You are on page 1of 11

‫مجلـة سلسلة ألانوار‬

‫املجلد ‪ / 3‬الع ــدد‪ 33_ 10 :‬نوفمبر ‪ ،2019‬ص ‪551 -531‬‬ ‫مخبرألانساق‪ ،‬البنيات‪ ،‬النماذج واملمارسات‬
‫جامعة وهران‪2‬‬

‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬


‫‪Epistemology of communication‬‬
‫‪Problems generated from philosophical theorizing‬‬

‫‪2 ‬‬
‫د‪.‬سعيدات الحاج عيس ى *‪ ،5‬د‪.‬آيت قاس ي ذهبية‬
‫‪( 1‬كلية العلوم الانسانية و الاسالمية و الحضارة ‪ ،‬جامعة الاغواط‪ ،‬الجزائر )‬
‫‪( 2‬كلية العلوم الانسانية و الاسالمية و الحضارة ‪ ،‬جامعة الاغواط‪ ،‬الجزائر )‬

‫امللص ‪:‬‬
‫يقتضي البحث العام يف سريورة الظاهرة االتصالية ‪/‬اإلعالمية على الصعيد الفكري املنظم ‪،‬جمهودا‬
‫"ايستوغرافيا" كبريا ‪،‬بالنظر ملا التداخل والتعقيد الذي عرفته يف فرتة زمنية لطاملا اعتربت مفصلية يف تاريخ‬
‫البشرية ككل ‪،‬متيزت بالتحوالت العميقة يف البنى السياسية واالجتماعية واالقتصادية فضال على األنساق‬
‫الفكرية املواكبة وأحيانا احملركة هلا‪.‬‬
‫أدى التفكك املنهجي والبنيوي الذي عرفه اجملهود الفلسفي (النسقي) إىل ظهور حالة من االنبجاس الوجودي‬
‫لفروع معرفية قائمة بذاتها –سرعان ما استقلت بروادها ومنظريها – واختذت آليات جديدة لالندماج ضمن‬
‫سريورة التطورات االجتماعية و البنى الثقافية واالقتصادية الفاعلة داخل اجملتمعات يف أوروبا وأمريكا‬
‫‪،‬وكمفارقة تارخيية ‪،‬انربى احلاملون للتخصصات العلمية الوافدة لفعل ذلك داخل "معمعة "الصراع املادي"‬
‫(احلرب) ‪،‬بني األوروبيني املعمرين ألمريكا واألوصياء يف فرنسا وإجنلرتا‪.‬‬
‫جاءت حماوالت التنظري لعلوم االتصال يف إطار الرصد املعريف للظواهر املتعددة اليت أحدثتها (كمستحدثات‬
‫تقنية وكخطاب فكري مؤسس) ‪،‬لكن اجلهد كان باألساس من متعاطي التصور الفلسفي اجلديد ممن دعاهم‬
‫"والرت بنجامني" مبفكري العصر اجلديد أو الضوئي‪،‬غري أن شجرة عالء الدين األسطورية(يقطع غصن ليخرج‬
‫مكانه غصنان) ‪،‬سرعان ما فعلت فعلها يف نطاق هذا التحول ‪،‬فقد جاء من أخرج من رحم الفلسفة علوما‬
‫ومن رحم العلوم فروع وختصصات وحقوال معرفية مل تعرف يوما السكون والوداعة‪.‬‬
‫الكلمات مفتاحية‪ :‬االتصال واإلعالم –نظريات االتصال –االبستومولوجيا‪-‬األنساق الفكرية‪-‬النص الصحفي‬
‫–املدرسة النقدية‪-‬مناهج البحث‬

‫* ‪ saidatmalek@yahoo.fr‬استاذ محاضر"أ " بقسم الاعالم و الاتصال –جامعة الاغواط –الجزائر‪،‬‬


‫‪-‬‬
‫‪‬‬
‫‪ ait.sirdahbia@yahoo.com‬استاذة محاضر "أ" بقسم الاعالم و الاتصال –جامعة الاغواط‪-‬الجزائر‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫آيت قاسي ذهبية‬.‫ د‬/ ‫سعيدات احلاج عيسى‬.‫د‬

Abstract:

The general research into the process of communication / information


phenomenon at the organized intellectual level requires a great effort "histo-
graphy", given the overlap and complexity that I have known in a period that
has long been considered articulated in the history of mankind as a whole,
characterized by profound transformations in the political, social and
economic structures as well as the accompanying intellectual systems. And
sometimes driving her.
The systematic and structural disintegration of the philosophical effort led to
the existence of an existential emancipation of independent disciplines -
which soon became independent of its pioneers and theorists - and took new
mechanisms to integrate into the process of social developments and cultural
and economic structures active within societies in Europe and America, as a
historical paradox. Holders of incoming scientific disciplines did so within
the "confines" of the "material conflict" (war), between the perennial
Europeans of America and the guardians of France and England.
The theoretical attempts at communication science came within the
framework of cognitive observation of the various phenomena they had
created (such as technical innovations and established intellectual discourse),
but the effort was mainly from the users of the new philosophical
conception, whom Walter Benjamin called the thinkers of the new age or
photosynthesis., quickly did its work in the scope of this transformation, has
come from the womb of philosophy science and the womb of science
branches and disciplines and knowledge fields were never known stillness
and meekness.

Keywords : Communication and information - Communication Theories -


epistemology - cognitive Systems - Press Text - Critical Tendency -
Research Methods

106
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫ّ‬
‫شكلت التحوالت العميقة على املشهد إلاعالمي العام –خالل العقدين املاضيين على ألاقل‪-‬‬
‫تأثيرات حادة و واسعة على الصعيد ألاكاديمي املتخصص‪،‬نظرا لألسئلة وإلاشكاليات‬
‫املتولدة من رحم هذا التطور‪،‬إن على مستوى عناصر ومكونات الظاهرة‪/‬الظواهر‬
‫إلاعالمية الاتصالية داخل حيزها الفلسفي و السوسيوثقافي بتمثالته وامتداداته‪،‬أو على‬
‫مستوى النسق السريع غير املحدود لتطور التقنيات وألادوات التطبيقية املوظفة في خدمة‬
‫الوسائل الاتصالية ذاتها وعالقات ألافراد والفاعلين بها‪.‬‬
‫أدى هذا "التحالف" الجديد بين املخترعات التقنية ‪/‬التكنولوجية من جهة ‪،‬‬
‫وسيرورة الاتصال كحزمة من الظواهر املتفاعلة املتداخلة من جهة ثانية ‪،‬إلى بروز آليات‬
‫مستحدثة في الوظيفة إلاعالمية واملتعلقة باملعلومات التي يتداولها الفرد في بيئته‪.‬‬
‫صاحب التطورات البنائية والفكرية التي شهدتها املجتمعات الحديثة ظهور عصر‬
‫إلاعالم ‪،‬وعلوم إلاعالم التي اكتمل نموها بفضل التغيرات املتوالية للحقل العلمي الفلسفي‬
‫العام من جهة‪،‬و املخترعات التكنولوجية الحديثة التي ساهمت في اكتمال معادلة إلاعالم‬
‫الجماهيري ‪،‬ثم إلاعالم الافتراض ي بأبعادها الثقافية والاجتماعية املعقدة واملتداخلة على‬
‫أكثر من صعيد من جهة أخرى‪.‬‬
‫وقد استمرت هذه العلوم في التطور ووفق وتيرة سريعة بفضل أيضا الاختراعات‬
‫التكنولوجية الرقمية التي استفادت بالتحديد من تكنولوجيا ألاقمار الصناعية‬
‫والكومبيوتر عالي التطبيقات وإلاعدادات والبرامج ‪.‬‬
‫‪ -‬إشكالية ‪:‬‬
‫ما هو ألافق الابستمولوجي الاتصالي الحالي ‪،‬وما تأثيراته‪/‬تطبيقاته على املشهد العلمي‬
‫البحثي ‪،‬وحدود استخدامات ألادوات العلمية الناتجة عن التحول الكامل ‪،‬الذي أحدثته‬
‫الوسيلة على أنطولوجيا العلم التطبيقي(دراسات إلاعالم لم تكن ولن تكون نسقية بحتة)‬
‫لوسائل الاتصال؟‬
‫ما مقدار حضور التصور الفلسفي ألاولي أمام ما يشهده نسق الاتصال إلانساني‬
‫و(التقني )التكنولوجي من تداخل واندماج براغماتي مكتسح؟‪..‬‬

‫‪107‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫‪ -‬صاحب التطورات البنائية والفكرية التي شهدتها املجتمعات الحديثة ظهور عصر إلاعالم‬
‫‪،‬وعلوم إلاعالم التي اكتمل نموها بفضل املخترعات التكنولوجية الحديثة التي ساهمت في‬
‫اكتمال معادلة إلاعالم الجماهيري ثم إلاعالم الافتراض ي بأبعادها الثقافية والاجتماعية‬
‫املعقدة واملتداخلة على أكثر من صعيد‪.‬‬
‫وقد استمرت هذه العلوم في التطور ووفق وتيرة سريعة بفضل أيضا الاختراعات‬
‫التكنولوجية الرقمية التي استفادت بالتحديد من تكنولوجيا ألاقمار الصناعية‬
‫والكومبيوتر عالي التطبيقات وإلاعدادات والبرامج ‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أنه مض ى ما يقارب القرن على بروز علوم إلاعالم والاتصال‬
‫‪،‬كتخصص علمي في الجامعات العاملية ‪،‬إال أن النقاش يتجدد في كل مرة ‪،‬ومرد ذلك إلى أن‬
‫هذه العلوم لم تظهر نتيجة نقاشات ثقافية فلسفية عميقة للنخبة الفكرية في املجتمعات‬
‫(الغربية على وجه الخصوص)‪،‬وإنما فرضتها تطورات تقنية تكنولوجية ‪ ،‬أبرزت الحاجة إلى‬
‫إيجاد أطر داخل الجامعات من أجل تفسيرها‪ ،‬ولهذا كلما ظهرت إلى الوجود تكنولوجيا‬
‫جديدة ذكرتنا بالنقاش حول العلوم التي تفسرها‪.‬‬
‫وتهدف علوم إلاعالم إلى دراسة الظاهرة إلاعالمية كواقع (كميدان) وممارسة (تمثالت)‬
‫في سلسلة من املفاهيم واملقوالت العلمية التي تكشف العالقة الوثيقة التي تربطها بحقول‬
‫العلوم الاجتماعية ألاخرى مثل الفلسفة التي تبقى جزء من املحاوالت الفكرية املستمرة‬
‫الهادفة إلى معرفة (الاقتراب) من الحقيقة املتعلقة بالظاهرة إلاعالمية الاتصالية في‬
‫فضاءها السوسيولوجي و الانثروبولوجي والثقافي الواسع واملركب‪.‬‬
‫وبهذا املعنى يشير مجال علوم إلاعالم إلى دراسة إلاعالم كمفهوم وظاهرة وواقع وممارسة‬
‫يومية ومؤسساتية‪ ،‬يمكن ربطها بمجموعة ال متناهية من ألاسباب واملسببات‪ ،‬لذا كان من‬
‫الالزم إلاحاطة بالحقول العلمية املختلفة لتفسير مكونات الظاهرة إلاعالمية نفسها ‪.‬‬
‫علم إلاعالم و الاتصال‪..‬هل هو علم أم امتداد فلسفي أم وظيفي ؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫لم يكن لعلم إلاعالم و الاتصال أن يشكل علما قائما بذاته‪ ،‬إال بعد عدة مراحل معرفية‪،‬‬
‫جعلته محل اهتمام علوم كثيرة و مختلفة مثل التاريخ‪ ،‬الجغرافيا‪ ،‬علم النفس‪ ،‬علم‬
‫الاجتماع‪ ،‬الاقتصاد و العلوم السياسية ‪ ، ..‬و هذا ما طرح بإلحاح قضية – الشرعية –‬

‫‪108‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫كما ذكر ذلك أرموند و ميشال ماتالر ‪ ،Armand et Michel Mattelart‬ودفعها إلى البحث‬
‫عن نماذج علمية )‪ (Scientificité‬تتبنى إشكاليات معرفية من العلوم ألاخرى(‪.)2‬‬
‫ً‬
‫كما علق ولبر شرام ‪ ، W.shramm‬عن تطور علم إلاعالم و الاتصال عام قائال ‪" :‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن الاتصال ليس اختصاصا ًً أكاديميا‪ ،‬على النمط الذي هو عليه علم الفيزياء أو‬
‫(‪.)3‬‬
‫الاقتصاد‪ ،‬لكنه اختصاص في مفترق الطرق ‪..‬‬
‫إن هذه املالحظة لم تكن خاطئة‪ ،‬فإلى غاية الستينيات من هذا القرن‪ ،‬كان املهتمون‬
‫بموضوع الاتصال هم علماء النفس‪ ،‬علماء الاجتماع‪ ،‬علماء الرياضيات‪ ،‬أو مختصون في‬
‫علم السياسة‪ ،‬جاءوا – كما تقول جوديث الزار ‪ "J.Lazar‬الختبار جزء من نظرياتهم في‬
‫ميدان الاتصال‪. )4( "..‬‬
‫لكن الاصرار على "علموية" ‪ scientificité‬هذا الفرع املعرفي الوافد جاء من أساطين‬
‫املدارس الفكرية الكبرى التي عرفها القرن العشرين ‪،‬الذين كانوا في أغلبهم فالسفة التكوين‬
‫والنزعة ‪،‬كـ‪:‬أدورنو و هوركهايمر و هيربرت ماركوز ويورغن هابرماس عن نقديي مدرسة‬
‫فراكفورت‪،‬وكل من تومسون ووليامز وهوغارت عن مدرسة الدراسات الثقافية‬
‫"برمنغهام"‪،‬وأخيرا وليس آخرا ‪ ،‬بعضا من أقطاب املدرسة الفرنسية غير النسقية (ما بعد‬
‫هيغل) ‪،‬كـ‪:‬ميشال فوكو و ألتوسير و جون بودريارد ‪..‬‬
‫أكدت طروحات هؤالء ‪ -‬في تقاطعاتها النظرية ‪ -‬على وجوب التركيز على الظاهرة الاتصالية‬
‫كفضاء للفعل الاجتماعي املعزول عن النسق ألانطولوجي الذي دخلت في غماره مطارحات‬
‫الفلسفة التحليلية املهتمة باملباحث الفلسفية التقليدية العامة (الحرية ‪-‬املسؤولية ‪-‬‬
‫الوجود ‪-‬مصير إلانسان ‪-‬الفكر والتفكير‪ -‬الذات‪،)...‬فنجد أن ما قدمته مدرسة "بالو‬
‫آلطو" من إسهامات تخص فلسفة التعبير ‪،‬قد احدث التطور الالفت في حقل الدراسات‬

‫(‪)2‬‬
‫‪Armand et Michel Matellart, Histoire des théories de la communication.‬‬
‫‪Paris : La découverte, 1997, P 3.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫‪Wilbur Shram In : Judith Lazar, La science de la communication, Alger :‬‬
‫‪Edition Dahleb, 1992, P 3.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫‪ibid, P 4.‬‬

‫‪109‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫الاتصالية من جوانب عدة ‪،‬لعل من أهمها ‪:‬نظريات الاتصال الشخص ي ‪،‬الجمعي ‪,‬الاتصال‬
‫املتعدد ألاقطاب للفرد في جماعته الاجتماعية‪.‬‬
‫ينبغي الانتظار إلى غاية العشريتين ألاخيرتين من القرن املاض ي‪ ،‬لكي يصبح علم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الاتصال ‪ -‬بشكل عام ‪ -‬علما أكاديميا قائما بذاته‪ ،‬له فروعه املعرفية‪ ،‬مناهجه الخاصة‪،‬‬
‫إشكاليات نابعة من أبحاث مختصين في علم الاتصال‪ ،‬برامج تعليمية خاصة‪ ،‬تقاليد‬
‫بحثية خاصة‪ ،‬كما استطاع من جهة أخرى‪ ،‬التقليل من تبعيته للعلوم ألاخرى‪.‬‬
‫و ينبغي إلاشارة‪ ،‬إلى أن هذا التطور لم يتم بشكل تطوري خطي ‪ ،‬بل وجد في‬
‫ً‬
‫أبعاده العلمية اتجاهات و أشكاال من التفكير جعلت املقاربات الخاصة باإلشكاليات التي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يطرحها حديثا‪ ،‬متباينة في بعض الحاالت‪ ،‬و متناقضة في حاالت أخرى‪ ،‬و ذلك بناءا على‬
‫الخلفية التي تنطلق منها كل مقاربة لتناول الظواهر الاجتماعية بصفة عامة‪ ،‬و إلى مفهوم‬
‫البنية الاجتماعية بصفة خاصة‪ .‬إذ يمكننا في هذا إلاطار ‪،‬التمييز بين النظرة الطبقية التي‬
‫ترى أن املجتمع عبارة عن طبقات تتصارع فيما بينها لتحدث التغيير الاجتماعي و أن وسائل‬
‫إلاعالم أداة من أدوات هذا الصراع ‪ ،‬و النظرة ألاخرى التي ترى في املجتمع الصفوة و‬
‫الجماهير‪ ،‬حيث تحاول فيه الصفوة السيطرة على الحكم لتحدث التغيير الاجتماعي‬
‫ُ‬
‫املنتظر‪ .‬و لتبيان ذلك نحاول في هذا الفصل التطرق إلى مختلف هذه املقاربات و املدارس‬
‫التي تكفلت بتفسير الظواهر الاتصالية‪ ،‬بعدها سوف نعرج على أهم نظريات الاتصال‪ ،‬و‬
‫التي حاولت بدورها تفسير التفاعل بين النظام إلاعالمي و ألانظمة الاجتماعية ألاخرى‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نظرا للمنابع العلمية التي غذت و تغذي علم الاتصال‪ ،‬و نظرا لكثرة التوجهات‬
‫التي تسير وفقها ألابحاث الخاصة به‪ ،‬فإن محاولة إجراء مسح شامل لها‪ ،‬تصطدم‬
‫بإشكالية الزاوية التي يجب الانطالق منها‪ .‬فقد أخذت املحاوالت التي جاءت في هذا الشأن‬
‫عدة تصنيفات‪ ،‬بعضها اعتمد على التطور التاريخي للمدارس الفكرية‪ ،‬و بعضها آلاخر على‬
‫أساس النظريات التي تبلورت في هذا الشأن ‪،‬و بعضها آلاخر‪ ،‬تناولها من خالل عناصر‬
‫العملية الاتصالية في مقولة السويل ‪ Lasswell‬الشهيرة ‪ :‬من؟ قال ماذا ؟ ملن ؟ بأي وسيلة‬
‫؟ و بأي تأثير ؟‬
‫هذه الصياغة التي خلقت شهرة هارولد السويل انطالقا من سنة ‪ 8441‬أوصلته –حسب‬
‫البعض –الى تزويد علم الاتصال "الفتي" بإطار مفاهيمي ذو طبيعة سوسيولوجية وظيفية‬

‫‪110‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫‪،‬وأنزلته من "العلياء" الفلسفية ‪،‬وأخرجته من دائرة التفسيرات السوسيو‪-‬فلسفية التي‬


‫استهدفت باألساس البحث في (تأثيرات ‪/‬محصالت )الوسائل الاتصالية الجديدة على نمط‬
‫إلانسان املعاصر ‪،‬وحياته املرتبطة بظروف الصراع الاجتماعي‪.‬‬
‫علم إلاعالم ‪ ..‬من العلوم إلى العلوم الاجتماعية إلانسانية‬
‫تطورت علوم إلاعالم ضمن التيارات الفكرية الفلسفية والعلمية التي رافقت تطور املفهوم‬
‫الحديث للمجتمع سواء في ظل النظرية الوضعية أو البنائية الوظيفية أو النظرية‬
‫التفاعلية الرمزية ‪..‬الى غيرها من النماذج النظرية التي ظهرت بعد ذلك ‪،‬التي اهتمت‬
‫بدراسة تطور التصورات واملواقف واملمارسات الفردية والجماعية واملؤسساتية اتجاه‬
‫ألانشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ‪،‬مما يكرس شساعة ‪،‬واتساع حقل الظاهرة‬
‫الاتصالية إلاعالمية في أفقها الواقعي‪.‬‬
‫لهاته العوامل واملؤثرات جاء الاهتمام الابستمولوجي نابعا من طبيعة علوم إلاعالم‬
‫السوسيولوجية وإلانسانية ‪،‬مما يعني أن التناول املعرفي للعلم (وهو صميم‬
‫الابستمولوجيا) ‪،‬جاء ليهتم بالظاهرة إلاعالمية‪ ،‬الن مكوناتها تطرح ما طرحته املعرفة من‬
‫قبل ذلك أن‪:‬‬
‫الظاهرة إلاعالمية موضوعية غير ذاتية‬ ‫‪-‬‬
‫الظاهرة إلاعالمية ذات تمثالت (تجليات) غير مجردة‬ ‫‪-‬‬
‫الظاهرة إلاعالمية قابلة للقياس والافتراض والتحقق‬ ‫‪-‬‬
‫الظاهرة إلاعالمية قابلة للتجريب‬ ‫‪-‬‬
‫الظاهرة إلاعالمية قابلة للنقد‬ ‫‪-‬‬
‫تشير الابستمولوجيا إلى نظرية العلم ‪،‬وهي كلمة مستحدثة (مركبة) تشير إلى دالالت عديدة‬
‫‪،‬الابستمولوجية هي أساس الدراسة النقدية ملبادئ مختلف العلوم ‪،‬ولعروضها ونتائجها‬
‫وقيمتها بقصد تحديد أصلها املنطقي وإظهار حصيلتها املوضوعية‪.‬‬
‫وهو الحال في علوم إلاعالم ‪-‬رغم حداثة نشأتها تاريخيا‪ -‬فهي علوم مفتوحة على كل مجاالت‬
‫الحياة إلانسانية في إيقاعها وسيرورتها اليومية عبر عد مستويات ‪،‬فهي تهدف إلى محاصرة‬

‫‪111‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫الظاهرة الاتصالية إلاعالمية ضمن نطاق تفاعلها (الاتجاه الامبريقي التجريبي) ‪،‬ثم البحث‬
‫في عواقبها وتداعياتها وأثارها (الاتجاه النقدي)‪.‬‬
‫وقدم هذا الاتجاه(النقدي) الدليل العملي الواضح لبقاء الشرعية العلمية للتحليل‬
‫الفلسفي الخالص للظاهرة الاتصالية إلاعالمية‪ ،‬عبر مختلف تمثالتها (عبر الوسائل‬
‫التقنية أو بدونها) ‪،‬حيث استحدث أدورنو وهوركهايمر مصطلح الصناعة الثقافية ‪،‬إذ‬
‫قدما دراسة نقدية لإلنتاج الصناعي للمواد الثقافية باعتبارها ظاهرة شاملة ‪،‬تهدف إلى‬
‫تحويل إلانتاج الثقافي إلى سلع خاضعة في ألاخير ملنطق"للدورة الاقتصادية " املسلم بها في‬
‫حقل الاقتصاد الحيوي ألي مجتمع معني بالحداثة والتحديث ‪.‬‬
‫وكان أن استمر التعاطي الفلسفي في إلاسهامات الفكرية خالل القرن العشرين ‪،‬عبر‬
‫العتبات الزمنية املتميزة بالتحوالت املرتبطة بحركات الهجرة "الفكرية" من أوروبا إلى أمريكا‬
‫(من أملانيا ما بعد ‪ 8433‬على وجه الخصوص) ‪،‬ليبعث من جديد بتلك املطارحات للتداخل‬
‫مع وجدته أصال من حياة عقلية على ألارض ألامريكية املتميزة بالبراغماتية والفانتازيا‬
‫العرضية ‪،‬مما نتج عنه الدفع بظهور املدارس الفكرية "املتمأسسة" في فضاءات علمية على‬
‫جانب كبير من التجديد في الخطاب الفلسفي ‪،‬والنفور عن السجاالت املتداولة ‪.‬‬
‫إشكالية التحاقل والتناهج‬
‫إن قضية التداخل بين علوم إلاعالم والتخصصات الاجتماعية ألاخرى قضية معرفية‬
‫بحتة‪،‬جاءت باألساس ‪-‬بصفة غير عمدية ‪ -‬بل هي من أسس علم إلاعالم وقواعده‬
‫‪،‬فالتداخل الفكري الذي تعرفه علوم إلاعالم سببه كثرة الاتجاهات البحثية والنظرية ذات‬
‫العالقة ‪-‬بشكل أو بآخر‪ -‬بالظاهرة إلاعالمية نفسها‪،‬والتقاطعات التي أحدثها النزوع العارم‬
‫لتيار الامبريقية "الفجة" مع املناداة من طرف رواد السيبرنيطيقا الاجتماعية (ن‪.‬واينر و‬
‫بيرتاالنفي ‪ )..‬بوجوب إخضاع مكونات العملية الاتصالية لشروط البحث الطوالني إلاجرائي‬
‫‪،‬ألامر الذي أوجد نوعا من التحالف بين املحاوالت الحثيثة من طرف باحثي السيكولوجيا و‬
‫السوسيولوجيا التطبيقية من جهة ‪،‬ومصممو إلاشهار التجاري وخبراء التسويق والاقتصاد‬
‫القياس ي والسياس ي فضال عن الانثروبولوجيا الثقافي وفروعها ‪،‬على تزويد علوم إلاعالم‬
‫والاتصال بمختلف املتغيرات النسقية ذات الطبيعة إلاجرائية في بحوث هذا العلم التي كان‬
‫يدعوها الزارسفيلد وغيره بالبحوث إلادارية لالتصال ‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫فعلى املستوى النظري ‪،‬نجد مكونات العلوم إلاعالمية قد تطورت بين النظريات التقنية‬
‫والنظريات اللغوية والنظريات البسيكو‪-‬سوسيولوجية التي عالجت مسألة "التأثير" التي‬
‫تحولت إلى "براديغم" ‪ Paradigme‬أساس ي في العلوم إلاعالمية في ما بعد‪،‬لقد كانت البداية‬
‫مع نظرية التأثير املباشر (القوي والفوري) ‪،‬ثم نظريات التأثير الانتقائي (غير املباشر‬
‫واملحدود) ‪،‬ثم مع سيطرة حوامل إلاعالم الالكتروني و تكنولوجياته ‪،‬أصبح للتأثير طبيعة‬
‫وسمات مختلفة ومتداخلة‪.‬‬
‫وكان من الالزم على املنظرين (في حقل الدراسات إلاعالمية )‪،‬توضيح وشرح مسألتا‬
‫التحاقل (تقاطع حقل إلاعالم مع باقي الحقول املعرفية ألاخرى كعلم الاجتماع وعلم النفس‬
‫وغيرها) من جهة و التناهج (تقاطع مناهج ومقاربات الدراسات إلاعالمية مع باقي املقاربات‬
‫املنهجية املستخدمة في باقي العلوم إلانسانية والاجتماعية وغيرها) من جهة ثانية ‪،‬على‬
‫أساس البرهنة الدائمة على أن علم إلاعالم والاتصال لن يستمر كعلم مستقل إال باكتسابه‬
‫هذه املفارقة ‪، paradox‬فالتعدد فيه هو الاستقاللية‪.‬‬
‫التأثيركنموذج للتحاقل والتقاطع في علوم إلاعالم‬
‫التأثير متعدد ألابعاد‪ ،‬لكنه في ألاصل ظاهرة بسيكولوجية ترتبط بالحاالت النفسية‬
‫التي يكون عليها الفرد في العملية إلاعالمية الاتصالية‪ .‬و ألنها كذلك فهي بالغة التعقيد‬
‫لصعوبة التنبؤ بسلوك ألاشخاص و حاالتهم النفسية أمام املضامين الاتصالية‪ .‬و رغم‬
‫تطور ألابحاث الاجتماعية التي تناولت عملية التأثير‪ ،‬و النتائج التي وصلت إليها‪ ،‬فإنها لم‬
‫تستطع إزالة املخاوف التي انتابت بعض املختصين‪ ، ،‬و لكنها على ألاقل أثبتت أن تأثير‬
‫وسائل إلاعالم مرتبط ببعض املتغيرات الخاصة بمستقبل الرسالة و شروط هذا‬
‫ً‬
‫الاستقبال و مضمون الرسالة أيضا‪ .‬بمعنى آخر أن التأثير هو نتاج شروط عديدة و‬
‫مستويات كثيرة تتداخل فيما بينها لتحدث ألاثر‪ ،‬و على كثرة هذه املستويات‪ ،‬يجب النظر‬
‫ً‬
‫إلى التأثير من أبعاد مختلفة ‪ :‬أوال نفسية باعتباره حالة نفسية يكون عليها الفرد عند تلقيه‬
‫ً‬
‫الرسالة إلاعالمية‪ ،‬ثانيا اجتماعية باعتبار التأثير هو نتاج العالقات الاجتماعية للدوائر‬
‫ً ً‬
‫التي ينتمي إليها الفرد و التي تلعب دورا مهما في تكوين التأثير الناتج عن تعرض هذا الفرد‬
‫ً ً‬
‫ملضمون وسائل إلاعالم كما أن هناك أبعاد أخرى تلعب هي أيضا دورا في تحديد هذا التأثير‬

‫‪113‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫مثل املستوى التعليمي و الثقافي‪ ،‬و الانتماء الحضاري‪ ،‬و املستوى املعيش ي ‪ . ..‬و على هذا‬
‫ً‬
‫يبقى التأثير من املسائل املعقدة جدا التي تتطلب تداخل عدة مقاربات لفهمها و محاولة‬
‫قياسها‪ ،‬و قد حاولت الدراسات التي تناولت هذا املوضوع‪ ،‬كل حسب توجهه‪ ،‬ربط هذه‬
‫العملية بأحد ألابعاد السابقة‪ .‬و باعتبار أنها جملة من العمليات‪ ،‬فقد عجزت تلك‬
‫الدراسات عن الوصول إلى تحديده باالقتصار على مستوى واحد محدد من تلك‬
‫املستويات‪.‬‬
‫إن الهاجس الذي يطرحه موضوع تأثير وسائل إلاعالم‪ ،‬ينبع من أبعاد أربعة‪:‬‬
‫‪ -‬املكانة التي أصبحت تحتلها وسائل الاتصال الجماهيري نتيجة انتشارها الواسع‪،‬‬
‫وتأكيد البعض أن الفرد العادي ال يستطيع فعل الش يء الكثير أمام مضامينها‪ ،‬فهو ال قدرة‬
‫له على السيطرة عليها‪.‬‬
‫‪ -‬التخوف من الاستغالل الذي يمكن أن يمارسه البعض بواسطة وسائل إلاعالم‪ ،‬بحيث‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يعرض وضعا اجتماعيا و اقتصاديا أو ثقافيا موجها من طرف من يملكون أو يحتكرون‬
‫وسائل إلاعالم‪.‬‬
‫‪ -‬إن وسائل إلاعالم فيما تعرضه‪ ،‬تشجع على انتشار الثقافة النمطية السطحية‬
‫(الجماهيرية) بحرصها على إرضاء قطاع من الجماهير‪ ،‬على حساب النظم ألاخالقية و‬
‫منظومة القيم السائدة في املجتمع‪.‬‬
‫‪ -‬يرى الكثير أن وسائل إلاعالم‪ ،‬ألغت ما تم اكتسابه من أدوار اجتماعية بفضل كثير‬
‫من ألاشخاص و الجماعات‪ ،‬من تنظيم عمل واندماج اجتماعي وثقافي بين ألاجيال‬
‫والجماعات الاجتماعية املكونة للقيم‪ ،‬فهي – أي وسائل إلاعالم – تعمل على استغالل‬
‫وقت الفراغ لعرض املواد الاستهالكية التي تتوافق في الكثير من ألاحيان مع الطابع الثقافي‬
‫ذي املستوى السطحي‪.‬‬
‫‪ -‬فما يالحظ على هذه ألابعاد توظيف ألادوات الانثروبولوجية والسوسيولوجية‬
‫والنفسية ‪،‬في تفسير وتحليل مسألة التأثير على ضوء التداعيات التي تضعها أمام العملية‬
‫الاتصالية ككل‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫ابستيمولوجيا االتصال اشكاليات متولدة من رحم التنظري الفلسفي‬
‫د‪.‬سعيدات احلاج عيسى ‪ /‬د‪.‬آيت قاسي ذهبية‬

‫خالصة عامة ‪:‬‬


‫شكل النسق الفلسفي املنطلق الفاعل في تطوير مجمل املكونات والشروط العلمية الي‬
‫علم من العالم إلانسانية والاجتماعية ‪،‬بل هو املؤثر في مشروعية ذلك والضامن له‪،‬ولعل‬
‫الاسهامات املختلفة للمفهوم واملصطلح داخل الحقل العلمي لدراسات الاتصال قد‬
‫استلهمت مدلوالتها النظرية وحتى املنهجية من آلالية الفلسفية بالضرورة ‪،‬فالفضاء‬
‫الاجتماعي للفعل الاتصالي حاصرته السوسيولوجيا الوظيفية لكن البراديغم واملصطلح هو‬
‫نتاج التعاطي الفلسفي باألساس ‪،‬إن طروحات هابرماس وهوغارت وبودريارد لطاملا اعتبرت‬
‫إضافات فلسفية بالغة ألاهمية في التأسيس ألبستمولوجيا دراسات الاتصال التي ال تزال‬
‫في طور البرهنة والتأسيس واملعيارية ‪.‬‬

‫‪115‬‬

You might also like