Professional Documents
Culture Documents
1م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي2 ،م.م آسيا عبد القادرعلي عمراني
مستخلص البحث
إن الواقع الذي أصبح يعيش فيه الشاعر ،واملحاط بكل أنواع القهر والسلب والغربة واالغتراب،
هو الذي جعله يطلب عاملا آخر ،غير هذا العالم األرض ي ،الذي يرى فيه أنه مليء باألحقاد
والشرور ،لذا كان العالم السماوي ،عاملا أفضل وأنقى وأطهر ،فكان أن ارتبط شعره وانغمس
في فوضويات ومجازات اللغة ،إنه االنتماء لعالم الروح ،االنتماء للتجربة الصوفية ،هذه اللفظة
التي أثارت جدال دينيا كبيرا منذ القديم وإلى يومنا هذا ،فالتجربة الصوفية والتجربة الفنية
منبعان من منبع واحد ،وتلتقيان عند نفس الغاية ،وهي العودة بالكون إلى صفاته وانسجامه
بعد أن يخوض غمار التجربة فكل من الصوفي والشاعر يحلمان بعالم مثالي ومتكامل ،هذا
النموذج من الكمال لن يجدوا له وجودا داخل هذه األرض بل عاملهم وهو عالم الروح ،حيث
الصفاء والسكينة تتنزل من كل صوب وحدب .وعليه فال نستغرب اهتمام الشعراء املعاصرين
برجال الصوفية ،حيث يعدونهم رموزا للحيوية الباطنية والتجربة الطازجة والحدس املتوهج
واالتصال الفطري بالوجود ،ويختلف الشعراء حسب اتجاهاتهم الشعرية والفكرية ،وهذا ما
جعل الكتابة الشعرية املعاصرة التي تتخذ من عالم التصوف أساسا ومنطلقا لها تنحو املنحى
الذي أخذته الكتابات الصوفية قديما شعرا أو نثرا ،حيث الرمز هو الدعامة األساسية ،أو
املكون األساس لكتابته وانسجامه بعد أن يخوض غمار التجربة .وعليه نرصد عالقة الشعر
بالتصوف ،وداللة الرمز الصوفي في الخطاب الشعري
الكلمات الرئيسية :اللغة العربية ,املدارس النظامية ,مراحل التعليمية,
المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها
1(1), (2021), 234-253 235
املقدمة:
إن الواقع الذي أصبح يعيش فيه الشاعر الجزائري ،واملحاط بكل أنواع القهر والسلب
والغربة واالغتراب ،هو الذي جعله يطلب عاملا آخر ،غير هذا العالم األرض ي ،الذي يرى فيه أنه مليء
باألحقاد والشرور ،لذا كان العالم السماوي ،عاملا أفضل وأنقى وأطهر ،فكان أن ارتبط شعره
وانغمس في فوضويات ومجازات اللغة ،إنه االنتماء لعالم الروح ،االنتماء للتجربة الصوفية ،هذه
اللفظة التي أثارت جدال دينيا كبيرا منذ القديم وإلى يومنا هذا.
فالتجربة الصوفية والتجربة الفنية منبعان من منبع واحد ،وتلتقيان عند نفس الغاية ،وهي
العودة بالكون إلى صفاته وانسجامه بعد أن يخوض غمار التجربة
فكل من الصوفي والشاعر يحلمان بعالم مثالي ومتكامل ،هذا النموذج من الكمال لن يجدوا
له وجودا داخل هذه األرض بل عاملهم وهو عالم الروح ،حيث الصفاء والسكينة تتنزل من كل صوب
وحدب.
وعليه فال نستغرب اهتمام الشعراء املعاصرين برجال الصوفية حيث يعدونهم رموزا للحيوية
الباطنية والتجربة الطازجة والحدس املتوهج واالتصال الفطري بالوجود ،ويختلف الشعراء حسب
اتجاهاتهم الشعرية والفكرية في بعض اإلضافات التي يضيفونها على هذه الرموز
لقد كانت مسيرة الشاعر منذ القديم مسيرة بحث وتحر عن العالقة التي تحكم الطرفين
الروح والجسد ،ألن طغيان الصبغة املادية هو ما جعله يلتجئ إلى هذا العالم الروحاني الذي تصفو
فيه النفوس وتهدأ فيه القلوب املتعلقة بخالقها.
لذا " ظلت العالقة الوثيقة بين الشاعر والصوفي محاولة بعيدة لالنطالق عن العالم العبثي،
بحثا عن أفكار أكثر تجريدا تشف خاللها الحقائق الكونية.
.1في ماهية الصوفية
أ -لغة أصل لفظ التصوف :
تعددت معاني هذه اللفظة ولعل أولى هذه االشتقاقات يتصل بلبس الصوف ،والذي هو
عالمة على الفقر أو الزهد في الحياة ،ومتاعها الزائف ،وهناك اشتقاق ثاني يتصل بالصفاء أي
الطهارة الروحية ،وهناك معنى ثالث يرجعه البعض إلى اللفظ اإلغريقي األصل وهو سوفيا ويعني
236 م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي ،م.م .آسيا عبد القادرعلي عمراني ،التجربة الصوفية في الشعر الجزائري...
ُ
الحكمة .1ويقول بعض الصوفيين:ليس التصوف لبس الصوف ترقعه.وال بكاؤك ان غنى املغنون و
ال صياح وال رقص وال طرب وال اضطراب كأن قد صرت مجنونا بل التصوف أن تصفو بال كدر
وتتبع الحق والقرآن والدي وأن ُترى خاشعا هلل مكتئبا 2
ب -اصطالحا:
هو التجرد تماما من مباهج الدنيا ومفاتنها ،ومحاول كما ورد في معجم املصطلحات العربية أن
التصوف هو التخلص من الجسد ذلك الحجاب الكثيف الذي يحول دون التمتع بالنور االلهي
الفياض على الكون والفناء في الذات العلية فناء يقترن بالعشق االلهي .
فالتصوف بذاته ثمرة كبرى في املعارف االسالمية ،وروح ملجموع حقائق االسالم من عبادة
وايمان ويقين وعرفان ،اذ تطورت دائرته بتقدم الزمن من ظاهرة فردية بين االنسان وربه الى ظاهرة
اجتماعية كثر رجالها وأتباعها " 3
ما يمكن أن نستنتجه من هذا هو أن تحديد مفهوم الصوفية أمر من الصعوبة بمكان ،وقد
قص جالل الدين الرومي في كتابه" املثنوي "قصة فيل عرضه بعض الهندوسيين في حجرة مظلمة،
فتجمع الناس ليخبره ،ولكن ظالم املكان منعهم أن يبصروه ،فلمسوه بأيديهم ليعلموا على أي مثال
هو ،فلمس بعضهم خرطومه ،فقال :إنه يشبه أنبوب املاء ،وبعضه أذنه ،فقال :البد أن عيونه
كمروحة كبيرة ،وملس بعضهم رجله فحسب أنه كالسارية ،وملس بعضهم ظهره فأعلن أن الحيوان ال
بد أن يشبه العرش العظيم ،وكذلك حال الذين يعرضون للتصوف بالتعريف ال يستطعون إال أن
يحاولوا التعبير عما أحسته نفوسهم ،ولن يكون التعريف
مفهوم يضم كل خفية من الشعور الديني املستكين لكل فرد ،4وبسبب ذلك أن الصوفية ليست
علما يمكن أن يفهم بالعقل أو يوصف باأللفاظ ،ولكنها هي ثمرة معرفة من غير مقدمات وقضايا
وبراهين أو تجريب ،اذن التصوف في حقيقته تسامي بالروح فوق كل ماديات االرض وشهواتها،
مصداقا لقوله عليه الصالة والسالم إن للا ال ينظر إلى أجسادكم وال إلى صوركم وإنما إلى قلوبكم
فغاية التصوف أو الصوفي هي املحبة االلهية ،و يستندون في ذلك إلى آيات من القرآن الحكيم
ويحبونه﴾[ سورة املائدة / 54ويقول أيضا تعالى :يحبهم ّمنها و قوله تعالى ﴿:فسوف يأتي للا بقوم ّ
تحبون للا فاتبعوني يحببكم للا﴾ آل عمران/ 31 ﴿قل إن كنتم ّ
وقد أورد األمير عبد القادر أبياتا من الشعر تشير إلى الحب اإللهي في شبه مقامة له؛ حيث
يقول في
المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها
1(1), (2021), 234-253 237
مطلعها:
ّ
تجلى له املحبوب من حيث ال يرى
وغيبتي به فغاب رقيبنا
الي ْين وانحسر املرا
وزال حجاب َ
فصرت أراه كل حين ولحظة
وقد غاب وكان حاضرا5
وجود ظاهرة التصوف مرتبط ارتباطا كبيرا بالفكر الديني والتأمالت الفلسفية ،ومن الخطأ
اعتباره من نتاجات الحضارة اإلسالمية .والتصوف اإلسالمي هو تصفية القلب وتطهيره من رجسه،
وإخالص العبودية هلل والتجرد من ملذات الدنيا وهجرها والخشوع والتأمل ،والتصوف هو التخلق
باألخالق اإللهية وبالوقوف مع اآلداب الشرعية ،وكلمة التصوف باليونانية تعني الحكمة ،وفي
العلوم اإلسالمية كانت غايته افهام مضمون الوعظ للقارئ ،وكانت قيمة األدب كامنة في تأثيره
وفعاليته في نفسية املتلقي ،مما أدى الى تيسير اللغة وعليه تغيب الذات ،فكانت كتابات املتصوفة
املتأخرين ثورة على عناصر الثبات في طرق التفكير واإلبداع املتداولة ،وبما أن اللغة كانت مرتبطة
بإسناد وكتابة محدودة ،ربما أدى هذا إلى التعبير وتغير بنيتها الذوقية التشكيلية لكن جوهرها
وبينتها التحتية كانت أصلية نابعة من التراث .
فدراسة األدب الصوفي تتطلب ذوقا خاصا وولوجا في عامله واإلبحار في معانيه ،ورموزه فقد
تناول الصوفيون االدب والحب االلهي عبرة وموعظة ونصحا وحكمة ونثرا وشعرا ،و الكثير من
الحكمة و املوضعة و الفكر و املعاني و االخيلة و اعمق مشاعر االنسان ،كما حفل ادبهم بروائع
املناجاة.
مما سبق نرى أن التصوف في اإلسالم ارتبط بالجانب الخلقي والسلوكي ،ولم يخرج عن إطار
أحكام الشريعة اإلسالمية خاصة في بداياته ،ألنه بعد ذلك أخد أبعادا فلسفية عميقة خاصة مع
الحالج ،وابن عربي
وغيرهما...وهكذا يتضح أنه ال فرق بين الشريعة الحقيقية والعمل بأحكامها من االلتزام باألوامر،
واالبتعاد عن النواهي ،واملحرمات يوصل إلى الطهارة الروحية ويحقق صفاء الروح .
.2بين الزهد والتصوف:
238 م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي ،م.م .آسيا عبد القادرعلي عمراني ،التجربة الصوفية في الشعر الجزائري...
يمكن حيال ذلك ان نطرح التساءل االتي ،فهل الزهد هو التصوف أم أنه الخطوة األولى
للوصول إلى التصوف ؟
يعد الزهد مرحلة سابقة مهدت لظهور التصوف ،فهناك الكثير من العلماء واملسلمين وغير
املسلمين ميزوا بين الزهد والتصوف منهم على الخصوص" ابن الجوزي "في كتابه" تلبيس ابليس "
و"عبد الرحمان ابن خلدون في شفاء السائل ،وابن سينا في االرشادات والتنبيهات ،والذي حاول أن
يفرق بين الزاهد والعابد والصوفي،
" حيث يقول القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد ،واملنصرف بفكره إلى قدس الجبروت
مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف من غلب عليه طلب العبادة كان عابدا،
ومن غلب عليه ترك " ويقول أبو العباس أحمد بن أحمد بن زروق "والعارف هنا هو الصوفي6 ".
إن املتأمل في الخطاب الشعري املعاصر ،لم يعد كما كان في السابق عاملا يتمكن منه لقارئ ّ
بسهولة ،فقد أصبح عاملا سحريا يموج بالحركة واأللوان ،عاملا ال يعترف باألبعاد والحدود ،إنه عاملا
لتخطي والتجاوز ،والسعي وراء املطلق ،كما أنه لم يعد خطابا قائما على التأثر واالنفعال ،إنه
خطاب التساؤل املعرفي ،وتبعا لذلك هو خطاب التأويل ،والتعدد الداللي ،وخطاب املعرفة
املفتوحة اآلفاق ،واملتعددة األبعاد.وقد أكتسب الخطاب الشعري املعاصر هذه الصفات بفضل
انفتاحه على قيم فنية جديدة حققت الكثير من التطور لهذه القصيدة . ،ففي العصر الحديث
وبفضل اطالع الشعراء على التراث العربي القديم ،وجدا لبعض في التصوف مرتكزا تراثيا يتماش ى
والتأثر باملذاهب الغربية التي تجعل للخيال النصيب األوفر في الشعر ،خصوصا وأن الواقع العربي
كان مهيئا يوم ذاك للتأثر بمثل هذه االتجاهات ،نتيجة ظروف القلق والقهر والتخلف ،التي عان
منها اإلنسان العربي بشكل عام سواء في مرحلة االحتالل أو بعد ذلك .،وقد ساهمت هذه الظروف في
تطور الوعي الثوري لدى الشاعر فغدا ينظر إلى التصوف على أنه رمز للتسامي الروحي على اآلالم
وهموم الفردية من عالم الواقع ،وعليه فإن أهمية التصوف اليوم تتمثل في كونه وثيق الصلة
بالفن في مفهومه الحديث .فالشاعر ال يكتفي بوصف الواقع ،وإنما يبحث عن العناصر الخفية فيه
الن مهمة الشعر هي أن يجعل الواقع حيا ويكشف ما يخفى منه عن الوعي العادي.
من هنا فإن مهمة الشاعر ال تختلف عن مهمة الصوفي والفيلسوف ،انقاض العالم ،وعلى
هذا فإن الصلة بين التصوف ،والشعر تنبثق من سعي كل منهما إلى تصور عالم أكثر كماال من عالم
المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها
1(1), (2021), 234-253 239
الواقع ،ومبعث هذا التصور هو اإلحساس بفضاعة الواقع ،وشدة وطأته على النفس ،وسمو
الروح للتماس مع الحقيقة التي تعذب كياننا.
.3اإللهام عند الشعراء
يعرف بالتجلي أو الكشف عند الصوفية ،وفيها ايكون الشاعر والصوفي في حالة إستغراق
أو الحلم تبلغ أقصاها عند الصوفي ببلوغ حال الفناء التام ،واالمتزاج بعالم الحقيقة حيث النقاء
والنور .وهذه الحال هي غاية الصوفي ومنتهى طلبه ،وكلما استطاع الشاعر أن يوغل في إمتزاجه
بالعالم ،قارب السمو الصوفي الالمتناهي7.
ومن هنا فإننا نجد الكثير من نقاط التالقي واالتفاق بين التصوف والشعر ،ولعل هذا ما
جعل أدونيس يعد
"التصوف تجربة شعرية "
أما عن فكرة اإلرتباط بين الشعر والتصوف فإن أدونيس يعبر عنها في قوله :
" هو أساس صوفي وسوريالي ،ولكن هذا املفهوم لم يكن عند نقادنا ،القدامى فكان هناك تعارض
بين الشاعر والصوفي ،فالشاعر يلتحم مع الحياة ويتفاعل معها ،أما الصوفي فينبذ الدنيا ،ويعتزل
الناس ويقيم بدل ذلك صلة بالذات اإللهية " 8
أن يفهم عباراتهم ،واللغة الصوفية لغة غامضة سبيلها اإلشارة ال العبارة .ذلك أن القارئ للشعر
الصوفي يجب عليه أال يدخل إليه من باب املعنى املباشر للعبارة 9
لقد اتسم الشعر العربي عبر مسيرته بالعديد من الظواهر الفنية ،والتي ساهمت بال شك في
تحديد مضامينه واثرائها ،ومن أهم هذه الظواهر التصوف الذي يرجع سر االهتمام به ملا يجمع
بينه وبين الشعر من عالقات وروابط جدية 10
ويفسر اغلب الدارسين للخطاب الصوفي بان التصوف أحد منجزات الفكر البشري ،التي
تربطه بمختلف املعارف عالقة وطيدة ،يرى الباحث عاطف جودة نصر أنه " هناك وشائج قربى
تجمع بين التصوف والفن بشكل عام وبينه وبين الشعر بشكل خاص ،هذه الوشائج تتمثل في أن
كليهما يحيل الى العاطفة والوجدان "
فالصوفي هو" شاعر سواء نظم القول أو النثر ،فاداة االدراك عنده هي نفسها وسيلة
الشاعر " ،فكليهما يعتمدان على الباطن ،مما جعل لغتهما مختلفة عن اللغة العادية ،والوسيلة
التشبيهية التي يستخدمها في أداء ما يؤديه هي نفسها وسيلة الشاعر ،وهذا ما يؤكد عدم اختالف
التجربتين 11
يتضح من كل هذا أن كال من الشاعر والصوفي يتشابهان في الوسيلة ويتحدان في الهدف ،
كما يهدفان الى تكوين رؤية للعالم ،غير أنهما يختلفان في تحديد تلك املعرفة :معرفة تجربية /
معرفة عقلية منطقية ،باالضافة الى أوجه االلتقاء بين التجربتين ،واعتبار الخيال والحدس من
الركائز األساسية في العملية االبداعية ،لذا يلجأ كل منهما في الرمز وااليحاء ،خاصة مع التجربة
الصوفية التي تعتمد على لغة خاصة ذات رؤية واسعة ورحبة والعبارة عاجزة محدودة فالنفري يرى :
" أنه كلما اتسعت دائرة الرؤية ذاقت العبارة " 12
بمعنى أن العبارة غير قادرة على حمل كل معاني الرؤى ،أو التعبير عن كل األفكار الصوفية ،
وانطالقا مما سبق يتضح لنا بأن هناك انسجام وتقارب ،بين التجربيتين وهذا من حالل ما أشار
اليه ادونيس بقوله " ان الشعر رؤيا ،والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج املفهومات السائدة ،ويؤمن بأن
الشعر كشف عن عالم يظل أبدا في حاجة الى الكشف وال يمكن للشاعر ان يكون عظيما اال اذا
رايناه وراء رؤيا للعالم " 13
مر التصوف في املغرب العرب ي –بما فيه الجزائر -بعدة مراحل وتماما كما في املشرق العربي
بدايته كانت زهدا " ،فمنذ البدء شهدت مدينة القيروان ،ككل املدن العربية األولى ( البصرة
والكوفة ) حركات تزهد ونسك عديدة .ففي الوقت الذي كان فيه الحسن البصري ( املتوفى عام 110
ه 720 -م ) ،وهو الذي يعد رائد التصوف ينزع في سلوكه إلى حياة روحية خالصة ،يتخذ من
الطقس الديني طريقة معرفة وكشف ،نجد في القيروان إسماعيل بن عبيد ( املتوفى عام 107ه -
717م ) يوغل في التبتل ،البسا جبة من صوف ...ونجد أبا محمد خالد بن عمر التجيبي ( املتوفى
عام 127ه 727 -م ) يهرب من الثروة والقضاء ...هؤالء الزهاد و النكاس انتشروا في إفريقية منذ
الفتح " ولعل أبرز رائد في الطريق ال صوفي كان أبو علي شقران بن علي الصوفي القيرواني (توفي عام
186ه) اشتهر أمره في املشرق واملغرب على حد سواء ،فأتاه الناس من كل مكان ليأخذوا عنه أصول
الطريقة ...في نفس الفترة عاش مع أبي علي شران صوفي آخر هو محمد بن مسروق (توفي عام 180
ه )" 14
وكما هو الشأن في املشرق العربي ،كانت الحركة الزهدية هي املنطلق ؛ ليتشكل التصوف ،
بعد مراحل عدة ،يمكن تحديدها في خمس مراحل:
-املرحلة األولى :سجل فيها ميل نحو البعد عن الحياة املادية والتسامي عن ملذات الحياة ،وهذا في
القرنين األول والثاني الهجريين 8/7م.
-املرحلة الثانية :شبيهة باملرحلة السابقة ،وشهدت إغراقا في الزهد والتقشف ،وتمتد من بداية
القرن الثالث إلى أواسط القرن الرابع 10م ) . /الهجريين( 9
-املرحلة الثالثة :مرحلة كان فيها االنتقال من اإلغراق في الزهد لالقتراب من التصوف ،وكانت
البداية لألفكار الصوفية والخياالت وهذا في القرن الرابع الهجري ( 10م
ُّ
املرحلة الرابعة :تعد مرحلة اكتمال تكون التصوف ،بتنظيمه وتشكل الطرق الصوفية ،والخوض
في الكرامات ،وتمتد هذه املرحلة من أواسط القرن الخامس الهجري ( 11م.
-املرحلة الخامسة :وهي مرحلة املبالغة في ادعاء الكرامات .واالهتمام بها ،ويطلق عليها البعض
مرحلة الجنون والهذيان وامليل إلى الزهد خالل القرنين األولين للهجرة ،جاء نظرا لألوضاع
االجتماعية والسياسية املتدهورة ،وفقدان االستقرار ،األمر الذي دفع بالكثيرين إلى االنصراف
بفكرهم إلى اآلخرة 15.
242 م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي ،م.م .آسيا عبد القادرعلي عمراني ،التجربة الصوفية في الشعر الجزائري...
وإذا كان هذا الوضع الذي ساعد على ظهور حركة الزهد ،وتبلور على إثره التصوف – فكرا
وسلوكا – يخص املشرق العربي ،فالوضع مماثل في املغرب العربي – عامة -و الجزائر– خاصة -
املسماة آنذاك املغرب األوسط ،فكما" كان للتصوف في املشرق بحركة زهديه قبل القرن الثاني
للهجرة -الثامن للميالد – شهد املغرب األوسط أيضا بداية من القرن الثاني إلى القرن الخامس
للهجرة /الثامن إلى الحادي عشر امليالدي حركة زهدية برزت مالمحها األولى في سياق الفتوحات
اإلسالمية لبالد املغرب ، " 16وعليه فالحركة الزهدية في الجزائر " ظاهرة نتاج إرهاصات دينية
واجتماعية وسياسية واقتصادية تعود بجذورها إلى القرن الثالث الهجري _ 1التاسع امليالدي –
تخمرت عبر قرون ،وتمخض عنها ميالد الحركة الصوفية التي بدأت معاملها تنضج في القرن
السادس الهجري -الثاني عشر امليالدي – بالنسبة للتصوف السني ،وبدايات القرن السابع .
الهجري 2-الثالث عشر ميالدي – بالنسبة لتيارات التصوف الفلسفي " 17والزهاد النساك ،
واملتصوفة في فترة متقدمة ،عمدوا إلى فن الشعر للتعبير عما يعيشونه ،وعليه يمكن تحديد
ظروف ميالد الشعر الصوفي في الجزائر وبداياته بظروف وبدايات التصوف ذاته.
ومن الشواهد الهامة ،على ظهور التصوف في الجزائر في عهد متقدم ،العدد الهام من
الزوايا التي انتشرت في الجزائر وكذا قائمة شعراء التصوف الكبيرة ،التي تضمنتها كتب التراجم
القديمة ،كما هو الشأن في كتاب " البستان في ذكر األولياء والعلماء بتلمسان " البن مريم
التلمساني ،و "التشوف إلى رجال التصوف " البن الزيات و " عنوان الدراية " للغبريني .
.6الرمز الصوفي في الكتابة الشعرية
وهذا ما جعل الكتابة الشعرية املعاصرة التي تتخذ من عالم التصوف أساسا ومنطلقا لها
تنحو املنحى الذي أخذته الكتابات الصوفية قديما شعرا أو نثرا ،حيث الرمز هو الدعامة األساسة،
أو املكون األساس لكتابتهم إذ <<الشعر في كلتا النزعتين الصوفية والرمزية ،ثمرة نوبة من نوبات
النشوة الروحية املحفوفة بالغموض والتي يعانيها الشاعر الرمزي والشاعر الصوفي على السواء>>18
و أحيانا يكون سبب الرمز<< أن األديب ال يتحدث بلغة العقل بل بلغة الروح والباطن واملشاعر
الخفية ،أو أنه يعبر عن معان عميقة ال يمكن أن يفهمها العامة وال كثير من الخاصة>> 19ف جعل
املتصوفة يصرحون بأن الغاية من اعتمادهم الرمز إخفاء مراميهم على كل دخيل وذلك تجنبا
للعداوة التي كانت منتشرة في زمانهم .فهذا ابن عربي يرى أنه من حق أهل الطريق (املتصوفة) أن
المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها
1(1), (2021), 234-253 243
يجعلوا ألنفسهم مصطلحات <<فما من طائفة تحمل علما من املنطقيين والنحاة وأهل الهندسة
والحساب واملتكلمين والفالسفة ،إال ولهم اصطالح ال يعلمه الدخيل فيهم إال بتوفيق منهم>>.20
ويبرر اإلمام القشيري في الرسالة القشيرية استعمال الرمز بعدت مبررات ، ،منها <<اإلخفاء
والستر على من باينهم في طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مشتبهة على األجانب غيرة منهم على
أسرارهم أن تشيع في غير أهلها>> 21هذان القوالن اللذان صدرا من علمين من أعالم التصوف،
يؤكدان أن الرمز الصوفي هو رمز اصطالحي وليس انشائيا ،إذ يتواضع عليه املتصوفة فيما بينهم
ألغراض عديدة منها التستر والتقنع بقناع الغير والتحجب بحجاب يستر أفكارهم " .فالرمز الصوفي
بخصائصه ال ينطبق تماما على مفهوم الرمز ،بمعناه املعاصر ،ذلك أن ما يفترض فيه من مواضعه
أو قرينة يبعده عن تلك اإليحائية التلقائية التي يتسم بها الرمز الفني" ،22لهذا كان فهم كالمهم
شعرا كان أم نثرا ،يحتاج إلى ش يء من التأني والتأمل في دالالت األلفاظ وتراكيب الجمل...وإال بقي
القارئ خارج حدود التأويل املفترض في هذا النوع من النصوص ،التي يكون فيها املنتج والقارئ من
درجة خاصة ،إذ فهم مغالق النص ال تتاح لكل قارئ مهما كان مستوى هذا القارئ من الثقافة
والوعي الكبيرين بشروط القراءة املنتجة.
لهذا" فإن ثراء التجربة الصوفية في جوانبها السلوكية واإلبداعية ،كان من بين أهم األسباب
التي أوجدت في شعرنا العربي املعاصر صيغة االمتزاج بين تجربة التصوف وتجربة الشعر" 23هذا
االمتزاج الذي يراه بعضهم طبيعيا بحكم تشابه املقصد واألدوات لهذا املقصد من رؤية إلى رؤيا ،ومن
لغة الواقع إلى لغة الحلم ،حيث اإلحساس بالجمال واالستغراق في التحليقات الروحانية ،من أجل
أن تصفو نفس الشاعر /املتصوف من أدران الواقع.
وعليه "فليس غريبا أن يعبر شاعرنا املعاصر عن بعض أبعاد تجربته من خالل أصوات
صوفية ،فالصلة بين التجربة الشعرية خصوصا في صورتها الحديثة التي يغلب عليها الطابع
السرياني-وبين التجربة الصوفية جد وثيقة ،وتتجلى هذه الصلة أوضح ما تتجلى في ميل كل من
الشاعر الحديث والصوفي إلى االتحاد بالوجود واالمتزاج به".24
.7التقاطع بين التجربة الصوفية والشعرية
هذا التقاطع بين التجربتين-الصوفية والشعرية -يفسرها أحد الشعراء املعاصرين بقوله أن
التجربة الشعرية تقترب من التجربة الصوفية في محاولة كل منهما االمساك بالحقيقة والوصول إلى
جوهر األشياء بغض النظر عن ظواهرها ،إذن التشابه في واقع األمر كبير جدا ، 25إن العودة إلى
244 م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي ،م.م .آسيا عبد القادرعلي عمراني ،التجربة الصوفية في الشعر الجزائري...
التجربة الصوفية ملحاولة امتصاص مكنوناتها وجواهرها الخفية ،لدليل على أن الشاعر يحاول أن
يتمرد على هذا الجسد املنتمي إلى عالم املادة األرض ي ،ويعرج ويسمو بروحه إلى السماء ،حيث
الطهارة والصفاء والنقاء.
إن هذه النظرة للتجربة الشعرية التي تماست مع التجربة الصوفية أو الروحانية هي "نوع من
العودة إلى الالشعور الجمعي إلى ما يتجاوز الفرد ،إلى ذاكرة اإلنسانية وأساطيرها إلى املاض ي بوصفه
نوعا من الالوعي" ، 26لهذا استغل شعراؤنا كل ما في التجارب الصوفية من معان ودالالت ،وحاولوا
تضمينها في نصوصهم الشعرية إما بحالتها األولى أو بتغيير لباسها الداللي إلى لباس آخر ،يتوافق
والسياق والتجربة الشعرية والشعورية ،إذ أن مقاييس توظيف الرمز الصوفي ال تخرج بعيدا عن
مقاييس توظيف الرمز األسطوري أو الديني او التاريخي إذ الكل يعمل على استفزاز مخيلة القارئ
بما كان يملكه من ثقافة عن تلك الشخصيات أو األحداث.
إن التجربة الصوفية هي تجربة لغوية في إبداعها ،إذ أننا نرى من خالل النصوص الشعرية
الصوفية ،أن أصحابها حاولوا التمرد على اللغة العادية ملا وجدوا أنها غير قادرة على استيعاب كل
املعاني الروحية التي يريدون أن يعبروا عنها ،فكان الرمز منقذهم من هذا العائق اللغوي ،الذي
يقف في وجه تجربتهم الصوفية في أن تتجسد ككائن لغوي من نوع خاص ،بعدما " وجدوا أن طبيعة
اللغة العادية غير قادرة على اإليفاء بكل املعاني التي تعيق بها تجربتهم الفريدة ..ولذا نراهم جميعا
تقريبا يتوسلون بالرموز ...التي شكل استعمالهم لها نوعا من التواضع على معانيها ،مما قرب رموزهم
من الرموز االصطالحية أكثر مما قربها من الرموز اإلنشائية ،على الرغم من أنها رموز شعرية في
غالبيتها" ، 27لكن هذا ال ينفي أن النصوص الصوفية بالرغم من اصطالحية رموزها-هي نصوص بها
من الشعرية ما يفوق أحيانا النصوص الشعرية العادية التي يلجأ فيها أصحابها إلى الرموز اإلنشائية،
خاصة عندما ندرك كيف تتم عملية الخلق اللغوي في النص الصوفي ،حيث يفرغون اللفظة من
داللتها األولى ويشحنونها بدالالتهم الخاصة كلفظة الخمر ،املرأة وغيرها " ،فالنص الصوفي شعري
بامتياز ،وكثير من الكتابات الشعرية أخفقت في توظيفه ،ألنه من الصعب أن تضيف إليه إضافة
تكون أكثر زخما وإيحاء من عرفانية النص الصوفي 28
ومن هذه األصوات التي مثلت الشعر الجزائري في بناء نص شعري توازى بنيته بنية النص
الصوفي نجد الشاعر اإلسالمي مصطفى محمد الغماري في جل أعماله الشعرية ،حيث نورانية
النص الصوفي هي الشعاع الذي يطل علينا من خالل هذه األعمال.
المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها
1(1), (2021), 234-253 245
إن النص الصوفي هو نص تأويلي بامتياز لذا تكتس ي عملية القراءة لدى النص الصوفي ،أهمية
بالغة ،نظرا ملا تحمله من آفاق داللية متعددة ،و" \ألنه نص الخصوصية فالبد أنه موجه إلى نخبة،
تقوم الرسالة فيه على شفرة كما هي طبيعة الكتابة الصوفية فعملية التواصل سارية بين
الباث/الشاعر ،وبين املتلقي املفترض فيه شروط الوعي الداخلي بمرجعية النص.29
هذا الوعي باملرجعية هو السبيل الوحيد للدخول إلى عوالم النورانيات حيث صبوات العشاق
تزداد كلما تجلى لهم معشوقهم ،لذا فقد شكلت املرأة في النص الشعري ،املسيج باشراقات
التصوف أحد معامله الرئيسية " "فمن املعروف عن شعراء التصوف اإلسالمي قديما أنهم كانوا
يسعتيرون أسماء الشعراء العذريين العرب وأسماء معشوقاتهم كليلى ،وبثينة ،وعزة ويضمنونها
قصائدهم في العشق اإللهي للتعبير عن أذواقهم ومواجدهم الخاصة ،كما يتعقبون األماكن التي
ارتادها هؤالء العذريون " .30
فاملرأة على مر العصور رمزا للجمال الذي هامت به قلوب الشعراء ،فمنذ العصر الجاهلي
والشاعر متيم باملرأة ،فكان أن خلق لها موضعا في القصيدة ،ال يمر شاعر إال ويقف عنده مطوال،
يبوح بما احترق في قلبه من هوى " ولعل ما يفسر اتجاه الصوفية ...إلى هذا النوع من الغزل ،هو أن
الحب اإللهي يغزو قلوبهم بعد أن تكون انطبعت على لغة العوام ،أصحاب الصبوات الحسية،
فيمض ي الشاعر إلى العالم الروحي ومعه من عالم املادة أدوات وأخيلة هي عدتة في تصوير عامله
الجديد. 31
وهذا مصطفى محمد الغماري يسافر مع ليلى في بعض مواجده فيقول:
بقايا من الفاتحين محبوك يانار ليلى
وهلل جوح الجبين فلله قمر املنافي
هجين كوجه الظنون وأنت ،وأن جن وجه
بصحو القلوب اليقين ينابيع يمطر منها
ضباب كثيف كثيف وما الحب لوالك إال
وأوغل فيه (العفيف) توهمه (الششترى)
على الكفر سيف جهاد أحبك أحمل حبي
وأهواك رمز امتداد32 وأهواك حرف انتصار
246 م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي ،م.م .آسيا عبد القادرعلي عمراني ،التجربة الصوفية في الشعر الجزائري...
هذا االعتراف نجده مجسدا في جل دواوينه الشعرية ،التي اغترف فيها من معين التصوف
االسالمي ،إذ يقول في ديوان <<قصائد مجاهدة>>:
لقد استخدم الشاعر املصطلحات الصوفية التي كان املتصوفة يتواضعون على معانيها كالفناء
والبقاء فكالهما " متالزمان فال فناء بال بقاء ،وال بقاء بال فناء ،والفناء الصوفي تخصيصا ،هو
الفناء عن الخلق وبقاء الحق .الصوفي أبدا ما بين فناء وبقاء" 37
فقد أحسن الشاعر توظيفهما داخل النسق الشعري املبني على األلفاظ الصوفية كوصال،
ضياء ،هذه األلفاظ التي توحي بالبقاء والفناء إذ الوصال يقابله الهجر ،والضياء يقابله الظالم ،كما
نجد أمد القرون تقابله قريبة ،فالنص مبني في تركيبته على ثنائية البقاء والفناء ،إذ فيما هو باق هو
فان عن آخر ،لذلك " ظلت العالقة الوثيقة بين الشاعر والصوفي محاولة بعيدة لالنطالق عن
العالم العبثي ،بحثا عن أفكار أكثر تجريدا تشق خاللها الحقائق الكونية" .38
هذه العالقة ارتبطت أكثر والتحمت ملا وجد الشاعر الجزائري املعاصر ذاته محاطة بشبهة
املاديات على أشكالها ،خاصة في املراحل األخيرة ،حيث تغير نمط الحياة ،وشعر اإلنسان بغربته
داخل هذا الوجود ،إثر تمزق شبكة العالقات التي كانت في القديم مبنية على السمو والتعالي عن
صغائر األمور.
لذا كان بحث الشاعر عن معان روحية جديدة ،تعيد له احساسه بالوجود في هذا الكون ،هذا
البحث الذي تميز بالقلق الوجودي ألنه " قلق البحث عن معنى عميق للحياة ،قلق اإلنسان الذي
يريد أن يتجاوز الوضع الراهن للحياة حتى يصل إلى مستوى أكثر قيمة " 39
وغير بعيد عن الشاعر السبعيني مصطفى الغماري ،نجد شاعرا آخر تمثل النص الصوفي
أحسن تمثيل ،وعد من الشعراء الذين طوروا الكتابة الشعرية في الجزائر ،بانفتاحه على نصوص
تراثية عربية وأخرى عاملية ،مما جعله يتبوأ مكانة كبيرة ،داخل خارطة الشعر الجزائري املعاصر .هو
248 م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي ،م.م .آسيا عبد القادرعلي عمراني ،التجربة الصوفية في الشعر الجزائري...
الشاعر"عبد للا حمادي" الذي استطاع بترانيمه الصوفية أن ينقد النص الشعري الجزائري من
مزالق التقليدية التي طبعت مرحلة شعرية من مراحل تطور الشعر الجزائري املعاصر ،من خالل
التحدي والتجريب التي هي سمة من سمات الحداث40يين.
" والشعر الصوفي يتميز بأنه دائما محلق في عالم الروح ،في السماء في النور ،في جالل للا ،ومن
ثم يدرك القارئ له ،الفرق بين مرمى الغزل الصوفي والغزل الحس ي" .41
هذا التحليق نجده عند الشاعر عثمان لوصيف في عالم الروح حيث الصفاء والحب الطاهر،
وحيث املرأة تشكل رمزا من رموز املحبة اإللهية ،إذ يستعين بها الشاعر بوصفها ضرورة من ضرورات
االنتقال من مقام إلى مقام أو من كشف إلى كشف آخر.
افتش عن منتهايا
افتش عن سدرتي
من خالل الرحلة التي بدأها من األرض صوب السماء ثم الرجوع إلى األرض هذه السدرة التي ورد
ذكرها في القرآن في قوله تعالى " ولقد رءاه نزله أخرى عند سدرة املنتهي ،عندها جنة املأوى " ، 42
أما املعاجم الصوفية فقد عرفتها على أنها " البرزخية الكبرى التي ينتهي إليها سير الكل وأعمالهم
وعلومهم ،وهي نهاية املراتب األسمائية التي ال تعلوها رتبة " ، 43إذ هي مطلب كل صوفي عاشق ألن
الوصول إليها دليل على أن هذا الصوفي هو من أهل الهمة من السالكين .لذا ألفينا الشاعر يعبر
بلفظة "أفتش" التي تدل على البحث عن ش يء مفقود ،قد يصل إليه وقد ال يصل ،فتبقى السدرة
محفوفة بالشهوات واملخاطر ،لذا " فالطريق إليها يبتدئ بالسكر الذي يحقق الصعود واالرتقاء ،
وينتهي إلى املحو الذي هو باب القرب " 44
كما نجد مصطلح التجلي ،حاضرا في قصيدة الشاعر ،حيث يقول " تجليت في أفقي".
المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها
1(1), (2021), 234-253 249
" والتجلي إذا فتح للا على عبد بعد الستر ،يتجلى عليه بنعمة ،فيكشف له عن بعض املغيبات
ويظهر له أنوار املشاهدة " ، 45إن الرحلة التي كان بطلها الشاعر ،والتي كان هدفها البحث عن املقام
األخير أي عن سدرة املنتهى ،هي رحلة حاول فيها هذا الصوفي أن يتخلص من عذاباته ومن حزنه
القديم ،بحثا عن نور يض يء له جوانحه ويفتح له أسرارا غيبتها شهوات النفس.
هي إذن كتابات صوفية ألفينا صداها عند الشعراء الجزائريين املعاصرين ،من الجيل
الجديد خاصة ،حيث حاولوا التغلب على مادية هذه الحياة من خالل االرتقاء إلى عوالم نورانية،
عوالم تذوب فيها الفوارق الدنيوية ،وتصفو فيها النفس ،وتنكشف األسرار الربانية ،ملن سلك
الطريق سلوكا صحيحا 47
الخاتمة:
كل اإلبداعات تعد التجربة الصوفية تجربة لغوية ونوعية إذ نرى من خالل النصوص في ّ ّ
ّ
اللغة العاديةّ ، الك ّتاب ّ ُ
ألنها غير قادرة على استيعاب املعاني واملشاعر واألفكار للتمرد على محاولة
ّ
فاللغة في حاالتها العادية ّ
تعد عا ِّئقا ال يقوى على التعبير وغير قادرة على اإليفاء الصوفية العميقة،
ُ
بكل املعاني ،فهي تعيق تجربتهم الفريدة ،الخاصة ،48ولذا نرى هذا الصنف من الك ّتاب يرسم مسارا ّ
ُ
عاصرة
يستعين فيه بالرموز ،وهي ظاهرة قديمة في الكتابة األدبية وجديدة مع النصوص الحديثة وامل ِّ
بكل حرية في عوالم ويعبر عن أفكاره ّ وتبقى ُمرافقة للكتابة ما دامت تنقذ الكاتب ليتوارى وراء الرمز ّ
ِّ
َْ ُ ّ
قد تخضع لدى املتلقي إلى التأويالت ّ
ولكنها ال تقوى على الفهم املطلق ".في حين أن الصوفية هي
َ كل َمن ّتعبر عن متعة فنية تستقطب ّ تجربة ّ
يتمتع بهذه الروحانيات العميقة ِّ ، 49ملا لها من
بدع أن ألي ُم ِّ
جماليات ال ُمتناهية ،ألنها "تجربة عرفانية تجري وراء الزمن الفيزيقي ،وعليه ال يمكن ّ
ُيحقق النجاح في هذا املجال من الكتابة ،فقد يفشل البعض في صناعة هذا الفضاء وهو إخفاق
250 م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي ،م.م .آسيا عبد القادرعلي عمراني ،التجربة الصوفية في الشعر الجزائري...
ّ ّ
مرده إلى عمق التجربة واتساع آفاقها ِّم َما جعل الشاعر أو الروائي يقف حا ِّئرا أمام هذا العالم
ُ
الروحاني املليء باملدهش والعجيب ،سواء على املستوى اإلبداعي أو على املستوى السلوكي الخاص
لهذه النخبة".لذا كان التقليد أحيانا هو العالمة داخل النصوص املعاصرة ،50تقليد يستحضر
ألن أصحابها لم يتمثلوا التجربة الصوفية كما تمثلها أصحابها األصليون ،ولم املاض ي من النصوصّ ،
يدركوا معنى املُعايشة ،بل نجد أحيانا نصوصا شعرية ال عالقة لها بهذه التجربة ويصنفها ّ
النقاد على ِّ
ّ
ّأنها تجربة صوفية ،وفق العربي .ويخلص العربي إلى أن هذا النوع من التجارب هو في الحقيقة
ٌ َ "إشكالية ُيعاني منها النص األدبي املعاصر بصورة واضحةّ ،
نص ُمغلق وكأن التجربة الصوفية
ّ ٌ
غامضة ال يوجد بها إال املصطلحّ ،أما الحال فتبتعد عن املعاني الحقيقة ألسرار التجربة ودهاليز ِّ
ّ
الصوفية والتي تظل بنمطية خاصة ال يقوى على تفعيلها إال من خبر أسرارها.
املراجع
1أحمد علي زهرة ،وسيلها إلﯩالحقيقة ،النينو للنشر والتوزيع ،سوريا ،ط ، 2003 ، 1ص39
-2أحمد أمين ،ضحى االسالم ،م ، 2ج ، 4دار الكتاب العربي ،بيروت -لبنان ، 1969 ،ص 36
_ - 3آمنة بلعلى ،تحليل الخطاب الصوفي في ضوء املناهج النقدسة املعاصرة ،منشورات االختالف،
ط 2000،ص 21
4ينظر :عبد املنعم خفاجي ،األدب في التراث الصوفي ،ص 33
_ 5فؤاد صالح السيد ،االمير عبد القادر الجزائري متصوفا وشاعرا ،املؤسسة الوطنية للكتاب ،
الجزائر ،دط 119 ، 1985 ،
- 6عبد الحميد هيمة ،كتاب الخطاب الصوفي وآليات التأويل ،دار األمير خالد ، 2013 ،ص_ 18
ابي علي ابن سينا ،االرشادات والتنبيهات ،شرح نصير الدين الطوس ي ،تر :سليمان دنيا ،
القسم الرابع في التصوف ،مؤسسة النعمان للنشر والتصوف ،دط ،1996 ،ص 86
7التوحيدي ،املقاسات ،نقال عن عرفات عبد الحميد فتاح،نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها،دار
الجيل-بيروت ،لبنان ،د.ط ، 1993 ،ص 59
_ 8ادونيس ،زمن الشعر ،دار العودة ،بيروت لبنان ،ط ،1978 ، 2ص 57
9الخطاب الصوفي وآليات التأويل ،عبد الحميد هيمة،دارا ألمير خالد ،الجزائر ، 2014 ،ص137
المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها
1(1), (2021), 234-253 251
_ 10ينظر :سعيد بوسقطة ،الرمز الصوفي في الشعر العربي املعاصر ،منشورات بونة للبحوث
والدراسات ،ط ، 2008 ، 2ص 137 ،
11عاطف جودة نصر ،الرمز الشعري عن الصوفية ،الرمز الشعري عند الصوفية ،دار األندلس ،
االسكندرية مصر ،ط، 1983 1ص 53
12سعيد بوسقطة ،الرمز الصوفي في الشعر العربي املعاصر ،ص 145
_ 13ادونيس ،زمن الشعر ،ص 9
_ 14كاميليا عبد الفتاح ،القصيدة العربية املعاصرة ،ص.560
_15املرجع نفسه ،الصفحة نفسها.
_ 16عبدالحكيم العالمي ،الوالء والوالء املجاور ،بين التصوف والشعر نقال عن ياسين بن عبيد،
الشعر الصوفي الجزائري املعاصر ،صدر عن وزارة الثقافة الجزائر سنة ،2007ص.22
17علي عشري زايد ،استدعاء الشخصيات التراثية ،ص.105
18محمد بنعمارة ،الصوفية في الشعر املغربي املعاصر ،املفاهيم والتجليات ،شركة النشر والتوزيع،
الدار البيضاء ،ط ،2000/1ص.52
19نورة سلمان ،معالم الرمزية في الشعر الصوفي العربي ،بحث مقدم لنيل شهادة أستاذ في العلوم
مخطوط بالجامعة األمريكية في بيروت سنة ،1954ص.104
_ 20عبد املنعم خفاجي ،األدب في التراث الصوفي ،بمكتبة غريب ،د.ط ،د.ت ،ص.184
21املرجع نفسه ،ص.186
- 22نفسه ،ص.185
23محمد أحمد فتوح ،الرمز والرمزية في الشعر املعاصر ،ص165 -164
24محمد بنعمارة ،الصوفية في الشعر املغربي املعاصر ،ص.52
_ 25على عشري زايد ،استدعاء الشخصيات التراثية ،ص.105
26ينظر صالح عبد الصبور ،شاعر الكلمة مجلة فصول نقال عن محمد بنعمارة الصوفية في
الشعر املغربي املعاصر ،ص.54-53
27أدونيس ،الصوفية والسريالية ،ص.156
28غسان غنيم ،الرمز في الشعر الفلسطيني الحديث واملعاصر ،ص.24-23
29أحمد يوسف ،يتم النص ،ص.231
252 م.د .محمد طه جواد ياسين الساعدي ،م.م .آسيا عبد القادرعلي عمراني ،التجربة الصوفية في الشعر الجزائري...