Professional Documents
Culture Documents
الاضطرابات الجسدية ذات المنشأ النفسي
الاضطرابات الجسدية ذات المنشأ النفسي
org) 2018
عندما يصاب اإلنسان بالصداع أو يتألم من أوجاع في كل أو بعض أعضاء جسده أو يشعر بالقلق أو الضيق أو
التعب المزمن ،فإنه يعتقد بأنه مريض وعليه مراجعة الطبيب .وعندما تستمر األعراض ألشهر متواصلة أو تظهر
بصورة متكررة ،مع عدم وجود أسباب واضحة جسدية أو عضوية وراء تلك األوجاع ،يحتار الطبيب فيما يمكن
أن يقدمه للمريض الذي يبدأ باستشارة طبيب تلو اآلخر ،ويقوم بما يمكن تسميته بـ (التسوق الطبي) ويبدل له هؤالء
األطباء الدواء تلو اآلخر ،ويحتار المرضى في النهاية ،ويقعون في هاوية اليأس ،وينزلقون إلى اكتئاب عميق
وتنعدم ثقتهم باألطباء .وقد يجربون كل شيء مما تقع عليه أيديهم أمالً في الشفاء ،ولكن يبقى األلم وال يدركون أن
آلالمهم عالقة بأسلوب حياتهم أو مشكالتهم إال ّ أنهم يتجاهلون هذا األمر ألسباب كثيرة.
و منذ عدة سنوات أصبح لهذه األعراض المرضية ،غير المترافقة مع أسباب عضوية ،تسمية محددة وهي
"االضطرابات ذات الشكل الجسدي" أي المشكالت النفسية التي تعبر عن نفسها على شكل ألم جسدي ،كما سمتها
منظمة الصحة العالمية و الجمعية النفسية األمريكية.
ومن المعروف اليوم أن الصراعات والمشكالت النفسية تعبر عن نفسها على شكل شكاوى جسدية .ولكن قلما يعتمد
األطباء هذا التشخيص ،بل إنهم غالبا ً ما يقومون بطرح ما يسمى بتشخيص االرتباك أو التشخيص الحائر ،أي أنهم
يضطرون في النهاية لطرح تشخيص ما ،ويعالجون المريض بدون أن يساعدوه بالفعل .وتشير بعض اإلحصائيات
العالمية إلى أنه في المتوسط قد يستمر الوضع حوالى 12سنة في مثل هذه الحاالت ،حيث يكون المريض قد مر
خاللها بطريق معقدة من العذاب النفسي والجسدي ،و أحيانا ً عمليات جراحية ال لزوم لها ،إلى أن يتم طرح هذا
التشخيص في النهاية (االضطرابات ذات الشكل الجسدي) إذا وقع المريض بين يدي معالج نفسي أو متخصص
حاذق لديه تأهيالً نفسيا ً في هذا المجال .وإذا ما اختفت األعراض نتيجة المعالجة النفسية وبمضادات االكتئاب
والقلق ،فهذا يعني أن صراعات ومشكالت نفسية قد تكون هي المسؤولة عن تلك اآلالم ،ولذلك فالعالج النفسي أو
طرق المساعدة النفسية هي الحل.
*
Prof. Dr. Samer J. Rudwan, Department of Education & Cultural Studies, College of Arts & Sciences, University of Nizwa,
Oman. Email: srudwan@hotmail.com
Arabic Science Archive (arabixiv.org) 2018
وفي العصر الراهن ،هناك أسباب وعلل كثيرة لإلصابة باآلالم ذات الشكل الجسدي عند غالبية الناس بسبب
ضغوط العمل وأساليب الحياة الحالية والعالقات االجتماعية الهشة والمتقلبة .ويلعب السلوك الذي يبديه األهل تجاه
أطفالهم دوراً مركزيا ً في ذلك .فعندما يبالغ األهل في االستجابة آلالم أو شكاوى أطفالهم ،بمزيد من الرعاية
والعطف ،فسوف يقود "سلوك الثواب" هذا الحقا ً إلى ارتفاع حدة عدم التسامح مع األحاسيس غير المالئمة أو
المزعجة .ويطلق علماء النفس على هذه الظاهرة تسمية "المكاسب الثانوية من المرض" ،أي المزايا والفوائد
االجتماعية التي يكتسبها اإلنسان نتيجة كونه مريضا ً ،كعدم الذهاب إلى المدرسة مثالً ،إن كان طفالً ،أو الحصول
على مزيد من االهتمام إن كان كبيراً بالسن .وفي النهاية ،يتم تقييم أقل ضرر في الجسد أو أقل شعور باأللم
بسرعة على أنه أمر معيق وخطير .ويمكن لهذا األمر أن يقود أيضا ً إلى تضخم األعراض المرضية الحقيقية
واألحاسيس الذاتية وتنشأ حلقة مفرغة من المخاوف والتوقعات تصل ذروتها من خالل الظهور بأعراض وآالم
جسدية مرضية.
وتظهر نتائج دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية أن هذا النوع من االضطرابات منتشر في كل بلدان العالم
ويصيب كل الطبقات والفئات االجتماعية ويرتبط مع اإلرهاق والمشقة .وقد أجريت تلك الدراسة في 5من الدول
النامية والصناعية ،حيث وجد أن اآلالم تتدرج من الصداع بالدرجة األولى ،يعقبها ألم في الظهر والمعدة واألمعاء،
من بين حوالي 23عرضا ً تقود إلى المعاناة .واعتبرت األحداث الحياتية المرهقة من األسباب الرئيسية لهذه
االضطرابات لدى حوالي %60من اإليطاليين و 44من األمريكيين و 34من األفريقيين و %28من الهنود و
%8من البرازيليين ،علما ً أن البرازيليين من سكان العاصمة اعتبروا اإلرهاق المزمن أمراً طبيعيا ً .وفي الجزء
الثاني سيتم توسيع الدراسة لتشمل 6بلدان أخرى وتهدف إلى تطوير برامج لمساعدة هؤالء المرضى في التخلص
من أوجاعهم مع مراعاة بنية اإلمداد الصحي لكل بلد على حدة.
إن النظرة الكلية إلى اإلنسان كمخلوق حي يعيش في منظومة اجتماعية يؤثر فيها ويتأثر بها ،وتراعي الوحدة
التالزمية بين الجسد والنفس هي الكفيلة بتخفيف تلك اآلالم وتقليل معاناة هؤالء المرضى ،وتحسين حالتهم دون
دواء ووصفات طبية متنوعة.