Professional Documents
Culture Documents
البعد الجمالي لمفهوم إرادة القوة والإنسان الأعلى في فلسفة نيتشه
البعد الجمالي لمفهوم إرادة القوة والإنسان الأعلى في فلسفة نيتشه
مل يكن نقد « نيتشه « لثقافة عرصه-الرومانسية -نقدا عقيام وإنّ ا كان نقده نقدا ب ّناءا ،مبعنى أنّه
أىت ببديل ،من هنا كان الغرض من هذه الدراسة هو الوقوف عىل مالمح البديل الرومنيس الذي تصوره
« نيتشه « ،وهو البديل الجاميل وتقومياته البديلة عن التشاؤم الرومانيس .ولذلك تسعى هذه الدراسة
من خالل الوقوف عىل مفهوم إرادة القوة وكذلك مفهوم اإلنسان األعىل يف فكر « نيتشه «،لتسري
عكس بعض التأويالت الغري املتأنية و القراءات املترسعة سيام االيديولوجية منها لنؤكّد أ ّن هذين
املفهومني :مفهومني جامليني ،فإرادة القوة ال محالة تسلك مسلك إرادة الفنان ،مبا هي إرادة مبدعة
تتف ّنن بالقوة لتجميل األشياء وتزيينها .واإلنسان األعىل ،إنسان جاميل ،مقبل عىل املغامرة فقط من أجل
طلب ال ّنازع الجاميل الحاث عىل الحياة ،فمثله يف ذلك إذن مثل إرادة القوة سعي لسلك درب الفنان
الذي يؤمن باإلستيطيقا ( )L’esthétiqueوسيلة إليجاد املتعة يف الحياة.
أ -إرادة القـوة (:)Wille Zur Macht
-)1إرادة القـوة ضد إرادة الحياة:
يقول « نيتشه عىل لسان « زراداشت يف إحدى الشذرات << :لقد أفصحت إىل الحياة برسها
قائلة :إنه محكوم عيل دامئا أن أتفوق عىل ذايت .والحقيقة أنكم تسمون هذا إرادة تناسل ودافعا إىل
غاية ،إىل يشء أعىل ،وأبعد ،وأكرث تنوعا .ولكن كل هذا يشء واحد ورس واحد ،وإين أفضل الفناء عىل
إنكار هذه الوحدة .والحق أنكم حيث تشاهدون ذبول أوراق النباتات وتساقطها ،هنالك تشاهدون
تضحية الحياة بنفسها من أجل القوة .ذلك أنني محتوم عيل أن أكون نضاال وصريورة وغاية ومعارضة
للغايات .ويا أسفاه فإن كل من يتكهن .ما هي إراديت ،يجب أن يتكهن أيضا عىل أي طرق ملتوية
ينبغي أن تسري هذه اإلرادة .وأيا كان اليشء الذي أخلقه ،ومهام يكن ح ّبي له كبريا ،فرسعان ما
سأنقلب ضد ح ّبي له ،هكذا تبتغي إراديت >> (.)1
يف الشذرة داللة عىل اكتشاف « زرادشت» أن إرادة القوة( )La volonté de puissanceليست
مجرد خاصية من خصائص الحياة فحسب ،بل هي ماهية الحياة وجوهرها .فالحياة هي إرادة القوة
التي تتفوق عىل نفسها باستمرار وبهذا يعلن « نيتشه « عىل لسان « زراداشت» إميانه املطلق «
بإرادة القوة « ولكن السؤال الذي يطرح هو ما هي املس ّوغات التي س ّوغت لظهور فكرة « إرادة القوة
بالنسبة إىل « نيتشة «؟ ،ث ّم ما هي القراءة األقرب إىل الفهم األصيل ملفهوم إرادة القوة؟
إذا كان « شوبنهور» قد عجز عن تخطي حدود إرادة الحياة أو حدود التشاؤم الذي انتهت إليه هذه
اإلدارة ،فإن « نيتشه» يأخذ بهذه اإلرادة وبهذا التشاؤم الشوبنهوري « بعيدا ليتح ّول عنه ،ثم ليح ّوله
من السلب إىل اإليجاب .فإرادة القوة تقع يف طريف نقيض مع إرادة الحياة التي ترهن خالص اإلنسان
33
من املعاناة والشقاء واألمل بخالصه من إرادة الحياة نفسها طاملا أنها يف نظر « شوبنهور « رش مالحق
لإلنسان دامئا أبدا ما مل يطلّق إرادة الحياة ،بتطليق الرغبة واجتثاث جذور غريزة الحياة(L’instinct
. ) de vivre
إ ّن عدمية إرادة الحياة التي نجح « شوبنهور» يف ترويجها تع ّد يف نظرنا أوىل بوادر التسويغ النيتشوي
إلرادة القوة التي تبدو من وجهة نظرنا كرد فعل عىل إرادة الحياة يف صورتها النافية واملتشامئة التي
رسمها لها « شوبنهور « .ذلك أ ّن « إرادة القوة تفصح عن عداء رصيح ضد إرادة الحياة مبا هي دعوى
إىل الخيار بني احتاملني اثنني ،أولهام :قطع اإلنسان لصلة االرتباط مع أي مغري من إغراءات الحياة.
وثانيهام :العزوف عن الحياة باعتباره السبيل الوحيد للتخلّص من أمل الحياة وشقائها .عىل أ ّن هذين
االحتاملني تسويغ ملفهوم واحد ،أال وهو :االنتحار خري من أن يكابد اإلنسان شقاء الحياة وأملها .وهكذا
ظل أسريا يف سجن التشاؤم ،شاجبا بوجهه عن الحياة معرضا عنها ومحرضا إذا كان « شوبنهور» قد ّ
لحب الحياة ،مخلصا لها .
()2
عىل الخالص منها بهجرها وتطليقها ،فإ ّن « نيتشه « يبقى دامئا وفيا ّ
الحب بالذات –حب الحياة– هو الذي و ّجه « نيتشه « باالتجاه املضاد ،مبعنى من إرادة الحياة وهذا ّ
إىل إرادة القوة .فام إن أخضع « نيتشه « إرادة التشاؤم « الشوبنهوري» إىل املبدأ الجينيالوجي حتى
انفتحت عيناه عىل النقيض االيجايب ،املتمثل يف إرادة القـوة ،مبا هي إرادة اإلقبال عىل الحياة وقبول
لها واستقواء فيها.
من هنا كان رد إرادة القوة عىل إرادة الحياة ،كون أ ّن هذه األخرية إرادة نفي للحياة قامت أساسا
من اجل تكريس مثل عليا ( :الخالص ،التشاؤم ،الشفقة )...وغايتها يف ذلك واحدة وهي أن الحياة
أكذوبة .وبالتايل كانت إرادة الحياة بالدرجة األوىل إرادة تنبيه اإلنسان إىل عبثية الحياة (L’absurdité
، )de la vieوإرادة االنسحاب من الحياة وقتلها بالزهد أو باملثال الزهدي()L’idéal ascétique
بوصفه الخالص النهايئ من عبثية الحياة.
إن ثقافة اإلرادة فيام يرى « نيتشه « ال تعرتف بفصل اإلرادة عن الحياة ،بل إن واحدا منهام ال
يقوم بإلغاء اآلخر ،يف حني أن اإلرادة الشوبنهورية تعرتف باإلرادة كموجه للحياة ،ثم تضل عن طريقها
املستقيم حينام ترهن خالص اإلرادة برفعها عن عامل الحياة ،ذلك أ ّن اإلرادة مبا هي مستقلة عن الحياة،
ومبا هي مخطئة للحياة قبليا كام هو حالها مع « شوبنهور» تكشف يف نظر « نيتشه « الحقيقة ضد
باطل األباطيل :ذم الحياة وتحقريها وتبخيسها.
إن إرادة القوة يف نظرنا مرشوع قام من أجل تصويب الخطأ ،من أجل أن يلغي انقياد الحياة
بالخطأ ،ومن أجل أن يحيي الثقافة الرتاجيدية من جديد ،مبا هي حكمة « ديونيزوسية « ،وإرادة حياة
ال باملعنى « الشوبنهوري» وإمنا باملعنى الديونيزويس الذي يبارك كل ما يف الحياة ويجعله عيدا وبهجة.
فال مكانة لقول الخطيئة والتشاؤم والزهد يف الحياة ،وإمنا مثة قول لإلقبال عىل الحياة فقط مبىلء
ما فيها :شقائها ونعيمها ،فرحها وقرحها ،أو ليست الثقافة الرتاجيدية ،وحرصا الثقافة الديونيزوسية
مامرسة للذة يف األمل؟!
34
وهكذا انبثقت إرادة القوة من ذلك التعارض بني الرفض والقبول :رفض الحياة مع إرادة الحياة،
وقبول الحياة مع إرادة القوة وحول ذلك التعارض بني الرفض والقبول تجلت القوة كامهية أصيلة
لإلرادة وللحياة عىل حد السواء أمام « نيتشه « ،فوحدها الق ّوة يف نظر « نيتشه» تأكيد ايجايب عىل
الحياة << :وبقدر ما تكون الحياة قوية ،بقدر ما يكون العامل املوجود أكرث خصوبة>> .)3
-)2إرادة االقتدار بوصفها جامال:
يقول « لوك فريي « Luc Ferryوهو واحـد من نخبة الفالسفة املعارصين الفرنسيني املهتمني
بفلسفة « نيتشه « ،يف كتابه «اإلنسان الجاميل « ( << :)Homo Aestheticusبالنسبة لنيتشه،
يتمظهر الفن بوصفه استعراضا ملا هو حقيقي من خالل ارادة القوة « .4يخضع الفن يف نظر « نيتشه «
فني.
كام يؤكّـد عىل ذلك « لوك فريي» إىل إرادة اإلقتدار التي تكمن يف صلب الفنان من حيث هي نازع ّ
فثمة إذن نازع إرادة اإلقتدار وهو نفسه ال ّنازع الجاميل الذي يدفع الفنان إىل تصوير الطبيعة تصويرا
جامليا ،ولنئ تأ ّملنا هذا ال ّنازع الجاميل الذي يدفع الفنان إىل تصوير الطبيعة تصويرا جامليا ألمكننا أن
نقول فيه :إنّه نازع إرادة اإلقتدار نفسه .
كل أنشطة الحواس والذّهن .وهو دافع تقف وراءه إنّه ملن القـ ّوة مبكان بحيث يتحكّم الفن يف ّ
إرادة اإلقتدار التي يقوم اإلنسان الف ّنان بفضلها بقلب أنسجة وخاليا املفاهيم ،معوضا إياها باستعارات
جديدة ومجازات ،حامال نفسه بإستمرار عىل أن يعطي العامل الذي يتبدى أمام أعني اإلنسان املتأمل
صبغة شديدة اإلختالف ،دامئة التجدييد ،مليئة سحرا ،شبيهة بالحلم .فمن شأننا أن نحيا تحت سحر
الفن وإبداع الفنان يف وهم دائم ،أي يف عامل من اإلستعارات والكنايات ( )Les métaphoresال يف
عامل من الوقائع .وإ ّن لفي ذلك إختالف جوهري بني الفيلسوف وبني الفنان كام يؤكّد عىل ذلك « ماتيو
كسلر « Mathieu Kesslerيف قوله << :ينبغي عىل الفيلسوف وصف العامل يف حقيقته ،بينام
يتحتم عىل الفنان إبداع واقع ال ميت بصلة مع الواقع .الفنان مجرب عىل تصور العامل بخالف ما هو
عليه ،أ ّما الفيلسوف ،فمجرب التفكري داخل انساق عقله .وحده الفنان قادر أن يطلق العنان لجنونه
يك يح ّرر خياله.)5(« .
إ ّن الفنان لهو من يقفز عىل الواقع ويعتقد أن اليشء الجميل ال يصري جميال إالّ بخروجه عن
املفاهيم املجردة التي تهيمن عىل العقل وأنّه بقدر ما يكون اليشء قويا بقدر ما يصبح أكرث جامال،
فإرادة الجامل كام جاء عىل لسان « ياسربز « <<:تعني التط ّور الالّمحدود لألشكال :وحدها األجمل
ووحدها األقوى>> (.)6
إ ّن الغريزة التي يتق ّوم بها اإلنسان يف نظر « نيتشه « ما كانت يوما غريزة العقل أو غريزة ذهن
يطمح إىل املعرفة <<:فال ّذهن نفسه نتاج لجهاز كان يف البدء جامليا>> ( ،)7إنّ ا الغريزة التي ترسي يف
عروق اإلنسان هي غريزة الجامل ،فالعني مشدودة إىل الشكل الجميل ،واألذن متعلقة باإليقاع الجميل،
قـوي ،ولنئ شئنا أن نعرف
ويف ذلك كله إبداع قوة فنية جاملية ،ومن مث ّة فإ ّن الجامل هو نشوة فـنان ّ
طبيعة الجامل فلننظر إىل مدى ق ّوته.
35
إ ّن معيار الجامل بالنسبة « نيتشه « هو « إرادة القوة « ذلك أ ّن الجامل داللة عىل اإلرادة ،واإلرادة
يف فلسفة « نيتشه « رهن القـ ّوة .وها هنا خطأ آخر من « شوبنهور» حينام ذهب إىل إعتبار أ ّن أحد
مزايا الجامل << :إماتة لإلرادة وتح ّرر منها >> ( ،)8بيد أ ّن حقيقة الجامل فيام يرى « نيتشه « هي
كل حكم جاميل إحساس بالقوة ،والق ّوة وحدها تحدد أنّها داللة عىل سالمة اإلرادة وعافيتها ،فوراء ّ
استعامل نعت « الجميل».
إ ّن اإلنسان الجاميل ،لهو إنسان إرادة القوة بامتياز ،ذلك أن يف إبداعه للجميل إستقواء وإستقدار
يح ّول معاناة اإلنسان إىل فيض حياة و وفرة قـ ّوة.
إ ّن إرادة اإلقتدار يف نظرنا هي نفسها إرادة الجامل ( )La volonté du Beauباملعنى الذي يس ّميه
« نيتشه « جامال ديونيزوسيا ( ،)Beauté Dionysiaqueشأنه أن يعكس الرؤية الرتاجيدية للحياة التي
تتم عن قـ ّوة فنية هائلة ،أي إرادة االقتدار التي تثري املتعة والنشوة يف الجامل.
إ ّن القول عن يشء ما أنه « جميل « معناه التأكيد عىل قوته ،فوحده الجامل داللة عىل القوة ،مثلام
القبح داللة عىل الوهن.
ب -اإلنسان األعىلUmbermensech :
-)1اإلنسان األعىل والحياة:
أزف إليكم بشارة اإلنسانيعلن « زراداشت « عن فحوى بشارته لإلنسانية قائال << :جئت ّ
األعىل ،)9( >>...واملم ّعن ال ّنظر يف خالصة الرسالة التي أدىل بها « زرادشت « ليجد أ ّن غايته الوحيدة
تنصب عىل تثقيف اإلنسان األعىل ( )Le surhommeجنبا إىل جنب مع ثقافة إرادة القوة والعود
األبدي( .* )L’éternel retourوإذا كان مفهوم اإلنسان األعىل مفهوما أساسيا يف فلسفة « نيتشه «
عامة ويف مؤلفة « هكذا تكلّم زرادشت» خاصة ،فإ ّن السؤال الذي يطرح :ما هي سامت اإلنسان األعىل
يف فلسفة « نيتشه « ،وما هو البعد الدي يتخفى وراءه هدا املفهوم؟.
يؤكّـد « زرادشت « فور إعالنه عن نبأ اإلنسان األعىل ،أ ّن هذا األخري ينتمي إىل األرض ال إىل عامل
آخر مفارق ،بل إنّه ميثّل يف حقيقته معنى هذه األرض<< :اإلنسان األعىل هو معنى األرض ،فلتجعلوا
إرادتكم تقول :ينبغي أن يكون اإلنسان األعىل معنى األرض>>( ،)Nietzsche (F),1993,p291)(10
وبذلك يربط « نيتشه « برباط وثيق بني مفهوم « اإلنسان األعىل وبني الحياة ،فاإلنسان األعىل يبارك
الحياة وال يلعنها ،يثني عليها وال يحقّرها.
إ ّن اإلنسان األعىل هو ذلك املندفع شوقا صوب الحياة ،غايته يف ذلك هي إضفاء الجامل عىل صورة
نصب نفسه عدوا ضد محقّري الحـياة (:)Les contempteurs de la vie الحياة ولذلك نـراه قـد ّ
فهو رافع شعار « موت اإلله» ( ،)Dieu est mortوهو محارب الوصايا القدمية مناديا برضورة قلب
للمنيس ،للحياة
ّ القيم ( ،)Renversement des valeursوه ّمه الوحيد وراء ذلك إنّ ا هو ر ّد اإلعتبار
باعتبارها بؤرة الوجود األبدية وحلقة متكررة ال تعرف النهاية.
<< إنّ اإلنسان األعىل هو ذلك اإلنسان األقرب إىل الحياة >> ( ،)11فليس مث ّة سوى الحياة يلهث
36
يف طلبها :حياة تستبدل بحياة إىل األبد ،موت يتلوه موت وميالد يعقبه ميالد ،حياة يف موت وموت يف
حياة ،تلك هي حياة اإلنسان األعىل األبدية التي ما فتئ اإلنسان األعىل يتلذذ بحبها ،تلذذ عاشق منتيش
ير ّدد تحت تأثري الهذيان :إنّ ا نحن نؤمن بالحياة األبدية!.
إ ّن اإلنسان األعىل هو إنسان ما بعد املسيحية ،بل إ ّن ظهوره ما قام إالّ بغية اإلعالن عن موت
اإلله املسيحي الذي سلب براءة الحياة بإدانتها بتهمة الخطيئة .لقد بلغ اإلنسان األعىل من الوعي ما
مكّـنه من كشف خدعة اإلله املسيحي ،فام « الذّنب « ومـا « الخطيئة « إالّ رضب من رضوب االفرتاء
التهيب من والكذب ،أبدعتهام الكنيسة إنتقاما من الحياة ،إن هي إالّ ضالالت ابتدعها « القس» بغية ّ
الحياة ،بل إ ّن القس نفسه ليدرك أ ّن أقاويل من هذا القبيل ما هي إالّ الكذب بعينه (.)12
الصرب حتى يكتم غيظه من هذه األمور ،بل كيف ميكن لقدوة
ما بقي لإلنسان األعىل مزيد من ّ
الحياة بأن يطيق عدو الحياة؟!
إ ّن أفول اإلنسان املسيحي صار أمرا ال بد منه ،بل إن اإلنسان األعىل ليرتقّب موت هذا اإلنسان
وموت إلهه عىل السواء بلهف وشوق حتى يصلح العطب ويداوي الداء ويحارب الكذب ويحطّم
األصنام أمال يف شفاء الحياة من لذغة أعدائها.
إ ّن ما عبد تحت إسم اإلله املسيحي ما كان إلها باملعنى الحق << :وإنّ ا إلها عىل مقاس «بولس»>>
( ،)13قاسه مبقياس الشّ فقة والخطيئة والذّنب ،وبالجملة إنّه الجرمية ض ّد الحياة ،وال غرابة إذن يف موت
هذا اإلله << :وذلك ال يعني موت األمر اإللهي أو موت الشأن املقدّ س [ ]...إنّ ا اإلله الذي وصفه
نيتشه باملوت هو إله بولس ،إله الضّ عفاء وال ّناقمني والحاقدين عىل الحياة واألقوياء>>(.)14
إ ّن موت اإلله الذي نادى برضورته « نيتشه « ليمثل يف نظرنا دعوة القضاء عىل أثر كانت عواقبه
وخيمة ،ونعني بها العدمية التي كانت املسيحية يف نظر « نيتشه» ،إحـدى املر ّوجني لها ،جنبا إىل
جنب مع « األفالطـونية « أو ليست املسحية فيام يرى « نيتشه « سوى أفالطونية مسترتة؟! ،فكال هام
ّ
والشك وال ّريبة ،ورضورة تو ّخي الحذر والحيطة -األفالطونية – املسيحية – أثارا يف نفوس الناس الحرية
من الحياة ،كون هذه األخرية متثّل يف نظرهام مصدر رش مالحق ،سببه خطيئة إنسان ،ما إنفكت
اإلنسانية تدفع مثنها.
إ ّن « زراداشت» الذي استبرش بشارة اإلنسان األعىل ،ليضع هذا األخري يف طريف نقيض مع اإلنسان
العدمي ،ذلك أن اإلنسان األعىل ال يرى يف الحياة ظالما وال هام وال حزنا ،وإمنا هي بالضد من ذلك يف
نظره :نور وفرح وغبطة.
إ ّن اإلنسان ال يرىض بسعادة صغرى ،وذلك حال اإلنسان األعىل متعطش إىل سعادة كربى ،ينفتح
15
بحب هذه الحياة: مبوجبها أفق حياة متجددة وأبدية ،وإ ّن قلبه ملفعم ّ
هذا و تجدر بنا اإلشارة إىل أ ّن معنى اإلنسان األعىل ال يستوي مع معنى اإلنسان النظري (Homo
)Theoreticusذلك أ ّن إرادة اإلنسان األعىل هي إرادة القـ ّوة ،بينام إرادة اإلنسان ال ّنظري هي إرادة املعرفة.
37
إ ّن إرادة اإلنسان األعىل تنزع نزوع الحياة ،بينام تنزع إرادة املعرفـة نـزوع «الحقيقة» .وها نحن
أمام نقيضني :شغف بالحياة وشغف بالحقيقة( .)Le pathos de la véritéذلك أ ّن اإلنسان ال ّنظري
منذ أن ظهر ،عرف باحثا مخلصا عن « الحقيقة « ومثال « سقراط « خري دليل عىل ص ّحة هذا القول،
فمعلوم عن « سقراط « أنّه ك ّرس حياته من أجل املعرفة والحقيقة ،بل إ ّن ه ّمه الوحيد وقضيته األوىل
كانت البحث عن الحقيقة ولو عىل حساب األعراف والتقاليد .وما معادلته الشهرية :العقل = الفضيلة
= السعادة إالّ رضبا من رضوب إرادة الحقيقة.
إ ّن إرادة الحقيقة كغاية الغايات بالنسبة لإلنسان ال ّنظري إنّ ا تعني البحث عن عامل حق ال يعاين
فيه اإلنسان ،بيد أ ّن اإلنسان األعىل يبحث عن الحياة فقط ،ألنّها وحدها الحقيقة بعينها يف نظره،
ولذلك نراه يطلب الحياة باستمرار وينشد العودة إليها دون انقطاع ،وإ ّن لسان حاله ليهتف :أهذه
هي الحياة ،ألعود ّن إليها من جديد!.
يشك أبدا يف أ ّن مثة حقيقة أخرى غري حقيقة الحياة ولذلك تراه باحثا نشطا إ ّن اإلنسان األعىل ال ّ
كل درب يؤ ّدي إىل الحياة ،بينام ترى اإلنسان ال ّنظري بالض ّد من ذلك ،يزعم بوجود حقائق مفارقة عن ّ
ولربا كان ذلك سبب لنسجه رش الحياةّ ، للحياة ،وذلك حيلة منه للفرار من الحياة ،واتّقاءا منه ل ّ
إستعارات يس ّميها « حقيقة « ،يقول « نيتشه» يف هذا الصدد << :إنّنا ال نعلم أبدا من أين تأيت
غريزة** الحقيقة [ ،]...أن تكون حقيقي ،ذلك يعني استحضار كنايات لإلستعامل >> ( ،)16ولذلك
كانت إرادة الحقيقة ،إرادة كذب عىل الحياة ،وإرادة ضا ّرة باإلنسان ،مثلها يف ذلك مثل « إرادة العـدم»
تكشف يف جوهرها ويف عمقها عن تشاؤم رهيب << :وإنّ ال ّتشاؤم لهو أوىل أشكال العدمية >> (.)17
ذلك هو أه ّم ما يتّسم به اإلنسان النظري ،إميانه بوجود « الحقـائق» ،وهو بذلك يقع يف طريف
نقيض مع اإلنسان األعىل ،الذي ال يؤمن بحقيقة قطّ ،الله ّم إالّ حقيقة الحياة ،بوصفها الحقيقة الوحيدة
للصدق وما عدا ذلك فكلّه هراء وكذب. القابلة ّ
وبعد إذا كان اإلنسان األعىل ال يجد ضالّته يف منوذج اإلنسان األخري وال حتى يف منوذج اإلنسان
الديني-املسيحي ،وكذلك اإلنسان ال ّنظري ،كام أرشنا إىل ذلك سالفا ،فإ ّن السؤال الذي يُطرح :ما هو
ال ّنموذج األقرب إىل كنية اإلنسان األعىل؟.
-)2اإلنسان األعىل إنسان جاميل:
تقول « لوسالومي « <<: « ***Lous Saloméإنّ اإلنسان األعىل ليس إنسانا مساملا أو إنسانا
رس اإلنتهاك ولو عىل حساب ذاته ،نجد فيه قسوة فنان >>( شهويا :إنّه محارب [ ]...نجد يف شخصه ّ
.)Andreas (L),1992,p156 )(18
يحيل تعريف « لوسالومي « لإلنسان األعىل ،أ ّول ما يحيل إىل أ ّن هذا األخري يعني صنفا من اإلنسان
استكملت قـ ّوته واعتدلت طبيعته .إنسان قاهر لذاته ،قايس قسوة فنان!
إ ّن حقيقة اإلنسان األعىل يف نظرنا ،هي أنّه إنسان جاميل ،استحدثه « نيتشه « بغية تزيني اإلنسان
وتجميله ،وبغية جعل الحياة جميلة ال ّنظر ال خوف منها وال قرف .ومن مث ّة فإن اإلنسان األعىل ليس
محل تفاؤل
إنسان تدنيس وإنّ ا هو فن تزيني اإلنسان والحياة عىل حد السواء ،بطابع يجعل الحياة ّ
38
ال تشاؤم ،اإلنسان األعىل كام عرب عن ذلك «ميشال أونفراي « ،Michel onfrayالنيتشوي الفرنيس
كل إمكانات التشاؤم >> ( ،)19يج ّمل الحياة ويجعلها جديرة بالعيش.
املتمرد << :يقيص ّ
بكل صنوف التجميل والتزيني بشكل يح ّول الحياة إىل تلك هي غاية اإلنسان األعىل ه ّمه اإلستلذاذ ّ
رس الناظرين ،أو إىل غواية تثري اإلعجاب وتش ّد األنظار إليها.تحفة ت ّ
إ ّن اإلنسان األعىل عىل ح ّد تعبري « ماتيو كسلر « <<:Mathieu Kesslerهو أوال فيلسوف وفنان،
للصورة الجميلة التيمبعنى أنّه محطّم ومبدع >> ( ،)20إنسان محطّم للوجه القايس للحياة ومبدع ّ
تزيّن الحياة وتن ّم عن فيض حياة وقـ ّوة .وهنا يلعب اإلنسان األعىل يف نظرنا نفس الدور الذي كان
يلعبه « ديونيزوس» يف الثقافة الرتاجيدية اليونانية ،أين كان الفن الديونيزويس ،قـ ّوة عالجية هائلة
ترغّب يف الحياة وال تنفّـر منها.
كل معرفة << :ذلك أنّ إ ّن غاية الغايات بالنسبة لإلنسان األعىل هي إقرار الفن يف الوجود مكان ّ
تنم عن ضعف أو صعوبة ملواجهة « نيتشه» ال يأخذ برأي تلك النظرة التي ترى أنّ الحاجة إىل الفن ّ
الحياة وجها لوجه ،بل عىل العكس من ذلك ،فهو ينظر إليه –الفن– كمصدر لنمو القوة ،كقـ ّوة
للتحول ،كطبيعة فنان >> ( .)21فالفن الذي يسعى إليه اإلنسان األعىل ،مبا هو فن تجميل الوجود
وتزيينه ،داللة عىل اإلحساس بالقوة ،بل و عىل منوها .إ ّن التجميل عبارة عن إرادة منترصة تنسجم من
خاللها الرغبات القـويّة يف شكل جميل يثري املتعة ويحمل عىل اإلقبال.
لتبي لنا أنّه ين ّم عن صورة اإلنسان الفـنان ،أو اإلنسان الجاميل،
ولنئ حقّقنا يف أمر اإلنسان األعىلّ ،
الذي يحكم عىل الوجـود بأنّه جميل ومن مث ّة يستحق أن نحـياه ،أو نحيا الحياة ملئها .ذلك أ ّن هذا
اإلنسان– األعىل ،وهو يثني عىل الحياة ويقول « نعم» للحياة ،إنّ ا يعني ذلك انه ال يرى يف الحياة سوى
جامال ،أو باألحرى ال يرى سوى تجميله للحياة .وحيثام وجد الجامل وجدت القـ ّوة ،ومن مثة صدق
القـوي وهو نفسه اإلنسان األعىل،
ّ القول :كن قـويّا ترى العامل جميال .فاإلنسان املجمل هو اإلنسان
شغله الشاغل هو صناعة الجميل من أجل أن تصبح الحياة جديرة للعيش،! و بالتايل مساعدتها عىل
التخلص من إحساسها بالذنب ،والعـودة إىل براءتها و تحريها من إرادة العدم التي سجنت فيها.
إ ّن الغرض من خالل وقوفنا عىل فكـريت إرادة القوة واإلنسان األعىل ،هو قراءة مخالفة لتلك
القراءات اإليديولوجية التي حملت نيتشه ما مل نجده يف نصوصه. ! وعليه كانت القراءة الجاملية
لبعد هدين املفهومني هي القراءة األقرب إىل القراءة األصيلة.من هنا دافعنا عىل أن هدين املفهومني
مفهومني جامليني نحتهام «نيتشه» بغية تعرية العدمية و تحرير اإلنسان من إرادة العدم،و دفعه إىل
تربير العامل تربيرا جامليا ال تربيرا عدميا .
قامئة املصادر واملراجع
(1)- Nietzsche (F), Ainsi Parlait Zarathoustra, Friedrich Nietzsche Oeuvres, Edition dirigé
par Jean Lacoste et Jacques le rider, Ed. Robert Laffont, Paris, 1993, «De la victoire sur soi-
même», P 372.
(2)- Voir : Nietzsche (F), Ainsi Parlait Zarathoustra, Op. cit,» Lire et écrire «, P 313.
(3)- Edelman Bernard, Nietzsche un continent perdu, P.U.F, 1999, P 53.
(*) -يعترب هذا الكتاب من املؤلفات األخرية التي نرشت بعد وفاة « نيتشه» ،وهو منسوب إىل ‹نيتشه» الذي متنى
39
فجمعت شقيقته « اليزابت، إال أن « الجنون « حرمه من ذلك، « يوما أن يضع عمال منسقا هو « إرادة القوة
وذلك بعد أن شوهت الكثري من آراء، فوسرت « أشتاته ثم قامت بنرشه بعد وفاة شقيقها تحت عنوان إرادة القوة
: راجع يف هذا الصدد. مثل مفهوم إرادة القوة واإلنسان األعىل،« نيتشه» التي جعلتها تتامىش والتطلعات النازية
. الجزء األول، مرجع سابق، يف مقدمة ترجمته لكتاب إرادة القوةGeneviève Bianquis تعليق
(04)- Ferry Luc, Homo Aestheticus, Ed. Grasset, Paris 1990, P. 258.
(05)- Kessler Mathieu, « L’art a plus de valeur que la vérité», Magazine littéraire Hors-série N°
34-ème Trimestre, 2001, P 47.
(06)- Jaspers karl, Nietzsche, Introduction à sa philosophie, Trad. Henri Niel, Gallimard,
1950, P. 313.
(07)- Nietzsche (F), La volonté de puissance,trad.Genevieve Bianquis Vol. I,gallimard,1995,
P 251, Aph (96).
(08)- Nietzsche (F), La généalogie de la Morale, Friedrich Nietzsche Œuvres, Op cit, P. 843,
Aph (6).
(09)- Nietzsche (F), Ainsi parlait Zarathoustra, Op. cit, «Le prologue de Zarathoustra», P 291,
Aph (3).
Le( حينام كان يتج ّول يف بحرية سيلس مـاريا، العود األبدي – أمام « نيتشه « كالصاعقة- تجلت هذه الفكرة-*
وخالصتها أنّ الحياة تتك ّرر عددا المتناهيا، أين هبطت عليه فكرة العود األبدي،) بسويرساlac de sils –Maria
: راجع يف هذا الصدد تعليق،من املرات
Safranski (R), Nietzsche Biographie d’une pensée,trad.nicole casanova,actes sud,2000,p 209.
(10)- ibidem.
(11)- Edelman (B), Nietzsche un continent perdu, Op.cit, P 53.
)12(- Voir : Nietzsche (F), L’antéchrist suivi de Ecce Homo, Trad. Jean Claude Henerey,
Gallimard, 1974, P. 51, Aph (38).
)13(- Ibid,p P6465-, Aph (47).
،2008 ، الطبعة األوىل، بريوت، الشبكة العربية لألبحاث والنرش، نقد الحداثة يف فكر نيتشه، الشيخ محمد-)14(
.730-729 ص
)15(- Voir : Schlechta Karl, Le cas Nietzsche, Ed. Gallimard, 1960, P. 26.
28 و ص11 ص: أنظر مثال، ينعت نيتشه الحقيقة مبصطلح الغريزة يف عدة مواقع من الكتاب اآليت ذكره-**
: من الكتاب األيت ذكره
(16(- Nietzsche (F), Vérité et Mensonge au sens Extra–Moral, Tard. Nils Gascuel, Lecture de
François Warin et Philipe Cardinali, Ed. Actes sud, 1997, P 17, Aph (1).
(17)- Nietzsche (F), Le Nihilisme européen, Introduction et traduction par Angèle Kremer-
Marietti, Ed. Kimé, Paris, 1998, P 35, Aph (9).
-1937 1861( » إىل روما حيث إلتقى «بلوسالوميPaul Rée(( » تلقى «نيتشه» دعوة من صديقه « بول ريه-***
إال، ولقد طلب «نيتشه» منها الزواج، رحلت من روسيا إىل ايطاليا،) وهي شابة روسية عىل قدر كبري من الذكاء
. إذ أن اهتاممها « بنيتشه» كان منصبا عىل فكره ال شخصه،أنها رفضت
)18)- Andreas Lous- Salomé, Friedrich Nietzsche à travers ses œuvres, Tard . J .Benoist, Ed.
Grasset, Paris, 1992, P. 156.
)19(- Onfray Michel, La sagesse tragique du bon usage de Nietzsche, Livre de poche, Librairie
générale Française, 2006, P. 126.
)20(- Kessler (M), «L’art a plus de valeur que la vérité», Magazine littéraire, Hors-Série, Op.cit, P 47.
)21(- Bouveresse Renée, L’expérience esthétique, Ed. Armand Colin/Masson, Paris, 1998, P. 44.
40