You are on page 1of 20

‫التجربة الصوفية في الشعر الجزائري الحديث بين التقليد واإلبداع‬

‫‪1‬م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪2 ،‬م‪.‬م آسيا عبد القادرعلي عمراني‬

‫‪1‬كلية التربية املقداد – جامعة ديالى ‪ -‬العراق‬


‫‪2‬كلية اآلداب واللغات ‪ -‬جامعة العربي التبس ي – الجزائر‬
‫البريد اإللكتروني‪ameraniassia@gmail.com :‬‬

‫مستخلص البحث‬
‫إن الواقع الذي أصبح يعيش فيه الشاعر‪ ،‬واملحاط بكل أنواع القهر والسلب والغربة واالغتراب‪،‬‬
‫هو الذي جعله يطلب عاملا آخر‪ ،‬غير هذا العالم األرض ي‪ ،‬الذي يرى فيه أنه مليء باألحقاد‬
‫والشرور‪ ،‬لذا كان العالم السماوي‪ ،‬عاملا أفضل وأنقى وأطهر‪ ،‬فكان أن ارتبط شعره وانغمس‬
‫في فوضويات ومجازات اللغة‪ ،‬إنه االنتماء لعالم الروح‪ ،‬االنتماء للتجربة الصوفية‪ ،‬هذه اللفظة‬
‫التي أثارت جدال دينيا كبيرا منذ القديم وإلى يومنا هذا ‪ ،‬فالتجربة الصوفية والتجربة الفنية‬
‫منبعان من منبع واحد‪ ،‬وتلتقيان عند نفس الغاية‪ ،‬وهي العودة بالكون إلى صفاته وانسجامه‬
‫بعد أن يخوض غمار التجربة فكل من الصوفي والشاعر يحلمان بعالم مثالي ومتكامل ‪ ،‬هذا‬
‫النموذج من الكمال لن يجدوا له وجودا داخل هذه األرض بل عاملهم وهو عالم الروح‪ ،‬حيث‬
‫الصفاء والسكينة تتنزل من كل صوب وحدب‪ .‬وعليه فال نستغرب اهتمام الشعراء املعاصرين‬
‫برجال الصوفية ‪ ،‬حيث يعدونهم رموزا للحيوية الباطنية والتجربة الطازجة والحدس املتوهج‬
‫واالتصال الفطري بالوجود‪ ،‬ويختلف الشعراء حسب اتجاهاتهم الشعرية والفكرية‪ ،‬وهذا ما‬
‫جعل الكتابة الشعرية املعاصرة التي تتخذ من عالم التصوف أساسا ومنطلقا لها تنحو املنحى‬
‫الذي أخذته الكتابات الصوفية قديما شعرا أو نثرا‪ ،‬حيث الرمز هو الدعامة األساسية‪ ،‬أو‬
‫املكون األساس لكتابته وانسجامه بعد أن يخوض غمار التجربة ‪ .‬وعليه نرصد عالقة الشعر‬
‫بالتصوف ‪ ،‬وداللة الرمز الصوفي في الخطاب الشعري‬
‫الكلمات الرئيسية‪ :‬اللغة العربية‪ ,‬املدارس النظامية‪ ,‬مراحل التعليمية‪,‬‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪235‬‬

‫املقدمة‪:‬‬
‫إن الواقع الذي أصبح يعيش فيه الشاعر الجزائري‪ ،‬واملحاط بكل أنواع القهر والسلب‬
‫والغربة واالغتراب‪ ،‬هو الذي جعله يطلب عاملا آخر‪ ،‬غير هذا العالم األرض ي‪ ،‬الذي يرى فيه أنه مليء‬
‫باألحقاد والشرور‪ ،‬لذا كان العالم السماوي‪ ،‬عاملا أفضل وأنقى وأطهر‪ ،‬فكان أن ارتبط شعره‬
‫وانغمس في فوضويات ومجازات اللغة‪ ،‬إنه االنتماء لعالم الروح‪ ،‬االنتماء للتجربة الصوفية‪ ،‬هذه‬
‫اللفظة التي أثارت جدال دينيا كبيرا منذ القديم وإلى يومنا هذا‪.‬‬
‫فالتجربة الصوفية والتجربة الفنية منبعان من منبع واحد‪ ،‬وتلتقيان عند نفس الغاية‪ ،‬وهي‬
‫العودة بالكون إلى صفاته وانسجامه بعد أن يخوض غمار التجربة‬
‫فكل من الصوفي والشاعر يحلمان بعالم مثالي ومتكامل ‪ ،‬هذا النموذج من الكمال لن يجدوا‬
‫له وجودا داخل هذه األرض بل عاملهم وهو عالم الروح‪ ،‬حيث الصفاء والسكينة تتنزل من كل صوب‬
‫وحدب‪.‬‬
‫وعليه فال نستغرب اهتمام الشعراء املعاصرين برجال الصوفية حيث يعدونهم رموزا للحيوية‬
‫الباطنية والتجربة الطازجة والحدس املتوهج واالتصال الفطري بالوجود‪ ،‬ويختلف الشعراء حسب‬
‫اتجاهاتهم الشعرية والفكرية في بعض اإلضافات التي يضيفونها على هذه الرموز‬
‫لقد كانت مسيرة الشاعر منذ القديم مسيرة بحث وتحر عن العالقة التي تحكم الطرفين‬
‫الروح والجسد‪ ،‬ألن طغيان الصبغة املادية هو ما جعله يلتجئ إلى هذا العالم الروحاني الذي تصفو‬
‫فيه النفوس وتهدأ فيه القلوب املتعلقة بخالقها‪.‬‬
‫لذا " ظلت العالقة الوثيقة بين الشاعر والصوفي محاولة بعيدة لالنطالق عن العالم العبثي‪،‬‬
‫بحثا عن أفكار أكثر تجريدا تشف خاللها الحقائق الكونية‪.‬‬
‫‪ .1‬في ماهية الصوفية‬
‫أ‪ -‬لغة أصل لفظ التصوف ‪:‬‬
‫تعددت معاني هذه اللفظة ولعل أولى هذه االشتقاقات يتصل بلبس الصوف‪ ،‬والذي هو‬
‫عالمة على الفقر أو الزهد في الحياة‪ ،‬ومتاعها الزائف‪ ،‬وهناك اشتقاق ثاني يتصل بالصفاء أي‬
‫الطهارة الروحية‪ ،‬وهناك معنى ثالث يرجعه البعض إلى اللفظ اإلغريقي األصل وهو سوفيا ويعني‬
‫‪236‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫ُ‬
‫الحكمة‪ .1‬ويقول بعض الصوفيين‪:‬ليس التصوف لبس الصوف ترقعه‪.‬وال بكاؤك ان غنى املغنون و‬
‫ال صياح وال رقص وال طرب وال اضطراب كأن قد صرت مجنونا بل التصوف أن تصفو بال كدر‬
‫وتتبع الحق والقرآن والدي وأن ُترى خاشعا هلل مكتئبا ‪2‬‬

‫ب ‪-‬اصطالحا‪:‬‬
‫هو التجرد تماما من مباهج الدنيا ومفاتنها‪ ،‬ومحاول كما ورد في معجم املصطلحات العربية أن‬
‫التصوف هو التخلص من الجسد ذلك الحجاب الكثيف الذي يحول دون التمتع بالنور االلهي‬
‫الفياض على الكون والفناء في الذات العلية فناء يقترن بالعشق االلهي ‪.‬‬
‫فالتصوف بذاته ثمرة كبرى في املعارف االسالمية ‪ ،‬وروح ملجموع حقائق االسالم من عبادة‬
‫وايمان ويقين وعرفان ‪ ،‬اذ تطورت دائرته بتقدم الزمن من ظاهرة فردية بين االنسان وربه الى ظاهرة‬
‫اجتماعية كثر رجالها وأتباعها " ‪3‬‬

‫ما يمكن أن نستنتجه من هذا هو أن تحديد مفهوم الصوفية أمر من الصعوبة بمكان‪ ،‬وقد‬
‫قص جالل الدين الرومي في كتابه" املثنوي "قصة فيل عرضه بعض الهندوسيين في حجرة مظلمة‪،‬‬
‫فتجمع الناس ليخبره‪ ،‬ولكن ظالم املكان منعهم أن يبصروه‪ ،‬فلمسوه بأيديهم ليعلموا على أي مثال‬
‫هو‪ ،‬فلمس بعضهم خرطومه‪ ،‬فقال ‪:‬إنه يشبه أنبوب املاء‪ ،‬وبعضه أذنه‪ ،‬فقال ‪:‬البد أن عيونه‬
‫كمروحة كبيرة‪ ،‬وملس بعضهم رجله فحسب أنه كالسارية‪ ،‬وملس بعضهم ظهره فأعلن أن الحيوان ال‬
‫بد أن يشبه العرش العظيم‪ ،‬وكذلك حال الذين يعرضون للتصوف بالتعريف ال يستطعون إال أن‬
‫يحاولوا التعبير عما أحسته نفوسهم‪ ،‬ولن يكون التعريف‬
‫مفهوم يضم كل خفية من الشعور الديني املستكين لكل فرد ‪ ،4‬وبسبب ذلك أن الصوفية ليست‬
‫علما يمكن أن يفهم بالعقل أو يوصف باأللفاظ ‪ ،‬ولكنها هي ثمرة معرفة من غير مقدمات وقضايا‬
‫وبراهين أو تجريب ‪ ،‬اذن التصوف في حقيقته تسامي بالروح فوق كل ماديات االرض وشهواتها‪،‬‬
‫مصداقا لقوله عليه الصالة والسالم إن للا ال ينظر إلى أجسادكم وال إلى صوركم وإنما إلى قلوبكم‬
‫فغاية التصوف أو الصوفي هي املحبة االلهية‪ ،‬و يستندون في ذلك إلى آيات من القرآن الحكيم‬
‫ويحبونه﴾[ سورة املائدة‪ / 54‬ويقول أيضا تعالى ‪:‬‬‫يحبهم ّ‬‫منها و قوله تعالى ‪﴿:‬فسوف يأتي للا بقوم ّ‬
‫تحبون للا فاتبعوني يحببكم للا﴾ آل عمران‪/ 31‬‬ ‫﴿قل إن كنتم ّ‬
‫وقد أورد األمير عبد القادر أبياتا من الشعر تشير إلى الحب اإللهي في شبه مقامة له؛ حيث‬
‫يقول في‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪237‬‬

‫مطلعها‪:‬‬
‫ّ‬
‫تجلى له املحبوب من حيث ال يرى‬
‫وغيبتي به فغاب رقيبنا‬
‫الي ْين وانحسر املرا‬
‫وزال حجاب َ‬
‫فصرت أراه كل حين ولحظة‬
‫وقد غاب وكان حاضرا‪5‬‬

‫وجود ظاهرة التصوف مرتبط ارتباطا كبيرا بالفكر الديني والتأمالت الفلسفية ‪ ،‬ومن الخطأ‬
‫اعتباره من نتاجات الحضارة اإلسالمية ‪.‬والتصوف اإلسالمي هو تصفية القلب وتطهيره من رجسه‪،‬‬
‫وإخالص العبودية هلل والتجرد من ملذات الدنيا وهجرها والخشوع والتأمل ‪ ،‬والتصوف هو التخلق‬
‫باألخالق اإللهية وبالوقوف مع اآلداب الشرعية ‪ ،‬وكلمة التصوف باليونانية تعني الحكمة ‪ ،‬وفي‬
‫العلوم اإلسالمية كانت غايته افهام مضمون الوعظ للقارئ‪ ،‬وكانت قيمة األدب كامنة في تأثيره‬
‫وفعاليته في نفسية املتلقي‪ ،‬مما أدى الى تيسير اللغة وعليه تغيب الذات‪ ،‬فكانت كتابات املتصوفة‬
‫املتأخرين ثورة على عناصر الثبات في طرق التفكير واإلبداع املتداولة‪ ،‬وبما أن اللغة كانت مرتبطة‬
‫بإسناد وكتابة محدودة‪ ،‬ربما أدى هذا إلى التعبير وتغير بنيتها الذوقية التشكيلية لكن جوهرها‬
‫وبينتها التحتية كانت أصلية نابعة من التراث ‪.‬‬
‫فدراسة األدب الصوفي تتطلب ذوقا خاصا وولوجا في عامله واإلبحار في معانيه ‪ ،‬ورموزه فقد‬
‫تناول الصوفيون االدب والحب االلهي عبرة وموعظة ونصحا وحكمة ونثرا وشعرا ‪ ،‬و الكثير من‬
‫الحكمة و املوضعة و الفكر و املعاني و االخيلة و اعمق مشاعر االنسان‪ ،‬كما حفل ادبهم بروائع‬
‫املناجاة‪.‬‬
‫مما سبق نرى أن التصوف في اإلسالم ارتبط بالجانب الخلقي والسلوكي‪ ،‬ولم يخرج عن إطار‬
‫أحكام الشريعة اإلسالمية خاصة في بداياته‪ ،‬ألنه بعد ذلك أخد أبعادا فلسفية عميقة خاصة مع‬
‫الحالج‪ ،‬وابن عربي‬
‫وغيرهما‪...‬وهكذا يتضح أنه ال فرق بين الشريعة الحقيقية والعمل بأحكامها من االلتزام باألوامر‪،‬‬
‫واالبتعاد عن النواهي‪ ،‬واملحرمات يوصل إلى الطهارة الروحية ويحقق صفاء الروح ‪.‬‬
‫‪ .2‬بين الزهد والتصوف‪:‬‬
‫‪238‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫يمكن حيال ذلك ان نطرح التساءل االتي ‪ ،‬فهل الزهد هو التصوف أم أنه الخطوة األولى‬
‫للوصول إلى التصوف ؟‬
‫يعد الزهد مرحلة سابقة مهدت لظهور التصوف ‪ ،‬فهناك الكثير من العلماء واملسلمين وغير‬
‫املسلمين ميزوا بين الزهد والتصوف منهم على الخصوص" ابن الجوزي "في كتابه" تلبيس ابليس "‬
‫و"عبد الرحمان ابن خلدون في شفاء السائل‪ ،‬وابن سينا في االرشادات والتنبيهات ‪ ،‬والذي حاول أن‬
‫يفرق بين الزاهد والعابد والصوفي‪،‬‬
‫" حيث يقول القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد‪ ،‬واملنصرف بفكره إلى قدس الجبروت‬
‫مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف من غلب عليه طلب العبادة كان عابدا‪،‬‬
‫ومن غلب عليه ترك " ويقول أبو العباس أحمد بن أحمد بن زروق "والعارف هنا هو الصوفي‪6 ".‬‬

‫إن املتأمل في الخطاب الشعري املعاصر‪ ،‬لم يعد كما كان في السابق عاملا يتمكن منه لقارئ‬ ‫ّ‬
‫بسهولة‪ ،‬فقد أصبح عاملا سحريا يموج بالحركة واأللوان‪ ،‬عاملا ال يعترف باألبعاد والحدود‪ ،‬إنه عاملا‬
‫لتخطي والتجاوز‪ ،‬والسعي وراء املطلق ‪ ،‬كما أنه لم يعد خطابا قائما على التأثر واالنفعال ‪ ،‬إنه‬
‫خطاب التساؤل املعرفي‪ ،‬وتبعا لذلك هو خطاب التأويل‪ ،‬والتعدد الداللي‪ ،‬وخطاب املعرفة‬
‫املفتوحة اآلفاق‪ ،‬واملتعددة األبعاد‪.‬وقد أكتسب الخطاب الشعري املعاصر هذه الصفات بفضل‬
‫انفتاحه على قيم فنية جديدة حققت الكثير من التطور لهذه القصيدة ‪. ،‬ففي العصر الحديث‬
‫وبفضل اطالع الشعراء على التراث العربي القديم‪ ،‬وجدا لبعض في التصوف مرتكزا تراثيا يتماش ى‬
‫والتأثر باملذاهب الغربية التي تجعل للخيال النصيب األوفر في الشعر ‪ ،‬خصوصا وأن الواقع العربي‬
‫كان مهيئا يوم ذاك للتأثر بمثل هذه االتجاهات ‪ ،‬نتيجة ظروف القلق والقهر والتخلف‪ ،‬التي عان‬
‫منها اإلنسان العربي بشكل عام سواء في مرحلة االحتالل أو بعد ذلك ‪.،‬وقد ساهمت هذه الظروف في‬
‫تطور الوعي الثوري لدى الشاعر فغدا ينظر إلى التصوف على أنه رمز للتسامي الروحي على اآلالم‬
‫وهموم الفردية من عالم الواقع ‪ ،‬وعليه فإن أهمية التصوف اليوم تتمثل في كونه وثيق الصلة‬
‫بالفن في مفهومه الحديث ‪.‬فالشاعر ال يكتفي بوصف الواقع‪ ،‬وإنما يبحث عن العناصر الخفية فيه‬
‫الن مهمة الشعر هي أن يجعل الواقع حيا ويكشف ما يخفى منه عن الوعي العادي‪.‬‬
‫من هنا فإن مهمة الشاعر ال تختلف عن مهمة الصوفي والفيلسوف ‪ ،‬انقاض العالم ‪ ،‬وعلى‬
‫هذا فإن الصلة بين التصوف‪ ،‬والشعر تنبثق من سعي كل منهما إلى تصور عالم أكثر كماال من عالم‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪239‬‬

‫الواقع ‪ ،‬ومبعث هذا التصور هو اإلحساس بفضاعة الواقع ‪ ،‬وشدة وطأته على النفس‪ ،‬وسمو‬
‫الروح للتماس مع الحقيقة التي تعذب كياننا‪.‬‬
‫‪ .3‬اإللهام عند الشعراء‬
‫يعرف بالتجلي أو الكشف عند الصوفية‪ ،‬وفيها ايكون الشاعر والصوفي في حالة إستغراق‬
‫أو الحلم تبلغ أقصاها عند الصوفي ببلوغ حال الفناء التام‪ ،‬واالمتزاج بعالم الحقيقة حيث النقاء‬
‫والنور ‪ .‬وهذه الحال هي غاية الصوفي ومنتهى طلبه‪ ،‬وكلما استطاع الشاعر أن يوغل في إمتزاجه‬
‫بالعالم‪ ،‬قارب السمو الصوفي الالمتناهي‪7.‬‬

‫ومن هنا فإننا نجد الكثير من نقاط التالقي واالتفاق بين التصوف والشعر‪ ،‬ولعل هذا ما‬
‫جعل أدونيس يعد‬
‫"التصوف تجربة شعرية "‬
‫أما عن فكرة اإلرتباط بين الشعر والتصوف فإن أدونيس يعبر عنها في قوله ‪:‬‬
‫" هو أساس صوفي وسوريالي ‪ ،‬ولكن هذا املفهوم لم يكن عند نقادنا‪ ،‬القدامى فكان هناك تعارض‬
‫بين الشاعر والصوفي‪ ،‬فالشاعر يلتحم مع الحياة ويتفاعل معها‪ ،‬أما الصوفي فينبذ الدنيا‪ ،‬ويعتزل‬
‫الناس ويقيم بدل ذلك صلة بالذات اإللهية " ‪8‬‬

‫‪ .4‬الصلة بين الشعر والتصوف‬


‫ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابيا‪ ،‬ويكون الداعي إلى للا صوفيا وهذا يقودنا إلى‬
‫نكون صورة واضحة‬ ‫ّ‬
‫ضرورة البحث في عالقة الصوفية بالشعر‪ ،‬وعالقة الشعراء بالتصوف حتى ِّ‬
‫عن عالقة الشعر بالتصوف‪ .‬ولذلك نجد املتصوفة اعتمدوا في التعبير عن أحوالهم على الشعر‪،‬‬
‫وهذا يعد من قبل املتصوفة متقدم زمانيا على إلتفات الشعراء للتصوف‪ .‬وهكذا أصبح الشعر عند‬
‫املتصوفة تجربة ثانية مرادفة لتجربة التصوف‪ ،‬وليس أدل على عمق الرابطة التي تربط الصوفي‬
‫بالشاعر من أن( متصوفا)متصوفين الكبار أمثال الحالج وابن عربي وابن الفارض ورابعة العدوية‬
‫وغيرهم‪ ،‬كانوا في نفس الوقت شعراء كبارا‪ ،‬وقد استخدموا الشعر في التعبير عن كثير من جوانب‬
‫تجربتهم الصوفية‪ .‬ولقد استعان الشعر بلغة صوفية رمزية بعد إدراكه لضيق اللغة العادية‪ ،‬وقد‬
‫أشار إلى ذلك الشنفرى عندما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة يقول الحالج وهو أحد أعالم التصوف‬
‫االسالمي "من لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا " ‪ ،‬وذلك اشارة الى ضرورة الوقوف على‬
‫املعاني التي يقصد اليها املتصوفة حتى تتحصل لنا الفائدة ‪ ،‬فمن ال يعرف رموز الصوفية ال يمكن‬
‫‪240‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫أن يفهم عباراتهم ‪ ،‬واللغة الصوفية لغة غامضة سبيلها اإلشارة ال العبارة‪ .‬ذلك أن القارئ للشعر‬
‫الصوفي يجب عليه أال يدخل إليه من باب املعنى املباشر للعبارة ‪9‬‬

‫لقد اتسم الشعر العربي عبر مسيرته بالعديد من الظواهر الفنية ‪ ،‬والتي ساهمت بال شك في‬
‫تحديد مضامينه واثرائها ‪ ،‬ومن أهم هذه الظواهر التصوف الذي يرجع سر االهتمام به ملا يجمع‬
‫بينه وبين الشعر من عالقات وروابط جدية ‪10‬‬

‫ويفسر اغلب الدارسين للخطاب الصوفي بان التصوف أحد منجزات الفكر البشري ‪ ،‬التي‬
‫تربطه بمختلف املعارف عالقة وطيدة ‪ ،‬يرى الباحث عاطف جودة نصر أنه " هناك وشائج قربى‬
‫تجمع بين التصوف والفن بشكل عام وبينه وبين الشعر بشكل خاص ‪ ،‬هذه الوشائج تتمثل في أن‬
‫كليهما يحيل الى العاطفة والوجدان "‬
‫فالصوفي هو" شاعر سواء نظم القول أو النثر ‪ ،‬فاداة االدراك عنده هي نفسها وسيلة‬
‫الشاعر " ‪ ،‬فكليهما يعتمدان على الباطن ‪ ،‬مما جعل لغتهما مختلفة عن اللغة العادية ‪ ،‬والوسيلة‬
‫التشبيهية التي يستخدمها في أداء ما يؤديه هي نفسها وسيلة الشاعر ‪ ،‬وهذا ما يؤكد عدم اختالف‬
‫التجربتين ‪11‬‬

‫يتضح من كل هذا أن كال من الشاعر والصوفي يتشابهان في الوسيلة ويتحدان في الهدف ‪،‬‬
‫كما يهدفان الى تكوين رؤية للعالم ‪ ،‬غير أنهما يختلفان في تحديد تلك املعرفة ‪ :‬معرفة تجربية ‪/‬‬
‫معرفة عقلية منطقية ‪ ،‬باالضافة الى أوجه االلتقاء بين التجربتين ‪ ،‬واعتبار الخيال والحدس من‬
‫الركائز األساسية في العملية االبداعية ‪ ،‬لذا يلجأ كل منهما في الرمز وااليحاء ‪ ،‬خاصة مع التجربة‬
‫الصوفية التي تعتمد على لغة خاصة ذات رؤية واسعة ورحبة والعبارة عاجزة محدودة فالنفري يرى ‪:‬‬
‫" أنه كلما اتسعت دائرة الرؤية ذاقت العبارة " ‪12‬‬

‫بمعنى أن العبارة غير قادرة على حمل كل معاني الرؤى ‪ ،‬أو التعبير عن كل األفكار الصوفية ‪،‬‬
‫وانطالقا مما سبق يتضح لنا بأن هناك انسجام وتقارب ‪ ،‬بين التجربيتين وهذا من حالل ما أشار‬
‫اليه ادونيس بقوله " ان الشعر رؤيا ‪ ،‬والرؤيا بطبيعتها قفزة خارج املفهومات السائدة ‪ ،‬ويؤمن بأن‬
‫الشعر كشف عن عالم يظل أبدا في حاجة الى الكشف وال يمكن للشاعر ان يكون عظيما اال اذا‬
‫رايناه وراء رؤيا للعالم " ‪13‬‬

‫‪ .5‬بدايات الشعر الصوفي ‪:‬‬


‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪241‬‬

‫مر التصوف في املغرب العرب ي –بما فيه الجزائر‪ -‬بعدة مراحل وتماما كما في املشرق العربي‬
‫بدايته كانت زهدا ‪ " ،‬فمنذ البدء شهدت مدينة القيروان ‪ ،‬ككل املدن العربية األولى ( البصرة‬
‫والكوفة ) حركات تزهد ونسك عديدة ‪ .‬ففي الوقت الذي كان فيه الحسن البصري ( املتوفى عام ‪110‬‬
‫ه ‪ 720 -‬م ) ‪ ،‬وهو الذي يعد رائد التصوف ينزع في سلوكه إلى حياة روحية خالصة‪ ،‬يتخذ من‬
‫الطقس الديني طريقة معرفة وكشف ‪ ،‬نجد في القيروان إسماعيل بن عبيد ( املتوفى عام ‪ 107‬ه ‪-‬‬
‫‪ 717‬م ) يوغل في التبتل ‪ ،‬البسا جبة من صوف ‪ ...‬ونجد أبا محمد خالد بن عمر التجيبي ( املتوفى‬
‫عام ‪ 127‬ه ‪ 727 -‬م ) يهرب من الثروة والقضاء ‪...‬هؤالء الزهاد و النكاس انتشروا في إفريقية منذ‬
‫الفتح " ولعل أبرز رائد في الطريق ال صوفي كان أبو علي شقران بن علي الصوفي القيرواني (توفي عام‬
‫‪ 186‬ه) اشتهر أمره في املشرق واملغرب على حد سواء ‪ ،‬فأتاه الناس من كل مكان ليأخذوا عنه أصول‬
‫الطريقة ‪ ...‬في نفس الفترة عاش مع أبي علي شران صوفي آخر هو محمد بن مسروق (توفي عام ‪180‬‬
‫ه )" ‪14‬‬

‫وكما هو الشأن في املشرق العربي ‪ ،‬كانت الحركة الزهدية هي املنطلق ؛ ليتشكل التصوف ‪،‬‬
‫بعد مراحل عدة ‪ ،‬يمكن تحديدها في خمس مراحل‪:‬‬
‫‪-‬املرحلة األولى ‪:‬سجل فيها ميل نحو البعد عن الحياة املادية والتسامي عن ملذات الحياة ‪ ،‬وهذا في‬
‫القرنين األول والثاني الهجريين ‪ 8/7‬م‪.‬‬
‫‪-‬املرحلة الثانية ‪ :‬شبيهة باملرحلة السابقة ‪ ،‬وشهدت إغراقا في الزهد والتقشف ‪ ،‬وتمتد من بداية‬
‫القرن الثالث إلى أواسط القرن الرابع ‪ 10‬م ‪) . /‬الهجريين‪( 9‬‬
‫‪-‬املرحلة الثالثة ‪ :‬مرحلة كان فيها االنتقال من اإلغراق في الزهد لالقتراب من التصوف ‪ ،‬وكانت‬
‫البداية لألفكار الصوفية والخياالت وهذا في القرن الرابع الهجري ‪ ( 10‬م‬
‫ُّ‬
‫املرحلة الرابعة ‪ :‬تعد مرحلة اكتمال تكون التصوف ‪ ،‬بتنظيمه وتشكل الطرق الصوفية ‪ ،‬والخوض‬
‫في الكرامات ‪ ،‬وتمتد هذه املرحلة من أواسط القرن الخامس الهجري ‪ ( 11‬م‪.‬‬
‫‪-‬املرحلة الخامسة ‪:‬وهي مرحلة املبالغة في ادعاء الكرامات ‪ .‬واالهتمام بها ‪ ،‬ويطلق عليها البعض‬
‫مرحلة الجنون والهذيان وامليل إلى الزهد خالل القرنين األولين للهجرة ‪ ،‬جاء نظرا لألوضاع‬
‫االجتماعية والسياسية املتدهورة ‪ ،‬وفقدان االستقرار ‪ ،‬األمر الذي دفع بالكثيرين إلى االنصراف‬
‫بفكرهم إلى اآلخرة ‪15.‬‬
‫‪242‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫وإذا كان هذا الوضع الذي ساعد على ظهور حركة الزهد‪ ،‬وتبلور على إثره التصوف – فكرا‬
‫وسلوكا – يخص املشرق العربي ‪ ،‬فالوضع مماثل في املغرب العربي – عامة ‪ -‬و الجزائر– خاصة ‪-‬‬
‫املسماة آنذاك املغرب األوسط ‪ ،‬فكما" كان للتصوف في املشرق بحركة زهديه قبل القرن الثاني‬
‫للهجرة ‪-‬الثامن للميالد – شهد املغرب األوسط أيضا بداية من القرن الثاني إلى القرن الخامس‬
‫للهجرة ‪ /‬الثامن إلى الحادي عشر امليالدي حركة زهدية برزت مالمحها األولى في سياق الفتوحات‬
‫اإلسالمية لبالد املغرب‪ ، " 16‬وعليه فالحركة الزهدية في الجزائر " ظاهرة نتاج إرهاصات دينية‬
‫واجتماعية وسياسية واقتصادية تعود بجذورها إلى القرن الثالث الهجري‪ _ 1‬التاسع امليالدي –‬
‫تخمرت عبر قرون ‪ ،‬وتمخض عنها ميالد الحركة الصوفية التي بدأت معاملها تنضج في القرن‬
‫السادس الهجري ‪-‬الثاني عشر امليالدي – بالنسبة للتصوف السني ‪ ،‬وبدايات القرن السابع ‪.‬‬
‫الهجري ‪ 2-‬الثالث عشر ميالدي – بالنسبة لتيارات التصوف الفلسفي " ‪ 17‬والزهاد النساك ‪،‬‬
‫واملتصوفة في فترة متقدمة ‪ ،‬عمدوا إلى فن الشعر للتعبير عما يعيشونه ‪ ،‬وعليه يمكن تحديد‬
‫ظروف ميالد الشعر الصوفي في الجزائر وبداياته بظروف وبدايات التصوف ذاته‪.‬‬
‫ومن الشواهد الهامة ‪ ،‬على ظهور التصوف في الجزائر في عهد متقدم ‪ ،‬العدد الهام من‬
‫الزوايا التي انتشرت في الجزائر وكذا قائمة شعراء التصوف الكبيرة ‪ ،‬التي تضمنتها كتب التراجم‬
‫القديمة ‪ ،‬كما هو الشأن في كتاب " البستان في ذكر األولياء والعلماء بتلمسان " البن مريم‬
‫التلمساني‪ ،‬و "التشوف إلى رجال التصوف " البن الزيات و " عنوان الدراية " للغبريني ‪.‬‬
‫‪ .6‬الرمز الصوفي في الكتابة الشعرية‬
‫وهذا ما جعل الكتابة الشعرية املعاصرة التي تتخذ من عالم التصوف أساسا ومنطلقا لها‬
‫تنحو املنحى الذي أخذته الكتابات الصوفية قديما شعرا أو نثرا‪ ،‬حيث الرمز هو الدعامة األساسة‪،‬‬
‫أو املكون األساس لكتابتهم إذ <<الشعر في كلتا النزعتين الصوفية والرمزية‪ ،‬ثمرة نوبة من نوبات‬
‫النشوة الروحية املحفوفة بالغموض والتي يعانيها الشاعر الرمزي والشاعر الصوفي على السواء>>‪18‬‬

‫و أحيانا يكون سبب الرمز<< أن األديب ال يتحدث بلغة العقل بل بلغة الروح والباطن واملشاعر‬
‫الخفية‪ ،‬أو أنه يعبر عن معان عميقة ال يمكن أن يفهمها العامة وال كثير من الخاصة>> ‪ 19‬ف جعل‬
‫املتصوفة يصرحون بأن الغاية من اعتمادهم الرمز إخفاء مراميهم على كل دخيل وذلك تجنبا‬
‫للعداوة التي كانت منتشرة في زمانهم‪ .‬فهذا ابن عربي يرى أنه من حق أهل الطريق (املتصوفة) أن‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪243‬‬

‫يجعلوا ألنفسهم مصطلحات <<فما من طائفة تحمل علما من املنطقيين والنحاة وأهل الهندسة‬
‫والحساب واملتكلمين والفالسفة‪ ،‬إال ولهم اصطالح ال يعلمه الدخيل فيهم إال بتوفيق منهم>>‪.20‬‬
‫ويبرر اإلمام القشيري في الرسالة القشيرية استعمال الرمز بعدت مبررات‪ ، ،‬منها <<اإلخفاء‬
‫والستر على من باينهم في طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مشتبهة على األجانب غيرة منهم على‬
‫أسرارهم أن تشيع في غير أهلها>>‪ 21‬هذان القوالن اللذان صدرا من علمين من أعالم التصوف‪،‬‬
‫يؤكدان أن الرمز الصوفي هو رمز اصطالحي وليس انشائيا‪ ،‬إذ يتواضع عليه املتصوفة فيما بينهم‬
‫ألغراض عديدة منها التستر والتقنع بقناع الغير والتحجب بحجاب يستر أفكارهم‪ " .‬فالرمز الصوفي‬
‫بخصائصه ال ينطبق تماما على مفهوم الرمز‪ ،‬بمعناه املعاصر‪ ،‬ذلك أن ما يفترض فيه من مواضعه‬
‫أو قرينة يبعده عن تلك اإليحائية التلقائية التي يتسم بها الرمز الفني" ‪ ،22‬لهذا كان فهم كالمهم‬
‫شعرا كان أم نثرا‪ ،‬يحتاج إلى ش يء من التأني والتأمل في دالالت األلفاظ وتراكيب الجمل‪...‬وإال بقي‬
‫القارئ خارج حدود التأويل املفترض في هذا النوع من النصوص ‪ ،‬التي يكون فيها املنتج والقارئ من‬
‫درجة خاصة‪ ،‬إذ فهم مغالق النص ال تتاح لكل قارئ مهما كان مستوى هذا القارئ من الثقافة‬
‫والوعي الكبيرين بشروط القراءة املنتجة‪.‬‬
‫لهذا" فإن ثراء التجربة الصوفية في جوانبها السلوكية واإلبداعية‪ ،‬كان من بين أهم األسباب‬
‫التي أوجدت في شعرنا العربي املعاصر صيغة االمتزاج بين تجربة التصوف وتجربة الشعر" ‪ 23‬هذا‬
‫االمتزاج الذي يراه بعضهم طبيعيا بحكم تشابه املقصد واألدوات لهذا املقصد من رؤية إلى رؤيا‪ ،‬ومن‬
‫لغة الواقع إلى لغة الحلم‪ ،‬حيث اإلحساس بالجمال واالستغراق في التحليقات الروحانية‪ ،‬من أجل‬
‫أن تصفو نفس الشاعر‪ /‬املتصوف من أدران الواقع‪.‬‬
‫وعليه "فليس غريبا أن يعبر شاعرنا املعاصر عن بعض أبعاد تجربته من خالل أصوات‬
‫صوفية‪ ،‬فالصلة بين التجربة الشعرية خصوصا في صورتها الحديثة التي يغلب عليها الطابع‬
‫السرياني‪-‬وبين التجربة الصوفية جد وثيقة‪ ،‬وتتجلى هذه الصلة أوضح ما تتجلى في ميل كل من‬
‫الشاعر الحديث والصوفي إلى االتحاد بالوجود واالمتزاج به"‪.24‬‬
‫‪ .7‬التقاطع بين التجربة الصوفية والشعرية‬
‫هذا التقاطع بين التجربتين‪-‬الصوفية والشعرية‪ -‬يفسرها أحد الشعراء املعاصرين بقوله أن‬
‫التجربة الشعرية تقترب من التجربة الصوفية في محاولة كل منهما االمساك بالحقيقة والوصول إلى‬
‫جوهر األشياء بغض النظر عن ظواهرها ‪ ،‬إذن التشابه في واقع األمر كبير جدا‪ ، 25‬إن العودة إلى‬
‫‪244‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫التجربة الصوفية ملحاولة امتصاص مكنوناتها وجواهرها الخفية‪ ،‬لدليل على أن الشاعر يحاول أن‬
‫يتمرد على هذا الجسد املنتمي إلى عالم املادة األرض ي‪ ،‬ويعرج ويسمو بروحه إلى السماء‪ ،‬حيث‬
‫الطهارة والصفاء والنقاء‪.‬‬
‫إن هذه النظرة للتجربة الشعرية التي تماست مع التجربة الصوفية أو الروحانية هي "نوع من‬
‫العودة إلى الالشعور الجمعي إلى ما يتجاوز الفرد‪ ،‬إلى ذاكرة اإلنسانية وأساطيرها إلى املاض ي بوصفه‬
‫نوعا من الالوعي" ‪ ، 26‬لهذا استغل شعراؤنا كل ما في التجارب الصوفية من معان ودالالت ‪ ،‬وحاولوا‬
‫تضمينها في نصوصهم الشعرية إما بحالتها األولى أو بتغيير لباسها الداللي إلى لباس آخر‪ ،‬يتوافق‬
‫والسياق والتجربة الشعرية والشعورية‪ ،‬إذ أن مقاييس توظيف الرمز الصوفي ال تخرج بعيدا عن‬
‫مقاييس توظيف الرمز األسطوري أو الديني او التاريخي إذ الكل يعمل على استفزاز مخيلة القارئ‬
‫بما كان يملكه من ثقافة عن تلك الشخصيات أو األحداث‪.‬‬
‫إن التجربة الصوفية هي تجربة لغوية في إبداعها‪ ،‬إذ أننا نرى من خالل النصوص الشعرية‬
‫الصوفية‪ ،‬أن أصحابها حاولوا التمرد على اللغة العادية ملا وجدوا أنها غير قادرة على استيعاب كل‬
‫املعاني الروحية التي يريدون أن يعبروا عنها ‪ ،‬فكان الرمز منقذهم من هذا العائق اللغوي‪ ،‬الذي‬
‫يقف في وجه تجربتهم الصوفية في أن تتجسد ككائن لغوي من نوع خاص‪ ،‬بعدما " وجدوا أن طبيعة‬
‫اللغة العادية غير قادرة على اإليفاء بكل املعاني التي تعيق بها تجربتهم الفريدة‪ ..‬ولذا نراهم جميعا‬
‫تقريبا يتوسلون بالرموز‪ ...‬التي شكل استعمالهم لها نوعا من التواضع على معانيها‪ ،‬مما قرب رموزهم‬
‫من الرموز االصطالحية أكثر مما قربها من الرموز اإلنشائية‪ ،‬على الرغم من أنها رموز شعرية في‬
‫غالبيتها" ‪ ، 27‬لكن هذا ال ينفي أن النصوص الصوفية بالرغم من اصطالحية رموزها‪-‬هي نصوص بها‬
‫من الشعرية ما يفوق أحيانا النصوص الشعرية العادية التي يلجأ فيها أصحابها إلى الرموز اإلنشائية‪،‬‬
‫خاصة عندما ندرك كيف تتم عملية الخلق اللغوي في النص الصوفي‪ ،‬حيث يفرغون اللفظة من‬
‫داللتها األولى ويشحنونها بدالالتهم الخاصة كلفظة الخمر‪ ،‬املرأة وغيرها‪ " ،‬فالنص الصوفي شعري‬
‫بامتياز‪ ،‬وكثير من الكتابات الشعرية أخفقت في توظيفه ‪ ،‬ألنه من الصعب أن تضيف إليه إضافة‬
‫تكون أكثر زخما وإيحاء من عرفانية النص الصوفي ‪28‬‬

‫ومن هذه األصوات التي مثلت الشعر الجزائري في بناء نص شعري توازى بنيته بنية النص‬
‫الصوفي نجد الشاعر اإلسالمي مصطفى محمد الغماري في جل أعماله الشعرية‪ ،‬حيث نورانية‬
‫النص الصوفي هي الشعاع الذي يطل علينا من خالل هذه األعمال‪.‬‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪245‬‬

‫إن النص الصوفي هو نص تأويلي بامتياز لذا تكتس ي عملية القراءة لدى النص الصوفي‪ ،‬أهمية‬
‫بالغة‪ ،‬نظرا ملا تحمله من آفاق داللية متعددة ‪،‬و" \ألنه نص الخصوصية فالبد أنه موجه إلى نخبة‪،‬‬
‫تقوم الرسالة فيه على شفرة كما هي طبيعة الكتابة الصوفية فعملية التواصل سارية بين‬
‫الباث‪/‬الشاعر‪ ،‬وبين املتلقي املفترض فيه شروط الوعي الداخلي بمرجعية النص‪.29‬‬
‫هذا الوعي باملرجعية هو السبيل الوحيد للدخول إلى عوالم النورانيات حيث صبوات العشاق‬
‫تزداد كلما تجلى لهم معشوقهم‪ ،‬لذا فقد شكلت املرأة في النص الشعري ‪ ،‬املسيج باشراقات‬
‫التصوف أحد معامله الرئيسية " "فمن املعروف عن شعراء التصوف اإلسالمي قديما أنهم كانوا‬
‫يسعتيرون أسماء الشعراء العذريين العرب وأسماء معشوقاتهم كليلى‪ ،‬وبثينة‪ ،‬وعزة ويضمنونها‬
‫قصائدهم في العشق اإللهي للتعبير عن أذواقهم ومواجدهم الخاصة‪ ،‬كما يتعقبون األماكن التي‬
‫ارتادها هؤالء العذريون " ‪.30‬‬
‫فاملرأة على مر العصور رمزا للجمال الذي هامت به قلوب الشعراء‪ ،‬فمنذ العصر الجاهلي‬
‫والشاعر متيم باملرأة‪ ،‬فكان أن خلق لها موضعا في القصيدة‪ ،‬ال يمر شاعر إال ويقف عنده مطوال‪،‬‬
‫يبوح بما احترق في قلبه من هوى " ولعل ما يفسر اتجاه الصوفية ‪ ...‬إلى هذا النوع من الغزل‪ ،‬هو أن‬
‫الحب اإللهي يغزو قلوبهم بعد أن تكون انطبعت على لغة العوام‪ ،‬أصحاب الصبوات الحسية‪،‬‬
‫فيمض ي الشاعر إلى العالم الروحي ومعه من عالم املادة أدوات وأخيلة هي عدتة في تصوير عامله‬
‫الجديد‪. 31‬‬
‫وهذا مصطفى محمد الغماري يسافر مع ليلى في بعض مواجده فيقول‪:‬‬
‫بقايا من الفاتحين‬ ‫محبوك يانار ليلى‬
‫وهلل جوح الجبين‬ ‫فلله قمر املنافي‬
‫هجين كوجه الظنون‬ ‫وأنت‪ ،‬وأن جن وجه‬
‫بصحو القلوب اليقين‬ ‫ينابيع يمطر منها‬
‫ضباب كثيف كثيف‬ ‫وما الحب لوالك إال‬
‫وأوغل فيه (العفيف)‬ ‫توهمه (الششترى)‬
‫على الكفر سيف جهاد‬ ‫أحبك أحمل حبي‬
‫وأهواك رمز امتداد‪32‬‬ ‫وأهواك حرف انتصار‬
‫‪246‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫‪ .8‬العرفانية الشعرية عند الشاعر مصطفى الغماري‬


‫هكذا رمز الشاعر مصطفى الغماري إلى حبه اإللهي بالرمز الذي استعان به غيره من الشعراء‬
‫أو املتصوفة في الوصول وهي املرأة ‪ ،‬فجعل حبه هلل حبا أزليا محموال على سيف الجهاد على الكفار‪،‬‬
‫إذ طبيعي أن يقرن الشاعر حبه بالجهاد في سبيله ‪ ،‬وهو الذي عانى ويالت االستعمار من مسخ‬
‫وتشويه للهوية العربية واإلسالمية‪ ،‬وهذا ما جعل الباحث أحمد يوسف يقول معترفا بشعرية‬
‫الغماري ورافعا لها عن بقية جيله من شعراء املرحلة السبعينية ‪ ،‬حيث " أتت العرفانية الشعرية‬
‫لدى محمد مصطفى الغماري تقيضا اليديولوجية يسارية غلب على بعضها اإلسفاف الفني‬
‫باسم الواقعية االشتراكية والتحزب السياس ي " ‪ ،33‬تم يضيف مشيدا بتجربة الغماري الشعرية "‬
‫ولوال هذا املناخ السوسيولوجي والثقافي الذي غلبت عليه روح االقصاء والتصفية الثقافية الستطاع‬
‫مصطفى الغماري أن يكتب نصا عرفانيا خالصا يتضمن رؤيته للعالم دون السقوط في لعبة الخصم‬
‫لكونه أكثر اقتدارا على املمارسة الشعرية وامتالكا ألدواتها الفنية " ‪. 34‬‬

‫هذا االعتراف نجده مجسدا في جل دواوينه الشعرية‪ ،‬التي اغترف فيها من معين التصوف‬
‫االسالمي‪ ،‬إذ يقول في ديوان <<قصائد مجاهدة>>‪:‬‬

‫حبيبتي أنت يا ليلى‪ ...‬إن عتبا‬


‫ولج ألف لسان فيك ‪ ...‬واظطربا‬
‫حبيتي أنت ‪ ..‬يا ليل انتحر أسفا‬
‫فليس بعدك إال الفجر مقتربا‬
‫ومن ضيائك يا سمراء‪...‬أغنيتي‬
‫طابت ‪ ...‬فلململت منك الورد والعنب ‪35‬‬

‫يقول‪ :‬وفي ديوانه "أغنيات الورد والنار"‬

‫بدمي وصالك يا هواي ضياء‬


‫تنساب فيه مواسم عذراء‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪247‬‬

‫بدمي وصالك دبكة بدرية‬


‫تاهت ‪ ...‬فأورق في الشفاه حداء‬
‫ورأيت أمد‪ ،‬القرون‪ ...‬قريبة‬
‫وقنيت ثمه ‪ ...‬والفناء بقاء ‪36‬‬

‫لقد استخدم الشاعر املصطلحات الصوفية التي كان املتصوفة يتواضعون على معانيها كالفناء‬
‫والبقاء فكالهما " متالزمان فال فناء بال بقاء‪ ،‬وال بقاء بال فناء‪ ،‬والفناء الصوفي تخصيصا‪ ،‬هو‬
‫الفناء عن الخلق وبقاء الحق‪ .‬الصوفي أبدا ما بين فناء وبقاء" ‪37‬‬

‫فقد أحسن الشاعر توظيفهما داخل النسق الشعري املبني على األلفاظ الصوفية كوصال‪،‬‬
‫ضياء‪ ،‬هذه األلفاظ التي توحي بالبقاء والفناء إذ الوصال يقابله الهجر‪ ،‬والضياء يقابله الظالم‪ ،‬كما‬
‫نجد أمد القرون تقابله قريبة‪ ،‬فالنص مبني في تركيبته على ثنائية البقاء والفناء‪ ،‬إذ فيما هو باق هو‬
‫فان عن آخر‪ ،‬لذلك " ظلت العالقة الوثيقة بين الشاعر والصوفي محاولة بعيدة لالنطالق عن‬
‫العالم العبثي‪ ،‬بحثا عن أفكار أكثر تجريدا تشق خاللها الحقائق الكونية" ‪.38‬‬

‫هذه العالقة ارتبطت أكثر والتحمت ملا وجد الشاعر الجزائري املعاصر ذاته محاطة بشبهة‬
‫املاديات على أشكالها‪ ،‬خاصة في املراحل األخيرة‪ ،‬حيث تغير نمط الحياة‪ ،‬وشعر اإلنسان بغربته‬
‫داخل هذا الوجود‪ ،‬إثر تمزق شبكة العالقات التي كانت في القديم مبنية على السمو والتعالي عن‬
‫صغائر األمور‪.‬‬

‫لذا كان بحث الشاعر عن معان روحية جديدة ‪ ،‬تعيد له احساسه بالوجود في هذا الكون‪ ،‬هذا‬
‫البحث الذي تميز بالقلق الوجودي ألنه " قلق البحث عن معنى عميق للحياة ‪ ،‬قلق اإلنسان الذي‬
‫يريد أن يتجاوز الوضع الراهن للحياة حتى يصل إلى مستوى أكثر قيمة " ‪39‬‬

‫وغير بعيد عن الشاعر السبعيني مصطفى الغماري ‪ ،‬نجد شاعرا آخر تمثل النص الصوفي‬
‫أحسن تمثيل‪ ،‬وعد من الشعراء الذين طوروا الكتابة الشعرية في الجزائر‪ ،‬بانفتاحه على نصوص‬
‫تراثية عربية وأخرى عاملية‪ ،‬مما جعله يتبوأ مكانة كبيرة‪ ،‬داخل خارطة الشعر الجزائري املعاصر‪ .‬هو‬
‫‪248‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫الشاعر"عبد للا حمادي" الذي استطاع بترانيمه الصوفية أن ينقد النص الشعري الجزائري من‬
‫مزالق التقليدية التي طبعت مرحلة شعرية من مراحل تطور الشعر الجزائري املعاصر‪ ،‬من خالل‬
‫التحدي والتجريب التي هي سمة من سمات الحداث‪40‬يين‪.‬‬

‫" والشعر الصوفي يتميز بأنه دائما محلق في عالم الروح‪ ،‬في السماء في النور‪ ،‬في جالل للا‪ ،‬ومن‬
‫ثم يدرك القارئ له‪ ،‬الفرق بين مرمى الغزل الصوفي والغزل الحس ي" ‪.41‬‬

‫هذا التحليق نجده عند الشاعر عثمان لوصيف في عالم الروح حيث الصفاء والحب الطاهر‪،‬‬
‫وحيث املرأة تشكل رمزا من رموز املحبة اإللهية‪ ،‬إذ يستعين بها الشاعر بوصفها ضرورة من ضرورات‬
‫االنتقال من مقام إلى مقام أو من كشف إلى كشف آخر‪.‬‬

‫فالشاعر"لوصيف" في نصه هذا يحاول أن يصل إلى سدرة املنتهى‪:‬‬

‫افتش عن منتهايا‬
‫افتش عن سدرتي‬

‫من خالل الرحلة التي بدأها من األرض صوب السماء ثم الرجوع إلى األرض هذه السدرة التي ورد‬
‫ذكرها في القرآن في قوله تعالى " ولقد رءاه نزله أخرى عند سدرة املنتهي‪ ،‬عندها جنة املأوى " ‪، 42‬‬
‫أما املعاجم الصوفية فقد عرفتها على أنها " البرزخية الكبرى التي ينتهي إليها سير الكل وأعمالهم‬
‫وعلومهم‪ ،‬وهي نهاية املراتب األسمائية التي ال تعلوها رتبة " ‪ ، 43‬إذ هي مطلب كل صوفي عاشق ألن‬
‫الوصول إليها دليل على أن هذا الصوفي هو من أهل الهمة من السالكين‪ .‬لذا ألفينا الشاعر يعبر‬
‫بلفظة "أفتش" التي تدل على البحث عن ش يء مفقود‪ ،‬قد يصل إليه وقد ال يصل ‪ ،‬فتبقى السدرة‬
‫محفوفة بالشهوات واملخاطر‪ ،‬لذا " فالطريق إليها يبتدئ بالسكر الذي يحقق الصعود واالرتقاء ‪،‬‬
‫وينتهي إلى املحو الذي هو باب القرب " ‪44‬‬

‫كما نجد مصطلح التجلي‪ ،‬حاضرا في قصيدة الشاعر‪ ،‬حيث يقول " تجليت في أفقي"‪.‬‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪249‬‬

‫" والتجلي إذا فتح للا على عبد بعد الستر‪ ،‬يتجلى عليه بنعمة‪ ،‬فيكشف له عن بعض املغيبات‬
‫ويظهر له أنوار املشاهدة "‪ ، 45‬إن الرحلة التي كان بطلها الشاعر‪ ،‬والتي كان هدفها البحث عن املقام‬
‫األخير أي عن سدرة املنتهى‪ ،‬هي رحلة حاول فيها هذا الصوفي أن يتخلص من عذاباته ومن حزنه‬
‫القديم‪ ،‬بحثا عن نور يض يء له جوانحه ويفتح له أسرارا غيبتها شهوات النفس‪.‬‬

‫صاعدا في خيوط الضياء‬


‫نحو عينيك ‪ ...‬أمش ي على درجات الندى‬
‫واألغاني عصافير خضراء ترتف حولي‬
‫وتمسح بالريش حزني املعتق‪46..‬‬

‫هي إذن كتابات صوفية ألفينا صداها عند الشعراء الجزائريين املعاصرين‪ ،‬من الجيل‬
‫الجديد خاصة‪ ،‬حيث حاولوا التغلب على مادية هذه الحياة من خالل االرتقاء إلى عوالم نورانية‪،‬‬
‫عوالم تذوب فيها الفوارق الدنيوية‪ ،‬وتصفو فيها النفس‪ ،‬وتنكشف األسرار الربانية‪ ،‬ملن سلك‬
‫الطريق سلوكا صحيحا ‪47‬‬

‫الخاتمة‪:‬‬
‫كل اإلبداعات‬ ‫تعد التجربة الصوفية تجربة لغوية ونوعية إذ نرى من خالل النصوص في ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫اللغة العادية‪ّ ،‬‬ ‫الك ّتاب ّ‬ ‫ُ‬
‫ألنها غير قادرة على استيعاب املعاني واملشاعر واألفكار‬ ‫للتمرد على‬ ‫محاولة‬
‫ّ‬
‫فاللغة في حاالتها العادية ّ‬
‫تعد عا ِّئقا ال يقوى على التعبير وغير قادرة على اإليفاء‬ ‫الصوفية العميقة‪،‬‬
‫ُ‬
‫بكل املعاني‪ ،‬فهي تعيق تجربتهم الفريدة‪ ،‬الخاصة ‪ ،48‬ولذا نرى هذا الصنف من الك ّتاب يرسم مسارا‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫عاصرة‬
‫يستعين فيه بالرموز‪ ،‬وهي ظاهرة قديمة في الكتابة األدبية وجديدة مع النصوص الحديثة وامل ِّ‬
‫بكل حرية في عوالم‬ ‫ويعبر عن أفكاره ّ‬ ‫وتبقى ُمرافقة للكتابة ما دامت تنقذ الكاتب ليتوارى وراء الرمز ّ‬
‫ِّ‬
‫َْ ُ‬ ‫ّ‬
‫قد تخضع لدى املتلقي إلى التأويالت ّ‬
‫ولكنها ال تقوى على الفهم املطلق‪ ".‬في حين أن الصوفية هي‬
‫َ‬ ‫كل َمن ّ‬‫تعبر عن متعة فنية تستقطب ّ‬ ‫تجربة ّ‬
‫يتمتع بهذه الروحانيات العميقة ‪ِّ ، 49‬ملا لها من‬
‫بدع أن‬ ‫ألي ُم ِّ‬
‫جماليات ال ُمتناهية‪ ،‬ألنها "تجربة عرفانية تجري وراء الزمن الفيزيقي‪ ،‬وعليه ال يمكن ّ‬
‫ُيحقق النجاح في هذا املجال من الكتابة‪ ،‬فقد يفشل البعض في صناعة هذا الفضاء وهو إخفاق‬
‫‪250‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مرده إلى عمق التجربة واتساع آفاقها ِّم َما جعل الشاعر أو الروائي يقف حا ِّئرا أمام هذا العالم‬
‫ُ‬
‫الروحاني املليء باملدهش والعجيب‪ ،‬سواء على املستوى اإلبداعي أو على املستوى السلوكي الخاص‬
‫لهذه النخبة‪".‬لذا كان التقليد أحيانا هو العالمة داخل النصوص املعاصرة ‪ ،50‬تقليد يستحضر‬
‫ألن أصحابها لم يتمثلوا التجربة الصوفية كما تمثلها أصحابها األصليون‪ ،‬ولم‬ ‫املاض ي من النصوص‪ّ ،‬‬
‫يدركوا معنى املُعايشة‪ ،‬بل نجد أحيانا نصوصا شعرية ال عالقة لها بهذه التجربة ويصنفها ّ‬
‫النقاد على‬ ‫ِّ‬
‫ّ‬
‫ّأنها تجربة صوفية‪ ،‬وفق العربي‪ .‬ويخلص العربي إلى أن هذا النوع من التجارب هو في الحقيقة‬
‫ٌ َ‬ ‫"إشكالية ُيعاني منها النص األدبي املعاصر بصورة واضحة‪ّ ،‬‬
‫نص ُمغلق‬ ‫وكأن التجربة الصوفية‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫غامضة ال يوجد بها إال املصطلح‪ّ ،‬أما الحال فتبتعد عن املعاني الحقيقة ألسرار التجربة‬ ‫ودهاليز ِّ‬
‫ّ‬
‫الصوفية والتي تظل بنمطية خاصة ال يقوى على تفعيلها إال من خبر أسرارها‪.‬‬

‫املراجع‬
‫‪ 1‬أحمد علي زهرة‪ ،‬وسيلها إلﯩالحقيقة‪ ،‬النينو للنشر والتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط ‪ ، 2003 ، 1‬ص‪39‬‬
‫‪ -2‬أحمد أمين‪ ،‬ضحى االسالم‪ ،‬م‪ ، 2‬ج‪ ، 4‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت ‪-‬لبنان‪ ، 1969 ،‬ص ‪36‬‬
‫_‪ - 3‬آمنة بلعلى‪ ،‬تحليل الخطاب الصوفي في ضوء املناهج النقدسة املعاصرة‪ ،‬منشورات االختالف‪،‬‬
‫ط ‪ 2000،‬ص ‪21‬‬
‫‪ 4‬ينظر ‪ :‬عبد املنعم خفاجي ‪ ،‬األدب في التراث الصوفي ‪ ،‬ص ‪33‬‬
‫‪_ 5‬فؤاد صالح السيد ‪ ،‬االمير عبد القادر الجزائري متصوفا وشاعرا ‪ ،‬املؤسسة الوطنية للكتاب ‪،‬‬
‫الجزائر ‪ ،‬دط ‪119 ، 1985 ،‬‬
‫‪ - 6‬عبد الحميد هيمة‪ ،‬كتاب الخطاب الصوفي وآليات التأويل‪ ،‬دار األمير خالد‪ ، 2013 ،‬ص‪_ 18‬‬
‫ابي علي ابن سينا ‪،‬االرشادات والتنبيهات ‪ ،‬شرح نصير الدين الطوس ي ‪ ،‬تر ‪ :‬سليمان دنيا ‪،‬‬
‫القسم الرابع في التصوف ‪ ،‬مؤسسة النعمان للنشر والتصوف ‪ ،‬دط ‪ ،1996 ،‬ص ‪86‬‬
‫‪ 7‬التوحيدي‪ ،‬املقاسات‪ ،‬نقال عن عرفات عبد الحميد فتاح‪،‬نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها‪،‬دار‬
‫الجيل‪-‬بيروت‪ ،‬لبنان ‪ ،‬د‪.‬ط ‪ ، 1993 ،‬ص ‪59‬‬
‫‪ _ 8‬ادونيس ‪ ،‬زمن الشعر ‪ ،‬دار العودة ‪ ،‬بيروت لبنان ‪ ،‬ط‪ ،1978 ، 2‬ص ‪57‬‬
‫‪ 9‬الخطاب الصوفي وآليات التأويل‪ ،‬عبد الحميد هيمة‪،‬دارا ألمير خالد‪ ،‬الجزائر‪ ، 2014 ،‬ص‪137‬‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪251‬‬

‫‪_ 10‬ينظر ‪ :‬سعيد بوسقطة ‪ ،‬الرمز الصوفي في الشعر العربي املعاصر ‪ ،‬منشورات بونة للبحوث‬
‫والدراسات ‪ ،‬ط‪ ، 2008 ، 2‬ص ‪137 ،‬‬
‫‪ 11‬عاطف جودة نصر ‪ ،‬الرمز الشعري عن الصوفية ‪ ،‬الرمز الشعري عند الصوفية ‪ ،‬دار األندلس ‪،‬‬
‫االسكندرية مصر ‪ ،‬ط‪، 1983 1‬ص ‪53‬‬
‫‪ 12‬سعيد بوسقطة ‪ ،‬الرمز الصوفي في الشعر العربي املعاصر ‪ ،‬ص ‪145‬‬
‫‪ _ 13‬ادونيس ‪ ،‬زمن الشعر ‪ ،‬ص ‪9‬‬
‫‪ _ 14‬كاميليا عبد الفتاح‪ ،‬القصيدة العربية املعاصرة‪ ،‬ص‪.560‬‬
‫‪ _15‬املرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪_ 16‬عبدالحكيم العالمي‪ ،‬الوالء والوالء املجاور‪ ،‬بين التصوف والشعر نقال عن ياسين بن عبيد‪،‬‬
‫الشعر الصوفي الجزائري املعاصر‪ ،‬صدر عن وزارة الثقافة الجزائر سنة ‪ ،2007‬ص‪.22‬‬
‫‪ 17‬علي عشري زايد‪ ،‬استدعاء الشخصيات التراثية‪ ،‬ص‪.105‬‬
‫‪ 18‬محمد بنعمارة‪ ،‬الصوفية في الشعر املغربي املعاصر‪ ،‬املفاهيم والتجليات‪ ،‬شركة النشر والتوزيع‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،2000/1‬ص‪.52‬‬
‫‪ 19‬نورة سلمان ‪ ،‬معالم الرمزية في الشعر الصوفي العربي‪ ،‬بحث مقدم لنيل شهادة أستاذ في العلوم‬
‫مخطوط بالجامعة األمريكية في بيروت سنة ‪ ،1954‬ص‪.104‬‬
‫‪_ 20‬عبد املنعم خفاجي‪ ،‬األدب في التراث الصوفي‪ ،‬بمكتبة غريب‪ ،‬د‪.‬ط‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.184‬‬
‫‪ 21‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.186‬‬
‫‪ - 22‬نفسه‪ ،‬ص‪.185‬‬
‫‪ 23‬محمد أحمد فتوح‪ ،‬الرمز والرمزية في الشعر املعاصر‪ ،‬ص‪165 -164‬‬
‫‪ 24‬محمد بنعمارة‪ ،‬الصوفية في الشعر املغربي املعاصر‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫‪ _ 25‬على عشري زايد‪ ،‬استدعاء الشخصيات التراثية‪ ،‬ص‪.105‬‬
‫‪ 26‬ينظر صالح عبد الصبور ‪ ،‬شاعر الكلمة مجلة فصول نقال عن محمد بنعمارة الصوفية في‬
‫الشعر املغربي املعاصر‪ ،‬ص‪.54-53‬‬
‫‪ 27‬أدونيس ‪ ،‬الصوفية والسريالية‪ ،‬ص‪.156‬‬
‫‪ 28‬غسان غنيم‪ ،‬الرمز في الشعر الفلسطيني الحديث واملعاصر‪ ،‬ص‪.24-23‬‬
‫‪ 29‬أحمد يوسف‪ ،‬يتم النص‪ ،‬ص‪.231‬‬
‫‪252‬‬ ‫م‪.‬د‪ .‬محمد طه جواد ياسين الساعدي‪ ،‬م‪.‬م‪ .‬آسيا عبد القادرعلي عمراني‪ ،‬التجربة الصوفية في الشعر الجزائري‪...‬‬

‫‪ - 30‬ينظر إبراهيم رماني الغموض في الشعر العربي الحديث‪ ،‬ص‪.280‬‬


‫‪ - 31‬محمد بنعمارة‪ ،‬الصوفية في الشعر املغربي املعاصر‪ ،‬ص‪.57‬‬
‫‪ 32‬أحمد يوسف‪ ،‬يتم النص‪ ،‬ص‪. 231‬‬
‫‪ - 33‬عبد القادر فيدوح‪ ،‬الرؤيا والتأويل‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫‪ - 34‬عبد القادر فيدوح‪ ،‬الرؤيا والتأويل‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫‪ 35‬ياسين بن عبيد ‪ ،‬الشعر الصوفي الجزائري املعاصر‪ ،‬املفاهيم واالنجازات ‪ ،‬ص‪.126‬‬
‫‪ - 36‬عثمان حشالف‪ ،‬الرمز والداللة في شعر املغرب املعاصر‪ ،‬ص‪.48‬‬
‫‪ - 37‬أحمد عبيدلي ‪ ،‬الخطاب الشعري الصوفي في املغرب حتى القرنين السادس والسابع الهجريين ‪،‬‬
‫أطروحة ماجستير (مخطوط) بقسم األدب العربي بجامعة باتنة سنة ‪ ،2005 -2004‬ص‪.92‬‬
‫‪ - 38‬مصطفى محمد الغماري‪ ،‬حديث الشمس والذاكرة‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪ - 39‬أحمد يوسف‪ ،‬يتم النص‪ ،‬ص‪.231‬‬
‫‪ 40‬املرجع نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ - 41‬مصطفى محمد الغماري‪ ،‬قصائد مجاهدة ‪،‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ‪ ،‬الجزائر‪،1982 ،‬‬
‫ص‪.71‬‬
‫‪ 41‬مصطفى محمد الغماري‪ ،‬أغنيات الورد والنار‪ ،‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪،‬‬
‫‪ ،1980‬ص‪117‬‬
‫‪ 41‬نهاد خياطة دراسة في التجربة الصوفية‪ ،‬دار املعرفة ‪ ،‬دمشق ط‪ ،1994 ،1‬ص‪.06 -05‬‬
‫‪ 41‬ياسين بن عبيد‪ ،‬الشعر الصوفي الجزائري املعاصر‪ ،‬ص‪.238‬‬
‫‪ 41‬آمنة بلعلى‪ ،‬أبجدية القراءة النقدية ‪ ،‬ديوان املبطوعات الجامعية الجزائر ‪ ،1995 ،‬ص‪.62‬‬
‫‪ - 41‬عبد املنعم خفاجي‪ ،‬األدب في التراث الصوفي‪ ،‬ص‪.178‬‬
‫‪ - 41‬كمال الدين‪ ،‬عبد الرزاق اصطالحات الصوفية‪ ،‬ص‪ 100‬نقال عن محمد بنعمارة الصوفية في‬
‫الشعر املغربي املعاصر‪ ،‬ص‪.77‬‬
‫‪ - 41‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.77‬‬
‫‪_ 41‬املرجع السابق ‪،‬ص ‪58‬‬
‫المؤتمر الدولي عن اللغة العربية وآدابها وتعليمها‬
‫‪1(1), (2021), 234-253‬‬ ‫‪253‬‬

You might also like