You are on page 1of 22

‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪74‬‬

‫ملف العدد‬

‫مـــلــف الـعــــدد‬

‫مداخل التجديد‬
‫الكالمي‬
‫نحو رؤية تجديدية تكاملية‬

‫)‪(1‬‬
‫د‪ .‬عبد الكريم القاللي‬

‫(‪ )1‬الكاتب‪ ،:‬أستاذ بجامعة سيدي محمد بن عبد هللا بفاس – المغرب‪.‬‬
‫إيميل‪Karim_kallali@hotmail.com :‬‬
‫‪75‬‬ ‫العدد ‪ | 10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬

‫ملخص البحث‪:‬‬
‫يُعنــى هــذا البحــث المســمى «مداخــل التجديــد الكالمــي‬
‫نحــو رؤيــة تجديديــة تكامليــة» ببيــان أهــم المداخــل التــي‬
‫ينبغــي أن تكــون مدخــ ًلا لتجديــد علــم الــكالم‪ ،‬وركائــز‬
‫أساســية يجــب مراعاتهــا حيــن الحديــث عــن تجديــده‬
‫ً‬
‫وتطبيقــا‪ ،‬وتشــمل المداخــل التجديديــة‪:‬‬ ‫تنظيــ ًر ا‬

‫مدخــل التجديــد فــي الموضــوع باعتبــاره هــو المضمــون الــذي‬


‫ينبغــي أن تنطلــق منــه المداخــل األخــرى‪ ،‬وهــو مدخــل أريــد بــه تثبيــت‬
‫مــا يمكــن البنــاء عليــه واالســتفادة منــه‪ ،‬وتجــاوز مــا لــم يعــد مفيــدً ا‬
‫مــن مســائل كانــت لهــا ظروفهــا التاريخيــة‪ ،‬بمنهــج وســط ومســلك‬
‫حميــد بيــن الغاليــن والجافيــن‪.‬‬

‫وفــي المدخــل الثانــي‪ :‬يؤكــد الباحــث ضــرورة اعتبــار الواقــع‪،‬‬


‫ومراعاتــه‪ ،‬ودراســة مشــكالته‪ ،‬واســتدعاء قضايــا العصــر للمباحــث‬
‫الكالميــة التــي مــن شــأنها أن تجيــب عــن إشــكاالت عالقــة‪ ،‬وتلتمــس‬
‫لهــا أجوبــة مــن لــدن مناهــج أخــرى قــد تكــون قاصــرة أصــ ًلا عــن‬
‫الخــوض فــي مســائل لهــا صلــة بالعقيــدة اإلســامية‪.‬‬

‫وفــي المدخــل الثالــث‪ :‬رام الباحــث التأكيــد علــى أمــر غالبًــا مــا‬
‫يتــرك بســبب االنشــغال بالــردود والعنايــة بالتنظيــر‪ ،‬فــا تتجــاوز‬
‫رؤى التجديــد أصــو ًلا نظريــة ومســائل فكريــة قــد ال تالمــس الواقــع‪،‬‬
‫مغفلــة مــا ينبغــي االهتمــام بــه‪ ،‬ممــا ينــدرج تحتــه العمــل ويؤثــر‬
‫ٍ‬
‫مــاض مضــى واســتدعاء‬ ‫فــي الســلوك‪ ،‬أو مســتغرقة فــي تحليــل‬
‫مســائل للســاحة العلميــة مــن أجــل التــرف الفكــري‪ ،‬وفــي الواقــع مــا‬
‫هــو أولــى وأهــم بالمدارســة والنظــر والتجديــد‪.‬‬

‫الكلمــات المفتاحيــة‪ :‬علــم الــكالم‪ ،‬التجديــد الكالمــي‪ ،‬التكامــل‬


‫المعرفــي‪ ،‬العقيــدة‪ ،‬التجديــد‪.‬‬
‫ م‬٢٠٢٠ ‫| صيف‬10 ‫العدد‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ 76

attention to the theory does not exceed the


Research Summary:
visions of innovation theoretical assets and
intellectual issues may not touch the reality This research, entitled «The Entries of
is not overlooked what should be taken into Speech Renewal towards an Integrative
account, which falls under the work and Renewal Vision,» refers to the most important
affect the behavior, or required in the analysis approaches that should be an outlet for the
of the past and For the scientific arena for renewal of speech science, and basic pillars
intellectual luxury, and in fact what is the first that must be taken into consideration when
and most important school, consideration talking about its renewal in theory and
and innovation. practice.

 
The entrance of innovation in the
:‫مقدمة‬
subject: as the content from which the
‫الحمــد للــه رب العالميــن والصــاة والســام‬ other approaches should be launched. This
‫علــى أشــرف المرســلين وعلــى آلــه وصحبــه‬ is an approach that I want to consolidate
‫ وعلــى مــن تبعهــم بإحســان إلــى يــوم‬،‫أجمعيــن‬ and benefit from, and to overcome what is
:‫ وبعــد‬،‫الديــن‬ no longer useful for matters that had their
historical conditions.
‫إذا كان تجديــد علــم الــكالم ضــرورة ال غنــى‬
‫بــد أن‬ ‫عنهــا؛ فــإن هــذا التجديــد حتــى يؤتــي أكلــه ال‬  In the second entrance, the researcher
‫ حتــى تأتــي تلــك‬،‫يكــون شــام ًلا لمختلــف المجــاالت‬ emphasizes the need to consider the reality
‫ محققــة لمقاصــد التجديــد‬،‫الجهــود كاملــة شــاملة‬ and take into consideration the problems
.‫المنشــود‬ and call the issues of the age of verbal
discourse, which would answer the problems
‫والمطلــوب فــي مجــاالت تجديــد علــم‬
of puzzling or absent from the search, and
‫ أن تكــون هــذه المجــاالت مرشــدً ا‬:‫الــكالم‬
seek answers from other approaches may be
‫للحيــاة وفــق مــا تقتضيــه أصــول العقيــدة‬
limited to the first to go into these issues.
‫متجــددة‬ ‫الحيــاة‬ ‫أن‬ ‫وبمــا‬ ،‫اإلســامية‬
‫علمــا‬
ً ‫ فــإن علــم الــكالم باعتبــاره‬،‫ابتالءاتهــا‬  In the third entrance: Ram, the researcher,
‫يعنــى بالعقيــدة والدفــاع عنهــا؛ فإنــه ينبغــي‬ the emphasis on an order is often left because
‫ مجيبًــا عــن‬،‫أن يكــون مواكبًــا للتطــورات‬ of preoccupation with the responses and
‫‪77‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫إعــادة النظــر فيمــا لــه أولويــة العنايــة واالهتمــام‪،‬‬ ‫تلــك االبتــاءات‪ ،‬وهــو مــا يقتضــي أن تكــون‬
‫ومــا ينبغــي أن يتنــاول؛ وذلــك بالخــروج مــن الحيــز‬ ‫مجــاالت علــم الــكالم واســعة‪.‬‬
‫الضيــق الــذي ال يــكاد يتجــاوز مناقشــة مســائل‬
‫والناظــر فيــه كمــا وصلتنــا صورتــه التراثيــة‪،‬‬
‫معلومــة إلــى نطــاق واســع يســتوعب القضايــا‬
‫وكمــا هــو معــروض اليــوم يجــد أن هــذا العلــم‬
‫الموجــودة كافــة فــي النصــوص بعمومهــا‬
‫اســتقر علــى واقــع كان فــي حينــه مجيبًــا عــن‬
‫وشــمولها‪ ،‬بمــا يالئــم المســتجدات الطارئــة‪،‬‬
‫إشــكاالت زمانــه‪ ،‬ويحتــاج اليــوم إلــى نظــر يمكــن‬
‫ويــروي الغليــل فيهــا‪ .‬والتجديــد فــي اللغــة‪:‬‬
‫مــن متابعــة التطــورات المتســارعة‪ ،‬واإلجابــة عمــا‬
‫يتحقــق باالنتقــال مــن لغــة المتكلميــن القديمــة‪،‬‬
‫تطرحــه تلــك التطــورات مــن األســئلة‪ ،‬وهــو مــا‬
‫وغوامضهــا وألغازهــا‪ ،‬إلــى لغــة حديثــة تعبــر بيســر‬
‫يقتضــي نظــ ًر ا تجديديًّــا فــي مجــاالت هــذا العلــم؛‬
‫وســهولة عــن المضاميــن‪ ،‬ويفهمهــا المخاطــب‬
‫ليكــون فاعــ ًلا فــي مســايرة حيــاة المســلمين‪،‬‬
‫مــن دون عنــاء؛ ضما ًنــا ألوقــات وجهــود تصــرف‬
‫وتوجيههــا نحــو تحقيــق الشــهود الحضــاري‬
‫فــي فهــم مصطلــح مــن أجــل المصطلــح؛ لــذا ال‪ ‬بد‬
‫المنشــود‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضــا مــن تجديــد المصطلحــات‪ ،‬والنظــر فيهــا؛‬
‫فبعضهــا اســتحدث فــي قــرون خلــت‪ ،‬ويمكــن‬ ‫وهنــاك نقــاش بيــن المهتميــن حــول مجــاالت‬
‫اســتبدال مــا هــو أيســر بهــا‪ ،‬وال ســيما تلــك‬ ‫التجديــد‪ ،‬بيــن اعتبــار تجديــد علــم الــكالم ال يعنــي‬
‫المصطلحــات التــي ال داعــي لثبوتهــا‪ ،‬والتــي قــد‬ ‫ســوى إلحــاق المســائل الجديــدة واســتيعابها‬
‫تكــون دخيلــة أحيا ًنــا؛ فتســتبدل مــا هــو أصيــل بهــا‪،‬‬ ‫فــي إطــار المنظومــة الموروثــة لعلــم الــكالم‪،‬‬
‫والمتكلمــون فــي العصــور الســابقة كانــت تأثيــرات‬ ‫وبيــن اعتبــار مفهــوم تجديــد علــم الــكالم ال يقتصــر‬
‫المنطــق األرســطي عليهــم واضحــة والفلســفة‬ ‫علــى ضــم مســائل جديــدة فحســب‪ ،‬وإنمــا يتســع‬
‫اليونانيــة فــي أطروحاتهــم حاضــرة؛ وذلــك كلــه‬ ‫ليشــمل التجديــد فــي‪ :‬المســائل‪ ،‬والهــدف‪،‬‬
‫يدعــو إلــى إعــادة النظــر فــي مصطلحــات علــم‬ ‫والمنهــج‪ ،‬والموضــوع‪ ،‬واللغــة‪.‬‬
‫الــكالم؛ ألن التجديــد فــي المســائل‪ ،‬والموضــوع‪،‬‬
‫فالتجديد في المســائل‪ ،‬يعني‪ :‬إنشــاء مســائل‬
‫والهــدف‪ ،‬والمناهــج‪ ،‬واللغــة‪ ،‬يتطلــب تجديــدً ا فــي‬
‫جديــدة‪ ،‬تســتوعب الشــبهات المســتحدثة‪ ،‬ينجــم‬
‫المصطلحــات‪.‬‬
‫عنهــا نمــو وتطــور علــم الــكالم نفســه‪ ،‬أمــا التجديــد‬
‫فــإذا شــمل التجديــد جميــع المجــاالت التــي‬ ‫فــي الهــدف؛ فيعنــي‪ :‬تجــاوز الغايــات المعروفــة‬
‫أشــرنا إليهــا‪ ،‬فســنكون حينئــذ أمــام علــم كالم‬ ‫لهــذا العلــم‪ ،‬التــي تتلخــص فــي الدفــاع عــن‬
‫يلبــي المقاصــد والغايــات التــي أنشــئ مــن أجلهــا‬ ‫المعتقــدات‪ ،‬إلــى تحليــل حقيقــة اإليمــان ومجمــل‬
‫أول األمــر؛ ألن أبعــاد كل علــم تشــكل نســيجً ا‬ ‫قضايــا العقيــدة وربطهــا بالقضايــا العلميــة‬
‫متكامــ ًلا فيمــا بينهــا‪ ،‬ويوحدهــا التأثيــر المتبــادل؛‬ ‫علميًّــا وعمليًّــا‪ .‬والتجديــد فــي الموضــوع‪ ،‬يعنــي‪:‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪78‬‬

‫وإلــى جانــب هــذا التطــور الــذي تحــدث عنــه‬ ‫أي أن أي تحــول فــي مجــال يســتتبعه تحــول فــي‬
‫الدكتــور الكتانــي‪ ،‬هنــاك اتجاهــات أخــرى تختلــف‬ ‫ســائر المجــاالت‪ ،‬وال يعنــي هــذا طمــس مســائل‬
‫رؤيتهــا ووســائلها لكــن غايتهــا متفقــة‪ ،‬فهنــاك‬ ‫علــم الــكالم أو لغتــه أو مصطلحاتــه‪ ،‬بــل ينبغــي‬
‫مــن يــرى أن منهــج التجديــد ينبغــي أن يســترجع‬ ‫أن يوضــع كل مجــال فــي ســياقه‪ ،‬ويراعــي عالقتــه‬
‫التوحيــد كمــا يقــرره اإلســام ولــو نظر يًّــا‪ ،‬وهــذا‬ ‫وأثــره بالواقــع‪ ،‬ويعــاد بنــاء بعــض المســائل فــي‬
‫االتجــاه مســتنده أن العقيــدة تواجــه تحد ًيــا متمثـ ًلا‬ ‫إطــار يســتجيب للتحــوالت المعاصــرة فــي مختلــف‬
‫فــي اســتعالء اإللحــاد‪ ،‬وانتشــار نزعــات التشــكيك‪،‬‬ ‫مجــاالت التجديــد‪ ،‬وذلــك يســتدعي درايــة واســعة‬
‫واالســتخفاف بأمــر الديــن؛ كمــا هــو ذائــع اليــوم‬ ‫بهــذا العلــم‪ ،‬وتلــك قضيــة متعلقــة بشــروط‬
‫فــي الصحــف الورقيــة‪ ،‬واإللكترونيــة‪ ،‬ومواقــع‬ ‫المجــدد نفســه‪ ،‬ومــا يجــب أن يكــون فيه مــن أهلية‬
‫التواصــل‪ .‬وهنالــك اتجــاه يــرى أن المجدديــن‬ ‫علميــة للخــوض فــي ذلــك‪ ،‬وقــد عقــب الدكتــور‬
‫المســلمين وإن كانــوا قــد وضعــوا مقاييــس‬ ‫محمــد الكتانــي عقــب إيــراده مناهــج تجديــد علــم‬
‫دقيقــة فــي األخــذ بظاهــر النــص أو مفهومــه‬ ‫الــكالم بالقــول‪« :‬نســتخلص مــن هــذه المناهــج‬
‫أو تأويلــه؛ فإنهــم ظلــوا متوقفيــن تجــاه قضايــا‬ ‫فــي نهايــة المطــاف أنهــا تتطــور فــي نوعيــة‬
‫خاصــة مــن قضايــا العقيــدة‪ ،‬لــم تكــن تحتمــل‬ ‫الخطــاب العقلــي مــع تطــور المخاطبيــن مــن‬
‫تلــك المرونــة فــي تأويــل النــص إال علــى حســاب‬ ‫جيــل إلــى جيــل؛ ألن أجيــال المجتمعــات اإلســامية‬
‫العقيــدة نفســها‪ .‬وهنــاك اتجــاه يــرى أن األهــم في‬ ‫فــي نهايــة القــرن الماضــي وأوائــل هــذا القــرن‬
‫عمليــة التجديــد‪ ،‬هــو‪ :‬اســترجاع التوحيــد النظــري‬ ‫كانــت دون األجيــال الالحقــة التــي أعقبتهــا مــن‬
‫بــكل مــا بــذل فيــه مــن جهــود فكريــة لــم تكــن تعنــى‬ ‫حيــث التأثــر بالفكــر األوروبــي‪ ،‬وبالفكــر الوضعــي‪،‬‬
‫بخطــاب الجماهيــر المســلمة العريضــة‪ ،‬التــي لــم‬ ‫الفلســفي‪ ،‬واالجتماعــي‪ ،‬والسياســي؛ فمــا كان‬
‫تكــن لهــا المــدارك العقليــة التــي تتمكــن معهــا‬ ‫مالئمــا‬
‫ً‬ ‫مالئمــا لمخاطبــة جيــل االنبعــاث لــم يعــد‬
‫ً‬
‫مــن اســتيعاب منطــق االســتدالل‪ ،‬ومنطــق‬ ‫لخطــاب جيــل عصــر النهضــة‪ .(2)»....‬وهــذا التطــور‬
‫الحجــاج والســجال‪ ،‬وال تتوافــر لهــا الثقافــة‬ ‫الــذي تحــدث عنــه الكتانــي لــو تــم اســتيعابه مــن‬
‫العامــة التــي تقربهــا مــن خطــاب المتكلميــن‬ ‫لــدن بعــض مــن يلمــز مســائل الــكالم القديمــة؛‬
‫الجــدد‪ ،‬فض ـ ًلا عــن كونهــا لــم تكــن متأثــرة بتيــارات‬ ‫ألدرك أنهــا مســائل طبيعيــة وآنيــة بــل وتجديديــة‬
‫اإللحــاد‪ ،‬وال بنزعــات التشــكيك الفلســفية‬ ‫بالنظــر إلــى عصورهــا‪ ،‬ومســؤولية األجيــال‬
‫الوافــدة مــع الثقافــة الغربيــة‪ ،‬فهــذا التأثــر كان‬ ‫ً‬
‫انطالقــا مــن‬ ‫الالحقــة تقتضــي إنشــاء مــا يناســبها‪،‬‬
‫ً‬
‫وقفــا علــى الفئــات المثقفــة بالثقافــة العصريــة‪،‬‬ ‫األصــول والمرجعيــات المتوفــرة‪ ،‬واإلجابــة عــن‬
‫وهــذه الفئــات لــم تكــن تهتــم بالخطــاب اإلســامي‬ ‫تحديــات عصورهــا‪.‬‬
‫الجديــد؛ ألنهــا كانــت مصروفــة عنــه بإعــداد‬
‫(‪ )2‬محمــد الكتانــي‪ ،‬جــدل العقــل والنقــل فــي مناهــج التفكيــر‬
‫نفســها عــن طريــق الثقافــة العصريــة للعمــل‬ ‫اإلســامي‪ ،‬ج‪ ،2 :‬ص‪.263 :‬‬
‫‪79‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫بمقــدور العقــل البشــري إدراك كنههــا‪ ،‬وهــي التــي‬ ‫فــي تنميــة المجتمــع تنميــة اقتصاديــة واجتماعيــة‬
‫عناهــا ابن‪ ‬خلــدون بقولــه‪« :‬إدراكاتنــا مخلوقــة‬ ‫وعلميــة‪ ،‬ولــم يكــن الديــن والثقافــة الدينيــة لهمــا‬
‫محدثــة‪ ،‬وخلــق هللا أكبــر مــن خلــق النــاس‪ ،‬والحصــر‬ ‫أي حــظ فــي المســاهمة فيهــا؛ لذلــك لــم تكــن‬
‫ً‬
‫نطاقــا مــن ذلــك‪ ،‬وهللا‬ ‫مجهــول‪ ،‬والوجــود أوســع‬ ‫المحــاوالت الكالميــة ذات تأثيــر واســع في أوســاط‬
‫مــن ورائهــم محيــط‪ ،‬فاتهــم إدراكك ومدركاتــك في‬ ‫المســلمين‪ ،‬إن لــم َن ُقــل إنــه لــم يكــن لهــا تأثيــر‬
‫الحصــر‪ ،‬واتبــع مــا أمــرك الشــارع بــه مــن اعتقــادك‬ ‫ً‬
‫مطلقــا إال فــي دوائــر طــاب الثقافــة اإلســامية‪،‬‬
‫وعملــك فهــو أحــرص علــى ســعادتك وأعلــم يمــا‬ ‫وهــم أقــل مــن طــاب الثقافــة العصريــة؛ فضــ ًلا‬
‫ينفعــك‪ ،‬ألنــه مــن طــور فــوق إدراكك‪ ،‬ومــن نطــاق‬ ‫عــن أن يكــون لهــا األثــر المنشــود فــي اســترجاع‬
‫أوســع مــن نطــاق عقلــك‪ ،‬وليــس ذلــك بقــادح‬ ‫التوحيــد اإلســامي بمفعولــه الوجداني والســلوكي‬
‫فــي العقــل ومداركــه‪ ،‬بــل العقــل ميــزان صحيــح؛‬ ‫فــي الحيــاة العمليــة للمســلمين؛ بحيــث يحملهــم‬
‫فأحكامــه يقينيــة ال كــذب فيهــا‪ ،‬غيــر أنــك ال تطمــع‬ ‫هــذا التوحيــد علــى تغييــر مــا بأنفســهم‪ ،‬وينقلهــم‬
‫أن تــزن بــه أمــور التوحيــد واآلخــرة وحقيقــة النبــوة‬ ‫مــن حــال إلــى حــال)‪.(3‬‬
‫وحقائــق الصفــات اإللهيــة وكل مــا وراء طــوره؛‬
‫ً‬
‫وتحقيقــا لمــا رمتــه فــي هــذا الموضــوع‬ ‫هــذا‪،‬‬
‫فــإن ذلــك طمــع فــي محــال‪ ،‬ومثــال ذلــك مثــل‬
‫تناولتــه مــن خــال المداخــل التاليــة‪:‬‬
‫رجــل رأى الميــزان الــذي يــوزن بــه الذهــب فطمــع‬
‫أن يــزن بــه الجبــال وهــذا ال يــدرك»)‪.(4‬‬ ‫المدخل األول‪ :‬التجديد في الموضوع‪.‬‬

‫والعقــل لمــا يحجــب عــن التجديــد في هــذا ليس‬ ‫المدخل الثاني‪ :‬ربط علم الكالم بالواقع‪.‬‬
‫ً‬
‫تضييقــا لواســع؛ بــل هــو مراعــاة‬ ‫حجــ ًر ا عليــه وال‬
‫المدخل الثالث‪ :‬ربط علم الكالم بالسلوك‪.‬‬
‫للحقائــق والممكــن‪ ،‬وحــدود العقــل البشــري‬
‫بالبعــد عمــا ال قــدرة عــن البحــث والنظــر فيــه‪ ،‬أمــا‬
‫المدخل األول‪:‬‬
‫إعمــال العقــل فيمــا بمقــدور العقــل التفكيــر فيــه‬
‫التجديد في الموضوع‬
‫فمطلــوب‪ ،‬وكيــف يمنــع الناظــر مــن النظــر والتأمــل‬
‫فــي حيــن أن نصــوص الوحــي مليئــة بذلــك؟‪ ،‬وإذا‬ ‫لمــا نتحــدث عــن تجديــد علــم الــكالم فــي‬
‫تعــذر النظــر فــي ذلــك فتعــذر التجديــد فيــه أولــى؛‬ ‫موضوعــه ومضمونــه ال‪ ‬بــد مــن التمييــز بيــن مــا‬
‫فإنــه ال يمكــن تجديــد األصــول القطعيــة الثابتــة‬ ‫يدخلــه التجديــد ومــا ال يدخلــه؛ فهنالــك مســائل‬
‫التــي ال تتبــدل وال تتغيــر؛ كحقيقــة اإليمــان والبعــث‬ ‫ال يمكــن أن يدخلهــا التجديــد فــي المضمــون‪ ،‬لكــن‬
‫وغيــر ذلــك‪ ،‬ولكــن وســائل إثباتهــا متغيــرة وينبغــي‬ ‫يمكــن أن يكــون فيهــا تجديــد فــي األســلوب‪ ،‬كتلــك‬
‫أن يراعــى فيهــا مــا يناســب كل عصــر لتحقيقــه‪ .‬‬ ‫المســائل التــي هــي فــوق الطاقــة البشــرية وليــس‬

‫(‪ )4‬ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ص‪.120 :‬‬ ‫(‪ )3‬المرجع نفسه‪ ،‬ج‪ ،2 :‬ص‪.263 :‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪80‬‬

‫المنطــق علــم مســتقل‪ ،‬وهــو علــم مــن العلــوم‬


‫موضوع علم الكالم‪ :‬‬
‫الخادمــة لــه‪ ،‬وهــذا التكامــل حاصــل بيــن مختلــف‬
‫العلــوم؛ فعلــم التفســير مث ـ ًلا متوقــف علــى علــم‬ ‫هنالــك بعــض التبايــن بيــن المتقدميــن‬
‫جــزءا‬
‫ً‬ ‫اللغــة العربيــة‪ ،‬وال يمكــن أن تعتبــر اللغــة‬ ‫والمتأخريــن بالنســبة لموضــوع علــم الــكالم‬
‫منــه لكونــه يفتقــر إليهــا‪ ،‬وكــذا مــا شــاكلها مــن‬ ‫«فموضوعــه عنــد المتقدميــن‪ :‬ذات هللا تعالــى‬
‫العلــوم‪ .‬واألمــر نفســه حصــل فــي الفــرق بيــن‬ ‫وصفاتــه‪ ،‬وبعضهــم يقــول‪ :‬موضوعــه الوجــود مــن‬
‫علــم الــكالم والفلســفة‪ ،‬ولعــل هــذا الخــاف فــي‬ ‫حيــث هــو موجــود‪ ،...‬وعنــد المتأخريــن‪ :‬موضوعــه‬
‫الفصــل بيــن مســائل الــكالم والفلســفة مــرده إلــى‬ ‫المعلــوم الشــامل للموجــود والمعــدوم؛ مــن حيث‬
‫مــا حصــل ً‬
‫أيضــا مــن مــزج كبيــر بيــن مســائل هذيــن‬ ‫إثبــات العقائــد الدينيــة أو وســائل إثباتهــا؛ فالبحــث‬
‫العلميــن‪ ،‬حتــى اختلطــت مباحثهمــا‪ ،‬وصــارت‬ ‫فــي الممكنــات واألمــور العدميــة وســيلة للغايــة‬
‫ال تتميــز عــن الفلســفة لــوال اشــتماله علــى‬ ‫القصــوى وهــي معرفــة هللا تعالــى»)‪.(5‬‬
‫الســمعيات‪ ،‬وبعــض القضايــا األخــرى المميــزة‬
‫ً‬
‫وتبعــا لذلــك تعــددت آراء العلمــاء فــي تحديــد‬
‫لــه‪ ،‬وهنالــك مــن يــرى أن «الفــرق بيــن علــم الــكالم‬
‫موضــوع علــم الــكالم «فقيــل هــو ذات هللا تعالــى‪،‬‬
‫والفلســفة يتجلــى فــي كــون علــم الــكالم يبحــث‬
‫إذ يبحــث فيــه عــن صفاتــه وأفعالــه فــي الدنيــا‬
‫عــن ذات هللا تعالــى‪ ،‬وصفاتــه‪ ،‬وعــن النبــوات فــي‬
‫كحــدوث العالــم‪ ،‬وفــي اآلخــرة كالحشــر‪ ،‬وأحكامــه‬
‫دائــرة الشــرع؛ فهــو يعتمــد علــى النظــر العقلــي‬
‫فيهمــا كبعــث الرســول ونصــب اإلمــام والثــواب‬
‫فــي أمــر العقائــد الدينيــة‪ ،‬وذلــك بإثباتهــا بالبراهيــن‬
‫والعقــاب»)‪.(6‬‬
‫العقليــة؛ كمــا أنــه يدافــع عنهــا ويزيــل الشــبهة‬
‫عــن العقائــد اإلســامية بالكتــاب والســنة‪ ،‬أمــا‬ ‫ـزءا مــن علــم الــكالم‪،‬‬
‫واإليجــي يعتبــر المنطــق جـ ً‬
‫الفلســفة فالبحــث فيهــا عــن أحــوال الوجــود‬ ‫ولعــل ســبب عــدم فصلــه بيــن العلميــن كونــه يرى‬
‫المطلــق‪ ،‬وعــن علــل الكائنــات علــى مقتضــى‬ ‫أن مبــادئ المنطــق ليســت فــي ذاتهــا مخالفــة‬
‫العقــول مــن غيــر ربــط بشــرع أو غيــره؛ فموقــف‬ ‫للشــرع أو العقــل‪ ،‬وإن كانــت ممــا اســتخرجه‬
‫علمــاء الــكالم أصــوب‪ ،‬رغــم النقــد الموجــه إليــه‬ ‫الفالســفة أو ًلا ودونــوه فــي علومهم‪ ،‬والذي يظهر‬
‫وذلــك ألنهــم ال يؤسســون العقيــدة علــى العقــل‬ ‫أن علــم الــكالم فــي بعــض مســائله قــد يكــون‬
‫مثــل الفالســفة فالنقــل يدعمــه العقــل»)‪.(7‬‬ ‫محتاجً ــا إلــى إثباتهــا بمباحــث منطقيــة‪ ،‬ليتقــوى‬
‫بهــا؛ وكــون علــم الــكالم يحتــاج إلــى المنطــق ال‬
‫ومــن الفــروق التــي تذكــر بيــن الفلســفة وعلــم‬
‫يعنــي أن المنطــق جــزء مــن علــم الــكالم‪ ،‬بــل‬
‫الــكالم أن المتكلــم ال ينطلــق فــي بحثــه مجــردً ا عــن‬
‫أي معتقــد أو خلفيــة مســبقة‪ ،‬بــل هــو يبــدأ وفــي‬
‫(‪ )5‬محمــد هشــام ســلطان‪ ،‬العقيــدة والفكــر اإلســامي‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.18‬‬
‫(‪ )7‬محمد هشام سلطان‪ ،‬العقيدة والفكر اإلسالمي‪ ،‬ص‪.18 :‬‬ ‫(‪ )6‬اإليجي‪ ،‬المواقف‪ ،‬ج‪ ،1:‬ص‪.26 :‬‬
‫‪81‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫عنــده أصـ ًلا‪ ،‬أمــا القيــاس المتبــع لــدى الفيلســوف‬ ‫قلبــه معتقــد معيــن يســعى إلثباتــه والدفــاع عنــه‪،‬‬
‫والمســتعمل فــي البحــث الفلســفي‪ ،‬فهــو قيــاس‬ ‫ويقابلــه االتجــاه الفلســفي الــذي يتحــرك عبــره‬
‫برهانــي ‪-‬وهــو القيــاس الفلســفي‪ -‬معتمــد علــى‬ ‫الفيلســوف حـ ًّر ا مــن كل التــزام مســبق بــأي فكــرة‬
‫مبــدأ مــن مبــادئ العقــل‪ ،‬يعتمــد علــى مقدمــات‬ ‫أو مضمــون؛ فالمتكلــم بعكــس الفيلســوف‬
‫يقينيــة‪ ،‬بغيــة إثبــات الحقيقــة‪ ،‬التــي هــي مــا ينتهــي‬ ‫يعتبــر نفســه متعهــدً ا بالدفــاع عــن قضايــا‬
‫إليــه الدليــل العقلــي‪ ،‬ال مــا هــو مســلم قبــل البحث‪،‬‬ ‫معتقــدة‪ ،‬ويســعى للتدليــل لهــا وإثباتهــا‪ ،‬فــي حيــن‬
‫وبهــذا يمكــن القــول بأن الفيلســوف ينطلق من ال‬ ‫أن البحــث الفلســفي معتقــده ليــس معي ًنــا سـ ً‬
‫ـلفا‬
‫شــيء ليصــل إلــى شــيء؛ أمــا المتكلــم فهــو انطلق‬ ‫بــأن يدافــع عــن عقيــدة مــا «فالفليلســوف يبــدأ‬
‫مــن مســلمات ثابتــة بالنقــل‪ ،‬ويدفــع الشــبه عنهــا‪،‬‬ ‫بحثــه دون عقيــدة أو رأي ســابق عليــه أن يثبتــه؛ بــل‬
‫وال ريــب أن مســلم النقــل؛ ليــس كمســلم العقــل‪،‬‬ ‫يبــدأ بالعقــل وينتهــي إلــى مــا ينتهي إليــه العقل»‬
‫)‪(8‬‬

‫وفــي هــذا المعنــى قــال ابــن خلــدون‪« :‬وبالجملــة‬ ‫وهــذا ليــس علــى اإلطــاق؛ بــل الفيلســوف ً‬
‫أيضــا‬
‫فموضــوع علــم الــكالم عنــد أهلــه إنمــا هــو العقائــد‬ ‫تكــون لــه خلفيــات معينــة توجهــه ومنطلقــات‬
‫اإليمانيــة‪ ،‬بعــد فرضهــا صحيحــة مــن الشــرع‪ ،‬مــن‬ ‫تحكمــه وإن لــم يصــرح بهــا‪.‬‬
‫حيــث يمكــن أن يســتدل عليهــا باألدلــة العقليــة؛‬
‫ومــع أن الــكالم والفلســفة كليهمــا يصنــف‬
‫فترفــع البــدع‪ ،‬وتــزول الشــكوك والشــبه عــن تلــك‬
‫ً‬
‫فرقــا‬ ‫فــي خانــة المعــارف العقليــة‪ ،‬فــإن هنــاك‬
‫العقائــد)‪.»(9‬‬
‫ً‬
‫شاســعا فــي نــوع المنهــج الــذي يتعاطــاه‬
‫ومذهــب ابــن خلــدون قائــم علــى الفصــل‬ ‫المتكلــم‪ ،‬والمنهــج الــذي يتعاطــاه الفيلســوف‪،‬‬
‫بيــن الــكالم والفلســفة‪ ،‬مــن حيــث الموضــوع‪،‬‬ ‫فالثانــي‪ :‬ينتهــج البرهــان الــذي يرتكــز علــى مســائل‬
‫والمنهــج والغايــة‪ ،‬ويــرى أن العقائــد ليســت‬ ‫مســلمة تســتند إلــى مقدمــات يقينيــة‪ ،‬ويــرى أن‬
‫بحاجــة إلــى تعضيــد الفلســفة والمنطــق‪ ،‬وفــي‬ ‫الحقيقــة هــي مــا ينتهــي إليــه البرهــان؛ بمعنــى أنــه‬
‫ً‬
‫مختلطا بمســائل‬ ‫ذلــك يقــول‪« :‬وصــار علــم الــكالم‬ ‫ليــس هنــاك مســلمات أوليــة خــارج إطــار البحــث‬
‫الحكمــة وكتبــه محشــوة بهــا‪ ،‬كأن الغــرض مــن‬ ‫والبرهــان؛ فــي حيــن يتعاطــى المتكلــم منهجً ــا‬
‫موضوعهمــا ومســائلهما واحــد‪ ،‬والتبــس ذلــك‬ ‫ً‬
‫مختلفــا ينبنــي علــى اإليمــان بمســلمات ينطلــق‬
‫علــى النــاس وهــو غيــر صــواب؛ ألن مســائل علــم‬ ‫ً‬
‫منطلقــا مــن‬ ‫منهــا ويســعى لالســتدالل لهــا‪،‬‬
‫الــكالم إنمــا هــي عقائــد متلقــاة مــن الشــريعة كمــا‬ ‫مقدمــات يقينيــة أو غيــر يقينيــة؛ لذلــك يعتبــر‬
‫نقلهــا الســلف مــن غيــر رجــوع فيهــا إلــى العقــل‬ ‫القيــاس المتبــع لــدى المتكلــم فــي البحــث الكالمــي‬
‫وال تعويــل عليــه‪ ،‬بمعنــى أنهــا ال تثبــت إال بــه؛‬ ‫قياســا جدليًّــا‪ ،‬يســتند علــى مقدمــات تتألــف مــن‬
‫ً‬
‫فــإن العقــل معــزول عــن الشــرع‪ ،‬ومــا تحــدث‬ ‫مســلمات ومقبــوالت‪ ،‬بغيــة إثبــات مــا هــو مســلم‬
‫(‪ )8‬علــي عبــد الفتــاح مغربــي‪ ،‬الفــرق الكالميــة اإلســامية‬
‫(‪ )9‬ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ص‪.128 :‬‬ ‫مدخــل ودراســة‪ ،‬ص‪.115 :‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪82‬‬

‫مفــروض الصــدق معلومــه»)‪.(11‬‬ ‫فيــه المتكلمــون مــن إقامــة الحجــج فليــس ً‬


‫بحثــا‬
‫عــن الحــق فيهــا؛ فالتعليــل بالدليــل بعــد أن لــم‬
‫ولمــا كان علــم الــكالم يتنــاول المســائل‬
‫يكــن معلومً ــا هــو شــأن الفلســفة‪ ،‬بــل إنمــا هــو‬
‫االعتقاديــة الكبــرى‪ ،‬التــي أساســها التوحيــد؛ اتضحــت‬
‫التمــاس حجــة عقليــة‪ ،‬تعضــد عقائــد اإليمــان‬
‫طبيعــة الموضوعــات التي يتناولهــا والمتعلقة بذات‬
‫ومذاهــب الســلف فيهــا‪ ،‬وتدفــع شــبه أهــل البــدع‬
‫هللا وصفاتــه‪ ،‬وبالضــرورة فــإن تنــاول موضوعــات‬
‫عنهــا الذيــن زعمــوا أن مداركهــم فيهــا عقليــة‪،‬‬
‫األلوهيــة يســتتبعه تنــاول موضوعــات أخــرى تتصــل‬
‫وذلــك بعــد أن تفــرض صحيحــة باألدلــة النقليــة‬
‫بــه‪ ،...‬كمــا أن األدلــة التــي اســتخدمها علمــاء الــكالم‬
‫كمــا تلقاهــا الســلف واعتقدوهــا»)‪.(10‬‬
‫لتدعيــم األصــول االعتقاديــة اإلســامية قــد دعتهــم‬
‫فــي كثيــر مــن األحيــان‪ ،‬إلــى تنــاول موضوعــات‬ ‫وهــذا المنهــج فــي الفصــل بيــن العلميــن هــو‬
‫طبيعيــة كالجوهــر الفــرد والســببية وغيرهــا‪ ،‬فــي‬ ‫الــذي يؤتــي أكلــه فــي جهــود التجديد‪ ،‬ومن شــأنه أن‬
‫إطــار خدمــة المســائل الكبــرى للعقيــدة اإلســامية‪،‬‬ ‫يحفــظ الجهــود ويطــور المســائل؛ بتميــز مســائل‬
‫وتأييــدً ا بالبراهيــن العقليــة)‪.(12‬‬ ‫كل علــم عــن األخــرى‪ ،‬وبإضافــة مــا يمكــن إضافتــه‬
‫وإزالــة مــا يمكــن إزالتــه‪ ،‬وهــذا ال ينافــي مســألة‬
‫وخالصــة القــول فــي الفــرق بيــن علــم الكالم‬
‫التكامــل بيــن العلــوم؛ فالتمييــز بيــن مســائل كل‬
‫والفلســفة أن‪« :‬المتكلــم يســتند إلــى مــا جــاء بــه‬
‫علــم ال يعنــي القطيعــة بينهــا‪ ،‬والتكامــل شــيء‪،‬‬
‫الديــن مــن اعتقــادات‪ ،‬ثــم يلتمــس الحجــج العقليــة‬
‫والخلــط شــيء آخــر‪.‬‬
‫التــي تدعمهــا‪ ،‬أمــا الفيلســوف فيبحــث بعقلــه‬
‫ويــرى ًّ‬
‫حقــا مــا توصــل إليــه بالدليــل دون نظــر إلــى‬ ‫ويــرى ابــن خلــدون أن بعــض المســائل ينبغــي‬
‫مــا جــاء بــه الديــن‪ ،‬فالمتكلــم يعتقــد ثــم يســتدل‪،‬‬ ‫أن تحــذف مــن علــم الــكالم‪ ،‬إذ يقــول‪« :‬وأمــا النظــر‬
‫أمــا الفيلســوف فيســتدل ثــم يعتقــد» ‪.‬‬
‫)‪(13‬‬
‫فــي مســائل الطبيعيــات واإللهيــات بالتصحيــح‬
‫والبطــان فليــس مــن موضــوع علــم الــكالم وال‬
‫ولمــا وقــع الخلــط بيــن موضوعــات علــم‬
‫مــن جنــس أنظــار المتكلميــن؛ فاعلــم ذلــك لتميــز بــه‬
‫ً‬
‫‪-‬خصوصــا عنــد‬ ‫الــكالم وموضوعــات الفلســفة‬
‫بيــن الفنيــن فإنهمــا مختلطــان عنــد المتأخريــن فــي‬
‫المتأخريــن مــن المتكلميــن‪ -‬عرضــت مشــكلة‬
‫الوضــع والتأليــف‪ ،‬والحــق مغايرة كل منهما لصاحبه‬
‫تحديــد موضــوع علــم الــكالم‪ :‬هــل يشــمل مســائل‬
‫بالموضــوع والمســائل‪ ،‬وإنمــا جــاء االلتبــاس مــن‬
‫االعتقــاد فقــط بغيــة إثباتهــا؟ أم إنــه يشــمل ً‬
‫أيضــا‬
‫اتحــاد المطالــب عنــد االســتدالل‪ ،‬وصــار احتجــاج أهــل‬
‫(‪ )11‬المصدر السابق‪ ،‬ج‪ ،1 :‬ص‪.496 :‬‬ ‫الــكالم كأنــه إنشــاء لطلــب االعتــداد بالدليــل وليــس‬
‫(‪ )12‬ابــن خميــر الســبتي‪ ،‬مقدمــات المراشــد إلــى علــم العقائــد‬
‫كذلــك؛ بــل إنمــا هــو رد علــى الملحديــن‪ ،‬والمطلــوب‬
‫فــي دفــع شــبهات المبطليــن والملحديــن‪ ،‬ضبــط وتحقيــق‪:‬‬
‫أحمــد عبــد الرحيــم الســايح‪/‬توفيق علــي وهبــة‪ ،‬ص‪.10 :‬‬
‫(‪ )13‬طــاش كبــرى زادة‪ ،‬مفتــاح الســعادة ومصبــاح الســيادة‪،‬‬
‫ج‪ ،2 :‬ص‪.20 :‬‬ ‫(‪ )10‬ابن خلدون‪ ،‬تاريخ ابن خلدون‪ ،‬ج‪ ،1 :‬ص‪.495 :‬‬
‫‪83‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫علــم كالم يســتمد مبادئــه األساســية مــن غايتــه‬ ‫الوســائل المؤديــة إلــى هــذا اإلثبــات؟ فيدخــل‬
‫التــي وضــع مــن أجلهــا‪ ،‬ووضــع آليــات للتعامــل مــع‬ ‫فــي نطــاق موضوعــه مــا يتداولــه الفالســفة مــن‬
‫القضايــا الكالميــة الجديــدة‪ ،‬وذلــك يقتضــي‪:‬‬ ‫موضوعــات‪ ،‬ومــا يصطنعونــه مــن فنــون البحــث‬
‫العقلــي‪ ،‬والدليــل المنطقــي؟)‪.(14‬‬
‫أ‪ -‬مواصلة خدمة التراث الكالمي‪.‬‬
‫وفائــدة هــذا التمييــز بيــن علــم الــكالم وغيــره‬
‫ب‪ -‬كتابــة علــم الــكالم بمنهــج جديــد؛ بــدل االكتفــاء‬
‫أن ننظــر إلــى مباحــث علــم الــكالم؛ كعلــم مســتقل‪،‬‬
‫بالدعــوة إليــه أو التحذيــر منــه‪.‬‬
‫ومــن َث َّ‬
‫ــم تحــدد القضايــا التــي تحتــاج إلــى تجديــد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫جـ‪ -‬ربط الدراسات الكالمية بحاجيات العصر‪.‬‬ ‫واالنطــاق فــي التجديــد دون هــذا التمييــز بيــن‬
‫العلــوم ســيوقع التجديــد فــي خلــط آخــر ال محالــة‪،‬‬
‫د‪ -‬مراجعــة الفكــر الكالمــي القديــم‪ ،‬واالســتفادة‬
‫وســيقع هنالــك نــوع مــن الــدور والتسلســل؛‬
‫مــن منهــج بنائــه واالســتئناس بالنافــع منــه؛‬
‫فــأي تجديــد يكــون ومباحــث العلــم قــد اختلطــت‬
‫مــع إدراك أن النقــد أو تجــاوز بعــض المســائل‬
‫بغيــره‪ ،‬ودون التمييــز بيــن مســائله! وهــو تمييــز ال‬
‫ال يقتضــي تجريحً ــا‪.‬‬
‫يقتضــي أبــدً ا التجريــد لعلــم الــكالم وقطــع الصلــة‬
‫هـــ‪ -‬توجيــه البحــث حــول بعــض المســائل الكالميــة‬ ‫بينــه وبيــن العلــوم األخــرى؛ فالصلــة العلميــة‬
‫وإبــراز وظيفتهــا فــي حيــاة األمــة‪.‬‬ ‫والتكامــل ال يمكــن االســتغناء عنــه بحــال «وعلــم‬
‫الــكالم هــو الــذي أظهــر قــدرة تداخليــة قــل نظيرهــا‬
‫و‪ -‬وضــع معالــم أمــام المهتميــن بقضيــة التجديــد‪،‬‬
‫فــي الممارســة التراثيــة‪ ،‬فقــد تداخــل مــع العلــوم‬
‫تفيــد فــي تحقيــق االســتثمار األمثــل لقضايــا‬
‫األصليــة مثــل‪ :‬الفقــه‪ ،‬والتصــوف‪ ،‬والبالغــة‪ ،‬واللغة‪،‬‬
‫علــم الــكالم‪ ،‬وتحقيــق مبتغــاه‪.‬‬
‫والنحــو‪ ،‬وعلــم األصــول‪ ،‬كمــا تداخــل مــع العلــوم‬
‫ثانيًــا‪ :‬إعــادة بنــاء علــم الــكالم‪ ،‬ويعتمــد هــذا‬ ‫المنقولــة نحــو اإللهيــات والمنطــق واألخــاق»)‪.(15‬‬
‫علــى‪:‬‬
‫ويمكــن تلخيــص تجديــد موضــوع علــم الــكالم‪،‬‬
‫أ ‪ -‬إعــادة تبويــب المــادة الكالميــة بكيفيــة تســمح‬ ‫فيمــا يلــي‪:‬‬
‫بــإدراج علــم الــكالم ضمــن التصــور العــام الــذي‬
‫أولًا‪ :‬تطويــر البحــث الكالمــي وإضافــة الجديــد‬
‫يرســم المعالــم الكبــرى للشــريعة كنظــام‬
‫لمســائله‪ ،‬وذلــك بتجاوز مســائل تحــول دون العناية‬
‫قانونــي وحقوقــي‪.‬‬
‫بمــا هــو أهــم‪ ،‬ولتحقيــق هــذه الغايــة يقتــرح إنشــاء‬
‫ب‪ -‬تحقيــق تكامــل منهجــي بيــن علــم الــكالم‬
‫وغيــره مــن العلــوم‪.‬‬ ‫(‪ )14‬أبــو الوفــاء التفتازانــي‪ ،‬علــم الــكالم وبعــض مشــكالته‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.25‬‬
‫(‪ )15‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬تجديــد المنهــج فــي تقويــم التــراث‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.142‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪84‬‬

‫نتحــدث عــن التجديــد ينبغــي أن نتصــور أن تجديــد‬ ‫ج‪ -‬تخليــص علــم الــكالم مــن زوائــده‪ ،‬أو ممــا لــم‬
‫علــم الــكالم معنــاه فــي هذا الســياق هــو العودة‬ ‫تعــد الحاجــة ماســة إليــه‪.‬‬
‫إلــى نظريــات علــم الــكالم اإلســامي األصيلــة‪،‬‬
‫د‪ -‬توسيع وتعميق البحث الكالمي‪.‬‬
‫التــي مــن أجلهــا وضــع هــذا العلــم‪.‬‬
‫هـــ‪ -‬اعتمــاد منظومــة كالميــة مقاصديــة‪ ،‬تكــون‬
‫وبســبب مــا طــرأ علــى علم الكالم مــن انفصال‬
‫وظيفــة المقاصــد فيهــا التوجيــه‪ ،‬ومراعــاة‬
‫عــن الواقــع فــي التأليــف والتدريــس صــار يخاطــب‬
‫مــآالت المســائل وغاياتهــا‪.‬‬
‫العقــل وال يحــرك الوجــدان‪ ،‬فنضــب تأثيره النفســي‬
‫فــي حيــاة الفــرد والمجتمــع‪ ،‬وغــدا مجــرد جــدل‬ ‫و‪ -‬تحديــد صلــة علــم الــكالم بالواقــع‪ ،‬مــن‬
‫عقيــم ومماحــكات وتحليــات معقــدة‪ ،‬لنظريــات‬ ‫خــال تفاعلــه مــع المشــكالت المنهجيــة‬
‫ً‬
‫شــيئا فــي حيــاة المســلمين‪ ،‬أو‬ ‫ال يمكــن أن تغيــر‬ ‫ا لمســتجد ة ‪.‬‬
‫تحــدث فــي نفوســهم أثـ ًر ا‪ ،‬فتخلــى علــم الــكالم عــن‬
‫وبهــذه المراحــل واعتبــار مــا ذكــر فيهــا يمكــن‬
‫مكانتــه التــي كانــت لــه فــي مراحلــه األولــى‪ ،‬حيــن‬
‫اســتثمار المــوروث الكالمــي فــي تلبيــة‬
‫كان يــرد علــى خصــوم اإلســام بالحجــج الدامغــة‪،‬‬
‫الحاجيــات المتجــددة‪ .‬وهــي رؤى عامــة‬
‫ويحفــظ للعقيــدة تماســكها ووحدتهــا)‪.(16‬‬
‫وتفصيلهــا يحتــاج إلــى دراســات مســتقلة‪،‬‬
‫فالتجديــد ال ينبغــي أن يكــون منصبًــا فقــط‬ ‫تســاعد علــى اســتثمار ثروتنــا المنهجيــة فــي‬
‫علــى صياغــة علــم الــكالم اإلســامي‪ ،‬أو فــي‬ ‫توليــد مناهــج جديــدة لفهــم واقعنــا‪.‬‬
‫مســائل فكريــة نظريــة‪ ،‬ومناقشــة مســائل معينة‬
‫متعلقــة بزمــن معيــن‪ ،‬بــل ينبغــي رفــع الــركام‬ ‫المدخل الثاني‪:‬‬
‫عــن العقيــدة لتفعــل فعلهــا فــي النفــوس‪ ،‬كمــا‬ ‫ربط علم الكالم بالواقع‬
‫فعلــت مــن قبــل؛ إذ كانــت هــي المحــرك والضابــط‬
‫نظامــا‬
‫ً‬ ‫إذا كانــت الشــريعة وضعــت لتكــون‬
‫الموجــه لحيــاة النــاس؛ بهــا تســتقيم حياتهــم وهــي‬
‫لإلنســان تنظــم حياتــه ‪-‬وهــي واقعيــة فــي‬
‫مســتندهم فــي تحقيــق الخالفــة وعمــارة األرض‬
‫نظمهــا وتشــريعاتها‪ -‬فحــري بالنظــم المتصلــة‬
‫المنوطــة باإلنســان‪.‬‬
‫بهــا أن تكــون مســتجيبة لحاجيــات اإلنســان‬
‫وإذا كانــت مســائل الــكالم القديــم خوطبــت بهــا‬ ‫ومشــكالته الواقعيــة‪ ،‬وفائــدة أي علــم مــن‬
‫مجتمعــات معينــة‪ ،‬شــغلت بمذاهــب ومباحــث‬ ‫العلــوم تــزداد بمقــدار اتصالــه بواقــع النــاس‬
‫ناشــئة أو دخيلــة‪ ،‬وكان أمــر مواجهتهــا واج ًبــا دين ًّيــا‪،‬‬ ‫وحياتهــم‪ ،‬ومــا لــم يربــط العلــم بالواقــع فإنــه‬
‫فــإن الواجــب اليــوم تجديــد علــم الــكالم لمواجهــة‬ ‫يبقــى مجــرد نظريــات ومثــل‪ ،‬ال فائــدة ترجــى‬
‫(‪ )16‬محمــد الكتانــي‪ ،‬جــدل العقــل والنقــل فــي مناهــج التفكيــر‬ ‫مــن ورائهــا ســوى النظــر الفكــري؛ ولذلــك لمــا‬
‫اإلســامي‪ ،‬ج‪ ،2 :‬ص‪.270 :‬‬
‫‪85‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫األول‪« :‬مقدمــات المراشــد» والمؤلــف الثانــي‪:‬‬ ‫االنحرافــات الحادثــة اليــوم ‪-‬ومــا أكثرهــا‪ -‬واســتمداد‬
‫«تنزيــه األنبيــاء عمــا نســب إليهــم حثالــة األغبيــاء»‬ ‫علــم الــكالم مــن التصــور اإلســامي األصيــل‪ ،‬بعيــدً ا‬
‫أللفينــا مســائل كل منهمــا منبثقــة مــن مشــكالت‬ ‫عــن تأثيــرات الفلســفات األخــرى‪ ،‬التــي لهــا أثــر عليــه‬
‫كانــت ذائعــة فــي المجتمــع ومنتشــرة‪ ،‬وهــذان‬ ‫فــي مراحــل متباينــة مــن تاريــخ علــم الــكالم‪.‬‬
‫المؤلفــان يــدالن علــى مكانــة ابــن رشــيد العلميــة‪،‬‬
‫ويمكــن أن نســتدعي فــي هــذا المقــام مثــال‬
‫ويشــهدان بمشــاركته المتميــزة فــي تلكــم الحركــة‬
‫مؤلفــات علمــاء المغــرب األقصــى التــي كانــت‬
‫الفكريــة الكبيــرة التــي عرفتهــا مدينــة ســبتة فــي‬
‫مقاصدهــا فــي الغالــب ملبيــة لحاجيــات النــاس‬
‫عصرهــا الذهبــي خالل القرنين الســادس والســابع‬
‫وظــروف عصرهــم فــي مجملهــا؛ فالعقيــدة‬
‫الهجرييــن‪ ،‬وذلــك مــا جعــل أحــد شــعرائها يصــل‬
‫البرهانيــة للســالجي (ت‪574 :‬هـــ) «كانــت مطلبًــا‬
‫نســبها بمكــة والمدينــة)‪ (19‬إذ يقــول‪:‬‬
‫ملحً ــا اســتوجب صدورهــا ظــروف العصــر‪،‬‬
‫سالم على سبتة المغرب*** أخية مكة أو يثرب‬
‫)‪(20‬‬
‫وحاجــات ثقافيــة وعقديــة ألــزم التطــور الفكــري‬
‫والكالمــي للمغــرب انبعاثهــا مــن أجــل مســايرة‬
‫ومقدمــات ابــن خميــر ال تتميــز بكونهــا تقــدم‬
‫الخــط الفكــري الجديــد الــذي ســلكه الفكــر العربــي‬
‫العقيــدة بأســلوب يتوخــى اإلقنــاع فحســب‪ ،‬وإنمــا‬
‫واإلســامي بالمشــرق»)‪.(17‬‬
‫تتميــز ً‬
‫أيضــا بكــون مؤلفهــا يعــرض أقــوال بعــض‬
‫«الزنادقــة» مــن أهــل بلــده ووقتــه‪ ،‬ويقــول فــي‬ ‫ً‬
‫مرتبطا‬ ‫وعلــم الــكالم فــي ظهوره ونشــأته كان‬
‫معــرض رده عمــن زعــم أن عجــز العــرب عــن اإلتيان‬ ‫بالمشــكالت الواقعيــة وبالمعطيــات السياســية‬
‫بمثــل القــرآن‪ ،‬أو ســورة‪ ،‬أو آيــة منــه‪ ،‬إنمــا كان‬ ‫واالجتماعيــة وحــاول معالجتهــا وحــل إشــكاالتها‪،‬‬
‫مانعهــم هــو الخــوف مــن الســيف؛ فيــرد علــى ذلــك‬ ‫وموضوعــات الفكــر الكالمــي مهمــا بــدت فــي‬
‫بقولــه‪« :‬ولعمــري لقــد قــال هــذه القولــة غيــر واحــد‬ ‫ظاهرهــا عقليــة مجــردة‪ ،‬فإنهــا فــي حقيقتهــا‬
‫ولقــد قالهــا فاجــر مــن الفجــرة هنــا فــي جمهــور‬ ‫إنمــا هــي معالجــة جــادة لمشــكالت واقعيــة حيــة‪،‬‬
‫مــن النــاس؛ فســكتوا عنــه إمــا غيــر منكريــن أو غيــر‬ ‫رامــت حلهــا علــى أســاس عقــدي بصــرف النظــر‬
‫مكترثيــن؛ فياللــه مــن عــدم الزاجــر وقلــة الغيــرة فــي‬ ‫عمــا لحــق بتلــك المعالجــة مــن مالبســات وعمــا‬
‫الديــن علــى أن هــؤالء الفجــرة إذا زجــروا قالــوا‪ :‬إنمــا‬ ‫شــابها أحيا ًنــا مــن مغــاالة وشــطط)‪.(18‬‬
‫حكينــا فيتراوغــون بالحكايــة عــن الســيف ﴿ َق ٰ َت لَ ُه ـ ُ‬
‫ـم‬
‫َّ ُ َ َّ ٰ ۡ َ ُ َ‬ ‫فلــو نظرنــا علــى ســبيل المثــال إلــى مؤلفيــن‬
‫ن يُؤف ك ــون ‪ ﴾٣٠‬التوبــة‪.(21) »30 :‬‬‫ٱللۖ أ‬
‫لعلــم مــن علمــاء المغــرب األقصــى‪ ،‬المؤلــف‬
‫(‪ )19‬محمــد بنشــريفة‪ ،‬مجلــة دار الحديــث الحســنية‪ ،‬عــدد‪،10 :‬‬
‫ص‪.44 :‬‬ ‫(‪ )17‬جمــال عــال البختــي‪ ،‬الســالجي ومذهبيتــه األشــعرية‪ ،‬ص‪:‬‬
‫(‪ )20‬البيــت مطلــع قصيــدة طويلــة لمالــك بــن المرحــل (ت‪:‬‬ ‫‪.97‬‬
‫‪699‬هـــ)‪.‬‬ ‫(‪ )18‬محمــد خيــر العمــري‪ ،‬المجلــة األردنيــة فــي الدراســات‬
‫(‪ )21‬ابــن خميــر الســبتي‪ ،‬مقدمــة المراشــد‪ ،‬تحقيــق‪ :‬جمــال عــال‬ ‫اإلســامية‪ ،‬بحــث بعنــوان‪« :‬علــم الــكالم بيــن األصالــة‬
‫البختــي‪ ،‬ص‪.298 :‬‬ ‫والتجديــد»‪ ،‬ج‪ ،5 :‬عــدد‪ ،3 :‬ص‪.240 :‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪86‬‬

‫مــا يقتضــي نظــ ًر ا تجديديًّــا فــي هــذا العلــم ليكــون‬ ‫ولــم يكــن ابــن خميــر يــورد مــن المســائل إال‬
‫فاع ـ ًلا فــي مســايرة الحيــاة وتوجيههــا نحــو ســمتها‬ ‫مــا كثــر فيهــا الخصــام والجــدال‪ ،‬وتثــار لتشــكيك‬
‫الدينــي الصحيــح‪ ،‬والمتأمــل مثــ ًلا فــي حــال مؤلفــات‬ ‫النــاس فــي عقيدتهــم‪ ،‬ومــا ســوى ذلــك كان‬
‫علمــاء المغــرب الكالميــة يالحــظ أنهــا منــذ نشــأتها‬ ‫يعــرض عنــه؛ لئــا يكثــر مــن إيــراد المســائل وهــذه‬
‫«كانــت قائمــة علــى أمريــن أساســين‪ :‬همــا‪:‬‬ ‫هــي مســايرة الواقــع وتلبيــة احتياجاتــه بمســائل‬
‫ً‬
‫متحدثــا فيمــا‬ ‫هــذا العلــم‪ ،‬ومــن ذلــك قولــه‬
‫أو ًلا‪ :‬أدلــة تتناســب مــع عقــول مــن يوجــه إليهم‬
‫يجــوز علــى األنبيــاء «واعلــم أيهــا المسترشــد أن‬
‫هــذا العلــم مــن مختلــف أصنــاف النــاس‪ ،‬بهــدف‬
‫اإلضــراب عــن هــذه األمــور كان أولــى بــك‪ ،‬لــوال‬
‫الوصــول إلــى اليقيــن بالعقيــدة اإلســامية‪.‬‬
‫غــاة مــن الجهــال المتعصبيــن فــي صــد التنزيــه‬
‫ثانيًــا‪ :‬الــرد علــى الفــرق المخالفــة التــي لهــا‬ ‫لهــم بغيــر علــم؛ حتــى يريــدوا أن يخرجوهــم مــن‬
‫وجــود فعــ ًلا فــي الزمــن الــذي أنتــج فيــه)‪.(23‬‬ ‫ربقــة العبوديــة ويلحقوهــم بحــال الربوبيــة»)‪.(22‬‬

‫وإذا كان علــم الــكالم بصفــة عامــة قــد أصابــه‬ ‫وغايــة هــذا االستشــهاد أن نبرهــن أن التجديــد‬
‫بعــد فتــرة مــن ازدهــاره حــال مــن الجمــود تعطــل‬ ‫الكالمــي كان ســار يًا فــي العصــور الســالفة التــي‬
‫فيــه التجديــد لزمــن غيــر قصيــر‪ ،‬فإنــه فــي زماننــا‬ ‫قــد نرميهــا أحيانهــا بالجمــود برؤيــة تجزيئيــة غيــر‬
‫أصابــه مــن ذلــك الحــظ األوفــر‪ ،‬ســواء مــن حيــث‬ ‫مســتوعبة للواقــع يومئــذ‪ ،‬وبالنظــر فيهــا وتأمــل‬
‫الفتــرة الزمنيــة التــي اســتمر فيهــا الجمــود‪ ،‬أو مــن‬ ‫مســائلها نســتيقن أنهــا دليــل ومرشــد فــي مســار‬
‫حيــث اغترابــه عــن الحيــاة وغيــاب التجديــد‪ ،‬حتــى‬ ‫التجديــد‪ ،‬وذلــك هــو المبتغــى والمطلــوب مــن علــم‬
‫ليمكــن القــول إن هــذا العلــم مــا يــزال إلــى حــد اآلن‬ ‫الــكالم أن يكــون هاديًــا ومرشــدً ا للحيــاة الواقعيــة‬
‫فــي شــطر كبيــر منــه يرســف فــي قيــود الماضــي‬ ‫للمســلمين‪ ،‬وبمــا أن الحيــاة متطــورة أحوالهــا‬
‫دون أن تنالــه حركــة التجديــد الفاعــل ســوى‬ ‫مســتأنفة ابتالءاتهــا‪ ،‬فــإن ذلــك يقتضــي أن يكــون‬
‫اســتثناءات قليلــة‪ ،‬فــي حيــن حــرك االجتهــاد فروعً ــا‬ ‫علــم الــكالم مواكبًــا لتلــك التطــورات‪ ،‬مجيبًــا علــى‬
‫عديــدة مــن فــروع العلــوم األخــرى ممــا أفضــى إلــى‬ ‫تلــك االبتــاءات‪ ،‬خاصــة أن النصــوص القطعيــة فــي‬
‫تجديــد مثمــر فــي تلــك الفــروع‪.‬‬ ‫هــذا الشــأن محــدودة جــدًّ ا‪ ،‬وهــو مــا يقتضــي أن يكــون‬
‫مجــال المتابعــة العقديــة لمتجــددات األوضــاع مجــا ًلا‬
‫وقــد ظهــرت بعــض البحــوث تنحــو منحــى‬
‫ً‬
‫واســعا‪ ،‬ولكــن الناظــر فــي تــراث علــم الــكالم‪ ،‬وكمــا‬
‫تجديديًّــا تســعى للتصــدي للجــواب علــى‬
‫هــو معــروض اليــوم يجــد أن هــذا العلــم يســتقر علــى‬
‫األســئلة المطروحــة اليــوم علــى المســلمين‬
‫واقــع ال يقــدر بــه علــى متابعــة المســتجدات‪ ،‬واإلجابــة‬
‫فــي القضايــا العقديــة إال أن ذلــك لــم يصبــح‬
‫علــى مــا تطرحــه تلــك التطــورات مــن األســئلة‪ ،‬وهــو‬
‫(‪ )23‬مقدمــة تحقيــق «التنبيــه واإلرشــاد فــي علــوم االعتقــاد»‪،‬‬
‫تحقيــق‪ :‬ســمير قوبيــع‪ ،‬محمــد العمرانــي‪ ،‬نــور الديــن شــعيبي‪،‬‬ ‫(‪ )22‬ابــن خميــر الســبتي‪ ،‬مقدمــة المراشــد‪ ،‬تحقيــق‪ :‬جمــال‬
‫ص‪.7 :‬‬ ‫عــال البختــي‪ ،‬ص‪.316 :‬‬
‫‪87‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫علمــا نظر ًّيــا‪ ،‬ال يؤثــر‬


‫ً‬ ‫الــكالم إلــى كونــه فــي مجملــه‬ ‫ًّ‬
‫عامــا لتحقيــق وظيفــة علــم الــكالم‪،‬‬ ‫بعــد منحــى‬
‫فــي الواقــع‪ ،‬بــل بعضهــم أفضــى بــه األمــر إلــى‬ ‫وفــي معالجــة المشــكالت الواقعيــة‪ ،‬وذلــك‬
‫الدعــوة إلــى تركــه جملــة «وقــد كان األولــى بهــم‬ ‫جــراء انشــداده إلــى الماضــي أكثــر مــن تفاعلــه‬
‫أن يطلبــوا القيــم المشــروعة لتوجيهــه‪ ،‬وتصويــب‬ ‫مــع الواقــع واستشــرافه للمســتقبل‪ ،‬ومتــى‬
‫النظــر العقلــي فيــه»)‪.(25‬‬ ‫تحقــق شــرط االســتيعاب لمــا كان‪ ،‬واإلفــادة‬
‫منــه فيمــا هــو كائــن‪ ،‬أمكــن لعلــم الــكالم‬
‫ومختلــف المؤثــرات العلميــة والتاريخيــة التــي‬
‫أن يكــون «الســبيل النافــع والجــاد لتقويــم‬
‫تــراخ فــي مرجعيتهــا‬
‫ٍ‬ ‫مــرت بهــا األمــة أفضــت إلــى‬
‫النزعــات الفكريــة واالختيــارات المنهجيــة‬
‫العقديــة‪ ،‬وغــدت حقائــق العقيــدة تشــبه أن تكــون‬
‫المســتجدة للنظــر فــي التغيــرات العميقــة‬
‫تصديقــات ذهنيــة غايتهــا تنحصر فــي ذاتها‪ ،‬وقد أدى‬
‫التــي أحدثهــا التقــدم العلمــي والتقنــي فــي‬
‫هــذا إلــى تضييــق مفهــوم العقيــدة؛ حيــث انفصلــت‬
‫مكونــات المجتمــع المســلم»)‪.(24‬‬
‫فيــه التصديقــات القلبيــة باأللوهيــة‪ ،‬والنبــوة‪،‬‬
‫والبعــث عــن أبعادهــا فــي الحيــاة االجتماعيــة‪ ،‬وقــد‬ ‫إن الواقــع الراهــن لعلــم الــكالم يــردد‬
‫أدى هــذا الوضــع إلــى مــا يشــبه االنفصــال بيــن‬ ‫المقــوالت نفســها التــي نشــأت منــذ قــرون خلــت‪،‬‬
‫االجتهــادات الفرعيــة وبيــن مرجعيتهــا العقديــة‪،‬‬ ‫ســواء مــن حيــث المحتــوى أو مــن حيــث التعابيــر‬
‫وهــذا الواقــع يحتــم علــى العلمــاء إحيــاء العقيــدة‬ ‫والمصطلحــات‪ ،‬فــإذا الهــوة بيــن هــذا العلــم‬
‫فــي النفــوس‪ ،‬وصياغــة األحــكام الســلوكية فــي‬ ‫وبيــن الواقــع تــزداد اتســاعً ا‪ ،‬وقــد ظــل التأليــف فــي‬
‫إطــار المبــادئ العقديــة‪ ،‬وهــذا يســتلزم إحيــاء البحــث‬ ‫علــم الــكالم ينحــو منحــى التقريــر النظــري الــذي ال‬
‫فــي األبعــاد العمليــة للمبــادئ العقديــة؛ فــإن لــكل‬ ‫يتفاعــل مــع مجريــات الحيــاة الفعليــة‪ ،‬إذ انفصــل‬
‫مــن مجــاالت الســلوك المختلفــة أصــو ًلا عقديــة‪،‬‬ ‫علــم الــكالم عــن الحيــاة الواقعيــة منــذ وقــت مبكــر‪،‬‬
‫فالســلوك االقتصــادي مثــ ًلا إطــاره العقــدي بــأن‬ ‫ونــأى علمــاء الــكالم فــي فتــرات مختلفــة عمــا‬
‫الملكيــة الحقيقيــة لــكل شــيء إنمــا هــي للــه‪ ،‬وأن‬ ‫يجــري فــي الواقــع‪ ،‬فــإذا بعــض القضايــا الكالميــة‬
‫اإلنســان مــا هــو إال مســتخلف علــى مــا بيــن يديــه مــن‬ ‫تفقــد حيويتهــا وتجددهــا بهــذا االنفصــال‪.‬‬
‫مقــدرات‪ ،‬وفــي هــذا اإلطــار ينبغــي أن يتنــزل ســلوكه‬
‫وقــد ورث عصرنــا الراهــن هــذا الوضــع‪ ،‬الــذي‬
‫فــي المجــال االقتصــادي‪ .‬وأن الســلوك االجتماعــي‬
‫انحســرت فيــه القضايــا الكالميــة وبقيــت حبيســة‬
‫بمعنــاه العــام إطــاره العقــدي اإليمــان بكرامــة‬
‫التــراث‪ ،‬وحتــى بعــض المســائل التــي تحــدث فيهــا‬
‫اإلنســان وعلــو قيمتــه بمقتضــى إنســانيته)‪.(26‬‬
‫عــن التجديــد بقيــت حبيســة النظــر المجــرد‪ ،‬ولــم‬
‫تتفاعــل مــع الواقــع‪ ،‬وهكــذا انتهــى األمــر فــي علــم‬
‫(‪ )25‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬فــي أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم‪،‬‬
‫ص‪.73 :‬‬ ‫(‪ )24‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬فــي أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم‪،‬‬
‫ً‬
‫فهما وتنزيلا‪ ،‬ص‪.195 :‬‬ ‫ً‬ ‫(‪ )26‬عبد المجيد النجار‪ ،‬فقه التدين‬ ‫ص‪.157 :‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪88‬‬

‫موجــب اصطالحهــم وأغراضهــم‪ ،‬فأنصفنــا القــارة»)‪.(28‬‬ ‫وقــد كان المســلمون األوائــل يتــم التصديــق‬
‫وتلــك المســائل التــي تناولهــا فــي الكتــاب بالنســبة‬ ‫واإلذعــان عندهــم بالطاقــات كافــة فــي ذواتهــم‬
‫لذلــك العصــر تعتبــر مثــا ًلا وغايــة فــي التجديــد؛ ومــن‬ ‫عقليــة وروحيــة وعاطفيــة‪ ،‬فمــا أن ينبلــج اإليمــان‬
‫القصــور العلمــي أن يتصفــح بعــض الباحثيــن مثــل هــذا‬ ‫فــي النفــس حتــى تتضافــر علــى تحملــه مــدارك‬
‫الكتــاب وســواه مــن كتــب التــراث؛ ثــم يزعــم أنهــا كتــب‬ ‫العقــل مــع أشــواق الــروح ومنــازع العاطفــة‪ ،‬فــإذا‬
‫مغرقــة فــي التجريــد والنظريــات البعيــدة عــن الواقــع‪،‬‬ ‫هللا تعالــى فــي نفــوس المؤمنيــن يســلم العقــل‬
‫صحيــح أنهــا قــد تكــون بعيــدة عــن واقعنــا؛ لكونهــا‬ ‫جازمً ــا بوجــوده وصفاتــه‪ ،‬وتنـــزع العواطــف إلــى‬
‫ألفــت فــي ظــروف وعصــور مختلفــة؛ لكنهــا بالنســبة‬ ‫محبتــه وخوفــه ورجائــه‪ ،‬وتهفــو الــروح إلــى لقائــه‪،‬‬
‫لتلــك العصــور حلــت بهــا إشــكاالت وأجابــت عــن‬ ‫وهكــذا األمــر فــي كل عقيــدة‪ ،‬ومــن هــذا الوضــع‬
‫تعقيــدات؛ فالعيــب ليــس فــي تلــك الكتــب بــل فيمــن‬ ‫فــي تحمــل اإليمــان تتكــون شــدة لــه فــي النفــوس‬
‫يعجــز اآلن عــن كتابــة مــا يالئــم عصــره؛ علــى غــرار مــا‬ ‫دفعــا قو ًّيــا إلــى‬
‫ً‬ ‫فيأخــذ بمجامعهــا‪ ،‬ويدفــع بــاإلرادة‬
‫فعــل الفضــاء مــن علمــاء األمــة الســابقين؛ فكتبهــم‬ ‫العمــل واإلنجــاز وذلــك ســر مــن أســرار تلــك القفزة‬
‫بالنســبة لعصورهــم تجديــد ومواكبــة للعصــر‪ ،‬ينبغــي أن‬ ‫الحضاريــة المشــهودة فــي ذلــك الزمــن القصيــر)‪.(27‬‬
‫نســتفيد مــن منهجهــم‪ ،‬لنحــذو حذوهــم‪ ،‬وجديــر بالباحــث‬
‫وتفاعــل التأليــف الكالمــي مــع الواقــع لــم تخــل‬
‫المنصــف أن يتعــرف علــى ظــروف العصــر قبــل قــراءة‬
‫منــه مراحــل مختلفــة مــن التاريــخ‪ ،‬ونضــرب مث ـ ًلا لذلــك‬
‫مواضيــع تلــك الكتــب؛ ليتعــرف علــى أســباب وخلفيــات‬
‫بمؤلــف مــن مؤلفــات علمــاء المغــرب األقصــى خــال‬
‫كانــت هــي الدافــع لالهتمــام بتلــك المواضيــع‪ ،‬وقــد تذكــر‬
‫القــرن الســابع الهجــري‪ ،‬وهــو‪« :‬لبــاب العقــول فــي‬
‫تلــك األســباب عنــد بيــان بعــض المســائل وقــد ال تذكــر‬
‫الــرد علــى الفالســفة فــي علــم األصــول» والكتــاب يعبــر‬
‫اكتفــاء بمــا هــو شــائع ومعــروف مــن الجــدل حولهــا بيــن‬
‫ً‬
‫دقيقــا عــن حقيقــة مضمــون الكتــاب إذ صــدر‬ ‫تعبيــ ًر ا‬
‫العامــة والخاصــة‪ .‬وقــد خلــص الدكتــور طــه عبــد الرحمن‬
‫فيــه المكالتــي عــن موقــف أصولــي تبينــت معالمــه منــذ‬
‫إلــى «أن المتكلميــن اســتوعبوا اســتيعابًا منهج ًّيــا كامـ ًلا‬
‫البدايــة‪ ،‬بجعــل موضوعاتــه مســائل ماســة بالعقيــدة‬
‫مختلــف أســباب عصرهــم العلميــة والتاريخيــة مــن‬
‫كان الحديــث عنهــا ســائ ًدا فــي عصــره؛ مثــل‪ :‬القول بقدم‬
‫وســائل نظريــة وأوضــاع ظرفيــة‪ ،‬فــي حيــن ال نجــد مثــل‬
‫العالــم‪ ،‬وغيــر ذلــك مــن أباطيــل الفلســفة التــي دحضهــا‬
‫هــذا االســتيعاب المنســق لوســائل العصــر العلميــة‬
‫بأســاليب عقليــة علــى طريقــة أهلهــا؛ حيــث يقــول‪:‬‬
‫والمعطيــات التاريخيــة فيمــا أنجــز مــن الدراســات‬
‫«فشــننا علــى رؤوس الفالســفة الغــارة‪ ،‬وكلمناهم على‬
‫المعاصــرة التــي تحــاول تطويــر الفكــر اإلســامي‪ ،‬بــل‬

‫(‪ )28‬أبــو الحجــاج المكالتــي‪ ،‬لبــاب العقــول فــي الــرد علــى‬ ‫(‪ )27‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬مجلــة إســامية المعرفــة‪ ،‬دور‬
‫الفالســفة فــي علــم األصــول‪ ،‬تحقيــق‪ :‬فوقيــة حســن محمــود‪،‬‬ ‫اإلصــاح العقــدي فــي النهضــة اإلســامية‪ ،‬العــدد األول‪ ،‬ص‪:‬‬
‫ص‪.71 :‬‬ ‫‪.85‬‬
‫‪89‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫ومــرد ذلــك إلــى االبتعــاد عــن الواقــع‪ ،‬وإغــراق‬ ‫«تثويــره» أو علــى النقيــض تجــاوزه وابتغــاء غيــره»)‪.(29‬‬
‫المؤلفــات الكالميــة بنظريــات ظروفهــا التاريخيــة‬
‫ويقــرر الدكتــور عبــد المجيــد النجــار أن العقيــدة‬
‫قــد انقرضــت‪ ،‬تظهــر للناظــر فيهــا بعيــدة عــن‬
‫إنمــا تدفــع إلــى العمــل بحســب مــا تكــون عليــه فــي‬
‫الواقــع‪ ،‬معرضــة عــن مناقشــة مشــكالت واقعيــة‬
‫تصــور المســلمين مــن حيــث مدلولهــا العــام أو ًلا‪،‬‬
‫ً‬
‫انطالقــا‬ ‫تقتضــي حلــو ًلا وتنــاو ًلا علميًّــا رصي ًنــا‬
‫ومــن حيــث مفرداتهــا التفصيليــة‪ ،‬إذ النفــوس تنفعــل‬
‫مهمــا‬
‫ً‬ ‫مــن قضايــا كالميــة‪ ،‬واعتبــار علــم الــكالم‬
‫بالصــورة التــي تحصــل فيهــا عــن الحقائــق ال بالحقائــق‬
‫وضرور ًّيــا إنمــا هــو بالنظــر للوظيفــة المنوطــة بــه‬
‫فــي ذاتهــا‪ .‬وحينمــا تحصــل صــورة العقيــدة فــي‬
‫فــي الواقــع ومســايرته للمشــكالت‪ ،‬وذلــك لكونــه‬
‫مدلولهــا لــدى المســلمين اليــوم علــى النحــو الــذي‬
‫وســيلة دفاعيــة راقيــة توظــف العقــل بــكل قــواه‬
‫وصفنــاه مــن الشــمول‪ ،‬فإنهــا ســتغير ال محالــة فــي‬
‫وتعمقاتــه لتفســير العقيــدة اإلســامية‪ ،‬ودحــض‬
‫هيئــة انفعــال بهــا‪ :‬إذ ستتنـــزل قضايــا عديــدة ذات‬
‫شــبهات الملحديــن والمشــككين‪.‬‬
‫صلــة بالواقــع الكونــي واالجتماعــي فــي الوعــي العقــدي‬
‫وكيــف لعلــم الــكالم أن يغتــرب عــن الواقــع‬ ‫لألمــة ويصبــح بذلــك تحقيــق مقتضياتهــا بالفعــل‬
‫ووظيفتــه الدفــاع عــن الطارئ من الشــبهات لحماية‬ ‫محــددا مــن محــددات الفصــل بيــن اإليمــان والكفــر‪،‬‬
‫عقائــد المســلمين مــن التشــويش والتشــكيك‪ ،‬كمــا‬ ‫ممــا يكــون لــه أثــر بالــغ فــي النـــزوع إلــى العمــل واإلنجــاز‬
‫يقــول أبــو حامــد الغزالــي‪« :‬ثــم إنــي ابتــدأت بعلــم‬ ‫والتعميــر‪ ،‬ويتكــون مــن ذلــك أوبــة عامــة إلــى الفعــل‬
‫الــكالم فحصلتــه وعقلتــه‪ ،‬وطالعــت كتــب المحققين‬ ‫فــي الحيــاة العمليــة بمــا وقــر فــي النفــس مــن أن ذلــك‬
‫منهــم وصنفــت فيــه مــا أردت أن أصنــف‪ ،‬فصادفتــه‬ ‫هــو مقتضــى مــن مقتضيــات االعتقــاد الــذي أصبــح ذا‬
‫علمــا واف ًيــا بمقصــوده‪ ،‬غيــر ٍ‬
‫واف بمقصــودي‪ ،‬وإنمــا‬ ‫ً‬ ‫أبعــاد عمليــة فــي العالقــات الكونيــة واالجتماعيــة)‪.(30‬‬
‫مقصــوده حفــظ عقيــدة أهــل الســنة‪ ،‬وحراســتها‬
‫والــذي يقــرأ فــي بعــض المؤلفــات الكالميــة‬
‫عــن تشــويش أهــل البدعــة»)‪ .(32‬فعلــم الــكالم مــن‬
‫يــرى أنهــا ال تــكاد تقــوي عقيــدة‪ ،‬وال تزيــد إيما ًنــا‪ ،‬وال‬
‫وظائفــه مواجهــة مشــكالت الواقــع‪ ،‬وبذلــك يبقــى‬
‫تبعــث فــي النفــس خشــية هللا ودوام مراقبتــه‪ ،‬وال‬
‫ســاحً ا يوظــف ويطــور بحســب الشــبهات‪ ،‬ويقــي‬
‫تدفــع إلــى إخــاص فــي عبــادة‪ ،‬وال تذيــق صاحبهــا‬
‫مــن الشــك والريبــة «وال يمكــن ألحــد أن ينكــر دور‬
‫حــاوة اإليمــان تخاطــب العقــل بالمنطــق‪ ،‬وال‬
‫المتكلميــن فــي مواجهــة التيــارات االعتقاديــة غيــر‬
‫تخاطــب العقــل بالشــعور‪ ،‬وربمــا انتهــت إلــى جــدل‬
‫اإلســامية ‪-‬المنزلــة منهــا وغيــر المنزلــة‪ -‬واالتجاهــات‬
‫ً‬
‫نفعــا)‪.(31‬‬ ‫عقيــم‪ ،‬ال يلــد فائــدة وال ينتــج‬
‫الفكريــة القائمــة علــى العقالنيــة الماديــة والنظــر غيــر‬
‫(‪ )29‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬فــي أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم‪،‬‬
‫ص‪.72 :‬‬
‫(‪ )30‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬مجلــة إســامية المعرفــة‪ ،‬دور‬
‫اإلصــاح العقــدي فــي النهضــة اإلســامية‪ ،‬العــدد األول‪ ،‬ص‪:‬‬
‫(‪ )32‬الغزالــي‪ ،‬المنقــذ مــن الضــال‪ ،‬تحقيــق‪ :‬محمــد محمــد‬ ‫‪87‬‬
‫جابــر‪ ،‬ص‪.14 :‬‬ ‫(‪ )31‬علي الطنطاوي‪ ،‬فصول إسالمية‪ ،‬ص‪.151 :‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪90‬‬

‫والعقيــدة اإلســامية ال تقتصــر علــى اعتقــاد القلــب‬ ‫التوحيــدي المعاصــرة لهــم»)‪.(33‬‬


‫والتصديــق فحســب‪ ،‬بــل ذلــك مطلــب وشــرط لمــا‬
‫وإلــى جانــب الربــط بالواقع يمكــن توظيف المنهج‬
‫ســيترتب عليــه مــن عمــل‪ ،‬فاعتقــاد القلــب مطلــوب‪،‬‬
‫الكالمــي واالســتفادة منــه‪ ،‬فــي جانبــه الوظيفــي وآلياته‬
‫وقــول اللســان مطلــوب‪ ،‬وعمــل الجــوارح مطلــوب‪،‬‬
‫الحجاجيــة‪ ،‬فــي الــرد علــى كثيــر مــن الشــبه المعاصــرة‪،‬‬
‫لتؤتــي العقيــدة ثمرتهــا االعتقاديــة والســلوكية‪،‬‬
‫وقــد أفــاد العالمــة طــه عبــد الرحمــن فــي كتابــه‬
‫فالعقيــدة اإلســامية ليســت جملــة مــن المعتقــدات‬
‫«أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم» طــرق وأســاليب‬
‫أو األفــكار النظريــة المجــردة‪ ،‬بــل هــي عقيــدة غايتهــا‬
‫االســتفادة مــن منهــج المناظــرة فــي علــم الــكالم‬
‫ظهــور أثرهــا فــي الســلوك وحيــاة النــاس‪ ،‬واإليمــان‬
‫ومــا انطــوت عليــه مــن فوائــد جمــة لــم يســتفد منهــا‬
‫بهــا قــول باللســان‪ ،‬واعتقــاد بالجنــان‪ ،‬وعمــل بالجوارح‪،‬‬
‫كمــا ينبغــي‪ ،‬فمجــال المناظــرة فــي الفكــر الكالمــي‬
‫وال يغنــي تحصيــل أحــد هــذه األشــياء عــن األخــرى‪ ،‬بــل‬
‫ً‬
‫ومنطلقــا ثر يًّــا فــي‬ ‫ً‬
‫مرجعــا خصبًــا‬ ‫يمكــن أن يكــون‬
‫هــي كل مترابــط «وحينمــا ينتظــم فهــم العقيــدة؛ فــإن‬
‫نقــد وإبطــال أو إثبــات الكثيــر مــن القضايــا الشــائكة‬
‫ذلــك ال محالــة ســينعكس رشــادً ا فــي تصــور العقيــدة‬
‫المعاصــرة‪ ،‬وطــرق االســتدالل التــي اســتعملها‬
‫التصــور الصحيــح كمــا عليــه فــي مصادرهــا‪ ،‬وكمــا كانــت‬
‫المتكلمــون فــي مجــال المناظــرة طــرق بديعــة ترتكــز‬
‫عليــه فــي عهــد الســلف مــن الصحابــة والتابعيــن‪،‬‬
‫علــى قوانيــن العقــل وصميــم االســتدالل المنطقــي‪.‬‬
‫حيــن اندفعــوا بتصورهــم ذاك يعمــرون األرض‬
‫تعميــ ًر ا شــام ًلا‪ ،‬ويبنــون حضــارة إنســانية‪ ،‬فالعقيــدة‬
‫المدخل الثالث‪:‬‬
‫اإلســامية ليســت مفاهيــم تنحصــر قيمتهــا فــي‬
‫ربط علم الكالم بالسلوك‬
‫التصديــق القلبــي بهــا‪ ،‬وإنمــا ذلــك هــو جــزء مــن اإليمــان‬
‫بهــا فحســب‪ ،‬والمطلــوب بعــد االعتقــاد هــو مــا يحدثــه‬ ‫مــن المؤاخــذات التــي انتقــد بهــا علــم الــكالم أنــه ال‬
‫اإليمــان بالعقيــدة مــن أثــر شــامل فــي حيــاة اإلنســان‬ ‫يوقــظ العاطفــة فهــو خطــاب للعقــل فقــط وإيقــاظ‬
‫الفكريــة والعمليــة‪ ،‬وتلــك هــي النقطــة الفارقــة بيــن‬ ‫للقــوة الذهنيــة‪ ،‬واإلســام يهتــم بإثــارة العاطفــة‬
‫العقيــدة اإلســامية وســائر العقائــد األخــرى‪ .‬ولــو‬ ‫واالنفعــاالت النفســية مــع القــوى الفكريــة‪ ،‬وقــد‬
‫تأملــت حــال المســلمين اليــوم لرأيتهــم يصدقــون‬ ‫يكــون هــذا النقــد لعلــم الــكالم بأنــه متصــل بالعقــل‬
‫بالقلــب ولكــن أثــر ذلــك فــي الســلوك قليــل‪ ،‬فيجــري‬ ‫قليــل الصلــة بالفــؤاد منحص ـ ًر ا فــي مراحــل معينــة أو‬
‫الســلوك علــى غيــر مقتضــى االعتقــاد‪ ،‬ولعــل مــن‬ ‫مؤلفــات محصــورة‪ ،‬واألصــل فــي علــم الــكالم التكامــل‬
‫أســباب ذلــك مــا ذاع مــن كــون اإليمــان هــو التصديــق‬ ‫بيــن منهجــه العقلــي والعاطفــة حتــى يثمــر ذلــك نتائــج‬
‫بالقلــب وأن العمــل بمقتضــاه كمــال مــن كماالتــه‬ ‫فــي الســلوك‪ ،‬وهــذا األصــل مأخــوذ مــن كونــه ينبغي أن‬
‫فحســب‪ .‬والحــال‪ :‬أن ســلف األمــة مــن الصحابــة‬ ‫يكــون فيــه مــا فــي العقيــدة التــي يعنــى بالدفــاع عنهــا‪،‬‬
‫ً‬
‫تصديقــا‬ ‫والتابعيــن لــم يكونــوا إال معتبريــن اإليمــان‬
‫(‪ )33‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬فــي أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم‪،‬‬
‫وإقــرا ًر ا وعم ـ ًلا فــي غيــر تفصيــل وال فصــل قــد يــؤول‬ ‫ص‪.71 :‬‬
‫‪91‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫وتبنــت الفكــر اإلرجائــي الــذي كان يزعــم أن اإليمــان‬ ‫إلــى مــا وصــل إليــه المســلمون اليــوم»)‪.(34‬‬
‫هــو المعرفــة بــا قــول وال عمــل‪ُ ،‬‬
‫وضي َِّعــت أوقــات‬
‫وربمــا كان الخلــل األفــدح الــذي يصيــب المســلمين‬
‫وأعمــار فــي جــدل نتــج عــن ذلــك لم‪ ‬يفــد األمــة‪ ،‬بــل‬
‫منــذ زمــن هــو انقطــاع األعمــال عــن موجباتهــا العقديــة‬
‫ً‬
‫شــيعا وطوائــف‪ ،‬تمضــي كل طائفــة‬ ‫جعــل أبناءهــا‬
‫أكثــر ممــا هــو انقطــاع فكرهــم عنهــا‪ ،‬ولعــل هــذا هــو أحــد‬
‫عمرهــا فــي نقــض مــا لــدى األخــرى‪.‬‬
‫معانــي الحديــث النبــوي الــذي تعــوذ فيــه النبــي ﷺ مــن‬
‫والعقيــدة اإلســامية جــاءت بمفاهيــم متميــزة‬ ‫علــم ال ينفــع)‪(35‬؛ فهــو تعــوذ مــن صــورة ذهنيــة صحيحــة‬
‫فــي التزامهــا تجمــع بيــان االعتقــاد‪ ،‬والقــول‪ ،‬والعمــل‪،‬‬ ‫فــي ذاتهــا مبنيــة علــى مقتضيــات عقديــة‪ ،‬ولكــن العمــل‬
‫وذلــك حتــى يتحقــق االنتفــاع بالعقيــدة انتفاعً ــا حسـ ًنا‬ ‫ً‬
‫منحرفــا‬ ‫عنــد حاملهــا ال يجــري علــى حســبها؛ بــل يجــري‬
‫علــى وجهــه األكمــل واألحســن‪ ،‬وتؤتــي العقيــدة‬ ‫عنهــا مقطــوع الصلــة بموجبهــا العقــدي؛ فــا يكــون‬
‫ثمرتهــا فــي حيــاة النــاس‪ ،‬وتعيــن األمــة علــى اســترجاع‬ ‫للعلــم حينئــذ نفــع‪ .‬وال ينصلــح هــذا الخلــل إال بتعديــة‬
‫قيادتهــا وريادتهــا المفقــودة‪ ،‬وتقديــم العقيــدة علــى‬ ‫التوجيــه العقــدي إلــى العمــل ً‬
‫أيضــا بعــد تعديتــه إلــى‬
‫هــذا النحــو هــي وظيفــة علــم الــكالم المنشــود‪ ،‬حســب‬ ‫الفكــر‪ ،‬وذلــك بحضــور المعانــي العقديــة حضــو ًر ا دائمً ــا‬
‫حاجــات النــاس ومتطلبــات شــهودهم الحضــاري‪.‬‬ ‫فــي ضميــر المســلم حــال مباشــرته العمــل ســواء كان‬
‫تعبديًّــا بالمعنــى الخــاص أو عمــ ًلا تعمير يًّــا عامًّ ــا علــى‬
‫وقــد كانــت األجيــال األولــى مــن المســلمين تتنــزل‬
‫مســتوى الفــرد والمســتوى الجماعــي العــام)‪.(36‬‬
‫العقيــدة فــي نفوســهم تنــز ًلا مباشــ ًر ا بمــا يدفــع‬
‫إرادتهــم إلــى األعمــال بمــا تقتضيــه العقيــدة فــي الواقــع‬ ‫ومتــى حصــل هــذا التصــور فــي األذهــان‪ ،‬وســلم‬
‫ً‬
‫جميعــا‪ ،‬ثــم خلفــت أجيــال بعــد ذلــك وقعــت‬ ‫فــي وجوهــه‬ ‫تنزيلــه فــي الواقــع؛ أمكننــا أن نــرى ثمــرات العقيــدة‬
‫ً‬
‫موقعــا ال يمتــد أثــره إلــى اإلرادة‬ ‫العقيــدة فــي نفوســهم‬ ‫فــي الحيــاة‪ ،‬وأن نعيــش التغييــر المنشــود والتطــور‬
‫ليحركهــا لتدفــع الجــوارح إلــى العمــل‪ ،‬وتراجعــت صلــة‬ ‫الذي تدعو إليه شــريعة اإلســام بعقيدته الســمحة‪،‬‬
‫المعتقــد بالعمــل‪ ،‬وجنحــت كثيــر مــن المعتقــدات‬ ‫وقــد ابتليــت األمــة اإلســامية فــي تاريخهــا بطوائــف‬
‫عنــد البعــض لتكــون أقــرب إلــى ظاهــرة عقليــة مجــردة‪،‬‬ ‫حرصــت علــى الفصــل بيــن العقيــدة والعمــل‬
‫وآراء فكريــة متداولــة‪ ،‬فيهــا مغــاالة التفصيــل والتقريــر‬
‫(‪ )34‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬دور اإلصــاح العقــدي فــي النهضــة اإلســامية‪،‬‬
‫والمجادلــة‪ ،‬وليــس فيهــا مــا يؤثــر فــي مجامــع النفــس‬ ‫مجلــة إســامية المعرفــة‪ ،‬العــدد األول‪ ،‬ص‪( .74 :‬بتصــرف)‪.‬‬
‫وكيــان اإلنســان كلــه لتدفعــه إلــى إنجــاز األعمــال‪ ،‬ولذلــك‬ ‫(‪ )35‬المقصــود حديــث النبــي ﷺ «اللهــم إنــي أعــوذ بــك مــن‬
‫العجــز والكســل والجبــن والبخــل والهــرم وعــذاب القبــر‪ ،‬اللهــم‬
‫كان لزامً ــا أن يمتــد ترشــيد االعتقــاد ليشــمل عالقــة‬ ‫آت نفســي تقواهــا وزكهــا أنــت خيــر مــن زكاهــا أنــت وليهــا‬
‫وموالهــا‪ ،‬اللهــم إنــي أعــوذ بــك مــن علــم ال ينفــع ومــن قلــب ال‬
‫العقيــدة بــاإلرادة الفاعلــة لتثمــر إنجــاز العمــل الصالــح‬ ‫يخشــع ومــن نفــس ال تشــبع ومــن دعــوة ال يســتجاب لهــا»‪.‬‬
‫صحيــح مســلم‪ ،‬بــاب التعــوذ مــن شــر مــا عمــل ومــن شــر مــا‬
‫المؤســس للنهضــة‪.‬‬
‫لــم يعمــل‪ ،‬تحقيــق‪ :‬محمــد فــؤاد عبــد الباقــي‪ ،‬ج‪ ،4 :‬ص‪،2088 :‬‬
‫حديــث‪.2722 :‬‬
‫وربما يكون هذا الترشيد متمث ًلا فيما يلي‪:‬‬ ‫(‪ )36‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬مجلــة إســامية المعرفــة (دور‬
‫اإلصــاح العقــدي فــي نهضــة األمــة)‪ ،‬العــدد األول‪ ،‬ص‪.84 :‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪92‬‬

‫بــه فــي واقــع النــاس وحياتهــم‪ ،‬ومــا تــزال تلــك اآلثــار‬ ‫أولهمــا‪ :‬الجــزم االعتقــادي؛ وذلــك أن تكــون‬
‫باقيــة إلــى يومنــا هــذا تأثــر بهــا الفكــر والســلوك علــى حــد‬ ‫العقيــدة راســخة باقتنــاع يصحبــه اســتنهاض‬
‫ســواء؛ فقــد كانــت مذاهــب اليونــان الفلســفية تعتبــر‬ ‫الفطــرة االســتداللية الكامنــة فــي النفــوس علــى‬
‫معرفــة الحــق فضيلــة قائمــة بذاتهــا‪ ،‬وال تضفــي علــى‬ ‫قــدر مشــترك بينهــا‪ ،‬وهــذا االســتنهاض اليــوم‬
‫آثارهــا العمليــة قيمــة تذكــر‪ ،‬وذلــك بمــا هــي فــي عمومهــا‬ ‫توفــرت وســائله أكثــر مــن أي وقــت مضــى؛ فآيــات‬
‫مذاهــب نازعــة إلــى التجريــد‪ ،‬عازفــة عــن األعمــال‪ ،‬ولكــن‬ ‫هللا فــي األنفــس واآلفــاق‪ ،‬تتجــدد يومً ــا بعــد يــوم‪،‬‬
‫العقيــدة اإلســامية جــاءت بمفهــوم آخــر لالعتقــاد يحدد‬ ‫ومــع كل تقــدم علمــي تتجلــى آيــات هللا للعالميــن‪.‬‬
‫بقيمتــه وآثــاره العمليــة‪ ،‬فأصبــح فيــه التصديــق الذهنــي‬
‫ثانيهمــا‪ :‬اإلحيــاء الروحــي‪ ،‬وذلــك أن يتصــل‬
‫كاف وحــده‪ ،‬وإنمــا قيمتــه تكتمــل ًّ‬
‫حقــا‬ ‫بالعقيــدة غيــر ٍ‬
‫التصديــق للعقيــدة بالطاقــات اإلنســانية العقليــة‬
‫بمــا يــؤدي إليــه مــن األعمــال‪ ،‬وذلــك مــا أشــار إليــه ابــن‬
‫والروحيــة والعاطفيــة كافــة؛ فقــد عــزز مــن الوضــع‬
‫خلــدون فــي قولــه معبــ ًر ا عــن العقيــدة بالتوحيــد‪« :‬إن‬
‫المختــزل لتحمــل العقيــدة نشــوء علــم الــكالم علمً ــا‬
‫المعتبــر فــي هــذا التوحيــد ليــس هــو اإليمــان فقــط الــذي‬
‫عقل ًّيــا لــرد الهجــوم العقلــي علــى أصــول الديــن‪ ،‬ثــم تطــور‬
‫هــو تصديــق حكمــي‪ ،‬وإنمــا الكمــال فيــه حصــول صفــة‬
‫إلــى المقايســة العقليــة الصرفــة فــي شــيء كثيــر مــن‬
‫منــه تتكيــف بهــا النفــس»)‪ .(39‬والمقصــود بهــذه الصفــة‬
‫التجريــد والجفــاف)‪ .(37‬وحــري بالمشــتغلين بهــذا العلــم‬
‫التــي تتكيــف بهــا النفــس ذلــك الســلطان الــذي يكــون‬
‫الراغبيــن فــي تجديــده تصويــب النظــر نحــو هــذا المجــال‬
‫للعقيــدة علــى اإلرادة فيوجههــا فــي طريــق األعمــال)‪.(40‬‬
‫وضــرورة العنايــة بهــذا اإلحيــاء‪ ،‬بــل وبيــان مــا يتميــز بــه‬
‫والعقيــدة ترتبــط بالواقــع ببعــث شــعاب‬ ‫«اليقيــن الــذي ينبنــي عليــه الجــدل وهــو يقيــن عملــي‪،‬‬
‫اإليمــان الســاكنة فــي النفــوس‪ ،‬عبــر التذكيــر‬ ‫بينمــا اليقيــن المنطقــي هــو يقيــن نظــري‪ ،‬صناعــي‪،‬‬
‫ً‬
‫واقعــا‪ ،‬وإصــاح األفــكار‬ ‫بأصــول الديــن‪ ،‬وتمثلهــا‬ ‫صــوري‪ ،‬واليقيــن العملــي أقــوى علــى التوجيــه وأقــدر‬
‫الفاســدة‪ ،‬وتطهيــر وجــدان األمــة مــن الخرافــات‪،‬‬ ‫علــى التغييــر مــن اليقيــن النظــري‪ ،‬هــذا اليقيــن الــذي ال‬
‫وربــط االعتقــاد بالعمــل‪ ،‬ويــرى الدكتــور طــه عبــد‬ ‫ينتفــع بــه ويظــل حبيــس القــول والقرطــاس»)‪.(38‬‬
‫الرحمــن أن مميــزات المنهــج العقلــي فــي الــكالم‬
‫وقــد كانــت العقائــد فــي المذاهــب والملــل القديمــة‬
‫بصفــة عامــة‪ ،‬هــي‪« :‬أنــه منهــج عملــي؛ إذ تصبــح‬
‫متجــذرة فيهــا مشــكلة الفصــل بيــن العقيــدة والعمــل‪،‬‬
‫العقالنيــة صفــة متصلــة بالقيــم الســلوكية‬
‫فلــم يكــن لتلــك العقيــدة أثــر فــي تلــك المجتمعــات؛‬
‫والخلقيــة‪ ،...‬وعليــه فالعقالنيــة الكالميــة ليســت‬
‫واســتدعى ذلــك أفــكا ًر ا وتصــورات أخــرى يطبعهــا‬
‫مجموعــة مــن المضاميــن المعرفيــة مســتقلة‬
‫النقــص والقصــور‪ ،‬ال تصلــح ألن تكــون نظامً ــا يهتــدى‬
‫بذاتهــا مميــزة ألهــل الــكالم بقــدر مــا هــي جملــة‬

‫(‪ )39‬ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ج‪ ،1 :‬ص‪.120 :‬‬ ‫(‪ )37‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪ .88 :‬بتصرف‪.‬‬
‫(‪ )40‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬دور اإلصــاح العقــدي فــي النهضــة‬ ‫(‪ )38‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬فــي أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم‪،‬‬
‫اإلســامية‪ ،‬مجلــة إســامية المعرفــة‪ ،‬العــدد األول‪ ،‬ص‪.81 :‬‬ ‫ص‪.70 :‬‬
‫‪93‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫اقتتــال األمــة الواحــدة «وبعــد مــدة مــن تحقــق وحــدة‬ ‫مــن المناهــج التــي تتســم بـ»الفعل»و»المفاعلــة»‬
‫العقيــدة والعمــل فــي أذهــان المســلمين طــرأ علــى هذه‬ ‫فــي تحصيــل المعرفــة»)‪.(41‬‬
‫الوحــدة انفصــام بــدأ خف ًّيــا ثــم اســتفحل مــع مــرور األيــام‪،‬‬
‫ومــن مظاهــر الخلــل المتمثــل فــي ضعــف الصلــة‬
‫ولعــل أول مظهــر مــن مظاهــر االنفصــام تمثــل فــي‬
‫بيــن العقيــدة والعمــل فــي واقــع األمــة اإلســامية مــا‬
‫تلــك النـــزعة التجريديــة التــي نـــزع إليهــا علــم الــكالم الــذي‬
‫يلقــاه هــذا العلــم الجليــل مــن إعــراض وتنفيــر‪ ،‬فــي حيــن‬
‫اختــص بالبحــث فــي العقيــدة اإلســامية‪ ،‬فــإذا هــو يوغــل‬
‫أن الحاجــة ماســة إلــى إحيائــه واالهتمــام بــه؛ كعامــل‬
‫فــي المباحــث العقديــة مــن وجهــة نظريــة افتراضيــة‬
‫مــن عوامــل الدفــع إلــى التحضــر‪ .‬ويــرى الدكتــور طــه‬
‫تعتمــد المحاجــة العقليــة فــي غيــر صلــة تذكــر باآلثــار التــي‬
‫عبــد الرحمــن أن عالقــة علــم الــكالم باألخــاق والســلوك‬
‫تحدثهــا العقيــدة فــي الحيــاة العمليــة»(‪ .((4‬واســتعادة‬
‫ـاء قيم ًّيــا وأن «االنفتــاح‬
‫ينبغــي أن تنطلــق مــن بنائــه بنـ ً‬
‫تلــك الوحــدة والصلــة ينبغــي أن تكــون اســتعادة شــاملة‪،‬‬
‫الكالمــي علــى الخصــوم مناســبة لتأســيس «االختيــار‬
‫معبــرة عمــا بلغــه المســلمون فــي القــرون الســالفة مــن‬
‫تأسيســا يكــون فــي مســتوى مــا أحــدث مــن‬
‫ً‬ ‫اإلســامي»‬
‫قــوة فكريــة نظريــة أثمــرت قــوة علميــة وعمليــة‪ ،‬وســارتا‬
‫تحويــل فــي البنيــات الفكريــة والمجتمعيــة لإلنســان‪ ،‬أي‬
‫جن ًبــا إلــى جنــب‪ ،‬دون تخـ ٍ‬
‫ـل عــن إحداهمــا‪ ،‬فــي اســتيعاب‬
‫يكــون مبن ًّيــا علــى المعاييــر والقيــم الجديــد التــي ابتدعهــا‬
‫شــامل لوظيفــة علــم الــكالم وغاياتــه األساســية‪.‬‬
‫هــذا التحويــل الحضــاري»)‪.(42‬‬
‫ويــرى الدكتــور عبــد المجيــد النجــار أن اإلصــاح‬
‫ورغــم أن العقيــدة اإلســامية كتــب لهــا الحفــظ‬
‫العقــدي مداخلــه ثالثــة عناصــر أساســية‪:‬‬
‫بحفــظ كتابهــا‪ ،‬وظــل المســلمون مستمســكين‬
‫أولهــا‪ :‬ترشــيد الفهــم للعقيــدة اإلســامية‬ ‫بكتابهــم وعقيدتهــم‪ ،‬غيــر أن هــذا اإليمــان فقــد إشــعاعه‬
‫ترشــيدً ا تســتقر بــه هــذه العقيــدة فــي النفــوس‬ ‫االجتماعــي‪ ،‬وتجــرد مــن فاعليتــه؛ فلــم يتجســد فــي‬
‫صحيحــة صافيــة جازمــة‪.‬‬ ‫حيــاة المجتمــع المســلم‪ ،‬باعتبــار أن عقيــدة التوحيــد‬
‫توحــد المجتمــع‪ ،‬فــي التصــورات‪ ،‬والغايــات‪ ،‬والشــعور‪،‬‬
‫وثانيهــا‪ :‬التأطيــر العقــدي الشــامل‪ ،‬بحيــث‬
‫وأنمــاط الســلوك‪ ،‬وإنمــا تعــرض المجتمــع إلــى‬
‫تكــون العقيــدة هــي المرجعيــة األساســية التــي‬
‫انقســامات شــتى‪ ،‬وأمســى جماعــات متعــددة‪ ،‬أهــدرت‬
‫ً‬
‫جميعــا‪.‬‬ ‫يصــدر عنهــا فكــر المســلم وعملــه‬
‫الكثيــر مــن قــدرات األمــة فــي ســجاالت أفضــت إلــى‬
‫والثالــث‪ :‬هــو التفعيــل اإلرادي لالعتقــاد‪ ،‬حيــث‬ ‫مواقــف عدائيــة‪ ،‬وأقحمــت األمــة فــي حــروب أهليــة‬
‫يكــون اعتقــاد المســلم مؤديًــا إلــى إرادة فاعلــة‬ ‫أهلكــت الحــرث والنســل‪ ،‬وهكــذا يضمحــل أثــر العقيــدة‬
‫تنطلــق فــي إنجــاز العمــل الصالــح)‪.(44‬‬ ‫حيــث تفــرغ مــن محتواهــا االجتماعــي‪ ،‬فــا تحــول دون‬

‫(‪ )43‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬دور اإلصــاح العقــدي فــي النهضــة‬ ‫(‪ )41‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬فــي أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم‪،‬‬
‫اإلســامية‪ ،‬مجلــة إســامية المعرفــة‪ ،‬العــدد األول‪ ،‬ص‪.75 :‬‬ ‫ص‪.157 :‬‬
‫(‪ )44‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬دور اإلصــاح العقــدي فــي النهضــة‬ ‫(‪ )42‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬فــي أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم‪،‬‬
‫اإلســامية‪ ،‬مجلــة إســامية المعرفــة‪ ،‬العــدد األول‪ ،‬ص‪.58 :‬‬ ‫ص‪.158 :‬‬
‫العدد ‪ |10‬صيف ‪ ٢٠٢٠‬م‬ ‫دورية مناء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬ ‫‪94‬‬

‫والصفــات هــو أنهــا تقابــل وتشــمل حركــة اإلنســان‬ ‫ومــن مظاهــر الفصــل واالنفصــام الــذي ألمعنــا‬
‫جميعــا مــن غيــر اســتثناء ليتعلــق اإلنســان بهــا فــي‬ ‫إليــه مــا هــو حاصــل فــي منهــج التعامــل مــع األســماء‬
‫جميــع حاالتــه التــي تعــرض لــه فــي واقعــه ودنيــاه‪.‬‬ ‫والصفــات وفصلهــا عــن ســياقها الــذي وردت فيــه‬
‫وعرضهــا فــي ســياق الجــدل الكالمــي‪ ،‬مــن خــال‬
‫وممــا أثــر التأثيــر الســلبي علــى هــذه العالقــة‬
‫شــبهات الفــرق واالقتصــار علــى ذلــك‪ ،‬وقــد كان‬
‫االهتمــام بالمتشــابه واإلفــراط في اســتخراج المعاني‪،‬‬
‫الصحابــة فــي التعامــل مــع النصــوص يتوجهــون إلــى‬
‫وتحميــل النصــوص مــا ال تحتملهــا؛ حتــى صــارت‬
‫المعانــي العمليــة دون الجــدل فــي المعانــي النظريــة‬
‫الواضحــات متشــابهات‪ ،‬فتغيــر األمــر مــن االهتمــام‬
‫فــإذا ســمعوا مثـ ًلا حديــث النــزول‪ ،‬ســارعوا إلى الســؤال‬
‫بالعمــل إلــى التعلــق بالمعانــي‪ ،‬قــال العالمــة ابــن‬
‫والدعــاء‪ ،‬وإن ســمعوا أن هللا يبســط يــده للتائــب‪ ،‬لــم‬
‫عاشــور‪« :‬وكان الســلف فــي القــرن األول ومنتصــف‬
‫ينشــغلوا بكيفيــة البســط؛ بــل بــادروا إلــى التوبــة‪ ،‬وقــد‬
‫القــرن الثانــي يمســكون عــن هــذه المتشــابهات؛ لمــا‬
‫أشــار الجوينــي (ت ‪478‬ه) إلــى منهــج الصحايــة هــذا‬
‫رأوا فــي ذلــك اإلمســاك مــن مصلحــة االشــتغال‬
‫بقولــه‪« :‬وقــد درج صحــب الرســول ﷺ ورضــي عنهــم‬
‫بإقامــة األعمــال التــي هــي مــراد الشــرع مــن النــاس»)‪.(46‬‬
‫علــى تــرك التعــرض لمعانيهــا ودرك مــا فيهــا وهــم‬
‫صفــوة اإلســام والمســتقلون بأعبــاء الشــريعة»)‪.(45‬‬
‫خاتمة‬
‫فــا بــد مــن إعادة صلتنا بأســماء هللا الحســنى‬
‫نخلــص ممــا ســبق إلــى أن الرؤيــة التجديديــة لعلــم‬
‫وصفاتــه إلــى وضعهــا الصحيــح؛ فمناهــج بعــض‬
‫الــكالم مــن أهــم ســماتها العمــوم والشــمول الــذي‬
‫البحــوث فــي االشــتغال بالصفــات يثبــت الشــك‬
‫يحقــق مقاصــد التجديــد وغاياتــه األساســية ومن شــأنها‬
‫ويفســد اليقيــن‪ ،‬أكثــر ممــا يرســخ اإليمــان بتلــك‬
‫إعــادة بعــث وإحيــاء علــم الــكالم ليكــون إحــدى ركائــز البنــاء‬
‫الصفــات والترغيــب فــي تأملهــا‪.‬‬
‫الحضــاري اإلســامي المنشــود‪ ،‬برســم مــا ينبغــي أن‬
‫يكــون عليــه علــم الــكالم فــي مختلــف المجــاالت‪.‬‬ ‫ومــن أهــم أســباب ضمــور فاعليــة العقيــدة فــي‬
‫نفــوس المســلمين التعامــل المغلــوط مــع أســماء‬
‫ومــن أشــد مــا ضــر بأمــر التجديــد عامــة والتجديــد‬
‫هللا الحســنى‪ ،‬فــا بــد مــن إعــادة صلتنــا بأســماء هللا‬
‫الكالمــي خاصــة الــرؤى الجزئيــة التــي تقتصــر علــى االهتمــام‬
‫الحســنى وصفاتــه وتأمــل آثارهــا فــي حياتنــا‪ ،‬بــد ًلا مــن‬
‫بجانــب دون آخــر‪ ،‬وقــد حاولنــا عــرض بعــض مــا يمكــن أن‬
‫جــدل المتكلميــن العقيــم الذي دار حول الطرف المقابل‬
‫يتجــاوز بــه ذلــك إســهامً ا فــي التأســيس لهــذه الرؤيــة‪ ،‬وكل‬
‫مــن هــذه المعادلــة وهــو عالقــة الــذات بالصفــات‪ ،‬الــذي‬
‫مدخــل مــن تلــك المداخــل بحاجــة إلى دراســات مســتفيضة‬
‫ال نملــك أداة البحــث عــن كثيــر مــن تفاصيلهــا ألنهــا مــن‬
‫تحقــق مقاصــده العامــة والخاصــة‪ ،‬وتتوخــى طرائــق تنزيلــه‬
‫أمــور عالــم الغيــب‪ ،‬إن ســر التنــوع والتعــدد فــي األســماء‬
‫والخــروج مــن الحيــز النظــري إلــى الحيــز التطبيقــي‪.‬‬
‫(‪ )45‬الجوينــي‪ ،‬العقيــدة النظاميــة فــي األركان اإلســامية‪،‬‬
‫(‪ )46‬ابن عاشور‪ ،‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬ج‪ ،1 :‬ص‪.197 :‬‬ ‫تحقيــق وتقديــم‪ :‬أحمــد حجــازي الســقا‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪95‬‬ ‫مالكلا ديدجتلا لخادم‬

‫‪9 .9‬الجوينــي‪ ،‬العقيــدة النظاميــة فــي األركان اإلســامية‪،‬‬ ‫وهــي مداخــل غيــر كافيــة وحدهــا مــا لــم يضــف‬
‫تحقيــق وتقديــم‪ :‬أحمــد حجــازي الســقا‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬الناشــر‪:‬‬
‫مكتبــة الكليــات األزهريــة‪ ،‬ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪1978 :‬م‪.‬‬
‫إليهــا مــا يشــترط فــي التجديــد والمجــدد ممــا‬

‫‪1010‬طــاش كبــرى زادة‪ ،‬مفتــاح الســعادة‪ ،‬ومصبــاح الســيادة‪،‬‬


‫هــو معلــوم‪ ،‬كــي تكــون الرؤيــة ســديدة وتكــون‬
‫بيــروت‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار الكتــب العلميــة‪ ،‬تاريــخ النشــر‪1985 :‬م‪.‬‬ ‫المعالــم علــى بينــة وبصيــرة‪ ،‬وتتبــع الرؤيــة النظريــة‬
‫‪1111‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬فــي أصــول الحــوار وتجديــد علــم الــكالم‪ ،‬الــدار‬ ‫بالتطبيــق‪ ،‬عبــر مختلــف المنافــذ والوســائل‪،‬‬
‫البيضــاء‪ ،‬المركــز الثقافــي العربــي‪ ،‬ط‪ :‬الثانيــة‪ ،‬تاريــخ النشــر‪2000 :‬م‪.‬‬
‫بمســؤولية مشــتركة يتحملهــا الجميــع كل حســب‬
‫‪1212‬طــه عبــد الرحمــن‪ ،‬تجديــد المنهــج فــي تقويــم التــراث‪ ،‬الــدار‬ ‫موقعــه ومــا آتــاه هللا مــن األمــر والعلــم والحكمــة‪.‬‬
‫البيضــاء ‪ -‬بيــروت‪ ،‬المركــز الثقافــي العربــي‪ ،‬ط‪ :‬الثانيــة‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪1313‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬دور اإلصــاح العقــدي فــي النهضــة‬ ‫والحمــد للــه رب العالميــن‪ ،‬وصلــى هللا علــى‬
‫اإلســامية‪ ،‬مجلــة إســامية المعرفــة‪ ،‬العــدد األول‪.‬‬
‫النبــي األميــن‪.‬‬
‫فهمــا وتنزيــ ًلا‪ ،‬الناشــر‪:‬‬
‫ً‬ ‫‪1414‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬فقــه التديــن‬
‫الزيتونــة للنشــر والتوزيــع‪ ،‬ط‪ :‬الثانيــة‪ ،‬تاريــخ النشــر‪1995 :‬م‪.‬‬
‫مصادر ومراجع البحث‬
‫‪1515‬عبــد المجيــد النجــار‪ ،‬مجلــة إســامية المعرفــة‪ ،‬دور‬
‫اإلصــاح العقــدي فــي النهضــة اإلســامية‪ ،‬العــدد األول‪.‬‬ ‫‪1 .1‬ابــن خلــدون‪ ،‬المقدمــة‪ ،‬تحقيــق‪ :‬درويــش الجويــدي‪ ،‬بيــروت‪،‬‬
‫الناشــر‪ :‬المكتبــة العصريــة‪ ،‬ط‪ :‬الثانيــة‪ ،‬تاريــخ النشــر‪2000 :‬م‪.‬‬
‫‪1616‬علــي الطنطــاوي‪ ،‬فصــول إســامية‪ ،‬جــدة‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار‬
‫المنــارة للنشــر والتوزيــع‪ ،‬ط‪ :‬الخامســة‪ ،‬تاريــخ النشــر‪2004 :‬م‪.‬‬ ‫‪2 .2‬ابــن خميــر الســبتي‪ ،‬مقدمــات المراشــد إلــى علــم العقائــد‬
‫فــي دفــع شــبهات المبطليــن والملحديــن‪ ،‬ضبــط وتحقيق‪:‬‬
‫‪1717‬علــي عبــد الفتــاح المغربــي‪ ،‬الفــرق الكالميــة اإلســامية‬
‫أحمــد عبدالرحيــم الســايح ‪ -‬توفيــق علــي وهبــة‪ ،‬القاهــرة‪،‬‬
‫مدخــل ودراســة‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬الناشــر‪ :‬مكتبــة وهبــة‪ ،‬ط‪:‬‬
‫الناشــر‪ :‬مكتبــة الثقافــة الدينيــة‪ ،‬ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪:‬‬
‫الثانيــة‪ ،‬تاريــخ النشــر‪1415 :‬هـــ‪1995/‬م‪.‬‬
‫‪1429‬هـ‪2008/‬م‪.‬‬
‫‪1818‬محمــد الكتانــي‪ ،‬جــدل العقــل والنقــل فــي مناهــج التفكيــر‬
‫‪3 .3‬ابــن عاشــور‪ ،‬تفســير التحريــر والتنويــر‪ ،‬بيــروت‪ ،‬الناشــر‪:‬‬
‫اإلســامي‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار الثقافــة‪ ،‬ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪:‬‬
‫مؤسســة الرســالة‪ ،‬ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪2000 :‬م‪.‬‬
‫‪1412‬هـ‪1992/‬م‪.‬‬
‫‪4 .4‬أبــو الحجــاج المكالتــي‪ ،‬لبــاب العقــول فــي الــرد على الفالســفة‬
‫‪1919‬محمــد بنشــريفة‪ ،‬ابــن خميــر الســبتي وآثــاره‪ ،‬مجلــة دار‬
‫فــي علــم األصــول‪ ،‬تحقيــق‪ :‬فوقيــة حســن محمــود‪ ،‬القاهــرة‪،‬‬
‫الحديــث الحســنية‪ ،‬عــدد‪.10 :‬‬
‫الناشــر‪ :‬دار األنصــار‪ ،‬ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪1977 :‬م‪.‬‬
‫‪2020‬محمــد خيــر العمــري‪ ،‬المجلــة األردنيــة فــي الدراســات‬
‫‪5 .5‬أبــو الوفــاء الغنيمــي التفتازانــي‪ ،‬علــم الــكالم وبعــض‬
‫اإلســامية‪ ،‬بحــث بعنــوان‪“ :‬علــم الــكالم بيــن األصالــة‬
‫مشــكالته‪ ،‬القاهــرة‪ ،‬الناشــر‪ :‬دار الثقافــة والنشــر والتوزيــع‪،‬‬
‫والتجديــد”‪ ،‬ج‪ ،5 :‬عــدد‪.3 :‬‬
‫تاريــخ النشــر‪1991 :‬م‪.‬‬
‫‪2121‬محمــد هشــام ســلطان‪ ،‬العقيــدة والفكــر اإلســامي‪،‬‬
‫‪6 .6‬أبــو حامــد الغزالــي‪ ،‬المنقــذ مــن الضــال‪ ،‬تحقيــق‪ :‬محمــد‬
‫الناشــر‪ :‬دار األمــان‪ ،‬ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪1407 :‬هـــ‪1987/‬م‪.‬‬
‫محمــد جابــر‪ ،‬بيــروت‪ ،‬الناشــر‪ :‬المكتبــة الثقافيــة (د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪2222‬يوســف الضريــر‪ ،‬التنبيــه واإلرشــاد فــي علــم االعتقــاد‪،‬‬
‫‪7 .7‬اإليجــي‪ ،‬المواقــف‪ ،‬تحقيــق‪ :‬عبــد الرحمــن عميــرة‪ ،‬بيــروت‪،‬‬
‫تحقيــق‪ :‬ســمير قوبيــع‪ ،‬محمــد العمرانــي‪ ،‬نــور الديــن‬
‫الناشــر‪ :‬دار الجيــل‪ ،‬ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪1997 :‬م‪.‬‬
‫شــعيبي‪ ،‬المغــرب‪ ،‬منشــورات وزارة األوقــاف والشــؤون‬
‫اإلســامية‪ ،‬ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪1435 :‬هـــ‪2016/‬م‪.‬‬ ‫‪8 .8‬جمــال عــال البختــي‪ ،‬الســالجي ومذهبيتــه األشــعرية‪،‬‬
‫المغرب‪ ،‬منشــورات وزارة األوقاف والشــؤون اإلســامية‪،‬‬
‫ط‪ :‬األولــى‪ ،‬تاريــخ النشــر‪2005 :‬م‪.‬‬

You might also like