You are on page 1of 30

‫نواقض الديمقراطية‬

‫كتبه‪ :‬ثائر سالمة‪ ،‬أبو مالك‪ ،‬كندا‬

‫تعريف الديمقراطية‪:‬‬

‫حين يجري تعريف الديمقراطية‪ 1‬استنادا إلى مدلول اسمها على أنه ديموس كراتيس أي حكم الشعب‬
‫لنفسه‪( ،‬ديموس (الشعب‪ ،‬الناس) كراتيس (الحكم‪ ،‬نظام السلطة) ) فإن هذا يستند إلى ترجمة خاطئة‬
‫للمصطلح‪ ،‬ففي دراسة‪ 2‬ألصل كلمة ديمقراطية في اليونانية القديمة‪ ،‬مقدمة لجامعة ستانفورد‪ ،‬خلص‬
‫الباحث إلى أن معناها الحرفي‪ "Capacity to do things " :‬أي القدرة على القيام باألشياء‪ ،‬وال عالقة لهذا االسم‬
‫في اليونانية القديمة بحكم األكثرية‪ ،‬وال عالقة له بالتصويت واالنتخاب‪ ،‬وال بتداول السلطة‪ ،‬وال بالتعددية‪،‬‬
‫وال بمنع القلة من االستئثار بالحكم‪ ،‬وال بحرية التعبير‪ ،‬وال باملحاسبة وال باملعارضة وال بالشفافية!‪.‬‬
‫أما عن الديمقراطية‪ ,‬الحديثة‪ ،‬فلها أربعة أنواع من التعاريف‪:,‬‬
‫التعاريف األربعة للديمقراطية الحديثة‪:‬‬
‫أوال‪ :‬التعريف‪ z‬الدستوري‪ ،Constitutional3‬ثانيا‪ :‬التعاريف املعيارية الكالسيكية‪ ،‬الجوهرية ‪،Substantive‬‬
‫وثالثا‪ :‬التعريف‪ z‬اإلجرائي ‪ ،Procedural‬ورابعا‪ :‬التعريف املبدئي األيديولوجي ‪.Ideology‬‬
‫التعريف الدستوري‪:‬‬
‫أما التعريف الدستوري ‪ ،‬فهو أن تصرح دولة في دستورها بأنها ديمقراطية! وهو كما ترى معيار فاشل‪ ،‬فما‬
‫أسهل أن تجد هذه الجملة في دستور أشد الدول دكتاتورية‪ ،‬كما ويتم بدراسة القوانين التي يسنها نظام‬
‫الحكم في دستوره‪ ،‬ومن الدراسة العملية يتبين الفرق الشاسع بين الواقع وبين التنظير الدستوري‪ ،‬فدستور‬
‫كازاخستان ديمقراطي بامتياز‪ ،‬بينما واقع املمارسات‪ z‬فيها دكتاتورية غاشمة تأله الحاكم تقريبا!‬
‫التعريف املعياري‪:‬‬
‫أما التعاريف‪ 4‬املعيارية الكالسيكية‪ ،‬والجوهرية ‪ Substantive‬ويمثلها لوك‪ ،‬روسو‪ ،‬ميل‪ ،‬جيفرسون‪ ،‬ومن‬
‫خاللها يتم التركيز على مقاربات الحقوق األساسية وأثرها على الظروف الحياتية والسياسية التي يسعى نظام‬

‫‪ 1‬املذهب الديمقراطي‪( :‬هو الذي يرجع أصل السلطة أو مصدرها إلى اإلرادة العامة لألمة‪ ،‬كما يقرر بأن السلطة ال تكون شرعية إال حين‬
‫تكون وليدة اإلرادة العامة لألمة)‪ ،‬الوسيط في القانون الدستوري – للدكتور عبد الحميد متولي‪ ،‬ص‪ ،125‬ألنه ال يمكن أن تتمتع األمة‬
‫بحقها في السيادة املطلقة‪ z،‬إال إذا كان (القانون هو التعبير عن إرادة األمة) مبادئ القانون الدستوري – الدكتور السيد صبري‪ ،‬ص‪ ،52‬ط‬
‫‪ ،1949 ،4‬وهذه اإلرادة العامة ال تتجسد في واقع سياسي إال (عن طريق انتخاب النواب) نظم الحكم الحديثة – ميشيل ستيوارت – ص‬
‫‪ ،298‬ألنه (متى تعلم سواد الشعب‪ ،‬وبلغ سن النضوج والرشد آلت القوة القاهرة إلى الكثرة العددية) دراسات في النظم الدستورية‬
‫املعاصرة – الدكتور العربي‪ ،‬ص‪ 168‬نقال عن اإلسالم وأصول الحكم للدكتور محمود الخالدي‪.‬‬
‫‪http://www.stanford.edu/group/dispersed_author/docs/OriginalMeaningDemocracy_Ober.pdf 2‬‬
‫‪ 3‬راجع‪ :‬الديمقراطية‪ ،‬تشارلز تيللي‪ ،‬ترجمة محمد فاضل طباخ ص ‪.22‬‬
‫حكم ما إلى تعزيزها‪ ،‬هل يعزز النظام رخاء الناس‪ ،‬وحريتهم الفردية‪ ،‬والعدالة واملساواة االجتماعية بينهم؟‬
‫فإن فعل‪ ،‬وصف بالنظام الديمقراطي‪ ،‬إذا كان كذلك فقد ال يحتاج إلى النظر في العبارات املصاغة في‬
‫دستوره‪ ،‬فهذه املقاربة تعتمد على النظر في واقع الحال‪.‬‬
‫ويجري على نوعين من حيث النظرة‪ z:‬فردية وجماعية‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويركز الفرديون من ال ُـم َن ِظ رين للتعريف املعياري على الفرد‪ ،‬ويجعلون الحرية أهم قيمة اجتماعية‪ ،‬وأما‬
‫ص ُّب اهتمامهم على املساواة‪ ،‬وعلى مفهوم اإلرادة العام‬ ‫الجماعيون فيركزون على رفاهية الجماعة‪َ ،‬وي ْن َ‬
‫َ َ‬
‫وعقالنيون بطبعهم‪ ،‬وقادرون على اختيار نظام‬ ‫ُّ‬ ‫األفراد خ ِّي ُرون‬ ‫والخير العام‪ ،‬ويفترض أصحاب االتجاهين أن‬
‫الحياة املناسب لهم‪ ،‬وحين نقول‪ :‬األفراد هنا فإننا نعني سواد املجتمع وليس النخبة املثقفة فيه فقط‪.‬‬
‫ُيبنى التعريف املعياري على قاعدة "الخير العام" و"اإلرادة العامة"‪ ،‬التي تدفع األفراد نحو املشاركة الشعبية‬
‫في الحكم‪ ،‬فاإلرادة العامة تجعل األمة صاحبة السيادة ومصدر السلطات‪ ،‬والخير العام يقيم مجتمعا يحقق‬
‫الخير العام والسالم‪ ،‬ويركز على املقاربات في الحقوق األساسية‪ ,‬وأثرها على السياسة‪ ,‬واملعيشة‪،‬‬
‫ولكن هذه التعاريف املعيارية الجوهرية تصطدم بخمس عقبات مهمة‪:‬‬
‫العقبة األولى ‪ :‬فضفاضية مقاييسها‪ ،‬فكيف تفاضل بين نظام حكم فقير مدقع‪ ،‬يتمتع مواطنوه باملساواة في‬
‫خطوطها العريضة‪ ،‬فهل هو أكثر ديمقراطية من نظام أقرب إلى االزدهار ولكنه بعيد عن املساواة؟‬
‫والعقبة الثانية ‪ ،‬أن التركيز على النتائج املمكنة للسياسة يقطع الطريق على أي محاولة ملعرفة ما إذا كان‬
‫نظام آخر غير الديمقراطية أقدر على تحقيق النتائج املرغوب فيها‪ ،‬فقد يجلب الرخاء واألمن والعدالة‬
‫واملساواة االجتماعية‪ ،‬واملشاورات العامة‪ ،‬وبالتالي نجد أنفسنا مرة أخرى أمام مقاييس فضافضة ال تضع‬
‫اآلليات التي تربط الفلسفة بالواقع‪ ،‬والتي تبين كيف ترقى الفلسفة أو النظام بالواقع ليصل إلى الغاية أو‬
‫إلى افضل غاية ! ماذا لو قام حاكم متسلط متجبر لم يأت عبر صناديق االقتراع بتوزيع الثروة على الرعية‪،‬‬
‫وتوفير األمن لهم‪ ،‬ومساواتهم أمام القانون الذي يضعه هو‪ ،‬فهل هو أكثر ديمقراطية من نظام ديمقراطي لم‬
‫يستطع أن يحقق للناس رخاء وال أمنا‪ ،‬ولكنه وصل عبر صناديق االقتراع؟ فأيهما أكثر ديمقراطية؟‬
‫والعقبة الثالثة ‪ :‬هي أن هذا املقياس ال يضع لنا تصورا لطبيعة النظام الديمقراطي نفسه وكيف سيوصل‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫ناظمة لحياتهم‪ ،‬فإن هم‬ ‫ٍ‬ ‫املعياري البشرية دون أفكار‬ ‫املقياس‬ ‫للرخاء والرفاهية والحقوق‪ ،‬إذ يترك هذا‬
‫توصلوا عبر فلسفات معينة ملا يجلب لهم الرخاء واملساواة قفز على منجزات ومكتسبات تلك األفكار‬
‫واألنظمة وادعى بها وصال‪ ،‬ونسبها للديمقراطية‪ ،‬فإن حققت االشتراكية مساواة نسبها للديمقراطية وإن حقق‬
‫اإلسالم عدالة ومساواة ورفاهية عيش وشورى نسب النظام لنفسه‪،‬‬
‫وإن لم يتوصل الناس ألنظمة تحقق سعادتهم‪ ،‬وبقيت البشرية في حروب وعيش غاب‪ ،‬فال تنبس‬
‫الديمقراطية ببنت شفة إليجاد نمط معين من العيش وفقا ملنظومة فكرية قادرة على إيجاده والحفاظ عليه‪،‬‬
‫ً‬
‫غايات وطرقا للوصول إليها‪z‬‬
‫ٍ‬ ‫وهذه ثغرة هائلة! والبشرية من غير فلسفة للحياة‪ ،‬ومن غير نظام يضع‬
‫ونظام من خاللهما يحقق "النظام‬‫ٍ‬ ‫آلية‬
‫وتحقيقها ال يمكن أن تنهض أو ترقى! فهذا املقياس يخلو من ٍ‬
‫الديمقراطي" هذه املثل ‪ .‬فهو إذن ال يعدو أن يكون مجرد عبثية‪ ،‬ينتهز فرص نجاح األنظمة األخرى لينسب‬

‫‪ 4‬يراجع الكتاب القيم‪ :‬نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية لألستاذ الدكتور محمد أحمد علي مفتي‪ ،‬فيه تفاصيل التعاريف‬
‫ونواقضها‪ ،‬وهو مرجع فكري دقيق قيم شامل استقينا منه الكثير من مادة هذا الفصل‪z.‬‬
‫النجاح لنفسه‪ ،‬ويخلو من أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وعقوبات وغيرها مما يلزم الناس في‬
‫معاشهم!‬
‫والعقبة الرابعة‪ :‬وينقض هذا التعريف أن الواقع امللموس‪ z‬يظهر‪ z‬أن الشعب ال يمكن أن يحكم نفسه بحال‬
‫من األحوال‪ ،‬وأن قاعدتي اإلرادة العام والخير العام قاعدتان غامضتان غير واقعيتين‪ ،‬فليس من اتفاق‬
‫ولكل تفسيراته لهذه املفاهيم‪ ،‬ومفهوم اإلرادة العامة يفقد معناه إذا لم يكن‬ ‫على هذه املفاهيم بين الناس‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫خير متفق عليه‪ ،‬ثم هناك تناقض بين الحرية واملساواة ‪ ،‬حيث إن زيادة الحرية تعني تقليص املساواة‪،‬‬ ‫هناك ٌ‬
‫والعكس صحيح‪ ،‬فإذا كان الناس أحرارا فذلك ال يعني بالضرورة أنهم متساوون‪ ،‬وأما إذا ما فرضت عليهم‬
‫‪5‬‬
‫املساواة فإن ذلك يعني أن الحرية قد سلبت منهم أي أنهم لم يعودوا أحرارا‪.‬‬
‫يقول آرنولد توينبى‪" :‬أصبح استخدام اصطالح‪ z‬الديمقراطية مجرد شعار من الدخان‪ ،‬إلخفاء الصراع‬
‫الحقيقي بين مبدأي الحرية واملساواة"‪.‬‬
‫والعقبة الخامسة‪ :‬تجاهل هذا التعريف‪ z‬لواقع الحال في املجتمعات البشرية حيث يتحكم املال والنفوذ‬
‫ويغلب منطق القوة والقدرة على توجيه وصناعة الرأي العام وغسيل األدمغة وشراء الذمم‪ ،‬إذ أن الواقع‬
‫يثبت أن "رؤساء الدولة وأعضاء البرملانات‪ ،‬وصناع القرار الحقيقي في وزارات الدولة املهمة‪ z‬كالخارجية في‬
‫أعرق البالد الديمقراطية كأميريكا وبريطانيا‪ z‬يمثلون إرادة الرأسماليين‪ ،‬من رجال األعمال وكبار املالك‪ ،‬وال‬
‫ون إلى سدة الحكم‪ ،‬وإلى‬ ‫يمثلون إرادة الشعب‪ ،‬وال إرادة أكثريته‪ ،‬فإن كبار الرأسماليين‪ z‬هم الذين ُيوص ُل َ‬
‫ِ‬
‫املجالس النيابية من يحقق لهم مصالحهم‪ ،‬فهم الذين يدفعون نفقات االنتخابات لرئاسة الدولة‪ ،‬ولعضوية‬
‫البرملانات‪ ،‬وهم بيدهم اإلعالم الذي يغسل أدمغة الشعب‪ ،‬وبذلك تكون لهم السيطرة على رؤساء الدول‪،‬‬
‫وعلى أعضاء البرملانات‪ z.‬وهذا واقع معروف في أميريكا‪ ....‬ولذلك فالحكام وأعضاء البرملانات في أميريكا‬
‫وبريطانيا إنما يمثلون الرأسمالية‪ ،‬وال يمثلون إرادة الشعب‪ ،‬وال إرادة أكثريته‪ .‬يقول البروفيسور مايكل‬
‫بارنتي في كتابه‪ :‬ديمقراطية للقلة‪ّ :‬يد عي االتجاه السائد في وسائل اإلعالم بأنها حرة ومستقلة‪ ،‬وأنها موضوعية‬
‫محايدة‪ ،‬كما ُي َّد َع ى بأنها الحارس األمين للديمقراطية‪ ،‬غير أن النظرة‪ z‬األكثر تدقيقا وتمحيصا تبين أنها في‬
‫َّ‬
‫الواقع عبارة عن الكلب‪ z‬املدلل للطبقة الحاكمة الث َّرية‪ 6.‬ويرى محمد مزالي أنه‪" :‬في الظاهر تتمتع أميريكا‬
‫والبالد األوربية بحريات وتعدد أحزاب‪ z‬وانتخابات وجرائد متصارعة مما يبدو وكأن األمر على أحسن ما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يرام‪ ،‬ولكن إن تعمقنا بكل ذلك‪ ،‬حينئذ فقد ندرك أن سلطان األغنياء ورؤوس األموال ال يزال قويا ومؤثرا‬
‫في مجريات األمور"‪.‬‬
‫يقول البروفيسور بارنتي‪" :‬وتجدر اإلشارة إلى أن ثماني شركات مختلفة كانت تسيطر على معظم وسائل‬
‫اإلعالم القومية في الواليات املتحدة في عام ‪ ،2000‬بعد انخفاض عددها من ثالث وعشرين شركة في عام‬
‫‪ ،1989‬كما أن ‪ %80‬من الصحف‪ z‬اليومية التي توزع في الواليات‪ z‬املتحدة تتبع سالسل عمالقة قليلة العدد‬
‫مثل جانيت ونايت رايدر‪ ،‬علما بأن عمليات التركيز والدمج في هذا املجال تمضي قدما دون أن يكون هناك ما‬

‫‪5‬‬
‫‪Joseph A. Shumpeter، Capitalism، Socialism، and Democracy pp 251-252، and 24-25‬‬
‫‪ 6‬ديمقراطية للقلة‪ ،‬مايكل‪ z‬بارنتي‪ ،‬ص ‪.313‬‬
‫يكبح جماحها‪ ،‬ولم يبق إال أقل من ‪ 2‬باملائة من املدن األمريكية لديها صحف منافسة تملكها جهات ال تتبع‬
‫‪7‬‬
‫هذه السالسل اإلعالمية الكبيرة"‪.‬‬
‫ويقول البروفيسور مايكل بارنتي في كتابه‪ :‬ديمقراطية للقلة‪ :‬من الذي يملك أمريكا‪ :‬على العكس من‬
‫األسطورة الشائعة التي يتم الترويج لها فإن ثروة هذا البلد ال تملكها طبقة وسطى عريضة‪ ،‬بل إن نسبة ‪10‬‬
‫‪ %‬من البيوت األمريكية والتي تتربع على قمة الهرم تملك ‪ %98‬من السندات‪ z‬املعفاة من الضرائب للواليات‬
‫واملناطق املحلية‪ ،‬كما تملك ‪ %94‬من األصول املالية ملؤسسات األعمال‪ ،‬و‪ %95‬من قيمة جميع الودائع‪،‬‬
‫وتملك الطبقة األغنى والتي ال يتجاوز عددها ‪ %1‬فقط من األمريكيين ما يصل إلى ‪ %60‬من أسهم الشركات‬
‫يتكون من عدد‬‫الكبرى جميعا‪ ،‬وكذلك ‪ % 60‬من كل أصول مؤسسات األعمال‪ ....،‬واالقتصاد األمريكي َّ‬
‫محدود من الشركات العمالقة التي تسيطر على معظم القطاع الخاص‪ ،‬تبتلع‪ z‬الشركات الكبيرة شركات أصغر‬
‫في صناعات مثل النفط والسيارات والبنوك‪ ،‬وتدعم عمليات الدمج والحيازة تلك إجراءات نزع القيود‬
‫والضوابط‪ ،‬وتدني معدالت الفائدة وازدهار أسواق األسهم ‪ ،‬وفي الصناعة املالية وحدها وفي النصف األول‬
‫من عام ‪ 1998‬تمت حوالي ‪ 1500‬عملية دمج كانت أكبرها قيام شركة بانك ون كورب ( ‪)Bank One Corp‬‬
‫بحيازة شركة فيرست شيكاغو‪ ،‬حيث اشترتها بمبلغ‪ 30 z‬مليار دوالر‪ ،‬وقيام شركة نيشنز بانك (‪Nations‬‬
‫‪ )Bank‬بشراء بانك أوف أميريكا‪ ،‬بمبلغ ‪ 62.4‬مليار دوالر‪ ،‬وفي عام ‪ 2000‬تم اندماج شركتين بنكيتين‬
‫متنفذتين هما شيزمانهاتن (‪ )Chase Manhattan‬وجي بي مورجان (‪ )J. P. Morgan‬في شركة واحدة قيمتها‪35.2 z‬‬
‫مليار دوالر‪ .‬ويتم تبرير عمليات‪ z‬الدمج على أنها تعزز قدرة الشركة على املنافسة‪ ،‬غير أن الشركات املندمجة‬
‫قلما تظهر تحسنا في األداء‪ ،‬فاملليارات العديدة‪ z‬التي تصرف على عمليات دمج شركات أخرى تمتص أمواال‬
‫كان يمكن صرفها‪ z‬بصورة أفضل‪ ،‬وعمليات الدمج ال تفيد إال كبار املساهمين‪ z‬والدائنين‪ z‬وكبار املسئولين‬
‫التنفيذيين الذين يحصلون على أرباح هائلة من عمليات‪ z‬البيع تلك‪ ،‬بينما‪ z‬يدفع املستهلكون‪ z‬والعمال تكاليفها‪،‬‬
‫ويتعامل الكثير من الشركات مع صناديق تقاعد العمال على أنها جزء من أصول الشركة‪ ،‬ولذا فإنه حين‬
‫تندمج شركة مع أخرى أو يتم شراؤها فإن الشركة الجديدة تستوعب صندوق تقاعد العمال‪ ،‬وال يرى‬
‫‪8‬‬
‫العمال في كثير من األحيان بنسا واحدا من املبالغ التي كانوا دفعوها للصندوق‪.‬‬
‫ً‬
‫ولذلك يقال في أميريكا أن "الرئيس"‪ z‬هو ثاني أهم منصب في الدولة بعد "روكفلر"‪ !9‬وليس مستغربا أن نعلم‬
‫أن وزراء الخارجية األميريكان في الغالب يخرجون من رحم الشركات الكبرى‪ ،‬واملؤسسات املصرفية‪ ،‬وهم‬
‫‪ 7‬ديمقراطية للقلة‪ ،‬مايكل‪ z‬بارنتي‪ ،‬ص ‪ 313‬نقال عن كتاب‪ :‬وسائل اإلعالم الضخمة‪ ،‬كيف تسيطر الشركات العمالقة على أجهزة اإلعالم‬
‫وتشوه املنافسة وتعرض الديمقراطية للخطر‪ ،‬وكتاب‪ :‬الصحافة املدفوعة‪ ،‬وكتاب‪ :‬احتكار أجهزة اإلعالم‪.‬‬
‫‪ 8‬ديمقراطية للقلة‪ ،‬مايكل‪ z‬بارنتي ص ‪ .30‬ونيويورك تايمز عدد ‪ 13‬يناير ‪ 1999‬مقال‪ z‬بعنوان‪ :‬تصنيع الوحش البنكي الضخم‪ ،‬وحول‬
‫البالونات الذهبية للمسئولين التنفيذيين يمكن الرجوع ملقال في صحيفة سان فرانسيسكو إجزامينر عدد ‪ 14‬أغسطس ‪ 1998‬بعنوان‪:‬‬
‫الهبوط لألسفل‪ ،‬وكذلك مقال بعنوان‪ :‬رواتب تقاعدية‪ ،‬مجلة سوليدارتي عدد مايو ‪ ،1966‬عمال صناعة السيارات املتحدون‪.‬‬
‫‪ 9‬الحاكم الفعلي في أعرق الدول الديمقراطية في العالم هم بضعة عائالت‪ :‬وهذه العائالت منها‪ :‬عائلة روتشيلد ‪( ،Rothschilds‬فرنسا‬
‫وبريطانيا‪ ،‬وأملانيا) وفي أميريكا‪ :‬عائلة روكفلر ‪ ،Rockefellers‬وعائلة ليمانز ‪ ،Lehmans‬وعائلة مورغان ‪ ،Morgan‬وعائلة دوبونت ‪،Du Pont‬‬
‫وعائلة جولدمان ‪ Goldman‬أصحاب جولدمان ساش ‪ ،Goldman Sachs‬وعائلة كوهين ‪ Kuhn‬أصحاب مؤسسلة كوهين لويبز ‪،Kuhn Loebs‬‬
‫والواربورجز‪ Warburgs‬في هامبورغ أملانيا‪ ،‬والزرادز ‪ Lazards‬في باريس‪ ،‬وموزيس سيفس‪ Moses Seifs‬في روما‪ ،‬وعائلة والتون ‪Walton‬‬
‫‪ family‬في أميريكا‪ ،‬أصحاب الوول مارت‪ ،‬وعائلة كوخ ‪ Koch family‬أصحاب مؤسسات صناعية باسمهم‪ ،‬ولهم تأثير كبير في الحزب‬
‫الجمهوري‪.‬‬
‫يصنعون قرارات السلم والحرب‪ ،‬وعقود االستثمار واالستعمار‪ ،‬والتدمير وإعادة اإلعمار! فجون فوستر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫داالس كان مستشارا قانونيا لشركة ستاندرد أويل ‪ Standard Oil‬ومدير مؤسسة روكفلر‪ .‬وكريستان هرتر (‬
‫ً‬
‫‪ )1961-1959‬كان مرتبطا بروكفلر بواسطة مؤسسة السالم العالمي التي كان يديرها راسك (‪.)1969-1961‬‬
‫أما هنري كيسنجر (‪ )1977-1973‬فكان مقره في مجلس العالقات‪ z‬الخارجية ملؤسسة روكفلر وأخوته‪ .‬أما‬
‫سايروس فانس (‪ )1980-1977‬فكان إداريا ثم مديرا لروكفلر وعضوا في املؤسسة الثالثية‪،10‬‬
‫ولهذا فان القول إن البرملانات في البالد الديمقراطية تمثل رأي األكثرية هو كذب وتضليل‪ ،‬وإن القول إن‬
‫الحكام ُيختارون من أكثرية الشعب‪ ،‬وإنهم يستمدون سلطتهم‪ z‬من الشعب هو كذب وتضليل كذلك‪ ...‬ثم إن‬
‫القول بأن الحاكم مسؤول أمام البرملان الذي يجسد اإلرادة العامة للشعب‪ ،‬وأنه ال يتخذ القرارات الكبيرة‬
‫إال بعد موافقة أكثرية أعضاء البرملان هو قول ال ينطبق على الحقيقة والواقع‪ ،‬ف"إيدن"‪ z‬أعلن حرب‬
‫السويس على مصر دون أن ُيعلم البرملان‪ ،‬ودون أن ُيعلم الوزراء شركاءه في الحكم غير وزيرين أو ثالثة‪،‬‬
‫وداليس أيام حرب السويس طلب منه الكونغرس‪ z‬ملف السد العالي‪ ،‬واألسباب التي أدت إلى سحب عرض‬
‫ً ً‬
‫تمويله فرفض رفضا باتا أن يسلم امللف إلى الكونغرس‪ ،‬وديغول كان يتخذ القرارات دون أن يدري بها‬
‫وزراؤه‪ ،‬وحتى امللك حسين يتخذ القرارات الهامة والخطيرة دون أن يدري بها الوزراء‪ ،‬أو أعضاء البرملان"‪.11‬‬
‫يقول البروفيسور مايكل بارنتي في كتابه‪ :‬ديمقراطية للقلة‪" :‬يحاول الكثيرون من علماء السياسة تجاهل‬
‫العالقة بين الحكومة والثروة‪ ،‬وهم يعاملون الشركات العمالقة كما لو أنها مجرد مجموعة واحدة من‬
‫املجموعات ذات النفوذ‪ ،‬ويلجأ هؤالء إلى إلصاق صفة املاركسية بأي موقف يربط بين الطبقة والثروة‬
‫والرأسمالية‪ z‬وبين السياسة‪ ،‬وعلى الرغم من أن كارل ماركس هو أول من رآى مثل هذه العالقة‪ ،‬غير أن‬
‫منظرين آخرين مثل توماس هوبز‪ ،‬وجون لوك‪ ،‬وآدم سميث عالوة على ألكس هاملتون وجيمس ماديسون‬
‫في أميريكا ممن لهم نزعات محافظة رأوا أيضا وجود مثل هذه العالقة‪ ،‬وفي الواقع‪ z‬فإن جل املنظرين‬
‫وممارسي السياسة في القرنين السابع عشر والثامن عشر وبداية القرن التاسع‪ z‬عشر اعتبروا العالقة بين‬
‫التنظيم االقتصادي واملصلحة االقتصادية وبين الدولة والطبقة أمرا ليس مهما فحسب‪ ،‬بل ومرغوبا فيه‬

‫أما روتشيلد فتاريخها مليء بتمويل الدول والحروب‪ ،‬والسيطرة على البنوك وأسواق البورصة والسمسرة‪ ،‬وإنتاج املاس في مناجم جنوب‬
‫افريقیا‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وأما روكفلر فقد بدأت بإنشاء شركة ستاندرد أويل‪ ،‬وسيطرت في القرن التاسع عشر على حوالي ‪ 90‬باملائة من صناعة‬
‫النفط األمريكي‪ ،‬مما جعل الرئيس األمريكي ثيودور روزفلت يحذر من تنامي نفوذها وتشكيلها حكومة ظل في الواليات املتحدة‪ ،‬وتسيطر‬
‫على بنك مانهاتن‪ ،‬وإكسون موبيل‪ ،‬وشيفرون‪ ،‬وبريتيش بتروليوم‪ ،‬وغيرها من الشركات الكبرى العابرة للقارات‪ ،‬وأما عائلة مورغان‪z‬‬
‫فتمتلك الشركات الكبرى مثل جينيرال إليكتريك‪ ،‬وشركة الواليات املتحدة للصلب‪ ،‬وقد عهدت إليهم عائلة روتشيلد بتمثيل مصالحهم في‬
‫أميريكا عام ‪ ،1899‬وهم مؤسسوا بنك تشايس مانهاتن أحد أكبر البنوك في العالم‪ ،‬وقد طوروا إمبراطورية‪ z‬سكك الحديد في جميع الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬وكانوا يملكون صحيفة النيويورك تايمز‪ ،‬أما عائلة دوبونت‪ ،‬فبرزت في صناعة البارود واملتفجرات‪ ،‬وخالل الحرب العاملية األولى‬
‫أنتجت ‪ % 40‬من القنابل واملتفجرات املستعملة في الحرب‪ ،‬وتسيطر على تجارة القنب الهندي (املاريجوانا)‪ ،‬والذي تخلصت من الحظر‬
‫املفروض عليه مقابل تصنيعها للبلوتونيوم املستعمل في القنابل الذرية‪ ،‬والدعم املقدم منها في الحرب العاملية الثانية للحكومة األمريكية‪،‬‬
‫ولها أعمال في إنتاج البذور املعدلة وراثيا‪،‬‬
‫شاهد تقريرا وثائقيا‪ :‬ملك الترجمه‪ .‬ماذا جري للبنك الفبدرالي‬
‫وانظر‪ :‬البترودوالر‪ ..‬قصة أرامكو التي رسمت عالقة واشنطن والرياض‬
‫‪ 10‬أميريكا املستبدة‪ :‬الواليات املتحدة وسياسة السيطرة على العالم «العوملة» مايكل بوغنون موردانت ص ‪140‬‬
‫‪ 11‬الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها‪ z‬أو الدعوة إليها‪ ،‬عبد القديم زلوم ‪ 1990‬بتصرف‪.‬‬
‫وضرورة أيضا لصالح الدولة‪ ،‬ولقد أعلن القاضي األمريكي جون جي "على من يملكون هذا البلد أن‬
‫املح َت ِد سيطرة مستمرة‬
‫يحكموه" في حين أعلن ألكسندر هاملتون أن "من الواجب أن يمارس األغنياء ونبالء ْ‬
‫‪12‬‬
‫على الناس"‬
‫التعريف اإلجرائي‪:‬‬
‫واملعيار الثالث لتعريف الديمقراطية هو اإلجرائي ‪ ،Procedural‬أما التعريف‪ ,‬اإلجرائي‪ ،13‬فيقوم على أن‬
‫الديمقراطية ال تعدو كونها طريقة معينة التخاذ القرارات‪ ،‬فهي ليست فلسفة معينة للحياة‪ ،‬ألنها ال تحوي‬
‫ُ‬
‫فلسفة سياسية محددة ُيبنى عليها نظام‪ ،‬فالديمقراطية برأيهم يمكن أن تطلق على أي نسق سياسي أو‬
‫اجتماعي أو اقتصادي كالديمقراطية الرأسمالية‪ ،‬واالشتراكية رغم التباين بين النظامين‪ 14.‬على أساس أن‬
‫الديمقراطية توجد حيثما توفرت األسس العامة للديمقراطية الليبرالية‪ ،‬والتي تتمثل في التعددية‬
‫السياسية‪ ،‬واملنافسة‪ ،‬واملشاركة السياسية‪ ،‬وتداول السلطة بين األحزاب املتنافسة‪ ،‬واحترام رأي األغلبية‪،‬‬
‫واملساواة السياسية ‪ ،‬وترسيخ مفهوم الدولة القانونية القائمة على الفصل بين السلطات‪ ،‬وخضوع الحكام‬
‫‪15‬‬
‫للقانون‪.‬‬
‫من هنا فالتعريف‪ z‬اإلجرائي يتم بدراسة مجموعة ضيقة من املمارسات‪ z‬السلطوية ليتحدد على ضوئها ما إذا‬
‫كان النظام ديمقراطيا أم ال‪،‬‬
‫ونظرا لفضفاضية املقاييس وكثرتها‪ ،‬وتناقضاتها‪ ،‬اختار أنصار التعاريف اإلجرائية مجموعة ضيقة من‬
‫املمارسات السلطوية ليحددوا في ضوئها ما إذا كان نظام حكم ما يمكن أن يوصف بالديمقراطي‪ z‬أو ال‪،‬‬
‫ويحصر معظم دارسي هذه اإلجراءات اهتمامهم باالنتخابات ‪ ،‬فيتساءلون عما إذا كانت االنتخابات تقوم على‬
‫تنافس حقيقي وتضم عددا كبيرا من املواطنين تؤدي إلى تغيير في الرجال والسياسة؟ ويرفضونها إذا ما بقيت‬
‫مزيفة وتخلو من املنافسة‪ ،‬وتستخدم كمناسبة لسحق املعارضة‪ ،‬كما في كازاخستان‪ ،‬ولكنها إذا أحدثت‬
‫تغييرات حقيقية فإنها تعتبر عندهم مؤشرا على الديمقراطية‪ .‬من ذلك مثال أن مؤسسة دار الحرية املعنية‬
‫بهذه الدراسات تبحث بصورة رئيسية عن العناصر اإلجرائية التالية‪:‬‬

‫‪ 12‬ديمقراطية للقلة‪ ،‬مايكل‪ z‬بارنتي‪ ،‬ص ‪.20-19‬‬


‫كثير من املفكرين املسلمين أن الديمقراطية ما هي إال "إطار" أو "آليات" الختيار الحاكم‪ ،‬وبالتالي فال بأس عندهم من القول‬ ‫‪ُ 13‬ي َن ِ ّظ ُر ٌ‬
‫َ‬
‫بديمقراطية اإلسالم‪ ،‬فهم إذ يفرغون الديمقراطية من "القيم" ويفرغونها‪ z‬من محتواها‪ z،‬ال ُي ُر ْونا كيف سيتوافق اإلسالم مع التعددية‬
‫ً‬ ‫َ َ مْل ُ‬ ‫ّ َْ‬ ‫َ‬
‫ين َعلى ا ْؤ ِم ِن َ‪z‬ين َس ِبيال﴾‪ ،‬وبأية‬ ‫وإمكانية أن يحكم حزب ليبرالي أو شيوعي املسلمين كيف سيوفقون بين هذا وبين ﴿ َولن َي ْج َع َل الل ُه ِللكا ِف ِر‬
‫َ َ َ َ ُ ْ َ اَل‬ ‫َ‬
‫قوانين سيحكمهم؟ وال ُي ُر ْون ا كيف سنفعل حين يتعارض رأي األغلبية مع الشرع مثال‪ ،‬وكيف سيوفقون بين هذا وبين ﴿وما كان مِل ؤ ِم ٍن و‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫ون ل ُه ُم ال ِخ َي َرة ِم ْن أ ْم ِر ِه ْم﴾ األحزاب ‪ ،36‬وال ُي ُر ْونا كيف سيتم الفصل بين السلطات إن كانت‬ ‫ُم ْؤ ِم َن ٍة ِإذا ق َضى الل ُه َو َر ُسول ُه أ ْم ًرا أن يك‬
‫َ‬
‫الديمقراطية الغربية نفسها فشلت في الفصل بينها وفشلت في تحكيم رأي األغلبية‪ ،‬بل ال ُي ُر ْونا كيف ستحقق الديمقراطية قيمة التعددية‬
‫حين تمنع اإلسالم من الحكم‪ ،‬وحين تمنع انبثاق القوانين واألنظمة من الشريعة بل وكيف ستحقق التعددية وجود أي قيم تسود املجتمع‪،‬‬
‫حيث تتناقض األصول التي ستنبثق منها تلك القيم بتناقض األحزاب واألفراد الحاملين‪ z‬لها‪ ،‬ما بين إسالم واشتراكية وبعثية وعلمانية‬
‫وبوذية وغير ذلك مما قد يوجد لدى األحزاب التعددية!‪ ،‬وهكذا وفي السطور القليلة القادمة سنبين هدم نظريتهم كلها من األساس بحول‬
‫هللا تعالى‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫‪David E. Ingersoll، Communism، Fascism and Democracy p 126‬‬
‫‪ 15‬علي الدين هالل‪ ،‬مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث‪،‬‬
‫‪ )1‬نظام سياسي تنافسي يضم عدة أحزاب‪z‬‬
‫‪ )2‬حق االنتخابات لجميع املواطنين البالغين‪ z‬مع استثناءات‪ z‬معينة‬
‫‪ )3‬انتخابات منتظمة تنافسية تجري في أجواء االقتراع السري‬
‫‪16‬‬
‫‪ )4‬إمكانية األحزاب‪ z‬من الوصول إلى جمهور الناخبين‬
‫وبناء على هذه املعايير فشلت كازاخستان في عام ‪ 2004‬بالتأهل إجرائيا‪ z‬لتكون ديمقراطية‪ ،‬بينما نجحت‬
‫‪17‬‬
‫جامايكا رغم اعتداءاتهما على الحريات‪ z‬الديمقراطية‪.‬‬
‫ويرى صموئيل هنتنجتون "أن النظام يصبح ديمقراطيا حين يتم اختيار قادته عن طريق االنتخابات الدورية‬
‫العادلة التي يتنافس خاللها املرشحون لكسب أصوات الناخبين"‪ 18‬ويشير "شومبيتر" إلى أن الديمقراطية‬
‫"ترتيب إجرائي للوصول إلى القرارات السياسية‪ ،‬يمتلك الفرد فيها القدرة على التصرف عن طريق التصويت" ومن‬
‫ثم فالديمقراطية‪ ,‬ال تعني‪ ،‬وال يجب أن تعني أن األفراد يحكمون بالفعل كما تدل مصطلحات الشعب‪،‬‬
‫سيحكمونهم‬
‫‪،‬‬ ‫والحكم‪ ،‬فكل الذي تعنيه الديمقراطية‪ z‬أن لدى الشعبالفرصة لقبول أو رفض الرجال الذين‬
‫فالديمقراطية هي "حكم السياسي املنتخب" ‪ 19‬وتؤكد إيفا أتزيوني حليفي أن الديمقراطية هي‪" :‬حكم النخبة‬
‫املنتخبة عن طريق الشعب‪ ،‬ولذلك فقد تغير معنى الديمقراطية من حكم الشعب إلى الحكم من قبل أولئك الذين‬
‫االنتخابات"‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫يستمدون القوة والسلطة من اتفاق األغلبية عليهم عن طريق‬
‫أما العقبات التي تواجهها هذه املدرسة‪ ،‬فإن أهمها‪z‬‬
‫العقبة األولى ‪ :‬أن دولة مثل جامايكا تصنف بأنها على درجة من النجاح الديمقراطي‪ ،‬إلجراء االنتخابات‪ ،‬رغم‬
‫اعتدائها على الحريات الديمقراطية‪ ،‬وانتخابات كتلك التي تجري في ظل االحتالل كما حصل في العراق‬
‫وأفغانستان‪ ،‬تصنف البلدين على أنهما ديمقراطيان بامتياز‪ ،‬مع أنه في حالة العراق حكمها حتى عهد قريب‬
‫ديكتاتورات (املالكي‪ ،‬العبادي) فاقا صدام حسين في الديكتاتورية والفساد بمراحل ضوئية! وفي حالة‬
‫أفغانستان حكمها كرزاي الذي ال يملك من أمره شيئا‪ ،‬فكان‪ z‬الحكام في البلدين حكاما باسم أميريكا!‬
‫والعقبة الثانية ‪ ،‬هي الترويج أن صناديق االنتخاب هي كل شيء‪ ،‬فها هي صناديق االنتخابات في مصر بعد ثورة‬
‫يناير ‪ 2011‬جاءت بحكومة مرسي‪ ،‬ومن ثم لم تستطع تلك الحكومة تغيير "الدولة العميقة" التي تجذرت‬
‫بفسادها وعمالتها في املجتمع والدولة‪ ،‬وبقيت تتحكم واقعا في الدولة كما كانت في عهد الحكومات العسكرية‬
‫السابقة كلها‪ ،‬إلى أن أطاحت بذلك الحاكم املنتخب الذي لم يكن يملك من أمره شيئا‪ ،‬فالنتيجة إذن أن‬
‫صناديق االنتخابات إنما‪ z‬كرست الحكم الدكتاتوري‪ ،‬وسمحت له بالتقاط أنفاسه إلى أن انقض ثانية واسترد‬
‫ما سلبته منه صناديق االقتراع‪ ،‬وكل هذا بمباركة أم الديمقراطية أميريكا‪ .‬وال شك أن الفرق هائل بين تغيير‬
‫أنظمة الحكم‪ ،‬وبين تغيير الوجوه التي تحكم بعين الدساتير واألنظمة‪ ،‬تلك الوجوه التي تأتي بها صناديق‬

‫‪16‬‬
‫‪Piano and Puddington, 2004 p 716‬‬
‫‪ 17‬الديمقراطية لتشارلز تيللي ص ‪25-24‬‬
‫‪18‬‬
‫‪Samule P. Huntington، The Third Wave، Democratization in the Late Twentieth Century pp 6-7.‬‬
‫‪19‬‬
‫‪Joseph A. Shumpeter، Capitalism، Socialism، and Democracy pp 269، 284‬‬
‫‪20‬‬
‫‪Eva Etzioni، Fragile Democracy، The Use and Abuse of Power in Western Societies، P. X.‬‬
‫االقتراع فال تغير في الواقع‪ z‬شيئا‪ ،‬ولطاملا رأينا ذلك في التجربة الباكستانية على سبيل املثال! فالواقع‪ z‬هو هو‪،‬‬
‫ال يتغير‪ ،‬وإنما تتغير الوجوه الكالحة‪ z‬التي تبقي البالد في تبعيتها ألميريكا!‬
‫وتعليقا على تلك األحداث في مصر ورد على لسان املتحدثة باسم الخارجية األمريكية جين بساكي‪" :‬لم تكن‬
‫تشكل ُحكما ديمقراطيا‪ ،‬وخرج حوالي ‪ 22‬مليون مصري ّ‬ ‫ّ‬
‫للتعبير عن آرائهم وإظهار أن‬ ‫حكومة مرسي ِ‬
‫مجرد الفوز في صناديق االقتراع"‪.21‬‬ ‫الديمقراطية ليست ّ‬
‫والعقبة الثالثة‪ :‬واعترض على النظريات‪ z‬اإلجرائية للديمقراطية بأنها تحصر الديمقراطية في انتخابات‬
‫دورية‪ ،‬مما يؤكد الفرض الرئيس الذي تقوم عليه وهو اإلقرار بضرورة وجود نخب سياسية تتنافس فيما‬
‫بينها للوصول للسلطة‪ ،‬حيث ينحصر دور املواطنين في اختيار النخبة‪ ،‬وتمكينها من الحكم بطريقة سلمية‪،‬‬
‫وفي هذا إغفال لعدد من القيم الديمقراطية والتي منها تعميق املشاركة السياسية واالجتماعية‪ ،‬كما تعمل‬
‫النظرية اإلجرائية على تسويغ الواقع السياسي في الدول املعاصرة‪ ،‬وذلك بحصر دور املواطنين في اختيار‬
‫من يلي أمرهم فقط‪ ،‬وترسيخ شرعية‪ ,‬حكم النخبة‪ ,‬أو حتمية الديمقراطية‪ z‬النخبوية في املجتمعات‪z‬‬
‫املعاصرة‪ .22z‬كما وأن النظرية‪ z‬اإلجرائية تغفل البعد االجتماعي واالقتصادي للمجتمع‪ ،‬فهي تبنى على عدة‬
‫افتراضات‪ z‬منها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬افتراض تساوي الفرص والقوة بين شرائح‪ z‬املجتمع املختلفة‪ ،‬حيث أن الكل‪ ،‬كما تفترض النظرية‪z‬‬
‫اإلجرائية‪ ،‬يمتلكون القوة املمثلة في حق التصويت ‪ ،‬أما توزيع القوة االقتصادية‪ ،‬وسيطرة الطبقة الحاكمة‬
‫على املوارد‪ ،‬وعلى القوة السياسية في الدولة‪ ،‬فإنها ال تبدو في نظر اإلجرائيين أمورا على قدر من األهمية عند‬
‫دراسة النظرية‪ z‬الديمقراطية‪ ،‬حيث يؤكد "موريس دوفرجيه" "أن الديمقراطية‪ z‬الليبرالية تعمل ضمن إطار‬
‫الرأسمالية التي تعني أن السلطة ال ترتبط فقط باالنتخابات ‪-‬كما يدعي اإلجرائيون‪ -‬وإنما برجال املال‬
‫واألعمال املسيطرين على الواقع السياسي واالقتصادي في الدولة‪ ،‬مما يؤكد كون الديمقراطيات‪ z‬الليبرالية‬
‫هي "بلوتو ديمقراطيات" قائمة على سيطرة األغنياء‪ ،‬وقدرتهم على توجيه دفة املحتمع والتحكم في‬
‫‪23‬‬
‫االنتخابات ونتائجها"‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬تعكس عملية التصويت في نظر اإلجرائيين إدراك املصلحة الذاتية العقالنية‪ ،‬حيث يتم التصويت على‬
‫أغلبية ملا فيه مصلحتهم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بشكل‬
‫ِ‬ ‫أساس تحقيق أكبر قيمة من املنفعة‪ ،‬وكأن أفراد املجتمع يمكنهم التوصل‬
‫ويختارون باألغلبية النخب الحاكمة لهم‪ ،‬ويفرقون بأغلبيتهم بين مستويات مصالحهم املختلفة وتتوافق آليات‬
‫االنتخاب مع تحقيق تلك املصالح‪ ،‬وكل هذه املستويات‪ z‬أثبتنا استحالة تحققها في الواقع‪ z‬على مستويات أبسط‬
‫من مستويات تحقيق مصالح مجتمع من خالل انتخاب املجتمع لنخب تحقق له تلك املصالح‪ ،‬بل على مستوى‬
‫اختيار رئيس للدولة يمثل األغلبية‪ ،24‬لم تستطع الديمقراطية‪ z‬ذلك‪ ،‬فإذا ما عجزت الديمقراطية عن تحقيق‬

‫‪[ 21‬وكالة رويترز‪11/7/2013 ،‬م] وأضافت‪“ :‬هناك‪ z‬حكومة انتقالية وهذا األمر سيفتح طريق الديمقراطية ونحن واثقون بذلك‪ .‬ونحن على‬
‫اتصال مع عدد كبير من الفاعلين على األرض”‬
‫‪ 22‬علي الدين هالل‪ ،‬مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث ص ‪.43-42‬‬
‫‪ 23‬موريس دوفرجيه‪ ،‬املؤسسات السياسية والقانون الدستوري‪ ،‬األنظمة السياسية الكبرى‪ ،‬ص ‪.163‬‬
‫‪ 24‬راجع مثال اإلحصائيات التي نقلناها عن نسبة املشاركين‪ z‬ومن يحق لهم االقتراع في االنتخابات القبرصية والفرنسية‪ ،‬والتي اخترناها ألنها‬
‫تمثل نسبا عالية جدا من املقترعين‪ z‬في االنتخابات فاقت ‪ %83‬في حين أن النسب الطبيعية للمشاركة في االنتخابات بالكاد تصل للستين‬
‫باملائة‪ ،‬وكمثال وجدنا أن ماكرو رئيس فرنسا حاز على ما يقارب ‪ 18‬باملائة من أصوات من يحق لهم االنتخاب‪ ،‬ومعنى ذلك أن ‪ 82‬باملائة‬
‫فرد ‪-‬رئيس دولة‪ -‬لرأي أغلبية‪ ،‬فكيف ستخوض غمار تحديد مصالح مجتمعية على‬ ‫ُ‬
‫تمثيل ٍ‬ ‫األبسط‪ ،‬وهو‬
‫مستوى مجتمع‪ ،‬حيال قضايا كثيرة يتواضع املجتمع بأغلبية على كل مصلحة منها‪ ،‬ويختار النخب التي‬
‫ستحقق له كل مصلحة‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فعالوة على أن املدرسة اإلجرائية قد فضحت عجز الديمقراطية أن‬
‫تحقق أحد أهم قيمها‪ ،‬وهو تمثيل رأي األغلبية ‪ ،‬كذلك وجدنا أن املدرسة اإلجرائية وقعت في الخطأ ذاته‬
‫الذي عابته هي على املدرسة النظرية‪ z‬الكالسيكية‪ ،‬وهو التعلق‪ ,‬بقيم فضفاضة ال يمكن تحقيقها في الواقع‪،‬‬
‫وال التواضع على مفاهيمها بين أفراد املجتمع‪ ،‬فلم تستطع إذن أن تكون مجسدة إلرادة األمة‪ ،‬وال للقيم التي‬
‫يراد لها أن تسود العالقات في املجتمع!‬
‫َْ‬
‫أفكار‬
‫ٍ‬ ‫وثالثا ‪ :‬فإذا ما أضفنا إلى ذلك اشتراط الديمقراطية لوجود التعددية‪ ،‬فكيف سيخرج من بين فر ِث‬
‫َ ً‬
‫تناقضة‪َ ،‬و َد ِم َها ل َب َنا سائغا للشاربين؟ ما هي القيم التي سيتفق عليها املجتمع‪ ,‬التعددي؟ وكيف سيتغلب‬
‫ٍ‬ ‫ُم‬
‫املجتمع على التناقضات‪ z‬الفكرية بين أحزابه وأفراده ليؤلف منها قوانين وتشريعات وأفكارا ومقاييس تصلح‬
‫لنهضة ذلك املجتمع واستقراره؟ إن الواقع يبين لنا أن نظرة الديمقراطية للتعددية هي تعددية فردية تقف‬
‫عند حد معتقدات الفرد الذاتية‪ ،‬وال تتعدى لنظام الدولة الذي يشترط أن يكون عندهم علمانيا فقط‪،‬‬
‫ويمنع أي فكر قائم على أي عقيدة أخرى من أن يسود عالقات املجتمع!‬
‫والعقبة الرابعة ‪ :‬ومن املساوئ البارزة في النظام الديمقراطي فيما يتعلق بالحكم والحكومات انه إذا لم يكن‬
‫في البلد الديمقراطي‪ z‬أحزاب‪ z‬كبيرة يمكنها أن تحصل على األغلبية املطلقة في البرملان‪ ،‬وبالتالي يمكنها أن تشكل‬
‫الحكومة وحدها‪ ،‬فإن الحكم في مثل هذا البلد يبقى غير مستقر‪ ،‬وتبقى الحكومات‪ z‬فيه واقعة تحت وطأة‬
‫أزمات سياسية متالحقة بشكل مستمر‪ ،‬ألنه من الصعوبة على الحكومة فيه أن تحصل على ثقة األغلبية‬
‫البرملانية‪ ،‬مما يضطرها إلى االستقالة‪ ،‬وقد تمر شهور دون أن يتمكن رئيس الدولة من تشكيل حكومة‬
‫ً‬
‫جديدة‪ ،‬مما سيبقي الحكم في البلد مشلوال‪ ،‬وشبه معطل‪ ،‬وقد يضطر رئيس الدولة لحل البرملان‪ ،‬وإجراء‬
‫انتخابات جديدة‪ ،‬بغية تغيير املوازين‪ ،‬حتى يتمكن من تشكيل حكومة جديدة‪ .‬وهكذا دواليك يبقى الحكم في‬
‫البلد غير مستقر‪ ،‬وتبقى سياسته مهتزة وشبه معطلة‪ .‬وذلك كإيطاليا واليونان ولبنان وأمثالهما من البلدان‬
‫الديمقراطية التي فيها أحزاب كثيرة‪ ،‬وال يوجد فيها حزب كبير يستطيع أن يحصل على األغلبية املطلقة‪،‬‬
‫لذلك تبقى املساومة بين األحزاب قائمة‪ ،‬وقد تتحكم األحزاب الصغيرة في األحزاب األخرى التي تعرض عليها‬
‫ً‬
‫أن تشاركها في تشكيل الحكومة‪ ،‬فتفرض شروطا صعبة لتحقيق مصالحها الخاصة‪ ،‬وبذلك تتحكم األحزاب‬
‫‪25‬‬
‫الصغيرة التي ال تمثل إال القلة باألحزاب األخرى‪ ،‬كما تتحكم في سياسات البلد‪ ،‬وقرارات الحكومة فيه‪.‬‬
‫كما أن األحزاب الحاكمة أو التي تخوض حمأة االنتخابات قد تضطر لتغيير سياساتها نتيجة النقد املوجه لها‬
‫خالل حقبة حكمها‪ ،‬أو رغبة منها في كسب ود الناخبين في االنتخابات القادمة‪ ،‬أو نتيجة وجود أفكار مضادة‬
‫َ‬
‫تأتي بها أحزاب املعارضة‪ ،‬ف َت ِع ُد الناخبين بتغيير سياسات معينة مثل أنظمة الضريبة أو قوانين الهجرة مثال‬

‫يرفضونه‪ ،‬ومع ذلك قيل بأنه رئيس ديمقراطي يمثل رأي األغلبية! فإذا كانت الديمقراطية قد فشلت في إيجاد آلية تجعل الفائز في‬
‫االنتخابات يمثل رأي األغلبية‪ ،‬فمن أين لها أن توجد آليات لتمثيل املصالح الحقيقية للمجتمع وما يتفق عليه من قوانين لتكون حائزة على‬
‫صفة تمثيل أغلبية املجتمع؟ إن هي إال أضغاث أحالم!‬
‫‪ 25‬الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها‪ z‬أو الدعوة إليها‪ ،‬عبد القديم زلوم‪.‬‬
‫أو ما شابه‪ ،‬مما يعرض الدولة ألخطار اقتصادية استثمارية أو يعرضها لتضعضع االستقرار السياسي‬
‫االقتصادي!‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫فمثال‪ُ :‬‬
‫"سيسأل املرش ح ملنصب رئيس الواليات املتحدة أسئلة صعبة عن االقتصاد األمريكي والعالمي بالغي‬
‫والقضية الفلسطينية‪ ،‬وعليه أن يحسب‬ ‫ّ‬ ‫وسي سأل عن موقفه من الصين وروسيا وأوروبا والعراق‪z‬‬ ‫التعقيد‪ُ ،‬‬
‫بشدة‪ ،‬خصوصا ّ‬ ‫ّ‬
‫املحلية التي ينقسم حولها املجتمع األمريكي ّ‬
‫وأن نسبة‬ ‫تحركاته جيدا بخصوص القضايا‬
‫صوتون للمرشح‬ ‫"مصوتي القضية الواحدة"‪ z‬أو "‪ "Single Issue Voters‬أي ُي ّ‬
‫ّ‬ ‫معتبرة من األمريكيين ُي َ‬
‫عتبرون من‬ ‫َ‬
‫أهمية بالغة بالنسبة لهم‪ ،‬مثل اإلجهاض أو تقنين‬ ‫قضية واحدة ذات ّ‬‫بناء على مطابقة موقفه ملوقفهم من ّ‬
‫امتالك األسلحة"‪.26‬‬
‫والعقبة الخامسة ‪ :‬وهي إمكانية أن تأتي صناديق االنتخاب بأشد األنظمة دكتاتورية ووحشية في العالم‪،‬‬
‫وأكثرها شرورا ودمارا‪ ،‬فقد خرج هتلر وموسوليني وأضرابهما من رحم صناديق االنتخابات! فما هي‬
‫الضمانات‪ z‬أن ال توصل صناديق االنتخابات عديمي الكفاءة‪ ،‬ممن تقف وراءهم كثرة دعمتهم لصلة قربى أو‬
‫لنفوذ مالي أو لسبب آخر‪ ،‬في حين أن صناديق االقتراع هذه قد تحرم ذا كفاءة من بلوغ املنصب لضعف‬
‫َ‬
‫قدراته؟ ثم إن التصويت يستوي فيه الجاهل واملثقف والواعي سواء الناخب أو املنتخب‪ ،‬فأفالطون مثال‬
‫يريد حكومة تديرها الخبرات‪ ،‬ال حكومة تأتي بها الغوغاء والدهماء من عامة الشعب‪ ،‬ويرى أن تمكين‬
‫الغوغاء من القوة ليأتوا بمن يرونه حاكما هو طريق ألن يتولى الحكم طاغية يستأثر بالسلطة! وفي كالمه‬
‫وجهة نظر صحيحة!‪.‬‬
‫فالديمقراطية إذن هي النظام السياسي الذي يتجاهل الفروق العلمية واإلدراكية ألفراد املجتمع‪،‬‬
‫ويتجاهل القيمة النسبية لبعض أفراد املجتمع‪ ،‬بل ويفرض نوعا من املساواة غير املشروطة بين أفراد‬
‫هذا املجتمع مما يفضي إلى كوارث على املجتمع!‬
‫إن الواقع‪ z‬يضج بحقيقة أن املرشحين واألحزاب حين تخوض االنتخابات تعول على فرصة قلة معرفة‬
‫الناخبين بالتفاصيل الدقيقة للقضايا التي يطرحونها والتي تهم املجتمع‪ ،‬فيركزون حمالتهم على ما يتعلق‬
‫بالعالقات‪ z‬العامة والشئون العامة اآلنية‪ ،‬بدال من التركيز على النواحي األيديولوجية والحلول املبدئية ملشاكل‬
‫املجتمع! وهذا أيضا يفضي ملشكلة أن الحلول التي تتبناها الحكومات في بعض القضايا قد تتأثر بوجهة نظر‬
‫الناخبين القائمة على عدم االختصاص‪ ،‬مما يضر بسياسات الدولة‪ ،‬فتتضرر فاعلية الحكومة في حلولها‬
‫وسياساتها نتيجة خطبها لود الناخبين!‬
‫التعريفان اإلجرائي واملعياري يقران بخلو الديمقراطية من فلسفة للحياة وأنظمة‬
‫للمجتمع!‬
‫من الواضح‪ z‬إذن أن التعريفين اإلجرائي واملعياري يقران بخلو الديمقراطية من أنظمة‪ z‬لالجتماع واالقتصاد‬
‫والقضاء وغيرها‪ ،‬وبخلوها من فلسفة للحياة‪ ،‬وأنها إنما تقفز على منجزات األنظمة األخرى‪ ،‬أو تتعلق فقط‬
‫بإجراء انتخابات دون النظر في طبيعة النظام الحاكم‪ ،‬فباالنتخابات وصل هتلر لسدة الحكم‪ ،‬فال شأن‬
‫للديمقراطية بنظامه الذي حكم به! وفي باكستان تجري االنتخابات بين األحزاب فتتغير الوجوه وتبقى‬
‫ّ‬
‫"ديمقراطي" همام يحيى‪ ،‬مدونات الجزيرة‪.‬‬ ‫‪ 26‬هل الواليات املتحدة بلد‬
‫السياسات هي هي‪ ،‬وتبقى مشاكل املجتمع هي هي‪ ،‬فالديمقراطية إنما اهتمت باالنتخابات وكأنها هي العصا‬
‫السحرية ملشاكل املجتمع‪ ،‬وغضت بصرها بالكلية عن طبيعة األنظمة واملشاكل التي فيها!‬
‫فهل يمكن وصف الدولة اإلسالمية بالديمقراطية؟ من باب التعريف اإلجرائي‬
‫للديمقراطية؟‬
‫من الواضح‪ z‬إذن أن النظرية اإلجرائية للديمقراطية قامت بإفراغها‪- z‬أي الديمقراطية‪ z-‬من القيم‪ ،‬وسعت‬
‫لتعميم‪ ,‬النموذج الديمقراطي عامليا دون النظر‪ z‬إلى طبيعة الديمقراطية وتعارضها مع النظم األخرى‪ ،‬مع أن‬
‫هذه النظم لم تكن تتسمى بالديمقراطية وال تتشابه في املنطلقات الحضارية والبنية السياسية وال في‬
‫املقاصد والغايات مع النظام الديمقراطي‪ ،‬فهم بذا ينقضون الديمقراطية نفسها‪ ،‬ويحولونها لهيكل عظمي‬
‫ناخر! عالوة على أن حصر الديمقراطية باالنتخاب واختيار املرشحين املتنافسين على سدة الحكم يفضي‬
‫إلمكانية وصف أنظمة استبدادية قمعية بالديمقراطية‪ ،‬من ذلك مثال أن النظام الفردي الذي يحقق استبداد‬
‫القلة املسمى باألوليغارخية يسمح أحيانا بتداول السلطة في نطاق قلة يمثلون الفئة الحاكمة‪ ،‬أو يمثلون‬
‫أحزابا قليلة عريقة في املجتمع لها إمكانياتها في املجتمع بحيث ال يستطيع منافستها أحد من خارجها‪،‬‬
‫فيحصرون العملية االنتخابية بمرشحيها‪ ،‬ليقترع املجتمع على أحدهم‪ ،‬فهل هذه ديمقراطية؟ أال ترى التشابه‬
‫الشديد بين هذه الحالة وبين حالة تداول السلطة في نطاق األحزاب العلمانية فقط‪ ،‬ومنع أي تمثيل ألحزاب‬
‫تقوم على منطلقات دينية أو ثقافية ال تؤمن بالعلمانية؟‪ z‬أال يذكرك هذا أيضا باالنتخابات األمريكية التي‬
‫‪27‬‬
‫تحصر خيارات الناخبين بين مرشح الحزب الجمهوري ومرشح الحزب الديمقراطي؟‬
‫في ظل فشل النموذج الديمقراطي في التجسد في أرض الواقع‪ ،‬وفي ظل خلوه من آليات ونظم قادرة على‬
‫تسيير شئون الحياة‪ ،‬وفي ظل أنه احتاج إلى النظام الرأسمالي ليعالج الشق االقتصادي في شئون الحياة في‬
‫الغرب‪ ،‬واحتاج العلمانية ليحقق الشق املتعلق بفصل الدين عن الحياة حتى تتمكن الحضارة الغربية‪z‬‬
‫بسندان الديمقراطية ومطرقة العلمانية ومطرقة الرأسمالية من اإلجهاز على باقي الحضارات واستعمار‬
‫شعوب األرض ثقافيا وسياسيا وعسكريا‪،‬‬
‫واحتاج النموذج الديمقراطي‪ z‬لليبرالية‪ z‬وهي نقيضه ليحقق ما يسمى بحقوق األقليات إذا ما أفرزت صناديق‬
‫ُ ُ ً‬
‫االنتخاب نظما تخص حقوق األغلبية دون األقلية‪ ،‬وتجسد النظام الديمقراطي بالحضارة الغربية تلك‬
‫الحضارة التي تميزت بطبيعتها االستعمارية‪ ،‬والتي فتكت باألمة بل وباإلنسانية فتك الذئب بالحمل‪.‬‬

‫‪ 27‬يقول البروفيسور مايكل‪ z‬بارنتي في كتابه‪ :‬ديمقراطية للقلة‪" :‬ويجادل املدافعون عن االتجاه السائد بأن استبعاد وجود أحزاب ثالثة (إلى‬
‫جانب الحزبين األمريكيين‪ z‬الرئيسيين) هو في مصلحة البالد نظرا ألن وجود الكثير من األحزاب إنما يؤدي إلى تشتت نظامنا السياسي‬
‫وزعزعته"‪ .‬ص ‪ .9‬فتأمل!‬
‫هذا‪ ،‬وغني عن القول بأن نظام اإلسالم يحوي أحكاما محددة حول اختيار جهاز الحكم‪ ،28‬والشورى‪،‬‬
‫واملحاسبة‪ ،‬واألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وعن الخروج على الحاكم‪ ،‬وأحكاما متعلقة بالحفاظ على‬
‫القيم السائدة في املجتمع‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬كلها في إطار نظام يبغي إليجاد نمط معين في العيش‪ ،‬وقد تتشابه‬
‫بعض فروع هذا النظام مع بعض فروع النظام الديمقراطي‪ ،‬ولكن‪ ،‬ال بد أن نفهم أنه ال يبحث عن التشابه‬
‫في الفروع إال من لم يقف على بنية الحضارات الفكرية وقيامها على أيديولوجيات ذات منطلقات محددة‬
‫َ‬
‫ول َها إال أن ُيغ َّي َر في أساسها الذي قامت عليه أي في عقيدتها‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ َّ َ‬
‫مترابطة‪ ،‬ال يمكن أن يوفق بينها في أص ِ‬
‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫األصول وتعمل‪ ,‬خادما لها من أجل‬
‫ِ‬ ‫الفروع منبثقة عن تلك‬ ‫روع َها؛ ألن هذه‬
‫وفكرتها األساسية‪ ،‬وال في ف ِ‬
‫ضمان الوصول إلى هدف الحضارة من إيجاد نمط معين من العيش لتحقيق قيم معينة في ذلك املجتمع‬
‫الذي يحيا تلك الحضارة‪ ،‬ومن أخذ الفروع منفصلة عن أصولها‪ ،‬ووضعها في منظومة فروع حضارة‬
‫أخرى‪ ،‬لم يزد على أن أوجد عناصر غريبة في تركيبة الحضارة الثانية ال توصل إلى غاياتها وال تحقق‬
‫للمتحضرين‪ ,‬بها السعادة‪ ،‬بل تضعهم في دوامة التناقضات‪ ،‬لذا فإنه من السخف وضعف الفهم وصف‬
‫اإلسالم بالديمقراطي أو محاولة التوفيق بينهما!‪.‬‬
‫(وعلى هذا يمكننا القول‪ :‬إنه من باب التضليل املؤذي إلى أبعد الحدود‪ ،‬أن يحاول الناس تطبيق املصطلحات‬
‫التي ال صلة لها باإلسالم على األفكار واألنظمة‪ z‬اإلسالمية)‪.29‬‬

‫التعريف األيديولوجي‪:‬‬
‫رابعا‪ :‬التعريف‪ ,‬األيديولوجي للديمقراطية‪ :‬مع إغفال النظرة‪ z‬اإلجرائية للقيم اإلجتماعية املحددة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للديمقراطية‪ ،‬وكونها تحمل ُب ْعدا "عقائديا "‪ ،‬وترتبط بمفاهيم محددة ومعتقدات مشتركة بين الجماعة‪ ،‬ولها‬
‫منطلقاتها الحضارية‪ 30‬وبنيتها السياسية ولها مقاصد وغايات‪ ،‬والديمقراطية بهذا املعنى تمثل نسقا فلسفيا‪،‬‬
‫ُ‬
‫أو قاعدة تبنى عليها النظرة‪ z‬إلى املجتمع‪ ،‬تستمد هذه النظرة‪ z‬جذورها من أفكار املدرسة الليبرالية‪ z‬لتحقيق‬
‫الحريات‪ ،‬وإن تناقضت مع الليبرالية في املنطلقات‪ z‬الفلسفية كما سنبين بعد قليل إن شاء هللا‪ ،‬تلك املدرسة‬

‫‪ 28‬في اإلسالم تقرر أن الخالفة تنعقد بالبيعة‪ ،‬والبيعة عقد مراضاة واختيار بين األمة والخليفة‪ ،‬ألنها بيعة بالطاعة‪ z‬ملن له حق الطاعة من‬
‫والية األمر‪ .‬فال بد فيها من رضا من ُي َب َاي ُع ليتوالها ورضا ال ُـم َب ِاي ِع َين له‪ ،‬ال يدخله إكراه وال إجبار كأي عقد من العقود‪ ،‬والعقد هذا يتم‬
‫عبر طريقة‪ :‬البيعة‪ ،‬أي البيعة على الطاعة من جهة املحكومين‪ z،‬والبيعة على الحكم بما أنزل هللا من قبل الحاكم‪ ،‬وهي نوعان‪ :‬بيعة انعقاد‪،‬‬
‫وبيعة انقياد‪ ،‬األولى تتم بعقد من تنعقد بهم البيعة ابتداء‪ ،‬حتى إذا كانت بيعة شرعية فإن باقي األمة تدخل فيها في بيعة االنقياد‪ ،‬وأما‬
‫وسائل االختيار‪ ،‬ووسائل التعبير عن الرضا‪ ،‬مثل صناديق االقتراع‪ ،‬وفرز األصوات‪ ،‬أو رفع األيدي‪ ،‬أو استعمال أجهزة الكترونية حديثة‪،‬‬
‫أو غيرها من أساليب التعبير عن املوافقة ‪ ،‬فتدخل في األشياء وهي مباحة فالفعل األصل هو نصب الخليفة بالرضا واالختيار‪ ،‬وأما‬
‫األفعال املتفرعة عن ذلك كاالقتراع فإنها تدخل تحت حكم األصل وال تحتاج لدليل آخر على مشروعيتها‪ ،‬فالهدف منها هو التعبير عن‬
‫الرضا‪ ،‬وعليه فإن في اإلسالم أحكام متعلقة باالنتخاب واالختيار‪ ،‬وعليه أيضا‪ ،‬فإن فرز األصوات وصناديق االقتراع كلها ليست قضايا‬
‫فكرية يترتب عليها أن يوصف كل من يقوم بها بالديمقراطي‪ ،‬بل هي أساليب للتعبير‪ ,‬عن الرضا‪ ،‬ال أكثر‪ ،‬لذلك فإن من يعطيها أكثر من‬
‫وزنها ويجعلها عالمة على طبيعة النظام فإنه من السذاجة بمكان!‬
‫‪ 29‬منهاج اإلسالم في الحكم – محمد أسد – ص‪ .52‬نقال عن اإلسالم وأصول الحكم للدكتور محمود الخالدي‬
‫‪ 30‬مثل‪ :‬تحكيم رأي األغلبية‪ ،‬والسيادة لألمة‪ ،‬والتعددية‪ ،‬ومنع استئثار القلة بالحكم‪ ،‬والفصل بين السلطات‪ ،‬والحريات وما شابه من‬
‫أفكار متعلقة بالحكم‪.‬‬
‫التي يعد جون لوك‪ ،‬وجون ستيورات مل‪ ،‬وآدم سميث وديفيد هوم من أبرز مفكريها‪ ،‬رغم اختالف وجهات‬
‫النظر بينهم‪ ،‬فإن عددا من األمور املشتركة بينهم مثل النظرة الفردية لإلنسان‪ ،‬والتي تجعل الفرد وحدة‬
‫‪31‬‬
‫مستقلة قائمة بذاتها‪ ،‬تتصل بغيرها لتحقيق مصالحها الذاتية‪ ،‬ومن ثم فالفرد يمثل غاية البناء االجتماعي‬
‫كما أن اإلنسان وفقا لهذه النظرية‪ z‬يمتلك حقوقا طبيعية ُم ِن َح ْت له لطبيعته اإلنسانية‪ ،‬بمعزل عن الدولة أو‬
‫ُ‬
‫املجتمع‪ ،‬أضف إلى ذلك أن النظرة الليبرالية لإلنسان تبنى على ما يسمى بانعدام القيم املشتركة‪ ،‬فال‬
‫توجد وحدة اجتماعية تحدد القيم االجتماعية أو السلوك املقبول اجتماعيا من قبل األفراد‪،‬فالنظرة إلى‬
‫‪32‬‬ ‫ٌ‬
‫املجتمع غائبة في الفكر الليبرالي‪. ,‬‬
‫وكما ترى فالتناقضات بين الديمقراطية التي تقوم منطلقاتها الفكرية على أساس وجود "الخير العام"‬
‫أغلبية تحدد هذه املفاهيم وتسعى لتكريسها في الدولة واملجتمع‬‫ٍ‬ ‫اتفاق أو‬
‫و"اإلرادة العامة"‪ ،‬وأنه ال بد من ٍ‬
‫من خالل اختيار النخب الحاكمة على أساس ما اتفق عليه الناس من هذه املفاهيم‪ ،‬وبين الليبرالية التي تقوم‬
‫على النزعة الفردية‪ ،‬وعلى منع التقيد بمرجعيات‪ z‬مقدسة‪ ،‬ألن أساسها فكرة التحرر‪ ،‬ومنع التقيد بأفكار‬
‫محددة‪ ،‬بل تنطلق الليبرالية‪ z‬في فضاء رحب تحرري من األفكار‪ ،‬حتى ال تنغلق على نفسها‪ ،‬وكي ال تصبح‬
‫مذهبا فلسفيا محددا‪ ،‬فكل ليبرالي له فضاؤه الخاص به من األفكار والقيم التي يؤمن بها‪ ،‬وكل ليبرالي هو‬
‫مرجع لليبراليته‪ ،‬وبالتالي فال يمكن الجمع بين الديمقراطية‪ z‬والليبرالية‪ ،‬ومع ذلك فقد جمع الغرب بينهما‬
‫ليستعير من الليبرالية‪ z‬ما فيها من حريات‪ ،‬وليأخذ منها ضمانة حقوق األفراد واألقليات‪ ،‬ضاربين عرض‬
‫الحائط بالرأي‪ z‬الذي تقوم عليه الديمقراطية؛ رأي األغلبية التي قد تجحف بحقوق األقليات‪ ،‬أي أن‬
‫َ َ َّ‬
‫الديمقراطية والليبرالية تخل َتا عن أهم مقومات كل منهما ليحصل التوالف العجيب بينهما في نظام‬
‫ديمقراطي ليبرالي غربي يراد لنا أن نتخذه مثاال!‬
‫والديمقراطية ‪-‬وفقا للتعريف األيديولوجي‪ -‬طراز معين للعيش‪ z‬ينبثق من إطار ذهني يبنى على عدة افتراضات‬
‫منها‪ :‬اإلحساس الدائم‪ z‬بالرغبة في التغيير التي تحرك األغلبية‪ ،‬وتدفعهم نحو تعديل أوضاعهم االجتماعية‬
‫لتتناسب مع التغييرات‪ z‬الحياتية املتعددة‪ ،‬فالديمقراطي هو اإلنسان القادر على تغيير أوضاع حياته وأفكاره‬
‫ومبادئه وقيمه وفقا للمتغيرات‪ z‬االجتماعية املحيطة به‪ ،‬وينبع التغيير من اإليمان بأن ُ‬
‫البنى االجتماعية ال‬
‫‪33‬‬ ‫ُ‬
‫ت بنى على قواعد ثابتة‪ ،‬بل هي نتاج لتفاعل األفراد وخبراتهم واتفاقهم‬
‫ولذلك فما يراه األفراد ممثال للحق والعدل فهو الحق والعدل‪ ،‬فاإلطار الذهني الديمقراطي يبنى على الثقة‬
‫ّ‬
‫املتناهية في العقل الذي يمك ن اإلنسان من الحياة في إطار املجتمع التعددي بتقبله لنمط حياة اآلخرين‪ ،‬مما‬
‫‪34‬‬
‫يعكس قدرا كبيرا من العقالنية‪.‬‬
‫أضف إلى ذلك أن املجتمع التعددي يمتاز بعدم وجود منظور جماعي واحد للخير والفضيلة‪ ،‬ولذلك‬
‫فوجود منظور أخالقي واحد للقيم في املجتمع يتعارض‪ ,‬مع الفكر التعددي‪ ،‬ومن ثم فأولئك الذين يرغبون‬
‫في رؤية قيم عقائدية أو أخالقية واحدة تسود في املجتمع ال بد أن ينتهي بهم املطاف إلى معارضة التعددية‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫‪David E. Ingersoll، Communism، Fascism and Democracy p 128.‬‬
‫‪32‬‬
‫‪David E. Ingersoll، Communism، Fascism and Democracy p 129.‬‬
‫‪33‬‬
‫‪Zevedi Barbu، Democracy and Dictatorship، Their Psychology and Patterns of Life pp 13 and 17‬‬
‫‪34‬‬
‫‪Zevedi Barbu، Democracy and Dictatorship، Their Psychology and Patterns of Life p 22‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬فاملجتمع الديمقراطي‪ z‬غير ملزم بتبني منظور أحادي للوحدة االجتماعية‪ ،‬وحين يسود أو يسعى‬
‫أي منظور عقائدي أخالقي لفرض رؤيته على املجتمع‪ ،‬فإنه يصبح من املتعذر بناء مجتمع ديمقراطي‪ ،‬وذلك‬
‫ألن الديمقراطية‪ z‬تبنى على املنظور العلماني التعددي للمجتمع‪ 35z.‬كما أن املرء إذا لم يتمكن من قبول اآلراء‬
‫األخرى أو الوصول إلى حل وسط في املعتقدات العقيدية فإن عليه أن يحتفظ بها لنفسه فال يطرحها‪z‬‬
‫للعامة‪ ،‬ألن ذلك يناقضالروح الرياضية للديمقراطية‪ ,‬التي تكفل حرية التدين للجميع‪ ،‬وبناء عليه‬
‫فالتعدد وإمكانية االختالف العقيدي‪ 36‬يعدان شرطين مسبقين لقيام مجتمع ديمقراطي‪ ،‬فاملجتمع الذي ال‬
‫يقر بحق أو حرية العبادة للجميع‪ z‬كيفما شاؤوا ال يصلح أن يكون ديمقراطيا‪ 37‬وقد أكد "كرن شيلدز" أن‬
‫الديمقراطية نظام سياسي علماني‪ ،‬فالدين ال عالقة له بالديمقراطية ‪ ،‬فهو يعد مسألة فردية خاصة‬
‫ال عالقة لها بالتنظيم السياسي واالقتصادي واالجتماعي‪" :‬فالديمقراطي‪ z‬يمكن أن يكون بروتستانتيا أو‬
‫يهوديا‪ ،‬ملحدا أو مؤمنا‪ ،‬ففيما يتعلق بالدين يمكن القول بأن الديمقراطية مذهب محايد يتمثل في‬
‫مجموعة من املعتقدات‪ z‬العلمانية الصرفة‪ ،‬فاملفهومات الديمقراطية ال ترتبط بالبواعث الدينية أو‬
‫املضادة للدين‪ ،‬وأي نزاع بين الدين والسياسة الديمقراطية يمكن أن يحدث فقط عند إقحام التعاليم الدينية‬
‫‪38‬‬
‫في الشئون السياسية‪ ...،‬والديمقراطي ‪-‬نظرا‪ z‬ملعتقداته السياسية‪ -‬ال يقبل وال يرفض أي تعاليم دينية"‬
‫يتضح من ذلك أن التعريف‪ z‬الكالسيكي‪- z‬الرشيد‪ -‬ال يصلح لتحليل أبعاد الديمقراطية‪ ،‬وذلك الفتراضه‬
‫العقالنية والرشد في األفراد‪ ،‬والخير العام في النظام‪ ،‬وهي افتراضات‪ z‬ضحدها عديد من الدارسين للنظرية‬
‫الديمقراطية‪ ،‬وبينوا عدم واقعيتها وعدم قدرتها على تقديم تفسير للتفاعل السياسي في املجتمعات‪z‬‬
‫املعاصرة‪،‬‬
‫وتغفل النظرة اإلجرائية للديمقراطية‪ z‬أن قيام الديمقراطية‪ z‬يرتبط بتوفر شروط أساسية أهمها "العلمانية"‪z‬‬
‫فالديمقراطية نظام للحياة قائم على حيادية الدولة تجاه القيم الدينية واألخالقية انطالقا‪ z‬من قاعدة‬
‫أساسية للبناء الديمقراطي تتمثل في حرية العقيدة‪ ،‬أي حق األفراد املطلق في تبني ما يشاؤون من عقائد‬
‫دون تدخل من أحد‪ ،‬ودونما تأثير على مسار املجتمع والدولة‪ ،‬وذلك الندراج العقيدة ضمن الخيارات‬

‫‪35‬‬
‫‪Michael Novak. The Spirit of Democratic Capitalism، pp 49، and 67-68.‬‬
‫‪ 36‬والتعددية لها أنواع ثالثة‪ :‬أولها التعددية األيديولوجية‪ ،‬بوجود أفكار ومعتقدات ومذاهب‪ ،‬وثانيها‪ :‬التعددية الحزبية‪ ،‬بوجود أحزاب‬
‫حاكمة ومعارضة‪ ،‬وثالثها‪ :‬التعددية املؤسساتية‪ ،‬وتفضي لتعدد مؤسسات املجتمع املدني‪ ،‬ولكن التعددية األيديولوجية ال تعني أكثر من‬
‫وجود اختالف للرؤى حول املعتقدات الخاصة‪ ،‬فمن حق األفراد أن يكون لهم رؤى ومعتقدات خاصة بهم‪ ،‬ولكنهم ال يستطيعون تحكيمها‬
‫في املجتمع والدولة ألن هذا سيناقض فكرة التعددية! إذ أن اإلسالم مثال فيه نظام حياة متكامل‪ z،‬فإذا ما طبق فإنه لن يستقي من العقائد‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ََُْ‬ ‫َ‬
‫عقيدة‪ ،‬إال عقيدتها العلمانية‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أي‬
‫للحياة‪ ،‬وبالتالي فلحماية التعددية تمنع الديمقراطية قيام الحكم على أساس ِ‬
‫ِ‬ ‫وقوانين‬ ‫تصورات‬
‫ٍ‬ ‫األخرى‬
‫فتقع فيما تفر منه! تحارب التعددية وتحجمها في شئون الفرد الخاصة فقط‪ ،‬وتمنع وجودها في الدولة والحياة‪ ،‬وال ترضى إال بالنموذج‬
‫الفكري العلماني‪ ،‬كذلك تعددية األحزاب‪ ،‬فال بد لألحزاب الحاكمة واملعارضة أن تتبنى العلمانية نفسها‪ ،‬وإال تهددت التعددية‪ ،‬مع أن‬
‫اقتصار الحكم على العلمانية فيه قضاء على فكرة التعددية نفسها‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فكما ترى ما التعددية إال سيف يشهر في وجه األنظمة‬
‫األخرى ويغض الطرف عنه حين يكون الحكم والرأي والحزب علمانيا ! وكأن العلمانية ال تتعلق بشئون الدولة واملجتمع والحياة‪ ،‬وكأن‬
‫ٌ‬
‫حرام‬ ‫األنظمة األخرى كاإلسالم مثال خالية من أنظمة متعلقة بالدولة واملجتمع والحياة‪ ،‬فحالل على العلمانية أن تغرد فتفرض نفسها‪،‬‬
‫ُ‬
‫الدوح!‬ ‫على غيرها من النظم‬
‫‪37‬‬
‫‪T.V. Smith and Edward C. Lindeman، The Democratic Way of Life pp 79، 83، 107 and 116‬‬
‫‪38‬‬
‫‪M. Rejai، Democracy، The Contemporary Theories، p 237‬‬
‫الفردية التي ال يجوز للدولة التدخل فيها بحال من األحوال‪ ،‬وبناء عليه فالديمقراطية نظام ال ديني‪ ،‬منبثق‬
‫‪39‬‬
‫عن تصور عن الحياة قائم على فصل الدين واألخالق والقيم عن الدنيا‪.‬‬
‫إن أهم املشاكل التي تعترض‪ ,‬هذه الفكرة هي‪:‬‬
‫االعتراض األول ‪ :‬إن الديمقراطية العلمانية الليبرالية هي أيديولوجية بحد ذاتها‪ ،‬أي عقيدة عقلية‪ ،‬ووجهة‬
‫ُ‬
‫نظر في الحياة‪ ،‬قائمة‪ z‬على أساس الحل الوسط‪ ،‬فحين نخضعها لعين القيم التي حاربتها هي‪ ،‬أي قيم‬
‫التعددية ‪ ،‬فإننا نجدها ترفض التعددية الخارجة عن إطار العلمانية‪ ،‬أي أن التعددية املسموحة فقط هي‬
‫تعدد األحزاب العلمانية‪ ،‬فهي منغلقة على نفسها‪ ،‬وإن ادعت الليبرالية‪ ،‬ترفض اآلخرين بحجة حماية‬
‫اآلخرين من املعتقدات املتعددة املوجودة في املجتمع‪ ،‬وإن كانت معتقداتهم هم! فتقيد حرياتهم وتدعي أنها‬
‫تضمن حرية املعتقد‪ ،‬وتدخل فيما تفر منه فتمنع التعددية بحجة حماية التعددية! ‪ ،‬وال تسمح بوجود أو‬
‫فوز األحزاب القائمة على أيديولوجيات أخرى‪ ،‬فهي متناقضة مع نفسها‪ ،‬فال تسمح بتعددية األحزاب إال إذا‬
‫كانت تلك األحزاب علمانية فقط! أما األحزاب‪ z‬القائمة على أساس الدين‪ ،‬فيسمح منها من يحصر الدين‬
‫باملسجد أو الكنيسة وال يخرجه للشارع! وتسمح للفرد أن يعتقد ما يشاء طاملا ال يخرج اعتقاده خارج‬
‫حدود بدنه! وتفرض عليه نظامها ووجهة نظرها‪ z‬في الحياة وطريقتها في العيش وتحرمه من تطبيق قيمه‬
‫وأفكاره املنبثقة من عقيدته! واألنكى أنها تفعل ذلك بحجة ضمانة وحماية التعددية!‬
‫االعتراض الثاني‪ :‬وعلى صعيد آخر‪ ،‬فإن املجتمعات‪ z‬املسلمة في العالم اإلسالمي تتميز بأغلبية ساحقة‬
‫مسلمة‪ ،‬تصل في بعض املجتمعات إلى نسب تفوق التسعين باملائة منها‪ ،‬فترفض الديمقراطية لهذه األغلبية‬
‫الساحقة أن تقوم دولتها على عقيدتها‪ ،‬ونظام حياتها على تشريعاتها بحجة وجود أقلية في تلك املجتمعات‪،‬‬
‫فتسحق الديمقراطية العلمانية‪ z‬رأي األغلبية الساحقة‪ ،‬وتفرض نفسها عليهم بديال عن دينهم‪ ،‬وال تراعي‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َْ َ‬
‫األقل َّي ِة أيضا‪ ،‬وال تأخذ من عقائدهم شيئا‪ ،‬وال‬
‫نفس ِه نفس َها على ِ‬
‫كونهم كثرة ساحقة‪ ،‬وتفرض في الوقت ِ‬
‫تحقق من شرائعهم‪ z‬شيئا‪ ،‬فال هؤالء (األكثرية ) نعموا برؤية وجهة نظرهم في الحياة متحققة‪ ،‬وال أولئك‬
‫(األقلية )‪ ،‬وفرضت على كليهما‪ ،‬األغلبية واألقلية أن تتنافر قيمهم العقائدية والتشريعية مع نظام الحياة التي‬
‫ً‬
‫فرضته عليهم‪ ،‬فهم يرون السعادة في أمور تحرمهم منها‪ ،‬وتفرض عليهم أمورا هي عين ما يرونه شقاء لهم‪،‬‬
‫وهكذا فهي ديكتاتورية متجبرة متسلطة صلفة! خصوصا وأن عدد العلمانيين‪ z‬في تلك املجتمعات‪ z‬قد ينوف‬
‫قليال عن عدد أصابع اليدين!‬
‫االعتراض الثالث‪ :‬ثم إن قيامها على أساس الرغبة الدائمة‪ z‬في التغيير‪ ،‬ومنعها قيام قيم ثابتة على أساس من‬
‫قواعد ثابتة تسود املجتمع‪ ،‬فإنها ترمي املجتمع في درك الشقاء‪ ،‬والدخول في ميمعة التجارب القانونية‪،‬‬
‫والفكرية ودوام تغييرها‪ ،‬فال تتحقق أي قيم في املجتمع‪ ،‬فما كان حالال اليوم يصبح حراما غدا‪ ،‬ليعود‬
‫املجتمع فيكتشف أن الحرام كان يجب أن يكون حالال‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فال استقرار وال سعادة‪ ،‬واألنكى من ذلك‬
‫التغييب الكامل للفكر الذي يعطي للناس التصورات الصحيحة عن الكون‪ z‬واإلنسان والحياة‪ ،‬لصالح تجارب‬
‫إنسانية دائمة التقلب دائمة التغير‪ ،‬عدمت مقاييسها وضوابطها‪ z‬وأصولها الفكرية!‬

‫‪ 39‬نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية لألستاذ الدكتور محمد أحمد علي مفتي‪ ،‬وهو مرجع فكري دقيق قيم شامل استقينا منه‬
‫الكثير من مادة هذا الفصل‪z.‬‬
‫االعتراض الرابع ‪ :‬إن حرمان املجتمعات من قيام أي منظور للقيم واألخالق وللخير والفضيلة وللعقائد‬
‫بحجة إفضاء مثل هذا املنظور للتعارض مع التعددية يدخل الديمقراطية‪ z‬في نفق الفوضى األخالقية‪،‬‬
‫والفوضى الفكرية‪ ،‬والتعارض مع فطرة اإلنسان وميوله الغريزية‪ ،‬بل وأفكاره ومعتقداته القطعية‪ ،‬ألن أي‬
‫منظور قيمي حتى ولو كان علمانيا محضا‪ ،‬فإنه حين يسود سيفضي ملنع التعددية القائمة على أفكار أخرى‪،‬‬
‫لذلك فهذا يجعل‪ ,‬الديمقراطية‪ ,‬مجرد عبثية فكرية تماما كما هي الليبرالية! فبمجرد أن تنغلق في إطار‬
‫منظومة فكرية قيمية عقائدية تفقد صفة الليبرالية‪ ،‬وتفقد صفة التعددية! وهذه أحجية يستحيل حلها!‬
‫أسس النظام الديمقراطي‪:‬‬
‫من األسس األخرى التي تقوم عليها الديمقراطية األسس الرئيسة الثالثة التالية‪:‬‬
‫أولها‪ :‬تحكيم رأي األغلبية‪ ,‬في املجتمع‪ ،‬والذي يعتبرونه املعيار الصادق املعبر عن الحقيقة الصادقة‪ ،‬أي‬
‫إرجاع سلطة سن القوانين‪ z‬إلى اإلرادة العامة للبشر‪ ،‬أي إلى العقل‪ ، 40‬تحكيم رأي األغلبية مقابل خضوع‬
‫األقلية‪ 41‬لرأي األغلبية!‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 40‬جعلت الثورة الفرنسية من الديمقراطية مبدأ قانونيا‪ ،‬إذ نصت املادة السادسة من إعالن الحقوق سنة – ‪1789‬م – على أن (القانون‬
‫هو التعبير عن إرادة األمة) مبادئ القانون الدستوري – الدكتور السيد صبري‪ ،‬ص‪ ،52‬ط‪ 4‬اإلسالم وأصول الحكم د‪ .‬محمود الخالدي‪.‬‬
‫‪ 41‬لألقلية مفهوم‪ z‬في العرف السياسي ومن منظور القانون الدولي‪ ،‬ولتحديد مفهومها‪ z‬معايير ثالثة‪ :‬أولها معيار العدد‪ ،‬أي أنها أقلية عددية في‬
‫قلب أكثرية سكانية‪ ،‬وثانيها‪ :‬أقلية من باب معيار األهمية واملكانة‪ ،‬يركز هذا املعيار على الوضع السياسي واالجتماعي واالقتصادي للجماعة‪،‬‬
‫فاألغلبية العددية إذا كانت محرومة من أبسط مقومات الحياة الضرورية فإنها تغدو أقلية وفقا لهذا املعيار‪ ،‬وثالث املعايير معيار املشاعر‪،‬‬
‫بأن تشعر طائفة من املجتمع بالتضامن‪ z‬بعضها‪ z‬مع بعض للحفاظ على هويتها وأصلها العرقي‪ ،‬أنظر‪ :‬اآلليات الدولية لحماية األقليات من‬
‫منظور القانون الدولي‪ ،‬للطاهر بن أحمد‪ ،‬هذا ويجدر ذكر أن مفهوم األقليات‪ ,‬هو مفهوم غربي نشأ عن الحضارة الغربية‪ ،‬ولم تعرف‬
‫الحضارة اإلسالمية مفهوم أقليات وال أكثريات ‪ ،‬فالكل متساو أمام القانون في اإلسالم‪ ،‬وفق قاعدة‪ :‬لهم ما لنا من اإلنصاف وعليهم ما‬
‫علينا من االنتصاف‪ ،‬وقد حاول الغرب استغالل مفهوم األقليات للنفاذ للعالم اإلسالمي بحجة حماية أتباع األديان األخرى الذين يعيشون‬
‫وسط املسلمين من احتكام الجميع للشريعة‪ ،‬وذلك لفرض العلمانية على الجميع‪ ،‬ولكن الغرب اكتوى بنار األقليات التي ابتدعها وكانت‬
‫مقتال له في عقر داره! فأول مقتل هو محاولة الغرب تذويب املسلمين في حضارته وفرض إدماجهم بها وبمجتمعاتهم‪ ،‬ومنعهم من االلتصاق‬
‫بثقافتهم ودينهم‪ ،‬وثاني مقتل هو ضرب فكرة الديمقراطية بفكرة الليبرالية لضمان حقوق األقليات من الشواذ وغيرهم‪ ،‬فهنا اهتموا‬
‫باألقليات‪ ،‬وحين كانت األقليات تمثل ثقافة أخرى حاولوا إجبارها على االندماج! وثالث مقتل أنهم اصطدموا داخليا وخارجيا بواقع عجز‬
‫مبدئهم عن صهر الشعوب في بوتقة واحدة‪ ،‬خصوصا في ظل تدفق موجات الهجرة ملجتمعاتهم من مجموعات بشرية تحمل معتقدات ال‬
‫توافق معتقداتهم‪ ،‬واتفق أنهم كانوا في حاجة لتثبيت غاياتهم‪ z‬االستعمارية‪ ،‬فكرسوا مفهوم‪ z‬األقليات‪ ،‬ونقضوا مبدأهم العلماني ثانية‬
‫بجعلهم أساس الصراع بين‪ ,‬األقليات واألكثريات‪ ,‬في خارج مجتمعاتهم على أنه هو حق األقليات الديني والعرقي والتراثي‪ ,‬في الوجود‬
‫والعيش على أساسه‪ ،‬وهي تناقض األساس العلماني للنظام الغربي القائم على التجرد املطلق والتحرر التام من القيم الناشئة عن‬
‫الدين والتراث‪ ,‬واألخالق‪ ،,‬فكونهم لجأوا لهذه املنطلقات ركيزة لتثبيت مبدئهم من خالل استعمالها فجوات‪ ,‬للتدخل االستعماري‪ ،‬فإنهم‬
‫نقضوا أساس عقيدتهم للمرة الثانية بسبب فكرة األقليات‪ ،‬وأما في مجتمعاتهم فكان العكس تماما‪ ،‬فعلى األقليات أن تندمج أو تذوب في‬
‫املجتمعات الغربية وتنصهر فيه وإال فال يحق لها أن تمارس أيا من شعائر دينها حتى ولو كان غطاء رأس! أو شعارا له عالقة بالدين‪ ،‬مما‬
‫نقض أسسا كثيرة ملبدئهم مثل حرية االعتقاد‪ ،‬والحريات الشخصية‪ ،‬فكانت مشكلة األقليات مقتال ملبدئهم‪،‬‬
‫وكانت الفاجعة الكبرى في فكرة األقليات كونها تركز على إيجاد التناقضات في مجتمعات لم تكن تلتفت لتلك التناقضات‪ ،‬فتشحنها بالقالقل‬
‫والحروب والنزاعات‪ ،‬ومثال ذلك إشعالهم فتنة الشيعة والسنة‪ ،‬واألكراد والفرس والعرب‪ ،‬ال سيما وهم يبحثون عن مداخل ومبررات‬
‫يلجون باستعمارهم منها‪ ،‬ليفرضوا علمانيتهم الديمقراطية بديال عن اإلسالم‪ ،‬فطرحوا مشكال لم يكن قائما أبدا‪ ،‬وهو ما مصير األقليات‬
‫النصرانية‪ ،‬وأقل األقليات ممن ال يبلغون أصابع اليد من العلمانيين والليبراليين وامللحدين في بالد املسلمين‪ ،‬وأمدوا تلك املجموعات‬
‫البشرية التي سموها باألقليات أحيانا باملناصب وأخرى بالسالح والسلطان‪ z،‬وكانوا يهيئونها ألن تسمى أقلية وأوجدوا لها األحزاب القومية‬
‫َّ‬
‫القل ِة‪ ،‬أو استغاللها‪ ،‬وهذا يفضي أيضا ملبدأ تداول السلطات‪" ،‬في وثيقة‬
‫وثانيها‪ :‬منع تركز السلطات بيد ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ َ ُ‬
‫الدستور الفيدرالي األمريكي‪ ،‬وفي باب فصل السلطات‪ ،‬عرف بناة أميريكا االستبداد بأنه "تراكم جميع‬
‫السلطات‪ z‬التنفيذية والتشريعية والقضائية في نفس األيدي‪ ،‬سواء كانت لشخص واحد أو مجموعة صغيرة‬
‫‪42‬‬
‫أو كبيرة‪ ،‬سواء كان األمر بالوراثة أو التعيين‪ z‬أو االنتخاب‪ ،‬فهذا هو بوضوح التعريف الدقيق لالستبداد"‪.‬‬
‫وثالثها‪ :‬تمثيل السلطات لرأي الشعب‪ ،43‬حيث يعتبرون أن اإلرادة العامة للجماهير مقدسة‪ ،‬أي أن رأي‬
‫األغلبية مقدس وهو معيار الصواب!‬
‫‪44‬‬
‫إذا صح القول بأن (النظام الديمقراطي إنما يقوم من الناحية القانونية على أساس مبدأ سيادة األمة)‬
‫فيصبح التفريق بين مفهوم سيادة األمة وبين الديمقراطية غير دقيق‪ ،‬ألنهما مفهومان متالزمان‪ ،‬فال‬

‫والوطنية‪ ،‬وصنعوا لها القادة العظام امللهمين!‪ z‬وأحيوا لها لغاتها التي ربما تكون ميتة وطوروها وخطوا خطوطها وأحرفها وقعدوا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫قواعدها‪ ،‬واختلقوا لها تراثا ثقافيا وفلكلورا أو رقصا شعبيا كما يسمونه‪ ،‬وأبرزوا عاداتها وتقاليدها كأنها أعمال مقدسة‪ ،‬وأحيوا طقوسها‪z‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الدينية‪ ،‬وكتبوا لها تاريخا حافال باألمجاد القومية! ومن ثم يقولون إن هذا الشعب شعب آخر يجب أن يأخذ استقالله وهويته‪ ،‬فلزم أن‬
‫تعطوه حق تقرير مصيره‪ .‬لتبقى القالقل سيدة املوقف فيسهل عليهم التدخل واالستعمار‪ ،‬والتسلط واالستحمار‪ .‬فمن أقليات دينية‪،‬‬
‫كالنصارى واألزيديين‪ ،‬والصابئة‪ ،‬إلى أقليات قومية كاألمازيغ واألكراد‪ ،‬إلى غير ذلك من التجزئة التي يجعلونها مدخال لغاياتهم الدنيئة‬
‫وأغراضهم االستعمارية الحقيرة‪ ،‬مما يثبت أن الحضارة الغربية إنما تقوم في أساسها على غاية االستعمار وإثارة القالقل وبث الحروب‬
‫والنزاعات كي تجد لها موطئ قدم لنهب الخيرات وفرض السيطرة‪.‬‬
‫إن هذه النقائض للديمقراطية الغربية‪ :‬الليبرالية داخليا‪ ،‬واألقليات داخليا وخارجيا‪ ،‬تكفي لبيان كيف أنهم نقضوا غزل مبدئهم بأنفسهم‪،‬‬
‫فالغرب إذن يبحث عن فوارق خاصة لدى مجموعات من الناس تكون مندمجة ومنسجمة مع غيرها في النظام‪ z‬العام في داخل مجتمع وفي‬
‫ً‬
‫ظل دولة واحدة‪ ،‬ولكنها أقل عددا من غيرها‪ ،‬وفي كثير من األحيان ال تكون لها أية مشاكل مع املجموعات البشرية األخرى كما كانت‬
‫الحال في ظل الدولة اإلسالمية ‪ ،‬وتاريخها شاهد بدفاع النصارى وغيرهم عن الدولة اإلسالمية في ظل الهجمات الصليبية مثال‪ ،‬وتاريخها‬
‫ناطق بإحقاق حقوق أهل الذمة وحمايتهم ومنع إكراههم على تغيير معتقادتهم‪ .‬وكل املجموعات البشرية كانت منصهرة في بوتقة اإلسالم‪،‬‬
‫ومندمجة في املجتمع اإلسالمي بدون تمييز‪ .‬وحتى بعد زوال الدولة اإلسالمية وإيجاد هذه الدويالت الكرتونية الهزيلة بقيت هذه‬
‫ً‬
‫آثار ألفكار اإلسالم في قلوبهم وفي حياتهم‪ .‬فمثال في تركيا حتى أعوام‬
‫املجموعات البشرية منسجمة مع بعضها‪ z‬البعض؛ بسبب وجود ٍ‬
‫الثمانينات من القرن املنصرم لم يكن هناك مشكلة أقلية كردية ولم يكن يحس األكراد بأنهم شعب آخر‪ ،‬بل كانوا منسجمين مع إخوانهم‬
‫األتراك ويعانون نفس املشاكل التي يعاني منها األتراك؛ بسبب وجود نظام كفر فاسد يطبق عليهم يخالف دينهم‪ .‬وكانوا يثورون ألجل نظام‬
‫اإلسالم كما حدث بثورة الشيخ سعيد الكردي من أجل إعادة الخالفة عام ‪1926‬م‪ .‬ولكن في عام ‪1984‬م أسس االستعمار عن طريق‬
‫عمالئه حزب العمال الكردستاني الذي بدأ بإثارة النعرة القومية عند األكراد‪ ،‬وحدث ما حدث‪ ،‬وما زالت هذه املشكلة تتفاعل‪ z‬ودول‬
‫االستعمار الغربي تغذيها حتى تؤتي أكلها املر بفصل األكراد عن األتراك‪ ،‬وإيجاد كيان علماني آخر كما هو موجود في تركيا‪ ،‬فتزيد املشكلة‬
‫ً‬
‫تعقيدا‪،‬‬
‫من هنا فإن مفهوم األقليات مفهوم مدمر مضلل لألمة ‪ ،‬وهو مدخل استعماري خطير ينبغي محاربته‪ z‬فكرا وممارسة والعودة للعملية‬
‫الصهرية التي صهر بها اإلسالم كل الشعوب واألعراق في بوتقة قامت على أساس‪ :‬لهم ما لنا من اإلنصاف وعليهم ما علينا من االنتصاف‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ 42‬هل قلتم ديمقراطية؟ علي أنزوال‪ ،‬صحفي مغربي‪ ،‬مدونات الجزيرة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪( 43‬فالحياة النيابية القائمة على االنتخاب‪ ،‬وتمثيل األمة‪ِ ،‬مرآة لسلطان الشعب‪ ،‬وينظمها قبول حكم األغلبية‪ ،‬واعتباره القانون‪ z‬الذي ُي َس ّير‬
‫أداة الحكم) السياسة والحكم – الدكتور العمري‪ ،‬ص‪ 384‬وقد تساءل " ابراهام لنكولن " عن هذا املعنى املأخوذ من املفهوم‪ z‬الديمقراطي‬
‫للحكم‪ ،‬بقوله‪( :‬ملاذا ال نثق ثقة كاملة في العدالة القصوى‪ z‬لحكم الشعوب‪ ،‬هل هناك آمال أحسن وأبعد من هذه العدالة‪ ،‬أو حتى مساوية‬
‫لها في حياتنا الدنيا؟) السياسة والحكم – الدكتور العمري‪ ،‬ص‪ 136‬فالعدالة القصوى‪ ،‬واآلمال‪ z‬العريضة للشعوب وفق فهم النظام‬
‫الرأسمالي‪ ،‬ال تتحقق إال بممارسة الديمقراطية التي هي (حكومة الشعب) الديمقراطية اإلسالمية – الدكتور عثمان خليل ص‪ 4‬نقال عن‬
‫اإلسالم وأصول الحكم للدكتور محمود الخالدي‪.‬‬
‫‪ 44‬الوسيط في القانون الدستوري – متولي‪ ،‬ص‪.355‬‬
‫ديمقراطية بدون أن تكون السيادة لألمة‪ ،‬وفي املقابل‪ ،‬هناك أحجية يستحيل حلها وهي أن تقوم‬
‫الديمقراطية فعال بتحقيق السيادة لألمة‪ ،‬وهو ما رأينا استحالة تحققه في الواقع‪.‬‬
‫من هنا برز (القول بأن دولة من الدول ديمقراطية‪ ،‬وأن نظام الحكم فيها يقوم على أساس مبدأ سيادة‬
‫األمة‪ ،‬إنما هو تعبير عن فكرة واحدة‪ ،‬ولكن من ناحيتين مختلفتين‪ :‬فالديمقراطية‪ z:‬هي تعبير عن الشكل‬
‫السياسي (أي عن نظام الحكم في الدولة)‪ .‬أما مبدأ سيادة األمة‪ :‬فهو عبارة عن التعبير القانوني)‪.45‬‬
‫"فالديمقراطية كمذهب يراد به إرجاع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى اإلرادة العامة‪ ،‬أما‬
‫كنظام للحكم فيراد به النظام الذي ُيرجع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى اإلرادة‬ ‫ٍ‬ ‫الديمقراطية‬
‫‪46‬‬
‫العامة لألمة"‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وال تكون الدولة ديمقراطية إال إذا كان الحكم يمارس قانونيا من قبل الشعب مباشرة‪ ،‬ذلك ألن (املثل‬
‫األعلى في الحكم الديمقراطي‪ z‬هو أن يحكم الشعب نفسه بنفسه‪ ،‬بمعنى أن الشعب عن بكرة أبيه يجتمع في‬
‫‪47‬‬
‫صعيد واحد ويسن القوانين التي تحكمه‪ ،‬ويصرف شؤونه اإلدارية الكبرى ويقضي فيما يراد القضاء فيه)‬
‫وملا كان من املستحيل إيجاد الصورة املثلى للحكم الديمقراطي‪ ،‬فإن الديمقراطية‪ z‬أصبحت اليوم تتجسد‬
‫(من الناحية العملية‪ ،‬بأن للشعب سلطة مناقشة السياسة‪ ،‬وتحديد خطواتها الرئيسية عن طريق انتخاب‬
‫النواب)‪ 48‬وهذا ما يميز النظام الديمقراطي عن حكم الفرد‪ ،‬ألنه (متى تعلم سواد الشعب‪ ،‬وبلغ سن‬
‫النضوج والرشد‪ ،‬آلت القوة القاهرة إلى الكثرة العددية وسادت الديمقراطية)‪ 49‬لذلك كانت الديمقراطية‬
‫هي حكم األغلبية‪ 50‬وكانت السيادة لألمة‪ ،‬فال سلطة تعلو على هذه السيادة‪ ،‬وترى الديمقراطية أن كل الحق‬
‫ً‬
‫وكل العدل في الرأي‪ z‬الذي تراه األمة ممثال في رأي األغلبية‪.‬‬
‫إذن فالنظام الديمقراطي‪ z‬اكتسب شرعيته من كون األمة هي صاحبة السيادة‪ ،‬فهو راجع إلى هذه السيادة في‬
‫‪51‬‬
‫قيامه‪ ،‬ومستند إليها في استمراره‪ ،‬ومنبثق عنها في سبب وجوده‪.‬‬
‫يتضح من االرتباط الحتمي بين الديمقراطية وبين سيادة األمة أن القول بأن األمة هي صاحبة السيادة‬
‫ومصدر السلطات في النظام الديمقراطي يؤكد كونه نظاما ال دينيا‪ ،‬ونظرا النعدام القواعد العقيدية أو‬
‫الفكرية التي يعول عليها ملعرفة الحق من الباطل‪ ،‬فإن الفكر الديمقراطي الغربي ال يحدد ثوابت منطقية‬
‫عقالنية للغايات‪ ,‬االجتماعية‪ ,‬خارج إطار االختيار الفردي ‪ ،‬فالعقالنية هي انعكاس لرغبات الفرد ومصالحه‬
‫الذاتية‪ ،‬وليست محددات خارجية موضوعية للسلوك االجتماعي لألفراد‪ 52‬ومن ثم فغايات‪ z‬الفرد ‪-‬وفقا‬
‫لهذا املنظور‪ -‬تخضع لرغباته وتتغير وفقا لحاجاته األساسية‪ ،‬ولذلك فإن القرار يصبح عقالنيا إذا‬
‫أخذنا في االعتبار قيم كل فرد مشارك‪ ،‬ووضع اتخاذ القرار أو صنع القرار – إذا خدم مصلحة الفرد‬
‫‪ 45‬الوسيط في القانون الدستوري – متولي‪ ،‬ص ‪ .139‬الدكتور محمود الخالدي‪ :‬اإلسالم وأصول الحكم‪.‬‬

‫‪ 46‬إبراهيم عبد العزيز شيحا‪ ،‬مبادئ األنظمة السياسية‪ ،‬الدول والحكومات‪ ،‬ص ‪،150‬‬
‫‪47‬دراسات في النظم الدستورية املعاصرة‪ :‬محمد عبد هللا العربي‪ ،‬ص‪.185‬‬

‫‪ 48‬نظم الحكم الحديثة – ميشيل ستيورات‪ ،‬ص‪.298‬‬

‫‪49‬دراسات في النظم الدستورية املعاصرة‪ :‬الدكتور العربي‪ ،‬ص‪.168‬‬

‫‪ 50‬انظر في ذلك‪ :‬الدول والدساتير لفتحي عثمان‪ ،‬ص ‪ ،160‬ط‪ ،1965‬دار النهضة العربية‪ .‬القانون الدستوري – الكتاب األول‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪ 159‬الدكتور عثمان خليل‪ .‬السياسة والحكم – للدكتور العمري‪ ،‬ص‪.384‬‬

‫‪ 51‬اإلسالم وأصول الحكم للدكتور محمود الخالدي‪.‬‬


‫‪52‬‬
‫‪Andrew Levine، Liberal Democracy. A Critique of its Theory. P 72‬‬
‫في ظل الظروف القائمة‪ ،‬وكلما تمكن الفرد من تحقيق أكبر قدر من املنفعة كان القانون أو القرار عقالنيا‬
‫‪53‬‬
‫يجب تطبيقه‪ ،‬والعكس صحيح‬
‫ثانيا‪ :‬إن سيادة الشعب التي تعد القاعدة األساسية ألي نظام حكم ديمقراطي‪ ،‬تعبر بالضرورة عن إرادة‬
‫األغلبية وسيادتها‪" ،‬إذ أنه من غير املمكن أن تجتمع إرادات األمة كلها على غاية واحدة"‪ ،‬وإذا كان باإلمكان‬
‫حصول ذلك في بعض األمور فإن تحقيقها في كل األمور أمر في غاية الصعوبة"‪ 54‬فما تمثله األغلبية يمثل‬
‫الحق والعدل‪ ،‬والقرارات والقوانين التي تقرها األغلبية تعد أخالقيا صحيحة‪ ،‬ألنه ال يمكن افتراض‪ z‬قيام‬
‫األغلبية باتخاذ قرارات ال أخالقية كما يزعم "لوك"‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فإن أي قرار أو قانون ال تقره األغلبية يعد‬
‫ال أخالقيا!‬
‫ولكن بما أن األغلبية تمتلك حق التصرف باسم الجماعة فإن حق الطاعة ينتقل بالضرورة إلى طاعة‬
‫األغلبية‪ ،‬كما أن حقوق األفراد األساسية التي يحددها األفراد وفقا لرأيهم من واقع كون األفراد هم الذين‬
‫يقررون ما يصلح وما ال يصلح لهم‪ ،‬ترتبط بما تراه‪ z‬األغلبية حقا من حقوق األفراد‪ ،‬ومن ثم فإن ما تراه‬
‫األغلبية ال يمثل حقا فرديا أساسيا‪ ،‬فإن الفرد يفقد حقه في اعتباره حقا‪ ،‬كما أن مصالح األفراد الحقيقية‬
‫تتحقق بطاعة القوانين التي تتخذها الهيئة التشريعية التي تحظى بثقة الجماعة‪ ،‬ولكن بما أن األغلبية‬
‫‪55‬‬
‫تتصرف باسم الجماعة‪ ،‬فإن دور الفرد يصبح الطاعة العمياء إلرادة األغلبية‪.‬‬
‫االعتراض األول‪ :‬كما ترى‪ ،‬فإن هذا التصور ينقض التصور الليبرالي للديمقراطية اآلنف الذكر‪ ،‬الذي يعتبر‬
‫أن الفرد يمثل غاية البناء االجتماعي! فالديمقراطية ال تفتأ وال تنفك عن أن تدخل في دوامة التناقضات‪،‬‬
‫ُ‬
‫ينقض أولها آخرها‪ ،‬أضف إلى ذلك أن النظرة‪ z‬الليبرالية لإلنسان تبنى على ما يسمى بانعدام القيم املشتركة‪،‬‬
‫فال توجد وحدة اجتماعية تحدد القيم االجتماعية أو السلوك املقبول اجتماعيا من قبل األفراد‪ ،‬فالنظرة‬
‫إلى املجتمع غائبة في الفكر الليبرالي‪ 56.‬فكيف نوفق بين تغييب األفراد وإلزامهم الطاعة العمياء إلرادة‬
‫األغلبية‪( ،‬الديمقراطية) وبين غياب النظرة إلى املجتمع‪( ،‬الفردية) وانعدام القيم الجماعية املحددة للسلوك‬
‫الفردي (الليبرالية)؟‬
‫االعتراض الثاني‪ :‬لكن القول بأن ما تقرره األغلبية يمثل الحق والعدل ملجرد صدوره من األغلبية أمر‬
‫مرفوض لعدة أسباب‪ z‬منها‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أن هذا التوجه الذي تتبناه الديمقراطية يضفي قداسة وعصمة على رأي األغلبية فقط‪ ،‬ألنه صادر من‬
‫األغلبية‪" ،‬فمسألة الحق والصواب من املصطلحات‪ z‬األخالقية املبنية على الدين واملبادئ والقيم والتقاليد‪،‬‬
‫وليست مصطلحات علمية أو منطقية تثبت باألدلة واملنطق‪ .‬فمن املمكن لألغلبية أن تتخذ قرارا "رسميا"‪،‬‬
‫ً‬
‫وأقليات كثيرة على أسس عرقية أو‬ ‫ٍ‪z‬‬ ‫أفراد‬
‫ٍ‬ ‫من خالل عملية سياسية منظمة‪ ،‬ويكون القرار ضارا بآخرين من‬
‫مذهبية أو جنسية أو فكرية‪ .‬لذا نجد أن الدستور األمريكي وملحقاته‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬أوجد عددا من‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حجمها وق ِو َي مو ِقف َها‪ .‬بل إن‬ ‫أغلبية مهما ُكب َر‬
‫ٍ‬ ‫املبادئ التي ال يمكن تجاوزها حتى إن صوتت على ذلك ُّ‬
‫أي‬

‫‪53‬‬
‫‪Andrew Levine، Liberal Democracy. A Critique of its Theory. P 107‬‬
‫‪ 54‬عبد الفتاح حسنين العدوي‪ ،‬الديمقراطية وفكرة الدولة‪ ،‬ص ‪32‬‬
‫‪55‬‬
‫‪Willmoore Kendall. John Locke and The Doctrine of Majority- Rule p 112‬‬
‫‪56‬‬
‫‪David E. Ingersoll، Communism، Fascism and Democracy p 129.‬‬
‫العملية‪ z‬السياسية األمريكية تعطي رئيس البالد حق رفض قرار األغلبية من خالل حق النقض "الفيتو"‪،‬‬
‫حيث يتوجب في حينها إعادة القرار إلى مجلسي النواب والشيوخ لدراسته مرة أخرى ومنحه تصويتا أعلى‬
‫من قبل (أكثر من ثلثي األصوات بدال من النصف) وإعادته للرئيس‪ z‬مرة أخرى‪ .‬وحتى في هذه الحالة‪ ،‬يمكن‬
‫للرئيس االمتناع عن التصويت وقتل قرار األغلبية‪ ،‬متى ما شعر الرئيس‪ z‬أن قرار األغلبية ليس على حق من‬
‫وجهة نظره‪ z.‬ففي جميع األنظمة الديموقراطية هناك محاذير من قوة األغلبية وضوابط معينة تمنع األغلبية‬
‫من التصرف بحرية كاملة‪ ،‬حتى إن كانت معظم األصوات‪ z‬في صفها وقراراتها "على حق"‪ ،‬وذلك منعا ملا‬
‫يعرف في علم الفلسفة السياسية ببطش األغلبية “‪.58" ”57Oppression by the majority‬‬
‫ّ‬
‫املحذرين األوائل مما صار ُي َّ‬
‫سمى "‪ "The Mob Rule‬أو "حكم‬ ‫الرئيس األمريكي جيمس ماديسون كان أحد‬
‫ّ‬
‫أكثرية عددية في املجتمع على تشريع قوانين أو إجراءات‪ z‬تنتقص من‬ ‫الغوغاء"‪ ،‬واملقصود به هو تواطؤ ّ‬
‫ّ‬
‫األكثرية‪ ،‬بحجة كونها‬ ‫ّ‬
‫الديمقراطية لتفرض‬ ‫األقل عددا‪ ،‬أي استخدام‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األساسية لألفراد أو الفئات‬ ‫الحقوق‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أكثرية‪ ،‬قوانين وإجراءات تنتقص من حقوق األقليات‪ ،‬ال األقليات العرقية‪ z‬أو الدينية بالضرورة‪ ،‬بل حتى‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫األكثرية‪( .‬وهذا ما نشاهده في عهد‬ ‫سياسيا يمكنهم من مواجهة تسلط‬ ‫األفراد الذين قد ال يملكون تمثيال‬
‫الرئيس دونالد ترمب بالضبط)‪ ،‬قال ماديسون في "أوراق الفيدرالية" الورقة العاشرة‪ ،‬ما ُّ‬
‫نصه‪:‬‬
‫ّ‬
‫الديمقراطية الخالصة‪ ،‬والتي أعني بها‬ ‫"‪ ..‬ومن النظر إلى املوضوع من هذه الزاوية يمكننا أن نستنتج أن‬
‫ّ‬
‫يتكو ن من عدد قليل من املواطنين الذين يجتمعون ويديرون الحكم مباشرة‪ ،‬ال يمكن أن يقدم‬ ‫مجتمعا ّ‬
‫أكثرية من املجموع في‬‫عامة ما ال ّبد أن توافق رغبة لدى ّ‬ ‫عاما ما أو مصلحة ّ‬ ‫التكتل‪ّ .‬إن هوى ّ‬‫عالجا ملساوئ ّ‬
‫وسيتكف ل شكل الحكم بنفسه في تبادل هذا الهوى والحشد له‪ ،‬وليس ّثمة ما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الغالبية العظمى من الحاالت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫للتصد ي إلغراءات التضحية بالفئة األضعف أو بالفرد املناوئ‪ .‬بالتالي‪ ،‬لهذا السبب كانت‬ ‫يمكن فعله‬
‫الديمقراطيات دائما مسرحا لالضطراب والنزاع‪ ،‬وكانت دائما متناقضة مع األمن الشخصي وحقوق‬
‫امللكية‪ ،‬وكانت بشكل عام قصيرة العمر وعنيفة الزوال"‪.59‬‬
‫إن النظام الديمقراطي القائم على نظرية سيادة األمة (ينزع بأصحابه إلى اعتبار إرادة األمة إرادة مشروعة‬
‫ً‬
‫بذاتها‪ .‬أي إلى اعتبار أنها تمثل دائما الحق والعدل‪ ....‬وإن هذا املبدأ ينطوي على اإلدعاء بأن السلطة تكون‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مشروعة نظرا ملصدرها‪ ،‬وبناء على ذلك فكل عمل صادر عن إرادة األمة يعد عمال مطابقا لقواعد الحق‬
‫والعدل‪ ،‬وإنه يعد إذن فوق متناول الشك واملناقشة من هذه الناحية‪ ،‬ال لسبب إال ألنه صادر عن إرادة‬
‫األمة‪ ،‬فهذا املبدأ – سيادة األمة – ينسب إلى الشعب صفة العصمة من الخطأ‪ ،‬ولذلك فهو يؤدي بالشعب‬
‫(أو بممثليه) إلى االستئثار بالسلطة املطلقة‪ ،‬أي إلى االستبداد‪ ،‬إذ أنه طاملا كانت إرادة الشعب تعد إرادة‬
‫مشروعة‪ ،‬ال لشيء إال لكونها صادرة من الشعب‪ ،‬فإن الشعب يستطيع إذن – من الناحية القانونية – أن‬
‫ً‬
‫يفعل كل شيء‪ ،‬وهو إذا يغدو في غير حاجة إلى أن يأتي بمبررات ملا يعمل ويريد)‪ 60‬بل إن وجود النظام‬
‫‪ 57‬فمثال في الحقبة ما بين فترة الثالثينات وفترة السبعينات من القرن العشرين قامت الحكومة الديمقراطية في السويد بتعقيم آالف‬
‫النسوة رغما عنهن ألنهن ينحدرن من أجناس مختلطة فأريد أن ال يلدن ذرية! "‪Why democracy is wrong". web.inter.nl.net. Retrieved‬‬
‫‪.October 28, 2015‬‬
‫‪ 58‬هل األغلبية دائما على حق؟ د‪ .‬فهد بن عبد هللا الحويماني‬
‫‪ 59‬هل الواليات املتحدة بلد "ديمقراطي"؟ همام يحيى‪ ،‬مدونات الجزيرة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 60‬مبادئ نظام الحكم في اإلسالم‪ ،‬ص‪ 574‬نقال عن بارتلمي‪ ،‬ص‪.63‬‬
‫الديمقراطي من خالل فرض واقع السيادة لألمة‪ ،‬قد عاد بنتائج‪ z‬عكس ما كان أتباع النظام الرأسمالي‪z‬‬
‫يتوقعونه‪ ،‬فهم يرون (أن نظرية سيادة األمة رغم أنها نظرية مصطنعة‪ ،‬فإنها كانت تصبح جديرة بالتأييد لو‬
‫أنها كانت مفسرة للحقائق‪ ،‬أو الوقائع‪ z‬السياسية في العصر الحديث‪ ،‬ولو أن نتائجها العملية‪ z‬كانت طيبة‪،‬‬
‫‪61‬‬
‫ولكن الواقع‪ z‬كان عكس ما كنا نتوقع)‬
‫ثم إن التشريعات التي يراد أن يصار إليها‪ z‬برأي األغلبية منها ما هو اقتصادي‪ ،‬ومنها مما يتعلق بالسياسة‬
‫الخارجية‪ ،‬أو الخطط الحربية مثال‪ ،‬فهل يستوي في هذه الشئون رأي الفالح البسيط برأي الخبير‬
‫االقتصادي؟ أو هل يستوي رأي الخبير العسكري برأي مبرمج الحاسوب في الخطط الحربية؟ لذلك فهنالك‬
‫قضايا فنية تخصصية يرجع معيار الصواب فيها ألهل االختصاص‪ ،‬وهناك قضايا تشريعية ال تعرض أصال‬
‫للتصويت‪ ،‬مثل عقوبة السارق مثال‪ ،‬وهناك قضايا تتعلق بالعمل‪ z‬الجماعي‪ z‬مثل مشاركة الجموع في عمل‬
‫فيصار إلى رأي األغلبية للعمل‪ z‬به بغض النظر عن الصواب والخطأ‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫نواقض أخرى للديمقراطية‬
‫نالحظ أن فكرة أن النظام البرملاني‪ z‬تمثل تجسيدا لرأي األغلبية‪ ،‬أو أنها تمثل "حكم الشعب بالشعب" فكرة‬
‫ال واقع لها‪ ،‬يستحيل وجودها في الواقع‪،‬‬
‫يرصد موقع‪ http://www.electionresources.org :‬نتائج‪ z‬االنتخابات حول العالم‪ ،‬ونسبة املصوتين‪ ،‬والنسبة‬
‫التي فاز بها املرشح‪،‬‬

‫نسبة‬ ‫نسبة‬ ‫عدد‬ ‫الفائز‬ ‫نسبة‬ ‫املصوتون‬ ‫الناخبون‬ ‫التاريخ‬ ‫االنتخابا‬


‫ألصوات ألصوات‬ ‫األصوات‬ ‫التصويت‬ ‫املسجلون‪:‬‬ ‫ت‬
‫املصوتين الناخبين‬
‫‪36.7%‬‬ ‫‪45.5%‬‬ ‫‪200591‬‬ ‫‪Nikos‬‬ ‫‪83.1%‬‬ ‫‪453534‬‬ ‫‪545491‬‬ ‫‪17‬‬ ‫االنتخابا‬
‫‪Anastasiadis‬‬ ‫فبراير‬ ‫ت‬
‫‪2013‬‬ ‫الرئاسية‬
‫القبرصية‬
‫‪29.2%‬‬ ‫‪33.5%‬‬ ‫‪150996‬‬ ‫‪Ioannis‬‬ ‫‪89.6%‬‬ ‫‪462847‬‬ ‫‪516441‬‬ ‫‪17‬‬ ‫االنتخابا‬
‫‪Kasoulides‬‬ ‫فبراير‬ ‫ت‬
‫‪2008‬‬ ‫الرئاسية‬
‫القبرصية‬
‫‪18.19%‬‬ ‫‪24%‬‬ ‫‪8656346‬‬ ‫‪Emmanuel‬‬ ‫‪77.8%‬‬ ‫‪3700372 47582183‬‬ ‫إبريل‬ ‫االنتخابا‬
‫‪Macron‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪-23‬‬ ‫ت‬
‫مايو ‪7‬‬ ‫الرئاسية‬
‫‪2017‬‬ ‫الفرنسية‬
‫‪22.3%‬‬ ‫‪28.6% 10272705‬‬ ‫‪François‬‬ ‫‪79.5%‬‬ ‫‪3658439 46028542‬‬ ‫إبريل‬ ‫االنتخابا‬
‫‪Hollande‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪-22‬‬ ‫ت‬

‫ً‬
‫‪ 61‬مبادئ نظام الحكم في اإلسالم – متولي ص‪ 575‬نقال عن دوجي‪ ،‬ص‪ ،125‬طبع باريس‪.1926 ،‬‬
‫مايو ‪6‬‬ ‫الرئاسية‬
‫‪2012‬‬ ‫الفرنسية‬
‫‪25.7%‬‬ ‫‪31.2% 11448663‬‬ ‫‪Nicolas‬‬ ‫‪83.8%‬‬ ‫‪3725424 44472834‬‬ ‫إبريل‬ ‫االنتخابا‬
‫‪Sarkozy‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪-22‬‬ ‫ت‬
‫مايو ‪6‬‬ ‫الرئاسية‬
‫‪2007‬‬ ‫الفرنسية‬
‫انتخابات هي تلك التي في قبرص و ‪ 2008‬و‪ 2013‬وفي فرنسا ‪ ،2007‬شارك‬ ‫ٍ‬ ‫وكانت من أكبر النسب مشاركة في‬
‫أكثر من ‪ 83‬باملائة من الذين يحق لهم التصويت في تلك االنتخابات‪ ،‬والجدول أعاله يبين النسبة التي فاز‬
‫املرشحون بها باالنتخابات الرئاسية‪ ،‬وهي نسبة الذين ُزعم بأنهم أغلبية‪ ،‬لكنها في الواقع تمثل ‪ %29.2‬و‬
‫‪ % 36.7‬من نسبة أصوات الناخبين في االنتخابات القبرصية‪ ،‬والنسبة التي فاز الرئيس الفرنسي ماكرون بها‬
‫وهي نسبة ‪ 18.19‬باملائة من أصوات الناخبين‪ ،‬فهي قطعا ليست بأغلبية كما يزعم النظام الديمقراطي‪ ،‬وبناء‬
‫على هذه النسب فاز املرشحون!‪ ،‬هذا ويجدر التنويه إلى أن نسب املشاركة الطبيعية في االنتخابات في الدول‬
‫الديمقراطية تتراوح عادة في املتوسط ما بين األربعين والستين باملائة في أحسن التقديرات‪ ،‬مما يعني أن ما‬
‫يقارب نصف من يحق لهم التصويت يرفضون املشاركة في االنتخابات ألسباب كثيرة منها عدم إيمانهم‪z‬‬
‫بالخيارات املطروحة لهم أو عدم إيمانهم بقدرة األنظمة على التغيير‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬مما يعني أن الفائز‬
‫باالنتخابات لن يمثل إال أقل القلة من املجتمع‪ ،‬فإذا كان ماكرون قد فاز بنسبة ‪ %18‬في انتخابات شارك فيها‬
‫ما يزيد على الثمانين باملائة‪ ،‬فكيف بمرشح يخوض انتخابات يشارك فيها خمسون باملائة ممن يحق لهم‬
‫االنتخاب؟ بأي نسبة سيفوز؟ وكيف سيمثل األغلبية؟ معضلة صعبة الحل أمام الديمقراطية!‬
‫فكما ترى‪ ،‬وال مرة كرست االنتخابات رأي األغلبية‪ ،‬وال كان الفائز بها نتاج رأي األغلبية! فحين ترى أن‬
‫الرئيس الفرنسي إيمانويل‪ z‬ماكرو يمثل رأي ‪ 18‬باملائة من الناخبين‪ ،‬فإن هذا يعني أن حوالي ‪ %82‬من‬
‫الناخبين ال يرونه ممثال لهم‪ ،‬فكيف أضحى ممثال لرأي األغلبية وكرس العملية الديمقراطية تكريسا في‬
‫فرنسا أم الديمقراطية؟‬
‫إذن‪ :‬فالديمقراطية الحديثة‪ ،‬أساسها‪ z‬فكرة منع تحكم األقلية في األكثرية‪ ،‬وفكرة تداول السلطة‪ ،‬وفكرة أن‬
‫الشعب مصدر السلطات‪ ،‬فعلى سبيل التشريع ينبغي للتشريع أن يكون نتاج رأي األكثرية‪ ،‬وعلى سبيل‬
‫التنفيذ ينبغي للسلطة أن تكون ممثلة لرأي‪ z‬األغلبية ومنتخبة من قبل األغلبية‪ ،‬وعلى سبيل القضاء‬
‫والقوانين ينبغي أن تكون ممثلة لرأي‪ z‬األغلبية‪ ،‬وعلى سبيل تحديد املصالح العامة أيضا‪ ،‬وإال فإن فشلت في‬
‫شيء من هذا فإنها تنقلب من ديمقراطية إلى أوليغارخية‪ ،‬أي تصبح أداة لتكريس تحكم األقلية في األغلبية‪.‬‬
‫فالديمقراطية إذن نقيض ما يسمى باألوليغارخية أي تكريس حكم األقلية‪ ،‬وقد ثبت فشلها في تحقيق أي‬
‫شيء من ذلك‪،‬‬
‫على أن معضلة أخرى تظهر‪ z‬هنا‪ ،‬وهي أن هذه الديمقراطية‪ z‬وهي تحاول منع تكريس حكم القلة‪ ،‬ال تنظر إلى‬
‫تكريس وحماية حقوق األفراد واألقليات‪ ،‬وحرياتهم‪ ،‬ألنها تخلو من الضمانات التي تمكنها من تحقيق ذلك‪،‬‬
‫بمعنى آخر‪ ،‬فإن رأت األكثرية ضمان حقوق األقلية كان لهم ذلك‪ ،‬وإال فال‪ ،‬فاألكثرية هي التي تتحكم‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن الرأي‪ z‬الذي تخرج به‪ ،‬وعلى األقلية الخضوع لرأي األكثرية وإن أجحف بحقها‪ ،‬وعلى األفراد‬
‫الخضوع لحكم األكثرية وإن منعهم بعض ما يرونه حقوقا لهم‪.‬‬
‫يشير "سميث وليندمان" إلى أنه إذا كان ال بد لفئة ما أن تحكم الدولة فلم ال تكون األغلبية هي تلك الفئة؟‬
‫ً‬
‫فاألغلبية لها حق الحكم ببساطة ألنها األكثر عددا‪ ،62‬فرأي األكثرية في قضية اقتصادية مثال مقدم على رأي‬
‫أهل االختصاص من االقتصاديين حتى ولو كانت األغلبية ممن ال دراية لهم باالقتصاد!‬
‫ولنا أن نبحث واقعين يصبان في النتيجة ذاتها‪ :‬هب أن لديك مجتمعا ديمقراطيا‪ ،‬فيه أكثرية عرقية معينة‬
‫فيها العدد الكافي الختيار حاكم تراه ممثال لذلك العرق‪ ،‬أو قانونا يحمي حقوق هذا العرق‪ ،‬بغض النظر عن‬
‫األعراق األخرى التي تمثل أقلية في ذلك املجتمع‪ ،‬فهذا واقع سيوصل حتما إلى قرارات‪ z‬ال تصب في مصلحة‬
‫األقلية وال تراعي هذه املصلحة‪ z‬ابتداء‪ ،‬وسيوصف الحكم هذا والقانون هذا والحاكم هذا بالديمقراطي حتما‬
‫َّ‬
‫ألنه مث َل رأي األغلبية‪.‬‬
‫والواقع الثاني‪ ،‬أن ترفض فئة من املجتمع املشاركة في التصويت واالنتخاب‪ ،‬ملبررات كثيرة‪ ،‬فمثال قد ترى‬
‫الحياة السياسية موبوءة بالفساد‪ ،‬وأن أصواتها ال تحدث التغيير‪ ،‬كالحال في االنتخابات التي تجري في بلد‬
‫كمصر مثال‪ ،‬تتحكم فيه فئة تستغل االنتخابات لتعطي حكمها زخما جماهيريا ال تمتلكه في الحقيقة‪ ،‬وقد‬
‫ترى هذه الفئة أن الخيارات املطروحة أمامها في التصويت تتراوح بين سيء وأسوأ!‬
‫يقول البروفيسور مايكل بارنتي‪" :‬لقد حاول أخصائيو العلوم السياسية الذين يمثلون االتجاه السائد في‬
‫أميريكا واملدافعون‪ z‬عن النظام االجتماعي القائم لعدة عقود إعادة عرض كل النواقص‪ z‬في النظام السياسي‬
‫بحيث تبدو وكأنها نقاط قوة‪ ،‬فهم يحاولون إقناعنا بأن املاليين ممن يحجمون عن اإلدالء بأصواتهم في‬
‫االنتخابات األمريكية قانعون بالظروف االجتماعية الراهنة‪ ،‬وأنه ال داعي للقلق من وجود جماعات ضغط‬
‫(اللوبي) كبيرة النفوذ ألن هذه الجماعات‪ z‬إنما‪ z‬تمارس دور تزويد الحكومة باملعلومات الحيوية‪ ،‬كما يجادلون‬
‫بأن التركيز املتزايد للسلطة التنفيذية هو أمر جيد نظرا ألن الرئيس إنما يستجيب وبصورة ديمقراطية‬
‫للمصالح الوطنية العريضة وليس للمصالح الخاصة‪ ،‬ويجادل املدافعون عن االتجاه السائد بأن استبعاد‬
‫وجود أحزاب ثالثة (إلى جانب الحزبين‪ z‬األمريكيين الرئيسيين) هو في مصلحة البالد نظرا ألن وجود الكثير من‬
‫‪63‬‬
‫األحزاب إنما يؤدي إلى تشتت نظامنا السياسي وزعزعته"‬
‫وحين نرى نسب املشاركة في االنتخابات فإن الحاالت االستثنائية تمثل مشاركة ما يقارب الثمانين باملائة ممن‬
‫يحق لهم التصويت‪ ،‬في حين أن أغلبية االنتخابات تحوم حول نسبة الخمسين إلى الستين باملائة ممن يحق لهم‬
‫التصويت‪ ،‬وهذا يعني أن ما يقارب األربعين باملائة‪ z‬من املجتمع امتنع عن التصويت!‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫أمر رفضته األقلية‬ ‫تشريع ٍ‬
‫ِ‬ ‫إن واقع الحال أن امتناع األقلية عن التصويت في االنتخابات‪ ،‬أو فوز األكثرية في‬
‫ُ‬
‫املعارضة لهذا التشريع‪ ،‬يعني أن على األقلية أن تخضع لحكم األكثرية‪ ،‬وأن على من امتنع عن التصويت أن‬
‫يخضع لنتائج االنتخابات حتى ولو كان امتناعه لكفره بالخيارات املقدمة له‪ ،‬أو لعدم ثقته بالنظام السياسي‬
‫برمته!‬

‫‪ 62‬نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية‪ ،‬محمد أحمد املفتي ص ‪33‬‬


‫‪63‬ديمقراطية للقلة‪ .‬ص ‪.9‬‬
‫وبالتالي فإن قوام الديمقراطية يقوم على أساس إخضاع األقلية لحكم األكثرية ال على أساس ضمان‬
‫حقوق األقلية ‪ ،‬وال أن يمثل القانون الذي يجري التصويت عليه ما يرى فيه األقلية حقوقا لهم‪ ،‬فلو رأوا‬
‫فيه ضمانة لحقوقهم لصوتوا له‪ ،‬وبتصويتهم للرأي النقيض فإن ما رأوه من حق لهم في الرأي‪ z‬النقيض ال‬
‫يحققه الرأي الذي تم التصويت له‪ ،‬وبالتالي فالديمقراطية‪ z‬ال يمكن أن تضمن حقوق األقلية وال حقوق‬
‫من امتنع عن التصويت واالنتخاب ‪ ،‬وال أن ترعى مصالحهم‪ ،‬بل عليهم الخضوع ملا رأته األكثرية بغض‬
‫النظر عن صوابية الرأي الذي رأته األكثرية أو خطئه‪( ،‬األكثرية هنا هي أكثرية نسبية قد تكون ‪%18‬‬
‫ممن يحق لهم التصويت كما بينا‪ ،‬وسميت باألكثرية تجاوزا! فهي أقل األقلية في الواقع!) ألن املعيار‬
‫الوحيد املراعى هو أن يمثل رأي األكثرية ممن شارك في التصويت‪ .‬والسؤال هو‪ :‬ما هو املسوغ العقلي‬
‫ً‬
‫العتبار أن رأي األغلبية دائما على حق‪ ،‬ويمثل العدل‪ ،‬وأنه ميزان الحق والباطل‪ ،‬ويتحرى مصلحة‬
‫الجماهير؟‬
‫الديمقراطية النخبوية‬
‫كذلك األمر‪ ،‬فإن الواقع أن الشعب ال يحكم في األنظمة‪ z‬الغربية‪ ،‬والذي يحكم هي تلك األقلية التي تسمى‬
‫بالنخبة ‪ ،‬تلك النخبة التي تتوفر لها القدرة على التحكم باملوارد الطبيعية‪ z‬ومصادر الثروة والقوة‪ ،‬وباملزايا‬
‫املوروثة وبغيرها من العوامل‪ ،64‬فالديمقراطية للقلة!‬
‫لذلك فإذا أردنا تطبيق املعنى الحرفي للديمقراطية الذي هو حكم الشعب‪ ،‬فإنه لن يكون هناك مكان للنخب‬
‫‪65‬‬
‫في النظام‪ ،‬ولكن ذلك يعني‪ ,‬من ناحية أخرى أنه لن تكون هناك ديمقراطية في أي مكان في العالم‬
‫وقد دافع عدد من الكتاب عن الديمقراطية‪ ,‬النخبوية‪ ,‬على أساس أنها تحقق أكبر قدر من الفعالية وذلك‬
‫لعدة أسباب‪ ،‬منها أن النخبة هي الفئة املتعلمة واملثقفة القادرة على إدارة دفة الحكم‪ ،‬كما أن وجود‬
‫أيديولوجية تؤمن بها النخبة يجعلها أقدر على تنظيم املجتمع وقيادته‪ ،‬كما يحول وجود النخبة دون طغيان‬
‫‪66‬‬
‫األغلبية الدهماء‪.‬‬
‫استبداد النواب!‬
‫كذلك األمر نجد أنه في النظام الديمقراطي‪ ،‬ال يستطيع الفرد‪ ،‬وال األقليات املشاركة في سن القوانين وال في‬
‫تعديلها‪ ،‬وال إلغائها‪ ،‬ألن إرادته‪ ،‬وإراداتهم أصبحت بيد من انتخبهم في املجالس النيابية‪ ،,‬والذين يستبدون‬
‫بالسلطة املطلقة‪ ،‬وليس في النظام الديمقراطي‪ z‬ما يكفل منع الهيئات النيابية من الوقوع في سن قوانين‬
‫تلعنها‪ z‬جماهير الصناديق االنتخابية‪ .‬لهذا كانت " نظرية سيادة األمة " خطرا على حرية اإلنسان في كل زمان‬
‫ومكان‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫( إن ذلك املبدأ يقذف بنا للسير في الطريق املخيف لالستبداد البرملاني)‬

‫‪ 64‬نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية‪ ،‬محمد أحمد املفتي ص ‪36‬‬


‫‪65‬‬
‫‪Eva Etzioni, Halvey. Fragile Democracy p 30.‬‬
‫‪66‬‬
‫‪Barbara Goodwin, Using Political Ideas, p 180.‬‬
‫ً‬
‫‪ 67‬مبادئ نظام الحكم في اإلسالم – متولي – هامش ص‪ 575‬نقال عن بنيامين‪ z‬كونستان‬
‫(ألن مبدأ سيادة األمة‪ ،‬ال يكفل منع االستبداد أو االستئثار بالسلطة املطلقة‪ ،‬ألنه ليس من شأن ذلك املبدأ‬
‫أن يهدف إلى وضع قيود أو حدود على سلطان السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية‪ ،‬فليس ذلك الهدف‬
‫من النتائج املترتبة على هذا املبدأ)‪ ،68‬إذ أن الفلسفة التي قامت عليها نظرية سيادة األمة‪ ،‬تقرر حق األمة‬
‫املطلق في تقرير القانون الذي ترتضيه األغلبية املنتخبة‪ ،‬فالحقوق لدى الفرد تم اغتيالها في ظل النظام‬
‫الديمقراطي‪ ،‬بعد أن أثبتت نظرية سيادة األمة عجزها عن كفالة ذلك (وأن مبدأ سيادة األمة ال يقف أثره‪z‬‬
‫بهذا الصدد عند تلك النتيجة السلبية التي أشرنا إليها‪ ،‬وهو أنه ال يكفل الحرية‪ ،‬وال يحول دون االستبداد‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أثرا إيجابيا عكسيا‪ ،‬وهو أنه خطر على الحرية)‪ 69،‬بل (إن مبدأ سيادة األمة من أخطر النظريات‪z‬‬ ‫بل إن له ‪z‬‬
‫على الحريات الفردية‪ ،‬وذلك ألنه يسلم بشرعية هذه السيادة‪ ،‬وعلى ذلك فكل عمل يرتكن على هذا املبدأ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يصبح شرعيا ومتفقا مع القانون ألنه ناتج‪ z‬عن إرادة األمة‪ ،‬وال شك في خطر ذلك على الحريات والحقوق‬
‫الفردية التي ال يصبح لها وجود بجانب إرادة األمة)!‪.70‬‬
‫كذلك من املفارقات العجيبة أن تفضي الديمقراطية التي تجعل التعددية من أسسها وركائزها إلى فرض‬
‫قوانين على األقليات‪ z‬تناقض معتقداتهم وتفرض عليهم التخلي عن معتقداتهم لصالح تلك القوانين‪ ،‬فمثال لو‬
‫أفضت الديمقراطية لتشريع قوانين تبيح الربا‪ ،‬فما على املجتمع إال أن يخضع ولو خالف ذلك القانون‬
‫معتقداته‪ ،‬وحين تضع عقوبة للسارق تخالف التشريعات‪ z‬اإلسالمية مثال‪ ،‬فما على املسلم إال أن يخضع‬
‫لتلك القوانين ويتخلى عن العقوبة الربانية للسرقة‪ ،‬فيناقض معتقداته! فأين التعددية؟ وأين ضمان حقوق‬
‫األقليات أو األكثرية في املجتمعات‪ z‬التي تفرض عليها العلمانية‪ z‬بالحديد والنار‪ ،‬وأين ضمان حرية االعتقاد‬
‫والتدين حين يمنع املرء من ممارستها على مستوى الدولة والقانون؟ تناقضات ليس لها آخر!‬
‫الديمقراطية التوافقية‪:‬‬
‫ومن ثم فقد نشأ اتجاه فكري رأى بأم العين‪ z‬قصور النظام الديمقراطي القائم على تحكيم رأي األغلبية‪،‬‬
‫واستبدادها‪ ،‬هذا االتجاه اصطلح‪ z‬عليه باسم الديمقراطية التوافقية‪ ،71‬وتميزت تلك الديمقراطية بقيامها‬
‫على أربعة أسس حسب "آرنت ليبهارت"‪ z:‬وهي‪ :‬أوال‪ :‬حكومة ائتالفية أو تحالف واسعة‪ ،‬تشمل حزب األغلبية‬
‫وسواه‪ ،‬وثانيها‪ :‬مبدأ التمثيل النسبي في الوزارة واإلدارة واملؤسسات واالنتخابات‪ ،‬وثالثها‪ :‬حق الفيتو املتبادل‬
‫لألكثريات واألقليات‪ z‬ملنع احتكار القرار‪ ،‬ورابعها‪ :‬اإلدارة الذاتية للشئون الخاصة لكل جماعة‪ .72‬وكما ترى‬
‫فهي قواعد ال تستند ألساس فكري منضبط‪ ،‬وإنما تستند لحلول توفيقية تلفيقية‪ ،‬فعلى أي أساس وبأية‬
‫ضوابط ستتشكل الحكومة من الحزب الفائز باألغلبية وبغيره من األحزاب؟ بأي حق ‪-‬ديمقراطي‪ -‬سيفوز‬
‫سي َفعل‬
‫َّ‬ ‫مرشح حزب لم يفز باالنتخابات بممثل‪ z‬له في الحكومة مثال؟ متى يسمح له ومتى يمنع؟ وبأية ضوابط ُ‬
‫قانون النقض الفيتو بين األغلبية واألقليات! وحين يحصل خالف بين فردين ينتميان لجماعتين خاصتين‬
‫لكل منهما إدارته وقوانينه فبأي قوانين سيفض الخالف؟ وهكذا‪.‬‬
‫‪ 68‬مبادئ نظام الحكم في اإلسالم – متولي – هامش صفحة ‪573‬‬
‫‪ 69‬مبادئ نظام الحكم في اإلسالم – متولي – هامش صفحة ‪573‬‬
‫‪ 70‬القانون الدستوري – الدكتور عبد الفتاح سايردار‪ ،‬هامش صفحة ‪ ،.63‬نقال عن اإلسالم وأصول الحكم للدكتور محمود الخالدي‪.‬‬
‫‪ 71‬مصطلح التوافقية مستلهم من مفهوم‪ consociation z‬الذي وضعه يوهانس ألثوسيوس في كتابه‪ :‬مختصر املنهج السياسي‪.‬‬
‫‪ 72‬الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد‪ ،‬آرنت ليبهارت‪ ،‬ترجمة حسني زينة ص ‪.8‬‬
‫هذا وقد انكفأت البلدان‪ z‬التي جربت الديمقراطية التوافقية عن نموها التوافقي‪( ،‬النمسا وبلجيكا‪ z‬وهولندا‬
‫وسويسرا) فقد بلغت انقساماتها التعددية الحادة وتعاون نخبها الوثيق في أواخر الخمسينات من القرن‬
‫العشرين‪ ،‬وراحت منذئذ تتراجع ‪73‬عن ديمقراطيتها التوافقية!‬
‫التناقض والتخبط بين الديمقراطية والليبرالية‪:‬‬
‫لذلك احتيج في الغرب إلى الليبرالية ‪ ،‬التي تقوم على حماية حقوق األفراد واألقليات‪ ،‬لذلك ُي َف َّر ُق بين‬
‫الديمقراطية الليبرالية‪ ،‬والديمقراطية الالليبرالية‪z.‬‬
‫الحظ أيها القارئ الكريم أن الديمقراطية تحارب ديكتاتورية القلة‪ ،‬وأن الليبرالية تحارب ديكتاتورية‬
‫َ‬
‫الكثرة‪ ،‬لذا َوال ُفوا بينهما هذه املوالفة العجيبة ببدعة‪ :‬الديمقراطية الليبرالية!‬
‫وهذا من فذلكات اللعب‪ z‬باأللفاظ حين يظهر عوار نظام ما‪ ،‬فتجد أنهم يسندونه بنقيضه كي ال يظهر بمظهر‬
‫َّ‬ ‫َ َّ‬
‫النظام املجحف‪ ،‬فمن السماجة بعد أن نظ َر املنظرون للفكر الديمقراطي ما نظروه أن يتبين لهم أن هذا‬
‫النظام ديكتاتوري في حكمه على األقليات واألفراد واملمتنعين عن التصويت‪ ،‬وفي تعامله مع التعددية التي‬
‫تخرج عنه فكريا‪ ،‬وأنه ال يضمن لهم أي حق‪ ،‬ويخضعهم لرأي األغلبية ممن شارك وانتخب‪ ،‬وإن كان فيه‬
‫ً‬
‫آخر ينتخبونه‪ ،‬لذلك لم يجدوا ُب َّدا من ترقيعه‬ ‫آخر أو رئيس َ‬
‫ٍ‬
‫تعديا على حرياتهم‪ ،‬أو على رغبتهم بتشريع َ‬
‫ٍ‬
‫مذهب يحارب الفردية ويحارب‬ ‫ٍ‬ ‫بنقيضه‪ ،‬وهو مذهب الفردية‪ ،‬أي الليبرالية‪ ،,‬فكيف سيتم التزاوج بين‬
‫تشريعات أو نظم تمنعُ‬ ‫تحكم القلة‪( ،‬الديمقراطية)‪ ,‬مع مذهب يمنع الكثرة من االستئثار بمقاليد‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫الخ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫لألكثرية (الليبرالية)!!‬
‫ِ‬ ‫ض ْو ِع‬ ‫األفراد حقوق ُه ْم وت ْج ِب ُر ُه ْ‪,‬م على‬
‫َ‬ ‫األقليات أو‬
‫ِ‬
‫فالديمقراطية قد تحد من حريات الفرد أو األقليات إن خولتها األكثرية بهذا‪ ،‬أي إن اقتضتها ظروف املجتمع‬
‫إلى هذا‪ ،‬لكن الليبرالية التي تقوم أساسا على ضمان الحريات‪ ،‬واملساواة أمام القانون‪ ،‬تلجم الديمقراطية‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫والليبرالية تضمن لألفراد حرياتهم‪ ،‬ولكن الديمقراطية‪ z‬تلجمها في حال تعارض هذه الحريات مع رأي‬
‫األغلبية! فلئن رأت القلة ضرورة إباحة التدخين في األماكن العامة‪ ،‬ورأت الكثرة ضرورة منعه‪ ،‬فإن‬
‫الديمقراطية تقضي بفرض منعه‪ ،‬والليبرالية تقضي بفرض إباحته حتى ال يلجم األقلية‪ ،‬فكيف سيتزاوج‬
‫املذهبان إذن؟ وكيف سينتج لنا هذا التناقض ديمقراطية ليبرالية؟؟ كيف سنلغي رأي األغلبية ويبقى الحكم‬
‫ديمقراطيا؟ وكيف سنحكم رأي األغلبية ويبقى لليبرالية‪ z‬أي أثر؟‬
‫لذلك يمكن لليبرالية‪ z‬أن توجد في ظل حكم أقلية‪ ،‬طاملا أن حريات االفراد مضمونة‪ ،‬ومساواتهم أمام‬
‫القانون مراعاة‪،‬‬
‫ويمكن للديمقراطية‪ z‬أن توجد بال ليبرالية‪ ،‬فكل فكرة منهما تبغي إلى تحقيق غرض‪ ،‬وهي ال تملك املقومات‬
‫الذاتية في فلسفتها لضمان أساس ما قامت عليه الفكرة األخرى‪ ،‬فليس من مقومات الديمقراطية ضمان‬
‫املساواة أمام القانون‪ ،‬وال ضمان الحريات‪ ،‬إال إن رأت األكثرية ذلك‪ ،‬ألن فكرتها األساس تقوم على منع‬
‫تحكم القلة في الكثرة‪ ،‬وفكرة تداول السلطة‪ ،‬ولهذا فقد زاوج بعض املفكرين بين الديمقراطية‪ z‬والليبرالية‪،‬‬
‫بما يسمى الديمقراطية الليبرالية‪.‬‬

‫‪ 73‬الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد‪ ،‬آرنت ليبهارت‪ ،‬ترجمة حسني زينة ص ‪.13‬‬
‫وحين نقول بأن فكرتها الفلسفية ال تقوم على أساس ضمان مساواة األفراد أمام القانون مثال‪ ،‬فإن هذا ألن‬
‫الفكرة األساس التي قامت عليها إنما هي لتحقيق أن تكون السلطات للشعب‪ ،‬فإن رآى شعب أن يحكم‬
‫بقانون ال يكترث بحقوق العبيد والنساء واملحكومين والعسكريين‪ ،‬فال حق لهم في التصويت‪ ،‬وال حق لهم في‬
‫اختيار القوانين التي تسودهم‪ ،‬وال يعدل القضاء بينهم ألنهم عبيد أو ألن املجتمع ينظر إلى أن إنسانيتهم‪z‬‬
‫ناقصة‪ ،‬فإن هذا سيسري عليهم‪ ،‬ومثاله أثينا في ديمقراطيتها املباشرة‪( z‬التي كانت تسمى في أثينا‬
‫باإليزوبسيفيا (الحق في التصويت)) التي منعت العبيد والنساء واملحكومين من ممارسة أي من هذه الحقوق‪،‬‬
‫ومع هذا فهي دولة ديمقراطية بامتياز‪ ،‬ومثاله أيضا أي دولة ديمقراطية اليوم تمنع أطيافا من املجتمع من‬
‫ممارسة ذلك الحق‪ ،‬العتبارات سياسية أو ثقافية‪ ،‬فالقانون املصري اليوم على سبيل املثال يمنع الجنود‪،‬‬
‫ومن هم دون سن الثامنة عشرة واملحكومين‪ ،‬ومن لم يكن مصريا ألكثر من خمس سنوات من أن يصوت في‬
‫االنتخابات‪ ،‬فما الفارق بين من بلغ الثامنة عشرة مثال ومن هو بالغ عاقل في السادسة عشرة من عمره؟‬
‫ولهذا فإنه من بين الخمسة والتسعين مليونا الذين يمثلهم‪ z‬سكان مصر من املصريين‪ ،‬تجد أن ما يقارب‬
‫الخمسة واألربعين مليونا محرومون من ممارسة حق االنتخاب!‪.‬‬
‫واملتأمل املدقق يجد أن الديمقراطية‪ z‬والليبرالية‪ z‬تتناقضان‪ z‬تماما وال يمكن الجمع بينهما! ووجه التناقض هو‬
‫أن األغلبية (أي الديمقراطية) لو رأت رأيا‪ ،‬وأجحف هذا الرأي بحقوق أو حريات األقلية أو مجموعة من‬
‫األفراد‪ ،‬فإن الليبرالية‪ z‬ترى أن يسود مبدأ الحريات‪ z‬وضمان الحقوق فال ُيعمل بالرأي الذي نتج عن حكم‬
‫ُ‬
‫األكثرية‪ ،‬كما وأن الليبرالية تقتضي أن تجعل الحريات‪ z‬وضمانة تحقيق القوانين لها أساسا في العملية‪z‬‬
‫التشريعية‪ ،‬وبالتالي فال تترك مجاال لألغلبية بأن ترى من القوانين ما تريد! فاألغلبية محكومة بالزاوية‬
‫َ‬
‫فقيدتهم الليبرالية‪ ،‬وهي التي ت َّدعي التحرر من كل قيد‪( ،‬وهذه طبيعة‬ ‫التي فرضتها عليهم الليبرالية‪َّ ،‬‬
‫األنظمة الوضعية تناقض نفسها بنفسها)‪ ،‬وبالتالي فالديمقراطية‪ z‬ذهبت أدراج الرياح! والليبرالية غدت‬
‫متسلطة!‪،‬‬
‫فهب مثال أن األكثرية قررت منع ما يسمى زواج املثليين‪ ،‬فإن الليبرالية ترى في هذا منعا لتحقيق الحريات‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ومنعا للمثليين‪ z‬من حقوقهم‪ ،‬فتتجاوز حينها الدولة ما رأته األغلبية‪ ،‬فتقوم بسن قوانين تراعي حقوق‬
‫األفراد واألقليات من املثليين‪ ،‬فأين ذهب رأي األغلبية؟ لقد ذهب أدراج الرياح! وأين ذهبت الليبرالية‪ z‬بعد‬
‫ُ‬
‫أن قيدت بقيد فرض الحريات؟ وحين فرضت الحريات‪ z‬كيف بقيت ليبرالية؟ ذهبت أدراج الرياح!‪z‬‬
‫إن مفهوم إرادة األمة‪ ،‬مفهوم غامض مبهم‪ ،‬وهو في النظام الديمقراطي يعني‪ :‬حق األمة في ممارسة أعمال‬
‫ً‬
‫السيادة‪ ،‬ولكننا (حتى لو سلمنا نظريا بمبدأ سيادة األمة‪ ،‬أي بوجود إرادة مستقلة عن إرادة األفراد‪ ،‬فإنه‬
‫من الناحية الواقعية ال تبدو إرادة األمة إال في شكل إرادة أغلبية أفراد األمة‪ ،‬إذن فالسيادة لألغلبية‬
‫وليست لكل األمة‪ ،‬فما هو السبب القانوني في حق إخضاع األقلية لألغلبية)‪ 74‬ثم تجريد األقلية من حقها في‬
‫ممارسة أعمال السيادة‪ ،‬فصار الوضع إلى استبداد األكثرية باإلرادة العامة! وحرمان األقلية من حقوق‬
‫ثابتة لهم ‪ ،‬لذا فقد وقعت الفلسفة الديمقراطية في تناقض حين بنت وجهة نظرها على أساس أن السيادة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫للشعب كل الشعب مطلقا‪ ،‬ثم سلبت جزءا كبيرا من هذا الشعب حقه في العمل‪ z‬السياسي‪ .‬لذلك كانت‬

‫القانون الدستوري – الدكتور عبد الفتاح سايردار هامش‪ ،‬صفحة ‪.63‬‬ ‫‪74‬‬
‫ً‬ ‫الديمقراطية خطرة‪ ،‬ألنها تخلع ً‬
‫شعبيا على األغالل‪ 75.‬يقول املنظر السياسي خوان ليننز ‪ Juan Linz‬إن‬
‫‪,‬‬ ‫طالء‬
‫مبدأ األغلبية واألقلية السياسي سيتحول إلى أغلبية وأقلية قومية‪ ،‬وبالتالي ينشأ عن ذلك "استبداد‬
‫‪76‬‬
‫األكثرية"‪.‬‬
‫ثالثة أنواع من التجاوزات ملفهوم الديمقراطية‬
‫وسنجد ثالثة أنواع من التجاوزات ملفهوم الديمقراطية‪،77‬‬
‫األول‪ :‬حين يسن الحزب‪ z‬الحاكم قوانين تمثل ما تعهد به في برنامجه االنتخابي‪ ،‬فهذه القوانين قد يقال بأنها‬
‫تمثل بشكل ما األغلبية التي أوصلت الحزب للحكم‪ ،‬وهي بالتالي تمثل رأي الشعب‪ ،‬ولها قوة مستندة لهذا‬
‫التمثيل‪ ،‬إال أن النظر املتفحص يجد أن الديمقراطية ال تحقق وصول أي من األحزاب أو الشخصيات للحكم‬
‫بناء على رأي األغلبية بل دائما يمثل رأي األقلية‪ ،‬وبالتالي فالقوانين هذه التي توافقت مع البرنامج االنتخابي ال‬
‫‪78‬‬
‫تمثل رأي األغلبية‪،‬‬
‫والنوع الثاني من القوانين تلك التي يسنها الحزب الحاكم نتاج وجوده في السلطة مما لم يكن ضمن برنامجه‬
‫االنتخابي‪ ،‬وهذا يمثل أغلبية القوانين‪ ،‬والحزب بهذا يستغل ثقله البرملاني وقدرته على فرض القوانين‪ ،‬وال‬
‫يرجع في أي من هذه القوانين لرأي الناس‪ ،‬وال يشكل انتخابهم له معنى موافقتهم على تلك القوانين! وهذا هو‬
‫عين تجاوز الديمقراطية وسوء استغالل السلطة‪ ،‬والتحكم في الناس‪ ،‬وكمثال على هذا‪ ،‬فإن الحزب الحاكم‬
‫في بعض الدول الغربية املتقدمة ديمقراطيا قام بفرض قانون يقضي بإنشاء نواد للمثليين في كل املدارس‬
‫(اإلعدادية والثانوية) في الوالية بحيث يدخله الطالب باختياره وال يحق للمدرسة أن تبلغ األهل عن توجهات‬
‫ابنهم أو ابنتهم الجنسية‪ ،‬وال ممارساتهم فيها‪ ،‬وفي والية أخرى قام بفرض إدخال التعليم‪ z‬الجنسي بشكل قذر‬
‫للمدارس من املراحل االبتدائية الدنيا‪ ،‬رغم املعارضة الشديدة من قطاعات واسعة من املجتمع ومن‬
‫املدارس الدينية‪ ،‬وهذه القوانين لم تكن ضمن البرنامج االنتخابي‪ ،‬ولم تخضع ألي استفتاء شعبي عليها‪ ،‬فهذا‬
‫مثال على استغالل السلطة‪ ،‬وعلى تداخل السلطة‪ z‬التنفيذية مع التشريعية بشكل فج‪.‬‬
‫والنوع الثالث‪ :‬كذلك فإنك ترى أن األحزاب السياسية تضع برامجها وتصوراتها‪ ،‬وتمنع أعضاءها ومن‬
‫يدخلون حمأة االنتخابات ممثلين لها‪ ،‬تمنعهم من تبني أي رأي مخالف لتلك التصورات‪ ،‬فمثال في الحزب‬
‫الليبرالي الكندي نجد أن بعض املرشحين في االنتخابات حين سألتهم الصحافة عن رأيهم في املثلية الجنسية‪،‬‬
‫وأبدوا آراء مخالفة لرأي الحزب قام الحزب‪ z‬بطردهم‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فالنواب‪ z‬الذين يدخلون البرملان‪ ،‬والذين‬
‫سيصوتون على مشاريع القوانين ال يملكون‪ z‬أن يخرجوا عن تصورات األحزاب التي يمثلونها (إال فيما ندر‬
‫وفيما هو من الدرجة الثانية من األهمية من القوانين)‪ ،‬فإن الناظر املتفحص يجد أن القوانين التي تسنها‬

‫‪ 75‬الدكتور محمود الخالدي‪ ،‬اإلسالم وأصول الحكم‪.‬‬


‫‪ 76‬الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد‪ ،‬آرنت ليبهارت‪ ،‬ترجمة حسني زينة ص ‪.7‬‬
‫‪ 77‬تذكر أننا قلنا ما يلي‪ :‬الديمقراطية تقوم على ثالثة أسس رئيسة‪ :‬أولها‪ :‬تحكيم رأي األغلبية في املجتمع‪ ،‬وثانيها‪ :‬منع تركز السلطات بيد‬
‫األقلية‪ ،‬أو استغاللها‪ ،‬وثالثها‪ :‬تمثيل السلطات لرأي الشعب‪،‬‬
‫‪ 78‬راجع فصل‪ :‬نواقض أخرى للديمقراطية‪ ،‬فيه تفصيل‪ ،‬من ذلك أن الرئيس الفرنسي ماكرون قد فاز في االنتخابات الفرنسية بنسبة ‪18‬‬
‫باملائة من أصوات الناخبين! وهذا يعني أن حوالي ‪ %88‬من الناخبين ال يرونه ممثال لهم‪ ،‬فكيف أضحى ممثال لرأي األغلبية وكرس العملية‬
‫الديمقراطية تكريسا في فرنسا أم الديمقراطية؟‬
‫األحزاب إنما تمثل رأي قلة مسيطرة على تلك األحزاب تضع تصوراتها‪ ،‬وتضع القوانين‪ z‬التي تحقق هذه‬
‫التصورات في الواقع‪ ،‬وهذا يمثل قمة االستبداد التشريعي في ثياب دولة قانونية!‬
‫العالقة بين العلمانية والديمقراطية‪:‬‬
‫لذلك فالفكرة األساس التي تقوم عليها العلمانية‪ ،‬ال تشترك في الفكرة األساس التي تقوم عليها الديمقراطية‬
‫في شيء‪ ،‬لذلك يمكن أيضا أن توجد العلمانية في دولة ال تقوم على أساس الديمقراطية‪ ،‬طاملا أن القيم‬
‫الدينية واألخالقية واإلنسانية ال تتحكم في التشريعات‪ z‬ونظم الحياة‪ ،‬فيمكن وصف الدولة النازية الهتلرية‬
‫بالعلمانية‪ ،‬ويمكن وصف الستالينية بالعلمانية‪ ،‬وكذلك يمكن أن توجد الديمقراطية في ظل نظام ال علماني‪،‬‬
‫طاملا أن منع تكريس حكم القلة وتداول السلطة‪ z‬مضمون‪ ،‬وليس في آليات‪ z‬وال في البنية الفلسفية للفكرة‬
‫الديمقراطية ما يشير إلى فصل الدين عن الدولة‪ ،‬أو الحياة‪ ،‬وال في العلمانية‪ z‬ما يشير إلى تداول السلطة‪ z‬ومنع‬
‫تكريس حكم القلة‪،‬‬
‫هذه العلمانية‪ ،‬تشكل الوجه الثقافي أو الحضاري للحداثة‪ z‬الغربية‪ ،‬أو بمعنى أدق‪ :‬تعبيرها الحضاري‬
‫فالديمقراطية وجهها أو تعبيرها السياسي‪ ،‬واقتصاد السوق والراسمالية‪ z‬وجهها االقتصادي‪ ،‬والليبرالية‬
‫نزعتها الفردية‪،‬‬
‫التناقض بين الليبرالية والعلمانية‪:‬‬
‫وأما الليبرالية‪ ،‬فإنها وقعت في تناقض آخر‪ ،‬فهي ال تعترف بمرجعية ليبرالية مقدسة؛ ألنها لو قدست أحد‬
‫رموزها إلى درجة أن يتحدث بلسانها‪ ،‬أو قدست أحد كتبها إلى درجة أن تعتبره املعبر الوحيد أو األساسي‬
‫عنها‪ ،‬لم تصبح ليبرالية‪ ،‬وألصبحت مذهبا من املذاهب‪ z‬املنغلقة على نفسها‪ ،‬مع اتفاق الليبراليين‪ z‬على أهمية‬
‫حرية الفرد‪.‬‬
‫مرجعية الليبرالية هي في هذا الفضاء الواسع من القيم التي تتمحور حول اإلنسان‪ ،‬وحرية اإلنسان‪ ،‬وكرامة‬
‫اإلنسان‪ ،‬وفردانية اإلنسان‪ .‬الليبرالية تتعدد بتعدد الليبراليين‪ .‬وكل ليبرالي فهو مرجع ليبراليته‪ .‬وتاريخ‬
‫الليبرالية مشحون بالتجارب الليبرالية املتنوعة‪ ،‬ومن حاول اإللزام سقط من سجل التراث الليبرالي‪.‬‬
‫أما العلمانية‪ ،‬فإنها تمنع اتخاذ أي دين أو أخالق أو عقائد أساسا النبثاق القوانين واألنظمة منها‪ ،‬فالليبرالية‪z‬‬
‫إذن تتناقض مع العلمانية‪ ،‬في أنها تكرس قيما إنسانية‪ ،‬مع أن العلمانية ال تقف في وجه الليبرالية‪ ،‬إال إن كان‬
‫مصدر هذه القيم دينيا أو أخالقيا‪ ،‬لعداء العلمانية للدين‪ ،‬فهي تغض الطرف عن القيم التي تقدس حرية‬
‫االنسان‪،‬‬
‫والليبرالية ال تمنع في فلسفتها الذاتية أن يكون مصدر القيمة التي تحقق الحرية والكرامة والحقوق القانونية‬
‫لالنسان‪ ،‬أن يكون مصدرها دينيا‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬طاملا أنها تحقق هذه القيم‪ ،‬لذلك ال ترى بأسا في أن يكون‬
‫الليبرالي مسلما أو نصرانيا‪ ،‬طاملا هو يحقق هذه القيم التي قوامها تحقيق حريته وتحرره‪.‬‬
‫وهي في هذا ال تؤطر لفلسفة تبين كيفية تحقيق هذه القيم‪ ،‬فمن رآى تحقيقها من خالل قيم أساسها ديني‬
‫فله ذلك‪ ،‬وهذا فيه تناقض بغيض‪،‬‬
‫إذ أن ثقافة أمة ما‪ ،‬وحضارتها‪ ،‬إنما‪ z‬تقوم على أسس تحدد ملن يتحضر بهذه الحضارة وجهة نظر في الحياة‪،‬‬
‫قد تكون هذه األسس نتاج عقيدة عقلية كما هو الحال في العقيدة االسالمية أو في العقيدة الرأسمالية‪ ،‬أو‬
‫قد تكون هذه األسس نتاج موروثات من العادات‪ z‬والتقاليد والنظم التي يحيا عليها مجتمع ما‪ ،‬أو بمفاهيم‬
‫اعتنقها أصحاب القوة في مجتمع ما‪ ،‬وفرضوها على الناس‪ ،‬فتمثلت في حياتهم‪ ،‬فإن فشل أصحاب‪ z‬القوة في‬
‫إقناع الناس بها‪ ،‬بقيت تركيبة مجتمعهم هشة ال تتحول مع هشاشتها هذه األفكار إلى أن تكون حضارة‪ ،‬كحال‬
‫الشيوعية في نموذج االتحاد السوفياتي البائد‪ ،‬وفي كلتا الحالتين األوليين‪ ،‬حددت له حضارته وجهة نظر في‬
‫الحياة‪ ،‬ومفهوما معينا للسعادة‪ ،‬ومقاييس يقيس عليها سلوكه وتصرفاته‪ ،‬وبالتالي فال بد لكل حضارة من‬
‫مجموعة من املصطلحات‪ z‬واملفاهيم املنبثقة عن عقيدتها‪ ،‬وآيديولوجيات‪ z‬ذات منطلقات محددة مترابطة‬
‫نشأت نتاج حل العقدة الكبرى‪ ،‬فهي ومصطلحاتها ومفاهيمها املنبثقة عن عقيدتها كل منسجم يهدف إلى إيجاد‬
‫نمط معين من العيش يحياه من يؤمن بهذه الحضارة‪.‬‬
‫فالليبرالية إذ منعت انغالق‪ z‬نفسها على نفسها‪ ،‬ومنعت نفسها من أن تكون مذهبا منغلقا منضبطا‪ ،‬منعت‬
‫نفسها من أن تشكل منظومة فكرية متجانسة تسعى إلى إيجاد نمط معين من العيش‪ z‬له مفاهيمة وآلياته‬
‫وعقيدته ذلك الكل القائم على أسس مترابطة تحقق لالنسان نمطا معينا من العيش‪،‬‬
‫فما هو شكل االنسان الذي يعيش تناقضات في قيمه‪ ،‬فمن قيمة أساسها العلمانية‪ ،‬إلى قيمة أساسها‬
‫اإلنسانية إلى قيمة أساسها االسالم‪ ،‬كيف له أن يحقق سعادة وأسس هذه القيم متناقضة‪ ،‬فهو إذ ال يسرق‬
‫ألن السرقة حرام‪ ،‬يزني ألن الزنا يحقق له الحرية‪ ،‬ويرى منع تدخل االسالم في نظام حياته إال أنه ال يسرق‬
‫ألن السرقة حرام! فيرى منع االسالم من أن يصوغ قيمه إال أن بعض قيمه قائمة على أساس االسالم‪،‬‬
‫كيف سيتجانس تفكير هذا االنسان ويفضي به إلى السعادة والطمأنينة‪ ،‬بل كيف سيكون انسانا يحترم عقله!‬
‫كيف سيبقى احترامه والتزامه لبعض هذه القيم إذ تناقض بعضها بعضا؟ فهل سيغلب عليه منع الدين من‬
‫صياغة قيمه فيتخلى عن فكرة تحريم السرقة؟ أم سيلغي منع تدخل الدين‪ ،‬فيحرم على نفسه الزنا؟ إذن‬
‫فهذا سيفضي إلى صياغة االنسان املتقلب املتناقض فكريا وسلوكيا!‬
‫صحيح إذن أن الليبرالية‪ z‬ليست بدين‪ ،‬ألنها لوث فكري‪ ،‬وتفضي حتما إلى فساد املجتمعات‪ ،‬وفساد النظم‬
‫القانونية‪ ،‬فكيف لقاض أن يحكم على ليبرالي بجريمة وهذا الليبرالي قام بتلك الجريمة ألن منطلقاته الفكرية‬
‫لم تر فيها جريمة!‬

You might also like