‫لو وجدت نفسك في أحد األيام تمتلك القدرة على مُعاقبة كل المجرمين في العالم‪ ،‬هل‬

‫ضا لو عرفت أن قدرتك تلك‬‫ستستغل تلك القدرة؟ إذا كانت إجابتك بنعم‪ ،‬فهل ستجيب بنعم أي ً‬
‫تتمثل في امتالكك لوسيلة تقتل بها المجرم عن بُعد دون أن يراك أحد‪ ،‬أي أنك لتوقف‬
‫الجريمة ستصبح أنت نفسك مُجرمًا!‬

‫‪ ‬‬

‫ربما أفضل ما في األعمال الفنية واألدبية هي قدرتها على طرح أسئلة "ماذا لو؟" ومحاولة‬
‫بناء إجابة منطقية لها في فضاء الخيال‪ ،‬وربما كان السؤال السابق هو ما ألهم المؤلف‬
‫الياباني "تسوغومي أوهبا" كتابة سلسلة القصص المصوّ رة? الشهيرة "مف ّكرة الموت"‪ ،‬والتي‬
‫ستتحول فيما بعد لمسلسل أنمي سيفوقها شهرة‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫في "مفكرة الموت"‪ ،‬وسيلة القتل عن بُعد هي مُفكرة يمتلكها أحد الشينيغامي (إله الموت في‬
‫المعتقدات اليابانية)‪ ،‬يُصيبه الضجر ويوقعها لعالم البشر رغبة في بعض المُغامرات‪?.‬‬
‫وعندما يلتقطها "اليت ياغامي"‪ ،‬طالب الثانوية المثالي‪ ،‬يجد نفسه واق ًفا وجهًا لوجه أمام‬
‫ذاك السؤال‪ .‬يخط اليت أول األسماء التي سينفيها من الحياة في مفكرته اختبارً ا لها‪ ،‬وعندما‬
‫يرى صاحب االسم وقد استحال جثة هامدة بعد أن ُأصيب بأزمة قلبية‪ ،‬يصبح ثماًل برؤى‬
‫خال من الجريمة يسود هو عليه ويصير له إلـهًا‬
‫عالم جديد ٍ‬

‫يبدأ اليت بالفعل في تنفيذ خطته‪ ،‬وال يمر وقت طويل قبل أن يلحظ العالم تحركات??ه المُتمثل??ة‬
‫في حوادث موت غامضة يموت فيها المجرمون جرّ اء أزمات قلبية‪ .‬وبما أن أح ًدا ال يع??رف‬
‫هوية المسئول عن هذا‪ ،‬يُطلق عليه الناس اسم "كيرا"‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫يحدث انقسا ٌم واس ٌع حول ما يفعله كيرا‪ ،‬فبينما يراه البعض الم َُخلّص الذي جاء ليُطهّر‬
‫البشرية من دنس اإلجرام‪ ،‬يعترض البعض اآلخر على ما يفعل وال يرى فيه سوى مجرم‬
‫آخر بغضّ النظر عن دوافعه‪ .‬تقف حكومات العالم في صفوف االعتراض‪ ،‬ولعجز أجهزة‬
‫شرطتها العادية عن اإليقاع بالقاتل الخفي‪ ،‬تستعين بـ"إل"‪ ،‬المحقق األكثر عبقرية على‬
‫البسيطة‪ .‬وبين محاوالت إل في الكشف عن هوية كيرا‪ ،‬ومحاوالت كيرا في قتل إل‪ ،‬تتطور‬
‫األحداث‪ .‬وفي تصاعدها‪ ،‬نجد أنفسنا لسنا أمام مسلسل إثارة عادي يسلينا لبعض الوقت‪ ،‬بل‬
‫أمام عمل يطرح أسئلة جادة يستمر صداها في عقولنا حتى بعد أن ننتهي منه؛ وفي طرحه‬
‫لها‪ ،‬يبت َعد في كل البُعد عن ممارسة أي نوع من أنواع التوجيه ما يُزيد من شعورنا بالحيرة‪.‬‬

‫وفي هذا الفيديو لن نجيب عن تلك االسئلة الفلسفية التي طرحها االنمي مع تصاعد االحداث‬
‫ولكن سنقوم بالحديث فيه عن ياغامي اليت واالبداع المتمثل في كتابة شخصيته‪.‬‬
‫تصنف شخصية ياغامي اليت على أساس انه أنتي هيرو‪ ،‬وهذا التصنيف يعتبر محبب لدى‬
‫الكثير من متابعي اإلنمي‪.‬‬
‫ببساطة األنتي هيرو تجده الشخصية الرئيسية لعمل ما لديه هدف‪ ،‬لكن طريقة الوصول إلى‬
‫هذا الهدف غير اخالقية وغير مثالية‪.‬‬
‫ومن أبرز هذه األمثلة لدينا شخصية ياغامي اليت‪.‬‬
‫لألسف الكثير ممن شاهد مفكرة الموت أعجب فقط بالصراع الذي كان بين إل وياغامي‬
‫اليت وكونه فقط إنمي بوليسي‪ ،‬ولم يعجب بروعة كتابة شخصية ياغامي‪.‬‬
‫شخصيا اعتبره من بين أفضل شخصيات اإلنمي على مستوى الكتابة وبناء الشخصية‬
‫وطريقة تحولها من شخصية عادية الى متسلطة او متغطرسة‪.‬‬
‫ياغامي اليت مر بعدة مراحل في تطور شخصيته‪.‬‬
‫من شخص عادي يشعر بالملل في حياته له حس عدالة كبير‪ ،‬الى امتالكه للمذكرة الذي‬
‫شهد تغير في شخصيته عندما امتلك القوة وأصبح حسه بالعدالة هو من يقود تصرفاته‬
‫والذي كان في البداية مقتصرا على معاقبة المجرمين فقط‪ ،‬الى مرحلة شعوره بالغطرسة‬
‫والجبروت ونصب نفسه كإله العدالة وأصبح يقتل كل من يقف في طريقه حتى االبرياء‬
‫منهم ثم لمرحلة فقدانه لذاكرته‪.‬‬
‫في كل هذه المراحل التي مر بها ياغامي اليت كنا نرى تحول منطقي ومتدرج في‬
‫شخصيته من انتقاله لمرحلة الى مرحلة أخرى محبوكة بطريقة ممتازة وبعناية شديدة‪.‬‬
‫الكاتب هنا جسد اطروحة القوة لفردريك نيشته‪ ،‬وطبقها على ياغامي اليت‪.‬‬
‫اطروحة القوة والطمع التي تقول ان ارادة القوة هي ما تشكل هوية الشخص‪.‬‬
‫الطمع هو طبيعة بشرية وعندما تتوفر القوة تصبح وقود لهذا الطمع ويكبر معه الطموح‪.‬‬
‫اي ان تقريبا كل شخص عندما يحصل على القوة والسلطة قد تتغير افكاره وربما تظهر‬
‫افكاره الداخلية الحقيقة وتصبح هي من تقوده في جميع تصرفاته‪.‬‬
‫يشق اليت إذن طريقه لعالمه ال عبر فلسفة كانط في األخالق التي تقول "عِ ش حياتك كما لو‬
‫أن كل تصرف من تصرفاتك سيصبح قانو ًنا عالميًا"‪ ،‬بل عبر فلسفة جيرمي بينثم النفعية‬
‫التي ترى أن الخير هو ببساطة "أكبر قدر من المنفعة ألكبر عدد من الناس"‪ .‬ولهذا‪ ،‬ال‬
‫يبالي اليت لوقوعه في فخ التناقض‪ ،‬فتناقضه حينها الناتج عن استخدامه الجريمة التي‬
‫ستجعل منه المُذنب الوحيد المُتبقي‪ ،‬تبرره غايته في الوصول لعالم يعيش كل سُكانه بسالم‬
‫وأمان‪ ،‬وبهذا يحقق أكبر قدر من المنفعة (عالم بال جريمة)‪ ،‬ألكبر عدد من الناس (كل من‬
‫هو ليس مجرم)‪.‬‬
‫ياغامي اليت في البداية كان شخص طيب جدا‪ ،‬مثال على ذلك انه لما فقد الذاكرة وعمل مع‬
‫إل‪ ،‬أصبح يتعامل بمثالية شديدة أكثر من أل‪ ،‬حتى انه كره كيرا وتصرفاته‪ ،‬وهذا كان‬
‫جوهر شخصيته في البداية‪.‬‬
‫لكن فور حصوله على القوة تغيرت مبادئه ونظرته للحياة‪ ،‬تقريبا هذه القوة هي التي حركت‬
‫دوافعه الخفية‪.‬‬
‫هنا الكاتب جسد لك فكرة ان تفكير الشخص قد يتغير وتتغير مبادئه عند حصوله على‬
‫السلطة او القوة المطلقة‪ ،‬وهذا قد نراه حتى في حياتنا الحقيقة (طبعا ليس شرط الجميع‪ ،‬لكن‬
‫فئة معينة وجسدها الكاتب في ياغامي اليت)‪.‬‬
‫كما جسد الكاتب شخصية اليت بين النرجسية في حب الذات وتحقيق العدالة العالمية؟‬
‫هما مفهومان يبدو التناقض باديا على عالقتهما ببعضهما البعض‪ ،‬لكن عندما نربط األمر‬
‫بشخصية اليت‪ ،‬سيتضح أن النرجسية هي نتيجة كانت حتمية لمفهوم العدالة‪ ،‬كيف هذا؟ هل‬
‫اليت هو فعال مالك الخير أم مجرد شيطان آخر؟‬
‫اليت أو كيرا‪ ،‬كما اسلفت في الذكر بالبداية ظهر على أنه مجرد طالب عادي بحس عدالة‬
‫قوي‪ ،‬يعلم ما هو الصواب? وما هو الخطأ‪ ،‬يفهم نظام العدالة الذي بدا في نظره غير عادال‪.‬‬
‫عندما استعمل مذكرة الموت ألول مرة‪ ،‬لم يكن األمر لكسب السلطة والقوة الغاشمة‪ ،‬بل‬
‫لتخليص العالم من الجريمة‪ ،‬معاقبة المجرم بقتله وخفض معدل الجريمة وجعل العالم مكانا‬
‫أفضل‪ ،‬في هاته المرحلة‪ ،‬قد نقول أنه لم يكن في حاجة الى السلطة‪ ،‬لكن…‪.‬‬
‫بينما تستمر األحداث وتشتد حدة األمور بينه و بين ‪ ،L‬أصبح اليت بالتالي فاهما لشخصيته‬
‫أكثر‪ ،‬وقرر أن الحصول على تلك السلطة أصبح ضروريا لكي يصبح إله العالم الجديد‪ ،‬و‬
‫لهذا الفعل نتيجة‪ ،‬الشعور بالقدرة على التحكم في الموت يجعلك تشعر بأنك ال تقهر‪ ،‬نما هذا‬
‫في “اليت” و هذا ما جعله نرجسيا خبيثا‪.‬‬
‫هذا هو الرابط المباشر بين العدالة التي تمناها اليت والنرجسية التي تربت في جوفه والتي‬
‫أعمت عينيه عن الحقيقة التي جعلته ينطلق بمغامرته في المقام األول‪.‬‬
‫كما جسد الكاتب أيضا فكرة ارادة الحياة‪ ،‬حيث أن تقريبا كل شخص يحصل على قوة او‬
‫سلطة كبيرة يصبح متمسكا أكثر بالحياة ويصبح يخاف أكثر فأكثر من الموت‪ ،‬الديكتاتوريين‬
‫مثال في عصرنا خير دليل‪.‬‬
‫فبامتالك القوة والسلطة وتغير الشخصية الى األسوأ‪ ،‬الشخص يصاب بجنون العظمة حتى‬
‫انه يكره الموت كرها شديدا ويتعلق بالحياة أكثر‪ ،‬هذا ايضا ما قد شاهدناه في اواخر‬
‫اإلنمي‪ ،‬عندما طلب ياغامي من ريوك قتل الشرطة التي كشفته في االخير‪ ،‬وكان متسمك‬
‫جدا بالحياة إلى اقصى درجة‪.‬‬
 ‫تقريبا نقول ان ياغامي اليت كبر غروره او غطرسته بسبب ضعفه في البداية لهذا كان‬
‫مثالي في تعامله‪ ،‬لكن عندما حصل على القوة هذه الشخصية التي كانت في داخله تحررت‪،‬‬
‫ألنها وجدت تقريبا من يحررها‪.‬‬
‫لنتحدث قليال عن مميزات مذكرة الموت وتأثيرها على نفسية صاحبها‪.‬‬
‫قدرة” كيرا “على قتل المجرمين مفيدة الى حد ما‪ ،‬لكنها سيف بحدين‪ ،‬فهي تخلق ثقافة‬
‫الخوف أوال بالمجرمين الذين يشعرون بجنون االرتياب بشأن الكشف عن أسمائهم‪ ،‬وثانيا‪،‬‬
‫األبرياء سيخشون أن يتم قتلهم إذا عملوا جرائم صغيرة‪ ،‬بصرف النظر عن معدل الجرائم‬
‫الذي سيصبح منخفضا‪ ،‬فالناس هم على استعداد لعبادة كيرا وهذا طبعا بشكل متعصب‪ ،‬ال‬
‫شيء سينتج عن هذا سوى االرتياب العالمي ال سيما بعد وفاة ‪.L‬‬
‫خال‬
‫لكن المُفارقة التي فاتت اليت وتمكن "إل" من التقاطها هي أن وسيلة اليت إلى عالم ٍ‬
‫من الجريمة‪-‬القتل عن طريق "مُفكرة الموت"‪-‬هي في حد ذاتها جريمة‪ ،‬وأن في عالمه‬
‫المثالي الذي طهره من المُجرمين سيكون هو فيه المُجرم الوحيد‪.‬‬
‫الثغرة؟‬
‫المشكل هو اإلنسان‪ ،‬العالم ليس أبيض وأسود فقط‪ ،‬حتى النوع الجيد من البشر يمكنه في‬
‫مرحلة ما ان يقوم بأعمال شريرة‪ ،‬ظروفه قد تحتم عليه هذا‪ ،‬االختالف يكون فقط في شدة‬
‫شر تلك األفعال‪ ،‬وهذا ما يحدد درجات العقاب وكذا العدالة التي وجب تطبيقها‪ ،‬لألسف‬
‫العالم اآلن في مرحلة أصبح فيها الشخص قادرا على تجنب العقاب حتى ولو عمل جريمة‬
‫شنعاء من أشر ما يمكن عمله‪.‬‬
‫النظام نسبي‪ ،‬أؤمن أن فكرة التخلص من الشرير هي فكرة خاطئة في المقام األول‪ ،‬كان‬
‫ليكون االمر أكتر منطقية لو تم التركيز على التخلص من مصدر الشر وليس الشرير‪،‬‬
‫المصدر الذي يتجلى في الطبقية والالمساواة وكذا الفقر المنتشر بكل المجتمعات‪ ،‬لكن‬
‫لألسف‪ ،‬فكرة االنمي ليست عن هذا‪ ،‬فمذكرة الموت‪ ،‬لن تستطيع القضاء على شيء غير‬
‫مادي كالفقر‪.‬‬

‫الكاتب جسد في ياغامي اليت كل تجسيدات الذات البشرية‪ ،‬من شخص عادي وطيب وله‬
‫حس بالعدالة‪ ،‬الى شخص نصب نفسه على انه ملك العدالة‪ ،‬الى جنون العظمة والغطرسة‬
‫وتنصيب نفسه إله وتمسكه بالحياة حتى اخر حلقة‪.‬‬