Professional Documents
Culture Documents
قُــ َّرةُ ال َعيـْ ِن
لِ َشـرْ ِ
ح
ين
ــام ال َح َر َم ِت إ َم ِ َو َرقــَا ِ
حـ
الولِ ّي الصَّالِ ِ لإل َم ِام ال َعال َم ِة الفَقِي ِه األصُولِ ِّي َ
َأبِي َع ْب ِد هللاِ ُم َح َّمد بن ُم َح َّمد الرُّ َع ْينِ ّي ال َمالِ ِك ّي
بالحطَّابالشهير َ
رحمه هللا تعالى
( 902-954ﻫ)
احلمد هلل رب الع املني ،والص الة والس الم على س يدنا حممد خ امت األنبي اء واملرس لني ،وعلى آله
الطي بني الط اهرين ،ورض وان اهلل تع اىل عن ص حابته اهلادين امله ديني ،ومن تبعهم بإحس ان إىل ي وم
الدين.
أما بعد،
ف إن أمتنا املس لمة الي وم وهي تعيش مرحلة من مراحل الض عف يف تارخيها الطوي ل ،ت وجب على
وردها
لب منه اِّ ، املسلمني أن يهبوا إىل العمل اجلاد والسري احلاث ،ألجل إعالء رايتها ،واستعادة ما ُس َ
ملرتبة الريادة والقيادة للبشرية.
وال شك أن رفع اجلهل منه ا ،وبث العل وم فيها من الواجب ات الش رعية ،وهو مما يوصل إىل الغاي ة،
ويكفي اجلهل ذم اً كونه من عالمات الساعة اليت ال تقوم إال على شرار اخللق ،قال رسول اهلل صلى
يقل العلم ويظهر اجلهل﴾. اهلل عليه وسلم﴿ :من أشراط الساعة أن َّ
علم أص ول الفق ه ،ذلك العلم ال ذي جيمع بني وإن من العل وم املهمة لل دعاة والع املني لإلس الم َ
املنق ول واملعق ول ،ويوجد -مع مسيه "أص ول ال دين" -العقلية اإلس المية ال نرِّي ة اليت تسري وفق قواعد
منهجي ة ،فال تض طرب يف التفكري وال تش طح يف الفهم ،فتك ون عائق اً أم ام تق دم مس رية األمة إىل
هنضتها.
رأيت أن من الكتب اليت تس اعد على ول وج ه ذا العلم ش رح اإلم ام أيب عبد اهلل احلط اب، ولقد ُ
لورقات إمام احلرمني اجلويين ،رمحهما اهلل تعاىل.
أحببت إخراجه للن اس على ص ورة ُ حيث ك ان س هل العب ارة ،وملم اً بالض روري من ه ذا الفن ،ف
جيدة ،وخصوصاً أنه مل يطبع إال طبعات قدمية ،غريُ معتىن هبا.
فقمت بنسخ املطبوع ،وقارنته مبخطوطة حتصلت عليها من مركز دراسات اجلهاد اللييب بطرابلس، ُ
وحاولت قدر جهدي أن تكون خالية من األخطاء والتحريفات. ُ
وسرت على طريقة االعتناء بالكتاب ،دون ذكر األخطاء اليت كانت يف املطبوعة أو الزيادات اليت ُ
جاءت من املخطوط.
وعزوت األحاديث إىل مصادرها قدر املستطاع[.]1 ُ
رأيت ذلك حاجة ملحة يف موضعه.ووضعت عليها بعض التعليقات املقتضبة حيث ُُ
واهللَ أس أل أن جيعل عملي خالص اً لوجهه الك رمي ،إنه من وراء القص د ،وال ح ول وال ق وة إال باهلل
العلي العظيم.
وكتب
جالل اجلهاين
عمان /األردن
َّ
بسم هللا الرحمن الرحيم
وصلى هللا على سيدنا محمد
قال الشيخ اإلمام العامل العالمة احلرب الفهامة ،مفيت املسلمني ببلد اهلل األمني ،أبو عبد اهلل حممد ابن
سيدنا وموالنا الشيخ العالمة حُمَ َّمد احلَطَّاب -نفع اهلل به آمني:-
[ مقدمة المؤلف ]
والسالم على سيدنا حُمَ َّمد وعلى آله وصحبه أمجعني.
احلمد هلل رب العاملني ،والصالةُ َّ ُ
وبعد..
كتاب الورقات في علم أصول الفقه للشيخ اإلمام العالمة ،صاحب التصانيف املفيدة ،أيب َ َّ
فإن
ت بركته. وعظُ َم نفعُه وظَ َهَر ْعلمه َ
حجمه وكثُر ُ صغَُر ُ كتاب َ
املعايل عبد امللك إمام احلرمنيٌ -
ط الكالم علي ه ،ومنهم َم ْن وقد ش رحه مجاع ةٌ من العلم اء -رضي اهلل عنهم ،-فمنهم َم ْن بَ َس َ
اختصر ذلك.
حممد بن أمحد الم ِة املفيد جالل ال دين أيب عبد اهلل َّ الع َ
يخ ش يوخنا َ رح ش ِ ِ
ومن أحس ِن ش روحه ش ُ
تغل به الطلب ةُ وانتفع وا ب ه ،إال أنَّه لف رط اإلجياز ِّ
افعي ،فإنَّه كث ريُ الفوائد والنكت ،اش َ املَ َحلي الش ّ
[]3
ٍ
وعناية. ب أن يكون من مجلة األلغاز ،فال يُ ْهتَ َدى لفوائده إال ٍ
بتعب قَ َار َ
املساعد من اإلخوان، اهلموم واألحزان ،وقَ َّل فيه رت فيه ِ
ُ ُ ض عُ َفت اهل َم ُم يف هذا الزمان ،و َكثُ ْ وقد َ
ت الش رح املذكور وفوائ ده، فاس تخرت اهلل تع اىل يف ش رح الورق ات بعب ارة واض ٍ
حة ،منَ ِّـبهةً على نُ َك ِ
ُ َ ُ َ
الشرح شرحاً للورقات وللشرح املذكور ،وحيصل بذلك االنتفاعُ للمبتدئ وغ ِريه ُ حبيث يكون هذا
إن شاء اهلل تعاىل.
الع ْي ِن ٍ وال ِ
بأوضح منها ،أو لزيادة فائدة ،ومَسَّْيتـُهُ ﴿ ُق َّر َة َ َ أعد ُل عن عبارة الشرح املذكور إال لتغيريها
ِ
ل َش ْر ِح َو َرقَات َإم ِام َ
الح َر َم ْي ِن﴾.
واهللُ سبحانه املسؤول يف بلوغ املأمول ،وهو حسيب ونعم الوكيل.
[]4
[ترجمة اإلمام الجويني]
صـنِّف على سبيل االختصار فنقول:
ولنقدم التعريف باملُ َ
وأحد أصحاب الوجوه ،وصاحب التصانيف املفيدة ،أبو املعايل رئيس الشافعيةُ ،
اإلمامُ ،
الشيخ ُُ هو
الـج َويْين ،نس بةً إىل ج وين ،وهي ناحي ةٌ َعْب ُد امللك ابن الش يخ أيب حممد عبد اهلل بن يوسف بن حممد ُ
كبرية من نواحي نيسابور ،يلقب بضياء الدين.
[]5
احملرم من سنة تسعة عشر وأربعمائة ،وتُ ُويِّف بقرية من أعمال َنْي َس ابُور يقال هلا :بُ ْشـتَنِ َقان
ولد يف َّ
مثان وسبعني وأربعمائة. ليلة األربعاء ،اخلامس والعشرين من شهر ربيع الثاين سنة ٍ
ِّب بإم ام احلرمني ،وانتهت إليه رئاسة العلم َج َاو َر مبكة واملدينة أربع س نني ي درس العلم ويف يتَ ،فلُق َ
بنيسابور ،وبُنِيَت له املدرسة النظامية[ ،]6وله التصانيف اليت مل يسبق إىل مثلها[َ ،]7تغَ َّم َدهُ اهلل برمحته،
وأعاد علينا من بركاته ،آمني.
[تعريف الواجب]
ٍ
كل واحد منها فقال: ِ
مثَّ شرع يف تعريف األحكام اليت ذكرها بذكر الزم ِّ
ب َعلَى َت ْركِ ِه). ِ ِِ ِ
ب َما يـُثـَاب َعلَى ف ْعله َو ُي َعاقَ ُ
(فالواج ُ
َ
أي فالواجب من حيث وص ُفه بالوجوب ،هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه.
الزم للواجب من حيث وصفه بالوجوب ،وليس هو ِ
أمر ٌ والعقاب على الرتك ٌ ُ فالثواب على الفعل
ول الثَّواب بفعلها
ول متص َّوٌر يف نفس ه ،وهو غ ريُ حص ُ الص الةَ َمثَالً َْأم ٌر َمعق ٌ
إن َّحقيقة ال واجب ،ف َّ
والعقاب برتكها.
فالتعريف املذكور ليس تعريف اً حبقيقة الواجب إذ ال ميكن تعريف حقيقته لكثرة أصناف الواجبات
ب دق اس ِم ال ِ
واج ِ ف ال ذي اش رتكت فيه حىت ص َّح ِص ُ واختالف حقائقه ا ،وإمنا املقص ود بي ا ُن الوص ِ
عليها ،وذلك هو ما ذكره من الثواب على الفعل والعقاب على الرتك.
وكذلك يقال يف بقية األحكام.
فإن قيل :قوله يعاقب على تركه يقتضى لزوم العقاب لكل من ترك واجباً ،وليس ذلك بالزم.
لواحد من العصاة ،مع العفو عن غريه.ٍ وجوده فاجلواب أنه يكفي يف صدق العقاب على الرتك
ُ
أو يق ال :املراد بقوله (ويع اقب على ترك ه) ،أي ت رتُّب العق ِ
اب على ترك ه ،كما عرَّب ب ذلك غري ُ
واحد ،وذلك ال ينايف العفو عنه.
وُأو ِرد على التعريف املذكور أنه غري مانع ،لدخول كثري من السنن فيه ،فإن األذان سنة وإذا تركه
أهل بلد قوتل وا ،وكفي ب ذلك عقاب اً ،وك ذلك ص الة العي دين عند من يق ول ب ذلك ،ومن ت رك ال وتر
ردت شهادته وحنو ذلك. َّ
وأجيب ب أن املراد عق اب اآلخ رة ،وب أن العقوبة املذكورة ليست على نفس ال رتك بل على الزم ه،
ورد الش هادة ليس عقاب اً ،وإمنا هو ع دم أهلية لرتب ٍة ش ٍ
رعية وهو االحنالل من ال دين ،وهو ح رامُّ ،
كماالت جتتمع من أفعال وترك ،فدخل فيها الواجب وغريه. ٌ شرطُها
ردت شهادته مل يكن ذلك عقوبة له ،وإمنا ذلك لنقصانه عن درجة العدالة ؟! أال ترى أن العبد إذا َّ
على أن الص حيح أن األذان يف املصر ف رض كفاي ة ،ونص أص حابنا على أنه ال يقاتل َم ْن ت رك
العيدين.
والسؤاالن واردان على حد احملظور ،واجلواب ما تقدم[.]12
[تعريف المندوب]
وب) هو املأخوذ من الندب ،وهو الطلب لغةً. المن ُد ُ
( َو َ
ب َعلَى َت ْركِ ِه). ِ ِِ
اب َعلَى فعله َوال ُي َعاقَ ُ
وشرعاً من حيث وصفه بالندب هو ( َما ُيثَ ُ
[ تعريف المباح]
ب ِ ِِ
اب َعلَى ف ْعل ه) ،يريد وال على تركهَ ( ،وال ُي َع اقَ ُ اح) من حيث وص ُفه باإلباحة ( َما ال ُيثَ ُ (والمبَ َُ
َعلَى َت ْركِ ِه) ،يريد وال على فعله ،أي ال يتعلق بكل من فعله وتركه ثواب وال عقاب.
وال بد من زيادة ما ذكرنا لئال يدخل فيه املكروه واحلرام.
[تعريف المحظور]
ب َعلى ِ
اب َعلَى َت ْركهِ) امتث االًَ ( ،و ُيـ َعاقَ ُ
ور) من حيث وص ُفه ب احلظر ،أي احلرمة ( َما ُيثَ ُ
(والمحظُ ُ
فِ ْعلِ ِه).
وتقدم السؤاالن وجواهبما.
[تعريف المكروه]
ب َعلَى فِ ْعلِ ِه).
(وال ُي َعاقَ ُ
ِِ
اب َعلَى َت ْركه) امتثاالً َ
المكروهُ) من حيث وصفه بالكراهة ( َما ُيثَ ُ
(و ُ َ
ألن احملرمات واملكروهات خيرج وإمنا قيدنا ترتب الثواب على الرتك يف احملظور واملكروه امتثاالًَّ ،
اإلنس ان من عه دهتا مبج رد تركه ا ،وإ ْن مل يش عر هبا فض الً عن القصد إىل تركه ا ،لكنَّه ال ي رتتب
اب َعلَى الت َّْر ِك إال إذا قصد به االمتثال.
الث ََّو ُ
فإن قيل :وكذلك الواجبات واملندوبات ال يرتتب الثواب على فعلها إال إذا قصد به االمتثال.
لـما ك ان كث ريٌ من الواجب ات ال يت أتى اإلتي ان هبا إال إذا قصد
ف الجواب :أن األمر ك ذلك ،ولكنَّه َّ
واجب ال يصح فعله إال بني ة ،مل حيتج إىل التقييد ب ذلك ،وإن ك ان بعض ٍ هبا االمتث ال ،وهو ك ُّل
الواجب ات ت ربأ الذمة بفعلها وال ي رتتب الث واب على ذلك إال إذا قصد االمتث ال ،كنفق ات الزوج ات
ورد الديون وحنو ذلك مما يصح بغري نية ،واهلل أعلم. ورد املغصوب والودائع ِّ
ِّ
[تعريف الصحيح]
يح) من حيث وص ُفه بالص حة اص طالحاًَ ( :ما َيتَعلَّ ُق بِ ِه ُّ
الن ُف وذُ) بال ذال املعجم ة ،وهو (و َّ ِ
الص ح ُ َ
كحل االنتفاع يف البيع واالستمتاع يف النكاح. البلوغ إىل املقصودِّ ،
وأصلُه من نفوذ السهم أي بلوغه إىل املقصود.
( َويُعتَ ُّد بِ ِه) يف الشرع ،بأن يكون قَد مجع ما يعترب فيه شرعاً ،عقداً كان أو عبادة.
فعل املكلَّف ،واالعتداد من فعل الشارع ،وقيل :إهنما مبعىن واحد. فالنفوذُ من ِ
[تعريف الباطل]
الن ُف وذُ َوال يُعتَ ُّد بِ ِه) ب أن مل يس تجمع ما (والب ِ
اط ُل) من حيث وص ُفه ب البطالنَ ( :ما ال يَ َتعلَّ ُق بِ ِه َُّ َ
يعترب فيه شرعاً ،عقداً كان أو عباد ًة.
والعقد يف االصطالح يوصف بالنفوذ واالعتداد ،والعبادات توصف باالعتداد فقط.
[تعريف العلم]
ص من ِ
العل ِْم)؛ لص دق العلم على معرفة الفقه والنحو َأخ ُّ ( ِ
والف ْق هُ) ب املعىن الش رعي املتق دم ذك ره ( َ
كل علم فقهاً.فكل فقه علم وليس ُّ وغريمهاُّ ،
وكذا باملعىن اللغوي ،فإن الفقه هو الفهم ،والعلم املعرفة ،وهي أعم.
وم) ،أي إدراك ما من ش أنه أن يعلم ،موج وداً ك ان أوالعلْم) يف االص طالح( :مع ِرفَ ة المعلُ ِ ِ
َ ُ ْ ( َو ُ
مع دوماًَ ( ،علَى َما ُه َو بِ ِه) يف الواق ع ،ك إدراك اإلنس ان أي تص وره بأنه حي وان ن اطق ،وك إدراك أن
العامل وهو ما سوى اهلل تعاىل حادث.
وهذا احلد للقاضي أيب بكر الباقالين ،وتبعه املصنِّف.
وم إال بعد معرفة العلمَّ ،
ألن ف املعل ُ تق من العلم ،فال يُع َر ُ ألن املعل وم مش ٌأن فيه دوراًَّ ، ض ب َّ واعرُتِ َ
مشتمل على معىن املشتَ ِّق منه مع زيادة.
ٌ املشتَ َّق
وبأنَّه غريُ شامل لعلم اهلل سبحانه ،ألنه ال يسمى معرفةً إمجاعاً ،ال لغةً وال اصطالحاً.
وبأن قولَه( :على ما هو به) زائ ٌد ال حاجة إليه ،ألن املعرفة ال تكون إال كذلك[.]13 َّ
ُ
[تعريف الجهل]
يء َعلَى ِخ ِ
الف َما ُه َو بِ ِه) يف الواقع. الش ِ
ور َّص ُ
الج ْه ُل تَ ُّ
( َو َ
ويف بعض النسخ (على خالف ما هو علي ه) كتص ور اإلنس ان بأنه حي وان ص اهل ،وك إدراك
الفالسفة أن العامل قدمي.
التصو ُر املطلق الشامل للتصور الساذج وللتصديق[.]14 فاملراد بالتَّصو ِر هنا ُّ
ُ
ف ه ذا باجلهل املركب ،وجعل اجلهل البس يط ع دم العلم بالش يء ،كع دم علمنا مبا وبعض ُهم وص َ ُ
حتت األرضني ومبا يف بطون البحار ،وهذا ال يدخل يف تعريف املصنف ،فال يسمى عنده جهالً.
قص َد ِ
والتعريف الش امل للقس مني أن يق ال :اجلهل انتف اء العلم باملقص ود ،أي ما من ش أنه أن يُ َ
در َك على خالف ما هو عليه يف الواقع ،وهو َفيُ ْد َر َك ،إما بأن مل يدرك أص الً وهو البسيط ،أو بأن يُ َ
املركب.
ألن فيه جهلني :جهل باملدرك ،وجهل بأنه جهل به. ومُسِّي مركباً َّ
َ
[ باب األمر]
وملا انقضى كالمه على أقسام الكالم أتبع ذلك بالكالم على األمر فقال:
(واألمر استدعاء الفعل بالقول لمن هو دونه على سبيل الوجوب) ،بأن ال جيوز له الرتك.
فقوله( :استدعاء الفعل) خيرج به النهي ألنه استدعاء الرتك.
وقوله( :بالقول) خيرج به الطلب باإلشارة والكتابة والقرائن املفهمة.
وقول ه( :لمن هو دون ه) خيرج به الطلب من املس اوي واألعلى ،فال يس مى ذلك أم راً ،بل يس مى
األول التماساً ،والثاين دعاء وسؤاالً.
وهذا قول مجاعة من األصوليني ،واملختار أنه ال يعترب يف األمر العلو ،وهو أن يكون الطالب أعلى
رتبة من املطلوب ،وال االستعالء وهو أن يكون الطلب على سبيل التعاظم.
والف رق بني العلو واالس تعالء أن العلو ك ون اآلمر يف نفسه أعلى درجة من املأمور ،واالس تعالء أن
جيعل نفسه عالي اً بتكرب أو غ ريه وقد ال يك ون يف نفس األمر ك ذلك ،ف العلو من ص فات اآلمر
واالستعالء من صفات كالمه.
جيوز الرتك.
وقوله( :على سبيل الوجوب) خيرج اآلمر على سبيل الندب بأن ِّ
واقتضى كالم املصنف أن املندوب ليس مأموراً به ،وفيه خالف مبين على أن لفظ األمر حقيقة يف
الوج وب أويف الق در املش رتك بني اإلجياب والن دب وهو طلب الفعل ؟ وقي ل :إنه حقيقة يف الن دب،
وقيل غري ذلك.
(وصيغته) أي صيغة األمر الدالة عليه (افعل).
وليس املراد ه ذا ال وزن خبصوص ه ،بل ك ون اللفظ داالً على األمر هبيئته حنو :اض رب وأك رم
واستخرج و ﴿لينفق﴾ ،و﴿ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق﴾.
(وهي) أي صيغة األمر (عند اإلطالق والتجرد عن القرينة) الصارفة عن الوجوب (تحمل عليه)
أي على الوجوب ،حنو﴿ :أقيموا الصالة﴾.
(إال ما دل الدليل على أن المراد منه الندب) حنو﴿ :فكاتبوهم إن علمتم فيهم خرياً﴾ ألن املقام
يقتضى عدم الوجوب ،فإن الكتابة من املعامالت.
(أو اإلباحة) حنو﴿ :وإذا حللتم فاصطادوا﴾ ،فإن االصطياد أحد وجوه التكسب وهو مباح ،وقد
أمجعوا على عدم وجوب الكتابة واالصطياد.
وظاهر كالمه أن االستثناء يف قوله( :إال ما دل الدليل) منقطع؛ ألن الدليل هو القرينة ،وميكن أن
يكون متصالً.
وختتص القرينة مبا ك ان متص الً بالص يغة ،وال دليل مبا ك ان منفص الً عنه ا؛ ألن ما ك انت القرينة فيه
اجملرد عن القرينة.
منفصلة داخل يف َّ
مث ال القرينة املتص لة قوله تع اىل﴿ :ف اآلن باش روهن﴾ ،بعد قوله تع اىل﴿ :أحل لكم ليلة الص يام
الرفث إىل نساءكم﴾.
ومثال القرينة املنفصلة قوله تعاىل﴿ :وأشهدوا إذا تبايعتم﴾ ،والقرينة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم
باع ومل يشهد ،فعلم أن األمر للندب.
يدل على التقييد بالتكرار أو باملرة (التكرار على الصحيح) عما ُّ(وال تقتضي) صيغة األمر العارية َّ
املرةُ ض رورية؛ ألن ما قصد من حتص يل املأمور به ال يتحقق إال هبا ،واألصل ب راءة
وال املرة ،لكن َّ
دل ال دليل على قصد التك رار) فيعمل ب ه ،ك األمر بالص لوات اخلمس الذمة مما زاد عليها (إال ما َّ
وصوم رمضان.
حيث ال
ومقابل الصحيح أنه يقتضى التكرار ،فيستوعب املأمور بالفعل املطلوب ما ميكنه من عمره ُ
بيان ألمد املأمور به ،النتفاء مرجح بعضه على بعض.
وقيل :يقتضى املرة[ ،]22وقيل :بالوقف.
واتفق الق ائلون بأنه ال يقتضي التك رار على أنه إذا عُلَِّ َق على علة حمققة حنو :إن زىن فاجل دوه ،أنه
يقتضى التكرار.
إجياد الفعل من
ألن الغرض ُ (وال تقتضى) صيغة األمر (الفور) ،يريد وال الرتاخي ،إال بدليل فيهماَّ ،
غري اختصاص بالزمن األول والثاين.
وقيل :يقتضى الفور[.]23
وكل من قال بأهنا تقتضى التكرار قال إهنا تقتضى الفور.
(واألمر بإيج اد الفعل أمر به وبما ال يتم) ذلك (الفعل ك األمر بالص الة) فإنه (أمر بالطه ارة)،
فإن الصالة ال تصح إال بالطهارة (المؤدية إليها).
(وإذا فعل) بالبن اء للمفع ول والض مري للم أمور به (يخ رج الم أمور عن العه دة) أي عه دة األمر
ويتصف الفعل باإلجزاء.
ويف بعض النس خ :وإذا فعله املأمور خيرج عن العه دة ،واملعىن أن املكلف إذا أمر بفعل ش يء ففعل
ذلك الفعل املأمور به كما أمر به ،فإنه حيكم خبروجه عن عهدة ذلك األمر ،ويتصف الفعل باإلجزاء،
وهذا هو املختار.
وقال قوم :إنه حيكم باإلجزاء خبطاب متجدد.
.]24
وقوله( :لقوله تعالى﴿ :ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين﴾) حجةٌ للقول الصحيح.
وقيل :إهنم غري خماطبني بفروع الشريعة لعدم صحتها منهم قبل اإلسالم وعدم مؤاخذهتم هبا بعده.
وأجيب :ب أن فائ دة خط اهبم هبا عق اهبم عليه ا ،وع دم ص حتها يف ح ال الكفر لتوقفها على النية
املتوقفة على اإلسالم.
وأما عدم املؤاخذة هبا بعد اإلسالم فرتغيباً هلم يف اإلسالم[.]25
بالكف عن
ِّ (واألمر) النفسي (بالشيء نهي عن ضده) ،مبعىن أن تعلق األمر بالشيء هو عني تعلُّقه
كضد السكون الذي هو التحرك ،أو أكثر كضد القيام الذي هو القعود ِّ ضدِّه ،واحداً كان الضد،
واالتكاء واالستلقاء.
فالطلب له تعلُّق واحد بأمرين مها :فعل الشيء والكف عن ضده ،فباعتبار األول هو أمر ،وباعتبار
الثاين هو هني.
وقيل :إن األمر بالشيء ليس عني النهي عن ضده ولكن يتضمنه.
وقيل :ليس عينه وال يتضمنه ،وعزاه صاحب مجع اجلوامع للمصنِّف.
وأما َم ْفهوما األمر والنهي فال نـزاع يف تغايرمها ،وكذا ال نـزاع يف أن األمر اللفظي ليس عني النهي
اللفظي ،واألصح أنه اليتضمنه.
وقي ل :يتض منه ،ف إذا ق ال اس كن فكأنه ق ال :ال تتح رك؛ ألنه ال يتحقق الس كون إال ب الكف عن
التحرك.
(و) أما (النهي) النفسي (عن الشيء) فقيل :إنه (أمر بضده) ،فإن كان واحداً فواضح ،وإن كان
كثرياً كان أمراً بواحد من غري تعيني.
وقيل :إن النهي النفسي ليس أمراً بالضد قطعاً.
وأما النهي اللفظي فليس عني األمر اللفظي قطعاً ،وال يتضمنه على األصح.
وقيل :يتضمنه ،فإذا قال :ال تتحرك فكأنه قال :اسكن ،ألنه ال يتحقق ترك التحرك إال بالسكون.
(والنهي استدعاء الرتك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب) على وزان ماتقدم يف األمر.
إال أنه يقال هنا :قوله( :استدعاء الرتك) خمرج لألمر.
خمرج للنهي على سبيل الكراهة ،بأنوقوله هنا( :على سبيل الوجوب) أي بأن ال جيوز له الفعلٌ ،
جيوز له الفعل.
مقتض للفور والتكرار ،فيجب االنتهاء يفٍ وال يعترب فيه أيضاً علو وال استعالء ،إال أن النهي املطلق
احلال ،واستمرار الكف يف مجيع األزمان ،ألن الرتك املطلق إمنا يصدق بذلك.
(وي دل) النهي املطلق ش رعاً (على فس اد المنهي عنه) ش رعاً على األصح عند املالكية والش افعية،
وسواء كان املنهي عنه عبادة كصوم يوم العيد أو عقداً كالبيوع املنهي عنها.
عما إذا اق رتن به ما يقتضى ع دم الفس اد كما يف ص ور ال بيوع املنهي عنه ا،
واحرتزنا بـ (املطل ق) َّ
وسقطت هذه املسألة من نسخة احمللي.
(وت رد ص يغة األمر والم راد به) أي ب األمر (اإلباحة) كما تق دم( ،أو التهديد) حنو﴿ :اعمل وا ما
شئتم﴾( ،أو التسوية) حنو﴿ :اصربوا أوال تصربوا﴾( ،أو التكوين) حنو﴿ :كونوا قردة خاسئني﴾.
[باب العام]
(وأما العام فهو ما عم شيئين فصاعداً) ،أي من غري حصر.
وهو مأخوذ (من قوله :عممت زيداً وعمراً بالعطاء وعممت جميع الناس بالعطاء) أي مشلتهم،
ففي العام مشول.
ويف بعض النس خ( :مثل عممت زي داً وعم راً) ،وال يصح ذلك ألن عممت زي داً وعم راً ليس من
العام الذي يريد بيانه.
وقول ه( :ما عم ش يئني فص اعداً) جنس يش تمل على املثىن ك رجلني ،وأمساء الع دد كثالثة وأربع ة،
وحنو ذلك.
وقولنا( :من غري حصر) فصل خمرج للمثىن وألمساء العدد ،فإهنا تتناول شيئني فصاعداً لكنها تنتهي
إىل غاية حمصورة.
(وألفاظه) أي صيغ العموم املوضوعة له (أربعة) أي أربعة أنواع:
الن وع األول( :االسم الواحد المع رف ب األلف والالم) اليت ليست للعهد وال للحقيق ة ،فإنه يفيد
العموم بدليل جواز االستثناء منه حنو﴿ :إن اإلنسان لفي خسر إال الذين آمنوا﴾.
(و) الن وع الث اين (اسم الجمع) ،أي ال دال على مجاعة (المع رف ب الالم) اليت ليست للعهد حنو:
﴿اقتلوا املشركني﴾.
(و) الن وع الث الث (األس ماء المبهمة كمن فيمن يعقل) حنوَ :م ْن دخ َل دارى فهو آمن( ،وما فيما
أي عبيدي جاءك
ال يعقل) حنوَ :ما جاءين قبلته( ،وأي في الجميع) أي من يعقل ومن ال يعقل حنوُّ :
فأحسن إلي ه ،وأي األش ياء أردته أعطيت ك( ،وأين في المك ان) حنو :أين جتلس أجلس( ،وم تى في
الزم ان) حنو :مىت تقم أقم( ،وما في االس تفهام) حنو :ما عن دك ؟ (و) يف (الج زاء) أي اجملازاة حنو:
ما تفعل جُتَْز به.
علمت -بتاء املتكلم يف األول وتاء اخلطاب
َ علمت ما
ُ ويف نسخة( :واخلرب) بدل اجلزاء حنو قولك:
علمت ؟
َ يف الثاين ،-جواباً ملن قال لك :ما
(وغيره) أي غري ما ذكر ،كاخلرب على النسخة األوىل واجلزاء على النسخة الثانية.
ِ
َّك ر ِ
ات) أي الداخلة على النك رات ،ف إن ب نيت النك رة معها على الفتح (و) الن وع الرابع (ال في الن َ
[
رجل يف الدار
رجل يف الدار فهي نص يف العموم ،وإن مل تنب فهي ظاهرة يف العموم حنو :ال ٌ حنو :ال َ
.]26
(والعموم من صفات النطق) أي اللفظ ،والنطق مصدر مبعىن منطوق به.
(وال يج وز دع وى العم وم في غ يره) أي يف غري اللفظ (من الفعل وما يجرى مجراه) أي جمرى
الفعل.
فالفعل كجمعه عليه الصالة والسالم بني الصالتني يف السفر كما رواه البخاري[ ،]27فال يدل على
عموم اجلمع يف السفر الطويل والقصري ،فإنه إمنا وقع يف واحد منهما.
والذي جيري جمرى الفعل كالقضايا املعينة ،مثل قضائه صلى اهلل عليه وسلم بالشفعة للجار ،رواه
النسائي عن احلسن مرسالً[ ،]28فال يعم كل جار الحتمال خصوصية يف ذلك اجلار.
[باب الخاص]
(والخ اص يقابل الع ام) فيق ال يف تعريف ه :هو ما ال يتن اول ش يئني فص اعداً من غري حص ر ،بل إمنا
يتن اول ش يئاً حمص وراً :إما واح داً أو اث نني أو ثالثة أو أك ثر من ذل ك ،حنو :رجل ورجلني وثالثة
رجال.
(والتخص يص تمي يز بعض الجملة) أي إخ راج بعض اجلمل اليت يتناوهلا اللفظ الع ام ،ك إخراج
املعاهدين من قوله تعاىل﴿ :اقتلوا املشركني﴾.
ص -بكسر الصاد -املفهوم من التخصيص (ينقسم إلى: خص ُ
(وهو) أي امل ِّ
ُ
متصل) وهو ما ال يستقل بنفسه ،بل يكون مذكوراً مع العام.
(ومنفصل) وهو ما يستقل بنفسه وال يكون مذكوراً مع العام ،بل يكون مفرداً.
(فالمتصل) ثالثة أجزاء على ما ذكر املصنف:
أحدها( :االستثناء) ،حنو :قام القوم إال زيداً.
(و) ثانيها (التقييد بالشرط) ،حنو :أكرم بين متيم إن جاءوك ،أي اجلائني منهم.
(و) ثالثها (التقييد بالصفة) ،حنو :أكرم بين متيم الفقهاء.
[تعريف االستثناء]
(واالستثناء) احلقيقي ،أي املتصل هو( :إخراج ما لواله) أي لوال االستثناء (لدخل في الكالم)،
حنو املثال السابق.
واالستثناء املتصل هو :ما يكون فيه املستثىن بعض املسثىن منه.
واحرتزنا به عن املنفص ل ،وه و :ما ال يك ون فيه املس تثىن بعض املس تثىن من ه ،حنو :ق ام الق وم إال
محاراً ،فليس من املخصصات وإن كان املصنف سيذكره على سبيل االستطراد.
والبد يف االس تثناء املنقطع أن يك ون بني املس تثىن واملس تثىن منه مالبسة كما مثلن ا ،فال يق ال :ق ام
القوم إال ثعباناً.
(وإنما يصح) االستثناء (بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء) ولو واحداً ،فلو استغرق املستثىن
علي عشرة إال تسعة صح ولزمه واحد ،ولو قال :إال عشرة ،مل
منه مل يصح وكان لغواً ،فلو قال :له َّ
يصح ولزمته العشرة.
(ومن شرطه) أي االستثناء (أن يكون متصالً بالكالم) بالنطق أو يف حكم املتصل ،فال يضر قطعه
بسعال وتنفس وحنومها مما ال يعد فاص الً يف العرف ،فإن مل يتصل بالكالم املستثىن منه مل يصح ،فلو
قال :جاء القوم ،مث قال بعد أن مضى ما يعد فاصالً يف العرف :إال زيداً مل يصح.
وعن ابن عباس رضي اهلل تعاىل عنهما :يصح االستثناء املنفصل بشهر ،وقيل بسنة ،وقيل أبداً[.]29
(ويجوز تقديم االستثناء) أي املستثىن (عن المستثنى منه) ،حنو :ما قام إال زيداً أح ٌد.
(ويج وز االس تثناء من الجنس) وهو املتصل املع دود يف املخصص ات املتص لة كما تق دم( ،ومن
غيره) وهو املنقطع كما تقدم.
[التخصيص بالشرط]
(والش رط) وهو الث اين من املخصص ات املتص لة( ،يج وز أن يت أخر عن المش روط) يف اللفظ كما
تق دم( ،ويج وز أن يتق دم عن المش روط) يف اللفظ حنو :إن ج اءوك بين متيم ف أكرمهم ،وأما يف
الوجود اخلارجي فيجب أن يتقدم الشرط على املشروط أو يقارنه.
[التخصيص بالصفة]
(و) التقييد بالص فة ،وهو الث الث من املخصص ات املتص لة ،يك ون فيه (المقيد بالص فة) أص الً
(ويحمل عليه المطلق) فيقيده بقيده( ،كالرقبة قيدت باإليمان في بعض المواضع) كما يف كفارة
الظهار ،فيحمل املطلق على املقيد احتياطاً.
مث شرع يتكلم عن القسم الثاين من املخصص ،أعىن املنفصل فقال:
[تعريف النص]
(والنص ما ال يحتمل إال معنى واحداً) كـ (زيداً) يف :رأيت زيداً.
(وقيل) يف تعريف النص هو( :ما تأويله تنـزيله) أي يفهم معناه مبجرد نـزوله وال حيتاج إىل تأويله،
حنو﴿ :فصيام ثالثة أيام﴾ فإنه يفهم معناه مبجرد نـزوله وال يتوقف فهمه على تأويله.
(وهو) أي النص (مشتق من منصة العروس وهو الكرسي) الذي جتلس عليه لتظهر للناظرين.
ويف قول ه( :مش تق من منصة الع روس) مس احمة؛ ألن املص در ال يش تق من غ ريه على الص حيح ،بل
يشتق غريه منه ،فاملنصة مشتقة من النص ،فالنص لغة الرفع ،فإذا ظهرت داللة اللفظ على معناه كان
ذلك يف معىن رفعه على غ ريه ،فقول ه( :مش تق من منصة الع روس) مل ي رد به االش تقاق االص طالحي،
وإمنا أراد اشرتاكهما يف املادة.
والنص عند الفقه اء يطلق على معىن آخر وهو ما دل على حكم ش رعي من كت اب أو س نة ،س واء
كانت داللته نصاً أو ظاهراً.
[تعريف الظاهر والمؤول]ـ
رأيت الي وم أس داً ،فإنه
(والظ اهر ما احتمل أم رين أح دهما أظهر من اآلخر) ،كاألسد يف حنوُ :
ظاهر يف احليوان املفرتس ،ألنه املعىن احلقيقي ،وحمتمل للرجل الشجاع.
والظ اهر يف احلقيقة هو االحتم ال ال راجح ،ف إن محل اللفظ على االحتم ال املرج وح يس مى اللفظ
مؤوالً ،وإمنا يؤول بالدليل ،كما قال( :ويؤول الظاهر بالدليل) ،أي حيمل على االحتمال املرجوح
(ويس مى) حينئذ (الظ اهر بال دليل) أي كما يس مى م ؤوالً كما يف قوله تع اىل﴿ :والس ماء بنيناها
فص ِرف عنه إىل معىن القوة بالدليل العقلي ٍ
بأيد﴾ ،فإن ظاهره مجع يد ،وهو حمال يف حق اهلل تعاىلُ ،
القاطع.
[باب](األفعال)
هذه ترمجة ،واملراد هبا بيان حكم أفعال الرسول صلى اهلل عليه وسلم وهلذا قال املصنف:
(فعل صاحب الشريعة) يعىن النيب صلى اهلل عليه وسلم (ال يخلو :إما أن يكون على وجه القربة
والطاعة أو غير ذلك) ،والقربة والطاعة مبعىن واحد.
فإن كان على وجه القربة والطاعة (فإن دل دليل على االختصاص به يحمل على االختصاص)،
كالوصال يف الصوم ،فإن الصحابة ملا أرادوا الوصال هناهم صلى اهلل عليه وسلم عنه وقال﴿ :لست
كهيئتكم﴾ متفق عليه.
يخص به ألن اهلل تعالى يقول﴿ :لقد كان
ّ (وإن لم يدل) دليل على االختصاص به كالتهجد( ،ال
لكم في رس ول اهلل أس وة حس نة﴾) ،أي ق دوة ص احلة ،واألس وة بكسر اهلم زة وض مها لغت ان ق رئ
هبما يف السبعة ،وهو اسم وضع موضع املصدر أي اقتداء حسن ،والظرفية هنا جمازية مثل قوله تعاىل:
﴿لقد كان يف يوسف وإخوته آيات للسائلني﴾.
وإذا مل خيتص ذلك الفعل به صلى اهلل عليه وسلم فيعم األمة مجيعها.
مث إن علم حكم ذلك الفعل من وج وب أو ن دب فواض ح ،وإن مل يعلم حكمه (فيحمل على
الوجوب عند بعض أصحابنا) يف حقه صلى اهلل عليه وسلم ويف حقنا؛ ألنه األحوط ،وبه قال مالك
رضي اهلل عنه وبعض أصحابه.
(ومن أصحابنا من قال يحمل على الندب) ألنه احملقق.
(ومنهم من قال يتوقف عنه) لتعارض األدلة يف ذلك.
(ف إن ك ان) فعل ص احب الش ريعة ص لى اهلل عليه وس لم (على وجه غ ير القربة والطاعة) كالقي ام
والقع ود واألكل والش رب والن وم (فيحمل على اإلباحة في حقه وحقنا) وه ذا يف أصل الفع ل ،وأما
يف ص فة الفعل فق ال بعض املالكي ة :حيمل على الن دب ،ويؤي ده ما ورد عن كثري من الس لف من
اإلقتداء هبم يف ذلك.
وقال بعضهم :حيمل على اإلباحة أيضاً.
وعلم مما ذكره املصنف احنصار أفعاله صلى اهلل عليه وسلم يف الوجوب والندب واإلباحة ،فال يقع
وع ذلك منحمرم ألنه معص وم ،وال مك روه وال خالف األوىل ،ولقلَّة وق ِ
منه ص لى اهلل عليه وس لم َّ
املتقي من أمته ،فكيف منه صلى اهلل عليه وسلم ؟
[باب اإلقرار]
(وإقرار صاحب الشريعة) صلى اهلل عليه وسلم (على القول الصادر من أحد) حبضرته (هو) ،أي
ذلك القول (قول صاحب الشريعة) ،أي كقوله.
ك إقراره ص لى اهلل عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي اهلل عنه على قوله ،إعطاء سلب القتيل لقاتله
متفق عليه.
(وإق راره) أي ص احب الش ريعة (على الفعل) الص ادر من أحد حبض رته (كفعله) أي ص احب
الشريعة.
ك إقراره ص لى اهلل عليه وس لم خالد بن الوليد على أكل الض ب ،متفق عليه[ ،]34وذلك ألنه ص لى
يقر على منكر.
اهلل عليه وسلم معصوم عن أن َّ
(وما فعل في وقته) أي زمنه صلى اهلل عليه وسلم (في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه
حكم ما فعل في مجلسه).
كعلمه ص لى اهلل عليه وس لم حبلف أىب بكر الص ديق رضي اهلل عنه إنه ال يأكل الطع ام يف وقت
غيظه ،مث أكل ملا رأى ذلك خرياً ،كما يؤخذ من حديث مسلم يف األطعمة[.]35
[باب النسخ]
(وأما النسخ فمعناه لغة اإلزالة) ،يقال :نسخت الشمس الظل إذا أزالته ورفعته بانبساط ضوئها.
واإلزالة والرفع مبعىن واحد.
(وقيل :معناه النقل ،من قولهم :نسخت ما في هذا الكتاب أي نقلته).
ويف االس تدالل هبذا على أن النسخ مبعىن النقل نظ ر ،ف إن نسخ الكت اب ليس هو نقالً ملا يف األصل
يف احلقيقة ،وإمنا هو إجياد مثل ما كان يف األصل يف مكان آخر ،فتأمله.
وليس هذا باختالف قول ،وإمنا هو بيان ملا يطلق عليه النسخ يف اللغة ،فذكر أنه يطلق على معنيني:
على اإلزال ة ،وعلى النق ل ،وذكر بعض هم أنه يطلق على معىن ث الث وهو التغي ري ،كما يف ق وهلم:
نسخت الريح آثار الديار ،أي غريهتا ،والظاهر أنه يرجع إىل املعىن األول وهو اإلزالة فإهنا أعم.
واختلف يف اس تعماله يف املعن يني الل ذين ذكرمها املص نف فقي ل :إنه حقيقة فيهم ا ،فيك ون مش رتكاً
جماز يف النقل.
بينهما ،وقيل إنه حقيقةٌ يف اإلزالة ٌ
وذكر بعضهم قوالً ثالثاً :إنه حقيقة يف النقل جماز يف اإلزالة ،وهو بعيد.
(وحده) أي معناه االصطالحي الشرعي( :هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب
المتق دم على وجه ل واله) ،أي لو اخلط اب الث اين( ،لك ان) احلكم (ثابت اً ،مع تراخيه) ،أي اخلط اب
الثاين (عنه) ،أي اخلطاب املتقدم.
وه ذا ال ذي ذك ره رمحه اهلل ح ٌد للناس خ ،ولكنه يؤخذ منه حد النسخ وأن ه :رف ع احلك ِم الث ِ
ابت ُ
خبطاب ٍ
متقدم ،خبطاب آخر ،لواله لكان ثابتاً مع تراخيه عنه. ٍ
ونعين (برفع احلكم) رفع تعلقه بفعل املكلف ،فقولنا( :رفع احلكم) جنس يشمل النسخ وغريه كما
سيأيت بيانه.
وقولن ا( :الث ابت خبط اب) فصل خيرج به رفع احلكم الث ابت ب الرباءة األص لية ،أي ع دم التكليف
بشيء ،فإنه ليس بنسخ ،إذ لو كان نسخاً كانت الشريعة كلها نسخاً ،فإن الفرائض كلها كالصالة
والزكاة والصوم واحلج رفع للرباءة األصلية.
وقولنا( :خبطاب آخر) فصل ثان خيرج به رفع احلكم باجلنون واملوت.
وقولنا( :على وجه لواله لكان ثابت اً) فصل ثالث خيرج به ما لو كان اخلطاب مغَيَّا ٍ
بغاية أو ُم َعلالً ُ
مبعىن ،وخرج اخلطاب الثاين ببلوغ الغاية أو زوال املعىن فإن ذلك ال يكون نسخاً له ،ألنه لو مل يرد
اخلطاب الثاين الدال على ذلك مل يكن احلكم ثابتاً لبلوغ الغاية وزوال العلة.
مثال ذلك :قوله تعاىل﴿ :يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصالة من يوم اجلمعة فاسعوا إىل ذكر اهلل
وذروا ال بيع﴾ ،فتح رمي ال بيع ُمغَيَّا بقض اء اجلمع ة ،فال يق ال :إن قوله تع اىل﴿ :ف إذا قض يت الص الة
ناسخ لألول ،بل هو مبنّي لغاية التحرمي.
فانتشروا يف األرض وابتغوا من فضل اهلل﴾ ٌ
وك ذا قوله تع اىل﴿ :وح رم عليكم ص يد الرب م ادمتم حرم اً﴾ ،فال يق ال :إنه منس وخ بقوله تع اىل:
ألن التحرمي ألجل اإلحرام ،وقد زال.﴿وإذا حللتم فاصطادوا﴾َّ ،
وقولن ا( :مع تراخي ه) فصل رابع خيرج به ما ك ان متص الً باخلط اب من ص فة أو ش رط أو اس تثناء،
فإن ذلك ختصيص كما تقدم ،وليس ذلك نسخاً. َّ
[أنواع النسخ]
(ويج وز نسخ الرسم وبق اء الحكم) أي جيوز نس ُخ رس ِم اآلية يف املص حف وتالوهتا على أنه
ق رآن ،مع بق اء حكمها والتكليف ب ه ،حنو :آية ال رجم وهي﴿ :الش يخ والش يخة إذا زنيا فارمجومها
ألبتة﴾ ،قال عمر رضي اهلل عنه :إياكم أن هتلكوا عن آية الرجم ،وذكرها ،مث قال :فإنا قد قرأناها،
رواه مالك يف املوطأ[ ،]36قال مالك :الشيخ والشيخة الثيب والثيبة.
ورواه غري مالك بلفظ ﴿الشيخ والشيخة إذا زنيا فارمجومها ألبتة نكاالً من اهلل واهلل عزيز حكيم﴾،
وأصل احلديث متفق عليه من غري ذكره لفظها.
واملراد بالثيب احملصن وضده البكر ،واهلل أعلم.
(و) جيوز (نسخ الحكم وبق اء الرسم) حنو قوله تع اىل ﴿وال ذين يتوف ون منكم وي ذرون أزواج اً
وصية ألزواجهم متاع اً إىل احلول غري إخراج﴾ نُسخت باآلية اليت قبلها ،أعين قوله تعاىل﴿ :يرتبصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً﴾ ،وهو كثري.
(و) جيوز (نسخ الحكم والرسم مع اً) حنو ح ديث مس لم﴿ :ك ان فيما أنـزل عشر رض عات
معلوم ات ،فنس خن خبمس معلوم ات﴾[ ،]37أي مث نس خت تالوة ذلك وبقى حكمه كآية الش يخ
والشيخة ،قاله الشافعي وغريه.
وقال املالكية وغريهم :حترم املصة الواحدة وال حجة يف حديث عائشة رضي اهلل عنها؛ ألن ظاهره
ألن في ه :فت ويف رس ول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم وه ذا فيما يق رأ من الق رآن ،وذلك يقتضي م رتوك؛ َّ
وق وع النسخ بعد موته ص لى اهلل عليه وس لم ،فلم يثبت كونه قرآن اً ،وال حيتج بأنه خرب واح د؛ ألن
اخلرب الواحد إذا توجه إليه ق ادح توقف عن العمل ب ه؛ وه ذا ملا مل جيئ إال باآلح اد مع أن الع ادة
تقتضى جميئه مت واتراً ،ك ان ذلك ريبة فيه وقادح اً ،وألنه ال حيتج ب القراءة الش اذة على الص حيح ألهنا
ليست بق رآن وناقلها مل ينقلها على أهنا ح ديث ،بل على أهنا ق رآن ،وذلك خط أ ،واخلرب إذا وقع فيه
اخلطأ مل حيتج به ،واهلل أعلم.
(و) جيوز (النسخ إلى بدل) كما يف نسخ استقبال بيت املقدس باستقبال الكعبة.
(وإلى غير بدل) كما يف نسخ قوله تعاىل﴿ :إذا ناجيتم الرسول فقدموا بني يدي جنواكم صدقة﴾.
(و) جيوز النسخ (إلى ما هو أغلظ) كما يف نسخ التخيري بني ص وم رمض ان والفدية بالطع ام إىل
تعيني الصوم.
(و) جيوز النسخ (إلى ما هو أخف) ،كما يف قوله تع اىل ﴿إن يكن منكم عش رون ص ابرون يغلب وا
مائتني﴾.
(ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب) كما يف آييت العدة وآييت املصابرة.
(ونسخ الس نة بالكت اب) كما يف نسخ اس تقبال بيت املق دس الث ابت بالس نة الفعلية يف ح ديث
﴿فول وجهك شطر املسجد احلرام﴾.
الصحيحني[ ]38بقوله تعاىلّ :
(ونسخ الس نة بالس نة) كما يف ح ديث مس لم﴿ :كنت هنيتكم عن زي ارة القب ور فزوروه ا﴾[،]39
وم راد املص نف ب ذلك ما ع دا نسخ الس نة املت واترة باآلح اد ،فإنه سيص رح بع دم ج وازه ،وي أيت أن
الصحيح جوازه.
َ
ألن كالمه اآليت يقتضي أنه جيوز بالس نة وس كت عن التص ريح ببي ان حكم نسخ الكت اب بالس نةَّ ،
املتواترة وال جيوز باآلحاد.
وقد اختلف يف جواز ذلك ووقوعه ،وقال يف مجع اجلوامع" :الصحيح أنه جيوز نسخ القرآن بالقرآن
أو بالسنة" ،أي سواء كانت متواترة أو آحاداً ،مث قال" :واحلق أنه مل يقع إال باملتواترة".
وق ال الش ارح[ ]40يف ش رحه جلمع اجلوام ع" :وقي ل :وقع باآلح اد يف ح ديث الرتم ذي وغ ريه ﴿ال
وص ية ل وارث﴾ ،فإنه ناسخ لقوله تع اىل﴿ :كتب عليكم إذا حضر أح دكم املوت إن ت رك خ رياً
الوص ية للوال دين واألق ربني﴾ ،قلن ا :ال نس لم ع دم ت واتر ذلك وحنوه للمجته دين احلاكمني بالنسخ
لقرهبم من زمان النيب صلى اهلل عليه وسلم" انتهى.
ويوجد يف بعض نسخ الورقات( :وال يجوز نسخ الكتاب بالسنة) ،ويريد غري املتواترة ،بدليل ما
جيوز ختصيص الكتاب بالسنة ،فكأنه رأى أن التخصيص أهون سيأيت ،واختار القول باملنع ،وتق ّدم أنه ِّ
من النسخ.
(ويجوز نسخ المتواتر) من كتاب أو سنة (بالمتواتر) منهما.
(ونسخ اآلح اد باآلح اد وب المتواتر ،وال يج وز نسخ المت واتر) ك القرآن والس نة املت واترة
حمل النسخ هو احلكم ،والداللة (باآلح اد)؛ ألنه دونه يف الق وة ،وقد تق دَّم أن الص حيح اجلوازَّ ،
ألن َّ
عليه باملتواتر ظنية ،فهو كاآلحاد ،واهلل أعلم.
عاملاً ،ومحل بعضهم األول على ما كان يف حق اهلل كالطالق والعتاق ،والثاين على غري ذلك.
(وإن لم يكن الجمع بينهما) أي بني النصني (يتوقف فيهما) عن العمل هبما (إن لم يعلم
مرج ٌح ألحدمها.
التاريخ) ،أي إىل أن يظهر ِّ
جيوز
مثاله قوله تعاىل﴿ :أو ما ملكت أميانكم﴾ ،وقوله تعاىل﴿ :وأن جتمعوا بني األختني﴾ ،فاألول ِّ
حيرم ذل ك ،فتوقف فيهما عثم ان رضي اهلل عنه ملا س ئل عنهما مجع األخ تني مبلك اليمني ،والث اين ِّ
َ
فقال :أحلتهما آية وحرمتهما آية ،مث حكم الفقهاء بالتحرمي لدليل آخر ،وهو أن األصل يف األبضاع
التحرمي.
(فإن علم التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر) كما يف آييت عدة الوفاة ،وآييت املصابرة.
واملراد باملتأخر املتأخر يف النـزول ال يف التالوة واهلل أعلم.
(وك ذا إذا كانا) أي النص ان (خاص ين) ،أي وإن أمكن اجلمع بينهما مجع كما يف ح ديث ﴿أنه
صلى اهلل عليه وسلم توضأ وغسل رجليه﴾[ ]43وهذا مشهور يف الصحيحني وغريمها ،وحديث ﴿أنه
توضأ ورش املاء على قدميه ومها يف النعلني﴾ رواه النس ائي وال بيهقي وغريمها[ ،]44فجمع بينهما يف
حال التجديد ملا يف بعض الطرق﴿ :إن هذا وضوء من مل حيدث﴾[.]45
وقيل :املراد بالوضوء يف حديث الغسل الوضوء الشرعي ،ويف حديث الرش اللغوي وهو النظافة.
وقيل :إنه غسلهما يف النعلني ومسي ذلك رشاً جمازاً.
وإن مل ميكن اجلمع بينهما ومل يعلم التاريخ توقف فيهما إىل ظهور مرجح ألحدمها.
مثاله ما ج اء أنه ص لى اهلل عليه وس لم س ئل عما حيل للرجل من امرأته وهي ح ائض ،فق ال﴿ :ما
فوق اإلزار﴾ ،رواه أبو داود[ ،]46وجاء أنه قال﴿ :اصنعوا كل شيء إال النكاح﴾ أي الوطء ،رواه
مس لم[ ،]47ومن مجلة ذلك االس تمتاع مبا حتت اإلزار ،فتع ارض فيه احلديثان ف رجح بعض هم التح رمي
احتياط اً ،وبعض هم احلل؛ ألنه األصل يف املنكوح ة ،واألول هو املش هور عن دنا وعند الش افعية ،وق ال
أبو حنيفة ومجاعة من العلماء بالثاين.
ووقع يف كالم الشرح بعد ذكر احلديث الثاين" :ومن مجلة ذلك الوطء يف ما فوق اإلزار فيتعارض
فيه احلديثان" ،والظاهر أنه سهو ،فإن ما فوق اإلزار جيوز االستمتاع به باتفاق العلماء ،قال النووي
يف شرح مسلم :بل حكى مجاعة كثرية اإلمجاع عليه.
وإن علم التاريخ نسخ املتقدم باملتأخر كما تقدم يف حديث زيارة القبور.
(وإن كان أحدهما عاماً واآلخر خاص اً فيخصص العام بالخاص) ،كحديث الصحيحني﴿ :فيما
سقت السماء العشر﴾ ،وحديثهما ﴿ليس فيما دون مخسة أوسق صدقة﴾[ ،]48فيخص األول بالثاين،
سواء َو َر َدا معاً أو تقدَّم أحدمها على اآلخر أو جهل التاريخ.
(وإن ك ان أح دهما عام اً من وجه وخاص اً من وجه فيخص عم وم كل واحد منهما بخص وص
اآلخر) إن أمكن ذلك ،وإال احتيج إىل التاريخ.
مثال ما ميكن فيه التخصيص حديث أىب داود وغريه﴿ :إذا بلغ املاء قلتني فإنه ال ينجس﴾[ ،]49مع
ح ديث ابن ماجه وغ ريه ﴿املاء ال ينجسه ش يء إال ما غلب على رحيه وطعمه ولون ه﴾[ ،]50ف األول
خاص يف القلتني عام يف املتغري وغريه ،والثاين خاص يف املتغري عام يف القلتني وما دوهنما.
فيخص عموم األول خبصوص الثاين ،فيحكم بأن ماء القلتني ال ينجس بالتغيري ،وخص عموم الثاين
ورجح املالكية
خبصوص األول فيحكم بأن ما دون القلتني ينجس وإن مل يتغري هذا مذهب الشافعيةَّ ،
نص واألول إمنا يعارضه مبفهومه ،والقصد التمثيل.
الثاين ألنه ٌ
ومث ال ما ال ميكن ختص يص عم وم كل منهما خبص وص اآلخر ح ديث البخ اري ﴿من ب دل دينه
فاقتلوه﴾[ ،]51وحديث الصحيحني ﴿أنه صلى اهلل عليه وسلم هني عن قتل النساء﴾[ ،]52فاألول عام
يف الرج ال والنس اء خ اص بأهل ال ردة ،والث اين خ اص يف النس اء ع ام يف احلربي ات واملرت دات،
فيتعارضان يف املرتدة هل تقتل أم ال ؟ فيطلب الرتجيح.
وقد رجح بقاء عموم األول وختصيص الثاين باحلربيات حبديث َو َر َد يف قتل املرتدة[ ،]53واهلل أعلم.
[باب اإلجماع]
(وأما اإلجماع) فهو ثالث األدلة الشرعية األربعة :أعين الكتاب والسنة واإلمجاع والقياس.
العزم ،كما يف قوله تعاىل﴿ :فأمجعوا أمركم﴾.
وهو لغةً ُ
وأما يف االص طالح( :فهو اتف اق علم اء العصر) من أمة حممد ص لى اهلل عليه وس لم (على حكم
الحادثة).
وفاق العوام معهم على املعروف.
عتبُر َ فال يُ َ
الز َما ُن.
والعصر َّ
ُ
(ونعنى بالعلماء الفقهاء) ،يعىن اجملتهدين ،فال يعترب موافقة األصوليني معهم.
(ونعنى بالحادثة الحادثة الشرعية) ألهنا حمل نظر الفقهاء ،خبالف غري الشرعية كاللغوية مثالً فإهنا
حمل نظر علماء اللغة.
(وإجم اع ه ذه األمة حجة دون غيره ا؛ لقوله ص لى اهلل عليه وس لم﴿ :ال تجتمع أم تي على
ضالله﴾) رواه الرتمذي وغريه[.]54
(والشرع ورد بعصمة هذه األمة) هلذا احلديث وغريه.
(واإلجماع حجة على العصر الثاني) ومن بعده.
(و) اإلمجاع حجة (في أي عصر كان) ،سواء كان يف عصر الصحابة أويف عصر من بعده.
(وال يشترط) يف حجية اإلمجاع (انقراض العصر) بأن ميوت أهله (على الصحيح) ،لس كوت أدلة
حجية اإلمجاع عن ذلك ،فلو اجتمع اجملتهدون يف عصر على حكم مل يكن له وال لغريه خمالفته.
وقيل :يشرتط يف حجيته انقراض اجملتهدين؛ جلواز أن يطرأ لبعضهم ما خيالف اجتهاده فريجع.
وأجيب :بأنا مننع رجوعه لإلمجاع قبله.
(ف إن قلنا انق راض العصر ش رط فيعت بر) يف انعق اد اإلمجاع (ق ول من ولد في حي اتهم وتفقه
وص ار من أهل االجته اد) ف إن خ الفهم ،مل ينعقد إمجاعهم الس ابق( ،فلهم) على ه ذا الق ول (أن
يرجعوا عن ذلك الحكم) الذي أمجعوا عليه.
وعلى القول الصحيح ال يقدح يف إمجاعهم خمالفة من ولد يف عصرهم وال جيوز هلم الرجوع.
(واإلجم اع يصح بق ولهم) أي بق ول اجملته دين يف حكم من األحك ام :إنه حالل أو ح رام أو
واجب أو مندوب أو غري ذلك وهذا هو اإلمجاع القويل.
(و) يصح أيض اً (بفعلهم) ،ف إن فعل وا فعالً فيَ ُد ُّل فعلهم على ج وازه وإال ك انوا جممعني على
الضاللة ،وقد تقدم أهنم معصومون من ذلك.
قالوا :وال يكاد يتحقق ذلكَّ ،
فإن األمة مىت فعلت شيئاً فالبد من متكلم حبكم ذلك الشيء.
وقد قي ل :إن إمجاعهم على إثب ات الق رآن يف املص احف إمجاع فعلى وليس ك ذلك؛ لتق دم املش ورة
فيه بني الصحابة رضي اهلل تعاىل عنهم.
وقي ل :مث ال اإلمجاع الفعلي إمجاع األمة على اخلت ان ،وهو مش روع باإلمجاع الفعلي ،أما وجوبه
وسنيته مأخوذ من أقواهلم ،وذلك أمر خمتلف فيه.
(و) يصح اإلمجاع أيض اً (بق ول البعض وبفعل البعض وانتش ار ذلك) الق ول أو الفعل (وس كوت
الباقين) من اجملتهدين عنه مع علمهم به من غري إنكار ،ويسمى ذلك باإلمجاع السكويت.
وظ اهر كالم املص نف أنه إمجاع ،وفيه خالف :فقي ل :إنه إمجاع ،وقي ل :إنه حجة وليس بإمجاع،
وقيل :ليس بإمجاع وال حجة[.]55
[باب القياس]
(وأما القياس) فهو الرابع من األدلة الشرعية[.]60
َّوب ،ومبعىن التشبيه حنو قوهلم :يُ َقاس املرء باملرء. ِ
ت الث َ
وهو يف اللغة :مبعىن التقدير ،حنو :ق ْس ُ
وأما يف االصطالح( :فهو رد الفرع إلى األصل بعلة تجمعهما في الحكم).
رد الف رع إىل األصل جعلُه راجع اً إليه ومس اوياً له يف احلكم ،كقي اس األرز على الرُب يف
ومعىن ِّ
الرب ا ،للعلِّة اجلامع ِة بينهم ا ،وهي االقتي ات واالدخ ار للق وت عند املالكي ة ،وكونه مطعوم اً عند
الشافعية.
[أقسام القياس]
(وهو) أي القياس (ينقسم إلى ثالثة أقسام :إلى قياس عله ،وقياس داللة ،وقياس شبه).
(فقياس العلة) وهو القسم األول( :ما كانت العلة فيه موجبة للحكم) أي مقتضية له ،مبعىن أنه ال
حيسن عقالً ختلف احلكم عنها ،ولو ختلف عنها مل يلزم منه حمال ،كما هو شأن العلل الشرعية.
اإلجياب العقلي ،مبعىن أنه يستحيل عقالً ختلف احلكم عنها ،وذلك كقياس حترمي ضرب
َ املراد
وليس ُ
الوالدين على التأفيف جبامع اإليذاء ،فإنه ال حيسن يف العقل إباحة الضرب مع حترمي التأفيف.
وقد اختلف يف ه ذا الن وع ،فمنهم من جعل الداللة فيه على احلكم قياس ية ،ومنهم من ذهب إىل
أهنا غري قياسية ،وأهنا من داللة اللفظ على احلكم.
(و) القسم الثاين من أقسام القياس (قياس الداللة وهو االستدالل بأحد النظيرين على اآلخر).
(وهو أن تكون العلة دالة على الحكم وال تكون موجبة للحكم) ،أي مقتضية له كما يف القسم
األول.
وه ذا الن وع غ الب أن واع األقيس ة ،وهو ما يك ون احلكم فيه لعلة مس تنبطة جلواز أن ي رتتب احلكم
عليها يف الفروع وجيوز أن يتخلف.
إن العلَّةَ فيه دالة على احلكم وليست ظ اهرة فيه ظه وراً ال حيسن
وه ذا الن وع أض عف من األول ،ف َّ
معه ختلف احلكم.
مال ٍ
نام. وذلك كقياس مال الصيب على مال البالغ يف وجوب الزكاة فيه ،جبامع أنه ٌ
وجيوز أن يقال :ال جيب يف مال الصيب ،كما قال أبو حنيفة[.]61
(و) القسم الث الث من أقس ام القي اس (قي اس الش به ،وهو الف رع الم تردد بين أص لين ،فيلحق
بأكثرهما شبهاً).
احلر من حيث إنه آدمي ،وبني البهيمة من رتدد يف َّ ِ
الض مان بني اإلنس ان ّ كالعبد املقت ول ،فإنَّه م ٌ
حيث إنه م ال ،وهو باملال أك ثر ش بهاً من احلر ،ب دليل أنه يب اع وي ورث ويوقف وتض من أج زاؤه مبا
نقص من قيمته ،فيلحق به وتضمن قيمته وإن زادت على دية احلر.
وه ذا الن وع أض عف من ال ذي قبله ول ذلك اختلف يف قبول ه( ،وال يص ار إليه مع إمك ان ما قبله)
واهلل أعلم.
[أركان القياس]
ِ
األص ِل املقيس عليه ،ولكل واحد منها شروط.
ْم ْ واألصل والعلَّةُ ُ
وحك ُ ُ
ِ
القياس أربعةٌ :ال َفرعُ وأركا ُن
(ومن شرط الفرع أن يكون مناسباً لألصل) يف األمر الذي جيمع بينهما للحكم ،بأن تكون علَّةُ
الفرع مماثلة لعلَّ ِة األصل:
في عينها :كقياس النبيذ على اخلمر لعلة اإلسكار،
أو في جنسها :كقياس وجوب القصاص يف األطراف على القصاص يف النفس جبامع اجلناية.
وقد يقال بأنه يستغىن عن هذا الشرط بقوله يف حد القياس :رد الفرع إىل األصل لعلة جتمعهما يف
احلكم.
(ومن ش رط األصل أن يك ون) حكمه (ثابت اً ب دليل متفق عليه بين الخص مين) ،ب أن يتفقا على
حكمه ليكون القياس حجة على اخلصم.ِعلَّ ِة ِ
فإن كان حكم األصل متفقاً عليه بينهما ولكن لعلتني خمتلفتني مل يصح القياس.
فإن مل يكن خصم فالشرط ثبوت حكم األصل ٍ
بدليل يقول به القايس.
(ومن ش رط العلة أن تطَّرد في معلوالتها) حبيث كلما وج دت األوص اف املعرب هبا عنها يف
ص ور ٍة ،وجد احلكم( ،فال تنتقض لفظ اً) ب أن تص دق األوص اف املعرب هبا عنها يف ص ورة ال يوجد
احلكم معه ا( ،وال مع نى) ب أن يوجد املعىن املعلل به وال يوجد احلكم ،فمىت انقضت العلة لفظ اً أو
معىن فسد القياس.
مث ال األول :أن يق ال يف القتل مبُثقَّل إنه قت ُل عم ٍد ع دوان ،فيجب به القص اص كالقتل باحملدَّد،
فينتقض ذلك بقتل الوالد ولده فإنه ال يوجب القصاص مع أنه قتل عمد عدوان[.]62
ومثال الثاين أن يقال :جتب الزكاة يف املواشي لدفع حاجة الفقري ،فيقال :ينتقض ذلك بوجود ذلك
املعىن وهو دفع حاجة الفقري يف اجلواهر.
واملرجع يف االنتق اض لفظ اً ومعىن إىل وج ود العلة ب دون احلكم ،وإمنا غ اير بينهما ألن العلة يف
األول ملا ك انت ُمر ّكبة من أوص اف متع ددة نظر فيها إىل ج انب اللف ظ ،وملا ك انت يف الث اين أم راً
واحداً نظر فيها إىل املعىن وكأنه جمرد اصطالح واهلل أعلم.
(ومن ش رط الحكم أن يك ون مثل العلة) ،أي تابع اً هلا (في النفي واإلثب ات) ،أي يف الوج ود
والعدم.
(ف إن وج دت العلة وجد الحكم) وإن انتفت انتفى ،وه ذا إن ك ان احلكم معلالً بعلة واح دة
كتحرمي اخلمر فإنه معلل باإلسكار ،فمىت وجد اإلسكار وجد احلكم ومىت انتفي انتفى.
وأما إذا ك ان احلكم معلالً بِعِلَ ٍل فإنه ال يل زم من انتف اء بعض تلك العلل انتف اء احلكم ،كالقتل فإنه
جيب بس بب ال ردة وال زىن بعد اإلحص ان وقتل النفس املعص ومة املماثلة وت رك الص الة وغري ذلك واهلل
أعلم.
[تعريف العلة]
(والعلة هي الجالبة للحكم) ،أي الوصف املناسب ل رتتب احلكم علي ه ،كرفع حاجة الفقري فإنه
وصف مناسب إلجياب الزكاة.
(والحكم هو المجلوب للعلة) أي هو األمر الذي يصح ترتبه على العلة.
وملا ف رغ من ذكر ال دالئل الش رعية املتفق عليها ش رع ي ذكر ال دالئل املختلف فيها[ ،]63فمنها أن
يقال :إن األصل يف األشياء احلرمة أو اإلباحة فقال:
[فصل في الحظر واإلباحة]
(وأما الحظر) أي احلرمة (واإلباحة ،فمن الناس من يقول :إن األشياء) بعد البعثة (على الحظر)،
أي مستمرة على احلرمة؛ ألهنا األصل فيها( ،إال ما أباحته الشريعة).
واالستثناء منقطع ،فإن ما أباحته الشريعة األصل فيه أيضاً احلرمة عنده.
(فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على اإلباحة يتمسك باألصل) وهو احلظر.
(ومن الن اس من يق ول بض ده) ،أي بضد ه ذا الق ول( ،وهو أن األصل في األش ياء) بعد البعثة
حر َمه.
(أنها على اإلباحة إال ما حظره الشرع) أي َّ
أصل املضار التحرمي ،واملنافع احلل ،قال اهلل تعاىل﴿ :خلق لكم ما يف
أن َ والصحيح التفصيل :وهو َّ
األرض مجيعاً﴾ ذكره يف معرض االمتنان ،وال مينت إال جبائز.
وقال صلى اهلل عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه وغريه﴿ :ال ضرر وال ضرار﴾[ ،]64أي يف ديننا ،أي
ال جيوز ذلك.
وه ذا حكم األش ياء بعد البعث ة ،وأما قبل البعثة فليس هن اك حكم ش رعي يتعلق بش يء النتف اء
الرسول املبني لألحكام[.]65
[فصل في االستصحاب]
ومن األدلة املختلف فيها االستص حاب ،وملا ك ان االستص حاب له معني ان أح دمها متفق على قبوله
أشار إليه بقوله:
(ومعنى استصحاب الحال الذي يحتج به) عند عدم الدليل الشرعي كما سيأيت (أن يستصحب
األصل) ،أي الع دم األص لي (عند ع دم ال دليل الش رعي) ،إذا مل جيده اجملتهد بعد البحث عنه بق در
طاقته.
ك أن مل جيد دليالً على وج وب ص وم رجب فيق ول :ال جيب؛ الستص حاب األص ل ،أي الع دم
األصلي.
وعلى وجوب صالة زائدة على اخلمس فإن األصل عدمه.
وأما االستص حاب ب املعىن الث اين املختلف فيه وهو ثب وت أمر يف الزم ان الث اين لثبوته يف األول ،فهو
حجة عند املالكية والشافعية دون احلنفية.
وملا فرغ من ذكر األدلة شرع يف بيان الرتجيح بينها فقال:
وهذا ما يسره اهلل سبحانه وتعاىل يف مجعه يف شرح الورقات ،جعل اهلل ذلك خالصاً لوجهه الكرمي،
ونفع به يف احلياة بعد املمات ،إنه مسيع قريب جميب الدعوات.
اللهم
ونع وذ باهلل من علم ال ينف ع ،وقلب ال خيش ع ،ودع اء ال يس مع ،ونفس ال تش بع ،أع وذ بك َّ
من َشِّر هؤالء األربع.
فساد قلوبنا ويوفقنا ملا يرضيه عنا ،ويغفر لنا ولوالدينا
يصلح َ
َ ونسأل اهلل العظيم جباه نبيه الكرمي أن
وملشاخينا ووالديهم وإخواهنم وأصحابنا وأحبابنا ومجيع املسلمني مبنه وكرمه ،آمني[.]71
مرتداً ،وانظر تفصيل ذلك يف مباحث الردة من كتب الفقه ،واهلل أعلم.
[ ]69انظر فتح الباري ( ،)13/318وصحيح مسلم (.)3/193
[ ]70انظر مستدرك احلاكم ( ،)4/88لكن بلفظ خمتلف عما هنا ،واهلل أعلم.
انتهيت من خدمة هذا الكتاب ،والتعليق عليه ،ليلة
ُ [ ]71قال خادم العلم والعلماء جالل الجهاني:
السبت الرابع من شهر رجب عام 1414هـ ،ونسأل اهلل اهلداية والتوفيق وأن يفرج عن أمتنا ما
تواجهه من حمن وشدائد ،آمني وصلى اهلل على سيدنا حممد وعلى آله وصحبه وسلم.
أعدت النظر فيه مرة أخرى ،مبهجري مبدينة ليدن باململكة اهلولندية ،وانتهيت من
ُ مالحظة :مث
ذلك ليلة اخلميس التاسع من شهر ذي القعدة سنة 1422هـ ،واهلل املوفق.