You are on page 1of 62

‫كتاب الصالة‬

‫الص الة تنقس م أوال وباجلمل ة إىل ف رض‪ ،‬ون دب‪ .‬والق ول احملي ط بأص ول ه ذه العب ادة‬
‫ينحصر‬
‫باجلملة يف أربعة أجناس‪ ،‬أعين‪ :‬أربع مجل‪:‬‬
‫اجلملة األوىل‪ :‬يف معرفة الوجوب وما يتعلق به‪.‬‬
‫واجلمل ة الثاني ة‪ :‬يف معرف ة ش روطها الثالث‪ ،‬أع ين‪ :‬ش روط الوج وب وش روط الص حة‬
‫وشروط التام والكال‪.‬‬
‫واجلملة الثالثة‪ :‬يف معرفة ما تشتمل عليه من أفعال وأقوال‪ ،‬وهي األركان‪.‬‬
‫واجلملة الرابعة‪ :‬يف قضائها ومعرفة إصالح ما يقع فيها من اخللل وجربه‪ ،‬ألنه قضاء ما‬
‫إذا‬
‫كان استدراكا ملا فات‪.‬‬
‫الجملة األولى ‪:‬في معرفة وجوب الصالة‬
‫وه ذه اجلملة فيها أربع مس ائل هي يف معىن أصول هذا الباب‪ :‬املس ألة األوىل‪ :‬يف بيان‬
‫وجوهبا‪ .‬الثاني ة‪ :‬يف بي ان ع دد الواجب ات منه ا‪ .‬الثالث ة‪ :‬يف بي ان على من جتب‪ .‬الرابع ة‪ :‬م ا‬
‫متعمدا؟‬
‫ً‬ ‫الواجب عل من تركها‬
‫المسألة األولى‪ :‬بيان وجوب الصالة‬
‫أما وجو هبا َفَبنِّي ٌ من الكتاب والسنة واإلمجاع‪ ،‬وشهرة ذلك تغين عن تكلف القول فيه‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬عدد الواجبات من الصالة وأما عدد الواجب منها ففيه قوالن‪ :‬أحدمها‪:‬‬
‫ق ول مال ك والش افعي‪ ،‬واألك ثر‪ ،‬وه و أن ال واجب هي اخلمس ص لوات فق ط ال غ ري‪ .‬والث اين‪:‬‬
‫ق ول أي حنيف ة وأص حابه‪ ،‬وه و أن ال وتر واجب م ع اخلمس‪ .‬واختالفهم ه ل يس مى م ا ثبت‬
‫بالسنة واجبا أو فرضا ال معىن له؟‬

‫‪1‬‬
‫وسبب اختالفهم األحاديث املتعارضة‪ .‬أما األحاديث اليت مفهومها وجوب اخلمس فقط‬
‫بل هي نص يف ذلك فمشهورة وثابتة‪ ،‬ومن أبينها يف ذلك ما ورد يف حديث اإلسراء املشهور‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ال لَ هُ موس ى‪ْ :‬إر ِج ْع ِإ‬
‫ال‪:‬‬‫ك‪ ،‬قَ َ‬ ‫ك اَل تُ ِطْي ُق ذَل َ‬
‫ك‪ ،‬فَ ِإ َّن َُّأمتَ َ‬
‫ىل َربِّ َ‬
‫َ‬ ‫س قَ َ ُ ْ َ‬ ‫ض ِإىَل مَخْ ٍ‬
‫(َأنَّهُ لَ َّما َبلَ َغ الْ َف ْر ُ‬
‫ي)‪ ،‬وح ديث األع راي‬ ‫س َو ِه َي مَخْ ُس ْو َن اَل يُبَ د ُ‬
‫َّل اْل َق ْو ُل لَ َد َّ‬ ‫مَخْ‬
‫َ ٌ‬ ‫ي‬ ‫ال َتع اىَل ‪ِ :‬‬
‫(ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ع‬‫ْ‬
‫َفر ِ‬
‫اج‬ ‫َ‬
‫ات فِـي اْ َلي ْوِم‬
‫املشهور الذي سأل النيب صلى اهلل عليه وسلم عن اإلسالم فقال له‪( :‬مَخْس ص لَو ٍ‬
‫ُ ََ‬
‫ِ‬
‫ع)‪ ،‬وأما األحاديث اليت مفهومها وجوب‬ ‫علي غريها؟ قال‪( :‬اَل ‪ ،‬إاَّل َأ ْن تَطََّو َ‬‫َواللَّْيلَة)‪ ،‬قال‪ :‬هل َّ‬
‫ال وتر‪ ،‬فمنه ا ح ديث عم رو بن ش عيب عن أبي ه عن ج ده أن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم‬
‫ص اَل ًة َو ِه َي الْ ِو ْت ُر فَ َح افِظُْوا َعلَْي َه ا)‪ .‬وح ديث حارث ة بن حذاف ة ق ال‪:‬‬ ‫(إن اهلل قَ ْد َزا َد ُك ْم َ‬ ‫ق ال‪َّ :‬‬
‫صاَل ٍة ِه َي َخْيٌر لَ ُك ْم ِم ْن مُحْ ِر‬
‫خرج علينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ِ( :‬إ َّن اهلل ََأمَر ُك ْم بِ َ‬
‫ص اَل ِة الْعِ َش ِاء ِإىَل طُلُ ْو ِع الْ َف ْج ِر)‪ ،‬وح ديث بَُريْ َد َة‬ ‫ِ‬ ‫الن ِ‬
‫َّع ِم َوه َي الْ ِو ْتَر‪َ ،‬و َج َعلَ َه ا لَ ُك ْم فْي َم ا َبنْي َ َ‬
‫َ‬
‫س ِمنَّا)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫ْ‬
‫األسلمي‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪( :‬اْل ِو ْتر ح ٌّق‪ ،‬فَمن مَل يوتِ‬
‫ُ َ َ ْ ْ ُْ‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬على من جتب الصالة‬
‫وأما على من جتب فعل املسلم البالغ‪ ،‬وال خالف يف ذلك‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬حكم تارك الصالة‬
‫عمدا وأمر هبا فأىب أن يصليها ال جحودا لفرضها‪ ،‬فإن‬
‫وأما ما الواجب على من تركها ً‬
‫كفرا‪،‬‬
‫قوما قالوا‪ :‬يقتل‪ ،‬وقوما قالوا‪ :‬يعزر وحيبس‪ ،‬والذين قالوا يقتل‪ :‬منهم من أوجب قتله ً‬
‫وه و م ذهب أمحد وإس حاق وابن املب ارك‪ ،‬ومنهم من أوجب ه ح دًّا وه و مال ك والش افعي وأب و‬
‫حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حىت يصلي‪.‬‬
‫والسبب يف هذا االختالف اختالف اآلثار‪ ،‬وذلك أنه ثبت عنه عليه الصالة والسالم أنه‬
‫ان‪َ ،‬أو ِزنَا بع َد ِإحص ٍ‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍئ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‪َْ ،‬أو َقْت ِل‬ ‫قال‪( :‬اَل حَي ُّل َد ُم ْام ِر ُم ْس ل ٍم ِإاَّل بِِإ ْح َدى ثَاَل ث‪ُ :‬ك ْف َر َب ْع َد ِإمْيَ ْ َ ْ ْ َ‬
‫س)‪ ،‬وروي عن ه علي ه الص الة والس الم من ح ديث بري دة أن ه ق ال‪( :‬اْ َلع ْه ُد الَّ ِذي‬ ‫س بِغَرْيِ َن ْف ٍ‬
‫َن ْف ٍ‬

‫‪2‬‬
‫الصالَةُ‪ ،‬فَ َم ْن َتَر َك َها َف َق ْد َك َفَر)‪ ،‬وحديث جابر عن النيب عليه الصالة والسالم أنه‬ ‫َبْيَننَا َو َبْيَن ُه ْم َّ‬
‫الصالَِة)‪.‬‬
‫ال‪ :‬الش ِّْر ُك‪ِ -‬إاَّل َت ْر ُك َّ‬ ‫ِ‬
‫س َبنْي َ الْ َعْبد َو َبنْي َ الْ ُك ْف ِر ْ‬
‫‪َ-‬أو قَ َ‬ ‫قال‪ :‬لَْي َ‬

‫‪3‬‬
‫الجملة الثانية‪ :‬في الشروط‬
‫وهذه اجلملة فيها مثانية أبواب‪ :‬الباب األول‪ :‬يف معرفة األوقات‪ .‬الثاين‪ :‬يف معرفة األذان‬
‫واإلقام ة‪ .‬الث الث‪ :‬يف معرف ة القبل ة‪ .‬الراب ع‪ :‬يف س رت الع ورة واللب اس يف الص الة‪ .‬اخلامس‪ :‬يف‬
‫اشرتاط الطهارة من النجس يف الصالة‪ .‬السادس‪ :‬يف تعيني املواضع اليت يصل فيها من املواضع‬
‫ال يت ال يص ل فيه ا‪ .‬الس ابع‪ :‬يف معرف ة الش روط ال يت هي ش روط يف ص حة الص الة‪ .‬الث امن‪ :‬يف‬
‫معرفة النية وكيفية اشرتاطها يف الصالة‪.‬‬

‫الباب االول‪ :‬في معرفة األوقات‬


‫و هذا الباب ينقسم أواًل إىل فصلني‪ :‬وهذا الباب األول‪ :‬يف معرفة األوقات املأمور هبا‪.‬‬
‫الثان‪ :‬يف معرفة األوقات املنهي عنها‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬في معرفة) األوقات المأمور بها‬
‫أيض ا‪ :‬القس م األول‪ :‬يف األوق ات املوس عة واملخت ارة‪.‬‬
‫وه ذا الفص ل ينقس م إىل قس مني ً‬
‫والثان‪ :‬يف أوقات أهل الضرورة‪.‬‬
‫القسم األول‪ :‬من الفصل األول من الباب األول من الجملة الثانية‪:‬‬
‫ت َعلَي الْ ُم ْؤ ِمنِنْي َ كِتَبً ا َم ْو ْق ْوتً ا)‬
‫الص الََة َك انَ ْ‬ ‫واألص ل يف ه ذا الب اب قول ه تع اىل‪َّ :‬‬
‫(إن َّ‬
‫النس اء‪ .١٠٣ :‬اتف ق املس لمون على أن للص لوات اخلمس أوقاتً ا مخس ا هي ش رط يف ص حة‬
‫الصالة‪ ،‬وأن منها أوقات فضيلة وأوقات توسعة‪ ،‬واختلفوا يف حدود أوقات التوسعة والفضيلة‪،‬‬
‫وفيه مخس مسائل‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬وقت الظهر‬
‫اتفقوا علي أن أول وقت الظهر الذي ال جتوز قبله هو الزوال‪ ،‬إال خالفا شاذًّا روي عن‬
‫ابن عباس‪ ،‬وإال ما روي من اخلالف يف صالة اجلمعة عل ما سيأيت‪ ،‬واختلفوا منها يف موضعني‪:‬‬
‫يف آخر وقتها املوسع ويف وقتها املرغب فيه‪ .‬فأما آخر وقتها املوسع فقال مالك والشافعي وأبو‬
‫‪4‬‬
‫ثور وداود هو‪ :‬أن يكون ظل كل شيء مثله‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬آخر الوقت أن يكون ظل كل‬
‫شيء مثليه يف إحدى الروايتني عنه‪ ،‬وهو عنده أول وقت العصر‪ .‬وقد روي عنه أن آخر وقت‬
‫الظهر هو املثل‪ ،‬وأول وقت العصر املثالن‪ ،‬وأن ما بني املثل واملثلني ليس يصح لصالة الظهر‪،‬‬
‫وبه قال صاحباه أبو يوسف وحممد‪.‬‬
‫س بب اخلالف يف ذل ك‪ :‬اختالف األحاديث‪ ،‬وذل ك أن ه ورد يف إمام ة جربيل أنه ص لي‬
‫ب النيب ص لى اهلل علي ه الس الم الظه ر يف الي وم األول حني زالت الش مس‪ ،‬ويف الي وم الث اين حني‬
‫ث َم ا َبنْي َ َه َذيْ ِن) وروي عن ه ق ال‪ِ :‬إمَّنَا َب َق اُؤ ُك ْم فِْي َم ا‬ ‫ك ان ظ ل ك ل ش يء مثل ه‪ ،‬مث ق ال‪( :‬اْل َوقْ ُ‬
‫س‪ُْ ،‬أويِت َ َْأه ُل الت َّْو َر ِاة الت َّْو َرا َة‬ ‫الش ْم ِ‬‫ب َّ‬ ‫ص ِر ِإىَل غُ رو ِ‬
‫ُْ‬
‫ِ‬
‫اُأْلم ِم‪َ ،‬ك َم ا َبنْي َ َ‬
‫ص اَل ة الْ َع ْ‬
‫ِ‬
‫ف َقْبلَ ُك ْم م َن َ‬ ‫َس لَ َ‬
‫ُأعطُْوا قِْيَراطً ا قِْيَراطً ا‪ ،‬مُثَّ ُْأويِت َ َْأه ُل اِإْل جْنِ ْي ِل اِإْل جْنِ ْي َل‬
‫َّه ُار مُثَّ َع َج ُز ْوا‪ ،‬فَ ْ‬
‫ف الن َ‬ ‫ص َ‬
‫ِ‬
‫َف َعملُ ْوا َحىَّت ِإ َذا ا ْنتَ َ‬
‫َأعطُوا قِْيراطًا قِْيراطًا ‪ ،‬مُثَّ ُأوتِْينَا الْ ُقرآ َن‪َ ،‬فع ِم ْلنَا ِإىَل غُ رو ِ‬ ‫صاَل ِة الْ َع ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫صر‪ ،‬مُثَّ َع َج ُز ْوا‪ ،‬فَ ْ ْ َ‬ ‫َف َعملُ ْوا ِإىَل َ‬
‫ت َه ُؤ اَل ِء قِْي راطَنْي ِ‬ ‫َأعطَْي ُ‬
‫َأي َربَّنَ ا‪ْ ،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ال َْأه ُل الْكتَ اب‪ْ :‬‬ ‫ُأع ِطْينَ ا قِْي َراطَنْي ِ قِْي َراطَنْي ِ ‪َ ،‬ف َق َ‬
‫س‪ ،‬فَ ْ‬ ‫الش ْم ِ‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫َأج ِر ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫ال اهلل َت َعاىَل ‪َ :‬ه ْل ظَلَ ْمتُ ُك ْم م ْن ْ‬ ‫قِْيَراطَنْي ِ َو َْأعطَْيَتنَا قِْيَراطًا قِْيَراطًا‪َ ،‬وحَنْ ُن ُكنَّا َأ ْكَث ُر َع َماًل ؟ قَ َ‬
‫ال‪َ :‬فهو فَ ْ ِ‬
‫ضلـي ُْأوتِْي ِه ِم ْن َ‬
‫َأشاءُ‪.‬‬ ‫م ْن َشْيٍئ ؟ قَالُْوا‪ :‬الَ‪ ،‬قَ َ ُ َ‬
‫ِ‬
‫ف ذهب مال ك والش افعي إىل ح ديث إمام ة جربي ل‪ ،‬وذهب أب و حنيف ة إىل مفه وم ظ اهر‬
‫هذا‪ ،‬وهو أنه إذا كان من العصر إىل الغروب أقصر من أول الظهر إىل العصر على مفهوم هذا‬
‫احلديث‪ ،‬فواجب أن يكون العصر أكثر من قامة‪ ،‬وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر‪ .‬وقال‬
‫أب و حمم د بن ح زم‪ :‬وليس ك ا ظن وا‪ ،‬وق د امتحنت األم ر فوج دت القام ة تنتهي من النه ار إىل‬
‫تس ع س اعات وكس ر‪ .‬ق ال القاض ي‪ :‬أن ا الش اك يف الكس ر‪ ،‬وأظن ه ق ال‪ :‬وثلث‪ .‬حج ة من ق ال‬
‫باتص ال الوق تني‪ ،‬أع ين‪ :‬اتص االً ال بفص ل غ ري منقس م‪ :‬قول ه علي ه الص الة و الس الم‪( :‬اَل خَي ْ ُر ُج‬
‫ُأخَرى)‪ ،‬وهو حديث ثابت‪.‬‬ ‫وقْت ٍ‬
‫ت ْ‬ ‫صاَل ة َحىَّت يَ ْد ُخ ُل َوقْ ٌ‬
‫َ ُ َ‬
‫وأم ا وقته ا املرغب في ه واملخت ار‪ :‬فذهب مال ك إىل أن ه للمنف رد أول ال وقت‪ ،‬ويستحب‬
‫تأخريها عن أول الوقت قليالً يف مساجد اجلماعات‪ ،‬وقال الشافعي‪ :‬أول الوقت أفضل إال يف‬
‫‪5‬‬
‫ش دة احلر‪ ،‬وروي مث ل ذل ك عن مال ك‪ .‬وق الت طائف ة‪ :‬أول ال وقت أفض ل ب إطالق للمنف رد‬
‫واجلماعة‪ ،‬ويف احلر والربد‪.‬‬
‫وإمنا اختلفوا يف ذلك الختالف األحاديث‪ ،‬وذلك أن يف ذلك حديثني ثابتني‪ :‬أحدها‪:‬‬
‫َّم)‪،‬‬
‫ن‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ن‬‫م‬‫الص الَِة‪ ،‬فَِإ َّن ِش َّد َة احْل ِّر ِ‬
‫قوله عليه الصالة و السالم‪ِ( :‬إ َذا ا ْشتَ َّد احْلَُّر فََأبْ ِر ُد ْوا َع ِن َّ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫اجر ِة)‪ ،‬ويف ح ديث َخبَّ ٍ‬ ‫(َأن النَّيِب َك ا َن يص لِّي الظُّه ر باِهْل ِ‬
‫اب‪َ( :‬أنَّ ُه ْم ش كوا إلي ه ح ر‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫والث ان‪َّ َّ :‬‬
‫الرمض اء فلم يش كهم) خرج ه مس لم‪ .‬ق ال زه ري راوي احلديث‪ :‬قلت أليب إس حاق ‪-‬ش يخه ‪-‬‬
‫رجح ق وم ح ديث اإلب راد إذ ه و نص‪،‬‬
‫أيف الظه ر؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ :‬أيف تعجليه ا؟ ق ال‪ :‬نعم‪ ،‬ف َّ‬
‫وتأولوا هذه األحاديث إذ ليست بنص‪ ،‬وقوم رجحوا هذه األحاديث لعموم ما روي من قوله‬
‫َأِلو ِل ِمْي َقاهِتَا)‪ .‬واحلديث‬
‫(الص الَةُ َّ‬
‫َأي األعمال أفضل؟ قال‪َّ :‬‬ ‫عليه الصالة و السالم وقد سئل‪ُّ :‬‬
‫َأِلو ِل ِمْي َقاهِتَا)‪-‬خمتلف فيها‪.‬‬
‫متفق عليه‪ ،‬وهذه الزيادة فيه‪- ،‬أعين‪َّ :‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬وقت العصر‬
‫اختلف وا من ص الة العص ر يف موض عني‪ :‬أح دمها‪ :‬يف اش رتاك أول وقته ا م ع آخ ر وقت‬
‫صالة الظهر‪ .‬والثان‪ :‬يف آخر وقتها‪.‬‬
‫فأما اختالفهم يف االشرتاك‪ ،‬فإنه اتفق مالك والشافعي وداود ومجاعة على أن أول وقت‬
‫العصر هو بعينه آخر وقت الظهر‪ ،‬وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله‪ ،‬إال أن مال ًك ا يرى أن‬
‫مع ا‪ :‬أعين بقدر ما يصل فيه‬
‫آخر وقت الظهر وأول وقت العصر هو وقت مشرتك للصالتني ً‬
‫أربع ركعات‪ ،‬وأما الشافعي وأبو ثور وداود‪ :‬فآخر وقت الظهر عندهم هو اآلن الذي هو أول‬
‫وقت العصر هو زمان غري منقسم‪ ،‬وقال أبو حنيفة كما قلنا‪ :‬أول وقت العصر‪ ،‬أن يصري ظل‬
‫كل شيء مثليه‪ ،‬وقد تقدم سبب اختالف أيب حنيفة معهم يف ذلك‪.‬‬
‫وأما سبب اختالف مالك مع الشافعي ومن قال بقوله يف هذه‪ :‬فمعارضة حديث جربيل‬
‫يف ه ذا املع ىن حلديث عبداهلل بن عم ر‪ ،‬وذل ك‪ :‬أن ه ج اء يف إمام ة جربي ل أن ه ص ل ب النيب علي ه‬
‫الص الة و الس الم الظه ر يف الي وم الث ان يف ال وقت ال ذي ص لىى في ه العص ر يف الي وم األول‪ ،‬ويف‬
‫‪6‬‬
‫ص ِر)‪ ،‬خرجه‬
‫ت الْ َع ْ‬ ‫ت الظُّ ْه ِر َما مَلْ حَيْ ُ‬
‫ض ُر َوقْ ُ‬ ‫(وقْ ُ‬
‫حديث ابن عمر أنه قال عليه الصالة و السالم‪َ :‬‬
‫مس لم‪ .‬فمن رجح ح ديث جربي ل؛ جع ل ال وقت مشرت ًكا‪ ،‬ومن رجح ح ديث عبداهلل ملم جبع ل‬
‫بينه ا اش رتا ًكا‪ ،‬وح ديث جربي ل أمكن أن يص رف إىل ح ديث عبداهلل من ح ديث عبداهلل إىل‬
‫جتوز يف ذلك لقرب ما بني الوقتني‪ ،‬وحديث إمامة‬
‫حديث جربيل‪ ،‬ألنه حيتمل أن يكون الراوي َّ‬
‫جربيل صححه الرتمذي‪ ،‬وحديث ابن عمرو خرجه مسلم‪.‬‬
‫وأم ا اختالفهم يف آخ ر وقت العص ر‪ :‬فعن مال ك يف ذل ك روايت ان‪ :‬إح دامها‪ :‬أن آخ ر‬
‫وقته ا أن يص ري ظ ل ك ل ش يء مثلي ه‪ ،‬وب ه ق ال الش افعي‪ .‬والثاني ة‪ :‬أن آخ ر وقته ا م ا مل تص فر‬
‫الشمس‪ ،‬وهذا قول أمحد بن حنبل‪ ،‬وقال أهل الظاهر‪ :‬آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة‪.‬‬
‫والسبب يف اختالفهم أن يف ذلك ثالثة أحاديث متعارضة الظاهر‪:‬‬
‫ت ِإىَل َأ ْن‬ ‫ص َر فَِإنَّهُ َوقْ ٌ‬ ‫أحدها‪ :‬حديث عبداهلل بن عمر خرجه مسلم وفيه‪( :‬فَِإ َذا َ‬
‫ص لَّْيتُ ْم الْ َع ْ‬
‫ش)‪.‬‬ ‫َّم ُ‬ ‫ص ِر َما مَلْ تَ ْ‬
‫ص َفَّر الش ْ‬ ‫ت الْ َع ْ‬
‫(وقْ ُ‬
‫ش)‪ .‬ويف بعض رواياته‪َ :‬‬ ‫َّم ُ‬
‫ص َفَّر الش ْ‬‫تَ ْ‬
‫ص ر فِـي الَْي ْوِم الثَّايِن‬ ‫ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫والث)اني‪ :‬حديث ابن عباس يف إمامة جربيل‪ ،‬وفيه‪َ( :‬أنَّه ص لَّى بِ ِ‬
‫ه‬ ‫ُ َ‬
‫َ‬
‫ِحنْي َ َكا َن ِظ ُّل ُك َّل َش ْي ٍء ِم ْثلَْي ِه)‪.‬‬
‫ِ‬
‫ب‬‫ص ِر َقْب َل َأ ْن َت ْغ ُر ُ‬ ‫(م ْن َْأد َر َك َر ْك َع ةً م َن الْ َع ْ‬‫والث) ))الث‪ :‬ح ديث أيب هري رة املش هور‪َ :‬‬
‫س َف َق ْد َْأد َر َك‬ ‫الش ْم ُ‬ ‫الص ْب ِح َقْب َل َأ ْن تَطْلُ ُع َّ‬ ‫ص َر‪َ ،‬و َم ْن َْأد َر َك َر ْك َع ةً ِم َن ُّ‬ ‫س َف َق ْد َْأد َر َك الْ َع ْ‬
‫الش ْم ُ‬‫َّ‬
‫الصْب َح)‪.‬‬
‫ُّ‬
‫فمن صار إىل ترجيح حديث إمامة جربيل جعل آخر وقتها املختار‪ :‬املثلني‪( ،‬ومن صار‬
‫إىل ترجيح حديث ابن عمر؛ جعل آخر وقتها املختار اصفرار الشمس)‪ ،‬ومن صار إىل ترجيح‬
‫حديث أيب هريرة؛ قال‪ :‬وقت العصر إىل أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس‪ ،‬وهم أهل‬
‫الظاهر كما قلنا‪ .‬وأما اجلمهور؛ فسلكوا يف حديث أيب هريرة وحديث ابن عمر مع حديث‬
‫معارضا هلما كل التعارض مسلك اجلمع‪ ،‬ألن حديثي ابن عباس وابن عمرو‬
‫ً‬ ‫ابن عباس إذ كان‬
‫تتق ارب احلدود املذكورة فيهم ا‪ ،‬ول ذلك ق ال مال ك م رة هبذا‪ ،‬وم رة ب ذلك‪ .‬وأم ا ال ذي يف‬
‫‪7‬‬
‫ح ديث أيب هري رة‪ ،‬فبعي د منهم ا ومتف اوت‪ ،‬فق الوا‪ :‬ح ديث أيب هري رة إمنا خ رج خمرج أه ل‬
‫األعذار‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬وقت املغرب‬
‫اختلفوا يف املغرب هل هلا وقت موسع كسائر الصلوات أم ال؟ فذهب قوم إىل أن وقتها‬
‫واحد غري موسع‪ ،‬وهذا هو أشهر الروايات عن مالك وعن الشافعي‪ .‬وذهب قوم إىل أن وقتها‬
‫موس ع وه و م ا بني غ روب الش مس إىل غ روب الش فق‪ ،‬وب ه ق ال أب و حنيف ة وأمحد وأب و ث ور‬
‫وداود وقد روي هذا القول عن مالك والشافعي‪.‬‬
‫وس بب اختالفهم يف ذل ك‪ :‬معارض ة ح ديث إمام ة جربي ل يف ذل ك حلديث عبداهلل بن‬
‫عم ر‪ ،‬وذل ك‪ :‬أن ىف ح ديث إمام ة جربي ل أن ه ص لى املغ رب يف الي ومني يف وقت واح د‪ ،‬ويف‬
‫الش َف ُق)‪ .‬فمن رجح ح ديث إمام ة جري ل‪،‬‬
‫ب َّ‬ ‫ت ص اَل ِة الْم ْغ ِر ِ‬
‫ب َم ا مَلْ يَغِ ِ‬
‫َ‬ ‫(و َوقْ ُ َ‬
‫ح ديث عبداهلل‪َ :‬‬
‫موسعا‪ ،‬وحديث عبداهلل خرجه‬
‫ً‬ ‫واحدا‪ ،‬ومن رجح حديث عبداهلل جعل هلا وقتً ا‬
‫جعل هلا وقتً ا ً‬
‫مس لم ومل خيرج الش يخان ح ديث إمام ة جربي ل‪ ،‬أع ين‪ :‬ح ديث ابن عب اس ال ذي في ه أن ه ص ل‬
‫ت َم ا َبنْي َ َه َذيْ ِن) ‪،‬‬
‫بالنيب عليه الصالة و السالم عشر صلوات مفسرة األوقات مث قال له‪( :‬اْ َلوقْ ُ‬
‫أيضا يف حديث بَُريْ َدةَ األسلمي‪ ،‬خرجه مسلم ‪،‬‬ ‫والذي يف حديث عبداهلل من ذلك هو موجود ً‬
‫وهو أصل يف هذا الباب‪ .‬قالوا‪ :‬وحديث بريدة أوىل؛ ألنه كان باملدينة عند سؤال السائل له‬
‫عن أوقات الصلوات‪ ،‬وحديث جربيل كان يف أول الفرض مبكة‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬وقت العشاء‬
‫اختلفوا من وقت العشاء اآلخرة يف مو ضعني‪ :‬أحدها‪ :‬يف أوله‪ .‬والثان‪ :‬يف آخره‪ .‬أما‬
‫أول ه ف ذهب مال ك والش افعي ومجاع ة إىل أن ه مغيب احلم رة‪ ،‬وذهب أب و حنيف ة إىل أن ه مغيب‬
‫البياض الذي يكون بعد احلمرة‪.‬‬
‫وس بب اختالفهم يف ه ذه املس ألة‪ :‬إش رتاك اس م الش فق يف لس ان الع رب فإن ه كم ا أن‬
‫الفجر يف لساهنم فجران كذلك الشفق شفقان‪ :‬أمحر‪ ،‬وأبيض‪ .‬ومغيب الشفق األبيض يلزم أن‬
‫‪8‬‬
‫يكون بعده من أول الليل (إما بعد الفجر املستدق من آخر الليل‪ -‬أعين‪ :‬الفجر الكاذب‪ -‬وإما‬
‫بعد الفجر األبيض املستطري‪ ،‬وتكون احلمرة نظري احلمرة‪ ،‬فالطوالع إذاً أربعة‪ :‬الفجر الكاذب‪،‬‬
‫والفج ر الص ادق‪ ،‬واألمحر‪ ،‬والش مس‪ ،‬وك ذلك جيب أن تك ون الغ وارب‪ ،‬ولذلك م ا ذك ر عن‬
‫اخللي ل من أن ه رص د للش فق األبيض فوج ده يبقى إىل ثلث اللي ل ك ذب بالقي اس والتجرب ة)‪،‬‬
‫وذلك أنه ال خالف بينهم أنه قد ثبت يف حديث بريدة وحديث إمامة جربيل أنه صلى العشاء‬
‫يف اليوم األول حني غاب الشفق‪ ،‬وقد رجح اجلمهور مذهبهم مبا ثت‪( :‬أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم كان يصل العشاء عند مغيب القمر يف الليلة الثالثة) ‪ ،‬ورجح أبو حنيفة مذهبه مبا‬
‫ورد يف تأخري العشاء واستحباب‬
‫ِ‬ ‫ت َه ِذ ِه َّ‬ ‫ِ‬
‫صِ‬
‫ف اللَّْي ِل)‪.‬‬ ‫الصالََة ِإىَل ن ْ‬ ‫تأخريه َو َق ْول ِه‪( :‬لَ ْواَل َأ ْن ُ‬
‫َأش َّق َعلَى َُّأميِت َّ‬
‫َأَلخ ْر ُ‬
‫وأما آخر وقتها فاختلفوا فيه على ثالثة أقوال‪ :‬قول‪ :‬إنه ثلث الليل‪ .‬وقول‪ :‬إنه نصف‬
‫الليل‪ .‬وقول‪ :‬إنه إىل طلوع الفجر‪ .‬وباألول؛ أعين‪ :‬ثلث الليل‪ ،‬قال الشافعي وأبو حنيفة‪ ،‬وهو‬
‫املش هور من م ذهب مال ك‪ ،‬وروي عن مال ك الق ول الث اين؛ أع ين‪ :‬نص ف اللي ل‪ ،‬وأم ا الث الث‬
‫فقول داود‪.‬‬
‫وسبب اخلالف يف ذلك تعارض اآلثار‪ ،‬ففي حديث إمامة جربيل‪ :‬أنه صالها بالنيب عليه‬
‫(َأخَر النَّيِب ُّ صلى اهلل عليه‬
‫الصالة والسالم يف اليوم الثاين ثلث الليل‪ ،‬ويف حديث أنس أنه قال‪َّ :‬‬
‫ص ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫أيض ا من ح ديث أيب س عيد‬ ‫ف الَّ ْلي ِل) خرج ه البخ اري‪ ،‬وروي ً‬ ‫ص اَل ةَ الْع َش اء ِإىَل ن ْ‬
‫وس لم َ‬
‫ت‬ ‫َأش َّق َعلَى َُّأميِت َّ‬
‫َأَلخ ْر ُ‬ ‫اخلدري وأيب هري رة عن الن يب علي ه الص الة والس الم أن ه ق ال‪( :‬لَ ْواَل َأ ْن ُ‬
‫ط َأ ْن ُت َؤ ِّخَر‬ ‫ط يِف الن َّْوِم‪ِ ،‬إمَّنَا َّ‬
‫الت ْف ِريْ ُ‬ ‫الت ْف ِريْ ُ‬
‫س َّ‬‫َ‬ ‫ي‬
‫ْ‬‫َ‬‫ل‬‫(‬ ‫قتادة‪:‬‬ ‫أيب‬ ‫حديث‬ ‫ويف‬ ‫)‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ص ِ‬
‫ف الَّ ْلي ِ‬ ‫ْ‬
‫الْعِ َشاء ِإىَل نِ‬
‫َ‬
‫ُألخَرى)‪ .‬فمن ذهب مذهب الرتجيح حلديث إمامة جربيل قال‪ :‬ثلث‬ ‫ت اْ ْ‬‫الصَّاَل َة َحىَّت يَ ْد ُخ َل َوقْ َ‬
‫اللي ل‪ ،‬ومن ذهب م ذهب ال رتجيح حلديث أنس ق ال‪ :‬ش طر اللي ل‪ .‬وأم ا أه ل الظ اهر فاعتمدوا‬
‫حديث أيب قتادة‪ ،‬وقالوا‪ :‬هو عام وهو متأخر عن حديث إمامة جربيل‪ ،‬فهو ناسخ‪ ،‬ولو م يكن‬
‫ناسخا لكان تعارض اآلثار يسقط حكمها‪ ،‬فيجب أن يصار إىل استصحاب حال اإلمجاع‪.‬‬
‫ً‬
‫‪9‬‬
‫قبل‪ ،‬فإنا روينا عن‬
‫وقد اتفقوا على أن الوقت خيرج ملا بعد طلوع الفجر؛ واختلفوا فيما ُ‬
‫ابن عب اس أن ال وقت عن ده إىل طل وع الفج ر‪ ،‬ف وجب أن يستص حب حكم ال وقت‪ ،‬إال حيث‬
‫وقع االتفاق عل خروجه‪ ،‬وأحسب أن به قال أبو حنيفة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫المسألة الخامسة‪ :‬وقت الصبح‬
‫واتفقوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس‪ ،‬إال ما‬
‫روي عن ابن القاس م وعن بعض أص حاب الش افعي من أن آخ ر وقته ا اإلس فار‪ .‬واختلف وا يف‬
‫وقتها املختار‪ .‬فذهب الكوفيون وأبو حيفة وأصحابه والثوري وأكثر العراقيني إىل أن اإلسفار‬
‫هبا أفضل‪ ،‬وذهب مالك والشافعي وأصحابه وأمحد بن حنبل وأبو ثور وداود إىل أن التغليس هبا‬
‫أفضل‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم‪ :‬اختالفهم يف طريقة مجع األحاديث املختلفة الظواهر يف ذلك‪ ،‬وذلك‪:‬‬
‫َأس َف ْرمُتْ َف ُه َو َْأعظَ ُم‬ ‫(َأس ِف ُروا باِ ُّ‬
‫لص ْب ِح‪ ،‬فَ ُكلَّ َم ا ْ‬ ‫أن ه ورد عن ه من طري ق راف ع بن خ ديج أن ه ق ال‪ْ :‬‬
‫َأِلج ِر)‪ .‬وروي عنه عليه الصالة والسالم أنه قال وقد سئل أي األعمال أفضل؟ قال‪« :‬الصَّاَل ةُ‬ ‫ْ‬
‫ص ِر ُ‬ ‫ص لِّي ُّ‬ ‫َّ ِ ِ هِت‬
‫ِّس اءُ‬
‫ف الن َ‬ ‫الص ْب َح َفَتْن َ‬ ‫َأِلول مْي َقا َ ا)‪ ،‬وثبت عن ه علي ه الص الة والس الم‪َ( :‬أنَّهُ َك ا َن يُ َ‬
‫س)‪ ،‬وظاهر احلديث‪ :‬أنه كان عمله يف األغلب‬ ‫مَتلَفِّع ٍ‬
‫ات مِب ُُر ْو ِط ِه َّن َما يُ ْعَرفْ َن ِم َن اْلغَلَ ِ‬ ‫ُ َ‬

‫القسم الثاني‪ :‬من الفصل األول من الباب األول‪ :‬أوقات الضرورة والعذر‬
‫فأما أوقات الضرورة والعذر فأثبتها كا قلنا فقهاء األمصار‪ ،‬ونفاها أهل الظاهر‪ ،‬وقد‬
‫تق دم س بب اختالفهم يف ذل ك‪ .‬واختل ف ه ؤالء ال ذين أثبتوه ا يف ثالث ة مواض ع‪ :‬أح دها‪ :‬ألي‬
‫الص لوات توجد هذه األوق ات وأليه ا ال؟‪ .‬والث اين‪ :‬يف ح دود ه ذه األوق ات‪ .‬والث الث‪ :‬يف من‬
‫هم أه ل الع ذر ال ذين رخص هلم يف ه ذه األوق ات ويف أحك امهم يف ذل ك‪ ،‬أع ين‪ :‬من وج وب‬
‫الصالة ومن سقوطها‪.‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬الصلوات اليت هلا أوقات ضرورة وعذر‬
‫اتف ق مالك والش افعي على أن هذا الوقت هو ألربع ص لوات‪ :‬للظهر والعصر مشرت ًكا‬
‫بينهما‪ ،‬واملغرب والعشاء كذلك‪ ،‬وإمنا اختلفوا يف جهة اشرتاكها عل ما سيأيت بعد‪ ،‬وخالفهم‬
‫أبو حنيفة فقال‪ :‬إن هذا الوقت إمنا هو للعصر فقط‪ ،‬وأنه ليس هاهنا وقت مشرتك‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫وسبب اختالفهم يف ذلك هو‪ :‬اختالفهم يف جواز اجلمع بني الصالتني يف السفر يف وقت‬
‫إحدامها على ما سيأيت بعد‪ ،‬فمن متسك بالنص الوارد يف صالة العصر؛ أعين‪ :‬الثابت من قوله‬
‫ص َر)‪.‬‬ ‫الش ْم ِ‬ ‫ص ِر َقْب ل ُمغِْي ِ‬ ‫عليه الصالة والسالم‪(:‬من َأدر َك ر ْكعةً ِمن صاَل ِ‬
‫س َف َق ْد َْأد َر َك الْ َع ْ‬ ‫ب َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫َ ْ َْ َ َ ْ َ‬
‫ت‬
‫وفهم من ه ذا الرخص ة‪ ،‬ومل جيز االش رتاك يف اجلم ع لقول ه علي ه الص الة والس الم‪( :‬اَل َي ُف ْو ُ‬
‫ُألخ َرى)‪ .‬وملا سنذكره بعد يف باب اجلمع من حجج الفريقني‪،‬‬ ‫وقْت ٍ‬
‫ت اْ ْ‬‫ص اَل ة َحىَّت يَ ْد ُخ ُل َوقْ ُ‬
‫َ ُ َ‬
‫قال‪ :‬إنه ال يكون هذا الوقت إال لصالة العصر فقط‪ ،‬ومن أجاز االشرتاك يف اجلمع يف السفر؛‬
‫أيض ا ص احب ض رورة وع ذر‪ ،‬فجع ل ه ذا ال وقت‬
‫ق اس علي ه أه ل الض رورات؛ ألن املس افر ً‬
‫مشرت ًكا للظهر والعصر واملغرب والعشاء‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬حدود أوقات الضرورة والعذر‬
‫اختلف مالك والشافعي يف آخر الوقت املشرتك هلما‪ ،‬فقال مالك‪ :‬هو للظهر والعصر من‬
‫بعد الزوال‪ ،‬مبقدار أربع ركعات للظهر للحاضر وركعتني للمسافر إىل أن يبقى للنهار مقدار‬
‫أربع ركعات للحاضر‪ ،‬أو ركعتني للمسافر‪ ،‬فجعل الوقت اخلاص للظهر إمنا هو مقدار أربع‬
‫ركع ات للحاض ر بعد ال زوال‪ ،‬وإم ا ركعت ان للمس افر‪ ،‬وجع ل ال وقت اخلاص بالعص ر إم ا أربع‬
‫ركعات قبل املغيب للحاضر وإما إثنتان للمسافر؛ أعين‪ :‬أنه من أدرك الوقت اخلاص فقط؛ مل‬
‫تلزمه إال الصالة اخلاصة بذلك الوقت إن كان ممن مل تلزمه الصالة قبل ذلك الوقت‪ ،‬ومن أدرك‬
‫مع ا أو حكم ذل ك ال وقت وجع ل آخ ر ال وقت اخلاص لص الة‬
‫أك ثر من ذل ك أدرك الص التني ً‬
‫العص ر مق دار ركع ة قب ل الغ روب‪ .‬وك ذلك فع ل يف اش رتاك املغ رب والعش اء‪ ،‬إال أن ال وقت‬
‫اخلاص م رة جعل ه للمغ رب فق ال‪ :‬ه و مقدار ثالث ركع ات قب ل أن يطلع الفج ر‪ ،‬وم رة جعل ه‬
‫للصالة األخرية كما فعل يف العصر فقال‪ :‬هو مقدار أربع ركعات وهو القياس‪ ،‬وجعل آخر‬
‫هذا الوقت مقدار ركعة قبل طلوع الفجر‪.‬‬
‫واحدا‪ ،‬وهو إدراك ركعة‬
‫حدا ً‬‫وأما الشافعي فجعل حدود أواخر هذه األوقات املشرتكة ً‬
‫أيض ا قبل انصداع الفجر وذلك‬
‫معا‪ ،‬ومقدار ركعة ً‬
‫قبل غروب الشمس‪ ،‬وذلك للظهر والعصر ً‬
‫‪12‬‬
‫مع ا‪ ،‬وق د قي ل عن ه‪ :‬مبق دار تكب رية؛ أع ين‪ :‬أن ه من أدرك تكب رية قب ل غ روب‬
‫للمغ رب والعش اء ً‬
‫مع ا‪ .‬وأما أبو حنيفة فوافق مال ًك ا يف أن آخر وقت‬
‫الش مس؛ فقد لزمته ص الة الظهر والعصر ً‬
‫العصر مقدار ركعة ألهل الضرورات عنده قبل الغروب‪ ،‬ومل يوافق يف االشرتاك واالختصاص‪.‬‬
‫مع ا‬
‫وس بب اختالفهم‪ -‬أع ين‪ :‬مال ًك ا والش افعي‪ :‬ه ل الق ول باش رتاك ال وقت للص التني ً‬
‫يقتض ي أن هلم ا وق تني‪ :‬وقت خ اص مبا ووقت مش رتك؟ أم إمنا يقتض ي أن هلم ا وقتً ا مش رت ًكا‬
‫فقط؟ وحجة الشافعي‪ :‬أن اجلمع إمنا دل على االشرتاك فقط ال على وقت خاص‪ ،‬وأما مالك‬
‫فقاس االشرتاك عنده يف وقت الضرورة على االشرتاك عنده يف وقت التوسعة؛ أعىن‪ :‬أنه ملا كان‬
‫لوقت الظهر والعصر املوسع وقتان‪ ،‬وقت مشرتك ووقت خاص‪ ،‬وجب أن يكون األمر كذلك‬
‫يف أوقات الضرورة‪ ،‬والشافعي ال يوافقه على اشرتاك الظهر والعصر يف وقت التوسعة‪ ،‬فخالفها‬
‫يف هذه املسألة إمنا ينبين‪ .‬واهلل أعلم عل اختالفهم يف تلك األوىل فتأمله‪ ،‬فإنه بني واهلل أعلم‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬أهل العذر‬
‫وأما هذه األوقات‪ ،‬أعين‪ :‬أوقات الضرورة‪ ،‬فاتفقوا عل أهنا ألربع‪( :‬للحائض) تطهر يف‬
‫ص ِّل‪( .‬وللمس افر) ي ذكر الص الة يف ه ذه‬
‫ه ذه األوق ات أو حتيض يف ه ذه األوق ات وهي مل تُ َ‬
‫األوق ات وه و حاض ر‪ ،‬أو احلاض ر ي ذكرها فيه ا وه و مس افر‪( .‬والص يب) يبل غ فيه ا‪( ،‬والك افر)‬
‫يسلم‪.‬‬
‫واختلف وا يف املغمى علي ه فق ال مال ك والش افعي‪ :‬ه و كاحلائض من أه ل ه ذه األوق ات؛‬
‫ألنه ال يقضي عندهم الصالة اليت ذهب وقتها‪ .‬وعند أيب حنيفة أنه يقضي الصالة فيما دون‬
‫اخلمس‪ ،‬ف إذا أف اق عن ده من إغمائ ه م ىت م ا أف اق قض ى الص الة‪ .‬وعن د اآلخ ر أن ه إذا أف اق يف‬
‫أوقات الضرورة؛ لزمته الصالة اليت أفاق يف وقتها‪ ،‬وإذا مل يفق فيها مل تلزمه الصالة‪ ،‬وستأيت‬
‫مسألة املغمى عليه فيا بعد‪.‬‬
‫واتفقوا على أن املرأة إذا طهرت يف هذه األوقات إمنا جتب عليها الصالة اليت طهرت يف‬
‫وقتها‪ ،‬فإن طهرت عند مالك وقد بقي من النهار أربع ركعات لغروب الشمس؛ فالعصر فقط‬
‫‪13‬‬
‫مع ا‪ .‬وعن د الش افعي إن بقي ركع ة للغ روب؛‬
‫الزم ة هلا‪ ،‬وإن بقي مخس ركع ات؛ فالص التان ً‬
‫مع ا ك ا قلن ا‪ ،‬أو تكب رية على الق ول الث اين ل ه‪ .‬وك ذلك األم ر عن د مال ك يف املس افر‬
‫فالص التان ً‬
‫الناس ي حيض ر يف ه ذه األوق ات‪ ،‬أو احلاض ر يس افر‪ ،‬وك ذلك الك افر يس لم يف ه ذه األوق ات؛‬
‫أعين‪ :‬أنه تلزمهم الصالة‪ ،‬وكذلك الصيب يبلغ‪.‬‬
‫الفصل الثاني من الباب األول‪ :‬في األوقات المنهي عن الصالة فيها‬
‫وه ذه األوق ات اختل ف العلم اء منه ا يف موض عني‪ :‬أح دمها‪ :‬يف ع ددها‪ .‬والث ان‪ :‬يف‬
‫الصلوات اليت يتعلق النهي عن فعلها فيها‪.‬‬
‫المسألة األول‪ :‬عدد األوقات املنهي عن الصالة فيها‬
‫اتف ق العلم اء على أن ثالث ة من األوق ات منهي عن الص الة فيه ا وهي‪ :‬وقت طل وع‬
‫الشمس‪ ،‬ووقت غروهبا‪ ،‬ومن لدن تصلى صالة الصبح حىت تطلع الشمس‪ .‬واختلفوا يف وقتني‪:‬‬
‫يف وقت الزوال ويف الصالة بعد العصر‪ :‬فذهب مالك وأصحابه إىل أن األوقات املنهي عنها هي‬
‫أربع ة‪ :‬الطل وع‪ ،‬والغ روب‪ ،‬وبع د الص بح‪ ،‬وبع د العص ر‪ ،‬وأج از الص الة عن د ال زوال‪ .‬وذهب‬
‫الشافعي إىل أن هذه األوقات مخسة كلها منهي عنها إال وقت الزوال يوم اجلمعة فإنه أجاز فيه‬
‫الصالة‪ ،‬واستثىن قوم من ذلك الصالة بعد العصر‪.‬‬
‫وس بب اخلالف يف ذلك أحد شيئني‪ :‬إما معارضة أثر ألث ر‪ ،‬وإما معارضة األثر للعمل‬
‫عن د من راعى العم ل ‪-‬أع ين‪ :‬عم ل أه ل املدين ة ‪ -‬وه و مال ك بن أنس‪ ،‬فحيث ورد النهي ومل‬
‫يكن هناك معارض ال من قول وال من عمل اتفقوا عليه‪ ،‬وحيث ورد املعارض اختلفوا‪.‬‬
‫أم ا اختالفهم يف وقت ال زوال فلمعارض ة العم ل في ه لألث ر‪ ،‬وذل ك‪ :‬أن ه ثبت من ح ديث‬
‫ص لِّي فِْي َه ا‪َ ،‬وَأ ْن َن ْقُب ُر‬ ‫ثس ٍ‬
‫اعات َك ا َن َر ُس ْو ُل اهلل َيْن َهانَا َأ ْن نُ َ‬ ‫عقبة بن عامر اجلُ َهيِن ّ أنه قال‪( :‬ثَاَل ُ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِيه ا موتَانَا‪ِ :‬‬
‫س بَا ِز َغ ةً َحىَّت َت ْرتَف َع‪َ ،‬وحنْي َ َي ُق ْو ُم قَا ُم الظَّ ِهْي َر ِة َحىَّت مَت ْي َل‪َ ،‬وحنْي َ‬
‫ُ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫الش‬
‫َّ‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫ط‬
‫ْ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫نْي‬ ‫ح‬ ‫ْ َ َْ‬
‫خرجه مسلم‪ ،‬وحديث أي عبداهلل الصناحبي يف معناه‪ ،‬ولكنه منقطع‪،‬‬ ‫ب) َّ‬ ‫ضيَّ ُق الشَّمس لِْلغُرو ِ‬ ‫تَ َ‬
‫ْ ُ ُْ‬
‫خرج ه مال ك يف موطئ ه‪ .‬فمن الن اس من ذهب إىل من ع الص الة يف ه ذه األوق ات الثالث ة كله ا‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ومن الناس من استثىن من ذلك وقت الزوال‪ ،‬إما بإطالق وهو مالك‪ ،‬وإما يف يوم اجلمعة فقط‬
‫وهو الشافعي‪.‬‬
‫أم ا مال ك فألن العم ل عن ده باملدين ة ملا وج ده على الوق تني فق ط ومل جيده على ال وقت‬
‫الثالث ‪-‬أعين‪ :‬الزوال ‪ -‬أباح الصالة فيه‪ ،‬وأعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل‪ .‬وأما من مل‬
‫أثريا فبقي على أص له يف املن ع‪ ،‬وق د تكلمن ا يف العم ل وقوت ه يف كتابن ا يف الكالم‬
‫ي ر للعم ل ت ً‬
‫الفقهي‪ ،‬وهو الذي يدعى بأصول الفقه‪ .‬وأما الشافعي فال صح عنده ما روى ابن شهاب عن‬
‫ثعلبة بن أيب مالك القرظي أهنم كانوا يف زمن عمر بن اخلطاب يصلون يوم اجلمعة حىت خيرج‬
‫عم ر‪ ،‬ومعل وم أن خ روج عم ر ك ان بع د ال زوال على م ا ص ح ذل ك من ح ديث الطَّْن ِف َس ِة ال يت‬
‫ك انت تط رح إىل ج دار املس جد الغ ري‪ ،‬ف إذا غش ي الطنفس ة كله ا ظ ل اجلدار خ رج عم ر بن‬
‫الص الَِة‬ ‫(َأن رس و َل ِ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم َن َهى َع ِن َّ‬ ‫أيض ا عن أيب هريرة‪ْ ُ َ َّ :‬‬ ‫اخلطاب مع ما رواه ً‬
‫س ِإاَّل َي ْو ُم اجْلُ ُم َع ِة)‪ ،‬استثىن من ذلك النهي يوم اجلمعة‪ ،‬وقوى‬
‫ُ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫الش‬
‫َّ‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫ز‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ىت‬
‫َّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫َّه ا ِ‬
‫ر‬ ‫َ‬ ‫الن‬ ‫ف‬
‫ُ‬ ‫ص‬
‫ْ‬
‫نِ‬
‫ه ذا األث ر عن ده العم ل يف أي ام عم ر ب ذلك وإن ك ان األث ر عن ده ض عي ًفا‪ .‬وأم ا من رجح األث ر‬
‫الثابت يف ذلك فبقي على أصله يف النهي‪.‬‬
‫وأما اختالفهم يف الصالة بعد صالة العصر فسببه‪ :‬تعارض اآلثار الثابتة يف ذلك‪ ،‬وذلك‬
‫أن يف ذلك‬
‫حديثني متعارضني‪:‬‬
‫(َأن رس و َل ِ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم َن َهى‬ ‫أحدها‪ :‬حديث أيب هريرة املتفق على صحته‪ْ ُ َ َّ :‬‬
‫س)‪.‬‬ ‫َّم ُ‬ ‫س‪َ ،‬و َع ِن الصَّاَل ِة َب ْع َد ُّ‬
‫الصْب ِح َحىَّت تَطْلُ ُع الش ْ‬ ‫َّم ُ‬
‫ب الش ْ‬ ‫ص ِر َحىَّت َت ْغ ُر ُ‬
‫ع ِن َّ ِ‬
‫الصالَة َب ْع َد الْ َع ْ‬ ‫َ‬
‫صاَل َتنْي ِ فِـي َبْييِت قَ ُّ‬
‫ط ِس ًّرا َواَل َعاَل نِيَ ٍة‪:‬‬ ‫ِ‬
‫(ما َتَر َك َر ُس ْو ُل اهلل َ‬
‫والثاي‪ :‬حديث عائشة قالت‪َ :‬‬
‫ص ِر)‪.‬‬ ‫َر ْك َعَتنْي ِ َقْب َل الْ َف ْج ِر‪َ ،‬و َر ْك َعَتنْي ِ َب ْع َد الْ َع ْ‬
‫ناسخا؛ ألنه‬
‫فمن رجح حديث أيب هريرة؛ قال باملنع‪ ،‬ومن رجح حديث عائشة أو رآه ً‬
‫العمل الذي مات عليه الصالة وسلم قال باجلواز‪ .‬وحديث أم سلمة يعارض حديث عائشة‪،‬‬
‫‪15‬‬
‫ِإ‬
‫َأت رسول اهلل يصلي ركعتني بعد العصر‪ ،‬فسألته عن ذلك فقال‪ ( :‬نَّهُ َأتَ ايِن نَ ٌ‬
‫اس‬ ‫وفيه‪َ :‬أنَّ َه ا َر ْ‬
‫الر ْكعَت ِ اللََّت ِ بع َد الظُّه ِر ومِم َّا هاتَ ِ‬ ‫ِم ْن َعْب ِدالْ َقْي ِ‬
‫ان)‪.‬‬ ‫ْ َ َ‬ ‫س فَ َشغَلُ ْوىِن َع ِن َّ َ نْي نْي َ ْ‬
‫المسألة الثانية‪ :‬يف الصلوات اليت يتعلق النهي عن فعلها فيها‬
‫اختلف العلماء يف الصالة اليت ال جتوز يف هذه األوقات‪ :‬فذهب أبو حنيفة وأصحابه إىل‬
‫أهنا ال جيوز يف ه ذه األوق ات ص الة ب إطالق‪ ،‬ال فريض ة مقض ية وال س نة وال نافل ة‪ ،‬إال عص ر‬
‫يوم ه‪ ،‬ق الوا‪ :‬فإن ه جيوز أن يقض يه عن د غ روب الش مس إذا نس يه‪ .‬واتف ق مال ك والش افعي أن ه‬
‫يقضي الصلوات املفروضة يف هذه األوقات‪ .‬وذهب الشافعى إىل أن الصلوات اليت ال جتوز يف‬
‫هذه األوقات هي النوافل فقط اليت تفعل لغري سبب‪ ،‬وأن السنن مثل صالة اجلنازة جتوز يف هذه‬
‫األوق ات‪ ،‬ووافق ه مال ك يف ذل ك بع د العص ر وبع د الص بح ‪-‬أع ين‪ :‬يف الس نن‪ ،‬وخالف ه يف ال يت‬
‫تفعل لسبب مثل ركعيت املسجد‪ ،‬فإن الشافعي جييز هاتني الركعتني بعد العصر وبعد الصبح‪،‬‬
‫وال جييز ذلك مالك‪ .‬واختلف قول مالك يف جواز السنن عند الطلوع والغروب‪ .‬وقال الثوري‬
‫يف الص لوات ال يت ال جتوز يف ه ذه األوق ات‪ :‬هي م ا ع دا الف رض‪ ،‬ومل يف رق س نة من نف ل‪،‬‬
‫فيتحصل يف ذلك ثالثة أقوال‪ :‬قول‪ :‬هي الصلوات بإطالق‪ .‬وقول‪ :‬إهنا ما عدا الفروض سواء‬
‫ك انت س نةً أو نفاًل ‪ .‬وق ول‪ :‬إهنا النف ل دون الس نن‪ .‬وعلى الرواي ة ال يت من ع مال ك فيه ا ص الة‬
‫معا عند‬
‫اجلنائز عند الغروب قول رابع‪ :‬وهو أهنا النفل فقط بعد الصبح والعصر‪ ،‬والنفل والسنن ً‬
‫الطلوع والغروب‪.‬‬
‫وس بب اخلالف يف ذل ك اختالفهم يف اجلم ع بني العموم ات املتعارض ة يف ذل ك أع ين‪:‬‬
‫َأي‪ ،‬وذل ك‪ :‬أن عم وم قول ه علي ه الص الة وس لم‪ِ( :‬إ َذا نَ ِس َي‬
‫ص بِ ٍّ‬‫َأي خَيُ ُّ‬
‫ال واردة يف الس نة‪َ ،-‬و ٌّ‬
‫ص لِّ َها ِإ َذا ذَ َكَر َه ا) " يقتض ي اس تغراق جبمي ع األوق ات‪ ،‬وقول ه يف أح اديث‬
‫الص اَل َة َف ْليُ َ‬
‫َأح ُد ُك ُم َّ‬
‫َ‬
‫أيضا عموم‬ ‫النهي يف هذه األوقات‪َ :‬نهي رسو ُل صلى اهلل عليه وسلم ع ِن َّ ِ ِ‬
‫الصالَة فْي َها)‪ .‬يقتضي ً‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُْ‬
‫أجناس الصلوات املفروضات والسنن والنوافل‪ ،‬فمىت محلنا احلديثني على العموم يف ذلك؛ وقع‬

‫‪16‬‬
‫بينها تعارض هو من جنس التعارض الذي يقع بني العام واخلاص‪ ،‬إما يف الزمان‪ ،‬وإما يف اسم‬
‫الصالة‪.‬‬

‫الجملة الثالثة من كتاب الصالة‪ :‬في معرفة ما تشتمل عليه من أقوال وأفعال‬
‫وهي معرفة ما تشتمل عليه من األقوال واألفعال‪ ،‬وهي األركان والصلوات املفروضة‪،‬‬
‫ختتلف يف هذين بالزيادة والنقصان‪ ،‬إما من قبل االنفراد واجلاعة‪ ،‬وإما من قبل الزمان‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫خمالفة ظهر اجلمعة لظهر سائر األيام‪ ،‬وإما من قبل احلضر والسفر‪ ،‬وإما من قبل األمن واخلوف‪،‬‬
‫وإم ا من قب ل الص حة واملرض‪ ،‬ف إذا أري د أن يك ون الق ول يف ه ذه ص ناعيًّا وجاريًّا على نظ ام؛‬
‫فيجب أن يقال‪ :‬أواًل فيما تشرتك فيه هذه كلها‪ ،‬مث يقال‪ :‬فيما خيص واحدة واحدة منها‪ ،‬أو‬
‫يقال‪ :‬يف واحدة واحدة منها؛ وهو األسهل‪ ،‬وإن كان هذا النوع من التعليم يعرض منه تكرار‬
‫َّما‪ ،‬وه و ال ذي س لكه الفقه اء‪ ،‬وحنن نتبعهم يف ذل ك‪ ،‬فنجع ل ه ذه اجلمل ة منقس مة إىل س تة‬
‫أبواب‪ :‬الباب األول‪ :‬يف صالة املنفرد احلاضر اآلمن الصحيح‪ .‬الباب الثاين‪ :‬يف صالة اجلماعة‪:‬‬
‫أع ين‪ :‬يف أحك ام اإلم ام واملأموم يف الص الة‪ .‬الب اب الث الث‪ :‬يف ص الة اجلمع ة‪ .‬الب اب الراب ع‪ :‬يف‬
‫صالة السفر‪ .‬الباب اخلامس‪ :‬يف صالة اخلوف‪ .‬الباب السادس‪ :‬يف صالة املرض‪.‬‬

‫الباب األول‪ :‬في صالة المنفرد) الحاضر اآلمن الصحيح‬


‫وه ذا الب اب في ه فص الن‪ :‬الفص ل األول‪ :‬يف أق وال الص الة‪ .‬والفص ل الث اين‪ :‬يف أفع ال‬
‫الصالة‪.‬‬
‫الفصل األولى‪ :‬في أقوال الصالة‬
‫ويف هذا الفصل من قواعد املسائل تسع مسائل‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬التكبري‬

‫‪17‬‬
‫اختل ف العلم اء يف التكب ري على ثالث ة م ذاهب‪ :‬فق وم ق الوا‪ :‬إن التكب ري كل ه واجب يف‬
‫الصالة‪ .‬وقوم قالوا‪ :‬إنه كله ليس بواجب وهو شاذ‪ .‬وقوم أوجبوا تكبرية اإلحرام فقط‪ ،‬وهم‬
‫اجلمهور‪.‬‬
‫وسبب اختالف من أوجبه كله ومن أوجب منه تكبرية اإلحرام فقط ‪ :‬معارضة ما نقل‬
‫من قول ه ملا نق ل من فعل ه علي ه الص الة والس الم‪ ،‬فأم ا م ا نق ل من قول ه‪ :‬فح ديث أيب هري رة‬
‫َأس بِ ِغ‬
‫الص الََة فَ ْ‬
‫ت َّ‬‫املشهور أن النيب عليه الصالة والسالم قال للرجل الذي علمه الصالة‪ِ( :‬إ َذا ََأر ْد َ‬
‫اسَت ْقبِ ِل الْ ِقْبلَةَ مُثَّ َكِّب ْر مُثَّ ا ْقَرْأ)‪ ،‬فمفهوم هذا هو أن التكبرية األوىل هي الفرض فقط‪،‬‬
‫ض ْوءَ مُثَّ ْ‬
‫الْ ُو ُ‬
‫فرض ا لذكره له كما ذكر سائر فروض الصالة‪ .‬وأما ما نقل‬ ‫ولو كان ما عدا ذلك من التكبري ً‬
‫من فعل ه‪ :‬فمنه ا‪ :‬ح ديث أيب هري رة‪ :‬أن ه ك ان يص لي فيك رب كلم ا خفض ورف ع‪ ،‬مث يق ول‪ :‬إين‬
‫ألشبهكم صالة بصالة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬ومنها‪ :‬حديث ُمطَ ِّرف بن عبداهلل بن‬
‫ِّخري قال‪ :‬صليت أنا وعمران بن حصني خلف علـي بن أيب طالب رضي اهلل عنه‪ ،‬فكان إذا‬
‫الش ِّ‬
‫سجد كرب‪ ،‬وإذا رفع رأسه من الركوع كرب‪ ،‬فلما قضى صالته وانصر فنا أخذ عمران بيده‪،‬‬
‫فقال‪َ :‬أ ْذ َكَرىِن َه َذا َ‬
‫صاَل َة حممد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬لفظ التكبري‬
‫ق ال مال ك‪ :‬ال جيزئ من لف ظ التكب ري إال (اهلل أك رب)‪ .‬وق ال الش افعي‪( :‬اهلل أك رب‬
‫وااهلل األكرب) اللفظان كالمها جيزئ‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬جيزئ من لفظ التكبري كل لفظ يف‬
‫معناه مثل‪ :‬اهلل األعظم‪ ،‬واهلل األجل‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم‪ :‬هل اللفظ هو املتعبد به يف االفتتاح أو املعىن؟‪ ،‬وقد استدل املالكيون‬
‫الص الَِة الطَّ ُه ْو ُر‪َ ،‬وحَتْ ِرمْيَُه ا التَّ ْكبِْي ُر‪َ ،‬وحَتْلِْيلُ َه ا‬
‫اح َّ‬ ‫ِ‬
‫والش افعيون بقول ه علي ه الص الة وس لم‪( :‬م ْفتَ ُ‬
‫َّسلِْي ُم)‪ ،‬قالوا‪ :‬واأللف والالم هاهنا للحصر‪ ،‬واحلصر يدل على أن احلكم خاص باملنطوق به‪،‬‬ ‫الت ْ‬
‫وأنه ال جيوز بغريه‪ ،‬وليس يوافقهم أبو حنيفة على هذا األصل‪ ،‬فإن هذا املفهوم هو عنده من‬

‫‪18‬‬
‫باب دليل اخلطاب‪ ،‬وهو أن حيكم للمسكوت عنه بضد حكم املنطوق به‪ ،‬ودليل اخلطاب عند‬
‫أيب حنيفة غري معمول به‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬دعاء التوجه‬
‫ذهب ق وم إىل أن التوج ه يف الص الة واجب‪ ،‬وه و أن يق ول بع د التكب ري إم ا‪ :‬وجهت‬
‫وجهي للذي فطر السماوات واألرض‪ ،‬وهو مذهب الشافعي‪ ،‬وإما أن يسبح وهو مذهب أيب‬
‫حنيف ة‪ ،‬وإم ا أن جيم ع بينهم ا وه و م ذهب أيب يوس ف ص احبه‪ .‬وق ال مال ك‪ :‬ليس التوجي ه‬
‫بواجب يف الصالة وال بسنة‪.‬‬
‫وسبب االختالف‪ :‬معارضة اآلثار الواردة بالتوجيه للعمل عند مالك‪ ،‬أو االختالف يف‬
‫صحة اآلثار الواردة بذلك‪ .‬قال القاضي‪ :‬قد ثبت يف الصحيحني عن أيب هريرة‪ :‬أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم كان يسكت بني التكرب والقراءة إسكاتة‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬بأيب‬
‫ِ‬
‫أنت وأمي؛ إسكاتك بني التكرب والقراءة ما تقول؟ قال‪َ( :‬أُق ْو ُل‪ :‬اللَّ ُه َّم بَاع ْد َبْييِن َو َبنْي َ َخطَايَ َ‬
‫اي‬
‫ض ِم َن‬
‫اَأْلبيَ ُ‬
‫ب ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت َينْي َ الْ َم ْش ِرق َوالْ َم ْغ ِرب‪ ،‬اللّ ُه َّم َن ِّقيِن م َن اخْلَطَايَ ا َك َم ا يَُن َّقى الث َّْو ُ‬ ‫اع ْد َ‬ ‫َك َم ا بَ َ‬
‫اي بِالْ َم ِاء َوالَْث ْل ِج َوالَْبَر ِد)‪.‬‬
‫َ‬ ‫اي‬
‫َ‬ ‫َ‬‫ط‬‫خ‬‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬
‫س‪ ،‬اللّه َّم ا ْغ ِ‬
‫س‬ ‫الدنَ ِ ُ‬ ‫َّ‬
‫وقد ذهب قوم إىل استحسان سكتات كثرية يف الصالة‪ .‬منها‪ :‬حني يكرب‪ .‬ومنها‪ :‬حني‬
‫يف رغ من ق راءة أم الق رآن‪ ،‬وإذا ف رغ من الق راءة قب ل الرك وع‪ .‬وممن ق ال هبذا الق ول الش افعي‬
‫وأبو ثور واألوزاعي‪ ،‬وأنكر ذلك مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه‪.‬‬
‫ت لَ هُ علي ه‬‫وس بب اختالفهم‪ :‬اختالفهم يف تص حيح ح ديث أيب هري رة أن ه ق ال‪َ ( :‬ك انَ ْ‬
‫الصالََة‪ ،‬و ِحنْي َ ي ْقرُأ فَاحِت َةَ الْ ِكتَ ِ‬
‫اب‪َ ،‬وِإ َذا‬ ‫َّ‬ ‫ح‬‫الصالة والسالم س َكتَات فِـي صاَل تِِه‪ِ :‬ح ي َكِّبر وي ْفتَتِ‬
‫َ ٌ‬
‫ََ‬ ‫َ‬ ‫نْي َ ُ ُ َ َ ُ‬ ‫َ‬
‫غ ِم َن اْ ِلقَراءَ ِة َقْب َل ُّ‬
‫الر ُك ْو ِع)‪.‬‬ ‫َفَر َ‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬قراءة البسملة‬
‫الر ِحْي ِم) يف افتتاح القراءة يف الصالة‪ ،‬فمنع ذلك مالك‬ ‫اختلفوا يف قراءة (بِس ِم ِ‬
‫اهلل الرَّمْح ِن َّ‬ ‫ْ‬
‫يف الص الة املكتوب ة جه ًرا ك انت أو س ًّرا‪ ،‬ال يف اس تفتاح أم الق رآن وال يف غريه ا من الس ور‪،‬‬
‫‪19‬‬
‫وأج از ذل ك يف النافل ة‪ .‬وق ال أب و حنيف ة والث وري وأمحد‪ :‬يقرؤه ا م ع أم الق رآن يف ك ل ركع ة‬
‫س ًّرا‪ .‬وق ال الش افعي‪ :‬يقرؤه ا والب د يف اجله ر جه ًرا ويف الس ر س ًّرا‪ ،‬وهي عن ده آي ة من فاحتة‬
‫الكتاب‪ ،‬وبه قال أمحد وأبو ثور وأبو عبيد‪ .‬واختلف قول الشافعي هل هي آية من كل سورة؟‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫أم إمنا هي آية من سورة النمل فقط‪ ،‬ومن فاحتة الكتاب؟ فروي عنه القوالن ً‬
‫وسبب اخلالف يف هذا آيل إىل شيئني‪:‬‬
‫أح) ))دهما‪ :‬اختالف اآلث ار يف ه ذا الب اب‪ .‬والث ان‪ :‬اختالفهم‪ :‬ه ل (بِس ِم ِ‬
‫اهلل ال رَّمْح ِن‬ ‫ْ‬
‫الر ِحْي ِم) آية من فاحتة الكتاب أم ال؟‬
‫َّ‬
‫فأما اآلثار اليت احتج هبا من أسقط ذلك‪ ،‬فمنها‪ :‬حديث ابن ُمغَ َّف ٍل قال‪« :‬مسعين أيب وأنا‬
‫الر ِحْي ِم)‪ ،‬فقال‪ :‬يا بىن إياك واحلدث‪ ،‬فإىن صليت مع رسول صلى اهلل‬ ‫أقرأ (بِس ِم ِ‬
‫اهلل الرَّمْح ِن َّ‬ ‫ْ‬
‫عليه وسلم ايب بكر و عمر‪ ،‬فلم أمسع رجالً منهم يقرؤهاء‪ .‬قال أبو عمر بن عبدالرب‪ :‬ابن مغفل‬
‫رج ل جمه ول‪ .‬ومنه ا‪ :‬م ا رواه مال ك من ح ديث أنس أن ه ق ال‪( :‬قمت وراء أيب بك ر وعم ر‬
‫وعثت ان رض ي اهلل عنهم‪ ،‬فكلهم ك ان ال يق رأ بس م اهلل إذا افتتح وا الص الة‪ .‬ق ال أب و عم ر‪ :‬ويف‬
‫بعض الرواي ات أن ه ق ال‪ :‬خل ف الن يب ص لى اهلل علي ه وس لم فك ان ال يق رأ (بس م اهلل ال رمحن‬
‫الرحيم) فقال أبو عمر‪ :‬إال أن أهل احلديث قالوا يف حديث أنس هذا‪ :‬إن النفل فيه مضطرب‬
‫مرفوع ا إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم ومرة‬
‫ً‬ ‫اضطرابًا ال تقوم به حجة‪ ،‬وذلك أن مرة روي عنه‬
‫م يرف ع‪ ،‬ومنهم من ي ذكر عثم ان ومن ال ي ذكره‪ ،‬ومنهم من يق ول‪ :‬فك انوا يق رءون (بس م اهلل‬
‫ال رمحن ال رحيم)‪ ،‬ومنهم من يق ول‪ :‬فك انوا ال يق رءون (بس م اهلل ال رمحن ال رحيم)‪ .‬ومنهم من‬
‫يقول‪ :‬فكانوا ال جيهرون (بيسم اهلل الرمحن الرحيم)‪.‬‬
‫وأما األحاديث املعارضة هذا‪ :‬فمنها حديث نُ َعْيم بن عبداهلل الْ ُم ْج ِمر قال‪ :‬صليت خلف‬
‫أيب هري رة فق رأ (بس م اهلل ال رحن ال رجيم) قب ل أم الق رآن‪ ،‬وقب ل الس ورة‪ ،‬وك رب فـي احلفض‬
‫والرفع‪ ،‬وقال‪ :‬أنا أشبهكم بصالة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬ومنها‪ :‬حديث ابن عباس‪:‬‬
‫اهلل ال رَّمْح ِن ال َّر ِحْي ِم)‪ .‬ومنه ا‪ :‬ح ديث أم‬
‫الس الَم َك ا َن يهج ر ِب بِس ِم ِ‬
‫ْ‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫(َأن النَّيِب ّ َعلَْي ِه َّ‬
‫الص الَةُ َو َّ ُ‬ ‫َّ‬
‫‪20‬‬
‫الر ِحْي ِم‪ ،‬احْلَ ْم ُد‬ ‫سلمة أهنا قالت‪َ ( :‬كا َن رسو ُل اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقرأ ِب بِس ِم ِ‬
‫اهلل الرَّمْح ِن َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُْ‬
‫ب الْ َع الَ ِمنْي َ )‪ .‬ف اختالف ه ذه اآلث ار أح د م ا أوجب اختالفهم يف ق راءة (بس م اهلل ال رمحن‬ ‫ِ‬
‫هلل َر ِّ‬
‫الرحيم) يف الصالة‪.‬‬
‫والس ))بب الث ))اني‪ :‬كم ا قلن ا ه و‪ :‬ه ل (بس م اهلل ال رمحن ال رحيم) آي ة من أم الكت اب‬
‫وحدها‪ ،‬أو من كل سورة؟ أم ليست آية ال من أم الكتاب وال من كل سورة؟ فمن رأى أهنا‬
‫آية من أم الكتاب أوجب قراءهتا بوجوب قراءة أم الكتاب عنده يف الصالة‪ ،‬ومن رأى أهنا آية‬
‫من أول كل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة‪.‬‬
‫المسألة الخامسة‪ :‬قراءة القرآن‬
‫هوا‪ ،‬إال ش يًئا روي عن‬
‫اتف ق العلم اء على أن ه ال جتوز ص الة بغ ري ق راءة ال عم ًدا وال س ً‬
‫عم ر رض ي اهلل عن ه أن ه ص لى فنس ي الق راءة‪ ،‬فقي ل ل ه يف ذل ك‪ ،‬فق ال‪ :‬كي ف ك ان الرك وع‬
‫والسجود؟ فقيل‪ :‬حسن‪ ،‬فقال‪ :‬ال بأس إذا‪ .‬وهو حديث غريب عندهم أدخله مالك يف موطئه‬
‫يف بعض الرواي ات‪ ،‬وإال ش يًئا روي عن ابن عب اس أن ه ال يق رأ يف ص الة الس ر‪ ،‬وأن ه ق ال‪( :‬قِ َرَأ‬
‫ت فِْي َم ا‬ ‫ِ‬
‫ت يِف ْ‬
‫ُأخ َرى‪َ ،‬فَن ْق َرُأ فْي َم ا َق َرَأ َونَ ْس ُك ُ‬
‫ٍ‬
‫ص لَ َوات َو َس َك َ‬
‫ِ‬
‫َر ُس ْو ُل اهلل صلى اهلل َعلَْي ه َو َس لَّ َم ِيف َ‬
‫ت)‪ .‬وسئل هل يف الظهر والعصر قراءة؟ فقال‪ ( :‬اَل )‪ .‬وأحذ اجلمهور حبديث خباب‪َ( :‬أنَّهُ‬ ‫َس َك َ‬
‫ِ‬
‫ص ِر)‪ ،‬قيل‪ :‬فبأي شيء كنتم تعرفون ذلك؟ قال‪:‬‬ ‫صلَّى اهلل َعلَْيه َو َسلَّ َم َكا َن َي ْقَرُأ فـِي الظُّ ْه ِر َوالْ َع ْ‬
‫َ‬
‫باض طراب لـخيته‪ .‬وتعل ق الكوفي ون حبديث ابن عب اس يف ت رك وج وب الق راءة يف الركع تني‬
‫األخريتني من الصالة‪ ،‬الستواء صالة اجلهر والسر يف سكوت النيب صلى اهلل َعلَْي ِه َو َس لَّ َم هاتني‬
‫الركعتني‪.‬‬
‫واختلفوا يف القراءة الواجبة يف الصالة‪ ،‬فرأى بعضهم أن الواجب من ذلك أم القرآن ملن‬
‫حفظه ا‪ ،‬وأن م ا ع داها ليس في ه ت وقيت‪ ،‬ومن ه ؤالء من أوجبه ا يف ك ل ركع ة‪ ،‬ومنهم من‬
‫أوجيها يف أكثر الصالة‪ ،‬ومنهم من أوجبها يف نصف الصالة‪ ،‬ومنهم من أوجبها يف ركعة من‬
‫الصالة‪ ،‬وباألول قال الشافعي‪ ،‬وهي أشهر الروايات عن مالك‪ ،‬وقد روي عنه أنه إن قرأها يف‬
‫‪21‬‬
‫ركع تني من الرباعي ة أجزأت ه‪ .‬وأم ا من رأى أهنا جتزئ يف ركع ة‪ ،‬فمنهم احلس ن البص ري وكث ري‬
‫من فقهاء البصرة‪ ،‬وأما أبو حنيفة فالواجب عنده إمنا هو قراءة القرآن أي آية اتفقت أن تقرأ‪،‬‬
‫وح د أص حابه يف ذل ك ثالث آي ات قص ار‪ ،‬أو آي ة طويل ة مث ل آي ة ال دين‪ .‬وه ذا يف الركع تني‬
‫األول يني‪ .‬وأم ا يف األخ ريتني فيس تحب عن ده التس بيح فيهم ا دون الق راءة‪ ،‬وب ه ق ال الكوفي ون‪.‬‬
‫واجلمهور يستحبون القراءة فيها كلها‪.‬‬
‫والسبب يف هذا االختالف تعارض اآلثار يف هذا الباب‪ ،‬ومعارضة ظاهر الكتاب لألثر‪.‬‬
‫أما اآلثار املتعارضة يف ذلك‪ ،‬فأحدها‪ :‬حديث أيب هريرة الثابت‪ :‬أن رجاًل دخل املسجد فصلى‬
‫مث ج اء فس لم على الن يب ص لى اهلل علي ه وس لم‪ ،‬ف رد علي ه الن يب ص لى اهلل علي ه وس لم وق ال‪:‬‬
‫ِ‬
‫ص ِّل)‪ ،‬فصلى مث جاء فأمره بالرجوع‪ ،‬فعل ذلك ثالث مرات‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ك مَلْ تُ َ‬ ‫ص ِّل‪ ،‬فَِإنَّ َ‬
‫(إرج ْع‪ ،‬فَ َ‬
‫ْ‬
‫َأس بِ ِغ‬ ‫والذي بعثك باحلق‪ ،‬ما أحسن غريه‪ .‬فقال عليه الصالة والسالم‪ِ( :‬إ َذا قُمت ِإىَل َّ ِ‬
‫الص الَة فَ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫آن‪ ،‬مُثَّ ْار َك ْع َحىَّت تَطْ َمِئ َّن َراكِ ًع ا‪،‬‬
‫ك ِمن اْل ُق ر ِ‬ ‫الْوضو ِء مُثَّ ِ ِ‬
‫اسَت ْقب ِل اْلقْبلَةَ فَ َكِّب ْر‪ ،‬مُثَّ ا ْق َرْأ َم ا َتيَ َّس َر َم َع َ َ ْ‬
‫ْ‬ ‫ُ ُْ‬
‫اس ُج ْد‬ ‫ِئ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ ِئ‬
‫اس ُج ْد َحىَّت تَطْ َم َّن َس اج ًدا‪ ،‬مُثَّ ْارفَ ْع َحىَّت تَطْ َم َّن َجال ًس ا‪ ،‬مُثَّ ْ‬‫مُثَّ ْارفَ ْع َحىَّت َت ْعتَد َل قَا ًما‪ ،‬مُثَّ ْ‬
‫اج ًدا‪ ،‬مُثَّ ارفَع حىَّت تَست ِوي قَاِئما‪ ،‬مُثَّ ا ْفعل َذلِ ِ‬ ‫حىَّت تَطْمِئ َّن س ِ‬
‫ك ُكلِّ َها)‪.‬‬‫صاَل تِ َ‬
‫ك فـي َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ ْ َ َْ َ ً‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬

‫‪22‬‬
‫المسألة السادسة‪ :‬ما يقوله يف الركوع والسجود‬
‫اتف ق اجلمه ور على من ع ق راءة الق رآن يف الرك وع والس جود حلديث علي يف ذل ك ق ال‪:‬‬
‫السالَم َأ ْن َأْقرَأ الْ ُقرآ َن راكِعا وس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج ًدا)‪ ،‬قال الطربي‪ :‬وهو حديث صحيح‪،‬‬ ‫َ ْ َ ً ََ‬ ‫( َن َهايِن جرْبِ يْ ُل َعلَْيه َّ ُ‬
‫وبه أخذ فقهاء األمصار‪ ،‬وصار قوم من التابعني إىل جواز ذلك‪ ،‬وهو مذهب البخاري‪ ،‬ألنه مل‬
‫يصح احلديث عنده‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫واختلفوا‪ :‬هل الركوع والسجود قول حمدود يقوله املصلى أم ال؟ فقال مالك‪ :‬ليس يف‬
‫ذل ك ق ول حمدود‪ .‬وذهب الش افعي وأب و حنيف ة وأمحد ومجاع ة غ ريهم إىل أن املص لى يق ول يف‬
‫ركوع ه‪ :‬س بحان ريب العظيم ثالثً ا‪ ،‬ويف الس جود س بحان ريب األع ل ثالثً ا‪ ،‬على م ا ج اء يف‬
‫مخس ا يف ص الته ح ىت ي درك‬
‫ح ديث عقب ة بن ع امر‪ .‬وق ال الث وري‪ :‬أحب إيل أن يقوهلا اإلم ام ً‬
‫الذي خلفه ثالثة تسبيحات‪.‬‬
‫والس بب يف ه ذا االختالف معارض ة ح ديث ابن عب اس يف ه ذا الب اب حلديث عقب ة بن‬
‫ِ‬
‫ت َأ ْن َأْق َرَأ‬‫عامر‪ ،‬وذلك أن يف حديث ابن عباس أنه عليه الصالة و السالم قال‪َ( :‬أالَ‪َ ،‬وِإيِّن هُن ْي ُ‬
‫اجتَ ِه ُد ْوا فِْي ِه فِـي‬ ‫الس ُج ْو ُد فَ ْ‬ ‫اج ًدا‪ ،‬فَ ََّأما ال ُّر ُك ْوعُ َف َعظِّ ُم ْوا فِْي ِه ال َّر َّ‬
‫ب‪َ ،‬و ََّأما ُّ‬ ‫الْ ُق رآ َن راكِع ا َأو س ِ‬
‫ْ َ ً ْ َ‬
‫الد ِ ِ‬
‫اس ِم‬ ‫اب لَ ُك ْم)‪ ،‬ويف حديث عقبة بن عامر أنه قال‪ :‬ملا نزلت‪( :‬فَ َس بِّ ْح بِ ْ‬ ‫ُّعاء‪َ ،‬ف َقم ٌن َأ ْن يُ ْس تَ َح َ‬‫َ‬
‫اج َعلُ ْو َه ا فِـي ُر ُك ْو ِع ُك ْم» وملا ن رلت‪:‬‬ ‫ك الْ َعظْي ِم)‪ ،‬ق ال لن ا رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم‪ْ :‬‬
‫ربِّ َ ِ‬
‫َ‬
‫اج َعلُ ْو َها فِـي ُس ُج ْو ِد ُك ْم)‪.‬‬
‫َألعلَى) قال‪ْ :‬‬ ‫ك اْ ْ‬ ‫اس َم َربِّ َ‬
‫(سبِّ ِح ْ‬‫َ‬
‫وك ذلك اختلف وا يف ال دعاء يف الرك وع بع د اتف اقهم على ج واز الثن اء على اهلل‪ ،‬فك ره‬
‫ب‪َ ،‬و ََّأما‬ ‫الر َّ‬‫الر ُك ْوعُ َف َع ِظ ُم ْوا فِْي ِه َّ‬‫(َأما ُّ‬
‫ذلك مالك حلديث علي أنه قال عليه الصالة والسالم‪َّ :‬‬
‫ُّع ِاء)‪َ .‬وقالت طائفة‪ :‬جيوز الدعاء يف الركوع‪ ،‬واحتجوا بأحاديث‬ ‫ِِ ِ‬
‫اجتَ ِه ُد ْوا فْيه فـي الد َ‬ ‫الس ُج ْو ُد فَ ْ‬
‫ُّ‬
‫الس الَ ُم َد َع ا يِف الُّر ُك ْو ِع)‪َ ،‬و ُه َو َم ذهب البخاري‪ ،‬واحتج حبديث‬ ‫الص الَةُ َو َّ‬ ‫جاء فيها‪َ( :‬أنَّهُ َعلَْي ِه َّ‬
‫ك اللّ ُه َّم َربَّنَا‬
‫(سْب َحانَ َ‬
‫عائشة قالت‪ :‬كان النيب عليه الصالة والسالم يقول فـي ركوعه وسجردو‪ُ :‬‬

‫‪23‬‬
‫َوحِب َ ْم ِد َك‪ ،‬اللّ ُه َّم ا ْغ ِف ْر يِل )‪ ،‬وأب و حنيف ة ال جييز ال دعاء يف الص الة بغ ري ألف اظ الق رآن‪ ،‬ومال ك‬
‫والشافعي جييزان ذلك‪ .‬والسبب يف ذلك اختالفهم فيه‪ ،‬هل هو كالم أم ال؟‬
‫المسألة السابعة‪ :‬التشهد‬
‫اختلف وا يف وج وب التش هد ويف املخت ار من ه‪ ،‬ف ذهب مال ك وأب و حنيف ة ومجاع ة إىل أن‬
‫التشهد ليس بواجب‪ ،‬وذهبت طائفة إىل وجوبه‪ ،‬وبه قال الشافعي وأمحد وداود‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم‪ :‬معارضة القياس لظاهر اآلثار‪ ،‬وذلك أن القياس يقتضي إحلاقه بسائر‬
‫األركان اليت ليست بواجبة يف الصالة‪ ،‬التفاقهم عل وجوب القرآن‪ ،‬وأن التشهد ليس بقرآن‬
‫فبجب‪ ،‬وحديث ابن عباس أنه قال‪( :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يُ َعلِّ ُمنَ ا الت َ‬
‫َّش ُّه َد َك َم ا‬
‫الس ور َة ِمن الْ ُق ر ِ‬
‫آن)‪ ،‬يقتض ي وجوب ه م ع أن األص ل عن د ه ؤالء أن أفعال ه وأقوال ه يف‬ ‫يُ َعلِّ ُمنَ ا ُّ ْ َ َ ْ‬
‫الصالة جبب أن تكون حممولة على الوجوب؛ حىت يدل الدليل على خالف ذلك‪ ،‬واألصل عند‬
‫غريهم على خالف هذا‪ ،‬وهو أن ما ثبت وجوبه يف الصالة مما اتفق عليه أو صرح بوجوبه فال‬
‫جيب أن يلحق به إال ما صرح به ونص عليه‪ ،‬فهما كما ترى فصالن متعارضان‪.‬‬
‫وأما املختار من التشهد‪ ،‬فإن مال ًكا رمحه اهلل اختار تشهد عمر رضي اهلل عنه الذي كان‬
‫الص لَوات ِ‬ ‫ِ‬ ‫هلل‪ِ َّ ،‬‬
‫َّحيَّات ِ‬
‫ِ‬
‫ك‬‫الس الَ ُم َعلَْي َ‬
‫هلل‪َّ ،‬‬ ‫ات َّ َ ُ‬ ‫ات هلل‪ ،‬الطَّيِّبَ ُ‬
‫الزاكيَ ُ‬ ‫يعلمه الناس عل املنرب‪ ،‬وهو‪ :‬الت ُ‬
‫الص احِلِنْي َ ‪ْ ،‬‬ ‫الس الَم ُعلَينَ ا وعلَى ِعب ِاد ِ‬ ‫ِ‬
‫َأش َه ُد َأ ْن اَل ِإل هَ ِإاَّل اهللُ‬ ‫اهلل َّ‬ ‫َأيُّ َه ا النَّيِب ُّ َو َرمْح َ ةُ اهلل َو َبَر َكاتُ هُ‪َ َ َ ْ َ َّ ،‬‬
‫َأن حُمَ َّم ًدا َعْب ُدهُ َو َر ُس ْولُهُ‪ .‬واختار أهل الكوفة ‪-‬أبو حنيفة وغريه‪-‬‬ ‫َأش َه ُد َّ‬ ‫َو ْح َدهُ اَل َش ِريْ َ‬
‫ك لَهُ‪َ ،‬و ْ‬
‫تش هد عبداهلل بن مس عود‪ .‬ق ال أب و عم ر‪ :‬وب ه ق ال أمحد وأك ثر أه ل احلديث‪ ،‬لثب وت نقل ه عن‬
‫َّحيَّات ِ‬
‫ِ‬
‫ك َأيُّ َه ا‬
‫الس الَ ُم َعلَْي َ‬
‫ات‪َّ ،‬‬ ‫ات َوالطَّيِّبَ ُ‬‫الص لَ َو ُ‬
‫هلل َو َّ‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو‪« :‬الت ُ‬
‫َأش َه ُد َأ ْن الَ ِإل هَ ِإالَّ اهللُ‪،‬‬ ‫الصالِ ِ‬ ‫الس الَم علَينَ ا وعلَى ِعب ِاد ِ‬ ‫ِ‬
‫ـحنْي َ ‪ْ ،‬‬ ‫اهلل َّ‬ ‫النَّيِب ُّ َو َرمْح َ ةُ اهلل َو َبَر َكاتُ هُ‪َ َ َ ْ َ ُ َّ ،‬‬
‫َأن حُمَ َّم ًدا َعْب ُدهُ َو َر ُس ْولُهُ) واختار الشافعى وأصحابه تشهد عبداهلل بن عباس الذي رواه‬ ‫َأش َه ُد َّ‬
‫َو ْ‬
‫عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعلمنا التشهد كما‬
‫الس الَ ُم‬ ‫الص لَوات الطَّيِّب ات ِ‬
‫هلل‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫ات َّ َ ُ َ ُ‬ ‫ات الْ ُمبَ َار َك ُ‬
‫يعلمن ا الس ورة من الق رآن‪ ،‬فك ان يق ول‪( :‬التَّحيَّ ُ‬
‫‪24‬‬
‫الصالِ ِـحنْي َ ‪َ ،‬أ ْش َه ُد َأ ْن اَل ِإلهَ ِإاَّل‬ ‫الساَل م علَينَا وعلَى ِعب ِاد ِ‬
‫اهلل َّ‬ ‫ِ‬
‫ك َأيُّ َها النَّيِب ُّ َو َرمْح َةُ اهلل َو َبَر َكاتُهُ‪َ َ َ ْ َ ُ َّ ،‬‬
‫َعلَْي َ‬
‫َأن حُم َّم ًدا رسو ُل ِ‬
‫اهلل)‪.‬‬ ‫اهللُ َو َّ َ َ ُ ْ‬
‫وس بب اختالفهم اختالف ظن وهنم يف األرجح منه ا‪ ،‬فمن غلب على ظن ه رجح ان‬
‫حديث ما من هذه األحاديث الثالثة؛ مال إليه‪ ،‬وقد ذهب كثري من الفقهاء إىل أن هذا كله‬
‫على التخي ري ك األذان‪ ،‬والتكب ري على اجلن ائز‪ ،‬ويف العي دين‪ ،‬ويف غ ري ذل ك مما ت واتر نقل ه‪ ،‬وه و‬
‫الصواب واهلل أعلم‪.‬‬
‫وقد اشرتط الشافعي الصالة عل النيب صلى اهلل عليه وسلم يف التشهد وقال‪ :‬إهنا فرض‬
‫صلُّ ْوا َعلَْي ِه َو َسلِّ ُم ْوا تَ ْسلِْي ًما‪ ،‬األحزاب‪ .)٥ ٦ :‬ذهب إىل أن هذا‬ ‫ِ‬
‫لقوله تعاىل‪( :‬يَاَأيُّ َها الَّذيْ َن ََأمُن ْوا َ‬
‫التسليم هو التسليم من الص الة‪ ،‬وذهب اجلمهور إىل أنه التسليم الذي يؤتى ب ه عقب الصالة‬
‫عليه‪.‬‬
‫وذهب قوم من أهل الظاهر إىل أنه واجب أن يتعوذ املتشهد من األربع اليت جاءت يف‬
‫احلديث من عذاب القرب‪ ،‬ومن عذاب جهنم‪ ،‬ومن فتنة املسيح الدجال ومن فتنة احمليا واملات‪،‬‬
‫آخ ِر تَ َش ُّه ِد ِه)‪ ،‬ويف بعض‬
‫ألنه ثبت‪( :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َك ا َن يَتع َّوذُ ِمْنه ا فِـي ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫َّش ُّه ِد اْ ِ‬
‫َألخرْيِ َف ْليََت َع َّو ْذ ِم ْن َْأربَ ِع) احلديث‪ ،‬خرجه مسلم‪.‬‬ ‫َأح ُد ُك ْم ِم َن الت َ‬ ‫طرقه‪ِ( :‬إ َذا َفَر َ‬
‫غ َ‬
‫المسألة الثامنة‪ :‬التسليم‬
‫اختلفوا يف التسليم من الصالة‪ ،‬فقال اجلمهور بوجوبه‪ ،‬وقال أبو حنيفة وأصحابه‪ :‬ليس‬
‫بواجب‪ ،‬والذين أوجبوه منهم من قال‪ :‬الواجب على املنفرد واإلمام تسليمة واحدة‪ ،‬ومنهم من‬
‫قال‪ :‬اثنتان‪ .‬فذهب اجلمهور مذهب ظاهر حديث علي‪ ،‬وهو قوله عليه الصالة والسالم فيه‪:‬‬
‫َّس لِْي ُم)‪ ،‬ومن ذهب إىل أن ال واجب من ذل ك تس ليمتان‪ ،‬فلم ا ثبت من‪َ( :‬أنَّهُ َعلَْي ِه‬ ‫ِ‬
‫(وحَتْلْيلُ َه ا الت ْ‬
‫َ‬
‫الساَل ُم َك ا َن يُ َس لِّ ْم تَ ْس لِْي َمَتنْي ِ )‪ .‬وذلك عند من محل فعله على الوجوب‪ ،‬واختار مالك‬
‫الصالَةُ َو َّ‬
‫َّ‬
‫للم أموم تس ليمتني ولإلم ام واح دة‪ ،‬وق د قي ل عن ه‪ :‬إن املأموم يس لم ثالثً ا‪ :‬الواح دة للتحلي ل‪،‬‬
‫والثانية لإلمام‪ ،‬والثالثة ملن هو عن يساره‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫وأما أبو حنيفة فذهب إىل ما رواه عبدالرمحن بن زياد اإلفريقي‪ :‬أن عبدالرمحن بن رافع‬
‫وبك ر بن س وادة ح دثاه عن عبداهلل بن عم رو بن الع اص ق ال‪ :‬ق ال رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه‬
‫آخ ِر ِِ‬‫الرج ل فِـي ِ‬ ‫ِإ‬
‫ص اَل تُهُ)‪ ،‬ق ال أب و‬ ‫ث َقْب َل َأ ْن يُ َس لِّ َم َف َق ْد مَتَّ ْ‬
‫ت َ‬ ‫َأح َد َ‬
‫ص الَته فَ ْ‬
‫َ‬ ‫س َّ ُ ُ‬
‫وس لم‪ ( :‬ذَا َجلَ َ‬
‫عمر بن عبدالرب‪ :‬وحديث على املتقدم أثبت عند أهل النقل؛ ألن حديث عبداهلل بن عمرو بن‬
‫العاص انفرد به اإلفريقي‪ ،‬وهو عند أهل النقل ضعيف‪ .‬قال القاضي‪ :‬إن كان أثبت من طريق‬
‫النق ل فإن ه حمتم ل من طري ق اللف ظ‪ ،‬وذل ك أن ه ليس ي دل على أن اخلروج من الص الة ال يك ون‬
‫لغري التسليم إال بضرب من دليل اخلطاب‪ ،‬وهو مفهوم ضعيف عند األكثر‪ ،‬ولكن للجمهور أن‬
‫يقولوا إن األلف والالم اليت للحصر أقوى من دليل اخلطاب يف كون حكم املسكوت عنه بضد‬
‫حكم املنطوق به‪.‬‬
‫المسألة التاسعة‪ :‬القنوت‬
‫اختلف وا يف القن وت‪ ،‬ف ذهب مال ك إىل أن القن وت يف ص الة الص بح مس تحب‪ .‬وذهب‬
‫الشافعي إىل أنه سنة‪ ،‬وذهب أبر حنيفة إىل أنه ال جبوز القنوت يف صالة الصبح‪ ،‬وأن القنوت‬
‫إمنا موضعه الوتر‪ .‬وقال قوم‪ :‬بل يقنت يف كل صالة‪ .‬وقال قوم‪ :‬ال قنوت إال يف رمضان‪ .‬وقال‬
‫قوم‪ :‬بل يف النصف األخري منه‪ .‬وقال قوم‪ :‬بل يف النصف األول منه‪.‬‬
‫والسبب يف ذلك‪ :‬اختالف اآلثار املنقولة يف ذلك عن النيب عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقياس‬
‫بعض الصلوات يف ذلك على بعض؛ أعين‪ :‬اليت قنت فيها على اليت مل يقنت فيها‪ .‬قال أبو عمر‬
‫بن عب دالرب‪ :‬والقن وت بلعن الْ َك َف َر ِة يف رمض ان مس تفيض يف الص در األول اقت داءً برس ول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه السالم يف دعائه على ِر ْع ٍل َوذَ ْك َوا َن‪ ،‬والنفر الذين قتلوا أصحاب بئر معونة‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬في األفعال التي هي أركان‬


‫ويف هذا الفصل من قواعد املسائل مثاين مسائل‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬رفع اليدين‬
‫‪26‬‬
‫اختلف العلماء يف رفع اليدين يف الصالة يف ثالثة مواضع‪ :‬أحدها‪ :‬يف حكمه‪ .‬والثاين‪:‬‬
‫يف املواض ع ال يت يرف ع فيه ا من الص الة‪ .‬والث الث‪ :‬إىل أين ينتهي برفعه ا؟‪ .‬فأم ا احلكم ف ذهب‬
‫اجلمهور إىل أنه سنة يف الصالة‪ ،‬وذهب داود ومجاعة من أصحابه إىل أن ذلك فرض‪ ،‬وهؤالء‬
‫انقس موا أقس ًاما‪ :‬فمنهم من أوجب ذل ك يف تكب رية اإلح رام فق ط‪ ،‬ومنهم من أوجب ذل ك يف‬
‫االس تفتاح وعن د الرك وع؛ أع ين‪ :‬عن د االحنط اط في ه‪ ،‬وعن د االرتف اع من ه‪ ،‬ومنهم من أوجب‬
‫ذلك يف هذين املوضعني وعند السجود‪ .‬وذلك حبسب اختالفهم يف املواضع اليت يرفع فيها‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم‪ :‬معارضة ظاهر حديث أيب هريرة الذي فيه تعليم فرائض الصالة لفعله‬
‫(و َكِّب ْر) ومل يأمره برفع‬ ‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬وذلك‪ :‬أن حديث أيب هريرة إمنا فيه أنه قال له‪َ :‬‬
‫يدي ه‪ ،‬وثبت عن ه علي ه الص الة والس الم من ح ديث ابن عم ر وغ ريه‪َ( :‬أنَّهُ َك ا َن َيْرفَ ُع يَ َديْ ِه ِإ َذا‬
‫الصالََة)‪.‬‬
‫ا ْفتَتَ َح َّ‬
‫وأما اختالفهم يف املواضع اليت ترفع فيها‪ :‬فذهب أهل الكوفة أبو حنيفة وسفيان الثوري‬
‫وس ائر فقه ائهم إىل أن ه ال يرف ع املص لي يدي ه إال عن د تكب رية اإلح رام فق ط‪ ،‬وهي رواي ة ابن‬
‫القاس م عن مال ك‪ ،‬وذهب الش افعي وأمحد وأب و عبي د وأب و ث ور ومجه ور أه ل احلديث وأه ل‬
‫الظاهر إىل الرفع عند تكبرية اإلحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع‪ ،‬وهو مروي عن‬
‫مال ك إال أن ه عن د بعض أولئ ك ف رض وعند مال ك س نة‪ .‬وذهب بعض أه ل احلديث إىل رفعها‬
‫عند السجود وعند الرفع منه‪.‬‬
‫والسبب يف هذا االختالف كله‪ :‬اختالف اآلثار الواردة يف ذلك وخمالفة العمل باملدينة‬
‫لبعضها‪ ،‬وذلك أن يف ذلك أحاديث‪:‬‬
‫الب َر ِاء بن ع ازب‪َ( :‬أنَّهُ َك ا َن َعلَْي ِه َّ‬
‫الص الَةُ‬ ‫أح))دها‪ :‬ح ديث عبداهلل بن مس عود‪ ،‬وح ديث َ‬
‫السالَم يرفَع ي َدي ِه ِعْن َد اِْإل حر ِام مَّر ًة و ِ‬
‫اح َد ًة‪ ،‬اَل يَِزيْ ُد َعلَْي َها)‪.‬‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َو َّ ُ َ ْ َ َ ْ‬
‫ص لَّى اهللُ َعلَْي ِه َّ‬
‫الس الَ َم َك ا َن‬ ‫ِ‬ ‫والحديث الث)ان‪ :‬حديث ابن عمر عن أبيه‪َّ :‬‬
‫(َأن َر ُس ْو َل اهلل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬‫ض ا َك َذل َ‬ ‫الص الََة َرفَ َع يَ َديْ ه ُح ْذ َو َمْنكَبْي ه‪َ ،‬وِإ َذا َرفَ َع َرْأ ُس هُ م َن ال ُّر ُك ْو ِع َر َف َع ُه َم ا َأيْ ً‬
‫ِإ َذا ا ْفتَتَ َح َّ‬
‫‪27‬‬
‫ك فِـي ُّ‬
‫الس ُج ْو ِد‪ .‬وهو حديث متفق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال‪ :‬مَسِ َع اهللُ ل َـم ْن مَحِ َدهُ َربَّنَا َولَ َ‬
‫ك احْلَ ْم ُد‪َ ،‬كا َن الَ َي ْف َع ُل ذَل َ‬ ‫َوقَ َ‬
‫ص لَّى اهللُ َعلَْي ِه َّ‬
‫الس الَ َم ثالث ة عش ر رجالً من‬ ‫على ص حته‪ ،‬وزعم وا أن ه روى ذل ك عن الن يب َ‬
‫أصحابه‪.‬‬
‫واحلديث الثالث‪ :‬حديث وائل بن حجر‪ ،‬وفيه زيادة على ما يف حديث عبداهلل بن عمر‪:‬‬
‫الس ُج ْو ِد‪.‬‬
‫(َأنَّهُ َكا َن َي ْرفَ ُع يَ َديْ ِه ِعْن َد ُّ‬
‫فمن محل الرفع هاهنا على أنه ندب أو فريضة‪ ،‬فمنهم من اقتصر به على اإلحرام فقط؛‬
‫ترجيحا حلديث عبداهلل بن مسعود وحديث الرباء بن عازب‪ ،‬وهو مذهب مالك ملوافقة العمل‬
‫ب ه‪ ،‬ومنهم من رجح ح ديث عبداهلل بن عم ر‪ ،‬ف رأى الرف ع يف املوض عني أع ين يف الرك وع ويف‬
‫االفتتاح لشهرته‪ ،‬واتفق اجلميع عليه‪ ،‬ومن كان رأيه من هؤالء أن الرفع فريضة؛ محل ذلك على‬
‫الفريض ة‪ ،‬ومن ك ان رأي ه أن ه ن دب؛ محل ذل ك ع ل الن دب‪ ،‬ومنهم من ذهب م ذهب اجلم ع‬
‫وق ال‪ .‬إن ه جيب أن جتم ع ه ذه الزي ادات بعض ها إىل بعض على م ا يف ح ديث وائ ل بن حج ر‪.‬‬
‫فإ ًذا‪ ،‬العلماء ذهبوا يف هذه اآلثار مذهبني‪ :‬إما مذهب الرتجيح‪ ،‬وإما مذهب اجلمع‪.‬‬
‫والس بب يف اختالفهم يف محل رف ع الي دين يف الص الة‪ :‬ه ل ه و على الن دب أو على‬
‫ص لَّى اهللُ َعلَْي ِه‬
‫الفرض؟ هو السبب الذي قلناه قبل من أن بعض الناس يرى أن األصل يف أفعاله َ‬
‫الس الَ َم أن حتمل على الوجوب حىت يدل الدليل على غري ذلك‪ ،‬ومنهم من يرى أن األصل ال‬ ‫َّ‬
‫يزاد فيما صح بدليل واضح من قول ثابت أو إججاع أنه من فرائض الصالة إال بدليل واضح‪،‬‬
‫وقد تقدم هذا من قولنا‪ ،‬وال معىن لتكرير الشيء الواحد مرات كثرية‪.‬‬
‫وأم ا احلد ال ذي ترف ع إلي ه الي دان‪ ،‬ف ذهب بعض هم إىل أن ه املنكب ان‪ ،‬وب ه ق ال مال ك‬
‫والشافعي ومجاعة‪ ،‬وذهب بعضهم إىل رفعها إىل األذنني‪ ،‬وبه قال أبو حنيفة‪ ،‬وذهب بعضهم‬
‫ص لَّى اهللُ َعلَْي ِه َّ‬
‫الس الَ َم ‪ ،‬إال أن أثبت م ا يف‬ ‫إىل رفعه ا إىل الص در‪ ،‬وك ل ذل ك م روي عن الن يب َ‬
‫ذل ك أن ه ك ان يرفعه ا ح ذو منكبي ه‪ ،‬وعلي ه اجلمه ور‪ ،‬والرف ع إىل األذنني أثبت من الرف ع إىل‬
‫الصدر وأشهر‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬االعتدال من الركوع‬
‫ذهب أبو حنيفة إىل أن االعتدال من الركوع ويف الركوع غري واجب‪ ،‬وقال الشافعي‪:‬‬
‫هو واجب‪ .‬واختلف أصحاب مالك‪ :‬هل ظاهر مذهبه يقتضي أن يكون سنة أو واجبً ا إذ مل‬
‫ينقل عنه نصى يف ذلك‪.‬‬
‫والسبب يف اختالفهم‪ :‬هل الواجب األخذ ببعض ما ينطلق عليه االسم‪ ،‬أم بكل ذلك‬
‫الشيء الذي ينطلق عليه االسم‪ ،‬فمن كان الواجب عنده األخذ ببعض ما ينطلق عليه االسم؛ مل‬
‫يشرتط االعتدال يف الركوع‪ ،‬ومن كان الواجب عنده األخذ بالكل اشرتط االعتدال‪ ،‬وقد صح‬
‫الس الَ َم أنه قال يف احلديث املتقدم للرجل الذي علمه فروض الصالة‪:‬‬ ‫ص لَّى اهللُ َعلَْي ِه َّ‬
‫عن النيب َ‬
‫فرض ا‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫ِئ ِ‬ ‫ِئ ِ‬
‫(ار َك ْع َحىَّت تَطْ َم َّن َراك ًع ا‪َ ،‬و ْارفَ ْع َحىَّت تَطْ َم َّن َراف ًع ا‪ .‬فالواجب اعتقاد كونه ً‬
‫ْ‬
‫احلديث ع ول ك ل من رأى أن األص ل ال حتم ل أفعال ه َعلَْي ِه الص الة و َّ‬
‫الس الَ َم يف س ائر أفع ال‬
‫الصالة مما مل ينص عليها يف هذا احلديث على الوجوب حىت يدل الدليل على ذلك‪ ،‬ومن قبل‬
‫هذا مل يروا رفع اليدين فرضا وال ما عدا تكبرية اإلحرام والقراءة من األقاويل اليت يف الصالة‪،‬‬
‫فتأمل هذا‪ ،‬فإنه أصل مناقض لألصل األول‪ ،‬وهو سبب اخلالف يف أكثر هذه املسائل‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬اجللوس‬
‫اختل ف الفقه اء يف هيئ ة اجلل وس‪ ،‬فق ال مال ك وأص حابه يفض ي بأليتي ه إىل األرض‪،‬‬
‫وينص ب رجل ه اليم ىن ويث ين اليس رى‪ ،‬وجل وس املرأة عن ده كجل وس الرج ل‪ .‬وق ال أب و حنيف ة‬
‫وأص حابه‪ :‬ينص ب الرج ل اليم ىن‪ ،‬ويقع د على اليس رى‪ .‬وف رق الش افعي بني اجللس ة الوس طى‬
‫واألخرية‪ ،‬فقال يف الوسطى مبثل قول أيب حنيفة‪ ،‬ويف األخرية مبثل قول مالك‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم يف ذلك تعارض اآلثار‪ ،‬وذلك أن يف ذلك ثالثة آثار‪:‬‬
‫أح))دها‪ :‬وه و ث ابت باتف اق ح ديث أيب محي د الس اعدي ال وارد يف وص ف ص الته َعلَْي ِه‬
‫ب الْيُمْىَن ‪َ ،‬وِإذَا‬ ‫ِِ‬ ‫السالَ َم‪ ،‬وفيه‪( :‬وِإذَا َجلَس يِف َّ ِ‬
‫صَ‬‫س َعلَى ِر ْجله الْيُ ْسَرى َونَ َ‬ ‫الر ْك َعَتنْي َجلَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الصالة و َّ‬
‫ب الْيُمْىَن َو َق َع َد َعلَى َم ْق َع َدتِِه‪.‬‬ ‫اَأْلخير ِة قَد ِ ِ‬
‫جلَس فِـي َّ ِ ِ‬
‫صَ‬‫َّم ِر ْجله الْيُ ْس ِرى َونَ َ‬
‫الر ْك َعة ْ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫‪29‬‬
‫ب الْيُمْىَن َو َق َع َد‬ ‫ص‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫الص الَِ‬
‫ة‬ ‫َّ‬ ‫ـي‬ ‫والثاني‪ :‬حديث وائل بن حجر‪ ،‬وفيه‪َ( :‬أنَّه َك ا َن ِإ َذا َقع َد فِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َعلَى اْليُ ْسَرى)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫والثالث‪ :‬ما رواه مالك عن عبداهلل بن عمر أنه قال‪( :‬إمَّنَا سنَّةُ َّ ِ‬
‫ك‬‫ب ِر ْجلَ َ‬ ‫الصالَة َأ ْن َتْنص َ‬ ‫ُ‬
‫الص الَِة)‪ .‬ويف روايت ه عن‬ ‫اْليُمْىَن َو ُتثْيِن َ اْليُ ْس َرى)‪ ،‬وه و م دخل يف املس ند لقول ه في ه‪( :‬إمَّنَ ا ُس نَّةُ َّ‬
‫القاسم بن حممد أنه أراهم اجللوس يف التشهد‪ ،‬فنصب رجله اليمىن وثىن اليسرى وجلس على‬
‫وركه األيسر ومل جيلس على قدم ه‪ ،‬مث قال‪ :‬أراين هذا عبداهلل بن عبداهلل بن عمر‪ ،‬وحدثين أن‬
‫أباه كان يفعل ذلك‪.‬‬
‫فذهب مالك مذهب الرتجيح هلذا احلديث‪ .‬وذهب أبو حنيفة مذهب الرتجيح حلديث‬
‫وائ ل‪ .‬وذهب الش افعي م ذهب اجلم ع ع ل ح ديث أيب محي د‪ .‬وذهب الط ربي م ذهب التخي ري‪.‬‬
‫وقال‪ :‬هذه اهليئات كلها جائزة وحسن فعلها لثبوهتا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو‬
‫ق ول حسن‪ ،‬فإن األفع ال املختلف ة أوىل أن حتم ل على التخيري منها عل التع ارض‪ ،‬وإنا يتصور‬
‫ذلك التعارض أكثر ذلك يف الفعل مع القول أو يف القول مع القول‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬اجللسة الوسطى واألخرية‬
‫اختل ف العلم اء يف اجللس ة الوس طى واألخ رية‪ :‬ف ذهب األك ثر يف الوس طى إىل أهنا س نة‬
‫وليست بفرض‪ ،‬وشذ قوم وقالوا‪ :‬إهنا فرض‪ .‬وكذلك ذهب اجلمهور يف اجللسة األخرى إىل‬
‫أهنا فرض‪ ،‬وشذ قوم فقالوا‪ :‬إهنا ليست بفرض‪.‬‬
‫والس بب يف اختالفهم ه و‪ :‬تع ارض مفه وم األح اديث‪ ،‬وقي اس إح دى اجللس تني على‬
‫س َحىَّت تَطْ َمِئ َّن َجالِ ًس ا)‪ .‬فوجب اجللوس‬ ‫الثانية‪ .‬وذلك‪ :‬أن يف حديث أيب هريرة املتقدم‪ِ :‬‬
‫(اجل ْ‬
‫ْ‬
‫على ظاهر هذا احلديث يف الصالة كلها‪ ،‬فمن أخذ هبذا قال‪ :‬إن اجللوس كله فرض‪ ،‬وملا جاء‬
‫يف حديث ابن حُبَْينَةَ الثابت‪َ( :‬أنَّهُ عليه الصالة والسالم أسقط اجللسة الوسطى و جيربها وسجد‬
‫هلا‪ ،‬وثبت عن ه أن ه أس قط ركع تني فج رب مها‪ ،‬وك ذلك ركع ة ‪.‬فهم الفقه اء من ه ذا الف رق بني‬
‫فرض ا بإمجاع‪ ،‬ف وجب أن ال‬
‫حكم اجللس ة الوس طى وحكم الركع ة‪ ،‬وك انت عن دهم الركع ة ً‬
‫‪30‬‬
‫فرض ا‪ ،‬فهذا هو الذي أوجب أن فرق الفقهاء بني اجللستني‪ ،‬ورأوا أن‬
‫تكون اجللسة الوسطى ً‬
‫س جود الس هو إمنا يك ون للس نن دون الف روض‪ ،‬ومن رأى أهنا ف رض ق ال‪ :‬الس جود للجلس ة‬
‫الوسطى شيء خيصها دون سائر الفرائض‪ ،‬وليس يف ذلك دليل على أهنا ليست بفرض‪ .‬وأما‬
‫من ذهب إىل أهنما كليهما سنة‪ ،‬فقاس اجللسة األخرية على الوسطى‪ ،‬بعد أن اعتقد يف الوسطى‬
‫بالدليل الذي اعتقد به اجلمهور أهنا سنة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫المسألة الخامسة‪ :‬وضع اليدين إحدامها على األخرى‬
‫اختلف العلماء يف وضع اليدين إحدامها على األخرى يف الصالة‪ ،‬فكره ذلك مالك يف‬
‫الفرض‪ ،‬وأجازه يف النفل‪ .‬ورأى قوم أن هذا الفعل من سنن الصالة وهم اجلمهور‪.‬‬
‫والس بب يف اختالفهم أن ه ق د ج اءت آث ار ثابت ة نقلت فيه ا ص فة ص الته علي ه الص الة‬
‫أيض ا أن الن اس ك انوا‬
‫والس الم‪ ،‬ومل ينق ل فيه ا أن ه ك ان يض ع ي ده اليم ىن على اليس رى‪ ،‬وثبت ً‬
‫أيض ا من صفة صالته عليه الصالة والسالم يف حديث أيب محيد‪.‬‬
‫يؤمرون بذلك‪ ،‬وورد ذلك ً‬
‫فرأى قوم أن اآلثار اليت أثبتت ذلك‪ ،‬اقتضت زيادة عل اآلثار اليت مل تنقل فيها هذه الزيادة‪،‬‬
‫وأن الزي ادة جيب أن يص ار إليه ا‪ .‬ورأى ق وم أن األوجب املص ري إىل اآلث ار ال يت ليس فيه ا ه ذه‬
‫الزي ادة‪ ،‬ألهنا أك ثر‪ ،‬ولك ون ه ذه ليس ت مناس بة ألفع ال الص الة‪ ،‬وإمنا هي من ب اب االس تعانة‪،‬‬
‫ول ذلك أجازه ا مال ك يف النف ل ومل جيزه ا يف الف رض‪ ،‬وق د يظه ر من أمره ا أهنا هيئ ة تقتض ي‬
‫اخلضوع‪ ،‬وهو األوىل هبا‪.‬‬
‫المسألة السادسة‪ :‬النهوض من السجود‬
‫اخت ار ق وم إذا ك ان الرج ل يف وت ر من ص الته أال ينهض ح ىت يس توي قاع ًدا‪ ،‬واخت ار‬
‫آخ رون أن ينهض من س جوده نفس ه‪ ،‬وب األول ق ال الش افعي ومجاع ة‪ ،‬وبالث اين ق ال مال ك‬
‫ومجاعة‪.‬‬
‫وسبب اخلالف أن يف ذلك حديثني خمتلفني‪ :‬أحدها‪ :‬حديث مالك بن احلويرث الثابت‪:‬‬
‫ض َحىَّت‬ ‫اهلل ص لَّى اهلل علَي ِه وس لَّم يص لِّي‪ ،‬فَ ِإ َذا َك ا َن يِف ِوتْ ٍر ِمن ِِ‬
‫(َأنَّه رَأى رس و ُل ِ‬
‫ص اَل ته مَلْ َيْن َه ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ ُْ‬
‫يستَ ِو ِ‬
‫ي قَاع ًدا)‪ .‬ويف حديث أيب محيد يف صفة صالته عليه الصالة والسالم‪َ( :‬أنَّهُ لَ َّما َرفَ َع َرْأ َس هُ‬ ‫َْ َ‬
‫ُألوىَل قَ َام َومَلْ َيَت َو َّر ْك)‪ .‬فاخذ باحلديث األول الشافعي‪ ،‬وأخذ‬ ‫الس ج َد ِة الثَّانِي ِة ِمن َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ْك َع ة اْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫م َن َّ ْ‬
‫بالثان مالك‪.‬‬
‫وكذلك اختلفوا إذا سجد‪ :‬هل يضع يديه قبل ركبتيه‪ ،‬أو ركبتيه قبل يديه؟ ومذهب‬
‫مالك وضع الركبتني قبل اليدين‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫ص لَّى اهللُ َعلَْي ِه َو َس لَّ َم‬ ‫ِ‬
‫ت َر ُس ْو ُل اهلل َ‬ ‫(رَأيْ ُ‬
‫وسبب اختالفهم أن يف حديث ابن حجر قال‪َ :‬‬
‫ض َرفَ َع يَ َديْ ِه َقْب َل ُر ْكبََتْي ِه)‪ ،‬وعن أيب هريرة أن النيب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َع ُر ْكبََتْي ه َقْب َل يَ َديْ ه‪َ ،‬وِإذَا َن َه َ‬
‫ِإذَا َس َج َد َو َ‬
‫ض ْع يَ َديْ ِه َقْب َل‬ ‫ِ‬
‫َأح ُد ُك ْم فَالَ َيْب ُر ُك َك َم ا َيْب ُر ُك الْبَعْي ُر‪َ ،‬ولْيَ َ‬ ‫ِإ‬
‫عليه الصالة والسالم قال‪ ( :‬ذَا َس َج َد َ‬
‫ُر ْكبََتْي ِه)‪ ،‬وكان عبداهلل بن عمر يضع يديه قبل ركبتيه‪ .‬وقال بعض أهل احلديث‪ :‬حديث وائل‬
‫بن حجر أثبت من حديث أيب هريرة‪.‬‬
‫المسألة السابعة‪ :‬السجود عل سبعة أعضاء‬
‫اتف ق العلم اء على أن الس جود يك ون على س بعة أعض اء‪ :‬الوج ه والي دين والركب تني‬
‫ض ٍاء‪ ،‬واختلفوا‬ ‫َأس ُج َد َعلَى َس ْب َع ِة ْ‬
‫َأع َ‬ ‫ت َأ ْن ْ‬
‫ِ‬
‫وأطراف القدمني‪ ،‬لقوله عليه الصالة والسالم‪ُ( :‬أم ْر ُ‬
‫فيمن سجد على وجهه ونقصه السجود على عضو من تلك األعضاء‪ :‬هل تبطل صالته أم ال؟‬
‫فقال قوم‪ :‬ال تبطل صالته؛ ألن اسم السجود إمنا يتناول الوجه فقط‪ .‬وقال قوم‪ :‬تبطل إن مل‬
‫يسجد على السبعة األعضاء للحديث الثابت‪.‬‬
‫ومل خيتلفوا أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه‪ ،‬واختلفوا فيمن سجد‬
‫على أح دمها‪ ،‬فق ال مال ك‪ :‬إن س جد على جبهت ه دون أنف ه ج از‪ ،‬وإن س جد على أنف ه دون‬
‫جبهت ه مل جيز‪ ،‬وق ال أب و حنيف ة‪ :‬ب ل جيوز ذل ك‪ .‬وق ال الش افعي‪ :‬ال جيوز إال أن يس جد عليه ا‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫ً‬
‫وسبب اختالفهم‪ :‬هل الواجب هو امتثال بعض ما ينطلق عليه االسم أم كله؟‪ ،‬وذلك‬
‫َأس ُج َد َعلَى َس ْب َع ِة‬
‫ت َأ ْن ْ‬
‫ِ‬
‫أن يف حديث النيب عليه الصالة والسالم الث ابت عن ابن عباس‪ُ( :‬أم ْر ُ‬
‫ض ٍاء) فذكر منها الوجه‪.‬‬
‫َأع َ‬
‫ْ‬
‫فمن رأى أن ال واجب ه و بعض م ا ينطل ق علي ه االس م‪ ،‬ق ال‪ :‬إن س جد ع ل اجلبه ة أو‬
‫األن ف أج زأه‪ .‬ومن رأى أن اس م الس جود يتن اول من س جد على اجلبه ة وال يتن اول من س جد‬
‫عل األنف؛ أجاز السجود على اجلبهة دون األنف‪ ،‬وهذا كأنه حتديد للبعض الذي هو امتثاله‪،‬‬
‫هو الواجب مما ينطلق عليه االسم‪ ،‬وكان هذا على مذهب من يفرق بني أبعاض الشيء‪ ،‬فرأى‬
‫‪33‬‬
‫أن بعضها يقوم يف امتثاله مقام الوجوب وبعضها ال يقوم مقامه‪ ،‬فتأمل هذا فإنه أصل يف هذا‬
‫الباب‪ ،‬وإال جاز لقائل أن يقول‪ :‬إنه إن مس من أنفه األرض مثقال خردلة مَتَّ سجوده‪.‬‬
‫وأم ا من رأى أن ال واجب ه و امتث ال ك ل م ا ينطل ق علي ه االس م‪ ،‬ف الواجب عن ده أن‬
‫يسجد على اجلبهة واألنف‪ .‬والشافعي يقول‪ :‬إن هذا االحتمال الذي من قبل اللفظ قد أزاله‬
‫فعل ه علي ه الص الة والس الم وبين ه‪ ،‬فإن ه ك ان يس جد على األن ف واجلبه ة‪ ،‬ملا ج اء من‪َ( :‬أنَّهُ‬
‫ات َو َعلَى َجْب َهتِ ِه َوَأنْ ِف ِه َأثَ َر الطِّنْي ِ َوالْ َم ِاء)‪ ،‬فوجب أن يكون فعله‬
‫الص لَو ِ‬ ‫ف ِمن ٍ ِ‬
‫ص اَل ة م َن َّ َ‬
‫ص َر َ ْ َ‬
‫انْ َ‬
‫مفس راً للح ديث اجملم ل‪ .‬ق ال أب و عم ر بن عب دالرب‪ :‬وق د ذك ر مجاع ة من احلف اظ ح ديث ابن‬
‫عباس‪ ،‬فذكروا فيه األنف واجلبهة‪ .‬قال القاضي أبو الوليد‪ :‬وذكر بعضهم اجلبهة فقط‪ ،‬وكال‬
‫الروايتني يف كتاب مسلم‪ ،‬وذلك حجة ملالك‪.‬‬
‫أيضا‪ :‬هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على الذي‬
‫واختلفوا ً‬
‫يوض ع عليه ا الوج ه‪ ،‬أم ليس ذل ك من ش رطه؟ فق ال مال ك‪ :‬ذل ك من ش رط الس جود أحس به‬
‫شرط متامه‪ .‬وقالت مجاعة‪ :‬ليس ذلك من شرط السجود‪.‬‬
‫المسألة الثامنة‪ :‬النهي عن اإلقعاء‬
‫اتف ق العلم اء على كراهي ة اإلقع اء يف الص الة‪ ،‬ملا ج اء يف احلديث من النهي‪َ) :‬أ ْن يُ ْقعِ َي‬
‫ب) إال أهنم اختلفوا فيما يدل عليه االسم‪ ،‬فبعضهم رأى أن‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ى‬ ‫ع‬ ‫الرج ل يِف ص اَل تِِه َكم ا ي ِ‬
‫ق‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ ُ ُ َ‬
‫اإلقع اء املنهي عن ه ه و جل وس الرج ل على أليتي ه يف الص الة ناص بًا فخذي ه مث ل إقع اء الكلب‬
‫والس بُ ِع‪ ،‬وال خالف أن هذه اهليئة ليست من هيئات الصالة‪ .‬وقوم رأوا أن معىن اإلقعاء الذي‬
‫َّ‬
‫هني عن ه ه و‪ :‬أن جيع ل أليت ه على عقيب ه بني الس جدتني‪ ،‬وأن جيلس ع ل ص دور قدمي ه‪ ،‬وه و‬
‫مذهب مالك‪ ،‬ملا روي عن ابن عمر أنه ذكر أنه إمنا كان يفعل ذلك؛ ألنه كان يشتكي قدميه‪.‬‬
‫وأما ابن عباس فكان يقول‪ :‬اإلقعاء على القدمني يف السجود عل هذه الصفة هو سنة نبيكم‪،‬‬
‫خرجه مسلم‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫وس بب اختالفهم ه و ت ردد اس م اإلقع اء املنهي عن ه يف الص الة بني أن ي دل على املع ىن‬
‫اللغ وي‪ ،‬أو ي دل ع ل مع ىن ش رعي؛ أع ين‪ :‬على هيئ ة خص ها الش رع هبذا االس م‪ .‬فمن رأى أن ه‬
‫ي دل عل املع ىن اللغوي قال‪ :‬هو إقع اء الكلب‪ ،‬ومن رأى أنه ي دل على معىن ش رعي قال‪ :‬إمنا‬
‫أري د ب ذلك إح دى هيئ ات الص الة املنهي عنه ا‪ ،‬وملا ثبت عن ابن عم ر‪ :‬أن قع ود الرج ل على‬
‫صدور قدميه ليس من سنة الصالة‪ ،‬سبق إىل اعتقاده أن هذه اهليئة هي اليت أريد باإلقعاء املنهي‬
‫عنه‪ .‬وهذا ضعيف‪ ،‬فإن األساء اليت مل تثبت هلا معان شرعية جيب أن حتمل على املعىن اللغوي‬
‫حىت يثبت هلا معىن شرعى‪ ،‬خبالف األمر يف األمساء اليت تثبت هلا معان شرعية‪ ،‬أعين‪ :‬أنه جيب‬
‫أن حيمل على املعاين الشرعية حىت يدل الدليل عل املعىن اللغوي‪ ،‬مع أنه قد عارض حديث ابن‬
‫عمر يف ذلك حديث ابن عباس‪.‬‬

‫الباب الثاني من الجملة الثالثة‪ :‬صالة الجماعة‬


‫وه ذا الب اب الكالم احملي ط بقواع ده في ه فص ول س بعة‪ :‬أح دها‪ :‬يف معرف ة حكم ص الة‬
‫اجلماع ة‪ .‬والث اين‪ :‬يف معرف ة ش روط اإلمام ة‪ ،‬ومن أوىل بالتق دمي‪ ،‬وأحك ام اإلم ام اخلاص ة ب ه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬يف مق ام املأموم من اإلمام‪ ،‬واألحكام اخلاصة باملأمومني‪ .‬الرابع‪ :‬يف معرفة ما يتبع فيه‬
‫املأموم اإلمام مما ليس يتبعه‪ .‬اخلامس‪ :‬يف صفة االتباع‪ .‬السادس‪ :‬فيا حيمله اإلمام عن املأمومني‪.‬‬
‫السابع‪ :‬يف األشياء اليت إذا فسدت هلا صالة اإلمام يتعدى الفساد إىل املأمومني‪.‬‬

‫الفصل األول‪ :‬في معرفة حكم صالة الجماعة‬


‫يف ه ذا الفص ل مس ألتان‪ :‬إح ))داهما‪ :‬ه ل ص الة اجلماع ة واجب ة على من مسع الن داء أم‬
‫ليست بواجبة‪ .‬املسألة الثانية‪ :‬إذا دخل الرجل املسجد وقد صلى‪ ،‬هل جيب عليه أن يصلي مع‬
‫اجلماعة الصالة اليت قد صالها أم ال؟‬
‫أما المسألة األولى‪ :‬وجوب اجلماعة على من مسع النداء‬
‫‪35‬‬
‫فإن العلماء اختلفوا فيها‪ ،‬فذهب اجلمهور إىل أهنا سنة أو فرض على الكفاية‪ .‬وذهبت‬
‫الظاهرية إىل أن صالة اجلماعة فرض متعني على كل مكلف‪.‬‬
‫والس بب يف اختالفهم تع ارض مفهوم ات اآلث ار يف ذل ك‪ ،‬وذل ك أن ظ اهر قول ه علي ه‬
‫س َو ِع ْش ِريْ َن َد َر َج ةً) أو (بِ َس ْب ٍع َو ِع ْش ِريْ َن‬
‫ص اَل َة اْل َف ِّذ خِب َ ْم ِ‬
‫ض ُل َ‬
‫الصالة والسالم‪( :‬صاَل ةُ اجْل م ِ‬
‫اعة َت ْف ُ‬
‫ََ َ‬ ‫َ‬
‫َد َر َجةً)‪ ،‬يعين‪ :‬أن الصالة يف اجلماعات من جنس املندوب إليه‪ ،‬وكأهنا كمال زائد على الصالة‬
‫الواجبة‪ ،‬فكأنه قال عليه الصالة والسالم‪ :‬صالة اجلماعة أكمل من صالة املنفرد‪ ،‬والكال إمنا‬
‫ه و ش يء زائ د ع ل اإلج زاء‪ .‬وح ديث األعمى املش هور‪ ،‬حني اس تأذنه يف التخل ف عن ص الة‬
‫اجلماعة ألنه ال قائد له‪ ،‬فرخص له يف ذلك‪ ،‬مث قال له عليه الصالة والسالم ‪ ،‬قال‪َ( :‬أتَ ْس َم ُع‬
‫ص ةً)‪ ،‬هو كالنص يف وجو هبا مع عدم العذر‪ ،‬خرجه‬ ‫ِ‬
‫ك ُر ْخ َ‬ ‫ِّداءَ؟) قال‪:‬نعم‪ ،‬قال‪( :‬اَل َأج ُد لَ َ‬ ‫الن َ‬
‫مسلم‪ .‬ومما يقوي هذا حديث أيب هريرة املتفق على صحته‪ ،‬وهو أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫الص الَِة َفُي َؤ ذَّ َن‬
‫ب‪ ،‬مُثَّ ُآم َر بِ َّ‬ ‫ت َأ ْن ُ حِب ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫وس لم ق ال‪ِ :‬‬
‫آم َر َطَب َفيُ ْحطَ َ‬ ‫(والَّذي َن ْفس ي بِيَ ده؛ لََق ْد مَهَ ْم َ‬ ‫َ‬
‫ُأحِّر َق َعلَْي ِه ْم بُُي ْوَت ُه ْم‪َ ،‬والَّ ِذي َن ْف ِس ي بِيَ ِد ِه؛‬ ‫ٍ‬ ‫ُأخ الِ َ ِإ‬
‫ف ىَل ِر َج ال فَ َ‬ ‫َّاس‪ ،‬مُثَّ َ‬
‫هَلَا‪ ،‬مُثَّ َُأمَر َر ُجالً َفَي ُؤ ُّم الن َ‬
‫َأح ُد ُه ْم َأنَّهُ جَيِ ُد َعظْ ًم ا مَسِ ْينًا َْأو ِم ْر َم اَتنْي ِ َح َس نََتنْي ِ لَ َش ِه َد الْعِ َش اءَ)‪ ،‬وحديث ابن مسعود‪،‬‬ ‫لَ ْو َي ْعلَ ْم َ‬
‫الص الَِة‬
‫وقال فيه‪ِ( :‬إ َّن َر ُس ْو َل اهلل صلى اهلل عليه وسلم َعلَّ َمنَ ا ُس نَ َن اهْلُ َدى‪َ ،‬وِإ َّن ِم ْن ُس نَ ِن اهْلُ َدى َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫(ولَ ْو َتَر ْكتُ ْم ُسنَّةَ نَبِيِّ ُك ْم لَ َ‬
‫ضلَْلتُ ْم)‪.‬‬ ‫فـي الْ َم ْسجد الذي يَُؤ ذَّ ُن فْيه)‪ ،‬ويف بعض رواياته‪َ :‬‬
‫فسلك كل واحد من هذين الفريقني مسلك اجلمع‪ ،‬بتأويل حديث خمالفه وصرفه إىل‬
‫ظ اهر احلديث ال ذي متس ك ب ه‪ .‬فأم ا أه ل الظ اهر ف إهنم ق الوا‪ :‬إن املفاض لة ال ميتن ع أن تق ع يف‬
‫الواجبات أنفسها‪ :‬أي‪ :‬أن صالة اجلماعة يف حق من فرضه صالة اجلماعة تفضل صالة املنفرد‬
‫يف ح ق من س قط عن ه وج وب ص الة اجلماع ة ملك ان الع ذر بتل ك ال درجات املذكورة‪ .‬ق الوا‪:‬‬
‫اع ِد‬
‫وعلى هذا فال تعارض بني احلديثني‪ ،‬واحتجوا لذلك بقوله عليه الصالة والسالم‪( :‬ص اَل ةُ الْ َق ِ‬
‫َ‬
‫صاَل ِة الْ َقاِئ ِم)‪.‬‬ ‫علَى الن ِ ِ‬
‫ِّصف م ْن َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬

‫‪36‬‬
‫وأما أولئك فزعموا أنه ميكن أن حيمل حديث األعمى على نداء يوم اجلمعة‪ ،‬إذ ذلك هو‬
‫النداء الذي جيب على من مسعه اإلتيان إليه باتفاق‪ .‬وهذا فيه بعد‪ ،‬واهلل أعلم؛ ألن نص احلديث‬
‫هو أن أبا هريرة قال‪ :‬أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رجل أعمى‪ ،‬فقال يا رسول اهلل‪ ،‬إنه‬
‫ليس لـي قائد يقودين إىل املسجد‪ ،‬فسأل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يرخص له فيصلي‬
‫الص الَِة؟)‪ ،‬فق ال‪ :‬نعم‪ ،‬ق ال‪:‬‬ ‫ِّداءَ بِ َّ‬
‫(ه ْل تَ ْس َم ُع الن َ‬
‫يـي بيت ه‪ ،‬ف رخص ل ه‪ ،‬فلم ا وىل دع اه‪ ،‬فق ال‪َ :‬‬
‫ب)‪ .‬وظاهر هذا يبعد أن يفهم منه نداء اجلمعة‪ ،‬مع أن اإلتيان إىل صالة اجلمعة واجب‬ ‫ِ‬
‫(فَ َأج ْ‬
‫على ك ل من ك ان يف املص ر وإن مل يس مع الن داء‪ ،‬وال أع رف يف ذل ك خالفً ا‪ .‬وع ارض ه ذا‬
‫َأن ِعْتب ا َن بن مالِ ٍ‬
‫ك َك ا َن َي ُؤ ُّم‬ ‫أيض ا حديث عتبان بن مالك املذكور يف (املوطأ)‪ ،‬وفيه َّ َ ْ َ َ‬ ‫احلديث ً‬
‫ال لَِر ُس ْو ِل اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ِ :‬إنَّهُ تَ ُك ْو ُن الظُّْل َم ةُ َوالْ َمطَ ُر َو َّ‬
‫الس ْي ُل َوَأنَا‬ ‫َأع َمى‪َ ،‬وَأنَّهُ قَ َ‬‫َو ُه َو ْ‬
‫ص لَّى‪ .‬فَ َج اءَهُ َر ُس ْو ُل اهلل صلى‬ ‫خَّتِ‬ ‫ِِ‬
‫ص ِّل يَا َر ُس ْو َل اهلل فـي َبْييِت َم َكانًا َأ ُذهُ ُم َ‬ ‫ص ِر‪ ،‬فَ َ‬
‫ض ِر ْي ُر الْبَ َ‬
‫َر ُج ٌل َ‬
‫صلَّى فِْي ِه َر ُس ْو ُل اهلل‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬
‫َأش َار لَهُ ِإىَل َم َكان م َن اْ َلبْيت فَ َ‬ ‫ُأصلِّ َي؟) فَ َ‬ ‫اهلل عليه وسلم فقال‪َ( :‬أيْ َن حُتِ ُّ‬
‫ب َأ ْن َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم)‪.‬‬
‫وأما المسألة الثانية‪ :‬من دخل على مجاعة وكان قد صلى‬
‫منفردا‪،‬‬
‫فإن الذي دخل املسجد وقد صل ال خيلو من أحد وجهني‪ :‬إما أن يكون صلى ً‬
‫منفردا فقال قوم‪ :‬يعيد معهم كل الصلوات إال‬
‫وإما أن يكون صلى يف مجاعة‪ .‬فإن كان صلى ً‬
‫املغرب فقط‪ ،‬وممن قال هبذا القول مالك وأصحابه‪ .‬وقال أبو حنيفة‪ :‬يعيد الصلوات كلها إال‬
‫املغرب والعصر‪ .‬وقال األوزاعي‪ .‬إال املغرب والصبح‪ .‬رقال أبر ثور‪ :‬إال العصر والفجر‪ .‬وقال‬
‫الشافعي‪ .‬يعيد الصلوات كلها‪ ،‬وإن اتفقوا على إجياب إعادة الصالة عليه باجلملة حلديث بسر‬
‫بن حممد عن أبيه‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال له حني دخل املسجد ومل يصل معه‪:‬‬
‫ت بَِر ُج ٍل ُم ْس لِ ٍم؟) فق ال‪ :‬بلى ي ا رس ول اهلل‪ ،‬ولك ين ص ليت فـي‬ ‫ص ِّل َم َع الن ِ‬
‫َّاس؟ َألَ ْس َ‬ ‫ك تُ َ‬
‫(م ا لَ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ت)‪.‬‬‫صلَّْي َ‬ ‫َّاس َوِإ ْن ُكْن َ‬
‫ت قَ ْد َ‬ ‫ص ِّل َم َع الن ِ‬ ‫أهلي‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪ِ( :‬إ َذا جْئ َ‬
‫ت فَ َ‬

‫‪37‬‬
‫فاختلف الناس الحتال ختصيص هذا العموم بالقياس أو بالدليل‪ :‬فمن محله على عمومه؛‬
‫أوجب علي ه إع ادة الص لوات كله ا‪ ،‬وه و م ذهب الش افعي‪ .‬وأم ا من اس تثىن من ذل ك ص الة‬
‫املغرب فقط؛ فإنه خصص العموم بقياس الشبه وهو مالك رمحه اهلل‪ ،‬وذلك أنه زعم أن صالة‬
‫املغ رب هي وت ر‪ ،‬فل و أعي دت ألش بهت ص الة الش فع ال يت ليس ت ب وتر؛ ألهنا ك انت تك ون‬
‫مبجم وع ذل ك س ت ركع ات‪ ،‬فكأهنا ك انت تنتق ل من جنس ها إىل جنس ص الة أخ رى وذل ك‬
‫مبطل هلا‪ .‬وهذا القياس فيه ضعف؛ ألن السالم قد فصل بني األوتار‪ ،‬والتمسك بالعموم أقوى‬
‫من االستثناء هبذا النوع من القياس‪ .‬وأقوى من هذا ما قاله الكوفيون من أنه إذا أعادها يكون‬
‫قد أوتر مرتني‪ ،‬وقد جاء يف األثر‪( :‬اَل ِو ْت َر ِان فِـي لَْيلَ ٍة)‪ ،‬وأما أبو حنيفة فإنه قال‪ :‬إن الصالة‬
‫الثانية تكون له نفاًل ‪ ،‬فإن أعاد العصر يكون قد تنفل بعد العصر‪ ،‬وقد جاء النهي عن ذلك‪،‬‬
‫فخصص العصر هبذا القياس واملغ رب بأهنا وتر‪ ،‬والوتر ال يعاد‪ ،‬وهذا قياس جيد إن سلم هلم‬
‫الشافعي أن الصالة األخرية هلم نفل‪ .‬وأما من فرق بني العصر والصبح يف ذلك؛ فألنه مل ختتلف‬
‫اآلثار يف النهي عن الصالة بعد الصبح‪ ،‬واختلف يف الصالة بعد العصر كما تقدم‪ ،‬وهو قول‬
‫األوزاعي‪.‬‬
‫وأم ا إذا ص لى ىف مجاع ة‪ ،‬فه ل يعي د يف مجاع ة أخ رى؟ ف أكثر الفقه اء على أن ه ال يعي د‪،‬‬
‫منهم مال ك وأب و حنيف ة‪ ،‬وق ال بعض هم‪ :‬ب ل يعي د‪ ،‬وممن ق ال هبذا الق ول أمحد وداود وأه ل‬
‫الظاهر‪.‬‬
‫والسبب يف اختالفهم‪ :‬تعارض مفهوم اآلثار يف ذلك‪ ،‬وذلك‪ :‬أنه ورد عنه عليه الصالة‬
‫اع ٍة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫صاَل ةٌ فـي َي ْوم َمَّرَتنْي ِ )‪ ،‬وروي عنه‪َ( :‬أنَّهُ ََأم َر الَّذيْ َن َ‬
‫ص لُّ ْوا فـي مَجَ َ‬ ‫صلِّى َ‬
‫والسالم أنه قال‪( :‬اَل تُ َ‬
‫وأيضا فإن ظاهر حديث بُ ْس ٍر يوجب اإلعادة على كل مصل إذا‬ ‫َأ ْن يعِي ُدوا مع اجْل م ِ ِ ِ‬
‫اعة الثَّانيَة)‪ً ،‬‬ ‫ُ ْ ْ َ َ ََ َ‬
‫جاء املسجد فإن قوته قوة العموم‪ ،‬واألكثر على أنه إذا ورد العام على سبب خاص ال يقتصر‬
‫به على سببه‪ ،‬وصالة معاذ مع النيب عليه الصالة والسالم مث كان يؤم قومه يف تلك الصالة فيه‬
‫دليل على جواز إعادة الصالة يف اجلماعة‪ .‬فذهب الناس يف هذة اآلثار مذهب اجلمع ومذهب‬
‫‪38‬‬
‫ص ِّل‬
‫الرتجيح‪ :‬أما من ذهب مذهب الرتجيح فإنه أخذ بعموم قوله عليه الصالة والسالم‪( :‬اَل تُ َ‬
‫اح َدةٌ فِـي َي ْوٍم َم َّرَتنْي ِ ) ومل يس تث ِن من ذل ك إال ص الة املنف رد فق ط لوق وع االتف اق‬
‫ص اَل ةٌ و ِ‬
‫َ َ‬
‫صلِّى َ‬
‫ص اَل ةٌ‬ ‫عليها‪.‬وأما من ذهب مذهب اجلمع فقالوا‪ :‬إن معىن قوله عليه الصالة والسالم‪( :‬اَل تُ َ‬
‫اح َدةٌ فِـي َي ْوٍم َم َّرَتنْي ِ ) إمنا ذلك‪ :‬أن ال يصلي الرجل الصالة الواحدة بعينها مرتني‪ ،‬يعتقد يف‬
‫وِ‬
‫َ‬
‫كل واحدة منهما أهنا فرض‪ ،‬بل يعتقد يف الثانية أهنا زائدة على الفرض‪ ،‬ولكنه مأمور هبا‪ .‬وقال‬
‫ق وم‪ :‬ب ل مع ىن ه ذا احلديث إمنا ه و للمنف رد؛ أع ين‪ :‬أن ال يص لى الرج ل املنف رد ص الة واح دة‬
‫بعينها مرتني‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬في معرفة شروط اإلمامة‪ ،‬ومن أولى بالتقديم‪ ،‬وأحكام اإلمام الخاصة به‪.‬‬
‫ويف هذا الفصل مسائل أربع‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬بن هو إوي ياالمامة‬
‫اختلف وا فيمن أوىل باإلمام ة‪ ،‬فق ال مال ك‪ :‬ي ؤم الق وم أفقههم ال أق رؤهم‪ ،‬وب ه ق ال‬
‫الشافعي‪ ،‬وقال أبو حنيفة والثوري وأمحد‪ :‬يؤم القوم أقرؤهم‪.‬‬
‫(ي ُؤ ُّم الْ َق ْو ُم‬
‫والسبب يف هذا االختالف اختالفهم يف مفهوم قوله عليه الصالة والسالم‪َ :‬‬
‫الس ن َِّة‪ ،‬فَِإ ْن َك انُوا فِـي ُّ ِ‬‫اهلل‪ ،‬فَِإ ْن َك انُ ْوا فِـي الْ ِق َراءَ ِة َس َواءً فََأ ْعلَ ُم ُه ْم بِ ُّ‬
‫اب ِ‬ ‫َأْقرُؤ ُهم لِ ِكتَ ِ‬
‫الس نَّة َس َواءٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫الر ُج َل فِـي‬ ‫فََأقْ ِد ُم ُه ْم ِه ْج َر ًة‪ ،‬فَ ِإ ْن َك انُ ْوا فِـي اهْلِ ْج َر ِة َس َواءٌ‪ ،‬فََأقْ َد ُم ُه ْم ِإ ْس اَل ًما‪َ ،‬واَل َي ُؤ ُّم َّ‬
‫الر ُج ُل َّ‬
‫ُس ْلطَانِِه‪َ ،‬والَ َي ْقعُ ْد فِـي َبْيتِ ِه َعلَى تَ ْك ِر َمتِ ِه ِإاَّل بِِإ ْذنِ ِه)‪ .‬وه و ح ديث متف ق على ص حته‪ .‬لكن‬
‫اختل ف العلم اء يف مفهوم ه‪ :‬فمنهم من محل ه على ظ اهره وه و أب و حنيف ه‪ .‬ومنهم من فهم من‬
‫وأيض ا‬
‫س من احلاجة إىل القراءة‪ً ،‬‬
‫األقرإ هاهنا األفقه؛ ألنه زعم أن احلاجة إىل الفقه يف اإلمامة ََأم ُّ‬
‫فإن األقرأ من الصحابة كان هو األفقه ضرورة‪ ،‬وذلك خبالف ما عليه الناس اليوم‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬إمامة الصيب‬

‫‪39‬‬
‫اختلف الناس يف إمامة الصيب الذي مل يبلغ احللم إذا كان قارئاً‪ ،‬فأجاز ذلك لعموم (هذا‬
‫األثر) حديث عمرو بن سلمة‪( :‬أنه كان يؤم قومة وهو صيب‪ ،‬ومنع ذلك قوم مطلق اً‪ ،‬وأجازه‬
‫قوم يف النفل‪ ،‬ومل جييزوه يف الفريضة‪ ،‬وهو مروي عن مالك‪.‬‬
‫وسبب اخلالف يف ذلك‪ :‬هل يؤم أحد يف صالة غري واجبة عليه من وجبت عليه؟ وذلك‬
‫الختالف نية اإلمام واملأموم؟‬
‫المسالة الثانية‪ :‬إمامة الفاسق‬
‫اختلفوا يف إمامة الفاسق‪ ،‬فردها قوم بإطالق‪ ،‬وأجازها قوم بإطالق‪ ،‬وفرق قوم بني أن‬
‫مقطوع ا به؛ أعاد الصالة‬
‫ً‬ ‫مقطوع ا به أو غري مقطوع به‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن كان فسقه‬
‫ً‬ ‫ال يكون فسقه‬
‫املص لي وراءه أب ًدا‪ ،‬وإن ك ان مظنون ا؛ اس تحبت ل ه اإلع ادة يف ال وقت‪ ،‬وه ذا ال ذي اخت اره‬
‫ي تأواًل على املذهب‪ ،‬ومنهم من فرق بني أن يكون فسقه بتأويل‪ ،‬أو يكون بغري تأويل‪،‬‬ ‫اَألب َه ِر ُّ‬
‫ْ‬
‫مثل الذي يشرب النبيذ‪ ،‬ويتأول أقوال أهل العراق‪ ،‬فأجازوا الصالة وراء املتأول‪ ،‬ومل جبيزوها‬
‫وراء غري املتأول‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم يف هذا‪ :‬أنه شيء مسكوت عنه يف الشرع‪ ،‬والقياس فيه متعارض‪ :‬فمن‬
‫رأى أن الفس ق ملا ك ان ال يبط ل ص حة الص الة ومل يكن حيت اج املألم وم من إمام ه إال ص حة‬
‫ص الته فق ط‪ ،‬على ق ول من ي رى أن اإلمام حيم ل عن األم و م‪ ،‬أج از إمام ة الفاس ق‪ ،‬ومن ق اس‬
‫اإلمام ة على الش هادة واهتم الفاس ق أن يك ون يص ل ص الة فاس دة‪ ،‬ك ا يتهم يف الش هادة أن‬
‫يكذب‪ ،‬مل جيز إمامته‪ ،‬ولذلك فرق قوم بني أن يكون فسقه بتأويل أو بغري تأويل‪ ،‬وإىل قريب‬
‫مقطوعا‬
‫ً‬ ‫مقطوعا به أو غري مقطوع به؛ ألنه إذا كان‬
‫ً‬ ‫من هذا يرجع من فرق بني أن يكون فسقه‬
‫به فكأنه غري معذور يف تأويله‪ ،‬وقد رام أهل الظاهر أن جييزوا إمامة الفاسق بعموم قوله عليه‬
‫(ي ُؤ ُّم الْ َق ْو ُم َأْق َرُؤ ُه ْم)‪ ،‬ق الوا‪ :‬فلم يس تثن من ذل ك فاس ًقا من غ ري فاس ق‪،‬‬
‫الص الة والس الم‪َ :‬‬
‫واالحتج اج ب العموم يف غ ري املقص ود ض عيف‪ ،‬ومنهم من ف رق بني أن يك ون فس قه يف ش روط‬

‫‪40‬‬
‫صحة الصالة‪ ،‬أو يف أمور خارجة عن الصالة‪ ،‬بناء على أن اإلمام إمنا يشرتط فيه وقوع صالته‬
‫صحيحة‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬إمامة املرأة‬
‫اختلفوا يف إمامة املرأة‪ ،‬فاجلمهور على أنه ال جيوز أن تؤم الرجال‪ ،‬واختلفوا يف إمامتها‬
‫النساء‪ :‬فأجاز ذلك الشافعي‪ ،‬ومنع ذلك مالك‪ ،‬وشذ أبو ثور والطربي‪ ،‬فأجازا إمامتها على‬
‫اإلطالق‪.‬‬
‫وإمنا اتفق اجلمهور على منعها أن تؤم الرجال؛ ألنه لو كان جائزا لنقل ذلك عن الصدر‬
‫أيضا ملا كانت سنتهن يف الصالة التأخري عن الرجال علم أنه ليس جيوز هلن التقدم‬
‫األول‪ ،‬وألنه ً‬
‫َأخ ْر ُه َّن اهلل)‪ ،‬ولذلك أجاز بعضهم إمامتها‬
‫ث َّ‬‫(َأخ ُر ْو ُه َّن َحْي ُ‬
‫عليهم‪ ،‬لقوله عليه الصالة والسالم‪ِّ :‬‬
‫أيض ا نقل ذلك عن بعض الصدر األول‪.‬‬
‫النساء إذ كن متساويات يف املرتبة يف الصالة‪ ،‬مع أنه ً‬
‫ومن أج از إمامته ا فإمنا ذهب إىل م ا رواه أب و داود من ح ديث أم ورق ة‪( :‬أن رس ول اهلل ص لى‬
‫اهلل عليه وسلم َكا َن َي ُز ْو ُر َها فِـي َبْيتِ َها َو َج َع َل هَلَا ُمَؤ ذِّنًا يَُؤ ذِّ ُن هَلَا‪َ ،‬و ََأمَر َها َأ ْن َتُؤ ُّم َْأه ُل َدا ِر َها)‪.‬‬
‫ويف هذا الباب مسائل كثرية‪ ،‬أعين‪ :‬من اختالفهم يف الصفات املشرتطة يف اإلمام تركنا‬
‫ذكرها‪ ،‬لكو هنا مسكوتًا عنها يف الشرع‪ .‬قال القاضي‪ :‬وقصدنا يف هذا الكتاب إمنا هو ذكر‬
‫املسائل املسموعة‪ ،‬أو ماله تعلق قريب باملسموع‪.‬‬
‫وأما أحكام اإلمام اخلاصة به‪ :‬فإن يف ذلك أربعة مسائل متعلقة بالسمع‪ :‬إحداها‪ :‬هل‬
‫يؤمن اإلمام إذا فرغ من قراءة أم القرآن؟ أم املأموم هو الذي يؤمن فقط؟‪ .‬والثانية‪ :‬مىت يكرب‬
‫تكب رية اإلح رام؟‪ .‬والثالث ة‪ :‬إذا ارتج علي ه ه ل يفتح علي ه أم ال؟‪ .‬والرابع ة‪ :‬ه ل جيوز أن يك ون‬
‫موضعه أرفع من موضع املأمومني؟‪.‬‬
‫فأما هل يؤمن اإلمام إذا فرغ من قراءة أم الكتاب‪ :‬فإن مال ًكا ذهب يف رواية ابن القاسم‬
‫عن ه واملص ريني أن ه ال ي ؤمن‪ ،‬وذهب مجه ور الفقه اء إىل أن ه ي ؤمن كاملأموم س واء‪ ،‬وهي رواي ة‬
‫املدنيني عن مالك‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫وسبب اختالفهم‪ :‬أن يف ذلك حديثني متعارضي الظاهر‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬حديث أيب هريرة املتفق عليه يف الصحيح أنه قال رسول اهلل‪ِ( :‬إ َذا ََّأم َن اِإْل َم ُام‬
‫فَ َِّأمُن ْوا)‪.‬‬
‫أيضا أنه قال عليه الصالة والسالم‪ِ :‬إ َذا‬ ‫والحديث الثان‪ :‬ما خرجه مالك عن أبي هريرة ً‬
‫ب َعلَْي ِه ْم َو الَ الضَّالِّنْي َ ‪َ :‬ف ُق ْولُْوا‪ِ :‬آمنْي َ )‪.‬‬
‫ضو ِ‬
‫ال اِْإل َم ُام‪َ ( :‬غرْيِ الْ َم ْغ ُ ْ‬
‫قَ َ‬
‫فأم ا احلديث األول فه و نص يف ت أمني اإلم ام‪ .‬وأم ا احلديث الث اين فيس تدل من ه على أن‬
‫اإلمام ال يؤمن‪ ،‬وذلك أنه لو كان يؤمن ملا أمر املأموم بالتأمني عند الفراغ من أم الكتاب قبل‬
‫أن يؤمن اإلمام؛ ألن اإلمام كما قال عليه الصالة والسالم‪ِ( :‬إمَّنَا َج َع َل اِْإل َم ُام لُِي ْؤ مَتَّ بِ ِه)‪ .‬إال أن‬
‫خيص هذا من أقوال اإلمام؛ أعين‪ :‬أن يكون للمأموم أن يؤمن معه أو قبله‪ ،‬فال يكون فيه دليل‬
‫على حكم اإلمام يف التأمني‪ ،‬ويكون إمنا تضمن حكم املأموم فقط‪ ،‬لكن الذي يظهر أن مال ًك ا‬
‫ذهب م ذهب ال رتجيح للح ديث ال ذي رواه‪ ،‬يك ون الس امع ه و املؤمن ال ال داعي‪ .‬وذهب‬
‫اجلمهور لرتجيح احلديث األول‪ ،‬وألنه ليس فيه شيء من حكم اإلمام‪ ،‬وإمنا اخلالف بينه وبني‬
‫احلديث اآلخر يف موضع تأمني املأموم فقط‪ ،‬ال يف هل يؤمن اإلمام أو ال يؤمن‪ ،‬فتأمل هذا‪.‬‬
‫أيض ا أن يت أول احلديث األول ب أن يق ال‪ :‬إن مع ىن قول ه‪( :‬فَ ِإ َذا ََّأم َن فَ َِّأمُن ْوا) أي‪:‬‬
‫وميكن ً‬
‫فإذا بلغ موضع الت أمني‪ ،‬وقد قي ل‪ :‬إن الت أمني هو الدعاء وهذا ع دول عن الظاهر لش يء غري‬
‫ضو ِ‬
‫ب َعلَْي ِه ْم َو الَ‬ ‫مفهوم من احلديث إال بقياس‪ :‬أعين‪ :‬أن يفهم من قوله‪ :‬فإذا قال‪َ ( :‬غرْيِ الْ َم ْغ ُ ْ‬
‫الضَّالِّنْي َ ) فَ َِّأمُن ْوا‪ ،‬فإنه ال يؤمن اإلمام‪.‬‬
‫قوم ا قالوا‪ :‬ال يكرب إال بعد متام اإلقامة‪ ،‬واستواء الصفوف‪،‬‬ ‫وأما مىت يكرب اإلمام‪ :‬فإن ً‬
‫وهو مذهب مالك والشافعي ومجاعة‪ .‬وقوم قالوا‪ :‬إن موضع التكبري هو قبل أن يتم اإلقامة‪،‬‬
‫واستحسنوا تكبريه عند قول املؤذن‪ :‬قد قامت الصالة‪ ،‬وهو مذهب أيب حنيفة والثوري وزفر‪.‬‬
‫اخلالف يف ذل ك‪ :‬تع ارض ظ اهر ح ديث أنس وح ديث بالل‪ .‬أم ا ح ديث أنس فق ال‪:‬‬
‫ِ‬
‫َأْقبَ َل علينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يكرب فـي الصالة‪ ،‬فقال‪َ( :‬أقْي ُم ْوا ُ‬
‫ص ُف ْوفُ ُك ْم‪،‬‬
‫‪42‬‬
‫اص ْوا‪ ،‬فَِإىِّن ََأرا ُك ْم ِم ْن َو َر ِاء ظَ ْه ِري)‪ ،‬وظاهر هذا أن الكالم منه كان بعد الفراغ من اإلقامة‪،‬‬
‫َوَتَر ُ‬
‫مثل ما روي عن عمر أنه كان إذا متت اإلقامة واستوت الصفوف حينئذ يكرب‪ .‬وأما حديث‬
‫بالل فإن ه روي‪ :‬أن ه ك ان يقبم للن يب ص لى اهلل علي ه وس لم‪ ،‬فك ان يق ول ل ه‪ :‬ي ا رس ول اهلل ال‬
‫تَ ْسبِ ْقيِن بآمني‪ ،‬خرجه الطحاوي‪ .‬قالوا‪ :‬فهذا يدل على أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان‬
‫يكرب واإلقامة مل تتم‪.‬‬
‫وأم ا اختالفهم يف الفتح على اإلم ام إذا ارتج علي ه‪ :‬ف إن مال ًك ا والش افعي وأك ثر العلم اء‬
‫أجازوا الفتح عليه‪ ،‬ومنع ذلك الكوفيون‪.‬‬
‫وسبب اخلالف يف ذلك‪ :‬اختالف اآلثار‪ ،‬وذلك‪ :‬أنه روي‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وس لم ت ردد فـي آي ة‪ ،‬فال انص رف ق ال‪َ( :‬أيْ َن ُأيَبٌّ‪َ ،‬أمَلْ يَ ُك ْن فِـي اْل َق ْوِم؟)‪ ،‬أي‪ :‬يري د الفتح عي ه‪.‬‬
‫وروي عنه عليه الصالة والسالم أنه قال‪( :‬اَل َي ْفتَ ُح َعلَى اِإْل َم ِام)‪ ،‬واخلالف يف ذلك يف الصدر‬
‫األول‪ ،‬واملنع مشهور عن علي‪ ،‬واجلواز عن ابن عمر مشهور‪.‬‬
‫قوم ا أجازوا أن يكون أرفع من موضع املأمومني‪ ،‬وقوم منعوا‬
‫وأما موضع اإلمام‪ :‬فإن ً‬
‫ذلك‪ ،‬وقوم استحبوا من ذلك اليسري‪ ،‬وهو مذهب مالك‪.‬‬
‫وسبب اخلالف يف ذلك حديثان متعارضان‪:‬‬
‫َّاس َعلَى الْ ِمْنرَبِ لُِي َعلِّ َم ُه ُم‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ُُأم‬
‫ُّ‬ ‫م‬‫َ‬‫ال‬ ‫الس‬
‫َّ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫الص‬
‫َّ‬ ‫أح) ) ))دهما‪ :‬احلديث الث ابت‪َ( :‬أنَّه علَي ِ‬
‫ه‬ ‫ُ َْ‬
‫الصالََة‪َ ،‬وِإنَّهُ َكا َن ِإذَا ََأر َاد َأ ْن يَ ْس ُج َد َنَز َل ِم ْن َعلَى الْ ِمْنرَبِ )‪.‬‬
‫َّ‬
‫والث))اني‪ :‬م ا رواه أب و داود أن حذيف ة ََّأم الن اس ع ل دك ان‪ ،‬فأخ ذ ابن مس عود بقميص ه‬
‫فجذبه‪ .‬فلما فرغ من صالته قال‪ :‬أمل تعلم أهنم كانوا ينهون عن ذلك‪ ،‬أو ينهى عن ذلك؟‪.‬‬
‫وقد اختلفوا هل جيب عل اإلمام أن ينوي اإلمامة أم ال؟ فذهب قوم إىل أنه ليس ذلك‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم َب ْع َد ُد ُخ ْولِ ِه‬
‫ب رسو ِل ِ‬‫ِ‬ ‫ِإ‬
‫بواجب عليه؛ حلديث ابن عباس‪َ( :‬أنَّهُ قَ َام ىَل َجْن َ ُ ْ‬
‫الصالَِة)‪ ،‬ورأى قوم أن هذا حمتمل‪ ،‬وأنه ال بد من ذلك‪ ،‬إذا كان حيمل بعض أفعال الصالة‬ ‫يِف َّ‬
‫فرضا أو نفالً عن املأمو مني‪.‬‬
‫عن املأمومني‪ ،‬وهذا على مذهب من يرى أن اإلمام حيمل ً‬
‫‪43‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬في مقام المأموم من اإلمام‪ ،‬واألحكام الخاصة بالمأمومين‬
‫ويف هذا الباب خس مسائل‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬موقف اإلمام واملأمومني‬
‫اتفق مجهور العلماء عل أن سنة الواحد املنفرد أن يقوم عن ميني اإلمام لثبوت ذلك من‬
‫ح ديث ابن عب اس وغ ريه ‪ ،‬وأهنم إن ك انوا ثالث ة س وى اإلم ام ق اموا وراءه‪ ،‬واختلف وا إذا كان ا‬
‫اث نني س وى اإلم ام‪ :‬ف ذهب مال ك والش افعي إىل أهنا يقوم ان خل ف اإلم ام‪ .‬وق ال أب و حنيف ة‬
‫وأصحابه والكوفيون‪ :‬بل يقوم اإلمام بينهما‪.‬‬
‫والسبب يف اختالفهم أن يف ذلك حديثني متعارضني‪:‬‬
‫ص لَّى اهللُ َعلَْي ِه‬ ‫ِ ِ‬
‫ت َع ْن يَ َس ا ِر َر ُس ْول اهلل َ‬ ‫أح) ))دهها‪ :‬ح ديث ج ابر بن عبداهلل ق ال‪( :‬قُ ْم ُ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ض َأ‪ ،‬مُثَّ َج اءَ َف َق َام‬ ‫َأد َاريِن َحىَّت َأقَ َاميِن َع ْن مَي ْين ه‪ ،‬مُثَّ َج اءَ َج ابِْر بْ ُن َ‬
‫ص ْخ ٍر َفَت َو َّ‬ ‫َأخ َذ بِيَ دي فَ َ‬
‫َو َس لَّ َم‪ ،‬فَ َ‬
‫َأخ َذ بَِأيْ ِد ْينَا مَجِ ْي ًعا فَ َد َف َعنَا َحىَّت قُ ْمنَا َخ ْل َفهُ)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َع ْن يَ َسا ِر َر ُس ْول اهلل َ‬
‫صلَّى اهلل َعلَْيه َو َسلَّ َم‪ ،‬فَ َ‬
‫والحديث الثاني‪ :‬حديث ابن مسعود أنه صلى بعلقمة واألسود فقام وسطهيا‪ ،‬وأسنده‬
‫إىل الن يي ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال أب و عم ر‪ :‬واختل ف رواة ه ذا احلديث‪ ،‬فبعض هم أوقف ه‬
‫وبعضهم أسنده‪ ،‬والصحيح أنه موقوف‪.‬‬
‫وأما أن سنة املرأة أن تقف خلف الرجل أو الرجال إن كان هنالك رجل سوى اإلمام‪،‬‬
‫أو خلف اإلمام إن كانت وحدها‪ ،‬فال أعلم يف ذلك خالفًا لثبوت ذلك من حديث أنس الذي‬
‫ص لَّى بِ ِه َوبِ ُِّأم ِه َْأو َخالَتِ ِه‪ ،‬قال‪ :‬فََأقَ َاميِن َع ْن مَيِْينِ ِه‬ ‫ِ‬
‫صلَّى اهللُ َعلَْيه َو َس لَّ َم َ‬ ‫خرجه البخاري‪َّ :‬‬
‫(َأن النَّيِب َّ َ‬
‫ت َأنَا َوالْيَتِْي ُم َو َراءَهُ َعلَْي ِه‬
‫ص َف ْف ُ‬
‫أيض ا مالك أنه قال‪( :‬فَ َ‬ ‫َوَأقَ َام الْ َم ْرَأَة َخ ْل َفنَ ا)‪ ،‬والذي خرجه عنه ً‬
‫السالَ ُم َوالْ َع ُج ْو ُز ِم ْن َو َراِئنَا‬
‫الصالَةُ َو َّ‬
‫َّ‬

‫‪44‬‬
‫وس نة الواحد عند اجلمهور أن يق ف عن ميني اإلم ام‪ ،‬حلديث ابن عباس حني ب ات عند‬
‫ميمونه‪ ،‬وقال قوم‪ :‬بل عن يساره‪ .‬وال خالف يف أن املرأة الواحدة تصلي خلف اإلمام‪ ،‬وأهنا‬
‫إن كانت مع الرجل صلى الرجل إىل جانب اإلمام واملرأة خلفه‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬الصف األول‬
‫ص الص فوف وتس ويتها؛‬
‫أمجع العلم اء على أن الص ف األول م رغب في ه‪ ،‬وك ذلك ت َراَ ُّ‬
‫لثبوت األمر بذلك عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واختلفوا إذا صلى إنسان خلف الصف‬
‫وحده‪ :‬فاجلمهور على أن صالته جتزئ‪ .‬وقال أمحد وأبو ثور ومجاعة‪ :‬صالته فاسدة‪.‬‬
‫وس بب اختالفهم‪ ،‬اختالفهم يف تص حيح ح ديث وابص ة وخمالف ة العم ل ل ه‪ ،‬وح ديث‬
‫ِ ِئ‬
‫ف)‪َ ،‬و َك ا َن الشافعي يرى أن‬
‫الص ِّ‬
‫ف َّ‬‫ص الََة ل َق ا ِم َخ ْل َ‬
‫وابصة هر أنه قال عليه الصالة والالم‪( :‬اَل َ‬
‫ه ذا يعارض ه قي ام العج وز وح دها خل ف الص ف يف ح ديث أنس‪ ،‬وك ان أمحد يق ول‪ :‬ليس يف‬
‫ذل ك حج ة‪ ،‬ألن سنة النساء هي القيام خل ف الرجال‪ .‬وك ان أمحد كما قلنا يص حح حديث‬
‫وابصة‪ ،‬وقال غريه‪ :‬هو مضطرب اإلسناد ال تقوم به حجة‪ .‬واحتج اجلمهور حبديث أيب بَ ْك َرةَ‪:‬‬
‫(ز َاد َك اهللُ‬
‫أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باإلعادة‪ ،‬وقال له‪َ :‬‬
‫ص ا‪َ ،‬واَل َتعُ ْد)‪ ،‬ول و محل ه ذا على الن دب مل يكن تع ارض؛ أع ين‪ :‬بني ح ديث وابص ة‬ ‫ِ‬
‫ح ْر ً‬
‫وحديث أيب بكرة‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬اإلسراع إىل الصالة‬
‫اختل ف الص در األول يف الرج ل يري د الص الة فيس مع اإلقام ة‪ ،‬ه ل يس رع املش ي إىل‬
‫املس جد أم ال؟ خماف ة أن يفوت ه ج زء من الص الة؟ ف روي عن عم رو وابن مس عود أهنم ك انوا‬
‫يسرعون املشي إذا مسعوا اإلقامة‪ .‬وروي عن زيد بن ثابت وأيب ذر وغريهم من الصحابة‪ :‬أهنم‬
‫كانوا ال يرون السعي‪ ،‬بل أن تؤتى الصالة بوقار وسكينة‪ .‬وهبذا القول قال فقهاء األمصار‪،‬‬
‫الص الَِة فَاَل تَْأُت ْو َه ا َوَأْنتُ ْم تَش عُ ْو َن‪َ ،‬وْأُت ْو َه ا َو َعلَْي ُك ْم‬
‫ب بِ َّ‬
‫حلديث أيب هري رة الث ابت‪ِ( :‬إ َذا ثُ ِّو َ‬
‫الس ِكْينَةُ)‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪45‬‬
‫ويشبه أن يكون اخلالف يف ذلك أنه م يبلغهم هذا احلديث‪ ،‬أو رأوا أن الكتاب يعارضه‬
‫لقول ه تع اىل‪( :‬فَس تَبِ ُقوا اخْل ي ر ِ‬
‫الس ابُِق ْو َن‪-‬و ُألَِئ َ‬
‫ك‬ ‫الس ابُِق ْو َن َّ‬
‫ات‪ ،‬البق رة‪ .)١٤٨ :‬وقول ه‪َ :‬و َّ‬ ‫ْ ْ َْ َ‬
‫ـفَر ٍة ِم ْن َربِّ ُك ْم‪ ،‬آل عم ران‪.)١٣٣ :‬‬ ‫الْم َقَّرب و َن‪ ،‬الواقع ة‪ )11-10 :‬وقول ه‪( :‬وس ا ِرعوا ِإىَل م ْغ ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ُ ُْ‬
‫وباجلمل ة فأص ول الش رع تش هد باملب ادرة إىل اخلري‪ ،‬لكن إذا ص ح احلديث؛ وجب أن تس تثىن‬
‫الصالة من بني سائر أعمال القرب‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬مىت ينهض للصالة‬
‫مىت يستحب أن يقام إىل الصالة‪ ،‬فبعض استحسن البدء يف أول اإلقامة على األصل يف‬
‫وبعض عن د قول ه‪ :‬ق د ق امت الص الة‪ ،‬وبعض هم عن د‪ :‬حي على الفالح‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ال رتغيب يف املس ارعة‪،‬‬
‫حدا كمالك رضي اهلل عنه‪ ،‬فإنه وكل‬
‫وبعضهم قال‪ :‬حىت يروا اإلمام‪ ،‬وبعضهم مل حيد يف ذلك ً‬
‫ذل ك إىل ق در طاق ة الن اس‪ .‬وليس يف ه ذا ش رع مس موع إال ح ديث أيب قت ادة أن ه ق ال علي ه‬
‫الص اَل ةُ فَاَل َت ُق ْو ُم ْوا َحىَّت َت َر ْويِن )‪ ،‬فإن صح هذا وجب العمل به‪،‬‬
‫ت َّ‬‫الصالة والسالم‪ِ( :‬إذَا ُأقِيم ِ‬
‫َْ‬
‫وإال فاملسألة باقية على أصلها املعفو عنه؛ أعين‪ :‬أنه ليس فيها شرع‪ ،‬وأنه مىت قام كل فحسن‪.‬‬
‫المسألة الخامسة‪ :‬للداخل وراء اإلمام أن يركع دون الصف مث يدب راكعا‬
‫ذهب مال ك وكث ري من العلم اء إىل أن ال داخل وراء اإلمام إذا خ اف ف وات الركع ة ب أن‬
‫يرفع اإلمام رأسه منها إن متادى حىت يصل إىل الصف األول‪ ،‬أن له أن يركع دون الصف األول‬
‫راكع ا‪ ،‬وكره ذلك الشافعي‪ ،‬وفرق أبو حنيفة بني اجلاعة والواحد‪ ،‬فكرهه للواحد‪،‬‬
‫مث يدب ً‬
‫وأجازه للجماعة‪ .‬وما ذهب إليه مالك مروي عن زيد بن ثابت وابن مسعود‪.‬‬
‫وس بب اختالفهم‪ :‬اختالفهم يف تص حيح ح ديث أيب بك رة‪ ،‬وه و‪ :‬أن ه دخ ل املس جد‬
‫ورس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم يص لي بالن اس وهم رك وع‪ ،‬فرك ع مث س عى إىل الص ف‪ ،‬فال‬
‫انصرف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪( :‬م ِن َّ ِ‬
‫(ز َاد َك اهللُ‬
‫الساعي؟) قال أبو بكرة أنا‪ ،‬قال‪َ :‬‬ ‫َ‬
‫صا‪َ ،‬واَل َتعُ ْد)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ح ْر ً‬

‫‪46‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬في معرفة ما يجب على المأموم أن يتبع فيه اإلمام‬
‫وأمجع العلم اء على أن ه جيب على املأموم أن يتب ع اإلم ام يف مجي ع أقوال ه وأفعال ه إال يف‬
‫جالس ا ملرض عن د من أج از إمام ة اجلالس‪ .‬وأم ا‬
‫قول ه‪ :‬مسع اهلل ملن محده‪ ،‬ويف جلوس ه إذا ص ل ً‬
‫اختالفهم يف قول ه‪ :‬مسع اهلل ملن م ده‪ ،‬ف إن طائف ة ذهبت إىل أن اإلم ام يق ول إذا رف ع رأس ه من‬
‫الرك وع‪ :‬مسع اهلل ملن حده فق ط‪ ،‬ويق ول املأموم‪ :‬ربن ا ول ك احلمد فق ط‪ ،‬ومن ق ال هبذا القول‬
‫مجيع ا‪ :‬مسع اهلل‬
‫مالك وأبو حنيفة وغريها‪ .‬وذهبت طائفة أخرى إىل أن اإلمام واملأموم يقوالن ً‬
‫معا اإلمام كسائر التكبري سواء‪ .‬وقد روي عن‬
‫ملن محده ربنا ولك احلمد‪ ،‬وأن املأموم يتبع فيها ً‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫مجيعا‪ ،‬وال خالف يف املنفرد‪ :‬أعين أنه يقو هلما ً‬
‫أيب حنيفة أن املنفرد واإلمام يقو الهنما ً‬
‫وسبب االختالف يف ذلك حديثان متعارضان‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬حديث أنس أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪ِ(:‬إمَّنَا َج َع َل اْإِل َم ُام لُِي ْؤ مَتَّ بِ ِه‪ ،‬فَ ِإ َذا‬
‫ِ‬
‫ك احْلَ ْم ُد)‪.‬‬ ‫ال مَسِ َع اهللُ ل َـم ْن مَحِ َدهُ َف ُق ْولُْوا‪َ :‬ربَّنَا َولَ َ‬
‫َر َك َع فَ ْار َكعُوا‪َ ،‬وِإذَا َرفَ َع فَ ْار َفعُوا‪َ ،‬وِإذَا قَ َ‬
‫ص لَّى اهللُ َعلَْيهش َو َس لَّ َم َك ا َن ِإ َذا ا ْفتَتَ َح‬ ‫والح ) ))ديث الث ) ))اني‪ :‬ح ديث ابن عم ر‪َ« :‬أنَّهُ َ‬
‫ال‪ :‬مَسِ َع‬ ‫ض ا‪َ ،‬وقَ َ‬ ‫ِ‬ ‫الصالََة‪َ ،‬رفَ َع يَ َديْ ِه َح ْذ َو َمْن ِكَبْي ِه‪َ ،‬وِإ َذا َرفَ َع َرْأ َسهُ ِم َن ُّ‬
‫ك َأيْ ً‬‫الر ُك ْو ِع َر َف َع ُه َم ا َك َذل َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫ك احْلَ ْم ُد)‪.‬‬ ‫اهللُ ل َـم ْن مَحِ َدهُ‪َ ،‬ربَّنَا َولَ َ‬
‫فمن رجح مفهوم حديث أنس قال‪ :‬ال يقول املأموم‪ :‬مسع اهلل ملن محده‪ ،‬وال اإلمام‪ :‬ربنا‬
‫ولك احلمد‪ ،‬وهو من باب دليل اخلطاب‪ ،‬ألنه جعل حكم املسكوت عنه خبالف حكم املنطوق‬
‫به‪ .‬ومن رجح حديث ابن عمر قال‪ :‬يقول اإلمام‪ :‬ربنا ولك احلمد‪ ،‬وجيب على املأموم أن يتبع‬
‫اإلمام يف قوله‪ :‬مسع اهلل ملن حده‪ ،‬لعموم قوله‪ِ :‬إمَّنَا ُجعِ َل اِْإل َم ُام لُِيْؤ مَتَّ بِِه) ومن جبمع بني احلديثني‬
‫فرق يف ذلك بني اإلمام واملأموم‪.‬‬
‫واحلق يف ذل ك أن ح ديث أنس يقتض ي ب دليل اخلط اب أن اإلم ام ال يق ول‪ :‬ربن ا ول ك‬
‫نص ا أن اإلمام يقول‬
‫احلمد‪ ،‬وأن املأموم ال يقول‪ :‬مسع اهلل ملن محده‪ .‬وحديث ابن عمر يقتضي ً‬
‫ربنا ولك احلمد‪ ،‬فال جيب أن يرتك النص بدليل اخلطاب؛ فإن النص أقوى من دليل اخلطاب‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫وحديث أنس يقتضي بعمومه أن املأموم يقول‪ :‬مسع اهلل ملن محده بعموم قوله‪ِ( :‬إمَّنَا ُجعِ َل اِْإل َم ُام‬
‫لُِي ْؤ مَتَّ بِ ِه)‪ ،‬وبدليل خطابه أال يقوهلا‪ ،‬فوجب أن يرجح بني العموم ودليل اخلطاب‪ ،‬وال خالف‬
‫أيض ا يف القوة والضعف‪ ،‬ولذلك ليس‬
‫أن العموم أقوى من دليل اخلطاب‪ ،‬لكن العموم خيتلف ً‬
‫يبعد أن يكون بعض أدلة اخلطاب أقوم من بعض أدلة العموم‪ ،‬فاملسألة لعمري اجتهادية‪ :‬أعين‪:‬‬
‫يف املأموم‪.‬‬
‫وأما المسألة الثانية‪ :‬صالة القائم خلف القاعد‬
‫وهي صالة القائم خلف القاعد‪ ،‬فإن حاصل القول فيها‪ :‬أن العلماء اتفقوا على أنه ليس‬
‫هلل قَانِتِنْي َ ‪ ،‬البقرة‪:‬‬
‫للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعاىل‪( :‬و ُقوم وا ِ‬
‫َ ُْْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫قاعدا على ثالثة‬ ‫صحيحا فصلى خلف إمام مريض‪ ،‬يصلى ً‬ ‫ً‬ ‫‪ .)٢٣٨‬واختلفوا إذا كان املأموم‬
‫أق وال‪ :‬أح))دها‪ :‬أن املأموم يص لي خلف ه قاع ًدا‪ ،‬وممن ق ال هبذا الق ول أمحد وإس حاق‪ ،‬والق))ول‬
‫قيام ا‪ ،‬قال أبو عم ر بن عب دالرب‪ :‬وعلى هذا مجاعة فقهاء األمصار‪:‬‬
‫الث))اني‪ :‬أهنم يصلون خلفه ً‬
‫الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو ثور وغريهم‪ ،‬وزاد هؤالء فقال‪:‬‬
‫قيام ا وإن ك ان ال يق وى على الرك وع والس جود ب ل ي ؤمى إمياءًا‪ .‬وروى ابن‬
‫يص لون وراءه ً‬
‫قعودا بطلت صالهتم‪ ،‬وقد روى‬
‫قياما أو ً‬
‫القاسم‪ :‬أنه ال جتوز إمامة القاعد‪ ،‬وأنه إن صلوا خلفه ً‬
‫عن مالك أهنم يعيدون الصالة يف الوقت‪ ،‬وهذا إمنا بين عل الكراهة ال على املنع‪ ،‬واألول هو‬
‫املشهور عنه‪.‬‬
‫وس بب االختالف‪ :‬تع ارض اآلث ار يف ذل ك ومعارض ة العم ل لآلث ار‪ :‬أع ين‪ :‬عم ل أه ل‬
‫املدينة عند مالك‪ ،‬وذلك‪ :‬أن يف ذلك حديثني متعارضني‪:‬‬
‫ِ‬
‫صلُّ ْوا ُقعُ ْو ًدا)‪،‬‬ ‫(وِإذَا َ‬
‫صلَّى قَاع ًدا فَ َ‬ ‫أحدهما‪ :‬حديث أنس وهو قوله عليه الصالة والسالم‪َ :‬‬
‫‪1‬‬
‫جالس ا وصلى وراءه‬
‫ً‬ ‫وحديث عائشة يف معناه‪ ،‬وهو‪ :‬أنه صلى اهلل عليه وسلم صلى وهو شاك‬

‫‪ 1‬شاك أصله شاكى من السكاية وهو المرض‪ ،‬أي أىه صلى هللا عليه وسلم صلى وهو مريض‬
‫‪48‬‬
‫قيام ا‪ ،‬فأشار إليهم أن اجلسوا‪ ،‬فلما انصرف قال‪ِ( :‬إمَّنَا ُجعِ َل اِإْل َم ُام لُِي ْؤ مَتَّ بِ ِه‪ ،‬فَ ِإذَا َر َك َع‬ ‫قوم ً‬
‫ِ‬
‫اجلُ ْو ًسا)‪.‬‬ ‫صلُّ ْو ُ‬ ‫فَ ْار َكعُ ْوا َوِإذَا َرفَ َع فَ ْار َفعُ ْوا‪َ ،‬وِإذَا َ‬
‫صلَّى َجال ًسا فَ َ‬
‫اهلل َخَر َج فِـي َمَر ِض ِه الَّ ِذي ُت ُويِّفَ ِمْن هُ‪ ،‬فََأتَى‬ ‫(َأن رسو َل ِ‬
‫والحديث الثاني‪ :‬حديث عائشة‪ْ ُ َ َّ :‬‬
‫َأش َار ِإلَْي ِه َر ُس ْو ُل اهلل صلى‬ ‫صلِّي بِالن ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬
‫استَْأ َخَر َأبُ ْو بَ ْك ٍر‪ ،‬فَ َ‬
‫َّاس‪ ،‬فَ ْ‬ ‫الْ َم ْسج َد َف َو َج َد َأبَا بَ ْك ٍر َو ُه َو قَا ٌم يُ َ‬
‫ب َأيِب بَ ْك ٍر‪ ،‬فَ َك ا َن‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ِإىَل َجْن ِ‬ ‫اهلل عليه وسلم َأ ْن َكم ا َأنْت‪ ،‬فَجلَس رس و ُل ِ‬
‫َ َ َ َ َ ُْ‬
‫صاَل ِة َأيِب بَ ْك ٍر)‪،‬‬‫صلُّ ْو َن بِ َ‬ ‫َّاس يُ َ‬‫صاَل ة َر ُس ْول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪َ ،‬و َكا َن الن ُ‬
‫َأبو ب ْك ٍر يصلِّي بِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ُْ َ ُ َ‬
‫ف ذهب الن اس يف ه ذين احلديثني م ذهبني‪ :‬م ذهب النس خ‪ ،‬وم ذهب ال رتجيح‪ .‬فأم ا من‬
‫ذهب مذهب النسخ فإهنم قالوا‪ :‬إن ظاهر حديث عائشة وهو‪ :‬أن النيب عليه الصالة والسالم‬
‫مسمعا؛ ألنه ال جيوز أن يكون إمامان يف صالة واحدة‪ ،‬وإن‬
‫ً‬ ‫كان يؤم الناس‪ ،‬وأن أبا بكر كان‬
‫جالس ا‪ ،‬فوجب أن يكون هذا من فعله‬
‫قياما‪ ،‬وإن النيب عليه الصالة والسالم كان ً‬
‫الناس كانوا ً‬
‫ناسخا لقوله وفعله املتقدم‪.‬‬
‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬إذ كان آخر فعله ً‬
‫وأما من ذهب مذهب الرتجيح فإهنم رجحوا حديث أنس بأن قالوا‪ :‬إن هذا احلديث قد‬
‫اضطربت الراوية عن عائشة فيه فيمن كان اإلمام‪ ،‬هل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو أبو‬
‫بكر؟ وأما مالك فليس له مستند من الساع؛ ألن كال احلديثني اتفقا عل جواز إمامة القاعد‪،‬‬
‫وإنا اختل ًف ا يف قيام املأموم أو قعوده‪ ،‬حىت إنه لقد قال أبو حممد بن حزم‪ :‬إنه ليس يف حديث‬
‫ودا‪ ،‬وليس جيب أن ي رتك املنص وص علي ه لش يء م ينص‬
‫قيام ا وال قع ً‬
‫عائش ة أن الن اس ص لوا ال ً‬
‫عليه‪.‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬في صفة االتباع‬


‫وفي ه مس ألتان‪ :‬إح دامها‪ :‬يف وقت تكب رية اإلح رام للم أموم‪ .‬والثاني ة‪ :‬يف حكم من رف ع‬
‫رأسه قبل اإلمام‪ .‬أما اختالفهم يف وقت تكبري املأموم‪ ،‬فإن مال ًك ا استحسن أن يكرب بعد فراغ‬
‫اإلمام من تكبرية اإلحرام‪ ،‬قال‪ :‬وإن كرب معه أجزأه‪ ،‬وقد قيل‪ :‬إنه ال جيزئه‪ ،‬وأما إن كرب قبله‬
‫‪49‬‬
‫فال جيزئه‪ .‬وقال أبو حنيفة وغريه‪ :‬يكرب مع تكبرية اإلمام‪ ،‬فإن فرغ قبله مل جيزه‪ .‬وأما الشافعي‬
‫فعنه يف ذلك روايتان‪ :‬إحدامها‪ :‬مثل قول مالك وهو األشهر‪ .‬والثانية‪ :‬أن املأموم إن كرب قبل‬
‫اإلمام أجزأه‪.‬‬
‫وس بب اخلالف أن يف ذل ك ح ديثني متعارض ني‪ :‬أح))دهما‪ :‬قول ه علي ه الص الة والس الم‪:‬‬
‫الص لَو ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫(فَِإ َذا َكَّبَر فَ َكِّب ُر ْوا)‪ ،‬والثاني‪ :‬ما روي‪َ( :‬أنَّهُ َعلَْي ِه الصَّاَل ةُ َو َّ‬
‫ات‪،‬‬ ‫الس اَل ُم َكَّبَر يِف َ‬
‫ص اَل ة م َن َّ َ‬
‫ب مُثَّ َر َج َع َو َعلَى َرْأ ِس ِه آ َث ُر الْ َم ِاء)‪ .‬فظاهر هذا أن تكبريه وقع‬ ‫مُثَّ َ ِإ ِ‬
‫َأش َار لَْيه ْم َأ ْن ْام َك ُث ْوا‪ ،‬فَ َذ َه َ‬
‫أيض ا مب ين على أص له أن‬
‫بع د تكب ريهم؛ ألن ه مل يكن ل ه تكب ري أواًل ملك ان ع دم الطه ارة‪ ،‬وه و ً‬
‫ص الة املأموم غ ري مرتبط ة بص الة اإلم ام‪ ،‬واحلديث ليس في ه ذك ر‪ :‬ه ل اس تأنفوا التكب ري أو مل‬
‫يستأنفوه‪ ،‬فليس ينبغي أن حيمل على أحدمها إال بتوقيف‪ ،‬واألصل هو االتباع وذلك ال يكون‬
‫إال بعد أن يتقدم اإلمام إما بالتكبري وإما بافتتاحه‪.‬‬
‫وأما من رفع رأسه قبل اإلمام‪ ،‬فإن اجلمهور يرون أنه أساء‪ ،‬ولكن صالته جائزة‪ ،‬وأنه‬
‫جيب عليه أن يرجع فيتبع اإلمام‪ ،‬وذهب قوم إىل أن صالته تبطل‪ ،‬للوعيد الذي جاء يف ذلك‪،‬‬
‫س‬ ‫ْأ‬ ‫ر‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫س‬‫ْأ‬ ‫ر‬ ‫اهلل‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫و‬
‫ِّ‬ ‫َ‬‫حُي‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫َأ‬ ‫اف الَّ ِذي يرفَع رْأسهُ َقْبل اِْإل م ِ‬
‫ام‬ ‫(َأما خَيَ ُ‬
‫وهو قوله عليه الصالة والسالم‪َّ :‬‬
‫َ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ ُ َ َ َ َ‬
‫مِح َا ٍر؟)‪.‬‬

‫الفصل السادس‪ :‬فيا يحله اإلمام عن المأمومين‬


‫واتفقوا على أنه ال حيمل اإلمام عن املأموم شيًئا من فرائض الصالة ما عدا القراءة‪ ،‬فإهنم‬
‫اختلفوا يف ذلك عل ثالثة أقوال‪ :‬أحدها‪ :‬أن املأموم يقرأ مع اإلمام فيما أسر فيه‪ ،‬وال يقرأ معه‬
‫فيما جهر به‪ .‬والثاين‪ :‬أنه ال يقرأ معه أص اًل ‪ .‬والثالث‪ :‬أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب وغريها‪،‬‬
‫وفيما جهر أم الكتاب فقط ‪ .‬وبعضهم فرق يف اجلهر بني أن يسمع قراءة اإلمام أو ال يسمع‪،‬‬
‫فأوجب عليه القراءة إذا مل يسمع‪ ،‬وهناه عنها إذا مسع‪ .‬وباألول قال مالك؛ إال أنه يستحسن له‬

‫‪50‬‬
‫القراءة فيما أسر فيه اإلما وبالثاين قال أبو حنيفة‪ ،‬وبالثالث قال الشافعي‪ ،‬والتفرقه بني أن يسمع‬
‫أو ال يسمع هو قول أمحد بن حنبل‪.‬‬
‫والسبب يف اختالفهم‪ :‬اختالف األحاديث يف هذا الباب وبناء بعضها على بعض‪ ،‬وذلك‬
‫أن يف ذلك أربعة أحاديث‪:‬‬
‫أح ) ))دها‪ :‬قول ه علي ه الص الة والس الم‪( :‬اَل ص اَل َة ِإاَّل بَِفاحِت َ ِة الْ ِكتَ ِ‬
‫اب)‪ .‬وم ا ورد من‬ ‫َ‬
‫األحاديث يف هذا املعىن ما ذكرناه يف باب وجوب القراءة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬ما روى مالك عن أيب هريرة‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم انصرف من‬
‫َأح ٌد آنًِف ا؟)‪ ،‬فقال رجل‪ :‬نعم أنا يا رسول‬ ‫ِ ِ‬
‫(ه ْل َق َرَأ َمعي مْن ُك ْم َ‬
‫صالة جهر فيها بالقراءة فقال‪َ :‬‬
‫اهلل‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ِ« :‬إيِّن َأُق ْو ُل َمالِـي ُأنَازِعُ اْل ُق ْرآ َن)‪ ،‬فانتهى الناس عن‬
‫القراءة فيما جهر فيه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫والث))الث‪ :‬ح ديث عُبَ َاد َة بن الص امت ق ال‪ :‬ص لى بن ا رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم‬
‫صالة الغداة فثقلت عليه القراءة‪ ،‬فتا الصرف قال‪ِ( :‬إيِّن ََأرا ُك ْم َت ْق َرءُْو َن َو َراءَ اِْإل َم ِام) قلنا‪ :‬نعم‪،‬‬
‫آن)‪ .‬ق ال أب و عم ر‪ :‬وح ديث عب ادة بن الص امت هن ا من رواي ة‬ ‫ق ال‪( :‬فَاَل َت ْفعلُ وا ِإاَّل بِ ُِّأم الْ ُق ر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫مكحول وغريه متصل السند صحيح‪.‬‬
‫(م ْن َك ا َن لَ هُ ِإ َم ٌام‬
‫والح))ديث الرابع‪ :‬حديث جابر عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪َ :‬‬
‫أيضا حديث خامس صححه أمحد بن حنبل‪ ،‬وهو ما روي أنه قال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فَقَراءَتُهُ لَهُ قَراءَةٌ)‪ ،‬ويف هذا ً‬
‫عليه الصالة والسالم‪ِ( :‬إ َذا َقرَأ اِْإل مام فََأنْ ِ‬
‫صُت ْوا)‪.‬‬ ‫َ َُ‬
‫فاختلف الناس يف وجه مجع هذه األحاديث‪ .‬فمن الناس من استثىن من النهي عن القراءة‬
‫فيما جهر فيه اإلمام قراءة أم القرآن فقط‪ ،‬على حديث عبادة بن الصامت‪ ،‬ومنهم من استثىن‬
‫من عموم قوله عليه الصالة والسالم‪( :‬اَل صاَل ةَ ِإالَّ بَِفاحِت َ ِة الْ ِكتَ ِ‬
‫اب) املأموم فقط يف صالة اجلهر‪،‬‬ ‫َ‬
‫ملكان النهي الوارد عن القراءة فيما جهر فيه اإلمام يف حديث أيب هريرة أكد ذلك بظاهر قوله‬
‫تعاىل‪( :‬وِإذَا قُ ِرَئ اْل ُقـرَأ ُن فَاستَ ِمعوا لَه وَأنْ ِ‬
‫ص ُت ْوا لَ َعلَّ ُك ْم ُتْرمَحُ ْو َن) األعراف‪ .٢٠٤ :‬وهذا إمنا ورد‬ ‫ْ ُْ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪51‬‬
‫ىف الص الة‪ ،‬ومنهم من اس تثىن الق راءة الواجب ة على املص ل املأموم فق ط س ًرا ك انت الص الة أو‬
‫مصريا إىل حديث جابر‪،‬‬
‫جهرا‪ ،‬وجعل الوجوب الوارد يف القراءة يف حق اإلمام واملنفرد فقط‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫(وا ْقَرْأ َما‬
‫وهو مذهب أيب حنيفة‪ ،‬فصار عنده حديث جابر خمصصا لقوله عليه الصالة والسالم‪َ :‬‬
‫ك َف َق ْط)‪ ،‬ألنه ال يرى وجوب قراءة أم القرآن يف الصالة‪ ،‬وإمنا يرى وجوب القراءة‬ ‫َتيَ َّس َر َم َع َ‬
‫مرفوع ا إال ج ابر اجْلُ ْع ِف َي‪ ،‬وال حج ة يف ش يء مما‬
‫ً‬ ‫مطل ًق ا على م ا تق دم‪ ،‬وح ديث ج ابر مل ي روه‬
‫فوعا عن جابر‪.‬‬ ‫ينفرد به‪ .‬قال أبو عمر‪ :‬وهو حديث ال يصح إال مر ً‬

‫الفصل السابع‪ :‬في األشياء التي إذا فسدت لها صالة اإلمام يتعدى الفساد إلى‬
‫المأمومين‬
‫واتفقوا على أنه إذا طرأ عليه احلدث يف الصالة فقطع أن صالة املأمومني ليست تفسد‪.‬‬
‫واختلف وا إذا ص لى هبم وه و جنب وعلم وا ب ذلك بع د الص الة‪ ،‬فق ال ق وم‪ :‬ص الهتم ص حيحة‪،‬‬
‫وقال قوم‪ :‬صالهتم فاسدة‪ ،‬وفرق قوم بني أن يكون اإلمام عاملاً جبنابته أو ناسيًا هلا‪ ،‬فقالوا‪ :‬إن‬
‫كان عاملاً فسدت صالهتم‪ ،‬وإن كان ناسيًا مل تفسد صالهتم‪ ،‬وباألول قال الشافعي‪ ،‬وبالثاين‬
‫قال أبو حنيفة‪ ،‬وبالثالث قال مالك‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم هل صحة انعقاد صالة املأموم مرتبطة بصحة صالة اإلمام‪ ،‬أم ليست‬
‫مرتبطة؟ فمن مل يرها مرتبطة قال‪ :‬صالهتم جائزة‪ ،‬ومن رآها مرتبطة قال‪ :‬صالهتم فاسدة‪ ،‬ومن‬
‫الس اَل ُم َكَّبَر فِـي‬
‫فرق بني السهو والعمد قصد إىل ظاهر األثر املتقدم‪ ،‬وهو‪َ( :‬أنَّهُ َعلَْي ِه الصَّاَل ةُ َو َّ‬
‫ب مُثَّ َر َج َع َو َعلَى ِج ْس ِم ِه آ َث ُر الْ َم ِاء)‪ .‬فإن‬ ‫ات‪ ،‬مُثَّ َ ِإ ِ ِ‬
‫َأش َار لَْيه ْم َأن ْام ُك ُث ْوا‪ ،‬فَ َذ َه َ‬
‫الص لَو ِ‬ ‫ٍِ‬
‫ص اَل ة م َن َّ َ‬
‫َ‬
‫ظاهر هذا أهنم بنوا على صالهتم‪ ،‬والشافعي يرى أنه لو كانت الصالة مرتبطة للزم أن يبدءوا‬
‫بالصالة مرة ثانية‪.‬‬

‫الباب الثالث من الجملة الثالثة‪ :‬صالة الجمعة‬


‫‪52‬‬
‫والكالم احملي ط بقواعد هذا الب اب منحص ر يف أربعة فص ول‪ :‬الفص ل األول‪ :‬يف وج وب‬
‫اجلمعة وعلى من جتب‪ .‬الثاين‪ :‬يف شروط اجلمعة‪ .‬الثالث‪ :‬يف أركان اجلمعة‪ .‬الرابع‪ :‬يف أحكام‬
‫اجلمعة‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬في وجوب الجمعة) ومن تجب عليه‬
‫أما وجوب صالة اجلمعة على األعيان فهو الذي عليه اجلمهور؛ لكو هنا بدالً من واجب‬
‫اس َع ْوا‬ ‫ِ‬ ‫وهو الظهر‪ ،‬ولظاهر قوله تعاىل‪( :‬ياَأيُّه ا الَّ ِذين َأمن وا ِإ َذا ن و ِدي لِ َّ ِ ِ ِ‬
‫لص الَة م ْن َي ْوم اجْلُ ُم َع ة فَ ْ‬ ‫َ َ ْ َ َُ ْ ُ ْ َ‬
‫اهلل َو َذ ُر ْوا الَْبْي َع) اجلمع ة‪ .٩ :‬واألم ر على الوج وب‪ ،‬ولقول ه علي ه الص الة والس الم‪:‬‬ ‫ِإىَل ِذ ْك ِر ِ‬
‫ات‪َْ ،‬أو لَيَ ْختِ َم َّن اهللُ َعلَى ُقلُ ْوهِبِ ْم)‪ .‬وذهب ق وم إىل أهنا من‬ ‫«لَيْنتَ ِه َّ َأْق وام عن ود ِع ِهم اجْل مع ِ‬
‫َ نَي َ ٌ َ ْ َ َ ُ ُ ُ َ‬
‫فروض الكفايات‪ .‬وعن مالك رواية شاذة أهنا سنة‪.‬‬
‫والسبب يف هذا االختالف تشبيهها بصالة العيد‪ ،‬لقوله عليه الصالة والسالم‪ِ( :‬إ َّن َه َذا‬
‫َي ْو ٌم َج َعلَهُ اهللُ ِعْي ًدا)‪.‬‬
‫وأما ع ل من جتب‪ :‬فعلى من وجدت فيه شروط وجوب الصالة املتقدمة‪ ،‬ووجد فيها‬
‫زائ دا عليه ا أربع ة ش روط‪ :‬اثن ان باتف اق‪ ،‬واثن ان خمتل ف فيه ا‪ .‬أم ا املتف ق عليهم ا فال ذكورة‬
‫والص حة‪ ،‬فال جتب على ام رأة وال على م ريض باتف اق‪ ،‬ولكن إن حض روا ك انوا من أه ل‬
‫اجلمعة‪ .‬وأما املختلف فيهما فهما‪ :‬املسافر والعبد‪ ،‬فاجلمهور على أنه ال جتب عليهما اجلمعة‪،‬‬
‫وداود وأصحابه على أنه جتب عليهما اجلمعة‪.‬‬
‫وس بب اختالفهم‪ :‬اختالفهم يف ص حة األث ر ال وارد يف ذل ك‪ ،‬وه و قول ه علي ه الص الة‬
‫اع ٍة‪ِ ،‬إاَّل َْأر َب َع ةً‪َ :‬عْب ٌد مَمْلُ ْو ٌك‪َ ،‬أ ِو ْام َرَأةٌ‪َْ ،‬أو‬ ‫ِ ِ‬ ‫والسالم‪( :‬اجْل مع ةُ ح ٌّق و ِ‬
‫ب َعلَى ُك ِّل ُم ْس ل ٍم فـي مَجَ َ‬‫اج‬
‫ُُ َ َ َ ٌ‬
‫(َأو ُم َس افٌِر)‪ .‬واحلديث مل يص ح عن د أك ثر‬ ‫ِإ‬
‫ض)‪ ،‬ويف أخ رى‪ ( :‬اَّل مَخْ َس ةً)‪ ،‬وفي ه‪ْ :‬‬ ‫ص يِب ٌّ َْأو َم ِريْ ٌ‬
‫َ‬
‫العلماء‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في شروط الجمعة)‬

‫‪53‬‬
‫وأم ا ش روط اجلمع ة ف اتفقوا على أهنا ش روط الص الة املفروض ة بعينه ا؛ أع ين‪ :‬الثماني ة‬
‫املتقدمة ما عدا الوقت واألذان‪ ،‬فإهنم اختلفوا فيهما‪ ،‬وكذلك اختلفوا يف شروطها املختصة هبا‪.‬‬
‫أم ا ال وقت ف إن اجلمه ور ع ل أن وقته ا وقت الظه ر بعين ه؛ أع ين‪ :‬وقت ال زوال‪ ،‬وأهنا ال‬
‫جتوز قبل الزوال‪ ،‬وذهب قوم إىل أنه جيوز أن تصلى قبل الزوال وهو قول أمحد بن حنبل‪.‬‬
‫خرج ه‬ ‫والس بب يف ه ذا االختالف يف مفه وم اآلث ار ال واردة يف تعجي ل اجلمع ة مث ل م ا ّ‬
‫ص لَّى اهللُ َعلَْي ِه َو َس لَّ َم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(ما ُكنَّا َنَتغَدَّى َعلَى َع ْهد َر ُس ْول اهلل َ‬ ‫البخاري عن سهل بن سعد أنه قال‪َ :‬‬
‫ص ِر ُف ْو َن َو َم ا لِْل ُج ْد َر ِان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َواَل نَقْي ُل ِإاَّل َب ْع َد اجْلُ ْم َع ة)‪ .‬ومث ل م ا روي‪َ( :‬أنَّ ُه ْم َك انُ ْوا يُ َ‬
‫ص لُّ ْو َن َو َيْن َ‬
‫َأظْاَل ٌل)‪ .‬فمن فهم من هذه اآلثار الصالة قبل الزوال أجاز ذلك‪ ،‬ومن مل يفهم منها إال التكبري‬
‫فقط مل جيز ذلك‪ ،‬لئال تتعارض األصول يف هذا الباب‪ ،‬وذلك أنه قد ثبت من حديث أنس بن‬
‫(َأن النَّيِب َكا َن يص لِّي اجْل مع ِة ِح تَ ِ‬
‫وأيض ا فإهنا ملا كانت ب داًل من الظهر‬
‫س)‪ً ،‬‬‫ُ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫الش‬
‫َّ‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫ـم‬ ‫ُ َ ُ ُ َ نْي َ‬ ‫مالك‪َّ َّ :‬‬
‫وجب أن يكون وقتها وقت الظهر‪ ،‬فوجب من طريق اجلمع بني هذه اآلثار أن حتمل تلك على‬
‫نصا يف الصالة قبل الزوال‪ ،‬وهو الذي عليه اجلمهور‪.‬‬
‫التبكري‪ ،‬إذ ليست ً‬
‫وأم ا األذان ف إن مجه ور الفقه اء اتفق وا على أن وقت ه ه و إذا جلس اإلم ام على املن رب‪،‬‬
‫واختلفوا هل يؤذن بني يدي اإلمام مؤذن واحد فقط أو أكثر من واحد؟ فذهب بعضهم إىل أنه‬
‫إمنا يؤذن بني يدي اإلمام مؤذن واحد فقط‪ ،‬وهو الذي حيرم به البيع والشراء‪ .‬وقال آخرون‪:‬‬
‫بل يؤذن اثنان فقط‪ .‬وقال قوم‪ :‬بل إمنا يؤذن ثالثة‪.‬‬
‫والس بب يف اختالفهم؛ اختالف اآلث ار يف ذل ك‪ ،‬وذل ك أن ه روى البخ اري عن الس ائب‬
‫ِّداء ي وم اجْل مع ِة ِإذَا جلَس اِْإل م ام علَى الْ ِمْن ِ علَى عه ِد رس و ِل ِ‬
‫اهلل‬ ‫رَب َ َ ْ َ ُ ْ‬ ‫َ َ َ ُ َ‬ ‫بن يزي د أن ه ق ال‪َ ( :‬ك ا َن الن َ ُ َ ْ ُ ُ ُ َ‬
‫ث‬ ‫ص لى اهلل علي ه وس لم وَأيِب ب ْك ٍر وعم ر‪َ ،‬فلَ َّما َك ا َن زم ا ُن عثْم ا َن و َكث ر النَّاس زاد الن َ ِ‬
‫ِّداءَ الثَّال َ‬ ‫ََ ُ َ َ َُ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ َُ َ‬
‫اهلل صلى‬ ‫الزور ِاء)‪ .‬وروي أيضا عن السائب بن يزيد أنه قال‪( :‬مَل ي ُكن يوم اجْل مع ِة لِرس و ِل ِ‬
‫ْ َ ْ َْ ُ ُُ َ َ ُ ْ‬ ‫ً‬ ‫َعلَى َّ ْ َ‬
‫ِ‬
‫أيض ا عن سعيد بن املسيب أنه قال‪َ ( :‬ك ا َن اَْأل َذا ُن َي ْو ُم‬ ‫اهلل عليه وسلم ِإاَّل ُم َؤ ذِّ ٌن َواح ٌد)‪ .‬وروى ً‬
‫اح ًدا ِحنْي َ خَي ْ ُر ُج‬ ‫اجْل مع ِة علَى عه ِد رس و ِل ِ‬
‫اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم وَأىِب ب ْك ٍر وعم ر َأ َذانً ا و ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َُ َ‬ ‫ُُ َ َ َ ْ َ ُ ْ‬
‫‪54‬‬
‫َّاس لِْل ُج ُم َع ِة)‪ .‬وروى ابن‬
‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫َأ‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬‫َ‬‫ي‬‫اَأْلو َل لِ‬
‫َّاس َف َز َاد اَْألذَا َن َّ‬ ‫ِإل‬
‫اْ َم ُام‪َ ،‬فلَ َّما َكا َن َز َما ُن ُعثْ َما َن َو َك ُث ُر الن ُ‬
‫(َأن الْم ذِّنِ َكانُوا يوم اجْل مع ِة علَى عه ِد رسو ِل ِ‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثَاَل ثَةٌ)‪.‬‬ ‫حبيب‪َ ُ َّ :‬ؤ نْي َ ْ َ ْ َ ُ ُ َ َ َ ْ َ ُ ْ‬
‫ف ذهب ق وم إىل ظ اهر م ا رواه البخ اري‪ ،‬وق الوا‪ :‬ي ؤذن ي وم اجلمع ة مؤذن ان‪ .‬وذهب‬
‫َّاس َز َاد‬
‫آخ رون إىل أن املؤذن واح د فق الوا‪ :‬إن مع ىن قول ه‪َ ( :‬فلَ َّما َك ا َن َز َم ا ُن عُثْ َم ا َن َو َك ُث َر الن ُ‬
‫ث)‪ ،‬أن الن داء الث اي ه و اإلقام ة‪ ،‬وأخ ذ آخ رون مبا رواه ابن ح بيب‪ ،‬وأح اديث ابن‬ ‫الن َ ِ‬
‫ِّداءَ الثَّال َ‬
‫حبيب عند أهل احلديث ضعيفة وال سيما فيما انفرد به‪.‬‬
‫وأم ا ش روط الوج وب والص حة املختص ة لي وم اجلمع ة‪ ،‬ف اتفق الك ل على أن من ش رطها‬
‫اجلماعة‪ ،‬واختلفوا يف مقدار اجلماعة‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬واحد مع اإلمام وهو الطربي‪ ،‬ومنهم من‬
‫ق ال‪ :‬اثن ان س وى اإلم ام‪ ،‬ومنهم من ق ال‪ :‬ثالث ة دون اإلم ام‪ ،‬وه و ق ول أيب حنيف ة‪ .‬ومنهم من‬
‫عددا‪ ،‬ولكن‬
‫اشرتط أربعني‪ ،‬وهو قول الشافعي وأمحد‪ .‬وقال قوم‪ :‬ثالثني‪ .‬ومنهم من مل يشرتط ً‬
‫رأى أنه جيوز مبا دون األربعني‪ .‬وال جيوز بالثالثة واألربعة‪ ،‬وهو مذهب مالك‪ ،‬وحدهم بأهنم‬
‫الذين ميكن أن تتقرى هبم قرية‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم يف هذا‪ :‬اختالفهم يف أقل ما ينطلق عليه اسم اجلمع‪ ،‬هل ذلك ثالثة أو‬
‫أربع ة أو اثن ان‪ ،‬وه ل اإلم ام داخ ل فيهم أم ليس ب داخل فيهم؟ وه ل اجلم ع املش رتط يف ه ذه‬
‫الص الة ه و أق ل م ا ينطل ق علي ه اس م اجلم ع يف غ الب األح وال‪ ،‬وذل ك ه و أك ثر من الثالث ة‬
‫واألربعة؟‪.‬‬
‫فمن ذهب إىل أن الش رط يف ذلك هو أقل ما ينطلق علي ه اسم اجلمع‪ ،‬وكان عنده أن‬
‫أقل ما ينطلق عليه اسم اجلمع اثنان‪ ،‬فإن كان من يعد اإلمام يف اجلمع املشرتط يف ذلك؛ قال‪:‬‬
‫تقوم اجلمعة باثنني اإلمام وواحد ثان‪ ،‬وإن كان ممن ال يرى أن يعد اإلمام يف اجلمع‪ ،‬قال‪ :‬تقوم‬
‫أيض ا عن ده أن أق ل اجلم ع ثالث ة‪ ،‬ف إن ك ان ال يع د اإلم ام يف‬
‫ب اثنني س وى اإلم ام‪ ،‬ومن ك ان ً‬
‫مجلتهم؛ قال‪ :‬بثالثة سوى اإلمام‪ ،‬وإن كان ممن يعد اإلمام يف مجلتهم وافق قول من قال‪ :‬أقل‬
‫اجلم ع اثن ان ومل يع د اإلم ام يف مجلتهم‪ .‬وأم ا من راعى م ا ينطل ق علي ه يف األك ثر والع رف‬
‫‪55‬‬
‫املستعمل اسم اجلمع؛ قال‪ :‬ال تنعقد باالثنني وال باألربعة ومل حيد يف ذلك حدًّا‪ ،‬وملا كان من‬
‫شرط اجلمعة االستيطان عنده حد هذا اجلمع بالقدر من الناس الذين ميكنهم أن يسكنوا على‬
‫قصريا إىل ما روي‪َّ :‬‬
‫(َأن َه َذا‬ ‫حدة من الناس‪ ،‬وهو مالك رمحه اهلل‪ .‬وأما من اشرتط األ ربعني ً‬
‫ت بِالن ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫َّاس)‪.‬‬ ‫الْ َع َد َد َكا َن يِف َأول مُجْ َعة ُ‬
‫صلِّيَ ْ‬
‫فه ذا ه و أح د ش روط ص الة اجلمع ة‪ ،‬أع ين‪ :‬ش روط الوج وب وش روط الص حة ف إن من‬
‫مجيع ا‪ ،‬أعين‪ :‬أهنا شروط وجوب‬
‫الشروط ما هي شروط وجوب فقط‪ ،‬ومنها ما جيمع األمرين ً‬
‫وشروط صحة‪.‬‬
‫وأما الشرط الثاىن وهو‪ :‬االستيطان‪ ،‬فإن فقهاء األمصار اتفقوا عليه التف اقهم على أن‬
‫اجلمعة ال جتب على مسافر‪ .‬وخالف يف ذلك أهل الظاهر إلجياهبم اجلمعة على املسافر‪ .‬واشرتط‬
‫أبو حنيفة املصر والسلطان مع هذا‪ ،‬ومل يشرتط العدد‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم يف هذا الباب‪ :‬هو االحتمال املتطرق إىل األحوال الراتبة اليت اقرتنت‬
‫هبذه الص الة عن د فعل ه إياه ا ص لى اهلل علي ه وس لّم‪ :‬ه ل هي ش رط يف ص حتها أو وجوهبا أم‬
‫ليست بشرط؟ وذلك أنه مل يصلها صلى اهلل عليه وس لّم إال يف مجاعة ومصر ومسجد جامع‪.‬‬
‫فمن رأى أن اق رتان ه ذه األش ياء بص الته م ا ي وجب ك و هنا ش رطًا يف ص الة اجلمع ة اش رتطها‪،‬‬
‫ومن رأى بعض ها دون بعض‪ ،‬اش رتط ذل ك البعض دون غ ريه كاش رتاط مال ك املس جد وترك ه‬
‫اش رتاط املص ر والس لطان‪ .‬ومن ه ذا الوض ع اختلف وا يف مس ائل كث رية من ه ذا الب اب‪ ،‬مث ل‬
‫اختالفهم هل تقام مجعتان يف مصر واحد أو ال تقام؟‬
‫والس بب يف اختالفهم يف اش رتاط األح وال واألفع ال املقرتن ة هبا ه و‪ :‬ك ون بعض تل ك‬
‫األح وال أش د مناس بة ألفع ال الص الة من بعض‪ ،‬ول ذلك اتفق وا على اش رتاط اجلماع ة‪ ،‬إذ ك ان‬
‫معلوما من الشرع أهنا حال من األحوال املوجودة يف الصالة‪ ،‬ومل ير مالك املصر وال السلطان‬
‫ً‬
‫شرطًا يف ذلك‪ ،‬لكونه غري مناسب ألحوال الصالة‪ ،‬ورأى املسجد شرطًا لكونه أقرب مناسبة‪،‬‬
‫لق د اختل ف املت أخرون من أص حابه ه ل من ش رط املس جد الس قف أم ال؟ وه ل من ش رطه أن‬
‫‪56‬‬
‫تك ون اجلمع ة راتب ة في ه أم ال؟ وه ذا كل ه لعل ه تعم ق يف ه ذا الب اب ودين اهلل يس ر‪ .‬ولقائ ل أن‬
‫يقول‪ :‬إن هذه لو كانت شروطًا يف صحة الصالة ملا جاز أن يسكت عنها عليه الصالة والسالم‬
‫ِ‬ ‫وال أن ي رتك بياهنا لقول ه تع اىل‪( :‬لِتَُبنِّي َ لِلن ِ‬
‫َّاس َم ا نُ ِز َل ِإلَْي ِه ْم) النح ل‪ ،٤٤ :‬ولقول ه تع اىل‪( :‬لتَُبنِّي ُ‬
‫اخَتلَ ُف ْوا فِْي ِـه) النحل‪ ،٦٤ :‬واهلل املرشد للصواب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هَلُ ْم الَّذي ْ‬

‫الفصل الثالث‪ :‬في األركان‬


‫اتفق املسلمون على أهنا خطبة وركعتان بعد اخلطبة‪ ،‬واختلفوا من ذلك يف مخس مسائل‬
‫هي قواعد هذا الباب‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬الخطبة‬
‫هل هي شرط يف صحة الصالة وركن من أركاهنا أم ال؟ فذهب اجلمهور إىل أهنا شرط‬
‫وركن‪ .‬وق ال ق وم‪ :‬إهنا ليس ت بف رض‪ ،‬ومجه ور أص حاب مال ك على أهنا ف رض إال ابن‬
‫املاجشون‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم هو‪ :‬هل األصل املتقدم من احتمال كل ما اقرتن هبذه الصالة أن يكون‬
‫من ش روطها أو ال يك ون؟‪ .‬فمن رأى أن اخلطب ة ح ال من األح وال املختص ة هبذه الص الة‪،‬‬
‫وخباص ة إذا ت وهم أهنا ع وض من الركع تني الل تني نقص تا من ه ذه الص الة ق ال‪ :‬إهنا ركن من‬
‫أرك ان هذه الص الة وش رط يف ص حتها‪ ،‬ومن رأى أن املقص ود منه ا ه و املوعظ ة املقص ودة من‬
‫سائر اخلطب‪ ،‬رأى أهنا ليست شرط من شروط الصالة‪ .‬وإمنا رفع اخلالف يف هذه اخلطبة‪ :‬هل‬
‫اس َع ْوا‬
‫هي فرض أم ال؟ لكو هنا راتبة من سائر اخلطب‪ ،‬وقد احتج قوم لوجو هبا بقوله تعاىل‪ :‬فَ ْ‬
‫ِإىَل ِذ ْك ِر ِ‬
‫اهلل) اجلمعة‪ .٩ :‬وقالوا‪ :‬هو اخلطبة‪.‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬مقدار الخطبة‬
‫واختلف الذين قالوا بوجوهبا يف القدر اجملزئ منها‪ ،‬فقال ابن القاسم‪ :‬هو أقل ما ينطلق‬
‫اسم خطبة يف كالم العرب من الكالم املؤلف املبتدإ حبمد اهلل‪ .‬وقال الشافعي‪ :‬أقل ما جيزئ من‬
‫قائم ا‪ ،‬يفص ل إح دامها من األخ رى جبلس ة‬
‫ذل ك خطبت ان اثنت ان‪ ،‬يك ون يف ك ل واح دة منهم ا ً‬
‫خفيفة‪ ،‬حيمد اهلل يف كل واحدة منهما يف أوهلا‪ ،‬ويصلي على النيب‪ ،‬ويوصي بتقوى اهلل ويقرأ‬
‫شيًئا من القرآن يف األوىل‪ ،‬ويدعو يف اآلخرة‪.‬‬
‫والس بب يف اختالفهم ه و‪ :‬ه ل جيزئ من ذل ك أق ل م ا ينطل ق علي ه االس م اللغ وي؛ أو‬
‫االسم الشرعي؟ فمن رأى أن اجملزئ أقل ما ينطلق عليه االسم اللغوي مل يشرتط فيها شيًئا من‬
‫األقوال اليت نقلت عنه صلى اهلل عليه وس لّم فيها‪ .‬ومن رأى أن اجملزئ من ذلك أقل ما ينطلق‬
‫عليه االسم الشرعي‪ ،‬اشرتط فيها أصول األقوال اليت نقلت من خطبه صلى اهلل عليه وس لّم ‪،‬‬
‫أعين‪ :‬األقوال الراتبة غري املبتذلة‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫والسبب يف هذا االختالف أن اخلطبة اليت نقلت عنه فيها أقوال راتبة وغري راتبة‪ :‬فمن‬
‫اعترب األقوال غري الراتبة وغلب حكمها قال‪ :‬يكفي من ذلك أقل ما ينطلق عليه االسم اللغوي؛‬
‫أع ين‪ :‬اس م خطب ة عن د الع رب‪ .‬ومن اعت رب األق وال الراتب ة وغلب حكمه ا؛ ق ال‪ :‬ال جيزئ من‬
‫ذلك إال أقل ما ينطلق عليه اسم اخلطبة يف عرف الشرع واستعماله‪.‬‬
‫وليس من شرط اخلطبة عند مالك اجللوس‪ ،‬وهو شرط كما قلنا عند الشافعي‪ ،‬وذلك أنه‬
‫من اعترب املعىن املعقول منه من كونه اسرتاحة للخطيب مل جبعله شرطًا‪ ،‬ومن جعل ذلك عبادة‬
‫جعله شرطًا‪.‬‬
‫المسألة الثالثة‪ :‬اإلنصات لإلمام‬
‫اختلفوا يف اإلنصات يوم اجلمعة واإلمام خيطب على ثالثة أقوال‪:‬‬
‫فمنهم من رأى أن اإلنصات واجب على كل حال وأنه حكم الزم من أحكام اخلطبة‪،‬‬
‫وهم اجلمه ور ومال ك والش افعي وأب و حنيف ة وأمحد بن حنب ل ومجي ع فقه اء األمص ار‪ ،‬وه ؤالء‬
‫انقسموا ثالثة أقس ام‪ :‬فبعضهم أجاز التشميت ورد الس الم يف وقت اخلطبة‪ ،‬وبه قال الثوري‬
‫واألوزاعي وغ ريهم وبعض هم مل جيز رد الس الم وال التش ميت‪ ،‬وبعض ف رق بني الس الم‬
‫والتشميت؛ فقالوا‪ :‬يرد السالم وال يشمت‪.‬‬
‫والق ول الث اين مقاب ل الق ول األول‪ ،‬وه و‪ :‬أن الكالم يف ح ال اخلطب ة ج ائز إال يف حني‬
‫قراءة القرآن فيها‪ ،‬وهو مروي عن الشعيب وسعيد بن جبري وإبراهيم النخعي‪.‬‬
‫والق ول الث الث‪ :‬الف رق بني أن يس مع اخلطب ة أو ال يس معها‪ ،‬ف إن مسعها أنص ت وإن مل‬
‫يسمع جاز له أن يسبح أو يتكلم يف مسألة من العلم‪ ،‬وبه قال أمحد وعطاء ومجاعة‪ ،‬واجلمهور‬
‫على أنه إن تكلم مل تفسد صالته‪ .‬وروي عن ابن وهب أنه قال‪ :‬من لغا فصالته ظهر أربع‪.‬‬
‫المسألة الرابعة‪ :‬هل يصل ركعتني إذا دخل واإلمام خيطب‬
‫اختلفوا فيمن جاء يوم اجلمعة واإلمام على املنرب‪ :‬هل يركع أم ال؟ فذهب بعض إىل أنه‬
‫ال يركع وهو مذهب مالك‪ ،‬وذهب بعضهم إىل أنه يركع‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫والسبب يف اختالفهم معارض ة القي اس لعموم األث ر‪ ،‬وذل ك أن عموم قول ه عليه الصالة‬
‫َأح ُد ُك ْم الْ َم ْس ِج َد َف ْلَي ْر َك ْع َر ْك َعَتنْي ِ )‪ ،‬ي وجب أن يرك ع ال داخل يف املس جد‬ ‫ِإ‬
‫والس الم‪ ( :‬ذَا َج اءَ َ‬
‫ي وم اجلمع ة وإن ك ان اإلم ام خيطب‪ ،‬واألم ر باإلنص ات إىل اخلطيب ي وجب دليل ه أن ال يش تغل‬
‫بشيء مما يشغل عن اإلنصات وإن كان عبادة‪ ،‬ويؤيد عموم هذا األثر ما ثبت من قوله عليه‬
‫ني َخ ِفْي َفَتنْي ِ )‪ ،‬خرجه‬
‫َأح ُد ُكم الْمس ِج َد واِْإل َم ُام خَي ْطُب َف ْلَير َك ْع ر ْك َعتَ ِ‬
‫ُ ْ َ‬
‫ِإ‬
‫الصالة والسالم‪َ ( :‬ذا َج اءَ َ ْ َ ْ َ‬
‫مس لم يف بعض روايات ه‪ ،‬وأك ثر روايات ه‪ :‬أن ال ين علي ه الص الة والس الم أم ر الرج ل ال داخل أن‬
‫َأح ُد ُك ْم) احلديث‪ ،‬فيتط رق إىل ه ذا اخلالف يف‪ :‬ه ل تقب ل زي ادة‬ ‫ِإ‬
‫يرك ع‪ ،‬و مل يق ل‪َ ( :‬ذا َج اءَ َ‬
‫ال راوي الواح د إذا خالف ه أص حابه عن الش يخ األول ال ذي اجتمع وا يف الرواي ة عن ه أم ال؟ ف إن‬
‫ص حت الزي ادة وجب العم ل هبا‪ ،‬فإهنا نص يف موض ع اخلالف‪ ،‬والنص ال جيب أن يع ارض‬
‫بالقياس‪ ،‬لكن يشبه أن يكون الذي راعاه مالك يف هذا هو العمل‪.‬‬
‫المسألة الخامسة‪ :‬ما يقرأ يف صالة اجلمعة‬
‫أك ثر الفقه اء على أن من س نة الق راءة يف ص الة اجلمع ة ق راءة س ورة اجلمع ة يف الركع ة‬
‫األوىل ملا تكرر ذلك من فعله عليه الصالة والسالم‪ ،‬وذلك أنه خرج مسلم عن أيب هريرة‪َّ :‬‬
‫(َأن‬
‫رس و َل اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم َك ا َن ي ْق رُأ فِـي ال َّر َكع ِة اُألوىَل بِاجْل مع ِة‪ ،‬وفِـي الثَّانِي ِة ِ‬
‫ب (ِإذَا‬ ‫َ‬ ‫ُُ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫َجاءَ َك الْ ُمنَافِ ُق ْو َن)‪ ،‬وروى مالك أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشري‪ :‬ماذا كان يقرأ به‬
‫(ه ْل‬‫ب َ‬‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم اجلمعة على أثر سورة اجلمعة؟ قال‪َ ( :‬ك ا َن ي ْق رُأ ِ‬
‫ََ‬
‫اش ي ِ‬
‫ث الْغَ ِ‬ ‫اك ح ِ‬
‫اس َم‬
‫(س بِّ ِح ْ‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫عنده‬ ‫قرأ‬ ‫وإن‬ ‫احلديث‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫عل‬ ‫العمل‬ ‫مالك‬ ‫واستحب‬ ‫)‪،‬‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫د‬ ‫َأتَ َ َ‬
‫َألعلَى) كان حسنًا؛ ألنه مروي عن عمر بن عبدالعزيز‪ ،‬وأما أبو حنيفة فلم يقف فيها‬
‫ك اْ ْ‬
‫َربِّ َ‬
‫شيًئا‪.‬‬
‫والسبب يف اختالفهم معارضة حال الفعل للقياس‪ ،‬وذلك أن القياس يوجب أال يكون‬
‫هلا سورة راتبة كاحلال يف سائر الصلوات‪ ،‬ودليل الفعل يقتضي أن يكون هلا سورة راتبة‪ .‬وقال‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم َك ا َن َي ْق َرُأ فِـي‬
‫(َأن رس و َل ِ‬
‫خرج مسلم عن النعمان بن بشري‪ْ ُ َ َّ :‬‬
‫القاضي‪َّ :‬‬
‫‪60‬‬
‫اش يَ ِة)‪ ،‬ق ال‪ :‬ف إذا‬
‫ث اْلغَ ِ‬ ‫ب (س بِّ ِح اس م ربِّك اَْألعلَى) و (ه ل َأتَ َ ِ‬
‫الْعِْي َديْ ِن وفِـي اجْل مع ِة ِ‬
‫اك َح ديْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُُ َ‬ ‫َ‬
‫اجتمع العيد واجلمعة يف يوم واحد قرأ هبما يف الصالتني‪ ،‬وهذا يدل على أنه ليس هناك سورة‬
‫دائما‪.‬‬
‫راتبة‪ ،‬وأن اجلمعة ليس كان يقرأ هبا ً‬

‫الفصل الرابع‪ :‬في أحكام الجمعة‬


‫ويف ه ذا الب اب أرب ع مس ائل‪ :‬األوىل‪ :‬يف حكم طه ر اجلمع ة‪ .‬الثاني ة‪ :‬ع ل من جنب من‬
‫خارج املصر‪ .‬الثالثة‪ :‬يف وقت الرواح املرغب فيه إىل اجلمعة‪ .‬الرابعة‪ :‬يف جواز البيع يوم اجلمعة‬
‫بعد النداء‪.‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬غسل يوم اجلمعة‬
‫اختلفوا يف طهر اجلمعة؛ فذهب اجلمهور إىل أنه سنة‪ ،‬وذهب أهل الظاهر إىل أنه فرض‬
‫وال خالف فيما أعلم أنه ليس شرطًا يف صحة الصالة‪.‬‬
‫والسبب يف اختالفهم تعارض اآلثار‪ ،‬وذلك أن يف هذا الباب حديث أيب س عيد اخلدري‪،‬‬
‫ب َعلَى ُك ِّل حُمْتَلِ ِم َكطُ ْه ِر اجْلَنَابَ ِة)‪ .‬وفيه‬ ‫ِ ِ‬
‫وهو قوله عليه الصالة والسالم‪( :‬طُ ْه ُر َي ْو ُم اجْلُ ُم َع ة َواج ٌ‬
‫ح ديث عائش ة ق الت‪( :‬ك ان الت اس عم ال أنفس هم ف ريوحون إىل اجلمع ة هبيئتهم‪ ،‬فقي ل‪ :‬لَ ِو‬
‫ا ْغتَ َس ْلتُ ْم؟)‪ ،‬واألول صحيح باتفاق‪ ،‬والثاىن خرجه أبو داود ومسلم‪ .‬وظاهر حديث أيب سعيد‬
‫يقتضي وجوب الغسل‪ ،‬وظاهر حديث عائشة أن ذلك كان ملوضع النظافة وأنه ليس عبادة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ُل) وه و نص يف‬ ‫ض َأ َي ْو َم اجْلُ ُم َع ة فَبِ َه ا َونَع َم ْ‬
‫ت‪َ ،‬و َم ِن ا ْغتَ َس َل فَالْغُ ْس ُل َأفْ َ‬ ‫(م ْن َت َو َّ‬
‫وق د روي‪َ :‬‬
‫سقوط فرضيته‪ ،‬إال أنه حديث ضعيف‪.‬‬
‫قوم ا قالوا‪ :‬ال جتب عل من خارج‬
‫وأما وجوب اجلمعة على من هو خارج املصر‪ :‬فإن ً‬
‫كثريا‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬من كان بينه وبني‬
‫املصر‪ ،‬وقوم قالوا‪ :‬بل جتب‪ ،‬وهؤالء اختلفوا اختالفًا ً‬
‫اجلمعة مسرية يوم وجب عليه اإلتيان إليها‪ ،‬وهو شاذ‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬جيب عليه اإلتيان إليها‬
‫عل ثالثة أميال‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬جيب عليه اإلتيان من حيث يسمع النداء يف األغلب‪ ،‬وذلك‬
‫‪61‬‬
‫من ثالث ة أمي ال من موض ع الن داء‪ ،‬وه ذان الق والن عن مال ك‪ .‬وه ذه املس ألة ثبتت يف ش روط‬
‫الوجوب‪.‬‬
‫وسبب اختالفهم يف هذا الباب‪ :‬اختالف اآلثار‪ ،‬وذلك‪ ،‬أنه ورد أن الناس كانوا يأتون‬
‫اجلمعة من العوايل يف زمان النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وذلك ثالثة أميال من املدينة‪ .‬وروى أبر‬
‫داود أن النيب عليه الصالة والسالم قال‪( :‬اجْلُ ُم َعةُ َعلَى َم ْن مَسِ َع الن َ‬
‫ِّداءَ)‪ ،‬وروي‪( :‬اجْلُ ُم َع ةُ َعلَى َم ْن‬
‫َآواهُ اللَّْي ُل ِإىَل َْأهلِ ِه)‪ ،‬وهو أثر ضعيف‪.‬‬
‫وأم ا اختالفهم يف الس اعات ال يت وردت يف فض ل ال رواح‪ ،‬وه و قول ه علي ه الص الة‬
‫الس ِ ِ ِ‬ ‫الس ِ‬
‫ب‬ ‫اح يِف َّ َ‬
‫اعة الثَّانيَة فَ َكَأ مَّنَا َقَّر َ‬ ‫اُأْلوىَل فَ َكَأ مَّنَا َقَّر َ‬
‫ب بَ َدنَةً‪َ ،‬و َم ْن َر َ‬ ‫اعة ْ‬ ‫اح يِف َّ َ‬
‫والسالم‪(:‬م ْن َر َ‬
‫َ‬
‫الساع ِة َّ ِ ِ‬ ‫الساع ِة الثَّالِث ِة فَ َكَأ مَّنَا َقَّرب َكبشا‪ ،‬ومن ر ِ‬
‫ب‬‫الراب َعة فَ َكَأ مَّنَا َقَّر َ‬ ‫اح فـي َّ َ‬
‫َ ْ ً ََ ْ َ َ‬ ‫اح يِف َّ َ َ‬ ‫َب َقَر ًة‪َ ،‬و َم ْن َر َ‬
‫الس ِ ِ ِ‬
‫ض ةً)‪ :‬فإن الشافعي وججاعة من العلماء‬ ‫ب َبْي َ‬‫اعة اخْلَام َس ة فَ َك َأ مَّنَا َق َّر َ‬
‫اح ِيف َّ َ‬
‫اجةً‪َ ،‬و َم ْن َر َ‬
‫َد َج َ‬
‫اعتقدوا أن هذه الساعات‪ :‬هي ساعات النهار‪ ،‬فندبوا إىل الرواح من أول النهار‪ ،‬وذهب مالك‬
‫إىل أهنا أجزاء ساعة واحدة فبل الزوال وبعده‪ ،‬وقال قوم‪ :‬هي أجزاء ساعة قبل الزوال‪ .‬وهو‬
‫األظهر لوجوب السعي بعد الزوال‪ ،‬إال على مذهب من يرى أن الواجب يدخله الفضيلة‪.‬‬
‫قوم ا قالوا‪ :‬يفسخ البيع إذا وقع النداء‪،‬‬
‫وأما اختالفهم يف البيع والشراء وقت النداء فإن ً‬
‫وقوم ا قالوا ال يفسخ‪ .‬وسبب اختالفهم‪ :‬هل النهي عن الثيء الذي أصله مباح إذا تقيد النهي‬
‫ً‬
‫بصفة يعود بفساد املنهي عنه أم ال؟‬
‫وآداب اجلمع ة ثالث الطيب والس واك واللب اس احلس ن‪ ،‬وال خالف في ه ل ورود اآلث ار‬
‫بذلك‪.‬‬

‫‪62‬‬

You might also like