Professional Documents
Culture Documents
توطئة :يعادل معنى القيان والغواني معنى الممثلة والراقصة والمغنية في ظروفنا وحياتنا المعاصرة .وقد كانت هذه
الشخصية الثقافية وإبداعها الفني الطريق الذي دخلت فيه المرأة آنذاك في منافسة الرجل والتفوق عليه أحيانا .ففي مجرى
تطور الثقافة عادة ما تضعف قيم الماضي للبطولة والخطابة والمواقف العملية ،لكنها تستعيد ذلك من خالل الفن بمختلف
أصنافه .كما نعثر في هذه الظاهرة أيضا ،من الناحية الثقافية ،على احد أنماط الفن واإلبداع الفني .فكلما يتوسع مدى الثقافة
في اآلفاق واألنفس ،كلما تالقى وتتمازج متطلبات الروح والجسد ،وتجعله أكثر تناسقا وجماال أحيانا ،وأشد قبحا ورذيلة
أحيانا أخرى .فالفن كالحياة .من ثم يحتوي على كافة المتناقضات ،بوصفه طريق وأسلوب اإلبداع وتصنيع الجمال .وكلما
تنحط الثقافة وتعود إلى قاع الحس البدائي ،فإنها تترسب بهيئة قوالب أفضلها أرذلها! ومن الممكن االتيان هنا بإحدى النكت
الواقعية ،عندما جاءت جوقة فنية من المغنيين والراقصين (غواني وقيان الماضي) إلى العراق .وحالما جرى تسجيل
معلومات الدخول ،أجابت احدى المشاركات على السؤال المتعلق بالمهنة بكلمة "راقصة" .فاستغرب الرجل هذه المهنة ولم
يعرف كيف يضعها ضمن سياق االستمارات الشكلية .عندها استفسر من الضابط عن معناها وكيفية كتابتها ،فأجابه
الضابط :اكتب قحبة! أي عاهرة .مع إن كلمة القحبة (أو بصورة أدق القحباء) بالعربية ال تحتوي على هذه المعاني ،بل
تشير إلى نوع من النساء المتميزات بالعراك والمشاجرة واألصوات العالية ،التي يطلق عليها بالعراقية الدارجة كلمة
"امرأة بعارية" .وهي حالة ثقافية مازال لها قوتها ،رغم صعود نجومهن ،ولكن في األساس ضمن عالم القيان والغواني
أيضا .بينما ما زالت المهن العلمية بعيدة المنال نسبيا .لكنها ظاهرة تاريخية يتوقف اضمحاللها أو توسعها على مدى
ونوعية التطور االجتماعي والثقافي بشكل عام والحرية الفردية واالجتماعية بشكل خاص.
وقد كان من األولى أن اضع لهذا المقال عنوان (الجاحظ وعوالم النسوان والوجدان) .لكن بما انني بدأت قبل سنوات بكتابة
كتاب تحت نفس هذا العنوان (نسوان ووجدان) ،ثم توقفت عنه ،وبقي مجرد فصول لم تكتمل .وقد ال تكتمل بسبب الذوق
العربي المعاصر الذي ال يتقبل ما فيه ،ألنه يضع كل ما فيه على مبضع المواجهة الحقيقة مع النفس .ومن ثم تحرجه
بأقسى أنواع التعرية الذاتية وتضعه أمام أدق وأحرج معايير اإلخالص والبوح بالنفس وما فيها بوصفها تجارب حية،
مهمتها توسيع وترسيخ الحرية ،باعتبارها القيمة العليا وجوهر الوجود اإلنساني .فالحرية السائدة في الوعي العربي
الحديث والمعاصر تبقى مجرد غالف وألفاظ ،بينما الحرية الحقيقة تفترض إلقاء كل ما في اإلنسان وعليه والوقوف أمام
المطلق وهوته غير المتناهية في النفس .فالبصيص الوحيد للحرية في الكينونة العربية المعاصرة وأفرادها عادة ما يبرز
بخجل ووجل من وراء خبايا الجسد .في حين أن الحرية تفترض "تعرية" كل ما في الوجود ووضعه على لهيب االبتالء
الفردي واالجتماعي والقومي ،فبدونه ال حرية متكاملة بمعايير تجاربها الذاتية .ألن الحرية هي بالء وابتالء ،اي الصيغة
األجمل واألعمق لإلبداع اإلنساني .وحالما يجري تذوقها بمعاييرها عندها تتساقط حراشف الوجود الخشنة وقيمه الغبية
أمام نار المصير بوصفه نورا متوهجة ،وشعلة خفية تكمن وراء كل إبداع أصيل.
***
وقد كانت هذه الحرية العميقة للجاحظ ،التي أرست المعتزلة أسسها العقلية ،منذ أن رفعت مبدأ حرية اإلرادة إلى مصاف
المبدأ الجوهري في منظومتها الفكرية والعملية .فإبداع الجاحظ ،شأن عيونه ،ناتئة في مالمح إبداعه .وليس مصادفة أن
تتخذ الفكرة عنده هيئة الوحدة الجذابة للبيان والوجدان والعقل الثقافي .فبيان الجاحظ هو على الدوام بالغة الحرية وروحها
الثقافي.
وأسس الجاحظ ودعم فكرة الحرية الفعلية للمرأة من خالل ربطها بفكرة الجميل والجمال .فهي القوة التي تضفى على كل
ما في الوجود رونقه الخاص .ومن ثم يكون قد اسس لفكرة النافية عن المرأة بوصفها مادة للهو واللذة والبيع والشراء
تحت اي مسمى كان .ووضع لهذه الفكرة اسسها المنهجية العقلية .بمعنى انه لم يتنظر اليبها بمعايير الخطابة والبيان ،بل
بمعايير العقل الثقافي .ومن ثم اسس للعالقة العضوية بين الطبيعة والثقافة في كينونة المرأة التاريخية وقيمتها الروحية
والجسدية والجمالية .وانطلق في منهجه هذا بالتوكيد على انه "ليس كل صامت عن حجته مبطال في اعتقاده ،وال كل
ناطق بها ال برهان له ،محقا في انتحاله .والحاكم العدل من لم يعجل بفصل القضاء دون استقصاء حجج جميع الخصماء.
ودون أن يجول القول فيمن حضر من الخصماء واالستماع منه ،وأن تبلغ الحجة مداها في البيان .ويشرك القاضي
الخصمين في فهم ما اختصما به"[ .] 1بمعنى ،إن الحكم الجازم الصارم بصدد إشكالية المرأة الثقافية (الدينية والدنيوية،
األخالقية والجسدية وغيرها) أيا كان صداه ومداه ال يعني شيئا بالنسبة للحقيقة ،لكنه يعني الكثير بالنسبة لتربية الفهم
الخاطئ واإلفهام الخربة والمفاهيم المشوهة .مع ما يترتب عليها من أحكام اقل ما يقال فيها أنها مجافية للحقيقة ومعارضة
للحق .من هنا أهمية البحث في المتضادات عن الوحدة الدفينة الكامنة التي تقف ما وراء أصوات الرجال الخشنة وولعهم
بإتقان العبارة الرنانة عن الخشية والورع والحياء ،بينما أعماقهم هي مزبلة الرذيلة .إذ ال حق هنا يتعدى أو يمكنه أن
يكون فيصال ما لم "تبلغ الحجة مداها في البيان" ،أي أن تكون جلية للروح والعقل والجسد .فالحق مكين بظهوره ،كما
يقول الجاحظ .ومن ثم فهو "مبين عن نفسه ،مستغن عن أن يستدل عليه بغيره" .فالحق الجلي بمعايير الحقيقة كاف بذاته.
وال يحتاج إلى غيره .وهي فكرة كانت تحتوي في أعماقها على ضرورة الرجوع ،كما هو شأنه في كل المواقف واألحكام،
إلى العقل ووضع نتائجه على محك التاريخ الواقعي .ومن ثم عرض كل ذلك بمعايير البيان والبالغة والجمال .من هنا
استنتاجه القائل ،بأنه يمكن االستدالل بالظاهر على الباطن والجوهر بالعرض ،غير انه ال معنى لالستدالل بباطن على
ظاهر[.]2
لقد أراد الجاحظ القول ،بأنه ال معنى باالستدالل بما هو ثانوي وجزئي على ما هو جوهري وكلي .والقضية هنا ليست في
أن هذا النوع من االستدالل يتعارض مع ابسط قواعد المنطق ،بل ويتعارض مع طبيعة األشياء نفسها .وهي الحصيلة التي
وضعها في قاعدة منهجية عميقة تقول ،بأن" ،الفروع ال محالة راجعة إلى أصولها .وأمور العالم ممزوجة بالمشاكلة،
ومتفرّ دة بالمضادة ،وبعضها علة لبعض ...وكل ما في الوجود خول ومتاع إلى حين .إال أن أقرب ما سّخر له من روحه
وألطفه عند نفسه األنثى[ ."] 3بعبارة اخرى ،إن الوحدة القائمة في وجود األشياء كلها ،هي األصل الذي ينبغي الرجوع
إليه بغض النظر عما يعترضها وفيها من مشاكلة وتف ّر د .وذلك ألنها كلها علة لغيرها .إذ كل ما في الوجود هو خول ،أي
تخويل لإلنسان ومتاع ،أي غذاء وجوده المادي ومتعته الروحية .وهذا بدوره ليس إال الصيغة العامة والمجردة لوحدة
المادي والروحي فيه .وبالنسبة للرجل ليس هذا األصل والمتاع والمتعة سوى المرأة .فهي الكيان الذي يحتوي على
متضادات الوجود كالحياة نفسها.
وقد كانت هذه الفكرة في رؤية الجاحظ تمثل ما يمكن دعوته بمحاولته الكشف عن وحدة الطبيعة والثقافة في المرأة
وصيرورتها التاريخية .ومن ثم إخراجها عن اطار وقيود العادات والتقاليد "المقدسة" .من هنا قوله ،على سبيل المثال،
بأنه لوال المحنة والبلوى في تحريم ما حرّ م وتحليل ما ا ّح ل ،لم يكن أحد أحق بواحدة منهن من اآلخر....كما ليس بعض
السوام (الماشية واإلبل الراعية) احق برعي مواقع السحاب من بعض ،ولكان األمر كما قالت المجوس إن للرجل األقرب
فاألقرب إليه رحما وسببا منهن"[ .] 4لكن الجاحظ لم يسع من وراء ذلك إلى إرجاع العالقة بالمرأة إلى مستوى الطبيعة
البدائية أو الغريزية البحت ،بل سعى لوضعها ضمن سياق الرؤية العقالنية العاملة بمعايير القواعد والقيم المتسامية ،أي ما
اطلقت عليه عبارة البحث عن تناسق الطبيعة والثقافة في الرؤية والمواقف من المرأة .من هنا فكرته عن أن الحالل هو
كل ما لم يح ّرمه القرآن و"ليس عل استقباح الناس واستحسانهم"[ .]5ولم يسع الجاحظ من وراء ذلك إلى االباحية والعدمية
والتسيب والفوضى ،بقدر ما أراد إنقاذ الفكرة الجوهرية من العوارض المختلفة والعندية في األحكام عبر إرجاعها إلى
صيغة أوسع وأعمق وأكثر رحابة للحرية .ومن ثم الوقوف ضد كل ما تراكم من أحكام وتصورات ال عالقة لها بما لم
يجر تحريمه .والتحريم بالنسبة له الصيغة المتسامية لتوليف الرؤية األخالقية والحقوقية .من هنا قوله "لوال وقوع التحريم
لزالت الغيرة"[ .] 6وبالتالي ،فإن الغيرة بالنسبة له هي ليست ردود فعل الغريزة والجسد المنهك بالقيم الميتة واألعراف
القاتلة ،بل هي القوة الم ّن سقة لمتطلبات الروح والجسد .من هنا وضعه احدى األفكار اإلنسانية العميقة القائلة بوجوب
إرساء أسس العالقة بالنساء على وحدة المودة والرحمة واالحترام فيها.
وقد توصل الجاحظ إلى هذه الفكرة المتسامية بمعايير الروح اإلنساني وفكرة الحرية من خالل تحليل وربط مكونات
الطبيعة والتاريخ واإلبداع الثقافي في كل واحد .فعندما تناول ،على سبيل المثال ،قضية الحجاب ،فإنه بدأ من تاريخ العرب
قبل اإلسالم ،حيث لم يكن بين الرجال والنساء حجاب .بل إن العرب كانت تحب المحاورة والغزل .لهذا قالوا عن الرجل
انه زير نساء وذلك لكثرة الزيارة مع األهل .كما نعثر على احد ونماذج هذه العالقة المتسامية والجميلة على مثال جميل
بثينة .فعلى الرغم من أنها زوجة رجل آخر ،لكنه كان يعشقها ،دون أن يرغب بالنوم معها ،وهي كذلك مع علم زوجها.
بينما لم تظهر فكرة الحجاب إال زمن اإلسالم .لكنها عالقة مخصوصة وليست عامة .فقد ضرب الحجاب على نساء النبي.
بينما كانت الشرائف من النساء يقعدن للرجال للحديث .ولم يكن نظر بعضهم إلى بعض عارا في الجاهلية وال حراما في
اإلسالم ،كما يقول الجاحظ[.]7
بل إن حرية العالقة بين الرجال والنساء قبل اإلسالم كانت تسم بقدر كبير من التوسع المبني على أساس تقييم المرأة
ومحبتها .وقد اورد الجاحظ القصة المتعلقة بضباعة زوجة عبد هللا بن جدعان .فقد كان زوجها كبير السن .وعندما طلب
منها هشام بن المغيرة أن تطلّ قه ليتزوجها ،اشترط عليه زوجها نحر مائة من اإلبل وأن تطوف في الكعبة عريانة .ووافق
هشام على شروطه .فنحر اإلبل وسمح لها بالطواف عارية .وكانت من جميالت العرب .كما ينقل لنا الجاحظ صورا عن
حياة الخلفاء األوائل أمثال عمر بن الخطاب وكذلك شخصيات أسالمية كبرى ومشهورة للبرهنة على صحة فكرته المتعلقة
بالدفاع عن المرأة وحريتها .انه حاول البرهنة على بطالن "ما روت الحشوية من أن النظر األول حالل والثاني حرام"،
انطالقا من أنه ال يكون محادثة إال ومعها ما ال يحصى عدده من النظر .]8[.أما معاوية بن ابي سفيان فقد كان يتعامل مع
احدى الجواري بالطريقة التالية :يعريها في المجلس بحضرة جلسائه ،ويضع القضيب على ركبتها ثم يقول انه متاع لو
وجد متاعا .ثم يقول ألحدهم "خذها لبعض ولدك ،فإنها ال تح ّل ليزيد ،بعد أن فعلت بها ما فعلت"[ .]9بل أن تقاليد العرب
المسلمين كانت إلى جانب ت ّن قل المرأة بين الرجال في حال رغبة الرجال بها ويريدونها .وال يمنعها من ذلك سوى موتها[
.] 10بمعنى ،إن للمرأة حرية الزواج والطالق والعيش مع مختلف الرجال كيف وكم تريد .وال يقطعها عن ذلك سوى
الموت .وما عدا ذلك من مواقف تجاهها فهي نتاج غيرة مفرطة .من هنا حكمه القائل ،بأنه "إذا جاوزت الغيرة ما حرّ م هللا
فهو باطل" .وانه ال حرمة في بروز المرأة للرجال .وذلك ألن فكرة الحرام هي "امر افرط فيه المتعدون حد الغيرة إلى
سوء الخلق وضيق الطعن ،فصار عندهم كالحق الواجب"[.]11
وقد كانت هذه الحصيلة المقدمة النظرية إلبراز قيمة وأهمية الغواني والقيان ،بوصفهن نساء الروح الجميل .فقد اعتبر
الجاحظ الجميل كل ما هو تام ومعتدل .بمعنى انه جعل من التمام واالعتدال معيار الجميل الجمال .ومن ثم اعتبر "كل ما
خرج عن الحد في َخ ْل ٍق او ُخ ْل ٍق حتى في الدين والحكمة فهو قبيح مذموم"[ .]12والسماع واالستماع والتلذذ بالجميل
والجمال امر ال غبار عليه .بل على العكس .انه ضرورة للروح والجسد والتناسق والعقل والوجدان .من هنا تأييده للفكرة
القائلة بضرورة وحالوة سماع القيان ولمسهن .بينما اعتبر ما هو شائع من األحاديث "النبوية" مثل "فرقوا بين أنفاس
الرجال والنساء" والدعوة "لعدم الخلو فيما بينهما" ،مجرد أحكام مبنية على ظاهر األمور .فاهلل ،كما يقول الجاحظ ،لم
يكلف اإلنسان الحكم على الباطن والعمل على النيات ،بل اكتفى بالظاهر .لهذا يقضى للرجل باإلسالم بما يظهر منه ولعله
ملحد فيه .بل انه دفع هذه الفكرة صوب مداها األقصى ،عندما اعتبر شراء القيان ودفع اثمانهن هو شكل من أشكال
التعويض المادي عن الحب والعشق (المفقود) .األمر الذي يعطي للقيان بعدا روحيا جماليا بما في ذلك حال سقوطه في
أوحال البيع الشراء ،تماما كما تنقذ األزهار الطافحة على سطوح المستنقعات روائحه الكريهة بسبب اثارتها اهتمام النظر
بألوانها ورونقها .فالقيان تنقذ عفونة الرجال ومستنقعات الجهل والغيرة البدائية عبر تصويب ما فيهما صوب ألوان وأنغام
العشق والغرام .وهو الشيء الذي يثير الفرح ويجعله طاغيا بالشكل الذي يؤدي ،كما يقول الجاحظ ،إلى اندحار الشيطان[
.] 13وهو استنتاج يرتقي إلى مصاف الفكرة الدقيقة والعميقة .والقضية هنا ليست فقط في وقوفها ضد ما هو راكد في قاع
الوعي التقليدي وقيمه ومعاييره وأذواقه ،بل وفي نفي الرذيلة المغلّفة بغباء المواقف وحشو الرؤية العقائدية .فالشيطان هنا
هو ليس فقط وسواس بل وسلوك الرذيلة .وكل ما هو علني وبالضد منه فهو تذليل لماهية الشيطان.
إن نقل عوالم الحس والذوق الباطنية صوب الظاهر والمظاهر هو األسلوب الذي يطهرهما من رجس الشيطان! فهو
االنتقال الذي يجعل من العشق والحب والغرام أسلوب الوصول إلى تذوق الجمال الحقيقي .فالعشق ،حسب تحديد الجاحظ
هو داء يصيب الروح .وانه يتركب من الحب والهوى والمشاكلة واأللفة .له ابتداء ووقوف على غاية وهبوط .بمعنى انه
متحول متغير .بينما الحب هو ابتداء العشق ثم يتبعه الهوى .وقد يلتقيا أو يفترقا .و"هذه سبيل الهوى في األديان والبلدان
وسائر األمور" ،كما يقول الجاحظ[ .] 14وبالتالي ،فإن العشق أعلى من الحب .وال يحدث إال بمناسبة بينهما (بالطبيعة
والمشاكلة) كالمتثائب مع المتثائب والنائم مع المنعسات.
وضع الجاحظ هذه المقدمة في اساس موقفه من القيان والدفاع عنهن بمعايير العقل والروح والجسد والثقافة والفكرة
الجمالية .إذ وقف من حيث الجوهر بالضد من الفكرة القائلة ،بأن "من اآلفة عشق القيان" .كما وقف بالضد من األحكام
النمطية عما يسمى بنصبها الشراك للمؤمنين وأمور ُأخرى وَأخرى ،مثل الفكرة القائلة ،بأن القيان تلهي عن ذكر هللا .بينما
اعتبر الجاحظ ،انه يمكن أن يكون كل ما في الوجود مله كاألكل والشرب والجماع[ .]15ذلك يعني ،أن مساعي الجاحظ
في تتبع مظاهر وباطن القيان هو األسلوب الذي يمكن من خالل رؤية ما بين سطور كتابه وغايته عما يمكن دعوته بقوة
القيان الروحية[ .] 16واستمد هذه الحصيلة من تحليل حقيقة القيان نفسها .وتوصل إلى أنهن "يتصفن بكثرة الفضائل
وسكون النفوس اليهن ،ألنهن يجمعن كل ملذات الوجود"[ .]17والسبب يقوم في أن القيان تؤدي في وحدتها كل ما في
الحواس ،بحيث يتسابق السمع والبصر واللمس في نقل مواردهم للقلب .بل نرى الجاحظ يرفع هذه القضية إلى مصاف
القضايا الفكرية الفلسفية عندما شدد على أن ما يبدو في مظاهر القيان من أمور فاحشة ،هي في الواقع على خالف ذلك.
والسبب يكمن في وحدة كيانها الذاتي وكينونتها في العلم والعمل .فهي في عملها ال تستطيع الغفلة حتى في حال رغبتها
بذلك ،شأن كل مبدع كبير .وذلك ألنها "مضطرة إلى ذلك في صناعتها" ،كما يقول الجاحظ .فحتى لو أرادت الهوى ،فإنها
ال تستطيع اليه .بل لو رغبت بالغفلة لم تقدر عليها ،وذلك ألن فكرها وقلبها ولسانها وبدنها مشغول بما هي فيه وعلى
حسب ما اجتمع عليها من ذلك في نفسها[.]18
من هنا مفارقة الفكرة التي يبلورها الجاحظ بهذا الصدد والقائلة ،بأنه "لو لم يكن إلبليس شرك يقتل به ،وال علم يدعو إليه،
وال فتنة يستهوي بها إال القيان لكفاه .وليس هذا بذم لهن ،ولكن من فرط المدح" .إذ جاء في األثر "خير نسائكم السواحر
الخالبات" .واختتمها بفكرة تجمع في ذاتها كل ما أراد قوله بهذا الصدد ،والقائلة ،بأن كل ما بلورته األديان عن نماذج
تثير القلق والولع واإلعجاب واالنبهار في ازدهار الرؤية والخيال تبدو قليلة مقارنة بما عند القيان .فقد نظر الجاحظ إلى
عصى موسى وسحرة فرعون ،أي نماذج السحر الباهر على أنها أشياء زهيدة بما عند القيان ،أو حسب عبارته ،إن كل
هذه األشياء "دون ما تحسنه القيان"[ .] 19وبالتالي ،فإن ما يسمى اغرائها عن الدين فهو بفعل المنشأ والعمل والوظيفة.
وفي الحصيلة نستطيع استشفاف الفكرة والمواقف الكامنة في فلسفة الجاحظ بصدد حرية المرأة وأثرها ودورها في ابداع
الجميل ،والتي تعلو على كل ما في األساطير والحكايات المقدسة والمدنسة ،تماما كما يتالشى غبار الهذيان الديني
والدنيوي تحت أقدام القيان!
***
ميثم الجنابي
..................................
[ ] 1الجاحظ :رسالة القيان ،ضمن كتاب (ثالث رسائل للجاحظ ،،القاهرة ،المطبعة السلفية 1344 ،للهجرة ،تحقيق ونشر
يوشع فنكل) ،ص.54-53