You are on page 1of 3

‫عباد هللا‪ :‬إن حب الوطن غريزة فطرية في اإلنسان‪ ،‬وما من إنسان إال ويعتز بوطنه؛ ألنه مهد‬

‫صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته‪ ،‬وملجأ كهولته‪ ،‬ومنبع ذكرياته‪ ،‬وموطن آبائه وأجداده‪،‬‬
‫ومأوى أبنائه وأحفاده‪ ،‬حتى الحيوانات ال ترضى بغير وطنها بديالً‪ ،‬ومن أجله تضحي بكل غا ٍل‬
‫ونفيس‪ ،‬والطيور تعيش في عشها في سعادة وال ترضى بغيره ولو كان من حرير‪ ،‬والسمك يقطع‬
‫آالف األميال متنقالً عبر البحار والمحيطات ثم يعود إلى وطنه‪ ،‬وهذه النملة الصغيرة تخرج من‬
‫بيتها ووطنها فتقطع الفيافي والقفار وتصعد على الصخور وتمشي على الرمال تبحث عن‬
‫رزقها‪ ،‬ثم تعود إلى بيتها‪ ،‬بل إن بعض المخلوقات‪ Z‬إذا تم نقلها عن موطنها األصلي فإنها تموت‪،‬‬
‫ولذا يقول األصمعي‪ ”:‬ثالث خصال في ثالثة أصناف من الحيوانات‪ :‬اإلبل تحن إلى أوطانها‬
‫وإن كان عهدها بها بعيدًا‪ ،‬والطير إلى وكره وإن كان موضعه مجدبًا‪ ،‬واإلنسان إلى وطنه وإن‬
‫كان غيره أكثر نفعًا”‪ .‬وقد روي في ذلك أن مالك بن فهم خرج من السراة ( بلدة بالحجاز)‪ Z‬يريد‬
‫عمان‪ ،‬قد توسط الطريق‪ ،‬حنت إبله إلى مراعيها‪ ،‬وقبلت تلتفت إلى نحو السراة وتردد الحنين؛‬
‫‪:‬فقال مالك في ذلك‬
‫تحن إلى أوطانهـــــــــــا إبل مالك … ومن دونهــــــــــــــــــا عرض الفال والدكادك‬
‫وفي كل أرض للفتى متقـــــــــــــــلب … ولست بدار الذل طوعا برامـــــــــــــــــــــــــــك‬
‫ستغنيك عن أرض الحجاز مشارب … رحاب النواحي واضحات المسالك‬
‫فإذا كانت هذه سنة هللا في المخلوقات فقد جعلها هللا في فطرة اإلنسان‪ ،‬وإال فما الذي يجعل‪ ‬‬
‫اإلنسان الذي يعيش في المناطق شديدة الحرارة‪ Z،‬والتي قد تصل إلى ستين درجة فوق الصفر‪،‬‬
‫وذلك الذي يعيش في القطب المتجمد الشمالي تحت البرد القارص‪ ،‬أو ذلك الذي يعيش في‬
‫الغابات‪ Z‬واألدغال يعاني من مخاطر الحياة كل يوم‪ ،‬ما الذي جعلهم يتحملون كل ذلك إال حبهم‬
‫!!لوطنهم وديارهم؟‬
‫لذلك كان من حق الوطن علينا أن نحبه؛ وهذا ما أعلنه النبي صلى هللا عليه وسلم وهو يترك مكة‬
‫صلَّى هَّللا ُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم وهو واقف على‬‫تر ًكا مؤقتًا؛ فعن عبد هللا بن عدي أنه سمع رسول هللا َ‬
‫ض هللاِ ِإلًى هللاِ‪َ ،‬ولَ ْوالَ أنِّي‬
‫رض هللاِ َوأ َحبُّ أرْ ِ‬
‫ِ‬ ‫“وهللا ِإنَّك لَ َخ ْي ُر َأ‬
‫بالح ْز َو َرة ِم ْن َم َّكةَ يَقُول‪َ :‬‬
‫راحلته َ‬
‫ت” ( الترمذي وحسنه)؛ فما أرو َعها من كلمات! كلمات قالها الحبيب‬ ‫ك َما َ َخ َرجْ ُ‬ ‫ت ِم ْن ِ‬ ‫ْ‬
‫أخ ِرجْ ُ‪Z‬‬
‫ق؛ وتعلُّق كبير‬ ‫صلى هللا عليه وسلم وهو يودِّع وطنه‪ ،‬إنها تكشف عن حبٍّ عميق‪ ،‬وانتما ٍء صاد ٍ‬
‫وح َرمها‪ ،‬بجبالها ووديانها‪ ،‬برملها وصخورها‪ ،‬بمائها وهوائها‪،‬‬ ‫بالوطن‪ ،‬بمكة المكرمة‪ ،‬بحلِّها َ‬
‫هواؤها عليل ولو كان مح َّماًل بالغبار‪ ،‬وماؤها زالل ولو خالطه األكدار‪ ،‬وتربتُها دواء ولو كانت‬
‫‪.‬قفارًا‬
‫ٌ‬
‫ذكريات ال تُنسى‪ ،‬فالوطن‬ ‫إنها األرض التي ولد فيها‪ ،‬ونشأ فيها‪ ،‬وشبَّ فيها‪ ،‬وتز َّوج فيها‪ ،‬فيها‬
‫ذاكرة اإلنسان‪ ،‬فيها األحباب واألصحاب‪ Z،‬فيها اآلباء واألجداد‪ .‬قال الغزالي‪“ :‬والبشر يألَفُون‬
‫مستوح ًشا‪ ،‬وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس‪ ،‬تجعل‬ ‫َ‬ ‫ضهم على ما بها‪ ،‬ولو كانت قفرًا‬ ‫أر َ‬
‫وجم‪ ،‬ويَغضب له إذا‬‫ويحن إليه إذا غاب عنه‪ ،‬ويدافع عنه إذا هُ ِ‬‫ُّ‬ ‫اإلنسان يستريح إلى البقاء فيه‪،‬‬
‫َ‬
‫‪”.‬انتقص‬
‫وها هو الخليل ابراهيم عليه السالم حين ترك زوجته هاجر وابنه اسماعيل عليه السالم فى مكة‬
‫المكرمة وهى واد قاحل غير ذى زرع دعا ربه أن ييسر لهم أسباب االستقرار ووسائل عمارة‬
‫نت ِمن ُذرِّ يَّتِي بِ َوا ٍد َغي ِْر ِذي‬ ‫ان ِإب َْرا ِهي َم ‪َ -‬علَ ْي ِه ال َّسالَ ِم‪َّ {:-‬ربَّنَا ِإنِّي َأ ْس َك ُ‬‫ال تَ َعالَى َعلَى لِ َس ِ‬ ‫الديار ؛ فقَ َ‬
‫اس تَه ِْوي ِإلَ ْي ِه ْم َوارْ ُز ْقهُم ِّم َن‬ ‫صالَةَ فَاجْ َعلْ َأ ْفِئ َدةً ِّم َن النَّ ِ‬ ‫ك ْال ُم َحر َِّم َربَّنَا لِيُقِي ُم ْ‬
‫وا ال َّ‬ ‫َزرْ ٍ‬
‫ع ِعن َد بَيتِ َ‬
‫حن إلى وطنه بعد أن‬ ‫ُون}( إبراهيم‪ )37 :‬وهذا كليم هللا موسى عليه السالم ّ‬ ‫ت لَ َعلَّهُ ْم يَ ْش ُكر َ‬‫الثَّ َم َرا ِ‬
‫ور نَاراً‬
‫الط ِ‬ ‫ب ُّ‬ ‫س ِمن َجانِ ِ‬ ‫ار بَِأ ْهلِ ِه آنَ َ‬
‫ضى ُمو َسى اَأْل َج َل َو َس َ‬ ‫خرج منها مجبراً؛ قال تعالى‪{ :‬فَلَ َّما قَ َ‬
‫ون}‪.‬‬ ‫ْت نَاراً لَّ َعلِّي آتِي ُكم ِّم ْنهَا بِ َخبَ ٍر َأ ْو َج ْذ َو ٍة ِم َن النَّ ِ‬
‫ار لَ َعلَّ ُك ْم تَصْ طَلُ َ‬ ‫قَا َل َأِل ْهلِ ِه ا ْم ُكثُوا ِإنِّي آنَس ُ‬
‫(القصص‪)29 :‬؛ قال ابن العربي في أحكام القرآن‪ ” :‬قال علماؤنا‪ :‬لما قضى موسى األجل طلب‬
‫وحن إلى وطنه وفي الرجوع إلى األوطان تقتحم األغرار وتركب األخطار‬ ‫ّ‬ ‫الرجوع إلى أهله‬
‫‪”.‬وتعلل الخواطر‪ .‬ويقول‪ :‬لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة‬
‫وها هو رسولنا صلى هللا عليه وسلم كما في صحيح البخاري‪ :‬لما أخبر ورقة بن نوفل رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم أن قومه ـ وهم قريش ـ مخرجوه من مكة‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫ي هم؟!) قال‪ :‬نعم‪ ،‬لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إال عودي‪ ،‬وإن يدركني‬ ‫مخرج َّ‬
‫ِ‬ ‫وسلم‪( :‬أ َو‬
‫يومك أنصرك نصرا مؤ َّزرا‪ .‬قال السهيلي رحمه هللا‪“ :‬يؤخذ منه ش ّدة مفارقة الوطن على النفس؛‬
‫فإنّه صلى هللا عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك‪ ،‬فلما‬
‫!ذكر له اإلخراج تحرّكت نفسه لحبّ الوطن وإلفه‪ ،‬فقال‪( :‬أ َومخر ِج َّ‬
‫ي هم؟‬
‫قال الحافظ الذهبي ‪ :‬وهو من العلماء المدقِّقين – ُم َع ِّددًا طائفةً من محبوبات رسول هللا – صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ” :-‬وكان يحبُّ عائشةَ‪ ،‬ويحبُّ َأبَاهَا‪ Z،‬ويحبُّ أسامةَ‪ ،‬ويحب سبطَيْه‪ ،‬ويحب الحلواء‪Z‬‬
‫‪”.‬والعسل‪ ،‬ويحب جبل ُأ ُح ٍد‪ ،‬ويحب وطنه‬
‫ولتعلق النبي – صلى هللا عليه وسلم – بوطنه الذي نشأ وترعرع فيه ووفائه له وانتمائه إليه؛ دعا‬
‫ربه لما وصل المدينة أن يغرس فيه حبها فقال‪ ” :‬اللهم حبِّبْ إلينا المدينةَ ك ُحبِّنا مكةَ أو أش َّد”‪.‬‬
‫(البخاري ومسلم‪).‬‬
‫وقد استجاب هللا دعاءه‪ ،‬فكان يحبُّ المدينة حبًّا عظي ًما‪ ،‬وكان يُسرُّ عندما يرى معالِ َمها التي تدلُّ‬
‫على قرب وصوله إليها؛ فعن أنس بن مالك رضي هللا تعالى عنه قال‪“ :‬كان رسول هللا إذا قدم من‬
‫سفر‪ ،‬فأبصر درجات المدينة‪ ،‬أوضع ناقتَه – أي‪ :‬أسرع بها – وإن كانت دابة ح َّر َكها”‪ ،‬قال أبو‬ ‫ٍ‬
‫عبدهللا‪ :‬زاد الحارث بن عمير عن حميد‪“ :‬حركها من حبِّها”‪( .‬البخاري‪).‬‬
‫ومع كل هذا الحب‪ Z‬للمدينة لم يستطع أن ينسى حب مكة لحظة واحدة؛ ألن نفسه وعقله وخاطره‬
‫في شغل دائم وتفكير مستمر في حبها؛ فقد أخرج األزرقي في “أخبار مكة” عن ابن شهاب قال‪:‬‬
‫قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب‪ Z‬على أزواج النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬فدخل على‬
‫عائشة ‪-‬رضي هللا عنها‪ -‬فقالت له‪ :‬يا أصيل‪ :‬كيف عهدت مكة؟! قال‪ :‬عهدتها قد أخصب جنابها‪،‬‬
‫وابيضت بطحاؤها‪ ،‬قالت‪ :‬أقم حتى يأتيك النبي‪ ،‬فلم يلبث أن دخل النبي‪ ،‬فقال له‪“ :‬يا أصيل‪:‬‬
‫كيف عهدت مكة؟!”‪ ،‬قال‪ :‬وهللا عهدتها قد أخصب جنابها‪ ،‬وابيضت بطحاؤها‪ ،‬وأغدق إذخرها‪،‬‬
‫وأسلت ثمامها‪ ،‬فقال‪“ :‬حسبك ‪-‬يا أصيل‪ -‬ال تحزنا”‪ .‬وفي رواية أخرى قال‪“ :‬ويها يا أصيل! دع‬
‫‪”.‬القلوب تقر قرارها‬
‫أرأيت كيف عبر النبي الكريم محمد ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬عن حبه وهيامه وحنينه إلى وطنه‬
‫بقوله‪“ :‬يا أصيل‪ :‬دع القلوب تقر”‪ ،‬فإن ذكر بلده الحبيب ‪-‬الذي ولد فيه‪ ،‬ونشأ تحت سمائه وفوق‬
‫أرضه‪ ،‬وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه‪ -‬أمامه يثير لواعج شوقه‪ ،‬ويذكي جمرة حنينه إلى‬
‫!!موطنه الحبيب األثير العزيز‬
‫أرأيت كيف أن الصحابة المهاجرين ‪-‬رضوان هللا عليهم أجمعين‪ -‬كانوا يحاولون تخفيف حدة‬
‫شوقهم وإطفاء لظى حنينهم إلى وطنهم باألبيات الرقيقة المرققة التي تذكرهم بمعالم وطنهم من‬
‫الوديان والموارد والجبال! ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس‪ ،‬صعبًا عليها‪ ،‬فقد كان‬
‫من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل هللا‪ ،‬فللمهاجرين على األنصار أفضلية‬
‫ترك الوطن‪ ،‬ما يدل على أن ترك الوطن ليس باألمر السهل على النفس‪ ،‬وقد مدحهم هللا سبحانه‬
‫يار ِه ْم َوَأ ْم َوالِ ِه ْم يَ ْبتَ ُغ َ‬ ‫ين الَّ ِذ َ ُأ‬ ‫على ذلك فقال تعالى‪{ :‬لِ ْلفُقَ َرا ِء ْال ُمهَ ِ‬
‫ون فَضْ الً ِم ْن‬ ‫ين ْخ ِرجُوا ِم ْن ِد ِ‬ ‫اج ِر َ‬
‫ون}‪[ .‬الحشر‪]8 :‬‬ ‫ك هُ ْم الصَّا ِدقُ َ‬ ‫ُون هَّللا َ َو َرسُولَهُ ُأ ْولَِئ َ‬
‫صر َ‬ ‫‪.‬هَّللا ِ َو ِرضْ َوانا ً َويَ ْن ُ‬
‫أيها المسلمون‪ :‬إن تراب الوطن الذي نعيش عليه له الفضل‪ Z‬علينا في جميع مجاالت حياتنا‬
‫االقتصادية والصناعية والزراعية والتجارية؛ بل إن الرسول – صلى هللا عليه وسلم – كان‬
‫يستخدم تراب وطنه في الرقية والعالج؛ فعن عائشة رضي هللا عنها‪ :‬أن النبي صلى هللا عليه‬
‫وريقَةُ بَ ْع ِ‬
‫ضنا‪ ،‬يَ ْشفَى سقي ُمنا بإذن ربنا”‪.‬‬ ‫وسلم كان يقول في الرقية‪ ” :‬باسم هللا‪ ،‬تُرْ بَةُ َأرْ ِ‬
‫ضنا‪ِ ،‬‬
‫( البخاري ومسلم‪).‬‬
‫ُشف‬
‫والشفاء في شم المحبوب‪ ،‬ومن ألوان الدواء لقا ُء المحبِّ محبوبَه أو أثرًا من آثاره!! ألم ي َ‬
‫يوسف؟! قال الجاحظ‪ ” :‬كانت العرب إذا‬
‫َ‬ ‫قميص‬
‫َ‬ ‫يعقوبُ ويعود إليه بصره عندما ألقَ ْوا عليه‬
‫حملت معها من تُربة بلدها رمالً وعفراً تستنشقه عند ْ‬
‫نزل ٍة أو زكام أو‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وسافرت‬ ‫ْ‬
‫غزت‬
‫صُداع‪(”.‬الرسائل)‪ .‬وهكذا يظهر لنا بجالء فضيلة وأهمية حب الوطن واالنتماء والحنين إليه في‬
‫‪.‬اإلسالم‬

You might also like