You are on page 1of 5

‫الجاحظ‪ :‬من عبودية اإلماء إلى حرية القيان والغواني‬

‫ا‪ .‬د‪ .‬ميثم الجنابي‬


‫ميثم الجنابي "ليس يحسن عصى موسى وسحرة فرعون إال دون ما تحسنه القيان" (الجاحظ)‬

‫توطئة‪ :‬يعادل معنى القيان والغواني معنى الممثلة والراقصة والمغنية في ظروفنا وحياتنا المعاصرة‪ .‬وقد كانت هذه‬
‫الشخصية الثقافية وإبداعها الفني الطريق الذي دخلت فيه المرأة آنذاك في منافسة الرجل والتفوق عليه أحيانا‪ .‬ففي مجرى‬
‫تطور الثقافة عادة ما تضعف قيم الماضي للبطولة والخطابة والمواقف العملية‪ ،‬لكنها تستعيد ذلك من خالل الفن بمختلف‬
‫أصنافه‪ .‬كما نعثر في هذه الظاهرة أيضا‪ ،‬من الناحية الثقافية‪ ،‬على احد أنماط الفن واإلبداع الفني‪ .‬فكلما يتوسع مدى الثقافة‬
‫في اآلفاق واألنفس‪ ،‬كلما تالقى وتتمازج متطلبات الروح والجسد‪ ،‬وتجعله أكثر تناسقا وجماال أحيانا‪ ،‬وأشد قبحا ورذيلة‬
‫أحيانا أخرى‪ .‬فالفن كالحياة‪ .‬من ثم يحتوي على كافة المتناقضات‪ ،‬بوصفه طريق وأسلوب اإلبداع وتصنيع الجمال‪ .‬وكلما‬
‫تنحط الثقافة وتعود إلى قاع الحس البدائي‪ ،‬فإنها تترسب بهيئة قوالب أفضلها أرذلها! ومن الممكن االتيان هنا بإحدى النكت‬
‫الواقعية‪ ،‬عندما جاءت جوقة فنية من المغنيين والراقصين (غواني وقيان الماضي) إلى العراق‪ .‬وحالما جرى تسجيل‬
‫معلومات الدخول‪ ،‬أجابت احدى المشاركات على السؤال المتعلق بالمهنة بكلمة "راقصة"‪ .‬فاستغرب الرجل هذه المهنة ولم‬
‫يعرف كيف يضعها ضمن سياق االستمارات الشكلية‪ .‬عندها استفسر من الضابط عن معناها وكيفية كتابتها‪ ،‬فأجابه‬
‫الضابط‪ :‬اكتب قحبة! أي عاهرة‪ .‬مع إن كلمة القحبة (أو بصورة أدق القحباء) بالعربية ال تحتوي على هذه المعاني‪ ،‬بل‬
‫تشير إلى نوع من النساء المتميزات بالعراك والمشاجرة واألصوات العالية‪ ،‬التي يطلق عليها بالعراقية الدارجة كلمة‬
‫"امرأة بعارية"‪ .‬وهي حالة ثقافية مازال لها قوتها‪ ،‬رغم صعود نجومهن‪ ،‬ولكن في األساس ضمن عالم القيان والغواني‬
‫أيضا‪ .‬بينما ما زالت المهن العلمية بعيدة المنال نسبيا‪ .‬لكنها ظاهرة تاريخية يتوقف اضمحاللها أو توسعها على مدى‬
‫ونوعية التطور االجتماعي والثقافي بشكل عام والحرية الفردية واالجتماعية بشكل خاص‪.‬‬

‫وقد كان من األولى أن اضع لهذا المقال عنوان (الجاحظ وعوالم النسوان والوجدان)‪ .‬لكن بما انني بدأت قبل سنوات بكتابة‬
‫كتاب تحت نفس هذا العنوان (نسوان ووجدان)‪ ،‬ثم توقفت عنه‪ ،‬وبقي مجرد فصول لم تكتمل‪ .‬وقد ال تكتمل بسبب الذوق‬
‫العربي المعاصر الذي ال يتقبل ما فيه‪ ،‬ألنه يضع كل ما فيه على مبضع المواجهة الحقيقة مع النفس‪ .‬ومن ثم تحرجه‬
‫بأقسى أنواع التعرية الذاتية وتضعه أمام أدق وأحرج معايير اإلخالص والبوح بالنفس وما فيها بوصفها تجارب حية‪،‬‬
‫مهمتها توسيع وترسيخ الحرية‪ ،‬باعتبارها القيمة العليا وجوهر الوجود اإلنساني‪ .‬فالحرية السائدة في الوعي العربي‬
‫الحديث والمعاصر تبقى مجرد غالف وألفاظ‪ ،‬بينما الحرية الحقيقة تفترض إلقاء كل ما في اإلنسان وعليه والوقوف أمام‬
‫المطلق وهوته غير المتناهية في النفس‪ .‬فالبصيص الوحيد للحرية في الكينونة العربية المعاصرة وأفرادها عادة ما يبرز‬
‫بخجل ووجل من وراء خبايا الجسد‪ .‬في حين أن الحرية تفترض "تعرية" كل ما في الوجود ووضعه على لهيب االبتالء‬
‫الفردي واالجتماعي والقومي‪ ،‬فبدونه ال حرية متكاملة بمعايير تجاربها الذاتية‪ .‬ألن الحرية هي بالء وابتالء‪ ،‬اي الصيغة‬
‫األجمل واألعمق لإلبداع اإلنساني‪ .‬وحالما يجري تذوقها بمعاييرها عندها تتساقط حراشف الوجود الخشنة وقيمه الغبية‬
‫أمام نار المصير بوصفه نورا متوهجة‪ ،‬وشعلة خفية تكمن وراء كل إبداع أصيل‪.‬‬

‫***‬

‫وقد كانت هذه الحرية العميقة للجاحظ‪ ،‬التي أرست المعتزلة أسسها العقلية‪ ،‬منذ أن رفعت مبدأ حرية اإلرادة إلى مصاف‬
‫المبدأ الجوهري في منظومتها الفكرية والعملية‪ .‬فإبداع الجاحظ‪ ،‬شأن عيونه‪ ،‬ناتئة في مالمح إبداعه‪ .‬وليس مصادفة أن‬
‫تتخذ الفكرة عنده هيئة الوحدة الجذابة للبيان والوجدان والعقل الثقافي‪ .‬فبيان الجاحظ هو على الدوام بالغة الحرية وروحها‬
‫الثقافي‪.‬‬

‫وأسس الجاحظ ودعم فكرة الحرية الفعلية للمرأة من خالل ربطها بفكرة الجميل والجمال‪ .‬فهي القوة التي تضفى على كل‬
‫ما في الوجود رونقه الخاص‪ .‬ومن ثم يكون قد اسس لفكرة النافية عن المرأة بوصفها مادة للهو واللذة والبيع والشراء‬
‫تحت اي مسمى كان‪ .‬ووضع لهذه الفكرة اسسها المنهجية العقلية‪ .‬بمعنى انه لم يتنظر اليبها بمعايير الخطابة والبيان‪ ،‬بل‬
‫بمعايير العقل الثقافي‪ .‬ومن ثم اسس للعالقة العضوية بين الطبيعة والثقافة في كينونة المرأة التاريخية وقيمتها الروحية‬
‫والجسدية والجمالية‪ .‬وانطلق في منهجه هذا بالتوكيد على انه "ليس كل صامت عن حجته مبطال في اعتقاده‪ ،‬وال كل‬
‫ناطق بها ال برهان له‪ ،‬محقا في انتحاله‪ .‬والحاكم العدل من لم يعجل بفصل القضاء دون استقصاء حجج جميع الخصماء‪.‬‬
‫ودون أن يجول القول فيمن حضر من الخصماء واالستماع منه‪ ،‬وأن تبلغ الحجة مداها في البيان‪ .‬ويشرك القاضي‬
‫الخصمين في فهم ما اختصما به"[‪ .] 1‬بمعنى‪ ،‬إن الحكم الجازم الصارم بصدد إشكالية المرأة الثقافية (الدينية والدنيوية‪،‬‬
‫األخالقية والجسدية وغيرها) أيا كان صداه ومداه ال يعني شيئا بالنسبة للحقيقة‪ ،‬لكنه يعني الكثير بالنسبة لتربية الفهم‬
‫الخاطئ واإلفهام الخربة والمفاهيم المشوهة‪ .‬مع ما يترتب عليها من أحكام اقل ما يقال فيها أنها مجافية للحقيقة ومعارضة‬
‫للحق‪ .‬من هنا أهمية البحث في المتضادات عن الوحدة الدفينة الكامنة التي تقف ما وراء أصوات الرجال الخشنة وولعهم‬
‫بإتقان العبارة الرنانة عن الخشية والورع والحياء‪ ،‬بينما أعماقهم هي مزبلة الرذيلة‪ .‬إذ ال حق هنا يتعدى أو يمكنه أن‬
‫يكون فيصال ما لم "تبلغ الحجة مداها في البيان"‪ ،‬أي أن تكون جلية للروح والعقل والجسد‪ .‬فالحق مكين بظهوره‪ ،‬كما‬
‫يقول الجاحظ‪ .‬ومن ثم فهو "مبين عن نفسه‪ ،‬مستغن عن أن يستدل عليه بغيره"‪ .‬فالحق الجلي بمعايير الحقيقة كاف بذاته‪.‬‬
‫وال يحتاج إلى غيره‪ .‬وهي فكرة كانت تحتوي في أعماقها على ضرورة الرجوع‪ ،‬كما هو شأنه في كل المواقف واألحكام‪،‬‬
‫إلى العقل ووضع نتائجه على محك التاريخ الواقعي‪ .‬ومن ثم عرض كل ذلك بمعايير البيان والبالغة والجمال‪ .‬من هنا‬
‫استنتاجه القائل‪ ،‬بأنه يمكن االستدالل بالظاهر على الباطن والجوهر بالعرض‪ ،‬غير انه ال معنى لالستدالل بباطن على‬
‫ظاهر[‪.]2‬‬

‫لقد أراد الجاحظ القول‪ ،‬بأنه ال معنى باالستدالل بما هو ثانوي وجزئي على ما هو جوهري وكلي‪ .‬والقضية هنا ليست في‬
‫أن هذا النوع من االستدالل يتعارض مع ابسط قواعد المنطق‪ ،‬بل ويتعارض مع طبيعة األشياء نفسها‪ .‬وهي الحصيلة التي‬
‫وضعها في قاعدة منهجية عميقة تقول‪ ،‬بأن‪" ،‬الفروع ال محالة راجعة إلى أصولها‪ .‬وأمور العالم ممزوجة بالمشاكلة‪،‬‬
‫ومتفرّ دة بالمضادة‪ ،‬وبعضها علة لبعض‪ ...‬وكل ما في الوجود خول ومتاع إلى حين‪ .‬إال أن أقرب ما سّخر له من روحه‬
‫وألطفه عند نفسه األنثى[‪ ."] 3‬بعبارة اخرى‪ ،‬إن الوحدة القائمة في وجود األشياء كلها‪ ،‬هي األصل الذي ينبغي الرجوع‬
‫إليه بغض النظر عما يعترضها وفيها من مشاكلة وتف ّر د‪ .‬وذلك ألنها كلها علة لغيرها‪ .‬إذ كل ما في الوجود هو خول‪ ،‬أي‬
‫تخويل لإلنسان ومتاع‪ ،‬أي غذاء وجوده المادي ومتعته الروحية‪ .‬وهذا بدوره ليس إال الصيغة العامة والمجردة لوحدة‬
‫المادي والروحي فيه‪ .‬وبالنسبة للرجل ليس هذا األصل والمتاع والمتعة سوى المرأة‪ .‬فهي الكيان الذي يحتوي على‬
‫متضادات الوجود كالحياة نفسها‪.‬‬

‫وقد كانت هذه الفكرة في رؤية الجاحظ تمثل ما يمكن دعوته بمحاولته الكشف عن وحدة الطبيعة والثقافة في المرأة‬
‫وصيرورتها التاريخية‪ .‬ومن ثم إخراجها عن اطار وقيود العادات والتقاليد "المقدسة"‪ .‬من هنا قوله‪ ،‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫بأنه لوال المحنة والبلوى في تحريم ما حرّ م وتحليل ما ا ّح ل‪ ،‬لم يكن أحد أحق بواحدة منهن من اآلخر‪....‬كما ليس بعض‬
‫السوام (الماشية واإلبل الراعية) احق برعي مواقع السحاب من بعض‪ ،‬ولكان األمر كما قالت المجوس إن للرجل األقرب‬
‫فاألقرب إليه رحما وسببا منهن"[‪ .] 4‬لكن الجاحظ لم يسع من وراء ذلك إلى إرجاع العالقة بالمرأة إلى مستوى الطبيعة‬
‫البدائية أو الغريزية البحت‪ ،‬بل سعى لوضعها ضمن سياق الرؤية العقالنية العاملة بمعايير القواعد والقيم المتسامية‪ ،‬أي ما‬
‫اطلقت عليه عبارة البحث عن تناسق الطبيعة والثقافة في الرؤية والمواقف من المرأة‪ .‬من هنا فكرته عن أن الحالل هو‬
‫كل ما لم يح ّرمه القرآن و"ليس عل استقباح الناس واستحسانهم"[‪ .]5‬ولم يسع الجاحظ من وراء ذلك إلى االباحية والعدمية‬
‫والتسيب والفوضى‪ ،‬بقدر ما أراد إنقاذ الفكرة الجوهرية من العوارض المختلفة والعندية في األحكام عبر إرجاعها إلى‬
‫صيغة أوسع وأعمق وأكثر رحابة للحرية‪ .‬ومن ثم الوقوف ضد كل ما تراكم من أحكام وتصورات ال عالقة لها بما لم‬
‫يجر تحريمه‪ .‬والتحريم بالنسبة له الصيغة المتسامية لتوليف الرؤية األخالقية والحقوقية‪ .‬من هنا قوله "لوال وقوع التحريم‬
‫لزالت الغيرة"[‪ .] 6‬وبالتالي‪ ،‬فإن الغيرة بالنسبة له هي ليست ردود فعل الغريزة والجسد المنهك بالقيم الميتة واألعراف‬
‫القاتلة‪ ،‬بل هي القوة الم ّن سقة لمتطلبات الروح والجسد‪ .‬من هنا وضعه احدى األفكار اإلنسانية العميقة القائلة بوجوب‬
‫إرساء أسس العالقة بالنساء على وحدة المودة والرحمة واالحترام فيها‪.‬‬

‫وقد توصل الجاحظ إلى هذه الفكرة المتسامية بمعايير الروح اإلنساني وفكرة الحرية من خالل تحليل وربط مكونات‬
‫الطبيعة والتاريخ واإلبداع الثقافي في كل واحد‪ .‬فعندما تناول‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬قضية الحجاب‪ ،‬فإنه بدأ من تاريخ العرب‬
‫قبل اإلسالم‪ ،‬حيث لم يكن بين الرجال والنساء حجاب‪ .‬بل إن العرب كانت تحب المحاورة والغزل‪ .‬لهذا قالوا عن الرجل‬
‫انه زير نساء وذلك لكثرة الزيارة مع األهل‪ .‬كما نعثر على احد ونماذج هذه العالقة المتسامية والجميلة على مثال جميل‬
‫بثينة‪ .‬فعلى الرغم من أنها زوجة رجل آخر‪ ،‬لكنه كان يعشقها‪ ،‬دون أن يرغب بالنوم معها‪ ،‬وهي كذلك مع علم زوجها‪.‬‬
‫بينما لم تظهر فكرة الحجاب إال زمن اإلسالم‪ .‬لكنها عالقة مخصوصة وليست عامة‪ .‬فقد ضرب الحجاب على نساء النبي‪.‬‬
‫بينما كانت الشرائف من النساء يقعدن للرجال للحديث‪ .‬ولم يكن نظر بعضهم إلى بعض عارا في الجاهلية وال حراما في‬
‫اإلسالم‪ ،‬كما يقول الجاحظ[‪.]7‬‬

‫بل إن حرية العالقة بين الرجال والنساء قبل اإلسالم كانت تسم بقدر كبير من التوسع المبني على أساس تقييم المرأة‬
‫ومحبتها‪ .‬وقد اورد الجاحظ القصة المتعلقة بضباعة زوجة عبد هللا بن جدعان‪ .‬فقد كان زوجها كبير السن‪ .‬وعندما طلب‬
‫منها هشام بن المغيرة أن تطلّ قه ليتزوجها‪ ،‬اشترط عليه زوجها نحر مائة من اإلبل وأن تطوف في الكعبة عريانة‪ .‬ووافق‬
‫هشام على شروطه‪ .‬فنحر اإلبل وسمح لها بالطواف عارية‪ .‬وكانت من جميالت العرب‪ .‬كما ينقل لنا الجاحظ صورا عن‬
‫حياة الخلفاء األوائل أمثال عمر بن الخطاب وكذلك شخصيات أسالمية كبرى ومشهورة للبرهنة على صحة فكرته المتعلقة‬
‫بالدفاع عن المرأة وحريتها‪ .‬انه حاول البرهنة على بطالن "ما روت الحشوية من أن النظر األول حالل والثاني حرام"‪،‬‬
‫انطالقا من أنه ال يكون محادثة إال ومعها ما ال يحصى عدده من النظر‪ .]8[.‬أما معاوية بن ابي سفيان فقد كان يتعامل مع‬
‫احدى الجواري بالطريقة التالية‪ :‬يعريها في المجلس بحضرة جلسائه‪ ،‬ويضع القضيب على ركبتها ثم يقول انه متاع لو‬
‫وجد متاعا‪ .‬ثم يقول ألحدهم "خذها لبعض ولدك‪ ،‬فإنها ال تح ّل ليزيد‪ ،‬بعد أن فعلت بها ما فعلت"[‪ .]9‬بل أن تقاليد العرب‬
‫المسلمين كانت إلى جانب ت ّن قل المرأة بين الرجال في حال رغبة الرجال بها ويريدونها‪ .‬وال يمنعها من ذلك سوى موتها[‬
‫‪ .] 10‬بمعنى‪ ،‬إن للمرأة حرية الزواج والطالق والعيش مع مختلف الرجال كيف وكم تريد‪ .‬وال يقطعها عن ذلك سوى‬
‫الموت‪ .‬وما عدا ذلك من مواقف تجاهها فهي نتاج غيرة مفرطة‪ .‬من هنا حكمه القائل‪ ،‬بأنه "إذا جاوزت الغيرة ما حرّ م هللا‬
‫فهو باطل"‪ .‬وانه ال حرمة في بروز المرأة للرجال‪ .‬وذلك ألن فكرة الحرام هي "امر افرط فيه المتعدون حد الغيرة إلى‬
‫سوء الخلق وضيق الطعن‪ ،‬فصار عندهم كالحق الواجب"[‪.]11‬‬

‫وقد كانت هذه الحصيلة المقدمة النظرية إلبراز قيمة وأهمية الغواني والقيان‪ ،‬بوصفهن نساء الروح الجميل‪ .‬فقد اعتبر‬
‫الجاحظ الجميل كل ما هو تام ومعتدل‪ .‬بمعنى انه جعل من التمام واالعتدال معيار الجميل الجمال‪ .‬ومن ثم اعتبر "كل ما‬
‫خرج عن الحد في َخ ْل ٍق او ُخ ْل ٍق حتى في الدين والحكمة فهو قبيح مذموم"[‪ .]12‬والسماع واالستماع والتلذذ بالجميل‬
‫والجمال امر ال غبار عليه‪ .‬بل على العكس‪ .‬انه ضرورة للروح والجسد والتناسق والعقل والوجدان‪ .‬من هنا تأييده للفكرة‬
‫القائلة بضرورة وحالوة سماع القيان ولمسهن‪ .‬بينما اعتبر ما هو شائع من األحاديث "النبوية" مثل "فرقوا بين أنفاس‬
‫الرجال والنساء" والدعوة "لعدم الخلو فيما بينهما"‪ ،‬مجرد أحكام مبنية على ظاهر األمور‪ .‬فاهلل‪ ،‬كما يقول الجاحظ‪ ،‬لم‬
‫يكلف اإلنسان الحكم على الباطن والعمل على النيات‪ ،‬بل اكتفى بالظاهر‪ .‬لهذا يقضى للرجل باإلسالم بما يظهر منه ولعله‬
‫ملحد فيه‪ .‬بل انه دفع هذه الفكرة صوب مداها األقصى‪ ،‬عندما اعتبر شراء القيان ودفع اثمانهن هو شكل من أشكال‬
‫التعويض المادي عن الحب والعشق (المفقود)‪ .‬األمر الذي يعطي للقيان بعدا روحيا جماليا بما في ذلك حال سقوطه في‬
‫أوحال البيع الشراء‪ ،‬تماما كما تنقذ األزهار الطافحة على سطوح المستنقعات روائحه الكريهة بسبب اثارتها اهتمام النظر‬
‫بألوانها ورونقها‪ .‬فالقيان تنقذ عفونة الرجال ومستنقعات الجهل والغيرة البدائية عبر تصويب ما فيهما صوب ألوان وأنغام‬
‫العشق والغرام‪ .‬وهو الشيء الذي يثير الفرح ويجعله طاغيا بالشكل الذي يؤدي‪ ،‬كما يقول الجاحظ‪ ،‬إلى اندحار الشيطان[‬
‫‪ .] 13‬وهو استنتاج يرتقي إلى مصاف الفكرة الدقيقة والعميقة‪ .‬والقضية هنا ليست فقط في وقوفها ضد ما هو راكد في قاع‬
‫الوعي التقليدي وقيمه ومعاييره وأذواقه‪ ،‬بل وفي نفي الرذيلة المغلّفة بغباء المواقف وحشو الرؤية العقائدية‪ .‬فالشيطان هنا‬
‫هو ليس فقط وسواس بل وسلوك الرذيلة‪ .‬وكل ما هو علني وبالضد منه فهو تذليل لماهية الشيطان‪.‬‬

‫إن نقل عوالم الحس والذوق الباطنية صوب الظاهر والمظاهر هو األسلوب الذي يطهرهما من رجس الشيطان! فهو‬
‫االنتقال الذي يجعل من العشق والحب والغرام أسلوب الوصول إلى تذوق الجمال الحقيقي‪ .‬فالعشق‪ ،‬حسب تحديد الجاحظ‬
‫هو داء يصيب الروح‪ .‬وانه يتركب من الحب والهوى والمشاكلة واأللفة‪ .‬له ابتداء ووقوف على غاية وهبوط‪ .‬بمعنى انه‬
‫متحول متغير‪ .‬بينما الحب هو ابتداء العشق ثم يتبعه الهوى‪ .‬وقد يلتقيا أو يفترقا‪ .‬و"هذه سبيل الهوى في األديان والبلدان‬
‫وسائر األمور"‪ ،‬كما يقول الجاحظ[‪ .] 14‬وبالتالي‪ ،‬فإن العشق أعلى من الحب‪ .‬وال يحدث إال بمناسبة بينهما (بالطبيعة‬
‫والمشاكلة) كالمتثائب مع المتثائب والنائم مع المنعسات‪.‬‬

‫وضع الجاحظ هذه المقدمة في اساس موقفه من القيان والدفاع عنهن بمعايير العقل والروح والجسد والثقافة والفكرة‬
‫الجمالية‪ .‬إذ وقف من حيث الجوهر بالضد من الفكرة القائلة‪ ،‬بأن "من اآلفة عشق القيان"‪ .‬كما وقف بالضد من األحكام‬
‫النمطية عما يسمى بنصبها الشراك للمؤمنين وأمور ُأخرى وَأخرى‪ ،‬مثل الفكرة القائلة‪ ،‬بأن القيان تلهي عن ذكر هللا‪ .‬بينما‬
‫اعتبر الجاحظ‪ ،‬انه يمكن أن يكون كل ما في الوجود مله كاألكل والشرب والجماع[‪ .]15‬ذلك يعني‪ ،‬أن مساعي الجاحظ‬
‫في تتبع مظاهر وباطن القيان هو األسلوب الذي يمكن من خالل رؤية ما بين سطور كتابه وغايته عما يمكن دعوته بقوة‬
‫القيان الروحية[‪ .] 16‬واستمد هذه الحصيلة من تحليل حقيقة القيان نفسها‪ .‬وتوصل إلى أنهن "يتصفن بكثرة الفضائل‬
‫وسكون النفوس اليهن‪ ،‬ألنهن يجمعن كل ملذات الوجود"[‪ .]17‬والسبب يقوم في أن القيان تؤدي في وحدتها كل ما في‬
‫الحواس‪ ،‬بحيث يتسابق السمع والبصر واللمس في نقل مواردهم للقلب‪ .‬بل نرى الجاحظ يرفع هذه القضية إلى مصاف‬
‫القضايا الفكرية الفلسفية عندما شدد على أن ما يبدو في مظاهر القيان من أمور فاحشة‪ ،‬هي في الواقع على خالف ذلك‪.‬‬
‫والسبب يكمن في وحدة كيانها الذاتي وكينونتها في العلم والعمل‪ .‬فهي في عملها ال تستطيع الغفلة حتى في حال رغبتها‬
‫بذلك‪ ،‬شأن كل مبدع كبير‪ .‬وذلك ألنها "مضطرة إلى ذلك في صناعتها"‪ ،‬كما يقول الجاحظ‪ .‬فحتى لو أرادت الهوى‪ ،‬فإنها‬
‫ال تستطيع اليه‪ .‬بل لو رغبت بالغفلة لم تقدر عليها‪ ،‬وذلك ألن فكرها وقلبها ولسانها وبدنها مشغول بما هي فيه وعلى‬
‫حسب ما اجتمع عليها من ذلك في نفسها[‪.]18‬‬

‫من هنا مفارقة الفكرة التي يبلورها الجاحظ بهذا الصدد والقائلة‪ ،‬بأنه "لو لم يكن إلبليس شرك يقتل به‪ ،‬وال علم يدعو إليه‪،‬‬
‫وال فتنة يستهوي بها إال القيان لكفاه‪ .‬وليس هذا بذم لهن‪ ،‬ولكن من فرط المدح"‪ .‬إذ جاء في األثر "خير نسائكم السواحر‬
‫الخالبات"‪ .‬واختتمها بفكرة تجمع في ذاتها كل ما أراد قوله بهذا الصدد‪ ،‬والقائلة‪ ،‬بأن كل ما بلورته األديان عن نماذج‬
‫تثير القلق والولع واإلعجاب واالنبهار في ازدهار الرؤية والخيال تبدو قليلة مقارنة بما عند القيان‪ .‬فقد نظر الجاحظ إلى‬
‫عصى موسى وسحرة فرعون‪ ،‬أي نماذج السحر الباهر على أنها أشياء زهيدة بما عند القيان‪ ،‬أو حسب عبارته‪ ،‬إن كل‬
‫هذه األشياء "دون ما تحسنه القيان"[‪ .] 19‬وبالتالي‪ ،‬فإن ما يسمى اغرائها عن الدين فهو بفعل المنشأ والعمل والوظيفة‪.‬‬
‫وفي الحصيلة نستطيع استشفاف الفكرة والمواقف الكامنة في فلسفة الجاحظ بصدد حرية المرأة وأثرها ودورها في ابداع‬
‫الجميل‪ ،‬والتي تعلو على كل ما في األساطير والحكايات المقدسة والمدنسة‪ ،‬تماما كما يتالشى غبار الهذيان الديني‬
‫والدنيوي تحت أقدام القيان!‬

‫***‬

‫ميثم الجنابي‬

‫‪..................................‬‬

‫[‪ ] 1‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ضمن كتاب (ثالث رسائل للجاحظ‪ ،،‬القاهرة‪ ،‬المطبعة السلفية‪ 1344 ،‬للهجرة‪ ،‬تحقيق ونشر‬
‫يوشع فنكل)‪ ،‬ص‪.54-53‬‬

‫[‪ ]2‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.54‬‬

‫[‪ ]3‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.55‬‬

‫[‪ ]4‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.55‬‬

‫[‪ ]5‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.56‬‬

‫[‪ ]6‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.56‬‬


‫[‪ ]7‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.57-56‬‬

‫[‪ ]8‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.59‬‬

‫[‪ ]9‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.60‬‬

‫[‪ ]10‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.61‬‬

‫[‪ ]11‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.61‬‬

‫[‪ ]12‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.64‬‬

‫[‪ ]13‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.66‬‬

‫[‪ ]14‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪،‬ص‪.67‬‬

‫[‪ ]15‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.63‬‬

‫[‪ ]16‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.70-69‬‬

‫[‪ ]17‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.69‬‬

‫[‪ ]18‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.73‬‬

‫[‪ ]19‬الجاحظ‪ :‬رسالة القيان‪ ،‬ص‪.72‬‬

You might also like