علم اإلنسان متمي از على الرغم من تعد وجوهه وفروعه ،فإذا كان تفسير العالم
الحيوي قد تجسد في آراء العالم البيولوجي (ألمارك) ( ، )Lamarckفإن العالم
الصناعي قد وجد تفسير ظواهره في مالحظات ونظريات داروين .فبالنسبة لمشكالت
التخلي عن النظم العتيقة للمجتمع ولحركة المجتمع نحو مزيد من الحرية االجتماعية
تبرز أفكار ألمارك عن آثار استعمال أو عدم استعمال أعضاء الجسم حيث أن
االستعمال ينمي ويطور األعضاء المستعملة بينما عدم االستعمال يسبب ضمو ار
لألعضاء المهملة ،كما تبرز في كتابات هذا العالم ميول الكائن الحي نحو تطور
قدراته.
أما المجتمع على ضوء آراء داروين وفي وقت ظهور كتابه وبعد ظهوره بقليل
فتتجلى فيه مشكلتا البقاء والتطور وقد عرضها داروين بشكل يختلف عن أسلوب
ألمارك وأوحت آراء داروين للمفكرين أن الثورة اآللية والصناعية قد وضعت
المجتمعات أمام تحدي الصراع من أجل البقاء .فمع انتشار التعليم وتيسر وسائل
اإلعالم الجماهيري أصبح الناس يدركون بصورة متزايدة تركيب المجتمع وأهدافه .
ومع ذلك فإن ظروف المجتمعات تختلف درجة حفزها للناس فإذا كان الحفز كبي ار زاد
إدراك الناس ،وتفتقت عبقرياتهم عن األعمال المبدعة التي تدفع المجتمع إلى أمام
أما إذا اتسعت الظروف بالعراقيل ونقص الحوافز تضاءلت اإلمكانيات أمام الناس
وضعفت معها نشاطاتهم الخالقة .
هذه اإليحاءات التي خلقتها بحوث داروين أوعزت لبعض المفكرين أن يطبقوا
النظرية الدار ونية التي صممت أصال لوصف الحياة الطبيعية المتبدلة للكائنات
53
الحية .أن يطبقوها على المجتمع .ومن أبرز هؤالء العلماء االجتماعيين المتأثرين
بالداروينية هم العالم هكسلي( ، )Huxleyوهربرت سبنسر( .)Spencerفقد سعى
هذان العالمان إلى تشبيه المجتمع بالكائن العضوي .كما اعتب ار نجاح األفراد في
مجال األعمال والوظائف الميكانيكية والصناعية دليال على صواب رأي داروين حول
القدرات البيولوجية للفصائل الحيوانية األقدر في مجال الصراع من أجل البقاء
الطبيعي.
والمعروف عن داروين أنه لم يكن رجل اختصاص جامعي بل أن ذهنه كان متفتحا
ومستعدا لبحث كل شيء يعرض أمامه .وقاد ار على الغوص في تعقيدات واقع
العالم الكبير المحيط به .
وبحكم ترابط الموضوعات الكثيرة التي طرقها هذا العالم بما فيها من تعاقب العصور
الجيولوجية ،والتوزيع الجغرافي للفصائل الحيوانية ،والعالقات الجنينية والتكوينية ،
فإن الحقول العلمية التي فتحها أمام المفكرين كانت بالغة السعة والتشعب وكان البد
من دراستها تفصيليا من قبل هؤالء وكان البد من الكشف عن األسباب التي أدت
إلى كثرة إعداد الفصائل الحية على األرض وفي المحيطات والى اختالفها عن
بعضها هذا االختالف الهائل .
أما عرض داروين لالنتخاب الطبيعي كقوة مركزية في التطور كان من أهم األركان
النظرية التي أوجدها في مجال الفكر االنثروبولوجي ،وقد تأثر داروين ببحوث العالم
مالثوس( ) Malthusعن السكان فالزيادة في سكان المجتمعات هي زيادة تخضع
إلى مبدأ المتوالية الهندسية( )Geometrical Ratioبحيث أن اإلقليم الذي تسكنه
أعداد من فصيلة من الفصائل يزدحم شيئا فشيئا حتى يصل عدد قاطنيه درجة
اإلشباع ما لم يحدث شيء يوقف هذا التزايد ،ونتيجة لذلك يحصل نزاع بين األفراد
في هذا اإلقليم المزدحم من أجل ضمان الحصول على الغذاء أو بين فصيلة وأخرى
من أجل الغرض نفسه ،وكان آلراء داروين عن الصراع من أجل البقاء الذي يدفع
54
عجلة االنتخاب الطبيعي أكبر األثر في تفكير الفالسفة وعلماء الطبيعة
واالنثروبولوجيين وعلماء االجتماع لتلك الفترة .وقد رأى الكثيرون إن كتاب (أصل
األنواع) يعتبر عمال فكريا ضخما ربط الماضي بالحاضر بشكل لم يستطع عالم
آخر أن يحققه ومن خالل جميع أشكال الحياة.
وفي هذه الفترة تم العثور على قانون مندل الذي اكتشفت المقاالت المكتوبة عنه بعد
إهمالها زمنا طويال لعدم اهتمام القراء بها عند ظهورها ،ثم تأتي كتابات ومحاضرات
األستاذ هكسلي دعما إضافيا لنشر أفكار دارون.
وينشط الباحثون في مقارنة الجماعات البشرية على أساس مقاييس الجماجم ولون
البشرة وشكل الشعر متأثرين باآلراء التطورية التي أوحت بها الدار ونية عن البشر
.وبرز اتجاهان رئيسيان حول موضوع أصل البشر أولهما يؤكد على وحدة األصل
واآلخر يشدد على تعدد مصادره ،ومال العنصريون إلى تأييد الرأي األخير ليثبتوا
تباين القدرات الذهنية والذكائية بين مختلف العناصر وكان أبرز هؤالء العنصريين
المتحيزين المفكر الفرنسي غوبينو( ) Gobineauكما يتعاظم دور المفكر اآلخر
(هيوتسون ستيوارث شامبرلن) ( )Chamberlinاإلنجليزي كأحد أكبر دعاة
العنصرية إلى جانب غوبينو حيث أنه أكد الفوارق الذكائية بين العناصر المختلفة.
كما حدد هذا العالم االثنوغرافيا بأنها الدراسة الميدانية لجماعة محددة واالثنولوجيا
بأنها الدراسة الحضارية واالجتماعية المقارنة لعدة جماعات ،وقد صنف واالثنولوجيا
إلى عدة فروع هي السوسيولوجيا ،والتكنولوجيا ،والدين ،واللغة ،وقد ترأس هادون
الرحلة االثنولوجية إلى مضايق توريز في ميالنيزيا في المحيط الهادي التي أشترك
55
فيها علماء كبار ومنهم (مايرز)( )Myersوساليغمان ))Seligmanو(ريفرز)(
)Reversو(ويلكن) ( )Wilkonوكان هدف هؤالء من هذه الرحلة تغطية الجوانب
المرتبطة باختصاصاتهم عن حياة الجماعات التي تضمنتها رحلتهم .
وأبرز شخصيات الفكر االنثروبولوجي على اإلطالق في هذه الفترة هو العالم هربرت
سبنسر ،وقد شدد بصورة خاصة على ممارسة الفكر التطوري في تحليل ظواهر
اإلنسان في الحضارة والمجتمع والنفس ،وقد سيطر على فكرة مبدآن ،األول هو مبدأ
التطور .وقد فهم من هذا المبدأ (البقاء لألصلح) .أما المبدأ الثاني فكان يعني في
نظره الحرية الفردية كما فهمها المفكر اآلخر جرمي بنثام وجون ستيوارت ميل على
أن نظرته التطورية كانت أضيق من تلك التي أعتنقها داروين ألن سبنسر حصر
تفكيره في الصراع من أجل البقاء وأهمل المبادئ األخرى التي اعتمدها داروين في
تقديم نظريته .
ومن بين مؤلفاته الكتاب الموسوم (مبادئ علم الحياة) The Principles ) of
، ) Biologyفباإلضافة إلى تأكيد مفهوم (البقاء لألصلح) الذي برز في هذا الكتاب
فإنه شدد بدرجة أعظم على الخصائص المكتسبة وعملية وراثتها كما يعتقد هذا
المفكر .ويبدو أن سبنسر قد تأثر بالعالم ألمارك الذي ربط بين وراثة الخصائص
المكتسبة وبين درجة استعمالها إن كانت عالية أو واطئة ،والطريف أنه أعتبر
التعبير عن العواطف من بين هذه الخصائص التي تنتقل عن طريق الوراثة فتتحول
باعتقاده إلى غرائز ،وهذا الرأي كما نعلم ليس صحيحا من الناحية العلمية
البيولوجية .وهو يرى أن تطور العقل ينتج من صراع االستجابات إلى الوضعيات
المختلفة .ويكشف هذا الكتاب عن المعلومات المحددة لدى سبنسر عن الظواهر
البيولوجية .ومع ذلك فقد تمخضت اآلراء المعروضة فيه عن بعض التعميمات النيرة
ذات المستوى العقالني العالي .
56
أما في كتابه مبادئ علم النفس ( ) The Principles of Psychologyيميل
سبنسر إلى عرض الغزير من المعلومات والعديد من النظريات ولكن األسس التي
أستند إليها في البرهنة عليها تعاني من الضعف .ومن هذه النظريات غير المؤكدة
نظريته عن أصل الغريزة الذي يشتمل في نظره على تشكل األفعال االنعكاسية
وانتقال الخصائص المكتسبة إلى الكائن الحي .كما طرح نظرية مؤداها إن القدرات
الذهنية تنبع من سمات العنصر ( ) Racial Traitsالذي ينتمي إليه الفرد .وهذا
رأي فندته دراسات االنثروبولوجيا الطبيعية الحديثة وهو يعتقد أيضا أن االستجابات
الذهنية تتطور باستمرار من األبسط إلى األعقد ومن التذكر إلى الخيال إلى العقالنية
والسببية .أما اإلرادة فهي كما يتصورها سبنسر مجموع الحوافز أو الدوافع التي
ينطوي عليها الذهن .أما الفكرة باعتقاده فهي أول خطى السلوك أو الفعل بينما
يكون الفعل آخر خطاها ،بينما تكون العاطفة أولى مراحل الفعل الغريزي حسب رأيه
.وأن التعبير عن العواطف يعتبر شرطا مبدئيا الكتمال االستجابة .
وهو يعامل المجتمع كما لو كان كائنا حيا يملك أعضاء تعتمد على التغذية والدورة
الدموية واإلنجاب .لكن هذا التشبيه ينطوي على مبالغة غير علمية .فنحن ندرك
أن في اإلنسان إحساس يتمركز في مواضع معينة ،بينما تكون مركزية الحكم
والسلطة في المجتمع قائمة على تقليص هذه التجزئة العضوية وربطها بتلك السلطة
.وأعتبر العالقات االقتصادية أكثر تعقيدا من العالقات السياسية وأن المجتمع
الصناعي يمثل قمة التطور اإلنساني .غير أنه لم يتعاطف مع النقابية ولم يعترف
57
بحقوق اإلضراب ،ولكن عطفه على الحركات التعاونية يبدو معتدال .كما أيد المبدأ
القائل بانتقال النظم االجتماعية عبر تاريخها التطوري من تأكيد المجتمعات على
المكانة القرابية إلى تأكيدها على العقود( )Contractsالتجارية .
وهناك باحثون أنثروبولوجيون ينتمون إلى هذه الفترة قد ركزوا على دراسة
المجتمعات البدائية أو البسيطة .ومن هؤالء دوركايم( ) Durkheimالذي بحث
الطوطمية( )Totemismوأعتبرها األصل الذي انحدرت منه جميع األديان البدائية
أو الوثنية .وقد أعتبر دوركايم المجتمع أساسا لفهم كل ظواهر الوجود اإلنساني
وأعترض على التفسيرات النفسية باعتبارها تعاني من الذاتية والخيال .
ومن مواقف باستيان العلمية الكبيرة هو موقفه الرافض للقول بوجود الفوارق العقلية
بين السالالت البشرية .أو بين الجماعات البدائية والجماعات المتقدمة.
وينبغي أن يذكر أيضا المفكر المعروف (باخوفن) باعتباره واحدا من األركان العلمية
الهامة في هذه المرحلة .أن باخوفن Bachofenوكذلك المفكر (هنري مين)
يناقشان زعامة المرأة والرجل في الجماعات البدائية .
58
ويؤكد باخوفن أسبقية زعامة األم بالنسبة لزعامة األب في المجتمع ،كما أتفق مع
فرضية تستند إلى االعتماد بأن اإلباحية الجنسية )Sexual ) Promiscuityكانت
النموذج السائد في المجتمع.
أما األستاذ هنري مين( )Henry Mainوهو قطب فكري كبير آخر في هذه المرحلة
فينطلق من الزوايا القانونية لتنظيم المجتمع .فهو في كتابه الموسوم (القانون القديم)
( ) Ancient Lawيعلن عن تأييده للمبدأ التطوري الكالسيكي الملتزم بسير التطور
على خط واحد وباتجاه ثابت ،ذهب إلى إن العائلة األبوية الكبيرة القائمة على سلطة
األب هي الشكل األصلي العام للحياة االجتماعية،وان السلطة المطلقة التي كان
يتمتع بها رئيس العائلة كانت السبب في ظهور مبدأ االنتساب إلى األجداد في خط
الذكور دون اإلناث في مرحلة معينة من تطور تلك الحياة .ويجب أن نشير إلى
المفكر الرائد اآلخر جون ماكلنن ( )McLennanالذي أعتقد بالنظرية التطورية
وطبقها على نظام الزواج الذي حمل عنوان كتابه الموسوم (الزواج البدائي)
( ) Primitive Marriageوهو يتفق مع آراء باخوفن حول أسبقية نظام زعامة األم
قبل زعامة األب في تطور المجتمع .كما أعتقد بأن الجماعات القديمة مارست نظام
عبادة الحيوانات والنباتات ،وهو المسئول عن نحت بعض المصطلحات العلمية
التي أصبحت كثيرة التداول في البحوث االنثروبولوجية ومنها مصطلح(
( )Exogamyالزواج الخارجي) (والزواج الداخلي) ( )Endogamyوأعتبر هذا
المفكر الطوطمية نظاما سابقا في ظهوره لنظام الزواج الخارجي.
وهو يبحث موضوع قتل الصغار( )Infanticideويربط بينه وبين ندرة الموارد
الغذائية ،ونتج عن هذه الممارسة في رأيه ندرة النساء في هذه الجماعات مما
اضطرها إلى اعتماد خطف اإلناث من الجماعات الخارجية للزواج بهن ويطلق على
نظريته هذه مصطلح (الزواج بالخطف) كما فرضت هذه الوضعية اشتراك عدة رجال
في زوجة واحدة .والمشكلة التي تنشأ عن ذلك تعذر تحديد أبوة اآلباء ألبنائهم
59
فيكون أساس النسب في هذه الحالة معتمدا على نظام نسب األم .ولهذا أعتقد ما
كلنن أن نظام نسب األم كان أسبق في الظهور من نظام نسب األب في تاريخ
التطور اإلنساني .
الصنف الوصفي :ويظهر فيه مبدأ تطابق النعت القرابي الذي يستعمله 0ـ
الشخص المخاطب على درجة قرابته بالشخص المخاطب ،كما في كلمة أبي ،أمي
،أخي ،عمي ،خالي عندما يخاطب بها الفرد أباه الحقيقي وأمه الحقيقة وأخاه
الحقيقي وعمه وخاله .
الصنف التصنيفي :وهو الذي ال ينطبق فيه النعت المستعمل في الخطاب 2ـ
على قرابة المخاطب بالمخاطب كما في استعمال الرجل كلمة أبي في خطاب كل
الرجال الذين هم في سن أبيه وكلمة أمي في خطاب كل النساء اللواتي يكن في سن
أمه وهكذا .
وقد تطرف مورغان في تبنيه للنظرية التطورية ،ومن منجزاته األخرى أنه
طرح أفكا ار أصيلة يتم بموجبها تحليل البناء االجتماعي كمركب يتسم بتفاعل
عناصره الوظيفية .كما افترض أن اإلباحية الجنسية قد سادت في الماضي ألن
المجتمعات لم تكن تعرف شيئا عن الزواج بنمطه الحديث مما حال دون ظهور
مفهوم األبوة واقتصار نظمها على مفهوم األم .
61
غير أن األستاذ وستر مارك ( ( Westermarckوكثيرين غيره ممن أهتم بدراسة
الزواج يرفضون فرضية اإلباحية الجنسية التي تقدم بها مورغان النتفاء األدلة على
وجودها في أي جماعة بدائية تمت دراستها لحد اآلن .
كما أعتقد وستر مارك وهو يتأثر بالدارونية ـ بأن روح القطيع لدى اإلنسان وميوله
االجتماعية تنبع أساسا من تقدمه الفكري والحضاري وأن الرابطة التي تربط الزوج
بالزوجة واألطفال ببعضهم كانت أهم العوامل في تنظيم حياة اإلنسان األقدم كما
توصل وستر مارك من دراساته إلى استنتاج مؤداه إن الزواج بين األقارب المنتمين
لنسب واحد ينطوي على أضرار وراثية وأن مبدأ الزواج الخارجي أتسع بفعل العوامل
التطورية على حساب الزواج الداخلي .
إن ألمع الشخصيات العلمية لهذه الفترة تمثلت في العالم الكبير إدوارد تايلور
) ) Taylorلكثرة وأهمية ما قدمه من أعمال علمية ،فقد أهتم بدراسة تطور النظم
أو المؤسسات واقترح أسلوبا إحصائيا جديدا لدراستها ،خصوصا في مجال قوانين
الزواج والنسب .وبفضل الحاالت االثنولوجية الكثيرة التي قارنها استنتج قاعدة
التجنب ألطقوسي الحاصل بين الزوج وأم زوجته .
وركز تايلور على مبدأ الوحدة النفسية للبشر ،واستخلص هذا المبدأ من عدد من
الظواهر والمؤشرات ومن بينها لغة اإلشارات ( ) Gesture Languageالتي
أعتقد بأنها تنبع من نقاط متماثلة في مجتمعات مختلفة .
61
ورغم أن تايلور أيد التطورية لكنه لم يتطرق في تطبيقها إلى الظواهر الحضارية،كما
نبه إلى ضرورة دراسة التحوالت الحضارية بنوعيها الذي يعبر عن التقدم الذي
ينطوي على التأخر أو التردي .
وأهم أعمال تايلور العلمية هي دراسته للدين وتعريفه له وقد وظف تايلور أسلوبا
نفسيا وحضاريا في تحليله للسلوك الروحي للبشر مستعرضا تطور الفكر الغيبي من
أبسط أشكاله إلى أعلى نماذجه وأسماها .وأهم كتب هذا العالم هو كتابه الموسوم
الحضارة البدائية ( )Primitive Cultureالذي نشر عام . 0370
وال نغفل عن ذكر المفكر (جيمس فريزر) Frezerالذي يعتبر أحد أقطاب الفكر
االنثروبولوجي في هذه الفترة ،وقد ركز على دراسة السحر وصنفه إلى أشكاله
المختلفة ،وهو عالم انكليزي كرس الجزء األكبر من بحوثه حول السلوك السحري
والخرافي لإلنسان البدائي ،ومن أشهر مؤلفاته كتابة الموسوم(الغصن الذهبي) الذي
ألفة في( )02جزء وهو دراسة حول األديان والطقوس والسحر .وقسم مراحل التطور
الحضاري إلى ثالث مراحل هي:
واعتقد هذا العالم إن الدين يشترط االعتقاد بالكائنات الروحية بينما السحر إعمال
وممارسات لالتصال بكائنات أخرى،إي أن اإلنسان في رأي فريزر لجا إلى الدين
الخوفا من الطبيعة بل رغبة منة في أن يسيطر عليها ،ويرى فريزر إن السحر سبق
الدين في ظهوره وان الدين سبق العلم .
62
البنائي) ( ) Structural Analysisكما حاول البعض تحديد الوشائج الرسية
والحضارية على أساس أوجه التشابه اللغوي بين الجماعات .كما حاول البعض
اآلخر أن يبحث التطور اللغوي من أبسط أشكاله إلى أعقد هذه األشكال.
أما البحوث اآلثارية فقد ازدهرت أيضا في هذه الفترة بشكل ملحوظ وكانت حفريات
العلماء تجري في مواقع حضارية عديدة كمصر وبالد الرافدين وبالد فارس وبالد
الشام .كذلك نشط الباحثون في التنقيب عن آثار حضارات الهنود الحمر في أمريكا
الشمالية والجنوبية .
والتنقيب عن بقايا اإلنسانية العظمية هو اآلخر قد أتسع وأصبح علما غنيا بأساليب
البحث واآلراء والمبادئ العامة ويطلق عليه مصطلح (باليونتولوجي)
) )Paleontologyوأعتمد هذا العلم على نظريات ومكتشفات علم األرض
(الجيولوجي) وما نشر فيه من بحوث أصيلة كبحوث العالم البلجيكي الكبير (أليل)
))Lyellالذي كتب كتابه الشهير (األدلة الجيولوجية على قدم اإلنسان)
.) )The Geological Evidences of the Antiquity of Man
63
المحاضرة التاسعة :المرحلة االنتقادية:
تسمى هذه الفترة بهذا االسم لميل الكتاب والباحثين واالنثروبولوجيين المتزايد
إلى نقد بحوث ونظريات الرواد السابقين من جهة ولزيادة التأكيد على ضرورة فحص
المشكالت المختلفة بصورة أدق وأكثر تفصيال مما شاع في االختصاص من قبل
وتغطي هذه الفترة حوالي 85سنة من عمر العلم تمتد من 0111وحتى 0185
وهي تتسم بالخصائص اآلتية :
لقد زاد االهتمام بالتركيب العضوي لإلنسان .وكانت نتائج تجارب غري غور مندل(
)Mendelعن الوراثة قد نشرت وأثارت حولها اهتماما في األوساط االنثروبولوجية .
وبفضل تزايد هذا االهتمام فقد تطور علم الوراثة االنثروبولوجي( Anthropological
)Geneticsوانعكس ذلك في مجال المطبوعات الكثيرة التي تعالج مشكالت الوراثة
البشرية ككتاب (الوراثة في اإلنسان)( )Heredity in Manلألستاذين (رغلز
وغيتس) ( )Ruggles & Gatesوجاء اكتشاف فصائل الدم( )Blood Groups
دعما آخر للبحوث البيولوجية االنثروبولوجية ،حيث لوحظ أن الفصائل هذه تتضمن
أربعة أصناف هي .A. B. AB. Oوكان لهذا االكتشاف آثار نظرية وعملية كبيرة
.
كما حققت البحوث قفزة كبيرة في مجال اإلف ارزات الغددية في اإلنسان وعالقتها
باألمراض المختلفة وبالعاهات التي يتعرض لها البشر .
وحاول بعض الباحثين اكتشاف الصلة بين هذه الغدد وبين بعض سمات التركيب
الرسي .كطول القامة ،وأطوال األطراف وهيئة الوجه ،ونمو الشعر وتركيب الجسم
العام .
64
وقد تحقق تقدم واضح في مجال الحفريات البيومترولوجية وزاد عدد النماذج العضوية
لإلنسان البائد ولكن بقيت هناك بعض الفجوات في هذا المجال .كما تطور علم
توثيق التعاقب الزماني للعصور الجيولوجية وحاول بعض الباحثين مقارنة اإلنسان
البائد باإلنسان البدائي الحديث .وحصل تقدم كبير أيضا في ميدان القياس
البايومتري( ) Biometryخصوصا بالنسبة للتركيب العظمى للجمجمة بصورة خاصة
وأجزاء الهيكل العظمي األخرى أيضا .
65
خصل الشعر يؤدي إلى إصابة أصحابها بأذى مماثل .وأدعى هذا المفكر بأن
اإلنسان البدائي ال يعي التناقضات ولهذا وحسب هذا الرأي ـ يميل هذا اإلنسان إلى
اعتناق مبادئ متماسكة دون أن يدرك تناقضها .ولهذا قد يفكر هذا اإلنسان بأنه
إنسان وفي الوقت نفسه يتصور نفسه حيوانا ،وقد ركز على الجوانب الجماعية لهذه
الذهنية بشكل ينسجم ومواقف العالم دوركهايم...
لكن آراء ليفي برول هذه القت انتقادا من قبل الكثيرين من علماء اإلنسان بالنظر
إلى مبالغتها بالتباين بين اإلنسان البدائي واإلنسان المتقدم .كما أنها أوحت بارتباط
هذه الفروق في العقلية بعوامل فطرية على الرغم من أنها في الواقع ترجع إلى
الظروف العامة والى طبيعة أعراف هذه الجماعات وليس إلى تركيبهم البيولوجي أو
الوراثي كما يعتقد بعض المفكرين .
ومن التيارات النفسية الهامة التي تعاظمت في هذه الفترة تيار (علم النفس التجريبي)
.ومفهوم الكشتالت () Gestaltالذي أرساه هذا العلم على أسس متينة .أن هذا
المفهوم يبرز في بحث كوهلر الشهير الموسوم (ذهنية القردة) ( The Mentality of
)Apesوالذي كشف عن حقيقة طريفة وهي أن الحيوانات تنظر للوضعيات التي
تواجهها بكل عناصرها على أساس أنها تمثل كال بما تنطوي عليه من وسائل
وغايات .ويبرز مفهوم ( ) Gestaltأو (النمط الكلي) ))Configurationفي
دراسات األساتذة روث بندكت ))Benedict-Ruthخصوصا كتابها الموسوم (أنماط
الحضارة)( . )Patterns of Culture
ويشدد الباحثون في هذه الفترة على التركيب العصبي لإلنسان وأبعاده النفسية كما
يتضح في كتاب األستاذ (مخاكدوكل) Mc Dougallالموسوم (السيكولوجية
الفسلجية) ( )Physiological Psychologyوالذي أوضح فيه أن (نقطة التقاء
الشبكة العصبية الرئيسية) المسماة " "Synapseتعتبر موضع الوعي وأن الضوابط
66
الذاتية لإلنسان والتي تردعه عن ارتكاب األعمال المحرمة تتصل بطاقات تسري
عبر هذه الشبكة فيتحقق عنها امتثال اإلنسان للقواعد األخالقية.
وكان كتاب سيفموند فرويد الموسوم (طوطم وطابو) )Totem and) Tabooوالذي
قارن فيه بين المواقف النفسية البدائية وحاالت المرضى العصابيين قد أحدث أعظم
اآلثار النفسية في علم اإلنسان .
لو تعقبنا الدراسات االجتماعية في علم اإلنسان اعتبا ار من تاريخ 0111م الستطعنا
تشخيص ثالث مجموعات متميزة :
أ ـفهناك المجموعة التي تبنت منهاجا نفسيا وأيدت ميال إلى وجهة النظر التطورية.
ب ـوتوجد مجموعة أخرى من هذه الدراسات وقد ارتكزت على المنهج االنتشاري(
)Diffusionistوالتاريخي .))Historical
جـ ـأما المجموعة الثالثة فسارت على النهج الوظيفي( .)Functional Method
واتسمت عالقات هذه المجموعات الثالث من الدراسات بالنزاع والجدلية على األكثر
ولفترة طويلة نسبيا على الرغم مما بين اتجاهاتها من تكامل وتواشج فكري ومنهجي
وموضوعي .
67
هذا القبول .وعليه فإن كال من الباحث النفسي واالنتشاري ال يمكنهما فهم
موضوعاتهما المشتركة إال إذا انطلقا من أرضية تحوي حقائق مجاليهما المترابطين.
كذلك المدرسة التطورية التي عالجت الموضوعات المختلفة على الرغم من ضعفها
بسبب االندفاع الذي يطبع استنتاجاتها ولعدم اعتمادها البراهين الموضوعية .إال أنها
قد تركت آثا ار هامة في الفكر االنثروبولوجي .
وال يفوتنا االنتباه إلى أهمية الدراسات التطورية النفسية التي بحثت أصل أو منشأ
النظم االجتماعية والحضارية ،فقد سلطت هذه الدراسات على المصادر األولية أو
األصلية للمشكالت النفسية واالجتماعية أضواء يمكن أن تنفع في معالجة مشكالت
هذا العصر .
والدراسات التطورية النفسية والحضارية حاولت ربط حياة اإلنسان الحديث بنماذج
تقابلها من حياة الجماعات البدائية أو بعض الجماعات الحيوانية من فصائل القردة .
كما في دراسة (زكرمان)( ( Zuckermanالموسومة (الحياة االجتماعية للقردة
السفلى والعليا) .وبالنظر إلى أن القردة تفتقر إلى حضارة وهي أقرب الحيوانات من
الوجهة الفسلجية إلى اإلنسان .فإن زكرمان حاول تحديد أوجه الشبه واالختالف بينها
وبين اإلنسان في بعض مجاالت الحياة خصوصا ما يتعلق منها بعالقة األنثى
والذكر وآثارها في تنظيم عالقات األسرة .
وركزت دراسات كثيرة ذات طابع تطوري في هذه الفترة على أهمية التعاون المتبادل
والعطف األمومي في حركة التطور .وبرز في هذا المجال من البحوث بصورة
خاصة الباحثون الروس من أمثال األستاذ كيسلر( )Kesslerمن جامعة بطرسبرغ
(لينيغراد حاليا) كما تتجسد أهمية التعاون والتضامن في دراسات الباحث الروسي
اآلخر كروبوتكين( )Kropotkinحيث الحظ أثناء إقامته في سيبيريا ومنشوريا كيف
تتجمع الحيوانات من الفصيلة الواحد قبل بدء موسم الفيضان قرب أضيق مكان في
68
نهر أمور لتستطيع من عبوره إلى المناطق األمينة .وفي ذلك دالالت غريزية في
نظره على التآزر والتعاون في فصائل الحيوانات تظهر أمام األخطار .
كما يظهر اسم باحث سوفيتي آخر هو زولوتاريف ) )Zolotarevوقد ركز في
دراساته على مرحلة جمع الغذاء معتب ار إياها أقدم مراحل التطور وأدعى بأنها خلت
من الزعامة واقتصرت على اجتماع الجماعات الصغيرة في عالقات متكافئة.
وبعد ظهور األسلحة ظهرت حرفة الصيد وأصبح الرجال مسيطرين عليها وظلت
حرفة جمع الغذاء خاضعة لسيطرة النساء .كما يرى هذا الكاتب أن الزواج الجماعي
كان النمط السائد في الجماعات البشرية التي عاشت في مراحل ما قبل التاريخ .
وقد تضمنت الدراسات التطورية هذه بحوث العالم جيمس فريزر عن السحر
والطوطمية والزواج الخارجي والتي اعتبرها من ترسبات الزواج الجماعي السالف
والمتبقية في الجماعات البدائية حتى هذا الوقت .
ومن بين الذين نشطوا في مجال البحوث الهادفة للكشف عن الجوانب الدينية
والسحرية بعض الكتاب الفرنسيين وفي مقدمتهم األستاذان (هيوبرت) ))Hubert
و(موس) ( ) Maussفقد أكدا في دراستهما للسحر بأن الفعاليات السحرية والغيبية
عموما في الجماعات البدائية هي خير تعبير عن الحاجات االجتماعية ،كما كشفا
في بحوث أخرى عن دور القرابين االجتماعية في حياة هذه الجماعات .وفي هذا
يكشفان عن تأثرهما برأي األستاذ دوركايم القائل بأن الدين هو التعبير االجتماعي
عن حاجات البشر .
وال ننسى شخصية فكرية المعة لعبت دو ار كبي ار في االثنولوجيا الفرنسية وعلم
اإلنسان عموما وهو العالم فان غينب ( ) Van Gennepالذي يبحث (طقوس
69
المرور) ( ) Rites Passageالتي تجري في مراحل دورة حياة اإلنسان ابتداء من
الوالدة ومرو ار بالرضاعة والطفولة اليافعة والزواج والشيخوخة والموت .وقد كشف
عن المضامين النفسية واالجتماعية في هذه الطقوس وبأسلوب يطبعه ميل تطوري
ملموس .وهذه نماذج قليلة مختارة من أهم البحوث االثنولوجية ذات الطابع التطوري
.وهناك العديد من البحوث المتأثرة بالنزعة االنتشارية والتي ناقشت العديد من
الظواهر المرتبطة بالدين والسحر واألخالق ،ومن أهمها بحوث كل من فرانز بواس
وكروبر وبول ريدون وغريبنر وشمث ،ومن األعمال الفكرية التطورية األخرى
الكبرى بحث األستاذ (هوبهوس) () Hob Houseالذي ترتبت عليه نتائج فكرية
كبيرة في ميدان االثنوغرافيا ـ المـوس ــوم تطـور األخـالق ) )Ethics in Evolution
() Wheelerوغنسبرغ( وكذلك إسهام هذا العالم مع كل من العالمين ويلر
) Ginsbergفي الكتاب الموسوم (الحضارة المادية والنظم االجتماعية للجماعات
البسيطة) .وفي هذا الكتاب حاول هؤالء الكتاب تصنيف الجماعات على أسس
اقتصادية ،إلى عليا ووسطى ودنيا ،كما حاولوا اكتشاف نقاط الترابط بين نماذج
إنتاج الغذاء وتطور الجوانب األخرى للحضارة .وركزوا على نقاط أساسية وهي أن
التنمية االقتصادية ال تنطوي بالضرورة أو بصورة حتمية على تنمية أو تطور
العالقات االجتماعية نحو األفضل . .
أما الدراسات االنتشارية في هذه الفترة فهي كثيرة ومن أهمها بحوث األستاذ غريبنز
( ) Graebnesزعيم المدرسة االنتشارية األلمانية .
كما أهتم العالم ريفرز ( ) Riversوهو من أقدر المفكرين النفسيين واالجتماعيين في
زمنه ـ بدور االنتشار في ظهور العناصر المتماثلة في المجاالت االجتماعية والنفسية
والتكنولوجية ،وقد حاول هذا الباحث بشكل لم يسبق إليه مثيل تحقيق الوحدة العلمية
بين االثنولوجيا وعلم النفس .
71
وينبغي ذكر األستاذ وليم شمث ( ) Schmidtالذي أسهم في دعم المدرسة التاريخية
األلمانية ولكنه رفض الفكرة التطورية حول الدين وأعتقد أن الديانات البدائية في
الماضي كانت تعتمد على وحدانية االعتقاد ثم تدهورت إلى نموذج تعدد اآللهة في
أزمنة متأخرة .
أما الخط الثالث للبحوث العلمية فهو يتمثل في االتجاه الوظيفي ،ويتألق العالم
مالينوفسكي( ) Malinowskiكأعظم األركان التي أسهمت في بناء صرح هذا
االتجاه عن طريق المطبوعات الهامة والكثيرة .والمعروف عن مالينوفسكي أنه درس
موضوعات متفرقة في المجاالت الدينية واالقتصادية والتربوية والسحرية ،كما يعتبر
صاحب الفضل األول في تطوير البحوث الميدانية .أما منهجه الفكري فاتسم
باالنفتاح أكثر مما اتسم به راد كلف براون حيث استطاع أن يزاوج بين التفسير
النفسي والحضاري واالجتماعي بأسلوب يتسم باألصالة واإلبداع .مما جعل تأثيره
في األوساط االنثروبولوجية في العالم أكثر شموال .من تأثير زميله براون .وقد نشر
مالنفسكي كتبا كثيرة منها كتابه (السحر والعلم والدين) وكتابه (دينامكية التبدل
الحضاري) وكتب متعددة أخرى.
ويعتبر راد كلف براون االسم الالمع الكبير اآلخر في مجال البحوث الوظيفية إال أنه
أبدى ميال آلراء دوركايم .وهو مؤسس فرع هام في المنهج الوظيفي يطلق عليه
بالمنهج البنائي االجتماعي .
وفي هذه الفترة نلمس زيادة في االهتمام بالبيئة وتفاعل اإلنسان بها مما وسع من
رقعة بحوث االيكولوجية .وبعض هذه الدراسات اتصف بتأكيد التفسير الجغرافي ،
71
بينما بعضها أكد التفسير الحضاري .وهناك أسماء عديدة لها دورها في هذا الميدان
ومنها كل من (لي بالي) ( ) Leplayوراتزل ( )Ratzelوفروبينيوس ،وأنكرمان
(.) Anker man
وأخي ار فقد حققت البحوث االثنوغرافية واالثنولوجية قفزة علمية كبيرة من حيث زيادتها
وتطور نوعياتها في التحليل واالستنتاج .
المرحلة الحديثة:
تعتبر هذه المرحلة من المراحل المتقدمة التي وصلت إليها االنثروبولوجيا في العصر
الحديث ،حيث نالحظ تصاعد اهتمام الباحثين باستخدام مفاهيم وأساليب جديدة
وهي :
72
(Montego ( ) Weinerبارنيكوت( ،) Barnicotأشيلي مونا تكو
)وهوتون () Hootonوها ويلز ( ،) Howelisوعشرات غيرهم من الباحثين البارزين
.
.5وتتسم هذه الفترة أيضا بإعادة النظر في بعض االتجاهات السابقة على ضوء ما
أستجد من الحقائق في عالمنا المعاصر .ونشطت البحوث التطبيقية أيضا وزاد
االهتمام بمشكالت التنمية .
73
المحاضرة العاشرة :طبيعة الكائنات الحية:
مقدمة
اختلفت نظرة الناس ،ومعرفتهم للكائنات الحية من عصر آلخر ،ففي المجتمع
البدائي ،ومن خالل القصص واألساطير القديمة ،كان الناس ينظرون إلى الرياح
واألشجار والماء واألسماك والنار والطيور على أنها جميعا كائنات حية ،ولكن بعد
مرور آالف السنين من الخبرة والتجربة اإلنسانية ،أدرك الناس وجود اختالفات بين
بعض األشياء مثل الحيوانات والنباتات من ناحية وأشياء أخرى مثل الصخور
والخشب واألوعية المصنوعة من الطين أو السكاكين المعدنية من ناحية أخرى
فاألولى تعتبر كائنات حية Animateبينما األخرى تعتبر ميتة ،وهي تشمل
النباتات والحيوانات التي كانت حية من قبل ولكنها لم تعد حية اآلن كما تتضمن
أيضا أشياء لم تكن حية على اإلطالق مثل الصخور واألحجار مثال.
وبناء على ما تقدم فهناك عدة خصائص تتميز بها الكائنات الحية ،ويمكن إجمالها
بالخصائص اآلتية:
التعقيد المنظم :وهذا التعقيد يوجد على كل مستوى والسيما على المستوى 0ـ
الجزيئي ،وكلها تبنى من التفاعالت المعقدة لمكوناتها الجزيئية ،وأفضل مثال يبين
البنيان الجزيئي الموجود بالكائنات الحية هو عائلة البروتين .فأبسط البروتينات قد
تحتوي على ما يصل إلى ألفي ذرة تشكل تركيبا محكما ثالثي األبعاد ،تقع كل ذرة
فيه في مكانها المحدد إال عندما تؤثر فيها التصادمات المستمرة الناتجة عن الح اررة
،وهذا الشكل المعقد ثالثي األبعاد أساس ألداء الجزيء لوظيفته ...المهم أن هناك
تراكيب معقدة تتواجد في نسخ كثيرة متطابقة ،وهي تراكيب ال يمكن أن تنشأ من
مجرد الصدفة ،والقيام بالتخليق العضوي يحتاج زادا من الطاقة.
74
2ـ بقاء استمرار عمليات بناء الخاليا البروتوبالزمية المعقدة :حيث يلزم تنظيمها
بطريقة معينة ،فالكائن الحي يعتبر في حالة تدفق مستمر ويحتفظ بتكامله ،وهذا
هو جوهر عملية التغير الكيميائي التي هي القاعدة التي يقوم عليها الكائن الحي،
وان كانت هناك بعض الخصوصيات التي تتميز بها الكائنات الحية ومنها :أن
العديد من المتغيرات بداخلها تعتبر معقدة وترتبط أحيانا بالبروتينات ،كما أنها
قاصرة على كل نوع من أنواع الكائنات الحية ،باإلضافة إلى أنها ترتبط ببعضها
البعض بشكل ما مما يعمل على بقاء الكائن الحي .وباإلضافة إلى ذلك ،نجد أن
معيار الحياة ذاته ـ والذي يميز الكائنات الحية ـ يعتبر نسبيا .فبعض الكائنات
العضوية يمكنها الحياة لمدة مائة عام ،والبعض اآلخر قد يعيش لمدة مائة يوم أو
مائة ساعة فقط .فالكائن العضوي الحي لم يكد يبدأ حياته حتى تظهر عمليات بناء
تمهد الطريق إلعادة بناء األنسجة التالفة إلى جانب عمليات الهدم المرتبطة بالمواد
البروتينية.
النمو والتكاثر والتنمية :فعندما يتأثر شيء غير عضوي بمؤثر خارجي من 8ـ
شأنه أن يؤدي إلى حدوث تغير كيميائي ،فإن النتيجة من الممكن أن تكون مدمرة ،
فهو يتحول إلى شيء آخر ،فقضيب الحديد يتحول إلى صدأ وبرميل البارود يتحول
إلى غاز وذلك بعكس استجابات الكائن العضوي للمثيرات ،فهي تتحول إلى تغيرات
ولكنها ليست مؤثرة فهي ترتبط بالعمليات الذاتية للحفاظ على الذات .وهذه الكائنات
تتسم بالحياة وتمارس نشاطها وترعى مصالحها وذلك من خالل تخزين الطاقة بشكل
كاف وهذا التراكم لالحتياجات يميز الكائنات العضوية وخصوصا النباتات ،والكائن
الحي عموما أكثر كفاءة من أية ماكينة اخترعها اإلنسان بخصوص إحداث التوازن
بين مدخالت ومخرجات الطاقة ،فهو قادر على أن يحول الطاقة الممكنة إلى شكل
مفيد دون أن يتعرض للخسارة مثلما يحدث بالنسبة للماكينات الصناعية .
75
ومن ناحية أخرى ،نجد أن قوة الدعم والتساند بين أجزاء الكائن الحي هي التي
تجعل عملية النمو ممكنة ،ولكن هذه العملية ( النمو ) تؤدي إلى التضاعف فانقسام
الخلية يعتبر وسيلة الستعادة التوازن بين الحجم والسطح وبين مادة الخلية
(السيتوبالزم) والجبلة النووية ،ويمكن استعادة التوازن من خالل انطالق العمليات
من سطح الخلية مثلما هو الحال في الحيوانات وحيدة الخلية أو من خالل مضاعفة
نواة الخلية.
4ـ اإلحساس :وهو يتصل باستجابات عضوية كثيرة متباينة تتعلق بجمع الغذاء
وعمليات الدفاع أو الهجوم أو وظائف أخرى .وتنتظم كل هذه العمليات في النهاية
وتهدف إلى المحافظة على ظروف مالئمة داخل الكائن الحي على الرغم من
التغيرات التي تعتري البيئة وكذلك عمليات التحول الغذائي الداخلية ،وتحدث هذه
االستجابات في كل الكائنات الحية وتعتبر إحدى الخصائص المميزة للحياة .
5ـ التكرار أو التطور :فالكائنات الحية يتم إنتاجها من خالل االنقسام ،وهذا يؤدي
إلى ظهور أفراد جدد متميزين ويمكنهم التكاثر ،ولكن ذلك التكاثر يختلف عما
يحدث في الكائنات غير الحية ،فأمواج البحر تتكاثر بذاتها ولكن ليس عن طريق
االنفصال ونمو مادتها ،ونقاط الزيت أو الماء تنمو أو تنقسم في ظروف مالئمة
ولكن ليس من خالل أي استعداد فطري للقيام بذلك.
والكائنات الحية خالل تكاثرها وتطورها ،ال تنتج أفرادا تشبهها فحسب ،ولكنها
تحدث تغيرات طفيفة من جيل آلخر ،ثم يحدث أن تنتج أفرادا تشبهها تحتفظ بقدرة
كبيرة على التحكم في البيئة ،والتكاثر والتطور العضوي يعني التفاعل والتغير
المستمر بهدف التكيف الدائم مع الظروف البيئية المحيطة ،فهي نوع من االستجابة
المتطورة لها.
6ـ الحركة :فالكائن الحي يتحرك هنا وهناك ،وقد يتحرك بسرعة مثل طائر محلق أو
ببطء مثل نبات اللفت الممتد والذي ال يبدو عليه أي شكل من أشكال الحركة
76
والكائنات الحية تتحرك كاستجابة لدافع داخلي وقد يجري حفزها على الحركة ولكن
قوتها الدافعة لذلك قد تكون داخلية .ولذلك فمن الصعوبة بمكان ( في بعض
األحيان ) التمييز بين الكائن الحي وغير الحي ،فالبذور والديدان الصغيرة والبكتريا
والفيروسات يمكن أن تظل في حالة كمون كامل وسكون لفترات طويلة من الزمن ،
ومن ثم يصعب تمييزها عن الكائنات العضوية الميتة ،ولكنها عندما تتعرض
للرطوبة فإنها تتحرك وتستأنف أنشطتها الحياتية المعتادة.
3ـ التفاعل الدقيق مع البيئة :فالكائن العضوي يمكنه أن يعيش ويحافظ على ذاته
طالما أنه يتبادل المادة والطاقة مع بيئته ،فالمواد المختلفة القريبة من الكائن الحي
تدخل جسده في صورة طعام أو شراب ،وفي داخل جسده تتعرض لمجموعة من
التغيرات والتحوالت حيث تتحول ،كما سبق وأوضحنا ،إلى مركبات كيميائية تماثل
مادة تكوين الكائن الحي ذاته .وهذه الخطوة تسمى التمثيل . Assimilationوخالل
التفاعل بين المواد القادمة من الخارج مع مادة الكائن العضوي تحدث عملية عكسية
تسمى االنحالل أو االنفصال Dissimilationومن ناحية أخرى نجد أن خاليا جسم
الكائن الحي ال تظل ثابتة ،فهي تتحلل أو تتعرض للتكسير لتحرير الطاقة الكامنة
فيها ،كما أن نواتج هذه العملية يتم تفريغها والتخلص منها في الوسط المحيط ،في
حين أن األجسام األخرى تتدفق مثل ماء النهر وتتجدد مادتها مثل ماء الجدول ،
77
وهكذا فإن ثبات الشكل الخارجي والبناء الداخلي المفصل للكائنات الحية يمثل تعبي ار
مرئيا لثبات تسلسل العمليات التي تدور داخله نتيجة للتوازن المعقد للظاهرتين
المتضادتين وهما هضم أو تمثيل الغذاء Assimilationوتكسيره ، Dissimilation
ويرجع استمرار الكائن الحي في الحياة والوجود والبقاء نتيجة لهذا التوازن بين
العمليتين ،فكل جزيء أو بناء يتحلل ،يحل محله بناء جديد وهكذا...
في المراحل األولى لنشأة الكون ،لم يتشكل من العناصر بكميات معقولة إال
العناصر األخف وزنا على الرغم من الكثافة العالية والح اررة المرتفعة ،ونتيجة لذلك
لم تكن العناصر الالزمة لنشأة الحياة ،باستثناء الهيدروجين ،قد تكونت بعد ،أي
عناصر الكربون والنيتروجين واألكسجين والفسفور ،ولذلك يمكن القول أن الحياة كما
78
نعرفها لم تظهر بعد فترة قصيرة من نشأة الكون ،ألن العناصر الالزمة لظهورها لم
تكن موجودة ،وقد أحتاج األمر إلى فترة تبلغ بليون سنة أو بليونين قبل أن يمر عدد
كاف من النجوم الكبيرة بدورة الحياة المفترضة لتنفجر وتوفر الذرات الالزمة للحياة
العضوية وكان على هذه الذرات أن تنجرف لينشأ عن حطامها نجوم وكواكب جديدة.
وعموما ،نجد أن الكائنات العضوية تعمل دائما في وسط سواء من الماء أو الهواء
،وتشير السجالت الجيولوجية والدراسات البنائية الوظيفية المقارنة إلى أن الحياة قد
حدثت أوال في الماء ،ومن ثم فإن الخاليا النباتية والحيوانية تتطلب سائال أو خاليا
سائلة وذلك ألن التفاعالت الكيميائية والتبادل الذي يحدث بين السوائل ذات الكثافة
المختلفة والمنفصلة عن بعضها البعض بغشاء عضوي حتى يتجانس تركيبها ،وهذه
التفاعالت تكون أكثر نشاطا في السوائل ،ومما يبرهن على بداية الحياة في الماء
هو أن كثافة البروتوبالزم تقارب كثافة الماء ،كما أن تأثير الجاذبية يكون ضئيال
في الماء ،وفيه تتم مواجهة مشكالت ميكانيكية معينة للدعم والحركة مقارنة باليابس
،ومن ثم نجد أن متطلبات الحياة في البحر تكون قليلة مقارنة بالحياة على اليابس ،
واذا كانت هناك أجزاء صلبة في جسم الكائن الحي ،فإنها تعمل كدرع واقي له مثلما
هو الحال في حلزون البحر Clamـ وهي نوع من القواقع ـ أو الشعاب المرجانية .
وبالنسبة للكائنات األرضية فهي تحتاج وسطا معينا من الهواء والغالف الجوي الذي
يمد أجسامها باألكسجين الضروري للحياة ويحجب عنها األشعة فوق البنفسجية
المميتة ،كما يوازي أو يناسب بين درجتي ح اررة الليل والنهار ،والكوكب الذي يمكن
أن تعيش فوقه الكائنات الحية البد أن تتراوح درجة ح اررته ما بين الصفر ومائة
درجة مئوية وهو المدى الذي يمكن أن يوجد فيه الماء في صورة سائلة ،أما في
األجواء التي تزيد برودتها عن ذلك ،فغن التفاعالت الكيميائية تتم ببطء شديد ،
وفي درجات الح اررة التي تزيد عن ذلك فإنها ستحطم العالقات القائمة بين ذرات
الهيدروجين والكربون وهي المقومات األساسية للمادة الحية ،والبد ثانيا للكوكب من
79
جو مناسب تستطيع فيه الكائنات الحية أن تتنفس ،ومعنى ذلك أن الكوكب إذا كان
صغي ار ،فإن تأثير جاذبيته ستكون ضعيفة ومن ثم يصعب االحتفاظ بالغازات في
غالفه الجوي .واذا كانت الجاذبية كبيرة ،فإن ذلك يجعل الحياة مستحيلة ،فمثال ال
يتحمل اإلنسان جاذبية المشتري ألنها تحطم عظامه ،فالجاذبية هناك كبيرة بسبب
كبر حجمه وكتلته ،كما أنه يحتفظ بكمية من الهيدروجين والهليوم منذ بداية تكوينه
مما جعل أرضه هشة غير صلبة وهذا يجعل مظاهر الحياة صعبة فوقه عالوة على
التغيرات المفاجئة في درجة ح اررته ،كما أنه إذا مال محور دوران الكوكب عن
مستوى مساره بدرجة كبيرة فإن ذلك سيؤدي إلى تقارب كبير في فصول السنة ،واذا
دار ببطء شديد حول النجم ،فسيظهر فرق كبير في درجة الح اررة بين ليله ونهاره
إلى درجة يصعب االعتياد عليها.
ومن ناحية أخرى ،البد أن تكون الشمس ذات حجم مناسب ،فإذا كانت الشمس
صغيرة جدا ،فإن الح اررة التي تولدها لن تكفي إال لكوكب يدور في منطقة محدودة
جدا ،أما إذا كانت كبيرة جدا ،فسوف تتمدد وتصبح عمالقا أحمر يلف كواكبه
السيارة في اللهيب قبل أن تبدأ مراحل التطور .
ويالحظ أن كل هذه الشروط تتوفر جميعا على سطح األرض مما جعل معظم
العلماء يقررون عدم وجود أي مظهر من مظاهر الحياة إال على األرض ،على
الرغم من أن بعض الدراسات الحديثة انتهت إلى بعض النتائج التي قد تشير إلى أن
الحياة كانت في وقت من األوقات موجودة على ظهر كواكب أخرى ،بل أنه لو
كانت تلك الظروف المناسبة للحياة ( من الناحية النظرية على األقل ) موجودة في
بعض الكواكب السيارة التي تتبع نجوما في مجرات أخرى غير مجرتنا أو حتى في
مجرتنا ( التي تحتوي على ماليين النجوم ) فستكون هناك حياة وكائنات حية بشكل
أو بآخر ،حتى أنه من الممكن أن تكون هناك كائنات ذكية وأذكى من بني البشر
ومن ثم تمتلك حضارة أرقى بكثير من حضارة اإلنسان وما التقارير التي تتحدث عن
81
ظاهرة األطباق الطائرة التي تقودها كائنات ذكية من خارج كوكبنا ،أو تلك
الكائنات ( حسب ما يزعم بعض العلماء ) الذكية التي نزلت إلى األرض وبنت
األهرامات أو أقامت الحضارات في بعض أجزاء العالم ثم غادرت األرض مرة أخرى
،وأيا كانت صحة هذه التقارير أو الدراسات فاالحتمال وارد أن تكون هناك كائنات
ذكية بشكل أو بآخر موجودة في كواكب أخرى .
وحتى في نطاق كوكب األرض ،فإن هناك حدودا مكانية يمكن خاللها أن تعيش
الكائنات الحية وهي تكون على بعد أميال قليلة فوق سطحها أو تحته ،وتتوقف
مظاهر الحياة قبل أن نصل إلى قمم أعلى الجبال األرضية ،كما أن قاع البحر
يمثل الحد السفلي للعمليات الحيوية ،وفي باطن األرض توجد مادة جامدة وال يوجد
ما يشير إلى انتشار أي حياة فيما وراء كوكبنا أو غالفنا الجوي سواء في الفضاء
الفسيح أو الكواكب األخرى كالشمس والنجوم والسد يم ...وهذه وجهة النظر األولى
.
ففي الماضي القريب استطاع البشر ركوب الطائرات والوصول إلى ما هو أبعد من
مستوى جبل أفرست والذي يبلغ ارتفاعه أكثر من ستة أميال عن مستوى سطح البحر
،وقد وصل كال من ج .مالوري Malloryوأ .س إرفن A.C. Irvineإلى ذلك
الجبل في عام 0142وأقاما معسكرهما هناك في خيمة على ارتفاع 260311ألف
قدم في السادس من شهر تموز ولكنهما لم يعودا ثانية إلى األرض ،وقد شوهدا
وهما يشقان طريقهما للداخل وقد أخفاهما الضباب .كما وصل د .سومرفيل
Somervilleوليوت نوتون Lieut Nottonبعد كثير من المعاناة واأللم إلى ارتفاع
230211قدم .وقد عانى سومرفيل من العطش الشديد نظ ار لبرودة وجفاف الهواء .
وحتى عهد قريب ،فإن الرقم القياسي المسجل لوصول البشر إلى ارتفاع عن سطح
األرض هو 840511ألف قدم وقد حققه بالون بيرسون Bersonوزميله في تموز
عام 0112ولكنهما فقدا الوعي رغم استنشاقهما لألكسجين ،وقد تخطى الكابتن
81
جراي هذا االرتفاع في تشرين األول عام ، 0127وكان يعمل في سالح الجو
األمريكي حيث وصل إلى ارتفاع 420471ألف قدم ولكنه توفي خالل هبوطه
بسبب نفاد األكسجين .
ومما يجعل من الصعوبة بمكان العيش على ارتفاعات شاهقة من سطح األرض
نقص األكسجين في طبقات الجو العليا ونقص الضغط الجوي المحيط بالجسم
والبرودة الشديدة ،وفي ذلك يذكر الطيارون الذين حاولوا تحطيم الرقم القياسي في
االرتفاع عن سطح األرض أنهم شعروا باالنتفاخ وتورم الجسم وسماع الطنين في
آذانهم ،وسرعة ضربات القلب وأحيانا كان يحدث نزيف داخل األذن واألنف
والرئتين والعينين ،وكذلك يحدث نوع من التبلد الذهني وفقدان القدرة العضلية
والذهنية ،فقد كان جالشر ،أحد الطيارين ،ينظر في أجهزته دون أن يستطيع
قراءتها .وفي األجواء العليا تنخفض أحيانا درجة الح اررة إلى حوالي 81درجة تحت
الصفر ،ومن ثم يصعب االحتفاظ بح اررة الجسم وهذا يفسر سبب ارتداء الطيارين
لسترات خاصة لتقيهم البرد وتحفظ لهم درجة ح اررة مناسبة .ففي بعثة ايفرست
األخيرة توفى اثنان من أعضائها من شدة البرودة ،كما أن سبعة من بعثة سابقة قد
قتلهم انهيار جليدي ،فاألماكن المرتفعة من الجبال تتعرض لرياح وعواصف ثلجية
عنيفة ،كما تتعرض لسقوط الصخور والثلوج وهي أخطار يحاول الطيارون تجنبها
ولكنهم ال يستطيعون تالشى الضغوط الكبيرة على طائراتهم نتيجة للبرودة وانكماش
معادن طائراتهم ،كما تصبح حركة المحركات ثقيلة نتيجة لثقل أجسام الطائرات
عليها نتيجة لتخلخل الهواء ،وقبل أن يصل الطيار إلى حد الخمسة أميال ،ال
تكون هناك كائنات حية باقية ،فالحشرات تفقد الوعي بسبب ضجيج الطائرات وال
يمكن لطائر أن ينافس الطائرة سوى النسر األمريكي الذي يستطيع مسايرة الطائرة
والتحليق على ارتفاع خمسة أميال .
82
ومن ناحية أخرى ،تصبح فرص الحياة ضعيفة أسفل سطح األرض ،حيث يزداد
الضغط الجوي وترتفع درجة الح اررة ،ومن ثم ال تمتد أشكال الحياة المألوفة لنا بضع
(قامات) ،مقياس قياس العمق ـ وتعيش بدال منها كائنات أكثر تكيفا مع البرودة
والظالم والضغط المرتفع ،وبسبب ذلك توجد العديد من القيود على تحركات
الكائنات الحية في البحر باستثناء الحيتان التي تهبط ( رغم ذلك ) إلى حدود معينة
،كما أنها ال تنزل إلى األعماق السحيقة ،ولديها شبكات غريبة من األوعية الدموية
والتي قد تساعد على تسهيل خروج فقاعات الغاز عندما تندفع للسطح بعد الغوص
الطويل .
83
المحاضرة الحادية عشرة :إمكانية وجود الحياة على كواكب أخرى غير األرض:
لقد أوضحنا سابقا الشروط التي يجب أن تتوفر على الكوكب لكي تظهر وتحيا عليه
الكائنات الحية ،وهي كلها متوفرة على كوكب األرض فهل هناك حياة على الكواكب
األخرى غير األرض ؟ واذا وجدت فما هي طبيعتها وما هو الشكل والبناء المحتمل
للكائنات التي توجد هناك ؟
إن اإلجابة على هذه التساؤالت تعتمد على كيفية تكون الكواكب األخرى مثل األرض
،وتذكر إحدى النظريات أن األرض تكونت عندما اقترب نجم عابر من الشمس ،
واجتذب جزءا كبي ار منها ،وعلى أساس هذه النظرية ،فإن النجوم األخرى قد يكون
لها كواكب مثل األرض ( إذا صح وجود الصدام بين الشمس والنجم العابر ) ولكن
الواقع أن النجوم بعيدة عن بعضها البعض ،ولذلك فمن غير المحتمل أن يكون قد
حدث صدام أو شبه صدام ( احتكاك ) من هذا النوع .واذا كانت هذه هي طريقة
تكون األرض فمن غير المحتمل أن يكون للنجوم األخرى كواكب يمكن أن تظهر
عليها الحياة.
وعلى أية حال ،فإن نظرية التصادم التي فسرت أصل األرض تعتبر نظرية خاطئة
إلى حد كبير ،فليست النظم الكوكبية نادرة بهذه الدرجة ،كما أوضحت دراسات
النجوم أن معظمها هي نجوم ثنائية أو ثالثية وتدور حول بضها البعض بنفس كيفية
دوران الكواكب حول الشمس ...وهنا أمكن تفسير وجود النجوم الثنائية من خالل
النظرية األخرى التي تذكر أن النجوم والكواكب تكونت من سحب لولبية من الغبار
والغاز في الفضاء ...ولو صحت هذه النظرية فمن المحتمل أن توجد نجوم أخرى
لها كواكب .ولنفترض أن نجما واحدا في المليون له كواكب وأن واحدا في األلف له
كوكب مثل األرض حيث أمكن للحياة أن تنمو فوقه ،وفي الوقت نفسه توجد العديد
من النجوم في العالم ،ومن ثم قد توجد أشكال معقدة من الحياة في مائة مليون عالم
84
مختلف متناثرة عبر الفضاء ،وعلى هذا األساس يجب أن نعترف بوجود الحياة في
أجزاء أخرى من هذا الكون .
وقد أيد هذا الرأي الكثير من العلماء ،فمثال يذكر كل من الين هاينك Allen
Hynckونورمان د .أندرسون N. D. Andersonأنه من المستحيل افتراضيا طبقا
لألسس اإلحصائية أن يكون نجمنا بالذات هو الوحيد الذي له كواكب تتوافر فيها
الظروف الكيماوية والطبيعية الستمرار الحياة ،ثم أن المجموعة المجرية بأكملها
تضم الباليين الفائقة العدد من النجوم ،ولو أن نجما واحدا في كل ثالثة باليين نجم
كانت له مجموعة كوكبية لكان عدد المجموعات الشمسية يقدر بالماليين ،وحيث أن
كيمياء النجوم متشابهة ،فالنتيجة إذن أنه من المحتمل أن تكون الحياة ظاهرة واسعة
االنتشار ،ولكن إمكانية وجود أية مظاهر للحياة على كواكب أخرى غير األرض
يرتبط بوجود شروط مناسبة للحياة تماثل تلك الموجودة على األرض ،فنجد مثال أن
مناخ كوكب الزهرة Venusكثيف الضباب دائما مما يجعل من الصعوبة بمكان
وجود حياة نباتية أو كائنات حية أخرى على عكس المريخ الذي يتميز بوجود أشكال
هندسية فوق سطحه يمكن أن تنسب إلى فعل الكائنات الذكية ،كما أن هناك تغيرات
في لون سطح المريخ يمكن أن تكون قد نتجت عن نمو المحاصيل الزراعية المروية
،كما توجد به قمم ثلجية تمتد وتنكمش مع قدوم الشتاء هناك ثم الصيف ،ومن ثم
قد تكون القنوات التي شوهدت هناك قد امتألت بالماء الناتج عن ذوبان الثلوج ،ومن
ثم فإن ذلك قد يكون بمثابة برهان على وجود كائنات حية فوقه ولكن من المؤكد (
إذا صح ذلك ) أن تكون مختلفة عن حياتنا األرضية من عدة جوانب ولذلك فمن
غير الممكن زراعة النباتات األرضية ذاتها على القمر أو المريخ مثال نجد أن كتلة
المريخ ومعظم القمر أقل من كتلة األرض ،كما أن طاقة الجاذبية على سطح أي
منها أقل من تلك الموجودة على سطح األرض .كما أن الضغط الجوي الموجود
على سطح القمر أقل بكثير من الموجود على األرض نظ ار النعدام الهواء هناك ،
ومن ثم وزن جسم الكائن الحي وأجزائه وسوائله تكون ـ في حالة وجودها _ أقل
85
بكثير هناك _ واذا كان من الممكن إرسال حيوانات أرضية أو بشر لتعيش هناك ،
فستكون غير قادرة على الحصول على الهواء الكاف للتنفس ،أما الغازات الذائبة في
الجسم فسوف تتمدد وتعمل على الضغط على أجهزة الجسم الحيوية ومن ثم إتالفها
،كما أن القلب سوف يدفع الدم بقوة عبر األغشية واألوعية الدموية األمر الذي
سيؤدي إلى النزيف الحاد من األذنين والعينين والرئتين وبالتالي اختناق الكائنات
الحية بالدم ،ومن ثم فإذا افترضنا أن إنسانا ما سافر للعيش على المريخ فسوف
يلقى حتفه هناك بسبب وزنه ،إذن فالحياة على المريخ تختلف عن الحياة على
األرض ،فالكائنات الحية هناك قد ال تستطيع التناسل فيما بينها.
واذا افترضنا وجود نمط ما من الحياة فمن الممكن أال تعتمد على مركبات كيماوية
معقدة مثل التي توجد في الكائنات الحية األرضية التي تتكون من الكربون
والنيتروجين واألكسجين والعناصر األخرى ،فمن الممكن أن نتصور السليكون
Siliconمثال وهو يلعب دور الكربون ،والكبريت وهو يأخذ دور األكسجين مثال في
ظل مركبات يمكن أن تدعم عمليات الحركة وبناء الخاليا البروتوبالزمية في ضوء
وجود درجات مختلفة من الوعي والتكاثر وفي ظل إيقاع مختلف ودرجات ح اررة
وضغط مختلف .
وأيا كان نمط أو شكل الكائنات الحية الموجودة في الكواكب األخرى غير األرض ،
فهناك العديد من الشواهد واألدلة التي تثبت إمكان وجود الحياة فيها ومن هذه األدلة
:
86
متعاقبة مضيئة بضوء عجيب جعل في األماكن القراءة والتقاط صور حتى على
شواطئ المحيط األطلسي.
وبعد 45عاما ،أي في عام 0158أثبت عالم روسي وهو البروفيسور ليا ونوف أن
ذلك لم يكن جرما سماويا وانما سفينة كوكبية آتية من كوكب آخر وارتطمت باألرض
وتحطمت .
ب ـ في ربيع عام 0158وجد (العالم كونتيته) بالواليات المتحدة كرة معدنية غريبة
قطرها متر وفي داخلها أسطوانة تدور بسرعة كبيرة ،وتم نقلها إلى المعامل لتحليلها
وأكدت النتائج أنها مصنوعة من الكوبالت في حالته الطبيعية النقية وهذا المعدن ال
وجود له على األرض في حالته الطبيعية ،مما دعا إلى االعتقاد بأنها من كوكب
آخر .
ج ـاالنفجار الذي وقع عام 0141في المريخ وأهتم به الفلكي الياباني (تسونيو
ساهيكي) ،والذي أكد أنه حدث بواسطة مخلوقات ذكية وانتهى إلى أنه إما أن سكان
المريخ هم الذين أحدثوه واما أن جنسا آخر جاء من كوكب آخر أمكنه أن يضع
قدمه على المريخ .
د ـأوضح د .أ .س .سليفر العالم الفلكي الذي كان قائدا للبعثة التي أرسلتها الجمعية
الجغرافية األهلية بالواليات المتحدة عام 0154لتصوير المريخ من جنوب أفريقيا أن
المناطق المعتمة فوق سطحه والتي تشغل مساحة 211ألف ميل مربع هي نبات
حي وأن هذه المساحة ليست ثابتة مما يدل على أن الفاصل بين الصحراء والمناطق
المعتمة متغير ،ومن ثم يؤكد أن هناك حياة ،بشكل ما ،فوق سطح المريخ ،كما
أوضح علماء آخرون أن ماء المريخ يبلغ خمس اليابس وأن قطبيه مغطيان بطبقة
من الثلج.
و ـحدثت العديد من الحاالت التي تثبت أن األرض يزورها رجال من الفضاء أو من
كواكب أخرى ومنها ظاهرة األطباق الطائرة التي تزور األرض ،بل أنه تم االحتفاظ
87
بحجر تم أخذه من قائد طبق طائر عام .0154وكان لون هذا الحجر وردي
اللون في البداية ثم تحول إلى األخضر ثم إلى األصفر وهو ملحي المذاق وقابل
لالحتراق وتوجد على سطحه رسوم كالكتابة الهيروغليفية ...ويبدو أن تلك األجسام
الطائرة كانت موجهة بفعل كائنات ذكية ولها القدرة على التفكير ،وأن هذه األجسام
تطير بسرعة كبيرة ولها القدرة على اعتراض الطائرات .
88
المحاضرة الثانية عشرة :تطور الحياة على سطح األرض :
أوضحنا فيما سبق أن العلماء رسموا صورة عامة لكيفية تطور الحياة من المادة
الميتة ،واذا كان فيها بعض الثغرات يمكن بمزيد من األبحاث معرفتها وتوضح تلك
الصورة ،أن بداية تشكل الحياة كان بمحض الصدفة من خالل االمتزاج الكيماوي
لبعض العناصر في البحار القديمة ،ولكن اتجاه نمو أشكال الكائنات الحية بعد ذلك
لم يكن عارضا ،ولكنه وبفعل بعض العوامل التي تم عرضها سلفا تطورت هذه
الكائنات الحية ولعب مبدأ الصراع من أجل البقاء ،ومن ثم البقاء لألصلح
Survival of the Fittestدو ار هاما في تلك العملية .
وترى الكثير من الدراسات أن الحياة وجدت على األرض على مدى أكثر من 2
بليون عام ،وعلى مدى ثالثة أرباع هذا الوقت ،تطورت الكائنات الحية ،من
الكائنات وحيدة الخلية إلى النباتات والحيوانات متعددة الخاليا التي تعيش في البحر
،ولكننا ولسوء الحظ لم نعثر على حفريات تمثل هذه الفترة إما ألن األجسام اللينة
لهذه الكائنات قد تعفنت تماما ،واما ألن الصخور التي كانت تعيش فيها قد دفنت
في األعماق السحيقة في البحار ومن ثم يصعب العثور عليها ،واما أنها تكون قد
تآكلت بفعل تدفق المياه ،ولكن هناك العديد من الحفريات الموجودة في الصخور
والتي تكونت خالل النصف بليون عاما األخيرة وهي توضح لنا مسار عملية
التطور .
فمنذ خمسمائة مليون عام انقسمت الكائنات الحية إلى نمطين :نباتات وحيوانات .
وكانت النباتات األولى تشمل العديد من أنواع الطحالب التي تعيش في البحر ،وعلى
الجانب اآلخر طورت الحيوانات العديد من األشكال الحية من الالفقاريات مثل
األسفنج والديدان وسمك الهالم أو قنديل البحر Jelly Fishوالحيوانات ذات الثالث
فصوص والتي تشبه حيوان السرطان الذي يأخذ شكل حذوه الحصان .
89
وتشير التقديرات الزمنية لظهور الكائنات الحية إلى أن الميكروبات ظهرت على
األرض منذ 451مليون سنة ،واألسماك الخالية من الفكوك منذ 411مليون سنة
والعقارب Scorpionsمنذ 851مليون سنة ،واألسماك العظيمة منذ 811مليون
سنة والبرمائيات منذ 871مليون سنة ،والزواحف Repulraمنذ 251مليون سنة
والحشرات المجنحة منذ 225مليون سنة ،والجنادب Grasshoppersمنذ 205
مليون سنة ،والطيور منذ 041مليون سنة ،والحيوانات ذات الجراب ـ الكيس ،
مثل الكنغر منذ 31مليون سنة ،كما ظهر اإلنسان الحالي منذ أقل من نصف
مليون سنة وكان ذلك عندما انقرضت العديد من األنواع األخرى وعندما سيطرت كل
األنواع الموجودة حاليا على األرض لفترات طويلة من الزمن .
ومن ناحية أخرى ،غزت النباتات األرض منذ حوالي 861مليون عام وأخذت في
البداية طحالب Mossesوس ار خس Fernsوعاشت على األرض ألكثر من مائة
مليون سنة ،ومنذ حوالي 255مليون عام ،ظهرت النباتات المخروطية ألول مرة ،
ومنذ 065مليون عام ظهرت النباتات المزهرة .
91
األوكسجين باإلضافة إلى أن تلك العملية تتطلب العديد من المراحل التطورية ،ومن
ثم كان يتعين على الكائنات العضوية األولى أن تجد طريقة لتخزين الطاقة وتحويلها
إلى شكل يسهل استخدامه .
ويتبين لنا ن هناك حقيقة تطورية هامة من وجهة النظر البيولوجية واالنثروبولوجية
مؤداها أن األشكال العليا في الكائنات الحية قد صدرت خالل ماضيها التطوري عن
األشكال السفلى ،وقد تفرع التطور العضوي والحيواني منذ عصور سحيقة إلى
فرعين :يوصل أحدهما إلى عالم الحشرات ،بينما يوصل الفرع الثاني إلى عالم
الحيوانات الفقارية هذه حقيقة تطورية تبدأ بها قصة الحياة على األرض ،وبعد
ظهور الفقريات حدث تفرع تطوري أدى إلى الطيور من ناحية والحيوانات الثديية من
ناحية أخرى ،كما أن التطور االجتماعي يمكن النظر إليه على أنه امتداد للتطور
العضوي ،حيث نالحظ أن أرقى أشكال الحياة االجتماعية قد ظهرت بين الحشرات
والطيور والثدييات ،ومن ثم فإن اإلنسان نفسه بأنواعه الحالية وأشكاله المنقرضة ،
قد صدرت أصال عن هذه العملية الكبيرة في سلسلة التطور الحيواني.
فال ريب إذن في حدوث التطور التي أثبتته فروع العديد من العلوم الحديثة ـ كما
سنبين فيما بعد ـ فهو سنة الوجود كله سواء الكون أو األرض أو الكائنات الحية أو
اإلنسان ،وال ريب أيضا في وجود العديد من الصالت بين الكائنات الحية خالل
عملية تطورها ،كما ال يمكننا أن نغفل العالقة بين تلك العملية والبيئة التي عاشت
فيها والتي أثرت بحق في عملية التطور ووجهتها وجهة معينة.
لقد تم توضيح عملية التطور التي سارت فيها الكائنات الحية من البساطة إلى التعقيد
ومن عدم تخصص أعضائها إلى التخصص الدقيق ،ومن الحاالت المعقدة إلى
األكثر تعقيدا كاآلتي :
هي كائنات حية تتميز بوجود حبل عصبي يقوم بوظيفة العمود الفقري أو النخاع
ألشوكي Spinal Cordفي الفقريات الراقية ،وفي تلك الحبليات يتحكم هذا الحبل
العصبي في الحساسية ووظائف الحركة والنمو ومن ثم تزداد الوظائف العضوية
تخصصا .
92
عالية من التطور وخاصة فيما يتعلق بحاستي السمع والبصر وهي تتنفس إما
بالخياشيم أو الرئتين .
والفقريات هي كائنات حية ذات أجهزة عضوية متخصصة ،حيث يظهر الجهاز
العصبي والهيكل العظمي وأعضاء الحس وأعضاء التنفس ،كما تتميز بوجود الدورة
الدموية التي يتحكم فيها القلب ،ومن الفقريات المشهورة :األسماك ،الحيوانات
البرمائية والزواحف والطيور ،ثم ظهرت أخي ار الثديات Mammalsوهي أرقى
الكائنات العضوية .
والفقريات هي إما كائنات من ذوات الدم البارد مثل األسماك والزواحف والبرمائيات
واما كائنات أرقى من ذوات الدم الحار Warm Bloodednessمثل الطيور
والثديات وهي فقاريات راقية ،وليست الطيور من الثديات بل ظهرت في وقت متأخر
نسبيا عن الزواحف وان اكتسبت الدم الحار كالثدييات تماما .
وهناك بعض الخصائص العضوية والتشريحية التي تتميز بها الفقريات ،وهي أنها
كائنات عضوية تتميز بوجود الزوائد الحركية مثل الزعانف واأليدي واألرجل
واألجنحة ،وهناك الزوائد الواقية مثل الريش أو الجلد أو القشور أو الشعر أو الفراء
،كما يوجد هيكل داخلي ،كما يتوافر لها جهاز عصبي وجهاز بولي وتناسلي .
وهي كائنات عضوية ال تبيض وانما تستطيع الحمل والوالدة لما لها من مشيمة
، Placentaفالثدييات هي الكائنات المشيمية األولى التي تحمل وتلد وترعى
صغارها وهي كالطيور من ذوات الدم الحار ولها قلب مكون من أربعة حجرات
وتغذي صغارها باللبن ،كما تتعقد وظائف الجهاز العصبي عندها وتظهر األسنان
والقواطع واألنياب واألضراس ،ولها تجويف صدري منفصل عن البطن بحاجز
صدري بطني يسمى (الحجاب الحاجز) .
93
وتنقسم الثدييات إلى :مشيميات وجيبيات وثدييات واضعات البيض ،وهي كائنات
وحيدة المخرج وهي بيوضة مثل آكلة النمل ،أما الجيبيات فتضع صغا ار ناقصة ويتم
تكوينها في جيوب موجودة على بطن األنثى مثل الكنغر والسنجاب ،أما المشيميات
فهي ثدييات ولودة وأهمها آكلة الحشرات والقارضة وآكلة اللحوم وذوات الخرطوم ..
والرئيسيات وهي أرقى الثدييات .
والثدييات الراقية تتميز بسمو الرأس أو الجمجمة بالنسبة للفك حيث يوجد اختزال
للبوز ،وتتميز الرقبة بوجود سبع فقرات عظمية متمعضلة وتوجد الحلمات الثديية في
الصدر أو في البطن ،وهناك حاالت استثنائية توجد فيها الحلمات في الفخذ كما هو
الحال في الحيوانات ذات الحافر مثل األغنام واألبقار والماعز.
واأليدي عند الثدييات مهيأة للقبض على األشياء لفحصها ولها ترقوة وهي خاصية
الزمة للتسلق في الحياة الشجرية ،كما تتميز بوضع العينين إلى األمام نظ ار الختزال
البوز .
والثدييات فصيلة تتألف من ثالث عشرة رتبة ،مثل رتبة الحيتان والدالفين ورتبة
وحيدة المخرج ( Molesمثل خلد الماء في أستراليا) ورتبة ذات الحافر مثل الحصان
واألغنام ورتبة القراضة (كاألرنب والفأر) وآكلة الحشرات Insectivorsكالقنفذ ،
ورتبة عديمة األسنان (مثل آكلة النمل) ورتبة ذات الجيب الكنغر ،وآكلة اللحوم
(كاألسد والنمر) ورتبة الوطواط وهي ثدييات طائرة ،ورتبة ذات الخرطوم (كالفيل)
ورتبة كلب البحر ،وعرائس البحر وأخي ار نصل إلى أرقى رتبة في الثدييات وهي
الرئيسيات .
94
و ـالرئيسيات : Primates
إن كل الرئيسيات األولى المعروفة هي حيوانات صغيرة ،وقد بدأت في البداية في
المعيشة الشجرية التي تلزم خفة الوزن ،ولكن مع مرور الوقت حدثت تغيرات
تطورية ،فزادت أحجامها مثلما حدث في الغوريال والتي تزن ذكورها البالغة 011
رطل ،ومثل هذه الحيوانات الكبيرة غير مالئمة للحياة على األشجار وسكناها،
وحتى الحيوان الذي يصل وزنه إلى ثلث هذا الوزن كان يلزمه تطوير أرجل تتحمله
ولكن مع مرور الوقت ،زادت أحجام هذه الحيوانات وعاشت على األرض وتطورت
أجسامها للحياة األرضية وأصبحت أرجلها أطول ،وتم تكوين رابط قوي عند مفصل
الفخذ والقدم ،وتخلصت األرجل وخاصة الطرفان األماميان من مهمة اإلمساك
باألغصان وتكيفت مع المهمة الجديدة وهي حمل الجسم ،ويمكن مالحظة هذا
االتجاه التطوري في الغوريال والتي تعتبر أقدامها أكثر شبها بأقدام اإلنسان مقارنة
باألنواع األخرى الشبيهة باإلنسان ...ومهما يكن من أمر ،فإن أسالفنا القديمة
المنتمية إلى الرئيسيات كانت كائنات تسكن األشجار ،وكانت في الوقت ذاته أسالفا
مشتركة للبشر والقردة العليا على السواء ،وعلى مدى فترة طويلة تماثلت خطوات
عملية التطور لدى كل من البشر والقردة العليا ،كما أصبحت هذه الكائنات أكبر
حجما ونمت لها أفخاذ كثيرة بشكل لم يسبق له مثيل.
وخالل عصر الميوسين ،أصبح بعض األعضاء كبا ار في الحجم ولم يعد يناسبهم
المعيشة فوق األشجار وبدأت تتكيف مع المعيشة األرضية ،وقد طورت أحد هذه
األنواع التي تعيش على األرض ،عادات أكل لحوم الفرائس وتشعبت من ساللتها
األولى وزاد أحجام أمخاخها وأخذت وضع الوقوف المستقيم وكان ذلك بداية لساللة
أشباه البشر التي تفرعت منها عدة فروع في أواخر عصر الميوسين Miocene
والبليوسين ، Plioceneووصلت هذه الفروع إلى مستوى اإلنسان خالل النصف
95
الثاني من عصر والبليوسين وأدت إلى ظهور عدة أنواع ،تطور أحدها إلى اإلنسان
الحديث وأنتشر هذا النوع وعمل على إبادة منافسيه وتحول إلى سالالت مختلفة) ( .
واذا كانت الثدييات تمتاز بحاسة الشم فإن الرئيسيات تفوقها جميعا في الحاسة
البصرية حيث تتميز بوجود القدرة على الرؤية البصرية المزدوجة المجسمة مع القدرة
على تحديد المسافات وهذا ما يسمى بثنائية اإلبصار ،كما تتميز بوجود قدرة كبيرة
في تحديد األلوان ،ودرجة عالية من الذكاء وسرعة اإلدراك والنشاط الكبير .وهي
كائنات قصيرة البوز Muzzleنظ ار الختزال بروز الفم واألنف ..وفيها أيضا أتاحت
الترقوة Collarboneلليد القدرة على الحركة والتسلق والقبض على األشياء نظ ار
لتوافر بطون اليد وامتالء األجزاء الداخلية لألصابع ،كما تتميز األصابع بوجود
األظافر التي تغطى أعلى هذه األصابع بدال من المخالب الجارحة التي تميز الطيور
الجارحة والثديات الدنيا والمفترسة ،وكل هذه المالمح أتاحت لها الفرصة أن تتكيف
مع بيئاتها الشجرية بتسلقها وانتقالها في حياتها وحركتها الدائمة بين األشجار .
وقد اعتدلت القامة إلى حد ما في الرئيسيات الراقية ومنها اإلنسان والشبيه باإلنسان
( )Manlikeنظ ار لتعامد الثقب ألمؤخري Foramen Mangnumالموجود في
الجمجمة ،حيث يتجه هذا الثقب إلى الخلف في الثدييات الدنيا ،كما نجده مائال في
الثدييات الراقية كما هو الحال في القردة مثال ،أما في اإلنسان فنجده رأسيا حتى
يتصل مباشرة بالعمود الفقري .
أ ـالذناب أو عفريت الشجر Tree Shrewوهو حيوان شبيه بالفأر يأكل الحشرات.
جـ عائلة ليمور الهند الشرقية : Tarsiersوهي حيوانات ذات عيون بيضاوية
وأصابع معروقة ) بها عروق ) وتقطن بورنيو والفلبين وسومطرة والهند الشرقية ،كما
96
يعتبر ليمور الهند الشرقية من الحيوانات الحفرية الحية ،حيث عثر على الكثير من
ليمورات الهند الشرقية في الحفريات القديمة .
د ـ عائلة قردة العالم القديم : The Old World Monkeysوهو نوع منقرض ،إال
أنه عثر على بعض األنواع من قردة أفريقيا مثل البابون ( ) Baboonفي حفريات
قديمة .
هـ ـ عائلة قردة العالم الجديد ،وهي تقطن أمريكا( .قردة أمريكا)
97
المحاضرة الثالثة عشرة :تطور اإلنسان ..وظهور اإلنسان العاقل:
لقد أوضح العلماء وجود العديد من النظريات التي تفسر نشأة وتكون الكائنات الحية
،وان نظرية الخلق الخاص ،وهي من أقدم هذه النظريات والتي تمثل في الوقت ذاته
وجهة نظر األديان المختلفة ،ومنها بالطبع األديان السماوية ،والتي أوضحت خلق
سيدنا آدم من التراب ومراحل ذلك ونفخ اهلل تعالى من روحه في هذا الكائن ،حتى
سرت الحياة في جسده ،ومن ثم فاإلنسان يتكون من جسد وروح ،وكانت بداية
حياته في الجنة ،وأعطاه اهلل تعالى العديد من التعليمات التي يجب إتباعها والنواهي
التي يجب االبتعاد عنها ـ لحكمة يعلمها اهلل سبحانه وتعالى ـ ومنها عدم االقتراب من
إحدى األشجار وعدم أكل ثمارها ،ولكن إبليس غوى آدم باألكل منها وعصيان
أوامر ربه ،وكان عقابه الخروج من الجنة والنزول إلى األرض للعمل والكد والكفاح
ومنذ ذلك الوقت دخل اإلنسان في صراع مع قوى الشر التي يمثلها إبليس وكتب
الموت على بني آدم ،وبدأت ذرية آدم في الحياة على ظهر األرض والتكاثر من
خالل التناسل ...الخ.
وفي ذلك تناولت العديد من اآليات القرآنية هذه النقطة فيقول تعالى َ ) :ولَقَد َع ِهدَنا
آد َم ِمن قَبل فََن ِس َي َولَم َن ِجد لَه َعزما َ #وِاذ قلَنا لِل َم َالئِ َك ِة اسجدوا ِآل َد َم فَ َس َجدوا إِ َال
إِلَى َ
ك فَ َال يخ ِر َجَنك َما ِم َن ال َجَن ِة فَتَشقَى # آدم إِ َن َه َذا َعدو لَ َ
ك َولِ َزو ِج َ يس أََبى #فَقلَنا َيا َ ِ
إِبل َ
ك َال تَظ َمأ ِفيهَا َوَال تَض َحى #فَ َوس َو َس إِلَي ِه ع ِفيهَا َوَال تَع َرى َ #وأََن َ
ك أ ََال تَجو َ
إِ َن لَ َ
ك َعلَى َش َج َرِة الخل ِد َوملك َال َيبلَى #فَأَ َك َال ِمن َها فََب َدت آدم َهل أَدلُّ َال َشيطَان قَا َل َيا َ
ِ ان َعلَي ِه َما ِمن وَر ِ ط ِفقَا يخ ِ
آدم َرَبه فَ َغ َوى #ث َم ق ال َجَنة َو َع َ
صى َ َ صفَ ِ لَه َما َسوآته َما َو َ َ
طا ِمنهَا َج ِميعا َبعضكم ِلَبعض َعدو ). اب َعلَي ِه َو َه َدى #قَا َل اهبِ َ
اجتََباه َرُّبه فَتَ َ
وعلى الجانب اآلخر ،تظهر نتائج العلم الحديث والنظريات العلمية وخصوصا
نظرية التطور أن اإلنسان العاقل ـ الحالي ـ لم يظهر على سبيل الطفرة ـ أي بين
98
عشية وضحاها ـ وانما صدرت خصائصه الفيزيقية منذ حقب بعيدة تمتد إلى أصول
سحيقة عبر الزمن وتشعبت جذورها في ماضي ما قبل التاريخ ،وكل مرحلة بيولوجية
من تلك المراحل هي نتيجة تطورية لما قبلها وهي مقدمة ضرورية لما يصدر بعدها
من مراحل تطورية جديدة ،وعموما ،تنقسم المراحل التي ظهر فيها اإلنسان األول
إلى مراحل تطورية فيزيقية ثالث ،مر بها اإلنسان ككائن طبيعي عضوي وهي :
المرحلة الثانية :وهي مرحلة أكثر قربا من اإلنسانية وتسمى Near Human
ومن ناحية التحليل الكيميائي ،تتميز اآلدميات بوجود فصائل دموية مشابهة إلى حد
كبير لإلنسان الحالي تميزت بالقابلية للتأثر حيث ازدادت درجة تقبل اآلدميات ألنواع
من األمراض والعلل .ويبدو أن الطريق الرئيسي الذي سلكته اآلدميات قد تفرع منذ
99
زمن سحيق يقدر بحوالي 05مليون سنة إلى فرعين :يؤدي أحدهما إلى حياة
الشجر ،بينما أدى الثاني إلى حياة األرض.
ومن ناحية أخرى ،تعتبر القردة العليا عديمة الذيل والتي تسمى الشبيه باإلنسان
Anthropoidsهي أقرب األقرباء لإلنسان ،وهناك أربعة أشكال منها وهي:
الشمبانزي والغوريال واألورانج أوتان والجيبون ،ونجد أن الشمبانزي والغوريال أكثر
شبها باإلنسان من خالل الصفات التي تتميز بها :
0ـ فبنائها يماثل تقريبا بناء اإلنسان بهيكلها العظمي وأعضائها الجسمية وحتى
أمخاخها رغم أنها صغيرة الحجم ،إال أنها تشبه مخ اإلنسان بشكل كبير .
2ـ أن حواس األبصار والسمع والشم لديها تماثل حواس البشر .
8ـ أن عملياتها وامكاناتها العقلية تطابق ما لدى األطفال في عمر الثالث أو األربع
سنوات .
4ـ التشابه الكبير بين دمها ودم البشر من ناحية التركيب الكيميائي .
ويسود االعتقاد اآلن أن كال من البشر وأشباه البشر قد تطوروا من نفس النوع
الصغير الذي كان يقطن األشجار ،ولكن النقطة التي انفصل عندها خط اإلنسان
عن الشبيه به ما زالت موضع جدل ،ويؤرخ بعض العلماء لهذا االنفصال منذ
بدايات ظهور رتبة الرئيسيات ،ومما يؤكد ذلك أن التشابهات في التركيب الكيميائي
للدم بين اإلنسان والشبيه باإلنسان كبيرة لدرجة أنه من الصوبة بمكان االعتقاد بأنها
نتيجة للتطور المتوازي المستقل لكل منها ،كما تجدر اإلشارة أيضا أن اإلنسان ال
ينحدر من الرئيسيات التي تندرج تحتها قردة العالم الحديث ،فال يدخل اإلنسان في
نطاق عالم قردة اليوم ولكنهما معا ينحدران من أصل واحد يتميز كل منهما على
اآلخر في سلسلة من التطور تجمع بين القرديات Pomgidacواآلدميات
Hominidae
111
هذا وقد صدرت العديد من الدراسات ووجهات النظر ،المتباينة في بعض
التفاصيل التي تناولت قضية تطور الكائنات الحية على األرض ،وكيف انبثقت كل
منها من التي سبقتها ومهدت للتي جاءت بعدها ،ولكنها جميعا تشترك في الخطوط
في استنادها إلى حقائق نظرية التطور والمبادئ التي قامت عليها ،ومن خالل جمع
الشواهد واألدلة االركيولوجية وآثار تلك الكائنات منذ الماضي الغابر ،واستخدام
أحدث تقنيات العلوم الحديثة مثل الجيولوجيا والفلك والكيمياء والفيزياء وحتى الهندسة
وعلم األجنة والتشريح والطب والجغرافيا ...الخ .وكذلك العديد من األدلة العقلية
المنطقية التي تساهم في جمع شتات هذه المعلومات واألدلة بما يؤيد نظرية التطور
وال عجب إذن في االختالف في التفاصيل الدقيقة ولكن كل هذه الدراسات تتفق في
بداية الكائنات الحية في صورة الكائنات وحيدة الخلية وانتهائها بظهور اإلنسان
العاقل ،كما أنها ال تغفل العالقة الوثيقة بين اإلنسان وأقرب الكائنات إليه وهي
القردة العليا .
ومما تقدم اعاله ،يمكن القول أن كل البشر الذين يعيشون يشكلون نوعا
واحدا وهو اإلنسان العاقل Homo Sapiensويعتبر هو النوع الوحيد الباقي من
اإلنسان ،وتوضح األدلة الحفرية أنه كان يوجد أكثر من نوع من البشر األذكياء
Genus Homoوعالوة على ذلك فإن أشباه البشر Near – Menوهي
المخلوقات التي تم تصنيفها من خالل أشكالهم المتحجرة اآلن على أنها أقرب للبشر
من القردة العليا Apesيتم إدراجهم ضمن عائلة البشريات ، Hominidaeواآلن
يسود االعتقاد أن النوع المسمى Sapiensهو النوع الوحيد من الـ Homoوفي
الوقت ذاته فإن الـ Homoهو النوع الوحيد الباقي من عائلة الـ Hominidaeوعموما
،وفي إطار هذه العملية التصنيفية ،يجد اإلنسان نفسه اآلن إلى جانب قردة العالم
الجديد والقديم والقردة العليا الموجودة اآلن فقط في أفريقيا وآسيا .
111
وتعتبر رتبة الرئيسيات أكثر عمومية وتتضمن كل األشكال في رتبة
الـ ، Anthropoideaإلى جانب قردة الترسين ( Torsicrsوهي قردة صغيرة من
القردة الشجرية) الليمورات ( Lemursحيوانات من فصيلة القردة طويلة الذنب) .
وعموما فنحن البشر وكذلك الطيور والزواحف ،تنتمي جميعا إلى الفقاريات
Vertebrataألن كل منا لديه أعمدة فقارية ،واذا كانت االختالفات بين األنواع
تعتبر قليلة ،إال أنها هامة إذ ترتب عليها صعوبة التزاوج بين األنواع المختلفة.
112
المحاضرة الرابعة عشرة :السمات الطبيعية والفيزيقية لإلنسان العاقل:
إذا كان هذا الوضع بالنسبة لإلنسان العاقل الذي ننتمي إليه جميعا ،فان
هناك بعض السمات الطبيعية والفيزيقية بيننا وبين أقرب الكائنات إلينا ،فالبد من
تساؤل هنا اآلن :هل يعتبر اإلنسان الحالي كائنا فريدا ومنفردا ؟ نعم وذلك لوجود
العديد من السمات الطبيعية والفيزيقية والثقافية التي يتمتع بها دون غيرة ..واذا كان
األمر كذلك فما هي تلك السمات والخصائص التي جعلت من اإلنسان كائنا متمي از
بيولوجيا ثقافيا واجتماعيا؟ وما هو دور ذلك التميز بقصة صراع اإلنسان مع
الحيوانات األخرى والتي انتهت بالسيطرة المطلقة لإلنسان على البيئة الفيزيقية وتمكنه
من المعيشة في جميع المناطق الجغرافية والبيئية ذات األجواء المتباينة بل والعمل
على اندثار وفناء الكثير من تلك المخلوقات خالل عملية الصراع هذه ؟
هناك عالقة وثيقة بين التكوين الفيزيقي والفسيولوجي لإلنسان والثقافة التي
اخترعها واستطاع من خاللها أن يبسط هيمنته على مشارق األرض ومغاربها واذا
كان التركيب الفيزيقي لإلنسان مختلف عن وضعه الراهن ،ولذلك اختلفت أنماطه
السلوكية والثقافية إلى حد كبير .فما هي إذن السمات الفيزيقية لإلنسان العاقل ؟
الواقع أنه توجد لهذا اإلنسان العديد من السمات الفيزيقية والثقافية الخاصة به
والتي تميزه عما عداه من المخلوقات األخرى وهي كمايلي :
فاإلنسان يقف ويتحرك على قدمين يماثالن األرجل الخلفية لمعظم الحيوانات
ذات األربعة أرجل ،وهو ليس الكائن الوحيد الذي يمكنه الوقوف على رجليه
الخلفيتين فالكنغر يقضي معظم وقته في هذا الوضع ،ولكن التطور ترك الكنغر
بأطراف أمامية صغيرة غير مالئمة لالستخدام بشكل يماثل استخدام اإلنسان لذراعيه
أما الحيوانات األخرى مثل السناجب Squirrelsفيمكنها أن تقف بشكل مستقيم
(رأسي) وتستخدم أطرافها األمامية ولكنها ال تستطيع التحرك عند وقوفها على
113
أطرافها الخلفية ...والطيور تستطيع أن تقف في وضع معتدل (رأسي) ولكن عملية
التطور التي تعرضت لها أدت إلى استبدال أطرافها باألجنحة مما أفقدها القدرة على
اإلمساك والقبض على األشياء أو رفعها من األرض في مقابل ذلك استطاعت أن
تطير ...وأقرب أقارب اإلنسان هي القردة Monkeysوالقردة العليا Apes
تستطيع أن تقف وتتحرك على قدمين ،ولكن البناء العام ألجسادها يجعل هذه
العملية صعبة التحقيق وتقتصر فقط على حاالت اللعب أو عندما يهددها خطر ما .
وبصفة عامة ،فإنها تسير على أرجلها األربع وأن أطرافها األمامية (الرجالن) تسمح
لها بالتحرك بشكل مماثل للحيوانات األخرى ذوات األربع ،ولكن هذه القدرة على
التحرك على كل األطراف األربع قد قيدت حرية أطرافها األمامية وساعدتها على
االحتفاظ بأذرعها الطويلة مقارنة بأجسادها .
ولكن على خالف تلك الكائنات ،فإن اإلنسان يستطيع أن يمشي ويعدو
ويجري على قدميه ،وهذا أتاح له أطرافا متمايزة وسبب ذلك هو انحداره من القردة
العليا التي كانت تسكن األشجار والتي كانت معيشتها الشجرية تتطلب وجود أطراف
أمامية يمكنها من خاللها اإلمساك باألشياء والتأرجح عبر فروع األغصان ،إلى
جانب وجود أطراف خلفية للمساعدة على التسلق والمشي وقد انتقل هذا التمايز
بدرجات متفاوتة للعديد من رتبة الـ Anthropoideaولكنها اكتملت عند اإلنسان.
في نهاية الطرفين األماميين لإلنسان توجد يدان ،والشيء نفسه نجده عند
القردة العليا حيث توجد لديها أيد وليس مخالب مثل الثدييات األخرى ،ولكن اإلنسان
تفوق عليها جميعا في أن يديه متعددة االستخدامات ،والسمة الرئيسية فيها هي
وجود اإلبهام الذي يسمح لإلنسان بالقبض بقوة على األشياء المختلفة ،واذا قارنا يد
اإلنسان بيد الغوريال القصيرة ،نجد أن اليد البشرية تستطيع اإلمساك بالعمود أو
عجلة قيادة السيارة وغيرها .
114
ثالثا :خصوصية الرؤية :
فالعين البشرية ساعدت األيدي على أداء وظائفها .فالرؤية البشرية هي رؤية
مجسمة ،حيث يمكنها تحديد المسافات واألعماق ،وهذا وضع متطور عما كان
سائدا بين القردة التي كانت تقطن األشجار ،كما تستطيع العين البشرية تحديد
األلوان واألحجام واألشكال والظالل بطريقة ال تتوافر لحيوان آخر ،وهذه المميزات
أتاحت لإلنسان القدرة على السيطرة على األشياء التي يراها بجميع أبعادها ومن ثم
أمكنه االستفادة القصوى منها ،وبالتالي فقد لعبت العين واليد دو ار هاما في تطوير
البشرية .
وهي أهم خاصية تشخيصية لإلنسان ،وهي سمة هامة لالتصال ال يتمتع أي
حيوان آخر .ولكن التجارب الحديثة مع الدالفين ( Dolphinsوهي تتشابه مع
اإلنسان في معدل حجم المخ مقارنة بحجم الجسم) أوضحت أننا لسنا متميزين
ومتفردين في قدراتنا اللغوية حسبما كان يسود االعتقاد في الماضي .فاإلنسان أو
الدولفين ليس لديه عضو خاص للغة ،واألصوات التي تتصل بها تحدثها نفس
األعضاء الموجودة ـ بشكل أو بآخر ـ في كل الثدييات وهي الشفتين واألسنان وباطن
الفك العلوي والسفلي واللسان والممر األفقي واألحبال الصوتية والرئتين .وليست
هناك ثدييات ال تستطيع إحداث األصوات المختلفة ،ولكن اإلنسان فقط هو الذي
يمكنه االتصال من خالل اللغة ،وترتكز تلك القدرة على كيفية صنع الرموز من
األصوات المختلفة ،أي أن يسبغ عليها معان معينة مرتبة في مجموعات محددة
يمكنها أن تكون مجموعة كبيرة من المعلومات من فرد آلخر .
وقد ساعدت هذه القدرة الفريدة على تطوير ثقافة بني البشر ،ومن ثم نقل
هذا التراث الثقافي من جيل آلخر وبالتالي اختزال كثير من الوقت الذي كان يمكن
قضاؤه لو بدأ كل جيل من الصفر ،فساعدت على تراكم التجارب واالستفادة من
115
تجارب اآلخرين والتي وصلت في أوج قوتها اآلن في االستفادة من معطيات المنهج
العلمي في رفاهية الجنس البشري والسيطرة الكاملة على الطبيعة ،بل والتحكم
والسيطرة على كثير من المخاطر التي تحدق باإلنسان مثل األمراض الفتاكة التي
كانت تهدد البشرية فيما مضى مثل الكولي ار والمال ريا ،بل وتمكنه أخي ار من
استنساخ كائنات حية مثل ،النعجة دوللي ،من خالل إحدى خالياها الحية ،وكذلك
استنساخ قرد آخر ،وال زالت الجهود جارية الستنساخ البشر ،على األقل إلمكانية
استنساخ أعضائهم البشرية لتكون بمثابة ،قطع عيار آدمية ،ال يرفضها الجسم
البشري ألنها ستكون مخلقة من خالياه ذاتها ...ولكن الصورة القاتمة لثورة
المعلومات واالتصاالت والثورة التكنولوجية التي ليس لها مثيل ،هي أنها قد تكون
النهاية التي سيدمر بها اإلنسان نفسه ويقضي على كل انجازاته من خالل أسلحة
التدمير الشامل والتي قد تساهم في خلق أمراض ومخاطر جديدة لم تكن موجودة من
قبل ،وكذلك تغيير الغطاء النباتي لألرض مما يترتب عليه اختالل التوازنات البيئية
وقد ظهر آثار ذلك في تآكل طبقة األوزون وهي التي تحيط بالغالف الجوي وتحمينا
من األشعة فوق البنفسجية الضارة وذلك نتيجة النشاط الصناعي المتزايد وخصوصا
المرتبط بصناعة الثالجات والمبردات عموما ،ناهيك عن اإلفراط في الكثير من
القيم والمعاني الثقافية والتأكيد المتزايد على (حرية المرء) وخاصة في أنماط السلوك
الجنسي المتحرر وبخاصة في الدول الغربية سواء االتصاالت الجنسية العادية أو
الشاذة مما نجم عنها ظهور الكثير من األمراض الفتاكة وبخاصة ،االيدز ،الذي
يحصد الماليين كل عام في شتى أنحاء المعمورة وكذلك أمراض االلتهابات الكبدية
وهي تشكل بحق تحديا كبي ار أمام مستقبل البشرية على اإلطالق.
وبقول آخر ،فقد ساعدت اللغة على تطوير أنماط الثقافة بأوضح معانيها ـ
ولكنها تعتبر سالحا ذو حدين ففيه رفاهية الجنس البشري أو تدميره.
116
خامسا :عدم التخصص الدقيق ألعضائه الجسمية:
فقد تخصص المخ تخصصا كبي ار ،وهو عبارة عن بصلة ضخمة من نسيج
عصبي يشغل الجزء األكبر من الجمجمة وهذا أدى إلى صغر حجم الفم واألنف
ومن ثم أثر ذلك على شكل الرأس في معظم الثدييات ،والجزء الصغير منه هو ،
المخ الخلفي ،وهو ال يختلف كثي ار عن األجزاء المقابلة لها في الثدييات العليا ،أما
المخ األمامي فهو أكبر بكثير عن نظيره في القردة العليا .والسمة الهامة المميزة
لإلنسان هو ،وفرة ،مادة المخ ،ومع ذلك نجد أن المخ األمامي ذاته ليس عضوا
بالغ التخصص كما يتخصص جناح الطائر لوظيفة معينة ،وقد منح المخ لإلنسان
قدرة كبيرة على التكيف ألداء عدد كبير من الوظائف المختلفة أهمها أنه المركز
الرئيسي للعمليات العظيمة التي أعطت اإلنسان قدرات لم يسبقه إليها أحد ،فالمخ
117
األمامي هو مركز هذه الوظائف المعقدة التي نسميها الذكاء ،ومن مظاهر ذلك
الذكاء الذي يختلف به عن غيره من أسالفه أو الكائنات الحية األخرى ،هو أوال:
القدرة على التفكير والتعليم والتخيل سواء للماضي أم الحاضر أم المستقبل ،وثانيا:
القدرة على إدراك أبعاد الزمن ،وثالثا :القدرة على التكيف مع البيئة والسيطرة عليها
،ورابعا :قدرة النسيج العصبي المكون للمخ على إحداث التغير الكيميائي مما يؤدي
إلى حدوث االستجابات المختلفة ..وتدل الدراسات الحديثة على أن كل األجهزة
المعقدة في المخ واألعصاب تعمل بشبكة معقدة من االستجابة للحوافز أو ال
تستجيب إطالقا إذا كان المثير ضعيفا.
و هناك عالقة وثيقة بين تطور المخ البشري من ناحية وامتالك القدرة على
الكالم (اللغة) وتطور الثقافة من ناحية أخرى ،فكبر حجم المخ وتعقد وظائفه وزيادة
شبكة األعصاب المكونة له ومن ثم زيادة المراكز ،المتخصصة فيه سواء الكالم أو
التنفس أو اإلحساس أو الرؤية ...الخ .كلها جعلت اإلنسان يمتلك العديد من
الملكات والقدرات التي ال تتوافر لغيره من الكائنات األخرى ،وجعلت من السهولة
بمكان خلق الثقافة .
ومن ناحية أخرى ،نجد أن هذه الثقافة ذاتها عملت على تغيير البناء الجسمي
لإلنسان ،فاكتشاف النار مثال ـ أدى إلى اللجوء إلى طهي الطعام ومنه اللحوم األمر
118
الذي أدى إلى عدم أهمية وجود األنياب الكبيرة القوية واألضراس (الطواحن) ومن ثم
مع مرور الوقت أدى هذا الوضع إلى صغر حجم األسنان وتهذيب شكلها ..الخ .
ومن هنا نجد محورية المخ ودوره في ارتقاء اإلنسان فيزيقيا وثقافيا .
لقد أصبح لإلنسان السيادة المطلقة على سائر األنواع األخرى من الكائنات
الحية بسبب قدرته الكبيرة على التكيف .فقدرات الكائنات الحية األخرى تقتصر على
تمكنها من الحياة في بيئات معينة ،ومن ثم تعين على كل نوع من هذه الكائنات أن
يطور وسائل خاصة الستكشاف البيئة التي تالئمه ،وقد وصلت النباتات الخضراء
إلى درجة كبيرة من التفوق في هذا الصدد إال أنها لم تتعد الكثرة العددية ،كما أن
الثدييات التي لجأت لتعيش في البحار وتتغذى على األسماك لم تعد قادرة على قتل
فرائسها على البر ،وحتى الحيوانات المفترسة مثل الذئاب والنمور استغنت عن
المعدة اإلضافية وغيرها من األعضاء الثانوية والتي كانت تساعدها على أن تعيش
على النباتات ،استغنت عن ذلك لكي تهيئ أجسامها للهجوم الغادر السريع على
فرائسها .
وهنا نجد أن تخصص الكائنات الحية قد يتضمن االرتباط ببيئة معينة على
حساب انتشارها وتغيير صفاتها للتكيف مع بيئات أخرى ،فكل نوع من الكائنات
الحية يمهد فراشه ـ كما يقول علماء البيئة ـ وعليه أن يرقد فيه ..وذلك بعكس
اإلنسان الذي أستطاع التكيف مع مختلف البيئات قديما وحديثا .
فاإلنسان ليست له أجنحة ومع ذلك نجده يطير ،وهو سباح ضعيف ومع
ذلك فهو يسافر راكبا متن البحر ويمخر تحت أمواجه ،وليست له مخالب ومع ذلك
يحفر األنفاق في األرض الصخرية ،وجسمه عار ومع ذلك فإنه يستطيع الحياة في
أي مكان ،وليست لديه أنياب وال ينفث سما ،ومع ذلك فهو يستطيع قتل أي كائن
119
حي ..وعموما فهو يستطيع أن يأتي أفعاال كثيرة ال يمكن أن يؤديها غيره من
األنواع ما بلغ تخصصها .
وأحد أسباب هذا التكيف ،هو البناء الفيزيقي المميز ،فاستقامة الرجلين
(القائمتين) وتمايز األطراف ووجود الرؤية المجسمة ورؤية األلوان وامتالك ناصية
اللغة ،كل ذلك شكل األساس لإلنجازات الفنية والفكرية الهامة ،ولكنها لم تكن ذات
قيمة لوال وجود أساس اجتماعي لها لكي تمكننا من إقامة بناءنا الثقافي والفني ،ولم
يتسنى لنا ذلك لوال وجود النزعة االجتماعية والميل نحو العيش مع اآلخرين والتعاون
معهم .ومن ثم يمكن القول أن السمة الطبيعة واالجتماعية لإلنسان لها جذورها في
خصائصه البيولوجية .فهي التي ميزته عن الحيوانات األخرى .ومن أفضل األمثلة
لتوضيح هذه النقطة هي السلوك الجنسي للبشر .فقد كان يسود االعتقاد فيما مضى
أن السلوك الجنسي لإلنسان ربط بينه وبين الوحوش ،واعتبرت الدوافع الجنسية
لإلنسان بمثابة الجانب الحيواني من كيانه ومن ثم تعرضت هذه الدوافع دوما
للتجاهل والقمع وهذا تسبب في إلحاق الضرر الروحي واالجتماعي لألجيال التي
عاشت خالل تلك الفترة .
وفي الواقع ،نجد أن النزعة الجنسية لإلنسان تعتبر إحدى سماته الحيوانية
الدنيا مثلما هو الحال في كل الثدييات األخرى ،فمع تكرار دورة خروج البويضة من
المبيض ،فإن اإلناث في معظم األنواع تصبح متقبلة لالتصال الجنسي بالذكور من
خالل الروائح التي تطلقها ،فالسلوك الجنسي لإلنسان والثدييات األخرى تحكمه
الغرائز الناتجة عن وجود الهرمونات بالجسم ،وهذه العالقات الزوجية تتيح مناخا
مناسبا الستمرار البشرية من خالل إنجاب األطفال الذين يختلفون عن صغار القردة
مثال .فعلى الرغم من أن القرد المولود حديثا يولد ناضجا إلى حد كبير مقارنة
بالطفل البشري فعظام جمجمته تكون صلبة ويمكنه القبض على األشياء والمشي
والتسلق ،بل إنه يمكنه بعد الوالدة بدقائق أو ساعات أن يتحرك إلى أعلى أو في
111
حركة دائرية وهذا على عكس الحال بالنسبة للطفل البشري ،فهو يخرج من رحم األم
عاج از تماما ،فرؤيته غير واضحة وال يستطيع تمييز األلوان ورجليه ال تتحمل ثقل
وزنه ،وال يمكنه الجلوس وال يستطيع استخدام يديه وتكون عضالته ضعيفة .
وترتب على ذلك طول فترة إعالة الطفل البشري واعتماده على أسرته حتى
يستطيع االعتماد على نفسه وهذه هي أساس تكون الثقافة اإلنسانية من خالل التعلم
حتى يمكنه إضافة الكثير إلى المعرفة اإلنسانية ،ومن ثم نصل إلى أن الثقافة تعتبر
أهم ما يميز البشر ،فهي قوة مثل الكهرباء (تتضح لنا من خالل بعض األجهزة مثل
المحركات الكهربائية أو المصابيح الكهربائية) ويمكن وصفها كمزيج من السمات
الفسيولوجية والسيكولوجية والمورفولوجية التي اجتمعت جميعا في اإلنسان.
وهنا نجد أهمية الثقافة ودورها في سيطرة اإلنسان على البيئة ،ومن خاللها
حاول أن يسيطر على العالم من خالل عدة حروب طويلة ،والمرحلة األخيرة من
هذه الحروب حدثت في أوربا وكان ذلك في عصر الباليستوسين Pleistocene
الجليدي الذي كان يتقدم فيه الجليد ثم ينحسر ،وكان اإلنسان العاقل استوائيا وبدون
شعر على جسمه وحساس للبرودة في حين نجد أن إنسان نياندرتال Neanderthal
كان شبه قطبي Sub – arcticوباستطاعته العيش في أوربا في ظروف قاسية
كتلك التي يعيشها االسكيمو اآلن ولم يعرف المالبس .وعندما تحرك الثلج شماال
للمرة األخيرة دخل أسالفنا القارة وبدأوا ينافسون إنسان نياندرتال ويحاربونه ولكنهم لم
يتزوجوا منة ،فقد كان إنسان نياندرتال يتميز بوجود شعر الفراء يكسو جسمه بعكس
اإلنسان العاقل وبمرور الوقت أنقرض إنسان نياندرتال دون أن يترك أث ار ،وأصبح
نوعنا هو الممثل الوحيد لساللة الـ . Hominidaeوفي نهاية عصر الباليستوسين
وصل أعضاء اإلنسان العاقل إلى القارة األمريكية وعاشوا على النباتات البرية الغنية
هناك وانتشروا ولكنهم لم يبدأوا في وضع أسس حضارة حتى مرور ما يتراوح بين
111
ثالثة آالف إلى أربعة آالف عام وذلك بعد أن بدأ سكان العالم القديم في بناء
حضارتهم .
وهناك العديد من العوامل التي أدت إلى نشأة هذه األجناس البشرية أهمها
عامل العزلة الجغرافية سواء البحار والمحيطات والجبال والصحاري التي عملت على
عزل هذه الجماعات التي نشأت في كل منطقة على حدة من العالم ـ ربما كانت
النشأة األولى في أفريقيا أو أوروبا أو جنوب شرق آسيا ـ فعملت كل جماعة منها
على الزواج الداخلي من بعضها البعض ،ومن ثم نقلت صفاتها الوراثية إلى األجيال
التالية التي كان يعتريها التغير على فترات طويلة من الزمن .والعامل الثاني هو
البيئة الجغرافية التي نشأت فيها كل مجموعة على حدة ،وثم حدوث العديد من
التكيفات بينها وبين البيئة ،فالبيئة االستوائية الحارة أدت إلى وجود صفات البشرة
السوداء الداكنة واألنف األفطس مثال عكس البيئة الباردة التي أدت إلى وجود
صفات البشرة البيضاء واألنف المدبب ...وهكذا و بمرور الوقت وزيادة حاالت
الزواج الداخلي أدى ذلك إلى تكريس نشوء األجناس البشرية.
112
المحاضرة الخامسة عشرة :نظرية التطور وأصل اإلنسان :
مقدمة :
هناك عدة نظريات حاولت أن تحل لغز اصل الحياة وأهم هذه النظريات
جميعا هي نظرية التطور Evolutionوالتي سنعرض جوانبها المختلفة اآلن :
معناها والمبادئ أو األسس التي ترتكز عليها ،وأشكال الحياة على سطح األرض
منذ البداية ،ثم تطور الكائنات الحية حتى نصل إلى اإلنسان والذي يمثل بحق قمة
شجرة التطور وذلك بتفرده عن بقية الكائنات الحية وسوف نلقى مزيدا من الضوء
على تلك العالقات التي تربط اإلنسان وباقي تلك الكائنات وكذلك على سمات
اإلنسان العاقل ...وأخي ار سنعرض وجهتي النظر تجاه هذه النظرية سواء المؤيدة لها
أو المعارضة وكيفية التوفيق بينها وبين التعاليم الدينية بالدرجة األولى.
حتى منتصف القرن التاسع عشر ،كان يسود االعتقاد أن كل نوع من
األنواع قد خلق مستقال ،وأن خلق اإلنسان كانت النهاية التي توجت أعمال الخلق،
وبناءا على ذلك فاألنواع ثابتة ال تتغير وال تتطور وال تتبدل ،وكل نوع خلق هكذا
منذ البداية .
وفي سنة 0351أظهر داروين خطأ هذه العقيدة وأوضح أن األنواع المختلفة
أكانت نباتات أم حيوانات ومنها اإلنسان ،قد نشأت تدرجا عن طريق االحتفاظ
بمختلف التحوالت التي تنشأ في أفراد كل منها ،وقد استغرق ذلك التحول أحقابا
طويلة جدا وفقا لما يقتضيه تأثر سنن طبيعية دائمة التأثير في طبائع األحياء ،وقد
أوضح داروين أنه بإمكان اإلنسان أن يبتكر في السالالت الداجنة من صور
مستحدثة باالنتخاب الصناعي ،بينما أمكن للطبيعة أن تستحدث مثله باالنتخاب
الطبيعي وان االنتخاب الطبيعي أبطأ أث ار في تحول ألحياء من االنتخاب الصناعي.
113
وهنا يمكن القول أن التطور Evolutionيشير إلى االنتقال البطيء من
الحالة الدنيا إلى الحالة العليا ،ويتضمن هذا المفهوم العديد من المفاهيم عن التقدم
الزمني ،فليس هناك شيء ثابت أو استاتيكي ،فالتطور يحمل فكرة االنتقال من
حالة إلى أخرى وفقا لخطة معينة ولكنه يعكس أحيانا فشل الخطة فشل وقتي وهو
يختلف في درجة سرعته أو تقدمه .فتطور أو نمو نبات من بذرة وتفتح زهرة من
برعم وتحول الجنين إلى شخص بالغ ،كل ذلك يعتبر أمثلة على أنماط سريعة
للتطور ،كما أن التغيرات والتطورات التي تحدث لكوكب ما تعتبر بطيئة جدا،
وتاريخ النجوم أو النظام الشمسي يبدو أنه يقدم تفسي ار لما يدور في العالم عموما،
وتاريخ البشرية يوضح نفس هذه العملية من الجانب الروحي والعقلي ،ومن ثم فإن
الوجود كله ـ بما فيه اإلنسان ـ يعتبر في عملية تطور مستمر عبر العصور من
األقل إلى األكثر ومن األسوأ لألحسن ومن الحسن إلى األفضل ومن الشكل األولى
البدائي إلى الكمال.
114
وأمالح الفسفور والضوء والح اررة والكهرباء قد ساعدت على تكوين مركب من
البروتين ،ولكن هذه الصدفة لم توجد اآلن ،فلن تظهر حياة بدائية جديدة في وجود
نظام قائم من الحياة وذلك ألن كليهما يمكن أن يتطور فقط من مواد عضوية معقدة
نسبيا .وهناك العديد من العوامل التي تؤدي إلى التطور ونشوء األنواع وهي :
الوراثة :ومؤداها أن الشبيه يأتي بمشابهه ،فالسناجب مثال ال تلد كالبا ،بل أـ
سناجب ،أي أن صغار كل نوع تشابه آباءها ،وينطبق ذلك على النبات والحيوان.
التحول :فأفراد كل نوع تتشابه وال تتماثل ،أي ال تكون نسخة مطابقة بـ
ألصولها ،فهي تشابه آباءها ولكن ال تماثلهم ،ففي بطن السناجب مثال ال يوجد
اثنين متماثلين تماما ،واذا تشابه الجميع حتى في اللون ،فإنها تختلف في الظالل
التي يمتد فيها اللون .
التوالد :إن ما يولد من النبات والحيوان أكثر مما يقدر له البقاء ،فالطبيعة جـ
تسرف في اإليجاد ،كما تسرف في اإلفناء.
الصراع من أجل البقاء :فكل نبات أو حيوان يظهر إلى حيز الوجود ،ينبغي دـ
له أن يسعى إلى الرزق وأن يصارع غيره على ضرورات الحياة .
البقاء لألصلح :فاألفراد الذين يكون بنائهم قويا هم أكثر قدرة على مقاومة هـ ـ
ثورات الطبيعة ،وبالتالي فهم أكثر قابلية على البقاء والقدرة على ان تنتج نسال
يرث صفاتها التي مكنته من الحياة والوجود ،وباستمرار فعل هذه العوامل الخمسة ،
أمكن لألحياء أن تعمر سطح األرض جميعا.
واذا كان تشارلز داروين هو مؤسس نظرية التطور الحديثة ،إال أن بدايات
هذه النظرية ترجع إلى القرن السادس عشر الميالدي ،ومنها نظرية أراسموس داروين
( 0780ـ ، )0312وهو جد تشارلز داروين ،وقدم نظرية باالشتراك مع العالم
الفرنسي كومت دي بوفون ( 0717ـ )0733والتي مؤداها أن األحياء تكتسب
115
صفات معينة خالل تكيفها مع البيئة ،وتنتقل هذه الصفات إلى األجيال التالية عن
طريق الوراثة ،فمثال تكتسب بعض الحيوانات المتعرضة للصدمات والجروح جلودا
تشبه الدرع ،ثم تنتقل هذه الصفة إلى أنسالها وهناك أيضا نظرية المارك ( 0744ـ
)0321وهي نظرية مشابهة للنظرية السابقة بفارق بسيط وهو أنه أعتبر حاجات
الكائن هي العامل األول في التطور ،فمثال استطال عنق الزرافة بعد دوام محاولتها
الوصول إلى أوراق األشجار العالية ،وتكيف أقدام البط بشكلها المعروف بعد
سباحتها في المياه ،وبالمقابل تضمر األعضاء التي ال تستعملها األحياء وال تحتاج
إليها .إال أن معالم وبراهين وأسس تلك النظرية اكتملت في عهد تشارلز داروين.
لقد ظهرت هذه النظرية في آفاق المفكرين في بالد اليونان في القرن الخامس
ق.م .واكتملت خطوطها الرئيسية على يد العالم دارون في القرن التاسع عشر الذي
نشر كتابه المشهور أصل األنواع Origin of Speciesعام 0351الذي تكلم فيه
عن التطور الطبيعي للكائنات الحية عبر العصور .وبالرغم من أن هذه النظرية
خاصة بعلم األحياء إال أنها استمدت أقوى براهينها من علم طبقات األرض وعلم
المتحجرات ،مؤكدة بان هناك شبه بين بعض األحياء من خالل مالحظة أن
بعضها أرقى من اآلخر في تركيبها العضوي وفي وظائفها الفسيولوجية بحيث
تستطيع ترتيبها ترتيبا تصاعديا من البسيط إلى المعقد ومن البدائي إلى الراقي .فإذا
أخذنا ظاهرة التكاثر مثال لوجدنا الكائنات الحية منها ما يتكاثر باالنقسام (الخاليا
األميبية) أو خاليا (المونيال) ومنها ما يتكاثر بالتبرعم مثل اإلسفنج والمرجان ومنها
ما يتكاثر بالزواج ومن النوع األخير ما يتم االتصال بينها خارج الجسم كاألسماك
التي تلقح بيضها بالماء ثم الكائنات التي تضع بيضها وترعاه خارج جسمها ومنها ما
يحتفظ بالبيض داخل جسمها حتى يتم تكوين الجنين ويوضع المولود ويربى حتى
يكبر ،وهناك سجل المتحجرات الذي يوضح متحجرات األحياء عبر العصور .كل
هذه األدلة والقرائن تدل على أن جميع األحياء تشترك في أصل واحد في النشأة .
116
وخالل القرن السابع عشر قام العالم اإلنكليزي وليم سمث بجمع المتحجرات
النباتية والحيوانية وسجلها وصنفها حسب الطبقات التي وجدت فيها واستنتج من ذلك
أن نفس النوع يظهر باستمرار في نفس الطبقة الجيولوجية في كافة أنحاء الجزر
البريطانية ،والحظ أن كل طبقة من الطبقات الرسوبية تمتاز بمجموعات خاصة من
المتحجرات تنفرد بها عن الطبقات التي فوقها والحظ سمث أن الطبقات الرسوبية
السفلى تحتوي على متحجرات ألنواع بسيطة من األحياء بينما الطبقات التي فوقها
تحتوي المتحجرات ألنواع أبعد من البساطة وأقرب إلى التعقيد حتى تصل إلى الطبقة
السطحية ،وهناك عالقة إحيائية وتشريحية تربط بين أحياء طبقة والطبقة التي قبلها
بالطبقة التي بعدها بحيث تؤلف سلسلة واحدة متعاقبة ومتصلة من األحياء وهذه
الرابطة هي التطور .
عالم إنكليزي اشتهر بنظرية التطور ومبدأ االنتخاب الطبيعي حول نشأة
اإلنسان .ولد في لندن عام 0311وتوفي عام 0332أهتم دارون بالتاريخ الطبيعي
أثناء دراسته للطب ثم الالهوت ،وأثناء دراسته تميز كباحث جيولوجي وعالم حيوان
وأثناء مالحظاته لألحياء قام داروين بدراسة التحول في الكائنات الحية عن طريق
الطفرات وبالتالي طور نظريته الشهيرة في االنتخاب الطبيعي التي نشرها في كتابه
المشهور (أصل األنواع) الذي نشر عام ،0351عين دارون عضوا في المجمع
العلمي الملكي البريطاني وتابع أبحاثه وتأليفه للكتب عن النباتات والحيوانات .توفي
يعد عام 0332ودفن في كاتدرائية وستمنتر إلى جانب كل من هرتشل ونيوتن .
داروين من أشهر علماء األحياء ،ألف عدة كتب في هذا الميدان لكن نظريته
المشهورة وجهت لها انتقادات كثيرة وخصوصا من قبل رجال الدين في جميع أنحاء
العالم .
117
األسس التي تقوم عليها نظرية التطور :
جميع األحياء (إنسان ،حيوان ،نبات) تنتمي إلى أصل واحد في النشأة . 0ـ
حدث تغير في األصل استلزمته ظروف البيئة المتغيرة وانتقل هذا التغير 2ـ
بالوراثة من األصل إلى الخلف .
الفرع بعده عدة أجيال يختلف عن أصله ويكون أصال آخر لفروع أخرى تتفرع 8ـ
منه .
التغير الذي أنتاب الكائن الحي لم يحدث صدفة بل حدث ليالئم تغي ار آخر 4ـ
حدث في البيئة الطبيعية مثل طغيان مياه البحر على مساحات كبيرة من اليابسة أو
انحساره وتغير في درجات الح اررة وحدوث حاالت جفاف ومطر كل هذا يحدث تغير
في الحياة الموجودة على سطح األرض.
أتضح لدوران أن أفراد النوع الواحد ال يشبه بعضه البعض اآلخر تمام الشبه 5ـ
حتى ولو كانوا توائم؟ هناك تنوع داخل أفراد النوع الواحد وهذه التنوعات تحتوي على
مجال واسع من درجات التفاوت في الصفات الوراثية الكثيرة التي يتصف بها الكائن
الحي فعندما تبدأ الطبيعة في التغير يظهر أثر هذا التغير بعد وقت طويل قد يمتد
آلالف السنين وأثناء ذلك تبدأ عملية االختبار الطبيعي فتختار البيئة أثناء تغيرها
الصفات التي تالئمها من التنوعات الموجودة داخل أفراد النوع الواحد من األحياء أي
تختار األفراد الذين يتصفون بصفات معينة تالئم ظروفها المتغيرة فتبقي على األفراد
الذين هم أصلح ما يكونون وهذا هو الذي سماه دارون (بالبقاء لألصلح) ألن األفراد
الذين ال يمتازون بصفات مالئمة للبيئة ال يستطيعون المقاومة لعدم توافق صفاتهم
مع البيئة الجديدة وبالتالي يتم فنائهم ،وفي الوقت نفسه تشجع البيئة الصفات
118
المالئمة وتزيل الصفات غير المالئمة وتقوي األولى باالستعمال وتضعف الثانية
باإلهمال.
الصفات المالئمة تساعد الكائن الحي على البقاء ألنها تنتقل من السلف إلى 6ـ
الخلف بالوراثة.
تنتقل الصفات الوراثية بنشاط خاليا معينة تحوي كائنات عضوية تسمى 7ـ
الكروموسومات تتحكم في الوراثة.
توجد داخل الكروموسومات وحدات أصغر تسمى (عوامل الوراثة أو الجينات) 3ـ
وهذه العوامل تتحد من الوالدين في البيضة الملقحة وتشكل المخلوق الجديد (الجنين)
فيكون إنسان أو حيوان ،ويكون هذا اإلنسان أشقر أو أسمر أو أزرق العينين أو
ذكيا أو غبيا .
االمتزاج بين الجينات ينتهي بتجانس أفراد الساللة الواحدة أو النوع الواحد 1ـ
ولكنه ال يكون تاما بل يسمح بوجود مجال واسع من التنوعات في الصفات المختلفة
ينتهي ببعض أفرادها إلى ظهور صفات جديدة ظهو ار فجائيا يسمى (بالطفرة) .
تسمى الصفات الطافرة بالطفرات وهذه الطفرات تكون في األفراد الذين تظهر 01ـ
فيهم هذه الصفات وتختلف عن النوع الذي ينتمي إليه الوالدان وتكون نوعا جديدا
يرتبط بالنوع السابق برابطة االشتراك في األصل الواحد وهكذا يقوي النوع الجديد
ويزداد بعدا عن النوع الذي تفرع منه حتى يدخل في دائرة جنس جديد آخر .
119
المحاضرة السادسة عشرة :مبادئ النظرية التطورية :
في هذا المبدأ يرى أصحاب النظرية التطورية بأن المواد غير العضوية
تتحول إلى مواد عضوية بمرور الزمن وبفعل العمليات الكيميائية المعقدة التي تؤدي
إلى تخليق المواد العضوية وتحولها إلى األحماض األمينية وبالتالي تتكون الكائنات
ذات الخلية الواحدة .كل هذه األمور حدثت بالصدفة ،ثم تحولت هذه الخلية
األحادية إلى األشكال المتعددة التي ال تعد وال تحصى من أشكال الحياة التي نراها
حاليا نتيجة التطور .ومن وسائل المنافسة بين األحياء التكاثر لتأمين النوع وكلما
تعرض النوع ألخطار أكثر وأكبر زاد نسله زيادة كبيرة ويجب أن يكون قويا وقاد ار
على التكيف مع البيئة الشديدة اإلحساس بالخطر .فهي بمثابة تصفية ونتيجتها
إيجابية ألنها تزيح غير الالئقين وتبقي على األقوياء ولكنها ال تظهر أنواعا جديدة
ألن األنواع الجديدة ال تظهر إال بالصدفة وهذا يحتاج إلى عدد كبير من األفراد .
وهذا يعني أن هذه الصدفة تكون غير واضحة في الجنس البشري وتبدو أكثر
وضوحا في الحشرات ألنها أكثر عددا من اللبائن وأسرع زمنا فمثال نالحظ في
البكتريا واألحياء ذات الخلية الواحدة ،وكذلك الحشرات التي تضع عدد من البيوض
تصل إلى األلف بيضة في الدقيقة وكذلك ملكة النحل تضع أكثر من نصف مليون
بيضة ،والسمك يضع أكثر من ( )4ماليين بيضة وهكذا ألجل المحافظة على النوع
بهذه الطريقة .
فعلى الرغم من عدم أبدية الحياة للكائنات الحية إال أن النباتات والحيوانات
تنتج كائنات تماثلها وعلى الرغم من موت كل كائن عضوي إال أن نوعه يستمر في
121
البقاء من خالل أحفاده ،وبهذه الطريقة طورت الطبيعة عدة أنواع من الكائنات
الحية التي نراها في الوقت الحاضر .
فكل جيل ينتج صغا ار تماثله ولكن هذه الصغار تختلف اختالفا طفيفا عن بعضها
البعض اآلخر وعن والديها ثم اختارت الطبيعة أحد الصغار لتتوالد وتتكاثر ودمرت
األخرى .وتختار الطبيعة هذه الكائنات تلقائيا خالل صراع هذه الكائنات من أجل
البقاء .ففي عالم الكائنات الحية يوجد تنافس شديد على الطعام والضوء والهواء
فالحيوانات تأكل النباتات وبعضها يأكل الحيوانات األخرى وتتحمل الحيوانات
والنباتات العديد من المخاطر لكي تعيش وتتكاثر .فالعناصر التي لديها مقومات
التفوق تستطيع التحمل والتكاثر ونقل هذه السمات لصغارها .ومن ثم يعمل
االنتخاب الطبيعي على استئصال الكائنات الضعيفة وتحافظ على الكائنات التي
فاالختيار الطبيعي هو نتيجة للصراع بين تتمتع باللياقة والقدرة على البقاء.
األحياء وهناك سر من أجل البقاء ،حيث يذكر دارون أن مواد الطبيعة (الطعام) في
أية بيئة من البيئات محدودة وال تكفي لجميع األحياء التي تعيش فيها وعليه البد من
المنافسة للحصول على الموارد التي تحقق ديمومة البقاء ونتيجة لهذا التنافس ال
يبقى من األحياء إال أقواها.
تعرضت نظرية التطور على مدى تاريخها للشد والجذب من جانب أنصارها
ومعارضيها ،ولكل منهم براهينه على ذلك ،وسوف نعرض اآلن أهم هذه اآلراء
وهي :
تؤكد النظرية بفعل تقدم وزيادة مكتشفات العلوم غير العضوية كالفلك Astronomy
والجيولوجيا Geologyوالعلوم العضوية كالبيولوجيا واألنثروبولوجيا ،بمعنى أن
الفرض التطوري قد تحقق في ضوء دراسات بيولوجية وفيزيقية متعددة مثل ظهور
121
النجوم الجديدة واختفاء أفالك كانت تدور ومثل انقراض أنواع من الحيوان ونشأة
أنواع أخرى متطورة ،وهذا ما تؤكده علوم البيولوجيا والحفريات حين تدرس وتتبع
بقايا العظام سواء إلنسان أم لحيوان.
أوضح هذا التشابه العالم السويدي لينايوس Linnaeusوالذي قام بتصنيف الكائنات
الحية إلى عائالت .فكل الكائنات الحية مكونة من خاليا ، Cellsوأصغر
الحيوانات والنباتات تتكون من خلية واحدة ،والكائنات العضوية األكبر تتكون من
عدة خاليا ،وفي بعض الكائنات ،نجد أن الخاليا تكون مجرد ( ،جيران) ترقد
بجوار بعضها البعض ولكل منها حياته ونظامه الخاص ،وفي معظم النباتات
والحيوانات األكبر ،نجد أن الخاليا تعمل مثل فريق العمل المكون من جماعات
(مجموعات) مختلفة من الخاليا ،وكل منها تقوم بوظيفة خاصة للحفاظ على
المجتمع أو (الكائن العضوي) الذي يتكون من العديد من األعضاء ..وفي داخل
كل خلية يوجد مزيج معقد من المواد الكيمياوية تسمى (بروتوبالزم) Plasma
وتتكون الحياة من األنشطة والعمليات الموجودة داخل هذا المزيج الكيمياوي وذلك بدأ
من أصغر نبات أو حيوان وحيد الخلية وصوال إلى الحيوانات المكونة من باليين
الخاليا.فالكائنات الحية تمثل عائلة كبيرة ،فهناك مئات اآلالف من األنواع المختلفة
من الحيوانات والنباتات ،واألبوين في أي نوع ينتجان العضو الذي ينتمي إلى
نوعهما دون غيرها ..وهذه الحقيقة أدت إلى تأكيد االختالفات بين األنواع التي
تميزها عن بعضها البعض .وعلى الرغم من هذه االختالفات ،إال أن هناك
تشابهات كبيرة بين األنواع المختلفة .فالثعلب والذئب يشبهان الكلب من عدة جوانب
والنمر واألسد والفهد يشبه القط من عدة جوانب أيضا .
122
نفس الوالدين وبنفس المقياس ،وعندما تشبه األنواع بعضها البعض ،فإن ذلك
يوضح أنها تنتمي إلى نفس العائلة وتنحدر من أسالف مشتركة ،وقد أوضحت
دراسة التشابهات أن الذئب والثعلب والكلب تنتمي لعائلة الكلب أو أشباه الكالب
، Canineوأن النمر واألسد والفهد والقط تنتمي إلى عائلة القط ، Felineولكن
هناك تشابهات بين العائالت أيضا ،فعائلة الكلب والقط تشبه بعضها البعض في
وجود الشعر (كسوة أجسادها بالشعر) والوالدة وارضاع الصغار ،ولذلك فإن
عائالتها تنتمي إلى ما يعرف باسم الثدييات وهناك عائلة أخرى تضم أنواعا مختلفة
من األسماك .ولكن الثدييات واألسماك تشبه بعضها البعض فلكل منها عمود فقري
، Backbonesومن ثم نجد أن التشابهات بين العائالت توضح أنها مرتبطة
ببعضها البعض ،فالثدييات ترتبط باألسماك ،وكل التشابهات تشير إلى أن كل
الكائنات الحية سواء أكانت نباتات أو حيوانات تنتمي إلى عائلة واحدة كبيرة وتنحدر
من أسالف مشتركة ..وكل ذلك يعزز نظرية التطور .
التشابه في التركيب العضوي بين اإلنسان والحيوانات التي تليه في الرتبة: -8
العظام التي يتألف منها الهيكل العظمي لإلنسان لها مثيالتها في القردة أو
الخفاش ،وكذلك عضالته وأعصابه وأوعيته الدموية وأمعاؤه وكذلك الدماغ الذي
يتركب من شقي المخ والمخيخ وبداية النخاع المستطيل ....وقد أوضح كثير من
علماء التشريح بأن كل شق وكل طيه في دماغ اإلنسان لها ما يقابلها في دماغ
إنسان الغاب (األورانج أوتان).
ومن ناحية أخرى ،نجد التشابه في الهيكل العظمي بين اإلنسان والفقريات
عموما ،فليست هناك فروق جوهرية بين اإلنسان والحيوان في هذه الناحية ،فجميع
فقرات اإلنسان وعظامه يمكن مقارنتها بمثيالتها عند القرد والوطواط وكلب البحر.
123
التشابه في األنسجة وتركيب الدم بين اإلنسان والحيوانات األخرى : 4ـ
ومن أكبر األدلة التي توضح ذلك إصابة اإلنسان بكثير من األمراض التي
تصاب بها حيوانات أقل منه في المرتبة ،فقد يصاب اإلنسان بداء الكلب والزهري
والكولي ار ،وهذا يدل على تشابه األنسجة والدم في المكونات ،كما أن السعا دين
(النسانيس) عرضة لإلصابة بنفس األمراض غير المعدية التي يصاب بها اإلنسان ،
فالسعدان المسمى بـ(الحودل األزاري) كثير االستجابة إلى اإلصابة بالزكام بنفس
أعراضه المعروفة ،واذا عاوده الزكام في فترات متقاربة فقد يؤدي إلى اإلصابة
بالسل ،كما تصاب هذه السعا دين أيضا بالحمرة والتهاب األمعاء وبياض العين ،
كما لوحظ أن صغارها قد تموت وهي تشق األسنان اللبنية ،وهي تتأثر بالعقاقير
بنفس تأثر اإلنسان وكثير من السعا دين تهوى الشاي والقهوة والمشروبات الروحية
وتدخن السكاير بلذة كبيرة .
ومن ناحية أخرى ،نجد أن الجنين البشري في أول مدارج تخلقه يتعذر تمييزه
عن بقية أجنة ذوات الفقار ،وفي هذا الطور المبكر تمتد الشرايين في فروع أشبه
124
باألقواس ،كما أنه عندما يتقدم تخلق الجنين البشري شيئا ما ،تبدو أطرافه (اليدان
والساقان) متخلقة على نفس الصورة السوية التي تظهر بها أرجل السحالي وذوات
الثدي وأجنحة الطيور وأرجلها .
ويقول توماس هنري هكسلي أنه في مدارج متقدمة من تطور الجنين البشري
تبدو االنحرافات التي تميزه عن جنين القرد في حين أن جنين القرد ينحرف عن
جنين الكلب في تخلقه بمقدار ما ينحرف جنين اإلنسان عن جنين القرد ،وهنا نجد
أن جنين اإلنسان يشابه غيره من أجنة الحيوان األدنى منه مرتبة في سلم االرتقاء
وفي مدارج متقدمة من تخلقه ،فالقلب مثال يلوح وكأنه وعاء نابض صغير ،وعظم
نهاية العمود الفقري األسفل ،يظهر وكأنه ذنب كامل ،كما أن ألياف الدماغ في
الجنين البشري عندما يبلغ السابع من العمر يكون مماثال من حيث النمو والتكوين
لدماغ قردة الجيبون .وعلى الرغم من أن إبهام القدم في اإلنسان وهو مركز االتزان
عند الوقوف والمشي ،حيث أنه يؤلف في القردة زاوية منفرجة عن بقية أصابع القدم
،بينما يساير اتجاه بقية أصابع القدم في اإلنسان ،إال أن إبهام القدم في الجنين
البشري يكون منحرفا أيضا عن بقية أصابع القدم مكونا في انحرافه زاوية مقدارها
نفس مقدار الزاوية التي ينحرف بها إبهام القدم عن بقية أصابع القردة العليا ...وهنا
يمكن القول أن أسلوب التولد البشري وخاصة خالل األشهر األولى من تخلقه
الجنيني مماثل تماما لألسلوب الذي تتولد به أجنة غيره من الحيوانات التي تقل عنه
رتبة في سلم التطور ،وأن اإلنسان من حيث النشأة أقرب في عالقته بالقردة من
عالقة القردة بجنس الكلب أي أن الفروق بين القردة والكالب تتسع ،ولكنها تضيق
بين اإلنسان والقردة العليا.
وجود بقايا أو آثار عصور قديمة Rudimentsفي جسم اإلنسان : 6ـ
إن األعضاء األثرية هي التي كان لها منفعة خاصة في أسالفنا ثم قلت
الحاجة إليها ،فأغفل استعمالها حتى ضمرت وتعطلت وظائفها وصارت في تكوين
125
اإلنسان بمثابة آثار ال نفع فيها ،ولكنها تدل على عالقته بالحيوانات التي تملك مثل
هذه األعضاء وال تزال ذات نفع فيها .وقد كان لالنتخاب الطبيعي أثر كبير في
تخليق هذه األعضاء باستمرار ووجود هذه األعضاء دون الحاجة إليها يضر ضر ار
كبي ار بالجسم وقد يعمل على انقراض أنواع أو أجناس بأكملها وذلك ما لم تعمل
الطبيعة على تعطيلها ووقف وظائفها أو استبدالها بأعضاء أخرى تؤدي وظائف
جديدة ،ومن أمثلة هذه العضالت األثرية :عضالت الجبهة التي يمكن بها تحريك
الجبهة األمامية ،وكذلك العضالت السطحية التي تكون تحت فروه الرأس
والعضالت المحركة لألذن ،فهي في اإلنسان عضالت أثرية ولكن ال زالت لها
وظيفة عند الحيوانات األخرى لطرد البعوض والحشرات مثال .
فقد عقد داروين مقارنة بين القوى العقلية عند اإلنسان وبعض الحيوانات من
مراتب دنيا لغرض تقريب المسافة التي تفصل بينهما ،وأوضح أن كثي ار من غرائز
الحيوانات تماثل غرائزنا ،وهناك تماثل في الملكات العقلية ،فالحيوانات تتعجب من
األشياء الغريبة وتتطلع إليها وكأنها تريد أن تتعرف عليها مثلنا ،ونفس الشيء
ينطبق على التدبير الذي يدل على تفكير عقلي .
وهو دليل آخر على صحة نظرية التطور ،فكل النباتات والحيوانات تبدأ
حياتها وحيدة الخلية ،ثم تنمو الخلية وتنقسم عدة مرات لكي تشكل عددا كبي ار من
الخاليا التي تمثل مجموعة األجهزة ،في الكائن العضوي الكامل .والكائن العضوي
في المرحلة األولى من حياته يسمى جنينا Embryoوفي الثدييات بما في ذلك
البشر ـ نجد أن الجنين يتطور داخل جسم أمه حتى يولد ،وجنين الطائر ينمو داخل
البيضة حتى تفقس ،وهذه التشابهات في نمو األجنة توضح هذه العالقات العائلية
بين الحيوانات أو بين النباتات ،فجنين كل نوع يكرر الخطوات الرئيسية التي
126
تطورت بها األنواع المختلفة من األسالف المشتركة لكل الكائنات الحية ،فكل
األجنة الثديية مثال تمر بمرحلة تكون لديها خياشيم مثل السمكة مما يوضح أن
الثدييات تنحدر من أسالف شبيهة بالسمك .
1ـقدرة اإلنسان على استنباط أنواع من النباتات والحيوانات المختلفة عن أسالفها :
وهو دليل آخر على صحة النظرية ،فاستغل اإلنسان قدرته في تربية
الحيوانات وزراعة النباتات ،فمن خالل األنواع األصلية من النباتات والحيوانات
التي استأنسها منذ سبعة آالف عام ،استطاع أن يستنبط عدة أنواع جديدة تختلف
اختالفا كبي ار عن أسالفها .
127
المحاضرة السابعة عشرة :االنتقادات التي وجهت إلى نظرية التطور واالرتقاء :
لقد وجهت إلى هذه النظرية عدة انتقادات من مدارس متعددة ومن هذه
االنتقادات ما يأتي :
لقد أوضح دارون كيفية تطور الحياة من الكائنات ذات الخلية الواحدة ،ولكنة 0ـ
في الواقع لم يتعرض للبحث في عصر ما قبل الخلية( أي كيف كانت الحياة قبل
وجود الكائنات ذات الخلية الواحدة ) ليعرفنا كيف نشأت الحياة في تلك الصورة
البسيطة ،ومن أين جاء سر الحياة الذي جعل من المادة الجامدة كائنا حيا ،ومن
ثم عجزت عن تناول وفهم سر الروح .
توجد في هذه النظرية حلقتين مفقودتين في سلسلة التطور ،تتعلق الحلقة 2ـ
األولى بالحلقة السابقة على ظهور القردة أو أشباه القردة .أما الحلقة الثانية فتتعلق
بالحقبة السابقة على ظهور اإلنسان أو أشباه اإلنسان فال تستطيع نظرية التطور
الداروينية أن تحدد لنا كيف ظهرت فجأة وبدون مقدمات تطورية بعض الخصائص
العصبية والبصرية واليدوية التي تميزت بها القردة العليا .وكيف تضخم المخ
واستطال الذراع وانتظمت األحشاء وازداد عرض الحوض والكتفين .
إن كلمة (انتقاء) أو اختيار Selectionال تفهم إال إذا كان هناك تميز بين 8ـ
األفراد ،وهذا التميز ال يظهر إال بعد أن يصل الكائن الحي إلى حالة االكتمال
ويكون الغرض منه هو ضغط النوع ألن االنتقاء يحدث بين األفراد الذين استطاعوا
أن يتكيفوا أكثر من غيرهم بالبيئة ..ولكن الواقع أن معظم أسباب الهالك تهدد
الكائنات في مرحلة طفولتها أو وجودها على شكل بويضات وليس بعد اكتمالها.
ومن ثم فإن االنتقاء الحقيقي يقع بين الكائنات قبل أن يكون قد ظهر لديها أي تميز
في الشكل أو في األعضاء ،وهذا واضح في بويضات السمك على وجه الخصوص
128
،إذ يهلك منها ما يزيد على %11وما يتبقى يفقس دون أن يكون في ذلك دخل
ألية عملية وانما يرجع إلى الصدفة اآللية البحتة.
أن االنتقاء الذي ينصب على الكائنات المكتملة ال يؤدي بالضرورة إلى بقاء 4ـ
األصلح ،فكثي ار ما نصادف في الطبيعة أفردا ضعفاء معتلين استطاعوا أن يحموا
أنفسهم بطريقة ما ،ويمكن القول أن الطبيعة تختار ضحاياها بطريقة عشوائية عمياء
كما يحدث عند تصادم قطارين أو في حالة الحرب الحديثة ،واذا كانت نظرية البقاء
لألصلح واالنتخاب الطبيعي مطردة ،ألنقرض القرد األول وبقي الحيوان ،الواسطة
،الذي ترقى عن األول ،ألنه أكمل منه وأصلح ،فل َم كان البقاء لغير األصلح
وصار االنتخاب للكائن األضعف؟
129
المحاضرة الثامنة عشرة :مفهوم الساللة :
الساللة في علم اإلنسان مصطلح خاص يدل على جماعة من البشر يتصفون
بصفات وراثية معينة تميزهم وتفصلهم عن غيرهم من الجماعات البشرية .
ويفضل البعض استخدام كلمة الجنس Raceبدال من الساللة وهذه الكلمة مشتقة
من كلمة Genusالالتينية وهي تشمل عدة أنواع Speciesويستعمل الغربيون
كلمة Raceلالستدالل على الساللة .وتعني الساللة الوراثة والتسلسل اإلحيائي
فيقال إن فالنا من ساللة عدنان أو ساللة قحطان أي أنه انحدر من هذا األصل أو
ذاك األصل.
والمعروف أن جميع البشر ينتمون إلى نوع واحد ينسب إلى جنس واحد من
أجناس عائلة الرئيسيات وهذا النوع هو النوع العاقل من جنس اإلنسان .
واإلنسان يختلف عن الحيوان في قدرته على االستيطان في جميع بقاع األرض وفي
قدرته على التكيف مع ظروف البيئات الطبيعية المختلفة سواء كانت مناطق قطبية
باردة أو استوائية حارة أو صحراوية .وقد نتج عن هذا االنتشار الواسع لإلنسان
وجود أنماط ونماذج مختلفة من البشر فهناك الطويل والقصير واألبيض واألسود
وهناك من له أنف أفطس ومن له أنف مستقيم وطويل وهناك من له عيون زرقاء
ومن له عيون عسلية .وال يقتصر مجال االختالف في الجماعات البشرية على
الصفات الجنسية الظاهرة بل هناك اختالفات في المواهب والمهارات والثقافة واللغة
وغيرها من العوامل التي تميز المجموعات البشرية عن بعضها.
ولقد أدرك الناس منذ القدم وجود التفاوت في صفاتهم الجنسية ومستوياتهم
الحضارية وميزت بعض الشعوب نفسها بأنها أحسن منبتا وساللة من جيرانها الذين
يعيشون حولها فالمصريون القدماء لونوا بشرتهم باللون األحمر (وكانوا يقصدون به
اللون األسمر) في النقوش الفنية واعتقدوا إن هذا اللون هو أفضل األلوان لبشرة
اإلنسان ولونوا أجسام جيرانهم الليبيين باللون األصفر إشارة إلى شقرتهم .وكان
131
المصريون في الماضي يحتقرون الشعوب األخرى .وكان قدماء اإلغريق يسودهم
الشعور بأنهم أحسن حاال وأرقى مرتبة من البرابرة وهو الوصف الذي وصفوا به
غيرهم ولم يكن شعور اإلغريق هذا نابعا عن وجود عيب إحيائي في غيرهم بل
العتقادهم بأنهم متفوقون على الغير في التربية والعادات والسلوك .ونظر الرومان
إلى الشعوب التي أخضعوها باستصغار وكان باعث هذا التمييز ما أحرزه الرومان
من تفوق حربي وحسن نظام في إدارتهم .وفي كثير من أساطير وقصص الشعوب
نجد نوعا من االستعالء ألنفسهم على غيرهم .وعلى كل حال فأن نشأة العصبية
القبلية أو الشعبية أمر معروف خالل التاريخ وظاهرة واضحة في المجتمعات البشرية
من أبسطها إلى أكثرها تعقيدا ففي العصور الحديثة والى وقت قريب كان نفر من
الناس يعتقدون بتفوق الرجل األبيض ونادى النازيون في ألمانيا في النصف األول
من هذا القرن بأنهم أرقى الناس وان غيرهم أقل مكانة ومرتبة منهم.
ولتوضيح مفهوم الساللة البد من معرفة األسس التي يمكن بواسطتها تصنيف
البشر وتقسيمهم إلى مجموعات متميزة فبالرغم من أن جميع البشر يعودون لنوع واحد
من الناحية اإلحيائية وان باستطاعتهم التزاوج بصرف النظر عن اللون والصفات
الجسمية األخرى فهناك فروق واضحة بين السالالت البشرية بحيث يمكن تمييز
بعضها عن بعض ،وهذه الفروق ناجمة عن اختالف الصفات الجسمية التي لها
قيمة مهمة ألنها موروثة وألن البعض منها قد تأثر بالبيئة التي يعيش فيها الفرد،
ولذلك كانت بعض الصفات أصيلة وبعضها مكتسبة من البيئة).
لقد نشأت السالالت نتيجة االختالط الذي حدث بين األجيال األخيرة وال توجد
ساللة تظهر تفوقا أو انحطاطا في منزلتها بالنسبة إلى السالالت األخرى من حيث
اإلمكانيات العقلية ولذلك فان تحمس بعض علماء الوراثة لنقاء بعض السالالت لم
يكن له مبرر من الناحية اإلحيائية واالنثروبولوجية فالسالالت من وجهة نظر علماء
الوراثة هي مفهوم بايولوجي ولذلك ال يفضل الكثيرون استعمال كلمة ساللة في
131
المواقف االجتماعية والحضارية بينما من وجهة نظر التطور يدل مفهوم الساللة على
صفات معينة تتميز بها عن صفات أخرى .لقد ظهرت الصفات الجنسية في أزمان
مختلفة نتيجة عوامل التطور المتعددة ولما كانت عالمات التطور تتغير باستمرار
أيضا فعلى هذا األساس يعتقد علماء التطور أن السالالت البشرية هي مجموعات
بشرية تجمعت لديها صفات جنسية حصلت عليها عبر عمليات تطورية طبيعية .
ولما كانت الساللة حسب قانون مندل في الوراثة تختلف في عناصر الوراثة المتنوعة
فان اختالفها من الناحية الوراثية يدل ضمنا على اختالفها في السلوك .ومما ال شك
فيه أن عددا من الصفات المستخدمة في تصنيف السالالت البشرية قد نتجت عن
طريق فعل االختيار الطبيعي فالمجموعة البشرية التي يقتسم أفرادها نفس العوامل
الوراثية لعدة أجيال وتنحدر من سلف واحد وتسكن ذات المنطقة الجغرافية تستجيب
إلى عوامل بيئية واحدة مدة طويلة من الزمن وتتعرض للتغيير خالل تلك الفترة تكون
قد تعرضت لعامل االختيار الطبيعي الذي أبقى على بعض التغييرات الوراثية
وتخلص من البعض اآلخر.
إن الكتابات القديمة تخلو من اإلشارة إلى لفظ الساللة ألن استعمالها آنذاك لم
يعتبر أساسيا وخصوصا إذا عرفنا أن أي شعب من الشعوب هو نتيجة اختالط عدة
سالالت امتزجت مع بعضها وتداخلت صفاتها ،وهذا يدل على عدم وجود سالالت
نقية أال في األماكن المنعزلة جدا حيث ال يختلط سكانها بغيرهم ولكن نتيجة هذه
السالالت هو الزوال واالنقراض بعد زمن طويل كالطسمانيين ،فمن المعقول إذن
استبعاد العوامل التي ال تنتقل بالوراثة من السلف إلى الخلف في حالة تمييز
السالالت البشرية فيكون بذلك مفهوم الساللة جماعة من البشر يتصفون بصفات
جسمية وراثية معينة تميزهم وتفضلهم عن غيرهم من الجماعات البشرية .وهكذا نجد
أن مصطلح الساللة استعمل بعدة طرق فعلماء األحياء الذين تأثروا بالنظريات التي
شاعت قبل دارون ومندل جابهوا صعوبات جمة في اقتفاء الحدود المضبوطة
للساللة ألن مصطلح الساللة آنذاك لم يكن دقيقا لتصوير المستويات التصنيفية
132
المختلفة التي يمكن مشاهدتها في اإلنسان فهناك سالالت تسكن منطقة جغرافية
خاصة وهناك أقوام محلية منعزلة ويتفق االنثروبولوجيون الطبيعيون وعلماء الوراثة
والتصنيف على أن النوع البشري واحد وتعود إليه جميع السالالت الحية ولكنهم ال
يتفقون على عدد السالالت الموجودة في العالم ألن بعض الدراسات استندت إلى
تقسيمات جغرافية واسعة واستندت أخرى إلى مناطق صغيرة .وتعتبر البحار
والمحيطات والصحاري والسالسل الجبلية الرئيسية حواجز فعالة تمنع انتشار عوامل
الوراثة أكثر مما تفعله األنهار والمرتفعات األرضية الصغيرة والجماعات البشرية (
التي يعتبرها االنثروبولوجيون تصنيفها مشكوكا فيه ) ،تسكن اآلن مناطق ترشحهم
باعتبارها سالالت جغرافية منفصلة كالبوشمن والهوتنتون واالستراليين األصليين
واالسكيمو .وباإلضافة إلى السالالت الجغرافية يوجد هناك سكان مدن يسمون
بالسالالت المحلية وال تتميز هذه السالالت بواسطة االختالفات في الصفات
الجسمية بل بانعزالها النسبي إذ يتعذر حتى اآلن وجود سكان منعزلين في المناطق
الكثيفة السكان .ولتوضيح ذلك نقول أن اإلنسان يعيش في كل أجزاء العالم وفي كل
المناطق المناخية وتعرض إلى تنوع كبير في البيئات التي تتغير بمرور الزمن
وبعض أسباب اختالف وتغيير البيئة أسباب حضارية .ونحن نعلم إن الكائنات
الحية تكيف نفسها مع البيئات المختلفة والمتغيرة بطريقتين فبالطريقة األولى يتم تنوع
التركيب الوراثي في البشر ليتناسب مع جزء معين في البيئات وفي الثانية تظهر
التراكيب الوراثية لكي تسمح لحامليها في تكييف أنفسهم مع بيئات معينة بواسطة
تعديل األجسام بشكل متزن .فالطريقة األولى تتضمن نمطا وراثيا وتجعل سكان
المناطق مختلفين ويكونون سالالت جغرافية وتجعل البشر الذين يعيشون في نفس
المنطقة متنوعين فتتعدد األشكال في شعوب البشر ،أما الطريقة الثانية فتؤكد على
المرونة الموجودة في الصفات الجسمية وتجعل البشر متمكنين من تكييف أنفسهم
للظروف المختلفة.
133
ومن الضروري االفتراض بأن تعدد األشكال ظهر من اختالط السالالت التي لم
يكن لها وجود في الماضي على أكثر االحتماالت.
تتميز السالالت البشرية إذا كان معظم أفرادها يتحدون في صفاتهم اإلحيائية
ويختلفون بها عن غيرهم من السالالت وعلى هذا األساس يمكن تقسيم البشر إلى
ثالثة سالالت كبرى هي القوقازية والمغولية والزنجية .ويسمي االنثروبولوجيون هذه
السالالت اسم المجموعات البشرية الكبرى أو الرئيسية وتوجد إلى جانب هذه
السالالت الكبرى سالالت فرعية أو ثانوية مثل االينو والفدا واالستراليين األصليين ،
وهذه السالالت الثانوية تحمل صفات مختلطة من نماذج ساللتين من السالالت
الكبرى .وتوجد داخل المجموعات البشرية الكبرى عدد من السالالت الصغرى مثل
ساللة البحر المتوسط والساللة النوردية والساللة االلبية التي تدرج ضمن السالالت
القوقازية الكبرى وتقسم هذه السالالت الصغرى بدورها إلى سالالت فرعية وتنطبق
هذه القاعدة على المجموعة المغولية والزنجية أيضا .إن هذه التقسيمات مفيدة في
تتبع الخطوط العريضة لدرجات القرابة والشبه بين المجموعات المختلفة وبدونها
تصبح دراسة المجموعات البشرية أم ار صعبا الختالط السالالت مع بعضها .ومن
الناحية الثانية نود أن نذكر أن تقسيم البشر إلى سالالت عامة وفرعية وكذلك
تصنيفها في جداول التصنيف أمر تقديري ويختلف من باحث إلى آخر تبعا العتقاد
الباحثين وآرائهم.
134
،فكل ساللة تشمل مجموعة أعداد عظيمة مرتبة من المكونات الوراثية داخل كل
جين.
وقد قام البعض بتقسيم السالالت البشرية في إفريقيا على أساس اللغة إلى
سالالت حامية وسالالت سامية ،حيث لعب المعيار اللغوي دو ار هاما أحيانا في
تصنيف قبائل البانتو في إفريقيا ،ولكن سيلجمان يرى أن اللغة تعد مرشدا فقط وال
135
يمكن االعتماد عليها وحدها ،وترى روث بندكت ( ) Ruth Benedictأن الساللة
تختلف عن اللغة ،فاألخيرة سمة مكتسبة فليس من يتكلم العربية من ساللة عربية
وبالمثل ليس كل من يتكلم االنجليزية من الساللة البيضاء.
ومن ناحية أخرى فإن االعتماد على اللغة في تقسيم السالالت وتصنيف
البشر ،ال يسلم من المثالب ،إذ ليس من الضروري أن أبناء اللغة الواحدة ،
ينحدرون من أصل ساللي واحد .كذلك فإن الساللة مفهوم بيولوجي –كما ذكرنا-
وله معان بيولوجية وينطبق على الشعوب أكثر مما ينطبق على األفراد .إذ ينطبق
على زنوج أمريكا وعلى سكان أستراليا األصليين ،ولكنه ال ينطبق على اليهود إذ
إنهم جماعة عرقية مترابطة ،غير أنها ال تكون ساللة ،ألنهم يعيشون فرادى
وينتشرون في أرجاء العالم.
وتوجد عدة عوامل أدت إلى نشأة هذه األجناس البشرية أهمها :
أوال :العزلة الجغرافية :سواء كانت هذه العزلة عن طريق البحار والمحيطات والجبال
والصحاري التي عملت على عزل هذه الجماعات التي نشأت في منطقة على جهة
من العالم ،ربما كانت النشأة األولى في إفريقيا أو أوربا أو جنوب شرق آسيا فعملت
كل جماعة منها على الزواج الداخلي من بعضها البعض ومن ثم نقلت صفاتها
الوراثية إلى األجيال التالية التي كان يعتريها التغير على فترات طويلة من الزمن.
ثانيا :البيئة الجغرافية :وهي التي نشأت فيها كل مجموعة على حدة ومن ثم حدوث
العديد من التكيفات بينها وبين البيئة ،فالبيئة االستوائية الحارة أدت إلى وجود
136
صفات البشرة السوداء الداكنة واألنف األفطس مثال ،عكس البيئة الباردة التي أدت
إلى وجود صفات البشرة البيضاء واألنف المدبب وهكذا وبمرور الوقت وزيادة حاالت
الزواج الداخلي أدى ذلك إلى تكريس نشوء األجناس البشرية.
ومما تقدم يمكننا أن نعرف الساللة بأنها قسم من أقسام النوع سواء كان بشريا
أو حيوانيا أو نباتيا تستطيع التزاوج وااللتقاء فيما بينهما دون حدوث موانع طبيعية أو
وراثية وخصوصا ما يتعلق بفصائل الدم .وليس هناك مجال للتزاوج مع أقرب
الحيوانات إلينا مثل القردة ألن الخالفات الوراثية شاسعة حيث أن عدد
الكروموسومات لدى اإلنسان تختلف عنها عند الحيوانات األقرب إليه أو الشبيهة
باإلنسان.
ليس هناك أتفاق على عدد السالالت البشرية وال حتى من حيث الشعوب
التي تنتمي إليها ،وقد تم تقسيم السالالت على أساس ما يعيش اآلن من السالالت
البشرية ومن خالل ما عثر عليه من حفريات بشرية وهياكل عظمية وجماجم في كل
األقاليم الجغرافية وعلى هذا األساس تم تقسيم السالالت البشرية إلى األقسام اآلتية :
وتمتاز هذه الساللة بالبشرة البيضاء في معظم أوربا ولكنها أكثر دكنه في
غرب أسيا والهند ،وتصبح سوداء في البنغال وجنوبي الهند ،ولون حدقة العين
يتراوح من األزرق إلى البني الغامق ،والشعر غالبا ما يكون مستقيم مموج ؛ الوجوه
واألنوف ضيقة واألنف مقوس إلى الوجه العريض واألنف المدبب ،والشفاه رقيقة
وقلما يبرز الفك ،وينتشر الشعر فوق الذقن والجسم والرأس ،ويتميز أبناء هذه
الساللة بصفة الصلع والشيب المبكر ،ويمتازون بطول القائمة وقوة عضالت
137
الساعد .ويقصد بغرب آسيا (سيبريا الغربية وتركستان الروسية وتركيا وايران والقوقاز
وأفغانستان والدول العربية).
وهم أفراد الساللة والذين يرون أنهم أقدم أعضاء النوع البشري مظه ار
ويتميزون بالحواجب السميكة والعيون الغائرة واألنف الكبير والفك البارز واألسنان
الضخمة ويتراوح الشعر بين المجعد إلى الشعر المستقيم ولكنه أيضا مموج عند
االستراليين األصليين ،أما شعر الوجه والجسم فهو منتشر كما لدى القوقازيين .وهم
مثل القوقازيين يصيبهم الصلع ويشيب شعرهم مبك ار ،ولون البشرة من األسمر
الداكن إلى البني الفاتح ولون العين بني ولون الشعر أسود ويكون أشقر لدى األطفال
138
والنساء في الصحراء االسترالية ،وأجسامهم تشبه أجسام القوقازيين إال أن األذرع
والسيقان تكون أنحف وأطول ،مما دفع بعض االنثروبولوجيون إلى االعتقاد أن هذه
الساللة هم بقايا لساللة قديمة تطور منها القوقازيون أنفسهم.
تسكن هذه الساللة في جزر الفلبين وشبه جزيرة الماليو وجزر سوندا الصغرى
في اندونيسيا وجزر االندمان وأجزاء من الهند وهم الجئون هربوا أمام الغزو المغولي
وهؤالء االستراليين األقزام ليسوا جميعا متشابهين فأقزام الفلبين قصار القامة أما جزر
االندمان فشكلهم طفولي أما اآلخرون فيجمعون بين هؤالء وهؤالء.
139
أكثر عرضا ،ويكون الذراع قصير والساعد قصير أيضا ،هذه الصفات القزمية
التي نشاهدها في صفات األقزام البشرية.
وأثناء الرعاية الصحية للسالالت البشرية اكتشف األطباء أن الساللة المغولية التي
تستطيع العيش واإلنجاب بسهولة فوق المرتفعات العليا يصابون بالمال ريا إذا هبطوا
إلى السهول ،أما بعض زنوج أفريقيا الذين ال يطيقون العيش في المرتفعات يقاومون
مرض المال ريا ألن لديهم جينات (مورثات) معينة يعطي خلية منجليه متعددة
األشكال تقاوم هذا المرض .ونتيجة لهذه االختالفات فأن أغلب الهنود الحمر
األمريكيين قد ماتوا عندما نقل إليهم المستعمرون مرض الجدري حيث لم يكن للحمر
مناعة ضد هذه األمراض ،هذه االكتشافات فان الطبيعة تساعد الباحثين على معرفة
األوطان األصلية للسالالت البشرية .وتوضح أيضا أن الظروف البيئة الجغرافية
تلعب دو ار كبي ار في تكوين الساللة في مكان معين دون آخر.
141
المحاضرة التاسعة عشرة :التصنيفات العلمية للسالالت البشرية :
في المصادر القديمة قسم البشر إلى سالالت على أساس اللون ،وكما جاء
في سفر التكوين فأن أبناء سيدنا آدم كانوا مقسمين على أساس لون البشرة فنالحظ
أبناء سام من السمر وأبناء حام من السود وأبناء يافث من الشقر وقد ظل القدماء
وكتاب العصور الوسطى متأثرين بفكرة لون البشرة في تصنيف البشر إلى سالالت.
وقد أعتمد العلماء أيضا في تقسيم السالالت على العوامل الوراثية ومع ذلك
فأن البيئة لها أثرها الواضح والسيما الظروف المناخية واألحوال الغذائية وعليه فمن
الصعب التمييز بين الصفات الدائمة التي تحددها الوراثة وبين الصفات المؤقتة التي
هي نتيجة مباشرة لظروف البيئة في فترة قصيرة ،وقد استخدم علماء الوراثة
باإلضافة إلى دراسة الجينات اعتمدوا أيضا على االختالفات الموجودة بين فصائل
الدم.
141
وقد توصل العلماء وخصوصا االنثربولوجين إلى تصنيفات مختلفة للسالالت
البشرية لكننا سنقتصر هنا على التصنيفات الحديثة فقط والتي نمت منذ ظهور تقسيم
دنكر عام 0331م وحتى عام 0168الذي فيه تقسيم سونيا كول.
أول تصنيف علمي يستند على أسس االنثروبولوجيا الطبيعية ،قام بوضعه
العالم الفرنسي دنكر ،وقد نشر هذا التصنيف ألول مرة عام 0331وقد أعتمد على
أساس شكل الشعر ولونه ولون العين وشكل األنف وشكل الرأس حيث أشتمل هذا
التصنيف على ستة سالالت رئيسية معتب ار ((شكل الشعر)) هو األساس في التقسيم
وهي :
مجموعة الشعر الصوفي :ويندرج تحت هذه المجموعة األفارقة والزنوج. -0
مجموعة الشعر المجعد أو المموج ويندرج تحت هذه المجموعة االثوريون ، -2
اإلثيوبيون واألستراليون األصليون.
مجموعة الشعر المموج البني :ويندرج تحت هذه المجموعة الهنود األفغانيين -8
الذين يتصفون بالشعر األسود والقامة الطويلة.
مجموعة الشعر األشقر المموج :ويندرج تحت هذه المجموعة األوربيين -4
الشماليين الذين يتصفون بالقامة الطويلة والرأس الطويل.
مجموعة الشعر المستقيم المموج األسود :ويندرج تحت هذه المجموعة -5
االندونيسيين الذين يتميزون بالقامة القصيرة والرأس المتوسط.
مجموعة الشعر البسيط :وهي المجموعة المغولية وتشمل األمريكيون القدماء -6
واألمريكيون الجنوبيون والمغول الشماليين واالسكيمو.
142
ظهر هذا التصنيف عام 0127وقد اعتمد على تصنيف العالم هادون : ب.
شكل الشعر كصفة أساسية لتقسيم البشر إلى ثالث مجموعات رئيسية هي :
وقد قسم هادون مجموعة الزنوج بناءا للظروف الجغرافية إلى مجموعتين هما :
ظهر هذا التصنيف عام 0188عندما نادى العالم فون ايكشتد بوجود ثالث
سالالت رئيسية هي :
وقد أوضح إن الوطن األصلي لإلنسان هو سهول تركستان التي أنتشر منها
اإلنسان إلى أنحاء قارة آسيا ،وذكر إن العزلة الجغرافية هي المسؤولة أوال وقبل كل
شيء عن ظهور المجموعات البشرية الكبرى التي يتفاوت بعضها عن البعض اآلخر
في صفاتها الجسمية.
يعتبر تقسيم هذا العالم من التقسيمات المهمة التي د .تصنيف العالم هوتون :
ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
143
وقد قسم هوتون النوع البشري إلى ثالث مجموعات وهي :
وقد أوضح نوعين من السالالت وهي الساللة الفرعية وهي ساللة ناتجة عن
اختالط ساللتين فرعيتين والساللة المركبة وهي التي تتكون نتيجة الختالط ساللتين
رئيسيتين.
يعتبر تصنيف سونيا كول من أحدث التصنيفات العلمية التي ظهرت في
القرن العشرين ،وقد نشر هذا التصنيف ألول مرة عام 0168في كتابها الموسوم
((سالالت اإلنسان)) ( )Races of manفقد صنفت النوع البشري إلى أربع
مجموعات كبرى تشمل:
144
تصنيف السالالت البشرية منذ عام 0111من قبل العالم كارل ألند ستا ينر ( Karl
)Land Steinerأثناء عمليات نقل الدم من شخص ألخر والحظ ستا ينر إن هذا
النقل يؤدي إلى وفاة المريض في بعض األحيان وفي أحيان أخرى تكون العملية
ناجحة وبذلك أتجه إلى البحث عن السبب فوجد هناك تصنيف لفصائل الدم حسب
ما تمتاز به من عوامل وراثية خاصة بالتجلد (تخثر الدم) ،وأطلق عليها (( O , AB
)), B , Aوقد الحظ أن :
( .)0فصيلة الدم ABتأخذ من جميع الفصائل وأطلق عليها اسم الفصائل اآلخذة.
( . )2فصيلة الدم Oوهذه الفصيلة تعطي ألي فرد يحمل أي فصيلة من الفصائل
األخرى وأطلق عليها اسم الفصائل المعطاة ،غير أنها ال تأخذ إال من فصيلتها.
( .)8فصيلة الدم Aال ينقل إلى فصيلة B , Oولكن يمكن نقله إلى فصيلة .AB
ظهرت فصيلة الدم Aفي زمن مبكر في غرب أوربا ثم ظهرت فصيلة الدم B
في شرق أسيا وهي تميز الدم المغولي حيث يالحظ إن فصيلة الدم Aيضعف
انتشارها كلما اتجهنا نحو شرق أوربا ،حيث تزداد نسبة فصيلة الدم AB , Bفي
الشعوب المغولية .أما االستراليون األصليون هم أشد الجماعات عزلة حيث ترتفع
بينهم فصيلة الدم . A, Oومن خالل الدراسات أتضح تجمع فصائل الدم B , A
في وسط القارات في مراكز التجمع السكاني (بسبب االختالط) بينما فصائل الدم O
تنتشر في المناطق الهامشية البعيدة عن المركز بسبب العزلة وعدم االختالط ،وقد
قدرت نسبة فصائل الدم الرئيسية كما يلي :
145
الساللة كتجميع لصفات األفراد :
أن كلمة ساللة تعني تجميع لصفات األفراد .ويبدو أن هذه الفكرة كانت رائدة
لدى الطبيعيين القدماء في تقسيماتهم للنوع البشري ،بالرغم من أنها لم تكن
واضحة الوضوح التام ،كما أن كثي ار من االنثروبولوجيون كانوا يطبقونها أثناء
دراستهم ،إذ كانوا يصنفون اإلفراد حسب بعض مميزات أو صفات يختارونها ،بدال
من دراسة األفراد على أساس مجموعات متكاملة من الصفات مثلما قام به العالم
فون ايكشتد عام . 0186ويبدو أن ذلك المفهوم أيضا كان رائد البعض في تحديد
معنى "الساللة" .فقد ذكر كاترفيج (" )0351مجموع األشخاص المتشابهين يكونون
الساللة" ،وكذلك قال زالر " )Seller (0180ارتباط بين صفات موروثة ذات تغاير
معين ...يتميز بها أفراد ساللة عن السالالت األخرى" ،ومارتن ")Martin (0123
أن األفراد الذين ينتمون إلى جنس معين مشتركون معا في عدد من الصفات
الساللية ،ومجموع هذه الصفات هو ما يميزهم عن غيرهم من المجموعات"
وترتبط هذه المشكلة بالمتوسط القياسي (االنثروبومتري) الذي يعتمد على قيم
قياسية مطلقة متفق عليها .وعلى أية حال فإن فكرة الساللة على أنها ارتباط صفات
معينة تتكرر في كل فرد على حده لم تنفصل عن فكر الساللة على أنها مجموعة
بشرية تتحدد بواسطة صفات ليس من الضروري أن ترتبط بنفس الطريقة لكل فرد
على حده.
146
وخالصة هذه اآلراء المتعددة تعود بنا مرة أخرى إلى طرح السؤال :ما هي
الساللة؟.
إن حقائق االختالف الجسدي والمميزات الجسدية العامة للبشر الشك كثيرة
وتدعو اإلنسان إلى الكالم عن جماعات بشرية كما لو كانوا منفصلين تماما عن
بعض .ولكننا نجد اآلن – وبعد البحوث العلمية الكثيرة – أن المجموعات البشرية ال
تختلف عن بعضها اختالفا هائال ،وانه يمكننا أن نجد مميزات جسدية مختلفة داخل
المجموعة الواحدة .ومن أهم األمثلة على ذلك ما لوحظ أخي ار من وجود الشعر
الصوفي بين بعض النرويجيين ،على الرغم من أن هذا النوع من الشعر خاص
بالمجموعة الساللية التي نسميها الزنوج ،والشك أن وجود هذا النوع من الشعر بين
النرويجيين هو نتيجة لتغير مورثة واحدة ،وبذلك فهو ينتقل بطريقة بسيطة من األب
إلى االبن .وهناك مثال آخر إن البولينيزيين يظهر فيهم ارتباط بين الصفات
والمميزات الخاصة بالمجموعات البشرية الثالث الرئيسية ؛ القوقازي والزنجي
والمغولي.
وفي الوقت نفسه نجد اختالفات ملحوظة بين المجموعات الكبرى ،والكثير
من هذه االختالفات يتحدد بواسطة المورثات – أي تحديد وراثي داخلي .كما يبدو
أن بعض هذه الخالفات ناجم عن عملية االختيار الطبيعي .وكذلك لوحظ إن بعض
المميزات الهامة ،مثل طول القامة ،تتأثر بواسطة البيئة ،ويمكن أن تتعدل بطريقة
ملحوظة في جيل أو جيلين.
كان فرانز بواس أحد االنثروبولوجيين القالئل الذين اهتموا بهذا الموضوع ،وقام
بعدة دراسات مطولة لحساب إدارة الهجرة األمريكية عن المهاجرين القادمين إلى
أمريكا ومقارنتهم بأبنائهم وانتهي إلى أن تغيرات كثيرة قد حدثت في شكل الرأس .
ولكن آراء بواس في هذا المجال قد هوجمت في حينها .
147
فإذا عرفنا كل هذا فالبد لنا أن نتساءل ما معنى ساللة ؟ وهذا السؤال يفترض
وجود الساللة كشيء قائم فعال ،وذلك لوجود اصطالح يسمى الساللة .والحقيقة
إننا إذا تصفحنا عدة قواميس فإننا سنجد معان كثيرة لكلمة الساللة . Raceوكذلك
إذا تصفحنا كتبا أو بحوثا متخصصة فإننا سنجد أيضا عدد من المعاني لمفهوم
الساللة .ومع ذلك فإن لكل من هذه التعريفات مسبباته ،ونجد البعض أثناء
استخدامه للمصطلح يشير إلى أشكال بشرية معينة مختلفة عن بعضها مثل اختالف
الزنجي واألوربي (رغم وجود درجات مختلفة تمتزج فيها هذه الصفات) أو ربما يشير
إلى اختالفات كالتي توجد بين اليوناني والنرويجي مثال أو ربما يشير البعض إلى
اختالفات بين الجنسيات مثل أمريكي وايطالي.
148
المحاضرة العشرون :الساللة كفكرة مطلقة:
إن الساللة كفكرة مطلقة اختلف عليها العلماء كثي ار ،الن مسألة الساللة
كفكرة قائمة بذاتها ال نظير لها في الواقع .وذلك ألننا نجد إن االختالف قد حدث
منذ منتصف القرن الماضي .وقد قال كل من بروكا وتوبينار إن الساللة بمعناها
المطلق ال توجد إال في صورة مختلطة مبعثرة .وقد أثرت هذه األفكار على من أتى
بعدهما من العلماء .فنجد مثال "ربلي Ripleyيقول :انه ليس من الضروري في
دراساتنا أن نعزل ونميز جماعات أو أفراد معينين يمثلون الساللة في أنقى درجاتها .
فالساللة فكرة مطلقة وهي فكرة االستمرار داخل عدم االستمرار أو فكرة الوحدة داخل
التفرق .وعلى الرغم من أننا قد نجد إفرادا قليلين جدا يمثلون النماذج النقية القياسية
للساللة ،إال أن كلمة الساللة ما زالت قائمة ومستخدمة لدينا .وكذلك نجد مثل هذه
األفكار في أبحاث الروس مثل فوربيف Vorobieffومندس كوريا Mendes
Correaونستورخ . Nesturkhوعلى الرغم من إن االعتقاد بأن الساللة فكرة
مطلقة قد شاع اآلن ،إال أن ذلك االعتقاد لم يحل محل االعتقاد بأن الساللة تظهر
في الواقع في شكل ارتباطات الصفات في األفراد .ولكن من الغريب أن نرى أن
االعتقادين يظهران أحيانا في آراء الكاتب الواحد .وعلى أية حال فإن فكرة الساللة
على أنها شيء مطلق قد سبقت تاريخيا فكرة الساللة القياسية .وهذا يعني أن
الساللة تتصف في الواقع والتطبيق بعدة صفات معينة .وبالرغم من الخالفات
الشديدة في المناهج فإننا نجد إن االنثروبولوجيين ال يختلفون كثي ار في عدد السالالت
في العالم .وذلك راجع إلى أنهم – أرادوا أم لم يريدوا – يستخدمون الصفة اإلقليمية
أو الجغرافية للساللة ،وذلك عن طريق تجمع عدد من الصفات الجسدية في أقاليم
جغرافية معينة .وأكبر دليل على ذلك عدم االختالف الكبير في عدد السالالت
وتحديدها إقليميا.
149
وعلى هذا األساس يمكننا أن نتوصل إلى إن الساللة عبارة عن تجميع لعدد
من الصفات القياسية والوراثية وان هذا التجميع مؤقت ومرتبط بأقاليم جغرافية.
اإلنسان المعاصر ،كما هو معروف ،هو نوع ثانوي من نوع اإلنسان العاقل
المتفرع عن جنس اإلنسان من عائلة الهومينيديا ( ) Hominidaeعن رتبة
الرئيسيات عن طبقة الثدييات عن فصيلة الفقاريات .
والشك إن أهم ظاهرة ميزت اإلنسان عن بقية المملكة الحيوانية ،والتي أدت
إلى الكثير من ارتقائه الفكري ،هي وقوفه على قدميه ،تاركا ليديه حرية التصرف
والحركة المستقلة عن السير .والحقيقة هي إن اإلنسان لم يكن هو أول من سار
على قدميه ،ففي الزمن الجيولوجي الثاني – أي قبل ظهور اإلنسان بنحو أكثر من
71مليون سنة ،سارت الحيوانات الضخمة المعروفة باسم مجموعة الديناصورات
Dinosaurianعلى قدميها ،لكن األيدي كانت مجرد جزءا عاج از .وقد قال أحد
الكتاب:
"إن اإلنسان يقف وحده في ترتيبه في الحياة ألنه الوحيد الذي يقف على
قدميه" .''Man stands alone because he alone stands"" .
واإلنسان ليس متخصصا في صفاته الجسدية مثل بقية الحيوانات ،بل إن
كل صفاته عامة .فعلى سبيل المثال يحتوي فم اإلنسان على قواطع وأنياب
وضروس تمكنه من القطع والتمزيق والطحن ،على عكس الحيوانات التي
151
تخصصت إما في الطحن فأصبحت نباتية ،واما في التمزيق والقطع فأصبحت من
رتبة آكلة اللحوم .وبذلك يمكن لإلنسان أن يعيش على الغذاء النباتي والحيواني معا
وكذلك فاإلنسان .وهي صفة عمومية على عكس تخصص بقية عالم الحيوان.
قوي جنسيا ،إذ ال يرتبط بموسم للتناسل مثل بقية الحيوانات ،بل على العكس نجد
إن الرغبة الجنسية عنده دائمة على مدار السنة .ولذلك فليس ثمة خطر على
اإلنسان من أن يتخصص في صفة جسدية معينة ،وبالتالي ال يقف تطوره عند حد
معين يصبح أسي ار له مثل تخصص الحيوانات في مناخات معينة ،ومن ثم فإنه
يعمر كل مناطق العالم .مثال :التخصصات التالية :الجسم األسطواني لإلحياء
البحرية ،خرطوم الفيل ،رقبة الزرافة ،الغطاء الثقيل للسلحفاة أو التمساح ،الخ....
وقد ذكرنا إن وقوف اإلنسان على قدميه قد مكن يديه من القيام بإعمال
أخرى ،وخاصة صناعة األدوات ،ولهذا فإن الصفة الثانية لإلنسان التي تميزه عن
الحيوان هي انه "صانع أدوات" .وصحيح إن بعض القردة العليا تستطيع أن تستخدم
عصيا أو أفرع شجر ،ولكن ذلك ال يمثل نمطا سلوكيا عند هذه القردة وال تستخدم
عصيا من نوع معين أو تهذب بطريقة معينة تخدم هدف استخدامها ،وقد لوحظ أن
بعض الشمبانزي في األسر يمكن أن يستخدم بعض األدوات المعقدة ،الشمبانزي
الطليق يمكن أن يستخدم عصى يبللها بلعابه ويدخلها في جحور النمل ويسحبها بما
علق عليها من النمل ليأكله ويكرر العملية ،لكن يبدو أن لكل شمبانزي شكل محبب
من العصي ،وانه ال يوجد شكل عام يستخدمه الكل.
والصفة الثانية التي تميز اإلنسان هي القدرة على التفكير الغريزي وغير
الغريزي ،والنقل والمحاكاة والتوارث الفكري واالجتماعي .وهذه هي أعلى من
الصفات الموجودة في المملكة الحيوانية.
151
األحياء كله .أكبر حجم هو مخ الحوت الذي يبلغ 6111سنتمت ار مكعبا ،ثم الفيل
5111سم 8ثم بعض أنواع الحيتان الصغيرة والدرافيل وغيرها 0311سم ، 8ثم
اإلنسان بمتوسط 0451سم ، 8بينما يبلغ المخ عند أقرب الرئيسيات إلى اإلنسان
511سم 8عند الغوريال 414 ،سم 8عند الشمبانزي 815 ،سم 8عند األورانج
أوتان و 023سم 8عند الجيبون.
وليست المسألة مجرد الحجم ،بل انه بنسبة حجم المخ إلى وزن الكائن ،نجد
أن اإلنسان يتفوق على أقرب منافس له ،وهو الغوريال – بستة أضعاف.
عصر الثدييات
وأالن نرى كيف تطور اإلنسان من أصوله األولى التي ترجع إلى عصر
األوليجوسين – أي إلى حوالي 81مليون سنة مضت .ففي نهاية عصر
األوليجوسين بدأ شكل جديد من أشكال الحياة يتطور عن رتبة الرئيسيات .ومن هذا
الشكل الحيواني الجديد الذي يمكن أن نسميه عائلة الهومينيديانية ( )Hominidae
تفرعت أصول اإلنسان والقردة العليا .وال نعرف تماما كيف كان شكل هذا األصل ،
لكنه ربما شابه أحد أشكال القردة التي تسمى ليمنوبثكس Limnopithecusوالذي
وجدت حفرياته في شرق إفريقيا (كينيا) .وأقدم األدلة على هذا االتجاه عثر عليه في
حفرتين من عصر األوليجوسين في مصر (الفيوم) وهما بارابثكس
))Parapithecusوالذي يعد أصل قردة العالم القديم ،وبربليوبثكس
) )Proplioithecusوهو يعتبر من أصول الهومينيديانية ،وهما بذلك أقدم من
الليمنوبثكس .وقد كان في إمكان هذا القرد أن يعيش على األشجار ويسير بصعوبة
لمسافات قصيرة على األرض .وفي عصر الميوسين بدأ الجو يميل للبرودة مما
أدى إلى انخفاض شديد في درجة الح اررة تسبب في سقوط أوراق الشجر وتيبس
األغصان وبالتالي لم يبقى أي مجال للعيش على األشجار مما اضطر بعض
152
الليمنوبثكس إلى النزول إلى األرض لجمع الغذاء بعد أن قل محصول الشجر وزاد
العشب والحشائش تحت األشجار التي تباعدت عن بعضها البعض .
وقد تمكن هذا الفرع (الليمنوبثكس ) الذي نزل إلى األرض من االستمرار في
السير على قدميه ،وكون في النهاية أصول اإلنسان .والمتفق عليه انه في أوائل
عصر الميوسين – منذ حوالي 25مليون سنة – حدث انقسام بين هذه القردة التي
سارت على األرض ،أدى إلى تكوين األصول اآلتية :
أ .أصول الجيبون ،وهو أقدم القردة العليا انفصاال ،وأكثرها التصاقا بالحياة الشجرية
وأقلها من حيث حجم المخ.
اوال :البروكونسول بنوعية الكبير الذي يمكن أن يكون أصل الغوريال ،والصغير
الذي يمكن أن يكون أصل الشمبانزي .
ولفترة حوالي عشرين مليون سنة بعد كشوف أواخر الميوسين ال نجد حفريات .لكن
الشك إن عائلة الهومينيديا كانت تتطور في هذه الفترة الطويلة .ثم نجد بعد ذلك
153
حفريات طالئع اإلنسان .وأكثر هذه الطالئع بداية وأقل اقترابا من اإلنسان هي
حفريات القرد الجنوبي Australopithecusالذي وجد في جنوب إفريقيا في أواخر
عصر البليوسين وأوائل عصر البليوستوسين.والمعتقد أنة إشعاع تطوري من خط
الهومينيديا الرئيس انفصل وانقرض ،وبعد ذلك اكتشفت حفريات أخرى من عصر
البليوستوسين ،يتفق اغلب العلماء على أنها بداية سلسلة جنس اإلنسان ،وأقدم هذه
الحفريات هي تلك التي اكتشفت في جاوة وأطلق عليها اسم اإلنسان الواقف Homo
Erectusأو بثكانتروبوس بمعنى اإلنسان القرد .وهناك فروق كبيرة في جميع
الصفات الجسدية وصفات المخ بين اإلنسان الواقف وما قبله من حفريات .ومنذ
بداية اإلنسان الواقف تصبح صورة التطور البشري أوضح نسبيا عن الصورة السابقة
،لكثرة الحفريات وتصاعد الصفات الجسدية للحفريات الالحقة في اتجاه الصفات
البشرية الحالية ،مما يعطينا دليال مستم ار على نمو التطور البشري.
وال نريد إن ندخل في متاهات كثيرة .لقد كان الرأي إلى أواخر الخمسينات
يستبعد أن يكون اإلنسان العاقل قد نشأ نتيجة تطور لمجموعة نياندرتال ،بل كان
أقرب إلى استبعاده هذه المجموعة على أنها نوع من جنس إلنسان نشأ موازيا لخط
التطور األساسي من اإلنسان الواقف إلى اإلنسان العاقل .لكن المؤتمر الذي عقد
154
في عام 0162في بورج فارتنشاين بالنمسا لدراسة التطور البشري وتصنيفه قد انتهى
إلى اعتبار نياندرتال نوع فرعي وليس نوعا منفصال من جنس اإلنسان ،وانه قد
انقرض أو اندمج مع مقدمات اإلنسان العاقل حسب األماكن الجغرافية المختلفة.
أما االتجاه الثاني :وهو األحدث -فيقول إن التطور قد سرى على كل
مجموعات اإلنسان الواقف بحيث تحول إلى اإلنسان العاقل بواسطة تبادل الجينات
أو المورثات والهجرة المستمرة والتعديالت المالئمة الماكن الهجرة الجديدة والطفرات
التي تحدث فيها .ويسمى هذا االتجاه باألصل الكلي Antigenicألن كل اإلنسان
الواقف قد تطور بدرجات متفاوتة متبادلة .ومن أكبر مؤيدي هذا االتجاه دوبزانسكي.
155
وبهذه الصورة يعالج دوبزانسكي مشكلة السالالت الحالية على أنها تخضع بصفة
مستمرة للتغير التدريجي كما حدث للسالالت السابقة.
أما أصحاب نظرية التطور الجزئي فإنهم يعتمدون على صور العزلة التي كان
يعيش من خاللها إنسان العصور الحجرية القديمة .ففي تلك الفترة لم يتجاوز سكان
العالم مليونا من األشخاص منتشرين في أرجاء الدنيا بصورة جماعات صغيرة العدد
ال تتجاوز بضع عشرات إلى مئات قليلة من السكان .ومثل هذه الظروف تعد مثالية
للعزلة التي تساعد على حدوث التغير ألساللي في قسم واحد من الناس .كما أن
تبادل الجينات سوف يكون في منتهى البطء بحيث يسمح بانقسام السالالت
وتمايزها.
وعلى الرغم مما تبدو عليه هذه األفكار من قوة ،فهناك نوع من الشك يمكن
أن يراودنا بسبب عامل التطور حضاري .فنظام االغتراب في الزواج ) )Exogamy
هو نظام قديم لتجنب التزاوج بالمحرمات ( .) Incest tabooوان كانت بعض
الجماعات في البداية قد سمحت بالمحرمات ،إال أن التقسيم االجتماعي والديني
سرعان ما يفرض االغتراب على أبسط المجتمعات وهذا أمر نالحظه في كثير من
القبائل البدائية المعاصرة في حوض األمازون الذي يحدث فيه االغتراب في الزواج
حتى ولو كانت الزوجة من مجموعة لغوية أخرى .والشك أن هذا يسرع بعملية تبادل
الجينات ويضمن تطو ار عاما مشتركا في السالالت المختلفة .وليس الزواج وحده هو
العامل األساسي واال سار تبادل الجينات ببطء شديد .لكن هناك أيضا التحركات
القبلية المختلفة في صور غزوات وهجرات تؤدي إلى انتقال المجتمعات من أماكنها
إلى أماكن اخرى في حركة تكاد ال تتوقف وخاصة غزوات وهجرات الرعاة.
والشك أن فكرة التطور الشامل أو الكلي أكثر قوة من الفكرة الجزئية .ويشبه
دوبزانسكي التطور البشري بنهر واحد كبير كثير االنحناءات توازيه مجاري عديدة
صغيرة .وقد يحدث أن يبتعد مجرى صغير وينتهي إلى الفناء .لكن الغالبية تلتحم
156
وتفترق عن النهر الكبير في صورة متكررة .وتمثل هذه المجاري الصغيرة السالالت
التي تنشأ في ظل ظروف خاصة لكنها تندمج مع التيار الكبير ذو الصفات الساللية
العامة .وبعبارة أخرى فإن الساللة عبارة عن تيار مؤقت يذوب في التيار العام
( ) Nesturkhأن للتطور البشري ،ويؤكد العالم السوفيتي نستو رخ
سالالت اإلنسان هي نتيجة التطور التاريخي.
فال شك أن البيئة الطبيعية كان لها أثر كبير على اإلنسان و خاصة في مراحل
تطوره األولى أكثر من الوقت الحاضر ،وكان التأثير واضحا على عدد من
المظاهر مثل لون البشرة وشكل الشعر ولون العينين...الخ .وكذلك طريقة الحياة
التي كان لها أثرها الواضح على تطور اإلنسان وتقدمة أو انقراض ساللته ،وهذه
وجهة نظر معارضة تماما لوجهة نظر العلماء الذين يعتقدون أن تكوين السالالت
جاء نتيجة لتغاير ترتيب وتعادل مورثات ال يمكن أن تتغير ( Genesمورثات).
فحينها انتشرت السالالت عبر الظروف البيئية المختلفة وكان لذلك أثره الفعال ،
ولكنه ال يصل إلى أثر البيئة على سالالت الحيوان ،وذلك ألن اإلنسان اختلف كيفا
عن الحيوان عن طريق معارضته الدائمة للبيئة التي يعيش فيها ،على عكس
الحيوان الذي يرغب في البقاء على مظاهر البيئة التي تكيف وتأقلم معها .وقد
عارض اإلنسان بيئته عن طريق العمل الجماعي من أجل تغيير مظاهرها لصالحه
الخاص.
157
وكان انعزال السالالت البشرية في البداية في بيئات جغرافية متغايرة ذا أهمية
كبرى ،ولكن زيادة السكان ونمو االتصاالت البشرية أدى إلى اختالط السالالت .
ويرى عدد من االنثروبولوجيين أن االنعزال ثم االتصال واالختالط قد حدثا عدة
مرات في تاريخ البشرية وعلى فترات زمنية طويلة .وفي كل مرة يزداد فيها اإلنسان
ويختلط تستقر المميزات الساللية الجديدة إلى أن ظهر اإلنسان الحديث فعمر سطح
ورغم أن عددا من الظروف الجغرافية ]الجبال العالية – الصحارى األرض جميعا.
– الغابات الكثيفة[ كانت عوائق أمام هجرات اإلنسان إال أنها لم تمنع الهجرات عبرها
،وهكذا نجد أن العزلة –الهجرة – زيادة السكان – االختالط ألساللي من العوامل
الرئيسية التي حدثت بشكل منفرد أو جماعي وأدت إلى تكوين السالالت المعاصرة.
158
المحاضرة الحادية والعشرون :التطور واإلنسان الحديث :
قد يقال إن السالالت قد استقرت على صفات ثابتة منذ فترة طويلة .لكن دراسة
السالالت ليست قديمة ،ولهذا ال نستطيع أن نعرف ماذا يحدث من تطور في
السالالت الحالية .ويكفي أن نعرف أن القرون األربعة الماضية – منذ الكشوف
الجغرافية الكبرى – قد أدت إلى هجرات واسعة وبأعداد كبيرة إلى بيئات جديدة .
ومعلوماتنا عن عملية التطور هذه ما زالت غير كافية .ولكن الحركة المستمرة في
العالم عبر الحدود الدولية ،ومن الريف إلى المدينة قد ساعدت بدون شك على
سرعة انتقال الجينات عبر العالم باستثناء مناطق محدودة معزولة .وبما أن اإلنسان
يسعى إلى التحكم في بيئته ،فإنه بسعيه هذا يؤدي –بدرجات مختلفة -إلى تغير
نمط االنتخاب الطبيعي.
وباإلضافة إلى ذلك فإن التقدم الطبي الملحوظ في إرجاء العالم قد ساعد على
تناقص أو اختفاء جينات أمراض معينة فلم تعد تورث بالضرورة .ولكنه ساعد أيضا
على ظهور جينات أمراض جديدة للبيئة الجديدة .وقد يتساءل بعض
االنثروبولوجيين ألم يحن الوقت الذي يجب فيه التخلص من الجينات الضارة ؟ ولكن
ذلك يستدعي تعقيما إجباريا لحاملي مثل هذه الجينات ،فهل يمكن أن يتم ذلك
برضاء المجتمع؟
وليست الجينات خاضعة فقط لغزو الطب الحديث .بل أنها تخضع أيضا
لظروف المناخ والريف والمدينة واالختالفات االجتماعية والعادات الغذائية ،وغير
ذلك كثير مما تعمل من خالله الجينات من أجل استمرار التطور البشري.
وخالصة القول إن انهيار أسوار العزلة ،وزيادة إعداد الناس في العالم ،
واالختالط المتزايد منذ القرون األربعة الماضية قد أصبح يؤهل اإلنسان العاقل
الحالي إلى تطور سريع جدا .وبعبارة أخرى فإن زيادة قدرة اإلنسان على التكيف
تؤدي إلى توسيع احتماالته للتطور البيولوجي.
159
ويقول األستاذ واشبورن ( ) (Washburn( .إننا نعرف أن الذكاء أو طول
األعمار أو السعادة ال تتحقق إال من خالل النظام االجتماعي ألي مجتمع .
وان النظام االجتماعي (بما فيه من قيم وعادات وتقاليد...الخ ) .يغير من أنواع
الجينات .لكننا ال نعرف مجتمعا بدأ في التعرف على القدرات الجينية ألفراده و إننا
ال نزال بدائيين نعيش على عادات قديمة وسط تقدم علمي ،وان السالالت هي من
خلق الماضي ،وهي ليست سوى آثار دارسة لظروف لم تعد قائمة ،والعنصرية
ال يدعمها العلم الحديث .وقد ال نعرف تفسير شكل أيضاهي من أثار الماضي
وجه المغولي ..ولكننا نعرف فوائد التعليم والتقدم االقتصادي .ونعرف أن ثمن
التعصب العنصري هو الموت واليأس والكراهية".
ولقد استطاع عدد من العلماء العثور على بقايا عظمية تتكون من جماجم
وهياكل عظمية ،أو أجزاء منها ،في أوقات مختلفة وأماكن عدة من العالم.
فانتهوا من دراستها إلى إن بعضها يخص حيوانا يقع وسطا بين اإلنسان الحديث
واألصل المشترك بين اإلنسان والقردة العليا ،فأطلقوا عليه اسم ()Ape-men
(القرد -اإلنسان) ،في حين توافرت أدله علمية على أن بعضها األخر تخص
ساللة اإلنسان المعاصر.
وبدأ أول اكتشاف في عام 0343في (جبل طارق) ،ثم اكتشفت في عام
0356في (دسلدورف) بألمانيا أول جمجمة من بقايا ساللة (إنسان نياندرتال) .
وكان أول رجل نذر نفسه للبحث عن أجداد اإلنسان األوائل هو (الدكتور يوجين
دوبوا) .فمنذ عمل أستاذا للتشريع في جامعة أمستردام كان مهتما في أصل اإلنسان
.وقد توصل في دراساته النظرية إلى رأي خالصته إن مهد البشرية يجب أن يكون
أما في إفريقيا ،حيث ال يزال الغوريال الشمبانزي يعيشان حتى اآلن ،أو في منطقة
الماليو حيث ال يزال االورانغ اوتانغ يعيش .وذهب دوبوا إلى (بادانغ) في سومطرة
161
،وظل يبحث زمنا دون جدوى .ثم انتقل إلى جاوة وواصل بحثه حتى اكتشف في
عام 0331جمجمتين في قرية (واجاك) ثم اكتشف في عامي 0311و 0312في
منطقة (ترينيل) البقايا العظمية التي عرفت باسم (القرد -اإلنسان-المنتصب)
( . )Erectus-Pithecanthropusواستنتج (دوبوا) من تلك العظام أنها بقايا
حيوان كان وسطا في تطوره بين القردة العليا واإلنسان ،وانه كان ،كما لوحظ من
عظم الفخذ انه يسير منتصبا على قدميه ،كما ظن بعض العلماء انه كان يستعمل
نوعا من اللغة .ولقد قدر (دوبوا) ،واقر رأيه بعد ذلك عدد من العلماء ،الزمن الذي
عاش فيه ذلك الحيوان بين نصف مليون وثالثة ارباع مليون سنة ،الن بقاياه وجدت
في مستوى جيولوجي يرجع إلى عصر (البليوستوسين) المتقدم أو األوسط .فإذا كان
الرأي القائل بان هذا الحيوان هو أقدم السالالت البشرية صحيحا ،فان ذلك التاريخ
يمكن إن يعتبر تاريخ ظهور اإلنسان كساللة منفصلة على وجه األرض) ( .
ثم توالت االكتشافات حتى بلغت ثماني عشرة ساللة أهمها :
161
وهي سالالت وجدت مع بعضها إنسان كريما لدي (:)Grimaldi Man -7
أدوات حجرية كان يستعملها أفراد تلك السالالت .وقد قطعت الساللتان األخيرتان
اللتان عاشتا في جنوب أوربا شوطا من التقدم إذ كانتا تسكنان الكهوف وتستعمالن
األدوات الحجرية وتدفنان الموتى .كما خلف إنسان كرومانيون رسوما جميلة على
جدران الكهوف وترك تماثيل رائعة للحيوانات.
نشأ اإلنسان كما رأينا ،من مجموعة واحدة متطورة ،فكيف تشعبت تلك
المجموعة إلى عناصر متميزة ؟ الواقع إن بعض السالالت القديمة أظهرت فعال
صفات مختلفة عن بعضها تدل على ظهور عناصر متميزة .فلقد كانت في (إنسان
كريما لدي) صفات زنجية واضحة ،كما إن بعض البقايا حوت صفات قوقازية .
وليس لدى العلماء اآلن أدنى شك في إن النظرية القديمة القائلة بتطور اإلنسان منذ
انفصل عن القردة حتى اآلن على خط مستقيم ،والتي تقتضي افتراض تطور
السالالت واحدة عن األخرى ،نظرية خاطئة .ففي كل ساللة من السالالت التي
وجدناها صفات بدائية وصفات حديثة متطورة .ومعنى هذا إن المجموعة البشرية
األولى تجزأت وانتشرت في أماكن مختلفة متباعدة مكونة مجموعات مستقلة.
والثابت علميا إن لدى اإلنسان ميال طبيعيا نحو (التبدل) في الصفات الجسمية
( )Mutationوهو صفة عامة موجودة في كافة اللبائن .ولقد مكن (االنعزال)
( )Isolationالذي تعرضت له أقسام من تلك المجموعة األولى أبان انتشارها على
األرض ذلك (التبدل) من الظهور كما انه ثبت الصفات الجديدة .يضاف إلى ذلك
المجموعات المنعزلة تعرضت إلى فعل عاملين أساسين في تقرير الصفات الطبيعية
.أولهما (االختيار الطبيعي) ( )Natural selectionالذي يقضي على اإلفراد الذين
ليست لهم الصفات المالئمة والضرورية للحياة في البيئة التي يعيشون فيها في حين
يبقى على الذين يملكونها ،والعامل الثاني هو (االختيار االجتماعي) ( Social
162
)selectionالذي يفضل بموجبه المجتمع الزواج من نساء ذوات صفات معينة ،
فتقل تبعا لذلك فرص اللواتي ال يملكن تلك الصفات في اإلنجاب فتتالشى الصفات
التي يحملنها وتختفي تدريجيا .فلو فرضنا إن المجموعة البشرية األولى قد انقسمت
إلى أربعة أقسام ،عاش كل واحد منها في بيئة معينة ،فإننا سنحصل بعد مرور
عدد كاف من األجيال على أربعة عناصر لكل واحد منها صفات طبيعية تختلف
عن صفات العناصر األخرى ،كما ال تشبه األصل الذي تفرعت منه .ويبقى عامل
قوي هام يمكن أن يخلق عناصر أو أقساما من عناصر جيدة وهو (التهجين)
(" ، )Hybridizationومعناه االختالط والتناسل بين مجموعتين متميزتين طبيعيا .
وينتج (التهجين) دائما صفات جديدة هي خليط من صفات األصلين" .فلو التقت
مجموعات من القسمين األول والثاني ،ومجموعات من القسمين الثالث والرابع من
األقسام األربعة المار ذكرها وتزاوجت وتناسلت ألنتجت مجموعتين بشريتين جديدتين
تختلف كل واحدة منهما اختالفا تاما في صفاتها عن المجموعتين اللتين هجنت
أحداهما األخرى .ولو أتيح لهاتين المجموعتين الجديدتين إن تستق ار زمنا منعزلتين
لثبتت الصفات الجديدة فيهما وأصبحتا مجموعتين مختلفتين ،فبلغ عدد المجموعات
ست مجموعات بدال من أربع .
163
المحاضرة الثانية والعشرون :أسباب ظهور السالالت البشرية:
أرجع دارون سبب تكوين السالالت إلى تأثير العزلة الجغرافية (الطبيعة
والبشرية) التي تمنع االختالط البيولوجي بين الجماعات البشرية المختلفة ،مما يعزل
األوعية الجينية الوراثية لكل منهما ،وقد عمل هذا العزل على تأكيد صفات كل
جماعة ،مما خلق سالالت متباينة .والمالحظ أنه عند االختالط الساللي ،فان
السمات التي تبرز وتظهر وتظل واضحة في الهجين هي السمات الغالبة (السائدة)،
فمثال إذا حدث اتصال بيولوجي بين شخص رأسة طويل وشخص آخر رأسه قصير
أو عريض فإنه هناك ميال ألن يتغلب القصر أو العرض على الطول ،ويصدق هذا
القول بالنسبة لرجحان األنف العريض المنبسط على األنف الدقيق الطويل ،والشفاه
الغليظة على الشفاه الرقيقة واللون الغامق على اللون الفاتح ،ولكن يجب اإلشارة إلى
أن معلوماتنا حتى اآلن ال تكفي لتبرير مثل هذا االفتراض بالنسبة لتعمق التفاعالت
الجينية .
حدوث طفرة Mutationالتي تحدث بشكل نادر ،ولكنها تؤدي إلى تغير 0ـ
ملموس في السمات الجسمية ،والجينات (األنماط الوراثية) تتغير نتيجة للعوامل
164
الطبيعية ،ويقدر العلماء أنه في كل جيل يحدث تغير لواحدة من بين أربعين ألف
وحدة جينية معينة ،هذا وينتقل التغير عبر األجيال وفقا لنظرية مندل في الوراثة.
االختيار الطبيعي الذي يؤدي ـ عند دارون ـ إلى أن تتكيف األجسام وفقا 2ـ
لظروف البيئة ،أما األجسام التي تفشل في عملية التكيف فتموت وتزول.
االنتقال الوراثي Genetic driftوهو الذي تتكون منه السالالت في أحيان 8ـ
من كثيرة ،ولكي نفهم المقصود من ذلك نفترض أن شعبا ما يسود بين %05
افراده نوع معين من الجينات ،ولنفترض ان %01من هذاالشعب هاجروا
واستوطنوا مكانا آخر ،وبمحض الصدقة قد ال يوجد بين هؤالء المهاجرين شخص
واحد به ذلك النوع من الجينات ،فنتيجة لذلك ينشأ الشعب الثاني مختلفا تماما عن
لشعب األول مع أنه مشتقا منه ،ومع مرور األجيال ستزداد الفروق بين الشعبين ألن
نسبة الـ %05في الشعب األول ستنتشر حسب قوانين مندل للوراثة على حين أن
الشعب الثاني سيظل خاليا منها.
عملية االختالط بين الشعوب ،فإذا اختلط شعبان لكل منهما خصائص 4ـ
مختلفة ،فإن التزاوج فيما بينهما ينتج نوعا ثالثا مختلفا عن كل من الشعبين في
خصائصة الجينية وفقا لقوانين الوراثة.
هذا وتفيد مثل هذه التقسيمات في تتبع السمات الرئيسية بين المجموعات
البشرية ،ومنها تتبع العالقات والصالت البيولوجية والتاريخية بين المجموعات
اإلنسانية خالل العصور المتعاقبة ،وتظهر هنا أهمية دراسة موضوع السالالت
البشرية وصفاتها المميزة ،إذ ال معنى لدراسة ذاتية الصفات الساللية نفسها دون ما
هدف آخر يربطها بسائر الدراسات األخرى.
من هذا يتضح أنه رغم أن الساللة أو العرق تمثل كيانا بيولوجيا تكونيا ،إال
أنه يصعب تحديد تعريف واضح المعالم له ،حتى ولو أدخلنا في االعتبار الصفات
الثقافية والمميزات االجتماعية ،إذ أنه تعريف مرن وقابل للتغيير تبعا للمكان والزمان
165
والظروف ،ورغم دخول الدراسات والعمليات اإلحصائية في تحديد سمات اإلنسان
لمعرفة درجة انتمائه إلى ساللة معينة إال أنه ما زالت دراسة تحديد السالالت يكتنفها
كثير من الصعوبات .وعليه يجب ان نوضح بأن الفروق التي بين السالالت المتباينة
ال تحمل أية داللة ايجابية او سلبية إال إذا تعارضت مع البيئة التي تحيا فيها ـ وغالبا
فأن هذا ال يستمر طويال ألن عمليات التكيف تتكفل بتعديلها.
هذا ويعزى السبب في تميز كل ساللة بسمات جسمية معينة إلى الجينات
(العامل الوراثي) ،إذ هي أساس كل االختالفات التكوينية (وغيرها) بين المجموعات
البشرية بل وغيرها من سائر الكائنات الحية فإذا انتشرت سمات جسمية معينة بين
أفراد مجموعة بشرية فذلك ألن نوعا معينا من الجينات (النمط الوراثي) ينتشر فيها
عن طريق التزاوج الداخلي في المجموعة نفسها ،ولقد كانت عزلة الشعوب بعضها
عن بعض من العوامل األولى لتميزها في سماتها الجسمية ألن جينات كل شعب
ظلت بمعزل عن جينات الشعب األخر ،معنى هذا أنه إذا تزاوجت مجموعة بشرية
داخليا ،Inbreedingفإن هذا من شأنه بمرور الزمن أن تتقارب سمات أفرادها ،ثم
تنضج سماتهم الجسمية شيئا فشيئا حتى يصبحوا متميزين في الصفات عن غيرهم
من أفراد المجموعات األخرى .ومن المعروف أن أية سمة Traitجسمية معينة إذا
ما انتشرت في شعب معين فإنها تختلف من شخص إلى آخر في حدود خاصة،
وحينئذ يلجأ العلماء إلى أخذ المتوسط الحسابي ،فإذا قلنا مثال أن قامة قبائل األينو
(جماعات لها سمات تعيش في اليابان) هي 05701سم ،فليس معنى هذا أن كل فرد
166
فيهم له هذا الطول ،وانما المقصود هو أن هذا هو الطول الشائع أو متوسط الطول،
وهكذا بالنسبة لبقية الصفات األخرى.
كل هذه األمثلة تدل على انتشار النزعة نحو تعميق الفروق االنثروبولوجية
على اختالف أنواعها بين األفراد والجماعات وهي التي تعتبر أساسا لتقسيم النوع
البشري اإلنساني إلى سالالت.
ورغم االعتماد حاليا على القياسات االنثروبومترية لتحديد االنتماء الساللي إال
أنه من الواجب أن بان هناك تداخال واضحا وملموسا بين قياسات كل ساللة وأخرى
،مما يجعل الحكم الصائب اعتمادا على هذه القياسات صعبا ،خاصة إذا كانت هذه
Gene األوعية الجينية بين القياسات محدودة العدد كما أن االحتكاك
) )poolsيحدث اختالطا كبي ار بين السالالت والمجموعات البشرية.
167
التحديد الساللي اقرب الى الدقة ،وبذلك يمكن معرفة مفهوم الوعاء الجيني بانة
يساوي الساللة بوضوح .
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن اآلن هو :ماذا نعرف عن العناصر القديمة
وصفاتها ومواطنها ؟ الواقع إننا ال نعرف شيئا عن تاريخ تلك العناصر مطلقا .
فالبقايا العظمية التي اكتشفناها حتى اآلن قليلة جدا ال تكفي إللقاء الضوء الكافي
على أصول تلك العناصر .كما ان البقايا العظمية ال تهدينا أللوان الشعر والعيون
والبشرة ،وال لشكل األنوف والشفاه ،وال للدم ومجامعيه ،وال إلى أية صفة من
الصفات التي توجد في غير العظام من الجسم البشري ،وتلك مقاييسنا الوحيدة لتقسيم
العناصر وتحديدها .كما إننا ،من ناحية أخرى ،ال نستطيع الجزم بما سينتج في
المستقبل من استمرار اختالط العناصر وامتزاجها.
ولقد جرت عدة محاوالت لتقسيم سكان األرض إلى عناصر واستعملت مقاييس
مختلفة هي في األغلب الصفات الطبيعية الظاهرة .أما المقاييس التي تستعمل اآلن
في تقسيم العناصر فتشمل عددا كبي ار من هذه الصفات والتي أهمها:
168
نسبة عرض الجمجمة إلى طولها (العرض 011الطول). -4
وكان من المكن قبل حوالي سبعين عاما أن تؤدي الدراسات التي قام بها بعض
العلماء عن مجموعات الدم إلى إثبات توزيعها بين سكان األرض بشكل يمكن معه
اتخاذها مقياسا للتفريق بين العناصر .ولكن كثي ار من اآلمال خابت اآلن فلقد وجد
إن كافة مجموعات الدم ،وهي ( ).A.B.AB.Oموجودة في أغلب سكان األرض
المعاصرين بنفس المعدل في التوزيع تقريبا.
وعلى أساس الصفات المار ذكرها ،تقسم العناصر البشرية اآلن تقسيمات عديدة
،فمن العلماء من قسمها إلى احد عشر عنص ار ،ومنهم من قسمها إلى ثالثين
عنص ار .أما أغلب كتب االنثروبولوجيا الطبيعية الحديثة فتقسمها إلى ثالثة أو أربعة
عناصر .ولقد اتفق علماء االنثروبولوجيا الطبيعية الذين اجتمعوا بدعوة من
(اليونسكو) ،كما أشرنا آنفا ،على تقسيم العناصر إلى ثالثة هي (القوقازي) و
(المغولي) و (الزنجي).
أما العنصر (االسترالي) وهو العنصر الرابع في التقسيم الرباعي فقد اعتبروه
فرعا من العنصر (القوقازي) .ويقسم كل عنصر من العناصر الثالثة إلى أقسام
وفروع.
169
المحاضرة الثالثة والعشرون :العنصر والتمييز العنصري :
إن تقسيم الشعوب اوالمجاميع البشرية مهمة شاقة ومعقدة للغاية .فأغلب
المقاييس المستعملة للتفريق بين العناصر غير صالحة وليس فيها ما يمكن أن يعتبر
مقنعا من حيث قدرته على تزويدنا بتعريف أو تحديد ألي عنصر من العناصر
البشرية ،وذلك لألسباب االتية :
اوال :اشتراك الصفات واختالفها بين كافة العناصر ،فليس هناك عنصر له صفة
خاصة به وال مجموعة من الصفات ينفرد بها .فالشعر األسود مثال صفة نجدها في
كافة العناصر على اإلطالق ،وكذلك الجمجمة المتوسطة أو البشرة السمراء .
ثانيا :أن مفهوم العناصر البشرية التي تتميز بصفات طبيعية معينة مفهوم إحصائي
يطبق على العناصر دون األفراد ،وان الصفات التي نعتبرها مقياسا للتفريق ليست
أال مزجا للمعدالت ،فإذا قلنا مثال أن طول قامة المغولي يتراوح بين 045و071
سنتيمت ار فمعنى هذا أننا توصلنا إلى هذا الرقم من حساب معدالت طول قامات آالف
بل عشرات اآلالف من المغوليين .وعلى هذا فإننا :0نجد تفاوتا شديدا في صفات
كثير من أفراد العنصر الواحد وشذوذا كبي ار عن المعدالت .و :2نجد أن بعض أفراد
العنصر يشبه أفرادا من عناصر أخرى .فكثير من أفراد العنصر القوقازي يمكن أن
يعتبروا بسهولة من العنصر الزنجي والعكس صحيح .والمؤكد إن الفروق بين
العناصر أقل كثي ار من أوجه الشبه بينها.
والخطأ الكبير الذي نقع فيه دائما هو أننا نعتبر العناصر مجاميع مستقلة
متميزة في حين إننا نعرف انه ال يوجد واحد منها استطاع أن يظهر أو يتطور
بصورة مستقلة ،بل كلها مخلوطة .ويتضح هذا الخلط من تشابه بعضها مع البعض
األخر .وفوق هذا كله ،فان قليال جدا من أفراد العنصر الواحد تنطبق عليهم كافة
الصفات العامة للعنصر .ولذا فنحن ال نجد نسبة كبيرة بين أفراد العنصر يمكن أن
171
تعتبر نموذجا أصيال له .ولنضرب مثال على هذه الحقيقة .فالسويديون يعتبرون
أنقى شعوب قسم (النوردك) من العنصر القوقازي .ولكن حين قام العلمان (فورست)
و (ريتزيوس) في عامي ( )0317و( )0313بقياس ( )45ألف رجل من رجال
الجيش السويدي وجد أن ( )%00منهم فقط تنطبق عليهم صفات (النوردك) االصلية
،وهي الجمجمة الطويلة ،والقامة الطويلة ،والشعر األصفر ،والعيون ذات األلوان
الفاتحة .ولم تصل النسبة إلى ( )%21إال بعد تعديل مقياس الجمجمة وجعله يشمل
الطويلة والمتوسطة .وحين أعيدت التجربة تحت إشراف العالمين (لندرز) و(لندبورغ)
بعد ثالثين عاما ،وعلى ( )47ألف جندي سويدي ظهر إن ( )%81من أولئك
الجنود ذوو رؤوس طويلة .وعلى هذا فقد قيل إن السويديين الذين تعتبرهم المقاييس
أنقى (النوردك) ال يمكن أن يوصفوا بأكثر من أنهم (نوردك لحد ما).
يضاف إلى هذا ان هناك بعض المجموعات البشرية التي لم تتقرر تبيعها
( )Polynesiansالذين لعنصر معين بشكل متفق عليه ،مثل البولينيزيين
يعتبرهم بعض االنثروبولوجيين من العنصر القوقازي ألن فيهم صفات تشبه صفات
ذلك العنصر في حين يعتبرهم آخرون عنص ار مستقال ،وهم شعوب تمتزج فيها
صفات عنصرية قوقازية ومغولية وزنجية،وابرز صفاتهم الجسمية بروز قليل في
الوجة ونسبة معتدلة من الشعرعلى الجسم وشعرمتموج وقامات طويلة وبشرة خفيفة
السمرة والمعتقد انهم جاءوا من الغرب وربما من اندونيسيا في بداية العهد المسيحي
وابرز ما يميزهم الحضارة الراقية والفنون والتقاليد البحرية واالهتمام الزائد باالنساب،
وتطور االلعاب والفنون والحفالت االجتماعية .وكذا األمر بالنسبة للـ (آينو)
( )Ainuوهم شعب قوقازي يعيش على جمع الغذاء ويعيش شمال اليابان في جزيرتي
(هوكا يدو وريوكيو) ويتكلمون لغة اسيوية قديمة ال صلة لها باي لغة من لغات
المنطقة ،والمعتقد انهم فرع من العنصر القوقازي االبيض الن في صفاتهم الجسمية
شعر كثيف على الجسم وبشرة بيضاء ورأوس طويلة وعيون شهالء داكنة وشعر رأس
171
اسود وانوف تتراوح بين الضخمة والمتوصطة ،واصل االينو غير معروف ولكن
المعتقد انهم ينحدرون من مجموعة سايبيرية اوربية قديمة.
إن أمثال هذه المعضالت تاريخية وال يمكن حلها بطريقة تصنيف تلك المجاميع
لمجرد وجود شبه بينها وبين عناصر معينة .ومعنى هذا إن تصنيف العناصر ال
يقدم لنا غير وصف للعناصر الموجودة فعال ودليل على أماكن وجودها .ففي
األمثلة التي مرت قد يقود التشابه الموجود بين تلك المجموعات البشرية وبين
172
العناصر التي تصنف تحتها إلى الظن بوجود عالقات حياتية بينها وبين تلك
العناصر .ولكن ذلك الظن ال يمكن أن يتأيد بدون اكتشاف دالئل آثارية على
هجرات تلك المجاميع .وقد أكد علماء االنثروبولوجيا الطبيعية الذين درسوا العنصر
ومعضالته تحت إشراف (اليونسكو) على هذه الناحية .فجاء في تقريرهم (يعتبر
العنصر بإجماع آراء االنثروبولوجيين وسيلة للتصنيف أو إطا ار ترتب داخله الكتل
البشرية المختلفة) .وانه في حدود تعريفهم للعنصر الذي أشرنا أليه سابقا (يمكن
تصنيف كثير من شعوب العالم) ولكن (بسبب تعقيد التاريخ البشري توجد مجموعات
كثيرة ال تنسجم مع التصنيف العنصري).
لقد ظهرت في أوربا نظريات وفلسفات عنصرية تتعلق بتفوق بعض العناصر
وتخلف البعض األخر .ولقد القى أحد تلك اآلراء الغريبة الذي انتشر في أواخر
القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر رواجا وقبوال .ومفاد ذلك الرأي إن
الشعوب األوربية أو (العنصر األوربي) أرقى من العناصر األخرى ،وان العنصر
الزنجي ،لكثرة شبه أفراده بالقردة ،ليس من مرتبة البشر ،بل انهم ساللة مستقلة .
وال حاجة بنا أن نؤكد إن هذا كله خطأ محض ،وان أية دعوى بتفوق عنصر على
آخر دعوى باطلة ال يؤيدها العلم ومصدرها دائما دوافع سياسية واجتماعية .فالرد
على الرأي المتقدم الذكر إن الشبه الظاهر بين الزنوج والقردة ال يتعدى كونه مظه ار
خارجيا وأم ار سطحيا ال قيمة له مطلقا .كما إن الجنس البشري كله ساللة واحدة
بدليل استطاعة أية مجموعة منه إن تتناسل مع األخرى .ولو كان الزنوج من ساللة
غير بشرية لما أمكن تناسلهم مع بقية أفراد الجنس البشري مطلقا .أما من ناحية
الكفاءة أو القابلية فال يوجد الدليل الكافي على وجود قابليات خاصة متفوقة في
عنصر دون آخر .فكل العناصر ذات قابلية متساوية على خلق الحضارة أو
هضمها ،كما ان ظهور حضارة اإلنسان وازدهارها ليس من خلق عنصر واحد
173
بعينه .ومن جهة أخرى فليس في الحياة قانون مقدس أو قانون طبيعي يقضي على
شعب أو عنصر معين أن يظل بربريا بدائيا .فالتأخر والتخلف نتيجة ألحداث
تاريخية قد يغيرها أو يصححها التاريخ نفسه بعد زمن.
وشاءت بعض النظريات أن تبرز تفضيلها عنص ار على آخر على أسس معينة
مثل نقاء العنصر ،وسموه وقابليته على خلق الحضارة .ومن هذه النظريات
(النظرية العنصرية) ( . )Racismولقد ساعد عدد من العلماء على نشر هذه
النظرية في القرن التاسع عشر ،فالقت قبوال كبي ار في كثير من األقطار األوربية ،
وبلغت ذروة مجدها في الفلسفة العنصرية النازية ،التي كانت الفلسفة الرسمية للدولة
األلمانية بين عامي 0188و . 0145ولقد روج لهذه النظرية الفالسفة األلمان
وابتكروا أسطورة نقاء وتفوق عنصر تخيلوه ،وأطلقوا عليه أسم (العنصر اآلري) ،
وأرادوا أن يكون ممثال في الشعب األلماني وحده .واول من قال بهذة النظرية العالم
االلماني (مومسن) وشاركة الراي العالم الفرنسي (كوبينو) واالنكليزي (جيمبرلن ) ثم
جاء بعدهم الفيلسوفان االلمانيان (فيخته )و (هيكل ) ..ويشير االستاذ كاليد
الموسوم ( االنسان في المراة ) بانه اليوجد بين كتابة كلوكهون في
العناصرالبشرية عنصر ( اري) فكلمة (اري) اصطالح لغوي كان قد ابتكره االستاذ
ماكس ملر .
174
إن العنصرية فلسفة سياسية محضة ووسيلة يلجأ إليها إلثارة عواطف الشعوب .
فهي تثير االعتزاز في نفوس األفراد والتعصب ضد العناصر األخرى عامة .فوجود
عنصر نقي خرافة مضحكة ويجب إن يعتبر كافة سكان العالم المعاصرين مخلوطين
من ناحية عنصرية بشكل كبير .كما إن هناك أسبابا قوية تدعونا للظن بان سكان
العالم كانوا قبل ( )05- 01ألف سنة مخلوطين كما هم اآلن .فما كان أي واحد
من العناصر اآلن ولن يكون في المستقبل نقيا أبدا .ومن الغريب أن يظهر دعاة
العنصر النقي في أوربا وهي إحدى مناطق العالم التي هجنت واختلطت فيها
عناصر عدة بشكل قوي و متكرر .فمن غير المحتمل أن يوجد أوربي واحد ليس
في نسبه سلسلة طويلة من االمتزاج .فالعناصر ليست كاألنهار تجري مياهها في
مجار معينة ،أنما هي كالتيارات أو الدوامات في مجرى مائي واحد يتبادل فيها كل
واحد ما يحمله ويمتزج ماؤه بالمياه األخرى بصورة مستمرة.
وبنفس الوقت الذي تحدث فيه العنصريون عن (العنصر اآلري) المتفوق تحدثوا
عن شيء آخر متأخر أسموه (العنصر اليهودي) .والثابت علميا إن اليهود ليسوا
عنص ار ،بل هم أجزاء من العناصر التي يعيشون معها .فالعنصر كما مر بنا هو
مجموعة من األفراد يملكون صفات طبيعية مشتركة .واليهود ال يملكون صفات
طبيعية مشتركة خاصة بهم .فهم في شمال أوربا من قسم ( .النوردك) من العنصر
(القوقازي) ؛ لهم عيون زرقاء أو خضراء وجماجم طويلة وشعر أصفر ،وهم في
اسبانيا من قسم (البحر المتوسط ) من العنصر (القوقازي) بشعر أسود وعيون داكنة
وبشرة سمراء .كما يوجد يهود صينيون وهنود وأحباش ،وهم في كل مكان يتفقون
كل االتفاق في صفاتهم العنصرية مع أفراد العنصر الذي ينتمون إليه .والواقع (إن
اليهود ليسوا إال مجموعات حضارية لها دين عام واحد وتقاليد واحدة) ( .وقد
اضطرتهم بعض الظروف االقتصادية واالجتماعية على إدامة وحدتهم بالعيش بمعزل
عن الشعوب التي يسكنون في أوطانها وبالتزاوج داخليا فيما بينهم ،وبحصولهم على
العيش من مهن معينة مثل التجارة) .
175
كما ومثلما ال يشكل اليهود عنص ار واحدا فهم كذلك ال يشكلون قومية واحدة.
أن من المعتقدات الشائعة التي لها عالقة وثيقة بالنظرية العنصرية أو بالنظريات
المشابهة لها هي إن للدم عالقة بوراثة الصفات الممتازة والرديئة .فصار الدم
يوصف بأنه (ملكي) أو (ازرق) أو (نقي) أو غير ذلك .إن الحقائق العلمية ال تؤيد
شيئا من هذا ( .فال عالقة للدم بالصفات الموروثة مطلقا .فالتي تحمل إمكانيات
ظهور تلك الصفات الموروثة والتي تتحول إلى صفات بعد أن تتفاعل مع البيئة
الطبيعية هي الجينات ( هي عبارة عن حبيبات متناهية في الصغر ال ترى بالمجهر
االعتيادي وانما بالمجهر االلكتروني فقط ،وتوجد على هيئة ازواج داخل
الكروموسومات وتنتقل الجينات انتقاال اعتياديا بدون اي تغير من جيل الى الجيل
الذي يلية ،ويقدر بعض العلماء ان لإلنسان ما بين عشرة االف وثمانين الف جين.
ولكن بعضا اخر منهم يقدرها بين عشرين الف واربعين الف جين ،وللجينات قدرة
على التكاثر والتبدل ،وال عالقة لهذه الجينات بالدم أبدا.
يضاف إلى ذلك أن العناصر كلها تتساوى في درجة تطورها .فليس فيها متقدم
أو متأخر من وجهة نظر حياتية ،بل تقف كلها على نفس البعد من الجد العام
لإلنسان ،وكل عنصر يظهر صفات بشرية متقدمة في اتجاه خاص وصفات أخرى
متأخرة في اتجاه آخر .ولقد تبنت النظرية العنصرية فكرة التقدم والتأخر في
العناصر ليس على الصفات الطبيعية الظاهرة فحسب بل وعلى أساس أن لبعض
176
العناصر التي يدعى أنها متأخرة صفات عقلية خاصة أو نفسيات خاصة .فقالوا أن
للرجل البدائي ما أسموه (عقلية غير منطقية) ( ، )Pre-Logical Mentalityأي
عقلية ال تعرف التبرير المنطقي .ولقد بذلت جهود كبيرة للتوصل إلى شيء ثابت
في هذا المجال .فلجأ العلماء إلى اختبار ذكاء عدة جماعات وشعوب بغية التوصل
إلى قوة عقل وذكاء كل عنصر والى اكتشاف فروق بين بعضها والبعض اآلخر .
ولم يتوصل من تلك االختبارات إال إلى وجود تفاوت ضئيل بين بعض العناصر .
هذا من جهة ،ومن جهة أخرى فان االختبارات قابلة للنقد الستعمالها ألفاظا وأشكاال
لم يألفها بعض الذين يجري لهم االختبار ،وألنها معدة في إطار عقلي أوربي ،فهي
دائما في صالح األوربي دون سواه من أفراد الشعوب البدائية .هذا وباإلضافة إلى
إن تلك االختبارات ال تأخذ بنظر االعتبار البيئة االجتماعية وال اإلطار العقلي إلفراد
كافة العناصر التي تختبر.
ويرى (كإرث) وهو أحد علماء النفس التجريبيين (أن الفروق في الذكاء بين
العناصر التي توصل إليها الباحثون يمكن أن ترد ببساطة إلى أثر التنشئة
االجتماعية) (فالعناصر التي بدت أكثر ذكاء لم تكن غير ذكية بل كانت غير مثقفة
.كما أن كثي ار من البدائيين الذين اختبروا كانوا يكرهون األساليب والطرق األوربية
فينعكس ذلك على نتائج االختبارات) .ثم يقول ( :أن أية محاولة منا أن نجرد تلك
العناصر ،التي نظن نحن أنها أدنى منا درجة ،من حقوقها في التطور الكامل
الحر .الذي لها فيه نفس الحقوق التي لنا نحن ،يجب أن يعتبر دليال على تبرير
التعصب العنصري) .ويقول األستاذ (ريموند فرث) في كتابه (نماذج بشرية) ( :أن
عقل اإلنسان البدائي يعمل بنفس األساليب المنطقية للفهم التي يعمل بها عقلنا ،
ويتفق في هذا الرأي كل من علماء االنثروبولوجيا وعلماء النفس) .ويقول في موضع
آخر من نفس الكتاب (إن القول بأن اإلنسان البدائي أقل منا عقال أو أن له عقل
طفل ال يدل إال على تعصب وجهل قائله) و (أن الرجل االسترالي أو األفريقي لن
يتخلف بسبب طبيعة عقله من بلوغ مستوانا لو ثقف وعلم).
177
كما قام علما االنثروبولوجيا الطبيعية ببحوث طويلة في هذا الصدد انتهت كلها
إلى تقرير إن الفروق العقلية بين العناصر معدومة ،رغم إنها يمكن أن توجد بين
األفراد .فلقد قال األستاذ (فرانز بواس) ( :إن دعوى وجود صفات عقلية خاصة
تقررها عوامل بيولوجية ال صحة لها) ويقول األستاذ (أشللي مونتكيو) ( :إن الصفات
العقلية القابلة للقياس في العناصر توحي بقوة انه ال توجد فروق عقلية مهمة بين
العناصر مما يمكن إرجاعه إلى الصفات الموروثة للجهاز العصبي وحده .
وباإلضافة الى هذا فان الفروق العقلية الموجودة بين الجماعات تبدو أقل من الفروق
الموجودة بين أعضاء نفس المجموعة .وتدل كل الدالئل المستمدة من المعلومات
المتوفرة أالن على إن ليس لوزن الدماغ وال لحجمه وال لشكل الجمجمة أو الرأس أية
عالقة بصفات العقل بين أفراد جماعة بعينها .كما ال يوجد ارتباط ضروري بين أية
وال قيمة ألي حكم صفة من الصفات العنصرية وبين أي نوع من العقلية ) .
يصدر عن عقلية فرد دون ربط ذلك بالبيئة التي نشأت فيها تلك العقلية.
واألدلة التاريخية تؤيد ما وصل إليه العلم بصدد تساوي في القابلية العقلية بين
كافة العناصر البشرية .فلقد نمت الحضارة وانتشرت متجاهلة الفروق العنصرية ،
فأخذتها كافة العناصر التي أتيح لها ذلك وأضافت إليها .وعكس ذلك ،لم يستطيع
أي عنصر أن يخلق حضارة مزدهرة أو معقدة حين انعزل عن العالم الخارجي.
أما ادعاء وجود نفسيات أو حاالت نفسية خاصة بالعناصر فال يوجد دليل علمي
عليه .فمن الممكن تفسير كل االختالفات النفسية بين الجماعات أو العناصر ،إن
وجدت ،على أسس حضارية .فكل مجتمع يقر أنماطا نفسية معينة وينكر أخرى طبقا
لتقاليده ونظمه.
لقد رأينا انه ال يوجد تفاضل موروث بين العناصر ال من الناحية الطبيعية وال
العقلية وال النفسية .هذا ما يقوله العلم ،ولكن الواقع إننا كنا وما نزال نشاهد أمثلة
مؤلمة على التمييز العنصري يفرضها الرجل األوربي األبيض على العناصر السوداء
178
وغير السوداء من الشعوب البدائية التي اتصل بها فحكمها .فكلنا يعرف االمتهان
واالضطهاد بل والتقتيل الذي يتعرض له الزنوج في الواليات المتحدة األمريكية .
فعلى الزنوج ،خاصة في الواليات األمريكية الجنوبية حيث يشتد التمييز العنصري
ويظهر بأبشع صوره ،أن يركبوا عربات خاصة ،وينتظروا في محطات السكك
الحديدية في غرف منفصلة عن غرف البيض ،وال يحق لهم ارتياد مطاعم البيض ،
أو اإلقامة في فنادقهم ،أو مشاركتهم في مدارسهم .كما إن الزنوج ال يعطون فرصا
مساوية لفرص البيض في الكسب .وال يزال األمريكيون يمارسون الـ (، )Lynching
وهو اتهام الرعاع األمريكيين للزنوج بشكل كيفي ومعاقبتهم بال محاكمات ،
فيصلبونهم على األشجار ويقتلونهم شر تقتيل ،تحت سمع الحكومة وبصرها .
ويتخذ التمييز العنصري في جنوب أفريقيا شكال خطيرا ،كان وال يزال يشغل بال
العالم المتمدن .فالزنوج هناك يعيشون في أجزاء مفصولة عن المدن ،وال يسمح لهم
إال بمزاولة مهن معينة ،ويمنعون من المدارس ،وتمنع حتى الكنائس عن فتح
مدارس تبشيرية لهم ،وال يسمح للزنجي في بالده تلك أن ينتقل من مكان آلخر إال
بأذن خاص .وليس التمييز العنصري محصو ار في أمريكا وجنوب إفريقيا ،بل هو
موجود ،ولو بأشكال أخف حدة في بريطانيا ،وأجزاء أخرى في أوربا.
فما سبب هذا التمييز العنصري ؟ قبل القرن السادس عشر لم يكن العالم شاع ار
بالعنصر وال بالعنصرية ،ولم يكن لديه سبب يحمله على ذلك .ولكن حين اكتشفت
أمريكا الطرق البحرية إلى آسيا ،وحين ظهر االستعمار ،وصار األوربيون يحكمون
شعوبا وعناصر عدة ،ويقيمون من أنفسهم طبقة ارستقراطية حاكمة ،وحين ظهرت
تجارة العبيد ،طهرت الحاجة عند األوربي للتمييز العنصري .فلقد وجد األوربيون
أنفسهم أمام شعوب بدائية بسيطة تقطن مناطق واسعة غنية .ف أروا إن مصالحهم
االستغاللية تقتضي ضمان عدم مقاومة تلك الشعوب والعناصر لالستغالل األوربي
أو عرقلته .فحاربوا بعض تلك الشعوب التي أنكرت عليهم امتالك بالدهم حروب
إبادة وفناء ،كما حدث للهنود الحمر الذين أبيد قسم كبير منهم وشرد وأزيح القسم
179
اآلخر عن كافة المناطق الساحلية والسهول الغنية في األمريكيتين الشمالية
والجنوبية .وقد اقتضت المصلحة االستغاللية عينها إن ينقل األوربيون أعدادا ضخمة
من تلك الشعوب البدائية من مواطنها إلى أماكن نائية غريبة ليتاجروا بها في
المزادات العلنية وليسخرونها للعمل كالماشية في المزارع والقرى التابعة للمناطق التي
تسابقوا لالستيالء عليها في العالم الجديد ،وكانت دائما اكبر من أن يستطيعوا
استغاللها بمفردهم .فبدئوا ينقلون العبيد بمئات اآلالف إلى األمريكيتين الشمالية
والجنوبية وجزر الهند الغربية ،وهذا أصل وجود الزنوج في تلك المناطق.
بدأت تجارة العبيد في القرن السادس عشر .وكان أول من بدأها البرتغاليون ،ثم
تبعهم االنجليز والفرنسيون ،ثم نزل الهولنديون إلى ميدان هذه التجارة ،وتبعهم في
عام 0721األمريكيون .فشيد األوربيون لهم على الساحل األفريقي قالعا تدار منها
تلك التجارة ،وأرسلوا سماسرتهم يجوبون األدغال واألحراش يصطادون العبيد
اصطيادا .ولقد استخدم تجار العبيد الرؤساء والملوك المحليين وسطاء ،فأغدقوا
عليهم المال .وكانوا يسلمون الرئيس برميل الخمر بيد والبندقية بأخرى ويدفعونه
لحصاد بشري لم تعرف اإلنسانية له مثيال .فصار الرؤساء يحارب بعضهم بعضا
طمعا في الحصول على أسرى الحرب الذين كانوا يباعون لتجار العبيد .وكان
العبيد ينقلون ب ار مئات األميال ؛ يساقون بالسياط مكبلين بكتل من الخشب
ومربوطين بالحبال .وحين يصلون القالع تكوى أجسادهم بقطع من حديد محمي
تحمل العالمات الفارقة للشركات التي تتاجر بهم ،ثم يحشرون في سفن صغيرة
داخل عنابر قذرة مظلمة .وكان العبيد يهلكون أثناء سوقهم على البر األفريقي تحت
تأثير السير الطويل المرهق ،والجوع والرعب ،ولفح الشمس ،وسياط السماسرة .
وكانت النسوة منهم يحاولن االنتحار بابتالع كميات ضخمة من الطين للتخلص من
العذاب األليم الطويل .وهلكت أعداد كبيرة منهم بالجدري والزحار ودوار البحر أثناء
نقلهم عبر المحيط .وكانت سفرة السفينة التي تقلع من ساحل غينيا بخمسمائة عبد
تصل إلى جامايكا بثالثمائة عبد فقط تعتبر ناجحة للغاية .
181
وحين منعت تجارة العبيد وبدأت الحكومات األوربية تعقب السفن التي تزاولها س ار
كان ربابنة تلك السفن ال يترددون في إفراغ شحناتهم البشرية في جوف البحر حين
يشعرون أنهم مطاردون كي ال يقعوا تحت طائلة القانون .ونقل بهذه الظروف
الالانسانية ما يقرب من عشرين مليونا من زنوج إفريقيا الغربية ،هلك منهم ستة
ماليين عبد قبل وصولهم ،ووصل مليونان إلى الواليات المتحدة األمريكية واثنا عشر
مليونا إلى أمريكا الالتينية .وكان تجار العبيد يبيعون قسما من شحنات سفنهم في
جزر الهند الغربية ويشترون بثمنها عصير قصب السكر ثم يذهبون بالعصير وبما
تبقى لديهم من عبيد إلى أمريكا فيبيعون العبيد في المزادات ويحولون عصير القصب
إلى (شراب) ،وهو الخمر الذي يدفعونه ثمنا للعبيد في إفريقيا .ثم تقلع السفن من
أمريكا محملة خم ار لتعود من أفريقيا محملة عبيدا .أولئك العبيد الذين اصطيدوا
كالوحوش ،وبودلوا بالخمر والبارود كالسلع ،وجلبوا عبر المحيط تحت ظروف
تخجل اإلنسانية ذكرها ،كانوا منذ القرن السادس عشر وال يزالون يعانون مآسي
ومظالم التمييز العنصري الذي فرضه عليهم الرجل األبيض في العالم الجديد.
لقد أدعى الرجل األبيض تبري ار للتمييز العنصري عدم قدرة اإلنسان الملون على
تسيير شؤونه بنفسه .وابتكر في المجال السياسي أسطورة (الوصاية) و(تمكين
الشعوب البدائية من الوقوف على إقدامها) .كما قال أن تصريف الشؤون
االقتصادية لإلنسان البدائي يجب أن تترك في أيد أوربية (لضمان سعادة اإلنسان
البدائي) .أما في الميدان السياسي فتصرف الرجل األوربي مع الشعوب الملونة
أوضح من أن نقف عنده .كما إن تصرفه في المجال االقتصادي يمثل أبشع أشكال
االستغالل الذي ال يترك أي مجال لالنتفاع االقتصادي ألصحاب البلد الذي يستغله.
ويتساءل األستاذ (ريموند فرث) ( :لماذا يوجد هذا اإلنكار للمساواة في الحقوق
مع أولئك الزنوج) ؟ ويجيب عن هذا السؤال ( :األسباب عميقة الجذور ،ولكننا ال
نستطيع أن نرى إال القليل منها .واحد تلك األسباب هو االستغالل المقصود .
181
فالرجل األبيض ينشد العمل الرخيص .وسبب آخر هو الخوف من المنافسة في
المجال االقتصادي ،وعلى المدى البعيد في االمتيازات االجتماعية والسيطرة).
كما أن الرجل األبيض يريد إبقاء تلك المناطق الشاسعة تحت سيطرته ،وذلك ال
يتسنى له إال إذا أبقى سكان المناطق المستغلة على وضعهم ،وهذا ال يتحقق إذا
هو ساواهم بنفسه.
والجدير بالذكر هنا ان التمييز العنصري ال يوجد بصورة ضرورية أينما وجد
الرجل الملون والرجل األبيض أو حيثما تعايشت عناصر مختلفة .ففي بعض
المناطق يعيش األوربي والزنجي دون حواجز .كما إن لدينا مثلين رائعين إلمكانية
تعايش أكثر من عنصر واحد دون تمييز عنصري .أولهما في نيوزلندا حيث يعيش
األوربيون النازحون جنبا إلى جنب وباختالط تام مع (الماؤوري) أهل المنطقة
األصليين .فيعيش (الماؤوري) بطرقهم الخاصة وينتخبون ممثليهم في مجلس
األمة النيوزلندي ،والماؤوري ( )Maoriسكان نيوزيلندا االصليون ،وهم شعب
بولينيزي هاجر الى نوزلندا من جزر سوسايتي (وهي جزيرة بولينيزية تقع في المحيط
الهادي الجنوبي في منتصف المسافة تقريبا بين ساحل استراليا الشرقي وساحل
امريكا الجنوبية الغربي ،واكبر جزيرة في المجموعة هي جزيرة تاهيتي ،وحدثت
الهجرة على شكل موجات في القرن العاشر والقرن الثاني عشر والقرن الرابع عشر
.ويعيش الماؤوري في نوزلندا االن في قرى منفصلة،او في المدن ويختلطون بدون
تمييز عنصري مع المهاجرين االوربين الذين استوطنوا نيوزلندا في نهاية القرن الثامن
عشر ،حضارتهم حضارة بولينيزية شرقية ،وهم شديدوا االعتزاز بها ويحافظون على
فنونهم التقليدية واهمها الحفر على الخشب .ويسهمون في كافة نواحي الحياة
بحرية ،لدرجة يستطيعون معها الوصول إلى اعلي المناصب في الدولة .وخير
دليل على مركز الماؤوري االجتماعي في نيوزيلندا هو النسل الناجم عن تزاوج
األوربيين والماؤوريين ،وتزاوج المجموعتين أمر كثير الحدوث في نيوزيلندا ،
182
واالوربيين يميلون إلى التأكيد على صلتهم بـالماؤوري ،وهو أمر مسموح به قانونا
في تلك البالد .والمثل الثاني هو جزر (الهاوايي) التي تدعى بحق (بودقة انصهار
المحيط الهادي) .فهناك يعيش بال حواجز وال تمييز عنصري سكان الجزر
األصليون ،وهم بولينيزيون ،واألمريكان والصينيون واليابانيون والبرتغاليون
والفلبينيون ،وقد تزاوج بعضهم مع البعض اآلخر وتزاوج نسلهم فاختلطت عناصرهم
اختالطا شديدا.
والواقع إن التمييز العنصري ال يقام إال حين تتعرض المصالح المكتسبة للتهديد
.فهو إذن (عداء اجتماعي وهو كالصراع بين أمتين أو مجموعتين) .فإذا ما نبذت
فكرة االستغالل ،أو إذا ما ساعدت العالقات التاريخية بين العنصرين على التعاون
،أو إذا كان العنصر الملون أقلية ،أو حين تبذل جهود ومحاوالت للمساواة
االجتماعية ،تقل حدة التمييز العنصري وقد تختفي نهائيا .فالتمييز العنصري (ال
يقوم على أسس معروفة من فروق في القابلية والعقلية بين العناصر ،ولكنه يقوم
على أسس من فروق في المصالح االقتصادية واالجتماعية .وليس لون البشرة وال
بقية الصفات الطبيعية األسس الحقيقية للعداء ،إنما هي مجرد رموز اختيرت بطريقة
اعتباطية لتالؤمه).
183
المحاضرة الرابعة والعشرون :طبيعة الحياة
مقدمة
لقد كان للوسائل الكيميا ضوئية اكبر الفضل في تشجيع البحوث التي تحاول الدخول
في أسرار الكون ودراسته ،ومن ثم أخذ العديد من الصور الحديثة التي استطاعت
بالفعل تسجيل المالين من النجوم في مجرتنا ،وصور أخرى استشرقت حدود الكون
واستطاعت الكشف عن آالف المجرات األخرى ،وهناك من المجرات في عالم
الفضاء الزمني تبلغ عشرة أضعاف من يعمرون كرتنا األرضية المزدحمة من
البشر.
و في الماضي القريب كانت تسود العديد من المفاهيم الخاطئة حول الكون .فقد كان
اإلنسان يعتقد في وقت من األوقات بثقة تامة إن الكون كله بما فيه من قمر وشمس
وكواكب سيارة ونجوم ال تعد وال تحصى تدور حوله ،ثم علم بعد ذلك أن األرض
ليست سوى كوكب صغير يدور في فلك نجم متوسط الحجم عند أطراف مجرة واحدة
فقط من باليين التحصى من المجرات ،واستطاع اإلنسان معرفه الكثير من أسرار
الفضاء العظمى عن طريق رصد الظواهر السماوية من على بعد واستخالص النتائج
بعناية من مشاهداته ،وقد رفع اإلنسان منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ بصره في
ظالم الليل إلى السماء وحدق في معالمها الغامضة وتساءل عن كثافة ما رآه فيها
من أشكال متأللئة ،وقبل أن يخترع اإلنسان الكتابة كان قد أطلق األسماء على أجرام
السماء ،وقبل أن يعرف المبادئ الدينية إنحنى لصور رسمها للشمس والقمر ،وقبل
أن يبتكر الزجاج أو الساعات المائية تابع تحرك األجرام السماوية ،وعد األيام
184
والشهور والفصول والسنين ،وكانت نجوم السماء للساري في الصحراء وللمالح في
البحر عالمات يستهدى بها في اتجاهه .أما بالنسبة للمزارع والراعي ،فقد كانت أوجه
القمر ورحلة الشمس أثناء السنة تنبئه بمواقيت الزراعة وسقوط األمطار .وقد كانت
أقدم صور الفلك تتمثل في نشاط يستهدف أغراضا عملية أساسا قبل أن يطلق على
القضية التي يبذل فيها اإلنسان مسعاه أسم العلم بزمن طويل ،وقد تولدت من هذه
المحاوالت علوم عديدة مثل هندسة فيثاغورس وديناميكا نيوتن ونظريات إنشتاين في
الفيزياء والكونيات.
لقد كان طريق اإلنسان إلى معرفه الحقيقة شاقا ،وكثير من اآلراء التي تبدو اليوم
مقبولة عقال كانت في وقت من األوقات عكس ذلك تماما ،فقد كانت تتناقض مع ما
تراه العين واحتاج أمر إثباتها إلى آالف من االستنتاجات الشاقة .ولما انبثق فجر
الحضارة استطاع فريق من الناس أن يكرسوا حياتهم للتمعن في كثير من الطالسم
التي تبدو في السماء فسجل الكهنة في بالد مابين النهرين تحركات الشمس والقمر
والكواكب السيارة في تفصيل إحصائي مكنهم من التنبؤ تقريبا بأوقات خسوف القمر
دون أن يدركوا سبب ذلك ،كما رسموا خريطة لمسار الشمس عبر السماء خالل
العالم وأحصوا بدقه الفترة الزمنية التي منذ اكتمال القمر حتى يصير بد ار ..وكانت
حضارة الصين هي الحضارة القديمة الوحيدة التي سجلت أرصادا للكسوف يرجع
تاريخها إلى أربعة آالف سنة قبل الميالد وأقامت مراصدا لذلك ،ولكن سار في
الحضارات القديمة جنبا إلى جنب مع التنجيم والخرافة والديانات البدائية ،و ظهر
أول الفلكيين بالمعنى العلمي الصحيح بين اليونان ونشأت أول وأقوى مدرسة علمية
يونانية للفلك في مدن يونانية تقع جنوب مدينة طروادة على طول ساحل تركيا
( 847 _427ق .م) عن الفلك نموذجا الحالي .وكانت آراء أفالطون ـ مثال ـ
للفوضى وللتفتح الفكري اللذين أتسم بهما عصره ،فتصور في مستهل حياته الفلسفية
أن اآللهة كانت تقود مركبات مضيئة عبر السماء ورأى أن األرض كروية ولكنه رآها
185
في البداية ساكنة باعتبارها مركز األشياء ،ثم اتضح له فيما بعد أنها تدور حول
محور أو لعلها تدور في مدار ما.
ثم جاء احد الفلكيين اإلغريق األكثر دقة علمية وهو (هيبارخوس) الذي مارس
نشاطه في (رودس) وفي االسكندرية حوالي عام 051ق.م وأوضح أن األرض
الكروية ثابتة ال تتحرك بينما تدور الشمس والقمر والكواكب السيارة حول األرض في
مد ار كبير ،وفي الوقت ذاته تتحرك نفس هذه األجرام في دورات أخرى دائرية مركزها
على محيط المدار األول ،وأوضحت هندسة (هيبارخوس) المعقدة تلك التحركات بدقة
أكبر وجعلت من الممكن التنبؤ مقدما بمواقع الكواكب السيارة في السماء ،وأصبح في
اإلمكان التنبؤ هندسيا بأسرار مثل سر الحركة ألتراجعية حين يبدو أن كوكبنا من
الكواكب السيارة يبطئ حركته ثم يتوقف عن الحركة ثم يعود أدراجه في السماء.
ومهما يكن من أمر ،فهناك نظريتان أساسيتان تفسران أصل الكون هما :ـ
وصاحبها العالم .Big Bangوهي تؤكد أن أ .نظرية االنفجار الهائل:
الكون بدأ بانفجار هائل قبل باليين السنين ،وهو أالن في حالة نمو كبير بسبب
اندفاع مكوناته إلى الخارج بطاقات عظيمة وما تزال تتحرك بسرعة تقهقرية كبيرة
حتى وقتنا الحاضر ،وأن هذا الكون العظيم سيشيخ بعد أن تنصب طاقته وستأتي
نهايته في يوم من األيام بانهيار عظيم ليس بإمكان العقل البشرى تصوره.
وتفترض هذه النظرية أنه في المراحل األولى لنشأة الكون ،كانت مادة الكون كلها
تشغل حي از صغي ار وكانت درجة ح اررته عالية جدا ،وكانت هذه الكرة الملتهبة البدائية
تتمدد بسرعة كبيرة وكانت تبدو أثناء تمددها ،وقد أوضح الفيزيائيون أنه بعد واحد من
مائة من أول ثانية أصبحت الكرة الملتهبة مزيجا متشابكا من اإلشعاع والمادة يتفاعل
بسرعة وبعنف وفي درجة ح اررة عالية جدا ويتمدد بسرعة كبيرة ،وكانت الح اررة أعلى
من أن تسمح للذرات بالوجود أو أن تسمح للنوى المعقدة للذرات (أي مراكزها
تترابط . .وبتمدد الكرة النارية بدأت تبرد لتمر بمراحل متعددة المكثفة) من أن
186
في تو ِ
ال سريع تحدث في كل منها عمليات معينة بنسب أدنى وأخرى بنسب أعلى
بسبب انخفاض في الح اررة في كل مرحلة عن المراحل السابقة لها .وبعد ما يقرب
من نصف ساعة انخفضت درجة الح اررة إلى 811مليون درجة أي 21ضعفا فقط
من ح اررة جوف الشمس وعندئذ توقف تخليق نوى جديدة .وفي المليون سنة التالية
استمر الكون يتسع ويبدو حتى تمكنت النوى من أسر االلكترونات لتكون ذرات ثابتة،
ثم أخذت المادة في التكثيف إلى مجرات ونجوم .وبسبب حدوث هذا االنفجار الكوني
استمر العالم منذ ذلك الوقت في االتساع ،أما استم ارره في التمدد إلى ما ال نهاية أو
تباطؤه حتى يتوقف ويرتد على نفسه فيعتمد على ضخامته نفسها ،فسيظل الكون
يتسع أال إذا كانت كتلته من الضخامة بحيث توقف الجاذبية هذا التمدد في نهاية
األمر وتعكسه ،فإذا كان األمر كذلك ،ففي وقت ما في المستقبل البعيد سينهار هذا
الكون على نفسه في واقعة مأساوية أخرى.
وهي ترى أن الكون أزلي ليس له بداية ،وأبدى ليس لة نهاية ،فهناك مجرات ونجوم
وكواكب تخلق لتحل محل التي اختفت .وصاحب هذه النظرية هو العالم هويل
،)Hoyle (0155وقد طرحها كبديل عن نظرية بيج بانج ،وهو يرى أن هناك حالة
مضطرة مستمرة من الخلق والتحول المستمرين في هذا العالم ،وهو يرى أن النجوم
المفردة والمجرات قد تنمو وتختفي ولكن السمات الرئيسية للعالم ال تتغير ،واذا كانت
الحركة الظاهرية لكل المجرات البعيدة تعتبر حقيقية ،فأن الجزء الظاهر من العالم
يفقد جزاءا من مادته ،ولتعويض هذا الفقدان ،يتم خلق مادة جديدة باستمرار ولكن
بمعدل منخفض ،وأوضح هويل أن الهيدروجين هو المادة األصلية األولى التي
تطورت منها العناصر ،كما أوضح أن ( )01أطنان من المادة يتم تكوينها كل ثانية
لكي تحل محل المادة المفقودة من الجزء الظاهر من عالمنا ،وتبعا لذلك فإن معدل
187
خلق المادة في هذا الجزء من العالم تعتبر منخفضة وهي تمثل ذرة هيدروجين لكل
( ) 01أمتار مكعبة كل عام.
ومهما يكن من شيء ،فقد صور أغلب الباحثين الفضاء الكوني على أنه غير
محدود ،أي النهائي يسبح فيه في حركات منتظمة ال تتوقف عدد غير محدود من
المجرات التي تحتوي على ألوف الماليين من النجوم .ومن المتفق عليه اآلن أن
األرض ليست سوى فرد من افراد المجموعة الشمسية ،وأن المجموعة الشمسية ليست
سوى فرد من أفراد المجموعة المجرية ،وأن المجموعة المجرية ليست سوى فرد من
أفراد مجموعة المدن النجومية التي في الفضاء.
ويمكن وصف المجرة بأنها عجلة مرصعة بالنجوم تدور في الفضاء وتستغرق
مجموعتنا الشمسية ( التي ال تعدو ان تكون شمسنا إحدى نجومها ) مليونين من
القرون كي تتم دورة كاملة واحدة وهي منطلقة بسرعة مائتي ميل في الثانية ،كما
يتبين أن سديما واحدا هو سديم الحلقة الذي يعرف باسم الكعكة السماوية يتسع وحده
لحوالي ثالثين ألفا من أمثال مجموعتنا الشمسية بكواكبها وبأبعاد هذه الكواكب عن
الشمس .ويتكون الكون من عدة جزر ،كل واحده منها تتكون من مجموع آالف
الماليين من النجوم ،والمجموعات المجرية كثيرة العدد ،كما أوضحت قدرة مراصدنا
الحالية على أنها أكثر من مليون ،وتتكون كل مجرة من حوالي مائة ألف مليون من
النجوم ،وهذا العدد من المجرات يكون كونا واحدا .وأبعاد كل مجرة عن األخرى ال
يمكن تصورها ،فمثال قام عالم الفلك أدوين هابيل Edwin Hubbleبمرصد ويلسون
بقياس المسافة إلى المجرات المنطلقة بسرعة فتبين أن أقرب مجرة لنا وهي المعروفة
باسم (سحب ماجالن) تبعد عنا حوالي ( )211ألف سنة ضوئية.
وفي سنة 0161اكتشف د.فيكو فسكي بمرصد مونت بالومار المجرة (8س )215
والتي اتضح أنها تبعد عنا بحوالي أربعة آالف مليون سنة ضوئية ،وهي أبعد مجرة
188
أمكن للعلم الحديث الوصول إليها ،كما أنها تتباعد عنا تدريجيا بسرعة 002511
كيلو متر في الثانية.
ومن ناحية أخرى ،صور العالم إنشتاين الفضاء كرويا محدودا ال يمكن التحقق منه
بالمشاهدة ،فهو ينثني على نفسه ،وفي النهاية ينفصل كما هو الشأن في سطح
األرض ،وبحسب معادلته في هذا الصدد ،قدر عالم الفلك أدوين هابيل نصف قطر
الكون بأنه يساوي ( ) 85بليون سنة ضوئية ،والسنة الضوئية هي أحدى الوحدات
التي يستعملها علماء الفلك في قياس المسافات الكوكبية وهي تمثل المسافة التي
يقطعها الضوء في سنة كاملة وهي تساوي 0201 × 5،77ميال ( أو 5373مليار
ميل تقريبا) أو 0201 × 1،46كيلو مت ار تقريبا.
وكما أن النظرية النسبية أظهرت تعدد الفضاءات الكونية تعددا ال حصر له وكلها
متحركة ،وفي هذا الصدد يقرر إنشتاين أنه (يبدو لنا الفضاء قبل أن تتمثل تماما ما
فيه من تعقيد كأنه وسط غير محدود أو وعاء تسبيح فيه األجسام المادية ،ولكن
أصبح لزاما علينا أن نتذكر أن هناك عددا كبي ار من الفضاءات التي تتحرك بالنسبة
إلى بعضها البعض.
189
المحاضرة الخامسة والعشرون :نشأة النجوم والنظام الشمسي :
كانت الجاذبية تلعب دو ار صغي ار في المراحل األولى لنشأة الكون ،ولكن دورها اآلن
أخذ في الزيادة ،وقد جعلت الجاذبية المادة تتشكل في صورة تجذب إليها كتال غيرها
لينتج عن ذلك في النهاية األمر تجمعات أكبر وأكبر ،ونتيجة هذا التراكم والتكثيف
ترتفع درجة الح اررة حتى تصبح المادة مضيئة ،وأخي ار تصل الح اررة في التجمعات
الكبرى من المادة إلى درجة تتسبب في البدء التفاعالت النووية وهكذا ينشأ النجم.
وبعد ذلك ستمنع الح اررة الناتجة عن االندماج النووي ـ النجوم من االنهيار ،فإذا بدأ
النجوم في االنهيار ،فإن درجة ح اررته سترتفع وستسرع فيه التفاعالت النووية
ويتسيب الضغط الناشئ عن ذلك في أن يتمدد النجم بعض الشيء لتصحيح االنهيار
في بدايته ،وتعمل هذه اآللية كمنظم يسمح للنجوم بأن تحترق في هدوء لماليين بل
لباليين عديدة من السنين.
وعلى المدى الطويل ،البد أن ينفذ الوقود النووي من النجم وتشير الحسابات إلى أن
النجوم الكبرى تحترق بسرعة أعلى ،بينما تحترق النجوم متوسطة الحجم (كالشمس)
بشكل أبطأ ،أما النجوم الصغيرة فيكون احتراقها بطيئا .وعند نفاذ الوقود الذري،
يحاول النجم أن يستخدم مواد مثل الكربون والنيتروجين والتي يتم إنتاجها من
الهدروجين والهليوم كوقود لينتج من ذلك عناصر أكثر ثقال ،وفي آخر المطاف
نصل إلى مرحلة ال يبقى فيها عناصر تتمكن من تزويد النجم بما يكفيه من الطاقة
ومن ثم ينهار النجم على نفسه ،وهذه العملية تختلف باختالف النجوم .فالنجوم
الصغرة ستنتهي كأقزام بيضاء لتختفي عن النظر رويدا رويدا ،أما النجوم الكبيرة قد
يكون انهيارها سريعا لدرجة تؤدي إلى انهيار النجم ومن ثم يلفظ في الفضاء نصف
ذاته وينشر مادته بسرعة في كل اتجاه ،وخالل االنفجار نفسه سينتج الكثير من
العناصر األثقل من الحديد .وعموما ،نجد أن التركيب األولى لكل النجوم في أنحاء
العالم ليس متماثال ،وبعد دراسات موسعة عن األلوان وأوضاع النجوم ،أستنتج العالم
191
والتربيد ( ) Walter Baadeأنه يمكن تصنيف النجوم في المجرات المختلفة إلى
مجموعتين وفقا لمواقعها وحركتها وتركيبها الكيماوي وأعمارها ،وهذه المجموعات
تسمى السكان ( ،) Populationsومعظم المجرات يوجد بها قطاع شبه كروي في
الوسط يحيط بها قرص مسطح يدور حول محوره ،والقرص النمطي يحتوي على أذرع
حلزونية ،وهاتين المجموعتين هما:
المجموعة األولى :وهي النجوم التي تبدو في األنماط القرصية للمجرات (أ)
خصوصا في أذرعها الحلزونية ،وهي تدور في شكل مدارى ،كما أنها غنية بمعادن
وصغيرة الحجم .وعندما تكونت نجوم هذا النوع ،فإن الغاز المتبقي في الفضاء كان
يحتوي على عناصر أثقل تم طردها من نجوم المجموعة األخرى خالل إحدى مراحل
تكوينها .وقد تم إضافة العناصر األثقل للغاز المترسب بطرقتين :األولى :من خالل
الطرد المستمر للمادة من أسطح النجوم الحمراء العمالقة ،والثانية :من خالل
االنفجارات أو عمليات خروج وانبثاق النجوم المستعرة (وهي نجوم يشتد ضوءها فجأة
ويخفت ) .وتؤكد الدراسات الضوئية الفلكية أن الغازات تتحرك ببطء إلى الفضاء من
أسطح النجوم الحمراء الباردة ،وعلى الرغم من أن معدل هذا التفريغ ليس عاليا،
فإنه يمكن تفريغ كميات كبيرة من الغازات خالل ماليين السنين .وانفجار النجوم
المستعرة تعتبر ظاهرة فلكية معروفة ،وال يمكن التنبؤ باالنفجارت النجمية ،وعموما
تتراوح مدة ذلك مابين بضعة أيام وعدة أسابيع .وبعد االنفجار تظهر حول النجم
سحابة صغيرة تشبه غمامة سديمية كوكبية .وهذه السحابة تتمدد بسرعة بسبب شدة
االنفجار ،وخالل ذلك تحمل جزءا صغي ار من كتلة النجم إلى الفضاء ،وفي غضون
بضع مئات من السنين ،قد يحدث انفجار أكثر عنفا في نجمة واحدة في المجرة،
وهذه االنفجارات من العنف لدرجة أنها تدفع جزءا كبي ار من كتلة النجم إلى الفضاء.
وألن هذه النجوم تحتوي على عناصر أثقل ،فهي تتمتع بقوة جذب أقوى مما يؤدي
إلى سرعة نموها منذ البداية ،ونجوم هذه المجموعة تعادل ما يتراوح مابين 01
أمثال و 41ضعفا لكتلة الشمس ،وهي تختفي بعد مائة مليون عام ،أما األنواع
191
الكبيرة الحجم منها مثل كتلة الشمس ،فأنها تستمر في الوجود إلى مدة تصل إلى 01
باليين سنة.
(ب) المجموعة الثانية :ومعظم نجوم هذه المجموعة توجد في المناطق المركزية
للمجرات أو التجمعات النجومية العالمية ،وهي أفقر بذراتها المعدنية وتمثلها النجوم
األقدم في العالم ،كما أن دورة حياتها تفوق النوع األول ،ولكن ال تتوفر تقديرات
أكثر دقة حولها في الوقت الحاضر .وتصنف الشمس على أنها نجم من النوع األول
من النجوم بسبب مكانها في قرص مجراتها ودورانها المعياري ووفرة معادنها وشبابها
النسبي.
ويبلغ قطر النظام الشمسي نحو جزء واحد من خمسة عشر جزءا من السنة
الضوئية ،ويبعد أقرب النجوم إلينا بمقدار 408سنة ضوئية ،وهناك نحو مائة نجم
داخل عشرين سنة ضوئية حولنا .ومجرتنا عبارة عن قرص من النجوم والغبار
والغاز ،قرص غير منتظم يدور ببطء يعبره الضوء في مائة ألف سنة ضوئية ،وأقرب
المجرات إلينا هي مجرة (أندرو ميدا) وهي أكبر بعض الشيء من مجرتنا وتبعد عنا
نحو مليوني سنة ضوئية ،وليس بيننا وبينها إال القليل جدا من األشياء ،وهناك بضع
مجرات أصغر في المنطقة المجاورة لنا عموما ،ووراء ذلك يتسمع الكون في كل
االتجاهات لمسافة ال تقل عن ثالثة باليين سنة ضوئية ويضم عددا قد يصل إلى
عشرة مليارات مجرة من مختلف األشكال واألحجام ،ويقدر العلماء أالن عمر الكون
( هذه المجارات ) إلى ما يتراوح بين 05،7بليون سنة .وهناك العديد من النظريات
التي تفسر أصل المجموعة الشمسية وهي :
وقد قدمها العالم توماس رايت البريطاني الجنسية ،وفيها أوضح أن المجموعة
الشمسية نشأت عن سحابة كونية هائلة من الغبار والغازات ،ثم تقلصت السحابة
192
بدافع من جاذبيتها نفسها فتكاثفت في هيئة الشمس والكواكب واألجسام األخرى،
ولكنها لم تقابل بمزيد من االهتمام لغموضها0
- 2النظرية السديمية :صاحب هذة النظرية العالم الفرنسي لبيير سيمون دي
البالس Pierre Simon de Laplaceففي عام 0716قدم نظريتة عن أصل
المجموعة الشمسية التي مؤداها أن الشمس تكونت في البداية من سحابة كونية هائلة
من الغاز أو ما يسمى بالسد يم ،وكانت أكبر بكثير من المجموعة الشمسية
الحاضرة ،وقد افترض أن مثل هذه السحابة كان لها بعض الحركة الدورانية ،ومن ثم
فهي تتكاثف شيئا فشيئا بدافع جاذبيتها فتتهاوى نحو المركز ،وبالتالي فهي تزيد من
سرعتها إلى أن يؤدي ذلك إلى انفصال حلقه من الغاز عن جسم السحابة ،كما
تنكمش السحابة بعيدا عن هذه الحلقة ،وبعد فترى أخرى من االنكماش تزداد السرعة
بما يكفي النفصال حلقة أخرى أصغر من سابقها ،وفي نفس الوقت ،فإن درجة
الجاذبية نتيجة االنكماش ،وفي الح اررة السحابة ترتفع باطراد كلما انطلقت طاقة
النهاية فإن الجزء األكبر من السحابة يسخن ويكون ضغطا داخليا عاليا لدرجة انه ال
يمكن أن ينكمش أكثر من ذلك فتتكون الشمس ،وتبدأ كل حلقة من الحلقات التي
تركها ذلك الجزء الداخلي في التجمع بالتدريج ليكون كتلة أو أكثر تصبح كوكبا له
توابعه .وتعرضت هذه النظرية للنقد ،فقد أوضح جيمس كالرك ماكسويل James
Clark Maxwellفي عام 0351أنه ال يمكن لحلقة من الغاز أن تتكاثف لتصبح
كوكبا ،كما أن الشمس لو أنها تكونت من سديم ينكمش لجمعت لنفسها كل كمية
الحركة الموجودة في المجموعة تقريبا وهذا لم يحدث.
بعد تدهور النظرية السابقة بحلول عام ،0111قدم الباحثان توماس تشامبرلين
Thomas Chamberlinوفور ست مولتون Forest Moultonنظرية جديدة
ظلت سائدة لما يقرب من نصف قرن ومؤداها أن الشمس في الماضي السحيق
193
كادت تصطدم بنجم آخر مر بها بسرعة فائقة وأن قوى المد التي نتجت عن تلك
المقابلة تسببت في انبعاث مواد من الشمس تكثفت في هيئة أجسام صلبة تسمى
الجسيمات الكوكبية ،والتي تطورت فيما بعد إلى الكواكب واألجزاء األخرى من
المجموعة الشمسية ،فقد ترتب على قوة جذب النجم المار أن التوت هذه األلسنة من
الغاز فتحولت إلى شكل لولبي واخذت تدور في سرعة كبيرة حول الشمس ،وهكذا
اكتسبت قد ار كبي ار من الحركة الزاوية المطلوبة لتفسير حركتها الظاهرة ،ولما بردت
مادة السياالت تكاثف فتحولت إلى غبار ،والغبار إلى حبيبات وهذه تكاثفت آخر
األمر فتحولت إلى حشد من الجسيمات الكوكبية الصلبة الشبيهة بالجسيمات التي
تكون حلقات زحل ،وربما تكونت كذلك بعض األجسام الكبيرة نسبيا التي تميل إلى
التقاط األجسام األصغر منها والتي تقع قريبا من مساراتها ،وبهذه الطريقة تكونت
الكواكب وخال الفضاء الذي يتخللها تقريبا من أية جسيمات.
وقد تفسر هذه الصورة كثي ار من الصفات البارزة للمجموعة الشمسية ولكنها ال تفسر
أصل الشمس ،ومن ثم تعرضت للنقد عام 0141فال يمكن تحت أية ظروف معقولة
أن يمد النجم المار الكواكب بتلك الكمية من الحركة الزاوية التي تجمعت فيها ،كما
أنه إذا أطلقت فجأة في الفضاء كتلة لها مثل درجة ح اررة الشمس الداخلية التي ال
تقل عن مليون درجة ،فإنها ستنفجر بسرعة عظيمة نتيجة إشعاعها الشديد لدرجة
أنها لن تتكثف في هيئة جسيمات كوكبية وال حتى في هيئة سحابة.
ومن النظريات الحديثة نظرية كوبير وعدد آخر من علماء الفلك ،حيث اشارو إلى
أن الشمس وجدت منذ نحو خمسة آالف مليون سنة ،وكان ذلك بعد خمسة آالف
مليون سنة على األقل من تكوين المجرة نفسها التابعة لها ،وكان الغاز الذي تكثفت
منه الشمس يشبه إلى حد كبير الغاز الموجود بين نجوم المجرة في وقتنا الحالي،
وكان قاتما ومليئا بالدوامات المكونة من الهيدروجين ،ألن الهيدروجين النقي األصلي
194
الذي يعتقد أن الكون قد نشأ عنه ،سبق أن اختلط بعناصر أخرى وجدت ،وقذف بها
نتيجة تحوالت نووية حدثت في النجوم التي كانت موجودة من قبل .والعامل الذي
جعل الغاز الذي تكونت منه الشمس فيما بعد يبدأ في التكاثف ،فاألرجح أنه كان
دوامة عشوائية جمعت عددا كافيا من الذرات في منطقة واحدة بحيث غلبت جاذبيتها
الكلية قوة حركتها الفردية ولمت شملها في سحابة واحدة منهارة ،ثم أخذت مادة
السحاب تسقط ببطء شديد إلى الداخل على الدوامات التي هي نواة تكوين الشمس.
وقد شكل تأثير جاذبيتها الطاغي باقي السحابة على هيئة قرص دوار ضخم ،وكان
كل جزء إضافي من االنكماش الناشئ عن الجاذبية يزيد من دوران القرص بنفس
الطريقة التي يزيد بها المتزلج على الجليد من سرعة دورانه بضم ذراعية الممتدتين
إلى جسمة ،وكانت كل زيادة في سرعة الدوران تؤدي إلى تسطيح القرص أكثر،
وفي الوقت ذاته كان كبس واصطدام الذرات التي تسقط في نواة الشمس يبعثان
الح اررة داخلها ،وكانت هذه الح اررة تتجمع بسرعة أكبر من السرعة التي كانت تطرد
بها ،وأخذت الح اررة في قلب نواة الشمس ترتفع تدريجا ،وعندما تجاوزت الح اررة
عند القلب مليون درجة أخذت التفاعالت النووية بين ذرات الهيدروجين الثقيلة
والخفيفة تضيف كميات كبيرة من الطاقة إلى الح اررة التي سبق أن تولدت عن
االنكماش ،وأصبح سطح الشمس في البداية أحمر اللون ساخنا ،ثم أصبح برتقالي
اللون وأكثر سخونة ثم أصبح أصفر متوهجا وبدأت أشعته األولى الحمراء وهي
تسقط على نوى الكواكب السيارة غير المكتملة النمو لتطرد دخان المادة التي ولدت
فيها والتي كانت ال تزال تتغذى وتنمو به.
والشمس هي نجم متوسط الحجم من بين باليين النجوم ،وهي أقرب النجوم إلى
األرض ،ويبلغ قطرها 364ألف ميل ،ويبلغ وزنها ألفى بليون طن وهي مكونة
بكاملها من الغاز وحتى عند مركزها وتحت الجاذبية الشديدة التي تبلغ مليون رطل ،
فإن ذراتها تحتفظ بقدرتها كغاز على التجول بحرية ،وتلعب الطاقة الشمسية دو ار
كبي ار على منع قلبها من االنهيار والتجمد حيث ترتفع درجة ح اررتها الداخلية إلى ما
195
ال يقل عن 04مليون درجة مئوية وهي تعمل على تسخين غالف الشمس الغازي
وكذلك سائر النظام الشمسي ،ومصدر هذه الطاقة هو تحول المادة .وهناك تدمير
بطئ مستمر لمادة الشمس ناتج عن طريق التحام ذرات الهيدروجين في ذرات الهليوم
،وهذه العملية قريبة الشبه بالتفاعل االنفجاري الذي يتم في القبلة الهيدروجينية فيما
عدا أن تريليونات األميال المكعبة من الغاز المطاط الذي يحيط بقلب الشمس تأخذ
منه وتحتويه .والطاقة التي تتولد من إفناء المادة في أعماق الشمس تشق طريقها
إلى سطح الشمس ثم تشع في الفضاء ،فإن لم يحدث هذا فإن ح اررة الشمس كانت
سترتفع بسرعة إلى درجة من الحمى تقودها إلى االنفجار ،وتشع الشمس ضوءها
بقوة ثابتة تبلغ 831بليون واط ،ولو أن الطاقة الهائلة المنبعثة من قلب الشمس
وصلت كلها إلى السطح بحالتها األصلية ،أي في شكل أشعة كاما لكانت النتيجة
شعاع موت ينتشر في كل النظام الشمسي ،وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن األشعة
التي تتكون في قلب الشمس تخف حدتها خالل رحلتها إلى الخارج بتأثير ذرات
النونيليونية ( عدد يساوي واحد والى يمينة 81صفر ) الموجودة خارج الغاز
قلب الشمس ،وتتحول أشعة كاما التي تصعد من قلب الشمس أوال إلى أشعة طوافة
من نوع أشعة أكس واألشعة فوق البنفسجية وتحمل هذه األشعة االلكترونات على
إطالق أضوائها المرئية وح اررتها المانحة للدفء .وتنكمش الشمس في الوقت
الحاضر ،حيث أن قطرها ينقص عشرة أمتار في كل قرن .وبدأت هذه العملية منذ
حوالي 4،5بليون عام حتى وصلت إلى حجمها الحالي ،وخاللها تم تحويل
الهيدروجين الموجود داخلها إلى هليوم ،وفي هذه المرحلة المبكرة من حياتها ،كان
إشعاعها المضيء يقل عما هو موجود أالن بنسبة %25ونتيجة لذلك كانت
الكواكب التابعة لها أكثر برودة من أالن .
196
المحاضرة السادسة والعشرون :نشأة األرض :
واذا كانت األرض هي موطن الحياة ،بمعنى ارتباط كل منهما باآلخر ،فما هي
قصة تكوين األرض ؟ وما هو العمر التقريبي لتكونها ؟ وما هي النظريات التي
تفسر كيفية تكوينها ؟ وما هي عالقة األرض بالشمس ؟ وكيف تكون الغالف الجوي
؟ وهل كان يختلف اختالفا جوهريا عما هو موجود اآلن ؟ وكيف تحولت األرض
الجرداء لكي تكون هي موطن الحياة ؟ الواقع أن هناك ثالث نظريات تفسر نشأة
األرض ،وهذه النظريات هي:
النظرية األولى :ترى هذه النظرية أن أحدى النجوم مر بالقرب من الشمس .0
وخالل مروره تحول إلى كتلة كبيرة من الغاز الساخن(بسبب الح اررة العالية) التي
شكلت سحابة كبيرة من الغبار والغاز تشبه دخان السيجار ،وعندما بردت هذه الكتلة
الساخنة من الغاز تقلصت وتحولت إلى عدة قطع وأصبحت كل قطعة فيما بعد
بمثابة كوكب من الكواكب التابعة للشمس ومنها األرض ،وعندما برد سطح األرض
تكثف جزء من غازها الساخن وتحول إلى سائل وتجمع في مركزها .
197
وتتفق هاتان النظريتان على أن األرض في البداية كانت أكثر ح اررة من أالن ،
وكانت بمثابة كرة سائلة يحيطها الغازات الساخنة ،ومن ثم تقران بأن األرض تتكون
من مادة مماثلة لمادة الشمس ،ولذلك فمن خالل اكتشاف ومعرفة المواد الكيميائية
التي تتكون منها الشمس يمكننا معرفة المواد الكيمياوية التي كانت موجودة في مادة
األرض عند بداية تكوينها .
وفي بداية نشأة الكرة السائلة في األرض كان الحديد يشكل معظم مكوناتها والن
الحديد يعتبر أثقل من السوائل األخرى التي امتزج بها فقد نزل نحو مركزها .وفي
نفس الوقت كان الجزء األخر من الكرة األرضية مكونا من األكسيدات Oxides
والسيليكون Siliconواأللمنيوم aluminumوالمنغنسيوم magnesiumوالكالسيوم
calciumوالصوديوم Sodiumوالبوتاسيوم ، Potassiumوقد امتزجت هذه
األكسيدات بمقادير مختلفة من الحديد ،وعندما هبطت درجة ح اررة األرض ،تصلب
الجزء الخارجي منها مكونا القشرة األرضية Crustواستمر القلب الحديدي عند
مركزها في صورة سائلة حتى يومنا هذا .
وبالنسبة للغالف الجوي األول لألرض فقد كان يتكون من الهيدروجين والهليوم
والميثان واألمونيا وكبريتيد الهيدروجين وبخار الماء ،وكانت جزئيات الغاز تتحرك
198
بسرعة بسبب ارتفاع درجة الح اررة ،وكانت الجزئيات ذات الوزن األقل مثل
الهيدروجين والهليوم تتحرك بشكل أسرع للخروج من نطاق الجاذبية األرضية إلى
الفضاء ،ومن ثم بدأ الغالف األصلي يتفكك ويتقلص حتى تالشي ،كما سبحت
الجزئيات األخف بعيدا ،وقد حدثت على كوكبنا هذا ،وقد توصل علماء الفلك من
خالل تحليل الضوء المنعكس من المشتري وزحل إلى أن األغلفة الجوية فيهما ما
زاال يحتويان على مقادير كبيرة من األمونيا والميثان .ولكن بدأ غالف جوي جديد
يحل محل الغالف الجوي األرضي المفقود وظل الصخر المنصهر يشق طريقه
خالل شقوق في القشرة األرضية بنفس كيفية نشأة البراكين في الوقت الحاضر ،
وكانت الغازات التي تحللت في الصخور المنصهرة تتصاعد على السطح وتنتشر
حول الكرة األرضية لكي تشكل الغالف الجوي الجديد والذي يتكون بالدرجة األولى
من بخار الماء والنيتروجين وثاني أكسيد الكربون .ولم يكن هناك أوكسجين ،
فاألوكسجين الموجود في الهواء اآلن ينتج عن التمثيل الضوئي ،وفيما سبق لم
هناك حياة على األرض وبذلك فال يمكن أن ينتج األوكسجين بهذه الطريقة ومثل هذا
يسمى غالفا مختزال الغالف الجوي الغني بالهيدروجين والفقير باألوكسجين
مقارنا بالغالف الجوي الحالي الذي يمسى غالفا مؤكسدا .
وبعد أن بردت األرض أكثر فأكثر أصبح غالفها الجوي باردا جدا لدرجة لم تمكنه
تحمل بخار الماء الموجود به ،ثم بدأ بخار الماء يتكثف بشدة وهطلت أمطار غزيرة
من السماء استمر هطولها أعواما عديدة ،وتدفق الماء من األماكن العالية من
األرض وتجمعت في األماكن المنخفضة منها وترتب على ذلك تشكل البحار
العظمى التي تغطى معظم األرض ،وقد أذابت قطرات المطر خالل هطولها
بعضا من غاز ثاني اوكسيد الكربون الذي كان موجودا في الهواء وحملته إلى البحار
ومن ثم كان النتروجين يشكل معظم مكونات الهواء الموجود في ذلك الوقت .
199
بداية الحياة :
يعتبر الماء مذيبا فعاال ،وعندما تكونت قطرات المطر في الهواء أذابت غاز ثاني
اوكسيد الكربون والمركبات األخرى القابلة للذوبان وحملتها من الهواء إلى األرض
والى البحر .وعلى األرض قامت الجداول المائية التي كانت تتوقف فوق الصخور
الستخالص األمالح منها وحملها مع المياه إلى البحر ،وفي البحار امتزجت أمالح
األرض مع كيميائيات السماء وتفاعلت مع بعضها مكونة مركبات كيميائية جديدة ،
وهذه انبثقت منها الكائنات الحية األولى التي تكونت نتيجة تفاعل مركبات
النيتروجين والكربون ،في الوقت الذي جاءت بعض عناصر المواد الهيدروكربونية
واألمونيا من الغالف الجوي األصلي لألرض .
وباإلضافة إلى ذلك كانت هناك عمليات طبيعية جعلت في اإلمكان إنتاج المواد
الهيدروكربونية األمونيا ،أما االنفجارات البركانية فقد جلبت الصخور المنصهرة أو
الحمم البركانية إلى سطح األرض ،حيث نجد أن الكربيدات ( Carbidesوهي
مركبات من الكربون ومعادن أخرى ) الموجودة في الحمم البركانية قد تفاعلت مع
الماء وشكلت المواد الهيدروكربونية ،كما تفاعلت هذه الكربيدات مع النتروجين
وأنتجت سيناميدات ، Cyanamid'sوالتي بدورها تفاعلت مع الماء وأنتجت األمونيا
،أما النترات nitridesالموجودة في الحمم البركانية فقد تفاعلت مع الماء وأنتجت
األمونيا .وفي الغالف الجوي األعلى فإن ضوء الشمس فصل ذرات الهيدروجين
عن مجموعات الهيدروكسيل hydroxylوالتي امتزجت بها في جزيئات الماء ،وقد
امتزجت بعض الذرات الهيدروجينية بالنيتروجين وأنتجت األمونيا وعن طريق كل هذه
الطرق سالفة الذكر ،ثم تخليق كميات كبيرة من المواد الهيدروكربونية واألمونيا
ونقلها إلى البحر .ومن ناحية أخرى ،حدثت هناك عملية أخرى إلنتاج وتخليق
المركبات العضوية ،فقد كانت هناك جزيئات سريعة الحركة تسمى األشعة الكونية
211
Cosmic Raysالتي كانت تخترق الغالف الجوي لألرض من الفضاء المحيط ،
وعندما كانت هذه األشعة تمتزج بجزيئات الهواء كانت تضربها بقوة ونتج عن ذلك
تحول الجزيئات الصغيرة الى جزيئات كبيرة ثم تكونت األحماض األمينية Amino
Acidsمن الماء والمواد الهيدروكربونية واألمونيا وتم ذلك من خالل قوتين كبيرتين
كانتا موجودتان بالهواء حينذاك وهما :األشعة فوق البنفسجية Ultra _ Violet
raysولها تأثير مدمر ،وهي تحمل قد ار كبي ار من الطاقة ،وقد أثبتت التجارب
المعملية أن هذه الطاقة قادرة على تمزيق الذرات بعيدا عن الماء والمواد
الهيدروكربونية واألمونيا ومزجها لكي تكون األحماض األمينية ،والقوة األخرى هي
تفريغ الشحنات الكهربائية من خالل ألبرق Lightingوالذي يحدث خالل العواصف
الشديدة ،وكال القوتان ساعدتا على أنتاج جزيئات الحمض أألميني في الهواء ،ثم
جرفتها األمطار إلى البحر ....وفي البحر بدأت مجموعة من العمليات الكيميائية
المعقدة التي أنتجت لنا أول أشكال الكائنات الحية وحيدة الخلية .
وتزامنا مع اكتمال تكون القشرة األرضية ،بدأت الكواكب األخرى التابعة للشمس
في التكون ،وكانت المنطقة الموجودة بين المدارات الحالية ألورانوس Uranus
ونبتون Neptuneيشغلها عدة أشياء في حيز مقداره مائة كيلو متر وهي المسافة
التي تمثل المدار حول الشمس ،وهذه األشياء أو األجرام السماوية كانت مكونة من
مزيج من الثلوج التي تحولت إلى غاز يحيط بالكوكب وكميات كبيرة من المادة
الموجودة بين النجوم والتي انبثت من المادة الكثيفة الموجودة بين النجوم والتي دمرت
النظام الشمسي الجديد .
211
المحاضرة السابعة والعشرون :نظريات أصل الحياة:
لقد بذل العلم محاوالت مضنية لحل هذا اللغز ،وتعاونت في ذلك عدة فروع عملية
مثل البيولوجيا والكيمياء والفلك والجيولوجيا وكل هذه الجهود للبحث عن أصل الحياة
لها عدة فوائد ،بل وجوانب تطبيقية تتعلق بحياة البشر ومنها :
إن فهم كيفية وجود الكائنات الحية يرتبط ارتباطا وثيقا بفهم كيفية عمل (أ)
الكائنات الحية ،وتتضح هذه العالقة في بعض البحوث الحالية ،فقد نجحت
212
الدراسات التي تمت على كيفية بناء البروتين في التعرف على ترتيب األحماض
األمينية في جزئ البروتين ،وهذا سيسهل معرفة الكثير عن كيفية ظهور البروتينات
بالدرجة األولى ،وقد يفتح الباب الحتمال صنع البروتين في المعمل .ولهذا أهمية
كبيرة للطب والصناعة ومن الممكن أن يساعدنا على تصنيع أي إنزيم أو بروتين
نريده .
(ب) سوف يلقى مزيدا من الضوء على الفيروسات والجزيئات الصغيرة من
البروتين وال DNAوالتي يبدو أنها تمثل نصف الطريق بين المادة الحية والمادة
الميتة ،وسوف تلقى دراسة الفيروسات مزيدا من الضوء على أداء ال DNAومعرفة
دوره في الخاليا الحية ،وسوف يفتح ذلك الطريق أمام محاربة االمراض التي تسببها
الفيروسات .
لقد نجحت الدراسات التي تمت حول التمثيل الضوئي في كشف الخطوات (ج )
التي تحدث بها ،مما سيؤدي إلى فهم أفضل لكيفية تطور الكائنات العضوية التي
تتغذى ذاتيا ،كما ستفتح الباب أمام احتمال القيام بعملية التمثيل الضوئي ،بدون
مساعدة الخاليا الحية ،وعندما نتوصل إلى معرفة السر الكامل وراء عملية التمثيل
الضوئي ،فسوف يمكن االستغناء عن النباتات الخضراء في تصنيع الغذاء وعندئذ
يمكن صنعة في المصنع من الهواء والماء وهذا سيفتح الطريق إلمكانية إنتاج الغذاء
الوفير مما يساهم في القضاء على مشكلة الجوع لألبد .
تعتبر دراسات السرطان Cancerمن المجاالت الهامة للبحوث الطبية ففي (د )
عام 0156طرح أحد العلماء نظرية مؤداها أن الخاليا الطبيعية تصبح خاليا
سرطانية عندما تفقد القدرة على التنفس وهو الشكل الهوائي لألكسدة ،وسوف تساعد
الدراسات المستقبلية حول هذه المشكلة على ألقاء الضوء على كيفية تطوير عملية
التنفس وقد يؤدي ذلك إلى عالج السرطان ومن ثم إطالة أمد الحياة ،ومن ثم
ستساعد كل البحوث على دراسة ماضي الحياة وكذلك حماية مستقبل اإلنسان .
213
وتعتبر مشكلة أصل الحياة مشكلة فلسفية أساسية ،وفي هذا اإلطار ،أنقسم
الفالسفة الذين تناولوا هذه المشكلة عبر العصور إلى قسمين رئيسيين وهما :
_2الماديون Materialists
ويرى المثاليون وجود كيان فوق الطبيعي ال يمكن أن يصل إليه العلم االمبريقى
يسميها أفالطون الروح ،ويراها رجال الدين أنها بمثابة الش اررة اإللهية أو القدرة
اإللهية ،ويرى الماديون أنه يمكن اختزال الحياة إلى المادة ،أي يمكن تفسيرها في
ضوء قواعد وقوانين الفيزياء ،وهذه النظرية أقرب إلى التفسير العلمي االمبريقى ،
وفي ذلك أقر الفيلسوف اإلغريقي المادي ديموقريطس Democritus (461_ 871
ق.م ) أن العالم يتكون من عدد غير متناه من الذرات والتي تتحرك بشكل عشوائي
في الفراغ ،كما أوضح أرسطو Aristotle ( 834_ 822ق.م ) وزمالؤه أن ذباب
النار Firefliesانبثق من ندى الصباح وأن العديد من أشكال الحياة الصغيرة قد
انبثقت من الطين في قاع الجداول من خالل عملية التولد الذاتي .ومهما يكن من
أمر فهناك العديد من النظريات _القديمة والحديثة_ والتي تفسر أصل الحياة وكيفية
نشوء الكائنات الحية ،وبطبيعة الحال ،لم تتطرق هذه النظريات إلى البحث حول
سر الحياة ،تلك الشعلة القدسية التي تهب اإلنسان الحياة ،وانما البحث في
ظواهرها وكيف ظهرت .
في هذا الفصل سوف نعرض نظرية النفس ونظرية الخلق الخاص ،ونظرية بذور
الحياة ،والنظرية الكيميائية للحياة ،ونظرية التوليد الذاتي .
تعتبر هذه النظرية من أقدم النظريات جمعيا ،فعندما أمعن اإلنسان البدائي النظر
في الحيوانات والنباتات وأدرك أنها مختلفة عن األشياء الجامدة حاول أن يفهم هذا
214
االختالف وأدى به ذلك إلى محاولة فهم ( جوهر الحياة ) وقد الحظ الناس مبك ار
أنهم يتنفسون طالما كانوا أحياء ،ولكنهم يفقدون القدرة على التنفس عندما يموتون،
ومن ثم شبهوا الحياة بعملية التنفس ،وهذا االعتقاد القديم يمكن في كلمة روح
Spiritالمشتقة من الكلمة الالتينية والتي تعنى النفس .وقد تصور الرجل البدائي إن
الحياة أو ( الروح ) تعتبر شيئا منفصال عن الجسد وان الجسد هو بمثابة منزل أو
وعاء تسكن فيه الروح لفترة قصيرة هي فترة حياة الكائن الحي .
ولكن نظرة العلم الحديث تناقض هذه النظرية المبكرة ،حيث يقر العلم بأهمية عملية
التنفس في حياة الكائنات الحية ،تلعب دو ار هاما في اإلبقاء على حياتها ولكنه يقرر
من الناحية األخرى _ بأن التنفس أو النفس ليس هو الحياة وانما هو مجرد دفع
الهواء ومن ثم حمل لبعض الغازات إلى النباتات والحيوانات واخراج بعض الغازات
األخرى منها ،كما يقر العلم الحديث أن الحياة ليست شيئا منفصال عن الجسم بل
أنها عملية تتشكل من كل الحركات وأنشطة المواد داخل الجسم ويتكفل علم
البيولوجي بدراسة كل هذه المظاهر .ومن ناحية أخرى ،ساهمت الثورة العلمية
والتكنولوجية الحديثة في تغيير كثير من المفاهيم التي ظلت سائدة قرونا طويلة .فقد
كان يسود االعتقاد مثال فيما مضى أن الموت هو توقف القلب وتوقف ( التنفس )
بمعنى أنه عندما تتوقف عملية التنفس يكون ذلك عالمة على موت الكائن الحي ،
ومن ثم يؤدي ذلك إلى تحول األطراف والفم والشفتين إلى اللون األزرق ونقص في
انقباضات العين ،باإلضافة إلى حدوث العديد من عالمات الوفاة األخرى مثل
إل Algorوهو هبوط ح اررة اإلنسان ووصولها إلى درجة ح اررة البيئة ،وال Rigor
أي جمود وتخشب عضالت الهيكل العظمى وأخي ار إل Livorوهو زوال لون أجزاء
الجسم نتيجة لتوقف حركة الدم .ولكن اآلن تغيرت تلك المفاهيم بسبب الثورة
البيوطبية والتي جعلت في اإلمكان التدخل في عملية االحتضار واطالة أمد عمل
أجهزة الجسم وبدأ النقاش يدور حول تعريف الموت ومتى يمكننا الجزم فعال بوقوع
الموت ،وطهر تساءل هام وهو :هل الموت عبارة عن توقف التنفس ومن ثم توقف
215
القلب أم تحلل المخ ؟ وقد أثبتت الدراسات أنه بمساعدة األجهزة الطبية يمكن أن
تتوفر أسباب الحياة ألحدهما دون اآلخر ،حيث يمكن للقلب والرئتين أن تجعل الدم
يتوقف ومن ثم إمداد الخاليا باألوكسجين الالزم دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى
تذبذب أو تحرك خاليا المخ وهذا يؤدي إلى جعل األشخاص أحياء من الناحية
الفسيولوجية في الوقت الذي يكونون فيه موتى من الناحية السيكولوجية .
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أنة إذا توقفت ذبذبات المخ لمدة تتراوح بين ثماني وعشر
دقائق ،فأنه لن يستعيد وظائفه العادية حتى لو أستعاد الشخص وعيه وهكذا سيكون
مقد ار للشخص أن يعيش بقية حياته بدون الوظائف المعرفية العادية .وبذلك فأن
الدراسات الحديثة تعرف الموت بأنه حدث طبيعي ويحدث فجأة وبسرعة وفيه يتوقف
المخ عن أداء وظيفته في حين من الممكن أن يستمر القلب واألعضاء في أداء
( نشاطها ،بل أن بعض المدارس الطبية الحديثة تعتمد على جهاز
اااللكتروأنسفالوجراف ) الذي يطلق عليه اختصا ار رمز :آي .أي .جى) وهو جهاز
يقيس الطاقة الكهربائية الدقيقة المنبعثة من المخ ،وهذه المدارس ال تعترف بالموت
إال عندما يشير ذلك الجهاز إلى توقف أي نشاط كهربائي في المخ .ومن ثم لم يعد
يعول اآلن كثي ار على مسألة توقف التنفس كعالمة على وفاة الكائن الحي ،فالعودة
إلى الحياة والتنفس مرة أخرى أمر وارد علميا ،وحدث في أكثر من مجتمع .فقد
عادت الحياة إلى فتاة تبلغ الثانية عشرة من عمرها في بلغاريا عندما حاول حارس
المشرحة التي نقلت إليها جثتها أن ينقلها من مكان ألخر ،ففوجئ بالحياة تعود إليها
وقامت بسحبة فسقط مغشيا عليه ،وكانت الفتاة قد انتحرت بتناول كميات كبيرة من
الحبوب المنومة والخمور بسبب أزمة عاطفية وقرر األطباء وفاتها وايداعها المشرحة
)2( .ـ نظرية الخلق الخاص :
وتمثل هذه النظرية ،نظرية الثبات في الخلق ،وهي من أقدم النظريات وتؤكد على
ثبات الكائنات الحية منذ ظهورها على سطح األرض وبأنها خلقت بشكلها النهائي
216
الذي نجدها عليه اآلن ،وبأنها انتقلت من عصر إلى عصر دون أن يط أر عليها أي
تغيير منذ أن خلقت .فالحشرات خلقت هكذا منذ البداية وحتى اآلن ،وكذلك الكالب
والحمير والطيور واألسماك والزواحف والحيوانات األليفة والمتوحشة واإلنسان كذلك
خلق هكذا منذ بداية وجوده على سطح األرض وحتى اآلن لم يتغير سواء في شكله
أو تركيبه الداخلي .وقد استمدت نظرية الثبات قوتها مما جاء في الكتب المقدسة
وبخاصة في التوراة ( سفر التكوين ) عن خلق العالم وكذلك ما جاء في اإلسالم
والذي يتفق في الخطوط العريضة معها .بل أننا نجد بواكير هذا الفكر في الفكر
البدائي ،فمع نمو المعرفة اإلنسانية ،اختلفت نظرة اإلنسان األول إلى ذلك من خالل
خبرته المحدودة .فاإلنسان البدائي كان صانعا لألشياء _ مثل اإلنسان الحديث
حيث كان يصنع السهام والسالل واألوعية واألكواخ والقوارب والعديد من األشياء
األخرى المفيدة ،وكان خالل صنع وانتاج ذلك يعتبرها بمثابة عملية (خلق) تماثل
عملية خلق الكائنات الحية ،ومن ثم اهتدى إلى أن هناك صانع للكائنات الحية هو
الذي صنعها وشكلها بهذه األشكال وبالتالي توصل إلى فكرة ( اإللهة ) الخالقة التي
صنعت الكائنات الحية ...ومثلما كان اإلنسان البدائي يشكل الطين على هيئة
حيوانات وطيور وأشياء أخرى ،رأى أن اإللهة خلقت اإلنسان والحيوانات من الطين
ثم وهبتهم الحياة من خالل نفخ الروح فيها ،وهذا التصور موجود في كل أنحاء
العالم ،فهناك قصة لدى قبائل البوشمن Bushmenفي أستراليا مؤداها أن (
بوند جيل ) ، Pund_Jelوهو خالقهم ،قد صنع البشر من الطين ثم نفخ روحه
في أفواههم وأنوفهم .
وهناك أسطورة منتشرة بين قبائل الماوريس Maorisفي نيوزيالند تحكى كيف أن
اإلله ( تيكى ) Tikiقد خلق اإلنسان من الطين الممزوج بالدم ،ثم نفخ فيه روح
الحياة .
217
وهنا ،نجد أن البدائيين يؤمنون بئنانية اإلنسان الذي يتكون من جسد وروح ،وأن
الروح تعتبر مستقلة عن الجسد وينظر إليها ككيان قائم بذاته ،ولذلك فهم يعتقدون
أن األرواح قد تنتزع من األجسام لتحقيق غرض خير ،ويعتقد البدائي أن اإلنسان ال
يبتلي بالموت ما دامت روحه غير معرضة لألذى سواء كانت داخل جسمه أم
خارجه .ولذلك يرى البدائي أنه إذا نجح في انتزاع روحه من جسده واالحتفاظ بها
في مكان ما بعيدا عن األذى واإلزعاج ،فانه سيظل خالدا مادامت روحه في هذا
المأمن ،ولذلك نرى أن كثي ار من البدائيين ينتزعون أرواحهم ،حسب طقوس معينة ،
ويودعونها في مكان آمن حتى تزول اإلخطار المحدقة بهم ثم يستعيدونها بعد ذلك .
ومن أمثلة ذلك أن كثي ار من الشعوب ترى أن فترة االنتقال من منزل ألخر تعتبر فترة
حرجة تحيط اإلخطار بأرواحهم ،ولذلك نجد أن الكاهن في منطقة (منياهاسا) وهو
إقليم في سيلييس ،يجمع أرواح األسرة في حقيبته حتى زوال الخطر ،ثم يعيد كل
روح على حده إلى صاحبها .
ومن ناحية أخرى ،يرى سكان قبيلة النوير ،وهي إحدى قبائل السودان ،أنه
عندما يموت الشخص تنفصل روحه عن الجسد ،كما يرون إن كل الكائنات الحية
خلقت من األرض وسوف تعود إليها مرة أخرى ،وعندما يحتضر المرء فأن روحه
تضعف ثم تنطلق وترحل عنه ويعتقد النوير أنها ذهبت إلى اهلل الذي وهبها إلى
اإلنسان ،كما يرون أن روح اإلنسان تماثل ظله ،فالظل لديهم هو أفضل طريقة
يلجئون إليها لبلورة شكل الروح ومن ثم يؤمنون باألشباح التي تماثل شكل اإلحياء
تماما .
وفي األديان السماوية ،نجد أن سفر التكوين في العهد القديم ( التوراة) تناول
بإسهاب قضية الخلق عموما وفصلته تفصيال على مدى ستة أيام وهي أيام الخلق ،
ثم استراحة اهلل في اليوم السابع ،ومن ثم تناول الصحاح األول تلك األيام الستة وما
تم فيها من خلق ،حيث يبدأ باالتي( :في البدء خلق اهلل السماوات واألرض ،وكانت
218
األرض خربة وخالية وعلى وجه القمر ظلمة وروح اهلل يرف على وجه المياه .وقال
اهلل ليكن نور فكان نور ،ورأى اهلل النور أنه حسن ،وفصل اهلل بين النور والظلمة
ودعا اهلل النور نها ار والظلمة دعاها ليال ،وكان مساء وكان صباح يوما واحدا .
وفي اليوم الثاني خلق اهلل السماء ،وفي اليوم الثالث خلق اليابس ،والبحار والعشب
والبذور واألشجار ،وفي الرابع خلق األوقات واأليام والسنين وأنوار النهار والليل
والنجوم ،وفي الخامس خلق الطيور والدواب وكائنات البحار ،وفي اليوم السادس
خلق البهائم والوحوش وكل بجنسه _ وخلق اإلنسان المسيطر على مخلوقات البر
والبحر وخلق منه الذكر واألنثى وسخر له الطعام من بقول األرض وطيور السماء
ودواب األرض ونباتاتها .ويبدأ الصحاح الثاني باستراحة اهلل جل شأنه _ من عملة
،ثم خلق المطر وبين خلق اإلنسان من التراب ثم نفخ فيه اهلل من روحه ،ثم خلق
الجنة ووضع فيها ادم وخلق فيها األشجار التي ترمز للخير أو الشر وكذلك األنهار
(أربعة أنهار) ثم أوحى اهلل ألدم باال يأكل من شجرة معينة وخلق الطيور والحيوانات
البرية وعلم ادم أسماءها ،ثم خلق اهلل امرأة من ضلع ادم ،لكي يتزوجها ادم بعد
ذلك .وفي الصحاح الثالث يحكي قصة غواية حواء آلدم وتحريضها له على عصيان
اهلل وذلك بأكله من شجرة محرمة ،ورمت حواء المسئولية على فعل ذلك إلى الحية
فلعنها اهلل ،كما دعا على المرأة ،زوجة ادم ،بأنها سوف تتعب خالل حياتها من
آالم الوالدة وأنها سوف تكون مودة للرجل ،كما دعا على ادم وكتب عليه التعب في
حياته بسبب عمله في األرض بعد عودته إليها .وأطلق اهلل اسم حواء على المرأة
التي كانت بصحبة ادم وصنع اهلل لها وألدم المالبس وطردهما من الجنة .
ويحكي الصحاح الرابع قصة زواج ادم وحواء ،وقصة قتل هابيل كما جاءت في
اإلسالم ـ ألخيه قابيل ،بسبب غيرته منه وتقبل اهلل هديته وطرده اهلل إلى مكان أخر
شرقي عدن ،ثم يعرض الصحاح لقصة زواج قابيل ونسله .وفي الصحاح الخامس
يبين اهلل أن ادم عاش مائة وثالثين سنة ثم أنجب ولده ( شيشا ) ثم طال عمره حتى
219
وصل 181عاما ...ومن ثم يبين سفر التكوين قصة الخلق ويرجعها إلى أنها تمت
عن طريق اإلله وضمت المعجزات وأن كل نوع من أنواع الكائنات الحية خلقت هكذا
منذ البداية وفي تتابع معين حتى خلق ادم .ويتشابه رأى اإلسالم في الخطوط
العريضة مع ما جاء في سفر التكوين فاهلل سبحانه وتعالى خلق السماوات واألرض
ض ِفي ِستَ ِة أََيام ث َم ق الس ِ
َم َاوات َواألَر َ
َِ
في ستة أيام ،ويقول تعالى ( :ه َو الذي َخلَ َ َ
ض وما يخرج ِمنها وما ي ِ ِ ِ ِ
َماء َو َما نزل م َن الس َ َ ََ َ ش َيعلَم َما َيلج في األَر ِ َ َ َ
استَوى َعلَى ال َعر ِ
َ
صير) .ويحكي القرآن قصة خلق يعرج ِفيها وهو معكم أَين ما كنتم واللَه بِما تَعملون ب ِ
َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ََ َ
نس ِ
ان ق ِ
اإل َ اإلنسان من طين ،ويقول تعالى ( :الَِذي أَح َس َن ك َل َشيء َخلَقَه َوَب َدأَ َخل َ
ان ِمن س َاللَة ِّمن ِطين { }02ث َم َج َعلَناه نس َ ِمن ِطين) .ويقول تعالى ( :ولَقَد َخلَقَنا ِ
اإل َ َ
نطفَة ِفي قَ َرار َم ِكين { }08ث َم َخلَقَنا ُّ
النطفَةَ َعلَقَة فَ َخلَقَنا ال َعلَقَةَ مض َغة فَ َخلَقَنا المض َغةَ
ين. ِِ آخر فَتَبار َ َ ِ ِ
ك الله أَح َسن ال َخالق َ عظَاما فَ َك َسوَنا العظَ َام لَحما ث َم أنشأناه َخلقا َ َ َ َ
ويتحدث القرآن عن خلق حواء من ادم ،من نفس واحدة ،وزواجهما ثم ذريتهما
ق ِمنهَا َزو َجهَا وفي ذلك يقول تعالى ( :اتَقوا رَبكم الَِذي َخلَقَكم ِّمن َنفس و ِ
اح َدة َو َخلَ َ َ َ
ث ِمنه َما ِر َجاال َكثِي ار َونِ َساء) .ويتحدث القرآن عن تعليم اهلل األسماء ،أي أسماء وَب َ
َ
كل المخلوقات آلدم والذي علمها _ بدوره إلى المالئكة ،وفي ذلك يقول تعالى :
ضهم َعلَى ال َمالَئِ َك ِة فَقَا َل أَنبِئونِي بِأَس َماء َهـؤالء إِن َ ( َو َعلَ َم َ
آد َم األَس َماء كلهَا ث َم َع َر َ
ين) .وبذلك فإن اآليات القرآنية واألحاديث النبوية كلها قاضية بخلق آدم كنتم ِ ِ
صادق َ َ
عليه السالم خلقا مباش ار ،وخلقه اهلل تعالى بيده ،ونفخ فيه من روحه ،وأسجد له
مالئكته وعلمه األسماء كلها ،وجعل طوله ستين ذرعا وأسكنه جنته ،ثم أخرجه
منها لما أكل من الشجرة فعصى وغوى ،وأهبطه إلى األرض هو وزوجته حواء التي
خلقها اهلل منه باألمر اإللهي ،وأمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .ومن ادم
وحواء وبطريق التناسل والخلق التدريجي خلق اهلل ذريته في كمالهم فصحاء عقالء
سادة في األرض .وبهذا نرى أن نظرية الخلق الخاص ترى أن الحياة تختلف اختالفا
جوهريا عن المادة غير الحية ،وهي ال يمكن أن تنبثق عن المادة غير الحية ،
211
وتذكر أن اإلله هو الذي تدخل في نظام الطبيعة لخلق الكائنات الحية وعلى األخص
اإلنسان ،وأن اإلنسان قد خلق من مادة كانت موجودة من قبل من تراب أو الدم أو
الماء ،وبعد أن تم تشكيل هيكل اإلنسان نفخ فيه اهلل من روحه ،فالجسد في حد
ذاته سواء أكان لإلنسان أم الحيوان أم النبات ليس له قيمة في حد ذاته فهو يتحلل
إلى العناصر الداخلة في تركيبه وهي الماء والتراب والهواء ،أما الذي يعطى الجسد
قيمة فهي الروح الخفية أو جوهر الحياة ،كما ترى أن الكائنات الحية وخصوصا
اإلنسان _ خلق خصيصا لتعمير األرض التي أعدت الستقبالها .
بل أن أحد فروع العلم اآلن تصدى لهذه القضية وهو علم الروح Psychic
. Scienceوال يهدف ذلك العلم إلى معرفة طبيعة الروح بمعنى الشعلة القدسية
التي تهب الحياة لإلنسان ،فهذه ال يعرف سرها أحد إال اهلل ،ولكنه ينصب مباشرة
على دراسة الروح بمعنى الجسد غير المادي للكائنات الحية ألنه حجر الزاوية فيه.
فقد أثبث هذا العلم أن لكل كائن حي _ إنسانا كان أم حيوانا _ جسدا غير مادي هو
الجسد األثيري Etherical Bodyأو الكوكبي ،وهذا الجسد له كيان مادي ،إال انه
بالنظر إلى ارتفاع اهت اززه إلى ما فوق اهتزاز الضوء بكثير ال يكون له على المستوى
األراضي _ وبالنسبة لحواسنا المادية _ هذا الكيان المادي الذي يكون لة هناك .
وهذا الجسد غير المادي يالزم الجنين في بطن أمه ،ثم ينمو بنمو الجسد المادي ،
فهو يشكله ويتشكل به عند كل كائن حي .ولهذا الجسد العديد من الخصائص منها
اإلحساس والتي يهبها إياها الروح حاملة العقل ،وكذلك وجود الغدة الصنوبرية والتي
تجعله يحس تماما مثل الجسد المادي ،باإلضافة إلى أن ذلك الجسد األثيري غير
قابل للبتر أو للفساد أو الشيخوخة ،فإذا بتر عضو من أعضاء الجسد الفيزيقي
وتحلل ال يقابله تحلل الجسد األثيري .وبذلك فأن البحوث الروحية انتهت إلى
اإليمان بثنائية العقل والجسم ،فإذا قبل اإلنسان أن الجسم الفيزيقي هو الحقيقة
الوحيدة ،وان ما نسميه عقال إنما هو مجرد أشعاع من المخ أو هو بمثابة ظاهرة
مصاحبة للنشاط المخي ،فسوف يؤمن بأنه ال بقاء وال حياة بعد الموت .ولكن
211
البحوث العلمية تؤكد بقوة أن النشاط العقلي يمكن أن يحدث خارج أطار المخ حتى
في أثناء الحياة األرضية ،هذا باإلضافة إلى أن حاالت االتصال التلقائي بالموتى
وما يطرحه الوسطاء في هذا الصدد ،تؤكد بقاء الروح كتجسد للشخصية بعد الموت
....وعموما ،يسود االعتقاد اآلن _ كما سيتبين لنا ال حقا _ أن الكائنات الحية
تعتبر نواتج لعملية التطور .ولتفسير هذه العملية ،فان العلم الحديث ال يبحث في
مسألة ( الخلق ) الذي يخلق المخلوقات في أشكال معينة منذ األبد _ مثلما يفعل
اإلنسان _ ولكن العلم يبحث في قوانين الطبيعة التي توضح كيف أن األسباب تؤدي
إلى مسبباتها ومهما يكن من أمر هذه االختالفات ،فقد حاول بعض المفكرين
التوفيق بين ما جاء في الكتب المقدسة ،وما جاءنا به العلم الحديث ،فقالوا إذا كان
قد أخذ على األديان مسألة خلق العالم في ستة أيام ،فلماذا ال يكون اليوم فترة من
الزمن قد تكون عهدا أو عص ار يمتد طوال السنين ،وهو ما يفهم من مدلول هذا
اللفظ في بعض اآليات القرآنية ،فيقول تعالى تعرج المالئكة والروح إليه في يوم كان
مقدراه خمسين ألف سنة ويقول تعالى ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اهلل وعهده
وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) .ومن ثم يتضح لنا أن اليوم المقصود
ليس هو المعروف لدينا ومقداره 24ساعة والذي يأتي من خالل دوران األرض حول
نفسها أمام الشمس وانما هو أكبر من ذلك بكثير ،ومن ثم قد يكون معنى ستة أيام
هو ستة مراحل تطورية حسبما تذكر نظرية التطور .ومن ناحية أخرى ،قيل في
تفسير اآلية القرآنية .هل أتى على اإلنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكو ار أن
آدم بقى أربعين سنة طينا ،وأربعين سنة حما مسنونا ،وأربعين سنة صلصاال
كالفخار ،فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة .فكم من األيام في مائة وعشرين سنة
وكم من ماليين السنين تكون إذا ضربنا عدد هذه األيام في ألف سنة أو في خمسين
ألف سنة .ويؤكد ذلك قوله تعالى في سورة السجدة ( :اهلل الذي خلق السماوات
واألرض وما بينهما في ستة أيام ثم أستوى على العرش مالكم من دونه من ولى وال
212
شفيع أفال تتذكرون ،يدبر األمر من السماء إلى األرض ثم يعرج إليه في يوم كان
مقداره ألف سنة مما تعدون .ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ) .
وهي تسمى بعدة أسماء ،منها :بذور الحياة أو البذور الكونية أو الجراثيم الكونية أو
الحياة الكونية أو الجوهر الكوني للحياة ..وهذه النظرية تعتبر أمتدادا للفكرة
اإلغريقية عن الحياة كجوهر كوني موجود في هيئة بذور ذرية مختلطة مع مادة
الجماد ،وتسمى النظريات المختلقة عن بذور الحياة المنبثة خالل الكون بمصطلح
(بانسبرميا) ( الجرثومة الكونية) .وهناك العديد من األنصار لهذه النظرية ومنهم :
و ( .بريار) W . Prayerففي عام 0331أوضح أن الحياة ال تنبثق إال من حياة
أخرى ،وأنها _ أي الحياة _ كانت موجودة على األرض منذ بداية تكونها حتى
عندما كانت الكواكب األخرى في حالة انصهار ،ثم أوضح بعد ذلك أن األرض
المنصهرة نفسها كانت كائنا حيا ضخما ،ولما تحولت إلى الحالة الصلبة ظل
(جوهر الحياة ) في الجزء السائل منها ثم تسرب آخر األمر إلى البحار والهواء حتى
دخل في تركيب المركبات المعقدة التي تشكل المادة الحية اآلن .وكانت فكرة
الجرثومة الكونية متداخلة تداخال قويا مع نظرية التولد الذاتي ،ولما تعرضت األخيرة
للنقد والى صعوبة انبثاق المادة الحية من المادة غير الحية توصل الباحثون إلى
بديل مؤداه أن الحياة إما نشأت على األرض من خالل الخلق الخاص في الماضي
البعيد ،واما أنها جاءت أليها من جوهر للحياة منتشرفي أرجاء الكون .
وهنا نشأت فكرة الكوزموزوا ( .الحياة الكونية ) والتي ترى أن الفضاء مليء بجراثيم
الحياة المتغلغلة في أرجائه والتي غزت األرض وغيرها من الكواكب المسكونة ،
ولكن هذه النظرية انحرفت بالموضوع الرئيسي ،إذ انتقلت بمسألة أصل الحياة من
األرض ذات التاريخ الجيولوجي المعروف إلى مكان وزمان آخرين مجهولين.
213
ومن ناحية أخرى ،فقد أوضح ( هيرمان أبيرهارد ريختر _ وهو أحد أنصار هذه
النظرية ،إن الفراغ الذي نراه مملوءا بجراثيم الصور الحية كالجواهر الفريده التي
تتكون منها المادة الصماء ،كالهما في تجدد مستمر وال يتوالهما العدم وبنى قاعدته
في أصل الحياة على أن كل حي أبدى وال يتولد إال من خلية .وقد أوضح ريختر _
وهو طبيب ألماني _ أن قطع الحديد والحجارة التي تدخل الغالف الجوي لألرض من
حين ألخر ،في صورة النيازك ،ال تسقط جميعا على األرض فبعض النيازك البد
أن تالقي هذا الغالف الجوي في زوايا غير مباشرة ،فتنفذ في الهواء لمسافة قصيرة
لتخرج مرة أخرى بعيدا عن األرض ،وهذه النيازك ستلتقط بعض الخاليا الحية من
الجو فتحملها خارجا إلى الفضاء إلى حيث يقدر لها أن تسقط .ومن ثم فان هذه
النظرية ادعت هبوط الحياة على األرض من عوالم أخرى فإذا كان الحيز أو الفضاء
المحيط باألرض مليء بالجزيئات األولية ،فمن البديهي أصل الحياة على األرض
قد جاءت من خالل تجزئة المواد الحيوية األولية التي كانت موجودة سلفا .ويرى
البعض أن الكائنات العضوية التي كانت موجودة بين النجوم قد تم تدميرها في
مرحلة تكون األرض ،وفي الوقت ذاته ثبت علميا إن المذنبات Cometsتحمل
تجلب هذه الجزيئات مركبات عضوية ،كما أن بعض النيازك )Meteorites
إلى األرض .وقد تطورت أشكال الحياة البدائية فوق سطح المذنبات وذلك نتيجة
الح اررة التي انطلقت من عمق ما أسفل سطح المذنبات ،كما أدت الح اررة إلى صهر
بعض الثلوج الموجودة أسفلها ،وقد نتجت هذه الح اررة عن التفاعالت الكيماوية بين
الجزيئات العضوية .وبعد انصهار الجليد ،حدثت عدة تفاعالت كيميائية بين
الجزيئات العضوية والماء السائل مما أدى إلى توليد الح اررة أيضا ،وقد ساعدت
الطبقات الموجودة على السطح على منع فقدان الح اررة مما مهد الظروف المواتية
لظهور الحياة ،كما أن الجزيئات الحيوية األولية بما في ذلك السكريات المعقدة
واألحماض األمينية واألبنية الجزيئية لألحماض األمينية ،كلها وجدت داخل الثلج
المنصهر ،ولما كان تركيز هذه المواد أعلى في هذا المزيج عنه في أي مكان آخر
214
على األرض ،لذلك فمن المحتمل أن هذا المزيج كان يشتمل على جزيئات الحياة
األساسية ،وقد ظهرت بعض الكائنات مثل البكتريا والطحالب الخضراء والزرقاء
على األرض منذ حوالي ( ) 8بليون عام ويمكن القول أن ظهور الحياة األرضية قد
حدث منذ أربعة باليين عام عندما وصل المذنب الحامل للحياة .وعموما يرجع
الفضل إلى الكيميائي السويدي سفانت أرهينيوس Savant Arrheniusفي بلورة
هذه النظرية .فبعد أن ثارت عاصفة ترفض فكرة انتقال الحياة من الكون إلى
األرض فوق أحجار الشهب ،قدم بدال منها نظرية مبنية على فكرة ضغط اإلشعاع
والتي كانت كشفا جديدا في ذلك الوقت ومؤداها أن الجسم عندما يمتص الضوء أو
الح اررة ويعكسها ،فأنه يقع تحت ضغط فيزيقي ،والضغط اإلشعاع عادة ما يكون
ضئيال جدا بالنسبة لألجرام الكبيرة ،أما بالنسبة للجسيمات الصغيرة ،فان هذا
الضغط قد يكون اكبر من إي قوى أخرى تعمل عليها ،ومن ثم مضى أرهينيوس
ليحسب أثر ضغط أشعة الشمس على الجسيمات الصغيرة في النظام الشمسي
وانتهت إلى أن البكتريا والكثير من الفيروسات _ إذا وجدت في الفضاء بين الكواكب
دون أن تعوقها أية مواد محيطة _ ستخرج بسهولة من النظام الشمسي محمولة
بضغط موجات أشعة الشمس .وقد أثيرت عاصفة من النقد ضد هذه النظرية ،
حيث أن أشعة أكس الكونية وكذلك الضوء فوق البنفسجي من الشمس له أثر مميت
محتمل على الخاليا الحية فتستطيع أن تقتل البكتريا وجراثيمها في وقت قصير نسبيا
،إال أنه ثبت علميا في منتصف الستينات من هذا القرن وجود الجرافيت بكميات
كبيرة في الفراغ بين النجوم ،ويمكنه أن يمتص الضوء فوق البنفسجي ،كما أثبتت
التجارب العلمية أن بعض أنواع البكتريا يمكنها أن تقاوم جرعات مختلفة من أشعة
أكس .ولكن الموقف الحالي السائد أالن يبن العلماء يرفض هذه النظرية لسببين :
أولهما :أن الحياة ال توجد على الكوكب المجاورة لنا في النظام الشمسي ،ومن ثم
لم تأتي ألينا أية بذور حياتيه من الكون ،وربما أتت من فلك آخر يتبع نجما آخر
غير الشمس .
215
وثانيها :أن هذه البذور لكي تصل ألينا من هذا الكواكب اآلخر يتعين عليها أن
تقطع مسافة تقدر ب ـ 25إلف بليون ميل وهي تمثل المسافة من أقرب نجم ألينا إلى
األرض ،ولكن الفضاء الخارجي ليس شاغ ار ،فهو مليء بالجزيئات سريعة الحركة
والتي يمكنها أن تدمر أي بذور للحياة قبل وصولها لألرض بفترة طويلة ...وحتى
إذا سلمنا بهذه النظرية وبهذه البذور ،ويتعين علينا أن نفسر كيفية ظهورها إلى حيز
الوجود على الكواكب الذي جاءت منه ومن ثم فان مشكلة أصل الحياة _ طبقا لهذه
النظرية _ قد انتقلت من األرض إلى الكواكب األخرى .
لقد كانت الخبرة البشرية فيما مضى مقيدة ومحدودة نظ ار لضعف العين البشرية التي
عجزت عن رؤية الكائنات متناهية الصغر ،ولم يستطيع البشر األوائل جمع مادتهم
واجراء تجاربهم بطرق منهجية منظمة األمر الذي أدى إلى قصور معارفهم ووجود
الكثير من الثغرات ومواضع الضعف فيها ..وفي ظل هذا المناخ ظهرت نظرية
التولد الذاتي Spontaneous Generationوالتي ترى أن الحياة تخرج من المادة
الميتة مثلما تنبثق الحياة من مادة حية أيضا .وهناك العديد من األدلة على ذلك ال
حظها الناس منذ القدم ،فإذا تركت قطعة لحم معرضة للهواء حتى تتعفن وتتحلل ،
سوف تالحظ بعد قليل ظهور بعض اليرقات Maggotsالصغيرة التي تشبه الديدان
في مظهرها ،واذا انتظرنا بعد ذلك سنرى أنها ستتحول إلى الذباب وبذلك أستنتج
الناس أن هذه الحشرات قد نتجت عن هذا اللحم المتعفن ،وأن الضفادع تخرج من
الطين الموجود على حافة بركة مليئة بالمياه الراكدة ،وأن الفئران تخرج فجأة من أي
مكان من مخازن الغالل ،كل ذلك دون أن يدركوا العلل الحقيقية لوجود هذه
الكائنات الحية واعتقدوا أن الكائنات الحية تخرج من الميتة ولم يدر بخلدهم أبدا أن
ديدان األرض تخرج من خالل بيض صغير وضعه دود آخر في األرض مما جعلهم
يعتقدون بأن الديدان الحية خرجت من التربة الميتة ،وأن الضفادع تخرج من البيض
216
الذي يشبه الهالم وقد وضعته ضفادع أخرى على سطح الماء الراكد مما جعلهم
يعتقدون أن الضفادع الحية خرجت من الطين ( الميت ) ولم يروا كيف الفئران قد
غزت ٍمخازن من الحبوب في إطار بحثها عن الطعام مما جعلهم يعتقدون أن
الحبوب هي التي أنتجت الفئران وأن اليرقات تخرج من بيض صغير جدا يضعه
الذباب مما جعلهم يعتقدون أن اللحم المتعفن هو مصدر تلك اليرقات .
وهذا الرأي قديم قدم التفكير البشرى ذاته _ كما أوضحنا وموجود في العديد من
الثقافات القديمة مثل الصينية والهندية والبابلية والمصرية ،وكانت هذه المعتقدات
منسوجة في إطار األساطير الدينية والخرافات ،فقد كان البابليون مثال يؤمنون بأن
أشكال الحياة األولى قد انبثقت من الطين الموجود في قيعان األنهار وكذلك انبثقت
من مادة ضبابية Soupكثيفة ..وكل هذه اآلراء والمعتقدات مهدت الطريق لظهور
نظرية التولد الذاتي ،والتي ظهرت في أواسط القرن الماضي نتيجة لسلسلة بحوث
منظمة قام بها عدد من كبار العلماء في القرن الثامن عشر أو قرن المادية كما
يسمونه .ومن هذه المحاوالت المبكرة ،محاولة العالم الهولندي ليفنهوك الذي
أستعمل العدسات في دراساته ...ففي عام 0675م أكتشف ألول مرة أجساما حية
في المستنقعات ،وهي أجسام صغيرة جدا ال يمكن رؤيتها بالعين المجردة وال يتجاوز
طولها 51 /0من البوصة وهي البروتوزوا أو الحيوانات األولية ،وفي عام 0671
أكتشف أن الخميرة التي يستعملها اإلنسان في صناعة الخبز هي عبارة عن أجسام
حية صغيرة جدا أدق من البروتوزوا ،وفي عام 0638تمكن من مشاهدة أجساما
أخرى أدق وهي البكتريا ...وحاول ليفنهوك معرفة مصدر هذه المخلوقات بأن قام
بنقع قليال من الفلفل في كمية من الماء وصنع منها حساء تتكاثر فيه البروتوزوات
وتبين له إن الحساء الخالي من كل آثار الحياة أنتج أجساما حية وأيقن أنها لم تنتج
إال بالتولد الذاتي .وقد نشأ مذهب التولد الذاتي من رأي ساد في القرن الثامن عشر
يقول بقدوم العالم ،وهو قول تدرج فيه الباحثون إلى إنكار علة أولى واجبة الوجود
217
بذاتها وعقد األستاذين باستيان في انجلت ار وهيكل في ألمانيا لواء الزعامة فيه ،وقد
حصر هيكل التولد الذاتي في سبع مسائل وهي :
تنحصر المادة العضوية في المادة الحية األولى وهي البروتوبالزم وهي (أ)
تركيب كيماوي غرواني يشكل الزالل والماء أكبر العناصر التي يتركب منها .
(ب) أن حركات هذه المادة الحية التي نطلق عليها اسم ( الحياة العضوية )
طبيعية كيماوية حدثت صدفة ال أثر لقوة أخرى فيها وال توجد إال في وسط حراري
معين ينحصر بين درجتي االنجماد والغليان .
إذا فاقت درجة الح اررة هذين الحدين _ االنجماد والغليان _ فقد تبقى الصور (ج )
العضوية حافظة لحياتها الطبيعية وتسمى حينئذ ( الحياة الكامنة ) ولكنها ال تستطيع
البقاء على ذلك زمنا طويال .
لما كان الرأي السائد أن األرض _ مثل األجرام السماوية _ قد انفصلت عن (د)
الشمس وظلت منصهرة أزمانا طويلة ودرجة ح اررتها مرتفعة تقدر باآلالف ،فأن
المادة الحية ( البروتوبالزم ) ،ال يمكن أن تكون قد لبثت كل هذه العصور محتفظة
بصورتها ،ومن ثم فالحياة _ في هذا الوضع _ ليست أبدية أزلية .
إن المادة الزاللية التي تولدت منها الحياة لم تحدث لم تحدث في األرض إال (هـ)
بعد أن هبطت درجة ح اررتها عن درجة الغليان .
إن التراكيب الكيمياوية التي تكونت منها المادة الزاللية التي حدثت فيها الحياة (و)
تدرجت في النشوء والتركيب بحسب الحالة التي كانت األرض عليها خالل األزمان
األولى حتى بلغت مرتبة البروتوبالزم .
إن الكائنات ذات الخلية الواحدة :هي أول الكائنات العضوية الحية تكوينا ، (ز)
وكانت في البداية مختلطة الصورة والتركيب ثم أخذت في االرتقاء .
218
وقد أحدثت هذه النظرية ذات الطابع ( المادي ) أو المظهر واألصل المادي للحياة ،
صدمة كبيرة في ذلك الوقت وبخاصة بين رجال الدين المسيح في أوربا ،فكيف
يتقبلون فكرة التولد الذاتي لحياة جديدة من مادة غير حية ،في الوقت الذي يؤمنون
فيه بأن األسالف األولى لكل األنواع الحية اآلن قد خلقت مستقلة منذ بداية الخلق ؟
وفي هذا الصدد ،حاولت العديد من اآلراء التوفيق بين تلك الحقائق وبين التعاليم
أوجستين الدينية المقدسة عن الخلق ،ومن أمثلة من تناولوا هذه القضية العالم
Augustineالذي زعم أن اهلل قد قدره للحياة أن تتجدد إما عن طريق الوالدة العادية
أو بشكل مستقل من المواد المناسبة لها .وفيما بين ظالم فلسفات العصور الوسطى
ونور العلم الحديث ،أيد كثير من المفكرين مذهب التولد الذاتي وأضافوا إليه العديد
من النظريات الموضحة له ومن أمثلتهم ديكارت Descartesونيوتن . Neuton
فقد أوضح ديكارت أن التولد الذاتي يعتبر عملية طبيعية صرفة ،تحدث دون تدخل
أية قوى ميتافيزيقية ،وذلك كلما كانت الظروف المادية مواتية لذلك .
وقامت معركة علمية تجاه نظرية التولد الذاتي بين مؤيد ومعارض استمرت حوالي
مائتي عام .فالبعض يرى أن الجراثيم تنتج من المادة الميتة والبعض اآلخر يرى أن
الجراثيم تنمو من جراثيم أخرى سقطت من الهواء وأنها لن تتكون طالما ظلت المادة
العضوية بعيدة عن الهواء .وقد بدأت ردود الفعل المعارضة لهذه النظرية _
بطريقة علمية _ في إيطاليا ،ففي عام 0663قام الشاعر والطبيب االيطالي ريدي
Rediبتجارب لمعرفة أسباب ظهور الكائنات الحية من تلك الميتة ،فقد الحظ أن
الذباب ال يتولد داخل اللحم فحسب ،بل أن اللحم يجذب إليه الذباب أيضا من
الخارج ،ومن ثم أدرك وجود عالقة بين الذباب الذي ينجذب إلى اللحم وبين الذباب
الذي يتولد فيه ،وذلك بأن ترك عينات من اللحم العفن داخل أوعية صغيرة ذات
فتحات واسعة ،ثم ترك بعض هذه األوعية عارية بدون غطاء ،وغطى البعض
اآلخر بقطع من الشاش فوجد بعد قليل أن الذباب انجذب نحو جميع العينات ثم
استقر على المكشوفة منها ،كما وجد أن اليرقات تكونت فعال في القطع المتحللة
219
التي وقف عليها الذباب ولكنها لم تظهر على القطع المغطاة بالشاش والتي لم
تلمسها أرجل الذباب على اإلطالق بالرغم من أنها تحللت بنفس السرعة ونفذت منها
الرائحة الكريهة بنفس القوة التي نفذت من اللحم غير المغطى ،فتبين من ذلك أن
اليرقات وكذا الذباب الذي ظهر بعد ذلك لم تنتج كلها إال من ( البيض ) الذي
وضعه الذباب عليها أي أنها نشأت من البيض تماما كما يحدث بالنسبة للتماسيح
والثعابين ولكن مع فارق واحد هو أن بيض الذباب كان صغي ار جدا ال يمكن
مشاهدته .وفي عام 0767قام العالم االيطالي الزازو سباالنزاني بتجربة أخرى ،
حيث لم يكتف بغلي الحساء لضمان عدم وجود كائنات حية به ،بل قام بسد عنق
الزجاجة التي تحتوي عليه سدا محكما وتبين أن الحساء المغلي لم ينتج أي نوع من
أنواع اإلحياء بسبب عدم وصول الهواء إلى الزجاجة ،ومن ثم حقق نفس الغرض
الذي حققته قطعة الشاش التي غطى بها ريدي قطعة اللحم ليحول بينها وبين الذباب
،ومن ثم تبين له أن هناك مخلوقات مجهريه تحوم حولنا في الهواء باستمرار وهي
أصغر من بعض الذباب حجما ويصعب رؤيتها بالعين المجردة ،وهذه المخلوقات
تسقط في الحساء إذا ترك معرضا للهواء وتتكاثر فيه بسرعة ،ولكن اذا حيل بينها
وبين الحساء فلن يتولد فيه أي نوع من أنواع األحياء على اإلطالق.
وفي عام 0386تقدم البحث في هذا المجال خطوة أخرى على يد العالم األلماني
(تيودور شفان ) حيث أوضح أنه من الممكن أن يبقى الحساء معقما حتى ولو
تعرض للهواء وذلك بتسخين الهواء قبل مروره على الحساء للتخلص مما عساه أن
يكون موجودا به من الكائنات الدقيقة ،ولكن تم االعتراض على ذلك بأن الح اررة لم
تقتل األجسام الحية فقط ،بل قتلت أيضا شيئا آخر في الهواء هو ( المبدأ الحيوي )
وأن التسخين يقضي على هذا المبدأ الحيوي ويفسده قبل وصوله إلى الحساء وأنه إذا
حيل بين هذا المبدأ الحيوي وبين الوصول إلى الحساء كان من المستحيل أن نجد
جسما حيا .وفي عام 0361قضى الكيميائي الفرنسي لويس باستير على مبدأ
التولد الذاتي ،فقد أكد أن األنواع ألمجهريه من الكائنات الحية ( الكائنات الدقيقة
221
مثل البروتوزوا والخميرة والبكتيريا ) هي السبب في حدوث األمراض التي يصاب بها
اإلنسان والحيوان وهي السبب في ظهور تعفن المواد العضوية وال ثبات ذلك قام
بغلي مرق اللحم _ الحساء _ حتى أصبح معقما ثم وضعه في إناء ذي عنق طويل
منحن إلى أسفل ثم إلى أعلى على شكل حرف ، Sوفي الوقت نفسه لم يسد اإلناء
أو يلحمه ،بل ترك المرق معرضا للهواء من الدخول في اإلناء بدون عائق والمس
المرق ..وهنا قال باستير :أذا كان حقا أن الهواء يحمل (المبدأ الحيوي) إذن
فسيدخل اإلناء ،أما ذرات التراب واألجسام الدقيقة ألمجهريه فلن تستطيع التسرب
إلى داخل اإلناء ،بل ستستقر في قاع العنق المنحني قبل الوصول إلى السائل .
والنتيجة أنه لم يتعفن المرق ولم تتكاثر البكتيريا فيه ولم تظهر فيه أى عالمة من
عالمات الحياة ،ولكن عندما حطم باستير عنق اإلناء الذي يشبه عنق البجعة
وسمح لذرات التراب واألجسام األخرى بالدخول والوصول إلى المرق حدث التعفن
وظهرت في المرق آثار الحياة .والنتيجة من كل ذلك أن باستير أوضح أن الكائنات
الحية ألمجهريه موجودة في الغبار وعلى االيدى واألسطح المختلفة وفي الهواء وأنها
هي التي تقوم بتلويث المحلول الغذائي ،وبهذا أمكنه اختراع طريقة ( تعقيم ) اللبن
سميت باسمه ( البسترة ) ،ومن ثم فأصل الحياة والكائنات الحية لم يكن في الهواء
وانما هي المخلوقات ألمجهريه الدقيقة التي ال يمكن رؤيتها بالعين المجردة والتي
ستظل خامدة ما لم يتح لها فرصة دخول المواد غير العضوية .وهكذا ،تضافرت
جهود العلماء والمكتشفات العلمية الحديثة واالعتماد على التجارب طريقا للوصول
إلى الحقيقة ،كل ذلك عمل على هدم تلك النظرية .
ومن ناحية أخرى ،نجد أن إثبات التولد الذاتي أو نفيه ال يترتب عليه مطلقا القول
بإنكار ( علة أولى ) ألننا لو فرضنا أن الحياة نشأت عن اختالط بعض العناصر
األولية مقرونة بمهيئات أخرى ،فإن ذلك ال يستوجب نفي تلك القوة المدبرة التي
استطاعت بواسطتها تلك العناصر الدوران في سلسلة من التغيرات والتطورات حتى
221
بلغت حدا عنده انبثت فيها الحياة ،تلك السلسلة الدورية التي ال يمكن إيضاحها بأية
طريقة كيمياوية أو آلية .
وهي تسمى أحيانا بنظرية الضباب Soup theoryوظهرت كرد فعل تجاه نظرية
التولد الذاتي ،وكان البيولوجي ج .ب .س هالدين J . B . S . .Haldane
وعالم الكيمياء الحيوية الروسي أ .أوبارين ، A . I. oparinأول من أق ار بأن
للحياة أصل كيمائي غير عضوي وأوضحا أن الحياة األولى قد أنبعت من المادة
غير العضوية في ظروف موغلة في القدم منذ بداية نشأة األرض .ويرى الباحثان
أن النظام الكيمائي البدائي كان مزيجا من الغازات غير العضوية البسيطة تتمثل في
الهيدروجين الجزيئي والميثان واألمونيا والماء .وهذه الجزيئات التي تصطدم ببعضها
البعض ال يمكن أن تشكل جزيئات عضوية معقدة ،ولذلك فإن األشعة فوق
البنفسجية المشتقة من الشمس قامت بتجزئة هذه الجزيئات غير العضوية إلى أجزاء
مشبعة بالطاقة ،وهذه بدورها تفاعلت لكي تشكل جريئات سابقة على الصورة
البيولوجية ،وكانت ظروف الحياة األرضية األولى مواتية إلتمام هذه العملية بصورة
تختلف عن الظروف الحالية لألرض .ففي الظروف الراهنة لألرض ،نجد أن
معظم الضوء المشتمل على األشعة فوق البنفسجية مغطى بطبقة األوزون Ozone
في طبقات الجو العليا ،وبالتالي فإن هناك إشعاع متجدد الطاقة يصل إلى سطح
األرض أالن .
وعالوة على ذلك فإن التركيب الكيمائي للغالف الجوي اآلن يؤدي إلى حدوث تأكسد
ومما يبرهن على ذلك قدرته على إحداث الصدأ في الحديد ،ومن ثم نجد أن
الخاصية المؤكسدة تعتبر غير مواتية لبقاء أو استمرار الجزيئات العضوية المعقدة .
ومن ناحية أخرى ،كان الغالف الجوي البدائي على األرض مختزال Reducing
أكثر منه مؤكسدا ، Oxidizingوبمعنى آخر فإن الغالف الجوي كأن أكثر ميال
222
إلزالة األكسجين وليس إضافته ومن ثم كانت نسبة الهيدروجين الجزيئي في الغالف
الجوي حينذاك كبيرة مع وجود كميات أقل من الماء والميثان واألمونيا .وقد ظهرت
العديد من اآلراء المؤيدة لهذه النظرية ،فقد أعلن اللورد كلفن أنه ال يمكن للمادة
غير الحية أن تدب فيها الحياة إال اذا وقعت تحت تأثير مادة كانت حية سلفا وتعتبر
شواهد التطور العضوي من أدق الروابط بين عالم الحياة والالحياة ،وترجع الخطوة
الكبرى نحو توحيد النظرة بالنسبة للحياة والالحياة إلى عام 0323عندما نجح
الكيميائي األلماني فولر Vohlorفي تركيب مادة ( البولينا ) في المعمل .وقبل ذلك
كان العلماء في حيرة من أمر تلك المركبات الكيميائية التي يجدونها في أجسام
الكائنات الحية ومستخرجاتها .وساد االعتقاد بأن المركبات ( العضوية ) ال يمكن
تركيبها في المعمل فهي تعتمد على تأثير جوهر حيوي في أجسام الكائنات الحية
مثل الحياة تماما التي تحتوي على ذلك الشيء المبهم ......ولكن اكتشاف فولر
فتح الطريق لتركيب كل سلسلة المركبات العضوية للكربون ومركباته المعقدة
األخرى .ومن التجارب المعملية األخرى التي تم القيام بها ال ثبات صحة هذه
النظرية ،ما أوضحه العالم الكيميائي األمريكي ستانلي ميللر Stanley Millerمن
أن النواتج الكبرى من األحماض األمينية يمكن إن تتكون من خالل انتشار مزيج من
الهيدروجين الجزيئي والميثان واألمونيا باستمرار لمدة أسبوع ..كما استخلص
الكيميائي السيالني بونامبيروما Ponnamperumaوزمالء آثار لبعض المكونات
الخاصة باألحماض النووية بعد انتشار أو إشعاع مزيجا من المواد سالفة الذكر ،
كما استطاع آخرون إنتاج كميات صغيرة من السكريات من خالل تجارب أخرى .
وعلى الرغم من أن كل هذه التجارب تشكل انتصارات للكيمياء الحيوية التجريبية ،
إال أنها ال تعتبر دليال على صحة نظرية الضباب التي وضعها كل من هالدين و
أوبارين .فقد أخفقت هذه النظرية في اإلجابة على العديد من التساؤالت ومنها مثال
مدى التأكد من وجود غالف جوي يسود فيه الهيدروجين ،وهل يمكن لإلشعاع
المليء بالطاقة أن يعطي نواتج كافية من كل المواد البيوكيميائية ؟ ولماذا يتم
223
استخدام القليل من الوحدات الجزيئية في البيولوجيا بينما يتم استخدام الكثير من
المواد الكيميائية لتكوين السحب الصناعية ؟ ...وعموما ،فمن المشكوك فيه أالن
_ من الناحية العلمية _ أن الظروف التي تم خلقها في المعامل أالن تشبه تلك التي
كانت موجودة على األرض البدائية أو حدثت لفترات طويلة وعلى امتداد مناطق
عديدة من سطح الكرة األرضية إلحداث تركيزات محلية كبيرة من المواد الكيماوية
الحيوية المطلوبة لبدء الحياة .
224
المحاضرة الثامنة والعشرون :مفهوم الحفريات البشرية:
لقد عقد علماء الجيولوجيا واألنثروبولوجيا الفيزيقية وعلماء آثار ما قبل التاريخ ،
العزم على أهمية دراسة الحفريات البشرية .ولكننا نتساءل ..ما هي تلك الحفريات؟
ولماذا نسمى اإلنسان القديم أو المنقرض ،باإلنسان الحفري ؟ إن الحفرية هي بقايا
عضوية سقطت في مستنقع أو غاصت في رمال متحركة أو غرقت في نهر ،أو
استقرت في كهف أو رسبت في ماء راكد أو دفنت في طبقة جليدية ،بمعنى إن
كلمة (حفريات) في الواقع ،إنما تعني بقايا النباتات المتحجرة والحيوانات المنقرضة
التي كانت توجد وتعيش في عصور ما قبل التاريخ الحالي والتي حفظت في
الصخور ،وسواء أكانت هذه الحيوانات أو النباتات باقية حتى العصر الحالي أم
انقرضت في عصور سحيقة مثل (الديناصور ) و ( الماموث ).
إال أن هناك بعض الحيوانات الحالية والقديمة التي ما زالت حية حتى اآلن على
الرغم من أنها حيوانات حفرية قديمة .وعلى سبيل المثال ال الحصر يعتبر ليمور
الهند الشرقية ، ) )Tarsiersمن الحيوانات الحفرية الحية ،حيث عثر العلماء على
الكثير من هذه الليمورات في الحفريات القديمة.
وفي كل الحفريات ،تتحول هياكل الحيوانات وعظامها إلى مادة صلبة ،حيث تتحجر
بفضل وجود المعادن في التربة ،وبعد زوال الجوانب الرخوة والمواد غير العضوية.
ومن خصائص هذه الحفريات أنها تبقى كما هي دون أن تتغير على مر العصور
والحقب الطويلة ،وال شك أن التغير الذي يط أر على هذه الحفريات والهياكل ،أنما هو
تغير كيميائي .وكل ما يط أر على تلك الحفريات من ظواهر كيميائية ،هو أنها
تتحجر عن طريق التفاعل بمعادن التربة ،ثم إن هذه الحفريات المتحجرة التي تعتريها
225
التغيرات الكيميائية تتفحم ،ومن ثم تبدأ باالنحالل ،و يط أر عليها الفناء التام في
نهاية األمر.
وال شك أن عالم االنثروبولوجيا الفيزيقية ،يعتمد إلى حد كبير على دراسة الحفريات
وخاصة دراسة الكائنات الحية التي انقرضت ،كما ينبغي أن يتوافر لديه الكثير من
الدراسات المتباينة ،والعلوم المختلفة التي تخدم البحث الحفري ،حيث تقتضي منا
دراسة الحفريات معرفة بالجيولوجيا ،Geologyلفحص طبقات األرض ودراسة
طبيعة كل طبقة وسمكها ،ومعرفة مختلف العصور الجليدية وعمر الطبقات التي
توجد في (الثالجات) أو األنهار الجليدية.
والى جانب الفهم الدقيق بعلم الجيولوجيا وطبقات األرض ،ينبغي أيضا االلتفات إلى
نتائج (علم األجنة ،)Embryologyلفحص مختلف األشكال الجنينية والكائنات
غير التامة التكوين من الناحية التشريحية ،إلى جانب دراسة األطوار التي تمر بها
الحيوانات ذات الخلية الواحدة Protozoaإلى الحيوانات العضوية الكاملة النمو.
حيث أن الحيوان كما يذهب عالم البيولوجيا األلماني (هيكل )Haeckelأنما يعيد
تاريخيه الحفري ،ويكرر ماضيه التطوري أثناء مراحل وأشكال تكوينه الجنيني حيث
تتسلسل في هذه المراحل التكوينية ،سائر األنواع الحيوانية ،فتتطور األشكال الجنينية
من الالفقريات إلى الفقريات ،ومن األسماك إلى البرمائيات والزواحف ،ومن ذوات
الدم البارد إلى ذوات الدم الحار ،ومن الثدييات إلى الرئيسيات ثم القردة العليا ثم
اإلنسان المنقرض ،ثم أخي ار تتوج هذه المراحل جميعها في نهاية األمر مرحلة
اإلنسان الحالي .وبعد أن أكتشف أن قاع النهر يحتوي على وثائق تاريخ اإلنسان،
فالطبقات أو األسطح Terraceاألحدث عهدا ،أنما تحتوي ما حوته الكهوف من
آالت وحيوانات منقرضة .أما الطبقات واألسطح األقدم عهدا ،فقد حوت عناصر
الثقافات االشبيلية ،Acheulianوما سبقتها من الثقافة الشيلية ،Chelleanثم ما
قبلها وهي الثقافة قبل الشيلية ،Pre-Chelleanويرجع بنا هذا العهد إلى عصر
226
البليوسين ،وهو عصر إنسان جاوة ،ولعل هذا العصر يعتبر من أهم العصور على
اإلطالق حيث أن الحيوانات القائمة فيه قد اكتسبت خصائصها الحالية في مستهله.
وعلى هذا األساس ،جمع اإلنسان العاقل ،بين المخ الكبير الحجم ،والفكين
الصغيرين ،والرأس المعتدل ،والجسم المهيأ تماما للمشي ،كما يدل على ذلك شكل
عظام الحوض ،وبعض أجزاء هيكله العظمى التي عثر عليها في الحفريات القديمة،
حيث أثبت الفحص لهذه الحفريات ،أن اإلنسان العاقل ،كان يمشي معتدل القامة،
وكانت جمجمته ترتكز في وضع عمودي فوق العمود الفقري ،ولكن وجهه كان يميل
إلى األمام ويمتد إلى أسفل بشكل واضح ،وكان أصغر إلى حد ما في حجم الجسم
عنه في جسم اإلنسان الحديث .كما أننا نجد في اإلنسان الحالي ،قد طرأت بعض
التغيرات الفيزيقية على أصبع القدم الكبرى التي تقابل اإلبهام في الرئيسيات العليا،
حيث كانت اإلبهام قادرة على أن تنطبق على األصابع األخرى ،بحيث يمكن
االستعانة بها لمزاولة الحياة الشجرية ،ولكن مع مرور الزمن ،امتدت اإلبهام نحو
األمام حتى تتكيف األقدام مع اعتدال القامة لمزاولة المشي المنتظم وهو من
ضرورات الحياة على األرض.
يمكننا أن نتساءل ـ من هو اإلنسان الحفري ؟ وكيف ظهر؟ ومتى بدأ أول إنسان
يدب على األرض؟! .في الواقع لم يظهر اإلنسان العاقل Homo Sapiensعلى
سبيل الطفرة ،وانما صدرت خصائص اإلنسان الفيزيقي منذ حقب بعيدة تمتد إلى
أصول سحيقة عبر الزمن ،وتتشعب جذورها في ماضي ما قبل التاريخ ،وأعني به
الماضي الجيولوجي ،ولقد تتابعت األزمنة ،وتتابعت معها المراحل التطورية
البيولوجية لإلنسان .ولعل كل مرحلة بيولوجية من تلك المراحل ،هي نتيجة تطورية
لما قبلها .كما أنها في نفس الوقت ،مقدمة ضرورية لها يصدر بعدها من مراحل
227
تطورية جديدة ،حتى ظهر اإلنسان باعتباره أحدث الكائنات والنباتات العضوية ظهو ار
في سلسلة البيولوجي ،كما أنه أعقدها تركيبا ،وأرقاها تكوينا.
وتنقسم المراحل التي ظهر فيها اإلنسان األول ،إلى مراحل تطورية فيزيقية ثالث ،مر
بها اإلنسان ككائن طبيعي عضوي :المرحلة األولى -هي مرحلة ما قبل اإلنسان
،Prehumanوهي تلك المرحلة الخاصة بإنسان ما قبل المليون سنة األخيرة ،وهي
مرحلة بعيدة الغور في الماضي التاريخي ،ألنها مرحلة إنسان ما قبل اإلنسان.
وبذلك تدرس االنثروبولوجيا الفيزيقية خصائص ذلك اإلنسان أو اآلدمي الذي خضع
لظروف التطور ،فأنفصل عن األصل المشترك الذي كان يسمى بأشباه اإلنسان .ثم
انتقل اإلنسان بعد ذلك إلى مرحلة أكثر قربا من اإلنسانية ،وتسمى ،Near human
وفي نهاية سلسلة التطور العضوي ،انتقل اإلنسان أخر األمر إلى مرحلة اإلنسان
العاقل ،ويحدد العلماء عمر اإلنسان العاقل بنحو نصف مليون سنة ،نظ ار ألن أقدم
األسلحة واألدوات التي عثر عليها في الحفريات القديمة ،أنما يقدر عمرها بنحو
نصف مليون سنة ،ولكن من الغريب لم يعثر العلماء بجوار هذه األدوات واآلالت
على بقايا عظام هذا اإلنسان الصانع لتلك األدوات واآلالت .أي أنهم عثروا على
آالت فقط ،دون أن يتمكن العلماء من العثور على بقايا عظام في نفس الطبقات
الحفرية .واألمر يختلف تماما ،فيما يتعلق بالكشف عن إنسان جاوة ،حيث وجد
علماء الحفريات بعض العظام البشرية ،دون أن يعثروا على آالت أو أدوات هذا
اإلنسان بجوار عظامه .أما في حالة إنسان الصين ،فقد عثروا على آالت ،كما
عثروا أيضا بجوار تلك اآلالت على بقايا عظام إنسان الصين المنقرض.
هذه إشارة عامة وسريعة تشير إلى مختلف المراحل الفيزيقية التي مر بها اإلنسان
وتبدأ المرحلة األولى ،وأعني بها مرحلة ما قبل اإلنسان ،Prehumanوهذة المرحلة
تبدا في عصر الميوسين Mioceneوالبليوسين ،Plioceneوتتحدد هذه العصور
228
زمنيا في الفترة ما بين 05 - 01مليون سنة األخيرة ،حيث عاش األصل المشرك
الواحد الذي كان يجمع ما بين القرديات Pongidaeواآلدميات .Hominidae
أما اإلنسان الحامل للخصائص البشرية والمالمح اإلنسانية ،عندما يستخدم عقله في
توجيه الحواس والقبض على األشياء ،فيرجع ظهوره (أي اإلنسان األول) إلى عصر
البليستوسين ،Pleistoceneوهو أحدث األزمنة الجيولوجية ألنه الزمن الجليدي
الرابع .ويرجع البليستوسين إلى مليون سنة وهذا أبعد التقديرات ،أما أقرب التقديرات
فهو نصف مليون سنة .وبذلك نستطيع أن نقول ،إن اإلنسان العاقل قد ظهر في
الفترة ما بين مليون سنة ،ونصف مليون سنة .كما أن أقدم إنسان حفري معروف،
هو إنسان جاوة ،ثم يليه إنسان بكين ( الصين) ،ثم إنسان بلتداون ،كما يوجد إلى
جانب هذه األشكال الحفرية األولى لإلنسان المنقرض ،إنسان هيدلبرج ،وانسان
روديسيا ،وانسان صولو ،Soloوانسان نياندرتال ،حتى ظهر أخي ار اإلنسان الحديث
.Recent Manولقد حدد علماء الجيولوجيا عمر األرض بحوالي 8111مليون
سنة وهذا تحديد تقربي وليس بالحقيقي ،ولكننا نستطيع أن تؤكد أن تاريخ األرض،
أنما هو تاريخ مهول ،كما أن ماضيها هو ماض سحيق ،حدثت فيه األهوال طوال
حقب طويلة ،وخالل دهور هائلة.
229
المحاضرة التاسعة والعشرون :العصور الجيولوجية التي عاشها اإلنسان:
يقدر عمر األرض بالعصور الجيولوجية ،والعصر الجيولوجي ألي طبقة من
طبقات األرض يقدر نسبيا بالنسبة للطبقات األخرى وبأساليب التاريخ الجيولوجي
التي تعتمد في المقام األول على الحفريات ،فعن طريقها يمكن معرفة العصر الذي
تنتمي أليه الطبقة أو التكوينات التي عثر فيها عليها ،وما ذلك إال بسبب تخصص
كل عصر جيولوجي بنمط أو عدة أنماط معينة من أشكال الحياة النباتية والحيوانية.
هذا وقد قسم التاريخ الجيولوجي إلى عدة أحقاب أو أزمنة ،وقسمت كل حقبة
( )Eraإلى عدة عصور ( )Periodsكما يلي:
الزمن األركي (( )Archean eraحقب قبل الكمبري – Cambrian Per .0
)eraمعروف طوله ،ويبدأ منذ انفصال األرض عن الشمس ،وخالله كانت القشرة
األرضية ساخنة بعد أن أخذت في التحول إلى حالة الصالبة ،وليس بطبقات هذا
الزمن الصخرية ما يدل على وجود حياة من أي نوع ،وفي نهاية هذا الزمن ظهرت
بداية المحيطات والبحار ،ويمكن أن يقسم هذا الزمن إلى أربع عصور هي:
ما قبل الكمبري الرابع ويقدر طوله بما يزيد عن 8111مليون سنة.
هذا وتبلغ الفترة الزمنية التي استغرقها الزمن االبتدائي أو األركي نحو %55من
مجموع الزمن الجيولوجي لألرض منذ نشأتها حتى اآلن.
231
زمن الحياة القديمة ( )Paleozoic Eraويشتمل نحو %81من مجموع .2
الزمن الجيولوجي .وينقسم هذا الزمن إلى ستة عصور هي:
231
العصر الكربوني ( :)Carboniferous Periodوقد سمي بالكربوني نظ ار هـ -
لتكون رواسب الفحم الحجري المشهورة خالله ،وتبلغ مدة طوله 61مليون عاما
امتدت من 221-231مليون سنة مضت ،وينقسم هذا العصر إلى قسمين:
ويتميز هذا العصر بنمو النباتات الهائلة التي كونت فيما بعد طبقات الفحم
الحجري وهي من نوه السرخسيات والنباتات األولية والطحالب ،كما ظهرت الحشرات
والزواحف األولى.
نسبة إلى التقسيم الثالثي للصخور الذي كان متبعا في ألمانيا ،وقد بلغ طول
هذا العصر 81مليون عاما حيث امتد بين 071-211مليون عام مضى ،ويتميز
هذا العصر بأنه أهدأ العصور الجيولوجية منذ العصر السليوري من ناحية استقرار
سطح األرض ،فقد اختفت ثورات البراكين وحركات الزالزل تقريبا وتعرضت الجبال
لعوامل التعرية والنحت والتآكل ،ولما كانت صخور هذا العصر تتميز باللون األحمر
فقد سمي بعصر الحجر الرملي األحمر الجديد ( )New Red Sandstoneكما
232
بدأت معظم الصحاري الحالية في التكوين نتيجة للجفاف الذي اخذ يسود نتيجة
الختفاء معظم الثالجات ))Glaciersأو األنهار الجليدية ،وفي هذا العصر
انتشرت الزواحف كما بدأت تظهر فيه الثدييات .
العصر الجو ارسي ( :)Jurassic Periodنسبة إلى جبال جو ار (بين فرنسا ب-
وسويس ار) وقد استمر نحو 25مليون سنة خالل الفترة من 045- 071مليون سنة
مضت ،وفي هذا العصر سيطرت الديناصورات ( )Diana soursعلى الحياة
بجميع أشكالها وصورها .والديناصور يتبع فصيلة الزواحف (،)Class Reptilia
هذا ويخص الديناصورات الضخمة الحجم ورتبتان فقط من الستة عشر رتبة التي
تحتويها الفصيلة ،هما :رتبة السوريسكيا ( )Order Souriskiaورتبة االورينتشكيا
( )Order Ornithischiaواألولى من أكلة اللحوم ومن أهم أنواعها :البونتوزوراس
( ،)Brontosourusوالديبلودوكس ( ،)Diplodocusأما الثانية فمن أكلي األعشاب
مثل السيشوزورس ( .)Cetiosaurusهذا وفي أوائل هذا العصر ظهرت الزواحف
الطائرة التي من أهمها ( )Archaeornis ،Archaeopteryxوتعتبر األسالف
األولى للطيور.
233
الزمن الثالث( :زمن الحياة الحديثة ( Cainozoic Eraوقد شمل نحو %4 .4
من مجموع الزمن الجيولوجي لألرض ،وقد تضمن أربعة عصور هي:
وقد تداخلت هذه العصور الثالثة السابقة في قسم واحد؛ سمي الزمن الثالثي
( :)Tertiary Eraوقد استغرق نحو 57مليون عاما خالل الفترة من 03- 75
مليون سنة مضت .ومن أهم المظاهر الحيوية خالله ،انقراض الزواحف الماردة من
الديناصورات والتنين الطائر ،وانتشرت الثدييات وتطورت حيث ظهرت الماشية
واألفيال والكالب والخيول والخفافيش والقردة والليمور الخ ،وتطورت الحيوانات
البحرية مثل األسماك والحيتان والقواقع والمحارات إلى صورتها الحالية ،كما ازدهرت
الغابات واألشجار والمراعي.
234
عصر الباليستوسين :Pleistocene Periodويتميز هذا العصر بحدوث -5
تغييرات كبيرة في المناخ حيث سادت ظروف العصور الجليدية في شمال أوربا
وجبال األلب وفي شمال أمريكا حتى منطقة البحيرات العظمى وقد صاحب ذلك
فترات مطيرة في شمال أفريقيا وشرقها ( ).
وتنقسم فترة العصور الجليدية إلى األقسام أو العصور التالية (على أساس
أقسامها في أوربا):
عصر كرومري( :ما قبل الجليد ) .مدته 411ألف عام تقريبا ،ظهر فيه -0
أحد أسالف اإلنسان وهو قرد الجنوب Australopithecusوتنسب أليه الثقافة
البدائية التي تسمى ما قبل االبيفيلية.
عصر جينز :)Gunz( 0/فترة المثلجة األولى المبكرة ،والذي بدأ منذ -2
حوالي 611ألف سنة ويعتقد البعض أنه أستمر نحو 011ألف سنة.
عصر جينز :2/يشمل الفترة ما بين المثالج األولى التي حدث خاللها أول -8
تراجع للجليد ،وتمتاز هذه الفترة بظهور جنسان منقرضان من اإلنسان األول هما:
اإلنسان القرد منتصب القامة ( ،)Pithanthropus Erectusواإلنسان الصيني
القديم ( )Sinanthropus Peckinensisوتتميز هذه الفترة بظهور الثقافة االبيفيلية
( )Abbevillian cultureالتي كان لها امتداد في إفريقيا خاصة الشمالية.
عصر مندل :)Mendel( 0/عصر المثلجة القديمة وهو ثاني مثلجة في -4
األزمنة الجليدية ،بدأ عام 511ألف ،وانتهى عام 411ألف قبل الميالد ،ويتميز
بظهور أحد األجناس البشرية الهامة في تاريخ اإلنسان وهو إنسان هايدلبرغ ( Homo
،)Heidelbergensisوتمتاز هذه الفترة بظهور الثقافة الكالكتونية (أدوات
مصنوعة من حجر الصوان طويلة مدببة حادة).
235
عصر مندل:2/فترة ما بين المثالج الكبرى والتي حدث فيها ثاني تراجع -5
للجليد ،وهي تمتد بين 411ألف إلى 811ألف سنة قبل الميالد ،وتتميز بظهور
أحد األجناس البشرية المنقرضة وهو إنسان سوانسكومب ()Swans combs
وظهرت خالل هذه الفترة الثقافية األشولية (فئوس يدوية مدببة جيدا وحادة الجوانب،
وقطع من الصوان ذات جانب واحد مسنن كالسكين).
:)Riss /0وهو عصر المثلجة قبل األخيرة والتي عصر رس( 0/ -6
بدأت منذ 251ألف سنة تقريبا ،وانتهت بعد عام 211ألف سنة قبل الميالد وتتميز
بتقدم الثقافة األشولية وظهور الثقافة الليفللوازية .Levalloisian
عصر رس:))Riss/ 2 2/وهو فترة ما بين المثالج األخيرة وفية حدث ثالث -7
وآخر تراجع للجليد ،وانتهت هذه الفترة عام 051ألف قبل الميالد ،وظهر خاللها
إنسان فونتشيفاد Fontechevateوظهرت أيضا الثقافة الموستيرية Mousterian
في مناطق عديدة خاصة في أوربا وافريقيا.
عصر فرم ( ( :)Wurmالمثلجة األخيرة) بدأ قبيل عام 011ألف وانتهى -3
عام 05ألف ق.م حيث ظهر خالله أحد األجناس البشرية الهامة في تاريخ اإلنسان
هو إنسان نياندرتال ( )Homo Neanderthalالذي يعتبر أألقرب للعائلة اإلنسانية
وأكثرها شبها باإلنسان الحديث ،وقد ازدهرت في هذا العصر الثقافات التالية:
األوريجناسية ( )Arignacianوالمجدلينية ( )Magdalalenianوالسوليترية
( )Solitarianهذا وقد ظهر اإلنسان الحديث ( )Homo Sapiensفي منتصف
هذا العصر ولذلك يقال أنه قد عاصر إنسان نياندرتال وربما اختلط بيولوجيا به.
وقد تمثلت أيضا عصور الجليد في إفريقيا في تزايد حجم القمم الثلجية التي تغطي
جبالها الشاهقة ،فقد ثبت من بحوث جريجوري عام ،0318أن الجليد الذي كان
يغطي جبل كينيا (يقع جنوب خط االستواء على درجة 8،15وارتفاعه 5053مت ار)
قد انحدر على سفوحه بنحو -111ألف متر عن مستواه الحالي ،ومعنى ذلك تزايد
236
حجم القلنسوة الجليدية التي تغطي قمته ،وبالمثل حدث في ثالجات جبال رونزوري
(تقع شمال خط االستواء مباشرة بنحو 24ثانية ومتوسط ارتفاعها 5021مت ار) فقد
انحدرت مثلجاتها 0131مت ار عن مستواها الحالي ،أما جبل إلجون (ويقع على
0،11شماال وارتفاعه 4800مت ار) فقد وصل جليده إلى ارتفاع 8811مت ار ،وكذلك
تغطت بالجليد قمم جبال إبر دير ( 8104مت ار) وساتيماني ( )8111في كينيا،
وسيمن ( 46210مت ار) في هضبة إثيوبيا ،وقمة كاكا فوق الهضبة الصومالية،
وحدث هنا أيضا مع باقي جبال القارة خاصة أعالها كلمنجارو (6101م).
هذا ويصاحب العصر الجليدي تناقص معدل غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو إذ
أتضح أن نسبة هذا الغاز كانت 211جزء في المليون خالل العصر الجليدي الثالث
والرابع (رس وفرم) على وجه الخصوص بينما كانت هذه النسبة خالل الفترة الدافئة
والحارة التي كانت فيما بين هذين العصرين ثالثمائة جزء في المليون.
هذه الذبذبة في معدالت ثان أكسيد الكربون في الجو تسببها عوامل طبيعية
جيولوجية ونباتية ،هذا والجدير بالذكر أن اإلنسان الحالي يقوم بأعماله في تزايد هذه
النسبة إلى معدالت عالية للغاية تكاد تصل إلى ستمائة جزء في المليون في بعض
المناطق مما يؤدي إلى تزايد في درجة الح اررة وظهور الجفاف والتصحر.
والجدير بالذكر أن بداية ظهور العصور الجليدية تعد الحد الفاصل بين عصر
البليوسين وعصر الباليستوسين وأن كان مؤتمر الجمعية الدولية للزمن الرابع (المنعقد
عام )0115قد أرجع بداية عصر الباليستوسين إلى 0،35مليون سنة وهي فترة
توافق أحداث ماتوياما المغناطيسية التي تعرضت لها األرض باالنقالب ما بين
2،48-1،61مليون سنة وقد تمكن العلماء من هذه التقديرات بإتباع وسائل علمية
دقيقة .هذا وقد شغل عصر ما قبل التاريخ الفترة الزمنية األخيرة من الزمن الرابع،
السابق مباشرة على العصر الحالي ،وهذا العصر هو عصر الباليستوسين
( )pleistocecsوهو الذي بدء منذ أكثر من مليون سنة ق.م .هذا ويقال أيضا في
237
سبب ظهور العصور الجليدية ،أن كثرة ثورات البراكين الضخمة القديمة في عصر
البليوسين كانت تثير في الجو كميات من التراب تبقى لسنوات عديدة ربما كانت من
العوامل المهمة في تغيير مناخ األرض؛ وذلك بحجب كميات كبيرة من أشعة الشمس
وتشتيتها في الفضاء الخارجي مما سبب ظهور العصور الجليدية في العروض العليا
والعصور المطيرة في العروض الدنيا ،وغيرها من االضطرابات المناخية الكبيرة.
238
مخلفات الجليد المورفولوجية واآلثار الحضارية لإلنسان البائد يتفاعالن معا،
ويستخدمها معا المورفولوجي واالركيولوجي لتثبت تأريخ هذا العصر بشكل دقيق ـ
باإلضافة إلى الوسائل الحديثة في التأريخ كاستخدام دراسة بقايا غازات وتكوينات
الكربون واألرجون ـ بوتاسيوم في المخلفات لمعرفة التاريخ المقرب جدا لعمر
المخلفات والحفريات فيما يعرف باالسم المنهجي راديو كربون ،04أرجون ـ
بوتاسيوم) ـ . argon ،Potassium ،Radio carbon 04 or C 04
اتفقت آراء المختصين على أن عصر البليوستوسين قد عمر حوالي مليون سنة.
وكذلك تتفق اآلراء على أن النصف األول من هذا العصر ـ الذي يسمى فترة
فيالفرانش ( Villafranchثلث مليون سنة) كانت تتميز بأمطار غزيرة على سطح
األرض يحل محله في فترات متقطعة انتشار للجليد ،وحينما بدأت فترة فيال فرانش
في االنتهاء أخذت الكرة األرضية في البرودة التدريجية وقد ساعد ذلك على زحف
الجليد القطبي على القارات المجاورة في صورة غطاءات سميكة من الجليد .وترتب
على ذلك أن األقسام الشمالية من أوربا وآسيا وأمريكا الشمالية قد غطاها الجليد
بصورة مشابهة للغطاء الجليدي السميك في جرينلند الحالية.
وقد أثر الجليد الزاحف على الحياة النباتية والحيوانية ،وكذلك على األنهار والبحيرات
وسواحل البحار .وقد اضطرت أنواع من النبات والحيوان إلى الهجرة بعيدا عن هذه
الظروف المناخية القاسية وأن كان بعضها قد انقرض لعدم قدرته على التكيف .أما
األنهار والبحيرات فقد قلت كمية المياه فيهما نظ ار لتجمد كميات هائلة من الرطوبة
الجوية وانحباسها في الغطاءات الجليدية الواسعة .كذلك هبط مستوى ماء البحار
والمحيطات لنفس األسباب .فنظام الدورة (تبخير ـ أمطار ـ تصريف نهري إلى البحار
ـ ثم تبخير) قد اختل .وأدى هذا إلى ظهور كثير من األراضي التي يغطيها البحر
حاليا في صورة أرض يابسة ـ خاصة تلك التي نسميها المعابر األرضية (مثل
المعابر بين شمال إفريقيا وجنوب أوربا وتحول البحر المتوسط إلى عدة بحيرات
239
صغيرة) .كذلك تقهقرت أمطار اإلقليم المعتدل الحالي إلى مناطق أكثر امتدادا إلى
الجنوب ،وتحولت أجزاء كثيرة من العالم الجاف الحالي إلى مناطق أمطار مشابهة
ألمطار العروض المعتدلة الحالية .وببطء شديد بدأت هذه الصورة تتغير بتقهقر
الجليد إلى المناطق القطبية وعودة الدفء واألمطار إلى العروض المعتدلة ،وذوبان
كميات الجليد الهائلة يؤدي إلى رفع الثقل عن سطح األرض فتعود إلى االرتفاع
التدريجي ،وتمتلئ البحار بمياه أكثر فيرتفع مستواها وتغمر المعابر األرضية بمياه
البحر مرة أخرى وتعود الصحاري إلى جفافها ،وتهاجر الحيوانات والنباتات إلى
الشمال .وقد تكررت هذه الصورة أربع مرات خالل البليوستوسين ،باإلضافة إلى
ذبذبات صغيرة نسبيا وعديدة .وتكرار العصر الجليدي ،قد أدى إلى إعطاء فترات
الجليد والجفاف بين الجليدين أسماء خاصة في أوربا تختلف عما هي في أمريكا
الشمالية .وفيما بين الفترات الجليدية كانت هناك فترات دفء متراوحة في الطول
وتسمى باسم فترتي الجليد السابقة والالحقة مثال فترة دفء جنز ـ مندل...الخ..
وفي المناطق التي لم يغطيها الجليد تميزت بفترات أمطار غزيرة وأمطار قليلة أو
جفاف في مقابل فترات الجليد والدفء.
241
المحاضرة الثالثون :األشكال البشرية القديمة:
لقد تعلمنا من دروس االنثروبولوجيا الطبيعية أن إنسان جاوة Java Manهو أقدم
إنسان حفري ،ثم يليه في التصنيف التاريخي ،إنسان بكين ،Peking Manثم
إنسان صولو ،Solo Manفإنسان بلتداون Piltdown Manثم هيدلبرج ،ثم
إنسان روديسيا ،Rhodesian Manويأتي في نهاية هذا التصنيف الزمني لألشكال
البشرية القديمة إنسان نياندرتال . Neanderthal Manوفيما يلي توضيح لهذه
األشكال:
فلقد عثر (دبوا) على بقايا إنسان جاوة في قرية تسمى (ترينيل) Trinilعلى نهر
صولو Soloفي جزيرة جاوة عام .0310حيث اكتشف هذا اإلنسان في طبقة
رسبها نهر في شرق جاوة .وعثر (دبوا) على قبوة رأس ،وعظم فخذ واحد ،وثالثة
أسنان ،ولوحظ أن أحد هذه األسنان أنما تشبه سن القرد ،وأن قبوه الرأس
،Craniumهي أكبر من أن تكون جمجمة قرد ،كما أنها في نفس الوقت ،أصغر
من أن تكون جمجمة إنسان ،فهي إذن قبوة رأس حيوان يقع بين اإلنسان والقرد ،أو
هي جمجمة (الحلقة المفقودة) .ولذلك سمي إنسان جاوة (باإلنسان القرد) ape Man
.حيث ظهر أن قبوة الرأس ،إنما تشبه قبوه الجيبون ،Gibbonكما وجد أن القبوة
مفلطحة ال جبهة لها .ومن فحص عظام الفخذ ،Femurوجد أن إنسان جاوة ،إنما
هو إنسان مشى واستقام معتدال .وظهر أن األسنان تشبه أسنان اإلنسان شكال ،على
241
الرغم من ضخامة حجمها .فقد عثر بين االستراليين على أضراس شبيهة بأضراس
إنسان جاوة .واذا ما قمنا بحصر بقايا إنسان جاوة .وجدناها تتألف من عدد من
عظام الساق ،وبعض األجزاء الرئيسية من خمس جماجم (إحداها لطفل صغير)
وعدد من األسنان .
ونظ ار ألهمية بقايا إنسان جاوة ،فقد أطلق عليها عالم البيولوجيا األلماني هيكل (
)Haeckelأسم بقايا اإلنسان القرد المعتدل القامة ( Pithecanthropus
.)erectusواذا كان إنسان جاوة بدائي الجمجمة ،إال أنه معتدل القامة كما تؤكد
عظام الفخذ ،كما أن الثقب ألمؤخري في أسفل الجمجمة ،أنما يوجد في وضع أقرب
إلى اإلنسان منه إلى القرد ،كما يقع حجم جمجمة إنسان جاوة في مركز متوسط بين
اإلنسان والقرد حيث يتراوح حجم الدماغ ما بين 141 -111سم 8وذلك بعد تقدير
حجم الدماغ بعمل قالب Castلقبوة رأس إنسان جاوة .فظهر أن حجم جمجمة جاوة،
أكبر بكثير من حجم جمجمة الغوريال الذي يقدر بنحو 611سم ،8مما يدل على أن
إنسان جاوة هو أقدم إنسان حفري عرف حتى اآلن .ولعلنا نستطيع تفسير الزيادة في
حجم دماغ جاوة ،من خالل زيادة مساحة المخ ،مما يدل على تطور القدرات العقلية
الخاصة بالفهم والتصور والتخيل والتذكر .كما حوى دماغ إنسان جاوة أيضا على
مساحة للكالم والنطق .ولقد قام عالم التشريح فردريك تيلني Tilneyبدراسة
تضاريس جمجمة جاوة لمعرفة تطور المخ وتغير اليافة .فوجد أن انتصاب القامة
واكتساب الكالم والقدرة على التسلم وازدياد الخبرة والتجربة ،تعتبر جميعها من
األسباب الحقيقية لهذا التعقد الواضح في التضاريس الداخلية لمخ إنسان جاوة.
فأتساع الخبرة والقدرة على استخدام األيدي وابتكار األدوات ،قد أدت إلى ظهور
الفصوص األمامية للمخ.
واذا كانت عظام فخذ إنسان جاوة ،قريبة الشبه من عظام فخذ اإلنسان الحالي ،من
حيث الحجم واالستقامة ومعدل أنحناء العظمة .إال أن جمجمة جاوة قد تكشف من
242
مالمح أكثر وحشية وأشد تأخ ار .ولكن المظهر العام للجمجمة بالرغم من ذلك ،هو
أقرب إلى شكل الجمجمة البشرية منه إلى جمجمة (اإلنسان القرد
.)ustralopithecineويحتمل أن ترجع طبقات إنسان جاوة إلى الفترة الدافئة االولى
بين العصر الجليدي األول والعصر الجليدي الثاني .وقد وجدت في نفس الطبقة
التي وجدت فيها بقايا إنسان جاوة أيضا بعض اآلالت واألدوات ،وهناك احتمال لم
يصل إلى درجة اليقين ،وهو أن يكون إنسان جاوة هو صانع هذه اآلالت واألدوات،
وتعود تلك الحفريات إلى أواخر عصر البليوسين.
ويعتبر إنسان كهوف بكين ،أقدم إنسان حفري بعد إنسان جاوة مباشرة ،حيث كان
يعيش في أواخر الفترة الدافئة الثانية من العصر الجليدي .فلقد عثر العالم الحفري
(دافيد سن بالك ( )Davidson Blackعلى ضرس طاحنة واحدة .حين قام
بدراسات حفرية في قرية (شوكتين ،)Choukoutineوتقع هذه القرية على بعد 42
ميال من بكين وبعد فحص هذا الضرس ،تبين أنه ضرس بشري إلنسان حفري قديم
.كما ظهر أن تلك (الضرس الطاحنة) إلنسان بكين ،أنما هي قريبة الشبه إلى حد
كبير لما بينها وبين ضرس اإلنسان الحديث ،إال أن هذه الضرس الصينية الحفرية
أكبر حجما من ضرس اإلنسان الحالي ،ومن ثم ساد االعتقاد األكيد بأنها ضرس
طاحنة إلنسان حفري منقرض .وفي عام 0121عثر أيضا (دافيد سن بالك) في
نفس المكان على جمجمة شبه كاملة وعلى بعض العظام من الفك ،وبعض األسنان
وبعد فحصها ودراستها تأكد ((بالك)) من صحة معتقدة .كما صنف إنسان بكين
زمنيا وتاريخيا ،ووضعه بين إنسان جاوة وانسان بلتداون .ولعل هذه الدراسة الحفرية
أنما تدل على براعة (دافيد سن بالك) إذ أنه اكتشف إنسانا كامال من فحص ضرس
طاحنة واحدة .ولقد وجد من فحص أجزاء عظام فخذ إنسان بكين ،أنها من الطراز
الحديث ،من حيث الشكل ،كما هو الحال عند إنسان جاوة .كما أن جمجمة إنسان
243
الصين ،أنما تشبه تماما في شكلها ومالمحها الفيزيقية جمجمة إنسان جاوة ،إال أنها
مجرد صورة معدلة منها ،حيث نستخلص من ذلك أن جمجمة بكين هي أكثر تقدما
ورقيا من جمجمة جاوة .وتبدأ جمجمة إنسان بكين في االستدارة ويأخذ الفك في
الصغر ،ثم تصبح الجمجمة أكثر استدارة ،وبمقارنة جمجمة بكين بجماجم الغوريال،
نجد أن األخيرة ليس لها جبهة بالمعنى المعروف وعظام الوجه بارزة إلى األمام
والفك سميك مربع الشكل تقريبا ،تترتب فيه األسنان بطريقة متوازية ،ويالحظ أن
أسنان اإلنسان الحديث تترتب على شكل قوس ،ونجد أن هذا القوس أقل استدارة في
إنسان بكين الذي يمثل في الواقع حلقة متوسطة بين اإلنسان والغوريال .وتميل جبهة
إنسان الصين ميال مستقيما من انحرف الجبهة حتى نهاية الجمجمة ،ويبرز انحراف
الجبهة كالرف وترتفع وراءه الجبهة ارتفاعا منتظما .واتضح أن عظام الوجنتين
المرتفعتين ،تلك العظام التي تميز الجنس المغولي الحالي ،تبين أنها كانت موجودة
كمعالم وجهيه إلنسان بكين ،فقد كان وجهه مفرطحا مثل وجوه المغول .ولقد ضاعت
كل معالم وآثار جماجم إنسان بكين ،حين اشتعلت الحرب العالمية وحين سقطت
قنابل سالح الطيران الياباني فوق (بيرل هاربور) واستولى اليابانيون على القطار
الذي كان ينقل عظام إنسان بكين إلى الشاطئ بقصد شحنها إلى أمريكا .ويبلغ حجم
مخ إنسان الصين من الذكور ما يقرب من 0051سم ،8أي أنه كان قريبا إلى حد
كبير ،من حجم المخ الصغير جدا عند اإلنسان الحديث ،إال أنه على الرغم من
ذلك ،أكبر حجما من مخ إنسان جاوة ،األمر الذي اكدة (دافيد سن بالك) بأن إنسان
بكين أكثر تطو ار من إنسان جاوة .ويقل حجم مخ إنسان بكين عن حجم مخ اإلنسان
الحالي بما يقرب من 811سم ،8حيث يبلغ حجم مخ اإلنسان الحديث حوالي
0511سم . 8وعند إنسان بكين تنتظم األسنان الصغيرة ،في شكل (قوس) يشبه ما
نجده عند اإلنسان الحالي ،بحيث يمكننا أن نقول بصفة عامة :أن التشابه العائلي
واضح بين إنسان جاوة وانسان بكين .وتدل البقايا األثرية إلنسان بكين على أنة
بشر ،ومعتدل القامة إال أنه ظهر من فحص عظام إنسان الصين ،أنه كان قصير
244
القامة غليظ العظام ،فلم تتعد قامته خمسة أقدام .ومن دراسة الحفريات ظهر أن
إنسان الصين كان يعيش في أواخر البليوسين وأوائل البليستوسين .كما تدل الدراسات
الحفرية لطبقات إنسان بكين ،أنه كان يستخدم النار؛ إذ وجدت أثار الحريق في كثير
من رماد الكهف الذي اكتشف فية ،كما وجدت أيضا آثار المواقد التي كان يطهى
فيها طعامه .وبذلك ظهر أن أقدم أسالفنا الحفريين مثل إنسان جاوة وانسان بكين،
وما عثر عليه حديثا في إفريقيا ،كانوا يمتازون بأجسام إنسانية ورؤوس حيوانية
مماثلة لرؤوس القردة إال أن األسنان شبيهة باإلنسان ،فال تظهر فيها أنياب القردة
مما يؤكد أن هؤالء األسالف كانوا يتمتعون بأكل اللحوم والخضر.
وكان ما عثر عليه (آرثر سميث) و(داوسن) كافيا لتكوين رأي صحيح عن حجم
الجمجمة وشكلها .وأكد البحث على أنها أجزاء لهيكل بشري واحد ،أطلق عليه أسم
245
(إنسان بلتداون .)Piltdown Manوفي هذه الدراسة الحفرية ،قام (سميث)
و(داوسن) بصنع قالب Castلداخل الجمجمة ،لمعرفة خصائص الدماغ .فظهر من
فحص العظام ودراسة قبوة الجمجمة ،أن حجم دماغ بلتداون يفوق حجم المتوسط
بالنسبة للشعوب األولية الحالية .فقد قدر حجم مخ إنسان بلتداون يما يقرب من
0853سم ،8وهذا الحجم يقارب إلى حد ما حجم مخ اإلنسان الحديث .ومن دراسة
جمجمة بلتداون ،وجد أنها ذات جبهة منتصبة سميكة الجدران .كما ظهر أن الثقب
ألمؤخري في وضع معتدل ورأسي ،األمر الذي يدل على استقامة واعتدال القامة.
وكان مما عثر عليه أيضا في بلتداون (نصف فك أسفل) ،وهو أولى إذا ما قيس
بأي إنسان حالي ،كما يتميز الفك بأنه مزيج من الخصائص البشرية وخصائص
القردة .وعلى الرغم من أن حجم جمجمة إنسان بلتداون قد وصل إلى مستوى
اإلنسان الحالي ،إال أن الوجه قد استبقى على بعض الخصائص (الشبيهة باإلنسان
)Manlikeوالخصائص الشبيهة بالقردة .وتدل البقايا الحفرية إلنسان بلتداون ،أن
بعضها يرجع إلى العصر البليوسيني ،األمر الذي يؤكد أن عمر إنسان بلتداون ،إنما
يرجع إلى عصر شديد القدم ،حيث عاصر إنسان بلتداون فترة الدفء الثانية ،تلك
التي ترجع إلى منتصف العصر البليستوسيني) .وبذلك نقول :أنه كان يعيش في
إنجلت ار إنسان معاصر إلنسان جاوة وانسان بكين ،إال وهو إنسان بلتداون .فلقد أثبتت
الدراسات الحفرية أن أنهار التايمز والراين قد رسبت مظاهر الحياة التي كانت
موجودة منذ العهود السحيقة ،كما أن مصبات هذه األنهار ،أنما تعتبر إلى حد بعيد
متحفا جيولوجيا صالحا للدراسة والبحث .ولكن هناك مسألة تثير الشك .وهي مسألة
خطيرة ينبغي اإلشارة إليها ،وهي أنه بينما نجد أن جمجمتي جاوة وبكين تتميزان
بالبدائية واألولية ،إال أن جمجمة بلتداون وحدها تتميز بأنها جمجمة إنسان ال جدل
في بشريته ،ولكن ما يثير الشكوك ،ويدعو إلى الخطورة ،هو أن (الدكتور فاينر
،)Weinerوقد اكتشف ما يسميه بأكذوبة بلتداون ،ونشر خدعة هذا االكتشاف
وروى القصة في كتابه( :أكذوبة بلتداون ،)Piltdown Forgeryحيث افتضح
246
(فاينر) هذه الدراسة الحفرية وأنكرها .ورفض إمكانية تصور إنسان أو وجود كائن
مثل إنسان بلتداون ،حيث أنه إنسان غريب ،عثر عليه (داوسن) ،وزعم أن له قبوة،
رأس ،Craniumإنسان ،أما الفك ،Jawفهو فك شمبانزي .Chimpanzeeوقد
تمكن (فاينر) أخي ار من دراسته طبيعة العظام ،و إثبات أن فك بلتداون رغم مظهره
القديم ،ورغم أسنانه المتآكلة ،كان من العظام الحديثة العهد .
األستاذ بجامعة هيدلبرج بألمانيا العثور على (فك سفلي) بشري ضخم في طبقة
رملية عمقها 73قدما ،في مدينة هيدلبرج ،كما وجدت معه في نفس الطبقة ،
حفريات لحيوانات كانت تعيش في العصر البليستوسيني ،ولذلك قدر عمر حفرية فك
إنسان هيدلبرج بما يقرب من مليون سنة ،الن بعض األدوات واآلالت الحجرية التي
عثر عليها ترجع إلى العهد البليستوسيني.
يرجع إنسان نياندرتال إلى العصر الجليدي الرابع ،ويسمى أيضا إنسان نياندرتال
الموستيري ،نظ ار لوجود بعض المخلفات واألدوات الموستيرية مع حفريات وبقايا
إنسان نياندرتال .ولقد تم اكتشاف إنسان نياندرتال بفضل الجهود التي بذلت في
حفريات (إهرنجزدورف )Ehringsdorfو(شتاينهيم .)Steinheimوعثر في قرية
(إمرنجزدروف) بالقرب من مدينة فيمار بألمانيا ،على جمجمة وفكين .وقدر حجم
جمجمة إنسان نياندرتال بما يقرب من 0451سم 8ويقترب هذا الحجم إلى حد كبير
من حجم جماجم اإلنسان الحالي ،ومن هنا جاءت األهمية الحفرية إلنسان نياندرتال،
حيث أن جمجمة النياندرتال أنما تعتبر مرحلة انتقال مباشر بين اإلنسان الحفري
واإلنسان الحالي .وفي (شتاينهيم) عثر على أحدى جماجم النياندرتال ،وترجع إلى
العصر الجليدي الثالث .إال أن حفريات شتاينهيم رغم تبعيتها إلنسان نياندرتال إال
247
أنها ال تشبه تماما إنسان النياندرتال الموستيري الذي اكتشف في (إهرنجزدورف).
وهذا ما أكدته الدراسات الحفرية التي نجمت عن فحص تلك الجمجمة المكسورة التي
عثر عليها في شتاينهيم .كما ظهر أن أذرع إنسان نياندرتال أقصر من أذرع اإلنسان
الحديث .واذا كانت الحضارة الموستيرية هي من نتاج اإلنسان النياندرتالي ،مما يؤكد
بصفة قاطعة ارتقاء القدرات العقلية ،وأن معدل ذكاء إنسان نياندرتال لم يكن في
مرتبة أقل بكثير من معدل ذكاء اإلنسان الحالي ،ولذلك يشبه إنسان نياندرتال ،ذلك
النموذج الفيزيقي الذي يطلق عليه أسم (اإلنسان العاقل .)Homo Sapiens
وختاما فقد كان إنسان نياندرتال إذا ما رفضنا تلك الصورة التي تجعله وحشا بليدا،
مترهال ،منخفض الجبين ،يعتدي بالعصا على نساءه ،كان عبارة عن كائن وحشي
المالمح عريض الصدر ،يمشي مثني الركبتين ،ويداه ممتدتان إلى األمام ،ويقوم
رأسه على رقبة قصيرة مائلة ،باإلضافة إلى أنه كان يستطيع الجري ورمي األحجار
واستخدام النار والحياة في الكهوف ،فتكيف بذلك مع الظروف المناخية القاسية.
كما كانت جمجمة إنسان نياندرتال مستطيلة وجبهته مسطحة ،أما أنفه فكان قصي ار
مفرطحا .كما كان بارز الفك ،وليس له ذقن ،وكان يدب متثاقال من كهف إلى آخر
على قدمين عريضتين قصيرتين ،غليظتين .كما كان الجزء األمامي للنصفين
الكرويين للمخ أكمل تطو ار من أسالفه .ثم ظهرت في أوربا بعض األقوام األكثر
ثقافة وتقدما في صناعة األدوات وصيد الحيوان ،فاكتسحوا كل ما صادفوه من أفراد
اإلنسان النياندرتالي ،ولعل هذا هو السبب في انقراضه ،بانقضاض هذه الشعوب
الدخيلة عليه.
248
نماذج إنسان نياندرتال
إن معظم المتحجرات العظمية في أوربا تعود إلى العصر الحجري المتوسط واألخير
وأول هذه المتحجرات التي أخرجت من األعماق تتكون من قحف جمجمة وبعض
عظام سيقان واذرع في كهف يقع في إقليم يسمى( نياندرتال ) والموقع قريب من
مدينة( دسلدورف) األلمانية وكان ذلك االكتشاف قد حصل عام . 0356وقد أطلق
العلماء على مجموعة العظام التي استخرجت اسم ( إنسان نياندرتال) ويضم هذا
الصنف أكثر من مئة قرد عثر على بقاياها في أقطار متعددة تقع في أوربا الوسطى
والغربية وبعض مناطق االتحاد السوفيتي وجنوب شرقي أسيا وأفريقيا والصين .
يتسم هذا الكائن الذي أعيد بناؤه من عظام متناثرة ،بجمجمة كبيرة ذات
جدران سميكة .وذات شكل طولي وسقف منخفض يعطيها طابعا بدائيا .ويظهر هذا
المظهر البدائي في جبهتها الواطئة الضيقة والمتراجعة .هذا إضافة إلى سمك
وضخامة العظام المحيطة بالعينين والتي تتخذ شكل رفين معلقين فوقهما.
ويتصف أيضا طرف الجمجمة الخلفي بكبره النسبي وببروزه الذي يلفت
النظر ،أما الثقب الواقع في قاعدة الجمجمة فيكون أقرب إلى نهايتها الخلفية مما في
جمجمة اإلنسان الحديث .وتتراوح نسبة الجمجمة الرأسية لهذا الكائن .بين .76-71
أما حجم وعاء المخ فيتراوح بين 0811سم 8إلى 0611سم .8والمخ في هذا النوع
على ضوء هذه المقاييس يعتبر كبي ار نسبيا وهو أكبر منه لدى اإلنسان الحديث.
أما الوجه فيكون أميل إلى الطول وهو بارز قليال ،أما محاجر العينين فتميل
إلى الكبر .كما يتصف هذا الصنف بتفلطح األنف وعرضه مع انخفاض نهايته .أما
الفك العلوي فهو بارز نسبيا .بينما يكون الفك السفلي سميكا وقويا .وهناك بداية
بسيطة للحنك تجعله ضام ار صغي ار .وهو في بعض أشكال هذا الصنف أكثر نموا
مما في بعضها اآلخر.
249
كما يكون سقف الحلق متوسطا في شكله بين اإلنسان الحديث والقرد .ويبرز
تشابه أسنان األثنين بدرجة أكبر .ويتصف حوض النياندرتال بالعمق وبالضيق كما
في القردة .أما الذراعان فقصيران نسبيا ولكنهما سميكان .وتقارب نسبة الذراعين
والساقين للجسم ما يقابلهما في اإلنسان .ويكون ابتعاد أصبع اإلبهام عن باقي
األصابع لدى النياندرتال أكبر مما في اإلنسان .وتتصف أصابع هذا الكائن بقصرها
نسبة إلى أصابع البشر .ويتراوح .طول قامة نياندرتال أوربا بين 5أقدام إلى خمسة
أقدام و 5بوصات .ومعروف عنه أنه عاصر الحضارة الموستيرية ( Mousterian
. ) Cultureالتي وجدت في الجزء األول من الفترة الجليدية األخيرة في القارة
األوربية.
أن النماذج التابعة لهذا الصنف التي كشفتها التنقيبات في فلسطين قد عثر
عليها في جبل الكرمل ويقدر عمر تلك المتحجرات بحوالي 41ألف سنة .وهي تمثل
أشكاال متطورة ومقاربة في مظهرها لإلنسان الحديث .وتشير التحليالت العلمية لهذه
البقايا العظيمة إلى أن أطول قامة لهذا الكائن بلغت 5أقدام و 3بوصات أما
مقاييس الجمجمة وتفصيالتها فال تختلف جوهريا عنها في جمجمة اإلنسان الحديث.
وقد اعتقد بعض المختصين في البداية أن (نياندرتال الكرمل) قد تطور تدريجيا إلى
اإلنسان الحديث .غير أن معظم علماء الوراثة يتعرضون على هذا التفسير ،وهم
يرون أن هذه النماذج تمثل سكانا خليطا أمتزج فيه النياندرتال وأصنافا أخرى لإلنسان
الحديث .ومضمون الرأي األخير أن هناك عملية إخصاب متبادل جرت بين
النياندرتال والنموذج اإلنساني األخر مما أدى إلى تقليص اختالفات النياندرتال
واندماجه وراثيا مع النوع الذي يمثل اإلنسان الحديث.
251
نياندرتال آسيا :
وأهم بقايا هذا الصنف قد ظهر في حفريات شمالي العراق وقد سلطت أضواء
على بعض الزوايا المظلمة والمبهمة لهذا الصنف .وقد لوحظ آثار إصابة بسهم في
القفص الصدري للهيكل العظمي لهذا الكائن وقد فسرت بأنها سبب وفاته .وهو يشبه
نياندرتال أوربا عدا أن قامته أطول ،وقد عاصر الحضارة الموستيرية للفترة الجليدية
األخيرة قبل حوالي 45ألف سنة ،وقد مارس الصيد واعتمد بصورة خاصة على
قنص الماعز الوحشي.أما مكتشفات بقايا النياندرتال األسيوي األخرى فقد تم العثور
عليها في بعض مناطق االتحاد السوفيتي وفي مرتفعات هضبة األناضول وايران.
هناك بقايا عظيمة لهذا النموذج اكتشفت في ليبيا والمغرب وهي تشير إلى
تشابه مع النياندرتال األوربي عند مقارنة الجمجمة ،ولوحظ أن جمجمة النياندرتال
األفريقي كبيرة نسبيا ويصل تجويف المخ فيها إلى 0431سم .8ويعتقد اعتمادا على
المتحجرات الحيوانية التي ظهرت في التنقيبات أن النياندرتال عاش في فترة نهاية
العصر الحجري المتوسط .والخالصة أن نماذج النياندرتال المتعددة يمكن تفسيرها
على أنها تمثل عملية تطورية واحدة معتمدة على انتشار هذا الكائن من مركزه إلى
مناطق متفرقة في العالم .أما سبب اختفاء النياندرتال في أواخر العصر الحجري
المتوسط فيرجع إلى عوامل التزاوج و(االمتزاج الوراثي) Hybridizationبينه وبين
األصناف األخرى .ويستدل على هذا االختالط بالموجودات العظيمة الموجودة في
حفريات فلسطين وجيكوسلوفاكيا ،كما توجد بقايا عظيمة توحي بوقوع بعض االختالط
الوراثي بين النياندرتال ونموذج كرو ماغنون ( ) Cro-Magnonبعض نماذج من
النياندرتال يغلب عليها خصائص كرو ماغنون بدرجة أكبر .بينما نماذجه األخرى
يغلب عليها خصائص نياندرتال إلى مدى أبعد من صنف كرو ماغنون.
251
ورغم انقراض النياندرتال فأن بعض سماته الوراثية قد انحدرت إلى اإلنسان
الحديث .وتوجد أدلة تثبت وقوع اتصال حضاري بين النياندرتال واألصناف األخرى
من اإلنسان البائد .والمعروف أن الحضارات الموستيرية قد أدخلت فن تصنيع
األدوات الحجرية عن طريق النحت والكشط .Chippingويبدو أن الحضارات
الموستيرية األقدم قد عاصرت أصنافا أخرى من اإلنسان البائد غير النياندرتال.
وتستمر بعض األشكال الحضارية الموستيرية القديمة في العهود التي أعقبت تلك
الفترة .وهكذا فاألدلة التاريخية تظهر لنا وجود اتصال بين الحضارة الموستيرية
والحضارات السابقة والالحقة وهذا يدل على إن إنسان النياندرتال قد اتصل حضاريا
بنماذج مختلفة من البشر وان ذلك أدى إلى اختالطه بيولوجيا أو وراثيا بتلك النماذج.
ويعتبر النياندرتال أخر حلقات اإلنسان البائد ومنذ اختفائه بدأ اإلنسان
الحديث بالظهور على مسرح الحياة .
تنتمي البقايا العظيمة للعصر الحجري المتأخر في أوربا لنوع الجنس البشري
الحديث ( ) Homo Sapiensو هذا ال يعني أن األنواع التي عاشت في تلك
األزمنة مماثلة أو مطابقة بصورة تامة في أوصافها ألنواع اإلنسان الحديث.
فاإلنسان الحديث لم تظهر بداياته األولية حتى فترة الهولوسين ( ) Holoceneالتي
تمثل الجزء األخير من العصر الحجري حيث ابتدأت فترة االنجماد بالتوقف وصارت
درجات الح اررة ترتفع تدريجيا وأخذ الدفء يتسرب إلى الهواء ببطء .أما تاريخ عصر
الهولوسين فيرجع إلى ما قبل 02ألف عام على وجه التقريب .والمالحظ أن بقايا
إنسان أوائل العصر الحجري المتأخر تدل على عدم تجانس ذلك اإلنسان للتنوع
الكبير الظاهر في أشكاله المتعددة .وأهم تلك األصناف هو صنف كرو ماغنون (
التابع لعصر اوريجناسيون ( ) Aurignac onوصنف ) Cro-Magnon
غريما لدي ( )Grimaldiوصنف بويدموست وبرون ويمثالن صنفا هجينا اختلط
252
فيه النياندرتال وكروماغنون .ويظهر أيضا صنف جانسليد ) ) Canceledفي
عصر ماجد الينين( . ) Magdalenianوعرف إنسان كرو ماغنون من خالل
هيكل عظمي وجدت في الطبقة الجيولوجية لعصر اوريغناسيون في غربي أوربا.
وكان أول هذه البقايا قد عثر عليه في تقنيات أجريت قرب قرية كرو ماغنون في
إقليم الدور دون Dordogneفي جنوبي فرنسا .ويتميز أكثر أفراد هذا الصنف
بجمجمة كبيرة وسميكة وبوعاء مخ يقرب من 0661سم .8وتكون الجمجمة طويلة
وضيقة ونسبتها الرأسية تقدر بـ .75أما الجبهة فعالية وعريضة وهي تشبه إلى حد
كبير جبهة اإلنسان الحديث كما تكون عظام الحاجبين قليلة النتوء واألنف يتسم
بضيقة وارتفاعه النسبي وتكون الفكوك كبيرة نسبيا ولكنها حديثة الشكل والحنك كامل
التكوين .ويتسم الكروماغنون األقدم بكونه طويل القامة نسبيا حيث يصل ارتفاعه
إلى 5أقدام و 00بوصة .ويعتقد بأن بنيته كانت متينة ومنتصبة كاإلنسان الحديث.
عدا أن ركبته كانتا تنحنيان لألمام قليال عند السير .كما اتصفت ساقاه بالطول
النسبي عند مقارنتها بالذراعين .أن هذه الخصائص باإلضافة إلى خصائص
(الحوض) Pelvisهي مقاربة لخصائص الزنوج المعاصرين .ولعلها نتجت من
اختالط زواجي حصل بين هذا الكائن وبين صنف غريما لدي ذي الصفات الزنجية.
وما عدى هذه السمات فإنسان كرو ماغنون يشبه اإلنسان القوقازي الحديث أكثر من
باقي العناصر .وهو يعتبر لهذه األسباب األصل ألساللي للعنصر القوقازي .ولكن
ينبغي القول أن هذا العنصر لم ينحدر من كرو ماغنون حسب .بل نتج عن خليط
من األصناف البشرية القديمة بحكم التزاوج الجاري بينها .وتظهر األشكال األخرى
للكروماغنون تنوعا ملحوظا ومن أهم األشكال أو األصناف ما يأتي:
هذا الصنف اعتمد تحديده على ضوء هيكلين عظميين اكتشف أحدهما إلنسان يقدر
عمره بـ 06عاما .أما الهيكل اآلخر فكان ألنثى ناضجة .وقد عثر عليها في أعماق
253
ساحل الريفي ار .حيث اكتشفت بعض األدوات الحجرية معهما مما يعزز االعتقاد بأن
إلى عصر الحضارة االورغنسية ( هذين الكائنين البشريين ينتميان
) Arignacianويتميز هذا الصنف ببعض السمات الزنجية كما أسلفنا سابقا.
وبدرجة أكبر مما يتسم به إنسان كرو ماغنون الكالسيكي (الصنف األسبق) .ويمكن
أن يفسر ذلك بأن نوع الكروماغنون الذي انتشر في أواخر العصر الحجري الوسيط
هو األصل ألساللي للزنوج الذين ربما عاشوا مع الكروماغنون في أوربا وتزاوجوا
معه .لكن بعض المختصين يعتبرون غريما لدي ممثال لعنصر قوقازي عاش في
أوربا الجنوبية ويرفضون ربطه بالعنصر الزنجي.
254
أوربا المحدثين .وتؤدي دراسة النماذج األوربية في العصر الحجري الحديث إلى
االستنتاج القائم على افتراض أن النماذج البشرية الحديثة في أوربا قد هاجرت إليها
من الجنوب والشرق (من إفريقيا وآسيا) .فخالل فترة العشرة آالف سنة الماضية .أي
منذ بدء (العصر الحجري الحديث) Neolethicتظهر أكثر النماذج البشرية األوربية
الحديثة .وفي هذه الفترة تطورت العالقات الحضارية بين أوربا وافريقيا وآسيا ونتيجة
لهذا التطور فان االختالط السكاني في أوربا بين النماذج البشرية القديمة والنماذج
الجديدة المهاجرة ازداد أيضا.
255
المحاضرة الحادية والثالثون :االتجاهات العلمية لدراسة الواقع الطبيعي البشري :
مقدمة :
االنثروبولوجيا تعني الدراسة المقارنة لإلنسان ،وفي هذا المعنى ليس هناك
من نجانب لهذا الكائن أو ألفعاله يمكن اعتباره غير جدير بالدراسة واالستقصاء.
وفي الواقع والممارسة ثبت أن من األنسب تقسيم هذا الموضوع الشائك والعريض إلى
ميادين أضيق وأكثر تحديدا تتضمن فيما تتضمن الفلسفة وعلمن النفس والمجاالت
ذات الحدود األبرز والتي يطلق عليها مصطلح االنثروبولوجيا.
256
ال جدوى منها وال يمكن أن تكشف عن عناصر حقيقته الطبيعية أو أي من جوانب
وجوده الحضاري والثقافي .ومن أبرز االستفسارات التي لم يتوفر عنها جواب شاف
حتى اآلن هو ما إذا كانت هناك اختالفات جوهرية هامة بين السالالت البشرية
الرئيسية في العالم ،أم أن هذه االختالفات غير قائمة ،فلو وجدت هذه االختالفات
فإن باإلمكان االفتراض عندئذ أن بعض هذه السالالت تتمتع بقدرات حضارية أفضل
والسالالت األخرى بقدرات أقل في مجاالت اإلبداع الحضاري .أما إذا انتفت هذه
الفروق الفطرية العنصرية بين الجماعات الساللية الرئيسية فإن أوجه التباين
الحضاري والثقافي في العالم البد من تفسيرها باالستناد إلى مسبباتها التاريخية
واالجتماعية والثقافية التي يفترض في هذه الحالة استقاللها عن التركيب البايولوجي
.ومهما تكن النتائج العلمية التي يمكن أن يصل إليها الباحثون عن طريق تناول
هذه االستفسارات وأمثالها فإن مشكلة التحيز العنصري والثقافي في كثير من
مجتمعات العالم ال تزال تواجه الباحثين وتدفعهم إلى إيجاد الحلول لها .وهناك
قناعة واسعة تسود الوسط االنثروبولوجي حول انتفاء الصلة بين المورثات البايولوجية
وثقافات الشعوب والجماعات ،على الرغم من وجود قلة قليلة من األنثروبولوجيين ال
تتبنى هذا االعتقاد .ويرى بعض المختصين أن دراسة الخصائص الطبيعية
لإلنسان على ضوء مقارنة السالالت المتعددة يمكن أن تسلط ضوء على التطور
العضوي للنوع اإلنساني.
257
وقد أكد غوبينو العنصري فكرة عدم تكافؤ البشر فكريا .وبنى هذا الرأي على
اختالف الجماعات البشرية في مجاالت التكنولوجيا واالختراع ،وفي ظن هذا المفكر
أن حضارة الغرب جاءت نتيجة امتزاج وتفاعل القبائل الجرمانية مع السالالت
القديمة في أوربا .واستخلص من مالحظاته عن تاريخ الجماعات البدائية أنها ال
يمكن أن تحقق تقدما حضاريا مما امتد الزمن وعلى الرغم من احتكاكها بمختلف
المجتمعات المتحضرة ،وهذا رأي فنده العلم الحديث .
فسكان بعض الحضارات الشرقية قد شعروا برقيهم بالنسبة لسكان أوربا البرابرة
في العصور الوسطى .فالعرب في العصر العباسي مثال كانوا في منزلة حضارية
أسمى بكثير من كافة شعوب أوربا وكذلك الشعب الصيني شعر بالشيء نفسه
بالمقارنة مع األوربيين في ذلك الوقت.
وال يخفى كما سيتضح من الفصول القادمة أن هذه االدعاءات وأمثالها ال
يمكن أن تفسر علميا على أساس العنصر أو الظروف البايولوجية بل هي مرتبطة
في تفسيرها بالعوامل التاريخية والثقافية على األكثر.
258
الصفحات القليلة .ويبدو أن الباحثين يعتبرون بعض الجوانب الطبيعية لإلنسان
أكثر أهمية للتصنيف من غيرها.
ولو جمعنا عددا من األشياء المتشابهة قليال أو كثي ار وأردنا تصنيفها إلى
مجموعات فإن المقاييس التي نعتمدها في هذا التصنيف سوف ترتبط بغايتنا من وراء
هذا التصنيف .ومعايير التصنيف في هذه الحاالت كثيرة .فقد يكون المقياس هو
أشكال األنف ،أو أطوال األصابع ،أو شكل الشعر وغير ذلك .وليس الغرض من
القيام بتصنيف البشر هو الحصول على أصناف تبدو غير خاضعة لتأثير البيئة أو
خالية من المغزى خصوصا تلك المعاني التي ال تكشف عن التغيير الجاري في
شخصية الفرد مع تقدمه في السن .فالغرض من التصنيف الساللي األنثروبولوجي
هو أكثر جدية من مجرد إشباع دافع حب االستطالع ،واذا كان علماء اإلنسان
غير مرتاحين لمبدأ تصنيف الجماعات البشرية إلى (عناصر) أو سالالت فإن ذلك
يرجع إلى رغبتهم في العثور على معايير أكثر عمقا وقدرة لتوضيح ما جرى في
تاريخ هذه الجماعات ،أي للكشف عن تطور البشر ،ومعروف أن قسطا كبي ار من
جهود علماء اإلنسان الطبيعيين ينصب على دراسة تطور الحيوانات المقاربة لإلنسان
(القردة العليا) بهدف أماطة اللثام عن مجاهل التطور الطبيعي للبشرية .أن بعض
السمات الطبيعية قد تبدو للوهلة األولى عديمة الفائدة لتصنيف البشر طبيعيا ،ولو
اخترنا مثال من عالم الطيور ،نعلم أن أهم سمة تشترك بها الطيور المختلفة هي
استعمال أصواتها في مناداة أعضاء فصائلها ،ورغم أن أصوات الطيور في لفصائل
المتباينة قد تبدو قليلة أو كثيرة التماثل ،إال أنها في الحقيقة تتسم اختالفات محددة
مميزة لفصائلها عن بعضها بالنسبة للمختصين في الطيور .ومع ذلك فإن الطيور قد
تتعلم أصواتا ليست مرتبطة بفصيلتها في األصل عندما تنتقل إلى بيئات جديدة .
ولهذا فإن تصنيف الطيور بناء على أصواتها أصبح موضع اعتراض ما زال
الصوت عند بعضها يخضع إلى عنصر االكتساب والتقليد .
259
وبالنسبة لإلنسان هناك أسلوبان للتصفيق باأليادي فبعض األفراد عندما
يصفقون يكون إبهام اليد اليمنى فوق وقد يكون عند البعض اآلخر إبهام اليد اليسرى
فوق واليمنى تحت ،وتسيطر هذه العادة أو تلك على األفراد بحيث إن صاحب هذه
العادة يظل خاضعا لها طيلة حياته بينما صاحب العادة الثانية في التصفيق اآلخر
يظل خاضعا لعادته .ولو اقترح أن تكون عادة التصفيق أساسا لتصنيف الجماعات
البشرية فإن هذا االقتراح ينبغي أن يرفض ألن هذه العادة ليست خاضعة للمورثات
الطبيعية بل هي نتيجة االكتساب االجتماعي ،ولهذا فالتصنيف ال يمكن أن يعتمد
على هذه العادة كمعيار طبيعي ما دامت هذه العادة ترتبط بثقافة مجتمع الفرد .
وهكذا وعلى ضوء النقاش السابق يتضح أن التصنيف الساللي للبشر ال
يمكن أن يعتمد على صفات أو خصائص وقتية أو عرضية ذات طبيعة اكتسابية
ثقافية أو حضارية ،ألن السالالت ال تمثل تركيبات ذات طابع سريع التغيير بفعل
العوامل الثقافية بل هي تركيبات تنطوي على خصائص بايولوجية تتسم بالديمومة
واالستقرار الكبير .والواقع أن التصنيف الطبيعي أو البايولوجي (الساللي) وهو
يعتمد على السمات الموروثة Inherited Characteristicsال يمكن أن يستفيد
من جميع هذه السمات ألن بعضها أكثر مالئمة من بعضها اآلخر لهذا الغرض .فقد
تقتصر الرغبة في التصنيف الساللي على الخصائص المتباينة بين سكان األقاليم
الجغرافية الطبيعية المختلفة ،ولكن الباحثين قد يفضلون االعتماد على المورثات
Genesومن الناحية األخرى إذا كنا نطمح إلى معرفة واقع اإلنسان في األزمنة
السابقة للتاريخ Prehistoryفإن ذلك يتطلب التنقيب في ماضي اإلنسان السحيق
واإلفادة من اآلثار القديمة التي يمكن أن تسلط الضوء على ذلك الواقع .ومع ذلك
فإننا إذا ركزنا على التاريخ السابق للتدوين فإن من الضروري العثور على خصائص
ترتبط بالبشر الذين يمثلون تلك الحقبة .والشك أن من الواضح أن بعض
الخصائص التي يمكن العثور عليها في الحفريات تنطوي على المواصفات التي
ترضي النوعين من االحتياجات ،أي معرفة أثر المورثات من جهة والسمات التي
261
تتصل بالجماعات السابقة .أن بعض السمات البايولوجية تتعرض إلى التبدل
بسرعة أكبر من غيرها بسبب عملية االختيار Selectionوتسمى هذه بالسمات
المتكيفة Adaptive Charactersوبسبب خضوع هذه السمات إلى عملية التغيير
في مجموعات السكان فإنها ال تصلح للتأمل في تركيب السكان عبر الماضي البعيد
على الرغم من أنها يمكن أن تكون مفيدة لعملية التصنيف الساللي .وكان
األنثروبولوجيون إلى زمن غير بعيد يفضلون السمات غير المتكيفة ليعتمدوا عليها
في تصنيفهم لكي يكونوا فكرة عميقة عن فترات تاريخية طويلة نسبيا من التطور
الساللي للجماعات التي يدرسونها .ولكننا نعلم اليوم أنه ال توجد سمات بايولوجية
في اإلنسان ليست خاضعة للتبدل والتكيف تماما .ولكننا في الحقيقة نتعامل مع
درجات متفاوتة من سرعة التبدل والتكييف في هذه السمات .ومع ذلك فدق ظل
المختصون بالتصنيف البايولوجي Taxonomyيميلون إلى استثمار السمات األقل
تكييفا في دراساتهم التصنيفية ،فاالنثروبولوجيون الطبيعيون مثال اعتمدوا على
السمات الوراثية المستقرة أو القابلة للقياس الدقيق كطول القامة Statureوكانوا
مقتنعين بأن هذه السمات لم تكن تتأثر بالبيئة وأنها ليست قابلة للتكييف ،أن
المعرفة الحديثة المتطورة قد أظهرت أن السمات البايولوجية الموروثة على الرغم من
طبيعتها الوراثية إال أنها تتأثر بالعوامل والبيئة التي تتضمن تأثيرات الغذاء في شكل
الموارد المعدنية والفيتامينات والنشويات حسب النسب التي تدخل منها إلى الجسم،
وهي كلها تؤثر على طول القامة مثال ،ولهذا صار العلماء يبدون شكا متزايدا حول
مالئمة سمة طول القامة كأساس للتصنيف الساللي .أن لون البشرة Skin Colour
هو األخير يبدو موضع شك في نظر الكثيرين من علماء اإلنسان الطبيعيين ألنه
يتعرض إلى التبدل بفضل االختيار الطبيعي Natural Selectionإذ من المالحظ
أن البشرة الغامقة غالبا ما ترتبط بسكان المناطق المدارية واالستوائية حيث يؤكد
االختيار الطبيعي على هذه السمة التي تعتبر مالئمة طبيعيا للمناخ الحار السائد في
تلك المناطق.
261
وعلى ضوء ما تقدم فإن المشكلة التي تواجهنا في تصنيف سكان الكرة
األرضية سالليا تدور حول السؤال اآلتي :أي السمات البايولوجية في اإلنسان هي
أقل السمات تعرضا للتبدل عبر التاريخ التطوري اإلنساني؟ ففي الحيوانات عموما ـ
بعكس النباتات ـ ال تصلح األعضاء التناسلية أساسا للتصيف .ومع صعوبة اإلجابة
على االستفسار الذي يسعى إلى وضع معايير ثابتة لتحديد السمات المستقرة فإن
الباحثين التصنيفيين ال زالوا يلتزمون باالعتماد على الخصائص والصفات البايولوجية
المحافظة أو غير المتكيفة نسبيا لهذا الغرض .وفي كثير من الحاالت كان المصدر
الوحيد للمعلومات عن الجماعات الحضارية المتنوعة التي عاشت على األرض في
التاريخ القديم هي األدوات ،المطمورة في األرض (حجرية ونحاسية وبرونزية ...
الخ) والبقايا العظمية المتحجرة .وكان (علماء اإلنسان الطبيعيون واآلثاريون)
Paleontologistsبسبب اعتمادهم على الهياكل العظمية ـ قد جعلوا تصنيفهم
الساللي قائما على المالمح العظمية فقط .غير أن المقاييس التي أجريت على
الهياكل العظمية القديمة قد كشفت أن هياكل الجماعات التي اعتبرت ممثلة لسالالت
متباينة كانت تختلف مورفولوجيا ،وقد برزت هذه الحقيقة مثال حتى ضمن العنصر
الذي سمى "قوقازي" Caucasianحيث ظهرت في بقايا عظمية منتمية إليه
اختالفات مورفولوجية واضحة .وال يخفى أن دراسة العظام أعانت االنثروبولوجيين
على تتبع العالقات الساللية بين الجماعات اإلنسانية التي عاشت في عصور ما قبل
التاريخ واألزمنة القديمة ،أو الجماعات العرقية الحاضرة وارتباطاتها الساللية بمختلف
الجماعات اإلنسانية القديمة أو البائدة.
262
المحاضرة الثانية والثالثون :االتجاه االنثروبولوجي التصنيفي
(ب) هناك بعض البراهين بأن التبدل أو التكييف الذي يحصل في السمات
الجسمية إزاء عوامل البيئة الطبيعة خصوصا فيما يتصل بالهياكل العظمية كان تبدال
سريعا نسبيا .كما أظهرت البحوث التجريبية الحديثة أن شكل الجمجمة يعتمد بصورة
جزئية على العضالت المتصلة بالرأس.
263
يستخلص من المعلومات الحديثة ان خصائص الهيكل العظمى أو أجزاء منه (ج )
ال تتحدد بفعل عدد من المورثات (الجينات) Genesالتي تؤثر فيه في الوقت نفسه
أو بصورة متزامنة.
أن االعتماد الحاصر على المعلومات العظمية لغرض التصنيف الساللي (د )
معرض إلى كثير من الشك وهو مثل على ميول الباحثين وخضوعهم إلى المواد
الخاصة التي يستثمرونها في دراساتهم والتي تتوفر لهم عن طريق الصدفة بدال من
المواد األخرى التي قد تكون أفضل منها ولكنها غير موجودة لكي يستعملوها .فالبقايا
العظمية هي البقايا التي تقاوم وتبقى في طبقات األرض .ولكن المواقف النفسية
والذهنية للجماعات القديمة تختفي معها على الرغم من المضامين الكثيرة التي يمكن
أن تسعف الدارسين لو تهيأت لهم.
(ه) يتفق عدد من الباحثين االنثروبولوجيين على أن االعتماد على قياس الجماجم
والهياكل العظمية هي نماذج مضي وقتها ولم تعد صالحة في الوقت الحاضر
لظهور أساليب حديثة أكثر فاعلية وأقرب إلى المنهج العلمي كدراسات الجينات
وأصناف الدم وغير ذلك .وهكذا وعلى الرغم من حماسة طلبة المدرسة
االنثروبولوجية المورفولوجية في سعيهم للحصول على معاير وموضعية في تمييز
السالالت عن بعضها فان االكتفاء بمعيار المقاييس العظمية وحدها ال يمكن أن
يحقق نتائج موثوقة في هذا الصدد( .)3وتظهر الصعوبات المرافقة الستعمال العظام
في دراسة السالالت في االختالفات الفكرية الحادة التي تبرز في استنتاجات العلماء
الخاصة حول البقايا العظمية التي يستخدمونها في دراساتهم .ويعترف األستاذ
(هولز) Howellsبصعوبة االعتماد على البقايا العظمية في تشخيص السالالت
بشكل كامل الدقة والوثوق .وأهم التفصيالت العظمية التي ارتكز عليها القياس
الساللي للجماعات االنسانية هي اآلتي:
264
.0سقف وعاء الجمجمة:
ان مشكلة تحديد مقاييس التركيب العظمي بصورة علمية دقيقة شغلت أذهان الباحثين
االنثروبولوجيين فترة طويلة .وقد اتفق معظم
وبالنظر إلى أن قدامي البشر كانوا عموما ذوي رؤوس طويلة فان االفثروبولوجيين
الطبيعين يفترضون ان صفة طول الرأس تعتبر األكثر بدائية بالقياس للنسب
األخرى .أما مغزى هذه الحقيقة عبر التاريخ اإلنساني الطويل فال يزال غامضا .أما
اختالفات أشكال الرأس بين البشر في الزمن الحديث فهي ال تنطوي على أي مغزى
فكري أو نفسي .وهناك جدل يدور في األوساط العلمية حول مالئمة النسبة الرأسية
كمعيار لدراسة السالالت البشرية .وال شك أن السمة المحددة مهما كانت يمكن أن
تصلح أساسا لتميز السالالت المتمددة عندما تكون موروثة بايولوجيا وان ال تتغير
كثي ار بتأثيرات المحيط الطبيعي .ومعروف أن بحوث األستاذ فرانزبواس ) )Boasقد
أظهرت أن أطفال المهاجرين الصينيين إلى الواليات المتحدة الذين ولدوا هناك قد
اختلفت النسب الرأسية كثي ار بينهم وبين أبويهم .كذلك لوحظ أن المهاجرين من أوربا
الشرقية إلى أمريكا والذين كانت النسبة الرأسية لهم بمعدل %38كان أطفالهم الذين
ولدوا في أمريكا بمتوسط نسبة قدرها %30أي بفارق %2عن والديهم ،أي أن
رؤؤسهم أصبحت أطول من الوالدين في بالد المهجر .بينما أصبح أطفال المهاجرين
من أوربا الغربية والذين كانت نسبتهم الرأسية %73بنسبة راسية مقدارها %31أي
أن رؤؤسهم أصبحت اعرض من رؤوس أبويهم .هذه األمثلة وأمثالها توضح أن
النسبة الرأسية ال تخضع فقط للعوامل الوراثية بل تتأثر بالعوامل الطبيعية أو البيئية
بصورة عامة .فاختالف الظروف البيئية بما فيها من تغذية ومهن كما هو الحال
265
بالنسبة للمهاجرين المشار إليهم أعاله يلعب دو ار في خلق هذا التأثير الظاهر في
تبدل النسبة الرأسية ألجيال المهاجرين من الساللية الواحدة .كذلك يؤثر الزواج
المختلط بين المهاجرين وغيرهم من سكان البالد التي هاجروا إليها في إيجاد هذا
التباين بين مختلف أجيال األسرة الواحدة.
يقاس ارتفاع الجمجمة من فتحة األذن وحتى أعلى نقطة في قمة الرأس .ولصعوبة
ضبط هذا القياس من رؤوس األحياء فقد اعتمدت جماجم األموات أساسا ال جراء
هذه المقاييس .والمالحظ ان هناك تنوعا في هذا الجانب بين البشر المحدثين ،ويتسم
اإلنسان االسترالي األصلي بقحف منخفض جدا بالقياس لباقي البشر المعاصرين.
ويزداد تباين ارتفاع قحف الرأس بالنسبة لألشكال البشرية التي عاشت في عصور ما
قبل التاريخ ،خصوصا بداية عصر الباليستوسين ( )02التي ترجع إلى حوالي
مليوني سنة قبل الميالد .وقد عثر على بقايا عظمية لجماجم في الحفريات ال ترتفع
أكثر بكثير من جماجم قردة الغوريال .ولما كان الجزء األساسي من قحف الرأس
يرتبط بتطور الدماغ وبذكاء اإلنسان فانه يستنتج من مقارنة الجماجم االثارية للنماذج
اإلنسانية المختلفة من ان الجماجم القديمة ذات االرتفاع الواطئ كانت تمثل مستوى
واطئا للذكاء بالمقارنة مع اإلنسان الحديث .وال يطبق التباين البسيط في ارتفاع
الجماجم على البشر المعاصرين كأساس الختالف درجات الذكاء ،اذ لم يبتكر أي
اختبار حاليا يظهر اختالفات أساسية في الذكاء السالالت يرتبط باختالف ارتفاع
قحف الرأس.
اتسعت جبهة الرأس عند النماذج اإلنسانية القديمة وهي تتسم عند قردة هذا العصر
باالنحدار نحو الخلف من نقطة عظم األنف وهي شديدة الضيق أيضا .وقد الحظ
الباحثون انه الحظ الباحثون زاد خذا االنحدار والضيق في الجبهة كلما ضمرت
266
مقدمة الدماغ ،كما هو الحال بالنسبة لإلنسان القديم البائد والقردة .ومع ذلك فقد
كشفت الحفريات عن بعض النماذج البائدة المتسمة بالجبهة المستوية كما في
اإلنسان الحديث.
في هذا الجانب تتمثل سمة أخرى يمكن االفادة منها في التمييز بين بشر الزمن
الحاضر ونماذج العصور الحجرية الغابرة .فمعظم االشكال التي تنتمي لعصور ما
قبل التاريخ كانت تتصف بالسمك الشديد العظام الجمجمة بالمقارنة مع اإلنسان
الحديث .أما البشر الحديثون فال يوجد اختالف يذكر في سمك جمجمتهم.
المنطقة العظمية المحيطة بالحواجب تمثل نتوءا مر في تطور تدريجي برز في
تناقص حجمه شيئا فشيئا .فالنماذج االنسانية البائدة اتسمت بعظام كبيرة نسبيا
لمنطقة كبيرة نسبيا لمنطقة الحواجب .بعكس البشر في العصر الحاضر حيث يكون
عظم الحاجب أصفر.
هذا الثقب تمر منه المسالك العصبية من الدماغ الى الجسم ويكون في قاعدة
الجمجمة .ويالحظ ان هذا الثقب يقع في وسط قاعدة الجمجمة عند البشر المحدثين،
ولهذا فان الرأس يكون متوازنا عند بشر هذا العصر بعكس النماذج البائدة للكائنات
شبه االنسانية حيث يكون ثقب الجمجمة السفلى واقعا قرب المؤخرة.
و الجزء االسفل من الوجه :وجه االنسان والفك االسفل يظهر تباينا في المالمح
اآلتية :
(0ـ سعة الوجه وطوله2.ـ شكل الوجنتين8.ـ بروز مقدمة الوجه السفلي4.ـ درجة نمو
الفك5.ـ االسنان وسقف الحلق).
267
7ـ سعة الوجه وطوله:
سمة الوجه هي المسافة القصري بين النقطتين المتماسكتين على عظم الوجنتين .أما
طول الوجه فيقاس من نقطة اتصال األنف إلى أوطأ نقطة على الخط الوسطي على
الفك األعلى.
ان العظام الناتئة للوجنتين مع وجود طبقية سمكية نسبية من الغالف الشحمي هي
سمة تتسم بها وجوه سكان الشرق االقصى في آسيا .كما تالحظ هذه السمة بين
بعض سكان االتحاد السوفيتي وجزر المحيط الهادي الجنوبي والسكان االصليين
لألمريكيين .ويالحظ ان هذه السمة نادرة الظهور بين سكان األقاليم األخرى في
العالم.
أن مقدمة الوجه السفلي Proganthismهي درجة بروز الوجه ويمكن ان تالحظ
عن طريق مشاهدة الزاوية التي تحدث عن طريق الخط المار من نقطة اتصال
االنف بالوجه وحتى نقطة الفك االعلى في وسط أسنان القواطع .فاذا كانت الزاوية
المشكلة ( )11درجة فيكون بروز الوجه قليال Orthognathousأما اذا قلت الدرجة
عن ( )11فيكون بروز الوجه شديدا.
يكون الفك األسفل عادة صغي ار بالنسبة للنماذج البشرية المـتأخرة تاريخنا وبالعكس
فانه يكون كبي ار كلما رجعنا مع التسلسل الزماني الخاص بالنماذج االنسانية البائدة.
فاألشكال االقدام كانت لها فكوك سفلي كبيرة جدا وكانت تفتقر الى بروز الحنك.ثم
بدا الحمك بالظهور شيئا فشيئا بصورة ضعيفة في النماذج التي عاشت في عصور
268
ما قبل التاريخ القريبة ،خصوصا في العصر الجليدي المتأخر Late Pleistocene
مع تطور االنسان العاقل Homo Sapiensحيث يظهر الحنك بشكل واضح.
وتتسم معظم السالالت الحديثة بحنك متشابه بدون فروق جوهرية في حجم الفك
االسفل.
من الواضح اننا ال نستطيع اذا ما التزمنا بالخط العلمي المتجرد ان نحدد ايا من
سمات االنسان البايولوجية هي االكثر استقرار ما لم تتوفر لدينا معرفة أفضل عن
المسلك التطوري الذي سلكته السمات ،كالسمات التي قد نتصور انها تفتقر الى اية
قيمة للبقاء أو الحفظ .غير ان السمات التي قد نميل الى اعتبارها غير مالئمة تكيفيا
هي السمات التي تبدو في تصورنا عديمة الفائدة بالنسبة لبقاء االنسان او لتطوره وقد
ال تكون كذلك في الواقع بل لعل ذلك يتصل بميول الباحثين المتحيزة او التفضيلية ،
فالباحث كما اوضحنا سابقا عندما يفضل التركيبات العظمية كأساس وراثي لتحديد
االختالفات الساللية الوراثية انما يمتد في تفضيله على قدرة العظام على المقاومة
والبقاء في صورة مستقرة نسبيا فترات زمنية طويلة بالنسبة لباقي التركيبات في
االنسان على الرغم من ان التركيب العظمى هو ليس بالضرورة اهم الجوانب
العضوية لجسم االنسان .والمعروف عن االنثروبولوجيين الطبيعيين انهم ظلوا زمنا
طويال يعتمدون على السمات الظاهرية Phenotyic Traitsللجسم البشري في
مقارنة السالالت وتحديد اختالفاتها ووجوه التشابه بينها .أي انهم فضلوا السمات
المرئية كلون البشرة وشكل الشعر ولونه وشكل العيون ولونها وشكل االنف والشفاء
وطول القامة باعتبارها كلما يحتاجه الباحث االنثروبولوجي من خصائص لمعرفة
الوراثة البايولوجية للسالالت .غير ان تقدم االنثروبولوجيا الطبيعية والعلوم الحيوية
األخرى قد اظهر ان التركيب الوراثي يصعب تقديره اعتمادا على هذه السمات
المرئية.
269
علم الوراثة واألنثروبولوجيا:
أن البحوث الحديثة أظهرت الكثير من الحاالت التي توضح ان للصفات المتراجعة
دو ار يظهر أيضا في الوراثة في نسب قليلة ولكنها محددة .ومع ذلك فالصفات
المتغلبة تسيطر بدرجة عالية تقترب من الكمال .وحاول العالم سي رايت S.
Wrightان يطرح العموميات االتية حول صفات التغلب وهي االتي :
ان سيطرة (تغلب) أي زوج من المورثات تمثل القاعدة ويكون لهذا الزوج او 0ـ
الثنائي موقع معين في الكروموسوم يسمى .Allele
ان الكائنات الحية التي تمتلك مورثات متراجعة فقط تفتقد المزايا التي تتمثل 8ـ
في المورثات المتغلبة.
ان المورثات المتراجعة هي أقل غ ازرة في العالم الطبيعي بالمقارنة مع 4ـ
المورثات المتغلبة.
في حاالت الطفرات التي تحصل في المورثات لوحظ انها تمثل مورثات 5ـ
متراجعة.
عندما نتجاهل التبدالت التطورية نعلم ان المورثات التي يتصف بها جيل من
أعضاء فصيلة من الفصائل تنطبق على مورثات أجياله السابقة وأجياله المستقبلة.
فلو انعدمت العوامل التطورية التي تبدل تك اررات المورثات في السكان المختلط فأننا
نتوقع ان اعضاء جيل ما سيكونون مشابهين ألجدادهم ما لم تحدث تغييرات أساسية
في بيئتهم والتي تجعل المورثات تعبر عن وجودها بطريقة مختلفة.
271
آثار البيئة في تغيير المورثات :
رغم ان البيئة ال تؤثر في خصائص المورث اال انها بالتأكيد ال تخلو من تأثير بشكل
او بآخر في تغيرات المورثات .ان التعبير النهائي ألي مورث يعتمد على ردود الفعل
الكيمياوية المعقدة التي تنطلق من المورث والتي تصاحبها ردود فعل أخرى في
المورثات المتغلبة والكروموسوم ،يتضح مما سبق ان كل كائن حي يرث مورثين
يؤثران أو يحددان كل سمة او صفة من صفاته ،مورثا من االم ومورثا من االب،
وان المورثين بالنسبة لكل واحدة من السمات الحيوية للكائن الحي يكونان متطابقين
الى درجات كبيرة .اما المورثات التي تحدد السمات االقل حيوية او أهمية قد تكون
أحيانا مختلفة عند الوالدين .فقد تكون العيون عند احد الوالدين جوزية اللون بينما
تكون عند االخر المورثات يحتمل ان تحتل موقعا محددا Locusفي الترتيب
المتسلسل للمورثات زرقاء ،وان لون العين في كل حالة كان قد تحدد بوجود (مورث)
او مجموعة من المورثات الموجودة في كروموسوم معين .وعندما يكون المورثان
او الجينان في موقعين مختلفين في (ثنائي الكروموسومات) Chromosome Pair
فان النتائج التي تنتج عنهما يحتمل ان تكون مختلفة .فقد يفرض كل من المورثين
تأثيره الخاص دون حدوث تدخل متبادل من قبل االثنين وفي بعض االحيان قد يكون
تأثير المورثين متوسطا يحوي نسبة متقاربة من كل منهما ،كما في نوع معين من
الزهور من االب (اللون االحمر) ومورثا من االم (اللون االبيض) فيكون لونه نتيجة
لذلك ورديا Pinkأي متوسطا بين االحمر واألبيض .ان هذا االختالط المتوازي في
السمات يحدث عند االفراد الذين يحملون مورثين مختلفين ،ولكن المورثين يبقيان
محتفظين باختالفهما ومتميزين عن بعضهما على الرغم من اختالط آثارهما الوراثية
كما يظهر في امتزاج السمتين الالتين تمثالنهما بصورة دقيقة في مثل االزهار
الوردية الحاملة لمورثي اللون االحمر واألبيض .وفي حاالت أخرى قد نالحظ ان
وجود مورث معين يغطي ويعتم تأثير مورث آخر بحيث انه يحدد السمة المعينة
بمفرده مع حذف تأثير المورث الثاني .وقد الحظ منديل هذه الظاهرة االخرة وأطلق
271
عليها مصطلح (التغلب) Dominanceوبعض المورثات التي تحتل مواقع اخرى
في الكروموسوم قد تحور المالمح التي تسببها مورثات أخرى ويطلق على المورثات
هذه بالتغيرات Modifiersوقد تصور الباحثون في الماضي ان صفة
التغلب Dominanceالمشار اليها سابقا هي صفة شاملة ومطلقة .غير ان
طبيعية .وهكذا فان اية خلية أنجاب في الجسم تحتوي على كروموسوم واحد من كل
زوج كروموسومات يحتويه الجسم .ومن الكروموسومات التي تحتوي عليها خاليا
االنجاب وبعد تجمعها عقب عملية االخصاب (اخصاب البويضة) من قبل الحويمن
تظهر مجموعات جديدة للكروموسومات المختلفة وكما أوضحت التجارب الوراثية ان
عامل الصدفة وحده يلعب دو ار في دخول أي من الكروموسومات الزوجية الى اية
خلية انجاب .وهذا يعني بالضرورة ان الكروموسومات تتبدل مواقعها بصورة فردية.
فافراد االزواج الكروموسومية تتجمع مع بعضها البعض عشوائيا وان كل أنواع
التجمعات تحصل بينها بصورة متساوية من حيث االحتمال .وعلى ضوء معرفتنا
لعدد أزواج الكروموسومات في أي كائن عضوي حي يمكن ان نحسب العدد الممكن
لتجمعات الكروموسومات كلها .فلكل زوجين من الكروموسومات التي يحتويها الكائن
الحي هناك ( 2)2أي اربعة تجمعات ممكنة .ولثالثة ازواج من الكروموسومات يوجد
لدينا ( 8)2أي ثمانية تجمعات ممكنة وألربعة ازواج ( 4)2نستطيع الحصول على
06تجمعا للكروموسومات . .وهكذا فان العدد الكلي لألزواج يمكن التعامل معه
على هذا االساس الرياضي ،أي بمعرفة العدد النهائي لتجمع أزواج الكروموسومات
في الكائن الحي وضربه بالعامل المناسب له ونحصل على نتيجة العدد الشامل لكل
الكروموسومات في ذلك الكائن الحي .وتظهر البحوث ان هناك 46كروموسوما في
خلية االنسان الراشد او الناضج .أي 28زوجا من الكروموسومات .وهذا معناه ان
عدد المجموعات هو ،28×2عدد التشكيالت التي يتشكل بها هذا العدد من
الكروموسومات في االنسان الى .206/777/06ومن هذا العدد الهائل ألمكانيات
التجمع بين الجينات يوجد تجمعات اثنان فقط يمثالن تماما تجمعى الكروموسومات
272
االصلي لألب واالم .الجنين يعني بالضرورة ان احتمال تكرار المركب الكروموسومي
ألي من الوالدين في الجنين يتمثل في نسبة 0الى 613/833/3وهو احتمال شديد
البعد ،موجودة بشكل ازواج في الكائن الناضج ،وبصورة فردية في خاليا االنجاب
(الخاليا الجنسية) Reproductiveوبعد ان أصبحت بحوث منديل معروفة
للباحثين تم التحقق من وجود توازن وتشابه بين ما افترضه وبين الوضعية الحقيقية
لبعض االشكال المشابهة للعصيات Rodikeوالتي لوحظت في الخاليا الجنسية.
ويطلق على هذه العصيات اسم كروموسومات Chromosomesوسميت هكذا الن
لونها يتبدل حسب لون المركبات المختبريه التي تتفاعل معها .ويمكن رؤية
الكروموسومات أثناء انقسام الخلية وتختلف درجة رؤياها من فصيلة الى اخرى .وفي
المحاليل الكيمياوية المهيئة صناعيا تظهر الكروموسومات كأجسام سوداء في نواة
الخاليا الجنسية .ويمكن تصويرها فوتوغرافيا أحيانا في ظروف مالئمة عن طريق
استعمال االشعة فوق البنفسجية .كما لوحظ ان هذه الكروموسومات التي تظهر في
هيئة ازواج في خاليا الكائن الناضج تنفصل عن بعضها أثناء تكوين خاليا االنجاب
او االخصاب Gametsويبدو ان الكروموسومات التتطابق تماما من حيث شكلها
وتركيبها مع الوحدات الوراثية التي افترضتها منديل .اذ ال يوجد منها العدد الكافي
في الكائن الحي لتفسير التنوع الواسع المعروف للعوامل الوراثية .كما يدرك الباحثون
ان المورثات الفردية في أي كائن حي تنتقل في مجموعات أثناء عملية االخصاب،
أو التكاثر .ويعتقد على العموم ان عدد هذه المجموعات للمورثات يساوي عدد أزواج
الكروسومات .وتترتب كل مجموعة من الموروثات المتحدة في الكروسوم الواحد
بصورة مستقلة عن مجموعات الموروثات الموجودة في الكروسومات االخرى .وكما
هو واضح ،تكون الموروثات مرتبة في هيئة مسلسل مستقيم مكون من حبيبات
متصلة ببعضها على طول عصية الكروموسوم .واالرتباط الجيني هذا يعني اقتران
مورث او اكثر في عملية الوراثية .على ان هذا ال يعني ان السمات المتعددة التي
تحددها المورثات يمكن ان تظهر مقترنة مه بعضها في كل فرد في سكان المجتمع.
273
فلو كان مورث فصيلة الدم ( )Aومورث لون العين االزرق موجودين في نفس
الكروموسوم فليس من الضروري االفتراض دائما بان نسبة كبيرة من الناس ستحمل
صفة زرقة العيون وفصيلة الدم ( .)Aاذ ان الصلة بين السمات المورفولوجية الظاهرة
والكيمياوية في االفراد ال تبرهن على الترابط بين المورثات المسؤولة عن تلك السمات
الن هذا الترابط ال يسهل تشخيصه بالنظرة السطحية للسمات الظاهرة.
الكروموسومات:
274
االطفال .ورغم التوصل لهذا الحقيقة الوراثية فان الكثيرين من الناس ال يزالون
يرفضون االعتقاد بان المورثات يمكن ان تسبب مثل هذه المشكالت.
بعد ان عرفنا ان المورث الواحد يمكن ان يحدث تأثيرات مختلفة في الكائن الحي
فانه ينبغي ان نفكر برأي مؤداه ان المظهر الوراثي الواحد او المتشابه يمكن ان ينتج
من خليط غير متجانس للمورثات .فالمورثات التي تولد نقص اللون في فرو وعيون
بعض الكائنات الشهباء (البهقاء) Albinismقد تكون متراجعة ،وقد تكون في
وضعية مضاعفية التأثير لكي تحقق هذا التأثير .وقد تكون المورثات المكررة موجودة
في كروموسومات مختلفة .ومع ذلك فهي تنتج سمات متشابهة.
275
بشكل كامل .أما (التركيب الوراثي الخارجي) Phenotypeفيخضع جزئيا
للمورثات .ويخضع أيضا إلى عوامل البيئة الخارجية .
أن إيراد األمثلة على أثر فعاليات المورثات في اإلنسان هو أصعب من
التحدث عن نفس الموضوع بالنسبة للكائنات الحية األخرى .ألن المعلومات المتوفرة
عن التركيب الوراثي البشري هي قليلة نسبيا .ومع ذلك يتفق الكثيرون من
المتخصصين بميدان المورثات أن نفس نسبة عرض الرأس إلى طوله هي حصيلة
تركيبات عظيمة مختلفة يرتبط كل منها بساللة معينة .ويمكن القول أن المبادئ
األساسية التي نوقشت سابقا في بعض الكائنات العضوية كحشرة (دروسوفيال)
Drosophilaتنطبق بصورة مثيرة على األحياء كافة .ومع ذلك فالمعلومات المتوفرة
تتعلق ببعض الحاالت المحددة التي تعرضت لبحوث مركزة ،وفي مقدمتها الدراسات
التي أجريت حول الحشرة المذكورة أعاله .أن الكثير من المورثات التي درست في
حشرة دروسوفيال تنتج آثا ار قليلة األهمية نسبيا .وعلى ضوء هذه اآلثار صار
المهتمون بالمورثات من علماء األحياء يتصدون للنظرية الوراثية (الجينية)
Genetic Theoryالطفرات الجديدة المتراجعة التي تحصل باستمرار ،ويعتقد أن
عدد المورثات الموجودة في هذه الحشرة هو أكثر بكثير من هذا العدد وأن الزيادة في
العدد لم يمكن رؤيتها بالمجهر .ويتفق عدد من الباحثين المختصين وفي مقدمتهم
مولر Mullerوبروكوفيفا Prokofyevaوكاي Gayعلى أن عدد المورثات في
هذه الحشرة يتراوح بين الحد األدنى البالغ حوالي ( )2111والحد األعلى المقارب
لعدد ( )04،111أما حجم المورث فيقارب عشرة جزيئات بروتين ذات حجم طبيعي
.ويعتقد أن عدد المورثات في اإلنسان هو خمسة أضعاف عددها في حشرة
الدروسوفيال .أما حجم المورثات فهو نفسه على األكثر ويقارب حجم الفايروسات .
276
ميكانيكية عمليات المورثات :
277
تمت دراستها بعمق لوحظ مثال أنه في وراثة لون األزهارىيكون للمورثات المتغلبة التي
تسبب بعض التغيير في مادة اللون أنها تضيف بتأثيرها هذه أشياء محددة لعناصر
اللون .وبعبارة أخرى أن المورثات المتغلبة هنا تضيف سمات جديدة بدال من
تغطيتها بعض اآلثار التي تنتج عن المورثات المتراجعة .ومع استمرار واستقرار
المورثات فقد وجد عن طريق البحوث المختبرية الطويلة والمعقدة لماليين من
الكائنات الحية أن بعض المورثات تتغير أحيانا .أن هذه التغييرات وغيرها من
التبدالت المفاجئة في الميكانيزمات الوراثية تسمى بالطفرات الوراثية Genetic
Mutationوسنبحث هنا طفرات المورثات حيث أن بعض المورثات تكون أكثر
تعرضا للطفرة من غيرها .وتكون الطفرة الجديدة متراجعة بالنسبة للجين الموجود في
نفس الموقع .أو بالنسبة للجين غير المتبدل .أما سبب كون الطفرات متراجعة أمام
الجينات التي تحتل الموقع التقريبي فيتصل بقانون االنتقاء الطبيعي .ومعروف أن
حجم الموروثات يصعب تحديده بالنظر إلى ضالتها المجهرية .ومع ذلك فتخمين
حجم وعدد الموروثات يعتبر شيئا يتطلب تحديدا .ففي كروموسومات ذباب األثمار
االعتيادي المسمى (دروسوفيال) أمكن تشخيص أكثر من 411موقع طفرة إضافة
إلى المورثات (الجينات) الكروموسومات .
استقرار المورثات:
قد تتعرض المورثات لبعض التغيير ويطلق على هذا الذي يحصل في
المورث بالطفرات . Mutationولكن وفي الظروف االعتيادية تتسم المورثات
278
باالستقرار لفترات طويلة جدا .وتنتقل في أشكالها الثابتة جيال بعد جيل ألزمنة بالغة
الطول .والمعروف أنه حتى المورثات المتراجعة على الرغم من عدم ظهورها في
السمات الخارجية في معظم األحوال إال أنها تحتفظ بوجودها في األفراد المتصفين
بالوراثة الهجينة التي تضم هذه الجينات المتراجعة إلى جانب الجينات األخرى
المتغلبة .وقد أجرى العالم ريموند بيرل Raymond Pearlتجربة على ذباب
األثمار المسمى (دروسوفيال) Drosophilaلفترة غطت 811جيال .وقد رتب
تجربته بأسلوب من شأنه أن يكشف عما يحصل من تبدل في المورثات الخاصة
بهذه الحشرة .ولو ترجمنا تجربة هذا العالم في صيغة بحث مماثل يجري على البشر
فأن التجربة تتطلب فترة من الزمن تبدأ قبل العصر البرونزي في التاريخ القديم أي
حوالي 7111سنة قبل الميالد وتستمر حتى الوقت الحاضر .وقد الحظ هذا العالم
أن مورثات هذه الحشرة عبر األجيال الثالثمائة المتعاقبة لم تتغير في أية مرحلة من
مراحل التجربة .النتيجة أن نسبة نصف منها تنتج طيو ار سوداء ( )Bوالنصف
الباقي طيو ار بيضاء ( . )bوتكون عندنا في النهاية نسبة )BB( %25طيور سوداء
و )Bb( %51طيور زرقاء و )bb( %25طيور بيضاء من كل مائة حالة تلقيح .
أي 0/4سوداء 0/2 ،بيضاء .
أن أهم الدروس التي تستخلص من بحوث العالم (مندل) تتخلص فيما يأتي:
أننا ينبغي إال نختار سمات محددة لبعض الكائنات الحية ونعتمد عليها بصورة
اعتباطية في طرح الفرضيات عن العمليات الوراثية التي تؤدي إلى انتقالها عبر
األجيال .فال بد للباحث المهتم بالوراثة أن يختار السمات التي يسهل تعيينها والتفريق
بينها وأن يعتمد على البحث الميداني الموضوعي ال التخمين في استنتاجاته عن
كيفية انتقال السمات الوراثية إلى الكائنات الحية .وقد كشفت البحوث المتأخرة عن
أن اختالفات كبيرة قد تظهر منها على سبيل المثال غياب األيادي أو األقدام في
الكائنات الحية والذي قد يتسبب من بعض السمات الوراثية .وهكذا لم يعد مقبوال في
مجال البحث العلمي للوراثة أن نكتفي بدراسة صفتين وراثيتين مختلفتين في أجيال
279
الكائن الحي سواء كانت موجودة في واقع الحياة أو في المتحجرات العظيمة أو
النباتية ،وأن نربط هذا الفرق بعامل وراثي معين .فهناك مشكالت متعددة ومعقدة
في علم الوراثة ال تعتمد على التأمل والتخمين بل تتطلب استثمار البحث العلمي
الموضوعي المتجرد لبلوغ نتائج أخرى غير النتائج المحددة والتي تم ذكرها.
صعوبات تذكر .وقد أنتبه منديل إلى وجود المورثات من تجاربه على
النباتات كألوان األزهار التي ظهرت في األجيال الناتجة عن تالقحها مع بعضها .وال
شك أن األسلوب الذي تبناه منديل يمكن تطبيقه على النباتات والحيوان بدرجة
متساوية .ومن جملة ما الحظه في تجاربه الكثيرة عن األزهار أن األزهار البيضاء
واألزهار البنفسجية التي تم تلقيحها ببعضها تؤدي إلى نتائج تتضمن أزها ار بنفسجية
فقط في جيلها األول .وعندما يتم تالقح بذور هذا الجيل مع بعضها فأن النتائج تكون
أزها ار بنفسجية بنسبة 8/4و 0/4تكون أزها ار بيضاء .وذلك ألن اللون البنفسجي
متغلب بينما األبيض متراجع .وعندما يتم تلقيح هذين النوعين من الخاليا الجرثومية
فأن النتائج المركبة تتضمن اتحاد البنفسجي بالبنفسجي .والبنفسجي واألبيض ،
واألبيض بالبنفسجي ،واألبيض باألبيض .وتكون األصناف الثالثة األولى ذات لون
بنفسجي هذا يمثل 8/4من المجموع الكلي لنتائج التالقح التجريبي .ويكون 0/4
النتائج بنفسجيا خالصا مشابها ألحد األبوين و 0/2النسبة يشبه األبوين من ناحية
التركيب الوراثي المزدوج أي (بنفسجي هجين) و 0/4النسبة يكون أبيضا خالصا .
وهكذا فالنسبة المذكورة ( )0/4 : 0/2 : 0/4تمثل حقيقة علمية ثابتة في
وراثة جميع الكائنات الحية .وتظهر هذه النسب بشكل ملحوظ في تكاثر الطيور
االندلسية الزرقاء حيث تكون نتائج هذا التكاثر هي أن ربع الطيور ( )0/4تكون
سوداء ونصفها ( )0/2زرقاء وربعها ( )0/4تكون بيضاء .ويستنتج من هذه التجربة
أن اللون األزرق هجين أو غير خالص وراثيا ،وهو صنف تنتقل منه سمتان لونيتان
هما األسود واألبيض .ويتحقق هذا االستنتاج عند تزاوج الطيور البيض والسود حيث
281
يكون الصغار الناتجون عنه طيو ار زرقاء هجينة فقط .ويمكن االفتراض بالنسبة لهذه
التجربة أن الطيور الزرقاء عندما تتزاوج تكون.
وقد استعمل مندل الحرف الكبير كما في Aفي اإلشارة للصفات المتغلبة
والحرف الصغير كما في ( )aفي اإلشارة إلى الصفات المتراجعة وأستمر الباحثون
المحدثون في استثمار األسلوب نفسه .ولكن عندما لوحظ أن في بعض الحاالت
أكثر من مورثين يمكن أن تحصل في الكروموسوم Chromosomeفأن االعتماد
على هذا النمط من الرموز لم يعد ممكنا بصورة مطلقة .
أن جوهر قوانين مندل يمكن في تشخيص وحدات الوراثة .هذه الوحدات أو
الكيانات Entitiesالتي تسمى المورثات Genesتمثل أدنى الوحدات الحيوية التي
اكتشفت بجهد هذا العالم الكبير وهي من حيث أهمية اكتشافها تشبه الذرات
والجزيئات التي اكتشفت في عالم الفيزياء والتي أسهمت في تعميق فهمنا للعالم
الفيزياوي غير الحيوي Non-Livingوال شك أن اكتشاف مندل للمورثات قد أحدث
تأثي ار هائال في علم البايولوجي (األحياء) يقارب في عمقه أثر النظرية الذرية في علم
الفيزياء .أما فهم هذه الوحدات (المورثات) والتي ال يمكن رؤيتها والبرهنة على
وجودها رغم ذلك فقد تم على يد هذا العالم من خالل التجارب الحقلية الدقيقة
الناجحة التي أجراها وبرهن بها على كل هذه الحقائق .وقد كان أسلوب منديل
بسيطا يسهل على كل باحث ـ مهما كان مستوى تحصيله العلمي ـ أن يجريه بنفسه
ويالحظ نتائجه دونما .
281
المجموعة يمكن تفريقها عن بعضها .والتزاوج غير المتجانس بين أعضاء الجيل
األول واألعضاء الذين يحملون الصفات المتراجعة .وقد استعمل منديل رمو از محددة
للتعبير عن هذه السمات .فالحرف Aفي تجربته يعبر عن صفة الكروية المتغلبة .
والحرف aعن صفى التجعد المتراجعة .والحرف Bعن صفة اللون األصفر
المتغلبة و bعن صفة اللون األخضر المتراجعة .ويؤدي استعمال هذه الرموز إلى
قاعدة تتشكل كاآلتي Aa Bb :وتكون البازاليا ذات الصفات المتراجعة (مجعدة
خضراء) حاملة للرموز aabbوهذه تنتج نوعا واحدا من المورثات في بذورها وهو
abأما البذور الهجينة التي تتضمن الصفات المتباينة فتنتج أربع أصناف بأعداد
متساوية وهي ( )ABو ( )Ab) (aBو ( . )abوقد تأيد هذا التقسيم في التجارب
العلمية التي أجراها مندل .
فإذا أتبعنا الخطوط المنطقية التي يسير عليها انتقال السمات أعاله بين األصناف
المتباينة أصبح من السهل علينا أن نتوقع النتائج مسبقا والتي تنتج من نوع الخاليا
الجرثومية Gametesالتي تستعمل في التخصيب .
وبالنظر ألي أن حبات الطلع (اللقاح) يمكن أن تدخل ألي أي مبيض فأن األصناف
األربعة المختلفة تكون كلها متوقعة في الناتج من هذا اللقاح .
الدليل القاطع على خضوع كل خصائص الكائن إلى اإليجابية والسلبية للعوامل
الوراثية .فبعض هذه الخصائص يتصل بامتالك الكائن للرئتين والعينين والدم وغير
ذلك من الخصائص المركزية البالغة األهمية للحياة .وأن أي تغيير سلبي في
المورثات المسئولة عن هذه األعضاء أو الخصائص قد يعرقل نموها وربما يؤدي إلى
أتالفها .ومع ذلك فليس معروفا ما هي طبيعة المورثات الضارة أو المميتة .ويبدوا
أن الجينات المؤذية غالبا ما تكون متراجعة Recessiveوليست متغلبة
Dominantوعندما تكون هناك عدة مورثات مسئولة عن صفة بايولوجية معينة كما
في لون البشرة فأن الوراثة تبدو كما لو كانت حصيلة االختالط أو االمتزاج بين
282
المورثات .غير أن تحليل هذا الصنف من السمات أو الصفات ينطوي على بعض
الصعوبات .ومع ذلك فقد استطاع العالم (مندل) Mendelأن يختار أنواعا من
السمات التي تختلف عن بعضها جزئيا من الناحية الوراثية والظاهرية وبهذا استطاع
استخالص الجينات الوراثية الوالدية من أجيال النباتات أو الكائنات الحيوانية من
عمليات التزاوج التي أجراها تجريبيا كما سنالحظ في الفصول القادمة .فقد أتضح
من هذه التجارب أن جميع السمات التي تظهر في األفراد تتصل بجينات محدودة
وأن وراثة هذه السمات تتم بصورة مستقلة مرتبطة بكل جين على حده .وهذا يحصل
في أجيال األفراد الذين ينتجون من زيجات أفراد يختلفون سالليا .ورغم أن الصفات
البايولوجية تبدو مختلطة في األجيال الهجينة الناتجة من زيجات مختلفة سالليا إال
أن هذا المظهر يبدو هكذا على السطح غير أن حقيقة األمر بالنسبة للمختصين هي
أن العناصر الوراثية تبقى على حالتها وال تتبدل ،وأن طبيعتها غير المتبدلة تظهر
في الجيل الالحق للجيل األول الناتج من هذا التزاوج الهجين كما أتضح في تجارب
مندل الوراثية .
في بداية عصر الباليستوسين عاش القرد البشري الجنوبي بنوعية النحيف
والضخم في جنوب وشرق القارة األفريقية وفي عصر الباليستوسين المتوسط انتشر
اإلنسان القرد المنتصب القامة في الشرق األقصى وشمال أفريقيا وأوربا وال توجد لدينا
معلومات دقيقة عن اختالط أفراد هذين النوعين البائدين .وفي بداية عصر
الباليستوسين األعلى أحتلت سالالت نياندرتال أجزاء من أوربا وشمال أفريقيا وغرب
ووسط آسيا .وفي فترة متأخرة من نفس العصر عاش إنسان صولو في جاوة ويبدو
أن نوعا من االختالط قد حدث بين اإلنسان القرد المنتصب القامة والنياندرتاليين في
صولو فتميز أهل صولو ببروز حجاج العينين .وفي الشرق األوسط حدث اختالط
283
في جبل الكرمل بفلسطين بين النياندرتاليين في موقع الصخول وبين اإلنسان العاقل
ويرجح البعض وجود صفات مشتركة في المجموعة الثانية إلى التزاوج واالختالط .
وفي العصر الحجري المتوسط الذي تلى نهاية العصر الجليدي بلغ التطور
مرحلة متقدمة نتيجة للتغييرات النباتية والحيوانية التي طرأت على األجزاء الشمالية
في العالم القديم وقد صاحب هذا التغييرات اإليكولوجية تكوين سالالت فرعية وقد
حدث هذا نتيجة االختالط واالختيار الطبيعي فساللة البحر المتوسط على سبيل
المثال يمكن تتبع أصولها الرؤوس العريضة في أثناء العصر الحجري المتوسط .
وفي العصر الحجري الحديث انتقل الصيادون إلى الزراعة واالستقرار في
الشرق األوسط بحدود األلف التاسع قبل الميالد .وانتشرت مظاهر الحضارة
الزراعية من هذه المنطقة إلى أوربا وشمال أفريقيا والهند والصين ووصلت إلى كل
هذه المناطق في حوالي األلف الثالث قبل الميالد .وهؤالء الفالحون الذين حملوا
الزراعة إلى المناطق المختلفة في العالم قد اختطفوا بالسكان األصليين وتكيفوا مع
بيئاتهم وكان من نتيجة هذا االختالط أن نشأت مجموعات جديدة.
284
المحاضرة الثالثة والثالثون :العظام في دراسات االنثروبولوجيا الطبيعية:
أن استخراج العظام يكون في العادة مسؤولية عالم اآلثار أو رجل الشرطة .ومع أن
هناك طرقا عديدة ال استخراجها ،إال أنه من األفضل أن تتم بواسطة الباحث األثري
االنثروبولوجي حيث أن المعرفة بالتقنيات المطلوبة في العمليات الحفرية المتوفرة
لديه .والطريقة المثلى تتم أيضا باستدعاء المتخصص في علم البشريات العضوي
لإلشراف على استخراج البقايا العظمية التي يتم الكشف عنها من قبل عالم الحفريات
أو رجل الشرطة .ونقدم هنا وصفا دقيقا ألفضل طرق البحث الحديثة في عمليات
الحفر ،واستخراج العظام وصيانتها ودراستها كأداة قيمه في األبحاث الطبية واألثرية
والشرعية.
من أهم قواعد الحفر أن ال يسمح بأي عطب أن يحدث للعظام بجانب ذلك الذي
حدث من الدفن ،فيجب استخراج العظام كاملة بقدر اإلمكان ألن العظم المفقود في
بعض األحيان يكون هو الجزء الذي ربما يحتاج إليه الباحث ويعتمد عليه في
اإلجابة على أسئلة دقيقه في التعرف على الجنس والعمر والساللة وسبب الوفاة .واذا
الحظ الباحث أن هناك بعض العظام ،وخاصة الصغيرة منها ،مفقودة ،فيتوجب علية
العودة والبحث من جديد في الموقع عن هذه البقايا التي غالبا ما تكون كسرات
عظمية صغيرة ،كعظام األصابع والقدم أو األسنان.
واذا كانت عملية الحفر هي مسؤوليتك فعليك أن تقوم بعمل خارطة تبين مكان
الموقع في الزيارة األولى وهذا يسهل عليك العمل في الزيارات الالحقة ولغيرك في
مراحل دراسة مستقبليه .ويجب أن تحتوي الخارطة على مالمح الموقع التي غالبا ما
تكون هي المالمح الدائمة باإلضافة إلى توضيح أهم مكان معروف وقريب من
الموقع األثري .وهذا ينطبق أيضا على التصوير ،فالصور تساعد كثي ار في إعادة
285
رؤية أكثر واقعية للمكان ،كما يتوجب على الباحث أن يقوم بعمل رسومات للقبر وما
بداخله من أدوات وقرابين الخ .وبجانب الهيكل العظمي ،يجب أن يحتفظ الباحث
بمالحظاته حول عمليه الحفر وذلك أما عن طريق جهاز تسجيل وهو األنسب طالما
انه سيقول أشياء لن يدونها أو عن طريق تدوينها في دفتر المالحظات كلما أمكن
ذلك .وعمليه التصوير والرسم يجب أن تتم قبل إزالة أي من العظام أو البقايا األخرى
من مكانها .ويجب مالحظه مكانها واتجاهها وحالتها وكل ما هو مفقود منها .وقبل
أن تبدأ كباحث في إخراج العظام ،نظفها من كل ما يتعلق بها من الرمال أو الطين
أو األوساخ قبل رفها من مكانها األصلي .والعظام تبدو غالبا أكثر صالبة مما هي
عليه في الحقيقة ،فكن حذ ار وال تمسك أي من العظام من وسطها بل التقطها من
طرفيها في وقت واحد وانفضها ببطيء من األتربة العالقة بها وارفعا فقط عندما تتأكد
أنها خالية من كل ما فيها وما جاورها .افرغ الجمجمة من محتوياتها من التراب أو
الطين وأزل واألوساخ من خالل الثقب الكبير أو من خالل أي فتحة أخرى إذا كانت
الجمجمة مكسورة .الحظ أن نقاط التقاء عظام الوجه ووعاء المخ هشة وسريعة
الكسر ومن الصعب أن لم يكن من المستحيل إعادة تركيب أو إيصال هذه العظام
ببعضها البعض .فاألسنان غالبا ما تسقط من الفكين حتى عندما تكون الجمجمة
كاملة لذا يجب البحث عن طريق غربله التربة المحيطة بالقبر والتأكد من العثور
عليها .وحين االنتهاء من رفع العظام واألسنان والبقايا المادية األخرى ،ضعها
منفصلة في أكياس من الورق أو ما شابه بعد تغليفها بالقطن أو بمواد عازلة أخرى
ثم ضع عالمة على كل كيس بين فيها رقم المدفن واسم الموقع قبل نقلها إلى
المختبر .وال تخلط العظام مع بعضها ألن احتكاكها ربما يعمل على فقدان بعض
المعلومات الموجودة على السطح ،وخذ عينة من التراب من داخل العظام وأخرى من
التربة البعيدة عن العظام من نفس الحفرة وذلك لتحليلها كيماويا بواسطة خبير التربة
وعالم البشريات العضوي ،فكثي ار تحتوي هذه التربة على البذور أو حبوب اللقاح أو
286
عظام الحيوانات الصغيرة التي توفر معلومات هامة عن نوعيات الطعام التي كانت
متوفرة لمن عاشوا في هذا الموقع.
في المختبر ،أفتح األكياس التي فيها العظام بعناية ،واذا كان هناك تراب أو طين
عالق بالعظام من الداخل أو الخارج نظفه بالفرشاة أو بأداة أخرى ،وان لم يكن
باإلمكان ذلك أغسلها بماء فاتر ببطء .أفعل ذلك في وعاء للغسيل (طشت) وليس
في حوض الغسيل ألن هذا يمنع فقدان األسنان أو شظايا العظام المكسرة أو
الرصاص أو أية بقايا صغيره أخرى .أترك العظام تجف في الهواء الطلق وفي مكان
ظليل لتجنب تقشف وتهشم العظام وبعد أن تجف العظام في زمن يتراوح مابين ما
بين 24إلى 43ساعة يصبح باإلمكان حينئذ إنجاز عملية الترميم ولمعالجة العظام
وصيانتها يمكن استخدام رغوه األكريلك أو أي مادة أخرى تتحلل في محلول
األستيون .ضع العظام في المحلول واتركها حتى تتوقف الفقاعات عن الظهور فوق
سطح المحلول ،أسحب العظام من داخل المحلول بواسطة مالقط واسمح للمحلول
بالخروج إلى أن يتوقف التقطير ثم ضع العظام على شبك حديدي حتى تجف في
فتره تترواح مابين 3إلى 24ساعة .يجب أن تكون العظام جافة تماما حتى يتسنى
تخزينها وترميمها للدراسة.
.8الترميم : preservation
بالنسبة لعملية الترميم فهذا يعتمد أوال على مقدار العطب الذي أصاب العظام قبل
وبعد استخراجها ،فكلما قلت كمية العطب (الكسور ،وتهشم العظام) كلما كانت عملية
الترميم اقل صعوبة ،واقل استهالكا للوقت واذا كانت الكسور من النوع العام (الشائع)
كالكسور في العمود الفقري أو العظام الطويلة بدون فقدان شظايا تكون عملية الترميم
بسيطة .أما إذا كانت العظام مهشمة وخاصة عظام الجمجمة فان عملية الترميم
تكون صعبة وتحتاج إلى الصبر والبراعة وخبرات دقيقة .وكما ذكرنا سابقا يجب
287
استعمال نوع الغراء الذي يتحلل في االسيتون الن هذا يسمح بمعالجة األخطاء ،وال
تستخدم قاعدة اسمنتية حيث انه ال يمكن فكها عندما تجف وأفضل الطرق هو
استخدام صندوق من رمل ناعم حيث توضع العظام ريثما يجف الصمغ .إن إلمام
الباحث بتعلم تشريح العظام يكون بالغ األهمية بالنسبة إلعادة تركيب العظام وهي
عملية أشبه ما تكون بحل لغز .وانسب الطرق تتم في العادة بوضع العظام مثل
عظام الجمجمة ،العظام الطويلة .العظام الصغيرة وعظام الحوض على سطح طاولة
.تؤخذ مجموعة من العظام المتشابهة من الناحية التشريحية لتركيبها مع بعضها
البعض ،وقد تكون هناك بعض الشظايا المفقودة أو الكسر الصغيرة وهنا يجب أن ال
يحاول خبير المختبر إعادة الترميم عن طريق تركيبها بالقوة.
عندما تكون هناك مشكلة قضائية بالنسبة للبقايا العظمية التي يراد فحصها كجريمة
قتل على سبيل المثال ،فهناك طريق معينة يجب أتباعها حتى يتوصل الخبير إلى
حل المشكلة .وتذكر أن هذه مسألة قانونية ،ويتوجب عليك أن تكون متأكدا من كل
ما تدونه من معلومات وأن تكون معلوماتك موثقة بدالئل مؤكدة .وعليك أن تكون
دقيقا في إجاباتك وخاصة حينما يترتب على شهادتك إدانة أو براءة متهم وتتخذ
كمستند أو وثيقة رسمية حول البقايا كما استلمتها وأثناء فحصك لها ،مما يجب معه
أن يسترعي انتباهك أي شي غير عادي في أي جزء من الهيكل العظمي فربما
تحتاج إلى هذه المعلومات حين اإلدالء بشهادتك .وللبقايا النسيجية إذا كانت ما تزال
محفوظة مع البقايا العظمية أهمية متميزة وخاصة في التعرف على الساللة التي
ينتمي إليها المتوفى .ففي حالة تحلل الجلد يتحول لونه إلى البني الداكن أو األسود
في من ينتمي للساللة القوقازية ،بينما يتحول الجلد الزنجي إلى اللون الرمادي.
ويعتقد كير لي ( )0178أن تغير لون الجلد يعتمد على كمية الماليين الموجودة
تحت طبقات الجلد هذا باإلضافة إلى شعر الذي له مميزات معروفة في تحديد هوية
288
المتوفى .وبعد أن تتم عملية تدوين البيانات المستخلصة من البقايا المتوفرة يجب
إزالة ما تبقى من اللحم المعطوب من على العظام ،وتأكد انك تحمل تصريحا من
السلطات المتخصصة قبل القيام بهذه الخطوة .وتتم إزالة األنسجة اللحمية أما عن
طريق الغلي بإضافة محاليل أو مواد كيماوية .وبعد سلخ الجزء األكبر من النسيج
الناعم الذي يحيط بالعظام ضع البقايا في وعاء يحتوي على مادة
األنتيفورمين Antiforminبقدر يكفي لتغطيتها .بالنسبة إلى الخليط استخدم جزءا
واحدا من االنتيفورمين إلى 01-3أجزاء من الماء وسخن المزيج إلى درجة ما قبل
الغليان واحتفظ بدرجة الح اررة من 81إلى 61دقيقة وذلك يعتمد على مقدار السرعة
التي تمت تعرية العظام بها .وقد يكون ضروريا في بعض الحاالت تكرار عملية
الغلي والتنظيف (الحث) مرات عديدة ،واذا تركت العظام في الماء لمدة طويلة فان
المحلول سيبدأ بمهاجمة العظام نفسها .وبعد إخراج العظام نهائيا من المحلول،
اغسلها بماء جاري واتركها تجف .بعد ذلك ضع العظام في محلول البنزول (بنزين
غير نقي) لمده 24إلى 43ساعة ال بعاد الرائحة .ثم اتركها في محلول
بنسبة.%81 Hydrogen pyroxideاو (koh ) potassium Hydroxide
أن عملية التبيض بطئية وربما تستغرق أكثر من 24ساعة .وفي هذا الشأن يقول
سنايدر ومساعدوه ( )snyder et 0175أنه من الممكن تصفية مادة االنتيفورمين
واعادة استخدامها مرات متكررة خاصة إذا تمت خاصة إذا تمت إضافة القليل من
االنتفورمين الجديد بين الحين واألخر .وبالنسبة لمحلول البيروكسايد فمن الممكن
إعادة استخدامه ،ولكنة يعمل ببطء في هذه الحالة .ويذكر سنايدر ومساعدوه طريقة
أخرى لتنظيف العظام إذا كان هناك متسعا من الوقت .ويتم ذلك بوضع البقايا في
محلول االنتيفورمين لمدة أربعة أيام وهذا يقلل من وقت الغليان إلى حوالي خمس
دقائق الن تكرار الغليان ،كما تبين لهؤالء الباحثين ،قد يتسبب في تشقق العظام.
ولهذا فان هذه الطريقة مرغوبة وخاصة في حالة تنظيف العظام الرقيقة كعظام
الجمجمة أو عظام الكتف .أما بالنسبة لنزع النسيج الغضروفي الملتصق بالفقرات
289
العظمية ،انقع العمود الفقري في طشت وأضف إليها محلول trichioroethane
لمدة يومين أو ثالثة اغسل البقايا بماء عادي ،ثم ضعها مرة أخرى في
محلول Hydrogen pyroxideلمدة يومين أو ثالثة آخر وستكون هذه المفاصل
حينئذ سهلة التحرك بال أية معالجة إضافية.
لقد صمم هذا الفصل ليوفر للطالب خطوطا إيضاحية لبناء ما يمكن توفيره من
معلومات بالنسبة للهيكل العظمي للمتوفى متضمنة العمر والساللة الجنس والطول.
وهذا بال شك ليس كل ما يمكن الحصول عليه من معلومات من الهيكل العظمي
ولكن هو ما يمكن تعلمه .واضافة إلى هذه المعلومات فالخيال يتوقف على الفضول
والخبرة لدى الباحث وحالة وتكامل الهيكل العظمي المتعامل معه .ويفترض بعض
التكنيكيين وجود هيكال عظمي متكامال للطريقة المستخدمة أو على األقل أن تكون
معظم أجزاء الهيكل العظمي في حالة جيدة .ولما كانت الهياكل العظمية التي يعثر
عليها ال يمكن دائما أن توفر المعلومات المطلوبة لذا يجوز استخدام وسائل بديلة
وبذلك يمكن الحول عل التقييم المطلوب .وأولويات التقييم كاألتي :العمر والساللة
والجنس والطول .ويجب أتباع هذا الترتيب حيث إن كل موضوع يتأثر بالموضوع
السابق له .فالهيكل العظمي لمخلوق معين يمكن يمـكن أن يتغير بفعل بعض
المؤثرات بحيث يشبه مخلوقا من ساللة وجنس آخر والقامة تقصر كلما تقدم اإلنسان
بالعمر .والعمر والساللة يمكن أن يؤث ار في تغيير الجنس .فالموضوعات الثالثة
األولى يجب أن تعرف بالترتيب لكي تتوفر الجداول الصحيحة لتقدير الطول ومعرفة
الحكم الصحيح بالنسبة للسن .وباستخدام الوسائل المشروحة هنا يمكن للباحث أن
يقيم السن والجنس والطول في أي هيكل عظمي بدرجة كاملة وال يوجد بديل بالنسبة
للخبرة .فهذا ليس بكتاب للطبخ لالستعمال بدون أي مجال لإلبداع فمعظم هذه
الوسائل تحتاج إلى التعديل في بعض األحيان والكثير منها يرتقي إلى فن يمكن أن
291
يتحقق بفحص الكثير من الهياكل العظمية .في معظم الحاالت ،يكون تقدير العمر
من الهيكل العظمي لإلنسان تقريبا بنفس درجة صعوبة تقدير العمر من المالمح
الخارجية لإلنسان الحي وتتناقص الدقة والتأكد كلما تقدم عمر الشخص سواء أكان
حيا ام ميتا .وكما هو الحال مع الجسم الحي ،فإن مختلف أجزاء الهيكل العظمي
توفر معلومات متميزة في األعمار المختلفة من حياة المتوفى .ولتعزيز حيرة عالم
اإلنسانيات فإنه من الضروري أن يقدر أوال العمر التقريبي للشخص ووقت الوفاة لكي
يتم استخدام انسب جزء من الهيكل العظمي في التقدير التفصيلي للعمر .ولحسن
الحظ ،فأن هذا ليس صعبا كما يبدو في الظاهر نظ ار ألن المعايير التي تشكل
المعالم الرئيسة لمختلف فئات العمر تكون في العادة واضحة تماما للمالحظ الذي
اعتاد على الطرق المستخدمة في تقدير العمر .وسيكون التصنيف التالي والذي يقوم
على أساس األساليب المتوفرة لتقدير العمر في مختلف فئاته شديد الفائدة لعالم
البشريات الطبيعية الذي يتعامل مع العظام البشرية.
إن فترة ما قبل ظهور األسنان للبنية تترافق مع تواجد عظام صغيرة جدا ونقص
اندماج كثير من أجزاء الهيكل العظمي مثل األقواس العصبية للفقرات وأجزاء من
الحوض ونصفي العظمة الجبهية وأطراف العظام الطويلة ...الخ وتكون تجاويف
األسنان التي لم تتكون بعد ظاهرة في الفكين ومن الصعب جدا تقدير العمر بدقة
كبيرة في مثل هذا الهيكل العظمي لحديث السن .ولكن يمكن استخدام طول القامة
التي نحصل عليها بطريقة أوليفر وبنوي والتي سنقدمها في القسم الخاص بالقامة
وذلك لتقدير عمر الطفل حديث الوالدة .ونظ ار الختالف الحجم في أي جنس معين
عن النماذج المعروفة ،فأن هذه الطريقة بناءا على ما ذكره أولفر وبنوي تتحمل
الخطأ بمعدل أربعة او خمسة أسابيع من البداية إلى حوالي عشرة أسابيع قرب
النهاية.
291
الطفولة /مرحلة الصبا المبكرInfancy/ Early childhood
تستمر معظم معايير عدم نضج الهيكل العظمي المذكورة أعاله خالل الجزء األكبر
من هذه الفترة ،إال أن نصفي العظمة الجبهية يندمجان عادة في هذه الفترة لتكوين
عظمة واحدة إضافة إلى حدوث تغيرات أخرى .ومن العالمات الواضحة لهذه
المجموعة من العمر ظهور األسنان التي تعتبر دليال موثوقا به في تقدير العمر.
وفي القسم الخاص بفترة الصبا المتأخر ،أوردنا موج از بشأن تتابع ظهور األسنان
حيث يساعد ظهور مراكز تكوين العظام في تقدير العمر في كل من مرحلتي الوالدة
الحديثة والصبا المبكر.
5 – 28031شهر
6- 81061شهر
7 – 86052شهر
7 – 40053شهر
3 – 46078شهر
1 – 51012شهر
في هذه الفترة يبدأ ظهور األسنان الدائمة .ومثلما حدث في فترة ظهور األسنان
اللبنية ،فإن تقدير العمر في سنوات الصبا المتأخرة يعتمد على ظهور األسنان
الدائمة ،ويحدث هذا في انتظام تام حيث يمكن تمييز بداية هذه الفترة بظهور أول
292
سن دائم ،رغم أن األسنان ستكون خليطا من األسنان الدائمة واللبنية لبضع سنين
قادمة .والمعايير التي يشيع استعمالها لتقدير عمر األشخاص غير البالغين باستخدام
تكوين األسنان هي على األرجح تلك المعايير التي وضعها شور وماسلر ( schour
.)and massler 0141وال تعتبر هذه المعايير بال عيوب من حيث إنه يوجد
اختالف في توقيت ظهور األسنان ولكن التقديرات تكون في العادة قريبة جدا من
الواقع بالنسبة لمعظم األشخاص .ويمكن الحصول على رسم بياني لهذه المعايير من
جمعية األسنان األمريكية في شيكاغو وهي مفيدة جدا .وفيما يلي تتابع ظهور
األسنان وفقا للتفاصيل على هذه الخارطة.
6شهور( )2±بدء ظهور القواطع الوسطى في الفك العلوي وكل القواطع بالفك
السفلي.
03شه ار ( 8±شهور) ظهور األضراس األولى من الفك العلوي وبدء ظهور األنياب
واألضراس.
سنتان ( 6 ±شهور) اكتمال ما ذكر أعاله باستثناء األضراس التي ال يكتمل ظهورها
بصورة نهائية .ثالث سنوات ( 6±شهور) اكتمال األسنان اللبنية.
6شهور (1 +شهور) بدء ظهور أول ضرس دائم وفي هذه السن يحتفظ بكل
األسنان اللبنية.
293
7سنوات ( 1±شهور) سقوط القواطع اللبنية الوسطى في الفك العلوي وكذلك كل
القواطع في الفك السفلي .بدء ظهور القواطع الدائمة الوسطى في الفك العلوي وكل
القواطع بالفك العلوي بحيث تكون الوسطى في مرحلة ظهور متقدمة على الجانبين.
أستكمال ظهور أول ضرس دائم.
3سنوات ( 1±شهور) بدء ظهور القواطع الجانبية في الفك العلوي وسقوط القواطع
اللبنية الجانبية في الفك العلوي.
1سنوات ( 1±شهور) اكتمال ظهور القواطع الدائمة وفي هذه السن تتكون األسنان
من مجموعة القواطع الدائمة ،واألضراس الدائمة األولى باإلضافة الى األنياب اللبنية
والطواحين واألضراس.
00سنة ( 1±شهور) سقوط بقية األسنان اللبنية ،بدء ظهور األنياب في الفكين
العلوي والسفلي والطواحين األمامية الثانية.
02سنة ( 1±شهور) اكتمال ظهور األسنان الدائمة من الضرس األول إلى منتصف
الفك وبدء ظهور الضرس الثاني.
20سنه (متغيرة تماما) ظهور الضرس الثالث وبذلك تستكمل مجموعة األسنان
الدائمة وفي بعض األشخاص ال تظهر هذه األسنان (ضرس العقل) أبدا.
294
ويشير ماكرن وستيورات ( )0157إلى أن فترة الظهور الرئيسة للضرس الثالث هي
سن السابعة عشرة إلى الثانية والعشرين ،ولكنهما يالحظان أيضا بعض الحاالت عدم
ظهور الضرس الثالث حتى سن الخامسة والثالثين.
وقد الحظ كيرلي ( )kerley 0165،0178أنه يمكن تقدير العمر إلى أقرب
ما يمكن عن طريق فحص بعض سمات األسنان مجهريا إال أنه يحذر بأن أفضل
من يفعل ذلك هو طبيب األسنان الشرعي نظ ار لما يتطلبه من أساليب خاصة.
وتتميز هذه الفترة بتوقف الزيادة في طول غالبية العظام الطويلة لمدة من الزمن،
ويدل عليها اندماج القبة العظمية (الكردوس) للعظمة مع العامود (ساق العظمة)،
وهذا األندماج الذي يطلق عليه (االتحاد الكردوسي) يحدث بشكل منتظم بما يكفي
الستخدامه كمؤشر على العمر .ويلتحم كل كردوس مع ساق العظمة في عمر
معين ،لكن العملية بكاملها ابتداء من أول اتحاد كردوسي إلى آخر اتحاد تستغرق
عدة سنوات تمتد من البلوغ إلى النضوج التام .
يبدأ تقدير العمر خالل هذه الفترة في التحول من تفاصيل النشأة والتكوين إلى
تفاصيل االنحالل واالنتكاس .ففي السابق ،كان التحام الدروز في الجمجمة يستعمل
كمعيار لتقدير عمر البالغين غير أن مشاهدات ماكيرن وستيورات على الموتى من
ضحايا الحرب الكورية أدت إلى نفي أي قيمة لهذه الطريقة .وقد ذكر هذان الباحثان
بأن الشكل غير المنتظم لهذه الدروز ال يدل وال يثبت أن هناك عم ار محددا لقفل هذه
الدروز في حدود األعمار الممثلة ( .) Mckern and stewart 0157ويدل هذا
على أن قفل الدروز في الجمجمة ال يمكن أن يعتمد عليه في معظم الحاالت وحتى
سن الخامسة واألربعين على األقل .ويذكر ماكيرن وستورات أنه يستثنى من ذلك
الدرز القاعدي والذي يربط العظم القذالي بالعظم اإلسفيني والذي يقفل تماما في سن
295
الحادية والعشرين .وقد عرف بأن هذا الدرز يقفل بسرعة وبصورة تامة ،ولكن ال
يوجد حتى اآلن دليل بشأن توقيت محدد لذلك .وهكذا يمكن اعتبار هذا األخير
مؤش ار موثوقا به لبلوغ سن الحادية والعشرين على األقل إذا كان االلتحام قد تم.
وبجانب توقيت ظهور األسنان اللبنية والدائمة ،يعتبر ترتيب اندماج أو التحام أطراف
العظام (الكراديس) من أفضل الطرق لتقدير العمر .
السنة الرابعة -في اإلناث ،اندماج الحدبة الكبرى مع رأس عظم العضد .
السنة الخامسة -في الذكور ،اندماج فروع عظم الورك وعظم العانة .
السنة التاسعة -في الذكور ،اندماج فروع عظم الورك وعظم العانة .
السنة الثالثة عشرة -في اإلناث ،اندماج عظام الحرقفة والورك والعانة في التجويف
الحقي .
السنة الرابعة عشرة – في اإلناث ،اندماج النتوء المرفقي وعظم الكعبرة العلوي ،
ورأس عظم الفخذ وعظم القصبة البعيد وعظم الشظية البعيد.
السنة الخامسة عشرة -في اإلناث ،اندماج النتوء األوسط وعظم القصبة
القريب.
السنة السادسة عشرة -في الذكور ،اندماج الكردوس المشترك السفلي لعظم العضد
والنتوء األوسط والنتوء المرفقي ورأس عظام الكعبرة .
السنة السابعة عشرة – في كال الجنسين ،اندماج قمة لوح الكتف .
296
في اإلناث ،اندماج الكردوس المشترك لعظم العضد وعظمة الساعد البعيدة ،
وعظمة الفخذ البعيدة وعظمة الشظية القريبة .
في الذكور ،اندماج رأس عظم الفخذ ورضفه الركبة األكبر وعظم القصبة وعظم
الشظية البعيدة .
السنة التاسعة عشرة – في الذكور ،اندماج الكردوس المشترك العلوي لعظم العضد
وعظم الكعبرة البعيد وعظمة الساق البعيدة وعظمة الفخذ البعيدة ،وعظمة الشظية
القريبة .
وقد تبين أنه بدال من التركيز على أجزاء الهيكل العظمى كاملة،يمكن للباحث
استنباط تقديرات للعمر موثوق بها وبشكل أفضل من النشاط النضوجي المشترك في
عدد قليل من مناطق النمو الهامه .وبمعنى آخر فإن عمر هيكل عظمي معين يمكن
التنبؤ به من مجموع نتائج النشاط الكردوسي في المناطق الهامة وأهمها عظام
الحوض .تتكون التحامات عظمة العانة من التقاء العظام (غير المسماه) اليمنى
واليسرى عند خط الوسط من األمام .وقد ثبت أن هذه المنطقة هي األفضل في حالة
تقدير عمر الشباب البالغ بعد أن يكتمل قفل الكراديس (أطراف العظام) المختلفة
وحتى عمر ما يقارب الخامسة واألربعين عاما .ويتم تقدير العمر بالمقارنة بين
297
واجهة التحام عظمة العانة وبين قوالب قياسية من االلتحامات المعروفة سلفا
بانتمائها ألعمار معينة ،وهذا األسلوب موثوق به بالنسبة للذكور أكثر من اإلناث
نظ ار لقلة التغير المنتظم وزيادة سرعة األنحالل في اإلناث نتيجة لإلصابة في هذه
المنطقة وارتباطها بالحمل والوالدة .وبناءا عليه فإن تقدير العمر الناتج لهذا األسلوب
يكون اقل دقة .أما األسلوب الذي وصفه ماكيرن وستيورات ( )0157فانه يقوم على
أساس فحص الذكور من الشبان األمريكيين الذين تم التعرف عليهم وأعادتهم إلى
موطنهم عقب انتهاء الحرب الكورية .وبسبب تركيب العينة التي جرى فحصها فأن
هذا األسلوب يقتصر استخدامه على الذكور الشبان نسبيا وهي تعتبر بديال لطريقة
تود ( )Todd 0121التي أوضح بروكس Brooks ،أنها تحتوي بعض أوجه النقص
والعيوب المحددة .وقد حدد ماكيرن وستيوارت ( )0157ثالثة أجزاء للفحص في
التحام عظمة العانة كل منها مقسمة إلى خمس مراحل تكوينية.
يعتبر عمر الهيكل العظمي بعد سن الخامسة واألربعين أشد صعوبة لتقديره
بدقة إذ يستمر االتجاه نحو انحالل األسنان والهيكل العظمي الذي كان قد بدأ بالفعل
في فترة البالغ الشاب وان كان يجري بدون انتظام .وفي هذه السن تكون التهابات
المفاصل قد ظهرت بصورة دائمة تقريبا في العمود الفقري ،إال أن شدة هذه
االلتهابات ال تعتبر مؤش ار إلى العمر موثوقا به ألنها تختلف باختالف األشخاص .
وتظهر األسنان عموما بأسطح بالية ومتكاملة رغم أن درجة البلى والتاكل تعتمد على
نوع الغذاء والعادات الشخصية .وقد تكون الطبقة العليا من األسنان فقط مثلمة أو
قد يبلى تاج األسنان ويتاكل حتى خط اللثة .وفي أواسط األربعينات تكون هناك سن
أو أكثر مفقودة من جراء حادث أو مرض رغم أن هذه ايضا يختلف حسب
األشخاص .وقد يحتفظ شخصا أو اخر بمجموعة كاملة من اثنين وثالثين سنا في
سن الستين ،في حين يكون فرد اخر من نفس الجماعة قد فقد كل أسنانه بالكامل
298
في سن األربعين .وهكذا فإنه ال توجد طريقة دقيقة لتحديد العمر عن طريق
المالحظة الشاملة للهيكل العظمي في البالغين األكبر سنا .ويوفر الفحص المجهري
لألجزاء الرقيقة من عظام البالغين التقدير الدقيق للعمر في هذه المجموعة من
البالغين كبار السن .
وتشمل طريقة كيرلي ( ) Kerely 0165لتقدير عمر الهياكل العظمية المسنة أو
الشابة على فحص مقاطع رقيقة من منتصف ساق العظام الطويلة تحت مجهر
منخفض الطاقة وذلك للبحث عن أي تغييرات تركيبية مرتبطة بالعمر في الثلث
الخارجي من النخاع العظمي .ويمكن استخدام هذه التغييرات لتقدير عمر العظمة
حتى سن خمسه وتسعين عاما على االقل بمعدل دقة 01±سنوات – لجميع العينات
و 5±سنوات بنسبة 3708بالمائة من الحاالت التي جرى فحصها .ويالحظ كيرلي
أن معدل الدقة يكون أعلى في العينات األصغر سنا.
يزيد البندان ( )2(،)0مع العمر المتقدم ،ويتناقص البندان ( )4( ، )8مع تقدم
العمر إلى أن يختفيا تماما عن بلوغ سن الخامسة والخمسين .ويمكن االطالع على
خرائط تقدير العمر وعينة نموذج البيانات في المقالة األصلية .
299
أن تضع الهيكل العظمي على الفور في مجموعة عمره المناسبة .فإذا تبين أن
التحام عظمة العانة – وهو مؤشر جيد للعمر على أكبر مدى من سنوات العمر –
كان تالفا او مفقودا ،فإن مناطق الباقية في العظمة غير المسماة ستعطي المالحظ
دليال يهديه إلى مصدر اخر موثوق به للمعلومات عن العمر .مثال إذا أوحت
الحافة الحرقفية بأنها لمراهق ،فإن الدرز القاعدي بالجمجمة وااللتحامات المرفقية
يمكن الرجوع إليها للحصول على مزيد من اإليضاحات واإلثبات المؤيد لذلك .ومن
ناحية اخرى إذا أظهرت الحافة الحرقفية أنها لبالغ شاب التحامات أألكتاف
والرسغين ومفاصل الركبة وكذا الطرف األوسط من الترقوة تساعد كلها على إيجاد
التقدير الصحيح للعمر .
311
المحاضرة الرابعة والثالثون :التعرف على العنصر البشري:
Race Identification
ليس من السهل التعرف على الساللة البشرية من خالل الهيكل العظمي.وذلك لعدم
وجود معيار ساللي محدد في كثير من الحاالت باإلضافة إلى عدم وجود تعريفات
دقيقة لما تعينه الساللة البشرية وكيفية تميزها عن غيرها .فالساللة مثلها مثل العمر
لم يعد باإلمكان التعرف عليها بسهولة كما يتصور البعض .ففي الكثير من الحاالت
التي يكون فيها الفرد خليطا من ساللتين أو أكثر تزداد المشكلة صعوبة ( Gill
. )0176على سبيل المثال ،ومع خيرة الباحث ،من الممكن القول إن شخصا ما
من شمال أوربا أكثر قوقازيا فقط .ولكن هذا القول يكون محفوفا بالمخاطر نظ ار
للتغير الذي عادة ما يط أر على القوقازيين أو اي ساللة أخرى ،وخاصة اختالطهم
بسالالت أخرى ،وخاصة اختالطهم بسالالت بشرية أخرى وعلى ذلك فإن وجه هذا
الشخص طويل جدا ال يمثل جميع األجناس المحلية القوقازية التي تعيش في حوض
البحر األبيض المتوسط.
وفيما يلي خالصة موجزة جدا عن السمات والمميزات التي يفرق على ضوئها بين
الزنوج والقوقازيين والمغوليين إعتمادا على البقايا العظمية.
جبهة مستديرة ((جمجمة أشبه بجماجم األطفال)) و بها القليل من النتوءات .ويميز
جماجم الزنوج عالمات العضالت الخفيفة ولكن أكثر ما يميز الزنوج هو العظم
األفطس للمنخر .فبدال من الحافة الحادة للمنخر كتلك الموجودة عند القوقازيين
والمغوليين ،نجد أن عظم المنخر عند الزنوج دائرية عادية .وفضال عن ذلك نجد أن
القناة أو المجرى غالبا ما تمتد في الجانبين حوالي 5مم داخل المنخر .وأن القناة أو
المنخريه ما تزال ثابتة الظهور في جماجم الزنوج الذين عرف عنهم االختالط
بالقوقازيين أو المغوليين – كما هو الحال بالنسبة للزنوج األمريكيين .وثمة سمة
311
أخرى في جماجم الزنوج الشبيهة بجماجم األطفال وهي بروز الجزء من الفك الذي
تكون جذور األسنان مغروسة فيه ،وقد يوجد مثل هذا البروز كذلك في جماجم بعض
الهنود الحمر ،وان كان ذلك بدرجة أقل مما هي عند الزنوج ،ولكن هذه السمة غير
موجودة عند القوقازيين .ويميل محيط محجر العين عند الزنوج إلى أن يكون مربعا
مع انبساط في عظمة المنخر .ويكون سقف الحلق مربعا تقريبا أو ضيق ومستدق.
وتميل جمجمة الزنوج ألن تكون طويلة أكثر من كونها مستديرة ،وهي ميزة قد
تتعرض للتغير بسبب االختالط باألجناس البشرية األخرى.
القوقازيون caucasions
يتميز الوجه القوقازي بالخط العامودي الحاد في المنبسط السهمي مما يجعل الوجه
أشبه بالبلطة في مشهده الجانبي .وتميل الجمجمة إلى الطول بدال من االستدارة،
ويالحظ انبعاج جذر المنخر جيدا ،كما أن بروز أطراف عظام المنخر من الجانبين
يتالشى تحت بروز مفرق الحاجبين .وهذه ميزة نموذجية في الذكور عند األوربيين
الشماليين وهي أقل ظهو ار في سكان حوض البحر األبيض المتوسط وعند النساء
عموما .وقد تظهر فيه عالمات على مواضع العضالت .ويميل محيط الجمجمة إلى
االستدارة وفتحات المنخر إلى الضيق واالستطالة ويكون سقف الحلق مثلثا ،وتكون
العظام خلف الجمجمة ثقيلة مقارنة باألجناس األخرى.
تكون جمجمة الشخص المغولي في العادة ،ولكن ليس دائما ،مستديرة أكثر من
كونها طويلة ،كما أن بروز الوجنات يجعل الوجه يبدو مفلطحا وعالمات مواضع
العضالت قد تظهر وقد ال تظهر .والسمة المميزة هو شكل األسنان القاطع .فغالبا
ما تكون تلك األسنان وبخاصة األمامية منها أشبه ما تكون بالشبل من حيث الشكل
وقد يظهر في الوجه أحيانا بروز في الفك السفلي ولكن على نحو أقل مما هو عند
312
الزنوج .ومحجب العين مثلث الشكل إلى حد ما .أما قسمات المنخر فتميل إلى
االستدارة ،ويكون سقف الحلق على شكل حدوة الحصان.
أن دراسة السمات السابقة لمختلف األجناس وتفحص عدد من الجماجم من كل
جنس منها هي الطريقة الوحيدة للكشف عن عالمات العنصر الساللي في الجمجمة.
ويحتمل أن ال تكون بعض السمات ظاهرة في جمجمة ما من الجماجم على الرغم
من كون تلك الجمجمة تخص شخصا ينتمي إلى الجنس الذي يتميز بتلك السمات.
وبالمثل فأن بعض السمات األخرى قد تكون مفيدة في التعرف على الجنس غير أن
ذلك يعتمد أوال وأخي ار على خبرة ودراية الباحث الذي يقوم بعملية التعرف التي
يصعب عليك أن تحدد معها ما الذي يجعلك تعتقد أو تجزم بأن هؤالء الناس يبدون
يهودا أو ايطاليين ولهذا فليس من السهل تحديد الجنس لمجرد االطالع على الهيكل
العظمي .وتزداد هذه الصعوبة بالنسبة ألجناس معينة دون غيرها .واالختيار مقدرتك
في التمييز حاول أن تخمن أوضاع أناس معينين ثم اسئلهم عن أصولهم العرقية
وستجد أن تخمينك يخونك في الكثير من الحاالت ،وبخاصة عندما تورط نفسك في
محاولة التمييز بين الفروع المتفرعة عن أصول عرقية واحدة ،مثل الجرمانيين في
أوربا الشمالية وسكان جبال األلب ...الخ
حتى تتمكن من تمييز ما إذا كان الهيكل العظمي ذكر أو أنثى فأنه من المفيد لك
أن تعرف من األجناس انحدر صاحب الهيكل العظمي .إذ أن ثمة فوارق واختالفات
إقليمية وعنصرية في تطور المميزات الجنسية في الهيكل العظمي ()stewart
.ويعتمد التقدير الصحيح للجنس – ذك ار كان أو أنثى – عن العظام المتوفرة
للشخص المراقب أو الباحث ،حيث أن بعض العظام تكشف الكثير عن هذه الناحية
عن ما تكشفه عظام أخرى غيرها من عظام المتوفى .فمثال نجد انه بالنسبة لعظمة
الحوض فأن هناك الكثير من المميزات التي تم توصيفها للكشف عن جنس المتوفى
313
( .)krogmanوهنالك عظام أخرى يمكن أن تساعد على تحديد الجنس بدرجات
متفاوتة .فعظام كعظام الترقوة وعظم العقب والكعبرة والزند قد تكون مفيد في بعض
الحاالت ،وعلى العكس بأن عظام أخرى مثل عظام األصابع وفقرات العمود الفقري
واألضالع ال تمدنا في الغالب بأية معلومات مفيدة لتحديد جنس صاحبها .ومن هنا
فأن القدرات العقلية للشخص الباحث تصبح حاسمة بهذا الصدد ،حيث أنه سيكون قد
كون لنفسه تصو ار خاصا للحجم والمورفولوجيا الذي كان عليه صاحب الهيكل
العظمي ويستطيع من خالل ذلك التفريق بين هيكل األنثى والذكر.
إن عظام األفراد غير البالغين تكون في الغالب عديمة الفائدة لتحديد الجنس ،ذلك
ألن المميزات الجنسية الثانوية ال تبرز في العظام إال تحت تأثير ظهور معالم
األنوثة والذكورة في مرحلة البلوغ ( .)weissفاألطفال دون سن البلوغ ال تظهر
عليهم سوى فوارق قليلة جدا من حيث البنية والشكل الجسماني خارج نطاق األعضاء
التناسلية .وعلى أية حال فقد يصبح القول بأن ثمة مميزات يمكن مالحظتها في تلك
العظام فلقد الحظت )Boucher) ،على سبيل المثال ،بوجود فوارق جنسية في
عظام الحوض عند األطفال الرضع إال أن طريقتها تتطلب أما أن يكون الجسم سليما
وتبنى القياسات والتقديرات على صور األشعة أو على استعمال الهياكل العظمية
شريطة أن يكون عظم الغضروف سليما .وهناك عدد من العظام في الهيكل العظمي
التي تقدم األدلة للمراقب الخبير .واألمثلة على ذلك تشمل غالظه وحجم عظام
الترقوة والقص .ونجد أن كل واحد من الباحثين المراقبين يطور لنفسه المعيار الذي
يراه مالئما لتحديد جنس صاحب الهيكل العظمي.
ترى الغالبية العظمى من الباحثين أن الجزء الذي يعول علية أكثر من غيره في
الهيكل العظمي اإلنساني لمعرفة الجنس هو الحوض وأفضل معيار لتحديد الجنس
هما زاويتان غير مسميتان في كل من الورك ،وتحت العانة .فهاتان الزاويتان تكونان
314
أكثر انفراجا أكثر من ما هما عند الرجل وتقول (قاعدة اإلبهام) لمعرفة الجنس من
هاتين الزاويتين على أن كل منهما تكون في األنثى مساوية تقريبا النفراج الزاوية بين
السبابة واإلبهام عند المباعدة بينهما إلى أقصى درجة في حين أن هاتين الزاويتين
عند الرجل مساوية للزاوية المحصورة بين السبابة واألصبع األوسط واذا كانت هاتان
الزاويتان غير المسميتان موجودتين بالنسبة لشخص ما ،فأنه يمكن استرجاع أو
استعادة زاوية تحت العانة بمطابقة مفصل الوصل العاني ،وعلى كل فإنه غالبا ما ال
يبقى سوى زاوية واحدة من هاتين الزاويتين .وفي هذه الحالة فإن فحص فرع الورك
العاني قد يكون كافيا .ففي المرأة غالبا ما يكون هذا الفرع مقع ار بيمنا يكون عند
الرجل إما مستويا أو محسوبا .ويمكن إعادة تشكيل الزاوية بصورة ذهنية من خالل
مالحظة الزاوية المتكونة من وجه الورك العاني في مقابل الوجه العاني في مقابل
الوجه الداخلي لفرع الورك العاني .
لقد أعطى (باس) قاعدة إبهام مختلفة بالنسبة لزاوية تحت العانة والحظ أنه( :متى ما
وضع إصبع السبابة بشكل عمودي على مفصل الوصل العاني فإن حركة اإلبهام
تكون محدودة إن لم تكن معدومة في حالة الرجل ،ولكن عند المرأة يكون ثمة متسع
لتحريك اإلبهام (. )Bass
حجم منتصف عظم الحوض من نقطة مركز الحدود األمامية للمفصل العاني .0
حتى أقرب طرف وسطي للثقب المسدود – يكون أصغر حجما عن الذكور.
أقل عرض سفلي للحرقفة وهي أقصر مسافة بين نقطة الحق التحتي والحد .2
الخارجي للفرضة الوركية – وهي عند الذكور أعرض.
أقصى قطر عمودي للحق – القطر عند الرجال أكبر . .8
315
الحرف الممتد من الحد الخارجي للسطح األذيني الذي يؤدي مباشرة إلى الحد .4
الخارجي لقمة الفرضة الوركية – اإلناث ليس عندهن مثل هذا الحرف.
الضخامة النسبية للجزء العلوي من المنطقة الوسطى للعانة أو القوس العاني .5
– ويكون عند الرجال أكثر ضخامة .
أن الثلم الواقع أمام أذن عظم الحوض هو عبارة عن أخدود يحدث بشكل محاذي
مباشرة للمفصل العجزي الحرقفي ،على الوجه الخارجي لعظم الحرقفة .وفي دراسة
عن هذا الثلم عرف هوفتون )Houghton( ،شكلين من أشكال هذا الثلم أسماهما
((ثلم الحمل)) وثلم الرباط القوي .على العظم وهذا األخير يحدث في عظم حوض
الذكور واإلناث وان معرفة ما إذا كان الثلم ناتجا عن الحمل فإن ذلك يدل على أن
الهيكل العظمي المرأة .أما إذا كان من النوع األخر فإنه يجب على المراقب البحث
عن أساليب أخرى للتفريق بين هيكل األنثى وهيكل الرجل.
أحد السمات التي يمكن االعتماد عليها لتحديد نوع الجنس ،إذ يتصف الرجال عادة
بوجود حدبتين على عظم الجبهة ،بينما للنساء حدبة واحدة في المنتصف .وهذه سمة
يمكن مالحظتها بسهولة في من حولك من البشر حيث يتضح الفرق بين الرجال
والنساء.
احد العالمات المميزة التي يمكن االعتماد عليها لتحديد نوع الجنس ،إن حافة محجر
العين لدى الرجال تكون مستديرة وغير مستدقة الطرف ،بينما في النساء تكون حافة
محجر العين ذات طرف حاد مستدق وواضح ،ويمكن فحص هذه الخاصية المميزة
بإمرار طرف األصبع على حافة محجر العين داخل الفتحة.
316
رأس زاوية الفك األسفل : Gonial Angle
تشبه رأس زاوية الفك األسفل لدى الرجال الزاوية القائمة ،بينما تكون أشبه بالزاوية
المنفرجة لدى النساء .أي إن الفك األسفل للرجال ذو طرف مميز عنه لدى النساء،
ويمكن تفحص هذه الخاصية بمالحظة رأس زاوية الفك للزمالء معك ،حيث إنها
خاصية وعالمة مميزة يمكن االعتماد عليها.
ينتهي الطرف األسفل للفك عند النساء ببروز واحد فقط ،بينما يتميز ذقن الرجال
بنقطتين بارزتين يربط بينهما خط مستقيم ،مما يشير إلى أن ذقن الرجال تبدو غالبا
مربعة .وهذه عالمة مميزة يمكن االعتماد عليها ومشاهدتها بفحص ذقن الزمالء
لديك.
تعتبر الصفات التي يعتمد عليها لتحديد نوع الجنس ذك ار كان أم أنثى بناء على
العظام التي تقع أسفل الجمجمة نفس التي يتميز بها الكائن الحي .ففي العادة تكون
أطراف الرجال أكثر طوال وصالبة وغالظه منها عن النساء .كما أن األكتاف
أعرض وكذلك األيدي واألقدام أكبر عند الرجال منها عند النساء ،وينطبق ذلك
األمر على بقية عظام هذه األجزاء .وقد تكون هذه المعايير أم ار مؤكدا يعتمد عليه
بالنسبة لألحياء رغم وجود بعض االستثناءات والحاالت الشاذة إذ نجد أن بعض
الرجال لهم أطراف صغيرة ورفيعة بينما هناك نساء لهن أطراف كبيرة وخشنة.
وينطبق ذلك أيضا على العظم .وعالوة على ذلك فإن مدى التداخل وعدم القدرة على
تحديد نوع الجنس يعود إلى الهيكل العظمي ،ولذا نجد بعض النساء لهن أكتاف
عريضة مثل الرجال ،وهو األمر الذي يمثله طول وصالبة الترقوة .كما أن كثي ار من
317
النساء لهن أيدي وأقدام عريضة مثل كثير من الرجال .وهذه حاالت كثيرة ال يستهان
بها ،ومن ثم فإن العظام تعكس هذا الوضع تماما.
وفي مجال تحديد نوع الجنس بناء على العظام األخرى خالف الجمجمة يلجأ الباحث
إلى االعتماد على الصورة الذهنية لديه لما يكون عليه الحجم والشكل العادي للعظام
كل نوع من الجنس ذك ار أم أنثى .ويصبح رأي الباحث المجرب أم ار حيويا في هذا
المجال .
318