You are on page 1of 104

‫الفصل الثاين‬

‫(قصَ^ َل ر ِ َّب ‪c e‬حكُم بِ‪e‬ل‪c‬ح ِ ّ <‬


‫َق وَ رَبنُّ َا‬
‫‪e‬رلَّ ‪c‬ح َم^ ُن ‪e‬ل‪c‬مُ ‪c‬ستَعَا ُن ع ىََل مَا صَ ِتفُو نَ)‬ ‫ق ُصُ ورُال َعق ِْل‬
‫دحاةث أم سفاد؟‬
‫اجهتاد أم مزنلق؟‬
‫باإلمكـان تلخيص هـذا الفصل‪ ،‬أو حتـى هذا الكتـاب يف العبارة اآلتـية‪ :‬هم‪ ،‬أي الغـربيون ومـن تبعهم من‬
‫(رَب ‪e‬ح‪ c‬كُ م بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)‪ .‬فآخر‬
‫ِّ‬ ‫الديمقراطيني والعلامنيني يقـولون‪X :‬نحن نحكم بالعقل‪ .Z‬أما نحن املـسلمون فنقول‪:‬‬
‫ُـستَعَا ُن عَ لَى مَـا ت َِصفُونَ)‪ .‬أي‬
‫رَب ‪e‬ح‪ c‬كُ م بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق وَ رَ بُّـنَا ‪e‬لرهَّ ح‪ c‬مَ^نُ ‪e‬ل‪c‬م ‪c‬‬
‫َ^ل ِّ‬
‫آيـة يف سورة األنـبياء هـي قوله تعـاىل‪( :‬ق َ‬
‫وكأنني أقـول أن العقل خمتلف عن احلق‪ .‬فهـل يعقل أال يكون هنـاك لقاء أو حتـى أن هناك تـضاد بني احلق والعقل؟‬
‫اإلجابة عىل هذا السؤال هي حمور هذا الفصل‪.‬‬

‫ال‪ ،‬حكـم بغري ما أنـزل اهلل عز وجل؛‬


‫إن كـان القذف بـالغيب من مكـان بعيد‪ ،‬كـالتخطـيط االقتصـادي مث ً‬
‫وهـو إنكار لتوحيـد األلوهية‪ ،‬فام هو حـكم تدريس علم االقتصـاد‪ ،‬والعمل به؟ وملاذا هذا السـؤال؟ قبل البدء البد‬
‫من تـوضيح أن العلم بـالنسبـة للحقوق نـوعني‪ :‬األول هو الـذي ال يؤثـر مبارشة يف مـقصوصـة احلقوق‪ ،‬مـثل العلوم‬
‫البحتة كالرياضيات والفيزياء أو العلوم التقنيـة كدراسة تطوير وسائل اإلنتاج؛ والثاين هو الذي يؤثر يف مقصوصة‬
‫احلقـوق مبـارشة ويغريهـا للحكم بغـري ما أنـزل اهلل‪ ،‬وهذا يـشمل معظـم العلوم اإلنـسانـية مـثل القانـون واالقتـصاد‬
‫ال أن الـدولة سـتتمكـن من دفع النـمو‬
‫واإلدارة والـسيـاسة والـتنمـية والـتخطيـط‪ .‬فإن وجـد من بحـث اقتصـادي مث ً‬
‫االقتصـادي بنسبة كذا إن هي اقرتضت أمواالً من النـاس بإصدار سندات بفوائد ربويـة بنسبة كذا ثم شيدت بذلك‬
‫املال سـد ًا جلمع ماء هنـر للتحكم يف رصفه لـزيادة اإلنتـاج الزراعي‪ ،‬فهل إن أقـدمت عىل مرشوع كهـذا قد حكمت‬
‫بغـري ما أنـزل اهلل؟ ذلك ألن يف االقـرتاض بفوائـد ربويـة عمل بام حـرمه اهلل‪ ،‬ويف بنـاء السـد نزع لـبعض امللكـيات‬
‫اخلاصـة ملن يسكنـون يف املوقع املقـرتح إنشاء الـسد عليه‪ ،‬وهـذا كام سنرى بـإذن اهلل ال جيوز رشعاً‪ .‬تـوضيح آخر‪:‬‬
‫هـناك فرق بني تعلم وتطويـر علم ما‪ ،‬وبني توظيف ذلك العلـم‪ .‬فقد يتعلم طالب االقتصـاد أساليب استثامر األموال‬
‫ال‪ ،‬إال أنه عند خترجه قد ال جيد‬
‫بطريقة ال خترج عن الرشيعة‪ ،‬أي قد يتمكـن من تاليف التعامل بالفوائد الربوية مث ً‬
‫مفر ًا من التلطخ بالفوائد يف عمله ألن منظومـة املجتمع تفرض عليه ذلك‪ .‬وهذا مأزق وقع فيه املسلمون‪ ،‬ألن معظم‬
‫العلوم‪ ،‬حتى التقنيـة منها‪ ،‬اجتهت يف تقدمها البحـثي خلدمة جمتمع حيكم بغري ما أنـزل اهلل‪ ،‬وعند أخذنا هلذه العلوم‪،‬‬
‫ولتأثرنا هبا أوجدنا جمتمعات معظمها حكم بغري ما أنزل اهلل‪ ،‬والنادر منها يقرتب من احلكم بام أنزل اهلل‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪46‬‬

‫إن الذين حيكمون بغري ما أنزل اهلل دون علمهم كثري‪ ،‬وذلك ألهنم يطبقون يف أعامهلم علوماً ُخترج عن امللة‬
‫بالرضورة‪ ،‬فهل األخـذ هبذه العلوم كفـر؟ أخي‪ :‬من أنا ألكفر هـذا أو ذاك؟ ولكن فقط لرتى عظم االشـكالية التي‬
‫ال‪،‬‬
‫نحن هبا كـأمة‪ ،‬سأختار علم التخطيط كمثال‪ ،‬ألنه ختصص يعـتمد عىل التنبؤ بام يمكن أن حيدث للعمران مستقب ً‬
‫ومن ثم خيطـط له املخططون‪ ،‬وكذلـك العلوم اإلنسانيـة األخرى‪ ،‬فإن كان األخـذ بالتخطيط عىل حـساب الرشيعة‬
‫كفـر‪ ،‬فمـن األجدر أن يكـون العمـل بالعلـوم اإلنسـانيـة األخرى كـالقانـون واالقتـصاد والـتنميـة التي تـنظم حـياة‬
‫املسـلمني أيضاً كفـر ألنه حكم بغري ما أنـزل اهلل‪ 1.‬ذلك ألن املعطيات الـواقعية مـن املدينة وبـالتايل املعلـومات التي‬
‫ال‪ ،‬وليس كباقي العلوم التي جتد‬
‫تبنى عليها التحليالت تضع علم التخطيط يف موقع أفضل للتنبؤ بام سيحدث مستقب ً‬
‫نفسها يف موقع البد هلا فيه من االتكال عىل كثري من املعلومات التي قد ختطئ مثل علم االقتصاد‪.‬‬

‫وبناء عىل دراسات مستفيضة‪ ،‬وبعـد مجع معلومات وبالرجوع لنظـريات حديثة يف التخطيط‪،‬‬
‫ً‬ ‫إن املخطـطني‬
‫وما إىل ذلك مـن أدوات وأفكار تـبهر العقـول خيططـون لإلقليم أو املـدينة أو احلـي‪ .‬وبعد ذلك يـأيت التنفـيذ‪ .‬ومهام‬
‫كانت نظريـات التخطيط متفهمـة لظروف السكـان ومنصفة وأميـنة‪ ،‬كتلك التي تنـادي بمشاركـة السكان يف اختاذ‬
‫القرارات ونحوهـا من توجهات‪ ،‬فـإهنا ستنتهـي بتوصيات ألويل األمـر أو بقرارات للتنفيـذ‪ ،‬وعندها تتغـري مقصوصة‬
‫ال بأن املـخططني رأوا أن هـذه منطقـة سكنيـة وأراد مستـثمر مـا بناء‬
‫احلقـوق التي وضعهـا اإلسالم‪ .‬كيف؟ لنقـل مث ً‬
‫مصنع وسطها‪ ،‬فسيمنع بـالرجوع لبنود التخطيط وليس بالـرجوع ملا أحله اهلل وحرمه‪ .‬وهكذا فإن أي قرار ختطيطي‬
‫البـد وأن يسلب من بعض الناس حقوقاً ويـضيف آلخرين حقوقاً‪ .‬مثال آخر‪ :‬إذا كـان القرار التخطيطي بأن يكون‬
‫التعيل يف البنـاء يف منطقة مـا دورين فقط‪ ،‬فعنـدما يرص مـالك عىل العلو إىل ثالثـة أدوار فإنه سيمـنع من ذلك‪ .‬وهنا‬
‫حيـدث خالف بـني املالـك والسلـطات وعـندهـا يتـم الرجـوع ألنظمـة العـمران الـتي وضعتهـا السلـطات بـتوصـيات‬
‫‪e‬لل رَ بِّى‬
‫‪e‬لل ذَ^لِكُ مُ هَّ ُ‬
‫املخططني‪ ،‬ال إىل الرشيعـة برغم وجود قـوله تعاىل‪( :‬وَ مَا ‪e‬خ‪ c‬تَلَـف‪c‬تُم‪ c‬فِيهِ مِن شَ ى‪ c‬ءٍ فَحُ ك‪ c‬مُهُ‪ /d‬إِلَى هَّ ِ‬
‫ِيب)‪ 2.‬وما حدث هذا إال ألن السلطـات هي احلاكمة‪ .‬وهكذا تم األخذ بحكم عقل البرش ال‬
‫‪c‬ت وَ إِلَي‪c‬هِ أُن ُ‬
‫عَ لَي‪c‬هِ تَوَ كَّل ُ‬
‫بحكم اهلل سبحانه وتعاىل يف مقصوصة احلقوق (فأين توحيد األلوهية؟)‪ .‬لنوضح هذه املسألة بنوع من اإلجياز‪:‬‬

‫اتلعيل مكاثل‬
‫مالحظة‪ :‬لدي هنا إشكـالية‪ :‬إن تعمقت يف هذا املثال فإن القـارئ قد يتيه عن املحور األساس هلذا الفصل‪،‬‬
‫وإن أوجزته فسيظهـر املثال ركيكاً ألنه مل يتـعامل مع األدلة واإلثباتـات واالحتامالت بشموليـة مقنعة‪ .‬لذلك رأيت‬
‫أال أسهـب يف املثال مع التنويه بـأنه عىل من أراد االستزادة والتأكـد من اإلثباتات الـرجوع لكتاب ‪X‬عامرة األرض يف‬
‫اإلسالم‪.Z‬‬

‫إن من الواضح لنا مجيعاً بأن من أراد أن يعيل عقاره يف املدن ال يتأتى له ذلك إال بموافقة السلطات التي لدهيا‬
‫مربراهتـا للموافقـة أو الرفض‪ .‬وهـذه املربرات هي من اجتهـادات املخططـني الذين يفـاضلون بـني املصالح للـوصول‬
‫للـمصلحة العـامة ويلجـؤون لنظريـات التخطيط املـبنية عىل جتـارب من سبقهم‪ .‬أي أن من أراد تعـلية بنيـانه يطلب‬
‫موافقـة من بيده اإلذن لذلك‪ .‬أي أن هـذه الوضعية أنـتجت لنا جهتني‪ :‬جهـة ذات يد عليا‪ ،‬وهي الـسلطة‪ ،‬وهي التي‬
‫‪47‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫تقـرر؛ وجهـة ذات يــد سفىل وهي مـن أراد التعيل‪ .‬وتـلك اليــد العليــا‪ ،‬وعىل افرتاض أهنـا كـانت نـزهيـة ولـن تقبل‬
‫بـالرشاوي‪ ،‬فإهنا عـندما متنع من أراد التعيل فهـي متنعه ألسباب جوهريـة هلا‪ ،‬كأن يكون املنع تالفـياً لزيادة األمحال‬
‫عىل مـرافق املدينة مثل املاء والكهـرباء وشبكات الرصف ونحو ذلك‪ .‬فـإن أجازت التعيل فهي (أي السلطات) زادت‬
‫بناء عىل تقديرها للمصلحة‪.‬‬
‫من حقوق املـالك‪ ،‬وإن منعته فهي انتقصت من حقه‪ .‬أي أن السلطات قد نـظمت احلق ً‬
‫ولكن لننظر للرشيعة أوالً كيف تقص احلق يف هذه املسألة ثم نعلق عىل املنهجني اإلسالمي والوضعي معاً‪.‬‬

‫إن الـذي حيدد ما جيـوز ملكه وما ال جيـوز ملكه يف اإلسالم مها قـاعدتان‪ :‬األوىل هـي احلاجة‪ ،‬والثـانية هي‬
‫السـيطرة‪ .‬بالنسبـة للحاجة يقول الـقرايف رمحه اهلل (ت‪ 684‬هـ)‪ :‬إن ‪X‬الرشع له قاعدة‪ :‬وهـو إنام يملك ألجل احلاجة‪،‬‬
‫وما ال حاجـة فيه ال يرشع فيه امللك‪ ،Z‬فاجلنني ملـا كان ميتاً رشعاً‪ ،‬وهـو بصدد احلاجة العـامة يف حياته ملك األموال‬
‫باإلمجاع‪ ،‬وامليت بعـد احلياة مل تبق له حاجة عامة فلم يملك‪ 3.‬وقـاعدة احلاجة هذه جيب أن ال تتعارض مع حديث‬
‫‪4‬‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسلم‪{ :‬ال رضر وال رضار}‪.‬‬

‫وهتـدم‪ ،‬فلن تكـون مفـيدة‬ ‫والـقاعـدة الثـانيـة هي الـسيـطرة‪ :‬فـاألعيـان إذا مل ُينتفـع هبا بـأن ُتصـان وتبـنى ُ‬
‫ملسـتخدمـيها‪ .‬هلـذا استثمـرت الرشيعـة التـرصف يف املالك‪ .‬أي أن أي عـني البد وأن ي ِ‬
‫ـسيطـر عليهـا من له االنـتفاع‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ومنع من ذلك‬ ‫والترصف السائغ رشعا ال ينازعه فيه منازع ألن االنتفاع ال يكتمل بالتنازع بني الناس‪ .‬فمن أراد التعيل ُ‬
‫فـإنه مل ينتفع بام ملك‪ .‬وأغلـب تعاريف امللكيـة‪ ،‬إن مل تكن مجيعها‪ ،‬تـذكر حق التـرصف أو املقدرة عىل الترصف‬
‫كـرشط للملكيـة‪ .‬فقد عـرف ابن تيميـة (ت ‪ 728‬هـ) من املذهـب احلنبيل امللكيـة بقوله‪X :‬هـو القدرة الـرشعية عىل‬
‫الترصف يف الـرقبة‪ ،Z‬وعـرفه القايض حـسني بن حممـد املروذي (ت ‪ 462‬هـ) من املـذهب الشـافعي بأنه ‪X‬اخـتصاص‬
‫يقتيض إطالق االنتفاع والترصف‪ ،Z‬وعرفه ابن اهلامم (ت ‪ 861‬هـ) من املذهب احلنفي بقوله‪X :‬امللك هو قدرة يثبتها‬
‫ابتداء عىل الترصف‪ .Z‬ومن هـذا يستنتج العلامء أن هـناك أشياء ال متلك الستحـالة السيطـرة عليها‪ ،‬مثل أشعة‬
‫ً‬ ‫الشـارع‬
‫الشمـس وطبقات اهلـواء؛ وأشياء ال متلـك لصعوبـة السيـطرة عليهـا‪ ،‬مثل السـمك يف البحر‪ 5.‬أي أن قـاعديت احلـاجة‬
‫والسيطرة دون اإلرضار باآلخرين مها مدخالن البتداء امللكية عموماً‪ .‬فامذا عن ملكية العلو؟‬

‫يقول القـرايف (ت‪ 684‬هـ) بالرجـوع لقاعـدة احلاجة بـأن فقهاء املـذهب املالكـي مل خيتلفوا يف ملـك ما فوق‬
‫البناء من اهلواء ولكن يف الـسفل؛ وحلاجة الناس للعلـو يف األبنية لالسترشاف والنظـر إىل املواضع البعيدة من األهنار‬
‫ومواضع الـفرح والتنـزه‪ ،‬وحلاجـة الناس لالحـتجاب عن غـريهم بعلو بـنائهم وغـري ذلك من املقاصـد التي ال تتـوافر‬
‫دواعيهم يف بـطن األرض عىل أكثـر مما يـستمـسك به البنـاء من األساسـات‪ ،‬وحيث إن الـرشع له قاعـدة‪X :‬وهو إنام‬
‫يملك ألجل احلـاجة‪ ،‬وما ال حاجة فـيه ال يرشع فيه امللك‪ ،‬فلذلك مل ُيملك مـا حتت األبنية من ختوم األرض بخالف‬
‫اهلـواء إىل عنان الـسامء‪ .Z‬وقد رد ابن الـشاط (ت ‪ )723‬بقـوله‪X :‬إذا كانت القـاعدة الـرشعية أن ال يمـلك إال ما فيه‬
‫احلاجة‪ ،‬وأي حاجـة يف البلوغ إىل عنان الـسامء؛ وإذا كانت القاعـدة أنه يملك مما فيه احلاجـة‪ ،‬فام املانع من ملك ما‬
‫حتت البنـاء حلفر بئـر يعمقها حـافرهـا ما شـاء‪ .Z‬ويشري ابن الـشاط أن ‪X‬من أراد أن حيفـر مطمـورة حتت ملك غريه‬
‫يتوصل اليها من ملك نفسه يمنع من ذلك بال ريب‪ 6.Z‬وجاء يف القواعد للزركيش (ت ‪ 794‬هـ) من املذهب الشافعي‬
‫بأنه ‪X‬ينبغي أن ال يملك [أي األرض] من قـراره إال ما تدعو احلاجة إليه دون ما سفل إىل سبع أرضني‪ ،‬إذ ال حاجة له‬
‫‪ 7.Z..‬إن هذه األمثلة السابقة من خالل اللجوء للحجج واالنتهاء بأقوال خمتلفة ما هي إال إشارة لتوضيح دور احلاجة‬
‫قص احلق‬ ‫‪48‬‬

‫ال إن‬
‫يف حتديد امللكية‪ ،‬وهذا هو املهم ملوضوعنا‪ .‬وهناك تفاصيل أخرى كثرية متعلقة بملكية العلو‪ .‬فامذا حيدث مث ً‬
‫باع رجـل الدور الثاين من مبناه وسقط املبنـى‪ ،‬فهل يلزم بالبناء؟ ونحوهـا من احتامالت تتجىل هبا كيف أن الرشيعة‬
‫‪8‬‬
‫قصت احلق من خالل مبدأي احلاجة والسيطرة‪.‬‬

‫أي أن حتديد ارتفاعات املباين يف املدينة اإلسالمية مل تقرره سـلطة حكومية أو أنظمة قانونية ونحو هذا مما‬
‫نعرفه يف أيامنـا هذه‪ ،‬ولكن قرار التعيل كـان بيد السكان يف املـوقع‪ ،‬كل اختذ قراره لنفـسه‪ .‬ولكن ماذا سيحدث إن‬
‫قام شـخص بتعليـة بنائـه ليكشف جـاره أو يمنع عـنه الشمـس أو اهلواء‪ .‬إن من املـثري أن هذا مل حيـدث إال نادر ًا يف‬
‫املدن اإلسالمية‪ ،‬ملاذا؟ إن املسألة ليست متعلقة بالتقنية؛ فاملباين املرتفعة يف جوانب أودية حرضموت دليل عىل توفر‬
‫التقنـية للتعيل يف البناء قديام ً‪ ،‬واملشاهد يف املـدن اإلسالمية هو أن معظم مباين مدينة مـا متشاهبة يف ارتفاعاهتا‪ .‬فهذه‬
‫مدينة ال تـزيد ارتفاعات مبـانيها عن دور واحد‪ ،‬وتلك مجيع مبـانيها ما بني ثالثة إىل أربعـة أدوار‪ .‬إن املسألة تكمن‬
‫يف األعراف‪ :‬فهناك عـرف واضح للجميع ويتبعه الـكل بأن البناء يف هـذه املنطقة يكـون بارتفاع كـذا وبمواد كذا‪.‬‬
‫لذلك نـرى األحياء السكنيـة يف املدن اإلسالمية متـشاهبة إال أهنا غـري متطابقة‪ ،‬متـاماً كأوراق الشجـرة الواحدة التي‬
‫تتشابه وال تتطابق‪ ،‬بـرغم أن مجيع السكان كان هلم اخليـار يف اختاذ القرار‪ ،‬فلامذا كانت قـراراهتم متشاهبة وأنتجت‬
‫عمراناً متجانساً‪ .‬إن هذا من إعجاز الرشيعة يف العمران وتفسري هذا اإلعجاز باختصار هو اآليت‪:‬‬

‫إن مبـدأ الرضر (وسيـوضح الحقاً بـإذنه تعاىل) الـذي أخذ به العلامء يف احلـكم عىل أفعال األفـراد منبثق من‬
‫حديث الرسول صىل اهلل عليه وسلم‪{ :‬ال رضر وال رضار}‪ .‬فقد كان ألي فرد احلق يف الترصف يف العمران كإضافة‬
‫دور ملبنـاه أو فتح مصنع يف منزلـه رشيطة أال يرض ذلك باآلخـرين‪ .‬فعند تعليـة رجل ملبناه فإن للـساكنني من حوله‬
‫احلق يف االعرتاض عىل هذا العلـو إن أثبت اجلريان املترضرون الـرضر‪ 9،‬وهبذا فإن الـرشيعة أوجدت أرضـية للجدل‬
‫بني اجلـريان للتشاور واالختالف يف ماهية الرضر‪ ،‬ومن ثم حتديد مـدى شدته وما هو املسموح به‪ .‬وهكذا من أسئلة‬
‫عمرانيـة تؤدي إىل جتمع اخلربة للسكان وتبلـور هلم أمور بيئتهم ليزدادوا وعيـاً‪ ،‬وهبذا تأيت احللول من عندهم‪ .‬أي أن‬
‫السكان يف املـوقع هم وحدهم وبالتفـاهم فيام بينهم اختذوا القـرار بإمضاء التعيل أو بمنعه‪ ،‬وبـالطبع فإن كان عليهم‬
‫رضر منعـوه‪ ،‬وإن مل يكن هـناك رضر أبـاحوه‪ .‬وإن أبـاحوه ألحـدهم فقـد حيذوا حـذوه اآلخرون ألنه فـعل نافع‪،‬‬
‫وهكذا يصبح عرفاً يتبعه اآلخرون (وسنوضح هذه احلركية يف احلديث عن املعرفة بإذن اهلل)‪.‬‬

‫وهـناك قـاعدة رشعـية تـطالـب من أرص عىل التعيل أن يقـوم بإزالـة الرضر وال جتـربه عىل عدم الـتعيل إن هو‬
‫متكن من إزالـة الرضر أو التحـايل عليه؛‪ 10‬أي أن مقـصوصـة احلقـوق ال تعطـي اجلريان احلق يف منـع من أراد التعيل‬
‫ولـكنها تـعطيهم احلق يف املـطالبـة بإزالـة الرضر عنهم‪ ،‬فقـد ُيمنع املـالك من التعيل بحجـة أن األدوار اإلضافيـة التي‬
‫سيقوم ببنائها ستزيد العبء عىل شبكات املياه‪ ،‬وعندهـا سيحاول جلب املاء باالستغناء عن شبكات املياه أو بالعمل‬
‫عىل توسعة الشبكة أو قد حيفر بئر ًا‪ .‬أو قد ُيمنع من الـتعيل بحجة أن زيادة السكان يف األدوار العليا املضافة سيزيد‬
‫العبء عىل شبكـات الرصف الصحي وعندهـا قد حيفر املالك كـنيفاً (حفرة امتصـاصية ‪ )septic tank‬للتخلص من‬
‫الفضـالت‪ ،‬وعندهـا أيضـاً قد يـمنعه اجلريان بحجـة أن هذا الكـنيف سينـزف املاء املـلوث من حـوائطه إىل تـربتهم‬
‫الزراعـية بحدائقهم ممـا يضطره إىل حلـول أخرى‪ ،‬كأن يقـوم بالتخلص من الفـضالت بشفطها لعـربات نقل إن كان‬
‫املردود املـايل من تعليـة مبناه جمـدياً اقـتصاديـاً‪ .‬أو قد يفكـر هو وأمثـاله يف طريقـة للتخلص مـن الفضالت يف نفس‬
‫‪49‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ال أجهـزة تتخلـص من الفضالت يف‬


‫ال‪ .‬وهـناك اآلن فع ً‬
‫املوقع بـإعادة تكـريرهـا باستـخدام التفـاعالت العضـوية مث ً‬
‫املوقع بالتـحليل البكتريي من خالل عدة حـاويات عىل مراحل خمتلفـة دون أن تترسب إىل أعامق األرض بحيث يتم‬
‫إعـادة استخدام املاء لـري احلدائق‪ ،‬وهكذا‪ 11.‬أي أننـا أوجدنا بيئـة حتاول تاليف الرضر وتدفع األفـراد إلجياد احللول‬
‫الـتي ستمكنهم‪ ،‬والتي إن نجحـت‪ ،‬قلدها اآلخرون وأصـبحت عرفاً‪ .‬وإن مل يتمـكن من أراد التعيل من إزالة الرضر‬
‫سيمـنع (وسنوضح هـذه احلركيـة فيام بعـد بإذن اهلل)‪ .‬ليـس هذا فحـسب‪ ،‬ولكن قـد جيتمع أصحـاب عدة‬
‫فإن علـوه ُ‬
‫أراض متجاورة‪ ،‬إن كـانت مواقع أراضـيهم ذات إسرتاتيجـية مالئمـة استثـامرياً‪ ،‬ويتخـذوا قرار بـناء فنـدق بتجميع‬
‫رؤوس أمواهلم وأراضـيهم‪ ،‬وبرتك مواقف كـافية للعـربات واإلتيـان بجميع اخلدمـات ودون أخذ إذن من الـسلطات‬
‫ودون اإلرضار بـاجلريان‪ .‬وهبذا تكون رؤوس األموال قـد حتركت ومتت االستفادة من املـوقع الذي كان من املمكن‬
‫أن يتعـطل‪ ،‬وهكذا من إجيـابيات ودون اإلرضار بـالسكان وبـاملجتمع (وسنـأيت عىل توضيح تاليف الـرضر الحقاً بإذن‬
‫اهلل)‪.‬‬

‫أي أن مقصـوصة احلقـوق اإلسالميـة أوجدت حـركيـة يف البيـئة تـؤدي إىل حتفيـز مالك املواقع وحتـريكهم‬
‫لإلتيان بـاحللول‪ .‬أما مـا تضعه منظومـات احلقوق املعارصة من أنـظمة تقيد األيـدي وجترب األفراد لالنصـياع للقوانني‬
‫الوضعية فهي بـذلك تعطل هلم عقوهلم وتزرع فيـهم بذرة اخلنوع ليصبح كل املجـتمع أفراد ًا تابعني رغام ً عنهم ودون‬
‫علمهـم بأهنم مـسلوبـو اإلرادة‪ .‬وشتان بـني جمتمعني أحـدمها أفـراده يف حركـة مسـتمرة لـلبحث عن احللـول‪ ،‬واآلخر‬
‫أفراده مشلولـون يف عمومهم باستثناء طائفـة متخصصة منهم (كاملخطـطني واملعامريني) تبحث عن احللول وتفرضها‬
‫عىل البـاقني من خالل املسـؤولني أو متخذي القـرارات‪ .‬ولقد أثبتـت الدراسات أن القـرارات التخطيـطية النـابعة من‬
‫رؤوس جممـوعة من األفراد كاملخـططني أو متخذي القرارات ومهام كـانت مهاراهتم وخرباهتم فهي مـثقلة باألخطاء‬
‫وذلك ألهنـا تتـصف بثالث صفـات ال مفـر منهـا‪ ،‬كام أثـبت كل من هـولنـج وجولـدنربج بـعد دراسـتهم للكـثري من‬
‫القرارات التخطـيطية‪ 12.‬الصفة األوىل هي أن أي قرار ختطيطي هو قرار معزول عن حميطه؛ فمهام كانت الدراسات‬
‫ال لن يتـمكن من استـيعاب البـيئة املحـيطة للـمحطة بـشمولـيتها‪.‬‬
‫مستفـيضة فـإن من قرر إنـشاء حمطـة للقطـارات مث ً‬
‫ال‪ ،‬حيدد عادة بضيق يف األفق‪ ،‬فقد تكون هناك بدائل‬
‫والصفة الثانية هي أن اهلدف‪ ،‬وهو إنشاء حمطـة للقطارات مث ً‬
‫ال) غـالباً مـا يكون‬
‫أخرى أفضل‪ .‬والـصفة الثـالثة هـي أن التدخل حلل املـشكلة املـحددة (احلاجـة إىل املواصالت مث ً‬
‫بسيطاً ومبارش ًا‪ .‬فعندما حاولت حكومة مجال عبد النارص مث ً‬
‫ال السيطرة عىل اإلجيارات يف املساكن يف مرص أصدرت‬
‫العـرشات من القـوانـني‪ ،‬ولكن الـذي حـدث من جـراء هـذا التـدخل هـو وضع مل يـتصـوره أحـد من واضـعي تلك‬
‫الـقوانني‪ :‬فـبدل أن حتل أزمـة اإلسكان تفـاقمت نـظر ًا لعـزوف املستـثمريـن عن البنـاء‪ 13.‬أي كام قلـت‪ :‬فإن البـيئة‬
‫واملجـتمع ذاتا نـظم ومعطيـات اقتصـادية وجغـرافية واجتـامعية متـداخلة ويف عـدة مستـويات يـعتمد كـل منها عىل‬
‫اآلخر‪ .‬فهي بذلـك خارج حدود تفكري البـرش‪ .‬وهذه النظم واملعطـيات تعتمد عىل أحـداث غري مرئية وغـري متتالية‬
‫ال‪ .‬فأهداف بنائه نبيلة‬
‫أحياناً‪ ،‬لذلك يستحيل دراستها‪ .‬فلم يكن أحـد ليتوقع حجم نتائج بناء السد العايل يف مرص مث ً‬
‫جـد ًا‪ ،‬ولكن إيقـاف املاء وتنـظيمه أدى إىل نتـائج زراعيـة واقتصـادية غري مـتوقعـة مل ندرك بعـد مضـارها كـتوقف‬
‫ال‪ ،‬واألهم من هـذا فقد ُحرم املجتمع‬
‫انـسياب الطمي للمـزارع‪ ،‬وكظهور حياة مل تكـن موجودة يف منطقـة السد أص ً‬
‫من فرصـة إجياد احللول املـوقعية للتـعامل مع الفيضـانات يف ظل التقنيـة املعارصة‪ .‬أي أن كل تدخل إنـساين ‪X‬يف هذا‬
‫اإلطار‪ Z‬البد له مضار مل تكن لتخطر عىل بال من اختذ القرار (وسنوضحه يف عدة فصول قادمة بإذن اهلل)‪.‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪50‬‬

‫ولتلخيص مـا سبق أقول‪ :‬لقـد نظرنـا إىل حق التعيل كمثـال لتوضيـح الفرق بني منـابع مقصوصـة احلقوق يف‬
‫اإلسالم (الرشيعة) ومـنبع النظم الوضعية املعارصة (العقل) إلبراز دور احلقوق يف علم التخطيط وذلك حتى نشكك‬
‫مـبدئيـاً يف علم التخـطيط كمثـال للعلوم اإلنـسانيـة (وهذا بـالطبـع ينطبق عىل العـلوم اإلنسـانية األخـرى كالقـانون‬
‫والتنميـة واالجتامع واالقتصاد)‪ .‬ولـكن من البدهي أن يقـول القارئ وبالـذات إن كان من املخطـطني‪ :‬إن التخطيط‬
‫من دواعي احلـضارة وإال لعمـت العمران الفـوضى! كـام أن املخططني هلـم آالف املربرات هلذه القـرارات! واألدهى‬
‫من ذلك هـو أن لدهيم وسائل كـثرية لربط قراراهتـم بالرشيعة مـن خالل األخذ باملصـالح املرسلة‪ ،‬ومـن باب إطاعة‬
‫أويل األمـر وغريه؛ وما يطـرحه هذا الكـتاب هو أن هـذه الوسائل قـد يؤخذ هبـا فقط إن مل يوجـد احلكم يف الرشع‬
‫ال احلكم فيه واضح بـاإلباحة إن مل يكن فيه رضر عىل‬
‫ال‪ ،‬أي إذا كـانت هناك احلاجة لالجـتهاد؛ فحق التعيل مث ً‬
‫أص ً‬
‫اجلوار؛ وإن كان هناك رضر فسيـطلب ممن أراد التعيل إزالة الرضر‪ ،‬إال أن املخططني بـرفضهم ملبدأ الرضر يأخذون‬
‫باملصالح املرسلة ويتنبؤون بـالرضر مقدماً ويمنعون من أراد التعيل باستـصدار القوانني؛ وهذا ما سنحاول دحضه يف‬
‫هذا الكتـاب‪ .‬ولكنك قـد تقول أخي القـارئ‪ :‬ماذا إن أردت بنـاء جممع سكني ضخـم‪ ،‬أال أحتاج ملخـطط لتنفيـذ ما‬
‫أردت بطريقة تصميمية حكيمة؟ أقول‪ :‬هذا وضع خمتلف متاماً‪ ،‬فأنت تستأجر املخطط ليعمل لك‪ ،‬فهو يعمل داخل‬
‫حدود حقـوقك وال يستطيع أن يفرض عليـك األنظمة رغام ً عنك‪ .‬أي أن مقصوصـتك للحقوق مل تتغري‪ ،‬وما أنقده يف‬
‫هذا الكتاب هـو ما يقوم به املخـططون حتت مظلـة احلكومات من وضع قـوانني تغري احلقوق‪ .‬هـذا من جهة‪ ،‬ومن‬
‫جهـة أخرى فـإن طبقت الـرشيعة فـلن جتد ثـرياً يـتمكن مـن بناء مـستوطـنة كبـرية ألن الثراء سـيتوزع بـني الناس‬
‫بطريقة يصعب معها تسخري فرد واحد ملئات األفراد الستثامراته كام سرتى بإذنه تعاىل‪.‬‬

‫ولكن عىل العموم‪ ،‬فكل مـن مل يرجع للرشيعة يف أمـوره التي حكم هبا الرشع فقـد حكم بغري ما أنزل اهلل‪.‬‬
‫وبـالنسبة للمجتمع‪ ،‬فال توجد مسألـة اقتصادية أو اجتامعية أو سياسية أو بيـئية أو عمرانية إال وللرشيعة فيها حكم‬
‫ال لـلتعمق يف هذه العلـوم ودراستها‬
‫بطريقـة خترج مجيع العلـوم اإلنسانـية من دائرة حـاجة املسلمـني‪ ،‬فال حاجة أص ً‬
‫وتدريسها إن طبقت الرشيعة‪ ،‬ألن اهلـدف من دراسة مثل هذه العلوم هو السمـو باملجتمع آلفاق أجمد‪ ،‬وهذا سيأيت‬
‫تلقائياً إن نحن طبقـنا الرشيعة‪ ،‬وبتوفري كبري للكثري من الطـاقات التي هتدر اآلن يف هذه العلوم‪ .‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫فال حـاجة لالجتهـاد الرشعي إذ ًا يف هـذه العلوم كـام سأثبت بـإذنه تعاىل‪ ،‬فـهذا من أهم حمـاور هذا الـكتاب‪ .‬وذلك‬
‫ألننا إن حـكمنا بـاإلسالم فإننـا سنصل ألمثل احللـول االقتصاديـة واالجتامعيـة والعمرانيـة ويف كل املستـويات كام‬
‫‪c‬ت عَ لَي‪c‬كُ م‪ c‬نِع‪c‬مَتِى‬
‫‪c‬ت لَكُ م‪ c‬دِينَكُ ـم‪ c‬وَ أَت‪c‬مَم ُ‬
‫سنرى بـإذنه تعاىل‪ .‬أي أن اإلسالم ديـن مكتمل‪ .‬قـال تعاىل‪e( :‬ل‪c‬يَـو‪ c‬مَ أَك‪c‬مَل ُ‬
‫َ^ب مِن شَ ى‪ c‬ءٍ ثُمهَّ إِلَى‬
‫‪e‬ل ‪c‬سلَ^مَ دِينًا)‪ 14.‬فام معـنى االكتامل هنا إذ ًا؟ وقال تعـاىل‪( :‬مهَّا فَرهَّ ط‪c‬نَا فِى ‪e‬ل‪c‬كِ ت ِ‬
‫يت لَكُ مُ ‪ِ c‬‬
‫رَض ُ‬
‫وَ ِ‬
‫رَ بِّهِم‪ c‬يُح‪ c‬شَ رُ ونَ)‪ 15.‬ولـكن ماذا إن أرص االقتصـاديون والقانـونيون وعلـامء االجتامع واملخططـون عىل رأهيم ! فهنا‬
‫اخـتالف بيننـا‪ .‬عندهـا هناك طـريقان إلقنـاعهم‪ ،‬أحدمهـا إلزامي‪ :‬أي إلـزام من رفض رشع اهلل بـاالنصيـاع إن كان‬
‫مسلام ً‪ ،‬فال خرية له؛ واآلخر منطقي‪ :‬وهو ما حياول هذا الكتاب طرحه‪ .‬وسنبدأ باإللزامي‪ .‬فإن مل تكن أهيا القارئ‬
‫ممن يؤمنون بأن القرآن الكريم كالم اهلل العليم احلكيم‪ ،‬فبإمكانك قفز الصفحات الست اآلتية إىل العنوان التايل يف‬
‫هذا الفصل‪ ،‬أي إىل ‪X‬احلداثة‪ :‬عقالنية أم أهواء‪.Z‬‬
‫‪51‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫اشليخ اشلِّنقييط ريمحه اهلل‬


‫ال نريد اآلن الـدخول يف مسـألة تكـفري من حكم بغري مـا أنزل اهلل‪ ،‬ففيهـا تفصيل سيـأيت يف فصل ‪X‬احلكم‪Z‬‬
‫بإذن اهلل‪ .‬لكن لتـستشعر أخـي القارئ ِعظم املـسألة عنـد الفقهاء لنـركز عىل فقيه واحـد‪ .‬رأينا يف الفـصل السابق أن‬
‫كلمة احلق يف القـرآن الكريم تشتمل عىل مقصوصـة احلقوق‪ ،‬وأهنا قد تكون خمصصـة حلقوق اآلدميني‪ .‬لتأكيد هذا‬
‫تأمل ما قـاله الشيخ الـشنقيطي رمحه اهلل يف تـوضيح اآلية العـارشة من سورة الشـورى‪( :‬وَ مَا ‪e‬خ‪ c‬تَلَف‪c‬تُم‪ c‬فِيهِ مِن شَ ى‪ c‬ءٍ‬
‫ِيب)‪ ،‬فهو يؤكد عىل أن احلكم بغري ما أنزل اهلل كفر‪:‬‬
‫‪c‬ت وَ إِلَي‪c‬هِ أُن ُ‬
‫‪e‬لل رَ بِّى عَ لَي‪c‬هِ تَوَ كَّل ُ‬
‫‪e‬لل ذَ^لِكُ مُ هَّ ُ‬
‫فَحُ ك‪ c‬مُهُ‪ /d‬إِلَى هَّ ِ‬
‫‪X‬ما دلت عليه هذه اآلية الكـريمة من أن ما اختلف فيه الناس من األحكام فحكمه إىل اهلل وحده ال‬
‫إىل غريه‪ ،‬جـاء مـوضحـاً يف آيــات كثرية‪ .‬فـاإلرشاك بــاهلل يف حكمه كـاإلرشاك به يف عبـادته‪ ،‬قـال يف‬
‫(وَل يُش‪ c‬رِكُ فِى حُ ك‪ c‬مِهِ‪ \d‬أَحَ دً ا (‪ ،))26-18‬ويف قـراءة ابن عامـر من السـبعة‪X :‬وال ترشك يف‬ ‫حكمـه‪َ :‬‬
‫حكمه أحـد ًا‪ Z‬بصيغـة النهي‪ .‬وقـال يف اإلرشاك به يف عبـادته‪( :‬فَمَـن كَا َن يَر‪c‬جُ ـواْ لِقَا‪d‬ءَ رَ بِّهِ\ فَل‪c‬يَع‪c‬م ‪َc‬ل‬
‫وَل يُش‪ c‬رِك‪ c‬بِعِبَـادَةِ رَ بِّهِ‪ \d‬أَحَ دً ا (‪ ،))110-18‬فاألمران سـواء كام ترى إيـضاحه إن شاء‬ ‫عَ م ًَل َص^لِحً ا َ‬
‫اهلل‪ .‬وبذلك تعلم أن احلالل هو ما أحله اهلل‪ ،‬واحلرام هو ما حرمه اهلل‪ ،‬والدين هو ما رشعه اهلل‪ ،‬فكل‬
‫ترشيع مـن غريه باطل‪ ،‬والـعمل به بدل تـرشيع اهلل عند مـن يعتقد أنـه مثله أو خري منه كفـر بواح ال‬
‫نزاع فيه‪ .‬وقـد دل القرءان يف آيـات كثرية عىل أنه ال حكـم لغري اهلل‪ ،‬وأن اتباع تـرشيع غريه كفر به‪،‬‬
‫ِل إِيهَّاهُ‬
‫لل أَمَـرَ أ اََّل تَع‪c‬بُدُ و‪ d‬اْ إ اَّ ‪d‬‬
‫فـمن اآليات الـدالة عـىل أن احلكم هلل وحده قـوله تعاىل‪( :‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫‪c‬ت (‪ ،))67-12‬وقولـه تعاىل‪( :‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ‬ ‫لل عَ لَـي‪c‬هِ تَوَ كَّل ُ‬
‫(‪ ،))40-12‬وقوله تـعاىل‪( :‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫ِك‬ ‫‪e‬لل فَأُوْ لَ^‪d‬ئ َ‬ ‫َ^صلِنيَ (‪ ،))57-6‬وقولـه‪( :‬وَ مَن لاَّم‪ c‬يَح‪ c‬كُ م بِمَا‪ d‬أَنزَ َل هَّ ُ‬ ‫ي ‪e‬ل‪c‬ف ِ‬‫ُص ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَهُ وَ خَ ‪ُ c‬‬ ‫لل يَق ُّ‬
‫إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫(وَل يُش‪ c‬رِكُ فِى حُ ـك‪ c‬مِهِ‪ \d‬أَحَ دً ا (‪ ،))26-18‬وقـوله تعـاىل‪:‬‬ ‫هُ ـمُ ‪e‬ل‪c‬كَ ^فِرُ و َن (‪ ،))44-5‬وقـوله تعــاىل‪َ :‬‬
‫ِك إ اَِّل وَج‪ c‬هَهُ‪ /‬لَهُ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ وَ إِلَي‪c‬هِ تُـر‪c‬جَ عُو َن (‪ ،))88-28‬وقـوله تعـاىل‪( :‬لَهُ ‪e‬ل‪c‬حَ م‪c‬دُ فِى‬ ‫(ك ُُّل شَ ى‪ c‬ءٍ هَ ـال ٌ‬
‫وَ‪e‬لخِ رَ ةِ وَ لَهُ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ وَ إِلَي‪c‬هِ تُر‪c‬جَ عُو َن (‪ ،))70-28‬واآليات بمثل ذلك كثرية ‪ ... ..‬وأما اآليات‬ ‫‪ec‬لُولَى ‪َ c‬‬
‫الـدالة عىل أن اتبـاع ترشيع غري اهلل املـذكور كفـر‪ ،‬فهي كثرية جـد ًا‪ ،‬كقوله تعـاىل‪( :‬إِنَّمَا ُسل‪c‬طَ^نُهُ‪/‬‬
‫عَ لَـى ‪e‬لاَّذِينَ يَتَوَ لاَّو‪ c‬نَهُ‪ /‬وَ‪e‬لاَّـذِينَ هُ م بِهِ\ مُش‪ c‬رِكُو َن (‪ ،))100-16‬وقوله تعـاىل‪( :‬أَلَم‪ c‬أَع‪ c‬هَد‪ c‬إِلَي‪c‬كُ م‪ c‬يَ^بَنِى‪d‬‬
‫‪16‬‬
‫ءَادَمَ أَن اَّل تَع‪c‬بُدُ واْ ‪e‬لشَّ ي‪c‬طَ^نَ إِنَّهُ‪ /‬لَكُ م‪ c‬عَ دُ وٌّ مُّبِنيٌ (‪.Z... ))60-36‬‬

‫يا سـبحان اهلل‪ ،‬إن مـا قاله الـشيخ الشـنقيطـي يرمحه اهلل‪ ،‬شـديد عىل كـل من رجع لغري اهلل يف أصغـر أمور‬
‫احلكم‪ ،‬فام بالنـا بأمور التخطيـط أو االقتصاد أو السياسـة أو التنمية والتي تـرفع وتضع فئات من املجتمع من خالل‬
‫سلب احلقوق وإعطاء اآلخرين حقـوقاً‪ :‬فعندما يمنع النـاس من إحياء األرض بدعوى التنـظيم فقد سلبوا حقوقهم‪.‬‬
‫وعنـدما يمنع من أراد السفر من بلد مـسلم آلخر إال بتأشرية دخول بدعـوى األمن فقد سلب من حقه كابن السبيل‪،‬‬
‫وكـذلك عندما يمـنع من أراد الزواج بمسلمـة من دولة جماورة فقد سـلب من حقه‪ ،‬وعندما يـمنع من أراد املتاجرة يف‬
‫بلد مسلم غري مـوطنه فقد منع من حـقه‪ .‬ومن أراد أن يرضب يف األرض ويستخرج مـن معادهنا فإنـه سيمنع بدعوى‬
‫أهنا مـلك للدولـة (وسيأيت بـيانه بـإذن اهلل)‪ .‬وسلب احلقـوق هذا هـو أهم سبب لـتخلف املسلـمني كام سنـرى بإذنه‬
‫تعاىل‪ .‬ثم يوضح الشيخ الشنقيطي أثابه اهلل وأسكنه فسيح جناته أسباب استحالة أخذ األحكام من غري اهلل فيقول‪:‬‬
‫‪X‬اعلم أن اهلل جل وعال ّبني يف آيـات كثرية صفات من يستـحق أن يكون احلكم له‪ ،‬فعىل كل عاقل أن‬
‫يتـأمل الصفـات املـذكـورة الـتي سنـوضحهـا اآلن إن شـاء اهلل‪ ،‬ويقـابلهـا مع صفـات الـبرش املـرشعني‬
‫للقـوانني الوضعـية‪ ،‬فينظـر هل تنطبق علـيه صفات من له التـرشيع‪ ،‬سبحان اهلل وتعـاىل عن ذلك‪ ،‬فإن‬
‫قص احلق‬ ‫‪52‬‬

‫كانت تنطبق عليهم ولن تكون‪ ،‬فليتبع ترشيعهم‪ .‬وإن ظهر يقيناً أهنم أحقر وأخس وأذل وأصغر من‬
‫ذلك‪ ،‬فليقف هبم عند حـدهم‪ ،‬وال جياوزه هبم إىل مقـام الربوبـية‪ .‬سبحانـه وتعاىل أن يكون له رشيك‬
‫يف عبـادتـه‪ ،‬أو حكمه أو ملـكه‪ .‬فمن اآليـات القـرءانيـة التي أوضح هبـا تعـاىل صفـات مـن له احلكم‬
‫‪e‬لل)‪ ،‬ثم قـال مبيـناً صفـات من له‬ ‫والتـرشيع قولـه هنا‪( :‬وَ مَـا ‪e‬خ‪ c‬تَلَف‪c‬تُم‪ c‬فِيهِ مِن شَ ـى‪ c‬ءٍ فَحُ ك‪ c‬مُهُ‪ /d‬إِلَى هَّ‬
‫َر‪c‬ض جَ ع ََل لَكُ م مِّن‪c‬‬ ‫وَ‪e‬ل ِ‬
‫^ت ‪c‬‬ ‫‪e‬لـسمَ^وَ ِ‬ ‫ِيـب‪ 10#‬فَاطِ رُ هَّ‬ ‫‪c‬ت وَ إِلَي‪c‬هِ أُن ُ‬ ‫‪e‬لل رَ بِّى عَ لَـي‪c‬هِ تَوَ كَّل ُ‬
‫احلكـم‪( :‬ذَ^لِكُ مُ هَّ ُ‬
‫‪e‬لسمِيعُ ‪e‬ل‪c‬ب َِصيُ‪ 11#‬لَهُ‪/‬‬ ‫‪c‬س كَـمِث‪c‬لِهِ\ شَ ى‪ c‬ءٌ وَهُ وَ هَّ‬ ‫‪e‬لن‪c‬عَ^مِ أَز‪ c‬وَ ^جً ا يَذ‪ c‬رَ ؤُ كُم‪ c‬فِيهِ لَي َ‬
‫أَنفُسِ كُ ـم‪ c‬أَز‪ c‬وَ ^جً ا وَ مِنَ ‪َ c‬‬
‫َر‪c‬ض يَب ُ‪c‬سـطُ ‪e‬ل ِّرز‪َ c‬ق لِمَـن يَشَ ا‪d‬ءُ وَ يَـق‪c‬دِرُ إِنَّهُ‪ /‬بِكُ ّ ِل شَ ى‪ c‬ءٍ عَ لِيمٌ (‪،11 ،10- 42‬‬ ‫وَ‪e‬ل ِ‬ ‫^ت ‪c‬‬ ‫‪e‬لسمَ^وَ ِ‬‫مَقَالِيـدُ هَّ‬
‫‪ .))12‬فهـل يف الكفرة الفجـرة املرشعـني للنظم الـشيطـانية‪ ،‬مـن يستحق أن يـوصف بأنه الـرب الذي‬
‫تفوض إليه األمور ويتوكل عليه‪ ،‬وأنه فاطر السموات واألرض‪ ،‬أي خالقهام وخمرتعهام‪ ،‬عىل غري مثال‬
‫سابـق‪ ،‬وأنه هو الـذي خلق لـلبرش أزواجـاً‪ ... ،‬وأنه ليـس كمثله يشء وهـو السـميع البـصري‪ ،‬وأنه له‬
‫مقـاليد السمـوات واألرض‪ ،‬وأنه هو الذي يـبسط الرزق ملن يـشاء ويقدر‪ ،‬أي‪ :‬يضـيقه عىل من يشاء‪،‬‬
‫وهو بكل يشء علـيم‪ .‬فعليكم أهيا املـسلمون أن تتفهـموا صفات من يـستحق أن يرشع وحيلل وحيرم‪،‬‬
‫وال تتقبلـوا ترشيعـاً من كافـر خسيـس حقري جاهل‪ .‬ونـظري هذه اآليـة الكريمـة قوله تعـاىل‪( :‬فَإِن‬
‫ي وَ أَح‪َ c‬سنُ‬
‫ِك خَ ‪ٌ c‬‬
‫‪e‬لخِ رِ ذَ^ل َ‬‫ِ‪e‬لل وَ‪e‬ل‪c‬يَو‪ c‬مِ ‪َ c‬‬
‫‪e‬لل وَ‪e‬لرهَّ ُسولِ إِن كُنتُم‪ c‬تُؤ‪ c‬مِنُو َن ب هَّ ِ‬ ‫تَنَ^زَ ع‪ c‬تُم‪ c‬فِى شَ ى‪ c‬ءٍ فَرُ دُّوهُ إِلَى هَّ ِ‬
‫‪e‬لل)‪Z...‬‬ ‫‪e‬لل)‪ ،‬كقوله يف هذه‪( :‬فَحُ ك‪ c‬مُهُ‪ /d‬إِلَى هَّ‬ ‫ِيل (‪ ،))59-4‬فقوله فيها‪( :‬فَرُ دُّوهُ إِلَى هَّ‬ ‫تَأ‪c‬و ً‬

‫اطلاوغت‬
‫إن من عبد صنام ً فـإنام إثمه عىل نفسه بـرغم أن هذا جرم شـنيع يف حق اخلالق الذي أكـرم اإلنسان وفضله‪،‬‬
‫أما من حتاكم إىل غري اهلل فإن رشه سيرسي يف األمة كلها ألنه برضائه باحلكم بغري ما أنزل اهلل قد ساهم بالتأكيد يف‬
‫نرش الـتلوث البيئي واالنحـالل اخللقي كام سأثبت بـإذن اهلل‪ ،‬لذلك فقد كفـر يف بعض األقوال (وسيـأيت بيان األقوال‬
‫املختـلفة يف فـصل ‪X‬احلكم‪ Z‬بـإذن اهلل)‪ .‬ولعلك تـتسـاءل‪ :‬ملاذا هـذا التغليـظ يف احلكم عىل مـن يوحـد اهلل عز وجل‬
‫وحيكم بغري الرشيعة؟ فأقول‪ :‬إن توحيد اهلل يعني بالرضورة احلكم برشعه يف مجيع أمور احلياة‪ .‬فعندما تقرأ آية مثل‬
‫َوَاصو‪ c‬اْ بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)‪ ،‬يف سورة العرص‪ ،‬فتأكـد أن كلمة احلق تشتمل أيضـاً عىل االمتثال لفقه املعامالت؛‬
‫قوله تعـاىل‪( :‬وَ ت َ‬
‫‪e‬للَ)‪ ،‬تـأكد أن العبادة تعني أيضاً االلتجاء إليه يف احلكم بني‬
‫وعـندما متر عليك آية مثل قوله تعاىل‪( :‬أ اََّل تَع‪c‬بُدُ و‪ d‬اْ إ اَِّل هَّ‬
‫ِ‪e‬لل إ اَِّل وَهُ م مُّش‪ c‬رِكُونَ)‪ ،‬أي أن الذين آمنوا‬
‫‪c‬ثهُ م ب هَّ ِ‬
‫الناس‪ .‬أمل يقل اهلل الغني العزيز يف سـورة يوسف‪( :‬وَ مَا يُؤ‪ c‬مِنُ أَك َ ُ‬
‫بوحـدانية اهلل وجلـؤا لغريه يف تدبـري أمور حيـاهتم كثري‪ .‬والبـد هلؤالء الكـثر من حـاكم حيكم هلم‪ .‬فـإن حكم هذا‬
‫احلـاكم بغري رشع اهلل فـال مفر عنـدها مـن التلوث الـبيئي واالنحالل اخلـلقي‪ .‬لذلـك كانت صفـة من ريض أن حيكم‬
‫بغري ما أنزل اهلل أنه طاغوت‪ .‬ولتتأكد مما أقوله تريث يف قراءة اآليت مما قاله الشيخ الشنقيطي يرمحه اهلل‪:‬‬
‫‪e‬لل) من الذين يدعون اإليامن مع أهنم‬ ‫‪X‬وقـد عجب نبيه صىل اهلل عليه وسلم بعد قوله‪( :‬فَرُ دُّوهُ إِلَى هَّ‬
‫يـريدون املحاكـمة إىل من مل يتـصف بصفات مـن له احلكم املعرب عنه يف اآليـة بالطـاغوت‪ ،‬وكل من‬
‫حتاكم إىل غري رشع اهلل فهو حتاكـم إىل الطاغوت؛ وذلك يف قوله تعـاىل‪( :‬أَلَم‪ c‬تَرَ إِلَى ‪e‬لاَّذِينَ يَز‪ c‬عُ مُو َن‬
‫ُوت وَ قَد‪ c‬أُمِرُ و‪ d‬اْ أَن‬
‫ِك يُـرِيدُ و َن أَن يَتَحَ اكَمُو‪ d‬اْ إِلَـى ‪e‬لطاَّ^غ ِ‬
‫‪c‬ك وَ مَا‪ d‬أُنز َِل مِن قَب‪c‬ل َ‬
‫أَنَّهُم‪ c‬ءَامَنُواْ بِمَـا‪ d‬أُنز َِل إِلَي َ‬
‫َ^ل بَعِيدً ا (‪ .))60-4‬فالكفـر بالطاغوت الذي رصح اهلل‬ ‫يَك‪ c‬فُـرُ واْ بِهِ\ وَ يُرِيدُ ‪e‬لشَّ ي‪c‬طَ^نُ أَن ي ُِضلاَّهُم‪َ c‬ضل ً‬
‫ُوت‬
‫بـأنه أمـرهم به يف هـذه اآليــة‪ ،‬رشط يف اإليامن؛ كام بـينه تعـاىل يف قـوله‪( :‬فَمَـن يَك‪ c‬فُر‪ c‬بِ‪e‬لـطاَّ^غ ِ‬
‫‪53‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ك بِ‪e‬ل‪c‬عُر‪ c‬وَ ةِ ‪e‬ل‪c‬وُ ث‪c‬قَى (‪ .))256-2‬فيفـهم منه أن من مل يكفـر بالطـاغوت مل‬ ‫‪e‬ستَـم َ‪c‬س َ‬ ‫ِ‪e‬لل فَقَ ِد ‪c‬‬
‫وَ يُؤ‪ c‬مِن‪ c‬ب هَّ ِ‬
‫يتمسك بـالعروة الوثقى‪ ،‬ومن مل يتمـسك هبا فهو مرتد مع اهلالكني‪ .‬ومـن اآليات الدالة عىل ذلك قوله‬
‫وَل يُش‪ c‬رِكُ فِى‬ ‫َر‪c‬ض أَب ِ‪c‬صر‪ c‬بِهِ\ وَ أ ‪َc‬سمِع‪ c‬مَـا لَهُم مِّن دُونِهِ\ مِن وَ ل ٍ ِّى َ‬ ‫وَ‪e‬ل ِ‬ ‫^ت ‪c‬‬ ‫‪e‬لسمَ^وَ ِ‬ ‫‪c‬ب هَّ‬ ‫تعـاىل‪( :‬لَهُ‪ /‬غَي ُ‬
‫حُ ك‪ c‬مِهِ‪ \d‬أَحَ ـدً ا (‪ .))26-18‬فهل يف الكفـرة الفجـرة املـرشعني من يـستحق أن يـوصف بـأن لـه غيب‬
‫الـسمــوات واألرض؟ وأن يبـالـغ يف سمعـه وبرصه إلحـاطــة سمـعه بكل املـسمـوعـات وبـرصه بكل‬
‫املبـرصات؟ وأنه ليس ألحد دون من ويل؟ سبحانه وتعاىل عن ذلك علو ًا كبري ًا‪ .‬ومن اآليات الدالة عىل‬
‫ِك إ اَِّل وَج‪ c‬هَهُ‪ /‬لَهُ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ‬ ‫ل إِلَ^هَ إ اَِّل هُ وَ ك ُُّل شَ ى‪ c‬ءٍ هَ ال ٌ‬ ‫‪e‬لل إِلَ^هًـا ءَاخَ رَ | َ ‪d‬‬ ‫(وَل تَد‪ c‬عُ مَعَ هَّ ِ‬ ‫ذلك قـوله تعاىل‪َ :‬‬
‫وَ إِلَي‪c‬هِ تُـر‪c‬جَ عُـو َن (‪ .))88-28‬فهل يف الكفـرة الفجـرة املـرشعـني من يــستحق أن يـوصف بـأنه اإلله‬
‫الواحـد؟ وأن كل يشء هالـك إال وجهه؟ وأن اخلالئق يرجعـون إليه؟ تبـارك ربنا وتعـاظم وتقدس أن‬
‫‪e‬للُ‬ ‫يـوصف أخس خلقه بـصفاته‪ .‬ومن اآليـات الدالـة عىل ذلك قوله تعـاىل‪( :‬ذَ^لِكُ م بِأَنَّهُ‪ /d‬إِذَا دُعِ ىَ هَّ‬
‫لل ‪e‬ل‪c‬عَل ِ ِّى ‪e‬ل‪c‬كَ بِيِ (‪ .))12-40‬فهـل يف الكفرة الفجرة‬ ‫وَح‪ c‬دَ هُ‪ /‬كَفَر‪ c‬تُم‪ c‬وَ إِن يُـش‪ c‬رَك‪ c‬بِهِ\ تُؤ‪ c‬مِنُواْ فَ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ ِ هَّ ِ‬
‫املرشعني للنظم الشيطانية‪ ،‬من يستحق أن يوصف يف أعظم كتاب ساموي بأنه العيل الكبري؟ سبحانك‬
‫ربنـا وتعاليـت عن كل ما ال يلـيق بكاملك وجاللك‪ .‬ومن اآليـات الدالـة عىل ذلك قوله تعـاىل‪( :‬وَهُ وَ‬
‫وَ‪e‬لخِ ـرَ ةِ وَ لَهُ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ وَ إِلَي‪c‬هِ تُـر‪c‬جَ عُـونَ‪ 70#‬ق ‪ُc‬ل أَرَ ءَي‪c‬تُم‪ c‬إِن‬ ‫ل إِلَ^هَ إ اَِّل هُ ـوَ لَهُ ‪e‬ل‪c‬حَ م‪c‬دُ فِـى ‪ec‬لُولَى ‪َ c‬‬ ‫‪e‬لل َ ‪d‬‬
‫هَّ ُ‬
‫‪e‬لل يَأ‪c‬تِيكُ م ب ِِضيَا‪d‬ءٍ أَف ََل ت ‪َc‬سمَعُونَ‪ 71#‬ق ‪ُc‬ل‬ ‫َي هَّ ِ‬ ‫‪e‬لل عَ لَي‪c‬كُ مُ ‪e‬لاَّي َ‪c‬ل َسر‪ c‬مَدً ا إِلَى يَو‪ c‬مِ ‪e‬ل‪c‬قِيَ^مَةِ مَن‪ c‬إِلَ^هٌ غ ‪ُ c‬‬ ‫جَ ع ََل هَّ ُ‬
‫‪e‬لل يَأ‪c‬تِيكُ م بِلَي‪c‬لٍ ت ‪َc‬سكُ نُو َن‬ ‫َي هَّ ِ‬‫‪e‬لل عَ لَي‪c‬كُ مُ ‪e‬لنَّهَـارَ َسر‪ c‬مَدً ا إِلَى يَو‪ c‬مِ ‪e‬ل‪c‬قِيَ^مَةِ مَـن‪ c‬إِلَ^هٌ غ ‪ُ c‬‬ ‫أَرَ ءَي‪c‬تُم‪ c‬إِن جَ ع ََل هَّ ُ‬
‫فِيهِ أَف ََل تُب ِ‪c‬صـرُ ونَ‪ 72#‬وَ مِن رهَّ ح‪ c‬مَتِهِ\ جَ ع ََل لَـكُ مُ ‪e‬لاَّي َ‪c‬ل وَ‪e‬لنَّهَـارَ لِت ‪َc‬سكُ ـنُواْ فِـيهِ وَ لِتَب‪c‬تَغُـواْ مِن ف ‪َc‬ضلِهِ\‬
‫وَ لَعَلاَّكُ ـم‪ c‬تَش‪ c‬كُ ـرُ و َن (‪ .))73، 72 ،71 ،70-28‬فهل يف مـرشعي القـوانني الــوضعيـة‪ ،‬من يــستحق أن‬
‫يوصف بأن له احلمد يف األوىل واآلخـرة‪ ،‬وأنه هو الذي يرصف الليل والنهار مبيناً بذلك كامل قدرته‪،‬‬
‫وعظمـة إنعامه عىل خلقه؟ سبحان خالـق السموات واألرض جل وعال أن يكون له رشيك يف حكمه‪،‬‬
‫لل أَمَرَ أ اََّل تَع‪c‬بُدُ و‪ d‬اْ إ اَِّل‪d‬‬ ‫أو عبادته أو ملكـه‪ ،‬ومن اآليات الدالـة عىل ذلك قوله تعـاىل‪( :‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫َّـاس َل يَع‪c‬لَمُو َن (‪ ،))40-12‬فـهل يف أولئك من يـستحق أن‬ ‫‪c‬ث ‪e‬لن ِ‬‫ِك ‪e‬ل ّ ِديـنُ ‪e‬ل‪c‬قَيِّمُ وَ لَ^كِ نهَّ أَك َ َ‬ ‫إِيهَّـاهُ ذَ^ل َ‬
‫يوصف بأنه هو اإلله املعبود وحده‪ ،‬وأن عبادته وحـده هي الدين القيم؟ سبحان اهلل وتعاىل عام يقول‬
‫‪c‬ت وَعَ لَي‪c‬هِ فَل‪c‬يَتَوَ كَّلِ ‪e‬ل‪c‬مُتَوَ كِّلُو َن‬ ‫لل عَ لَي‪c‬هِ تَوَ كَّل ُ‬
‫الظاملون علو ًا كبـري ًا‪ .‬ومنها قوله تعاىل‪( :‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ـك‪ c‬مُ إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫(‪ .))67-12‬فهل فـيهم من يـستحق أن يتـوكل عليـه‪ ،‬وتفوض األمـور إليه؟ ومنهـا قولـه تعاىل‪( :‬وَ أَنِ‬
‫‪c‬ك‬ ‫‪e‬لل إِلَي َ‬
‫‪c‬ض مَـا‪ d‬أَنزَ َل هَّ ُ‬ ‫وَل تَتَّبِع‪ c‬أَه‪ c‬وَ ا‪d‬ءَهُ م‪ c‬وَ‪e‬ح‪ c‬ذَ ر‪c‬هُ ـم‪ c‬أَن يَف‪c‬تِنُوكَ عَ ن‪ c‬بَع ِ‬ ‫‪e‬لل َ‬‫‪e‬ح‪ c‬كُ م بَـي‪c‬نَهُم بِمَا‪ d‬أَنـزَ َل هَّ ُ‬
‫َّـاس لَفَ^سِ قُونَ‪49#‬‬ ‫‪c‬ض ذُنُوبِهِـم‪ c‬وَ إِ َّن كَثِيًا مِّنَ ‪e‬لن ِ‬ ‫‪e‬لل أَن ي ُِصيبَهُـم بِبَع ِ‬ ‫فَإِن تَـوَ لاَّو‪ c‬اْ فَ‪e‬ع‪ c‬لَم‪ c‬أَنَّمَـا يُرِيـدُ هَّ ُ‬
‫‪e‬لل حُ ـك‪ c‬مًا لِّقَـو‪ c‬مٍ يُوقِـنُو َن (‪ .))50،49-5‬فـهل يف أولئك‬ ‫أَفَحُ ك‪ c‬مَ ‪e‬ل َ‪c‬ج^هِلِيهَّـةِ يَب‪c‬غُـو َن وَ مَن‪ c‬أَح‪َ c‬سنُ مِنَ هَّ ِ‬
‫املرشعـني من يستحق أن يوصف بأن حكمه بام أنزل اهلل وأنه خمالف التباع اهلوى؟ وأن من توىل عنه‬
‫أصـابه اهلل ببعـض ذنوبـه؟ ألن الذنـوب ال يؤاخـذ بجميعـها إال يف اآلخـرة؟ وأنه ال حكم أحـسن من‬
‫‪e‬لل أَب‪c‬تَغِى حَ ـكَ مًا وَهُ ـوَ ‪e‬لاَّذِي‪ d‬أَنـزَ َل إِلَي‪c‬كُ مُ‬ ‫َي هَّ ِ‬ ‫حكمه لـقوم يـوقنـون؟ ‪ ....‬ومنـها قـوله تعــاىل‪( :‬أَفَغ ‪َ c‬‬
‫ّك بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق ف ََل تَكُ ـونَنهَّ مِنَ‬ ‫َ^ب يَع‪c‬لَمُـو َن أَنَّهُ‪ /‬مُنَـزَّ ٌل مِّن رهَّ بِ َ‬ ‫َ^ب مُف هََّص ًل وَ‪e‬لاَّـذِينَ ءَاتَي‪c‬نَ^هُـمُ ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬ ‫‪e‬ل‪c‬كِ ـت َ‬
‫ّك ِصد‪ c‬قًا وَعَ د‪ c‬اًل (‪ ... .))115 ،114-6‬أي صدقاً يف األخبار وعدالً يف‬ ‫َت رَ بِ َ‬ ‫هَّت كَلِم ُ‬ ‫‪e‬ل‪c‬مُم َ‪c‬تِينَ ‪ 114#‬وَ تَم ‪c‬‬
‫َ^ل وَهَ ^ذَ ا‬ ‫ِب هَ ^ذَ ا حَ ل ٌ‬ ‫(وَل تَقُـولُواْ لِمَـا ت َِص ُف أَل‪c‬سِ نَتُـكُ مُ ‪e‬ل‪c‬كَ ذ َ‬ ‫األحكـام ‪ .... ...‬ومنـها قـوله تعـاىل‪َ :‬‬
‫ِيل وَ لَهُم‪c‬‬ ‫ِب َل يُف‪c‬لِحُ و َن‪ 116#‬مَتَ^عٌ قَل ٌ‬ ‫‪e‬لل ‪e‬ل‪c‬كَ ذ َ‬ ‫‪c‬تو َن عَ لَى هَّ ِ‬ ‫ِب إِ َّن ‪e‬لاَّـذِينَ يَف َ ُ‬ ‫‪e‬لل ‪e‬ل‪c‬كَ ذ َ‬ ‫‪c‬تواْ عَ لَى هَّ ِ‬ ‫حَ رَامٌ لِّتَف َ ُ‬
‫اب أَلِـيمٌ (‪ .))117 ،116-16‬فقــد أوضحت اآليـة أن املـرشعـني غري مــا رشعه اهلل إنام تـصف‬ ‫عَ ـذَ ٌ‬
‫ال ثـم يعذبون العذاب‬ ‫ألسنـتهم الكذب؛ ألجل أن يفرتوه عىل اهلل‪ ،‬وأهنم ال يفلحـون وأهنم يمتعون قلي ً‬
‫األليم‪ ،‬وذلك واضح يف بعـد صفاهتم مـن صفات من له أن حيـلل وحيرم‪ .‬ومنهـا قوله تـعاىل‪( :‬ق ‪ُc‬ل هَ لُمهَّ‬
‫قص احلق‬ ‫‪54‬‬

‫‪e‬لل حَ رهَّ مَ هَ ^ذَ ا فَإِن شَ هِدُ واْ ف ََل تَش‪ c‬هَد‪ c‬مَعَهُم‪ .))150-6( c‬فقوله‪( :‬هَ لُمهَّ‬
‫شُ هَدَ ا‪d‬ءَكُمُ ‪e‬لاَّذِينَ يَش‪ c‬هَدُ و َن أَ َّن هَّ َ‬
‫شُ هَدَ ا‪d‬ءَكُمُ ) صيغـة تعجيـز‪ ،‬فهم عاجـزون عن بيـان مستـند التحـريم‪ ،‬وذلك واضح يف أن غري اهلل ال‬
‫يتصف بصفـات التحليل وال التحـريم‪ ،‬وملا كـان الترشيع ومجـيع األحكام‪ ،‬رشعيـة كانت أو كـونية‬
‫قدريـة‪ ،‬من خـصائـص الربـوبيـة؛ كام دلت علـيه اآليات املـذكورة كـان كل من اتـبع ترشيعـاً غري‬
‫ترشيع اهلل قد اختذ ذلك املرشع رباً‪ ،‬وأرشكه مع اهلل‪.Z.... .‬‬

‫اختاذ ألارابب‬
‫كام يؤكـد الشيخ الشنقيطـي عىل أن من اتبع ترشيعاً غري ترشيـع اهلل فقد اتبع الشيطان‪ ،‬وهـذا رشك بالنسبة‬
‫له‪ .‬لـيس هـذا فحسـب‪ ،‬ولكن هنـاك شيـاطني اإلنـس وهم الـذين بحـكمهم بغـري ما أنـزل اهلل يرغـمون الـناس عىل‬
‫اتباعهم‪ ،‬فام هو ُحكم هؤالء التابعني؟ وما أكثرهم ! تأمل ما قاله الشيخ الشنقيطي يرمحه اهلل‪:‬‬
‫‪X‬فقوله تعـاىل‪( :‬ب ‪َc‬ل كَانُواْ يَع‪c‬بُدُ و َن ‪e‬ل‪c‬جِ نهَّ )‪ ،‬أي يتبعون الشياطني ويطـيعوهنم فيام يرشعون ويزينون‬
‫هلم مـن الكفر واملعـايص‪ ،‬عىل أصح التفـسريين‪ .‬والشـيطان عـامل بأن طـاعتهم له املـذكورة إرشاك به‬
‫َال‬‫كام رصح بذلك وتـربأ منهم يف اآلخرة؛ كام نص اهلل علـيه يف سورة ‪X‬إبراهيم‪ ،Z‬يف قـوله تعاىل‪( :‬وَ ق َ‬
‫‪e‬لل وَعَ ـدَ كُم‪ c‬وَع‪ c‬دَ ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق وَ وَعَ ـدتُّكُ م‪ c‬فَـأَخ‪ c‬لَف‪c‬تُكُ م‪ ،) c‬إىل قـوله‪( :‬إِنِّى‬
‫‪e‬لم‪c‬رُ إِ َّن هَّ َ‬
‫‪e‬لـشَّ ي‪c‬طَ^نُ لَمهَّـا ق ُِضىَ ‪َ c‬‬
‫َر‪c‬ت بِمَـا‪ d‬أَش‪ c‬رَ ك‪c‬تُمُونِ مِن قَب ُ‪c‬ل (‪ ،))22-14‬فقـد اعرتف بأهنم كـانوا مـرشكني به من قبل‪ ،‬أي يف دار‬ ‫كَف ُ‬
‫الدنيا‪ ،‬ومل يكفر برشكهم ذلك إال يـوم القيامة‪ .‬وقد أوضح النبي صىل اهلل عليه وسلم هذا املعنى الذي‬
‫بينا يف احلـديث ملا سألـه عدي بن حاتـم ريض اهلل عنه عن قوله‪e( :‬تَّخَ ـذُ و‪ d‬اْ أَح‪ c‬بَارَهُ م‪ c‬وَ رُه‪ c‬بَ^نَهُم‪ c‬أَر‪ c‬بَابًا‬
‫(‪ ،))31-9‬كيف اختذوهـم أرباباً؟ وأجـابه صىل اهلل عليه وسلم أهنم أحلـوا هلم ما حـرم اهلل‪ ،‬وحرموا‬
‫عليهـم ما أحل اهلل فاتبعوهم‪ ،‬وبـذلك االتباع اختذوهم أربابـاً‪ .‬ومن أرصح األدلة يف هذا أن الكفار إذا‬
‫أحلـوا شيئـاً يعلمـون أن اهلل حرمه وحـرموا شـيئاً يـعلمون أن اهلل أحـله‪ ،‬فإهنم يـزدادون كفر ًا جـديد ًا‬
‫(وَ‪e‬لل َل‬
‫هَّ ُ‬ ‫بذلك مع كفرهم األول؛ وذلك يف قوله تعـاىل‪( :‬إِنَّمَا ‪e‬لنَّسِ ى‪ d‬ءُ زِيَادَةٌ فِى ‪e‬ل‪c‬كُ ف‪c‬رِ)‪ ،‬إىل قوله‪:‬‬
‫يَـه‪c‬دِي ‪e‬ل‪c‬قَو‪ c‬مَ ‪e‬ل‪c‬كَ ^فِـرِينَ (‪ .))37-9‬وعىل كل حـال‪ ،‬فال شـك أن كل من أطـاع غري اهلل‪ ،‬يف تـرشيع‬
‫خمالف ملا رشعه اهلل فقد أرشك به مع اهلل ‪.Z...‬‬

‫إن يف النصـوص السـابقة‪ ،‬وبـالذات يف إجـابة الـرسول صىل اهلل علـيه وسلم ملا سـأله عدي بن حـاتم يف اختاذ‬
‫األرباب (سورة التوبة‪ :‬اآلية ‪ ،)31‬استنتاج قوي بأن من أطاع غري اهلل راضياً فقد أرشك‪ ،‬وتأكيد عىل أن املقصود من‬
‫العبادة هـو أيضاً فقـه املعامالت‪ .‬ويتـضح هذا من اآليـة التي تليهـا‪ .‬فقد قـال تعاىل‪e( :‬تَّخَ ـذُ و‪ d‬اْ أَح‪ c‬بَارَهُ م‪ c‬وَ رُه‪ c‬بَ^نَهُم‪c‬‬
‫ل إِلَ^هَ إ اَِّل هُ وَ ُسب‪c‬حَ ^نَهُ‪ /‬عَ مهَّا يُش‪ c‬رِكُونَ‪31#‬‬
‫‪e‬لل وَ‪e‬ل‪c‬مَسِ يحَ ‪e‬ب‪c‬نَ مَر‪ c‬يَمَ وَ مَا‪ d‬أُمِرُ و‪ d‬اْ إ اَِّل لِـيَع‪c‬بُدُ و‪ d‬اْ إِلَ^هًا وَ ^حِ دً ا اَّ ‪d‬‬
‫أَر‪ c‬بَابًا مِّن دُونِ هَّ ِ‬
‫ِل أَن يُتِمهَّ نُـورَ هُ‪ /‬وَ لَو‪ c‬كَرِهَ ‪e‬ل‪c‬كَ ^فِرُ ونَ)‪ .‬فكيف يتم اهلل نوره إال إن‬
‫‪e‬لل إ اَّ ‪d‬‬
‫‪e‬لل بِأَف‪c‬وَ ^هِهِم‪ c‬وَ يَأ‪c‬بَى هَّ ُ‬
‫يُرِيـدُ و َن أَن يُط‪c‬فِ‪ُE‬واْ نُورَ هَّ ِ‬
‫هـدى البرش للـحكم بام رشع سبحـانه وتعاىل فـينترش بـذلك يف املجتمع العـدل والسـعادة والنقـاء عىل حسـاب الظلم‬
‫والتعاسـة والتلوث‪ .‬أي أن الرشك رشكـان‪ :‬أحدمها إنكـار وحدانية اهلل‪ ،‬واآلخـر احلكم بغري رشع اهلل‪ ،‬وهنـا خطاب‬
‫واضح ألولئك املـرجئة (كـاجلاميـة واملدخليـة) الذين يـريدون النـاس اخلنوع ألويل األمـر كيفام حكمـوا‪ .‬فلو أهنم‬
‫ال‪،‬‬
‫أدركـوا حجم ذُل األمة بسبب حكم هـؤالء احلكام الذين مل يتمسكـوا برشع اهلل كالتهاون مع البـنوك الربوية مث ً‬
‫ملا قـالوا بطاعتـهم‪ .‬فهم ال يميزون بني الـرشكني برغم أن هذا الـتمييز يظهـر بوضوح يف الكثـري من اآليات مثل قوله‬
‫‪55‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫وَل حَ رهَّ م‪c‬نَا‬


‫وَل ءَابَا‪d‬ؤُ نَا َ‬
‫‪e‬لل مَا عَ بَد‪ c‬نَا مِن دُونِهِ\ مِـن شَ ى‪ c‬ءٍ نَّح‪ c‬نُ َ ‪d‬‬
‫َال ‪e‬لاَّذِينَ أَش‪ c‬رَ كُواْ لَو‪ c‬شَ ـا‪d‬ءَ هَّ ُ‬
‫تعاىل يف سورة النحـل‪( :‬وَ ق َ‬
‫ِك فَع ََل ‪e‬لاَّذِيـنَ مِن قَب‪c‬لِهِم‪ c‬فَه ‪َc‬ل عَ لَـى ‪e‬لرُّ ُسلِ إ اَِّل ‪e‬ل‪c‬بَلَ^غُ ‪e‬ل‪c‬مُبِنيُ )‪ .‬فـقد مجع احلق سـبحانه‬
‫مِن دُونِهِ\ مِن شَ ى‪ c‬ءٍ كَـذَ ^ل َ‬
‫وتعاىل الـرشك يف كل من عبادة غريه ويف قبول حتـريم ما أحل اهلل‪ ،‬أي القبول بحكـم غري اهلل‪ .‬وهذا واضح أيضاً من‬
‫رُسلِهِ\ وَ يَقُولُو َن نُؤ‪ c‬مِنُ‬
‫‪e‬لل وَ ُ‬
‫َني هَّ ِ‬
‫رُسلِهِ\ وَ يُرِيـدُ و َن أَن يُفَ ِّرقُواْ ب ‪َ c‬‬
‫ِ‪e‬للِ وَ ُ‬
‫قـوله تعاىل يف سورة النسـاء‪( :‬إِ َّن ‪e‬لاَّذِينَ يَك‪ c‬فُرُ و َن ب هَّ‬
‫ِيل)‪ .‬فالكفرة يريـدون التفريق بني اإليامن باهلل والعمل‬
‫ِك َسب ً‬
‫َني ذَ^ل َ‬
‫‪c‬ض وَ يُـرِيدُ و َن أَن يَتَّخِ ذُ واْ ب ‪َ c‬‬
‫‪c‬ض وَ نَك‪ c‬فُرُ بِبَع ٍ‬
‫بِبَع ٍ‬
‫بام يـشتهون‪ ،‬فيـأخذون مـا يناسبهـم ويرفضـون ما ال يـروق هلم‪ ،‬وهذا التـمييز بـني اإليامن بالبعـض ورفض البعض‬
‫اآلخـر أكثر مـا يكون يف مـسائل احليـاة كام سيأيت بـيانه بإذن اهلل‪ .‬ومـن اآليات الدالـة عىل ذلك أيضاً قـوله تعاىل يف‬
‫َر‪c‬ض وَ‪e‬لاَّـذِينَ ءَامَنُواْ بِ‪e‬ل‪c‬بَ^طِ لِ‬
‫وَ‪e‬ل ِ‬
‫^ت ‪c‬‬
‫‪e‬لسمَ^وَ ِ‬
‫ِ‪e‬لل بَي‪c‬نِى وَ بَي‪c‬نَـكُ م‪ c‬شَ هِيدً ا يَع‪c‬لَمُ مَـا فِى هَّ‬
‫سـورة العنكبــوت‪( :‬ق ‪ُc‬ل كَفَى ب هَّ ِ‬
‫ِك هُ مُ ‪e‬ل‪c‬خَ ^سِ رُ ونَ)‪ .‬فهذه اآلية تصف حال اخلارسين بأهنم هم الذي كفروا باهلل ويف الوقت ذاته‬
‫ِ‪e‬لل أُوْ لَ^‪d‬ئ َ‬
‫وَ كَفَرُ واْ ب هَّ ِ‬
‫آمنـوا بالباطـل‪ ،‬والباطل هو كل مـا مل حيكم به اهلل‪ ،‬أي عكس احلق (كـام سيتضح بإذن اهلل)‪ ،‬أي عكـس مقصوصة‬
‫احلقوق‪ ،‬أي أهنم‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬يـؤمنون بمنظومات حقوق من نسج خيال عقوهلم القارصة‪ .‬فهم بإيامهنم بالباطل الذي‬
‫‪c‬ت م َِن ‪e‬تَّخَ ذَ‬
‫تسـوقه أهواؤهم وكـأهنم يتخـذون هذا البـاطل إهلاً‪ .‬تـأمل هذا يف قـوله تعاىل يف سـورة الفرقـان‪( :‬أَرَ ءَي َ‬
‫ِيل)‪ .‬وكذلك قـوله تعاىل يف سـورة القمـر‪( :‬وَ كَذاَّ بُـواْ وَ‪e‬تَّبَعُو‪ d‬اْ أَه‪ c‬وَ ا‪d‬ءَهُ م‪ c‬وَ ك ُُّل أَم‪c‬رٍ‬
‫َنت تَكُ و ُن عَ ـلَي‪c‬هِ وَ ك ً‬
‫إِلَ^هَهُ‪ /‬هَ وَىهُ أَفَـأ َ‬
‫م ‪ُّc‬ستَقِرٌّ )‪ .‬ومـن اآليات الدالـة عىل ذلك أيضاً‪ ،‬اآليـة التي تسـبق آية قص احلق مبـارشة من سورة األنعـام‪ :‬قال تعاىل‪:‬‬
‫‪c‬ت إِذًا وَ مَا‪ d‬أَنَـا‪ F‬مِنَ ‪e‬ل‪c‬مُه‪c‬تَدِينَ )‪.‬‬
‫ل أَتَّبِـعُ أَه‪ c‬وَ ا‪d‬ءَكُم‪ c‬قَد‪َ c‬ضلَل ُ‬
‫‪e‬للِ قُل اَّ ‪d‬‬
‫ِيـت أَ ‪c‬ن أَع‪ c‬بُدَ ‪e‬لاَّذِينَ تَـد‪ c‬عُ و َن مِن دُونِ هَّ‬
‫(ق ‪ُc‬ل إِنِّى نُه ُ‬
‫ففي اآليـة خطـاب رصيح للـرسـول صىل اهلل علـيه وسلم بـأن يقـول لـكل من مل حيكـم برشع اهلل بـأنه صلـوات ريب‬
‫وسالمه عليه قد ُهني عن ٍ‬
‫كل من عبادة غري اهلل باإلضافة ملنعه من اتباع أهوائهم‪ .‬أي أن كل من يتبع أي أمر خارج‬
‫رشع اهلل (ومـنها مقـصوصـة احلقوق) فهـو إنام يتـبع هواه‪ ،‬وهـذا رشك ُرصاح‪ .‬بل حتـى أن العمل بغـري رشع اهلل هلو‬
‫‪c‬ت م َِن ‪e‬تَّخَ ذَ إِلَ^هَهُ‪ /‬هَ وَىهُ وَ أ ََضلاَّهُ هَّ ُ‬
‫‪e‬لل‬ ‫الـطريق األكيد للـضالل‪ .‬وهذا واضح من قوله تعـاىل يف سورة اجلاثيـة‪( :‬أَفَرَ ءَي َ‬
‫‪e‬للِ أَف ََل تَـذَ كَّرُ ونَ)‪ .‬وهبذا‪،‬‬
‫عَ لَـى عِ ل‪c‬مٍ وَخَ تَمَ عَ لَى َسـم‪c‬عِهِ\ وَ قَل‪c‬بِهِ\ وَجَ ع ََل عَ لَى ب ََصـرِهِ\ غِ شَ ^وَ ةً فَمَن يَه‪c‬دِيهِ مِن‪ c‬بَع‪ِ c‬د هَّ‬
‫َ^صلِنيَ ) يف سورة األنعام‬
‫ُص ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَهُ وَ خَ ‪c‬يُ ‪e‬ل‪c‬ف ِ‬
‫لل يَق ُّ‬
‫فعندما نعـود لآليات التي تسبق قوله تعـاىل‪( :‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫وما بعدها‪ ،‬ونقرؤها مرة أخرى‪ ،‬فبهذا املفهوم للعبادة‪ ،‬يزداد املعنى اتضاحاً‪ .‬فتدبر اآليات‪:‬‬
‫ِيت أَ ‪c‬ن أَع‪ c‬بُدَ ‪e‬لاَّذِينَ تَد‪ c‬عُ و َن مِن‬‫ِيل ‪e‬ل‪c‬م ‪ُc‬جرِمِنيَ ‪ 55#‬ق ‪ُc‬ل إِنِّى نُه ُ‬ ‫َ^ت وَ لِت ‪َc‬ستَبِنيَ َسب ُ‬
‫‪e‬لي ِ‬ ‫ِك نُف َِّص ُل ‪َ c‬‬ ‫(وَ كَذَ ^ل َ‬
‫‪c‬ت إِذًا وَ مَـا‪ d‬أَنَا‪ F‬مِنَ ‪e‬ل‪c‬مُه‪c‬تَـدِينَ ‪ 56#‬ق ‪ُc‬ل إِنِّى عَ لَى بَـيِّنَةٍ مِّن رهَّ بِّى‬ ‫ل أَتَّبِعُ أَه‪ c‬وَ ا‪d‬ءَكُم‪ c‬قَد‪َ c‬ضلَل ُ‬
‫‪e‬لل قُل اَّ ‪d‬‬
‫دُونِ هَّ ِ‬
‫َ^صلِنيَ ‪ 57#‬قُل‬ ‫ي ‪e‬ل‪c‬ف ِ‬ ‫ُص ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَهُ وَ خَ ‪ُ c‬‬‫لل يَق ُّ‬
‫وَ كَذاَّ ب‪c‬تُم بِهِ\ مَـا عِ ندِي مَا ت ‪َc‬ستَع‪c‬جِ لُو َن بِهِ‪ \d‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫وَ‪e‬لل أَع‪ c‬لَمُ بِ‪e‬لظاَّ^لِمِنيَ ‪ 58#‬وَعِ ندَ هُ‪ /‬مَفَاتِحُ‬
‫‪e‬لم‪c‬رُ بَي‪c‬نِى وَ بَي‪c‬نَكُ م‪ c‬هَّ ُ‬ ‫لاَّو‪ c‬أَ َّن عِ ندِي مَا ت ‪َc‬ستَع‪c‬جِ لُو َن بِهِ\ لَق ُِضىَ ‪َ c‬‬
‫وَل حَ بهَّةٍ فِى‬‫‪c‬ب وَ‪e‬ل‪c‬بَح‪ c‬رِ وَ مَـا ت ‪َc‬سقُطُ مِـن وَ رَ قَةٍ إ اَِّل يَع‪c‬لَمُهَـا َ‬ ‫‪c‬ب َل يَع‪c‬لَمُهَـا‪ d‬إ اَِّل هُ وَ وَ يَع‪c‬لَـمُ مَا فِى ‪e‬ل َ ِّ‬ ‫‪e‬ل‪c‬غَي ِ‬
‫َ^ب مُّبِنيٍ (‪.))59-55‬‬ ‫وَل يَاب ٍِس إ اَِّل فِى كِت ٍ‬ ‫‪c‬ب َ‬ ‫وَل رَ ط ٍ‬ ‫َر‪c‬ض َ‬ ‫َ^ت ‪ec‬ل ِ‬ ‫ظُلُم ِ‬

‫فصل‬
‫إن اآليات تصف الـبرش الذين يتبعون أهواءهم باحلكم بغري ما أنزل اهلل بأهنم جمرمون‪ .‬فالعيل القدير ُي ّ‬
‫اآليات حتى يـتبني لنا احلق من الـباطل‪ ،‬وبذلك ال نتـبع سبيل املجرمني ألنه قـد استبان لنـا‪ ،‬فقد هنينـا عن إطاعة من‬
‫حيكـم بغري ما أنـزل اهلل‪ ،‬ألن من فعل فقـد اتبع أهواء الـكفرة‪ ،‬وعنـدها يـأيت الضالل ويضـيع اهلدى‪ .‬فكـأن اآليات‬
‫تقول للرسول صىل اهلل عليه وسلم‪ :‬يا حممد‪ ،‬قل ملن ال يؤمن بالرسالة بأنك هنيت أن تطيع يف األحكام أحد ًا من دون‬
‫قص احلق‬ ‫‪56‬‬

‫واضح وأن احلكيـم العليم هو الذي‬


‫ٌ‬ ‫اهلل ألنك ال تتبع أهـواءهم‪ ،‬ألنك إن فعلت فقد ضللت‪ .‬وأن مـا أمرك اهلل به بنيٌ‬
‫هداك إليه‪ .‬وبرغم كل هـذا الوضوح إال أن الكفـرة يكذبون به‪ .‬كام أن مـا يشتهون من أحكـام لتتفق مع أهوائهم‬
‫ويتـعجلوهنـا فهي لـيست لـديك‪ ،‬ولكـن األحكام تـأتيك مـن اهلل الذي له احلـكم وهو الـذي يستـطيع قص احلق وال‬
‫يستطيع أحد غريه فعل ذلـك ألنه هو خري من يفصل بني البرش‪ .‬ولـو أن ما يشتهون من أحكـام كانت لديك النتهى‬
‫األمر بيـنك وبينهم وال حاجـة التباعك‪ .‬لكن عليـهم اتباعك ألهنم جهلـة يف األحكام‪ ،‬إال أهنم ظاملـون ولن يتبعوك‪،‬‬
‫فـاهلل أعلم بـالظـاملني منهـم‪ .‬ثم تأيت اآليـات لتؤكـد عالقة علـم الغيب بقـص احلق من خالل التعلـيل بأنه هـو وحده‬
‫سبحانه الذي عنده مفاتح الـغيب‪ .‬ولعلمه الشامل هذا فهو الوحيد الذي يستطيع قص احلق‪ .‬وهنا ملحوظة‪ :‬وهو أن‬
‫ما يـستعجلـه الكفرة يف قـوله تعاىل‪( :‬مَـا ت ‪َc‬ستَع‪c‬جِ لُو َن بِه) قـد فرس بـأنه عذاب اآلخـرة‪ ،‬أو أنه طلب الكفـرة آلية‬
‫معجزة إلثبات رسالة حممد صىل اهلل عليـه وسلم كام أرسل األولون‪ .‬إال أن هذا التفسري ال يقف معرتضاً‪ ،‬واهلل أعلم‪،‬‬
‫أمام التأويل الذي طرحته هنا‪ .‬ذلك ألن الكفرة يشتهون ما يتمنون من األحكام أيضاً ويستعجلوهنا‪.‬‬

‫بعـد قراءة ما سبـق من كالم الشيخ الشـنقيطي يرمحه اهلل‪ ،‬ومـا بيناه من مقـصوصة احلقـوق يف التعيل كمثال‬
‫لتغري احلقـوق بالعمـل بتخصص الـتخطيط‪ ،‬أتـرك لك العودة ألهل العـلم الرشعي يف أولـئك الذين يـأخذون بـالعلوم‬
‫اإلنسـانية لإلجابة عىل سـؤالنا األول وهو‪ :‬هل األخذ بـالعلوم اإلنسانيـة كفر ألنه سيؤدي إىل نفي تـوحيد األلوهية؟‬
‫فلم يكن اهلدف من إثارة هذا السـؤال هو التكفري لزيادة الشقة‪ ،‬ولكن لتـوضيح عظم جرم من قام باحلكم بغري ما‬
‫أنـزل اهلل‪ ،‬فهذا الكـتاب سيحـاول أن يثبـت أن السبب الـرئيس لـتخلف املسلـمني هو يف حـكمهم بغري مـا أنزل اهلل‪.‬‬
‫فـالتكفـري مراتـب‪ ،‬فالكـافر هـو من اعـتقد بـأن حكم البـرش أفضل من حكـم اهلل‪ ،‬أما مـن حكم بغري مـا أنزل اهلل‬
‫مضـطر ًا‪ ،‬كأن يـكون موظفـاً يطبق ما أمـر به‪ ،‬فإن من العلـامء من ال يكفره ومنهـم من يعترب ذلك من الكـبائر وأنه‬
‫عـاصيا‪ .‬وهذا الكتاب عن التمكني وليس يف أحكام التكفري‪ .‬لـذلك نرتك هذه املسألة ملن هم أهل هلا‪ .‬فهذا موضوع‬
‫ال‪ :‬هناك قـول أن اإلطاعة يف املعصيـة بغري اعتقاد ِحلهـا ال تكون كفر ًا‬
‫قد تبحـر فيه علامء الرشيعة أثـاهبم اهلل‪ ،‬فمث ً‬
‫بل معـصية‪ ،‬بينام اإلطـاعة يف التحليل والتـحريم تكون رشكـاً‪ ،‬ومذاهب أخرى واضحـة وبأدلة جليـة‪ .‬ومل أثر هذه‬
‫املسألـة إال ألوضح ملن يؤمنون بأن القـرآن الكريم هو كالم اهلل‪ِ ،‬عظم ُجـرم من اعتقد أن اإلسالم دين قد ال يالئم‬
‫متطلبـات احلارض‪ .‬وهبذا يكـون السؤال األهم لنـا اآلن هو‪ :‬ملاذا وكـيف خرجت املجتمعـات عن حكم اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل إىل حكم البرش؟ أي كيف حدنا عن الطريق؟ واإلجابة باختصار‪ :‬لقد بدأت باستخدام العقل ضد النص منذ‬
‫الـعهود األوىل (وهـذا هو مـوضوع الفـصول ‪ 2‬إىل ‪ 9‬وبـالذات فـصيل ‪X‬الديـوان‪ Z‬و ‪X‬املكـوس‪ Z‬بإذنـه تعاىل)‪ ،‬إال أن‬
‫الوضع تفاقم بتـأثر املجتمعات املسلمـة بالغرب الذي أخذ بـالعقالنية يف احلداثة‪ ،‬وهي مـوضوعنا اآليت‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫هذا أدى إىل العقالنية يف استنباط األحكام يف الرشيعة بني املعارصين‪ ،‬وهو موضوع اجلزء الثاين من هذا الفصل‪.‬‬

‫احلداةث‪ :‬عقالين ٌة أم أوهاء؟‬


‫ال خيفى عىل أي مـسلم مدى الـوهن الذي علـيه املسلمـون اآلن؟ فهم األفقـر برغـم ثراء أراضيـهم (النفط)‪،‬‬
‫ال)‪،‬‬
‫وهم األجهل بـالعلوم الـدنيويـة والتقنيـة احلديثـة برغم غـزارة تراثهم العـلمي (اخلوارزمي‪ ،‬مـؤسس علم اجلرب مث ً‬
‫‪57‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫وهم األقل نـظافة واألكـثر مرضـاً برغم تعـاليم دينهم (الـوضوء)‪ .‬لذلـك كانوا األرسع طـرد ًا كام حدث بـاألندلس‪،‬‬
‫واألسهل استعـامر ًا كام حدث يف مرص والشام‪ ،‬واألكـثر تبعية كام حصل بـشامل أفريقيا‪ ،‬واألكثـر اتكالية كام هو‬
‫باخلليج العريب‪ ،‬وهكـذا أصبحوا األمسخ هوية‪ ،‬واألشد متزقاً‪ ،‬واألقل إنـتاجاً‪ ،‬واألكثر استهالكاً‪ ،‬وبالطبع األضعف‬
‫شوكة‪ ،‬بينام احتمى بعض علامئهم خلف أسوار جامعـاهتم‪ ،‬وتقوقع آخرون داخل جملدات تراثهم برشحه واختصاره‬
‫ومجعه‪ ،‬واقـرتب آخرون من حكامـهم ونافق‪ ،‬وقليل هم الـذين احتكوا بـاملجتمعات وقـاوموا السـلطات ولكن اخلري‬
‫الكثري فيهم بإذنه تعاىل‪ .‬لذلك ُح ّق عىل املسلمـني بأن يتوجوا بأجهلهم قادة‪ .‬فهذا قذف احلق بكتابه األخرض‪ ،‬وذاك‬
‫صـدم شعباً بـأخيه‪ ،‬ومنهم من سـاد اآلخرين وسبـقهم بالتـسليم لليهـود ثم أتى خليـفته وبارك ذاك االستـسالم‪ ،‬فقام‬
‫جاره بعد سنني واستحسن هـذا االستسالم وطبّعه‪ ،‬ومنهم من استأسد عىل شعبه وطغى وتسلط‪ ،‬وهكذا كام يكونوا‬
‫يـوىل عليهم‪ :‬جهلة خـرجوا عن حكم اهلل فـحكمهم من هو أجهل مـنهم! فهل يف العامل اإلسالمي‪ ،‬والعـريب بالذات‪،‬‬
‫من هو أجـهل من الطبقـات احلاكمـة‪ .‬فإن كـانت الرشيعـة تؤدي ملجـتمع عزيـز قوي كـام أزعم يف هذا الـكتاب‪،‬‬
‫فلامذا ختلف املـسلمون؟ للوقوف عىل هـذا جيب علينا أن نبحث أوالً عـن اإلجابة لسؤال معـاكس وهو‪X :‬ملاذا تقدم‬
‫العامل الغريب؟‪ Z‬لعلنا نصل إىل يشء بإذنه تعاىل‪.‬‬

‫ال يستطيـع أي منا أن ينكر أن البرشيـة حتت مظلة معتقدات العـامل الغريب أو الليربايل أو الرأساميل حققت‬
‫ال‪ ،‬وقللت ساعات العمـل ملوظفيها من خالل‬
‫الكثري من اإلنجازات‪ .‬فـقد متكنت من ختفيف آالمهـا بتقدم الطب مثـ ً‬
‫اآللة‪ ،‬وقربت أطـراف األرض بالتقنية‪ ،‬ورفهت أنـاسها باإلثارة من مشـاهد وألعاب‪ ،‬وأتاحت للمتـباهني منهم فرصة‬
‫التفاخر بالتمتع بالزيـنة واقتناء الرصعات‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬ومن خـالل التصنيع‪ ،‬فقد جعلت معظم هذا يف متناول‬
‫أيدي املقتـدرين منهم‪ .‬فقـد تضاعفـت يف القرن العرشيـن قيمة البـضائع واخلدمـات املنتجة سـنوياً عـرشين ضعفاً‪،‬‬
‫وتضـاعف استهالك الطاقـة ثالثني ضعفاً‪ ،‬واملـنتجات الصـناعية مخـسني ضعفاً‪ .‬كـام أن دول العامل الرأسـاميل مقارنة‬
‫بدول الـعامل الثـالث حفـظت لإلنسـان حريـة القول واملـشاركـة يف اختاذ القـرار من خالل آليـات التعـددية احلـزبية‬
‫والديمقراطية‪ .‬أي أن الغرب حقق حتت شعار احلداثة مرشوع ديكارت يف السيطرة عىل الطبيعة قدر املستطاع‪.‬‬

‫ولكـن يف الوقت ذاته قادت جمـتمعات احلداثـة الكرة األرضيـة للتلوث البيـئي واالنحالل اخللقي والظلم‪ ،‬أي‬
‫إىل الفساد‪ .‬فالتـلوث أنواع‪ :‬منها تلوث اهلـواء بالغازات‪ ،‬والتلوث اإلشعـاعي من حمطات الطاقـة‪ ،‬والتلوث الكيميائي‬
‫من املبـيدات احلـرشية‪ ،‬والـتلوث احلـراري من خملفـات املصـانع من امليـاه السـاخنـة التي تلقـى يف األهنار والـبحار‪،‬‬
‫والرضر النـفيس من الضـوضاء‪ ،‬وهـكذا من ملـوثات الكل يـعلمها‪ .‬وبـالنسبـة للفسـاد اخللُقي‪ ،‬فمـرض نقص املنـاعة‬
‫املعروف باإليدز والذي يصـيب الشاذين جنسياً قتل حتى العـام ‪2001‬م أكثر من ‪ 34‬مليون شخص‪ .‬ولعل َ‬
‫األم ُّر هو‬
‫الظلم‪ ،‬فقـد مزقت احلـداثة شعـوب العامل إىل غـني وفقري‪ ،‬فحتـى التسعيـنات من القـرن املايض كـان يف العامل ‪157‬‬
‫بليـونري ًا ومليـوين ملـيونـري‪ ،‬يف حني أن مئـة ملـيون نـسمـة كانـوا يعيـشون دون مـأوى يف حاويـات القاممـة وحتت‬
‫األرصفة‪ .‬وبـإمكانك أن تتصور شدة هذا الفارق يف الثراء إن أدركت أن ما يملكه أغنى ثالثة بليونريات يفوق إنتاج‬
‫أفقـر ‪ 48‬دولة يف العامل؛ فدخل رجل احلـاسبات اآللية (بيل جـيت) ارتفع ليصل يف منتصف التـسعينات إىل ‪ 64‬بليون‬
‫دوالر كـأغنى رجـل يف العامل ليهـزمه رجل أعامل آخر يـملك حمالت جتاريـة يف السنـة التي تلـيها ليـصبح األثرى يف‬
‫العـامل‪ ،‬يف وقت يعيـش فيه أكثـر من بلـيون وثـلث إنسـان عىل دخل يقل عن دوالر واحـد يومـياً‪ ،‬وحـوايل ‪ %32‬من‬
‫قص احلق‬ ‫‪58‬‬

‫سكان دول العامل الثالث يعيشون عىل ما يقل عن أربعة دوالرات يومياً‪ .‬أما يف العامل الصناعي الذي يدعي التحرض‪،‬‬
‫فــإن ‪ %11‬من سكـانه يعـيشـون عىل دخـل يقل عن ‪ 4.14‬دوالر يـوميـاً‪ .‬ويف املجمـوع فــإن ‪ %20‬من سكـان األرض‬
‫حيصلـون عىل ‪ %83‬تقـريبـاً من جممـوع دخل العـامل‪ ،‬بيـنام يعيـش ‪ %20‬من أفقـر الفقـراء عىل ‪ %4.1‬من دخـل العامل‪.‬‬
‫وهناك إحصـائية أخرى تقـول أن ‪ 358‬ملياردير ًا يف عـام ‪ 1997‬امتلكوا أرصـدة تفوق جمموع مـداخيل نصف سكان‬
‫األرض‪ .‬ومن الناحية الغذائية فإن األمـريكيني ينفقون سنوياً مخسة باليني دوالر لوجبات غذائية لتخفيف أوزاهنم‪،‬‬
‫يف وقـت يعيش فيه ‪ 400‬ملـيون نسمـة عىل الكفاف ويعـانون من اإلعـاقة يف النـمو أو التخلف العقيل بـسبب الفقر‪.‬‬
‫وبالـنسبة للمـرافق الصحية‪ ،‬فـإن نصف سكان الكـرة األرضية ال يتمتعـون باملراحيـض الصحية‪ .‬كام أن يـنبوع مياه‬
‫إفيـان يف فرنسـا يشحن للـمرفهني إىل مجيع أطـراف األرض‪ ،‬بينام يـغتسل ويرشب حـوايل بليوين نـسمة امليـاه امللوثة‪.‬‬
‫ومن الناحية الثقـافية‪ ،‬فبينام تزخر املكتبات بنحو مخسني بلـيون كتاب‪ ،‬فإن حوايل ‪ 900‬مليون نسمة من البالغني ال‬
‫جيـيدون حـتى قـراءة أسامئهـم‪ .‬وبالـنسبـة للنفقـات احلربـية‪ ،‬فقـد اعتـمدت دول العـامل (سنـة ‪ )1988‬ترلـيون دوالر‬
‫أمريـكي لصـناعـة األسلحـة‪ ،‬أي بمعـدل مائـتي دوالر لكل فـرد عىل وجه األرض‪ ،‬يف حني فـشلت يف تـدبري مخـسة‬
‫دوالرات كنفقـات عالجية لكل طفـل مما أدى ملقتل أربعة عـرش مليون طفل‪ .‬كام أن تكلفـة رشاء جهاز حاسب آيل‬
‫حممول لفرد يف الدول الصنـاعية تكفي لتطعيم ألفي طفـل ضد ستة أمراض يف الدول الفقـرية‪ .‬وهكذا من إحصائيات‬
‫مقـززة أفرزهتا جمتمعات احلداثة ‪X‬حتى‪ Z‬هناية القـرن العرشين (هذه الصفحات كتبت قبل أكثر من عرشة سنوات‪،‬‬
‫هلذا فـإن إحصائياهتا قديمة‪ ،‬إال هـناك إحصائيات حديثة ستـأيت يف فصل ‪X‬الفصل والوصل‪ ،Z‬ومنها ستلحظ بإذن اهلل‬
‫تردي احلال أكثر وأكثر)‪.‬‬

‫ال تدفع‬
‫كام أن احلداثة قسمت األمم إىل متمكن ومسلوب‪ ،‬ومتبـوع وتابع‪ ،‬دائن ومثقل بالديون‪ ،‬فالفلبني مث ً‬
‫يـومياً للبنـوك نصف دخلها القـومي لتغطية فـوائد ديوهنـا فقط ناهيك عن الـديون ذاهتا‪ .‬ويف مـوزانبيق فإن ‪ %25‬من‬
‫األطفال يموتون قبل بلوغ اخلـامسة من العمر بسبب األمراض املعديـة‪ ،‬يف حني أن الدولة مضطرة لتخصيص ضعف‬
‫ما تنفقه عىل الصحـة والتعليم لسداد ديـوهنا‪ 17.‬أي أن احلداثة مسخـت شعوب العامل الثالث املـسلوب إىل مجاعة من‬
‫ثراء وغناهـم بطر ًا‪ .‬وهكذا‬
‫الفقراء واجلـهالء واملرضى ليرتكهـا املتعلمون من أبنـائها ويلحقوا بـالغرب لتزداد قـوهتم ً‬
‫من عـامل ثالث‪ ،‬أو بـاألصح عامل متهـالك‪ ،‬من يسء إىل أسوأ‪ .‬وكل هـذا حتت شعار احلـداثة‪ .‬ولـكنك قد تقـول‪ :‬وما‬
‫دخل احلداثـة يف كل هذا البالء يف العامل؟ فـأقول‪ :‬بل هي املسؤولـة الوحيدة كام سـرتى بإذن اهلل‪ ،‬ولكن قبل إثبات‬
‫ذلك كام سيـأيت يف فصـول خمتلفـة‪ ،‬وللخروج مـن هذا االستـعباد والـفقر واجلهل واملـرض‪ ،‬البد يل من الـتذكري أوالً‬
‫بجذور احلداثة وباختصار شديد إذ أهنا مسألة جد معروفة للكثري من القراء‪.‬‬

‫املادةي‬
‫لقد كانت الكنيسـة هي املسيطرة عىل املجتمع‪ .‬وكـان اإلنسان األورويب مسري ًا ال حقوق له وال إرادة إال من‬
‫خالل إرادة الكنيسـة‪ .‬الكنيسة هي املرجع لكل ما هو سيايس واقتـصادي واجتامعي‪ .‬وكانت بعض أحكام الكنيسة‬
‫تتعارض مع الـعقل أحيانـاً‪ ،‬فبدأت مـسامهـات الفالسفة مـثل كانط وفـولتري وروسـو يف البحث عن خمـرج ملثل هذا‬
‫‪59‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫التعـطيل العقيل املرفوض‪ ،‬فكان الطريق هو اهلروب من أغالل حكم الكنيسة إىل حكم العقل البرشي‪ .‬وهذا النهج‬
‫الـفكري مل ينـترص وينتـرش إال يف القرن الثـامن عرش من خالل مـسامهـات أولئك الفالسفـة‪ .‬وقد سمـي هذا النهج‬
‫الفكري كام هو معلوم بـ ‪X‬التنوير‪ .Z‬وأول من صاغ فلسفـة التنوير هو كانط‪ ،‬فقد آمنت فلسفته بإمكانية تشكيل‬
‫دستور للحـرية مالئم جلميع احلضـارات وإمكانية إجيـاد سالم دائم بني األمم من خالل التقـدم البرشي عقلياً ودون‬
‫اللجوء لألديان ألهنا مصدر اخلالفات بني الشعوب‪ .‬أي أن جـذور احلداثة مغروسة يف عرص التنوير كام هو معلوم‪.‬‬
‫وبالـطبع انترش هـذا الفكر بني أفـراد املجتمع وحبـذوه ألنه سيحررهـم من الكنيسـة الالعقالنية‪ ،‬حتـى أتت الثورة‬
‫الفـرنسية (سـنة ‪1789‬م) وانترصت هـذه الفلسفة وانـترشت عىل مستـوى شعبي‪ ،‬ثم أتت الـثورة الصنـاعية يف إنجلرتا‬
‫لـتؤكـد انتصـار حكـم عقل اإلنسـان عىل الكـنيسـة‪ .‬فالـثورة الفـرنسـية حـررت الشعـوب األوروبيـة من االستـبداد‬
‫اإلقطاعـي إىل إجياد دستـور يضمن سيـادة دولة القـانون‪ .‬فـكانت القـوانني التي هي مـن نسج عقل البـرش حتكم بني‬
‫الناس‪ .‬أما الثورة الصناعية فقد حررت اإلنتاجية الصناعية برأسامليتها ونقلتها إىل آفاق أخرى اتسمت بالرفاهية من‬
‫خالل زيـادة االستهالك وتـسخري املـوارد الطـبيعيـة للمصـنوعـات‪ ،‬وهكـذا تكـدست الـثروات‪ .‬وهبـذا ظهـرت قيم‬
‫العقالنية والـديمقراطية أو ما يسمـى باحلداثة‪ .‬أي أن العقل البرشي هـو املرجع واحل َ‬
‫كم‪ ،‬فهو الذي حيكم من خالل‬
‫الديـمقراطيـة‪ .‬ومن البـدهي أن يتبع كل رافـض للدين هلـذا املذهب اجلـديد املـسمى بـ ‪X‬الـتنويـر‪ ،Z‬وهم كثري ألن‬
‫أحكام كنائسهم مل يكن ليقبلها عاقل‪ .‬إال أن هناك عدة إشكاليات من أمهها الديمقراطية‪ ،‬كيف؟‬

‫إن الـديمقراطية ما هي بـاختصار إال أداة حلكم الشعب؛ وهي أيـضاً أداة لتنظيم احلريـة‪ .‬ولكن السؤال هو‪:‬‬
‫حكم من وتنـظيم من؟ إهنا حكم من هم أحياء من الناس وتنظيم شـؤون حياهتم‪ .‬كيف؟ إن الديمقراطية احلقة هي‬
‫التـي تنتهـي بانـتخاب مـسؤولـني يقومـون بتحقيق رغـبات ومـصالح الـشعب من خالل أدوات عـدة مثل الربملـانات‬
‫واألحـزاب وتداول السلطة‪ .‬ولكن رغبات ومصالح أي شعب؟ إنه الـشعب الذي يعيش اآلن‪ ،‬وليس من سيأتون بعد‬
‫عرشات أو مئـات السنني‪ .‬فهـؤالء الذي مل يولـدوا بعد‪ ،‬ال تصـويت هلم‪ ،‬لذلك فـإن مصاحلهم لن يـؤخذ هبا ألهنم مل‬
‫يـولدوا بعد‪ .‬وهذه من أهم كوارث الـديمقراطية كام سيتـضح بإذن اهلل‪ .‬فعندما يقوم سلـطان أو حكومة باالقرتاض‬
‫بـإصدار سنـدات ماليـة فإنـام هم يرحلـون مآزقـهم املاليـة لألجيال القـادمة‪ ،‬واألهـم هو أن الشـعب احلايل عنـدما ال‬
‫يكـرتث بنقاء البيئة مـستأثر ًا بالـتمتع بمنتجات استـهالكية من مصانع تلـوث البيئة‪ ،‬فهو إنـام يرحل فضالته لألجيال‬
‫القادمة‪ ،‬وهكذا‪ .‬لذلك كان العلم بالغيب رشط ملن أراد أن حيكم‪ ،‬وهذا ال يتوفر ألي برش كام سبق وأن وضحت‪.‬‬

‫ومن إشـكاليات احلـداثة أيضـاً اآليت‪ :‬إن تم رفض الديـن يف احلداثة فام هـو املرجع للقيم؟ فالبـد ألي إنسان‬
‫عنـد اختاذ قرار ما من مـرجع‪ .‬هنا أتت الفيزيـاء النيوتونيـة ودخلت يف علم السلوكـيات‪ .‬فإنكار التـنوير للدين أدى‬
‫إىل جمتمع بدأ ينظر ويتقبل األفعـال البرشية عىل أهنا عمليات كأهنا فيزيائيـة أو كيميائية‪ ،‬فتم بذلك إنكار الظواهر‬
‫التي ال يمكن إثباهتـا بالتجربة واملالحظة‪ ،‬فارتفع شأن العقل والعلم عىل حساب األديان‪ ،‬فأصبحت العلوم اإلنسانية‬
‫علوماً مادية بـحتة‪ .‬فظهرت املادية التـي تؤمن أن املادة هي املكون األزيل للكون‪ ،‬فـال حكمة هناك إذ ًا من الوجود‬
‫والكون‪ ،‬حتى وإن وجدت فـال طائل من معرفتها ألهنـا ميتافيزيقيـة أو غيبية‪ ،‬فال أمهية لآلخـرة واحلساب‪ .‬لذا فإن‬
‫ال هو الذي ُحيكّم اللذة والشهوة‬
‫الثروة وامللذات اجلسدية هي اهلـدف األساس من حياة الناس‪ .‬فالعقل الربمجـايت مث ً‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وهذه هي الطريقة األمريكية يف التنوير‪ .‬وهكذا توجهت املجتمعات الرأساملية إىل املادية التي ازدادت‬
‫قص احلق‬ ‫‪60‬‬

‫قـوة عرب السنني وأدت إىل وضع مأسـاوي ألن ما حيدد أولويـات الناس هو املـصلحة الذاتيـة التي من املفرتض هبا أن‬
‫ترتاكم لتعكس مصلحة املجتمع والبرش‪ .‬إال أن هذا مل حيدث لسبب واضح هو أن الفرد عندما يتخذ قراره بطريقة‬
‫عقالنيـة إنام ُيغلّب أهـواءه‪ ،‬فيتخـذ القرار الـذي يلبـي متطلـباته أوالً‪ .‬وهبـذا انقلـبت العقالنيـة يف جممـوع األمة إىل‬
‫أهواء‪ .‬فظهر من املفكرين من يمقت هذا الوضع‪.‬‬

‫مايلك وفوك‬
‫لقـد بدأت أمـراض احلداثـة تتفشـى بسبب انـتشار الـبطالـة والالمسـاواة يف توزيع الثـروات وما إىل ذلك من‬
‫إفرازات الرأساملـية‪ ،‬والتي عزاها املفكـرون املعارصون إىل ظهور املؤسسـات السلطوية حتـت مظلة العقالنية (مثل‬
‫الـدوائر احلكومـية والبنوك) والـتي تسري املجتمعـات‪ .‬فباسم العقالنيـة التي تتطلب جمتـمعاً آمناً مثـ ً‬
‫ال ظهرت الرشطة‬
‫التي تـتغذى يف نفقاهتـا عىل الدولة‪ ،‬ثم تـطور من هذه املـؤسسة جهـاز ًا استخباراتيـاً مستق ً‬
‫ال حيافـظ عىل أمن الدولة‪.‬‬
‫فبدأ هذا اجلهاز يف تقديم خدمات أخرى تقيد ذات احلرية التي دعت إليها احلداثة‪ ،‬وبالذات يف دول العامل الثالث‪.‬‬
‫وهكذا كثـرت املؤسسـات وأصبحت هي العمـود الفقري للـمجتمعات‪ .‬وهـذه املؤسسـات التي بيدهـا زمام قرارات‬
‫ال أو رفضه أدت إىل ظهور طبقات مالـية سلطوية من السكـان بعضها فوق بعض‪ .‬وما‬
‫إجازة أو متويل مرشوع مـا مث ً‬
‫كان هـذا إال ألن من بيـده القرار قـد يقدم مصـلحته عىل مصلحـة مجاعتـه‪ ،‬فبدأ القهـر والظلم يف االنتـشار‪ .‬عنـدها‬
‫ظهرت مجاعة من املفكرين‪ ،‬وبالذات من الفرنسيني مثل جان ليوتار ومايكل فوكو وجاك داريدا ممن دب اليأس يف‬
‫نفوسهم من تضاربـات إنجازات احلداثة املؤملـة مع مبادئ عرص التنويـر التي دعت إىل حتكيم العقل البرشي يف كل‬
‫يشء‪ .‬فكانت احلـرية‪ ،‬وظهرت الكتـابات التـي تبحث عن النجـاة للفرار بـاملجتمعـات من حكم العقالنـية إىل حكم‬
‫آخر ال يعلـمون ما هو‪ ،‬وكيف سيكون موقع العقل منه؟ فمن هؤالء املفكرين‪ ،‬ومن أشهرهم مايكل فوكو‪ 18‬والذي‬
‫ال شاذ ًا جنـسياً وأنه كتم هذا طيلة حيـاته‪ ،‬فامت متأثر ًا بمرضه وبحرسته دون‬
‫اتفق الكثري ممن عـرفوه بأنه كان رج ً‬
‫إعالن شـذوذه‪ .‬تأمل أخي القـارئ مدى الضيـاع الذي هم فيه‪ :‬إن فـوكو هذا يعـترب من أشهر مفـكري الغرب اآلن‪،‬‬
‫انظر إىل مصدر فكرهم وفلسفـتهم! (والعجيب هو أن الباحثني يفصلون بني فكـر فوكو وبني حياته وكأهنام اثنان)‪،‬‬
‫وألن الشـذوذ كان مرفوضـاً خالل شباب فوكـو ثم بدأ باالنتـشار‪ ،‬وبمثل هذه امللـحوظات‪ ،‬وضع فوكـو فلسفته التي‬
‫تنص عىل أن املجتمعات يف تغري دائم تبعاً لقيم مـن حيكم‪ .‬فالحظ من خالل أبحاثه أن بعض ما كان حمرماً يف حقبة‬
‫من الزمن أصبح مباحاً يف حقبة أخرى نظر ًا لـتغري قيم املهيمنني عىل املجتمع‪ .‬واستحب كثري من الناس فكرته هذه‬
‫من أن التسلط يف املجتمعات هـو أهم بنية توضح تركيبة املجتمع والتـي توصل من خالهلا فوكو إىل أن احلداثة نظام‬
‫مشحون بـالسيطـرة برغم رفعـه لشعار احلـرية‪ ،‬فـاحلداثـة ُختضع النـاس إلرادهتا وذلـك ألن قيم وأهواء ومـصالح من‬
‫بيدهم الـسلطة هـي التي حتكم النـاس‪ .‬فالعقالنيـة ال ريادة هلا ألهنـا تتبع منـطق وأهواء من بيـدهم السلطـة‪ .‬فكان‬
‫ال‬
‫هجومه العنيف عىل أسس احلداثة ومؤسساهتا‪ .‬فاحلداثة بعقالنيتها كام يرى فوكو أدت من خالل تطور العلوم مث ً‬
‫إىل ظهور اجلامعـات‪ ،‬وبالشهادات تكتسب األموال‪ ،‬فمن مل يتمكن من دخول اجلامعة لعرس مايل أو لقصور فكري‬
‫عـاش فقري ًا‪ .‬ومن عـاش فقري ًا صـار تعيـساً يف جمتـمع مادي‪ .‬فـالعلم مـن خالل احلداثـة أصبح مقيـاساً للـرفع والوضع‬
‫املعييش بـني الناس‪ .‬وهكـذا السفـر أيضاً‪ ،‬فال يـمكن ألي فرد الـتحرك دون إثبـاتات ورقيـة‪ ،‬ودون بطاقـات وطنية‬
‫‪61‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ونحو ذلك من أدوات السيطرة التي قد يساء استخدامهـا‪ .‬فكل فرد خاضع ملراقبة مؤسسات احلداثة‪ .‬وإلدراك ذلك‪،‬‬
‫فكل ما عليك فعله إن كنت تعيش يف الغـرب هو حماولة رشاء منزل من خالل نظام التقسيط عرب املؤسسات‪ ،‬حيث‬
‫يوضع املشرتي حتت تسلط املؤسسات املالية والقانونيـة والتي ستنهك املشرتي بالفوائد واألرباح ليعيش أكثر عمره‬
‫منـهكاً بالـديون وبالـتايل ال سيطـرة له ألن املال أصبح سلـطاناً‪ .‬وقـد تقول أخي الـقارئ إن كنت ممن عـاش يف نظام‬
‫غريب مدجج بـاملؤسسات‪X :‬ما هذا اهلراء؟ إذا أردت رشاء منزل فالبـد وأن حتاول هذه املؤسسات حفظ حقوقها؟‪.Z‬‬
‫فـأقول‪X :‬ألنـنا نـشأنـا يف جمتمعـات تتـغذى عـىل احلداثـة يصعـب علينـا التفكـري من منـظور آخـر‪ ،‬فاإلسـالم أوجد‬
‫مقصوصة من احلقوق ال تؤدي هلذا االستعباد؛ ال‪ ،‬بل وجتذه من جذوره‪ ،‬وتوفر املسكن كام سيأيت بإذنه تعاىل‪.Z‬‬

‫أي أن احلريـة املزعومة عـىل املستوى الفكري يف العـامل الغريب تكبلت باألغالل عـىل املستوى الواقعي‪ ،‬أي‬
‫عىل مستـوى اإلرادة الشخصية أو املؤسسـاتية‪ .‬فتقدم التقنيـة أدى إىل أسلحة الدمار الشـامل وارتفاع نفقات التجهيز‬
‫ال‪ .‬وأفلتت املصـانع بمهارة حمامـيها من قيود القـوانني ولوثت البيـئة جرياً‬
‫احلريب والذي كـان عىل حساب التـعليم مث ً‬
‫وراء الربح‪ ،‬وهكذا من تنـاقضات مل ختطر عىل عقل أي ممـن وضعوا أسس احلداثة‪ .‬ويف دول العـامل الثالث فالوضع‬
‫كـان أسوأ‪ .‬فـاألنوار الـتي أدت إىل احلريـات يف احلداثـة أفرزت األغالل يف املجتـمعات املتخـلفة من خالل املـدرسة‬
‫واملعمل والـثكنــة والبنـك وخطـابـات التـوصيـات والـضامنـات والكـمبيـاالت والـرخـص واالستامرات والـصكـوك‬
‫والتأشريات واجلوازات‪ .‬فمن ملك شهادات أعىل كانت له السيطرة من خالل املادة‪ ،‬ومن ملك رأس مال أكثر كانت‬
‫له فرصـة تسخري اآلخريـن خلدمته‪ ،‬ومن كانـت بيده صالحية إصـدار تأشرية سفر كـان هو األعىل‪ ،‬ومن كانت يف‬
‫مكتبه تراخـيص البناء كـان هو األقوى‪ ،‬وهكـذا استعبدت املجـتمعات أنفسهـا ليقل إنتاجهـا نظر ًا لتحـطم أفرادها‪.‬‬
‫فكل من وصل ملـنصب انـتفخ‪ ،‬وكل من نـزل من كـريس انكمـش‪ ،‬ومن ملك الـتقنيـة من بني األمـم استعمـر من مل‬
‫يملكها‪ .‬ومن اقتنع بقـي ٍم ما حاول فرضها عىل غريه‪ .‬أي أن احلـداثة خرجت من جمراها املتـوقع هلا‪ ،‬فتغلبت الغريزة‬
‫املنفعـية السلطويـة لدى البرش عىل الغريـزة املعرفية الـتحررية احلاملـة‪ ،‬وتغلبت سامت التوسع واهلـيمنة حتت شعار‬
‫التقدم يف احلداثـة عىل أحالم حترير البـرش‪ .‬وهبذا خضعت املجتمعـات يف العامل الغريب لتسلـط رأس املال والقانون‬
‫واملؤسـسات بـدالً من تسـلط الكنيـسة‪ .‬أمـا يف العامل الثـالث فقد خـضع أفراد املجتـمعات لتـسلط من بيـدهم زمام‬
‫املجتـمعات من احلكام ومن يدورون يف فلـكهم ألهنم أبدعوا يف تسخري مـؤسسات احلداثة لتـثبيت أنفسهم وقهر من‬
‫خالفهم‪ .‬أمل تر ما فعله صدام يف العراق وبن عيل يف تونس ومبارك يف مرص؟ أي أن الفالسفة الغربيني الذين وضعوا‬
‫أسس احلـداثة‪ ،‬مثل ديـكارت وكانـط وهيغل‪ ،‬والذيـن اعتقدوا أن البـرشية ستتقـدم باستمـرار نحو السعـادة والرفاه‬
‫للجمـيع‪ ،‬مل يكن ليتوقعـوا أن هذا سيحدث‪ .‬ولـكنه الضنك بسـبب اخلروج عن حكم اهلل‪ .‬أمل يقل سـبحانه وتعاىل‪:‬‬
‫رَض عَ ن ِذك‪c‬رِي فَـإِ َّن لَهُ‪ /‬مَعِيشَ ـةً َضنكً ا وَ نَح‪ c‬شُ ـرُ هُ‪ /‬يَو‪ c‬مَ ‪e‬ل‪c‬قِيَ^مَةِ‬
‫وَل يَـش‪ c‬قَى‪ 123#‬وَ مَن‪ c‬أَع‪َ c‬‬
‫َـن ‪e‬تَّبَعَ هُ دَ ايَ ف ََل ي َِض ُّل َ‬
‫(فَم ِ‬
‫‪19‬‬
‫أَع‪ c‬مَى)؟‬

‫ولـكن كيف دفعت احلداثة البرش هلذا الضنك؟ فهي تنادي باالحتكام للعقل‪ .‬ومن هذا الذي يرفض العقل؟‬
‫إن فك هذا اللغـز ال يكون إال بتجريد احلداثة ملا تنادي به من جهة‪ ،‬وملا تفعله من جهة أخرى‪ .‬فهذا التمييز بني ما‬
‫تنـادي به احلـداثة ومـا تفعله متيـيز جـد مهم يـغفل عنه الكـثري‪ ،‬بل وحتـى أن أكثـرهم‪ ،‬أي الـغربـيون ومـن تبعهم‪،‬‬
‫يرفـضون النظر إليه إذ أنه طريق مسـدود بالنسبة هلم‪ ،‬لذلك يـرفضون حتى جمرد التفكري فيـه فلسفياً برغم عويلهم‬
‫قص احلق‬ ‫‪62‬‬

‫من نـتائجه‪ .‬فاحلداثـة تنادي بالعقالنيـة‪ ،‬ولكن عقالنية من هي الـتي ستطبق عىل أرض الواقع‪ ،‬هـذا هو لب املشكل‬
‫الذي ال يريدون أن يقروا بخطئه‪ .‬فكل فرد من البرش له عقله وفكره واعتقاده وقناعته‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فالذي يطبق هو‬
‫عقالنية من بـيده القرار أو الـسلطة‪ .‬وهنـا املشكلة‪ .‬فـالناس هلم قـناعات‪ .‬وهـذه القناعـات عادة ما تـصبغ عقوهلم‪.‬‬
‫ال‪ ،‬ومنهم‬
‫فمـنهم من يريد منع محل األسلحة بني العامة‪ ،‬وهم الديمقراطيون‪ ،‬كام يف الواليات املتحدة األمريكية مث ً‬
‫من يريد تـرخيصه وهم اجلمهـوريون‪ .‬ومنهم مـن يريد منع اإلجهـاض‪ ،‬ومنهم من يريـد إباحته وعىل نفقـة الدولة‪.‬‬
‫ولعل املصـالح هي أهم مـا يصبغ عقـول النـاس‪ .‬فمن كـان فقري ًا يف نـظام ديـمقراطـي كانـت مصلحتـه يف أن يكون‬
‫التعليم عىل نفقة الدولـة التي تأخذ الرضائب من األثريـاء‪ .‬أما األثرياء فمصلحتـهم عكس ذلك حتى يفلتوا من دفع‬
‫الرضائب‪ .‬وهـكذا نجـد أن املصـالح جتمع الـناس و ُتـكتلهم حـوهلا إىل أحـزاب‪ .‬وتتنـافس هـذه األحزاب للـوصول‬
‫للسلطة عـن طريق االنتخابـات‪ .‬ومن وصل للسلطـة استخدم عقله ملـصلحته وغري القانـون لصاحله ليفعل مـا يريد‪.‬‬
‫وهبـذا ينجرف النـاس للضنك‪ .‬وسـنأخذ مـثالني ببعـض التفصيل عىل هـذا املأزق للعقالنـية التي تنـادي بيشء وتنتهي‬
‫مـر مؤلف هذا الكـتاب رسيعاً عىل أفكـار فيلسوف‬
‫بالرضورة بفعل يشء آخـر‪ .‬ولكن قبل ذلك لعلك تتـساءل‪ :‬لقد ّ‬
‫غـريب ما بعد حـداثي ينقد احلـداثة‪ .‬أي أنه هترب من نقـد عقالنيي احلداثـة مثل هابرمـاز أو كارل بوبـر‪ .‬أقول‪ :‬لقد‬
‫نقدت أهم مفكـر غريب عقالين وهو كارل بوبر ثم قررت سحب النقد من هذا اجلزء من الكتاب ووضعته يف فصل‬
‫‪X‬املعرفـة‪ Z‬ألنني رأيت أن النقد طويل يف صفحاته ممـا سيشتت تركيز القارئ عـن حمور هذا الفصل‪ ،‬وألن مسامهات‬
‫كارل بوبـر مهمة لفهم الفكر الغـريب عقالنياً وال يمكن جتاهلهـا‪ ،‬وألهنا ذات صلة بموضـوع العلوم‪ ،‬فقد وضعتها يف‬
‫فصل ‪X‬املعرفة‪.Z‬‬

‫املاثل ألاول‪ :‬ألاوهاء‬


‫كيف حـدث (أو حيدث) التلـوث البيئي؟ لعل يف اإلجـابة عربة؟ لـنأخذ الغـازات كمثال‪ .‬لقـد انشغل العلامء‬
‫بقياس كمية غاز ثاين أكسيد الكربون وتأثري ارتفـاع نسبته عىل هذا الكوكب منذ بدء الثورة الصناعية‪ .‬بينام رجال‬
‫األعامل وأصحاب املصـانع والسيـاسيون يشـككون يف ذلك ألهنم أصحـاب مصالـح‪ ،‬والناس يف غفلتهـم وماضون يف‬
‫اسـتهالكهم‪ .‬ففـي عام ‪1896‬م قـام الربوفسـور السـويدي سفـنتي ‪ Svente Arrehuis‬بكـتابـة بحث ربـط فيه بني‬
‫زيادة استهالك املـحروقات مثل الـفحم والبرتول (أو ما يعـرف بالطـاقة األحفوريـة ‪ )fossil fuels‬يف توليد الـطاقة‬
‫وتشغيل املصـانع‪ ،‬وبني ارتفاع حـرارة الكرة األرضيـة نتيجة ملـا يعرف بظـاهرة االحتـباس احلراري ‪.greenhouse‬‬
‫وبني عامي ‪ 1890‬و ‪ 1940‬تم قيـاس حرارة األرض التي ارتفعت ربع درجـة مئوية‪ .‬وهـذا الفارق كبري إن أدركنا أن‬
‫الفرق بـني حراريت العرص اجلليـدي وهذا القرن هـو أربع درجات مئـوية فقط‪ ،‬والنـاس غافلون عـام حيدث‪ .‬ملاذا؟‬
‫ألن املستهلـكني عادة ما تكون أصواهتم غري مسموعة إال إذا احتدوا‪ ،‬واحتادهم أبطأ رسعة من احتاد أصحاب رؤوس‬
‫األمـوال ألهنم أكثـر انتـباهـاً وإرادة من املـستهلكـني؛ وهلذا‪ ،‬فـأصحاب رؤوس األمـوال أرسع حركـة ألن مصـاحلهم‬
‫ستترضر إن أوقفت مصـانعهم‪ .‬هكذا تعمل املجتمـعات الرأساملية‪ :‬فـالقانون هو كل يشء‪ .‬والقـانون يتغري ويتبلور‬
‫بـناء عىل ضـغوط اجلامعـات ورسعة حـركتهـا من خالل املـمثلني يف الربملـانات واملـحامني األنـشط‪ .‬فظهـر القلق بني‬
‫ً‬
‫العلامء الـذين بدؤا ينـذرون الناس‪ ،‬ولكـن ال جميب ألن القيم احلـاكمة هـي الرأسامليـة التي تبـحث عن الربح اآلين‬
‫‪63‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ال‪ .‬فـالرشكـات تبث اإلعـالنات التـي تغري املـستهلكني‪ .‬أي أن‬


‫دون اكـرتاث ملا يمـكن أن حيدث لـآلخرين مـستقب ً‬
‫العقالنية التي أتى هبا عرص التنوير قد تعطلت وبدأت األهواء التي حتركها املصالح بمسك زمام األمور‪.‬‬

‫ثم بدأ عامل أمريكي اسمه كيلنـج ‪ Keeling‬سنة ‪1958‬م بقياس كمية غاز ثاين أكسيد الكربون كل عرشة‬
‫ثـوان وملدة أربعني سنة ليـثبت أن كمية الغاز يف زيـادة مستمرة‪ .‬وبعد إثـبات ذلك ظهرت سنة ‪1974‬م نـظرية تزعم‬
‫أن عرص ًا جليـدياً سيـأيت وأن الذي يدعـم هذا هو حجـب الغازات ألشعة الـشمس وأن األرض قد ال تـرتفع حرارهتا‬
‫ض ّعفت ورفـضت عندمـا أتت عىل الكرة األرضيـة شهور ًا صيفـية حارة‬
‫كـام قال بعض العلـامء‪ .‬إال أن هذه النظـرية ُ‬
‫بشـكل غري معتـاد يف الثـامنينـات‪ .‬ثم كـانت سـنة ‪1985‬م سـنة حـاسمـة لكل مـن كان يـشكك يف تلـويث اإلنـسان‬
‫لألرض‪ .‬فقـد اكتشف جـو فارمـان ‪ Jo Farman‬فتحـة فوق القـطب املتجمـد الشـاميل بمسـاحة الـواليات املـتحدة‬
‫األمريكيـة يف طبقة األوزون بسبب غـاز ‪ CFCs‬والذي ينتجه البـرش‪ .‬وطبقة األوزون هذه تعـمل حلامية البرش من‬
‫األشعـة فوق البـنفسجيـة التي تـؤدي إىل تلف العني وإىل رسطـان اجللد إن نفـذت لألرض‪ .‬وهكذا تـأكد لـلناس أن‬
‫أفعاهلم ستـدمر الكـرة األرضية‪ .‬عـندها بـدأ العامل الـغريب احلريـص عىل احلياة بـاالستيقاظ خـوفاً عىل نفـسه‪ .‬وبعد‬
‫ثـالث سنوات من ذلك االكتشاف ويف عـام ‪1988‬م قدم العامل األمريكي جـيمس هانسون ‪ Hanson‬لـلجنة الطاقة‬
‫يف جملس الشيوخ األمريكـي تقرير ًا يؤكد فيه العالقة بني ظواهر التـلوث وسلوكيات االستهالك الرأساملية وبالذات‬
‫للـطاقـة‪ ،‬كتلك الفـضالت الغازيـة التي ختـرج من عـوادم السـيارات واملـصانـع‪ .‬وخالل أشهر قـامت األمم املـتحدة‬
‫مرسعة بتكـوين جلنة احلكـومات البينيـة للتغري املناخي أو ‪Inter-governmental Panel on Climate( IPCC‬‬
‫‪ )Change‬لتقيص مـدى صحة مسؤوليـة البرش عن التغري املنـاخي‪ .‬وكان أول تقريـر للجنة هو أن هنـاك إمجاعاً من‬
‫أبـرز العلامء بأن جـو الكرة األرضيـة سيشكل خـطر ًا عىل حيـاة البرش إن استمـر احلال عىل مـا هو عليـه من انبعاث‬
‫للغازات التي ستؤدي إىل ظاهرة االحتبـاس احلراري‪ .‬وكان التقرير واضحاً وشديد ًا لدرجة ال يمكن معها للسياسيني‬
‫الـرتاجع عن وضع قوانـني حتد من االسـتهالك‪ .‬وبعدهـا اجتمعت ‪ 160‬دولـة يف مونـرتيال بكنـدا للحد مـن استخدام‬
‫الغاز الذي يـؤثر عىل طبقة األوزون ‪ .ozone‬وهنا بدأت أهواء الرأساملية عملها‪ .‬فقد حتركت جمموعة من الرشكات‬
‫األمريكـية الكـبرية التي سـتترضر من مـثل هذه القـرارات وتكاتفـت (وعرفت بـ ‪)Global Climate Coalition‬‬
‫وأنتجت فـيلام ً يسعى إلقناع العـامة بأن ظاهرة اجلـو املشبع بالكربـون لن يقتل األحياء عىل األرض‪ ،‬بل عىل العكس‬
‫سيؤدي إىل ازدهارهـا‪ .‬وانترش هذا الفيلم وبدأت أفكاره تؤثر يف العامـة ومن ثم يف تشكيل السياسة األمريكية التي‬
‫مل تـتعاون مع الـدول األخرى للحـد من التلـوث‪ .‬ثم يف العـام ‪1992‬م اجتـمع حوايل ‪ 180‬فـرد ًا من رؤسـاء الدول يف‬
‫امللـوثة ودول اجلنـوب التي‬
‫ّ‬ ‫العامل يف ريـودجيانـريو بالربازيل‪ .‬إال أن خالفـاً بدأ يـدب بني دول شامل الكـرة األرضية‬
‫طلبت من دول الـشامل ختفيف التلويث ودفع ما يلـزم حيال حتمل تبعات التلـوث ووضع رضائب عىل الطاقة‪ .‬وهذا‬
‫مـا رفضته الـواليات املتحـدة األمريـكية ممثـلة لرشكـات الطاقـة‪ ،‬فأيـن العقل هنا؟ ثـم وقعت ‪ 160‬دولة عىل اتقـافية‬
‫تسعى لتخفيف التلوث‪ ،‬إال أن أحد ًا مل يلتزم بذلك واستمرت الرشكات يف إنتاجها املعتاد‪.‬‬

‫ويف سنة ‪1995‬م قامت جلنة ‪ IPCC‬بنرش تقـريرها الثاين الذي تؤكد فيه مـسؤولية البرش عن التغري املناخي‪،‬‬
‫وعندهـا أيضاً قـامت الرشكـات بحملـة إعالمية أثـارت فيها الـربط بني سـعر الطـاقة ومـا يمكن أن حيـدث يف حال‬
‫وضعت رضائب عىل الـطاقـة‪ .‬أي أن ما حيـرك عقالنيـة الرشكـات هو مـصاحلهـا‪ .‬فام تـدعيه احلـداثة مـن مرجعـية‬
‫قص احلق‬ ‫‪64‬‬

‫للـعقالنية هي يف الـواقع جري وراء املصـالح‪ .‬وماذا عن رجـال السيـاسة؟ هم أيضـاً برغم ادعـائهم للعقالنـية جيرون‬
‫وراء مصـاحلهم‪ .‬فربغم كل هذه اإلثباتات التـي تؤكد عىل رضورة تقييد املجتمعـات لالستهالك إال أن رجال السياسة‬
‫يف الواليات املتحدة األمريكية وخوفاً من فقدان االنتخابات اتبعوا أهواء الرشكات‪ .‬فأين هي العقالنية التي تزعمها‬
‫احلـداثة؟ ولعلك تقول‪ :‬إن هـذا الرصاع بني االجتاهـني له جذر فلسفي‪ .‬فـاحلداثة تعتـرب‪ ،‬والعياذ باهلل‪ ،‬اإلنـسان وكأنه‬
‫رب للكـون‪ ،‬أما ما بعـد احلداثة فتعـترب اإلنسان عـنرص أو حيوان كبـاقي احليوانـات التي تعيش عىل هـذا الكوكب‪.‬‬
‫فمن هـم متأثـرون باألفكـار ما بعـد احلداثيـة جتدهم يـرتاجعون يف متجيـد اإلنسـان الستعامر هـذا الكوكب‪ .‬إال أن‬
‫املحصلـة يف كلتي احلالتني هي احلكم بـالعقل القارص‪ .‬فهؤالء ما بعـد احلداثيني ال بديل فكري لـدهيم ليقدموه سوى‬
‫التأفف والتذمر من إنجازات احلداثة‪ .‬فهم املفلسون فكرياً كام سرتى بإذنه تعاىل‪ .‬نعود ملثال التلوث‪:‬‬

‫ثم بعد ذلك أتى اجتامع كيـوتو سنة ‪1997‬م والذي طـالب فيه العلامء السياسـيني العمل عىل ختفيض انبعاث‬
‫الـغازات الدفيئة بنـسبة ‪ %60‬إن هم أرادوا إيقاف خماطـر ارتفاع حرارة اجلو يف الكـرة األرضية‪ .‬إال أن مندويب الدول‬
‫مل يتـفقوا إال عـىل التخفيـض بنسـبة ‪ %5.2‬بـحلول عـام ‪2010‬م‪ .‬واملضحك يف املـسألـة هو أن الـتفكري الـرأساميل أو‬
‫العقالين املصلحي كان أيضاً هو احلاكم‪ .‬وأنى هلم التفكري بطريقة أخرى؟ فقد حاولت الدول االتفاق عىل حصص‬
‫للـتلويث بحـيث حيق للدولـة رشاء حصة تلـويث من دولة أخـرى‪ .‬وهذه احلـصص تزيـد إن قامت الـدولة بـابتكار‬
‫واستخدام تقنية غري ملوثـة‪ ،‬أو قامت بزيادة رقعة املـساحة الزراعية الـتي متتص ثاين أكسيد الكـربون أو ما تسمى‬
‫بأحواض الـكربون ‪ .carbon sinks‬وهكذا كان عىل ممثيل الدول االجتامع مـرة أخرى لالتفاق عىل كيفية التنفيذ‪.‬‬
‫وكام يقول املهـتمون بـشؤون البـيئة‪ ،‬فـإن الدول الغـنية حتـاول الفالت من مسـؤلياهتـا جتاه التلـوث‪ .‬أي أن كل دولة‬
‫ال‪ ،‬ادعت الـواليات‬
‫حتاول أن تـرمي عبء ختـفيف التلـويث عىل الـدول األخرى لـتفلت هي بـاملجهـود األقل‪ .‬فـمث ً‬
‫املتحـدة األمريكـية بأهنـا إن قامت بـاحلفاظ عىل رقعـة غاباهتـا دون نقصان فـهي إنام تسهم يف احلـد من التلوث ألن‬
‫الرقعـة املزروعـة يف الكرة األرضـية يف نقصـان‪ .‬كام أهنا طـالبت مسـاعدة املجـتمع الدويل يف ختفـيف التلوث إال يف‬
‫أراضيهـا‪ .‬فهـي تريـد دعم استـخدام أرخـص الوسـائل لتنـظيف التـلويـث يف أوروبا الـرشقيـة‪ ،‬وتريـد أن تعني عىل‬
‫استخدام الـرياح لتوليد الطاقة يف اهلنـد‪ ،‬وتريد دعم الطاقة الشمسيـة يف أفريقيا‪ ،‬أما عىل أرضها (أي أرض الواليات‬
‫املتحدة األمريكية) فهي ال تريد التغيري انصياعاً للرشكات‪ .‬والظاهر هو أن الدول الصناعية ستميض يف االتفاق فيام‬
‫بينها حتـى وإن مل توافق معهم الـواليات املتحدة األمـريكية والتـي تنتج ربع الغازات الكـربونية امللـوثة يف العامل‪.‬‬
‫وقبل انتخاب جورج بوش االبن رئيساً للواليات املتحدة األمريكية قطع هذا عىل نفسه عهد ًا بأن يعمل عىل ختفيض‬
‫إرضاء‪ ،‬ومن ثم كـسباً ألصوات املهتـمني بشؤون البيئـة‪ .‬ثم بعد فوزه بـاالنتخابات‬
‫ً‬ ‫غـاز ثاين أكسيد الكـربون وذلك‬
‫مبارشة قامت إدارته باإلعالن بـأن اتفاق كويوتو ‪ Koyot Accord‬بـشأن ختفيض الغازات (ومنهـا غاز ثاين أكسيد‬
‫الكربون ‪ )CO2‬التي تؤدي إىل ظـاهرة االحتباس احلراري ‪ greenhouse‬غري ملـزم لإلدارة اجلديدة‪ .‬ويف أغسطس‬
‫لـسنـة ‪2002‬م يف قمـة األرض بمـدينـة جـوهـانـسربغ مل يـوافق الـوفـد األمــريكي عىل احلـد مـن استخـدام الطـاقـة‬
‫األحفورية ‪ .fossil fuels‬لقـد ضاعت مسـؤولية احلفـاظ عىل جو األرض نظيفـاً بني املنتجني املـصنعني وبني رجال‬
‫الـسياسة املنتخبني والذين تـسريهم رشكات التصنيع ذات املصالح‪ .‬كـل يريد اآلخر أن يترصف دون أن يترضر هو‪.‬‬
‫وهكـذا متيض األيام ويزداد الوضع سوء ًا وتنترص الرشكات لتفعل مـا تريد حتت مظلة احلداثة‪ ،‬وإرادة الرشكات هي‬
‫مـن إرادة مالكها الـذين ال يفكـرون إال يف مجع املال ألنـفسهم وألبـنائهـم يف أحسن األحـوال‪ .‬فام قد حيـدث للكرة‬
‫‪65‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫األرضـية ولألجـيال القـادمة مـن أرضار أمر ال يـرتفع يف أمهيتـه لربح املـالك اآلين‪ ،‬وهكذا تـنترص الـرأسامليـة التي‬
‫تـستنشق احلداثـة برغم ادعائهـا العقالنية‪ .‬أما مصـالح األجيال القادمـة فال تعترب ألنه ال مصوتني هلـا يف االنتخابات‪.‬‬
‫أهواء‪ .‬فـالرأساملية بـرغم إنتاجيتهـا الشديدة هي بـاختصار دمار قـادم للبرش‪ ،‬كام سنرى يف‬
‫ً‬ ‫وهبذا أصـبحت احلداثة‬
‫فصيل ‪X‬الـقذف بـالغيـب‪ Z‬و ‪X‬الفصل والـوصل‪ Z‬بـإذنه تعـاىل‪ ،‬ألن الكل بـاستطـاعته أن يفعل مـا يشـاء حتت مظـلة‬
‫العقالنية املؤطرة بـالقانون الذي تـسريه املصالح من خالل الدسـاتري واملرافعات‪ .‬وهكذا فـإن الكل ينتظر من الكل‬
‫اآلخـر أن يتـرصف إليقاف الـتلويـث‪ ،‬كل عاصـمة تـنتظـر العاصـمة األخـرى‪ ،‬وكل مصنع يـنتظـر املصـنع اآلخر‪،‬‬
‫‪c‬ب مِن مهَّكَ ـانٍ بَعِيدٍ)‪ .‬ومتـى ما قـام بعض العـقالء عىل إحدى هـذه اجلهات‬
‫مصـداقاً لـقوله تعــاىل‪( :‬وَ يَق‪ِ c‬ذفُو َن بِ‪e‬ل‪c‬غَي ِ‬
‫ال‪ ،‬وجد ذلك امللوث خمرجاً قانونياً بامله الذي يشرتي به احلق بمحام ماهر فذ ضد‬
‫امللوثة‪ ،‬كالرشكات الكياموية مث ً‬
‫الكل البطيء يف احلركة ألنه غري متآزر‪.‬‬

‫ومن األمثلة الـواضحة عىل غلبـة األهواء عىل العقالنيـة هو ما حيـدث عادة يف االنتخـابات األمريكـية‪ .‬فقد‬
‫ال يف الطاقـة يف والية كاليفورنيـا‪ ،‬وكان التوجه هو وضع حلـول لرتشيد االستهالك يف فرتة حكم‬
‫كان هـناك عجز مث ً‬
‫الديمقراطيـني‪ .‬ثم بعد فوز جورج بـوش االبن بالرئاسـة‪ ،‬قام هذا باقرتاح سـياسات ترجح كفـة البحث عن مصادر‬
‫جـديدة للطـاقة عىل كفة تـرشيد االستهالك‪ .‬وكـان أول رد فعل ملعارضيه هـو أن الرئيس اجلـديد إنام يسعـى لتسهيل‬
‫أمـور رشكات النفط والـطاقة ألنه الزال حتـت سيطرهتـا إذ أن معظمها كـانت من واليته الـتي أتى منهـا (تكساس)‪،‬‬
‫هذا باإلضافة إىل أن بعـض أفراد طاقمه احلاكم هم رؤسـاء لرشكات نفطية مثل نـائبه ووزيرة داخليته التي أصبحت‬
‫وزيرة للخارجية فيام بعد‪.‬‬

‫أي أن هناك رشخاً بني ما يؤكده العلامء من الربط بني التلوث البيئي وبني ما جيب عىل املستهلكني القيام به‬
‫لتخفيف هـذا الرضر من جهة‪ ،‬وبني ما باستطاعـة احلكام فعله من جهة أخرى‪ .‬فاحلكام يـسعون للسلطة التي تؤثر‬
‫عليهـا الرشكات‪ .‬وهكذا فإن مصري تلـويث األرض يتأرجح بني األهواء ليدفع الضعـفاء الثمن‪ .‬فدولة بنجالدش التي‬
‫ال متلك املـال لبناء احلوائط والـسدود لصد ارتفاع مـنسوب مياه البحـر ستفقد يف السنني القـادمة من األرايض ما كان‬
‫يـأوي ‪ 110‬مليون نسمـة‪ .‬أما اجلزر الصغرية املـستوية‪ ،‬مثـل جزر املالديـف يف املحيط اهلندي‪ ،‬فهي مـهددة بالزوال‬
‫ال هـو بسـبب ارتفاع حـرارة الكرة‬
‫متامـاً‪ .‬وبالنـسبة لـألمراض فهنـاك دالئل علميـة عىل أن انتشـار أمراض الـربو مث ً‬
‫األرضيـة املصحوبة بالغـازات امللوثة كتلك التي تنـبعث من السيارات‪ .‬كام أن املالريا بـدأت يف االنتشار يف املناطق‬
‫الباردة أيضاً التي مل يعتد السكان عليها من قبل‪ ،‬وهبذا ارتفع عدد القتىل يف أفريقيا وحدها إىل مليون شخص سنوياً‬
‫ال مـنذ بدايـة القرن‬
‫يف أواخـر القرن العـرشين‪ .‬أما يف الـدول الغنية‪ ،‬فـإن ارتفاع حـرارة املحيط املتجمـد الشاميل مث ً‬
‫بسبعة أعشـار درجة مئوية وذوبان مياه القطب أديـا إىل حتلية مياه البحر نسبياً ممـا أثر يف انسياب املواد الغذائية من‬
‫أعامق املـحيط إىل الـسطح والـتي يعيـش عليهـا سمك الـسلمـون‪ ،‬وهبـذا نقصـت كميـات الـسمك لـدرجـة أهنـا قـد‬
‫تنقـرض‪ 20.‬أي أن احلداثة ما هي إال حكم األهواء برغم ادعائـها للعقالنية‪ .‬فكل فرد عقالين ملصلحته‪ .‬وهبذا يكون‬
‫الصالح العام يف العقالنية البرشية هـو جمموع أهواء األفراد املتحزبني واألكثر نشاطاً‪ .‬فإن رأت األكثرية أن اجلامع‬
‫من غري رابط قانوين أمر من حق الفرد‪ ،‬انترش الزنـى وأصبح عرفاً‪ .‬وهكذا يتبلور الصالح العام واملجتمع من خالل‬
‫األهواء‪ .‬فقيم املجتمـع إذ ًا يف تغري مستمر لتساير أهواء األفـراد‪ .‬وإن عشت يف الغرب ألدركت أن انتخاباهتم ما هي‬
‫قص احلق‬ ‫‪66‬‬

‫إال تغليب ملـصاحلهم فـيام بينهم بـالتدافع‪ .‬لـذلك يتحزبـون‪ .‬ولكن إىل أين؟ ومن هـذا ترى أخي القـارئ أن احلداثة‬
‫ليـست ببسـاطة كام يقـول معظم البـاحثني عىل أهنا فـصل الدين عن الـدولة‪ ،‬بل هي أكثـر من ذلك‪ ،‬إهنا الـنواة التي‬
‫بـدأت يف تـدمـري كل القيـم واملعتقــدات اإلنسـانيـة لـتحل حملهـا الـرغبـات والنـزوات والـشهـوات كمحـرك أسـاس‬
‫َر‪c‬ض وَ مَن فِيهِنهَّ )‪.‬‬
‫وَ‪e‬ل ُ‬
‫^ت ‪c‬‬
‫‪e‬لسمَ^وَ ُ‬
‫ت هَّ‬
‫للمجتمعات‪ .‬تدبر قوله تعاىل‪( :‬وَ لَوِ ‪e‬تَّبَعَ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق أَه‪ c‬وَ ا‪d‬ءَهُ م‪ c‬لَف ََسدَ ِ‬

‫اثلورة ىلع احلداةث‬


‫وبرغم كل هذا الفساد والتلوث والفقر الذي أنتجته احلـداثة‪ ،‬إال أن هناك الكثري من الباحثني ممن يدافعون‬
‫عنهـا‪ .‬فـاألملـاين هـابـرمـاز ‪ ،Habermas‬وبـرغم اعـرتافه ببعـض سلبيـات احلـداثـة إال أنه يـرى أهنـا هي دولـة احلق‬
‫والقانـون وهي التي ستـضمن للبرشيـة السعادة الـدائمة‪ 21.‬أي أن اخلالف دب بني مـن يؤيدون احلـداثة املنـبثقة من‬
‫عرص الـتنوير وبني من يـريدون جذها من جـذورها بالبحـث عن كل جديد بنقـدها‪ .‬وهكذا بدء مهـامجوا احلداثة‬
‫بـالبحث عن حمـرك فلسفي آخـر للمجتمعـات‪ .‬وألن األنظمة والقـوانني التي أوجـدهتا عقالنيـة احلداثة كـانت سجناً‬
‫لفوكـو ألهنا تكـبح الرغـبات والغـرائز‪ ،‬كـان البد مـن التشكـيك يف وظيفتهـا‪ .‬أي للخروج مـن السجن كـان ينبغي‬
‫للحداثـة أن تتحـرر من األنظـمة والقـوانني‪ .‬ولكي تـتحرر كـان البد إذ ًا مـن نقد مـنهج العقالنيـة ألهنا هـي جذور‬
‫احلداثـة‪ .‬ولكن كيف تنـقد العقالنيـة؟ فهذا أمـر مستحـيل‪ :‬فام من سبيل لـذلك إال بالـرجوع لألديـان أو استحداث‬
‫عقائـد جديدة أو الثورة عىل العقالنيـة‪ .‬فبدأت الشعوذات بالـظهور حتت شعار األديان‪ ،‬وبدأ الـرجوع أحياناً أخرى‬
‫لألديـان‪ ،‬ولكن الذي انـترش هو الـثورة عىل العقالنيـة‪ .‬فاستحـدثت مصطلحـات مثل ‪X‬ما بعـد احلداثة‪ Z‬أو ‪X‬مـا بعد‬
‫التنـوير‪ .Z‬فكـيف يمكن لإلنسـان أن يثور عىل العقالنـية إذا مل يرجـع لألديان أو مل يشعـوذ؟ ال طريق إىل ذلك إال‬
‫بإطالق الغـرائز البـرشية لرتكـض وراء شهواهتـا املنجـرفة كـيف ما كـان من خالل الـرصعات وابـتكار كل مـا هو‬
‫ال‬
‫غريب وعجـيب وممنوع أحيـاناً‪ ،‬أو حتـى مرفوض ومقـزز ومقرف وذلك لـتحطيم العقالنـية‪ .‬فاحلـداثة يف الفن مث ً‬
‫تعني اجلـري وراء كل ما هو جـديد‪ ،‬والذي رسعـان ما يصبح قـديام ً‪ .‬أي إجياد آليـات حتويل املسـتقبل إىل ماض من‬
‫خالل البحـث عام هو غـريب (كالـفن السرييـايل واحلركـات الطليعـية ‪ ،)avant-garde‬أو حتـى الدخـول يف عامل‬
‫املمنوع واملحـرم أحيانـاً أخرى‪ .‬وبدء العـامل يقفز من تيـار جموين آلخر‪ .‬كل هـذا حتت التجديـد ومسايـرة الغرائز‬
‫ال جيد نفسه يف هوس مستمر يرفض كل ما هو جديد للبحث‬
‫بتفجري مكامنها بالثورة عىل العقالنية‪ .‬فعلم العامرة مث ً‬
‫عام هـو أحدث منه‪ .‬فظهـرت تيارات مثل العامرة احلـديثة وما بعـد احلديثة والـتفكيكية‪.‬ب فهـذا املهندس املعامري‬
‫فرانك جريي ‪ Frank Gehry‬أحـد أهم معامري ما بعـد احلداثة ومـن ثم التفكيكيـة يستغل الـتقنية إلجيـاد مبان ال‬

‫ملـشـاعـر الـسكـان أو راحـتهم ألن هـدفه هـو أن تعــرض أعامله يف‬ ‫ب) لقد كنت مرة يف حمارضة يف جامعـة هارفارد‪ ،‬وكان املحارض أحد‬
‫املجالت املعامرية‪ ،‬وأن هذه الغرائب التي تبناها حققت له ذلك ألنه‬ ‫مشـاهـري ختصـص العامرة ( آيـزنامن) وكـان مـن ضمن مـا عـرضه من‬
‫يف عـرص اإلعالم واالتصـاالت‪ ،‬فـنرشت أعـامله عىل أغلفـة املجالت‪،‬‬ ‫غـرائب نـوافذ سفلـية تـقع حتت مسـتوى ركـب البرش‪ ،‬فال يـروا شيـئاً‬
‫وأنه حقـق ما كـان يصبـو إليه‪ .‬فقلـت لرئـيس قـسم العـامرة آنذاك يف‬ ‫وهـم قائـمون أو قـاعدون‪ ،‬وكـأن أعيـنهم جيب أن تـوضع يف سيقـاهنم‬
‫جـامعـة (معهـد) ‪ MIT‬وكـان جيلـس بجـانـبي (ستـانفـورد أنـدرسـون‬ ‫ليتـمكنـوا من النـظر‪ .‬وقـام بتصـميم درج صـعود أجـزاؤه ال تتعـامد‬
‫‪X :)Stanford Anderson‬إن لـكل ختصـص شيـاطني‪ ،‬وهـذا كـبري‬ ‫بطريقـة تنهك الصـاعد أو النـازل‪ ،‬وكأن أرجل النـاس جيب أن تكون‬
‫شيـاطني العامرة‪ ،Z‬فقـال‪X :‬أنه شيطـان لذيـذ! فهكذا تـتقدم العامرة‪،Z‬‬ ‫ذات خمـالب كالقـردة حتى ال ينـزلقوا! فـسألته طـالبة عن هـذا اهلراء‬
‫مشري ًا بذلك إىل أن اخلروج عىل ما هو مألوف يفتح آفاق كل جديد!‬ ‫مسـتنكـرة مثـل هذه األعـامل؛ فأجـاب بفم ميلء وقـاحة بـأنه ال يـأبه‬
‫‪67‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫تلتقي مع أية ذرة عقل يف أرض الواقع‪ .‬فمبـانيه تعكس رشه املصالح البرشية‪ ،‬فهـي جد باهظة التكاليف يف وقت ال‬
‫جيد فيه مـئات املاليني مـا يسدون بـه رمقهم‪ ،‬وهذه الـتكاليف مـفتعلة ال هلـدف إال لإلهبار‪ .‬فـأشكال مبـانيه تقلب‬
‫املوازين رأساً عىل عقب‪ ،‬فتجدهـا يف األعىل مث ً‬
‫ال أكرب من األسفل ال ليشء مجايل إال إلظهار حتـدي التقنية للجاذبية‪،‬‬
‫فال حدود وال قـيود وال مسـؤولية يف إجيـاد األشكال إال االنفالت بـال حساب‪ .‬وقـد كنت معه يـوماً يف حفلـة عشاء‬
‫بسويـرسا‪ ،‬فسأله أحد املدعوين عن أغرب مرشوع حاول أو متكن من تـصميمه‪ .‬فأجاب بأن ثرياً فاحش الثراء (وال‬
‫يريد فـضح اسمه حفاظاً عىل أمانة املهنة) قد أوكل إليه مهـمة تصميم قرص له‪ .‬وطلب منه الثري أن يزوره يف منزله‬
‫ملرات عـدة حتـى يتـمكن من فهـم نمط حيـاته ليالئم القـرص اجلديـد احتـياجـاته‪ ،‬فكـان عليه أن يـزوره يف إحدى‬
‫حفالته الساهـرة‪ .‬ففعل‪ .‬فقال بأنه رأى عجباً‪ .‬فسألناه بـاهتامم‪ :‬وما ذا رأيت؟ وكلنا ندرك أن هذا املعامري يعيش يف‬
‫والية كـاليفـورنيـا التي يعـيش فيهـا كثري مـن منتجـي أفالم الدعـارة وهي‪ ،‬أي كـاليفـورنيـا‪ ،‬من أهـم مواقع الفـساد‬
‫واملصدرة لـه يف عرص العوملة‪ .‬فكل انحالل خلقـي إن مل يكن مصدره كاليفـورنيا فإن سكاهنـا هم أول من يتبنوه يف‬
‫العامل‪ .‬فام الذي يمكن أن يراه هذا املهندس من عجائب تبهره؟ فقال بأنه ال يستطيع أن يصف ما رآه من ابتكارات‬
‫وإبداعات جمونية تفوق اخليال لتفجري الشهوات بطريقة عـجيبة (فاحشة) بني الرجال والنساء يف تلك احلفلة‪ .‬فأخذ‬
‫كـل واحد من احلـارضين يف التفكـري يف ماهيـة هذا املجـون الذي ال يـستطيع حـتى شخـص يعيش يف جمـتمع منحل‬
‫اجتمعت فيه مجيع أنامط الشذوذ اجلنـيس واملخدرات واملجون من وصفه‪ .‬وهكذا باقي التخصصات التي ثارت عىل‬
‫العقالنيـة وانفلتـت دون مرجعيـة أخالقية ال يف الـدين وال يف القيم إال يف الـتقيد بـالقوانـني التي هي من نـسج خيال‬
‫ال بعد جيل ولكن بدرجات متفاوتة بني التخصصات‪.‬‬
‫ال بعد جيل فتكون قوانينه منحلة جي ً‬
‫ينحل جي ً‬
‫ُّ‬ ‫البرش الذي‬

‫إال أن هذا التوجه الذي تبناه بعض الفـرنسيني بقيادة فوكو أثر يف الفنون واآلداب واحلرف والعلوم أكاديمياً‬
‫وإنتاجياً فقط أكثر مـن تأثريه يف احلياة العملية بمـؤسساهتا املجتمعية املـنفعية‪ ،‬كاملؤسسات احلـكومية واالقتصادية‬
‫واخلدمية والتي ظلت كام هي متبنية ألفكار هيغل‪ ،‬أي متبنية للحداثة‪ .‬ولرضب مثال واحد فقط‪ :‬فرغم انتباه بعض‬
‫الباحـثني الغربيني يف علم الـتخطيط مؤخـر ًا إىل أن القرارات التخطيـطية إنام تعكس أهـواء من بيدهم الـسلطة وأهنا‬
‫ليسـت عقالنية‪ ،‬إال أن ختصـص التخطيط الزال مـستمر ًا يف نفـس التوجه عملـياً‪ .‬فقد أثـبت الباحث الـنروجيي بنت‬
‫فاليفبـجريج ‪ Bent Flyvbjerg‬يف دراسته ملـرشوع إعادة ختـطيط مـركز مـدينـة آلبـورج ‪ Aalborg‬بالـدنامرك أن‬
‫القرارات التـي اختذت مل تتخـذ بعقالنيـة ‪ ،rationality‬ولكن بعـقلنة الـقرار ‪ .rationalization‬أي إعطـاء القرار‬
‫املتخذ مـربرات تبدو وكأهنـا عقالنية بعـد اختاذه‪ .‬وما كـان اختيار ذلك املـرشوع للدراسة إال ألنه حـصل عىل جائزة‬
‫أوربية عريقة يف التخطيـط نظر ًا لنجاحه‪ .‬فأثبت النروجيي يف دراسته أن القـرارات التخطيطية اختذت بسبب تدافع‬
‫املصالـح ثم بعد ذلك تم إعطـاء تلك القرارات مربارت عقالنيـة‪ ،‬وأن النجاح املزعـوم ما هو إال لـطوائف يف املجتمع‬
‫عىل حسـاب أخرى‪ .‬فاستنتج هذا البـاحث أن العقالنية حتكمها الـسلطة لتصبح عقلنة‪ .‬لـذلك بدأ عمل هذا الباحث‬
‫يف االنتشار ألنه قـرن القرار التخطيطي بالتـسلط يف كتابه‪ 22،Rationalaty and Power :‬فلفت أنظار من هم يف‬
‫املجـال األكاديمي إىل التمييز بني العقالنية والعقلنة‪ ،‬وأن العقالنيـة التي ينتحلها الكثريون تنقلب إىل تنفيذ املصلحة‬
‫عىل أرض الواقع‪ .‬لـذلك فهـيهات أن يـلتفت مفكـر غريب إىل مـا يقوله هـذا البـاحث ألنه ال خمـرج هلم مـن زنقتهم‬
‫الفكرية‪.‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪68‬‬

‫أي أن التحرريـة الفكريـة التي أسسهـا كانط زرعت جمـتمعاً ذا نظـام واضح املالمح يف مؤسسـاته وقوانينه‬
‫وعالقـاته بـني أفراده وزيـادة إنتـاجيته‪ .‬أي أن احلـداثة انـغرسـت عميـقاً يف املـجتمعـات وأصبحت الـرأسامليـة هي‬
‫احلاكمة وأنجزت الكثري من التقدم املادي‪ .‬لكنهـا مع كل هذه اإلنجازات تعرضت لنقد حاول حتريرها من قيودها‬
‫بـرفض جذورها العقالنية إال أن هذا الـنقد مل يفلح إال يف دفع املجتمعات للنزوات والـغرائز وازداد املجتمع ضياعاً‪.‬‬
‫أي أن عرص مـا بعد احلـداثة هـو الضيـاع والرصاع القـائم بني هـذين اخلطـني من العقالنيـة (كانـط)‪ ،‬والثورة عـليها‬
‫بالتحرر منها (فوكو)‪ .‬ولكن إىل أين؟‬

‫إن ما تم تلخيصه عن احلـداثة‪ ،‬برغم تذبـذب الوضع احلايل بني تقبـل العقالنية يف احلداثة ورفـضها جزئياً يف‬
‫ما بعـد احلداثة‪ ،‬تم أيضـاً باستخدام العقل البـرشي وبرفض األديان‪ .‬وكام رأينـا فالعقالنية تنـتهي إىل مصالح وأهواء‪.‬‬
‫أي من خالل احلداثة تبلورت العـقول يف مجيع التخصصات وبـالذات العلمية منهـا برفض األديان‪ .‬فاحلـداثة باهتامها‬
‫لكل باحث علمي يـلجأ لألديان بالتخلف‪ ،‬قد سـاعدت عىل خنق اإلسالم وأبعدته من ساحـة احلوار الفكري‪ .‬فمتى‬
‫ما حـاول باحث إدخـال الديـن يف دراسة االقتـصاد أو الـتنميـة اهتم بالـتخلف‪ .‬هذا هـو موقـف معظم البـاحثني من‬
‫اإلسالم‪ ،‬فهم يـرفضـون اإلسالم ويلجـؤون للعقالنيـة التي هي مـن نسج عقـول البرش‪ .‬وهـذه العقول الـتي ال تعلم‬
‫الغيب قارصة كام أرشنا‪ .‬لـذلك انتهت العقالنية باملجتمعات إىل تبني املـصالح والنزوات واألهواء‪ .‬تدبر قوله تعاىل‪:‬‬
‫‪c‬ض ‪e‬لاَّذِي عَ مِلُواْ لَعَلاَّهُم‪ c‬يَر‪c‬جِ عُونَ)‪.‬‬
‫َّاس لِيُذِيقَهُم بَع َ‬
‫َت أَي‪c‬دِي ‪e‬لن ِ‬
‫‪c‬ب وَ‪e‬ل‪c‬بَح‪ c‬رِ بِمَا ك ََسب ‪c‬‬
‫(ظَهَرَ ‪e‬ل‪c‬ف ََسادُ فِى ‪e‬ل َ ِّ‬

‫املاثل اثلاين‪ :‬املستقبيلات‬


‫ومما زاد الـوضع سـوء ًا لكل مـسلم حيـاول إدخال اإلسـالم يف أي بحث علمـي أو يف أي حوار بـني األمم هي‬
‫ال‪ ،‬أو علم املستقبليـات‪ .‬وهذا هو املثال الثاين‬
‫النظريات التي وضعت للـتنبؤ بام يمكن أن يكون عليه العـامل مستقب ً‬
‫عىل أن العـقالنية تـدعي شيئـاً ثم تنتهـي بالرضورة بـيشء آخر‪ .‬فربغـم الفقر املـدقع الذي أوجـدته احلداثـة‪ ،‬وبرغم‬
‫التلـوث البـيئي‪ ،‬فقـد أفـرزت احلـداثـة عقالنيـة مـا يـسمـى بـ ‪X‬النظـام العـاملي اجلـديـد‪ Z‬لتـذوب احلـدود بني الـدول‬
‫واحلـضارات‪ ،‬أي ليـزداد انتشـار احلكم بغري مـا أنزل اهلل‪ .‬لـذلك ظهرت عـدة توجهـات فلسفيـة للتنبـؤ بام يمكن أن‬
‫ال)‪ 23‬رسمت احلدود‬
‫يـكون عليه الـعامل يف عرص ‪X‬العـوملة‪ .Z‬وهـذه التوجـهات والتنـبؤات (ككتـابات فـوكويـاما مثـ ً‬
‫ال‪ .‬وبام أن اإلسالم دين تقـليد يف بعض أموره (إذ أنه يوجه‬
‫الفكرية للباحثـني إلجياد فلسفة تقود املجـتمعات مستقب ً‬
‫معتنقيه إىل سلوكيات السلف وحيدد هلم حقـوقهم من خالل الرشيعة) فهو بذلك دين يؤطر دور العقل‪ .‬أي أنه دين‬
‫ال يطلق العقل (كـانط) وال يـثور علـيه (فوكـو)‪ ،‬ولكنه دين‪ ،‬وبـرغم احرتامه لـلعقل‪ ،‬يطلقه يف جمـاالت (كالـقياس‬
‫ال)‪ .‬لذلك فالبد‪ ،‬كام يدعي املستقبليون‪ ،‬وأن يؤدي اإلسالم للتخلف‪،‬‬
‫ال) ويقيده يف جماالت أخرى (كاحلقوق مث ً‬
‫مث ً‬
‫بدليل حال معظم املجتمعات اإلسالمـية اآلن من جهل وفقر ومرض‪ .‬وهبذا رفضه املفكرون ويف مقدمتهم بعض من‬
‫ال (وقـد كان أستاذ ًا بجامعة‬
‫املـسلمني مع األسف الذين نادوا بإعـادة النظر يف املنهجية اإلسالمـية‪ .‬فمحمد أركون مث ً‬
‫الـرسبون يف فرنسا) يبحث عن عقل مـا بعد احلداثة من خالل االستفادة مـن أدوات الغرب يف النقد والتحليل للفكر‬
‫‪24‬‬
‫ال لالستفادة مـن جتارب التفـاعل بني دولة القـانون يف الغـرب وجمتمعه املـدين ألهنا خربة‬
‫اإلسالمي‪ .‬فهو يـدعو مثـ ً‬
‫‪69‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫تـارخييـة مل يتعـرض هلـا العـامل اإلسالمي‪ .‬ويـدعـو إىل إعـادة قـراءة احلـداثـة الغـربيـة من زاويـة الـوضع التـارخيي‬
‫والفكري اخلاص بـالعقل اإلسالمي‪ .‬وبمثل هذه الـدراسات االجتامعية واألنـثروبولوجيـة والدينية يـدعو إىل مقارنة‬
‫نـقائص عقل كل حـضارة من خالل جتـارب العقول األخـرى‪ ،‬وتعميم املقـارنة للـوصول لعقل مـا بعد احلـداثة‪ .‬وهذا‬
‫يتطلب إعامل العقل البرشي يف النظر يف النصوص التي شكلت احلضارة اإلسالمية كالقرآن الكريم والسنة املطهرة‪.‬‬
‫فهـو بذلـك يستخـدم العقل البـرشي (وبالـذات من خـالل التحليل األلـسني أو اللغـوي للنصـوص العربـية) وأدوات‬
‫التحليل التارخيي واالجتامعي واألنثروبولوجي إلضاءة تلك النصوص‪ .‬وهبذا يتمكن اإلنسان (كام يقول أركون) من‬
‫بلـورة علمنـة جديـدة جتيب مطـالب اإلنسـان بكال بعدهيـا الروحي واملـادي لسعـادة قادمـة‪ ،‬ال كام فعلت احلـداثة‬
‫الغربية بتوفـريها البعد املادي وإلغاء البعد الروحي‪ ،‬أو كام فعـلت احلضارة اإلسالمية بعدم إرسافها يف البعد املادي‪.‬‬
‫وسنـأيت عىل أفكار آخرين من املسلمني الـذين رفضوا الدين (وذلك عند احلـديث عن أسباب التخلف يف هذا الفصل‬
‫بـإذن اهلل)‪ .‬ولكن قبل ذلك سـأرشح باخـتصار بعـض أفكار الغـربيني جتـاه األديان (واإلسالم خصـوصاً) حتـت مظلة‬
‫العقالنية يف عرص العوملة‪.‬‬

‫لقد بـدأ رفض العامل الغريب لألديان عمومـاً ولإلسالم خصوصاً يزداد نفور ًا عنـدما بدأ العامل أمجع يقتنع بأنه‬
‫ال سبيل أمثل للـحياة إال من خالل الـديمقراطيـة التي مل يرفـضها بشـدة من جذورهـا إال القلة من اإلسـالميني‪ .‬فقد‬
‫استسلمت معظم املـذاهب وامللل والنحل للديمقـراطية والرأسامليـة واقتنعت بأهنا الـطريق الوحيد لـلحياة وبالذات‬
‫بعد سقـوط املعسكـر الرشقـي‪ ،‬فلم يبق للغـرب إال اإلسالم ليرصعه‪ ،‬وهـذا واضح من مقـالة صـامويل هـانتنـغتون‬
‫‪ Samuel Huntington‬األستاذ بجامعة هارفارد عن صـدام احلضارات برغم أن بعض الغربيني يظهرون غري ذلك‪.‬‬
‫َّـص^رَ ى حَ تَّى تَتَّبِعَ مِلاَّتَهُم‪ c‬ق ‪ُc‬ل إِ َّن‬
‫وَل ‪e‬لن َ‬
‫نك ‪e‬ل‪c‬يَهُودُ َ‬
‫َـر‪c‬ضى عَ َ‬
‫تـأمل قوله تعـاىل يف اآلية ‪ 120‬من سـورة البقرة‪( :‬وَ لَن ت َ‬
‫وَل ن َِصيٍ)‪ .‬فاآلية‬
‫‪e‬لل مِن وَ ل ٍ ِّى َ‬
‫َك مِنَ هَّ ِ‬
‫‪c‬ت أَه‪ c‬وَ ا‪d‬ءَهُ م بَع‪c‬دَ ‪e‬لاَّذِي جَ ا‪d‬ءَكَ مِنَ ‪e‬ل‪c‬عِل‪c‬مِ مَـا ل َ‬
‫َئ ‪e‬تَّبَع َ‬
‫‪e‬لل هُ وَ ‪e‬ل‪c‬هُـدَ ى وَ ل ِ ِ‬
‫هُ دَ ي هَّ ِ‬
‫تـربط بني اتبـاع اليهود والنـصارى من جهـة (الغرب)‪ ،‬واألهـواء والعلم من جهـة أخرى‪ .‬فمقـالة هـانتنغتـون يوافق‬
‫عليها بعض أهل الغرب وبالذات متخذي القرارات منهم‪ ،‬وهي أشهر من أن توضع هنا‪ .‬ولكن البد من املرور عليها‬
‫رسيعـاً وذلك لرتى كيف أن الغـرب الذي يـدعي العقالنيـة ليـس عقالنيـاً قط يف تعـامله مع العـامل اإلسالمي (كام‬
‫أثبت إدوارد سعيد)‪ ،‬بل يتبع أهـواءه ومصاحله‪ .‬وهذا أمر أشهر من أن يطـرح يف هذا الكتاب‪ ،‬ولكن فقط للتذكري‪.‬‬
‫فمام قـاله هانتنغتـون أن العامل قد أصبـح اآلن أصغر بسبب رسعـة االنتقال واالتصـال‪ ،‬وهبذا تتزايـد التفاعالت بني‬
‫أبناء احلضارات املختلفة‪ ،‬وهذه التفـاعالت املتزايدة تؤدي عادة إىل تكثيف الوعي احلضاري واإلحساس بالفروقات‬
‫بني احلضارات‪ .‬فعىل سبيل املثال (كام يقول هانتنغتـون)‪ ،‬فقد استثارت اهلجرة من شامل أفريقيا مشاعر العداء لدى‬
‫الفرنـسيني وزادت من حـدة الرتحيب هبجـرة البولـونيني الكـاثوليك األوروبـيني ‪X‬الطيبـني‪ .Z‬فعندمـا تؤدي عـمليات‬
‫التحـديث والتغيري االجـتامعي بسبب الـعوملة إىل انتـزاع الناس من هـوياهتم املحلـية الراسخـة العريقة‪ ،‬فـإن الدولة‬
‫القـومية أيـضاً تضعف بـوصفها أحـد منابع اهلـوية‪ ،‬عنـدها تسـارع األديان مللء الفـراغ احلاصل من خالل احلـركات‬
‫األصوليـة‪ .‬وألن الغرب بـدأ يأخذ الـصدارة من حيـث القوة كام يقـول‪ ،‬فهناك نـوع من العودة للجـذور بني صفوف‬
‫أبـناء احلضـارات الغربيـة‪ ،‬وهذا بـدوره يؤدي لنـزعات حلـدوث اليشء ذاته يف حضـارات أخرى كام هـو حادث يف‬
‫ال من تأكيد الصفة اآلسيوية‪ ،‬ويف اهلند التي حتاول لبس ثوب هندويس‪ ،‬أو العامل اإلسالمي الذي انترشت‬
‫اليـابان مث ً‬
‫فيه األسلـمة‪ .‬يقول هانتـنغتون مستنتجـاً‪X :‬ثمة غرب يف أوج قوته يـواجه أطرافاً أخرى غري غـربية متنامـية الرغبة‪،‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪70‬‬

‫‪25‬‬
‫واإلرادة‪ ،‬واملوارد الالزمة لصياغة العامل بطرائق وأشكال غري غربية‪.Z‬‬

‫كام أن هانتنغـتون يعلل هذا الـتغري بقوله أن النخـب احلاكمة يف الـسابق يف املجتمـعات غري الغربـية كانت‬
‫مؤلفة عادة من أنـاس كانوا يف وضع أكثر تشابكـاً مع الغرب مثل خرجيي أكسفورد والـسوربون وساندهرست ممن‬
‫اسـتوعـبوا مجلـة القيم الغـربيـة‪ ،‬بينام الـسكان مـشبعـني بالـثقافـة املحلـية األصلـية‪ ،‬أمـا اآلن ومع العـوملة فـإن هذه‬
‫العالقـات‪ ،‬كام يقول‪ ،‬بدأت تنقلب رأساً عىل عقب‪X :‬ثمـة عملية ابتعاد عن األساليب الغـربية واحتضان ملا هو حميل‬
‫أصيل من جـانب الـنخب تتـم عىل قدم وسـاق يف العديـد من الـبلدان غـري الغربـية ‪ .Z...‬وحيـلل هانـتنغتـون الوضع‬
‫مـوضحاً بـأن السامت والفـروق الثقافيـة أقل قابليـة للتحول مـقارنة بـالسامت الـسياسيـة واالقتصاديـة‪ ،‬فقد يـستطيع‬
‫شـيوعي أن يـصبح ديمقـراطياً يف روسـيا‪ ،‬غري أن الـرويس ال يستـطيع أن يصـبح أستونـياً‪ ،‬كام ال يـستطيع األذري أن‬
‫يصبح أرمنيـاً‪ .‬ففي الرصاعات الطبقيـة واأليدولوجية كـان السؤال احلاسم كام يقـول هانتنغتون‪ :‬يف أي صف تقف؟‬
‫وكان للنـاس االختيار والتغيري من حزب سيايس إىل آخر‪ .‬أما يف الرصاع بني احلضارات فإن السؤال هو‪ :‬ماذا تكون؟‬
‫وهنا جييب هـانتنغتون‪X :‬وكـام نعرف‪ ،‬فإن من شـأن اإلجابة اخلـطأ عن ذلك السـؤال‪ ،‬من البوسـنة إىل القفقاس وإىل‬
‫السودان‪ ،‬أن يعني طلقة رصاص يف الرأس‪ ،‬يستطـيع املرء أن يكون نصف فرنيس ونصف عريب ويف وقت واحد‪ ،‬بل‬
‫‪26‬‬
‫وأن حيمل جنسية بلدين‪ ،‬غري أنه من األصعب أن يكون اإلنسان نصف كاثوليكي ونصف مسلم‪.Z‬‬

‫إن هذا الذي وصفـه هانتنغتـون من رصاع بني احلضارت مل حيـدث إال يف وقت نضج فيه الفـكر الغريب عىل‬
‫مبـادئ احلداثة‪ ،‬فـأين العقل إذ ًا من حماولـة الغرب التحكـم يف العامل اآلخر‪ .‬فهـو (أي هانتنغـتون) يرمـي باللوم عىل‬
‫العامل غري الغـريب الذي رجع لقـيمه ألنه ال يعترب قـيم تلك الشعـوب غري الغربـية عقالنيـة‪ ،‬وهبذا ظهـر الصدام مع‬
‫العامل الغريب العقالين‪ .‬وهنا أقـول‪X :‬شهد شاهد من أهلها‪ ،Z‬فهـا هو ذا هانتنغتون يعرتف بـأن الغرب يستخدم قوته‬
‫لفرض قيمه عىل العامل‪ .‬أي أن الغريزة املنفعية السلطوية غلبت االحتكام للعقل‪ .‬يقول هانتنغتون‪:‬‬
‫‪X‬فـالقرارات املتخـذة يف جملس األمن الـدويل أو يف صندوق الـنقد الدويل الـتي تعكس مصـالح الغرب‬
‫جيـري تقديمهـا إىل العامل كام لـو كانـت عاكسـة لرغبـات األرسة العامليـة‪ ،‬وعبارة ‪X‬األرسة العـاملية‪Z‬‬
‫بـالذات بـاتت تسميـة مجاعـية مشـذبة وملطفـة (حلت حمل عبـارة ‪X‬العامل احلـر‪ )Z‬إلضفاء املـرشوعية‬
‫العامليـة عىل أفعال وحتـركات ال تعكـس سوى مصـالح الواليـات املتحدة وقـوى غربيـة أخرى‪ ،‬وعن‬
‫طريق استـخدام صندوق النقد الـدويل‪ ،‬مع مؤسسات اقتصـادية دولية أخرى‪ ،‬يـدعم الغرب مصاحله‬
‫االقتصادية ويفرض عىل الـدول األخرى مجلة من اخلطط والسياسات االقتـصادية التي يراها مناسبة‪،‬‬
‫يف أي اسـتطالع لرأي الـشعوب غري الغـربية من املـؤكد أن الـصندوق سـيفوز بتـأييد وزراء املـالية مع‬
‫عدد قـليل من اآلخـرين‪ ،‬غري أنـه لن حيظـى إال بالـشجب واإلدانـة الكـاسحني من اآلخـرين مجيـعاً‬
‫تقريبـاً‪ ،‬ممن سيكـونون متـفقني يف الرأي مع جـورجي آرباتـوف الذي وصـف رسميي صنـدوق النقد‬
‫الدويل بـ ‪X‬البالشفة اجلدد املولعني بنهـب أموال اآلخرين‪ ،‬بفرض القواعد الالديمقراطية والشاذة عىل‬
‫السلـوك االقتصادي والـسيايس‪ ،‬وبخنق احلـرية االقتـصادية‪ .Z‬متـخضت السيـطرة الغربـية عىل جملس‬
‫األمن الـدويل وقراراتـه‪ ،‬هذه الـسيطـرة التي ال يـشوهبـا إال امتنـاع الصـني عن التـصويـت بني احلني‬
‫واآلخر‪ ،‬عن إضفـاء الرشعيـة الدوليـة عىل قيام الغـرب باستخـدام القوة لطـرد العراق من الـتصويت‬
‫وإلجهازه عىل أسلحـة العراق املتطـورة كام عىل قدرته عىل إنتـاج مثل هذه األسلحـة‪ ،‬ومتخضت أيضاً‬
‫عن اخلطوة غري املسبوقة متاماً التي مكنت الواليـات املتحدة وبريطانيا وفرنسا من جعل جملس األمن‬
‫‪71‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫يطالب ليبيـا بتسليم املتهمـني بتفجري طائرة البـان آم (‪ )103‬ويبادر بعد ذلك إىل فـرض العقوبات حني‬
‫رفضت ليبـيا االمتثال للطلب‪ .‬وبعد إحلاق اهلزيمة بأكرب اجليوش العربية مل يرتدد الغرب يف إلقاء كل‬
‫ثقله عىل سائر أرجاء العامل العريب‪ ،‬وهكذا فإن الغرب يقوم عملياً بتوظيف املؤسسات الدولية والقوة‬
‫العسكـرية واملوارد االقتصاديـة إلدارة العامل بام يكفل بقاء اهليمـنة الغربية‪ ،‬ومحايـة املصالح الغربية‬
‫وتعزيز القيم السياسـية واالقتصادية الغربية‪ .‬تلك عىل األقل هي الـطريقة التي يرى هبا غري الغربيني‬
‫العامل اجلديد‪ ،‬وثمـة قسط غري قليل من احلقيقـة يف نظرهتم‪ ،‬وهكذا فـإن أوجه االختالف يف السلطة‬
‫والـنفوذ وأشكـال الرصاع من أجل امـتالك القوة العـسكريـة واالقتصـادية واملـؤسسـاتية تـشكل أحد‬
‫منابع الـنزاع بني الغـرب واحلضارات األخـرى‪ ،‬أما الفـروق يف الثقافـة‪ ،‬أي يف جمال القيـم واملعتقدات‬
‫األساسية فتشكل مصدر ًا ثانياً من مصادر هذا النزاع ‪.Z...‬‬

‫ال)‪ ،‬متاماً‬
‫والسؤال هو‪ :‬إن كان العامل الغريب عقالنياً ويـؤمن بإعطاء األقليات حلرياهتا (كالشاذين جنسياً مث ً‬
‫كام حيـاول محايـة حريـة الفرد‪ ،‬فلـامذا إذ ًا حياول فـرض هيمـنته عىل من هلـم قيم ختتلـف عن قيمه خـارج حدوده؟‬
‫واإلجابـة هي‪ :‬كام وضحـت يف احلديث عـن األهواء (يف املثـال األول عندمـا فشلت الـدول يف الوصـول حلل ألزمة‬
‫التلوث)‪ ،‬فـإن اليشء ذاته حيدث هنـا (يف املثال الثاين)‪ .‬فـالعقالنية إن طبقت عىل أرض الـواقع بني الدول فام هي إال‬
‫حتقيق للمـصالح‪ .‬فالدول الغربية تكون جد عقالنية داخل حـدودها‪ ،‬أما يف عالقاهتا الدولية فلن تفعل ذلك‪ .‬فالعامل‬
‫الـغريب مقتنع متاماً بقيـم حضارته التي يريد فـرضها عىل اآلخرين عىل أن يبقى هـو األعىل‪ .‬وهنا تناقض عجيب يقع‬
‫فيه العامل الغريب وبحامقة‪ :‬فهو يـريد شعوباً متحررة ديمقراطيـة ولكن حتت هيمنته‪ .‬فكيف يمكن هلذا الوضع أن‬
‫يتحقق‪ .‬إن هذا التناقض (مـنطقياً) هلو استكبار أمحق‪ .‬فحكـومات العامل الغريب منافقـة‪ .‬ترفع شعار احلرية لألفراد‬
‫واملشاركة يف احلكم وتدعم يف الوقت ذاته الدكتاتوريـات العربية التي زاد بعضها عن ثالثني عاماً كدعم بن عيل يف‬
‫تونس ومبارك يف مرص وعبد اهلل صالح يف اليمن‪.‬‬

‫وهنـاك استكبار آخر أخرق‪ .‬يقول هانـتنغتون بأن هناك يف الغرب الكثـري ممن يعتقدون أن احلضارة الغربية‬
‫هي احلضـارة الكونيـة التي جيب عىل اجلـميع أن يتبعهـا‪ ،‬فاألفكـار الغربيـة املتمثلـة يف الفردانيـة والليرباليـة وحقوق‬
‫اإلنسان والدسـتور واملساواة واحلـرية وسيادة القـانون والديمقـراطية واألسواق احلـرة وفصل الكنسـية (أو املسجد)‬
‫عن الدولة‪ ،‬هي الطريق األمثل للسعادة‪ ،‬كام يعتقد الغربيون‪ ،‬برغم ظهور اإلثباتات من األبحاث بعكس ذلك كام‬
‫يقول هانـتنغتون‪ .‬ففـكرة إمكانـية وجود حـضارة كونـية شاملـة هي فكرة غـربية متنـاقضة مع خصـوصية أكـثرية‬
‫ال‪ .‬فبعد عرض ملئة دراسة ِ‬
‫مقارنـة للقيم يف جمتمعات خمتلفة توصل العرض الستنتاج يقول إن‬ ‫املجتمعات اآلسيوية مث ً‬
‫‪X‬القيـم األكثر أمهـية للغـرب هي األقل أمهيـة للعامل كـكل‪ 27.Z‬فربغم كثـرة مثل هـذه الدراسـات‪ ،‬وبرغم انـتفاض‬
‫بعض الشعـوب وبالذات املثقفني من أبنـائها ضد قيم احلضـارة الغربية (أو باألصح الضالل الـغريب كام سأثبت بإذنه‬
‫تعـاىل)‪ ،‬إال أن الغربـيني ال يريـدون أن يروا عـاملاً آخـر بنظـم سياسـية واجتـامعية ختـتلف عن نظـمهم لقنـاعتهم أن‬
‫الديمقـراطية برأسـامليتها هي النـظام األمثل‪ .‬إن هذا الـرفض عقالنياً هلـو استكبار أمحق‪ :‬فهل مـن احلكمة أن يقتنع‬
‫اإلنسـان العقالين أنه وصـل لنظـام جمـتمعي أمـثل ال يقبل الـتغيري اجلـذري؟ أي أنه يـريـد أن يـوقف عجلــة التطـور‬
‫املجـتمعي! فـأين العقل هـنا؟ ألـيس هـذا استكـبار ًا وغـرور ًا؟ ولكنك قـد تقـول‪ :‬أال ينـطبق نفـس هذا املـنطق عىل‬
‫اإلسالم؟ أليـس من الغـرور وتعطـيل العقل أن نـزعم أن اإلسالم هـو الـنظـام املجـتمعـي األمثل؟ فـأجيب‪ :‬هـذا مـا‬
‫سأحاول تقصيه يف هذا الكتاب‪ .‬فقد تتعـدد النظم املجتمعية والعقول إال أن احلق البد وأن يكون واحد ًا كام سرتى‬
‫قص احلق‬ ‫‪72‬‬

‫بـإذنه تعاىل‪ .‬وألن احلق هو أسـاس النظام املجتمـعي فالبد وأن يكون هنـاك نظام جمتمعي واحـد أمثل فقط‪ .‬وهو ما‬
‫نؤمن نـحن املسلمون أنه لدينـا ألنه منزل من احلق سبحانه وتعـاىل‪ .‬فهو يشء ال نستطيع أن نصل إلـيه بعقولنا‪ .‬لذلك‬
‫ال‪ :‬إن هذا منطق سلفي‬
‫جيب علينا أن نتقصى احلق كمجتمع برشي أين ما كان ومتى ما كان‪ .‬ولكنك قد تستمر قائ ً‬
‫متخلف‪ .‬فـأجيب‪ :‬قد يكـون‪ ،‬ولكنني سأثـبت لك بإذنه تعاىل يف هـذا الكتاب أن البـرشية لن جتد مـنطقاً أفضل من‬
‫هذا احلق الذي أتى به اإلسالم ألنه ليس من صنع البـرش‪ .‬فاإلعجازات العلمية يف القرآن الكريم دليل عىل صحة أن‬
‫القرآن الكريـم كالم اهلل العيل القدير وبالتايل دليل عىل صحة ما نـدعيه نحن املسلمون من جهة‪ .‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫فإن فيام سيأيت بـيانه يف هذا الكتاب حمـاولة إلقناع كل ذي حكمـة حتى وإن مل يكن مسلام ً بـأن مقصوصة احلقوق‬
‫التي أتت هبا الرشيعة‪ ،‬هي النظام احلق وغريه باطل ال لسبب إال ألهنا حترر البرش من استعباد بعضهم البعض‪.‬‬

‫أخي القارئ‪ :‬لقد ظهرت مقالـة هانتنغتون عن رصاع احلضارات (‪ )1993‬قبل أن يـزداد الوضع سوء ًا بالنسبة‬
‫للغـرب‪ .‬ولكن بعد ظهور منظـمة ‪X‬القاعدة‪ Z‬وتبنيهـا لعدة أعامل استشهاديـة ضد مصالح الغرب وبعـد انتشار سمعة‬
‫منـظامت إسالمية مثل ‪X‬محـاس‪ Z‬و ‪X‬حزب اهلل‪ Z‬ونعتها بـأهنا منظـامت إرهابية‪ ،‬ظهـرت أفكار غربيـة متعددة حتاول‬
‫النظر لإلسالم من زواياه املختلفـة لعلها تنجح يف تغيري هذا الدين الـذي ال يقبل بوجود إرسائيل يف قلبه وال ينخرط‬
‫مثقفوه وبـالذات اإلسالميني منهم ليصبحوا حداثيني‪ .‬وسـأضع بني يديك بعض األطروحات ملثل هذه األبحاث لرتى‬
‫كيـف أن الغرب حيـاول جاهـد ًا جتريـد املسلـمني من معـتقداهتـم ليصـبحوا كـالغرب املـؤمن بـاحلداثـة‪ .‬فمـن هذه‬
‫ال‪ ،‬واجلـهاد هـو قتل‬
‫األطروحـات أن اإلسالم دين يـرفض اآلخـر وأنه يـولد اإلرهـاب‪ ،‬فاإلسـالم يدعـو للجهـاد مث ً‬
‫مقدس لآلخـرين من غري املـسلمني كام يقـولون‪ ،‬وهـذا ختلف ومرض بحـاجة لنـوع من العالج‪ .‬فظهـرت مقاالت‬
‫لفتت نظر العامل هلذا اخلطر القادم عىل الغرب‪ ،‬أو باألحرى عىل املجتمع املدين الديمقراطي‪.‬‬

‫لنـنظر أخي القـارئ إلحدى هذه املقـاالت‪ :‬لقد كتـب بنيامني بـاربر ‪ Benjamin Barber‬بحثـاً يصور فيه‬
‫حـال مجيع األمم التي حتـاول التمسك هبـوياهتا خـوفاً من الضـياع أمام تيـار العوملة‪ .‬فـكان أن اختار كـلمة ‪X‬اجلهاد‪Z‬‬
‫ال يف مقــابل كلمـة‬
‫جمـاز ًا لـيصف حـال هـذه الـيقظـة سـواء كـان الـسكـان من املـسلمـني أم غريهم كـاهلنــدوس مث ً‬
‫‪X‬املاكـدونالـد‪ Z‬والتي تـصف حال مـتقبيل النظـام العاملي اجلـديد‪ ،‬أو العـوملة‪ .‬فكـان عنوان بحـثه الذي اشتهـر هو‪:‬‬
‫‪X‬اجلهاد يف مواجهة عامل املاكدونالد ‪ .ZJihad vs. Mc World‬فهو يقول معرفاً اجلهاد‪:‬‬
‫‪X‬أقر أن كلمـة جهاد قويـة‪ ،‬إهنا بألـطف صيغها تـوحي برصاع دينـي باسم العقيـدة‪ ،‬بنوع من احلامس‬
‫اإلسالمي‪ ،‬أما بأقوى جتلياهتا السياسيـة فتعني حرباً مقدسة باسم هوية حزبية حمددة ميتافيزيقياً [أي‬
‫غيبياً] وحمميـة بأسلحة التعصب‪ ،‬ومن ثم فإن اجلهاد الذي قد ال يعني بالنسبة إىل كثريين من املسلمني‬
‫سـوى نوع من الغرية واحلامس بـاسم دين معني يمكن عـده أداة مناسبة إلشـاعة النزعـة الكونية (وإن‬
‫مل تصل إىل مسـتوى النـزعة املـسكونـية)‪ ،‬استـمد معنـاه من أولئك الـناشطـني الذين جيـعلون من ذبح‬
‫‪X‬اآلخـر‪ Z‬واجباً مقدساً‪ .‬إنني أستخدم العبارة ببنيتها الكفـاحية للداللة عىل نزعة خصوصية دوغامئية‬
‫‪28‬‬
‫جامدة وعنيفة معروفة لدى املسيحيني مثلام هي معروفة عند املسلمني‪.Z... ،‬‬

‫ويوضح باربـر أصل الرصاع بني عاملـي اجلهاد واملاكـدونالد عىل أنه مـا أطلق عليه ‪ William Batler‬وليم‬
‫بتلر اسم‪:‬‬
‫‪73‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫العرق والـروح‪ :‬بني أبديـة ِ‬


‫العرق العـاكسة للـاميض القبيل‪ ،‬وأبديـة الروح احلـاملة بـاملستقبل‬ ‫‪X‬أبـديتي ِ‬
‫مفـسدة‪ ،‬فالعـرق تم اختزاله إىل عنـوان للسخط‪،‬‬ ‫األممي (الكوزمـوبوليتـي)‪ ،‬غري أن أبديتنـا العلامنية َ‬
‫والروح جرى تقـزيمها وحتجيمـها بام يتناسـب مع اجلسد املتطلـب الذي باتت تقيـس حاجاهتا به‪ ،‬مل‬
‫يعد العرق وال الروح يبرشاننا بأي مستقبل خيلو من الكآبة‪ ،‬أو يعداننا بأي كيان سيايس يتصف بيشء‬
‫‪29‬‬
‫من الديمقراطية ولو من بعيد‪.Z‬‬

‫أي أن باربـر ينتقد كال املنـظورين اجلهادي واملـاكدونالـدي ال ليشء إال خلوفه عىل الـديمقراطيـة العقالنية‪.‬‬
‫فيقول بأن املنظور األول للعامل عىل أنه عامل اجلهاد هو منظور متجذر يف‪:‬‬
‫‪X‬تربة العـرق باألفق املظلم لنـوع من عودة قطاعـات واسعة من البرشيـة إىل احلالة القبلـية الغارقة يف‬
‫بحـار احلروب والـدماء‪ :‬لـنوع من خطـر بلقنة الـدول القوميـة حيث متسك هـذه الثقافـة بخناق تلك‪،‬‬
‫ينقض هـذا [هؤالء] القـوم عىل ذاك [أولئك]‪ ،‬تبـادر هذه القبـيلة بنهـش تلك‪ ،‬يتم إطالق اجلهـاد باسم‬
‫املئات من العقائد املفهومة بصـورة ضيقة ومشوهة ضد سائر أشكال التبعية املتبادلة‪ ،‬ضد مجيع ألوان‬
‫التعاون اإلجتامعي املصطـنع والتبادلية‪ :‬ضد التكنولـوجيا‪ ،‬ضد الثقافة الشـعبية [ثقافة البوب]‪ ،‬وضد‬
‫األسواق املندجمة‪ ،‬ضد احلداثة نفسها جنباً إىل جنب مع املستقبل الذي حيمل احلداثة يف رمحه‪.Z... ،‬‬

‫وبالنسبة للمنظور اآلخر‪ ،‬أي منظور عامل املكدونالد فيقول‪:‬‬


‫‪X‬أما الـسيناريـو الثاين فـريسم املستقبل بـأقالم التلوين ذوات األلـوان املرشقة‪ ،‬لـيقدم لوحـة عن زمحة‬
‫قـوى اقتصاديـة وتكنولـوجية وبيئـية مندفعـة بقوة تطـالب باالندمـاج والتامثل وتسـحر الناس يف كل‬
‫مكـان بـاملـوسيقـى الرسيعـة‪ ،‬بـاحلـواسيـب الرسيعـة‪ ،‬وبـالـوجبـات الرسيعـة‪ ،‬بـاإلم يت يف (‪،)MTV‬‬
‫واملـاكنتوش واملـاكدونـالد‪ ،‬مقحمـة األمم والدول يف حـديقة عـاملية عـامة مـتجانسـة‪ ،‬يف بوتقـة عامل‬
‫ماكـدونالـد واحد مـرتابط بحـشد مـن شبكـات االتصـاالت واملعـلومـات وأسبـاب اللـهو والـتسلـية‬
‫والتجارة‪ .‬مـشدود ًا بني قـطبي بابل وديـزين الند‪ ،‬يتعـرض الكوكب لـعملية متـزق متسـارعة بعنف مع‬
‫‪30‬‬
‫عملية توحد قرسية يف اللحظة نفسها بالذات‪.Z‬‬

‫ولكن ملاذا هـذا اخلوف من كال الـتوجهني‪ :‬لعـلك استنتجت أن بـاربر قلق عىل الـديمقراطـية التي أوجـدها‬
‫ال من عامل اجلهاد وعامل املاكـدونالد يندفعان بقـوتني متساويتني يف اجتاهني‬
‫الغرب‪ ،‬وما ذلك إال (كام يقـول) ألن ك ً‬
‫متعاكسني‪،‬‬
‫ال عىل إعادة خلق‬ ‫‪X‬األول مدفـوعاً بـأحقاد حملـية ضيقـة‪ ،‬واآلخر بـأسواق كـونية مـوحدة‪ ،‬األول عـام ً‬
‫ِ‬
‫حدود حتـت قومـية وعـرقيـة قديـمة مـن الداخل‪ ،‬والـثاين دائـباً عىل جـعل احلدود القـوميـة ُمنفـذة من‬
‫اخلارج‪ ،‬ومـع ذلك فإن للجهاد وعامل املاكدونالد هذه الصفـة املشرتكة‪ :‬كالمها يشن حرباً عىل الدولة‬
‫القومية ذات السيـادة ويعمل‪ ،‬من ثم‪ ،‬عىل تقويض مؤسـسات الدولة القوميـة الديمقراطية‪ ،‬كل منهام‬
‫يراوغ املـجتمع املـدين ويقلل مـن شأن املـواطنـية والـديمقـراطيـة دون أن يسعـى أي منهـام إىل إجياد‬

‫أفـضت ممـارســاهتام النـاسفــة ألسس الـدولـة إىل تقــويضهـا‪ ،‬كام أن‬ ‫جـ) ثم يلخص باربر قلقه عىل الديمقراطية مضيفاً‪X :‬يف زمحة املجاهبة‬
‫األسـواق العامليـة ومجاعـات قرابـة الدم بعيـدة عن خدمـة اخلري العام‬ ‫بني الـتجارة العـامليـة واالنتامء العـرقي الضـيق‪ ،‬تضيع فـضائل الـدولة‬
‫وعـن السعـي إىل املسـاواة والعـدالـة‪ .‬فـاألجهـزة القضـائيـة املحـايـدة‬ ‫الديمقراطية وتتعرض مجلة األدوات التي مكنت هذه الدولة هبا مجلة‬
‫واملجالس التشاورية ال تضطلع بأي دور لدى عصابات القتلة السائبة‬ ‫األقـوام والشعـوب من التحـول إىل أمم والـوصول إىل امـتالك السلـطة‬
‫التي تتحدث باسم ‪X‬الشعوب‪ Z‬املتحررة حديثاً‪.)31( Z... ،‬‬ ‫الـسياديـة باسم احلـرية واملـصلحة العـامة للـخطر‪ .‬ال اجلهـاد وال عامل‬
‫املـاكدونالـد يتطلعـان إىل إعادة تأمـني الفضائل املـدنية واألهلـية التي‬
‫قص احلق‬ ‫‪74‬‬

‫مؤسـسات ديمقـراطية بـديلة‪ ،‬لعل اخليـط املشرتك بينهـام هو خيط الالمـباالة باحلـرية املدنـية‪ .‬يقوم‬
‫اجلهاد باجرتاح مجاعات قائمة عىل الدم متجذرة يف تربة اإلقصاء واحلقد‪ ،‬مجاعات حتتقر الديمقراطية‬
‫لصـالح النـزعة األبـوية االسـتبداديـة أو النزعـة القبـلية الـقائمـة عىل اإلمجاع‪ ،‬أمـا عامل املـاكدونـالد‬
‫جـ‬
‫فيجرتح أسواقاً عاملية متجذرة يف تربة االستهالك والربح ‪.Z...‬‬

‫هكذا كام ترى فـإن الغرب وأتباعه يـرفضون األديان ألهنـا بالنسبـة هلم قد تدمـر املجتمعات الـديمقراطية‬
‫الـتي أنتجتها عـقوهلم‪ .‬ولكن أين املفـر؟ فاألديان حقـيقة واقعة البـد من مواجهتهـا‪ .‬لذلك ظهرت حـركة احلوار بني‬
‫األديان لتذيب ما بني األديان من خالفات لتتحد حـول مفاهيم جتمع سكان األرض عىل ما هو ديمقراطي‪ .‬ولكن ما‬
‫هـو اخليط الذي جيمع بني األديـان؟ انظر ملكرهم للـوصول ألهدافهم‪ :‬لقـد قالوا إنه األخالق‪ .‬فظهـرت حركة لنرش‬
‫التـآلف بني األديان من خالل األخالق اإلنسانيـة‪ .‬يقول هانس كونغ ‪ ،Hans Kung‬وهـو الشخص املكلف بكتابة‬
‫مسـودة البيان الـصادر عن االجتامع األول الـذي دعى إليه جملس بـرملان أديان العـامل الذي عقد يف شيـكاغو بني ‪28‬‬
‫أغسطس و ‪ 4‬سبتمرب سنة ‪ 1993‬والذي حرضه ستة آالف ومخس مئة شخص من معظم األديان‪:‬‬
‫‪X‬لـن يكتب للـديمقـراطيـة أي بقاء مـا مل يتم اجرتاح نـوع من التحـالف بني املـؤمنني واملـالحدة عىل‬
‫قـاعدة االحرتام املتبـادل ‪ ...‬لن يكون ثمـة سالم بني احلضارات يف غـياب السلـم بني األديان! كام لن‬
‫يكـون أي سلم بـني األديان دون إجـراء حوار بـني هذه األديـان‪ ... .‬ليس [لـن] يكون ثـمة أي نـظام‬
‫عاملـي جديـد يف غيـاب منظـومة أخالقـية كـوكبـية جـديدة ‪ ...‬ال يـسعني إال أن أكـرر أن املنظـومة‬
‫األخالقيـة الكوكبية ليست إيديـولوجيا أو بنية فوقيـة جديدة ‪ ..‬املنظومة األخالقـية الكوكبية ليست‬
‫إال احلـد األدنى من القاسم املـشرتك عىل صعيد القيـم واملعايري واملواقف األسـاسية اإلنسـانية‪ ،‬وبعبارة‬
‫أدق يمكن أن يقـال‪ :‬ليست املنظـومة األخالقية الـكوكبية إال نـوعاً من اإلمجاع عىل سلـسلة من القيم‬
‫‪32‬‬
‫اإللزامية‪ ،‬من املعايري التي يتعذر إبطاهلا‪.Z... ،‬‬

‫الحظ يف االقتبـاس السابق أنه بدأ بـالديمقراطيـة لينتهي باألخالق! أي أن األخالق املـشرتكة بني البرش (أو‬
‫اإلمجاع عىل سلسلـة من القيم اإللزامية‪ ،‬كام يقول) هي املـدخل لنرش الديمقراطية‪ .‬يـاله من مدخل خمادع‪ .‬فبالتسرت‬
‫ال‬
‫حتت األخالق والتي ال يـستطيع أي عاقل أن يـرفضها سيتم جتـريد املسلمـني من بعض أسس الرشيعـة كاجلهاد مث ً‬
‫ليذوب املجتمع املسلم رويد ًا رويد ًا فيبقى اإلسالم يف القلوب حبيساً أو يف أحسن األحوال يف املسجد طقوساً وليس‬
‫ال‪ :‬وألن‬
‫ال إلنزال هذه األفكار إىل أرض الواقع‪ .‬فيقول كونغ معل ً‬
‫كنظام جمتمعي فعال‪ .‬ولقد بدأ التحرك السيايس فع ً‬
‫العامل ‪X‬مـوبوء أيضـاً بالتطـرف والعنف الدينـيني اللذين يـتم الوعظ هبـام وممارستهام بـاسم الدين‪ ،Z‬فهـناك حماوالت‬
‫جـادة إلجياد دستور عاملي جـديد‪ ،‬مشابه مليثـاق حقوق اإلنسان‪ ،‬تتعهـد فيه مجيع األمم بااللتـزام به‪ .‬فقد قام فريق‬
‫عمل مكون من رؤساء الـدول واحلكومات السابقني برئاسـة مستشار أملانيا االحتادية الـسابق هلموت شميدت بتأييد‬
‫بـيان شيكـاغو‪ ،‬ثم متت مـناقشـة البيان يف فـينا يف شهـر مارس سـنة ‪ 1996‬مع خرباء مـن األديان املختلفـة‪ ،‬ثم جرى‬
‫إقـراره بمدينة فانـكوفر يف شهر مايـو ‪1996‬؛ هكذا ُسحب بعض املسلمني مـن خالل حفنة من داريس الرشيعة (وال‬
‫أقول رجـال الديـن) للتنـازل عن أسـس معتقـداهتم وذلك أن جمـرد املوافقـة عىل قيم أخالقـية عـامليـة يعنـي أن هذه‬
‫األخالق مقدمـة عىل كل يشء آخر بام فيهـا السياسـة والقانون‪ .‬فـهناك حيثيـات متتاليـة يذكرهـا هانس كـونغ منها‬
‫ال )‪X :‬البد لألخالق من أن تتقدم عىل السياسة والقانون‪ ،‬ألن الفعل السيايس مهتم بالقيم واالختيار‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫(قائ ً‬
‫عىل األخالق أن توجه وتلهم قيادتـنا السياسية‪ .Z‬أي أن عىل احلـكام اخلضوع هلذه القيم األخالقيـة الكوكبية‪ .‬هكذا‬
‫‪75‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫يتم جتـريد اإلسالم من احلكم بام أنـزل اهلل‪ .‬فإن أراد حاكم مـا منع البنوك الـربوية فلـن يستطيع ذلك ألن األخالق‬
‫الكوكبية املتفق عليها ستمنعه من ذلك‪ .‬كيف؟‬

‫إن من احليثيات إلجياد نـواة للمنظومة األخالقية الـكوكبية االنطالق من رضورة معامـلة ‪X‬كل إنسان معاملة‬
‫إنسانية! ذلك يعني أن كل كائن برشي‪ ،‬دونام متييز عىل أسس السن واجلنس والعرق والبرشة واللون والقدرة البدنية‬
‫أو الذهـنية أو اللغة والـدين ووجهة النظـر السياسـية أو اجلذور االجتامعـية‪ ،‬يتمتع بكـرامة ثابتـة ال يمكن املساس‬
‫هبـا‪ 33.Z‬فإن أراد تـاجر مـا إنشـاء بنـك ربوي فلـن حيق للدولـة منعه‪ .‬ولـعلك الحظت أخـي القارئ أيـضاً أن تقـديم‬
‫األخالق عىل القـانون‪ ،‬أي قـانون مجـيع املجتمعـات‪ ،‬واملسـاواة بني مجـيع البرش‪ ،‬البـد وأن يعني أنه ال حيق للـمسلم‬
‫التفكري يف اجلهاد لنرش اإلسالم‪ .‬أال يتعـارض هذا مع ما فعله الرسول صىل اهلل علـيه وسلم‪ ،‬وبالذات ما فعله اخلليفة‬
‫الثـاين عمر بن اخلطاب ريض اهلل عـنه وأرضاه قبل فتح العراق والـشام من ختيري غري املسـلمني بني اإلسالم أو اجلزية‬
‫أو القـتال؟ ليـس هذا فحـسب‪ .‬بل هنـاك املزيـد‪ :‬لوضع مـنظومـة األخالق الكوكـبية الـتي جيب أن ختضـع هلا مجيع‬
‫األديان فقـد تم وضع مـبدأيـن تنطلـق منهام املعـايري لألخالق الكـوكبـية‪ ،‬وهـذان املبـدءان مها (كـام يقول هـانس‬
‫كـونغ)‪X :‬جيب التعـامل مع مجيع الـبرش بطـريقة إنـسانـية‪ .‬افعل لآلخـرين ما يـطيب لك أن يفعـله اآلخرون لك‪.Z‬‬
‫وينبغي هلـذين املبـدأين أن يشكـال املعيار العـام الذي ال يقبل اجلـدل وغري املرشوط بـالنسبـة جلميع جمـاالت احلياة‬
‫وجلميع األديـان والعرقـيات كام يقـول كونغ‪ .‬هلـذا فقد تم تـأكيد عـدة توجهـات كمعايـري منها‪X :‬االلـتزام بثقـافة‬
‫الالعنف واحرتام احليـاة كلها‪ :‬بـتلك الوصيـة القديمـة قدم الـزمن‪ :‬ال تقتل! أو احرتم احليـاة بصيغـة اإلجياب‪.Z... .‬‬
‫الحـظ عبارة ‪ ... X‬أو احرتم احليـاة بصيغة اإلجيـاب ‪ .Z...‬أدرك أهيا القارئ أنـك قلت (إن مل تكن مؤمنـاً بأن القرآن‬
‫كالم اهلل)‪ :‬هل يريد هـذا املؤلف (أي مجيل أكرب) حتـريض املسلمني عىل سفـك دماء اآلخرين حتت مـظلة اجلهاد؟‬
‫فـأجيب‪ :‬كام سـأوضح يف فصول الحقـة بإذنه تـعاىل فإن املـسلمني إن مل جياهـدوا فإن احلكم بـاإلسالم لن ينترش يف‬
‫األرض ولكـن الذي سينترش هو الفسـاد ببعديه (التلوث البيئي واالنـحالل اخللقي)‪ .‬فإن مل تقر بأن االنحالل اخللقي‬
‫كارثـة الختالف قيمك‪ ،‬فمـن احلكمة أن توافـقني عىل أن التلوث البـيئي كارثة قـادمة ال حمالـة‪ .‬فالبد إذ ًا من اجلهاد‬
‫إلنقـاذ كوكب األرض ألن هـذا اإلنقاذ لن يـأيت إال باحلكم بـالرشيـعة‪ ،‬ولكن يف الـوقت ذاته (وهذا جـد مهم) ترك‬
‫احلريات للناس العتناق ما أرادوا من األديـان والعادات‪ .‬أي ال إكراه يف الدين‪ ،‬ولكن حتت مظلة مقصوصة احلقوق‬
‫إلنقاذ األرض من فساد قادم ال حمالة (وسيأيت بيانه بإذنه تعاىل)‪.‬‬

‫وحتى ال ينقاد العامل إىل الفوضى‪ ،‬كام يقولون‪ ،‬فقد تم وضع تقرير أعدته هيئة إدارة العامل من قبل منظمة‬
‫األمم املتحـدة بعنوان‪ :‬حارتنا الـكوكبية‪ .‬ويقول هـانس كونغ بأن املقـصود بإدارة العامل ليـس حكمه‪ ،‬فهذا أمر غري‬
‫واقعـي‪ ،‬بل حماولة ‪X‬حتقـيق التوازن بطـريقة متكـن إدارة الشؤون الكـوكبية مـن التجاوب مع مصـالح مجيع الناس يف‬
‫مـستقبل قابل للدوام‪ ،‬أي بطريقة تكون معها مسرتشدة بالقيـم اإلنسانية األساسية‪ ،‬وبطريقة جتعل التنظيم الكوكبي‬
‫منسجام ً مع تنوع العامل‪ .Z‬وممـا حيويه التقرير هو تعزيز األمن الكوكبي وإدارة الـتبعية االقتصادية املتبادلة وتقوية‬
‫سيادة القـانون (القانـون الدويل) عىل النطـاق الكوكبي وإصـالح األمم املتحدة‪ 34.‬أي أهنم بـاختصار يـريدون إجياد‬
‫نـظام جلميع البرش بجميع معتـقداهتم للعيش معاً حتت نظـام دويل حيق فيها لكل مجاعة فعل مـا تريد ما مل ِ‬
‫تعتد عىل‬
‫اآلخرين تعـدياً مبارش ًا‪ .‬فهم هبذا يـؤكدون عىل حقوق األقليات مـهام كانت معتقداهتم مثل الـشاذين جنسياً‪ .‬أي أن‬
‫قص احلق‬ ‫‪76‬‬

‫القانون الدويل سيحمـي طوائف مثل اللوطيني والسحـاقيات واملرابني‪ .‬وقد ال يـكون رضر هؤالء مبارش ًا عىل األفراد‬
‫اآلخـريـن‪ ،‬ولكن مع الـزمن قـد تـنتقل عـدوى مـرض هـؤالء عىل الـبعض اآلخـر من أفـراد املجـتمع‪ .‬لـذلك يـمنعه‬
‫اإلسالم‪ .‬أمــا هم فال يـريـدون ذلـك حتت شعـار احلـريــات‪ .‬ولكن أنــى هلم ذلك‪ .‬ملـاذا؟ نعـود اآلن إىل صـامـويل‬
‫هـانتنغتـون ‪ Samuel Huntington‬فهو يـرى يف حديثـه عن صدام احلـضارات اسـتحالـة مثل هـذا املنظـور‪ :‬فهو‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪X‬تؤدي الفـروق يف الثقافة والـدين إىل ظهور خالفات حـول أمور السيـاسة والتخطيـط‪ ،‬بدء ًا بحقوق‬
‫اإلنـسان ووصوالً إىل قـضايا اهلجـرة والتجارة واألعامل‪ ،‬ومـرور ًا بمشكالت الـبيئة‪ .‬يتـمخض التجاور‬
‫اجلغرايف عن صدور مزاعم إقليميـة متضاربة من البوسنة إىل مينداناو‪ ،‬لعل األهم هو أن جهود الغرب‬
‫الراميـة إىل نرش قيمه املـتمثلة بـالديمقـراطية واللـيربالية بـوصفها قـيام ً كونيـة شاملـة‪ ،‬إىل احلفاظ عىل‬
‫هيمنته الـعسكرية‪ ،‬وإىل تـدعيم مصاحله االقتـصادية تولـد ردود ًا مقابلة لـدى حضارات أخرى‪ ،‬ومع‬
‫تنـاقص قـدرهتـا عـىل استنفـار الـدعم والتحـالف بـاالستنـاد إىل أسـاس األيـديـولـوجيـا‪ ،‬سـوف تبـادر‬
‫احلكـومات واجلامعـات إىل مضـاعفة مـساعيـها للحـصول عـىل الدعم عـرب مناشـدة الديـانة املـشرتكة‬
‫واهلوية احلضارية‪ .‬وهـكذا فإن صدام احلضارات حيدث عىل مستويني‪ ،‬فعىل املستوى الضيق تتصارع‬
‫اجلامعات املوجـودة عىل امتداد خطوط الـصدع الفاصلة بـني احلضارات‪ ،‬بعنف غالبـاً‪ ،‬حول السيطرة‬
‫عىل األرض‪ .‬أما عىل النطاق العام املـوسع فإن دوالً منتمية إىل حضارات خمتلفـة تتنافس يف ما بينها عىل‬
‫امتالك املـؤسسات الدولية واألطـراف الثالثة‪ ،‬وتظل عاكفـة عىل التباري يف جمال نرش قيـمها السياسية‬
‫‪35‬‬
‫والدينية اخلاصة‪.Z‬‬

‫وباخـتصار‪ :‬إن أعدت قـراءة ما سبق وغريهـا من كتب واضعاً يف ذهـنك أن العامل الغريب حيـاول جاهد ًا (أو‬
‫يتظـاهر أنه حياول جاهـد ًا) نرش قيمه الديمـقراطية داخل حدود الـدول مع حماولته اهليمنـة عىل تلك الدول القتنعت‬
‫أن العقالنية ال يمـكن أن تنتهي إال بنـظام دويل هييمن فـيه األقوى عىل األضعف‪ ،‬ونظـام جمتمعي هييمـن فيه األغنى‬
‫عىل األفقر (كام سيـأيت بإذن اهلل)‪ .‬أي أن العقالنية هـي أداة للمفاضلة وليـست للعدل‪ .‬أي أهنا أداة تقـول شيئاً وتنتج‬
‫شيئـاً آخر‪ .‬فـاألرسة قد تكـون عقالنيـة لتحقـيق أهدافهـا‪ ،‬ولكن عىل مسـتوى احلي‪ ،‬إن كـان لسـكان احلي احلق يف‬
‫ال فإن النـاتج هو تغليب مصـالح األكثرية أو األقـوى والذي قد ال يكون يف‬
‫تقـرير املصري من خالل التـصويت مث ً‬
‫صالح إحدى األرس‪ .‬وكـذلك عىل مستوى احلي‪ ،‬فقد يكون سكان احلي عقالنيني لتحقيق مصاحلهم‪ ،‬أما عىل مستوى‬
‫املدينـة فإن األقوى هو الذي حيقق مصاحله الذي قد ال يكـون يف صالح سكان حي آخر‪ .‬وكذلك املدن‪ ،‬فقد تكون‬
‫املـدينة من خالل حاكمها ومعاونيه عقالنية يف حتقيق مصاحلها ولكن بعض املدن لن تستطيع أن حتصل عىل ما تريد‬
‫إن مل تكـن قوية عىل مستوى الدولـة‪ .‬واليشء ذاته بني الدول كام مر بنا‪ .‬وهـكذا كل يعتقد أنه عقالين يف مستواه‪،‬‬
‫بنـاء عىل سلطته وقـوته (وهناك بحث مـتميز‪ 36‬يف‬
‫إال أنه عىل املـستوى األعىل منه إمـا أن يكون خـارس ًا أو ال يكون ً‬
‫هذا املوضـوع)‪ .‬ولعل أوضح مثال عـىل هذا هو مـؤسسات الـدولة كالـوزارات‪ .‬فمعظم الـوزارات تعتقد بـاستخدام‬
‫العقل أهنا مـن األهم‪ ،‬وأن ما تقـدمه من خدمـات هي من األهـم‪ ،‬ولذلك تـسعى للحـصول عىل أكرب قـدر ممكن من‬
‫املوازنة العـامة حتى وإن كـان هذا عىل حسـاب قطاعات أخـرى أهم‪ .‬فأهيام أهم‪ ،‬مـؤسسات الكهـرباء أم التعليم؟‬
‫ومن يقرر يف هذه املـسألة؟ إنه األقوى‪ .‬وهكـذا يرتاكم اخلارسون يف مجيع املسـتويات ليشكلـوا جزء ًا له سلبياته يف‬
‫املجتـمع كام سيأيت‪ .‬أي أن الـعقالنية‪ ،‬ال تنـتج إال خارس ًا ومنتـرص ًا لتكون الرتكـيبة املجتـمعية مكـونة من مـؤسسات‬
‫‪77‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫متصارعـة تستنهك الكثـري من موارد املجتمع حلل هـذه الرصاعات‪ .‬أما مـا تفعله الرشيعة فهـو فصل متقن بني مجيع‬
‫بنـاء عىل كفاءته دون احلـاجة لـلرصاعات‪ ،‬بل بـالفصل‬
‫األطـراف بقص احلقـوق ليحصل كل طـرف عىل ما يـستحقه ً‬
‫َ^صلِنيَ )‪( ،‬وسيأيت بيانه بإذن اهلل)‪ .‬وبرغم‬
‫ي ‪e‬ل‪c‬ف ِ‬
‫ُص ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَهُ وَ خَ ‪ُ c‬‬
‫لل يَق ُّ‬
‫املـتقن بينهم كام قال تعاىل‪( :‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫كل هذا الوضوح ملآيس العقالنية إال أن الغرب يـرفض األديان متاماً‪ .‬فهو ال يريد لألديان أي دور ال يف التخصصات‬
‫العلـمية مـثل دراسة القـانون أو االقتـصاد‪ ،‬وال يف علـم املستقـبليات الـذي ُين ّ‬
‫ظـر إلجياد مـا يسمـى بـ ‪X‬النظـام العاملي‬
‫اجلديد‪.Z‬‬

‫اعلقل أم المتكني‬
‫أي أن العـقل لكل غريب أو علامين هـو املرجع األسـاس يف معظم التـوجهات الفلـسفية املعـمول هبا سـابقاً أو‬
‫ال‪ ،‬يا هلا من خـديعة وقع فيها العامل‪ .‬لقد أصبح العقل‬
‫املعارصة‪ ،‬أو تلك التي تبحث عن خمرج ألزمـة احلداثة مستقب ً‬
‫البرشي القـارص هو املحـور وهو املحك وهـو املقرر وهـو العصب‪ .‬إنه كل يشء‪ .‬ومـن مل يقبل هبذا فهـو ناقص يف‬
‫كيانه ومـرفوض يف منـطقه‪ .‬فاملفكـرون املسـتكربون ال يريـدون أن يروا أن األمـم ستنتهي بـالعقالنيـة إىل املصالح‬
‫الـذاتية التي إن تـراكمت ستدمـر البرش‪ ،‬وهذا وضع كل مـسلم مفكر يف حرية‪ :‬فـإنجازات احلداثـة من راحة للبرش‬
‫كاخرتاع اهلواتف الذكية أمر ملموس‪ .‬لذلك يكون السؤال‪ :‬هل هذا اإلنجاز التقني الغريب بسبب احلداثة؟‬

‫كام قلت‪ :‬فمعـظم ادعاءات املفكرين ترص عىل أن الـعقالنية يف احلداثة هي الـسبب األهم هلذه اإلنجازات‬
‫لـدرجة أن هـناك نظـريات تعـزو ختلف املسلمـني إىل عدم إعامل عقـوهلم‪ .‬وأنا ال أرى ذلـك‪ ،‬والذي أعتقـده هو أن‬
‫‪XC‬التمكني للـشعوب‪ Z‬الذي أتت به احلـداثة‪ ،‬والذي كسـبه الغرب من خالل حكمه لنـفسه بعد حترره مـن الكنيسة‪،‬‬
‫أدى هلذه اإلنجازات‪ .‬فاحلداثة مكونة من شقني‪ :‬عقالنية برشية من جهة‪ ،‬ومتكني للشعوب من جهة أخرى‪ .‬وأعني‬
‫بالـتمكني هنـا أن الناس يـدركون من خـالل تعاملهـم يف جمتمعهم الـرأساميل أن سعـادهتم يف نظـام رأساميل مربـوطة‬
‫بزيادة دخلـهم ألن لكل يشء سعرا‪ .‬وزيادة الـدخل هذه تأيت من املثـابرة عىل العمل وابتكـار ما هو جـديد أو نحوه‬
‫من حمفزات‪ ،‬ومن ثم حريـة احلركة يف املتاجـرة بام تم إنتاجه ببيعهـا يف مناطق أخرى‪ ،‬وهذا مـا اتفق الغربيون عىل‬
‫ال‪X :‬لـذلك‬
‫نعته بـالفـرنـسيـة‪X :‬دعه يعـمل‪ ،‬دعه يمـر ‪ .Zlaissez faire, laissez passer‬فيقـول د‪ .‬حممـد ربـيع مث ً‬
‫يالحظ أن زيـادة اإلنتاج والـتقدم االقتصـادي والعلمي كانـا قد اقرتنـا بحصول الفـرد عىل حقوق وحـريات وفرص‬
‫جديـدة تسببت يف إعالء شأنه وتعـزيز إنسانيـته إىل حد كبري‪ 37.Z‬فاملجتمع الـغريب كفل لكل من يعمل حقه إن هو‬
‫ُ‬
‫وحفـظ مثل هـذه احلقـوق هي أهم حـافز‬ ‫جـد يف العمـل وثابـر عىل االبتـكار؛ وكـفل له أو لغريه حق املـتاجـرة به‪.‬‬
‫لألفراد لإلنجـاز‪ .‬أي أن إنجازات احلداثة هي بسبـب متكني الشعوب وحفظ احلقوق الـتي أدت للمزيد من الكسب‬
‫املـادي لألفراد الـذين دأبـوا للمـزيد مـن العمل واإلنتـاج واالبتـكار‪ .‬وهكـذا انطلقـت املجتمعـات احلداثـية‪ .‬أو عىل‬
‫األصح‪ ،‬انفلتت ملزيد من االستهالك والذي تراكم ليلوث األرض ومن عليها‪ .‬أي أن هذا اإلنجاز املادي ليس بسبب‬
‫العقالنية‪ ،‬ولكـن بسبب حفظ حقوق األفراد الذي أدى للتمكني‪ .‬وهذا التمييز بني العقالنية والتمكني مهم ملوضوع‬
‫هـذا الكتاب‪ ،‬وهـو خطأ وقع فيه الـكثري‪ .‬فمعظم الـباحثني اعتقـدوا أن عقالنية احلـداثة هي أهم سبـب إلنجازاهتا‪،‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪78‬‬

‫ولـذلك انـتقدوا اإلسـالم يف العقالنيته (كـام يزعـمون)‪ .‬وهـنا يف هـذا الكتـاب (كام سنـرى بإذن اهلل) أرص عىل أن‬
‫‪X‬التمكني‪ Z‬يف الغرب (وبـرغم أنه مبتور مقارنة بام تـقدمه الرشيعة) هو سبب هـذه اإلنجازات‪ .‬وأن العقالنية تبقى‬
‫فاعلـة عىل املستوى االبتكاري‪ ،‬أما عىل أرض الـواقع للفصل بني األفراد‪ ،‬فهي برغم دفع شعـوهبا للمزيد من اإلنتاج‪،‬‬
‫إال أهنا املسبب للفساد ألهنا تنقلب إىل مصالح وأهواء‪ .‬وهذا أمر ال مفر منه للمجتمعات التي تأخذ باحلداثة‪.‬‬

‫وبالطبع ستسأل‪ :‬إن كان التـمكني للشعوب هو من إفرازات احلداثـة‪ ،‬وأنه رفع اإلنتاجية‪ ،‬فلامذا ال نأخذ به‬
‫كمسلـمني؟ فأجـيب‪ :‬إن ما يـطرحه هـذا الكتـاب هو أن اإلسالم أكـثر متكـيناً ممـا أتت به احلـداثة‪ ،‬كام أنـه أكثر‬
‫حترير ًا لألفـراد‪ .‬فام حيتاجه البرش هـو جمتمعات متمكنـة متحررة يف حركتهـا‪ .‬وما تقدمه احلداثـة هو بعض التمكني‬
‫مع الكثري من التقيـيد‪ ،‬لذلك ثـار فوكو عىل الـتقييد كام وضحـنا‪ .‬فشتـان بني جمتمعني‪ :‬أحـدمها‪ ،‬أي اإلسالم‪ ،‬أفراده‬
‫مـتمكنـون (كام سنـوضح يف الفـصول ‪ 3‬إىل ‪ )7‬ويـنطلقـون دون تقيـيد حـركتـهم (الفصـول ‪ 9‬إىل ‪ ،)17‬واآلخر‪ ،‬أي‬
‫احلـداثي‪ ،‬أفراده متمكنون جزئياً مع تقييد يف احلركة‪ .‬فقـد أوجدت املجتمعات احلداثية الكثري من القيود التي تثبط‬
‫اهلمم (الفصول ‪ 8‬و ‪ 12‬و ‪ .)18‬ولكـن إنجازاهتا تبهرك ألنك مل تر البـديل‪ .‬فلم حيكم اإلسالم لريى العامل ما يمكن‬
‫أن يقدمه للبرشيـة من تقدم تقني وإنـتاج غزير وسـعادة دائمة‪ .‬وإن حكم لكـان حال العامل اآلن يف وضع خمتلف‪.‬‬
‫أو كـام أزعم يف هذا الكتـاب‪ ،‬لتمكن املـسلمون يف القـرن السادس أو حـتى الرابع اهلجـري من ابتكار احلـاسوبات‬
‫واهلواتف النقـالة ونحوها من منجـزات‪ ،‬وألصبحنا اآلن يف حضارة متقـدمة جد ًا تليق بإنسـانية البرش‪ .‬أي أن الغرب‬
‫مل يتقدم إال اليسري‪ ،‬وألن املسلمني مل يتقـدموا نرى تقدم الغرب إنجاز ًا‪ ،‬فـاإلنسان املبدع الذي خلقه اهلل عز وجل‪،‬‬
‫إن تفـاعل مع ما أوجـده اهلل من خريات عىل األرض بـاالحتكـام ملقصـوصة احلقـوق ألنتج الـكثري وبنـوعيـة عالـية‪.‬‬
‫فحذار أخي القارئ وأختي القارئـة من اخللط بني العقالنية والتمكني‪ .‬وهذا التـمييز هو من أهم حماور وأطروحات‬
‫هـذا الكتـاب (وسيـتضح أكثـر بإذنـه تعاىل)‪ .‬وقـبل االستمـرار‪ ،‬البد مـن املرور رسيعـاً عىل بعض نـظريـات ختلف‬
‫املسلمني والتي ترص يف طرحها عىل أن ختلف املسلمني هو بسبب رفض العقالنية البرشية !‬

‫أسابب اتلخلف‬
‫لقد ُنـرش الكثـري من الدراسـات التحليلـية عن أسـباب ختلـف املسلمـني‪ .‬فام حدث يف اجلـزائر التـي قدمت‬
‫مـاليني الشهداء يثري الدهشة‪ ،‬فبعد مخسني سنة من االستقالل وبرغم كل الثروات واملعادن التي هبا‪ ،‬وبرغم الطقس‬
‫البـديع واألرض اخلصبـة‪ ،‬وما إىل ذلك من عـوامل العزة‪ ،‬فـربغم كل هذه املقـومات الـتمكينيـة إال أن شباهبـا الفقراء‬
‫يـقذفون بـأنفسهم عىل أعتـاب أوروبا التي تـزجهم طرد ًا‪ .‬فام هـو الذي ينقـص العامل اإلسالمي لـيتخلف؟ إنه سؤال‬
‫حمري‪ ،‬ولإلجـابة علـيه ظهرت أسئلـة أخرى‪ :‬هل الـتخلف بسبب اإلفـرازات املعارصة أم أنه آت من املـايض؟ هل هو‬
‫من عوامـل داخل األمة أم من خـارجها بـسبب مكـر أعدائهـا؟ هل هو غيـاب التقنيـة أم غياب املفـاهيم اإلنتـاجية‬
‫السامـية؟ أين هي مكامن اخللل ومـا هي بدائل النهوض؟ وبـرغم كثرة األسئلة إال أن هنـاك إمجاعاً عىل أنه كلام زاد‬
‫تـاريخ األمة عراقـة كلام كان ملـاضيها حـضور ًا مؤثـر ًا يف توجهها املـستقبيل‪ ،‬واألمة املـسلمة تكـاد تكون من أعمق‬
‫الشعـوب حضارة‪ .‬فال يمـكن تاليف أو مسح ماضـيها من الذاكـرة اجلامعية‪ .‬ومـن الباحثني من يـرى أن تقدم الغرب‬
‫‪79‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ليس إال اقـتصاديـاً وتقنيـاً‪ ،‬أما من الـناحيـة االجتامعـية والنفـسية واألمـنية فهـو يف كآبـة وضياع‪ ،‬وأن احلـضارة هي‬
‫حمصول التقدم يف مجيع املجاالت األمنية واألخالقية واالقتصادية والتقنية‪.‬‬

‫وبالطبـع‪ ،‬ونظر ًا الختالف القنـاعات والتخصصـات بني الباحثـني‪ ،‬فقد اختلفت تفـسرياهتم عن سبب ختلف‬
‫املسلمني‪ .‬وسأعرض لك بإجيـاز أهم نظريات التخلف‪ ،‬فهي أكثـر من أن حترص‪ .‬بل يمكن القول بأن لكل مثقف يف‬
‫العـامل اإلسالمي نظريته اخلاصـة به‪ ،‬وسأبدأ بام ذهب إليه اإلسـالميون‪ :‬فهم يرون أن سبب الـتخلف اجلوهري هو‬
‫اإلعـراض عن كتاب اهلل وسنـة نبيه صلوات ريب وسالمه علـيه‪ .‬وبسبب هذا اإلعـراض انترش اجلهل بالـدين وبالتايل‬
‫ال كـام يقولون‪:‬‬
‫انترش احلكم بغـري ما أنزل اهلل‪ ،‬فـأقيمت كل احليـاة بعيد ًا عن اإلسالم‪ ،‬فـانترش الفكـر اإلرجائي مث ً‬
‫وهـو أن يؤمن اإلنسـان بقلبه وال مكان لإليامن يف تـأطري العمل‪ .‬فيكفي أن يـؤمن اإلنسان أن اهلل عـز وجل موجود‪،‬‬
‫وأن اإلسالم حق‪ ،‬وأن الرسول صىل اهلل عليه وسلم قد بعث‪ ،‬ثم ال يـرضه ما فعل‪ ،‬أو كام قالت املرجئة‪ :‬ال يرض مع‬
‫اإليـامن ذنب‪ ،‬كام ال ينفـع مع الكفر طـاعة‪ .‬ومـن األسباب أيـضاً (يف نظـرهم) يف هذا اإلطـار ضعف عقيـدة الوالء‬
‫والرباء‪ .‬فـالدين ليس مـرجعاً يف من يوالـونه املسلمون ويعـادونه‪ ،‬بل هي املصالح واألهـواء‪ .‬ومن أسباب التخلف يف‬
‫نظـر اإلسالميني أيـضاً هيـمنة علـم الكالم عىل أبواب االعـتقاد بحجـية أن العقل له احلـق يف أن يقول كلمـته‪ ،‬فكان‬
‫ال متـى ما ذكـر املأمـون الذي أذن‬
‫الـتخلف بسبـب تعريب كـتب الفلسفـة‪ .‬هلذا كـان ابن تيـمية رمحه اهلل يقـول مث ً‬
‫برتمجـة كتـب الفلسفـة‪X :‬عليه مـن اهلل ما يـستحق‪ .Z‬ومـثل هذه األسـباب أدت إىل اجلـهل الذي مـزق الوحـدة التي‬
‫متيزت هبا األمة‪ ،‬فظهرت الفرق كالبهائية والقديانية‪ ،‬فعاد املسلمون كام كانوا يف اجلاهلية ممزقني بفعل العصبيات‪.‬‬
‫وازداد الضعف باالنبهـار بالغرب ثم االقتداء به‪ .‬فـالضعيف يقلد القوي‪ ،‬فكـانت اهلزيمة النفسيـة والتبعية املطلقة‪.‬‬
‫أو كام وضحها شكـيب أرسالن‪ :‬إن من أعظم أسـباب انحطـاط املسلمني فقـدهم كل ثقة بـأنفسهم‪ .‬وهـذا من أشد‬
‫األمراض االجتامعية وأخبـث اآلفات الروحية‪ ،‬وال يـتسلط هذا الداء عىل أمـة إال ساقها للفنـاء‪ .‬ومن األسباب أيضاً‬
‫ظهور البـدع (كام يقول اإلسالميـون)‪ ،‬فالبدعـة هي النار الـتي حترق املجتمع‪ ،‬أو هـي األكسجني الذي يـزيد النار‬
‫احرتاقاً‪ ،‬فيزيد التخلف هشاشـة‪ .‬ومن األسباب أيضاً معاناة األمة من اخلـونة عىل مر التاريخ مثل ابن العلقمي الذي‬
‫أعان التتار عند سقوط بغداد سنة ‪ 656‬هـ‪ .‬ومن أعظم اخلـيانات بالطبع اخليانة الفكرية‪ .‬ومثال ذلك كتاب عيل عبد‬
‫الرازق عن ‪X‬اإلسالم وأصول احلكم‪ .Z‬والذي ذهب فيه إىل فصل الدين عـن الدولة‪ .‬ولعل املثال األشهر هو كتابات‬
‫طه حـسني التي حتـث عىل اتباع الغـرب‪ .‬لذلك كـان لضعف العلـامء يف توجيه األمـة األثر الـواضح يف التخلف كام‬
‫يقول اإلسالميون‪.‬‬

‫ومن البـاحثني من يرى أن التخلف بسبب التصادم بني الفكـر القومي والفكر اإلسالمي‪ :‬فالفكر القومي مل‬
‫يكـن ليوجـد يف العامل اإلسالمـي ولكنه انتقل مـن أوروبا إىل العـامل اإلسالمي من خالل األتـراك‪ ،‬فاألتـراك بحرص‬
‫احلكم يف جنـسهم‪ ،‬وما إليـه من قرارات مركـزية‪ ،‬أوجدوا نـوعاً من التحـزب يف العامل اإلسالمي ضـدهم‪ ،‬وهذا ولد‬
‫الشعـور بالقومية يف وقت كان هـذا الشعور منترش ًا أيضاً يف الـعامل الغريب‪ ،‬فانترشت النزعـة القومية والتي كان البد‬
‫هلـا وأن تصـطدم مع اإلسـالم الذي ال يعـرتف بالقـوميـات كمـيزة تفـرق بني الـبرش‪ ،‬فكـان التمـزق‪ .‬ومن األسـباب‬
‫للتخلف ما هـو خارجي‪ ،‬مثـل كتابات املـسترشقني املضللـة واجتامع كلمة الـكفرة عىل اإلسالم برغـم شتاهتم‪ .‬ومن‬
‫ال من ضمن‬
‫الباحثني من يقبل هبذه األسباب إال أنه حيـاول جاهد ًا إجياد خمرج هلذا التخلف‪ .‬فالداعية عمرو خالد مث ً‬
‫قص احلق‬ ‫‪80‬‬

‫ما عزاه من أسباب للتخلف هو البطالة التي قد تصل إىل ‪ %30‬يف العامل العريب‪ .‬ويعزو ذلك إىل التعليم الذي ال يلبي‬
‫مطالب السوق وإىل عدم وجود مـرشوعات قومية كبرية متتص هذه البطالـة وإىل قلة الصناعات الصغرية واملتوسطة‬
‫والتي ستـوفر الـكثري من املنـتجات ببعـض اجلهد واملبـادرة وما إليهـا من أسبـاب كضعف التجـارة البينيـة بني الدول‬
‫ال قوله‬
‫اإلسالمية‪ .‬لذلك نجده حياول إجيـاد وصفات معاكسة ألسباب التخلف للخـروج منه‪ .‬فمن هذه الوصفات مث ً‬
‫بأن العزة ال تكون إال بـاملبادرة ذات اإلرادة العظيمـة‪ .‬واإلرادة ال تكون إال بإيامن شديـد بفكرة ما مع أمل كبري يف‬
‫حتقيـقها‪ .‬ومتـى ما تكـونت اإلرادة العظـيمة وتـوافرت اإلمكـانات الـنفسيـة واملاديـة فإن الـنجاح أكيـد بإذن اهلل إن‬
‫تغريت نفوس الناس وبرامج التـعليم‪ ،‬وهكذا من حماوالت وكأهنـا ترمي باللوم عىل عمـوم أفراد املجتمع دون الرتكيز‬
‫بالدرجة األوىل عىل األنـظمة احلاكمة‪ .‬ولعله معذور فهو حياول تـاليف االصطدام مع احلكومات ليتمكن من التحرك‬
‫يف مساحة أكرب للوصول ألكرب عدد من الناس‪.‬‬

‫ويف الـوقت ذاته‪ ،‬فهـناك من الـباحثـني من حياول الـتوجه مـبارشة إىل أصل املـشكل بنـقد النـظام احلـاكم من‬
‫جـذره‪ .‬فمن أهم الـنظريـات وأقواهـا لدى اإلسالمـيني ما بـدأ ينترش بـني كثري من البـاحثني مـن أن السبب الـرئيس‬
‫للوهن هو سيـايس بالدرجة األوىل ويكمن يف طريقة الوصول للحكم ومن ثم يف تداوله‪ ،‬ومن أمثلة ذلك كتاب عبد‬
‫اهلل الـنفييس ‪X‬عندما حيكم اإلسالم‪ ،Z‬وكتـاب حاكم املطريي‪X :‬احلرية أو الطـوفان‪ .Z‬وكل الذي سبق قليل من كثري‬
‫من نـظريات اإلسالميني التي بحثت يف ختلف املسلمني‪ .‬أما الطرح الذي حياول هذا الكتاب إثباته فهو قد ال يناقض‬
‫ما سبق‪ ،‬إال أنه يعزوه مجيعه إىل اخلروج عن مقصوصة احلقوق‪.‬‬

‫ويف النقيض فـإن عموم الـباحثني غـري اإلسالميني رأوا أن التخلف هـو بسبب عـدم فصل الدين عـن الدولة‪،‬‬
‫كام يف الغـرب‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فهؤالء الباحثون يـرحبون بالديمقراطية‪ .‬ويـنبثق من هؤالء من يركزون عىل أن السبب يف‬
‫التخلف هو غياب مفهوم املواطنـة‪ ،‬فالعامل اإلسالمي يميز بني املسلم واملسيحي كام يقولون؛ أما العامل الغريب‪ ،‬فإن‬
‫اجلميع فيه مواطن وبغض النظـر عن الدين‪ .‬فالعلامنيون مل يفرقوا بـني األفراد إال بكفاءاهتم‪ ،‬وهذا التمييز يف العامل‬
‫اإلسالمي أدى لضعف اإلنتاجية‪ .‬ومنهم من يرى أن الـتخلف هو بسبب التسلط يف غياب الديمقراطية‪ ،‬وأنه بدأ مع‬
‫الدولة األمـوية‪ ،‬وأن حكام العامل اإلسالمي متكنوا من توظيف الدين ملـصاحلهم‪ .‬فرجال الدين الذين حيومون حول‬
‫السلطان الـذي استخدمهم لتـوطيد دعائم حكـمه سبب رئيس يف التخلف ألن رجـال الدين استخدمـوا الدين وسيلة‬
‫لتكفري هذا وتكميم فم هـذا وزندقة ذاك كام يفعل اجلاميـة اليوم‪ .‬وهبذا تم استئصـال كل من خالف احلاكم‪ .‬حتى‬
‫أن مثقفـاً عربياً (أبو يعرب املـرزوقي) عزى التخلف إىل خلل يف علم الكالم‪ .‬فهو يـرى أن الفلسفة حتولت من علم‬
‫يبحث عن احلقيقة إىل علم يدافع عن عقيدة ما‪ .‬فاملؤسسات بدل أن تعمل للدين تستعمل الدين‪ .‬فهناك جواب ديني‬
‫بدل السؤال الـديني عند العـامل‪ ،‬وهذا يقتل التقـدم يف التأويل ألن التـأويل قد خرج عن الـدين‪ .‬ومنهم من يرى أن‬
‫الرتاكامت العـديدة التـي تداخلت من الـدين والعادات ومـا إليها ممـا ال يتوافق مع الـتقدم العرصي جعل مـن الدولة‬
‫ال بالبريوقـراطيات التي ال تتعـامل مع مشاكل الغـد إال بأفكار األمـس‪ ،‬أي وكأن كل دولة إسـالمية عبارة‬
‫جهـاز ًا مثق ً‬
‫عن رشكة كبـرية خارسة‪ .‬ومنهم من رأى أن مشكلـة املسلمني هي يف حتزهبم وانـقساماهتم‪ ،‬فام أهنك الـدولة العثامنية‬
‫ال هو حماوالهتا املستمـرة إلمخاد الفتن التي أثارها الشيعة‪ ،‬وعدم تفرغهم (أي العثامنيون) لسحق أوروبا التي كان‬
‫مث ً‬
‫ِ‬
‫مـن املمكن أن تكون قـد أسلمت إن أمنـت الدولة الـعثامنية جـانبها الـرشقي‪ .‬وهذا االنقسـام طائفي عـرقي‪ ،‬وهناك‬
‫‪81‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ال أدت إىل االختـالفات املـذهبيـة والتي ولـدت الرصاعـات كام‬


‫انقـاسامت مـذهبـية‪ ،‬فـاالجتهـادات بني العلـامء مث ً‬
‫يقـولـون‪ .‬ويف الـنقيـض‪ ،‬فهنـاك من يـرى أن التعـدديـة املـذهبيـة ثـراء لألمـة إن مل تتحـول إىل صـدام مـسلح‪ .‬ومن‬
‫الطروحـات حول ختلف املسلـمني أيضاً هـو دراسة شتـات الوضع السـيايس يف العامل العـريب‪ ،‬كام يقول بـذلك حممد‬
‫جابر األنـصاري‪ .‬وقد عزى بـاحثون آخرون الـتخلف إىل فشل نظام الـتعليم والتدريب يف املـدارس واجلامعات عىل‬
‫غـرس حب العـمل بني الطالب والـطالـبات بـاعتـباره الـوسيلـة األهم الكتـشاف الـذات وتنميـة املواهـب واملهارات‬
‫الفردية‪ ،‬هذا باإلضافة إىل فشله يف غرس حب التعلم والقراءة‪ .‬فالتعليم اجلامعي يف العامل اإلسالمي وسيلة للحصول‬
‫عىل وظيفة ولـيست جتربة حيـاتية الكتساب املعـرفة‪ .‬بدليل أن الطـالب يف العامل العريب قد يـتخرج دون حتى إمتام‬
‫قراءة كتـاب واحد‪ .‬فإحصـائيات طباعـة الكتب تعكس هذا‪ .‬فـقد صدر يف العامل العـريب سنة ‪ 1997‬حوايل ‪4.000‬‬
‫كتاب جديـد‪ ،‬بينام صدر يف هـولندا التي يعـادل سكاهنا ‪ %4‬من سكـان العامل العريب ‪ 44.000‬كتـاب‪ .‬فأي الشعبني‬
‫أكثر قراءة؟‬

‫وقليل من البـاحثني يرى أن الـتخلف بسبب اللغـة‪ :‬فاللغة العـربية العامـية أصبحت هي الـلغة التي حتمل يف‬
‫مضـامينهـا التجارب املعـارصة النابعـة من العامـة‪ ،‬أما املـؤسسـات االقتصـادية واإلعالميـة والدوائـر احلكوميـة فقد‬
‫تعـاملت فيام بينها باللغة الفصحـى‪ ،‬فحدث انقطاع بني اللهجتني أخل يف مسرية بلـورة التجارب مما عرقل سري التقدم‬
‫كام يقولون‪ .‬ومن الـباحثني من يعزو ختلف املسـلمني نسبياً إىل انعدام ‪X‬الـفردانية ‪ Zindividualism‬يف املجتمعات‬
‫املسلمة‪ .‬فـاملجتمعات الغـربية ما هـي إال انعكاس ملنظـومة حقوق األفـراد التي ُوضعت بطـريقة تتـيح للفرد حتدي‬
‫املنظـومة االجتـامعية الـسائـدة‪ ،‬وهذا دفع األفـراد ملزيـد من االستقالليـة واالعتامد عىل الـذات‪ ،‬وبالتـايل االنتعاش‬
‫االقتصـادي والتفوق التقني إذ أن الفـرد يسعى وراء مصلحته اخلـاصة فيكون أكثـر إبداعاً لتنـافسه مع اآلخرين‪ ،‬ما‬
‫رفع مـن إنتاجـية املجـتمع‪ .‬ومن املفكـرين من أخـذوا بنظـرية املـؤامرة‪ :‬ومقـالتهم الـدائمة هـي‪X :‬وماذا نتـوقع من‬
‫األعداء غري املؤامـرة علينا؟‪ .Z‬أمل يتم رضب حممد عيل باشا ليتم تفكيك مصانعه يف مرص ومن ثم نقلها إىل الغرب يف‬
‫وقـت كانت اهلوة التقنية بني الغـرب والعامل اإلسالمي صغرية‪ ،‬وأن التاريخ يعيد نفـسه‪ ،‬فهاهم حيتلون عراق صدام‬
‫حسـني الذي حاول الـنهوض عسكـرياً‪ .‬ومنهـم من يعزو التخلـف لعوامل اقتصـادية تارخيـية‪ ،‬كالغـزو الترتي الذي‬
‫قطع خـط احلريـر مع الصـني التي استخـدمت البـوصلة بـاملرور بجـنوب اجلـزيرة العـربيـة فامتت البـرصة وبغداد‬
‫اقـتصاديـاً‪ ،‬فسقط العـامل اإلسالمي بسـقوط قلبهـا االقتصـادي يف عهد العبـاسيني واستمـر السقـوط‪ .‬ومن نظـريات‬
‫الـتخلف أيضـاً ما أثـاره البـاحثـون يف علم الـتغذيـة بأن شـعوب دول العـامل الثـالث نـظر ًا لـفقرهـا تفتقـر إىل الغذاء‬
‫املنـاسب‪ ،‬إذ أنه ُوجد من األبحـاث أن متوسط خاليـا دماغ الطفـل الغريب تزيـد عىل متوسط خاليـا دماغ الطفل يف‬
‫ال بحوايل ‪ ،%20‬وهـذا بالطبع سيؤثر عـىل أداء البرش يف املجتمعات‪ .‬ومنهم من يـرى أن العقلية املسلمة‬
‫بنجالدش مث ً‬
‫هي عقلية شفهيـة وليست تدوينية‪ ،‬فالعقلـية التدوينية ظهرت يف عرص النهـضة يف أوروبا‪ ،‬وقد كان العرص العبايس‬
‫تدوينـياً‪ ،‬إال أن العثامنيني أرجعـوا العقل املسلم إىل الشفـاهة مرة أخـرى‪ .‬ومنهم من يسـأل‪ :‬هل نحن أمة نقل أم أمة‬
‫عقل؟ ويرصون عىل أننا أمـة نقل‪ ،‬فنحن ننقل ما كتبه األسالف بتقـديس يصعب معه نقده‪ ،‬لذلك فـاملسلمون ليسوا‬
‫أمة عقل (كام يدعون)‪ ،‬فكان الـتخلف‪ .‬ومنهم من يقول بأننا أمة تؤمـن بالغيبيات‪ ،‬وأن هذا اإليامن بغري املحسوس‬
‫أجـهد البـحث عن احلقيقـة‪ ،‬فالبـحث العلمي الـذي حمص املـادة وجرهبـا وحتداهـا وطوعهـا يف الغرب‪ ،‬مل يـتأصل يف‬
‫الفكـر اإلسالمي‪ ،‬فكـان التخـلف التقني الـذي جذب معه الـتخلف االقتصـادي‪ .‬ومنهـم من يرى أن الـتخلف سببه‬
‫قص احلق‬ ‫‪82‬‬

‫القيود عىل الفرد يف املجتمعات املحافظة التي ال جتعله مبدعاً‪ ،‬أما القيم واملبادئ التي يؤمن هبا الفرد (كام يف الغرب)‬
‫فهي أقوى من أي قيود تفرض عليه‪ ،‬أي أن الشعوب التي تعيش حتت تقاليد متوارثة ال تستطيع التخلص من ماضيها‬
‫فتدفن مواهب شباهبا ويفقدون اهلمة وختبوا طاقاهتم وتقيد مواهبهم ليحل التخلف‪.‬‬

‫وهناك نظـريات ساذجـة مل يستطع أصحـاهبا التعمق يف فهم جمـريات األمور فكـانت استنتاجـاهتم سطحية‬
‫دون حتليـل معمق‪ :‬فمن هـؤالء من يقول أن الـتخلف بسـبب ارتفاع الـكثافـة السـكانيـة‪ .‬وهذا كـام هو معلـوم أمر‬
‫مشكـوك فيه إذ أن الكثـافة الـسكانـية مـصدر ثـراء كام سيـأيت بيـانه بإذن اهلل‪ .‬ومـنهم من يقـول أنه بسـبب احلكم‬
‫ال) واالقتصـاد املوجه‪ ،‬وبالـطبع فإن التخلف كـان قبل ظهور مثل‬
‫العسـكري الفردي (كمـرص مجال عبد الـنارص مث ً‬
‫هؤالء احلكـام الذين قلدوا مـن سبقهم مثل حممد عيل بـاشا‪ .‬ومنهم من يقـول بأنه بسبب إهـدار األموال يف األسلحة‪.‬‬
‫فقـد أنفقت دول العـامل العريب خـالل عرشة سنـوات يف أواخر الـقرن العـرشين ‪ 130‬ملـيار دوالر لـتصبح األسـلحة‬
‫خردة يف املـخازن‪ .‬ومنهم مـن يعزو التخلـف إىل عدم اهتامم العـامة بـالعلم وتنظـيم الوقت‪ .‬فـالغريب يقـرأ يف املطار‬
‫ال‪ .‬ومنهم من يقول بأن املجتمعات املسلمة مل تأخذ ال باإلسالم وال بالعلامنية‪ ،‬فضاعت كام‬
‫واملسلم ال يفعل ذلك مث ً‬
‫‪38‬‬
‫يقولون‪ .‬ومنهم من يسأل حرياناً‪ :‬هل اإلسالم دين مدين أم ال؟‬

‫إال أن هنـاك نظـريات قـوية قـد تقنـع من مل يكن واعـياً هلـا بتـبنيهـا‪ ،‬ولعل من أمههـا تلك التـي ختوض يف‬
‫التـمكني‪ ،‬وهو جـوهر مـوضوع هـذا الكتاب‪ ،‬لـذلك سأعـطي هذه الـنظريـة عن التخلف بعـض التوضـيح‪ :‬كام هو‬
‫معلـوم فإن املجتمعات البرشية مرت كـام يقول املؤرخون بعدة مراحل من التـطورات‪ :‬فهناك عرص الصيد والرعي‪،‬‬
‫ثم عـرص الزراعـة‪ ،‬ثم عرص الـصناعـة واآلن عرص املعـرفة‪ .‬أو هنـاك العرص احلجـري والعرص الربونـزي‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وهناك طرح منترش يف الغرب وقد خلصه الدكتور حممـد ربيع بقوله‪X :‬هنالك الكثري من الدالئل التارخيية التي تشري‬
‫بوضـوح بالغ إىل أنه لـيس بإمكـان أي جمتمع دخول مـرحلة تطـور تاليـة وعيش حيـاهتا كامـلة بقيم ونـظم ومواقف‬
‫وعالقات مرحلة سـابقة‪ .Z‬أي أن العامل اإلسالمي لن يـتمكن من اخلروج من هذا الـوهن إذا مل يغري قيمه وعالقاته‬
‫‪39‬‬
‫االجتامعيـة واالقتصـادية والـسياسـية بني أفـراده لتشـابه تلك التـي يف الغرب‪ ،‬أي أنه الزال يف املـرحلة الـزراعية‪.‬‬
‫فالدكتور حممد ربيع يقول ناقد ًا الوضع يف العامل العريب لكل من اإلسالميني والقوميني‪:‬‬
‫‪X‬وحيـث الفكر الـديني‪ ،‬وال أقـول الدين‪ ،‬يـدعو إىل العـودة باملجـتمع العريب مـن حيث القيـم والنظم‬
‫واملواقف القيـمية واملؤسسات إىل مـا كان سائد ًا قبل عرشات القـرون يف ظل حضارة الرعي والبداوة‪،‬‬
‫وإن الفكر القـومي جاء متأثر ًا بثقـافة غربية جتـاوزها الغرب نفسه‪ ،‬وكرد فـعل عىل حركة استعامرية‬
‫فقدت مقومات وجودها‪ ،‬فإن الفكرين الديني والقومي أصبحا جزء ًا من فكر ماضوي وتاريخ قديم‬
‫فقد منطقه ومرجعيته بحكم التطور املجتمعي اإلنساين احلديث‪.Z‬‬

‫وإلثبات ذلـك يرضب د‪ .‬ربيع مثـاالً تارخييـاً عىل رضورة تغري قيـم املجتمع حتـى تتمكن الـدول العربـية من‬
‫ال‪:‬‬
‫اخلروج من عرص الزراعة لدخول عرص الصناعة ليتأتى التمكني قائ ً‬
‫‪X‬أما العراق فيبدو أن قرهبا من اجلزيرة العربية وانتقال مركز الدولة اإلسالمية إليها يف عهد العباسيني‬
‫كان سـبباً يف خـضوعهـا من حيـث القيم االجتـامعية واملـواقف القيمـية من العـملية اإلنـتاجيـة لعرص‬
‫البداوة وأخالقياهتا القبلية‪ ،‬وبالتايل أضعف قدرهتا عىل مواصلة مسرية التقدم‪.Z‬‬
‫‪83‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫أي أن القـيم البدويـة امللتصـقة بعرص الـصيد والـرعي مل متكن املجـتمع العريب املـسلم آنذاك مـن التجذر يف‬
‫العـرص الزراعي الذي تـطلب قيام ً أخرى‪ .‬ثم يـرضب مثاالً آخر ًا مـن التجارب املعارصة مـدل ً‬
‫ال عىل أنه مل يستطع أي‬
‫ال باستثامر‬
‫جمـتمع قبيل أن يدخل عرص الـصناعة رغم اجلهـود الكبرية التي بذلـتها بعض الدول كـالدول األفريقيـة مث ً‬
‫الكثـري من األموال‪ .‬فـربغم كل معونـات التنميـة ونظريـاهتا‪ ،‬وبـرغم كل جهود الـبنك الدويل وغـريه من مؤسـسات‬
‫دوليـة‪ ،‬إال أن تلك املجتمعات مل تدخل عرص الـزراعة بعد‪ ،‬ناهيك عن دخـوهلا عرص الصناعـة أو املعرفة‪ 40.‬وسنأيت‬
‫عىل نقد هذه املزاعم يف فصول قادمة بإذنه تعاىل‪.‬‬

‫وكام ترى أخي القارئ‪ ،‬فإن استثنينا ما قاله اإلسالميون بأن سبب التخلف هو احلكم بغري ما أنزل اهلل‪ ،‬فإن‬
‫مجيع اآلراء السابـقة‪ ،‬وغريها كـثري‪( ،‬وبالذات مـا هو متعلق منهـا بتطور املـعرفة‪ ،‬وسنـأيت عليها يف فـصل ‪X‬املعرفة‪Z‬‬
‫بإذن اهلل) تـتداخـل فيام بيـنها بـطريقـة يصعب عىل أي بـاحث عـزل سبب دون آخـر‪ ،‬لكن من املالحـظ عىل هذه‬
‫األسباب هو أن التي تعزو التخلف لظاهـرة جغرافية أو حدث تارخيي‪ ،‬وبرغم تأثريها عىل واقعنا‪ ،‬فإن إصالحها قد‬
‫خرج من أيـدينا ألهنـا ذات وضعية خـاصة مـضت قد ال تـتكرر مقـارنة بام هـو مزمن ولـه مضاعفـات مسـتمرة إىل‬
‫عرصنـا احلارض‪ .‬ولعلك الحظت أن معظم أسباب التخلف تلتقي حـول اهتام املسلمني بإحجامهم عن إعامل عقوهلم‪،‬‬
‫هلـذا ظهرت الكثـري من الكتابـات التي حتلل الفكـر اإلسالمي وتنتقـده يف نخاعه بـأنه دين يؤدي ملجـتمع تقليدي ال‬
‫إبداعي‪ .‬فهنـاك شبه إمجاع عىل أن أهم سبب لتـخلف املسلمني هو مجود اإلسالم كـدين ألنه دفع املسلمني لإلحجام‬
‫عن إعامل عقـلهم البـرشي يف البـحث والنقـد وتـسيري املـجتمعـات‪ .‬فهنـاك شبه إمجـاع يف األوسـاط الـعلميـة عىل أن‬
‫ال ال يـنتقدون‬
‫املسلـمني قوم ذو عـقلية ال إبـداعية وال نقـدية ألهنم تـرعرعـوا عىل تقبل األمـور دون نقدهـا‪ ،‬فهم مث ً‬
‫القرآن الـكريم وال احلـديث الرشيف ويـسلّمون هلـام‪ ،‬فالنـص عند املـسلمني مقـدم عىل العقل‪ .‬وهكـذا فإن عـقلية‬
‫املسلمني تـشكلت وأصبحت قارصة عن اإلبداع‪ .‬هلذا البـد من املرور رسيعاً عىل فئة من تلـك النظريات املطروحة‬
‫حول ختلف املسلمني‪.‬‬

‫مـن أهم هذه الـنظريـات ما رفع لـواءه حممد أركـون‪ ،‬وهي نظـرية حمـنة خلق القـرآن الكريـم‪ :‬ففي العرص‬
‫العبايس ظهـرت فلسفة املعتزلة التي تقول بأن القرآن الكريم خملوق وليس كالم اهلل العيل القدير‪ ،‬وقد تبنى املأمون‬
‫هذه النظرة وحـاول تعميمها‪ .‬ويستـشهد حممد أركون بـأن ظهور تلك الفلسفـة‪ ،‬برغم اصطدامهـا مع املذهب السني‬
‫السائد‪ ،‬مؤرش عىل خصوبة احلركة الفكـرية آنذاك لدرجة اخلوض يف ماهية القرآن الكريم مما أحدث حوار ًا فكرياً‬
‫مـتحرر ًا يف ذلك الـوقت الذي كـانت فيه العلـوم يف تقدم بـاهر‪.‬د ولـكن الذي حـدث هو وقـوف بعض الـعلامء ضد‬
‫فكرة خلـق القرآن الكـريم وعىل رأسهم اإلمـام أمحد بـن حنبل رمحه اهلل‪ .‬وبـعد اقتـناع اخللـيفة املـتوكل بـأن القرآن‬
‫الكريم كالم اهلل أصدر أمـر ًا بعدم اخلوض يف مثل هـذه املسائل‪ .‬وهبذا تـوقفت احلركة الفكـرية ألن ويل األمر قد‬
‫فحـبست احلرية الفكـرية و ُكبتت داخل إطار الـرشع فتوقف العقل اإلسالمي عن‬
‫قيدها (كام يـزعم حممد أركون)‪ُ .‬‬
‫ال متحدياً وبـاحثاً عن اجلديـد ومبدعاً‪.‬‬
‫ال تابعاً للرشع وبـالتايل جامـد ًا ال عق ً‬
‫اجلدل والبـحث عن احلقيقة‪ ،‬وأصبح عقـ ً‬

‫سبب ختلف املسلمـني هلذا ينسون أن املأمـون واملعتصم والواثق قتلوا‬ ‫د) إال أن الـواقع غـري ذلك كام يـذكـر التـاريخ‪ :‬فقـد تم نـرش فكـر‬
‫وعـذبـوا وسجنـوا الفقهـاء لـنرش مـذهب املعتـزلـة‪ .‬فهم ال يـذكـرون‬ ‫املعتـزلة بـالقوة عىل يـد املأمـون الذي قلـد املنـاصب ملـن قالـوا بخلق‬
‫اإلرهاب الفكري الذي مارسته السلطة ضد أهل السنة آنذاك! (‪.)41‬‬ ‫القـرآن وحارب كل مـن رفض فكـر املعتـزلة‪ .‬فهـؤالء الذيـن يعزون‬
‫قص احلق‬ ‫‪84‬‬

‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬فهنـاك نظرية أقوى وأشهـر بني الباحثني العرب حـول ختلف املسلمني وهي تدور أيـضاً حول مبدأ‬
‫التقليـد والتي بلورهـا حممد عـابد اجلـابري (من املغـرب العريب) يف كتـاباته‪ ،‬وخالصـتها أن العقليـة العربـية التي مل‬
‫تنـاقش القرآن والسنة وتقـبلته وتبلورت عليه من خالل علوم الـدين واللغة ترعرعت بـروح التقليد وأصبحت عقلية‬
‫ال إبداعيـة‪ 42.‬فالعقلية العـربية إذ ًا عقلية ال تنقـد ذاهتا‪ .‬وقد دار كثري مـن الباحثني يف هذا الفلك مـثل برهان غليون‬
‫‪43‬‬
‫وجورج طرابييش برغم خمالفتهم أو حتى تصادمهم مع اجلابري يف كثري من اآلراء‪.‬‬

‫أمـا املنظـور األيديـولوجي‪ ،‬وبـرغم ضيـاعه كمفهـوم يف العامل الغـريب‪ ،‬إال أنه كان مـا اقتنع به الـكثري من‬
‫املفكرين يف نقدهم للمنهج اإلسالمي‪ .‬فالتعاريف املضطربة التي بلورها كل من ماركس ولينني وغراميش وألتوسري‬
‫ومـاهنايم لأليديـولوجيا‪ ،‬والـتي تضع الغموض والتـناقض لدى كل مفكـر منهم يف مصطلح ‪X‬أيـديولوجيـا‪ Z‬باستخدام‬
‫عقله القـارص‪ ،‬كانـت مع األسف جواد امتـطاه الكثـري ممن درسوا العـامل اإلسالمي مثل العـروي والبيطـار وغليون‬
‫وحنفي واستخـدموا عقـوهلم يف املقارنـة بني احلضـارتني العلامنـية واإلسالميـة ملحاولـة إرشاد العـامل اإلسالمي لنفق‬
‫احلضارة‪ .‬إال أن نظـرية التخلف التي يقتنع هبا الكثري من العـامة تقول بأن املسلمني اهتمـوا فقط بالعلوم التي تربط‬
‫اإلنسـان بربه (التـوحيد) وتـربط اإلنسان بـاإلنسان (الفقه) وتـربط اإلنسان بـاألشياء امللمـوسة إىل احلد الـذي يفيد‬
‫ال (وهو كائن ال يـرى ولكنه يستـوعب حميطه‬
‫اإلنسـان‪ .‬أما دراسة األعيـان لذاهتا‪ ،‬كـدراسة حيوان كـالوطواط مثـ ً‬
‫بسمعـه مما أدى إىل اخرتاع الرادار) فقـد اعتربت من العلم الـذي ال ينفع وأنه مضيعـة للوقت الذي قـد ال يثاب عليه‬
‫اإلنسـان‪ .‬وبذلـك أهدرت الكثـري من جمهودات املـسلمني يف اختـصار ورشح كتـب الدين بـدل توجيههـا يف دراسات‬
‫ميدانيـة أو معملية (استكـتشافية) تـدفع عجلة العلم والتقـنية لدى املسلـمني‪ .‬وهكذا ختلف املسلمـون كام يقولون‪.‬‬
‫ولعل مما زاد الكثري قنـاعة بمسـبب التخلف هو اكتـساب هذا الطـرح قوة عىل يد األجيـال املعارصة التي درست يف‬
‫الغرب من خالل ربطه بعلم تقدم العلوم‪ ،‬أو علم اإلبستمولوجيا ‪ .epistemology‬فالتخصصات العلمية واإلنسانية‬
‫يف الغرب تستمد أفكارها يف تقدمها العلـمي من علم تطور العلوم‪ .‬فقد كثرت األفكار يف ذلك التخصص عن أفضل‬
‫الوسـائل لدفـع عجلة العـلم قدمـاً إىل أن تبلـورت يف عدة نـظريـات‪ ،‬منهـا مث ً‬
‫ال نـظريـة كارل بـوبر ‪Karl Popper‬‬
‫وتلميذه إمـرا الكاتوش ‪ Imre Lakatos‬من جـهة‪ ،‬ونظريـات توماس كـون ‪ 44 Thomas Kuhn‬من جهة أخرى‬
‫(وسنـوضحها يف فـصل ‪X‬املعرفـة‪ Z‬بإذن اهلل)‪ .‬فربغـم وجود اختالفـات بينهـم إال أهنم يشرتكـون يف الفكرة األسـاسية‬
‫باعتامد العقل البرشي وال يشء غريه‪.‬‬

‫وأخري ًا بقي لنـا علم التنميـة‪ .‬فالبد من املرور رسيعـاً عىل هذا العلم الذي حيـاول معاجلة الـتخلف باستخدام‬
‫العقل فـأقول‪ :‬ألن العـامل الغريب الـذي حكـم بعقله انتهـى بفئـات كبـرية من املجتـمعات إىل الـفقر واجلـهل واملرض‬
‫والذي ازداد سوء ًا مع العوملة‪ ،‬فقد ظهر علم ‪X‬التنمية‪ Z‬الذي تبنته األمم املتحدة ليعالج هذه املآيس‪ .‬وكأي علم آخر‬
‫يف العامل الغـريب‪ ،‬فقد ظهـر لعلم الـتنميـة هذا أدوات وطـرق حتليل ونـظريـات‪ ،‬وكل هذا بـالطبـع باستـخدام العقل‬
‫الـبرشي‪ .‬ويـعد هـذا العلم اآلن أهـم وأقوى تـوجه يـوضح سـبب ختلف سكـان العـامل الثـالث عـمومـاً‪ ،‬ومن بـينهم‬
‫املسلمـون‪ ،‬ومن ثم يضـع العالج هلذا التخلف‪ .‬لـذلك سنؤجل تـوضيح ونقد هـذا العلم إىل فصـل ‪X‬الفصل والوصل‪Z‬‬
‫نتقص مقـصوصة احلقوق يف اإلسالم أوالً‪ ،‬وذلك حتى تكون املقارنة مقنعة‪.‬‬
‫بإذن اهلل ألننا لن نتمكن من نقده إن مل ّ‬
‫ولكن لغرض التوضيح البد من إعطاء نبذة قصرية عن علم التنمية حتى تتسنى لك أخي القارئ املتابعة‪.‬‬
‫‪85‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫يتلخـص طرح علم التـنمية يف أن مـشكل العامل الثـالث يكمن يف عـدم استثامر جمـتمعاته يف الفـرد بتمكينه‪،‬‬
‫وذلك بتوسيع دائرة خياراته ألنه هو (أي الفـرد) حمور تركيز جهود التنمية‪ .‬فـالفرد يف العامل الثالث ال مشاركة له يف‬
‫أي قرار وبالذات السيايس‪ .‬فهـو بذلك مهضوم احلقوق‪ ،‬وهبذا فهو ال إبـداعي وغري منتج‪ .‬أي أن العالقة بني التنمية‬
‫اإلنسانية وحقـوق اإلنسان هي من أهم ركـائز تقدم أي أمة‪ .‬فحـقوق اإلنسان تولـد الفرص للفرد باحلـركة‪ ،‬ومتى ما‬
‫حترك أنجـز وأنتج‪ .‬وعىل هـذا فإن فقـر التنميـة اإلنسـانية أشـد وطأة مـن الفقر املـادي ألنه حيد من قـدرات األفراد‬
‫واملجتمعـات عىل االستخدام األمثل ملواردهـم اإلنسانية واملـادية‪ .‬ويف هذا اإلطار تـأيت املطالبة بـالتساوي يف احلقوق‬
‫بني أفراد املجتمع‪ ،‬ومن ضمـنها التساوي بـني الرجل واملرأة‪ .‬فدور املـرأة يف العامل العريب كام يقـولون قد انحرس يف‬
‫اإلنجاب‪ ،‬فـأكثر من نصف النسـاء يف العامل العريب اليزلن أمـيّات‪ ،‬وأن معدل وفيات األمهـات أثناء فرتة الوالدة هو‬
‫ضعف معدهلا يف أمريكا الالتينيـة‪ ،‬وأربعة أضعاف معدهلا يف رشق أسيا‪ .‬وهـذه كلها مؤرشات عىل عدم املساواة يف‬
‫املواطنة ويف احلقوق القانونيـة كالتصويت واالنتخاب بني املرأة والـرجل‪ .‬لذلك كانت االستفادة من املرأة يف العامل‬
‫العريب هي األقل يف العامل لعدم تساوي فرص العـمل‪ ،‬وهلذا سيعاين الكل يف املجتمع بتعطل نصفه‪ ،‬وما هذا إال مثال‬
‫واحد‪ .‬وبالطبع فإن هذا اهلضم للحقوق قد ساهم يف زيادة الفقر يف العامل العريب‪ ،‬كام يقولون‪ .‬فهناك مواطن عريب‬
‫واحد يعـيش عىل دخل يقل عن دوالرين يـومياً مـن بني مخسة مـواطنني‪ .‬هذا بـاإلضافة إىل ضـعف الرعايـة الصحية‬
‫والتعليم‪ .‬لـذلك فإن من أولـويات التـنمية االسـتثامر يف حريـة الفرد وتعليـمه‪ .‬فالقصـور يف احلريـة يضعف التـنمية‬
‫اإلنسانية ويشكل أحد أكثر مظـاهر ختلف التنمية السياسية‪ .‬ويف هذا اإلطار البد من حماربة املحاباة يف املجتمعات‬
‫ألهنا حتبط املبادرات وحتـرم البرش من اجلدارة واإلبداع‪ .‬فاحلرمان والالمـساواة يف القدرات والفرص قد تكون أكثر‬
‫‪45‬‬
‫وباالً من الفقر‪ .‬فال خمرج لألمم املتخلفة إال بتوسيع خيارات أفرادها ليتمكنوا من احلركة واإلنتاج كام يقولون‪.‬‬

‫ولعلك ستلحظ بإذن اهلل‪ ،‬أن األفكار التي ينادي هبا علامء التنمية تنطلق من املنظومة الغربية للحقوق‪ ،‬فهي‬
‫تـطالـب بتطبـيق الديـمقراطـية الغـربيـة‪ ،‬فهي إذ ًا وبـطريقـة غري مبـارشة تنتقـد العقل املسلـم بالـتحجر وذلـك بعدم‬
‫ال لوجـود الرشيعة واألخذ منها كينبـوع لألفكار التنموية‪ .‬فعلامء التـنمية مل يعرتفوا باإلسالم كطريق‬
‫االلتفات أص ً‬
‫للتنـمية حتـى بمجرد النـظر إليه‪ ،‬بل أخـذوا مما توصـلت إليه عقوهلـم من أبحاثهم وجتـارهبم كام سنـوضح بإذن اهلل‪.‬‬
‫وسرتى أن املفاهيم التنموية ما هي إال حماوالت خلدمة الـرأساملية‪ .‬فهي أفكار‪ ،‬وبرغم أهنا نبيلة (كاملساواة) إال أهنا‬
‫وضعـت لتُنـفذ داخـل اإلطار الـرأساميل‪ .‬أي أهنـا حتاول إسـعاف الـرأسامليـة‪ .‬فهي بـذلك تـدعم استـمراريـة النـظام‬
‫الـرأساميل الـعاملـي احلديـث وذلك بمـحاولـة عالج خللـه اجلذري الـذي يفـرز الفـقر بـاستمـرار‪ .‬وسرتى كيـف هو‬
‫التمكني يف اإلسالم بإذنه تعاىل‪ ،‬عندها سنتمكن من املقارنة ومن نقد علم التنمية واالقتصاد يف العامل الغريب‪.‬‬

‫وللتلخيص أقول‪ :‬إن العقـلية البرشية أصبحت هـي املحك وهي املعيار عىل احلكم عىل كل يشء علمي‪ ،‬وأن‬
‫اإلسالم كـدين خرج متامـاً من دائرة النفـوذ يف التقدم العلمـي وإدارة املجتمعات‪ .‬وهكـذا تم خنق اإلسالم وإبعاده‬
‫عن دائرة احليـاة املعارصة متامـاً‪ .‬فكل من استخدم اإلسالم يف بحثـه أو إدارة شؤون حياته أصبح مـتخلفاً‪ .‬وبرغم أن‬
‫اإلسالم دين حيث عىل استخدام العقل يف أطـر حمددة كام سيأيت بإذن اهلل‪ ،‬إال أنه ديـن (كام يدعي الكثري) ال يرجع‬
‫يف جذوره إىل العقل كـالتفكري يف مـاهية الـوجود ونحـوها‪ ،‬ويقبل بـالكثري من املـسلامت الواردة يف القـرآن الكريم‬
‫والسنـة املطهرة‪ ،‬هبـذا أصبح أي عمل علـمي يتقبل اإلسـالم متخلفاً‪ .‬وهـذه حفرة وقع فيهـا الكثري‪ ،‬فهنـاك فرق بني‬
‫قص احلق‬ ‫‪86‬‬

‫بحث علمي وإدارة جمتمع مـا‪ ،‬فالعقالنية الـتي ينادي هبا العلـامء يف البحث العلمي والتي تـدفع العلم لألمام مل حيث‬
‫عليهـا اإلسالم فقط‪ ،‬بل وضع حـركيـات جمتمعـية تـؤدي إليهـا (كام سنـرى بإذن اهلل)‪ .‬أمـا ما يـرفضـه اإلسالم فهو‬
‫العقالنية البرشيـة يف إدارة املجتمع ألن العقل البرشي الذي ال يعلم الغيـب قارص ولن يدرك تراكامت قرارات عقله‬
‫القارص والذي سيؤدي ملنظومة من احلقوق ختل باالتزان املطلـوب إلجياد جمتمع أسعد‪ .‬وهبذا تكون الغالبية العظمى‬
‫من أفكار البـاحثني من خالل احلداثـة أو الثورة عليهـا أو اهتام املسلمني بـالتقليد أو من خالل علـم تطور العلوم أو‬
‫التنمية قد اتفقت عىل أن كبح العقل سيؤدي للتخلف‪ .‬فهل هذا صحيح؟ وما هو دور العقل يف اإلسالم؟‬

‫رمض إلاديز‬
‫لقـد ُوضع املسلم املفكر يف مـأزق‪ .‬فاحلداثة تـدفع املجتمعات تقنـياً لألبعد عن شامله‪ ،‬والـرشيعة اإلسالمية‬
‫التي اهتمت باجلمود تشـده من يمينه‪ ،‬والتاريخ السيايس املصبوغ باملـؤامرات والشتات يسد عليه الطريق من خلفه‪.‬‬
‫وجمتمعه املـسلم املتخلف الـذي يعزو هـذا التخلف للـرشيعة يقـف من أمامه‪ .‬فـكيف يميض هـذا املسلـم بمجتمعه‬
‫قـدماً؟ وبالـذات عندما يـطلب منه أقرانه مـن علامء االقتصاد والـسياسة واالجـتامع جتديد اإلسالم هلـم‪ .‬فكان البد‬
‫علـيه من أن يتخـذ منهجـاً‪ .‬فمنهـم من أخذ بـالرشع من جـذوره‪ ،‬وبالـطبع مل ينجـز الكثـري ألن الوضع الـسيايس مل‬
‫يسـانده‪ ،‬واهتم بأنه سلفي‪ .‬ومنهم من اقترص عـمله عىل الدعوة لتطهري القلوب من شـوائب الدنيا‪ ،‬واهتم بأنه تبليغي‪،‬‬
‫ومنهم من محل الـسالح وجاهد احلـكام واهتم بأنه إرهـايب‪ ،‬ومنهم‪ ،‬ومنهم‪ ... ،‬وهـكذا ظهرت التـيارات واجلامعات‪.‬‬
‫وتعالت الـدعاوي بتـحديث اإلسالم ممـا دفع بعض علامء املـسلمني الغـيورين إىل إعـادة النظـر يف أحكام الـرشيعة‬
‫بدعوى االجتهاد‪ ،‬حتى يف تلك األحكام التي أتى هبا نص!!! وما كان هذا إال لكي ال يتهم اإلسالم بالتخلف‪.‬‬

‫ولكن ملاذا هـذه املآيس التي يعـيشها املـسلمون؟ إن مـا يرص عليه هـذا الكتاب هـو أنه بسبب عـدم تطبيق‬
‫ال للتعامـل معها‪ ،‬وأن هذه اآلفـات ستزول إن طبـقت الرشيعة‪.‬‬
‫الرشيعة مـا أدى لظهور آفـات مل تأت الرشيعـة أص ً‬
‫لنـرضب مثاالً توضيحـاً‪ :‬هل يف الرشيعة نص مبـارش لعالج مرض نقص املنـاعة املعروف بـاإليدز ‪Aids‬؟ بالطبع ال‪.‬‬
‫فالسبب يف انتـشار هذا املرض يف الغـرب هو عدم منـع اللواط وتفيش املخدرات‪ .‬فـمن اإلجحاف إذ ًا أن ُيطلب من‬
‫الرشيعة عالج هذا املرض‪ .‬وهذا مثال صارخ‪ .‬وكذلك باقي الظـواهر واملآيس التي تعاين منها جمتمعاتنا املعارصة‪ ،‬إال‬
‫أهنا ليست هبذا الوضوح‪ .‬لنرضب مثاالً هلذا‪ :‬إن من مبادئ الرشيعة إعطاء الناس احلرية يف استخدام عقاراهتم إن مل‬
‫ال أن يغري مزرعته إىل أرض سكنية‪ ،‬وال حيق لكائن من كان منعه من ذلك‬
‫يرضوا بغريهم رضر ًا مبارش ًا‪ .‬فلإلنسان مث ً‬
‫وسلب النـاس من حقهم يف‬
‫(وسـنوضحه بـإذن اهلل)‪ .‬ولكن عـندمـا تم منع إحيـاء األرض بدعـوى التنـظيم العمـراين ُ‬
‫اإلحياء‪ ،‬أي تغريت مقصوصة احلقوق‪ ،‬مل تعد األرض مباحة للكل وأصبحت أكثر ندرة وبالتايل صار هلا سعر ًا مالياً‬
‫مـرتفعاً يفـوق مردودهـا الزراعـي‪ .‬فانتـرشت ظاهـرة حتويـل األرايض الزراعيـة يف املدن إىل قـطع سكنيـة‪ .‬ويف هذا‬
‫بالطبع هدر لثروات األمة‪ .‬هنا قام املفكـرون ورجال الدولة املسؤولون عن اإلنتاج الزراعي وطالبوا املجتمع بإجياد‬
‫حل جـذري‪ ،‬فوقع علامء الرشيعة يف حرية‪ .‬فكان عليهم أن جيتهـدوا إلجياد عالج هلذا الوضع برغم أنه وضع ما أتى‬
‫ال إال بسبب اخلروج عن الرشيـعة بمنع إحياء األرض ومنع الناس من إحـياء املعادن‪ .‬فلم ينترش الناس يف األرض‬
‫أص ً‬
‫‪87‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫حيث املعـادن وتكـدسوا يف املـدن التـي هبا الـوظائف احلـكومـية فـكان االزدحـام (كام سـيأيت بـيانـه يف فصل ‪X‬ابن‬
‫السـبيل‪ Z‬بـإذن اهلل)‪ ،‬ثم ظهـرت احلـاجـة للفتـاوى والتـي تصـدى هلـا مـن يعتقـدون أهنم علـامء‪ .‬فهنـاك مـن العلامء‬
‫املعارصين من يعتقد أن هذا الوضع املعـارص هو بسبب تغري الزمان ومتطلبـاته‪ ،‬وليس بسبب اخلروج عن الرشيعة‬
‫بالـدرجة األوىل‪ .‬فكـانت األزمـة التي تـواجه كل متـخصص يف علـم الرشيعـة‪ .‬فال مفـر إذ ًا من إصـدار فتـوى متنع‬
‫األفراد من حرية الترصف يف العقار وإال اهتم اإلسالم بـالتخلف‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فمن املنطق أال تصدر مثل هذه الفتاوى‬
‫إال بـاستخدام العقل الـبرشي حتى وإن كـانت يف إطار الضـوابط الرشعيـة‪ .‬ويف هذا‪ ،‬كام سأثـبت بإذن اهلل‪ ،‬خروج‬
‫عن الرشيعـة ألننا نعـالج اخلطأ بخـطأ آخر‪ ،‬وهـذا هو واقع جمتمعـاتنا اليـوم (وحسبنـا اهلل ونعم الوكيل)‪ ،‬متـاماً كمن‬
‫حياول إجياد عالج ملـرض اإليدز ألنه إن نجح فإن اللواط سـينترش وستظهر آفـات سلبية اجتامعيـة عىل األبناء الذين‬
‫ال‪ ،‬وهكـذا ينسحـب املجتمع من آفـة ألخرى‪ .‬وهـذه هي املأسـاة التي بسـببها‬
‫تـربوا عىل أيـدي هؤالء املنحـرفني مث ً‬
‫كـتبت هذا الفصل وفصيل ‪X‬الـديوان‪ Z‬و ‪X‬املكوس‪ ،Z‬أال وهي استخـدام العقل البرشي يف دراسة الـرشيعة بفتح باب‬
‫االجتهاد بسبب تغري الظروف عىل البرش‪ .‬فـإن ظهرت فتاوى تغري مقصوصة احلقوق فهي إنام توجد وضعاً أسوأ من‬
‫ذي قبـل‪ ،‬إال أن هذا الـسوء لـن يظهـر إال بعـد حني‪ .‬لـذلك أقـول‪ :‬ال حيق ألي عـامل التنـازل‪ ،‬بل جيب اإلرصار عىل‬
‫تطبيق الرشيعـة ألهنا إن طبقت‪ ،‬فـإن للرشيعة املقـدرة عىل إصالح ما أفسـده الناس بحكمهم بـغري ما أنزل اهلل كام‬
‫سرتى بإذنه تعاىل‪ .‬وحتى تقتنع بام سبق أخي القارئ‪ ،‬أي برضورة قفل باب االجتهاد والعودة للنص‪ ،‬جيب أن ندرس‬
‫أوالً مسـألة دور العقل يف اإلسالم‪ ،‬ونمـر رسيعاً عىل الضـوابط الرشعـية‪ ،‬وهو مـوضوع باقـي هذا الفصل (مـلحوظة‬
‫مهمة‪ :‬إن قويل هـنا برضورة قفل باب االجـتهاد ال ينطبق إال عىل حقـوق اآلدميني أو مقصوصـة احلقوق‪ ،‬وليس عىل‬
‫مسائل أخرى‪ ،‬كام سيأيت بيانه بإذنه تعاىل)‪.‬‬

‫طيبعة ارقلار‬
‫مـا هو دور العقل يف اإلسالم؟ إن اإلنسـان كلام فكر أو قـرأ يف هذا الشـأن كلام ازدادت حريته‪ .‬وذلك ألنه‬
‫يف البحـث عن اإلجابـة سيسـتخدم عقله بـال شك‪ ،‬وعندمـا يفعل ذلك سيـزداد حرية‪ .‬فكيف اخلـروج من احلرية؟ إن‬
‫مشكلة البرش احلقيقية واألهم هي يف غرورهم بمقدرة عقوهلم القارصة‪ .‬لذلك علينا أال نستخدم عقولنا للخروج من‬
‫هذه احلـرية‪ ،‬بل علينا أن نـستعني باإلسالم‪ .‬فـكام أن اإلسالم وضع ليد اإلنـسان حمظـورات يف االستخدام كـالرسقة‪،‬‬
‫ووضع للعني حمـظورات كمنع النظر يف أعـراض الغري‪ ،‬فقد وضع للعقل أيضاً حمـظورات ومباحات‪ .‬فعنـدما يستخدم‬
‫اإلنسـان عقله من غري وجه حق فـسيخطئ‪ .‬أمل يـقل سبحانه وتعـاىل‪( :‬إِنَّهُ‪ /‬فَكَّ رَ وَ قَـدَّ رَ ‪ 18#‬فَقُت َِل كَي َ‪c‬ف قَدَّ رَ )‪ 46.‬فام‬
‫هو املباح إذ ًا‪ ،‬وما هو املحظور يف التفكري رشعاً؟‬

‫كام قلت يف الفصل األول‪ :‬إن مفرتق الطـريق بيننا وبني غري املسلمـني هو يف طريقة التفكري‪ .‬فهم‪ ،‬أي غري‬
‫املسلـمني‪ ،‬يستخـدمون عقـوهلم يف كل شؤون حـياهتم ويفـسدون يف األرض‪ .‬فكيـف نواجههم؟ إن اإلجـابة هي يف‬
‫تـوجيهه سـبحانه وتعـاىل لنا يف القـرآن الكريـم‪ .‬فلم يأمـرنا سـبحانه وتعـاىل بتعطيـل عقولنـا‪ ،‬بل عىل العكس‪ ،‬أمـرنا‬
‫باستخدام عقولنا يف التفكر يف كل خملوقاته‪ ،‬أي يف كل يشء‪ ،‬ألن كل يشء من خملوقاته تعاظمت أسامؤه‪ .‬كيف؟‬
‫قص احلق‬ ‫‪88‬‬

‫كام هـو معلـوم‪ ،‬فإن تـراكم اخلري والـرش يف أي جمتمـع ما هـو إال نتـاج لرتاكم أفـعال الـبرش‪ .‬كـام أن هذه‬
‫األفعال ما هي إال نتيجة لقرارات يتخـذها أصحاب األفعال أو من يطيعوهنم‪ .‬وبـالطبع فإن من هذه القرارات ما هو‬
‫ال للكثـري من التفكري لرشاء ما يلـبس‪ ،‬إال أنه قد يرتيث يف اختيـار مدرسة البنه‪ .‬ومثل‬
‫مصريي‪ ،‬فلن حيـتاج الفرد مث ً‬
‫هذه القـرارات املصرييـة‪ ،‬كشن حـرب عىل دولة أخـرى‪ ،‬تأيت بعـد تدبـر وتفكر يف معـظم األحوال‪ ،‬أو بـاتباع هنج‬
‫اآلخرين‪ ،‬كـالسـابقني أو املعـارصين‪ .‬ولكن يف مجـيع األحوال‪ ،‬فـإن أي قرار ُيـتخذ يـأيت بعد إعـامل العقل والقلب‬
‫واملشورة والتحاليل وما شابه مـن أدوات اختاذ القرار‪ .‬ويف هذا اإلطار‪ ،‬فهناك ثـالثة ميادين لدراسة القرارات‪ .‬األول‬
‫هو كيفية وصول العقل للقرار‪ ،‬والثاين هو آليات أو حركيات اختاذ القرار يف املجتمع‪ ،‬والثالث هو طبيعة القرار‪.‬‬

‫بالنسبة لألول‪ ،‬أي لكيفيـة وصول العقل للقرار‪ ،‬فاملقصود به هو كيفية تأثر العقل يف عمله عند اختاذ القرار‬
‫وعالقة ذلك باملـادة والروح وما إليهـا من أسئلة فلسفيـة تتصل بالعقل ذاته‪ ،‬والـرتكيز عىل هذه املسـائل اآلن سيبعدنا‬
‫عن اهلدف املبارش ملوضوع الكتاب‪ ،‬أال وهو التمكني؛ هلذا‪ ،‬فالذي أقرتحه هو تأجيل النظر يف هذه الكيفية ليرشح‬
‫عند احلـديث عن املعرفـة بإذن اهلل‪ .‬أما بـالنسـبة للميـدان الثاين‪ ،‬أي آلـيات اختاذ الـقرار يف املجتمع‪ ،‬فـإن املقصود به‬
‫احلـيز الذي حيق للفـرد التحرك فيه‪ ،‬أو مـا حيق له فعله وما هـو حمظور عليه‪ .‬أي مقـصوصة احلقـوق‪ .‬وهذا هو جل‬
‫موضوع الفصول القادمة‪.‬‬

‫وبالنـسبة للـميدان الـثالث‪ ،‬أي طـبيعة القـرارات التي يتخـذها النـاس‪ ،‬وهي موضـوع هذا الـفصل‪ ،‬فيمكـننا‬
‫تقسيمها إىل نوعني من القرارات‪ :‬قرارات حمافظة‪ ،‬وقرارات غري حمافظة‪ .‬فالقرارات املحافظة هي التي تنبع من عقل‬
‫ال بإنشـاء خمبز فإن‬
‫حمـافظ كاتبـاع هنج من سلف‪ .‬مثل االقتداء بقـرار سابق معلوم الـعواقب‪ :‬فعندمـا يقوم تاجـر مث ً‬
‫عواقب استثامره هذا معلومة لـدرجة عالية ألنه إنام يطبق استثامر ًا سبـقه إليه اآلخرون‪ .‬أما القرارات غري املحافظة‬
‫فهي املجهولة العواقب‪ ،‬وقد متت تسميتها يف الغرب بالقرارات الثورية أو التفجريية‪ ،‬ألهنا تثور عىل الوضع الراهن‪،‬‬
‫كمحاولة تـاجر إجياد زي خيرج عن عرف املجتمع كسباً لربح أعىل مث ً‬
‫ال؛ أو أهنا قرارات تفجر طاقات كامنة‪ ،‬كأن‬
‫ال يف فائدة مرجوة للمجتمع من جراء التحويل‪ .‬ولنرضب‬
‫يقـوم عامل بتحدى مادة ما بتحويلها من حال إىل حال مـؤم ً‬
‫مثـاالً توضيحياً ثالثاً هلـذه القرارات الثورية أو التفجريية‪ :‬إن إقـامة صالة للتزلج الريـايض يف مدينة صحراوية (مثل‬
‫ديب) هلو مرشوع اسـتثامري جريء وبحاجـة للكثري من النفقـات التي قد ال تثمـر‪ .‬فهل سيتقبل السـكان الدخول يف‬
‫جو بارد مل يعتادوا عليه؟ وهل ستتقبل أجسادهم هذا التغـري؟ وهل لدهيم من القناعة ما يكفي لتكرار زيارة القاعة‬
‫مرار ًا ورشاء مالبـس خمصصـة هلا؟ وهكـذا من أسئلـة ذات عواقـب مستقـبلية قـد تأيت للمـستثمـر بالـربح الكثري أو‬
‫باإلفالس‪ .‬ومثل هذه الطريقة يف التفكري تدفع املجـتمعات للتجديد والتغيري املستمر إما لألفضل أو لألسوأ‪ .‬وأقرتح‬
‫هنا تسمية هذا النوع من القرارات غري املحافظة بـ ‪X‬القرارات املندفعة‪.Z‬‬

‫ومن جهة أخـرى‪ ،‬فهناك تـقسيم آخـر لطبيعـة القرار‪ :‬أال وهـو حال املفعـول به‪ ،‬أي عىل من سـيقع القرار‪.‬‬
‫فكل قرار يتم اختاذه سيقع إما عىل إنسان أو عىل عني‪ .‬فعندما تتخذ الدولة قرار ًا (أي تصدر قانوناً) بتحديد إجيارات‬
‫املسـاكن يف منطقة مـا‪ ،‬فهناك أناس مـستفيدون مـن هذا القرار وهنـاك مترضرون‪ .‬أي أن القرار قـد وقع عىل الناس‬
‫بـالدرجة األوىل بـرغم تأثر األعـيان املستـأجرة هبذا القـرار (القانون)‪ .‬وبـالنسبـة لألعيان‪ ،‬فعـندما يتخـذ الفرد قرار ًا‬
‫بحفـر حفرة امتصـاصية (كنيـف أو بيارة) لرصف الفـضالت يف منزله‪ ،‬فـإن الفعل قد وقع عىل أرض حـديقته ولوث‬
‫‪89‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫أرض مـنزله‪ ،‬وقـد يلوث أرض جـاره أيضـاً‪ .‬أي أن القرارات عـمومـاً إما تـقع عىل أناس أو أعـيان‪ .‬وبـاإلمكان أيـضاً‬
‫تقسيم القرارات الـتي تقع عىل الناس إىل قسمـني‪ :‬قسم ذو تأثري اجتامعي‪ ،‬مـثل قرار إنسان بمقـاطعة جار له‪ ،‬وقسم‬
‫ذو تأثري متكيني‪ ،‬مثل قرار شخص مـا بإنشاء مصنع ما‪ .‬وسنركز هنا عىل القـرارات التمكينية‪ .‬وهبذا فإن لدينا نوعني‬
‫من القرارات‪ :‬قرارات تقع عىل الناس وقرارات تقع عىل األعيان‪.‬‬

‫عنـد دمج التقسيـمني سنلحظ أن هنـاك أربعة احـتامالت لطبيعـة القرار‪ ،‬هي‪ :‬قـرار حمافظ يقـع عىل إنسان‪،‬‬
‫وقـرار حمافظ يقع عىل عني‪ ،‬وقـرار مندفع يقع عىل إنـسان‪ ،‬وقرار منـدفع يقع عىل عني‪ .‬وعند فـرز هذه االحتامالت‬
‫إىل إسـرتاتيجيـات أو سبل تـسلكهـا األمم سنـلحظ أن هنـاك أربعة سـبل‪ )1 :‬أمة مـندفعـة يف قراراهتـا جتاه اإلنـسان‬
‫والعني‪ ،‬وبـالعكس ‪ )2‬أمـة حمافـظة يف قـراراهتا جتـاه اإلنسـان والعني‪ ،‬ثـم ‪ )3‬أمة حمـافظـة يف قراراهتـا جتاه اإلنـسان‬
‫ومندفعـة جتاه العني‪ ،‬وبـالعكس ‪ )4‬أمـة حمافـظة يف قـراراهتا جتـاه العني ومنـدفعة جتـاه اإلنسـان‪ .‬ومن املالحظ عىل‬
‫شعوب العـامل الغريب هو أن قـراراهتم تتجه غالبـاً نحو االندفـاع سواء كان ذلك عىل اإلنـسان أو عىل العني‪ ،‬أي أهنم‬
‫ال ال يلزمون أنـفسهم باالقـتداء بمن سبقـهم يف منظومـات حقوقهم‪ ،‬بل يـنتقلون من‬
‫يسلكـون السبيل األول‪ .‬فهم مـث ً‬
‫منظومة حقوق ألخرى‪ ،‬هلذا نـرى تركيبة جمتمعاهتم يف تغري مستمر‪ .‬فهم حياولون حتدي وضعهم القائم يف استخدام‬
‫املـواد وتصنيعهـا‪ ،‬لذلك تكـثر ابتكـاراهتم التي قـد تغري منظـومات حـياهتم أحيـاناً‪ .‬فمن مـراجعة مـبيعات األحـذية‬
‫ال‪ ،‬تلحظ أن جممـوع املبـيعات قـد ارتفعت يف الـواليات املـتحدة‬
‫الريـاضيـة مثل أحـذية نـايك ‪ Nike‬الريـاضيـة مثـ ً‬
‫األمـريكية من ‪ 1.785‬مليون دوالر سنة ‪ 1981‬إىل ‪ 6.437‬مليـون دوالر سنة ‪1990‬م‪ ،‬ذلك ألن لبس احلذاء الريايض‬
‫األنـيق أصبح رمز ًا يعرب عن أن مرتديه شخص ريـايض سليم اجلسم والعقل‪ .‬فاالحصائيـات تقول بأن معدل ما يقتنيه‬
‫البـالـغ من العمـر ‪ 18‬عـامـاً هـو ‪ 4‬أحـذيـة‪ .‬ومـا كـان هـذا القفـز إال من خالل اإلرساف يف اإلنفـاق عىل اإلعالنـات‬
‫التجارية التي تضلل الناس أحيانا‪ 47.‬وبالطبع فإن يف هذه اإلحصائيات إشارة إىل تغري يف طريقة احلياة‪ ،‬فقد انترشت‬
‫رياضة اهلرولة وامليش بني الناس وبالذات يف املنتزهات‪ ،‬وهكذا تتغري منظومات حياهتم لألفضل أو لألسوأ‪ .‬فهم ال‬
‫يرون بـأساً اآلن من انتشار ظاهرة عيشهم فرادى دون أرس تظلهم لرغبتهم الشديدة يف التمتع بحرياهتم الفردية‪ ،‬وال‬
‫يـرون بأسـاً من انفـصال الـزوجني حـتى وإن كـان يف هذا رضر عىل تـربيـة األطفال‪ .‬واألسـوأ أن بعضهـم اآلن أباح‬
‫ال الزواج والعيـش كعشيقني (اللواط) مع تبني األطفـال لتنشئتهم‪ .‬فام هو حـال هؤالء األطفال النفيس يا‬
‫لرجلني مث ً‬
‫ترى؟ وما حدث هذا اخللل االجتامعي والتلوث البيئي إال ألن طبيعـة اختاذ قراراهتم اتسمت باالندفاع الذي يتصف‬
‫عادة بـالترسع الـذي ال يسـتطيع أن يـرى عواقـب القرارات إال بعـد عرشات الـسنني النعـدام القدوة بـمن سبق‪ ،‬أي‬
‫القذف بالغيب من مكان بعيد‪.‬‬

‫وهـنا البد من الربط مع مـا ذكر سابقاً عن العقـل والتمكني من أن سبب التقدم الـتقني يف العامل الغريب هو‬
‫محاية حقـوق األفراد (أي التمكني) الـذي أتت به احلداثة ولـيس األخذ بالعقـالنية‪ .‬واملقصود هبـذا هو أن جمتمعات‬
‫العامل الغريب بالثـورة عىل أفكار من سبق كانـوا مندفعني يف قراراهتم جتـاه األعيان‪ ،‬وهبذا أتت االكتـشافات‪ ،‬وكانوا‬
‫مندفعني أيضـاً يف قراراهتم جتاه أنظمـة جمتمعاهتم االقتصـادية والسياسيـة واالجتامعية‪ ،‬مع الرتكيـز عىل محاية حقوق‬
‫الـفرد ما جعله أكثـر اندفاعـا‪ ،‬فكان التمـكني ألن ثورهتم عىل منظـومة حقوق أسالفهم كـانت موجهة نحـو حترير‬
‫الفرد من تـسلط الكنيسة والـدولة أكثر فأكـثر‪ .‬وبرغم هذا التقـدم العلمي الصناعي‪ ،‬إال أن يف هـذا السبيل خطورة‬
‫قص احلق‬ ‫‪90‬‬

‫عىل البرش بسبب مـا ينتجه من تلوث وانحالل‪ ،‬فإن حتولت باقي شعوب العـامل لتصبح شعوباً مستهلكة دون حكمة‬
‫كـالعامل الغريب فـإن مصري الكرة األرضيـة الفساد‪ ،‬لـذلك فإن من احلـكمة ترك هـذا السبيل كـقدوة لألمم األخرى‪.‬‬
‫ولكن املهم لـنا اآلن هـو تأثـري العقل البـرشي يف طبيـعة القـرار الذي أوجـد جمتـمعات مـندفعـة يف شتـى املجاالت‪،‬‬
‫فكانت جمتمعـات منتجة صنـاعياً‪ ،‬لذلـك سيثور سؤال مـركزي يف ذهن أي قارئ أال وهـو‪ :‬إن تم وصف املجتمعات‬
‫الغـربية التي أخذت باحلـداثة والديمقراطيـة يف هذا الكتاب بأهنـا جمتمعات مندفعـة يف قراراهتا‪ ،‬وهذا وصف سلبي‪،‬‬
‫وهـم (أي الغربيـون) يصفـون هذا االنـدفاع بـاإلجيابيـة ألهنم يعزونـه لتحررهـم من املايض بـإعامل عقلـهم البرشي‪،‬‬
‫فالبد وأن نوافقهم هنا ملا ذهبوا إليه ألن واقع احلال يقف معهم‪ ،‬فهم األكثر متكناً وقوة من املسلمني يف وقتنا احلايل!‬
‫وإن وافقناهـم يف هذا فالبد بالتـايل من أن نوافقهم يف أن دور العقالنيـة البرشية يف نسج احلقـوق هي السبيل األمثل‬
‫لألمم! وهذا ما وقع فيه املفكرون‪ ،‬ولفهم هذا املأزق الفكري البد من توضيح اآليت‪:‬‬

‫إن العامل اإلسالمـي سقط يف واقعه املتخلف املـؤمل ألنه اقرتب من سلـوك السبيل الـثاين (أي أمة حمـافظة يف‬
‫قـراراهتا جتاه اإلنسان والعني)‪ ،‬فقـد كان املجتمع املسلم متحفـظاً يف قراراته جتاه األعيان إىل سقـوط الدولة العثامنية‬
‫(كام سـيأيت بياته يف فـصل ‪X‬املعرفة‪ Z‬بـإذن اهلل إذ أن أفراده كانـوا يف معظم األحوال ذوي عقلـية تقليديـة مقلدة فلم‬
‫تكـثر املخرتعـات مقارنـة بالغـرب الذي أوجـد الثورة الـصناعيـة)‪ .‬أما بـالنسبـة لإلنسـان فقد كـان متحفظـاً يف أمور‬
‫ومندفعاً يف أخرى‪ ،‬ومتى ما اندفع برتك هنج من سلف فقد كـان هذا عىل حساب عموم الناس لصالح احلكام‪ .‬لذلك‬
‫فإن املجـتمع املسـلم كان‪ ،‬واهلل أعلـم‪ ،‬أقل تقدمـاً يف تقنيته مـن العامل الغـريب ولكنه أكـثر ثبـاتاً يف تـركيبـة جمتمعه‪.‬‬
‫ونظر ًا هلذا الفـارق يف التقدم التقني مـقارنة بالغـرب كان التوقف االقـتصادي الذي أدى للتـخلف وذلك بسبب عدم‬
‫تـطبيق الرشيـعة وبالـذات يف احلقوق التـي إن تغريت (بسبب االجـتهادات الفقهيـة) كانت متيل ألهـواء احلكام عىل‬
‫حساب كبت حـركة الناس مقارنـة بام حدث لسكان العـامل الغريب الذي كان يفعل العكـس‪ .‬وما سيتم توضيحه يف‬
‫هـذا الكتاب هـو أن الرشيعة أرادت جمتـمعاً مسلام ً حمـافظاً يف قـرارته التي تقع عىل النـاس‪ ،‬ويف الوقت ذاته وضعت‬
‫مـن احلركيـات ما يـدفع األفراد الختـاذ قرارات تـتحدى األعيـان لتظهـر االبتكارات‪ .‬أي أن الـرشيعة تـدعو لـسلوك‬
‫السبيل الثالث ولـيس الثاين كام وقع‪ .‬فهي تتالىف القرارات املنـدفعة جتاه اإلنسان‪ ،‬لذلك وضعـت مقصوصة ثابتة من‬
‫احلقـوق التي جيب عىل الـناس اتبـاعها‪ ،‬أي اتـباع النـص يف احلقوق‪ ،‬فـال حيق لكائـن من كان أن يـأيت بمنظـومة من‬
‫احلقوق ويقرتحها للـناس للسري عليها إلدارة املجتمع‪ .‬ويف هذا حمافظـة كربى عىل تركيبة املجتمع التي تؤدي لضامن‬
‫االستقـرار واالستمـرار املنتج‪ .‬ولعل املـعجز هـو أن هذه املقـصوصـة التي وضعـتها الـرشيعة بـرغم ثـباهتـا‪ ،‬إال أهنا‬
‫اتسمـت من داخلها بدافـعيتها الشـديدة للناس لـلتمكني وللحركـة الستغالل خريات األرض وتفجري طاقـاهتا ألقصى‬
‫مدى ممكن‪ ،‬أي أهنـا تدفع الـناس بشـدة لتسخـري املادة كام سرتى يف الـفصول القـادمة بـإذنه تعاىل‪ .‬أي أن الـرشيعة‬
‫حتاول إجياد جمـتمع أفراده منـدفعني يف قراراهتم جتـاه األعيان ليـأيت االبتكار والـتمكني‪ ،‬وحمافـظني يف ذات الوقت يف‬
‫قـرارهتم جتاه اآلخـرين من األفـراد باخلـضوع ملقـصوصـة احلقوق الـتي لن تتـغري أبد ًا (الـسبيل الـثالث) والـتي تطلق‬
‫األفراد للعمل واإلنتـاج بالفصل بينهم حتى ال تقع اخلالفات املثبطـة أو اخلالفات التي تتطلب تدخل السلطات وذلك‬
‫حتـى يضـمحل دور السلـطات مـن خالل ختفيف خطـوط التامس بني األفـراد املتمـكنني‪ .‬وحتـى ال ينفلـت املجتمع‬
‫لفساد من جراء هـذه اإلسرتاتيجية يف التعامل مع األعيان‪ ،‬وضعت الرشيعـة من احلركيات ما يمنع التلوث من خالل‬
‫ذات املقصـوصة للحقـوق‪ .‬وامللفت للنظـر هو أن هذه احلـركيات املـانعة لـلفساد تـؤدي يف الوقت ذاته لـدفع الناس‬
‫‪91‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ملزيد من االبتكارات إن طبقت الرشيعة‪ .‬هلذا‪ ،‬فإن ما سيحاول هذا الكتاب إثباته بإذن اهلل هو أن من احلكمة ترك‬
‫العقل البرشي متى اصطدم مع نص رشعي ألن العقل البرشي قارص مقارنة باحلكمة التي تؤدي إليها الرشيعة‪.‬‬

‫وهنا البد من التـنويه أن العقالنية ال يمكن هلـا أن تصطدم مع النص‪ ،‬وإن فعلـت فهي ليست عقالنية عقل‬
‫بل عقالنـية أهـواء كام يفعـل الغرب‪ .‬وألن الـشائـع هو لفـظ ‪X‬عقالنيـة‪ Z‬للداللـة عىل عقالنـية الـبرش‪ ،‬أي عقالنـية‬
‫األهـواء‪ ،‬فسأستخـدم كلمة ‪X‬عـقالنية‪ Z‬للتعـبري عام ينتجه العـقل البرشي‪ .‬وهذا وضـع غري سليم ألن من املفرتض يف‬
‫العقالنيـة أن تؤدي للحكـمة‪ .‬ولكن ألن العقالنـية املتصفـة باألهواء هـي الشائعـة كتعبري يف جمـتمعاتنـا فالبد يل من‬
‫استخـدام نفس الـتعبري ولكـن بالتـنبه هلذا الـفارق يف املعنـى‪ .‬وقد تـسأل أخي القـارئ‪ :‬أليس مـن اإلجحاف وصف‬
‫العقل البرشي بـاألهواء؟ فـأقول‪ :‬عقل مـن سيكون املـرجع؟ فعنـد احلديث عـن العقل البرشي‪ ،‬فـهناك عقـول كثرية‬
‫وبمرجعيـات وقناعات خمتلفة‪ .‬فلكل فـرد عقله اخلاص به وقناعاته املربرة له‪ .‬وللخـروج من هذا املأزق وجد العامل‬
‫الغريب خالصه يف الديمقراطية التي تطبق عقل األغلبيـة‪ .‬فالعقلية البرشية هي دائام ً عقالنية َّ‬
‫مربرة لصاحبها وأهواء‬
‫لآلخرين‪ .‬لذلك‪ ،‬وألهنـا قارصة‪ ،‬فقد تالفت الرشيعـة األخذ هبا يف احلقوق‪ ،‬وأطلقتهـا يف التعامل مع األعيان‪ .‬أي أن‬
‫الرشيعة تدفع للسبيل الثالث بينام املجتمعات املسلمة سلكت تارخيياً السبيل الثاين فكان التخلف‪.‬‬

‫ولعل السبـيل الرابع هـو أرش األحوال‪ ،‬فهـو الذي ال يـدفع األفراد لـتحدي األعيـان وتفجري طـاقاهتـا‪ ،‬لذلك‬
‫سيظل املجتمع املتبني هلذا السبـيل جمتمعاً متخلفاً تقنياً‪ .‬ويف الوقت ذاته نجـده يقفز يف حقوقه من منظومة ألخرى‪،‬‬
‫أي أنه منـدفع يف طبيعـة قراراتـه جتاه اإلنـسان‪ ،‬لـذلك فهـو جمتمع يف تـرد اجتـامعي واقتـصادي‪ .‬وهـذه متثـل معظم‬
‫جمتمعات العامل الثالث (بام فيهـا العامل العريب املعارص) التي تقفز من منظومـات حقوقية ألخرى بتغري أنظمة دوهلا‬
‫أو حكـامها الـذين يغريون األنظـمة (بعثيـة أو اشرتاكية) أو يـستحدثـون برامج تنمـوية خمتلفـة ال هم هلا إال سلب‬
‫التمكـني من األفراد‪ .‬فـالقرارات الـتي تؤثـر يف حقوق األفـراد يف جمتمـع العامل الثـالث دائمـة التقلـب‪ .‬وأخري ًا أرجو‬
‫مالحـظة أن ما ذكـرناه سابـقاً ليس وصفـاً دقيقاً حلـال املجتمعات‪ .‬فـإن ُوصف جمتمع ما بـأنه يتبع السبـيل الثاين مث ً‬
‫ال‬
‫فهـذا ال يعني أن طبـيعة قـرارات مجيع أفـراد ذلك املجتمع كـذلك‪ .‬بل هي الـصفة الـسائـدة عىل أفراد املـجتمع كام‬
‫حدث يف الـعامل اإلسالمي يف تارخيه الـطويل إىل حني سقوط الـدولة العثامنيـة والذي بدأت بعـده معظم دول العامل‬
‫اإلسالمي يف اخلروج مـن السبيل الثـاين والدخول يف الـسبيل الرابع‪ .‬أمـا السبيل الثـالث‪ ،‬وهو ما يـدعو إليه اإلسالم‪،‬‬
‫فقد بقي دون استطراق‪ .‬واآلن‪ ،‬ولتأكيد السابق‪ ،‬لنرى دور العقل يف السبيل الثالث‪.‬‬

‫اعلقل يف ارقلآن الركمي‬


‫لقـد رأينا يف اجلزء األول من هذا الفصل بأن اإلسالم اهتم بتعطـيل العقل‪ ،‬فام صحة هذا القول؟ هناك كتاب‬
‫لطيف عن مفهوم العقل والقـلب يف القرآن الكريم والسنة املطهرة وأقوال بعـض الصحابة للشيخ الدكتور حممد عيل‬
‫اجلوزو أثابه اهلل‪ ،‬يلخص فيه معنـى العقل يف اإلسالم‪ .‬ومما استنتجه هو أن العقل يف الشعر اجلاهيل أتى بمعان خمتلفة‬
‫منهـا التقييـد والربط‪ ،‬ويف الـشعر اإلسالمـي أتى بمعنـى ‪X‬املرجع الـذي يعود إليه اإلنـسان عنـد تقريـر األمور‪ ،Z‬أو‬
‫بمـعنى ‪X‬املـيزة التـي متيز الـكائن املـدرك عن سواه ممـا ال يعقل وال يعي كـاألصنام‪ ،Z‬كـام ورد العقل بمعنـى ‪X‬القوة‬
‫قص احلق‬ ‫‪92‬‬

‫العاقلة التي تدفع اإلنسان إىل احلذر والتنبه‪.Z‬‬

‫ال ألن ما‬


‫سمت الفهم عق ً‬
‫أما العلامء فقد عرفوا العقل لغوياً‪ .‬فيقول احلارث بن أسد املحاسبي‪X :‬والعرب إنام ّ‬
‫فهمته فقـد قيدته وضبطتَ ُه بعقـلك كام البعري قد ُعقل (أي) أنك قيـدت ساقه إىل فخذيه‪ .‬وقالـوا‪ :‬اعتقل لسان فالن‪،‬‬
‫أي استمـسك‪ .‬ويقال‪ :‬أعقل شاتك إذا حبستها‪ .‬وهو أن يضع (رجله) بني (نوفها) وفخذها‪ .‬ويقال‪ :‬اعتقل رجل فالن‬
‫ال ألنه يـعقل صاحبه عن التورط يف املهالك‪ .‬وقيل العقل هـو التمييز الذي يتميز‬
‫إذا (صارعه)‪ .Z‬كام سمي العقل عق ً‬
‫به اإلنسان عن سائر احلـيوان‪ .‬وجاء يف القاموس املحيـط‪ :‬العقل‪ :‬العلم ‪X‬بصفات األشياء من حـسنها وقبحها وكامهلا‬
‫ونقصاهنا‪ ،‬أو العلم بخري اخلـريين ورش الرشين أو مطلق األمور أو لقوة هبا يكـون التمييز بني القبح واحلسن وملعان‬
‫هـ‬
‫جمتمعـة يف الذهن يـكون بمقـدمات يـستتب هبـا األغراض واملصـالح هليئـة حممودة لإلنـسان يف حـركاته وكالمه‪.Z‬‬
‫وباإلضافة للعقل فهناك مـرادفات أخرى مثل ‪X‬اللب‪ Z‬الذي ورد يف الشعر اجلـاهيل بمعنى العقل الذي يرافق صاحبه‬
‫يف مجيع أموره لـيكون حـازماً عنـد مواجهـة األمور اجلـسام‪ .‬أمـا يف الشعـر اإلسالمي فقـد ورد اللب بمعـنى العقل‪،‬‬
‫واجلمع أولوا األلبـاب أو ذوو األلباب‪ ،‬بمعـنى أصحاب العقـول الراجحة الـذكية‪ .‬وهنـاك قول بأن أولـو األلباب هم‬
‫و‬
‫العلامء باهلل‪ .‬واحللم أيـضاً متصل بالعقل‪ ،‬إال أن احللـم أرفع من العقل يف بعض األقوال‪.‬ز وقد شـاع يف الشعر اجلاهيل‬
‫استخدام احللم يف الفخـر واملديح‪ .‬وقد ورد مقابـل السفه‪ ،‬فدل عىل أنه نقيض اجلهل والـطيش‪ .‬ويف الشعر اإلسالمي‬
‫كـان احللم من الصفـات احلميدة كـالصمت يف املجـالس من غري بالدة ممـا يدل عىل احلكـمة والتعقل‪ ،‬فهـو هبذا ضد‬
‫الـسفه واجلهل‪ .‬وقال ابن منظور بأنه األنـاة والعقل‪ .‬ومن األلفاظ الدالة عىل العقل أيضـاً ‪X‬النُّهى‪ ،Z‬وهي العقول ألهنا‬
‫واحلجى‪.‬حـ ولعلك الحـظت من السـابق أن استخدام‬ ‫احلجـر ِ‬‫تنـهى عن القبـيح‪ .‬ومن األلفاظ الـدالة عىل العـقل أيضاً ِ‬
‫لفظ العقل وكأن فيه توجيه نحو التحفظ يف كل مـا هو قادم من قول أو فعل‪ .‬فهناك ربط واضح بني التأين وكل من‬
‫األقوال واألفعال ما يؤدي إىل العقل‪ .‬وهذا ما توصـل إليه أيضاً الشيخ اجلوزو أثابه اهلل‪ .‬فقد خلص ما توصل إليه بعد‬
‫ال‪:‬‬
‫استعراض األلفاظ املرادفة للعقل قائ ً‬

‫لب ولبيب؛ الزم لألمر‪،‬‬‫ب ‪ ...‬رجل ٌ‬ ‫والب وألبُ ٌ‬


‫قلبها‪ ،‬والعقل‪ ،‬ج ألباب ُّ‬ ‫هـ) وقـال احلـكيـم الرتمـذي‪X :‬وقــد قيل أن الـعقل يعقـل النفـس عن‬
‫وملبوب‪ :‬مـوصوف بالعـقل ‪ .Z...‬ويقول احلكيم الرتمـذي‪X :‬وأما عند‬ ‫متـابعة اهلـوى كام يمنع العقـال الدابـة من مرتعهـا ومرعـاها‪ .‬والعقل‬
‫عامة أهل األدب ومن هلم معرفة بـيشء من اللغة فإن اللب هو العقل‪،‬‬ ‫اسم (غري) متبـدل‪ ،‬وهو اسم عام‪ ،‬وال يـستعمل ترصيف هذه األسامء‬
‫ولكن بيـنهام فرق كـام بني نور الـشمس ونـور الرساج‪ ،‬فكالمهـا نور‬ ‫ال فهـو عاقل وذلك معقـول عنه‪ .Z‬أما يف‬ ‫إال منه‪ ،‬ويقـال عقل يعقل عق ً‬
‫‪ ...‬والعـقل يعرب بـه عن العلـم عىل وجه املجـاز يف سعـة اللغــة‪ ،‬ولكن‬ ‫ِ‬
‫املعاجم فقـد ورد يف لسان العـرب‪X :‬العقل‪ :‬احلجر والـنهي ضد احلمق‬
‫‪X‬أولوا األلباب‪ Z‬هم العلامء باهلل‪.)49(Z‬‬ ‫ال ومعقـوالً‪ ،‬وهو مصدر سامعي‪ .‬وقـال سيبويه‪ :‬هو‬ ‫يعقل عق ً‬
‫‪َ ...‬عق ََل ُ‬
‫ز) جـاء يف الدر املنثور‪X :‬وأخرج أبـو الشيخ عن ضمرة ريض اهلل عنه‬ ‫صفة ‪ .Z...‬قـال ابن األنـباري‪X :‬رجـل عاقل وهـو اجلامـع أمره ورأيه‪،‬‬
‫قال‪ :‬احللم أرفع من العقل ألن اهلل عز وجل تسمى به‪ .Z‬وجاء يف شعب‬ ‫مأخوذ من عقلت البعـري إذا مجعت قوائمه‪ .Z‬وقيل العاقل الذي حيبس‬
‫اإليامن أيضـاً‪X :‬أخربنا أبـو عبد اهلل احلـافظ ‪ ...‬نـا رجاء بن أيب سـلمة‬ ‫نفسه ويـردها عن هـواها‪ ،‬أخـذ من قوهلم قـد اعتقل لسـانه إذا حبس‬
‫قال‪ :‬احللم أرفع من العقل وذلك ألن اهلل تسمى به‪.)50( Z‬‬ ‫ومنع الكالم‪ .‬واملعقـول ما تعقله بقلبك‪ ،‬واملعقـول‪ :‬العقل‪ ،‬يقال‪ :‬ما له‬
‫حـ) وجاء يف الـبستان‪X :‬احللم نقيض السفه‪ ،‬والعقل واألناة والتثبت يف‬ ‫معقــول‪ ،‬أي عقل‪ .‬وهــو أحــد املـصــادر الـتي جـــاءت عىل مفعــول‬
‫األمور وضبط النفس والطبع عن هيجان‪ ،‬مجعه أحالم وحلوم‪ ،‬وليس‬ ‫كامليسور واملعسور‪ ... .‬والعقل هو التثبت يف األمور‪.)48( Z‬‬
‫احللم يف احلقيقـة العقل لكن فـرسوه بذلـك لكونه مـن مسبـبات العقل‬ ‫َ^ب)‪ ،‬فإنـه يا‬
‫‪e‬لل‪c‬ب ِ‬
‫و) جـاء يف تفـسري‪X :‬وأمـا تأويـل قولـه‪( :‬يَ^‪d‬أُوْ لِى ‪َ c‬‬
‫‪.)51(Z...‬‬ ‫أويل الـعقول‪ .‬واأللـباب مجع الـلب واللب العقـل‪ .Z‬وجاء يف القـاموس‬
‫املحيـط‪X :‬اللب بالضم‪ :‬خالص كـل يشء‪ ،‬ومن النخل اجلوز ونحوها‪:‬‬
‫‪93‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫‪X‬وال شك أن القـرآن الكريم أضفـى عىل هذه األلفـاظ ثوبـاً جديـد ًا وأعطاهـا أبعاد ًا جـديدة‪ ... ،‬ففي‬
‫حني نجد يف الشعر اجلاهيل وعند املحـاسبي أن األصل يف كلمة عقل التقييد والربط والذهن وإمساك‬
‫اليشء أو حبسه والديه‪ ،‬وهـي تعقل اإلنسان عن الثـأر لقريبه وكأنه رجـح جانب العقل عىل الق ََود أي‬
‫الثأر‪ ،‬إذا صح التعبري‪ ،‬ثم نرى ابن األنباري وقد تأثر باإلسالم إذ يستنتج من هذه املعاين أن العقل هو‬
‫ال ألنه يعقل صـاحبه عن الـتورط يف‬ ‫مجع األمـر والرأي‪ ،‬ونـرى يف ‪X‬اللسـان‪ Z‬أنه قـد سمي العـقل عق ً‬
‫املهالك‪ ،‬أي حيبـسه‪ ،‬وهو يوافق الرتمذي يف ذلك التفسـري إذ يقول الرتمذي‪ :‬إن العقل يعقل النفس عن‬
‫متابعة اهلوى‪ ،‬ولكن ‪X‬اللسان‪ Z‬ال يلبـث أن يظهر متأثر ًا باألفكار الفلسفية عندما يقول‪ :‬إن العقل هو‬
‫التمييز الذي به يتميـز اإلنسان من سائر احليوان‪ .‬وتـظهر النزعة الفلسفيـة بشكل أقوى عند صاحب‬
‫القامـوس إذ يقول‪X :‬إن الـعقل هو العلم بـصفات األشيـاء من حسنهـا وقبحها ‪ .Z...‬وهكـذا تداخلت‬
‫الروح الـدينية اإلسـالمية مع األسلـوب الفلسفـي يف هذه التعـاريف لتؤكـد مدى الـتفاعل مع الـتطور‬
‫الثقايف يف تلك العصـور‪ ... ،‬هذا إىل جانـب تفسريات للعقل كثرية مـنها أنه املرجع يف تقـرير األمور‪،‬‬
‫وأنه احلصن وامللجأ والعقل والفهم واحلكمـة وبه تتبني األشياء وبه يبتعد اإلنسان عن احلمق والضالل‬
‫والرشود‪ ... .‬غري أن احللـم يأيت كميـزة متفوقـة‪ ،‬ميزة خـلقية عليـا تدل عىل احلكمـة والتسـامح وسعة‬
‫‪52‬‬
‫الصدر ‪.Z...‬‬

‫ومن هـذا العـرض الـرسيع‪ ،‬وإن وضعنـا السـابق يف إطـار الـتحفظ أو االنـدفـاع يف القـرارات‪ ،‬تلـحظ أخي‬
‫القارئ أن العقل يف العهد اجلـاهيل ويف أقوال بعض أهل اللغـة يف اإلسالم مل يوجه صاحبه إىل االنـدفاع يف القرارات‬
‫بقدر توجيهه إىل التحفظ فيها‪ .‬فالعقل إمـا حيبس صاحبه عن الوقوع يف ما ال حتمـد عقباه‪ ،‬أو أنه العلم بشمولية عام‬
‫هو كائن‪ ،‬أو هو صفة تعكس شخـصية حاملها‪ ،‬وهكذا من تعاريف تبدو كـأهنا حتفظية يف طبيعة القرار أكثر من‬
‫كـوهنا دافعـيه له‪ ،‬فاألصـل تراثيـاً يف العقل ينجـذب للتحـفظ‪ .‬إال أن اإلسالم أراد عقليـة أخرى غري هـذه‪ .‬لقد أراد‬
‫اإلسالم للمسلم أن يتمتع بعقل يتحدى فيها األعيان‪ .‬كيف؟‬

‫‪X‬عق ََل‪ Z‬يف القـرآن الكــريم‪ :‬األوىل هي عـدم ظهـور االسـم ‪X‬العقل‪ Z‬يف‬
‫هنـاك ملحـوظتـان عىل ورود مـادة َ‬
‫املواضـع التي قد يتـوقع القارئ أهنـا قد تسـتخدم فيه‪ ،‬فتـظهر املرادفـات كاحلكمـة والرشد‪ ،‬أي وكـأن القرآن يتالىف‬
‫‪X‬عقل‪ Z‬عنـدما تستخـدم تأيت بصيغـة الفعل املضارع‬
‫عمد ًا استخـدام االسم ‪X‬العقل‪ .Z‬وامللحوظـة الثانيـة هي أن مادة َ‬
‫(وليس االسم) مثل‪( :‬لاَّعَلاَّكُ م‪ c‬تَع‪c‬قِلُونَ)‪ .‬وهبذا يكون السؤال‪ :‬ما اهلدف من هذه املنهجية؟ وللتوضيح أقول‪:‬‬

‫بالنـسبة لـتوضيح امللحـوظة األوىل فسـأعطي مثـالني فقط‪ :‬األول هـو تأويل كلمـة ‪X‬احلكمة‪ ،Z‬فقـد جاء يف‬
‫تـفسري الطربي أن تـأويل قوله تعـاىل‪( :‬يُؤ‪ c‬تِى ‪e‬ل‪c‬حِ ك‪ c‬مَةَ مَـن يَشَ ا‪d‬ءُ)‪ ،‬هو العقـل‪ .‬يقول الطربي‪X :‬ذكـر من قال ذلك‪،‬‬
‫ت‬
‫حدثني يونس قال أخربنا بن وهب قال‪ :‬قال بن زيد‪( :‬يُؤ‪ c‬تِى ‪e‬ل‪c‬حِ ك‪ c‬مَةَ مَن يَشَ ا‪d‬ءُ) العقل يف الدين وقرأ‪( :‬وَ مَن يُؤ‪َ c‬‬
‫يا كَثِيًا)‪ .Z ... ،‬وجاء يف تفسري ابن كثري‪:‬‬
‫‪e‬ل‪c‬حِ ك‪ c‬مَةَ فَقَد‪ c‬أُوتِىَ خَ ‪ً c‬‬
‫‪(X‬يُؤ‪ c‬تِى ‪e‬ل‪c‬حِ ك‪ c‬مَةَ مَن يَشَ ا‪d‬ءُ)‪ :‬ليست بـالنبوة ولكنه العلم والفقه والـقرآن‪ .‬وقال بن وهب عن مالك‪:‬‬
‫قال زيد بن أسلم‪ :‬احلكمة العقل‪ .‬قال مـالك‪ :‬وإنه ليقع يف قلبي أن احلكمة هو الفقه يف دين اهلل وأمر‬
‫ال يف أمـر الدنيـا إذا نظر‬
‫يدخله اهلل يف الـقلوب من رمحتـه وفضله‪ ،‬ومما يـبني ذلك أنك جتد الـرجل عاق ً‬
‫فيـها‪ ،‬وجتد آخـر ضعيفا يف أمـر دنياه عـاملا بأمـر دينه بصري ًا به يـؤتيه اهلل إياه وحيـرمه هذا‪ .‬فـاحلكمة‬
‫‪53‬‬
‫الفقه يف دين اهلل‪.Z‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪94‬‬

‫أما يف تفسري قوله تعـاىل‪( :‬ءَاتَي‪c‬نَ^هُ حُ ك‪ c‬مًا وَعِ ل‪c‬مًا)‪ ،‬فيقول الطـربي‪X :‬وقوله (ءَاتَي‪c‬نَ^هُ حُ ك‪ c‬مًا وَعِ ل‪c‬مًا)‪ ،‬يقول‬
‫تعـاىل ذكره أعطيناه حينئـذ الفهم والعلم‪ .‬كام حدثني املثنـى قال‪ :‬ثنا أبو حذيفـة قال‪ :‬ثنا شبل عن بن أيب نجيح عن‬
‫جمـاهد‪( :‬حُ ك‪ c‬مًا وَعِ ل‪c‬مًا) قـال العقل والعلم قبل النبوة‪ .Z‬وذكـر الطربي أيضاً‪X :‬وأخرج ابـن مردويه عن ابن عباس‬
‫‪54‬‬
‫ريض اهلل عنهام يف قوله‪( :‬وَ لَقَد‪ c‬ءَاتَي‪c‬نَا لُق‪c‬مَ^نَ ‪e‬ل‪c‬حِ ك‪ c‬مَةَ)‪ ،‬قال‪ :‬يعني العقل والفهم والفطنة‪.Z‬‬

‫وبـالنسبة للمثال الثاين‪ :‬فقـد جاء يف تفسري الطربي يف تأويل قوله تعـاىل يف سورة النساء‪( :‬فَإِ ‪c‬ن ءَان ‪َc‬ستُم مِّن‪c‬هُم‪c‬‬
‫رُش‪ c‬دً ا)‪X :‬قال أبـو جعفـر‪ :‬وأوىل هذه األقـوال عنـدي بمعنـى الرشـد يف هذا املـوضع العقل وإصالح املـال إلمجاع‬
‫اجلـميع عىل أنه إذا كان كـذلك مل يكن ممـن يستحق احلجـر عليه يف ماله وحـوز ما يف يـده عنه وإن كان فـاجر ًا يف‬
‫دينه‪ .Z‬وجاء يف الدر املنثور يف تفسري نفس اآلية‪:‬‬
‫‪X‬وأخـرج ابن أيب شيـبة وعبـد بن محيـد وابن جريـر وابن املنـذر وابن أيب حاتـم عن جماهـد (وَ‪e‬ب‪c‬تَلُواْ‬
‫‪e‬ل‪c‬يَتَ^مَى)‪ ،‬قال‪ :‬عقوهلـم‪( .‬حَ تَّى‪ d‬إِذَا بَلَغُواْ ‪e‬لنِّكَ احَ )‪ ،‬يقول‪ :‬احللم‪( .‬فَإِ ‪c‬ن ءَان ‪َc‬ستُم)‪ ،‬قال‪ :‬أحسستم‪.‬‬
‫(مِّن‪c‬هُم‪ c‬رُش‪ c‬دً ا)‪ ،‬قـال‪ :‬العقل‪ .‬وأخـرج ابن جـرير عـن الســدي‪( :‬وَ‪e‬ب‪c‬تَلُواْ ‪e‬ل‪c‬يَتَ^مَـى)‪ ،‬قال‪ :‬جـربوا‬
‫‪55‬‬
‫عقوهلم‪( .‬فَإِ ‪c‬ن ءَان ‪َc‬ستُم مِّن‪c‬هُم‪ c‬رُش‪ c‬دً ا)‪ ،‬قال‪ :‬عقوالً وصالحا‪.Z‬‬

‫ففي مجيع السابق‪ ،‬وغريها كثري‪ ،‬تلحظ عدم ظهور كلمة ‪X‬العقل‪ Z‬أو مشتقاهتا‪ ،‬بل تعابري أخرى‪ .‬ملاذا؟‬

‫‪X‬عق ََل‪ Z‬يف القرآن الكريم يف تـسع وأربعني آية‪ ،‬إال أهنا مل ترد‬
‫وبالنسـبة للملحوظة الـثانية‪ ،‬فقد وردت مـادة َ‬
‫بصيغة االسم قط‪ ،‬بل وردت بـصيغة الفعل مثل (تَع‪c‬قِلُونَ)‪ .‬كام أهنا وردت يف معـظم اآليات بصيغة الفعل املضارع‬
‫عىل سبيل االستفهـام (أَف ََل تَع‪c‬قِلُونَ)‪ ،‬أو الرتجي (لاَّعَلاَّـكُ م‪ c‬تَع‪c‬قِلُونَ)‪ ،‬أو التقريــر (لِّقَو‪ c‬مٍ يَع‪c‬قِلُونَ)‪ ،‬أو النفي ( َل‬
‫يَع‪c‬قِلُونَ)‪ .‬كام أن املالحـظ عىل معظم اآليـات أهنا تـأمليـة يف خلق اهلل‪ .‬قـال رب السمـوات واألرض ورب العرش‬
‫َّاس‬
‫‪c‬ك ‪e‬لاَّتِى ت ‪َc‬جرِي فِى ‪e‬ل‪c‬بَح‪ c‬رِ بِمَـا يَنفَعُ ‪e‬لن َ‬
‫َ^ف ‪e‬لاَّي‪c‬لِ وَ‪e‬لنَّهَـارِ وَ‪e‬ل‪c‬فُل ِ‬
‫َر‪c‬ض وَ‪e‬خ‪ c‬تِل ِ‬
‫وَ‪e‬ل ِ‬
‫^ت ‪c‬‬
‫‪e‬لسمَ^وَ ِ‬
‫العظيم‪( :‬إِ َّن فِـى خَ ل‪c‬قِ هَّ‬
‫اب‬
‫وَ‪e‬لسحَ ِ‬
‫ِيف ‪e‬لـ ِّريَ^حِ هَّ‬
‫َث فِيهَـا مِن ك ّ ُِل دَا‪d‬بهَّةٍ وَ ت ‪َc‬صر ِ‬
‫َر‪c‬ض بَع‪c‬دَ مَـو‪ c‬تِهَا وَ ب َّ‬
‫‪e‬لـسمَا‪d‬ءِ مِن مهَّـا‪d‬ءٍ فَأَح‪ c‬يَا بِهِ ‪ec‬ل َ‬
‫‪e‬لل مِنَ هَّ‬
‫وَ مَا‪ d‬أَنزَ َل هَّ ُ‬
‫‪c‬س‬
‫(وَسخَّ رَ لَكُ مُ ‪e‬لاَّـي َ‪c‬ل وَ‪e‬لنَّهَارَ وَ‪e‬لشَّ م َ‬
‫َ‬ ‫َ^ت لِّقَو‪ c‬مٍ يَع‪c‬قِلُونَ)‪ ،‬وقـال اخلالق العظيـم‪:‬‬
‫َر‪c‬ض َ َلي ٍ‬
‫وَ‪e‬ل ِ‬
‫‪e‬لسمَـا‪d‬ءِ ‪c‬‬
‫َني هَّ‬
‫ُـسخَّ رِ ب ‪َ c‬‬
‫‪e‬ل‪c‬م َ‬
‫َ^ت لِّقَو‪ c‬مٍ يَع‪c‬قِلُونَ)‪ ،‬وقـال اللطيف اخلبـري‪( :‬وَهُ وَ ‪e‬لاَّذِي يُح‪ِ c‬ى\‬
‫ِـك َ َلي ٍ‬
‫^ت بِأَم‪c‬رِهِ‪ \d‬إِ َّن فِى ذَ^ل َ‬
‫ُـسخَّ رَ ٌ‬
‫وَ‪e‬ل‪c‬قَـمَرَ وَ‪e‬لن ُُّجومُ م َ‬
‫َ^ف ‪e‬لاَّي‪c‬لِ وَ‪e‬لنَّهَارِ أَف ََل تَع‪c‬قِلُونَ)‪ ،‬وبعد عرض مثل هذه اآليات يستنتج الشيخ اجلوزو قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫ِيت وَ لَهُ ‪e‬خ‪ c‬تِل ُ‬
‫وَ يُم ُ‬
‫‪X‬نحن أمام حـركة الطبيعة‪ ،‬تثـري النفس‪ ،‬وتدفعها إىل التـأمل والتصور والتخيل‪ ،‬وهـذه احلركة تبدو يف‬
‫ثنائيـة الطبيعـة‪ ،‬يف الليل والنهـار‪ ،‬يف الرشوق والغـروب‪ ،‬يف احلياة واملـوت‪ ،‬فالـقرآن يشـد اإلنسان إىل‬
‫هـذه احلركة‪ ،‬ويـدعوه إىل تتبعهـا‪ ،‬وفهم ما تـنطوي عليه أرسار اخلـالق‪ ... .‬حقاً إن الـقرآن ليس كـتاباً‬
‫علمـياً يبحث يف الكـيمياء والفيـزياء وحيلل نظـريات العلم‪ ،‬لكـنه يطرح القضـايا الكليـة وجيعل منها‬
‫‪56‬‬
‫منطقاً للبحث والتقيص‪.Z... ،‬‬

‫إن طريقة االستخـدام للفعل عقل يف القرآن كام هو واضح حتث النـاس إلعامل عقوهلم‪ ،‬فهي تتعجب منهم‬
‫بالقـول‪( :‬أَف ََل تَع‪c‬قِلُونَ)‪ ،‬وكأهنا ترتجاهم بـالقول‪( :‬لاَّعَلاَّكُ م‪ c‬تَع‪c‬قِلُونَ)‪ ،‬كام يف قوله تعـاىل‪( :‬إِنَّا‪ d‬أَنزَ ل‪c‬نَ^هُ قُر‪ c‬ءَ^نًا عَ رَ بِيًّا‬
‫لاَّعَلاَّكُ م‪ c‬تَع‪c‬قِلُونَ)‪ .‬أليس يف هـذا دافع لتحريك العقل وبـالذات ألهنا أتت بـصيغة الفعل املضـارع مسبوقـاً باالستفهام‬
‫اإلنكاري الذي يتضمن معنى التنديد والتعجب؟ كـام أن بعض اآليات أتت بصيغة التنديد كام يف قوله تعاىل‪( :‬ب ‪َc‬ل‬
‫‪95‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫َر‪c‬ض مِن‪ c‬بَع‪ِ c‬د مَو‪ c‬تِهَا‬


‫‪e‬لسمَا‪d‬ءِ مَا‪d‬ءً فَأَح‪ c‬يَا بِهِ ‪ec‬ل َ‬
‫‪c‬ثهُ م‪َ c‬ل يَع‪c‬قِلُونَ) كام يف سورة العنكبوت‪( :‬وَ ل َِئ َسأَل‪c‬تَهُم مهَّن نَّزَّ َل مِنَ هَّ‬
‫أَك َ ُ‬
‫َ^ت) يف قوله تعاىل‬
‫(لي ٍ‬
‫‪c‬ثهُ م‪َ c‬ل يَع‪c‬قِلُونَ)؛ وأتت بجرف الالم للتأكيد كام يف لفظ َ َ‬
‫لل ب ‪َc‬ل أَك َ ُ‬
‫‪e‬لل قُلِ ‪e‬ل‪c‬حَ م‪c‬دُ ِ هَّ ِ‬
‫لَيَقُولُنهَّ هَّ ُ‬
‫َر‪c‬ض بَع‪c‬دَ مَو‪ c‬تِهَا‪ d‬إِ َّن فِى‬
‫‪e‬لسمَا‪d‬ءِ مَا‪d‬ءً فَيُح‪ِ c‬ى\ بِهِ ‪ec‬ل َ‬
‫‪c‬ب َق خَ و‪ c‬فًا وَ طَمَعًـا وَ يُنَ ِّز ُل مِنَ هَّ‬
‫يف سورة الـروم‪( :‬وَ مِن‪ c‬ءَايَ^تِهِ\ يُرِيكُ مُ ‪e‬ل َ ‪c‬‬
‫َ^ت لِّقَو‪ c‬مٍ يَع‪c‬قِـلُونَ)‪ .‬وهكذا بعـرض مثل هذه اآليـات يستنـتج الشيخ اجلـوزو أن اعتبـار هذه اإلبـداعات‬
‫ِك َ َلي ٍ‬
‫ذَ^ل َ‬
‫الكونيـة آيات ‪X‬أي أدلـة وبراهني‪ ،‬يقتـيض أن تكون الربهـنة ‪X‬عقليـة‪ Z‬ألهنا تسـاق إىل قوم يعقلـون‪ .‬فإذا كـان تأمل‬
‫الطبيعة ودراسة أرسارها ودقائقهـا‪ ،‬ودراسة مظاهر احلياة واملوت واإلنسـان واحليوان والنبات يلقي ضوء ًا كاشفاً عىل‬
‫احلقيقة‪ ،‬فإن الفعل ‪X‬يعقلون‪ Z‬يوحي لنا أنه واسطة هذا الكشف‪ ،‬والفاعل هو العقل ألن الذين ال يعقلون هم الذين‬
‫ال يدركـون هذه احلقـائق‪ ،‬فالعـقل هنا هـو أداة الفعل يعقل‪ ،‬ودوره هـو تتبع الظـواهر وإدراك احلـقائق التـي تربط‬
‫بينها‪ ،‬واستنباط احلقائق‪ .Z‬أي أن البحث عن احلقيقة هو أهم ما يدفعنا إليه القرآن الكريم‪.‬‬

‫وحتـى عندمـا يستعـرض القرآن الكـريم أصل اإلنسـان وخلقه أطوار ًا مـن تراب ثم من نـطفة وهكـذا حتى‬
‫املامت‪ ،‬نجـده ينـبه اإلنسـان لـرضورة استخـدام عقله السـتنتـاج احلقيقـة عن ذاته كام يف قـوله تعـاىل‪( :‬هُ ـوَ ‪e‬لاَّذِي‬
‫ُرَاب ثُمهَّ مِـن نُّط‪c‬فَةٍ ثُمهَّ مِن‪ c‬عَ ـلَقَةٍ ثُمهَّ يُخ‪ c‬رِجُ كُ م‪ c‬طِ ـف ً‪c‬ل ثُمهَّ لِتَب‪c‬لُغُو‪ d‬اْ أَشُ ـدَّ كُم‪ c‬ثُمهَّ لِتَكُ ـونُواْ شُ يُوخً ـا وَ مِنكُ م مهَّن‬
‫خَ لَقَـكُ م مِّن ت ٍ‬
‫يُتَوَ فَّى مِن قَب ُ‪c‬ل وَ لِتَب‪c‬لُغُـو‪ d‬اْ أَجَ ًل م َُّسمًّى وَ لَعَلاَّكُ م‪ c‬تَع‪c‬قِلُونَ)‪ .‬ويف آيـات أخرى يتحدى القـرآن الكريم اإلنسـان بطريقة‬
‫حتفزه لتحريك عقله بأن خيربه بتفاصيل ختلّقه وهو يف رحم أمه وذلك قبل أربعة عرش قرناً بطريقة إعجازية كام يف‬
‫نس^نَ مِن ُسلَ^لَةٍ مِّن طِ نيٍ ‪ 12#‬ثُمهَّ جَ عَل‪c‬نَ^هُ نُط‪c‬فَةً فِى قَـرَارٍ مهَّكِ نيٍ ‪ 13#‬ثُمهَّ خَ لَق‪c‬نَا ‪e‬لنُّط‪c‬فَةَ عَ لَقَةً‬
‫‪e‬ل َ‬
‫قوله تعاىل‪( :‬وَ لَقَد‪ c‬خَ لَق‪c‬نَـا ‪ِ c‬‬
‫‪e‬لل أَح‪َ c‬سنُ‬
‫ُـضغَةَ عِ ظَ^مًـا فَكَ َسـو‪ c‬نَا ‪e‬ل‪c‬عِـظَ^مَ لَح‪ c‬مًا ثُمهَّ أَنـشَ أ‪c‬نَ^هُ خَ ل‪c‬قًـا ءَاخَ رَ فَتَـبَارَكَ هَّ ُ‬
‫فَخَ لَق‪c‬نَا ‪e‬ل‪c‬عَـلَقَةَ م ‪ُc‬ضغَـةً فَخَ لَق‪c‬نَا ‪e‬ل‪c‬م ‪c‬‬
‫‪e‬ل‪c‬خَ ^لِقِنيَ )‪ .‬وإذا ما راجعت مجـيع آيات القرآن الكـريم العلمية اإلعجـازية‪ ،‬أو التي حتث عىل إعـامل العقل جتدها‬
‫جتتمع حول رضورة حتريك العقل لتقيص احلقيقة يف الكون بالتأمل يف نواميس ما خلق اهلل وما صور وأبدع وأتقن‪.‬‬

‫بحث النـاس لرفض اتباع منهج اآلباء واألجداد‬


‫ّ‬ ‫وهـذا االستنتاج ينطبق حتى عىل الـقصص القرآين الذي متيز‬
‫‪e‬لل قَالُواْ ب ‪َc‬ل نَتَّبِعُ مَا‪ d‬أَل‪c‬فَي‪c‬نَا عَ لَي‪c‬هِ ءَابَا‪d‬ءَنَا‪ d‬أَوَ لَو‪ c‬كَا َن‬
‫ِيل لَهُمُ ‪e‬تَّبِعُواْ مَا‪ d‬أَنزَ َل هَّ ُ‬
‫إن مل يكن معقوالً كام يف قوله تعاىل‪( :‬وَ إِذَا ق َ‬
‫وَل يَه‪c‬تَدُ ونَ)‪ 57.‬أي أن القـرآن الكريم حيـث البرش عىل الثـورة عىل اجلهل بتـحريك العقل‬
‫ءَابَا‪d‬ؤُ هُ م‪َ c‬ل يَـع‪c‬قِلُو َن شَ ي‪ًEc‬ا َ‬
‫حتى وإن كان ذلك خروجاً عـىل سنن من سلف‪ .‬وأفضل مثال هلذا هو قصة إبـراهيم عليه السالم‪.‬ط فهي قصة تنبذ‬
‫التقليد الذي يفيض للتبعية ألن فيها إلغاء لالختيار الذي فطر عليه اإلنسان‪ .‬فام قيمة اإلنسانية إن انقادت للضالل ال‬
‫لسبب إال تقليد ًا ملن سبق؟ أي أن ممارسة اإلنسـان حلركة البحث عن احلقيقة هي أسمى ما يمكن أن يقدمه له عقله‪.‬‬
‫ال أبد ًا‪ ،‬بل أداة للضـياع‪ .‬ومن هذا العـرض السابق نـستطيع أن نتقصـى معامل حدود دور العقل يف‬
‫وإال فهو ليـس عق ً‬
‫اإلسالم‪ :‬أال وهو البحث عن احلقيقة يف هذا الكون‪ .‬فهذه هي مهمة العقل الكربى التي ستقع حتتها مهامت أخرى‪.‬‬

‫َال‬ ‫هَ ^ذَ ا بِ‪َE‬الِهَتِنَا‪ d‬إِنَّهُ‪ /‬لَمِنَ ‪e‬لظاَّ^لِمِنيَ ‪ 59#‬قَالُواْ َسـمِع‪c‬نَا فَتًى يَذ‪ c‬كُرُهُ م‪ c‬يُق ُ‬ ‫لبِيهِ‬ ‫َال ِ َ‬ ‫ط) تأمل قصة إبراهيم يف سـورة األنبياء يف قوله تعاىل‪( :‬إِذ‪ c‬ق َ‬
‫َّاس لَعَلاَّهُم‪ c‬يَش‪ c‬هَدُ ونَ‪61#‬‬ ‫ني ‪e‬لن ِ‬ ‫لَهُ‪ /d‬إِب‪c‬رَ ^هِـيمُ ‪ 60#‬قَالُواْ فَأ‪c‬تُواْ بِهِ\ عَ لَى‪ d‬أَع‪ِ ُ c‬‬ ‫ِيل ‪e‬لاَّتِـى‪ d‬أَنتُم‪ c‬لَهَا عَ ^كِ ـفُونَ‪ 52#‬قَالُـواْ وَجَ د‪ c‬نَا‪d‬‬ ‫وَ قَـو‪ c‬مِهِ\ مَا هَ ^ ِذهِ ‪e‬لتَّـمَاث ُ‬
‫َال ب ‪َc‬ل فَعَلَهُ‪ /‬كَبِيُهُ م‪c‬‬ ‫‪c‬ت هَ ^ذَ ا بِ‪َE‬الِهَتِنَـا يَ^‪d‬إِب‪c‬رَ ^هِيمُ ‪ 62#‬ق َ‬ ‫َنت فَعَل َ‬
‫قَالُو‪ d‬اْ ءَأ َ‬ ‫َال لَقَـد‪ c‬كُنـتُم‪ c‬أَنتُم‪ c‬وَ ءَابَـا‪d‬ؤُ كُم‪ c‬فِى َضلَ^لٍ‬ ‫ءَابَـا‪d‬ءَنَا لَهَـا عَ ^بِدِيـنَ ‪ 53#‬ق َ‬
‫هَ ^ذَ ا ف ‪َc‬س‪َE‬لُوهُ م‪ c‬إِن كَانُواْ يَنطِ قُونَ‪ 63#‬فَرَجَ عُو‪ d‬اْ إِلَى‪ d‬أَنفُسِ هِم‪ c‬فَقَالُو‪ d‬اْ إِنَّكُ م‪c‬‬ ‫َال بَل رهَّ بُّكُ م‪c‬‬
‫َنت مِنَ ‪e‬للاَّ^عِبِنيَ ‪ 55#‬ق َ‬
‫مُّبِنيٍ ‪ 54#‬قَالُو‪ d‬اْ أَجِ ئ‪c‬تَنَـا بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق أَم‪ c‬أ َ‬
‫لءِ‬ ‫‪c‬ت مَا هَ ^‪d‬ؤُ َ ‪d‬‬ ‫أَنتُمُ ‪e‬لظاَّ^لِمُـونَ‪ 64#‬ثُمهَّ نُكِ ُسـواْ عَ لَى رُ ءُوسِ هِم‪ c‬لَقَـد‪ c‬عَ لِم َ‬ ‫َر‪c‬ض ‪e‬لاَّــذِي فَطَــرَهُ نهَّ وَ أَنَـا‪ F‬عَ لَـى ذَ^لِكُ ـم مِّنَ‬ ‫وَ‪e‬ل ِ‬ ‫^ت ‪c‬‬ ‫‪e‬لـسمَ^وَ ِ‬ ‫رَب هَّ‬
‫ُّ‬
‫وَل‬ ‫‪e‬لل مَـا َل يَنفَعُـكُ م‪ c‬شَ ي‪ًEc‬ا َ‬ ‫َـال أَفَتَع‪c‬بُـدُ و َن مِن دُونِ هَّ ِ‬ ‫يَـنطِ قُـونَ‪ 65#‬ق َ‬ ‫لكِـيدَ َّن أ ‪َc‬صنَ^مَكُ م بَع‪c‬دَ أَن تُـوَ لُّواْ مُـد‪ c‬بِرِينَ ‪57#‬‬‫َ‪e‬لل َ َ‬
‫‪e‬لـشَّ ^هِدِينَ ‪ 56#‬وَ ت هَّ ِ‬
‫‪e‬لل أَف ََل تَع‪c‬قِلُونَ)‪.‬‬‫ي َُضرُّ كُم‪ 66# c‬أُفٍّ لاَّكُ م‪ c‬وَ لِمَا تَع‪c‬بُدُ و َن مِن دُونِ هَّ ِ>‬ ‫ف ََجعَـلَهُم‪ c‬جُ ذَ ^ذًا إ اَِّل كَبِيًا لاَّهُم‪ c‬لَعَلاَّهُم‪ c‬إِلَي‪c‬هِ يَـر‪c‬جِ عُونَ‪ 58#‬قَالُواْ مَن فَع ََل‬
‫قص احلق‬ ‫‪96‬‬

‫ويتأكـد هذا االستنتاج أكثر عـند ربط العقل باحلواس‪ .‬فالقـرآن يأخذ من هذا الربـط موقفاً واضحاً برفض‬
‫اجلهل بسبب قفـل منافذه احلـسية كام يف قـوله تعاىل‪( :‬وَ مَث َُل ‪e‬لاَّـذِينَ كَفَرُ واْ كَمَثَلِ ‪e‬لاَّذِي يَـن‪c‬ع ُِق بِمَا َل ي ‪َc‬سمَعُ إ اَِّل دُعَ ا‪d‬ءً‬
‫(صمٌّ بُك‪ c‬مٌ عُ م‪c‬ىٌ ) بأنه غلق ملنافذ‬
‫وَ نِدَ ا‪d‬ءً ُصمٌّ بُك‪ c‬مٌ عُ م‪c‬ىٌ فَهُم‪َ c‬ل يَع‪c‬قِلُونَ)‪ .‬فإن كـانت الفاء سببية فهي تفرس معنـى ُ‬
‫‪e‬لصمُّ ‪e‬ل‪c‬بُك‪ c‬مُ ‪e‬لاَّذِينَ‬
‫‪e‬لل ُّ‬
‫‪d‬ب عِ ندَ هَّ ِ‬
‫املعرفة‪ ،‬وهذا هو اجلهل الـذي تم تشبيهه بالدواب كام يف قوله تعـاىل‪( :‬إِ َّن شَ رهَّ ‪e‬لدَّ وَ ا ِّ‬
‫َل يَع‪c‬قِلُونَ)؛ فربغم أن احليوان يسمع ويرى إال أنه ال يفقه‪ ،‬فام هي قيمة احلواس إن مل حيركها العقل يف البحث عن‬
‫ِيل)‪ .‬بل‬
‫َ‪e‬لن‪c‬عَ^مِ ب ‪َc‬ل هُ م‪ c‬أ ََض ُّل َسب ً‬
‫‪c‬ثهُ م‪ c‬ي ‪َc‬سمَعُو َن أَو‪ c‬يَع‪c‬قِلُو َن إِ ‪c‬ن هُ م‪ c‬إ اَِّل ك ‪َ c‬‬
‫ب أَ َّن أَك َ َ‬
‫احلقيقة‪ .‬تدبر قوله تعـاىل‪( :‬أَم‪ c‬تَح‪َ c‬س ُ‬
‫إن القرآن يصف من ال يبحثون عن احلقيقة بإعامل عقوهلم باملوتى‪ ،‬وكأن الفرق بني احلياة واملوت هو حتريك العقل‬
‫‪e‬لصمهَّ ‪e‬لدُّ عَ ا‪d‬ءَ إِذَا وَ لاَّـو‪ c‬اْ مُد‪ c‬بِرِينَ )‪ .‬وما يؤكد‬
‫وَل ت ‪ُc‬سمِعُ ُّ‬
‫ُـسمِعُ ‪e‬ل‪c‬مَو‪ c‬تَى َ‬
‫َّك َل ت ‪c‬‬
‫بتشغيل احلواس كـام يف قوله تعاىل‪( :‬فَإِن َ‬
‫هذا املعنى هو ظهور أمهية حتريك العقل مـن خالل احلواس يف نعي الكفار ألنفسهم حترس ًا يوم القيامة كام يف قوله‬
‫‪e‬لسعِيِ)‪ .‬أي أن أمهية احلواس تكمـن يف ارتباطها بالعقل‪.‬‬
‫^ب هَّ‬
‫تعـاىل‪( :‬وَ قَالُواْ لَو‪ c‬كُنَّا ن ‪َc‬سمَعُ أَو‪ c‬نَع‪c‬ق ُِل مَـا كُنَّا فِى‪ d‬أ ‪َc‬صحَ ِ‬
‫فهي أدوات التـأمل املوصل للحـقيقة التـي يستنبـطها العقل كام يف قـوله تعاىل‪( :‬وَ فِـى‪ d‬أَنفُسِ كُ م‪ c‬أَف ََل تُب ِ‪c‬صرُ ونَ)‪ ،‬ويف‬
‫َر‪c‬ض‬
‫ـوق ‪e‬ل‪c‬مَا‪d‬ءَ إِلَى ‪ec‬ل ِ‬
‫َر‪c‬ض)؛ ويف قـوله تعاىل‪( :‬أَوَ لَـم‪ c‬يَرَ و‪ c‬اْ أَنَّا ن َُس ُ‬
‫وَ‪e‬ل ِ‬
‫^ت ‪c‬‬
‫‪e‬لسمَ^وَ ِ‬
‫قولـه تعاىل‪(b :‬قُلِ ‪e‬نظُـرُ واْ مَاذَا فِى هَّ‬
‫‪58‬‬
‫‪e‬ل ُ‪c‬جرُ زِ فَنُخ‪ c‬رِجُ بِهِ\ زَ ر‪c‬عً ا تَأ‪c‬ك ُُل مِن‪c‬هُ أَن‪c‬عَ^مُهُم‪ c‬وَ أَنف ُُسهُم‪ c‬أَف ََل يُب ِ‪c‬صرُ ونَ)‪.‬‬

‫‪e‬لل قِيَ^مًا وَ قُعُودًا‬


‫وهنـاك لفظ آخر جيمع النـظر والتأمل‪ ،‬وهـو التفكر كام يف قـوله تعاىل‪e( :‬لاَّذِيـنَ يَذ‪ c‬كُرُ و َن هَّ َ‬
‫اب ‪e‬لنَّارِ)؛‬
‫َك فَقِنَـا عَ ذَ َ‬
‫‪c‬ت هَ ^ذَ ا بَ^طِ ًل ُسب‪c‬حَ ^ن َ‬
‫َر‪c‬ض رَ بهَّنَا مَـا خَ لَق َ‬
‫وَ‪e‬ل ِ‬
‫^ت ‪c‬‬
‫‪e‬لـسمَ^وَ ِ‬
‫وَعَ لَـى جُ نُوبِهِـم‪ c‬وَ يَتَفَكَّ رُ و َن فِى خَ ل‪c‬قِ هَّ‬
‫َر‪c‬ض وَ مَا بَي‪c‬نَهُمَا‪ d‬إ اَِّل بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق وَ أَجَ لٍ م َُّسمًّى‬
‫وَ‪e‬ل َ‬
‫^ت ‪c‬‬
‫‪e‬لسمَ^وَ ِ‬
‫‪e‬لل هَّ‬
‫وكام يف قوله تعاىل‪( :‬أَوَ لَـم‪ c‬يَتَفَكَّ رُ واْ فِى‪ d‬أَنفُسِ هِم مهَّا خَ ل ََق هَّ ُ‬
‫َر‪c‬ض وَجَ ع ََل فِـيهَا رَ وَ ^سِ ىَ‬
‫َّـاس بِلِقَا‪d‬ئِ رَ بِّهِـم‪ c‬لَكَ ^فِرُ ونَ)؛ وكام يف قـوله تعـاىل‪( :‬وَهُ وَ ‪e‬لاَّـذِي مَدَّ ‪ec‬ل َ‬
‫وَ إِ َّن كَثِيًا مِّنَ ‪e‬لن ِ‬
‫َ^ت لِّقَو‪ c‬مٍ يَتَفَكَّ رُ ونَ)؛ وكام يف‬
‫ِك َ َلي ٍ‬
‫َني يُغ‪c‬شِ ى ‪e‬لاَّي َ‪c‬ل ‪e‬لنَّـهَارَ إِ َّن فِى ذَ^ل َ‬
‫ني ‪e‬ث‪c‬ن ‪ِ c‬‬
‫^ت جَ ع ََل فِيهَا زَ و‪c‬جَ ‪ِ c‬‬
‫وَ أَن‪c‬هَ^رًا وَ مِن ك ّ ُِل ‪e‬لثَّـمَرَ ِ‬
‫ِك َ َليَـةً لِّقَـو‪ c‬مٍ‬
‫^ت إِ َّن فِى ذَ^ل َ‬
‫ُـل ‪e‬لثَّمَـرَ ِ‬
‫َ^ب وَ مِن ك ّ ِ‬
‫وَ‪e‬لَع‪ c‬ن َ‬
‫ـيل ‪c‬‬
‫ِـت لَكُ م بِهِ ‪e‬لـزَّ ر‪ c‬عَ وَ‪e‬لـزَّ ي‪c‬تُـو َن وَ‪e‬لنَّخِ َ‬
‫قــوله تعــاىل‪( :‬يُن‪c‬ب ُ‬
‫يَتَفَكَّ رُ ونَ)‪ .‬وهناك آيـات أخرى عن النـوم والنحل واملودة بـني األزواج ونحوها مـن إبداعات اهلل احلقـة التي تدفع‬
‫‪59‬‬
‫الفرد للتفكر للوصول إىل احلقيقة‪.‬‬

‫ومن اآليات الـتي تتصل بـالبحث عن احلقـيقة أيضـاً بإعامل العقـل اآليات التي تـشيد بـأويل األلباب كام يف‬
‫َر‪c‬ض ثُمهَّ يُخ‪ c‬رِجُ بِهِ\ زَ ر‪c‬عً ـا مُّخ‪ c‬تَلِفًا أَل‪c‬وَ ^نُهُ‪ /‬ثُمهَّ‬
‫َـسلَكَ هُ‪ /‬يَنَ^بِيعَ فِى ‪ec‬ل ِ‬
‫‪e‬لـسمَا‪d‬ءِ مَا‪d‬ءً ف َ‬
‫‪e‬لل أَنزَ َل مِنَ هَّ‬
‫قـوله تعاىل‪( :‬أَلَـم‪ c‬تَرَ أَ َّن هَّ َ‬
‫َ^ب)‪ .‬ويف قـوله تعــاىل‪( :‬هُ وَ ‪e‬لاَّـذِي‪ d‬أَنزَ َل‬
‫‪e‬لل‪c‬ب ِ‬
‫ِـك لَ ِذك‪c‬رَ ى ِلُوْ لِى ‪َ c‬‬
‫َتىهُ م ‪ُc‬صفَـرًّ ا ثُمهَّ ي ‪َc‬جعَلُهُ‪ /‬حُ ـطَ^مًا إِ َّن فِى ذَ^ل َ‬
‫يَـهِيجُ ف َ َ‬
‫َ^ت فَأَمهَّا ‪e‬لاَّذِينَ فِى قُلُـوبِهِم‪ c‬زَ ي‪c‬غٌ فَيَتَّبِعُو َن مَا تَشَ ^بَهَ‬
‫َ^ب وَ أُخَ ـرُ مُتَشَ ^بِه ٌ‬
‫َ^ت هُ نهَّ أُمُّ ‪e‬ل‪c‬كِ ت ِ‬
‫َ^ت مُّح‪ c‬كَ م ٌ‬
‫َ^ب مِن‪c‬هُ ءَاي ٌ‬
‫‪c‬ك ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫عَ لَي َ‬
‫‪e‬لل وَ‪e‬لرهَّ ^سِ خُ ـو َن فِى ‪e‬ل‪c‬عِل‪c‬مِ يَقُولُو َن ءَامَنَّـا بِهِ\ ك ٌُّل مِّن‪ c‬عِ ن ِد رَ بِّنَا‬
‫مِن‪c‬هُ ‪e‬ب‪c‬تِغَـا‪d‬ءَ ‪e‬ل‪c‬فِت‪c‬نَةِ وَ‪e‬ب‪c‬تِغَا‪d‬ءَ تَأ‪c‬وِيلِـهِ\ وَ مَا يَع‪c‬لَمُ تَأ‪c‬وِيلَهُ‪ /d‬إ اَِّل هَّ ُ‬
‫َ^ب)‪ .‬فمن هم أولوا األلـباب؟ إهنم القانتون الذين بإعامل عقوهلم أيقنوا بوعد اهلل وحيذرون‬
‫‪e‬لل‪c‬ب ِ‬
‫ِل أُوْ لُواْ ‪َ c‬‬
‫وَ مَا يَذاَّ كَّرُ إ اَّ ‪d‬‬
‫‪e‬لخِ ـرَ ةَ وَ يَر‪c‬جُ ـواْ رَح‪ c‬مَةَ رَ بِّهِ\ ق ‪ُc‬ل هَ ‪c‬ل‬
‫ِت ءَانَا‪d‬ءَ ‪e‬لاَّي‪c‬لِ َسـاجِ دً ا وَ قَـا‪d‬ئِمًا يَح‪ c‬ذَ رُ ‪َ c‬‬
‫اآلخـرة كام يف قـوله تعـاىل‪( :‬أَمهَّن‪ c‬هُ ـوَ قَ^ن ٌ‬
‫َ^ب)‪ .‬فقولـه‪( :‬إِنَّمَا) هـنا هـي للحرص عىل أن‬
‫‪e‬لل‪c‬ب ِ‬
‫ي ‪َc‬ستَـوِي ‪e‬لاَّذِينَ يَع‪c‬لَـمُو َن وَ‪e‬لاَّذِيـنَ َل يَع‪c‬لَمُو َن إِنَّمَـا يَتَذَ كَّـرُ أُوْ لُواْ ‪َ c‬‬
‫التـذكر هـو صفة من أيقـن فأصبح من الـراسخني يف العلم لـذلك فهو مـن أويل األلباب‪ .‬أي أن مجيع هـذه التأمالت‬
‫وال ّتبرصات والـتفكرات بـاستخـدام احلواس بـتحريـك العقل البد وأن تـؤدي إىل حقيقـة واحدة كام يف قـوله تعاىل‪:‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫َني لَهُم‪ c‬أَنَّهُ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق)‪ 60.‬أي أنـنا إن أعملنـا حواسنـا وتأملنـا وعقلنا‬
‫‪e‬لفَاقِ وَ فِى‪ d‬أَنفُسِ هِـم‪ c‬حَ تَّى يَتَب هَّ َ‬
‫(س ُنِيهِم‪ c‬ءَايَ^تِنَـا فِى ‪َ c‬‬
‫َ‬
‫سيتبني لنا احلق (وهذا استنتاج مهم)‪ .‬ملاذا؟‬

‫فتاوت‪b‬اعلقل‬
‫اآلن لنربط االستنتاج السابق (أي أن الدور األهم للعقل يف اإلسالم هو البحث عن احلقيقة)‪ ،‬مع ما ذكرناه‬
‫مـن أن مادة ‪X‬عقل‪ Z‬مل ُتذكـر يف القرآن إال بصيغـة الفعل (امللحوظـة الثانيـة)‪ .‬ولعل هنا إشـارة‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬من عدم‬
‫ذكر القـرآن الكريـم للعقل بصـيغة االسـم إىل أنه قد ال يـوجد عقل كـكيان قـط‪ ،‬بل فقط كـأداة‪ .‬ومما يعـزز هذا‬
‫االسـتنتاج امللحـوظة األوىل التـي ذكرهتا سـابقاً من عـدم ظهور االسم‪X :‬العقل‪ Z‬يف القـرآن الكريم‪ ،‬بـل مرادفات له‬
‫مثل احلكـمة والرشد‪ .‬كـيف؟ لنبدأ هبذا الـسؤال‪ :‬هل هناك عقـل أم ال؟ إن كان هناك عقل‪ ،‬فعقل مـن هو؟ وما هذا‬
‫السؤال إال ألن العقول البد وأن ختتلف‪ .‬فام هو معقول لك قد ال يكون معقوالً آلخر‪ .‬لذلك فلن يكون هناك اتفاق‬
‫بني الناس عىل العقل‪ ،‬ألن العقل ليس كاحلقيقة التي ‪X‬قد‪ Z‬يتفق عليها الناس‪ ،‬بل هو متفاوت من إنسان آلخر‪ .‬وهنا‬
‫البد يل من بعض األدلـة ألثبت لك أخي القارئ أن العـقل يشء متفاوت‪ ،‬وهذه مـسألة مهمـة ذلك ألنني إن أثبت أن‬
‫العقل متفاوت فهـذا يعني أن العقل كأداة مـتفاوت يف أدائه من إنسـان آلخر‪ ،‬أي أن مجيع العقـول قارصة‪ ،‬وال وجود‬
‫للعقل الكامل لدى البرش‪ .‬فكلام ارتقى العقل مرتبة ظهر قصور املرتبة التي قبلها‪ ،‬وهكذا من مراتب قارصة بعضها‬
‫فوق بعض‪ .‬لذلك سأتقصى فكرة تفاوت العقل يف بعض األحاديث أوالً ثم يف أقوال بعض العلامء ثانياً‪:‬‬

‫بالنـسبة لتفاوت العقل يف احلديث‪ ،‬فمن املالحظ أن استخـدام مادة العقل يف األحاديث تشري بوضوح إىل أن‬
‫العقل يشء يمكن قسمته أو تضعيفه أو ما إىل ذلك من نعوت تشري إىل عدم كامله‪ ،‬وأن الكامل هدف قد ال ُيتوصل‬
‫إليه‪ .‬فـهناك بـاب يف صحيح الـبخاري بـعنوان‪X :‬بـاب من رد أمر الـسفيه والضعـيف العقل وإن مل يكن حجـر عليه‬
‫اإلمـام‪ .Z‬فمن هـذا العـنوان تـلحظ من عـبارة ‪X‬والـضعيف العقل‪ ،Z‬أن هـناك عـقل ضعيف وعقل أقـوى منه‪ .‬أي أن‬
‫العقل عرضة للتغري من الضعف للقوة‪ .‬ومن مراجعـة بعض األحاديث ستلحظ برسعة بأن تفاوت العقل من الضعف‬
‫للقوة بني النـاس هو من مصدرين‪ ،‬إما ذايت‪ ،‬كأن يكـون اإلنسان مولود ًا به‪ ،‬كأن يكـون متخلفاً عقلياً‪ ،‬وهذا خارج‬
‫ال أن عمـر ريض اهلل عنه قال‪X :‬أما‬
‫دائرة بحثنـا‪ ،‬أو أنه يشء يكتسبه اإلنسـان من ترصفاته‪ .‬ففـي صحيح البخاري مث ً‬
‫بعد أهيا الناس‪ ،‬إنه نزل حتريم اخلمر وهي من مخسة‪ :‬من العـنب والتمر والعسل واحلنطة والشعري‪ ،‬واخلمر ما خامر‬
‫العقل‪ .Z‬أي أن رشب املسكـر سيخامـر العقل ويؤثـر عليه‪ .‬ففي تفـسري الطـربي‪X :‬واخلمر كل رشاب خـامر العقل‬
‫فسرته وغطـى عليه‪ ،‬وهو من قـول القائل مخرت اإلنـاء إذا غطيته ومخر الـرجل إذا دخل يف اخلمر‪ 61.Z‬وكـذلك النوم‬
‫ال‪X :‬كـل من نام بزوال العقل وجب عليه الوضوء سواء‬
‫فإنه ُيذهـب العقل كام هو معلوم‪ .‬ففي صحيح ابن حبان مث ً‬
‫اختلفت أحـواله أو اتفقت ألن العلـة فيه زوال العقل ال تغـري األحوال علـيه ‪ .Z...‬وبالـطبع فكل مـا سبق من تـأثر‬
‫العقل أمر معلـوم بالبدهية ألهنا متغريات ملمـوسة تؤثر يف العقل‪ .‬لكن هناك تـرصفات تؤثر يف العقل مل يكن يعلمها‬
‫النـاس مثل احلجامـة‪ .‬فقد جاء يف املـستدرك عىل الصحـيحني عن نافع عن بـن عمر ريض اهلل عنهام قـال نافع‪ :‬قال يل‬
‫ابن عمـر‪X :‬أبغني حجامـاً ال يكون غالماً صـغري ًا وال شيخاً كبري ًا فـإن الدم قد تـبيغ يب‪ ،‬وإين سمعت رسول اهلل صىل‬
‫قص احلق‬ ‫‪98‬‬

‫اهلل عليه وسلم يقول‪{ :‬احلجـامة تزيد يف العقل وتزيد يف احلفظ‪ ،‬فعىل اسم اهلل يوم اخلميس‪ ،‬ال حتتجموا يوم اجلمعة‬
‫وال يوم السبت وال يـوم األحد‪ ،‬واحتجموا يوم اإلثنني والثالثاء‪ ،‬وما نزل جذام وال برص إال يف ليلة األربعاء}‪ .‬وقال‬
‫احلـاكم معلقـاً عىل احلديـث‪X :‬رواة هذا احلـديث كلهـم ثقات إال غـزال بن حممـد فإنه جمهـول ال أعرفه بعـدالة وال‬
‫‪62‬‬
‫جرح‪ ،‬وقد صح احلديث عن ابن عمر ريض اهلل عنهام من قوله من غري سند وال متصل‪.Z‬‬

‫باإلضافـة ملا سبق من تـدخالت مادية تـؤثر يف العقل‪ ،‬فهنـاك من األحاديث الـضعيفة ما حتـاول حث الناس‬
‫للترصف بـطريقة معينة لزيادة عقـوهلم‪ .‬فقد جاء يف سنن البيهقي الكربى عن سـعيد بن املسيب أنه قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلـم‪X :‬رأس العقل بعد اإليـامن باهلل التـودد إىل الناس‪ ،‬ومـا يسـتغني رجل عن مـشورة‪ ،‬وإن أهل‬
‫املعروف يف الـدنيا هـم أهل املعروف يف اآلخـرة‪ ،‬وإن أهل املنكـر يف الدنـيا هم أهـل املنكر يف اآلخـرة‪ .Z‬فمن مثل‬
‫هـذه األحاديـث الضعيفـة‪ 63‬يستـشف اإلنسـان أن يف زيادة التـودد إىل الناس ومـشورهتم زيـادة للعقـل‪ .‬وألن التودد‬
‫بناء عىل مهـة الفرد‪ ،‬فكـذلك العقل بالـتايل سيـزيد وينقـص‪ .‬وهناك عـدة أحاديث بـألفاظ‬
‫واملـشورة تـزيد وتنقـص ً‬
‫ضعف كـاحلديث الـذي جاء يف ‪X‬شـعب اإليامن‪ Z‬عن سعـيد بن‬
‫ال ما ُ‬
‫خمـتلفة تـدور حول نفـس هذا املـعنى مـنها مـث ً‬
‫املسـيب عن أيب هـريـرة أنه قـال‪X :‬قـال رسـول اهلل صـىل اهلل عليه وسلـم‪X :‬رأس العقل بعـد اإليامن بـاهلل التـودد إىل‬
‫الناس‪ .Z‬يف هذا اإلسناد ضـعف‪ .Z‬ومنها ما جاء يف فتح الباري‪X :‬وحـديث أيب هريرة‪X :‬رأس العقل بعد اإليامن باهلل‬
‫‪64‬‬
‫مداراة الناس‪ Z‬أخرجه البزار بسند ضعيف‪.Z‬‬

‫ولعلك تتـساءل‪ :‬ملاذ أرسد هذه األحاديث تباعـاً (برغم أهنا ُ‬


‫ضعفت) ألثبت مسألـة تبدو بدهيية‪ ،‬فالكل يعلم‬
‫أن العقل متفاوت؟ فـأقول‪ :‬إين أفعل ذلك حتى تـتيقن أن مسألـة التفاوت يف العقل وبـالتايل رضورة قصـوره كان أمر ًا‬
‫شائع ًا ومقـبوالً يف الفكر اإلسـالمي لدرجة أنه مل حيـاول إال قلة متجيـده ورفع شأنه لريتقـي ملستوى ينـاطح الرشيعة‬
‫(وسيأيت دحـض أقواهلم بإذن اهلل)؛ ألن يف متجـيد العقل خطورة كـبرية عىل اإلسالم ألنه سيؤدي إىل الثقـة به وبالتايل‬
‫وضعه يف مـكانة متكنه من مـساءلة نيص القـرآن واحلديث‪ ،‬أو حتى العلـو عىل النص كام حياول العلامنـيون باستثامر‬
‫مثل هـذه األحاديث حتى وإن كانت غري صحيحة بإخراجها من معنـاها املقيدة به‪ .‬فكان البد من جذ هذه املسألة‬
‫من جـذورها خلـطورهتـا‪ .‬فمن هـذه األحاديـث الضعيفـة أيضـاً التـي يستـشف منهـا الفرد تفـاوت العقل مـا أخرجه‬
‫الـديلمي عـن أنس ريض اهلل عنه قـال‪X :‬قال رسـول اهلل صىل اهلل عليه وسلـم‪ :‬التدبـري نصف املعيـشة‪ ،‬والتـودد نصف‬
‫العقل‪ ،‬واهلم نصف اهلـرم‪ ،‬وقلة العيال أحـد اليساريـن‪ 65.Z‬هنا نرى أن العقل قـد قُسم وأن األجزاء املقسـومة قابلة‬
‫ال كان يف عقدته ضعف‪ ،‬وكان يبايع وأن‬
‫للتحسني إشارة إىل قصور العـقل‪ .‬وأخري ًا ما رواه الرتمذي ‪X‬عن أنس أن رج ً‬
‫أهله أتوا النبي صىل اهلل عليه وسلم فقالـوا‪ :‬يا رسول اهلل احجر عليه‪ .‬فدعاه نبي اهلل صىل اهلل عليه وسلم فنهاه فقال‪:‬‬
‫يا رسول اهلل إين ال أصرب عن الـبيع‪ .‬فقال‪{ :‬إذا بايعت فقل هـاء وهاء وال خالبة}‪ 66.Z‬والشـاهد من هذه األحاديث‬
‫وغريها أن تفاوت العقل كـان أمر ًا معروفاً عند املسلمني وأهنم مل حياولوا قط تصور وضع يكون فيه العقل مكتم ً‬
‫ال‪.‬‬
‫حتى احلديث الـذي رواه البخاري عن أيب موسـى ريض اهلل عنه والذي قال فيه‪ :‬قـال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫{كمل من الرجـال كثري‪ ،‬ومل يكمل من النـساء إال آسية امـرأة فرعون‪ ،‬ومريـم بنت عمران‪ ،‬وإن فضـل عائشة عىل‬
‫النسـاء كفضل الثـريد عىل سـائر الطـعام}‪ 67،‬فال يشـري احلديث إىل العقل فـقط‪ ،‬بل إىل الفرد وكـامل عبادته وكامل‬
‫تعامله مع اآلخرين وما إىل ذلك‪ .‬وستتأكد هذه املسألة أكثر بعد املرور عىل املزيد من األحاديث بإذنه تعاىل‪.‬‬
‫‪99‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫اآلن سنـمر عىل بعـض أقوال الفقهـاء عن العقل‪ .‬ولعل قـراءهتا سـتكون مملـة بعض الـيشء‪ ،‬إال أنني وضعـتها‬
‫لـتأكـيد نفـس النقطـة‪ ،‬أال وهي أن شيـوع فكـرة نقصـان العقـل كان العـرف السـائد فـكريـاً بني العلـامء‪ ،‬وأن هلذا‬
‫النقصان زيادة قد تأيت من خالل بعض السلوكيات أو القناعات‪( .‬هلذا فبإمكانك قفزها أخي القارئ للعنوان القادم‪:‬‬
‫‪X‬احلق‪ .)Z‬وقد رتبتهـا دون تعليق عليهـا‪ ،‬ولكن بقليل من التـأمل باستـطاعتك أخي القـارئ الوصول الستـنتاجك عن‬
‫علـة اعتبار العقل قـارص ًا‪ :‬جاء يف الزهـد البن املبارك أن ابن أنعم قـال‪ X:‬لكل يشء آفة تفسـده‪ :‬فآفة العبـادة الرياء‪،‬‬
‫وآفة احللم الـذل‪ ،‬وآفة احلياء الـضعف‪ ،‬وآفة العلم الـنسيان‪ ،‬وآفـة العقل العجب بنفـسه‪ ،‬وآفة احلكمـة الفحش‪ ،‬وآفة‬
‫اللب الصلف‪ ،‬وآفـة القصـد الشح‪ ،‬وآفـة الزمـانة الـكرب‪ ،‬وآفة اجلـود التبـذير‪ .Z‬وجـاء يف شعب اإليامن أن حمـمد بن‬
‫األشعث الكـندي قـال‪X :‬إن لكل يشء دولـة‪ ،‬حتـى إن للحمق عىل العـقل دولة‪ ،‬قـال البيهقـي رمحه اهلل‪ :‬الدولـة ملن‬
‫َّاس)‪ .Z‬وقال أمحد بن عاصم األنطاكي‪X :‬أنفع‬
‫َني ‪e‬لن ِ‬
‫‪e‬ليهَّامُ نُدَ اوِلُهَا ب ‪َ c‬‬
‫‪c‬ك ‪َ c‬‬
‫وافقه القضاء والتقدير‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪( :‬وَ تِل َ‬
‫العقل ما عـرفك نعم اهلل عليك وأعـانك عىل شكرهـا وقام بخالف اهلـوى‪ .Z‬وعن عروة بـن زبري قال‪ :‬قـيل لقس بن‬
‫ساعدة‪X :‬ما العقل؟ قال‪ :‬معـرفة االنسان نفسه‪ .‬قيل‪ :‬فام أفضل العلم؟ قال‪ :‬وقوف املرء عند علمه‪ .Z‬وعن احلكم بن‬
‫عـبد الـرمحن قـال‪X :‬كانـت العرب تقـول‪ :‬العقل الـتجارب‪ ،‬واحلـزم سوء الـظن‪ .Z‬وعن بـن شبيب قـال‪X :‬سئل بعض‬
‫اخللفـاء‪ :‬أي يشء يؤيـد العقل؟ وأي يشء أشـد به إرضارا؟ قال‪ :‬أمـا أشده تـأييـد ًا فمشـاورة العلـامء وجتربـة األمور‬
‫وحـسن التثبت‪ ،‬وأشـد به إرضار ًا فاالسـتبداد والتهـاون والعجلة‪ .Z‬وقـال أبو بـكر بن عيـاش‪X :‬العقل إمسـاك اللسان‬
‫والتؤدة‪ ،‬واحلـمق ذرب اللسان وشـدة البيان‪ .Z‬وعن حيـيى بن سعيـد عن شعبة أنه قـال‪X :‬من الناس مـن عقله بفنائه‪،‬‬
‫ومنهم مـن عقله معه‪ ،‬ومنهم مـن ال عقل له‪ .‬فأمـا العقل الذي عـقله معه فالـذي يبرص مـا خيرج منه قـبل أن يتكلم‪،‬‬
‫وأما الذي عقله بفنائـه فالذي يبرص ما خيرج منه بعـد ما يتكلم‪ ،‬قال‪ :‬فحدثت به عبـد الرمحن بن مهدي فقال‪ :‬هذه‬
‫صنعتنـا‪ ،‬يعني الـذي عقله بفنـائه‪ .‬واستحـسن الكالم فقـال‪ :‬ليس هـذا من كالم شعبـة‪ ،‬إنه سمعه مـن غريه‪ .Z‬وقال‬
‫عامر بن عبد قيس‪X :‬إذا عقلك عملك عام ال ينبغي فأنت عاقل‪ .Z‬وسئل الرسي عن العقل فقال‪X :‬ما قامت به احلجة‬
‫عىل مـأمور ومـنهى‪ .Z‬وعن الـفضيل بن عيـاض أنه قال‪X :‬كـان السلف يقـولون‪ :‬إن عىل كل يشء زكـاة‪ ،‬وزكاة العقل‬
‫طول احلزن‪ .Z‬وعن حـارث املحابيس أنه قال‪X :‬لـكل يشء جوهر‪ ،‬وجوهـر اإلنسان العقل‪ .‬قيل‪ :‬ومـا جوهر العقل؟‬
‫قـال‪ :‬الصرب‪ .Z‬وعن الـزهري أنه قـال‪X :‬ما عبـد اهلل بمثل العلـم‪ .‬قال‪ :‬وقال أيـوب‪ :‬العقل يف الدين نعـم اليشء هو‪.Z‬‬
‫وعـن األحنف بن قـيس أنه قـال‪X :‬العقل خـري قريـن‪ ،‬واألدب خري مرياث‪ ،‬والتـوفيق خري قـرين‪ .Z‬وجـاء يف جامع‬
‫العلـوم واحلكم‪ :‬وروي عن سـليامن بن عـبدامللـك أنه قال‪X :‬الـصمت منـام العقـل‪ ،‬والنطق يقـظته‪ ،‬وال يتـم حال إال‬
‫بحال‪ .‬يعني ال بد من الصمت والكالم‪ .Z‬وأخري ًا‪ :‬جاء يف نوادر األصول يف أحاديث الرسول صىل اهلل عليه وسلم عن‬
‫عمرو بـن معد يكـرب ريض اهلل عنه قال‪X :‬قـال رسول اهلل صىل اهلل علـيه وسلم‪X :‬عرامـة الصبي يف صغـره زيادة يف‬
‫عقله يف كربه‪ .Z‬العـرم املنكر‪ .‬وصار ذلك من ذكاوة فؤاده وحرارة رأسه والنـاس يتفاضلون يف أصل البنية يف الفطنة‬
‫والكيـاسة واحلظ مـن العقل‪ .‬والعقل عىل رضبني‪ :‬رضب منه يبـرص أمر دنياه‪ ،‬وهـو من نور الروح‪ ،‬وهـو موجود يف‬
‫عامة ولـد آدم عليه السالم‪ ،‬إال من كان فيه خلل أو علة‪ ،‬وبينهم يف ذلك العقل تفاوت عظيم‪ .‬ورضب منه يبرص أمر‬
‫آخـرته وهو من نور اهلـداية والقربـة‪ ،‬وذاك موجود يف املوحـدين مفقود يف املرشكني‪ ،‬وبـني املوحدين يف ذلك العقل‬
‫ال ألن اجلهل ظلمة وعمله عىل القلب‪ ،‬فـإذا غلب النور وبرصه يف تلك الظلمة زالت الظلمة‬
‫تفاوت عظيم‪ ،‬وسمي عق ً‬
‫‪68‬‬
‫وأبرص فصار عقاال للجهل‪.Z‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪100‬‬

‫احلقّ‬
‫واآلن لنحاول الربط بني العقل كأداة وبني احلقيقة املطلقة التي عىل العقل مهمة الوصول إليها‪ :‬استنتجنا من‬
‫ال‪ ،‬فمنهم‬
‫السابق أن العقل متفاوت بني الناس‪ ،‬أي أنه كأي أداة أخرى يستخدمها الناس‪ ،‬أي كاملنشار أو املطرقة مث ً‬
‫من هو مـاهر يف استخدامه ومنهـم من قد ييسء استخدامه‪ .‬فـإن كان كذلك‪ ،‬فإن تم اسـتخدامه كأداة ضد أي نص‬
‫رشعي فالبد وأن خيطئ ال حمالة ألن العقل كأداة ليـس كاحلقيقة التي يتفق عليها الناس ألنه يتفاوت‪ .‬فموعد رشوق‬
‫ال يومياً حقيقة فلكية مستمـرة يتفق عليها مجيع الناس‪ ،‬ودرجة غليان املاء هو ‪ 100‬درجة مئوية‪ ،‬وهكذا‬
‫الشمس مث ً‬
‫من حقائق ال تعـد وال حتصى‪ .‬ولكن الـسؤال هو‪ :‬هل هـذه حقائق بـرغم اتفاق النـاس عليها؟ إن بـاإلمكان تـسمية‬
‫هذه ‪X‬احلقائق‪ Z‬بالظـواهر أو باألحداث أو نحوها من أسامء‪ ،‬إال أهنا ليـست حقائق‪ .‬وهذه الظواهر واألحداث هي‬
‫مـا نبحث عنهـا بعقولنـا عادة ونقرتب مـن إدراكها كلام اسـتخدمنـا عقولنـا كأداة لـتصبح حقيقـة ‪X‬لنا‪ Z‬عنـدما نتفق‬
‫ال أيضـاً‪ .‬فبالبحث العلمي نقـرتب من احلقائق إال أننا لن نـصل إليها‪ .‬هذا ما‬
‫عليـها‪ ،‬إال أهنا ليست حقـيقة وليست عق ً‬
‫الدقة‪ .‬فجـميع األجهزة التي تقيـس املسافات‬
‫أثبته لنـا العلم يف العامل الغريب‪ .‬لـنرضب مثاالً عىل ذلك‪ :‬لنـأخذ مسألـة ِّ‬
‫ذات دقة لـدرجة معينـة‪ .‬فعندما نـرغب يف احلصول عـىل قطعة من النـحاس تبلغ تسعـة سنتيمرتات طـوالً‪ ،‬فسنحصل‬
‫عليها يف إطار توفر األجهزة املتاحة يف ذلك الوقت‪ .‬ولكن هل هي تسعة سنتيمرتات بالضبط‪ .‬كال‪ ،‬ولن نستطيع أن‬
‫ندرك ذلك إال عنـد تطور العلم والتقنية إلجياد جهـاز يقيس املسافات بدقـة أكرب‪ ،‬هي أجزاء امللميرتات‪ .‬فقد تكون‬
‫القطـعة التي لـدينا تـسعة سـنتيمرتات وعـرش املليمرت يف طـوهلا‪ ،‬إال أننـا مل ندرك تلك الـزيادة إال بظهـور أداة تقيس‬
‫أجزاء املليمرتات‪ .‬وحتى هنا‪ ،‬فنحن مل نصل حلقيقة طول القطعة بعد‪ ،‬وعند ظهور جهاز يقيس املسافات بدقة أعىل‬
‫نكـون قد اقـرتبنا أكـثر‪ ،‬وهكـذا نستمـر بالتـدرج إىل أجزاء أصغـر وأصغر حتـى نصل إىل النـانومـرت (أي جزء من‬
‫املليون من امليل مرت) لنقرتب من احلقيقة‪ ،‬ولكننا لن نصل إليها‪ .‬وما هذا إال مثال واحد عىل الدقة‪ ،‬وهناك النظريات‬
‫وما إلـيها من أدوات املعرفـة والعقل‪ .‬فهناك إمجـاع بني فالسفة علم تطـور العلوم ‪ epistemology‬أن النظـريات ما‬
‫هي إال فرضيات من وضع البرش ملحاولـة فهم ما حيدث من حولنا لعلنا نـصل للحقيقة‪ .‬وأن هذه النظريات البد وأن‬
‫ال ألن أية نظـرية لن تستـطيع أن تفرس مجيع الظـواهر الكونيـة املستجدة عىل العلـم‪ ،‬بل فقط تفرس ما‬
‫تتغري مـستقب ً‬
‫ندركه‪ .‬وعنـدما تتـوقف النظـرية عـن تفسري الظـواهر املسـتجدة‪ ،‬ستـأيت نظريـات أخرى لتـستوعب مـا ندركه من‬
‫ظواهر‪ ،‬ويف الوقت ذاته تصمد هذه النظريات لسنني قادمة لتفسري ظواهر أخرى‪ .‬وهكذا فإن كل نظرية ستغطي‬
‫عىل مـا قبلها‪ .‬فقد أتت النظرية النسبية لتفرس ظواهر مل تـستطع نظرية نيوتن تفسريها (كام ذكرنا يف احلديث عن‬
‫ال‪ ،‬بل فقط‬
‫حتميـة العلم يف الفـصل السـابق)‪ ،‬ذلك ألنه مل خيـطر عـىل البرش يف عهـد نيوتـن قياس رسعـة الضـوء مث ً‬
‫رسعة األجسـام املتحركة‪ ،‬فكان البد من نظريـة أخرى تتمكن من ذلك‪ ،‬ثم أتت نظرية الفـيزياء الكمية لتغطي ما‬
‫مل تتمكن النظرية النسبـية من فعله‪ .‬أي أننا لن نصل إىل احلقيقة املطلقـة‪ .‬فإن وافقتني أخي القارئ أننا لن نصل إىل‬
‫احلـقيقة املـطلقة فـامذا عن العقل؟ هل هنـاك عقل مطلق يـستطـيع فرد من الـناس استحـواذه أو حتى الـوصول إليه؟‬
‫بالطـبع فإن اإلجابـة منطقيـاً‪ :‬ال؛ ألن العقل بالنـسبة لنـا أداة‪ ،‬أما احلقيقـة فهي هدف‪ ،‬فـإن عجزنا عـن بلوغ اهلدف‪،‬‬
‫فالبد وأن تكون األداة قارصة‪ .‬أي أن العقل قارص‪ ،‬أي لن يتمكن اإلنسان من استحواذ العقل املطلق‪ ،‬هذا إن وجد‪،‬‬
‫لذلك يبقى السؤال‪ :‬ما هو العقل إذ ًا؟‬
‫‪101‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫مـلحوظـة أخرى‪ :‬حـتى يكـون للعقل وجـود (وليس كـأداة) البد وأن يكـون صحيحـاً‪ ،‬فال يعقل للعقل أن‬
‫يكون خمطئـاً‪ .‬وإن كان صحيحاً فالبد وأن يـكون عق ً‬
‫ال واحد ًا‪ ،‬ألن الصحة ال جتتـمع الثنني يف آن واحد‪ .‬فقد نقول‬
‫بأن زيـد ًا أعقل من عبيـد‪ ،‬ولكن عبيـد ًا أعقل من بكـر‪ ،‬وهكذا‪ .‬وإن كـان عقل واحد هـو الصحيـح‪ ،‬فعقل من هو‬
‫سري ّجح عىل بـاقي العقول؟ هنـا نقف يف حرية ال خمرج منهـا إال باإلجابـة بأن العقل املكتـمل الذي نبحث‬
‫هـذا الذي ُ‬
‫عنه البد وأن يكـون للخالق جل وعال‪ .‬لكـنه سبحانه وتعـاىل مل يستخـدم أي لفظ مشتـق من مادة العقل يف وصف‬
‫أسامء أخـرى تشـري إىل كامل إدراكه وعلمه‬
‫ً‬ ‫نفـسه يف أي من أسامئـه احلسنـى‪ ،‬ولكنه أراد تعـاظمـت أسامؤه لنفـسه‬
‫وإحاطته بكل يشء‪ ،‬مثل العليم واحلكيم واخلبري واملحيط والـواسع‪ .‬والذي أعتقده هو أن كل ما يأيت من اهلل العليم‬
‫احلكيم هو ما يـمكن تصنيفه بأنه يتصف بـالعقل املطلق الذي ال خطأ فيه‪ .‬أمـا ما لدى البرش من موارد لإلدراك فال‬
‫ال مـطلقاً ألهنا غري مكتملة من جهة‪ ،‬وألهنا لن توصل للحقيقة املطلقة من جهة أخرى‪ ،‬بل تقرتب‬
‫يمكن تسميتها عق ً‬
‫منها‪ .‬ونظر ًا هلـذا النقصان‪ ،‬فالبد للعقـل من أن يكون أداة لإلنسان‪ ،‬وليـس كينونة مسـتقلة‪ ،‬بل حتى أنه أداة قارصة‬
‫كام رأيـنا يف تفـاوت العقل‪ .‬وألنه أداة قـارصة فهو سـيخطئ ال حمـالة إن اسـتخدم ضـد النص‪ .‬وألنه ال وجـود للعقل‬
‫املطلق لدى البرش‪ ،‬مل يذكـر بصيغة االسم يف القرآن الكريم‪ .‬أما ما عند اهلل العيل العليم فهو املكتمل والذي يمكن‬
‫أن يتصف بالعقل الكامل أو املطلق‪ .‬لذلك أراد سبحانه وتعاىل له اسام ً آخر (واهلل أعلم) يميزه عام لدى اخللق‪ ،‬نظر ًا‬
‫لكامله وأمهيته‪ ،‬أال وهو ‪X‬احلق‪ .Z‬كيف؟‬

‫ملاذا اختار سبحانه وتعاىل لفظ ‪X‬احلق‪ Z‬للتعـبري عن العقل املطلق الذي ال نقصان فيه؟ هنا يأيت الربط مع ما‬
‫استنتجناه سابقاً‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬من أن دور العقل األهم هو البحث عن احلقيقة‪ .‬فعند البحث عن احلقيقة بإعامل العقل‬
‫(س ُنِيـهِم‪ c‬ءَايَ^تِنَا فِى‬
‫سيصـل البرش إىل حقـيقة واحـدة‪ ،‬أال وهي مـا عرب عـنها القـرآن بـ ‪X‬احلق‪ .Z‬تدبـر قوله تعـاىل‪َ :‬‬
‫َني لَهُم‪ c‬أَنَّهُ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق)‪ .‬ثم تأيت حتت هذه احلقيقة‪ ،‬أو تنبثق منها حقائق أخرى‪ .‬وألن هذه‬
‫‪e‬لفَاقِ وَ فِى‪ d‬أَنفُسِ هِم‪ c‬حَ تَّى يَتَب هَّ َ‬
‫‪َc‬‬
‫احلقائق من اهلل احلي القيوم‪ ،‬وهي لدى اهلل العليم العيل املتعال‪ ،‬فالبد هلا من أن تأتينا كبرش بواسطة الرسل صلوات‬
‫اهلل وسالمه عليهم‪ .‬لـذلك ورد لفظ ‪X‬احلق‪ Z‬يف القـرآن مرار ًا وتكـرار ًا للتـعبري عن الكـامل يف كل ما هـو متصف أو‬
‫متصل بـالعقل (كام سـنوضح بـإذن اهلل)‪ ،‬وورد أيضـاً بصيغ تـدل عىل أنه أمـر ذو اجتاه واحـد بكـونه منـزل من اهلل‬
‫ِك بِأَ َّن هَّ َ‬
‫‪e‬لل‬ ‫سبحانه وتعـاىل خللقه نظر ًا لكـامله وأن علينا القبـول به والعمل به‪ .‬تدبـر اآليات اآلتية‪ :‬قـال تعاىل‪( :‬ذَ^ل َ‬
‫يا لاَّكُ م‪ c‬وَ إِن‬
‫ـول بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق مِن رهَّ بِّكُ م‪ c‬فَ‪َE‬امِنُـواْ خَ ‪ً c‬‬
‫َّـاس قَد‪ c‬جَ ـا‪d‬ءَكُمُ ‪e‬لرهَّ ُس ُ‬
‫َ^ب بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)؛ وقـال تعــاىل‪( :‬يَ^‪d‬أَيُّهَا ‪e‬لن ُ‬
‫نَزَّ َل ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫َ^ب بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق‬
‫‪c‬ك ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫‪e‬لل عَ ـلِيمًا حَ ـكِ يمًا)؛ وقـال تعاىل‪( :‬نَـزَّ َل عَ لَي َ‬
‫َر‪c‬ض وَ كَا َن هَّ ُ‬
‫وَ‪e‬ل ِ‬
‫^ت ‪c‬‬
‫‪e‬لـسمَ^وَ ِ‬
‫لل مَا فِى هَّ‬
‫تَك‪ c‬فُرُ واْ فَـإِ َّن ِ هَّ ِ‬
‫ّك ف ََل تَكُ ـونَنهَّ مِنَ ‪e‬ل‪c‬مُم َ‪c‬تِينَ )‪ ،‬وقال تعاىل‪( :‬فَـأَمهَّا ‪e‬لاَّذِينَ ءَامَنُواْ‬
‫َني يَدَ ي‪c‬ه)؛ وقـال تعاىل‪e( :‬ل‪c‬حَ ُّق مِن رهَّ بِ َ‬
‫م َُصـ ّ ِدقًا لِّمَا ب ‪َ c‬‬
‫‪e‬لل يَه‪c‬دِي لِل‪c‬حَ ّ ِق أَفَمَن‬
‫فَيَع‪c‬لَـمُو َن أَنَّهُ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق مِن رهَّ بِّهِم‪) c‬؛ وقال تعـاىل‪( :‬ق ‪ُc‬ل هَ ‪c‬ل مِن شُ رَ كَا‪d‬ئِـكُ م مهَّن يَه‪c‬دِي‪ d‬إِلَى ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق قُلِ هَّ ُ‬
‫ِل أَن يُه‪c‬دَ ى فَمَا لَكُ م‪ c‬كَي َ‪c‬ف تَح‪ c‬كُ مُونَ)؛ وقال تعـاىل‪( :‬أَفَمَن يَع‪c‬لَمُ أَنَّمَا‪d‬‬
‫يَه‪c‬دِي‪ d‬إِلَى ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق أَحَ ُّق أَن يُتَّبَعَ أَمهَّن اَّل يَهِـ ّ ِدي‪ d‬إ اَّ ‪d‬‬
‫ُك وَهُ وَ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق‬
‫ب بِهِ\ قَو‪ c‬م َ‬
‫َ^ب)؛ وقال تعـاىل‪( :‬وَ كَذاَّ َ‬
‫‪e‬لل‪c‬ب ِ‬
‫ـق كَمَن‪ c‬هُ وَ أَع‪ c‬مَى‪ d‬إِنَّمَا يَـتَذَ كَّرُ أُوْ لُواْ ‪َ c‬‬
‫ّك ‪e‬ل‪c‬حَ ُّ‬
‫‪c‬ك مِن رهَّ بِ َ‬
‫أُنز َِل إِلَي َ‬
‫َ^ب مُف هََّص ًل وَ‪e‬لاَّذِينَ‬
‫‪e‬لل أَب‪c‬تَغِى حَ كَ ـمًا وَهُ وَ ‪e‬لاَّـذِي‪ d‬أَنزَ َل إِلَي‪c‬كُ مُ ‪e‬ل‪c‬كِ ـت َ‬
‫َي هَّ ِ‬
‫ت عَ لَي‪c‬كُ م بِـوَ كِيلٍ )؛ وقال تعـاىل‪( :‬أَفَغ ‪َ c‬‬
‫قُل ل ‪c‬اَّس ُ‬
‫(‪e‬لل ‪e‬لاَّـذِي‪ d‬أَنزَ َل‬
‫هَّ ُ‬ ‫ّك بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق ف ََل تَكُ ـونَنهَّ مِنَ ‪e‬ل‪c‬مُم َ‪c‬تِينَ )؛ وقـال تعـاىل‪:‬‬
‫َ^ب يَع‪c‬لَـمُو َن أَنَّهُ‪ /‬مُنَـزَّ ٌل مِّن رهَّ بِ َ‬
‫ءَاتَي‪c‬نَ^هُمُ ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫َّاس بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق‬
‫َ^ب لِلن ِ‬
‫‪c‬ك ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫ِيب)؛ وقال تعـاىل‪( :‬إِنَّا‪ d‬أَنزَ ل‪c‬نَـا عَ لَي َ‬
‫‪e‬لساعَ ـةَ قَر ٌ‬
‫ِيك لَع ََّل هَّ‬
‫َ^ب بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق وَ‪e‬ل‪c‬مِيزَ ا َن وَ مَـا يُد‪ c‬ر َ‬
‫‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫قص احلق‬ ‫‪102‬‬

‫َنت عَ لَي‪c‬هِم بِوَ كِيلٍ )؛ وقال تعـاىل‪( :‬وَ يَرَ ي ‪e‬لاَّذِينَ أُوتُواْ ‪e‬ل‪c‬عِل‪c‬مَ‬
‫فَم َِن ‪e‬ه‪ c‬تَـدَ ى فَلِنَف‪c‬سِ هِ\ وَ مَن َض َّل فَإِنَّمَا ي َِض ُّل عَ لَي‪c‬هَـا وَ مَا‪ d‬أ َ‬
‫ي‬
‫^ط ‪e‬ل‪c‬عَزِيزِ ‪e‬ل‪c‬حَ مِيدِ)‪ ،‬وهناك آيات أخرى كثرية‪.‬‬
‫ّك هُ وَ ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَ يَه‪c‬دِي‪ d‬إِلَى ِصرَ ِ‬
‫‪c‬ك مِن رهَّ بِ َ‬
‫‪e‬لاَّذِي‪ d‬أُنز َِل إِلَي َ‬

‫كـام أن من املالحظ من اآليـات السـابقة أن اجتـاه احلق فيهـا هو ‪X‬النـزول‪ Z‬من اهلل العيل األعىل املـتعال إىل‬
‫ال يف‬
‫خلـقه نظر ًا لـكامله‪ .‬أما إعـامل العقل البرشي للـوصول إىل احلـقيقة فهـو يف االجتاه املعـاكس‪ ،‬أي من البـرش تأم ً‬
‫آيات الكون لالقرتاب من احلقيقة‪ ،‬فهي عملية ذات اجتاه واحد أيضاً إال أهنا ‪X‬تصاعدية‪ .Z‬لذلك فهي حركة مستمرة‬
‫أبد الـدهر لكل إنسان يـولد‪ ،‬ولذلك أتت‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬بصـيغ الفعل املضارع إشارة لالستمـرارية كقوله تعاىل‪( :‬أَف ََل‬
‫تَع‪c‬قِلُـونَ)‪( ،‬لاَّعَلاَّكُ م‪ c‬تَع‪c‬قِلُونَ)‪( ،‬أَوَ لَم‪ c‬يَتَفَكَّ ـرُ واْ )‪( ،‬يَتَفَكَّ رُ ونَ)‪ .‬واالستثنـاء الوحيد الـذي أتى بصيغـة املايض هو‬
‫قـوله تعاىل يف سورة املـدثر‪( :‬إِنَّهُ‪ /‬فَكَّ رَ وَ قَـدَّ رَ ‪ 18#‬فَقُت َِل كَي َ‪c‬ف قَدَّ رَ )‪ .‬واآلية كام هـو معلوم تصـف حال أحد زعامء‬
‫قريش الذين فـكروا يف ما أتى به الرسـول صىل اهلل عليه وسلم من وحي ثم وصلوا بتقـديرهم إىل أن القرآن الكريم‬
‫(والعيـاذ باهلل) ليس بكالم اهلل‪ .‬والـتفكري يف هذه احلالـة بالطبع ال يـوافق املنطق‪ ،‬بل يوافق هـوى صاحب التفكري‪،‬‬
‫فهـو بذلك تفـكري حيوي سـوء الظن واملكـابرة والتـكذيب‪ .‬لـذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬أتت بـصيغة املـايض للتعبـري عن أمر‬
‫انتهـى منه صـاحبه‪ ،‬فهـو سلبي يف تـفكريه وأذهب عـن نفسه فـرصة جتـديد الـتفكري لـلوصـول إىل احلقيقـة‪ .‬وهذه‬
‫الطريقة يف التفـكري بالطبع تنطبق عىل كل من كذب من البرش‪ .‬فاحلركـة املطلوبة بالفعل املضارع (يَتَفَكَّ رُ ونَ) قد‬
‫توقفت بقوله (فَكَّ رَ )؛ فتأمل‪.‬‬

‫وقـد تسـأل أخي القـارئ‪ :‬لكـن ملاذا ال يـنطبق هـذا التـأويل عىل الـصفات األخـرى مثل الـسميع والـبصري؟‬
‫فالبرش يـسمعون ويتفـاوتون يف السمـع‪ ،‬إال أن اهلل هو السمـيع؛ والناس يتفـاوتون يف البرص‪ ،‬إال أن اهلل هـو البصري‪،‬‬
‫فـلامذا مل يعط اهلل سبحـانه وتعاىل نفـسه اسام ً جيمع له صفـة العقل كام يف السـميع والبصـري والعليم واحلكـيم‪ ،‬كأن‬
‫يكون االسم ‪X‬األعقل‪ Z‬أو ‪X‬العقّيل‪Z‬؟ فـالسميع تعني أن اهلل قد سمع ويسمع وسيسمع كل األصوات التي أطلقت يف‬
‫املايض واحلارض واملستقبل ويف آن واحد‪ .‬فلامذا مل ينطبق هذا عىل العقل؟‬

‫اإلجـابـة واهلل أعلم كـاآليت‪ :‬إن وافـقتنـي أخي القـارئ أن العقل أداة‪ ،‬وأنه غـري مكتـمل إال عنـد اهلل العـليم‬
‫وحـده‪ ،‬أقول لك‪ :‬إن السـمع والبرص واحلكمـة وغريها من الـصفات هي صفـات متفاوتـة ختتلف من فـرد آلخر‪ ،‬أما‬
‫احلق‪ ،‬فهو يشء واحد ال يتفاوت‪ .‬فإما أن يكون حقاً أو باطال‪ ،‬فإن قلنا أن زيد ًا أحق من عبيد‪ ،‬فهذا يعني ضمناً أن‬
‫زيد ًا عىل حق‪ ،‬وأن عبيـد ًا بالتـايل ليس عىل حق‪ .‬وأرجـو التنبه بـأن هذا ال ينطـبق إال عىل احلقوق بني الـبرش‪ ،‬وليس‬
‫عـىل أحكام العـبادات‪ .‬فقـد ختتلـف آراء الفقهاء جتـاه نفس املـسألـة‪ ،‬كتحـديد املـسافـة األقل التي يـباح معهـا قَرص‬
‫ال؛ فقـد يكونون مجيعاً عىل حق‪ ،‬أو قـد يكون أحدهم أحق من اآلخر‪ ،‬ألهنـم اجتهدوا برغم االختالفات‬
‫الصالة مث ً‬

‫رهَّ بِّكُ م‪ c‬فَمَن شَ ا‪d‬ءَ فَل‪c‬يُؤ‪ c‬مِن وَ مَن شَ ا‪d‬ءَ فَل‪c‬يَك‪ c‬فُر‪) P c‬؛ وقال تعاىل يف اآلية ‪252‬‬ ‫ال قـوله تعاىل يف اآلية ‪ 53‬من سورة األعراف‪:‬‬ ‫ي) ومن هذه اآليات مث ً‬
‫َّك لَمِنَ‬
‫‪c‬ك بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق وَ إِن َ‬‫‪e‬لل نَـت‪c‬لُوهَ ا عَ لَي َ‬
‫َ^ت هَّ ِ‬
‫‪c‬ك ءَاي ُ‬ ‫من سـورة البقرة‪( :‬تِل َ‬ ‫ُول ‪e‬لاَّذِيـنَ ن َُسوهُ مِن‬ ‫(هَ ‪c‬ل يَنـظُرُ و َن إ اَِّل تَأ‪c‬وِيلَه ‪ /‬يَـو‪ c‬مَ يَأ‪c‬تِى تَأ‪c‬وِيـلُهُ‪ /‬يَق ُ‬
‫ُـر‪c‬سلِنيَ )؛ وقال تعـاىل يف اآلية ‪ 84‬مـن سورة املـائدة (وَ مَـا لَنَا َل‬ ‫‪e‬ل‪c‬م َ‬ ‫رُس ُل رَ بِّـنَا بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)‪ ،‬وقـوله تعـاىل يف اآليـة ‪ 108‬من‬ ‫َت ُ‬ ‫قَب ُ‪c‬ل قَـد‪ c‬جَ ا‪d‬ء ‪c‬‬
‫ِ‪e‬لل وَ مَـا جَ ا‪d‬ءَنَـا مِنَ ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)؛ وقال تعـاىل يف اآلية ‪ 5‬مـن سورة‬ ‫نُؤ‪ c‬مِنُ ب هَّ ِ‬ ‫ـق مِن رهَّ بِّكُ م‪ c‬فَم َِن‬
‫َّاس قَـد‪ c‬جَ ا‪d‬ءَكُمُ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّ‬
‫سورة يـونس‪( :‬ق ‪ُc‬ل يَ^‪d‬أَيُّهَـا ‪e‬لن ُ‬
‫األنعـام‪( :‬فَقَد‪ c‬كَذاَّ بُواْ بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق لَـمهَّا جَ ا‪d‬ءَهُ م‪) c‬؛ وقال تعاىل يف اآلية ‪ 1‬من‬ ‫‪e‬ه‪ c‬تَدَ ى فَـإِنَّمَا يَه‪c‬تَدِي لِنَف‪c‬سِ هِ\)؛ وقـوله تعاىل يف اآليـة ‪ 105‬من سورة‬
‫َّاس‬
‫‪c‬ث ‪e‬لن ِ‬‫ّك ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق وَ لَ^كِ نهَّ أَك َ َ‬
‫‪c‬ك مِن رهَّ بِ َ‬ ‫سورة الرعـد‪( :‬وَ‪e‬لاَّذِي‪ d‬أُنز َِل إِلَي َ‬ ‫َـشرًا‬
‫َ^ك إ اَِّل مُب ِّ‬‫َر‪c‬سل‪c‬ن َ‬
‫ـق نَزَ َل وَ مَـ ‪d‬ا أ َ‬
‫ـق أَنزَ ل‪c‬نَ^هُ وَ بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِ‬
‫اإلرساء‪( :‬وَ بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِ‬
‫َل يُؤ‪ c‬مِنُونَ)‪.)69( ،‬‬ ‫وَ نَذِيرًا)؛ وقوله تعاىل يف اآلية ‪ 29‬من سورة الكهف‪( :‬وَ قُلِ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق مِن‬
‫‪103‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫بينهم‪ ،‬ومثل هذه املـسائل هي التي فتحت فيه الرشيعة أبـواهبا لالجتهاد (وسيأيت بيانه بـإذن اهلل)‪ .‬أما بالنسبة حلقوق‬
‫اآلدميني‪ ،‬أي مقـصوصة احلـقوق‪ ،‬وألهنا مـتعلقة بحقـوق األفراد‪ ،‬فهنـاك حق واحد إن أتـى به نص‪ .‬وهذا بـالطبع ال‬
‫ينطبق عىل الـصفات األخرى كـاإلبصار‪ .‬فـإن قلنا أن زيـد ًا أبرص من عبيـد‪ ،‬فهذا ال يعني أن عـبيد ًا ال يبرص‪ .‬إال أن‬
‫َص ٌص أو فـعل واحد ثابـت‪ .‬وكل هذا إن أتى‬
‫هـذا ال ينطبق عىل احلق‪ ،‬فـاحلق غري متفاوت‪ ،‬فـهو قول أو مفـهوم أو ق َ‬
‫من عند اهلل بنص فهـو احلق‪ ،‬وما عدا ذلك فهو باطل‪ :‬ومن اآليات اآلتية ستلحظ أن أي حق وضعه اهلل ثم أتى غريه‬
‫ال‪ .‬تدبر قوله تعـاىل‪( :‬وَ ق ‪ُc‬ل جَ ا‪d‬ءَ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق وَ زَ هَ َق ‪e‬ل‪c‬بَ^طِ ُل إِ َّن ‪e‬ل‪c‬بَ^طِ َل كَا َن زَ هُ وقًا)؛‬
‫من عند غري اهلل فالبد وأن يكـون باط ً‬
‫َـصفُونَ)؛ وقوله تعاىل‪( :‬أَم‪c‬‬
‫ِف بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق عَ لَى ‪e‬ل‪c‬بَ^طِ لِ فَيَد‪ c‬مَغُهُ‪ /‬فَـإِذَا هُ وَ زَ اه ٌِق وَ لَكُ مُ ‪e‬ل‪c‬وَ ي ُ‪c‬ل مِمهَّا ت ِ‬
‫وقوله تعـاىل‪( :‬ب ‪َc‬ل نَق‪c‬ذ ُ‬
‫ات‬
‫‪e‬لل ‪e‬ل‪c‬بَ^طِ َل وَ يُحِ ُّق ‪e‬ل‪c‬حَ َّق بِكَ لِمَ^تِهِ‪ \d‬إِنَّهُ‪ /‬عَ لِيمٌ بِذَ ِ‬
‫ِك وَ يَم‪c‬حُ هَّ ُ‬
‫‪e‬لل يَخ‪ c‬تِم‪ c‬عَ لَى قَل‪c‬ب َ‬
‫‪e‬لل كَ ِذبًا فَإِن يَشَ إِ هَّ ُ‬
‫‪c‬ت ى عَ لَى هَّ ِ‬
‫يَقُولُو َن ‪e‬ف َ َ‬
‫َ^ب لِمَ تَل‪c‬ب ُِسو َن ‪e‬ل‪c‬حَ َّق بِ‪e‬ل‪c‬بَ^طِ لِ وَ تَك‪ c‬تُمُو َن ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَ أَنتُم‪ c‬تَع‪c‬لَمُونَ)؛ وقوله تعاىل‪:‬‬
‫‪e‬لصدُ ورِ)؛ وقوله تعاىل‪( :‬يَ^‪d‬أَه‪َ c‬ل ‪e‬ل‪c‬كِ ـت ِ‬
‫ُّ‬
‫(لِيُـحِ َّق ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَ يُب‪c‬طِ َل ‪e‬ل‪c‬بَ^طِ َل وَ لَـو‪ c‬كَـرِهَ ‪e‬ل‪c‬م ‪ُc‬جرِمُـونَ)‪ .‬ومن جهـة أخـرى‪ ،‬فـإن صفـة الـسمـع مث ً‬
‫‪70‬‬
‫ال تـدل عىل أن‬
‫األصوات منترشة‪ ،‬أي مشاعة‪ ،‬وكل فرد يأخذ منها حسب قوة سمعه‪ .‬لذلك تتفاوت املخلوقات يف السمع‪ .‬هذا أسمع‬
‫من ذاك‪ .‬وكـذلك البرص‪ ،‬هذا أبـرص من ذاك‪ ،‬ألن األعيان منتـرشة وكل يرى منها بـمقدار قوة إبصـاره‪ .‬أما احلق فهو‬
‫واحد ومتـى أخذ منع عن اآلخريـن‪ .‬فاألرض املوات املشاعـة متى أخذها فـرد باإلحياء منعـت من آخرين يريدون‬
‫نفس املوقع‪ .‬فاحلق إذ ًا واحد وغري متفاوت‪.‬‬

‫(وَ‪e‬لل يَق ِ‪c‬ضى بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق‬


‫هَّ ُ‬ ‫ويف نفـس السيـاق‪ ،‬فهناك آيـات هلا دالئل تـشري لالستـنتاج الـسابق‪ .‬ففـي قوله تعـاىل‪:‬‬
‫ي)‪ ،‬إشارة إىل أن أي قضاء من عند غري اهلل البد‬
‫‪e‬لسمِيعُ ‪e‬ل‪c‬ب َِص ُ‬
‫‪e‬لل هُ وَ هَّ‬
‫وَ‪e‬لاَّذِينَ يَد‪ c‬عُ و َن مِن دُونِهِ\ َل يَق ُ‪c‬ضو َن بِشَ ى‪ c‬ءٍ إِ َّن هَّ َ‬
‫بو َن فِى‬
‫(سأ ‪َc‬صر ُِف عَ ـن‪ c‬ءَايَ^تِىَ ‪e‬لاَّذِيـنَ يَتَكَ هَّ ُ‬
‫(ل يَق ُ‪c‬ضـو َن بِشَ ى‪ c‬ءٍ)‪ .‬ويف قـوله تعــاىل‪َ :‬‬
‫وأن يكـون ضيـاعـاً من قـوله َ‬
‫َي ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)‪ ،‬تـوضيح إىل أن تـرك احلق مـا هـو إال تـكرب سيـؤدي بـأصحـابه إىل الضالل بـالرضورة ألن اهلل‬
‫َر‪c‬ض بِغ ‪ِ c‬‬
‫‪ec‬ل ِ‬
‫َي ‪e‬ل‪c‬حَ قِ )‪ ،‬تأويل إىل أن يف‬
‫َر‪c‬ض بِغ ‪ِ c‬‬
‫َنجىهُم‪ c‬إِذَا هُ ـم‪ c‬يَب‪c‬غُو َن فِى ‪ec‬ل ِ‬
‫سيرصفهم عـن تدبر آيـاته‪ .‬ويف قوله تعـاىل‪( :‬فَلَمهَّا‪ d‬أ َ‬
‫َي ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق وَ بِمَـا كُنتُم‪c‬‬
‫َر‪c‬ض بِغ ‪ِ c‬‬
‫عدم األخـذ باحلق بغـي يف األرض‪ .‬ويف قوله تعـاىل‪( :‬ذَ^لِكُ م بِمَـا كُنتُم‪ c‬تَف‪c‬رَحُ ـو َن فِى ‪ec‬ل ِ‬
‫تَم‪c‬رَحُ ونَ) مثـال هتديدي لكل من مل حيكـم باحلق وكأنه يفرح ويـمرح يف األرض‪ .‬ثم قارن هذا بقـوله تعاىل‪( :‬فَأَمهَّا‬
‫‪e‬لل ‪e‬لاَّذِي خَ لَقَهُم‪ c‬هُ وَ أَشَ دُّ مِن‪c‬هُم‪ c‬قُوهَّ ةً وَ كَانُواْ‬
‫َي ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق وَ قَـالُواْ مَن‪ c‬أَشَ دُّ مِنَّا قُوهَّ ةً أَوَ لَم‪ c‬يَرَ و‪ c‬اْ أَ َّن هَّ َ‬
‫َر‪c‬ض بِغ ‪ِ c‬‬
‫ب واْ فِى ‪ec‬ل ِ‬
‫َ‪e‬ستَك‪ُ َ c‬‬
‫عَ ادٌ ف ‪c‬‬
‫بِ‪َE‬ايَ^تِنَا ي ‪َc‬جحَ دُ ونَ)‪ ،‬ستلحظ من املقارنة أن العمل بغـري احلق الذي أنزله اهلل يعد استكبار ًا وجحود ًا يستحقون عليه‬
‫وَ‪e‬ستَم‪c‬تَع‪c‬تُم بِهَا‬
‫‪c‬رَض ‪e‬لاَّذِينَ كَفَرُ واْ عَ لَى ‪e‬لنَّارِ أَذ‪c‬هَ ب‪c‬تُم‪ c‬طَيِّبَ^تِكُ م‪ c‬فِى حَ يَاتِكُ مُ ‪e‬لدُّ ن‪c‬يَا ‪c‬‬
‫العذاب بدليل قوله تعاىل‪( :‬وَ يَو‪ c‬مَ يُع ُ‬
‫َي ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق وَ بِمَـا كُنتُم‪ c‬تَف ُ‪c‬سقُونَ)‪ ،‬وبدلـيل قوله تعاىل‪:‬‬
‫َر‪c‬ض بِغ ‪ِ c‬‬
‫بو َن فِى ‪ec‬ل ِ‬
‫اب ‪e‬ل‪c‬هُونِ بِمَـا كُنتُم‪ c‬ت ‪َc‬ستَك‪ُ ِ c‬‬
‫فَ‪e‬ل‪c‬يَو‪ c‬مَ ت ‪ُc‬جزَ و‪َ c‬ن عَ ذَ َ‬
‫اب أَلِيمٌ )‪ ،‬كام أن يف هذه‬
‫ِك لَهُم‪ c‬عَ ذَ ٌ‬
‫َي ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق أُوْ لَ^‪d‬ئ َ‬
‫َر‪c‬ض بِغ ‪ِ c‬‬
‫َّاس وَ يَب‪c‬غُو َن فِى ‪ec‬ل ِ‬
‫ِيل عَ لَى ‪e‬لاَّذِيـنَ يَظ‪c‬لِمُو َن ‪e‬لن َ‬
‫‪e‬لسب ُ‬
‫(إِنَّمَا هَّ‬
‫اآلية األخرية استنتاج إىل أن احلياة بغري احلق البد وأن تكون بغياً سيؤدي إىل ظلم الناس‪ ،‬وهذا بالضبط ما حدث يف‬
‫َ^ت) يف الـقرآن الكريم وقـارهنا بـ (‪e‬لنُّورِ)‪،‬‬
‫العوملـة‪ ،‬كام سنوضح بـإذن اهلل‪ 71.‬تدبر أخـي القارئ كلامت (‪e‬لظُّلُم ِ‬
‫(‪e‬لل وَ لِىُّ ‪e‬لاَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخ‪ c‬رِجُ هُم‬
‫ستلحظ أن األوىل دائام ً بصيغة اجلمع بينـام الثانية بصيغة املفرد كام يف قوله تعاىل‪ :‬هَّ ُ‬
‫^ب ‪e‬لنَّارِ‬
‫ِك أ ‪َc‬صحَ ُ‬
‫َ^ت أُوْ لَ^‪d‬ئ َ‬
‫ُوت يُخ‪ c‬رِجُ ونَهُم مِّنَ ‪e‬لنُّورِ إِلَى ‪e‬لظُّلُم ِ‬
‫َ^ت إِلَى ‪e‬لنُّورِ وَ‪e‬لاَّذِينَ كَفَرُ و‪ d‬اْ أَو‪ c‬لِيَا‪d‬ؤُ هُ مُ ‪e‬لطاَّ^غ ُ‬
‫مِّنَ ‪e‬لـظُّلُم ِ‬
‫هُ م‪ c‬فِيهَـا خَ ^لِدُ ونَ)‪ .‬يستنتج ابـن القيم رمحه اهلل بأن هـذا من إعجاز القـرآن الكريم ألن طـريق احلق واحد وطرق‬
‫قص احلق‬ ‫‪104‬‬

‫َّاس مِنَ‬
‫‪c‬ك لِتُخ‪ c‬رِجَ ‪e‬لن َ‬
‫َ^ب أَنـزَ ل‪c‬نَ^هُ إِلَي َ‬
‫البـاطل متعددة‪ .‬واآليـات يف هذا كثرية مـثل قوله تعـاىل يف سورة إبـراهيم‪( :‬كِت ٌ‬
‫ُوسى بِ‪َE‬ايَ^تِنَا‪ d‬أَ ‪c‬ن أَخ‪ c‬رِج‪c‬‬
‫َر‪c‬سـل‪c‬نَا م َ‬
‫^ط ‪e‬ل‪c‬عَزِيزِ ‪e‬ل‪c‬حَ مِيدِ)‪ ،‬وقـوله تعاىل‪( :‬وَ لَقَد‪ c‬أ َ‬
‫َ^ت إِلَـى ‪e‬لنُّورِ بِإِذ‪c‬نِ رَ بِّهِم‪ c‬إِلَى ِصـرَ ِ‬
‫‪e‬لظُّلُم ِ‬
‫َ^ت لِّكُ ّ ِل َصبهَّارٍ شَ كُ ورٍ)‪.‬‬
‫ِك َ َلي ٍ‬
‫‪e‬لل إِ َّن فِى ذَ^ل َ‬
‫َ^ت إِلَى ‪e‬لنُّورِ وَ ذَكِّر‪c‬هُ م بِأَيهَّىمِ هَّ ِ‪P‬‬
‫َك مِنَ ‪e‬لظُّلُم ِ‬
‫قَو‪ c‬م َ‬

‫ومن جهة أخـرى‪ ،‬فإن احلق كـصفة (وليـس كاسم مـن أسامء اهلل احلسنـى)‪ ،‬خيتلف عن بـاقي الصفـات بأنه‬
‫يتجزأ أو متعدد برغم عدم تفاوته‪ .‬فهناك الوعد احلق‪ ،‬والقول احلق‪ ،‬والقصص احلق‪ ،‬واحلق املبني‪ ،‬وغريها من لوازم‬
‫‪e‬لل حَ ٌّق وَ لَ^كِ نهَّ‬
‫َل إِ َّن وَع‪ c‬دَ هَّ ِ‬
‫َر‪c‬ض أ َ ‪d‬‬
‫وَ‪e‬ل ِ‬
‫^ت ‪c‬‬
‫‪e‬لـسمَ^وَ ِ‬
‫لل مَـا فِى هَّ‬
‫َل إِ َّن ِ هَّ ِ‬
‫احلق الـتي تـنبـثق منه وتــؤدي إليه‪ .‬قـال تعـاىل‪( :‬أ َ ‪d‬‬
‫ب ‪e‬ل‪c‬وَع‪ c‬دُ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق فَإِذَا هِىَ شَ ^خِ َصـةٌ أَب َ‪c‬ص^رُ ‪e‬لاَّذِينَ كَفَرُ واْ يَ^وَ ي‪c‬لَنَـا قَد‪ c‬كُنَّا فِى‬
‫‪c‬ت َ‬
‫‪c‬ثهُ م‪َ c‬ل يَع‪c‬لَمُونَ)؛ وقوله تعـاىل‪( :‬وَ‪e‬ق َ َ‬
‫أَك َ َ‬
‫‪e‬لل لَهُوَ ‪e‬ل‪c‬عَزِيزُ‬
‫‪e‬لل وَ إِ َّن هَّ َ‬
‫ص ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق وَ مَا مِن‪ c‬إِلَ^هٍ إ اَِّل هَّ ُ‬‫غَف‪c‬لَةٍ مِّن‪ c‬هَ ^ذَ ا ب ‪َc‬ل كُنَّا ظَ^لِمِنيَ )؛ وقوله تعـاىل‪( :‬إِ َّن هَ ^ذَ ا لَهُوَ ‪e‬ل‪c‬ق ََص ُ‬
‫َّك عَ لَى ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق ‪e‬ل‪c‬مُبِنيِ )‪ 72.‬وبالطبع‪ ،‬جيب أن نلتفت لعدم اخللط بني ما‬
‫‪e‬لل إِن َ‬
‫‪e‬ل‪c‬حَ كِ يمُ )؛ وقوله تعاىل‪( :‬فَتَوَ ك ‪َّc‬ل عَ لَى هَّ ِ‬
‫نناقشه هنا من صفـة احلق مع اسم اهلل‪ .‬فلفظ ‪X‬احلق‪ Z‬كام هو معلوم من أسامء اهلل احلسنى كام يف قوله تعاىل‪( :‬ثُمهَّ‬
‫‪e‬لل رَ بُّكُ مُ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق فَمَاذَا بَع‪c‬دَ‬
‫‪e‬لل مَو‪ c‬لَىهُمُ ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق أ ََل لَهُ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ وَهُ وَ أ ‪َc‬سرَ عُ ‪e‬ل‪c‬حَ ^سِ بِنيَ )؛ وقـوله تعاىل‪( :‬فَذَ ^لِكُ مُ هَّ ُ‬
‫رُ دُّو‪ d‬اْ إِلَى هَّ ِ‬
‫وَل تَع َ‪c‬ج ‪c‬ل بِ‪e‬ل‪c‬قُر‪ c‬ءَانِ مِن قَب‪c‬لِ أَن يُق َ‪c‬ضى‪d‬‬
‫ِك ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق َ‬
‫‪e‬لل ‪e‬ل‪c‬مَـل ُ‬
‫َ^ل فَأَنَّـى ت ‪ُc‬صرَ فُونَ)؛ وقوله تعـاىل‪( :‬فَتَعَ^لَى هَّ ُ‬
‫‪e‬لضل ُ‬
‫‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق إ اَِّل َّ‬
‫‪e‬لل هُ وَ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق وَ أَنَّهُ‪ /‬يُح‪ِ c‬ى ‪e‬ل‪c‬مَو‪ c‬تَى وَ أَنَّهُ‪ /‬عَ لَى ك ّ ُِل شَ ى‪ c‬ءٍ‬
‫ِك بِـأَ َّن هَّ َ‬
‫ب زِد‪c‬نِى عِ ل‪c‬مًا)؛ وقوله تعاىل‪( :‬ذَ^ل َ‬
‫‪c‬ك وَح‪ c‬يُهُ‪ /‬وَ قُل رهَّ ِّ‬
‫إِلَي َ‬
‫‪73‬‬
‫‪e‬لل هُ وَ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق ‪e‬ل‪c‬مُبِنيُ )‪.‬‬
‫‪e‬لل دِينَهُمُ ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَ يَع‪c‬لَمُو َن أَ َّن هَّ َ‬
‫قَدِيرٌ )؛ وقوله تعاىل‪( :‬يَو‪ c‬مَئِ ٍذ يُوَ فِّيهِمُ هَّ ُ‬

‫عـرف احلق بأنه كل ما ال يقبل اجلدل أو الـتحدي أو التغيري أو التفاوت‪ ،‬بل جيب‬
‫لذلك نستطيع ‪X‬اآلن‪ Z‬أن ُن ّ‬
‫ال من‬
‫علينـا القبول به والتـسليم له واالنقيـاد إليه واالنصيـاع ألمره‪ ،‬مثل القـول احلق والقصص احلق‪ ،‬ألنه أتـى مكتم ً‬
‫عنـد اهلل‪ .‬وألنه مكتمل فال جيـوز للعقل البـرشي أن يتحداه‪ ،‬بل يـذعن إليه ويـستسـلم له‪ .‬لذلك كـان عىل املسلم أن‬
‫يـتصف بعقليـة غري اندفـاعية جتـاه كل ما أتـى من عنـد اهلل‪ .‬أما غري ذلك فـهو يقع حتت الـبحث عن احلقيقـة والتي‬
‫ال بـاحثاً ممحصاً كام أمـر سبحانه وتعاىل بقولـه‪( :‬أَف ََل تَع‪c‬قِلُونَ) و (أَف ََل تَتَفَكَّ رُ ونَ) كام مر بنا‪ .‬وكيف‬
‫تتطلب عق ً‬
‫يكون العقل باحثاً وممحصاً إن مل يكن حتداويـاً ومندفعاً يف طبيعته كام سرتى بإذنه تعاىل يف فصل ‪X‬املعرفة‪ .Z‬وهذه‬
‫هي طبـيعة اخلالئق‪ ،‬أال تـرى األطفال يقلـبون األشيـاء ويشـدوهنا ويلقـوهنا‪ ،‬إهنم حيـاولون فهمهـا باللعـب هبا‪ .‬وهم‬
‫يفعلون ذلك ألهنا غريزة فطروا عليها‪ ،‬وهي نعمة من اهلل علينا لنزداد علام ً من خالل املتعة باللعب والتجربة‪.‬‬

‫وللتلخيص أقول‪ :‬إن املسلم جيب عليه أن يتمتع بعقلية مندفعة جتاه كل يشء ما عدا احلق‪ :‬واحلق هو كل ما‬
‫أتـى من اهلل العليم احلكيم‪ .‬وتـأيت حتت هذا بالـطبع مقصوصـة احلقوق أو احلكم بام أنـزل اهلل‪ ،‬ألن كل ما عدا ذلك‬
‫َ^ك خَ لِيفَةً فِى‬
‫من أحكام تفـصل بني الناس هـي هوى وبغي كام تـستشف ذلك من قـوله تعاىل‪( :‬يَ^دَ اوُ ‪/‬دُ إِنَّـا جَ عَل‪c‬ن َ‬
‫‪e‬للِ)؛ ومن قوله تعـاىل‪( :‬ق ‪ُc‬ل إِنَّمَا حَ رهَّ مَ رَ بِّىَ‬
‫اَّك عَ ن َسبِيلِ هَّ‬
‫ُـضل َ‬
‫وَل تَتَّبِعِ ‪e‬ل‪c‬هَوَ ى فَي ِ‬
‫َّاس بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق َ‬
‫َـني ‪e‬لن ِ‬
‫َر‪c‬ض فَ‪e‬ح‪ c‬كُ م ب ‪َ c‬‬
‫‪ec‬ل ِ‬
‫َ^ب بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق م َُص ّ ِدقًا‬
‫‪c‬ك ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫َي ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)؛ وقـوله تعاىل‪( :‬وَ أَنزَ ل‪c‬نَـا‪ d‬إِلَي َ‬
‫وَ‪e‬لث‪c‬مَ وَ‪e‬ل‪c‬بَغ‪c‬ىَ بِغ ‪ِ c‬‬
‫ش مَا ظَهَرَ مِن‪c‬هَـا وَ مَا بَطَنَ ‪ِ c‬‬
‫‪e‬ل‪c‬فَـوَ ^حِ َ‬
‫وَل تَتَّبِع‪ c‬أَه‪ c‬وَ ا‪d‬ءَهُ م‪ c‬عَ مهَّا جَ ا‪d‬ءَكَ مِنَ ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)؛ وقوله‬
‫‪e‬لل َ‬
‫َ^ب وَ مُهَي‪c‬مِنًا عَ لَي‪c‬هِ فَ‪e‬ح‪ c‬كُ م بَي‪c‬نَهُم بِـمَا‪ d‬أَنزَ َل هَّ ُ‬
‫َني يَدَ ي‪c‬هِ مِنَ ‪e‬ل‪c‬كِ ت ِ‬
‫لِّمَا ب ‪َ c‬‬
‫وَل تَكُ ن لِّل‪c‬خَ ا‪d‬ئِنِنيَ خَ ِصيمًا)؛ وقوله تعاىل‪:‬‬
‫‪e‬لل َ‬
‫َرَىك هَّ ُ‬
‫َّاس بِمَا‪ d‬أ َ‬
‫َني ‪e‬لن ِ‬
‫َ^ب بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق لِتَح‪ c‬كُ مَ ب ‪َ c‬‬
‫‪c‬ك ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫تعـاىل‪( :‬إِنَّا‪ d‬أَنزَ ل‪c‬نَا‪ d‬إِلَي َ‬
‫َّاس فِيمَا‬
‫َني ‪e‬لن ِ‬
‫َ^ب بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق لِيَح‪ c‬كُ مَ ب ‪َ c‬‬
‫‪e‬لل ‪e‬لنَّبِيِّ‪C‬نَ مُب َِّشرِينَ وَ مُن ِذرِينَ وَ أَنـزَ َل مَعَهُمُ ‪e‬ل‪c‬كِ ت َ‬
‫َث هَّ ُ‬
‫َّاس أُمهَّةً وَ ^حِ ـدَ ةً فَبَع َ‬
‫(كَا َن ‪e‬لن ُ‬
‫‪e‬لل ‪e‬لاَّذِينَ ءَامَنُـواْ لِمَا‬
‫َ^ت بَغ‪c‬يًـا بَي‪c‬نَهُم‪ c‬فَهَـدَ ي هَّ ُ‬
‫‪e‬خ‪ c‬تَلَفُـواْ فِيهِ وَ مَا ‪e‬خ‪ c‬تَل ََف فِـيهِ إ اَِّل ‪e‬لاَّذِينَ أُوتُـوهُ مِن‪ c‬بَع‪ِ c‬د مَا جَ ـا‪d‬ءَت‪c‬هُمُ ‪e‬ل‪c‬بَيِّن ُ‬
‫‪105‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫‪c‬س ‪e‬لاَّتِى حَ رهَّ مَ‬


‫(وَل تَق‪c‬تُلُواْ ‪e‬لنَّف َ‬
‫^ط م ‪ُّc‬ستَقِيمٍ)؛ وقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫وَ‪e‬لل يَه‪c‬دِي مَن يَشَ ا‪d‬ءُ إِلَى ِصرَ ٍ‬
‫‪e‬خ‪ c‬تَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق بِإِذ‪c‬نِهِ\ هَّ ُ‬
‫‪e‬لل إ اَِّل بِ‪e‬ل‪c‬حَ ّ ِق)‪ 74.‬أي أن السبـيل الثالث لطبيعـة القرار هو ما يـدفع إليه اإلسالم‪ .‬وهلذا االستنتـاج أمهية قصوى يف‬
‫هَّ ُ‬
‫إدارة املجتمع‪ ،‬فهـذه اإلسرتاتيجيـة الثالثـة ستؤدي بـفضل اهلل ومنّه ملجتـمع مذعن وخـاضع ملقصـوصة احلقـوق ألهنا‬
‫احلق من عند اهلل سبـحانه وتعاىل‪ .‬ويف هذا اإلذعان واخلضوع ملقصوصة احلقوق حترير وإطالق ألفراد املجتمع ألنه‬
‫ال عبوديـة إال هلل احلق حينئذ كام سيتضح بـإذنه تعاىل؛ ويف الوقت ذاته‪ ،‬فإن املجتـمع ذو أفراد منطلقني يف حتد دائم‬
‫مستمر لألعيان‪ ،‬إما بحثـاً عن احلقيقة وإما لالستفادة القصـوى منها بتطويعها خلدمـة املجتمع‪ ،‬كام سيأيت بيانه بإذن‬
‫اهلل‪.‬‬

‫اعلقل يف اسلنة‬
‫بـالطبع لن نـتمكن من إعطـاء هذا املوضـوع حقه من البحث هـنا‪ ،‬ذلك ألن اخلالف‪ ،‬كام يـقال‪ ،‬رسمدي يف‬
‫طـبيعته بني الـنصيني والـعقالنيني‪ ،‬أو بني أهل احلـديث وأهل الفقه‪ .‬ولعـلك استنتجـت أخي القارئ أن هـذا الكتاب‬
‫يدعوا إىل تعطيل العقل متى وجد النص‪ .‬أي أنه نيص ألنه يقف مع أهل احلديث‪ .‬فهل هذا صحيح؟ إنني كام سرتى‬
‫بإذن اهلل‪ ،‬أحاول جاهد ًا إقـناعك بأن من احلكمة ترك العـقل أمام النص نظر ًا لقصوره‪ .‬هلـذا فإن هذا الكتاب يرفض‬
‫هذا التقـسيم الذي انترش بني عـامة العلامء‪ ،‬فهذا التـقسيم باطل ألن احلق واحد‪ ،‬واحلق هـو تعطيل العقل أمام النص‬
‫إن ثبتت صحة النص‪ .‬لتوضيح هذا البد لنا من املرور أوالً عىل األحاديث التي وردت عن العقل يف السنة املطهرة‪.‬‬

‫إن أول كـتابني عن الـعقل كام هو معـروف مها لـداود بن املحرب (ت ‪ 206‬هـ) وابن أيب الـدنيا (ت ‪ 281‬هـ)‪.‬‬
‫ولـقد تعـرض كتـاب ‪X‬فضل العقل‪ Z‬البـن املحرب للكـثري من النـقد‪ .‬فقـد أمجع عدد مـن رجال اجلـرح والتعـديل عىل‬
‫ال‪X :‬الديـن هو العقل‪ ،‬ومن ال دين له ال عقل له‪ ،Z‬وقد‬
‫تكـذيب األحاديث التي وردت فيه‪ .‬ومـن هذه األحاديث مث ً‬
‫صنفه األلباين بأنه بـاطل‪ .‬وقال احلافظ بن حجر أن أحـاديث كتاب ابن املحرب كلها موضـوعة‪ .‬وقال أمحد بن حنبل‬
‫عنه أنه ال يدري ما احلديث‪ .‬هذا باإلضافـة لتضعيفات أخرى من رجال احلديث‪ .‬ويف املقابل فقد قال ابن معني عن‬
‫ابن املحرب‪X :‬ما زال معروفاً باحلديث يكتب احلديث‪ ،‬ثم تركه وصحب قوماً من املعتزلة فأفسدوه‪ ،‬وهو ثقة‪.Z‬ك أما‬
‫كـتاب ابن أيب الـدنيا ‪X‬الـعقل وفضله‪ ،Z‬فلـم يطعن يف صـدقه أحد‪ .‬وقـد ورد يف كتابـه اثنا عـرش حديثـاً عن العقل‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬وحتى يأخذ املوضوع حقه البد من توضيح أهم األحاديث التي بجلت العقل أوالً‪:‬‬

‫بأسـانيد أخـرى‪ ،‬ثم رسقه سليـامن بن عيسـى السجـزي فأتـى بأسـانيد‬ ‫ك) بـالنـسبـة للحـديث فقـد ذكـر يف كتـاب ‪X‬األحـاديث الـضعيفـة‬
‫أخـرى‪ .Z‬وجاء يف ‪X‬املسنـد املستخرج عـىل صحيح مسلم‪ X :Z‬داود بن‬ ‫واملوضوعة‪ Z‬للشيخ نارص الدين األلباين‪ ،‬وقال النسائي‪X :‬هذا حديث‬
‫املحرب بن قحـذم أبو سليـامن حدث بمـناكري يف الـعقل وغريه حدثـونا‬ ‫باطل منكر‪ .Z‬وبالنسبـة البن املحرب فقد قال عنه ‪X‬ابن املديني‪ :‬ذهب‬
‫عن احلارث ابن أيب أسامة عنه‪ ،‬كذبه أمحد بن حنبل والبخاري رمحهام‬ ‫حــديثه؛ وقـال أبـو زرعـة وغـريه‪ :‬ضعيف؛ وقـال أبـو حـاتـم‪ :‬ذاهب‬
‫اهلل‪ .Z‬ويقول الشيخ اجلوزو‪X :‬فالقول إن ابن املحرب ‪X‬صحب قوماً من‬ ‫احلديث‪ ،‬غري ثقـة‪ .‬وقال الدارقـطني مرتوك‪ ،‬وذهب إىل أن ابن املحرب‬
‫املعتـزلة فـأفسـدوه‪ ،Z‬يشري إىل نقـطة هـامة‪ ،‬ربام تـكون هي الـسبب‬ ‫سـارق‪ .‬وقال اخلطيب البـغدادي‪ :‬حدثني حممـد بن عيل الصوري قال‪:‬‬
‫الـرئيس لـرفض أحاديـثه كلها‪ ،‬فـاملعتزلـة بالغـوا يف تقديـر العقل كام‬ ‫سمعت عبد الغـني بن سعيد عـن الدارقطني قـال‪ :‬كتاب العقل وضعه‬
‫قدمنا‪ ،‬متأثرين بالفلسفة اليونانية‪.)75( Z‬‬ ‫أربعة‪ ،‬أوهلم مـيرسة ابن عبـد ربه‪ ،‬ثم رسقه منه داود بن املحـرب فركبه‬
‫بـأسانـيد غري أسـانيد مـيرسة‪ ،‬ورسقه عبـد العزيـز بن أيب رجاء فـركبه‬
‫قص احلق‬ ‫‪106‬‬

‫لعل مـن أشهر األحـاديث التـي جمدت العـقل هو مـا رواه الغزايل يف اإلحـياء مـن أن الرسـول صىل اهلل عليه‬
‫وسـلم قال‪X :‬أول مـا خلق اهلل العقل‪ ،‬فقـال له‪ :‬أقبل‪ .‬فـأقبل‪ .‬ثـم قال له‪ :‬أدبـر‪ .‬فأدبـر‪ .‬ثم قال اهلل عـز وجل‪ :‬وعزيت‬
‫وجاليل مـا خلقت خـلقاً أكـرم عيل منك؛ بك آخـذ‪ ،‬وبك أعطي‪ ،‬وبـك أثيب‪ ،‬وبك أعـاقب‪ .Z‬وقـد قال العـراقي أن‬
‫احلديـث ذُكر يف معجـم الطرباين األوسط مـن حديث أيب أمـامة وأبـو نعيم مـن حديث عـائشـة بإسنـادين ضعيفني‪.‬‬
‫ال‪X :‬أما احلديـث األول فهو كذب‬
‫وعنـدما سئـل شيخ اإلسالم ابن تيميـة رمحه اهلل عن هذا احلـديث وغريه أفتى قـائ ً‬
‫موضـوع عند أهـل العلم باحلـديث‪ .‬ليس هـو يف يشء من كتب اإلسالم املعـتمدة‪ .‬وإنام يـرويه مثل داود بن املحرب‬
‫وأمثاله مـن املصنفني يف العقل‪ .‬ويذكره أصحـاب رسائل إخوان الصفا ونحـوهم من املتفلسفة‪ .‬وقـد ذكره أبو حامد‬
‫يف بعض كـتبه‪ ،‬وابن العريب وابـن سبعني‪ .Z‬وقد حـاول املرتضـى الزبيـدي تصحيح احلـديث بقوله‪X :‬فهـذا كام ترى‬
‫سنـد جيـد‪ .‬فقـول احلــافظ العـراقي‪ :‬وبــاجلملــة فطـرقه كلهــا ضعيفـة حمل تـأمل‪ .‬وكـذا إيـراد ابن اجلـوزي له يف‬
‫املوضوعـات‪ ،‬وتبعه ابن تيمـية والزركـيش وغري هؤالء‪ .‬فـغاية مـا يقال فيه‪ :‬إنه ضعـيف يف بعض طرقه‪ .Z‬أمـا الشيخ‬
‫األلباين فقد صـنفه بلفظ خمتلف يف ‪X‬السلسلة الضـعيفة‪ Z‬بأنه باطل‪ .‬وثمة قـول أن تغيري ًا قد طرأ عىل نص احلديث يف‬
‫العبـارة من‪X :‬ملـا خلق اهلل اخللق‪ Z‬إىل جعلـها‪X :‬أول مـا خلق اهلل العقل‪ ،Z‬وهبـذا تبجل الـعقل كام بني ابـن تيمـية يف‬
‫ل‬
‫فتواه‪.‬‬

‫وهناك حديث آخر ذكره الغزايل يف اإلحـياء وفيه تبجيل للعقل أيضاً‪ .‬فقد ‪X‬روي أن عبد اهلل بن سالم ريض‬
‫اهلل عنه سـأل النبي صىل اهلل علـيه وسلم يف حديث طـويل يف آخره وصف عـظم العرش وأن املالئكـة قالت‪ :‬يـا ربنا‬
‫هل خلقت شيئاً أعظم من العرش؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬العقل‪ .‬قـالوا‪ :‬وما بلغ من قدره؟ قال‪ :‬هيهات ال حياط بعلمه‪ ،‬هل لكم‬
‫بعدد الرمل؟ قـالوا‪ :‬ال‪ ،‬قال اهلل عـز وجل‪ :‬فإين خلقت العقل أصنـافاً شتى كعـدد الرمل‪ ،‬فمن النـاس من أعطي حبة‬
‫ومن أعطي وسقاً ومن أعطي أكثر مـن ذلك‪ .Z‬وقال الشيخ اجلوزو ناقد ًا بأن احلـديث ‪X‬تبدو فيه املغاالة والنزعة إىل‬
‫تقديس العقل‪ ،‬وذلك بتفـضيله عىل العرش‪ ،‬فإذا كـان العرش ينسب إىل اهلل‪ ،‬فـإنه يصبح يف الرشف والقيـمة واملرتبة‬
‫فيام يـضاف إليه أو نسب له‪ ،‬والـذي ينسب إليه ال جيوز مقـارنته بالذي يـنسب إىل اإلنسان ‪ ...‬وهـذه أمثلة من تلك‬
‫‪77‬‬
‫األحاديث التي تتجه اجتاهاً فلسفياً‪ ،‬والتي نميل إىل القول بضعفها ألهنا أقرب إىل التأثر بالفكر الفلسفي ‪.Z...‬‬

‫وكام تلحظ أخي القارئ‪ ،‬أختي القـارئة‪ :‬فإن هذه األحاديث الثالثة السـابقة تعرض العقل وكأنه ذو كينونة‬
‫مـستقلة ذات تبجيل ومكانة قد تدفعه ليكون ند ًا لـلنص‪ .‬فقد حيكم العقل بنفسه لنفسه بأن يقبل ويرفض من النص‬
‫ما أراد‪ .‬وكام تلحظ أيضاً فإهنا أحاديـث إما أهنا قد كُذبت أو غُريت أو ُ‬
‫ضعفت يف أحسن األحوال‪ .‬وهناك أحاديث‬
‫أخرى تعرضت للنقـد أيضاً إال أن معناها ال يرتقي بالعقل لتحـدي النص‪ .‬ومعظم هذه األحاديث هي من كتاب ابن‬
‫املحرب‪ .‬فقد ذكـر الغزايل احلـديث الذي يـربط بني العقل واملعـرفة‪X :‬اعقلـوا عن ربكم ‪ ...‬تعـرفوا ما أمـرتم به وما‬

‫لـكن املتفـلسفـة القـائلـون بقـدم العـامل أتبـاع أرسطـو هـم ومن سلك‬ ‫ل) يقول اجلـوزو‪ :‬أما املرتضـى الزبيدي‪ ،‬فقـد أراد تصحيح احلديث‪،‬‬
‫سبيلهم من باطنية الشيعة واملتصوفة واملتكلمة رووه‪ّ :‬أو ُل ما خلق اهلل‬ ‫فقال‪X :‬قال عـبد اهلل بن أمحد يف ‪X‬زوائد الزهـد‪ Z‬حدثنا عيل بن مسلم‪،‬‬
‫العقل ‪ -‬بالـضم ‪ -‬ليكون ذلك حجـة ملذهبهم يف أن أول املبـدعات هو‬ ‫حدثنـا سيار‪ ،‬حدثنا جعفـر‪ ،‬حدثنا مالك بـني دينار عن احلسن يرفعه‪:‬‬
‫العقل األول‪ .‬وهـذا اللفظ مل يروه به أحد من أهل احلديث‪ ،‬بل اللفظ‬ ‫‪ X‬ملا خلق اهلل العـقل قال له‪ :‬أقبل‪ ،‬فـأقبل‪ ،‬ثم قـال له‪ :‬أدبر‪ ،‬فـأدبر‪ .‬ثم‬
‫املروي مع ضعفـه يدل عىل نقيـض هذا املعنـى‪ ،‬فإنه قـال‪X :‬ما خلقت‬ ‫قال‪ :‬ما خلقت شيئـاً أحسن منك‪ ،‬فبك آخذ‪ ،‬وبك أعطي‪ .ZZ‬ويستنتج‬
‫خلقاً أكرم عيل منك‪ .Z‬فدل عىل أنه قـد خلق قبله غريه‪ ،‬والذي يسميه‬ ‫اجلوزو من نص احلديث وبـالرجوع البن تيمـية أن اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫الفالسفة العقل األول ليس قبله خملوق عندهم‪.)76( Z‬‬ ‫قال ‪X‬للعقل يف أول أوقـات خلقه‪ ،‬ليـس فيه أن العقل أول املخلـوقات‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫هنيتم عـنه‪ .Z‬وهذا الـربط ورد يف أحـاديث أخـرى كثرية ذكـرها ابـن املحرب يف كتـابه‪ ،‬وضعـفها احلـافظ العـراقي‪،‬‬
‫ومنهـا‪X :‬ما اكتسب رجل مثل فضل عقل هيدي صاحبه إىل هـدى ويرده عن ردي‪ ،‬وما تم إيامن عبد وال استقام دينه‬
‫حتى يكمل عـقله‪Z‬؛ ومنها‪X :‬ال يتم لـرجل حسن خلقه حتـى يتم عقله‪Z‬؛ ومنهـا‪X :‬لكل يشء دعامة‪ ،‬ودعـامة املؤمن‬
‫عقـله‪ ،‬فبقدر عقـله تكون عبـادته‪ .Z‬وبرغم أن هـذه األحاديث‪ ،‬وغريهـا مـ قد ُ‬
‫ضعـفت‪ ،‬وبرغم أهنـا تبالغ يف وصف‬
‫العقل ومـدحه‪ ،‬إال أهنـا ال تـدفعه لتحـدي النـص‪ .‬فهي أحــاديث حتث الفـرد عىل حتـريـك عقله لفهـم دينه‪ .‬وهنـاك‬
‫أحـاديث أخـرى صنفت بـأهنا بـاطلـة‪ ،‬منـها‪X :‬الـدين هـو العقل‪ ،‬ومن ال ديـن له ال عقل له‪ .Z‬ومنـها مـا صنف بـأنه‬
‫موضـوع مثل‪X :‬العلم خلـيل املؤمن‪ ،‬والعقل دلـيله‪ ،‬والعلم قيمه‪ ،‬واحلـلم وزيره‪ ،‬والصـرب أمري جنوده‪ ،‬والـرفق والده‪،‬‬
‫واللني أخـوه‪ .Z‬ومثل ‪X‬قـسم اهلل العقل عـىل ثالثة أجـزاء‪ ،‬فمـن كن فيه فـهو العـاقل‪ ،‬ومن مل يكـن فيه فال عقل له‪،‬‬
‫حسن املعـرفة باهلل عـز وجل‪ ،‬وحسن الطـاعة هلل عز وجل‪ ،‬وحـسن الصرب هلل عز وجل‪.Z‬ن الحـظ أخي القارئ بأنه‬
‫حتى بعض هـذه األحاديث املوضـوعة أو الضعيفـة ُتظهر قصـور العقل مثل احلديث األخري الـذي قسم العقل ثالثة‬
‫أجزاء‪ ،‬وأن كل جـزء قابل للتحـسني من خالل حسـن معرفة اهلل عـز وجل أو حسن طـاعته أو حسـن الصرب‪ ،‬وهذه‬
‫مسائل تزيد وتنقص إشارة إىل القصور‪.‬‬

‫وبالـنسبة لألحاديث التي رواها ابـن أيب الدنيا فهي أحاديث مل ُيقدح هبـا‪ ،‬ولكن يف الوقت ذاته مل يأخذ هبا‬
‫أهل السنة واجلـامعة‪ .‬ومن هذه األحاديث قوله صىل اهلل عليه وسلم‪X :‬إن الشاهد عىل اهلل عز وجل أن ال يعثر عاقل‬
‫إال رفعـه اهلل عز وجل‪ .‬ثم ال يعثـر إال رفعه‪ ،‬حتى جيعل مـصريه إىل اجلنة‪ .Z‬وقـوله‪X :‬ال يعجبنكم إسالم أمـرئ حتى‬
‫س‬
‫تعـرفوا معقـود عقله‪ .Z‬وكام ترى فـإن املالحظ عىل هذه األحـاديث وغريها أهنـا ال خترج العقل من كـونه وسيلة‬
‫لـتقيص احلقيقة‪ ،‬بل أداة تعني املسـلم عىل دينه برغم متجيدهـا للعقل‪ .‬وما يدل عىل أن العقل أداة هي الـتناقضات التي‬
‫وردت يف كتاب ابن أيب الدنيا‪ .‬ونظر ًا ألمهيـة كتاب ابن أيب الدنيا يف أيامنا هذه‪ ،‬البد من املرور رسيعاً عىل بعض ما‬
‫جـاء يف كتـاب ابن أيب الـدنيـا لرتى التـناقـض (ذلك أن كثري ًا مـن العلامنيـني الذيـن يرفـعون مقـام العقل فـوق النص‬
‫الرشعي يلجؤون ملثل هذه األحاديث عن العقل الستثامرها يف أهدافهم)‪:‬‬

‫إن يف نصوص ابن أيب الدنيا إشارة واضحة إىل أنه كـان فرد ًا يعكس التيار املنترش فكرياً عن العقل يف زمانه‬
‫برغم متجيده للعقل‪ ،‬فهو مل يقفز بالعقل لتحدي النص كام هو عليه حال العلامنيني اليوم‪ ،‬بل كان متواضعاً (مقارنة‬
‫بالضالني املعارصين) برغم تطرفه يف متجيد العقل‪ ،‬فمن نصوصه التي متجد العقل اآليت‪X :‬حدثنا أمحد بن عبد األعىل‬
‫ملك آدم عـليهام السالم فقـال‪ :‬قد جئـتك بالعقل والـدين والعلم‪ ،‬فـاخرت أهيام شئت؟‬
‫الشيبـاين عن شيخ له قـال‪ :‬أتى ٌ‬

‫يف العقل ويكرب الدماغ ‪.)79( Z‬‬ ‫مـ) ومن هـذه األحاديث‪ :‬عن عائـشة ريض اهلل عنها قـالت‪X :‬يا رسول‬
‫س) ومن هذه األحـاديث قوله‪X :‬ثالث من حـرمهن حرم خري الـدنيا‬ ‫اهلل‪ ،‬بم يتفـاضل الـناس يف الـدنيـا؟ قال‪ :‬بـالعقل‪ .‬قلـت‪ :‬ويف اآلخرة؟‬
‫واآلخـرة‪ :‬عقل يداري به الـناس‪ ،‬وحلم يـرد به السـفيه‪ ،‬وورع حيجزه‬ ‫قال‪ :‬بـالعقل‪ .‬قلت‪ :‬أليـس إنام جيزون بـأعامهلم؟ فقـال صىل اهلل عليه‬
‫عن املـعايص‪Z‬؛ وهناك حديث آخر من أن الرسول صىل اهلل عليه وسلم‬ ‫وسلم‪ :‬يا عائشـة‪ ،‬وهل عملوا إال بقدر ما أعطاهم عز وجل من العقل‪،‬‬
‫‪X‬إذا بلغه عن أحد أصحابـه عبارة قال‪ :‬كيف عقله؟ فـإن قالوا‪ :‬عاقل‪،‬‬ ‫فبقدر ما أعطـوا من العقل كانت أعامهلم‪ ،‬وبقـدر ما عملوا جيزون‪.Z‬‬
‫قـال‪ :‬مـا أخلق صـاحبكـم أن يبلغ‪ .‬وإن قـالـوا‪ :‬لـيس بعـاقل‪ ،‬قـال‪ :‬مـا‬ ‫ومنهـا‪X :‬مطية املـرء العقل وأحسنكم داللـة ومعرفة بـاحلجة أفضلكم‬
‫أخلقه أن ال يـبلغ‪ .Z‬ويقــول الـشـيخ اجلـــوزو معلقــاً‪X :‬هــذه بعـض‬ ‫ال‪Z‬؛ ومنهـا‪X :‬لكل يشء آلـة وعـدة‪ ،‬وإن آلـة املـؤمـن العقل؛ ولكل‬
‫عق ً‬
‫األحـاديث الـتي وردت يف متجيـد العقل وجعله مـدار اإليـامن‪ ،‬ومبلغ‬ ‫يشء مطيـة‪ ،‬ومطـية املـرء العقل؛ ولكل يشء دعـامة‪ ،‬ودعـامة الـدين‬
‫الـرشـد‪ ،‬ومـوطن املـروءة‪ ،‬ومنـاط اإلسالم‪ ،‬وأســاس اخللق‪ ،‬وركيـزة‬ ‫العقل؛ ولكل قوم غاية‪ ،‬وغاية العباد العقل‪.)78( Z‬‬
‫النجاح يف احلياة الدنيا ويف اآلخرة‪)80( .Z‬‬ ‫ن) ومن هذه األحـاديث املوضوعة أيـضاً‪X :‬عليكم بالقـرع فإنه يزيد‬
‫قص احلق‬ ‫‪108‬‬

‫فاختار العقل‪ ،‬وقال للدين والعلم‪ :‬ارتفعا‪ ،‬قاال‪ :‬أمرنا أن ال نفارق العقل‪ .Z‬ففي هذا املثال تشعر بأن القائل يرمي إىل‬
‫أن العـقل مقدم عىل الـدين والعلـم‪ .‬مثال آخـر‪X :‬عن عبـد اهلل بن خبيق األنـطاكي قـال‪ :‬كان يقـال‪ :‬العقل رساج ما‬
‫بطن‪ ،‬ومـالك ما علن‪ ،‬وسائس اجلسد وزينة كل أحد‪ ،‬فال تـصلح احلياة إال به‪ ،‬وال تدور األمور إال عليه‪ .Z‬هنا أيضاً‬
‫تشعر أن القائل يرمي إىل أن احليـاة لن تصلح بدون العقل ألن األمور تدور عليه‪ ،‬وهنـا قد يعتقد فرد أن هذا يشمل‬
‫أيضاً الـدين الذي يدور عىل العقل‪ ،‬وليـس العكس‪ ،‬وهكذا مع نصـوص أخرى مرت بنـا سابقاً (منهـا ما هو ضعيف‬
‫ومنها ما هو موضوع كام رأينا)‪.‬‬

‫لكن يف الوقـت ذاته‪ ،‬وألن ابن أيب الدنيا يسـتنشق رحيق فكر عرصه‪ ،‬نجـد من نصوصه ما جتعل العقل دون‬
‫الدين‪( ،‬أي أن هناك تناقضاً إن نظرنا للمسألة كام يريد العلامنيون)‪ .‬فقد ذكر يف كتابه أن عبيد اهلل قال‪X :‬ما أويت‬
‫رجل بعد اإليامن باهلل عـز وجل خري من العقل‪ .Z‬فنرى هنا بـوضوح أن العقل أتى بعد الـدين‪ .‬مثال آخر‪ :‬عن عروة‬
‫أنه قـال‪X :‬أفضل ما أعـطي العباد يف الـدنيا العـقل‪ ،‬وأفضل ما أعطـوا يف اآلخرة رضوان اهلل عـز وجل‪ .Z‬فربغم تقديم‬
‫العقل هـنا يف الـدنيـا دون الترصيح بـأنه مقـدم عىل الـدين‪ ،‬إال أن هـذا التقـديم مـربوط بـرضوان اهلل عـز وجل يف‬
‫اآلخـرة‪ ،‬أي أن العقل ضمناً قد يأيت بعد الـدين‪ .‬مثال ثالث‪ :‬عن وهب بن منبه أنه قـال‪X :‬املؤمن مفكر مذكر؛ فمن‬
‫ذكر تف ّ‬
‫كر‪ ،‬فعلته السكينة‪ ،‬وقنع فلم هيتم‪ ،‬ورفض الـشهوات‪ ،‬فصار حر ًا وألقى احلسد‪ ،‬فظهرت له املحبة وزهد يف‬
‫كل فـان‪ ،‬فاستكمل الـعقل ورغب يف كل يشء باق‪ ،‬فعقل املعـرفة‪ .Z‬نرى هنـا التدرج يف وصف حـال كل مفكر إن‬
‫كان مؤمنـاً كثري الذكـر هلل (واهلل أعلم) لينتهي بـاملعرفة التـي تتأتى بـاملرور عىل السكـينة أوالً ثم القنـاعة ثم رفض‬
‫الـشهوات ثم التحرر من الـكثري من األمور التي تشـد اآلخرين لدرجة تـرك حتى احلسد (وهـذا أمر صعب املنال)‪،‬‬
‫ثم الزهد يف كل أمـور الدنيا ألهنا فانية‪ ،‬وعندها سيكتمل هلذا املؤمن العقل لينتهي باملعرفة أو احلقيقة‪ ،‬أو كام قال‪:‬‬
‫‪X‬فعـقل املعرفة‪ .Z‬نلحظ هنا كيـف أن العقل كأداة حررت املؤمن وارتقت به من االنـشغال بام هو دنيوي إىل الرتفع‬
‫عن مهوم االنشغـال هبا‪ .‬فاهلدف هنـا عىل الرغم من متجيد دور العقل هـو إناطة املسؤولـية عىل العقل بدور يقوم به‬
‫للتحرر من الدنيا لبلوغ اآلخرة‪ ،‬وليس العكس كام حياول العلامنيون باستخدام العقل للتحرر من اآلخرة لالنغامس‬
‫يف املزيد من اإلنتاجية االستهالكيـة يف الدنيا‪ .‬وهذا ينطبق عىل مجيع األحاديث الـسابقة عن العقل‪ .‬أي أننا نستطيع‬
‫أن ننظر جلميع األحـاديث التي متجد العقل عىل أهنا تنظـر للعقل عىل أنه أداة تعني عىل تعميق القيم اإلسالمية‪ ،‬ال أن‬
‫تكـون أداة هدم لنصوص الـدين‪ .‬أي أنني ما أحـاول الوصول إليه هـو أن معظم هؤالء الـذين جمدوا العقل يف الرتاث‬
‫اإلسالمي مل يكن هدفهم هدم الدين بالعقل‪ ،‬بل كانوا ينظرون للعقل كأداة ملزيد من التمكن من الدين‪.‬‬

‫ألرضب مـزيد ًا مـن األمثلة مـن كتاب ابـن أيب الدنيـا ألمهية املـسألـة‪ :‬فعن صالح بـن عبد الكـريم أنه قال‪:‬‬
‫‪X‬جعل اهلل عز وجل رأس أمور العـباد العقل‪ ،‬ودليلهم العلم‪ ،‬وسائقهم الـعمل‪ ،‬ومقوهيم عىل ذلك الصرب‪ .Z‬فكام ترى‬
‫مـن هذا النص‪ ،‬فربغم أنه يمجـد العقل بجعله ‪X‬رأس أمور العباد‪ Z‬إال أنه يـربط العقل بتعميق القيم الـدينية‪ .‬فالعقل‬
‫مربوط بالعلم الرشعي‪ .‬فالعلم آنذاك مل يكن مفرقاً لعلوم خمتلفة‪ ،‬بل كان العامل جامعاً لكل العلوم كام هو معلوم‪،‬‬
‫بام يف ذلك بالـطبع العلم الرشعي وهو األهم‪ .‬فـالعلم الرشعي هو دليل من كـان العقل رأس أموره‪ ،‬ومن ساقه العمل‬
‫الصالح من خالل الصرب‪ .‬وهكذا إن تأملت مجيع الـنصوص جتد أهنا ال حتاول أبد ًا التعيل عىل النص‪ ،‬بل حتاول تعميق‬
‫الـقيم اإلسالمية‪ .‬وبـاإلضافة ملـا سبق‪ ،‬فإن كتـاب ابن أيب الدنيـا حيوي الكثـري من األقوال التي تـظهر العقل عىل أنه‬
‫‪109‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ال‪ :‬عن عامـر بن عبد قيس أنه قـال‪X :‬إذا عقلك عقلك عام ال ينبغي فـأنت عاقل‪ .‬قال‬
‫متفاوت‪ .‬فمن هـذه األقوال مث ً‬
‫ال مـن عقال اإلبل‪ .Z‬وبـالطبع فـإن أحجمك عقلـك أحيانـاً أو أطلقك أحيـاناً أخـرى‪ ،‬فإن‬
‫عيل‪ :‬وإنام سـمي العقل عق ً‬
‫العقل بالتـايل متفاوت‪ .‬كام أن هنـاك أقواالً تظهـر العقل عىل أنه أداة لربط اإلنـسان من االندفـاع‪ .‬فقد سئل ورد بن‬
‫حممد نـرصويه‪ ،‬وكان قـد بلغ عرشين ومـئة سنـة‪ :‬ما الـعقل؟ قال‪X :‬أن يغـلب حلمك جهلـك وهواك‪ .Z‬هنـا نرى أن‬
‫ذكر ابن أيب الدنيا هلذا القول يف كـتابه مؤرش عىل قبوله لفكرة أن من أحد تفسريات العقل أنه أداة ُتغلّب احللم عىل‬
‫اجلهل واهلـوى‪ .‬وكذلك القـول اآليت‪ :‬فعن أكثم بن صيفـي أنه قال‪X :‬دعامـة العقل احللم‪ ،‬ومجاع األمـر الصرب‪ ،‬وخري‬
‫األمـور مغبة العقل‪ ،‬ويقـال املودة والتعـاهد‪ .Z‬ففي هـذا القول دليل واضح عىل أن العقل كـأداة يعمق القيم الـسامية‬
‫كاحللم وليس العقل أداة للتفكر هلدف التحرر من هذه القيم كام حياول العلامنيون فعل ذلك‪ .‬وكذلك مجيع األقوال‬
‫األخرى يف كتاب ابن أيب الـدنيا‪ ،‬إن تأملتهـا لوجدهتا تـشري بطريقة أو بـأخرى إىل أن العقل برغـم متجيده ال يرتقي‬
‫‪81‬‬
‫ألن يكون أداة ملساءلة النص الرشعي‪ ،‬بل خلدمته‪.‬‬

‫ألااحدثي الصحيحة‬
‫أما األحـاديث الصحيحـة التي ذكر فـيها العقل فـإهنا ال تعـطي العقل ذات التبجـيل‪ .‬بل تعده أداة اسـتيعاب‬
‫عمل عقله يف التحـرك داخل إطار الـرشيعة وال‬ ‫وحفـظ للبرش مـن املهالك ونحـوها من معـان حتفظه إنسـاناً رشيـد ًا ي ِ‬
‫ُ‬
‫يتحداهـا‪ .‬فمن هذه األحـاديث ما رواه مـسلم مما ذكـره الصحايب جـابر بن عبـد اهلل عن زيارة الـنبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم لـه يف مرضه بـقوله‪X :‬وأنـا مريـض ال أعقل‪ ،Z‬ثم روى أن الـنبي صىل اهلل عـليه وسلم تـوضأ ‪X‬فعـصب عيل من‬
‫وضوئه فعقلت‪ .Z‬فكام ترى فإن العقل هنا أتـى بمعنى الغياب عن الوعي بالتفـريق بني فرتيت الغيبوبة والوعي‪ .‬وقد‬
‫ورد العقل أيـضاً يف املـوطأ عىل لـسان عبـد اهلل بن أيب حبـيبة يف الـتفريق بـني فرتتني أيضـاً‪ ،‬مها حـداثة الـسن وبلوغ‬
‫الـرشد بـالقـول‪X :‬فقلته وأنـا يومـئذ حـديث الـسن ثم مكـثت حتـى عقلـت‪ .Z‬وقد أتـى العقل أيضـاً بمعنـى احلفظ‬
‫والتذكر‪ .‬وهذا واضح من األحـاديث التي رواها البخاري يف كل مـن قول عبد العزيز بـن رقيع وهو يسأل أنس بن‬
‫مالك‪X :‬قلت‪ :‬أخربين بيشء عقلته عن النبي‪ ،Z‬ويف قول حممود بن الربيع‪X :‬عقلت عن النبي صىل اهلل عليه وسلم جمة‬
‫جمها يف وجهـي‪ ،Z‬ويف قول عائـشة ريض اهلل عنهـا‪X :‬مل أعقل أبوي قط إال ومهـا يدينـان الدين‪ .Z‬وقـد وردت عبارة‪:‬‬
‫{ال يعقلـون} بصيغـة الفعل املـضارع يف احلـديث الـذي رواه البخـاري يف وصفه صلـوات ريب وسالمه عليه الـذين‬
‫تلهيهم شهـوات الدنـيا عن اآلخـرة بقوله‪{ :‬وإن هـؤالء ال يعقلـون‪ ،‬إنام جيمعـون الدنيـا}‪ .‬واالستخـدام هنا لـ {ال‬
‫يعقلون} يشبه ما ندد به القرآن الكريم الكفرة بتعطيل عقوهلم عن تقيص احلقيقة‪.‬‬

‫وحـتى إن ورد لفـظ العقل بصـيغة االسـم يف األحاديـث الصحيـحة‪ ،‬فلـم ُيذكـر بطـريقة جتـعله ذا كينـونة‬
‫مكتملة مقـدسة متكنه من مساءلة الـنص؛ بل أداة تعمل داخله‪ .‬فمن حديث صحيح مسلـم الذي يصف النساء بأهنن‬
‫‪X‬ناقصـات عقل ودين‪ ،Z‬ال يمكـن االستنتاج بـأن الضد مكتـمل‪ ،‬أي أن الرجال ذوي عـقول مكتملـة مقارنة بـالنساء‬
‫لدرجـة متكن عقوهلم معهـا من حتدي النـص‪ .‬فنص احلديث هـو‪ :‬عن عبد اهلل بن عمـر عن رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم أنه قال‪{ :‬يـا معرش الـنساء تـصدقن وأكثـرن االستغفار‪ ،‬فـإين رأيتكن أكـثر أهل النـار}‪ .‬فقالت امـرأة منهن‬
‫قص احلق‬ ‫‪110‬‬

‫جـزلة‪ :‬ومـا لنا يـا رسول اهلل أكـثر أهل النـار؟ قال‪{ :‬تكثـرن اللعن وتكفـرن العشري‪ ،‬ومـا رأيت من ناقـصات عقل‬
‫ودين أغلب لـذي لب منكن}‪ .‬قـالت‪ :‬يا رسـول اهلل‪ ،‬وما نقـصان العـقل والدين؟ قـال‪{ :‬أما نقـصان العقل فـشهادة‬
‫امرأتني تعـدل شهادة رجـل‪ ،‬فهذا نقصـان العقل؛ ومتكث الليـايل ما تصيل وتفـطر يف رمضـان‪ ،‬فهذا نقصـان الدين}‪.‬‬
‫فمن هذا احلـديث يتضـح معنى نقصـان الدين بـأنه إنقاص النـساء يف العبـادة مقارنة بـالرجال لـظروف جسـدية‪ ،‬أما‬
‫نقصـان العـقل يف الشهـادة‪ ،‬فهنـاك تفـسري مفـاده اآليت‪ :‬إن املرأة عـادة ما تـتسـاهل يف احلقـائق جمـاراة لآلخـرين من‬
‫خجلها‪ .‬فـبسبب تـساهل املـرأة هذا كـان احتسـاب شهادهتـا بنصف شهـادة‪ .‬فقد أجـريت أبحاث يف كـندا بني غري‬
‫املسلمني عن كيفـية ترصف الرجال والنساء عندمـا ُيسألون‪ .‬فعند توضيح معلومـة صحيحة كأن يكون ارتفاع مبنى‬
‫مـا مخسون طابقـاً‪ ،‬ثم سؤال الرجل بعـد مدة عن االرتفاع‪ ،‬نجـده يرص عىل أنه مخسون طـابقاً‪ .‬أما املـرأة فإن جادهلا‬
‫الـسائل بنـوع من اإلحلاح مـن أن املبنى قـد ال يصل إىل مخسني طـابقاً‪ ،‬بـل أقل من ذلك‪ ،‬فإهنـا جتاريه وتـوافقه تالفياً‬
‫للخالف‪ .‬فاملقـصود من احلديـث هو إذ ًا‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬أن النقصـان ليس بالـرضورة يف معنى نقيض زيـادة العقل‪ .‬حتى‬
‫وإن كـان املقصود هـو النقصان املـضاد للكامل‪ ،‬فهـذا ال يعني تعظيـم العقل عند الـرجال ليقف نـد ًا للنص‪ .‬ويتجىل‬
‫ال‪:‬‬
‫هـذا من حـديث مـسلم الـذي سأل فـيه الرسـول صىل اهلل علـيه وسلم عن الـرجل الذي اعـرتف أمامه بـالزنـا قائ ً‬
‫‪X‬أتعلمون بعقله بـأساً تنكرون منه شيئاً؟‪ ،Z‬فكانـت اإلجابة‪X :‬ما نعلمه إال ويف ّ العقل‪ .Z‬أي تام العقل وكامله‪ ،‬إال أن‬
‫هذا الكامل ال يرقى لدرجة مساءلة النص‪ ،‬بل يعني حتمل املسؤولية كام هو واضح من احلديث الذي رواه أبو داود‬
‫عن الـنبي صىل اهلل عليـه وسلم الذي قـال فيه‪{ :‬رفع القلـم عن ثالثة‪ :‬عـن النائـم حتى يـستيقـظ‪ ،‬وعن الصبـي حتى‬
‫حيتلم‪ ،‬وعن املجنون حتى يعقل}‪ .‬كام أن العقل ورد يف أحاديث أخرى بصيغة تدل عىل الثناء كام يف قوله صىل اهلل‬
‫عليه وسلـم يف احلديـث الذي رواه مـسلم‪{ :‬ثـم يقال لـلرجل مـا أجلده‪ ،‬مـا أظرفه‪ ،‬مـا أعقلـه}‪ ،‬وكام ورد يف مسـند‬
‫اإلمـام أمحد أنه صىل اهلل عليه وسلم قـال‪{ :‬كرم الرجل دينه‪ ،‬ومـروءته عقله‪ ،‬وحسبه خلقه}‪ .‬فربغـم تقدير العقل‬
‫هنـا ورفع مكـانته إال أنـه ال يرقـى كام تـرى ألن يتحـدى النص‪ ،‬بل هـو يف إطار صـفة بـرشية كـام يف قولـه‪{ :‬ما‬
‫‪82‬‬
‫أعقله} بقـرنه مع اجلَلد‪ ،‬أو يف إطـار ميزة إنـسانيـة ساميـة ترفـعه ملروءة البـرش كام يف قوله‪{ :‬ومـروءته عقله}‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫وباإلضافة للسابق‪ ،‬فقد ورد لفظ العقل يف عدة أحاديث بمعان قد ال تعني العقل أو قد ال تتصل بموضوعنا‪.‬‬

‫وأخري ًا لنعـرض لبعـض أقوال الـصحابـة عن العقل‪ :‬قـال عمـر بن اخلطـاب ريض اهلل عنه‪X :‬لـيس العـاقل من‬
‫عرف اخلري من الـرش‪ ،‬بل العاقل من عـرف خري الرشين‪ .Z‬وقـال عيل كرم اهلل وجهه‪X :‬ال مـال أعو ُد من العقل‪ ،‬وال‬
‫مكيال ثـلثه فطنة وثلثاه تغافـل‪ .Z‬وقال معاوية لعمرو بن‬
‫ٌ‬ ‫أرض من اجلهل‪ .Z‬وقال معـاوية بن أيب سفيان‪X :‬العقل‬
‫فقر ُّ‬
‫العاص‪X :‬ما بلغ من عقلك؟ قال‪ :‬ما دخلت يف يشء قط إال خرجت منه‪ .‬فقال معاوية‪ :‬لكني ما دخلت يف يشء قط‬
‫‪84‬‬
‫أريـد اخلروج منه‪ .Z‬وقيل لعـمرو بن العاص‪X :‬مـا العقل؟ فقال‪ :‬اإلصابـة بالظن‪ ،‬ومعـرفة ما يكـون بام قد كان‪.Z‬‬
‫وكام تـرى‪ ،‬فإن هذه أقـوال من عارصوا الـرسول صىل اهلل عليه وسلم‪ .‬وأقـواهلم تدور حـول معان يديـرون هبا أمور‬
‫حياهتم وفهم دينهم باستخـدام عقوهلم‪ .‬أي أن العقل كام ورد يف السنة باختـصار ليس إال أداة خادمة للمقصد األهم‬
‫يف احلياة‪ ،‬أال وهو فهم الرشيعـة والعمل هبا للخروج من الدنيا لبلوغ اآلخـرة‪ .‬وهذا املفهوم يتطابق وخيدم ما أتى به‬
‫القرآن الكريم من البحث عن احلقيقة‪ .‬وشتان بني هـذا املفهوم وبني أن يكون العقل كياناً مقدساً والعياذ باهلل يسري‬
‫أمور احليـاة بتغيري الرشيعة والتعيل عليها‪ .‬ولكن إن كان الـسابق صحيحاً‪ ،‬فكيف خرجت األمم اإلسالمية يف بعض‬
‫فتواها عن الرشيعة؟ أي كيف حتدى العقل النص؟‬
‫‪111‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫املعزتةل املعارصون‬
‫هل اإلنسان مـسري أم أنه خمري؟ لقد شغل هذا الـسؤال عقول املسلمني وكـان‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬أحد أسباب ختلفهم‬
‫بسبب اجلـدل واخلوض فيه‪ .‬إنه البـوابة اخللفيـة التي دخلت منهـا الفلسفـة إىل علوم املـسلمني لتـسحق مقدرهتم عىل‬
‫ال يف زمن الرسول صىل اهلل عليه وسلم وال يف عهد اخللفاء من‬
‫اإلنتاج‪ .‬كيف؟ لقد ظهرت أسئلة فلسفية مل توجد أص ً‬
‫بعـده‪ .‬أسئلة فـكرية ال تـزيد يف إنتـاج املجتمع‪ ،‬بل تـسحبه إىل حفرة جـدلية ال خمـرج منها إال بـالتعمق فيهـا ليزداد‬
‫املجتمع جدالً ومتزقاً‪ .‬قل يل باهلل عليك‪ :‬هل رأيت أو سمعت عن فيلسوفني اتفقا قط؟ بالطبع ال‪ ،‬ألهنام إن فعال فهم‬
‫ليسا من الفالسفة‪ .‬فلطاملا اختلفا‪ ،‬فالبـد وأن يكون أحدمها عىل احلق أو كالمها عىل ضالل‪ .‬وإن كان أحدمها عىل‬
‫احلق‪ ،‬فكيف نعرفه؟‬

‫كـام يقال‪ ،‬فإن كتب الفـلسفة اليونـانية املرتمجة إىل العـربية حركت بـعض النفوس ملحاولـة فك لغز التخيري‬
‫والتسـيري‪ .‬وكيف يكـون اخلروج مـن هذا املـأزق إال من خالل العـقل البرشي! هـنا كـانت الـبدايـة‪ .‬لقد بـدأ بعض‬
‫املسلمني بتـمجيد العقل بـاستخدام عقـوهلم يف مراجعـة نصوص الـرشيعة‪ ،‬وهذا كـان بفعل التأثـر بالفكـر الفلسفي‬
‫الـيونـاين‪ .‬هكذا بـدأت اجلرأة عىل الـنص‪ .‬إنه منـزلق كبري وقع فـيه الكثري وبحـسن نيـة‪ .‬ولعل املعـتزلـة منهـم‪ ،‬فقد‬
‫استندوا عىل العقل وحاولوا نفي الـظلم عن اهلل سبحانه وتعاىل من خالل تفسرياهتم‪ .‬فـقد قالوا بأن اهلل خلق لإلنسان‬
‫قدرة خيلق هبـا أفعاله‪ .‬أي أن اإلنسـان يف نظرهم فـاعل خمتار وحـر اإلرادة‪ .‬فهو يترصف بـالقدرة التـي منحها اهلل له‬
‫كام يشـاء‪ .‬وبذلك فـاإلنسان يـوجه ويستغل‪ ،‬وبـالتايل خيـلق أفعاله‪ .‬وألن احلق سبحـانه وتعاىل خـلق البرش وكلفهم‪،‬‬
‫فقد أكمل هلـم عقوهلم حتى يتمكنـوا من العمل‪X .‬والقدرة ال تكون إال قدرة عىل املـأمور به وعىل ضده‪ .‬وهلذا صار‬
‫ال مفكـر ًا حتى يستطيع أن يـنظر ويعترب ويتوصل‬ ‫بعضهم (أي املعتزلة) إىل أن أول مـا خيلقه اهلل جيب أن يكون عاق ً‬
‫بالعقل إىل معـرفة اخلالق‪ .Z‬لـذلك اهتِموا بوضع احلـديث الذي ذكرنـاه سابقاً‪ ،‬والـذي يبجل العقل‪X :‬أول ما خلق اهلل‬
‫العقـل ‪ .Z...‬وهبذا‪ ،‬كام يعتقـدون‪ ،‬فإهنم ينفـون الظلم عن اهلل سبحـانه وتعاىل‪ ،‬وإال فكيف حيـاسب اهلل الناس عىل‬
‫الرش وهو الـذي أقدرهم عىل فعله؟ فالبـد وأن يكون الرش مـن صنع البرش الذيـن مل يتمكنوا من اسـتخدام عقوهلم‬
‫كام جيب‪ ،‬وليس من صنع اهلل اللطيف الـودود‪ .‬فاخلري إذ ًا من اهلل عز وجل‪ ،‬والرش من اإلنـسان‪ .‬وهبذا يكون العقل‬
‫أسـاس املعرفة ومـوطن املسؤوليـة واالختيار‪ .‬وهكـذا تم تبجيل العقـل وبدأ عهد من الـتقديس للعقل لـدرجة حتدي‬
‫خلق مـن خلقه‪ .‬وهذا قـول مل يأت به الـرسول‬
‫النـصوص حتـى وصلوا إىل أن القـرآن ليس بكـالم اهلل عز وجل‪ ،‬بل ٌ‬
‫صىل اهلل عليه وسلم وال خلفاؤه وال أصحـابه من بعده‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فإن أمة أوصاهـا رسوهلا بتاليف البدع حتى يف أصغر‬
‫أمـورها‪ ،‬وجتد نفـسها يف دوامة بـدع متس صلب عقـيدهتا وبـدعم من السلـطة احلاكـمة آنذاك (املـأمون)‪ ،‬فالبد وأن‬
‫يثور فيها جدل يمزق وحدهتا‪ .‬وقد كان‪.‬‬

‫وال أريـد هنـا اخلوض يف مـسألـة القدر‪ ،‬فـموضـوع بحثـنا هـو التمكـني‪ ،‬ولكن للتـوضيح فقط أقـول‪ :‬إن ما‬
‫ال بـإرادته وخيلق أفعاله‪ ،‬أو مل يكن‪ ،‬فإنه خملوق هلل‪،‬‬
‫يذهب إليه أهل السنة واجلامعـة هو أن العقل سواء كان مستق ً‬
‫واستقالليـته ال تنفي أنه خملـوق‪ ،‬فإرادة اهلل كليـة وخالقـة لكل يشء‪ .‬أما إرادة اإلنـسان فهي جـزئية‪ .‬وهبـذا تتحقق‬
‫معنـى العبـودية الـكاملـة للحق سبـحانه وتعـاىل‪ ،‬ألن إرادة اإلنسـان احلرة لـيست إرادة مـطلقة‪ ،‬أمـا إرادة اهلل القوي‬
‫ٍ‬
‫ضعف لـدى املعتزلة إذ أهنم مل ينكروا أن العقل‬ ‫العزيز فهـي مطلقة‪ ،‬ما شاء فعل‪ ،‬وما مل يـشأ مل يفعل‪ .‬وهذه نقطة‬
‫قص احلق‬ ‫‪112‬‬

‫والقدرة التي خيلـق هبا اإلنسان أفعـاله خملوقة هلل أيضـاً‪ .‬ويف هذا رجوع للحق جـلت قدرته‪ ،‬وأن كل يشء خملوق له‬
‫سـبحانه وتعـاىل‪ ،‬وهبذا تكـون احلريـة التي يـدعوهنـا حريـة نسبـية‪ .‬أي أن منـطق أهل السـنة واجلامعـة هو األوىل‬
‫بـاالتباع ألهنم قالوا أن اخلري والرش مـن اهلل ألن قضاءه سبحانه وتعاىل سابق‪X ،‬وأن اإلنـسان يكسب عمله الذي قُدر‬
‫له بإرادته وباختياره‪ ،‬وهـذا ال يتعارض مع إرادة اهلل‪ ،‬ألن علم اهلل األزيل حييط بكل يشء‪ ،‬لذلك سخر طرق اهلداية‬
‫للمهتـدي‪ ،‬وطرق الضـاللة للضـال‪ 85.Z‬ولعل العلة تـكمن‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬يف قنـاعة اإلنـسان يف لطف اهلل وطـيبته‪ .‬فمن‬
‫اعتقد أن اهلل لطيف رؤوف رحيم بعبـاده‪ ،‬جتده حيسن الظن باهلل وأنه سبحـانه وتعاىل ليس بظالم للعبيد‪ .‬بل ألن اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل يعلم الغيـب‪ ،‬فقد قدر الضاللة للضال‪ .‬حتى وإن أسمعهم لتولوا كام قال احلق سبحانه وتعاىل‪( :‬وَ لَو‪c‬‬
‫يا اَّل ‪َc‬سمَعَهُم‪ c‬وَ لَو‪ c‬أ ‪َc‬سمَعَهُم‪ c‬لَتَـوَ لاَّواْ وهَّ هُ م مُّعر ُِضونَ)‪ 86.‬فاإلشكالية تـكمن‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬يف عدم قناعة‬
‫‪e‬لل فِيهِم‪ c‬خَ ‪ً c‬‬
‫عَ لِمَ هَّ ُ‬
‫ال يف رأس ال يتجاوز يف حجمه‬
‫البعض بقدرة اهلل عىل علم الغيب‪ .‬وهلل املثل األعىل‪ ،‬فأنت أهيا اإلنسان الذي متلك عق ً‬
‫كرة صـغرية‪ ،‬تستطيع أن حتيـط علام ً بمعظم ما هـو يف غرفتك؟ فتصـور أنه سبحانه وتعاىل خـلق كائناً ذا عقل رأسه‬
‫كحجم الشمس أو حتى كحجم جمموعتنا الشمسية وبنفس مادة عقل البرش‪ ،‬وهو سبحانه اخلالق اخلالق القادر عىل‬
‫ذلك‪( ،‬وإال كيف يكون رباً؟)‪ ،‬أال يستطيع هذا املخلوق ذو الرأس الضخم أن حييط بام عىل األرض علام ً من خالل‬
‫ال عىل ذلك‪ :‬أال يستطيع هذا املخلوق أن حيسب من التفاعالت‬
‫ال‪ .‬ألرضب مث ً‬
‫حسابات دقيقة لترصفات البرش مستقب ً‬
‫الكيمـيائية داخل رأس زيـد من الناس أنه سيـستيقظ يف السـاعة كذا ثم خيـرج بعد كذا وهـكذا حتى تـأتيه حمادثة‬
‫هـاتفيـة وهو يقـود عربـته لعمله يف اللحـظة كـذا فيسـهو ثم تـكون هنـاك عربـة عبيـد من النـاس يف نفس اللحـظة‬
‫ليحدث حادث يودي بحيـاة زيد أو شلل عبيد فيكتب هـذا املخلوق مقدماً موعـد هالك زيد وشلل عبيد‪ .‬فام ظنك‬
‫^ت‬
‫وَ‪e‬لسمَ^وَ ُ‬
‫َر‪c‬ض جَ مِيعًا قَب َ‪c‬ضـتُهُ‪ /‬يَو‪ c‬مَ ‪e‬ل‪c‬قِيَ^مَةِ هَّ‬
‫وَ‪e‬ل ُ‬
‫‪e‬لل حَ َّق قَد‪ c‬رِهِ\ ‪c‬‬
‫برب العـاملني الذي ليـس كمثله يشء‪( :‬وَ مَا قَـدَ رُ واْ هَّ َ‬
‫هَّ^ت بِيَمِينِهِ\ ُسب‪c‬حَ ^نَهُ‪ /‬وَ تَعَ^لَى عَ مهَّـا يُش‪ c‬رِكُونَ)‪ 87.‬أي أن هذا املخلوق ذا الدمـاغ اهلائل يستطـيع ما ال يستطيعه‬
‫مَط‪c‬وِي ٌ‬
‫البرش بتحـويل مجيع التفاعالت اليومية ملعادالت حـسابية ومن ثم يتوقع ما قـد يقع‪ .‬فام بالك برب العاملني القائل يف‬
‫‪c‬ب وَ‪e‬لشَّ هَ^دَ ةِ وَهُ وَ ‪e‬ل‪c‬حَ كِ يمُ ‪e‬ل‪c‬خَ بِيُ)‪.‬‬
‫‪e‬لصورِ عَ ^لِمُ ‪e‬ل‪c‬غَي ِ‬
‫‪c‬ك يَو‪ c‬مَ يُنفَخُ فِى ُّ‬
‫سورة األنعام‪( :‬قَو‪ c‬لُهُ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق وَ لَهُ ‪e‬ل‪c‬مُل ُ‬

‫مـسألة أخـرية‪ b:‬حتى وإن قدر العـليم احلكيم الضالل عىل فـرد ما‪ ،‬فإن ذلـك الفرد يستحق ذلـك التقدير ألنه‬
‫أتى من عند اهلل العليم احلكيم الـودود اللطيف الرمحن الرحيم‪ ،‬أمل يقل سبحـانه وتعاىل يف آخر سورة اإلنسان‪( :‬إِ َّن‬
‫‪e‬لل كَا َن عَ لِيمًـا حَ كِ يمًا‪ 30#‬يُد‪ c‬خِ ُل‬
‫‪e‬لل إِ َّن هَّ َ‬
‫ِل أَن يَشَ ا‪d‬ءَ هَّ ُ‬
‫ِيل‪ 29#‬وَ مَا تَشَ ـا‪d‬ءُو َن إ اَّ ‪d‬‬
‫هَ ^ ِذهِ\ تَذ‪ c‬كِرَ ةٌ فَمَن شَ ا‪d‬ءَ ‪e‬تَّخَ ـذَ إِلَى رَ بِّهِ\ َسب ً‬
‫مَن يَشَ ا‪d‬ءُ فِى رَح‪ c‬مَتِهِ\ وَ‪e‬لظاَّ^لِـمِنيَ أَعَ دَّ لَهُم‪ c‬عَ ذَ ابًا أَلِـيمًا)‪ .‬واآليات يف هذا كثـرية جد ًا لتؤكـد أن ما حكم به اهلل عىل‬
‫ال بعلمه وحكمته‪ ،‬قال تعاىل يف اآلية ‪83‬‬
‫خلقه هو احلق لكامل علمه وحكمته‪ ،‬فهـو قد رفع ابراهيم عليه السالم مث ً‬
‫هَّك حَ ـكِ يمٌ عَ لِيمٌ )‪.‬‬
‫^ت مهَّن نَّـشَ ا‪d‬ءُ إِ َّن رَ ب َ‬
‫‪c‬ك حُ هَّجتُنَـا‪ d‬ءَاتَي‪c‬نَ^هَا‪ d‬إِب‪c‬رَ ^هِـيمَ عَ لَى قَـو‪ c‬مِهِ\ نَر‪ c‬فَعُ دَرَجَ ٍ‬
‫مـن سورة األنعـام‪( :‬وَ تِل َ‬
‫وأعتقـد بأن هذه املسألة جوهرية يف كامل العقيدة‪ :‬وهي اإليامن بأن هلل احلق يف فعل أي يشء‪ ،‬حتى وإن حكم عىل‬
‫كل الـبرش بـأن يصـليهم نـار جهـنم ويف أسفل سـافلني‪ ،‬فهـو خلقـهم وله فعل مـا أراد هبم‪ ،‬إال أنه رمحـن رحيم ودود‬
‫لطيف‪ .‬لذلك نحمد اهلل عىل أسامئه احلسنى وصفاته‪.‬‬

‫أي أن علـينا كـمسلمني أن نـعتقد بقـرص عقول البـرش إليقافهـا عند الـنصوص‪ .‬وأن نـستخدم عقـولنا لـنتأمل‬
‫احلكمـة من رشعه سبحانه وتعـاىل‪ .‬نتفكر يف الرشع ولـكن ال نحاول تغيريه كام حـدث عند فتح بـاب االجتهاد كام‬
‫‪113‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫سرتى بإذن اهلل‪ ،‬فهذا حمظور علينا‪ .‬هنا‪ ،‬أي عند النصوص‪ ،‬البد لنا من الوقوف والتسليم‪ .‬ولكن الذي حدث هو أن‬
‫أحكاماً قد أطلقت بفتح باب االجتهاد فتغريت مقصوصة احلقوق ومن ثم تم احلكم بغري ما أنزل اهلل فكان الضياع‪.‬‬
‫ال‬
‫ولعل من مسبـبات هذا التحـوير للرشيـعة هو اعتقـاد بعض الفقهاء أن الـدين يف أحكامه بني النـاس ال يكون قاب ً‬
‫لكل زمان ومكـان إن مل يتغري بـتغري الزمـان واملكان‪ .‬ولعل األسـوأ هو اعتقـاد أكثر العـامة‪ ،‬ومـنهم أويل األمر‪ ،‬أن‬
‫اخلطـاب الديني يف القرآن واحلـديث إنام هو موجه للـسلف بالدرجة األوىل‪ ،‬وأن بـعض هذه النصوص لـيست بالتايل‬
‫ّك َل يُؤ‪ c‬مِـنُو َن حَ تَّى يُـحَ ِّكمُوكَ فِيمَـا شَ َجرَ بَي‪c‬نَهُم‪ c‬ثُمهَّ َل‬
‫ال‪( :‬ف ََل وَ رَ بِ َ‬
‫موجهـة لنا لـتغري الزمـان‪ .‬تأمل اآليـة اآلتية مـث ً‬
‫‪c‬ت وَ ي َُسلِّـمُواْ ت ‪َc‬سلِيـمًا)‪ 88.‬فكثري هم الـذين يعتقـدون‪ ،‬وبرغم عـدم ترصحيهم‬
‫يَـجِ دُ واْ فِى‪ d‬أَنفُسِ هِـم‪ c‬حَ رَجً ا مِّمهَّـا ق ََضي َ‬
‫بذلك‪ ،‬أن هذه اآليـة قد تعطلت ألن الرسـول صىل اهلل عليه وسلم ال يعيش بيننـا اليوم‪ .‬فعندما متـنع السلطات الناس‬
‫من اسـتخراج معـادن األرض إال بإذن مـنها‪ ،‬فقـد حياول فـرد الرجـوع حلكم الـرشيعة مـستنـد ًا إىل هذه اآليـة‪ ،‬برفع‬
‫دعوى ضد الـسلطات يف املحـاكم (هذا إن استـطاع)‪ ،‬أي أن شجار ًا قـد وقع بني الفرد وسلـطته‪ ،‬وعندهـا‪ ،‬وبحسب‬
‫نص هـذه اآلية‪ ،‬عىل احلاكم الـرجوع ملا حكمـت به الرشيعة ألن الرسـول صىل اهلل عليه وسلم ال يعيش بيـننا اليوم‪،‬‬
‫بل الـرشيعة هي الـتي تعيش معـنا وأن عىل اجلمـيع التسليـم ملا أتت به الـرشيعة دون أن يكـون يف ذلك أي حرج يف‬
‫النـفوس؛ هـنا جتـد الرفـض يف املجتمع وبـالذات مـن أويل األمر وبـدعم مـن بعض الفقهـاء بحجـة أن الظـروف قد‬
‫تغريت‪ .‬فمن الفقهاء من يميز بني أحاديث الرسول صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬هل قاهلا عىل أنه نبي مرسل أم قاهلا عىل أنه‬
‫حاكم أو إمام للـمسلمني آنذاك! فحديث إحياء املوات برغم وضوح نصه الذي يبيح للناس اإلحياء دون إذن اإلمام‪،‬‬
‫إال أن البعض أوله عىل أن الرسول صىل اهلل عليه وسلم ما أطلقه إال كحاكم وليس كنبي مرسل‪ ،‬لذلك فاحلديث غري‬
‫ملـزم لنـا اآلن‪ ،‬فال إحيـاء إال بإذن اإلمـام‪ .‬هكـذا يكـون التعـطيل ألحكـام الرشيعـة‪ .‬وهذا عـادة ال حيدث إال يف‬
‫مقصـوصة احلقوق وال حيدث يف األحكام التعبـدية‪ .‬وحتى يف األحكام التعبديـة جيب علينا التسليم يف كل األحكام‬
‫ال‪ ،‬جيب عليـنا أن نسلم بأن املسح ُرشع‬
‫حتى وإن مل ندرك احلكـمة من خلفها‪ .‬فعند الـتفكر يف املسح عىل اخلفني مث ً‬
‫ليكون مـن فوق اخلف وليـس من أسفله رغم أن هـذا قد ال يكـون منطقـياً للبعـض منا‪ ،‬فعلـينا أن نـستخدم عقـولنا‬
‫إلدراك احلكمة من وراء احلكم‪ ،‬ولكن ال حيق لـنا أن نخالف احلكم إن مل نتوصل بعقـولنا للحكمة من وراء احلكم‪،‬‬
‫ال ألن مـعارفهـم املرتاكمـة ستكـون أكثـر منـا ال حمالـة‪ .‬وهكـذا ترتاكم املعـرفة‬
‫فقـد يتـوصل إليهـا آخرون مـستقب ً‬
‫اإلسالمـية‪ :‬أي ترتاكم من خالل حمـاولة فهم املقـاصد من األحكـام دون تغيريها‪ ،‬ال أن نـستنتج ونرجح املـقاصد ثم‬
‫نغري األحكـام لتلحق باملـقاصد كـام حدث يف الرشع مـؤخر ًا (كام سرتى بـإذن اهلل)‪ .‬فبالنـسبة للحقـوق‪ ،‬فالبد وأن‬
‫تلحق املقاصـد باألحكـام‪ ،‬وأن يسخر الـعقل إلدراك حكمة األحكـام ومقاصدهـا‪ .‬هذا يف العلـوم اإلنسانـية‪ .‬أما يف‬
‫العـلوم الـتقنيـة‪ ،‬فإن اإلبـداع سيـأيت بعـد إطالق العقل ألقـصى مـدى ممكن يف األعيـان رغام ً عـن اجلميـع إن طبقت‬
‫الرشيعة بإيقـاف العقل عند النص‪ ،‬ألن يف إيقاف العـقل عند النص إطالق للجميع للمـزيد من اإلنتاج والرتحال ألن‬
‫النصـوص الرشعية تـدفع لالنطالق رغام ً عن اجلـميع بطريقـة ال يمكن أن تفعلهـا منظومـات حقوقيـة أخرى‪ .‬وهذا‬
‫سيؤدي إىل االكتشافات التي ستزيد االخرتاعات ليأيت التمكني (وسنوضحه بإذن اهلل)‪.‬‬

‫أي أن هنجنا يف التفكري هو إطالق وتسليم‪ .‬إطالق حيث أمرنا سبحانه وتعاىل يف التفكر يف خملوقاته‪ ،‬كيف‬
‫تتواجد وتعيش وتتكاثر؟ كيف تنمو األشياء والكائنات وتتحول وتتفاعل؟ كيف تصهر املعادن وتتغري من حال إىل‬
‫حال؟ وكـيف نستفـيد منـها؟ أي سعي حـثيث لالكتـشافـات‪ ،‬وعمل دؤوب لالخرتاعـات والتجارب والـتطويـر ليأيت‬
‫قص احلق‬ ‫‪114‬‬

‫التمكني‪ .‬وهـذا لن يتأتى إال بـإطالق البرش يف شتى املـجاالت‪ ،‬وهذا ما تـدفع إليه الرشيعة كام سـيأيت بإذن اهلل‪ .‬أما‬
‫األحكام التـي تربط النـاس برهبم‪ ،‬واملـعامالت التي حتـكم عالقات النـاس فيام بينـهم (احلقوق)‪ ،‬فنـسلم هلا أمـرنا‪:‬‬
‫نطلق عقولنا ملحاولة فهمها‪ ،‬وإن مل ندرك احلكمة من أحكامها علينا أن ننتظر ونسلم‪ ،‬ألهنا فوق مستوى عقولنا‪ ،‬ال‬
‫أن نغري ما ال نـدرك حكمته‪ .‬وهذا ما بدر مع األسف من بعض علامء الرشع مـؤخر ًا‪ .‬فلقد ظهرت أحكام حمدثة من‬
‫بعض العلامء باتباع عقوهلم والتي تناقض نصوصاً يف الرشع (كام حدث يف نزع امللكية مث ً‬
‫ال)‪.‬‬

‫وأنـوه هنــا إىل ضعفي يف الـرشيعـة‪ ،‬فام سـأقـوله قـد ال ينـطبق عـىل املسـائل غري الـتنمـويـة واالقـتصـاديـة‬
‫والعـمرانـية‪ .‬أخـي القارئ‪ :‬إن لـدي يقيـناً بـأن كل ما أتـى به الرشع هـو األمثل لكل زمـان ومكان‪ 89.‬وهـذا إعجاز‬
‫ترشيعي أتى به اإلسالم‪ ،‬إال أنه تغري لوقوع بعض الفقهاء املعارصين يف منزلق‪ .‬فهم يف تفكريهم يف األمور املعارصة‬
‫اصطـدموا مع املتـطلبات احلـديثة فـأرسعوا لألخـذ بمنطقهـم البرشي‪ .‬ولكي ال يـظهر اإلسالم دينـاً متخلفـاً أوجدوا‬
‫أحكـاماً خالفت الرشع حتت مـظلة االجتهاد باسـتخدام عقوهلم‪ ،‬فأرسع احلـكام (وهنا كانت الكـارثة) بتطبيق هذه‬
‫األحكام‪ ،‬وهبذا ظهر خلل يف املجتمع املسلم‪ ،‬وعندها مل تكن الرشيعة مهيئة للتعامل مع هذا اخللل الذي مل حتدثه‬
‫ال (تـذكر مثال مـرض نقص املناعـة اإليدز) مما تـطلب اجتهاد ًا آخـر‪ ،‬فتم تطبـيقه‪ ،‬فظهر خلل آخـر بحاجة‬
‫هي أص ً‬
‫الجتهاد آخـر‪ .‬وهكذا تـراكمت االجتهـادات حتى خـرجت املجتمعـات عن حكم اهلل وذلت‪ .‬أي أن بـعض الفقهاء‬
‫هنجوا هنـج املعتزلـة ولكن هلـدف خمتلف‪ .‬فـاملعتزلـة حرصـاً منهم عىل نفـي الظلم عن اهلل عـز وجل‪ ،‬انتهـوا بإعامل‬
‫عقوهلـم إىل القول بخلق القرآن الكـريم لتتمزق األمـة آنذاك‪ .‬وكذلك فعـل هؤالء القلة من الفقـهاء املعارصين‪ ،‬فهم‬
‫حرصـاً منهم وبحـسن نيـة عىل أن يظهـر اإلسالم مالئام ً لعـرصنا‪ ،‬أعـملوا عقـوهلم يف نصـوص األحكام‪ ،‬فـأصبحت‬
‫فتاواهم أحكـاماً طبقها الـسالطني‪ .‬واألمثلة عىل هـذا كثرية كام سيأيت بـإذنه تعاىل‪ .‬فكيف حـدث هذا اخلروج عن‬
‫حكم اهلل العليم احلكيم إىل حكم عقول البرش؟‬

‫أصول افلقه‬
‫لإلجابة عىل السؤال السابق‪ ،‬عليـنا أوالً أن نلم ببعض املصطلحات يف أصول الفقه‪ .‬فأصول الفقه هي املناهج‬
‫التي يلتـزمها الفقيه الستنـباط األحكام‪.‬عـ فبـالرجوع إىل كل مـن القرآن الكريم والـسنة املطهـرة واإلمجاع وفتاوي‬
‫الـصحابـة والقيـاس واالستحسـان والعرف واملـصالح املـرسلة والـذرائع واالستصحـاب (عىل الرتتيب)‪ ،‬حـدد األئمة‬
‫ال حيد منـاهج استنباطـه األساسية بـالكتاب فـالسنة‬
‫املجتهدون منـاهجهم الستنبـاط األحكام‪X .‬فنجـد أبا حنيفـة مث ً‬
‫ففتاوي الصحابـة‪ ،‬يأخذ ما جيمعون عليه‪ ،‬وما خيتلفون فيه يـتخري من آرائهم وال خيرج عنها‪ ،‬وال يأخذ برأي التابعني‬
‫ألهنم رجال مثله‪ ،‬ونجـده يسري يف القياس واالستحـسان عىل منهاج ّبني‪ .‬حتـى لقد يقول عنه تلميـذه حممد بن احلسن‬
‫الشيبـاين‪ ،‬كان أصحابه ينازعونه يف القياس فإذا قال استحسـن مل يلحق به أحد‪ .Z‬ونجد املالكية يأخذون‪ ،‬باإلضافة‬
‫إىل القرآن والسنـة‪ ،‬بعمل أو إمجاع أهل املدينة واالستحسـان والعرف واملصالح املرسلة‪ .‬أمـا الشافعي فلم يأخذ بكل‬

‫واحد جيمعها‪ ،‬أو إىل ضبط فقهي يربطها كقواعد امللكية‪ .‬ومن كتب‬ ‫عـ) هناك فرق بـني أصول الفقه والقواعـد الفقهية‪ .‬فـأصول الفقه هي‬
‫القواعد كتاب الفروق للقرايف‪ ،‬واألشباه والنظائر البن نجيم‪ ،‬وقواعد‬ ‫القـوانني التي يلتـزمها الفقـيه ليعتصـم هبا من اخلطـأ يف االستنبـاط‪ ،‬أما‬
‫ابن رجب (‪.)90‬‬ ‫القواعد الفقهية فهي جمموعة األحكـام املتشاهبة التي ترجع إىل قياس‬
‫‪115‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫من عمل أهل املـدينة واالستحسان والعـرف واملصالح املرسلة‪X .‬ونجـد أن احلنابلة أقرب إىل املـالكية من حيث عدد‬
‫الـينابـيع التي استـقوا منهـا مادة الفقه‪ .Z‬وبـرغم هذه االخـتالفات بني املـذاهب إال أن اجلميع جمـمعون عىل الـكتاب‬
‫والسـنة واإلمجاع والقيـاس‪ .‬واملقصود بـاإلمجاع هو اتفـاق املجتهدين من األمـة اإلسالمية يف عرص من العـصور بعد‬
‫النبـي صىل اهلل عليه وسلم‪ .‬وهنـاك خالف يف من هم هـؤالء الذيـن ينعقد اإلمجـاع هبم؟ أهم األئمـة الذين تلـو عهد‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬أم هم األئمة يف كل عرص؟ والظـاهر هو أن حجية اإلمجاع‪ ،‬وكام يقول أبو زهرة‪ :‬هي‬
‫أهنا ‪X‬كلها كانـت يف إمجاع الصحابة ريض اهلل تبارك وتعـاىل عنهم‪ ،‬ومل يكونوا قد تفـرقوا يف األقاليم‪ ،‬فكان اإلمجاع‬
‫ممكناً‪ .‬أما يف عـرص التابعني وقد تفرقوا يف األقـاليم‪ ،‬فإن اإلمجاع حينئذ مل يكـن ميسور ًا‪ ،‬إن مل يكن متعذر ًا‪.Z‬ف أما‬
‫املقصود بـالقياس فهو ‪X‬بيان حكم أمر غـري منصوص عىل حكمه بإحلاقه بأمـر معلوم حكمه بالنص عليه يف الكتاب‬
‫‪92‬‬
‫والسنة‪ Z‬وذلك الشرتاكهام يف العلة كتحريم كل ما هو مسكر قياساً عىل اخلمر مث ً‬
‫ال‪.‬‬

‫أي أن هناك اختالفاً بني املذاهب يف اسـتنباط األحكام‪ .‬برغم أهنا تنبع من القـرآن والسنة‪ ،‬وبرغم أهنا مبنية‬
‫عىل مصـالح العباد كـام رشعها اهلل‪ .‬فهل للعقل دور يف هـذا االختالف ويف استنبـاط األحكام؟ لقـد قال الشـيعة بأن‬
‫العقل مصدر فقهي فيام مل يرد به كتاب أو سنة‪ .‬أمـا مجهور فقهاء السلف فال جيعلون العقل حاكام ً‪X ،‬بل يردون ما‬
‫ال نص فيه إىل ما فيه نـص بالطرق املخـتلفة‪ ،‬إما بطـريق القياس أو االستحـسان‪ ،‬أو الرد إىل املصـالح املعتربة رشعاً‪،‬‬
‫ـرشع األحكام‪ ،‬وال يضع التكليفات‪،‬‬
‫وإن مل يشـهد هلا دليل خاص‪ .Z‬أي ‪X‬أن العقل عنـد مجهور الفقهاء ليس له أن ُي َ ّ‬
‫ال‪ ،‬ولكنه ينطلق يف عمله حيث يـطلقه اهلل سبحانه وتعاىل‪ .Z‬وذلك‬
‫وليـس معنى ذلك أنه ال جمال لعمله‪ ،‬بل إن لـه عم ً‬
‫ألن األصـول املذكورة سابقاً (كاإلمجاع والقياس) كلها تـرجع إىل القرآن والسنة‪ .‬لذا كان الشافعي رمحه اهلل يقول‪:‬‬
‫محل عىل نـص‪ .Z‬وكان ُيـضيق معنـى احلمـل عىل النص فـيقرصه عىل القـياس‪.‬‬
‫‪X‬إن األحـكام ال تـؤخذ إال مـن نص أو َ ْ‬
‫‪93‬‬
‫وغريه من األئـمة يوسعـون معنى احلمل عىل الـنص فيدجمـون فيه مصادر أخـرى كاالستـحسان واملصـالح املرسلة‪.‬‬
‫وهنا يـأيت دور العقل البرشي بـالربـط بني األمور بـاملامثلة السـتنباط األحـكام كام يف القيـاس‪ 94.‬ال أن يقوم العقل‬
‫بالترشيع كام حدث مع معظم الفقهاء املتأخرين الذين تطرقوا للمسائل املعارصة‪.‬‬

‫أرجو منك أخي القـارئ أن تأخذ هـذه املسألة بـنوع من احلذر عنـد قراءتك للجزء اآليت‪ .‬فهـذه املسألة (أي‬
‫ترك القياس لـغريه) هي انزالق كبري وقع فيه بعض الـعلامء لعدم إملامهم بتكـوين البيئة االقتصـادية والعمرانية أوالً‪،‬‬
‫ولـتحرجهم أمـام من اعتقـدوا بضعف الرشيعـة يف مسـايرة متـطلبات العـرص ثانيـاً‪ ،‬مؤديـاً هبم إىل استخـدام عقوهلم‬
‫ومنطقهم البـرشي من خالل توسيع باب االستحسان الستنباط األحـكام‪ ،‬وهو خالف ما عليه مجهور أئمة املذاهب‬
‫كـام هو واضح‪ .‬وإلثـبات هـذا البد يل أوالً مـن املرور رسيعـاً عىل حديـث الرضر كمـثال تـوضيـحي عىل احلكم يف‬
‫املسـائل املعـارصة (وهو مـن أهم مبـادئ الفـصل بني النـاس‪ ،‬وسيـأيت موضـحاً بـإذن اهلل مع مـبادئ أخـرى يف فصل‬
‫‪X‬املوافقات‪.)Z‬‬

‫صىل اهلل عليه وسلم‪X :‬ال جتتمع أمتي عىل ضاللة‪ ،Z‬ومن قوله فيام رواه‬ ‫ف) ويثري اإلمـام الشافعي عدة أسئلة معرتضاً عىل إمكانية اإلمجاع يف‬
‫الشـافعي عن عمـر ريض اهلل عنه‪X :‬أال فمن رسه بحـبحة اجلـنة فلـيلزم‬ ‫كل زمـان‪ .‬وأن سند األمجـاع يف االجتهاد من الـسنة هـو قوله صىل اهلل‬
‫اجلامعـة‪ ،‬فـإن الــشيـطــان مع الفـذ‪ ،‬وهــو من االثـنني أبعـد‪.)91( Z‬‬ ‫عليه وسلـم‪X :‬ما رآه املسلمـون حسناً فـهو عند اهلل حـسن‪ ،Z‬ومن قوله‬
‫قص احلق‬ ‫‪116‬‬

‫مصق همم‪ :‬ال رضَر وال رِرضار‬


‫‪X‬ال رضر وال رضار‪ Z‬هو حـديث مشهور عن املصطفى صلـوات اهلل وسالمه عليه‪ 95.‬وقال أبو داود عنه بأنه‬
‫ص‬
‫أحــد مخسـة أحـاديث يـدور عليهـا الفقه‪ .‬واحلـديث يعـني عمـومـاً أن للفـرد أن يـترصف كـام أراد ‪X‬إذا مل يرض‬
‫باآلخـرين‪ .Z‬وقـد استخـدم الفقهـاء والقضـاة واحلكام هـذا األصل للحكم عىل تـرصفات األفـراد التـمكينـية ومـنها‬
‫العمـرانيـة‪ ،‬فقد كـان هذا احلـديث أحـد أهم املقـصات للـحقوق‪ .‬فـقد يقـوم شخص مـا بتغـيري البيـئة بـشكل يرض‬
‫باجلريان‪ ،‬ولعـدم وجود األنظمة والقوانني يف ذلك الـوقت (وهذه من حكمة الشـارع كام سنرى بإذن اهلل)‪ ،‬فقد كان‬
‫َم يف كل قضية بيئية‪ ،‬وبالتايل عوجلت كل قضية معاجلة مستقلة‪ ،‬فلم يكن هناك قانون مطبق‬ ‫هذا احلديث هو ا َ‬
‫حلك ُ‬
‫ال‪ .‬ولكـن كان كل مـوقع أو عقار يعـالج بذاته‬
‫عىل الـكل يمنع سكـان حي بأكـمله من التعـيل أكثر مـن دورين مث ً‬
‫ولذاته ال قياساً بأنظمة املنطقة الـتي هو هبا كام هو احلال يف أيامنا هذه إذ أنه ال أنظمة‪ .‬أي أن كل مالك حيصل عىل‬
‫حقوقه التي ختتلف عن حقوق اآلخرين من حوله‪ ،‬وهبذا فحديث الرضر هو مقص يقص احلقوق‪ .‬كيف؟‬

‫لعلك هنا ُت ـستثار أخي القـارئ وتسأل‪ :‬كيـف حيق للفرد أن يترصف كيفـام أراد ألن البيئة ستـصبح فوضى؟‬
‫فأقول‪ :‬الحـظ أنني قلت‪X :‬إذا مل يرض باآلخرين‪ .Z‬وهذا هو املحك أو املعيار املهم الذي وضعته الرشيعة‪ .‬ومعظم‬
‫ما يف كتاب ‪X‬عامرة األرض يف اإلسالم‪ Z‬حياول توضيح فكرة أن يف ترصف األفراد دون إذن من السلطات خري كثري‬
‫للـمجتـمع ألنه سيـؤدي ملجتـمع يتـم قص احلقـوق فـيه بطـريقـة تـؤدي إىل اجلـدارة يف العـمل واملثـابـرة‪ ،‬ولـيس إىل‬
‫املحسـوبيـات والتـزلف والنفـاق كام هـو حاصـل اآلن‪ .‬فاملهـم يف أيامـنا هـذه هو إذن الـسلطـات ملن أراد أن يـبادر‬
‫ويوجـد مصنـعاً أو حتـى إن أراد أن يغري املـالك وظيفـة داره ملعمل صغـري‪ ،‬وليس املـهم هو الـرضر الناجـم من هذه‬
‫املنشـأة كام سيتضح من باقي فصول الكتـاب بإذن اهلل‪ .‬ولكنك قد تقول‪ :‬بأن اإلذن من الـسلطات مربوط بدراسات‬
‫مستفيضة حتاول املحافظة عىل الـبيئة بتاليف الرضر‪ ،‬أي أهنا ليست عبثاً‪ .‬فأقـول‪ :‬هذا نظرياً‪ ،‬أما يف الواقع العميل فإن‬
‫الـذي حيدث هو تغليب األهواء واملصالح‪ ،‬ففي مثل هذه الظروف التي تكون السلطات فيها هي املهيمنة فالبد وأن‬
‫يساء استخـدام هذه الصالحية التي بيد السلطات بإجـازة مصنع هذا ومنع مصنع ذاك كام هو معلوم‪ .‬لذلك نجد أن‬
‫الرشيعة قد جـذت هذا من جذوره كام سيأيت بإذن اهلل‪ .‬وهنا أود لفت نظـرك ملسألة منهجية هي اآليت‪ :‬قد تقول أن‬
‫األصل هو تقييـد ترصفات الـناس كام تتجه لـذلك قلة من كـتب الفقه ومعظم آراء الفقهـاء املعارصين‪ .‬فـأقول‪ :‬قد‬
‫أثـبت لك أخي‬
‫ّ‬ ‫يـكون هـذا صحيحـاً إن ثبت أن املجـتمع سيكـون أفضل حـاالً بتقيـيد تـرصفات األفـراد‪ ،‬ولكن إن‬
‫الـقارئ يف هذا الكـتاب (وسأنجح بـتوفيق اهلل ومنه بـإذنه تعاىل) أن األفضل هـو األخذ بنص احلـديث كام هو دون‬
‫حتميله ما ليس فيه‪ ،‬فعندها إن كنت منصفاً فـعليك أن ترتاجع عن اعتقادك بأن تطبيق احلديث سيؤدي لفوضى وأنه‬
‫البد للسلطات حينئد من الرتاجع عن فكرة تقييد ترصفات األفراد‪ .‬إال أن تراجع السلطات لن حيدث ألن فيه مرضة‬
‫ملن هم يف املناصب‪ .‬حتى هذا فقد وضعت له الرشيعة عالجاً كام سيأيت بإذنه تعاىل‪.‬‬

‫الـدكتور الربنـو القواعـد اخلمس الكـربى يف كتابه الـوجيز وهي‪)1 :‬‬ ‫ص) قـال أبــو داود (ت ‪X :)275‬الفقه يــدور عىل مخـسـة أحــاديث‪:‬‬
‫األمور بمقاصدها؛ ‪ )2‬وال رضر وال رضار؛ ‪ )3‬واليقني ال يزول بالشك؛‬ ‫احلـالل بني واحلرام بني‪ .‬وقوله صىل اهلل عليه وسلم‪ :‬ال رضر وال رضار‪.‬‬
‫‪ )4‬واملشقة جتلب التيسري؛ ‪ )5‬والعادة حمكمة (‪.)96‬‬ ‫وقوله‪ :‬إنام األعامل بـالنيات‪ .‬وقوله‪ :‬الدين النصيحة‪ .‬وقوله ما هنيتكم‬
‫عنه فـاجـتنبـوه ومـا أمــرتكم به فـأتـوا منه مـا اسـتطـعتم‪ ،Z‬ويـوضح‬
‫‪117‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫هـناك اخـتالف بني الفقهـاء يف حتديـد املعنـى الدقـيق لكل من الـرضر والرضار والفـرق بينهـام‪ ،‬وبالـتايل يف‬
‫استخدام احلـديث يف معاجلـة املسائل الـبيئية‪ .‬فـفي نيل األوطار‪X :‬فقـيل إن الرض فعل الواحـد‪ ،‬والرضار فعل االثنني‬
‫والرض أن تـرضه وتنـتفع أنت به‪ .‬وقـيل الرضار اجلــزاء عىل الرض‬
‫ّ‬ ‫فصـاعـد ًا‪ .‬وقيل الـرضار أن ترضه بـغري أن تنـتفع‪،‬‬
‫ق‬
‫َـص َد‬
‫والرض االبتـداء‪ .Z‬وقيل‪ :‬الرضر هـو ما لـك فيه منفـعة وعىل جـارك فيه مـرضة‪ ،‬واملقصـود هو أن الـرضر ما ق َ‬
‫اإلنسان به منـفعة نفسه‪ ،‬فكـان فيه رضر عىل غريه كبنـاء مرحاض يف ملـك نفسه عند جـدار جاره مما قـد يؤثر عىل‬
‫ُصـد به اإلرضار بغريه كفتح نافذه ال يستفيد منها ويطل منها عىل عورة جاره‪ .‬ويقول‬‫حائط اجلار‪ .‬والرضار هو ما ق ِ‬
‫ابن الرامي‪X :‬وحيتمل أن يـكون معنى الـرضر أن يرض أحد اجلاريـن جاره‪ ،‬ومعنى الـرضار أن يرض كل واحد منهام‬
‫صاحبه ‪ ...‬وقـال القايض ابن عبد الـرفيع (توىل القضاء سـنة ‪ 699‬هـ) يف كتابه معني القضـاة واحلكام‪ :‬تفسري الرضار‬
‫أن ترض نفسك ليترضر بـذلك غريك‪ 98.Z‬وقال ابن حبيب (ت ‪ 182‬هـ)‪X :‬مهـا كلمتان بمعنـى واحد رددت توكيد ًا يف‬
‫املنع مـنه‪ ،‬وقد يأخـذه ترصيف اإلعراب‪ ،‬فـالرضر االسم والرضار الـفعل‪ 99.Z‬كام قيل عن الرضر أنه إحلـاق مفسدة‬
‫‪100‬‬
‫بالغري مطلقة‪ ،‬والرضار هو الثأر ملجرد االنتقام ممن أرض بالشخص مما يوسع من دائرة الرضر‪.‬‬

‫وبرغم هذه االختالفات يف التعريف‪ 101،‬إال أن هناك مفهومـاً عمرانياً واضحاً يفرضه احلديث وهو أن لكل‬
‫فرد احلق يف الترصف يف البـيئة إذا انعدم الرضر دون أخذ إذن مـسبق من أحد‪ .‬كام أن التعريفـات السابقة تشري إىل‬
‫أن تفـسريات الفقهـاء تتعـامل مع األفعال الـضارة بـالغري خـارج حدود عـقار املتـرصف وليس داخلـه‪ .‬أي أن حديث‬
‫الرضر ال يعطـي اآلخريـن كاجلـريان أو السلـطة احلق يف الـتدخل يف شـؤون املالك الـتي ال ترض بـاخلارج‪ ،‬فال حيق‬
‫لكـائن من كـان أن يمنـع شخص من بـناء غـرفة يف حـديقـة منـزله إذا مل تـثبت العـالقة بـني هذه الـقرارات ورضر‬
‫اجلريان‪ .‬فلـإلنسان الترصف داخل حـدود ملكه إذا مل يرض بغريه دون االستـئذان املسبق من أحـد؛ ال كام هو احلال‬
‫يف أيامنـا هذه‪ .‬أي أن حديث الرضر يـوسع من دائرة حق الفرد يف الترصف‪ .‬وبـذلك فالترصفات الـوحيدة التي ُيمنع‬
‫منهـا املالك هي تلك التي تؤثر يف أعيان اجلريان مبارشة كوضع آلـة ت ِ‬
‫صدر اهتزاز ًا يؤثر يف حائط اجلار‪ ،‬أو تلك التي‬ ‫ُ‬
‫تؤثـر يف اجلريان أنفسهـم دون أعياهنـم كالنـظر إىل عـوراهتم من النـافذة‪ .‬فبـذلك يكون احلـديث مصـدر ًا للسيـطرة‬
‫اخلارجية عىل كل من األعيان وترصفات األفراد‪.‬‬

‫هـذا يف العمـران‪ ،‬أمـا عمـومـاً‪ ،‬فـإن حـديث الـرضر يعنـي لكل من أراد اسـتثامر مـا أو القيــام ببحث مـا أو‬
‫ال واحد ًا اآلن فقط‪:‬‬
‫استكـشاف معـدن يف موقع مـا احلريـة املطلقـة إن مل يثبـت الرضر عىل اآلخريـن‪ .‬سأرضب مثـ ً‬
‫ال للجـامعة يف جلنة األبـحاث تقدم زميل للحـصول عىل دعم مايل إلجـراء بحث عن األسامك يف مياه‬
‫عنـدما كنت ممث ً‬
‫اخلليج العـريب‪ .‬فتمت املـوافقة عىل الـبحث ألنه بحث جـيد وسيـثري االقتـصاد الـوطني وتم اعـتامد املبلغ‪ .‬ثـم بعد‬
‫سنتني أعـيدت أوراق الباحث ألعـضاء اللجنة مـرة أخرى بطلب إللغـاء البحث ألن الباحث مل يـتمكن من احلصول‬
‫عىل التصـاريح الدائمـة من خفر الـسواحل بـوزارة الداخليـة ومن األمارة فكـان عليه أن يقوم بـعرشات اإلجراءات‬
‫األمنية والورقية يف كل مـرة أراد فيها النزول للبحر بقـاربه‪ .‬أليس يف هذا مرضة عىل األمة ألهنا فـقدت فرصة بحثية‬

‫الفعل‪ ،‬والرضار اجلزاء علـيه؛ وقيل‪ :‬الرضر ما ترض به صاحبك وتنتفع‬ ‫ق) ويف لـسان العرب‪X :‬فمـعنى قوله ال رضر أي ال يـرض الرجل أخاه‪،‬‬
‫أنت به‪ ،‬والرضار أن ترضه من غري أن تنتفع‪.)97( Z... ،‬‬ ‫ـضــار كل واحــد منـهام‬
‫ّ‬ ‫وهــو ضــد الـنفع‪ ،‬وقــوله‪ :‬وال رضار أي ال ُي‬
‫صاحـبه‪ ،‬فالـرضار منهام معـاً والرضر فعل الـواحد ‪ ...‬والـرضر ابتداء‬
‫قص احلق‬ ‫‪118‬‬

‫إلثـراء اقتصادها من باحث مهتم؟ وإن قلـت‪ :‬ولكن القضايا األمنية أهم! أقول لـك‪ :‬إن املشكل هو االعتقاد السائد‬
‫أن من هم يف الـدولـة أكثـر حـرصـاً من عـامـة النـاس عىل األمـن‪ ،‬ولعل األهم هـو أن القلق األمنـي يف مجيع العـامل‬
‫اإلسالمي نـاتج بسبـب الوهن الـذي فيه األمـة والذي مـا كان إال بـسبب تقـييد األفـراد ألن مقصـوصة احلقـوق قد‬
‫تغريت‪ .‬أما إن طبقـت الرشيعة فإن العـزة التي ستكون فيـها األمة ستغري مفهـوم األمن كام سيأيت بيـانه بإذنه تعاىل‪.‬‬
‫أي أن مبدأ الرضر سيطلق األفراد للمزيد من املثابرة كام سيأيت بيانه أيضاً بإذن اهلل‪.‬‬

‫اقلوادع واملابدىء‬
‫لقـد استـنبط الفـقهاء أثـاهبم اهلل عـدة قواعـد من حـديث الرضر مـنها‪X :‬الـرضر يزال‪ ،Z‬و ‪X‬الـرضر ال يزال‬
‫بمـثله‪ ،Z‬و ‪X‬يتحـمل الرضر اخلـاص لـدفع رضر عـام‪ ،Z‬و ‪X‬الرضر األشـد يـزال بـالرضر األخف‪ ،Z‬و ‪X‬إذا تعـارضت‬
‫مفسـدتان روعي أعـظمها رضر ًا بـارتكاب أخفهام‪ ،Z‬و ‪X‬خيـتار أهون الـرشين أو أخف الرضرين‪ ،Z‬و ‪X‬درء املـفاسد‬
‫أوىل من جلب املصـالح‪ ،Z‬و ‪X‬الرضر يدفع بقدر اإلمكـان‪ .Z‬وبالنسبـة للمسائل الفقهـية غري االقتصاديـة والعمرانية‪،‬‬
‫فـاألمر واضح لدى الفـقهاء يف استخدام هـذه القواعد‪ ،‬لـذلك لن نخوض فيه ألنـه خارج نطاق هـذا الكتاب‪ ،‬ولكن‬
‫ال قاعـدة ‪X‬الرضر يدفع بقـدر اإلمكان‪ ،Z‬فهـذه القاعـدة تدل عىل وجـوب دفع الرضر قبل‬
‫إلعطاء فكـرة سنأخـذ مث ً‬
‫وقـوعه وفقاً ألصل املصـالح املرسلـة والسيـاسة الرشعـية كرشع اجلهـاد لدفع رش األعـداء‪ ،‬أو إيقاع العقـوبة لصـيانة‬
‫فبـناء عىل قاعدة ‪X‬خيتار أهون‬
‫ً‬ ‫األمن‪ ،‬أو رشع احلجر عىل السفـيه لدفع رضر سوء ترصفاته املاليـة‪ .‬لنأخذ مثاالً آخر‪:‬‬
‫الرشين أو أخف الرضرين‪ Z‬إذا ابتلعت دجـاجة شخص ما لؤلؤة ثمينة آلخر‪ ،‬فلصاحب اللؤلؤة أن يمتلك الدجاجة‬
‫بقيـمتها ليـذبحها‪ 102.‬أي بـاإلمكان معـرفة حدود الـرضر بالعقل البـرشي‪ ،‬ألن الرضر يقف وال يتضـاعف‪ .‬فعند ذبح‬
‫الدجاجة قد تنتهي املسألة‪ ،‬وال سبيل لدفع رش األعداء إال باجلهاد‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫أما بالنـسبة للمسائل االقتصـادية والبيئية فاألمـر ليس هبذا الوضوح‪ .‬ألن القواعـد املنبثقة من حديث الرضر‬
‫مبنيـة عىل فكرة أسـاسية هي أن الـرضر واضح وباإلمكـان قياسه ومعـرفة مضـاعفاته بعقـولنا البـرشية‪ .‬وهنـا كان‬
‫املنزلق الذي وقـع فيه بعض الفقهاء املعارصين‪ ،‬ألن هذا ليس هو احلال يف املسائل العمرانية واالقتصادية‪ ،‬فاألرضار‬
‫سواء كـان مرض ًا أو مل يكن‪ ،‬مضـاعفات أو‬
‫ً‬ ‫ومضاعفـاهتا مبهـمة كام وضحنـا يف مثال الـشجرة‪ .‬فلكل قـرار أو فعل‬
‫مـآالت (مجع مآل)‪ .‬فمـآالت األفعال يف الـبيئة ال تـقف عند معـرفة الـرضر بني اجلاريـن‪ ،‬ولكنها سـتمتد إىل مـستوى‬
‫املدينـة وإىل األجيال القادمـة‪ .‬فكيف يمكن استخـدام العقل معها؟ فال يعـلم مآالت األفعال إال اهلل سـبحانه وتعاىل‬
‫عالم الغيوب‪ .‬لـذلك فرض احلكيم اخلـبري األحكام املنـاسبة هلـا‪ .‬لنأخـذ مثاالً‪ :‬إذا أراد رجل بنـاء رحى يف داره‪ ،‬فقد‬
‫يكون هـناك رضر واضح عىل جـدار أحد اجلـريان باالهـتزاز‪ ،‬وعـندهـا قد متـنعه السلـطات بحجـة دفع الرضر قبل‬
‫وقوعه‪ .‬إال أن مآل ذلك الفعل قـد يكون ذا فائدة اقتصـادية عىل مستوى املدينـة عىل املدى البعيد ألن إرصار الرجل‬
‫ال بحديث الرضر) قد يكون مؤرش ًا عىل أن موضع داره هو أفضل موقع‬
‫عىل بناء الرحى يف داره (دون إذن مسبق عم ً‬
‫يف املدينة لـطحن الدقيق من حـيث جلب املواد األوليـة وتسويق املنـتج‪ .‬ومالك الرحـى هو الوحيـد الذي رأى هذه‬
‫اإلجيابيـة‪ ،‬لذلك أرص عليهـا‪ .‬ويف هذه احلالـة‪ ،‬فمن األوىل أن يطلب من صـاحب الرحـى (وهذا ما فعلـته الرشيعة)‬
‫‪119‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫التحايل عىل الـرضر إلزالته بدالً من مـنع الرحى‪ .‬وقـد يستحـدث صاحب الـرحى طريـقة ملنع انتقـال االهتزاز من‬
‫ر‬
‫ال عمل رجل يف داره رحى‪ ،‬فـاشتكى جـاره رضر اهتزار جـداره من هذه‬
‫داره لدار جـاره‪ .‬ففي إحدى الـنوازل مثـ ً‬
‫الـرحى‪ .‬فـبأي وسيلـة يكتشفـون االهتزاز ورضره‪ .‬قـال القايض البـن الرامي يف هـذه النازلـة من املذهـب املالكي‪:‬‬
‫‪X‬تأخـذ طبقاً من كاغيـد (ورق) وتربط أركانه بأربعـة أخياط يف كل ركن خيط‪ ،‬وجتـمع أطراف األخياط وتعلقهم‬
‫من السقف الـذي عىل احلائط الـفاصل بني الدار وبـني الرحى من جهـة الدار‪ ،‬وتعمل عىل الكـاغيد حبـة من كزبر‬
‫يابس‪ ،‬وتقـول لصاحب الـرحى هز رحـاك؛ فإن اهتز الـكزبر عىل الكـاغيد قيل لـصاحب الرحـى اقلع رحاك ألهنا‬
‫ترض بـاجلار؛ وإن كان ال هيتـز الكزبر عىل الـكاغيد قيل لـصاحب الدار اتـرك صاحب الرحـى خيدم ألهنا ال ترض‬
‫بـك‪.Z‬ش أي أن املجتمع متكـن من إجياد وسـيلة لكـشف الرضر‪ .‬ومتـى تم اكتـشاف الـرضر فقد يـتمكن املـالك من‬
‫ال يف إزالـة رضر الرحى‪ :‬إن ‪X‬الـذي يريد أن يعـمل يف داره رحى [عليه أن] يتـباعد عن‬
‫إزالته‪ .‬فيقـول ابن الرامي مث ً‬
‫حائط اجلـار بثامنيـة أشبار مـن حد دوران البهـيمة إىل حـائط اجلار‪ ،‬ويـشغل ذلك بالـبناء أمـا ببيـت أو بمخزن أو‬
‫بمجـاز‪ .‬البد لـذلك مـن حائل بـالبنـاء ألن البـناء حيـول بني املـرضة وحائـط اجلار‪.Z‬ت وهـناك الـكثري من مـثل هذه‬
‫النـوازل التي حـاول فيهـا أهل البـصارة أو الـسكان أو القـضاة قيـاس الرضر والتحـايل عليه‪ ،‬والـتي تدل عـىل شيوع‬
‫ث‬
‫التحايل عىل الرضر‪.‬‬

‫أي أن مصالح األفعـال ومضارهـا أو مفاسـدها (أي مـآالت األفعال) واملـوازنة بـينها أمـر يصعب عىل العقل‬
‫البرشي تـرجيحه يف املسـائل االقتصـادية والعـمرانيـة‪ ،‬والرتجيح بني املـصالح بـاستخـدام العقل هو يف الـواقع قص‬
‫مسـتحدث للحقوق‪ .‬فعند املنع يؤخذ من نصيب الفـرد املترصف‪ .‬وعند السامح له يزيد حقه‪ .‬والرشيعة من خالل‬
‫حديث الرضر أوجـدت مقصاً هلـذه احلقوق بـإعطاء الفـرد املترصف الفـرصة للـميض يف ترصفه دون اإلرضار بغريه‬

‫ث) لتأكيد ذلك لنأخذ مثاالً آخر‪ :‬ففي نازلة أحدث رجل خلف بيت‬ ‫ر) النازلة أو ‪ case study‬هـي حالة وقعت وتؤخذ كسابقة ألحكام‬
‫جاره رواء دابـة صغرية (البيت هـو الغرفـة يف الدور األريض يف أيـامنا‬ ‫ال‬
‫الحقـة‪ .‬فقد يقع خالف بني شخـصني حول بناء دكـة يف الطريق مث ً‬
‫هـذه‪ ،‬والـرواء هـو اإلسـطبل)‪ .‬فــاشتكـى صـاحب الـبيـت من رضر‬ ‫أو عنـد تغيري أحـد اجلاريـن داره لفرن ويعرتض اآلخـر عليه‪ .‬عنـدها‬
‫الرواء‪ .‬فعند النظر قال أهل البصارة أنه حمدث وأنه مرض فأمر القايض‬ ‫تعرض املـسألـة عىل الفقهـاء ويتـم دراسة املـسألـة من مجـيع جوانـبها‬
‫بزواله‪ ،‬ولفعل ذلك كـان البد من خروج الدابة‪ .‬فصاح صاحب الدار‬ ‫ويعطي كل فقيه رأيه يف املسألة (‪.)103‬‬
‫وقال بـأنه ليس له غنى عنها ألن عليهـا معاشه‪ .‬وكان احلل البنائي لدفع‬ ‫ال‪X :‬فإن كـان احلائط الـساتر بـني الرحى‬ ‫ش) ثم سـأل ابن الرامـي قائ ً‬
‫الرضر هو حفر أساس ‪X‬فينزل فيه قدر القامة خلف احلائط الذي هو‬ ‫والــدار ليـس فيه خـشـب وإنام هــو سرتة ال خـشـب فيه فـأيـن يعلق‬
‫صدر الـبيت‪ ،‬ويـرفع يف حقـه حائـطاً مـن حتت وجه األرض بخمـسة‬ ‫الكاغيد؟ قال يل‪ :‬تـأخذ قصبة غليظة وحتفر هلا يف احلائط الفاصل بني‬
‫أشبار‪ ،‬ويكون عرض احلـائط شربين‪ ،‬وجيعل بينه وبني احلائط الذي‬ ‫الـدار والـرحـى قـدر نـصف شرب‪ ،‬وتـدخل طـرف الـقصبـة يف احلـائط‬
‫هـو مصـدر الـبيت نـصف شرب تـروحيـاً بني احلـائـطني‪ .‬والـرتويح بني‬ ‫وتشدهـا يف جهة الدار وتعلق الكاغيد يف تـلك القصبة وتعمل الكزبر‬
‫احلائـطني من حتت وجه األرض بخمـسة أشبـار إىل منتهـى السقف ‪...‬‬ ‫عىل احلائط وتقول لصاحب الرحى هـز رحاك‪ ،‬فإن اهتز الكزبر منع‬
‫فلام فعل ذلك انقـطع الرضر عن صـاحب البـيت‪ .Z‬ويف نازلـة مشـاهبة‬ ‫صـاحب الـرحـى؛ وإن مل هيتـز مل يمـنع‪ .‬قلت له‪ :‬فـإن كـان احلـائط‬
‫قـال ابن الرامي‪X :‬وقـد نزلت هـذه أيضاً يف مـوضع خراب أراد ربه أن‬ ‫الفـاصل بني الرحـى والدار مـن أمالك صاحب الـرحى وهيتـز بدوران‬
‫يعمله أروى فـمنعه جـاره وارتفعـا إىل القـايض فسـألنــا النظـر يف ذلك‬ ‫الـرحـى أيمنع أم ال؟ قـال إن كـان ال هيتـز يشء مـن حيطـان صـاحب‬
‫فرأيـنا مـوضعه كبري ًا حيـده الشـارع من الغـرب واجلوف‪ ،‬والـدار من‬ ‫الدار فال يمنع إذا كانت هتتز حيطانه وال هتتز حيطان غريه‪.)104( Z‬‬
‫القبلة والرشق‪ ،‬والذي يليه من القبلة أروى فسمح له صاحب األروى‬ ‫ت) جـاءت هذه املقالـة البن الرامي بعـد سؤاله للفقيه أبـا عبد اهلل بن‬
‫ومنعه صـاحب الدار الرشقية‪ .‬فـأمرناه أن يعمل بيتـاً بني الدار الرشقية‬ ‫الـغامز عن رجـل أراد أن يعمل يف داره رحـى‪X :‬كـم يبعـد من احلـائط‬
‫وبني الـذي يريـد أن يعمله أروى يـكون عـرض البيـت تسـعة أشـبار‬ ‫الذي جياوره من دار جـاره؟‪ .Z‬فأجابه بأنه لـيس له يف ذلك حد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫وعرض احلائط شربين‪.)106( Z‬‬ ‫‪X‬أنتم أهـل املعرفة تعرفون ذلك كم يبعـد الرحى عن احلائط‪ ،‬وهذا ال‬
‫يعمل فيه حد‪.)105( Z‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪120‬‬

‫بالـتحايـل عىل الرضر‪ .‬إال أن بعض داريس الـرشيعة املعـارصين ظنـوا أن املصـالح واملفاسـد املتعلقـة بمسـائل البـيئة‬
‫معـروفة بالعـقل وأفتوا ورجحوا مـا وصل اليه عقلهم دون أي تردد‪ ،‬فـأخذت السلـطات بفتاواهـم وأصدرت القوانني‬
‫واألنظمة الـتي قيدت النـاس‪ .‬أي أن هناك حـركية تـؤدي إىل إمضاء الفعل أو مـنعه قد وضعتهـا الرشيعة وقـاموا هم‬
‫بتعـطيلها باستخـدام عقوهلم‪ .‬كام أن هلذه احلـركية فوائد كـربى من حيث حث الناس عىل املبـادرة واإلتيان باحللول‬
‫االقتصادية والبيئية والعمرانيـة إال أهنا تعطلت (كام سرتى بإذنه تعاىل)‪ .‬ومن الفقهاء الذين أدركوا بثاقب نظرهم أن‬
‫هناك أفعـاالً ال نعرف مصاحلهـا وجيب أن نتأنى هبـا‪ ،‬العز بن عبد الـسالم (ت ‪ )660‬حيث يقول رمحه اهلل‪X :‬األفعال‬
‫رضبان‪ :‬أحـدمها مـا خفت عـنا مـصاحلـه ومفاسـده‪ ،‬فال نقـدم عليه حـتى تـظهر مـصلحته املجـردة عن املفـسدة أو‬
‫خـ‬
‫الراجحة عليها‪ ،‬وهذا الذي جاءت الرشيعة بمدح األناة فيه إىل أن يظهر رشده وصالحه‪.Z‬‬

‫ومما زاد من شدة انزالق بعض العلامء املعارصين هو أن القواعد املستنبطة من الرضر دعمت بأصول أخرى‬
‫كاالستحسان والرضورة وسد الذرائع واملصالح املـرسلة عند الفقهاء من جهة‪ ،‬وبالعدل البيئي بمفهومه احلديث عند‬
‫املهنيني من اقتصاديني وخمططني من جهة أخـرى (مثل أن عقارات احلي الواحد قد ختضع يف الغالب لنفس األنظمة)‬
‫مما أدى إىل وضع تـنازل فـيه بعض الفقـهاء املعـارصين واملهـنيني عن األسـس الرشعيـة يف االقتصـاد والعمـران‪ ،‬فقد‬
‫أباحوا نزع امللكية‪ ،‬وقالوا بـرضورة إذن اإلمام يف اإلحياء‪ ،‬ونادوا بوضع قيود عىل ترصفات األفراد (فال يكون للفرد‬
‫ال دون إذن مـسبق)‪ ،‬وأطلقوا يد الـدولة يف التسلط عىل‬
‫استخراج معـدن من باطن األرض‪ ،‬كالـنفط أو الفوسفات مث ً‬
‫تلك احلقـوق لدرجة تم تقـريب الرشيعة فيهـا من بعض املبادئ االشـرتاكية أو الرأسامليـة يف املسائل البيـئية والعياذ‬
‫ال وفتاوى مستحدثة يف مسائل االقتـصاد‪ .‬وهبذا تغريت مقصوصة احلقوق‪ .‬كيف حدث‬
‫باهلل‪ ،‬فهناك قوانني للبنـاء مث ً‬
‫كل هذا؟‬

‫يف ظل احلكم النارصي االشرتاكي يف مرص والبعثـي يف سوريا وجدت كليات الـرشيعة نفسها حتت ضغوط‬
‫إلبراز دور الرشيعة يف احلقوق وذلك ألن التضاد يف احلقوق بني اإلسالم واالشرتاكية كان واضحاً‪ :‬فاإلسالم إطالق‬
‫للمـلكيات ولتـرصفات األفراد واالشـرتاكية تقيـيد هلا‪ .‬ففـي هذه الفرتة‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬بـدأ النظر يف هـذا التضاد إىل أن‬
‫ظهر سنة ‪1965‬م بحث للدكتوراه للدكـتور فتحي الدريني ينظر يف هذه اإلشـكالية‪ .‬ثم نرش هذا البحث يف كتاب‬
‫بعنوان‪X :‬احلق ومـدى سلطان الدولة يف تقييـده‪ ،Z‬ثم نرش كتاب آخر بعنوان‪X :‬نـظرية التعسف يف استخدام احلق‪.Z‬‬
‫ولقـد أعجبت هبـذين الكتـابني يف أول األمـر‪ ،‬ولكن كـلام تعمقـت فيهام أدركـت مدى خـطورهتـام عىل مقصـوصة‬
‫احلقوق‪ .‬فاستشـهادات الدكتور الـدريني باملسـائل البيئية مل تكن بـالعمق الكايف‪ ،‬وهذا طـبيعي ألن العمران خارج‬
‫ختصصه جزاه اهلل خري ًا‪ .‬فكتاباته تضع نظرية يف استـعامل احلق قائمة عىل ‪X‬أصول من مصادر الرشيعة ومقاصدها‪،‬‬
‫وقواعدهـا الكلية ‪ Z...‬بحيـث يتم التوفيق‪ ،‬كـام يقول مقدم الكـتاب‪X ،‬بني حريـة الفرد ومصلحـة اجلامعة يف ضوء‬
‫مقتـضيات العـدالة وتـطورات احليـاة‪ ،‬وبام جتعل من احلقـوق وسائل ملصـالح وغايـات جديـة‪ ،‬اقتصـادية واجـتامعية‬

‫وعن غريه حممـود حسن‪ ،‬وأن تقـديم أرجح املصـالح فأرجحهـا حممود‬ ‫خـ) لقد كتب الفقهاء يف مسألة املوازنة بني املصالح واملفاسد ثم اختاذ‬
‫حـسن‪ ،‬وأن درء أفـسد املفـاسد فـأفسـدها حمـمود حـسن‪ .‬وأن تقـديم‬ ‫احلكـم ووضعوا قـواعد هلـا إذا تم العلـم بمآالت األفـعال من املـصالح‬
‫املصـالح الـراجحـة عىل املفـاسـد املـرجـوحـة حممـود حـسن‪ .‬وأن درء‬ ‫واملفاسـد‪ .‬يقول العـز بن عبد الـسالم يف فصل فيام تعـرف به املصالح‬
‫املفـاسـد الـراجحــة عىل املصـالح املـرجـوحـة حممـود حـسن‪ ،‬واتفق‬ ‫واملفـاسد ويف تفـاوهتام‪X :‬ومعظـم مصالح الـدنيا ومفـاسدهـا معروف‬
‫احلكامء عىل ذلك‪.)107( Z‬‬ ‫بـالـعقل وذلك معـظم الـرشائـع‪ .‬إذ ال خيفي عىل عـاقل ورود الـرشع أن‬
‫حتـصيل املصـالح املحـضة‪ ،‬ودرء املفـاسد املحـضة عـن نفس اإلنـسان‬
‫‪121‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫رشعت تلك احلقوق مـن أجلها‪ 108.Z‬هنا بدأت مقصوصـة احلقوق بالتغري‪ .‬إن جمرد حماولـة التوفيق ‪X‬بني حرية الفرد‬
‫ومصلحـة اجلامعة يف ضـوء مقتضيـات العدالـة وتطـورات احلياة ‪ Z...‬تـتطلب إعامل الـعقل البرشي‪ ،‬وهـنا الكـارثة‪.‬‬
‫لنرضب مثاالً لذلك‪ :‬يقول د‪ .‬الدريني‪:‬‬
‫‪X‬الرضر العام الذي يلزم عن ترصف الفرد فيام منح من حق أو إباحة فإنه يمنع منه‪ ،‬ولو مل يقصد إىل‬
‫ذلك الرضر‪ ،‬أو يقرص يف االحتياط؛ بل ولو كان الباعث عليه مرشوعاً أو حسناً‪ ،‬من مثل تلقي السلع‪،‬‬
‫أو إقامة مصنع يف ظاهر املدينة ليسـاهم يف االقتصاد الوطني أو الثروة الوطنية‪ ،‬وهو استعامل مرشوع‬
‫راق للسكن‪ ،‬بحيـث أضحى وجود املـصنع مصدر‬ ‫ومعتـاد حلق امللكية‪ ،‬ثـم ينشأ حـوله بعد حني حـي ٍ‬
‫ال النتفاعهم بـاملنافع األصلية املقـصودة عادة من العقارات‬
‫قلق وإزعاج وخطر عـىل صحتهم‪ ،‬أو معط ً‬
‫التـي يسكنوهنـا‪ ،‬فالسلـوك معتاد‪ ،‬والـترصف يف دائرة احلق‪ ،‬ومعتـاد أيضاً‪ ،‬والبـاعث مرشوع‪ ،‬واملصنع‬
‫ال باملقـررات الرشعية‪ ،‬من أن‬
‫سابق يف وجوده عىل احلي‪ ،‬ومع ذلك يمـنع إذا أربى رضره عىل نفعه‪ ،‬عم ً‬
‫الـرضر يزال‪ ،‬قـديام ً كـان أم حادثـاً‪ ،‬وخيتـار أهون الـرشين‪ ،‬فـهذه الـقواعـد ال تقيم وزنـا للعـنارص‬
‫ً‬
‫‪109‬‬
‫النفسية‪ ،‬وإنام تنظر إىل الوقائع اخلارجية‪.Z‬‬

‫وضع نتج‬
‫ٌ‬ ‫إن هـذا الوضع الذي يقول عنه د‪ .‬الـدريني حيدث متى منع اإلحيـاء أو قيد بموافقة الـسلطة‪ .‬فهو‬
‫ال ألن السـكان يعلمون‬
‫من تطبيق األنظـمة الوضعيـة‪ .‬أما إذا طبقت قـواعد الرشيعـة فقد ال حيدث هـذا الوضع أص ً‬
‫ابتـداء‪ .‬فهناك مـا هو‬
‫ً‬ ‫بـأن املصنع قـد حاز عىل حق الـرضر وعليهم أن يتالفـوا السـكن يف موقع بـالقرب مـن املصنع‬
‫معـروف يف الرشع ‪X‬بحيازة الرضر‪ Z‬كام سنوضح بإذن اهلل‪ .‬أما إذا سكن الناس بالقرب من املصنع مع علمهم بحيازة‬
‫املصنع للـرضر‪ ،‬فهم اجلانـون عىل أنفسهم‪ ،‬فحكـمهم حكم من يقـوم باجلنـاية عىل نفـسه‪ ،‬ألننا إن نقـلنا كل من أراد‬
‫االستثامر ببناء مصنع‪ ،‬فمن هذا الذي سيسـتثمر مئات املاليني يف مصنع سيجذب الناس ملوقعه كسباً للرزق ثم ُجيرب‬
‫عىل االنتقال؟ وألننا إن ربطنا إنشاء املصنع بمـوافقات الدولة فتحنا أبواب الرشاوي ونحوها من آفات‪ .‬فكل مسؤول‬
‫بيده قرارات تـربط مصالح الناس سـيصبح مستهدفـاً للراشني‪ .‬فمنهم النـزيه الذي يفلت‪ ،‬ومنهم الـذي يستسلم أمام‬
‫ظروف احليـاة الصعبة التـي ما وجدت إال باخلـروج عن الرشيعة‪ .‬وهكـذا أصبح للدولة سلـطة ودور‪ .‬أي أن الدولة‬
‫اكتسبت حقـوقاً‪ .‬أي أن مقصـوصة احلقـوق تغريت ألن صاحب املـصنع فقد حقـوقه‪ .‬وهكذا فتحـت األبواب أمام‬
‫السلـطات إلصـدار القوانـني بحجة تـنظيم األمـور‪ .‬وبالتـايل تغريت مقـصوصـة احلقوق وقـتلت اهلمم لـدى األفراد‪،‬‬
‫وتسلط الناس بعضهم عىل بعض وفشت الرشاوي وما إىل ذلك من أمراض سيأيت بياهنا بإذن اهلل‪.‬‬

‫لـعلك تقول بـأن املصنع مـرض والبد من إزالـته‪ .‬هنا أجـيب‪ :‬إن للرشيعـة طرقـاً أخرى إلزالـة رضر املصنع‪،‬‬
‫كيف؟ ألن الرشيعـة استثمـرت السلطـات يف أيدى الـناس كام سيـأيت بيانه بـإذن اهلل‪ ،‬ومل تضعها يف أيـدي مسؤويل‬
‫الـدولة‪ ،‬فلـن يتجرأ مـستثمـر من إقامـة مصنع قـد يرض النـاس ألن املستثـمر يعلـم جيد ًا أن مـصنعه سيغلق إن أرض‬
‫باجلـريان ألن للجريان املقدرة عىل ذلك بـأن حيارصوا مصـنعه أو نحو ذلك من أفـعال إن مل توقفه الـسلطات‪ .‬فـالناس‬
‫أقويـاء وليسـوا مسلـوبو اإلرادة كام هـو حالنـا اليوم‪ .‬أمـا عندمـا ُسلبت املقـدرة من أيدي الـناس ووضعت بـأيدي‬
‫مسؤويل الـدولة‪ ،‬وليس بأيدي املترضرين مبارشة‪ ،‬فإن حركة مـسؤويل الدولة بحاجة هلمة ودفع حتى يتخذوا القرار‬
‫من خالل جلان وتقارير وأوراق ثم ُيتخذ القرار باإلزالة ليـتحداه صاحب املصنع من خالل مرافعات حماميه وهكذا‬
‫يستمر املـصنع‪ .‬وكل هذا بسبـب تنازل بعض الفقهـاء من خالل عقوهلم القـارصة التي حاولت حتـديث الرشع بوضع‬
‫قص احلق‬ ‫‪122‬‬

‫احلق يف أيدي مسـؤويل الدولة الـذين يمكـن رشوهتم أو إقنـاعهم برضورة املـصنع لالقتصـاد الوطنـي‪ .‬وألن مسؤويل‬
‫الدولة ال يـسكنون بالقرب من املـصنع فإن الرضر قد يستـمر‪ .‬وهذا هو احلال يف كل مكـان‪ ،‬فهناك مصنع لألسمدة‬
‫ال) بالقرب من مـدينة الدمام ويقع بـني األحياء السكنية‪ ،‬واملـضحك املبكي يف املسألة‬
‫الكيميـائية (رشكة سافـكو مث ً‬
‫هـو أن املصنع يرمي بفضالته الغـازية التي ثبت رضرها عىل مكـاتب ومساكن كل من جامـعة امللك فيصل والكلية‬
‫الـبحرية ومصلحة األرصاد ومحاية البيئة‪ .‬وهـذه األخرية تقف عاجزة أمام مالك املصنع وال تستطيع فعل يشء برغم‬
‫أن محاية البيئة من صلب ختصصها‪ .‬فإن فشلـت يف محاية صحة موظفيها‪ ،‬فكيف ستحمي البيئة؟ وقد عقدت الكثري‬
‫من االجتامعات إلثبات الرضر‪ ،‬ورفـعت الكثري من الشكاوي إال أن املصنع استمر شـاخماً ضار ًا بالعمران دونام أدنى‬
‫جميب فقـط ألنه سبق املنشـآت املحيطـة به يف اإلنشاء‪ ،‬ولـكن رضره وصل حتى لـلمناطق الـبعيدة التـي ظهرت قبله‬
‫بسنني عديـدة‪ ،‬ومع هذا استمـر ألكثر من أربعني سـنة‪ ،‬ثم أخري ًا أغلق‪ .‬فتـأمل هذا املثل الـذي جيسد فـشل األنظمة‬
‫املعارصة بطريقة ساخـرة‪ .‬أما إن طبقت الرشيعة‪ ،‬فإن حق إيقاف املصنع سيكون يف أيدي املترضرين حتى وإن مل‬
‫يكونوا من املجاورين للمصنع (وهذا ما حـاولت توضيحه يف كتاب ‪X‬عامرة األرض يف اإلسالم‪ ،)Z‬وعندها لن جيرؤ‬
‫ابتداء عىل املخاطرة بإنشاء مثل هذه املصانع الضارة بالقرب من العمران‪ ،‬وهكذا من حركيات سيتم رشحها‬
‫ً‬ ‫مسـتثمر‬
‫بإذنه تعـاىل‪ ،‬وسيتمكن املجتمع املسلـم من احلصول عىل بيئة غري مـلوثة ألن التصنيع سيكـون نظيفاً غري ملوث‪ ،‬كام‬
‫سيأيت بيانه بإذنه تعاىل‪.‬‬

‫مثال آخر‪ :‬فـبالرجوع إىل قاعدة ‪X‬الـرضر يدفع قدر اإلمكان‪ ،Z‬ظهرت القـوانني التي متنع الفرد من ترصفات‬
‫مستقبليـة يف ملكه كمنعه من حتـويل منزله إىل فـرن دفعاً لرضر الـدخان عن اجلـريان‪ .‬فاهلدف هـنا دفع الرضر قبل‬
‫وقـوعه ألن الدفع أسهل من الـرفع‪ .‬فيقول د‪ .‬الـدريني يف هذه القـاعدة‪X :‬وهذا مقـصد عام جيب أن يـراعى يف مجيع‬
‫شئون الدولة‪ ،‬االقتصاديـة واالجتامعية والسياسيـة‪ ،‬فللدولة أن تسن من القوانـني ما يدفع الرضر املتوقع عن األفراد‬
‫واجلامعـة‪ 110.Z‬وكام سنـرى بإذن اهلل فـإن ترصف املـالك دون االستئـذان من الـسلطـة‪ ،‬ثم ظهـور الرضر‪ ،‬ثم إجـبار‬
‫املالك عىل التحايل عىل الـرضر أو منعه‪ ،‬ذو فائدة للعمـران ألهنا توسع من دائرة الـتجارب البيئية لألمـة مؤدية بذلك‬
‫إىل تطور األعراف البنائية‪ .‬ولتـوضيح ما سبق البد لنا من رشح موجز ملـوضوع التعسف يف استخدام احلق وهو أمر‬
‫كثـر تداوله وقبوله بني الفقهاء املتـأخرين‪ ،‬فبعد ظهور كتـاب الدريني اهنمرت الكتب الفقـهية وأبحاث الدكتوراه‬
‫ويل أعنـاقها لـتقييد حقـوق األفراد مطلقـة بذلك‬ ‫ٍ‬
‫واملاجـستري حول تعـسف احلق والتنقيـب يف الرشيعة عـن نصوص ّ‬
‫الزمام للـدول للتسلط عىل احلقـوق وتفصيلها كـيفام شاءت‪ .‬ولعل مسـألة التعسف تكـون أكثر وضوحـاً يف القضايا‬
‫العمرانية منها يف املسائل االقتصادية‪ .‬لذلك سأركز عليها اآلن لتوضيح الصورة‪ .‬أما االقتصاد فله فصل خمصص‪.‬‬

‫قتييد احلق‬
‫الفرق بني التـعسف والتعدي هـو أن ترصف الفرد واستخـدامه حلقه إذا آل إىل اإلرضار بالغري يعـترب تعسفاً‪،‬‬
‫ال‪ .‬فترصف الشخص يف التعـسف مرشوع يف ذاته ولكنه معيب يف مآله كأن‬
‫وأما التعدي فهـو الفعل غري املرشوع أص ً‬
‫يقـوم شخص بتعليـة داره بشكل يـقطع اهلواء عن اجلـار‪ ،‬فهذا يعتـرب تعسفاً إذا تـرضر اجلار؛ أما إذا أخـرج جزء من‬
‫‪123‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫مبـناه إىل ملك جـاره فإن هـذا يعترب تعـدياً عىل ملك جـاره‪ 111.‬والتعدي يـمنع باتفـاق املذاهب‪ ،‬وبـالنسبـة للتعسف‬
‫ال؟‬
‫فالسؤال هو‪ :‬ما هي حدود التعسف يف املسائل العمرانية مث ً‬

‫كـام هو معـروف فإن فـكرة احلـق ختتلف من مـذهب فـكري إىل آخـر وتستـمد حـقوقهـا من عقيـدة ذلك‬
‫املذهب‪ .‬ففي املذهب الفردي كالرأساملية والتحررية (الليربالية) تعترب حقوق الفرد هي األساس باعتباره إنساناً له‬
‫حقـوق مطلقـة سابقـة للجامعـة‪ .‬وبذلك فـإن هذه احلقـوق هي أساس القـانون‪ ،‬وعىل القـانون محـاية هـذه احلقوق‬
‫ومتكني الناس من التمتع هبا‪ .‬فاجلامعة مسخرة خلدمة الفرد ألن الفرد حمور القانون وغايته‪ ،‬مع الرتكيز عىل التساوي‬
‫يف احلقـوق بني األفراد‪ .‬فـحرية الفـرد عنرص أساس يف هـذا املبدأ‪ ،‬ولـذلك ال تتدخل الـدولة يف نشـاطات األفراد إال‬
‫بالقدر الذي يمنع التعارض بـني األفراد لتمكني املجتمع من التقدم‪ ،‬حيـث أن االفرتاض املهيمن هو أن الصالح العام‬
‫ليس إال حصيلة ملجموع املصالح الفردية‪ ،‬فمتى متت محاية مصالح الفرد حتققت مصالح املجتمع‪ .‬هذا نظرياً‪ ،‬أما يف‬
‫الـواقع العميل فإن اإلشكالية هي يف حتديد الصالح العام‪ .‬من الـذي حيدد الصالح العام وينفذه؟ لذلك فهناك سلطات‬
‫ترشيعيـة وسلطات تـنفيذيـة‪ .‬ومجيع أفراد هـذه السلطـات ما هم إال انعكـاس لتحزبـات األفراد واجلامعـات الذين‬
‫بناء عىل حتديد الصالح العام‪ .‬وهذا التفصيص يفاضل بني‬
‫جتمعهم املصالح‪ .‬ثم بعد ذلك تأيت مسـألة تفصيص احلقوق ً‬
‫النـاس فيعطي حقـوقاً ويمنع أخـرى‪ .‬فإن وصل باالنـتخابات ملـنصب عمدة املـدينة من رأى أن الصـالح العام هو يف‬
‫املوافقة عىل توسيع مطار قائم‪ ،‬فإن احلقوق ستتغري عىل كل من ملك عقار ًا بالقرب من املطار‪ .‬فمنهم من قد يستفيد‬
‫بـنزع ملكيـة أرضه‪ ،‬ومنهم من ال يـريد تـرك أرضه وجيرب عىل ذلك‪ ،‬ومنـهم من يزداد الـضجيج عليه‪ .‬وهكـذا تتغري‬
‫احلقـوق‪ .‬أي برغم االدعاء بأن احلـق يف املذاهب الفردية صفـة مميزة إلرادة اإلنسان ومـظهر حلريته‪ ،‬وأن األصل فيه‬
‫بناء عىل األهـواء التي حتركهـا مصالح من وصل إىل‬ ‫ِ‬
‫ـي حلاميته‪ ،‬نجـد أن القانون دائـم التغري ً‬ ‫اإلطالق‪ ،‬وأن القانـون ُبن َ‬
‫السلطة‪ ،‬أي أن هناك خارس ًا ورابحاً عىل الدوام‪.‬‬

‫وعىل النقيض مـن هذا‪ ،‬فإن املـذاهب التي تنـادي بالتـضامن االجتامعـي كالشيـوعية واالشرتاكيـة تنبثق من‬
‫فكرة أن اإلنسان ال يعيش إال يف وسط اجتامعي متضـامن مع أفراد جمتمعه‪ ،‬ولذلك فاملجتمع هو األساس؛ والبد من‬
‫قواعد تنـظيمية لـسلوك األفراد فـيه‪ ،‬وبالتايل ال وجـود للحريات املـطلقة للفرد؛ وأن الـتضامن االجتـامعي ومصلحة‬
‫اجلامعة هي أسـاس القانون‪ ،‬والفـرد إذ ًا مسخر لذلـك اهلدف‪ .‬هلذا فإن هـذه املذاهب توسع من دائـرة اختصاصات‬
‫الدولة يف اإلرشاف عىل املسائل الفرديـة واالجتامعية‪ .‬فالدولة تضع األهـداف وترسم الطريق لبلوغ تلك األهداف‪،‬‬
‫ال ألنه جمرد عنرص تكـوين مسخر خلدمـة اجلامعة‪ 112.‬فاحلق يف نظـر املذاهب االجتامعية‬
‫وبذلك يصبح الفـرد عام ً‬
‫هو أنه ‪X‬منحـة من اجلامعة وللجـامعة‪ ،‬وهو وظيفـة اجتامعية تنـظمها الدولـة التي تنوب عـن املجتمع عىل ضوء من‬
‫مصلحـة اجلامعة‪ .Z‬وهبـذا يفقد الفـرد معظم احلقـوق وتذهـب مجيع الصـالحيات ملـؤسسـات الدولـة‪ .‬واملؤسـسات‬
‫مكونة من أفراد‪ ،‬وهبذا يستحوذ هؤالء األفراد عىل احلقوق عىل أرض الواقع‪ .‬فكل من هو مقرب من احلزب احلاكم‬
‫جتده اسـتأثر بـاخلريات لنفسه وهبـذا يفقد عمـوم السكـان اهلمة للـعمل واإلنتاج ويـضعف املجتمع وخيتـل‪ .‬وهذا ما‬
‫حدث يف الدول الشيوعية واالشرتاكية ومن سار عىل هنجهم كالبعثيني‪.‬‬

‫أما الرشيعة اإلسالميـة فتنظر إىل احلق نظرة خمتلفة‪ ،‬فهـي تقسمه إىل قسمني (كام يقول د‪ .‬الدريني)‪ ،‬األول‬
‫هـو حق الفرد‪ ،‬ويـشمل مجيع احلقـوق التي تتـعلق هبا مـصالح األفـراد؛ والثـاين هو حق اهلل‪ ،‬وهـو حق املجتـمع مما‬
‫قص احلق‬ ‫‪124‬‬

‫يتعـلق بالصالح العـام‪X ،‬وأضيف إليه تعاىل نظـر ًا خلطره وعميم نـفعه‪ ،‬فال يسقط باإلسقـاط وليس ألحد فيه خرية‪.Z‬‬
‫وقد رتـب د‪ .‬الدريني عىل هـذا األصل نتائج منهـا‪X :‬أنه تعاىل مـنح احلق حلكمة هـي مصلحة قـصد الشـارع حتقيقها‬
‫برشعـية احلق‪ ،‬وإال كان املنح لغري غاية‪ ،‬وهو عبث‪ ،‬واهلل تعـاىل منزه عن العبث‪ .Z‬وأن يكون استعامل احلق موافقاً‬
‫لقصد اهلل يف الـترشيع‪ ،‬وإال كان منـاقضاً للـرشع ومناقضـة الرشع باطلـة‪ ،‬فالترصف الـذي يتعسف فيه ذو احلق عن‬
‫غايته وينـاقض به الرشع باطـل‪ .‬وأن الفرد كاجلامعـة كالمها خيتص بحقه‪ .‬أي أن األصـل يف احلق التقييد‪ ،‬ألن احلق‬
‫ابتداء؛ وأن احلق ليـس غاية يف ذاته‪ ،‬بل وسيلة إىل مصلحة ُرشع احلق‬
‫ً‬ ‫منحة من الشارع فهي مقيـدة بام يقيده الشارع‬
‫‪113‬‬
‫من أجلها‪.‬‬

‫إن ما رشحته سابقاً هو مـا قال به بعض الفقهاء املتأخـرين وقبله الكثري من أن األصل يف احلق التقييد‪ .‬وكام‬
‫سنرى بإذن اهلل فإن األصل يف احلق ليـس التقييد وليس اإلطالق‪ ،‬فحقوق اآلدميني إمـا حق وإما باطل كام استنتجنا‬
‫عند تعريف احلق سابقـاً‪ .‬فمن املالحظ عىل اآليات القرآنية التي حتوي لفظ احلق أهنا تشري هلذه املسألة‪ .‬تدبر قوله‬
‫تعـاىل يف سورة الكهـف‪( :‬وَ قُلِ ‪e‬ل‪c‬حَ ُّق مِن رهَّ بِّكُ م‪ c‬فَمَن شَ ـا‪d‬ءَ فَل‪c‬يُؤ‪ c‬مِن وَ مَن شَ ا‪d‬ءَ فَل‪c‬يَك‪ c‬فُـر‪ c‬إِنَّا‪ d‬أَع‪ c‬تَد‪ c‬نَا لِـلظاَّ^لِمِنيَ نَارًا أَحَ اطَ‬
‫وفصله لنـا وال حيتمل التغيري بـأن يكون أصله التقـييد ثم يطلقه‬ ‫بِهِم‪ُ c‬سرَا ِدقُهَا)‪ .‬فـاحلق من اهلل سبحانه وتـعاىل ّ‬
‫قصه ّ‬
‫يقيـدونه‪ .‬فـلعظم شـأن احلقـوق بني النـاس‪ ،‬فقـد أتتـنا‬
‫الـبرش بعقـوهلم‪ ،‬أو الـعكس‪ ،‬كـأن يكـون أصلـه اإلطالق ثم ّ‬
‫ُر‪c‬سلِنيَ إ اَِّل مُب َِّشرِينَ وَ مُن ِذرِينَ وَ ي َُج^د ُِل ‪e‬لاَّذِينَ كَفَرُ واْ‬
‫مـفصلة‪ .‬تدبر أيضاً قوله تعاىل يف سورة الكهـف‪( :‬وَ مَا نُر‪c‬سِ ُل ‪e‬ل‪c‬م َ‬
‫بِ‪e‬ل‪c‬بَ^طِ لِ لِيُد‪ c‬حِ ُضواْ بِهِ ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَ‪e‬تَّخَ ذُ و‪ d‬اْ ءَايَ^تِى وَ مَـا‪ d‬أُنذِرُ واْ هُ زُ وًا)‪ .‬فاحلقوق‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬ولعظم أمـرها مسألـة قامت الرشيعة‬
‫بقصها بـدقة من خالل مبادئ ال حتتمل التغـيري باالجتهاد‪ .‬فهي واضحة وهلـا سامت مميزة (كام سنرى بإذن اهلل)‪ .‬أي‬
‫أن الرشيعة ال تتغري بتغري الزمـان واملكان (وهذه ميزة كام سنوضح بـإذن اهلل)‪ .‬إال أن ما رشح سابقاً من تقييد احلق‬
‫يـرجح بني‬
‫استخـدم كمـنطلـق رشعي أدى يف النهـايـة إىل اخلـروج عن أصــول يف الرشيعـة‪ ،‬ألن العقل الـبرشي بـدأ ّ‬
‫املصالح حتى تلك التي أتى هبا نص‪ ،‬فكيف تم هذا؟‬

‫يف ظل هـذا املنظـور املفعم بـتقييـد احلق (ألن الفقهـاء اعتـقدوا أنـه بإمـكاهنـم إدراك حدود الـرضر بعقلهم‬
‫الـقارص)‪ ،‬أتى ‪X‬الـربط‪ Z‬بني احلق ومـقاصد الـرشيعة اخللقيـة كالرب واإلحـسان والرمحـة واألخوة واإليثـار والتعاون‬
‫والعفو من جهة‪ ،‬وبني احلق وروح الرشيعـة كالعدل واملصلحة والقـصد من جهة أخرى‪ .‬فمن قـول اإلمام الشاطبي‬
‫ال‪X :‬قصـد الشـارع مـن املكلف أن يكـون قصـده يف العمل مـوافقـاً لقصـده يف التـرشيع‪ ،Z‬ذهب بعـض الفقهـاء‬
‫مـث ً‬
‫املعارصين (وهـم قلة واحلمـد هلل) إىل الربـط الذي أدى إىل اللجـوء إىل بعض أصـول الفقه الستنبـاط األحكام دون‬
‫غريها‪ ،‬كالـلجوء إىل االستحسان والرضورة وسـد الذرائع‪ ،‬ومن ثم األخذ هبا وتـرك القياس‪ .‬وذلك ألن الفقهاء‪ ،‬وكام‬
‫يقول الدريني‪،‬‬
‫‪X‬أدركـوا بثـاقـب نظـرهم ومـا أوتـوا من ملكـة فقهيـة‪ ،‬أن اجلـري وراء ظـواهـر الـنصـوص‪ ،‬أو العمل‬
‫بمقتـضى القـياس يـؤدي ‪ -‬يف بعض الـوقائع ‪ -‬إىل مـا ينـاقض مقـصد الـشارع‪ ،‬وهـذا هو الـتعسف يف‬
‫الـترشيع (أي االجـتهاد الـترشيعـي)‪ ،‬ألن احلكم يف الظـاهر يـستنـد إىل ظاهـر من نص أو إىل قـاعدة‬
‫‪114‬‬
‫عامة‪ ،‬ولكنه يف الوقت نفسه يناقض روح الرشيعة ومقاصدها‪.Z‬‬

‫فبـالنسبـة ملقصوصـة احلقوق‪ :‬من هـنا بدأت الـكارثة املـعارصة‪ .‬إن جمرد الـتفكري بأن ‪X‬اجلـري وراء ظواهر‬
‫‪125‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫النصوص‪ Z‬أو العمل بمقـتضى القياس سيؤدي إىل مـا يناقض مقصد الرشع وأنه تعـسف ترشيعي هلو استخدام للعقل‬
‫البـرشي القارص يف تغـيري األحكام‪ 115.‬فقـد وافق بعض العلامء‪ ،‬وبحـسن نية مـنهم‪ ،‬عىل منع إحيـاء األرض إال بإذن‬
‫اإلمام ألهنم أقـنعوا بأن اإلحياء دون إذن اإلمـام سيؤدي إىل عشوائيـة عمرانية (وهذا بـالطبع غري صحيح كام سرتى‬
‫بـإذن اهلل)‪ .‬فربغـم وجود نـصوص جتـيز اإلحـياء دون إذن اإلمـام وأخذ ثالثـة من األئـمة بـذلك (مـاعدا اإلمـام أبو‬
‫بناء عىل هـذه األصول‪ .‬وهبذا أدت هـذه األصول (االستحسـان والرضورة وسد الذرائع)‬
‫حنيفة)‪ ،‬إال أن اإلحيـاء منع ً‬
‫‪116‬‬
‫إىل أحكام ال تتفق مع القياس‪ ،‬أو حتى ختالف نصوص الرشيعة (كام سأوضح بإذن اهلل)‪.‬‬

‫ولعل كتـاب ‪X‬املوافقات‪ Z‬لإلمام الـشاطبي رمحه اهلل هو مـن أهم املراجع التي أخذ هبـا العلامء يف الربط بني‬
‫ال‪X :‬ملا ثبت أن األحكـام رشعت ملصالح العـباد‪ ،‬كانت األعامل‬
‫احلق ومقاصد الـرشيعة‪ .‬فيقول اإلمـام الشاطبـي مث ً‬
‫معتربة بـذلك؛ ألنه مقصـود الشـارع منهـا‪ ،‬كام تبني‪ ،‬فـإذا كان األمـر يف ظاهـره وباطـنه عىل أصل املرشوعـية‪ ،‬فال‬
‫إشكال‪ ،‬وإن كان الظاهر مـوافقاً‪ ،‬واملصلحة خمالفة‪ ،‬فالـفعل غري صحيح وغري مرشوع؛ ألن األعامل الرشعية ليست‬
‫مقصودة ألنفـسها؛ وإنام قصد هبا أمور أخـرى هي معانيها‪ ،‬وهي املصالح الـتي رشعت ألجلها‪ ،‬فالذي عمل من ذلك‬
‫عىل غـري هذا الـوضع‪ ،‬فليـس عىل وضع املرشوعـات‪ 117.Z‬ويلخص الـدريني تـأثري هـذا الربـط بني احلق ومقـاصد‬
‫الرشيـعة وروحهـا‪ ،‬أو بعبـارة أخرى‪ ،‬تـأثري رشع األحكـام ملصـالح العبـاد عىل إقامـة التـوازن بني احلـقوق الفـردية‬
‫املتعارضة وبني احلق الفردي وحق اجلامعة فيقول‪:‬‬
‫‪X‬ويرتتب عىل هـذا النـظر املـستمـد من طبيـعة احلق‪ ،‬أن اإلخالل هبـذا التـوازن بني املـصالح اخلـاصة‬
‫املتعارضة غري مرشوع‪ ،‬وال يرشع بالتـايل ما يؤدي إليه‪ ،‬وهو الفعل‪ ،‬فإذا أفضى استعامل حق فردي إىل‬
‫إحلاق مرضة راجحـة‪ ،‬كان يف هذا مناقـضة ملقصد الشـارع؛ ألنه مل يرشع احلق ليكون مـصدر ًا ملفاسد‬
‫راجحة؛ بل رشع للمصالح الراجحـة‪ ،‬ويتناقض بالتايل مع األصل العـام الذي قامت عليه الرشيعة من‬
‫جلب املصـالح ودرء املـفاسـد‪ ،‬ولو كـان الفعل يف األصل مـستنـد ًا إىل حق‪ ،‬وهـذا احلكم ينـطبق عىل‬
‫تعارض حق الفـرد مع حق اجلامعة مـن باب أوىل؛ إذ من البـدهي أن استعامل احلق الفـردي إذا أفضى‬
‫إىل اإلرضار بـمصلحـة اجلامعـة كان ممـنوعـاً‪ ،‬ألن اختالل التـوازن هنـا يكـون أظهـر‪ ،‬وألن املفـسدة‬
‫‪118‬‬
‫الالحقة باجلامعة فاحشة ال تتناسب مع املنفعة التي جينيها صاحب احلق الشخيص‪.Z‬‬

‫أخي القارئ‪ :‬إذا قرأت ما كتـبه د‪ .‬الدريني ستلحظ ثغرات يدخل فيها العقل البرشي عىل حساب الرشع يف‬
‫بناء عىل األصل العـام بجلب املصـالح ودرء املفاسـد رجح حق اجلامعة‪ ،‬وهكـذا منع الفرد من‬
‫وضع األحكام‪ .‬فهـو ً‬
‫استعامل حقه‪ ،‬وهبذا تغريت مقصوصـة احلقوق‪ .‬ولكن كام قلنا‪ :‬ألن العقول البـرشية لن تتمكن من معرفة األصلح‬
‫للـمجتمع فهي لن تتـمكن من الرتجيح بني املـصالح ألهنا لـن تدرك ماهيـة املصالح كام وضحـنا يف مثال بـاين الرحى‪.‬‬
‫فقـد يكون تراكم حقـوق األفراد أرجح من حق اجلامعـة وهذا لن يدرك إال بعـد عرشات السنني‪ ،‬وهـذا ما حاولت‬
‫تبيانه مرار ًا وتكرار ًا يف كتاب ‪X‬عامرة األرض‪ .Z‬والبد من التنويه هنا عىل أن ما يراه الدريني من خلل يف املجتمعات‬
‫والتي تتطلب تـرجيح احلاكم ملصلحة اجلامعـة عىل الفرد ألن املصالح ستتضـارب‪ ،‬لن حيدث إن طبقت الرشيعة ألن‬
‫أحكامه سبحـانه وتعاىل ستفصل بني النـاس‪ ،‬فلن تظهر احلاجـة للرتجيح بني املصالح كـام سيأيت بإذن اهلل‪ ،‬فهو احلق‬
‫َ^صلِنيَ )‪ .‬فام معـنى‬
‫ُص ‪e‬ل‪c‬حَ َّق وَهُ ـوَ خَ ‪c‬يُ ‪e‬ل‪c‬ف ِ‬
‫لل يَق ُّ‬
‫خري الفـاصلني كـام قال تعـاىل يف آية قـص احلق‪( :‬إِنِ ‪e‬ل‪c‬حُ ك‪ c‬مُ إ اَِّل ِ هَّ ِ‬
‫خري الفاصلني هنا؟ إهنا تعني كام سيتضح يف الفصـول القادمة بإذنه تعاىل‪ ،‬أن للجميع احلق يف الترصف دون حدوث‬
‫قص احلق‬ ‫‪126‬‬

‫صدامـات بني املترصفـني يف حقوقهـم ألهنم مفصـولني يف مسـارات ال تسحـبهم للتـصادم‪ ،‬بل تـتآزر حقـوقهم ليـظهر‬
‫ال ال‬
‫الـصالح العام‪ .‬كام أن هنـاك ضوابط وضعتهـا الرشيعة لكل مـترصف وعليه أن يتعامل معهـا‪ .‬فإحياء األرض مث ً‬
‫يـكون إال بـاحرتام حـريم األرايض األخـرى املحيـاة والذي كـان معـلومـاً للجميـع لدرجـة أنه كـان عرفـاً (كام تم‬
‫توضيحة يف كـتاب ‪X‬عامرة األرض‪ ،)Z‬وهبذا لن يصطدم األفـراد فيام بينهم حقوقياً‪ .‬أي أن استـنباطات الدريني التي‬
‫تتطلب تقييد حقوق األفراد وتدخل السلطات نابعة من رصده لوضع مل تطبق فيه الرشيعة‪.‬‬

‫وبــالطبـع لن ينجــو االقتصـاد من التـغيري يف احلقـوق‪ .‬فـالـدول اإلسالميـة احلـاليـة ال حتـكم بام رشع اهلل يف‬
‫غري األحداث ملصاحله‪.‬‬
‫اقتصـادها‪ .‬وهل االقتصاد إال حقوق ماليـة؟ ومن ملك املال ملك السلطة‪ ،‬ومن ملـك السلطة ّ‬
‫فعندما تعطي الدول حقوق امتيـاز التنقيب عن الثروات لرشكات لتأخـذ هي الدخل‪ ،‬فإهنا ستنفق األموال كام تراه‪.‬‬
‫غري أن ما تراه مالئام ً قد يكون يف خدمة مصاحلها أوالً‪ .‬فقليل من العلامء الذين يعتقدون أن تركيب الدول املعارصة‬
‫غري إسالمـي‪ .‬فهم يعتقـدون بفسـاد الدول‪ ،‬ولـكنهم ال يعـتقدون بعـدم إسالميـتها يف تـركيبـتها‪ .‬لـذلك ظهـرت عدة‬
‫حماوالت ألسلمة األنظمة املالية يف الدول املعـارصة‪ .‬وهي كثرية سنأيت عىل بعضها الحقاً بإذن اهلل‪ ،‬وسأقترص هنا عىل‬
‫عمل بـاحثني فـقط‪ .‬فاالقـتصادي شـابرا‪ ،‬عىل الـرغم من املجهـود الذي وضـع يف كتابه‪ ،‬إال أن مـأخذي علـيه هو أنه‬
‫فبنـاء عىل قاعـدة‪ :‬ما ال يـتم الواجـب إال به فهو‬
‫ً‬ ‫حـاول تلبيـس القواعـد الفقهيـة عىل أولويـات الدولـة يف االقتصـاد‪.‬‬
‫واجب‪ ،‬اقرتح أن حتظـى مرشوعـات البنـى التحتيـة باألولـوية يف التـنفيذ مـن قبل الدولـة لتسـاعد الـنمو االقـتصادي‬
‫ولتوجـد فرص العـمل‪ .‬كام اقرتح أيضـاً رضورة زيادة قـدرة الفقراء عىل زيـادة الكسب وذلك بـتعليمهم وتـدريبهم‪.‬‬
‫وبناء عىل قاعدة‪ :‬درء املفاسد أوىل من جلب املصالح‪ ،‬يرى أن هـذا املبدأ ‪X‬يقتيض إعطاء األولوية للمرشوعات التي‬
‫ً‬
‫من شأهنـا أن تساعد عىل إزالة الصعوبات واملعـاناة النامجة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬عن األوضـاع السائدة من سوء التغذية‪،‬‬
‫واألميـة‪ ،‬وعدم توفـر املساكن واألوبـئة وعدم وجـود املرافق الطبـية ‪ .Z..‬ولعلك تتعـاطف أخي مع ما يـطرحه هذا‬
‫االقتصـادي املعروف (احلائـز عىل جائزة امللك فـيصل العامليـة يف االقتصاد اإلسالمي)‪ ،‬ولـكن ما يدعـو إليه سيعطي‬
‫الدولـة احلق يف اإلنفـاق باسـتخدام هـذه القواعـد‪ .‬وحتـى تنـفق الدولـة األموال البـد هلا مـن جنيهـا‪ .‬لذلـك ستضع‬
‫الرضائب أو تسـتأثر بـاملوارد كاملعـادن لنفسهـا؛ وبزيادة املـال ستزداد حـقوقها عىل حـساب حقوق الـناس‪ ،‬وهكذا‬
‫تتغري مقصوصة احلقوق‪.‬‬

‫ومن القواعـد املستنـبطة مـن حديث الـرضر أيضاً القـاعدة الـتي تنص عـىل أن ‪X‬يتحمل الرضر اخلـاص لدفع‬
‫الرضر العـام‪ ،Z‬ومن هذه القـاعدة الفقهـية استنـبط شابـرا رضورة توجيه اسـتثامر الدولـة نحو سكـان الريف ألهنم‬
‫أكثر عددا‪ ،‬وذلك للحـد من هجرة سكان األريـاف للمدن‪ .‬وهبذا يـمكن للمجتمعات املـسلمة أن تتاليف املشكالت‬
‫االجتامعية النـامجة عن اكتظـاظ املدن‪ .‬لذلك فهـو يرى أولوية تـوفري التعليم يف األرياف للحـد من اهلجرة‪ .‬وهبذه‬
‫التصـورات فإن شابرا رمى هذه املهام اقتصادياً عىل الـدولة‪ ،‬إال أنه يف إطار مؤسلم‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فإن هذا حل أفضل من‬
‫الواقع املر‪ ،‬إال أنه ليـس األمثل‪ ،‬فاألمثل هو مـا أتت به الرشيعة‪ .‬ألنه إن طبقت الـرشيعة فسيأيت الـتمكني للسكان‬
‫يف كل مـكان‪ .‬كام أن مـسؤويل الـدولة‪ ،‬حتـى وإن توجهت أولـوياهتم نحـو الريف‪ ،‬فـإهنم هم أصحـاب القرارات‬
‫والتي قد ُت َو ّجه بعد املـرور عىل مصالح املسؤولني يف الدولة‪ .‬وهـذا وضع جتذه الرشيعة من أصوله‪ ،‬كام سرتى بإذن‬
‫اهلل‪.‬‬
‫‪127‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫لقد وجـدت الدول اإلسالمـية من بعـض الفقهاء مـا يعينهـا عىل فرض الـرضائب عىل السكـان (كام سيأيت يف‬
‫ال عىل آراء بعض الفقهاء مثل املرغينـاين ويوسف القرضاوي ودعا إىل‬
‫فصل‪ :‬املكوس بـإذن اهلل)‪ .‬فقد استند شابرا مـث ً‬
‫رضورة إجيـاد نظـام رضيبـي عادل لـتتمكـن الدولـة من القـيام بـمهامـها‪ .‬فهـو يقول بـأن آراء الفقهـاء الذيـن أجازوا‬
‫الرضائب‪ ،‬برغم التسميات املختلفـة التي تستمد من الرشيعة كالعفو واخلراج‪ ،‬ال تكون عادلة إال إن استوفت بعض‬
‫املعـايري مثل أن تكون الرضائب لتـمويل ما هو رضوري ملصلحـة حتقق مقاصد الرشع‪ ،‬وأن ال تـكون الرضيبة فوق‬
‫طاقـة الناس‪ ،‬وأن توزع بني القادرين منهم‪ .‬وهنـا يأيت سؤال‪ :‬أليست هذه املعايري هـي ما تدعيه الدول؟ ونظر ًا لتغري‬
‫الظـروف احلاليـة كام يقول شـابرا فـمن الرضورة إذ ًا إعادة الـنظر يف النـظام الرضيبـي يف اإلسالم ليالئم احتيـاجات‬
‫ال‪X :‬فال يكون‬
‫العرص‪ .‬وقد برر د‪ .‬احلرصي احلاجة للرضائب من باب أننا ‪X‬أدرى الناس بشؤون دنيانا‪ Z‬واستنتج قائ ً‬
‫من املخالفـة للرشيعة أو األحاديـث فيها أن تسن اليـوم قوانني تفرض عىل أهـل اليسار والقدرة رضائـب فوق ما هو‬
‫مقرر يف الكتاب أو السنة من الزكاة والعرش‪ ،‬فإن نصوص الرشيعة ليس فيها ما يمنع من ذلك‪ .Z‬أخي القارئ‪ ،‬أختي‬
‫‪119‬‬
‫ثراء‬
‫القارئة‪ :‬أليس يف هذا خروج عىل الرشع؟ فام ذنب من كافح وفتح اهلل عليه؟ وقد ال يالم احلرصي ألنه يرى ً‬
‫فاحشـاً لدى البعض‪ .‬وهذا وضع مل يـنتج إال ألننا مل نطبق الرشيـعة أص ً‬
‫ال‪ .‬فكان اخللل بالفـارق املهول بني األثرياء‬
‫والفقـراء‪ .‬وال يعـالج اخللل بخلل آخـر يـعمق خلل الـنظـام االقـتصـادي احلـاكم ليـستمـر الـضالل‪ ،‬ولكل بجـذّ ه من‬
‫جذوره‪ ،‬أي بـالعودة للـرشيعة‪ .‬هكـذا ُوضع الباحثـون يف حرية‪ ،‬فأرادوا تصـوير اإلسالم عىل أنه صـالح لكل زمان‪،‬‬
‫ال‪ :‬بأن عىل الـسكان أن يدركـوا أن ما يدفعـونه من رضائب هو هلم أوالً وأخري ًا‬
‫فأوجـدوا املربرات‪ .‬فيقول شـابرا مث ً‬
‫مقـابل ما حيصلـون عليه من خدمـات‪ .‬ونظر ًا لصعـوبة احلصول عـىل الرضائب ممن يتمتعـون باخلدمـات مبارشة‪ ،‬كأن‬
‫يـؤخذ مـن كل ساكـن قدر استـخدام سيـارته للطـريق‪ ،‬فال مفـر من الرضائب‪ 120.‬والـسؤال هـو‪ :‬أليس هـذا الذي‬
‫حيدث يف الغرب؟ وأن هذه الرضائـب عندما تتجمع يف أيدي املـسؤولني ستصبح أداة للسيـطرة! وهكذا‪ ،‬وباستخدام‬
‫العقل تم اخلـروج عن الرشيعة‪ .‬وكـام سنرى بإذن اهلل فـإن مجيع هذه املـرافق املدنيـة ستكون ذاتيـة التشيـيد وذاتية‬
‫الصيانـة إن تم تطبـيق الرشيعة ودون احلـاجة للرضائـب وبطريقـة أكفأ‪ .‬ولعل الـسؤال البـدهي هو‪ :‬مـن هم الذين‬
‫سيقـررون األولـويـات‪ ،‬ألـيسـوا املسـؤولني يف الـدولـة؟ ويف هـذا خـروج عـىل الرشيعـة ألن القـرار أصبح يف أيـدي‬
‫املـسؤولني الـذين خيططـون كام يرون أو هيـوون؛ وهبذا تتـغري مقصوصـة احلقوق‪ .‬أدرك أخي القـارئ بأن يف رأسك‬
‫ألف سؤال وسـؤال ترفض فيـه نقدي ملا ذهـب إليه املعارصون ألهنم جيـاهدون وجيتهـدون ألسلمة الـوضع املعارص‪.‬‬
‫ولكن كل مـا أطلبه منـك هو االنتـظار‪ .‬فلـن تكتمل الـصورة يف ذهـنك إال بعد قـراءة الفصـول القادمـة‪ .‬فعىل سبيل‬
‫املثال‪ :‬إن دعـوة شابرا لـالستثامر يف التعليـم يف األرياف إليقاف اهلجـرة ما هو إال عالج ملـرض نشأ بـسبب اخلروج‬
‫عن الرشيعة‪ .‬أي وكأنـنا نحاول عالج مرض اإليـدز ليزداد اللواط والعـياذ باهلل‪ .‬فلم تظهـر األرياف متخلفة إال ألن‬
‫هناك مدنـاً تبتلع أموال األمـة ألن احلكام منعـوا الناس من الرضب يف األرض والـوصول للخريات‪ ،‬فهل يـستطيع فرد‬
‫إجيـاد منجم ذهب إال بتصـاريح‪ ،‬وهكذا وبـتكدس األموال لـدى الدولة كـان االزدحام يف املدن ألهنـا هي التي يتم‬
‫االستثامر فيها‪ ،‬كام أن معظم الوظائف هبا‪ .‬فكـانت املدن نقاط جذب ألهل القرى‪ ،‬وكان هذا عىل مر التاريخ مثل‬
‫دمشق األمـويني وبغداد العبـاسيني وقاهـرة الفاطـميني‪ .‬وما يـدعو إليـه شابرا هـو عالج ألعراض االنحـراف‪ ،‬وليس‬
‫عالجاً لالنحراف ذاته‪ ،‬كام سيتضح بإذنه تعاىل‪.‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪128‬‬

‫الاسحتسان أم اقلايس‬
‫بـاختصـار‪ ،‬فإن اللـجوء إىل القـواعد املـنبثقـة من الرضر‪ ،‬بـاإلضافـة إىل دعم هـذه القواعـد بأصـول أخرى‬
‫ال‬
‫كــاالستحـسـان وسـد الـذرائع أدى إىل ختيل بعـض العلامء عـن القيـاس وعـن بعض الـنصـوص‪ .‬لـنرضب لـذلـك مث ً‬
‫بـاالستحـسان‪.‬ذ فـاالستحـسان هـو ‪X‬طلب الـسهولـة يف األحكام فـيام يبتىل فـيه اخلاص والعـام‪ ،‬وقيل األخـذ بالـسعة‬
‫وابتغاء الدعة‪ ،‬وقيل األخذ بالسامحة وابتغاء ما فيه الراحة‪ ،‬وحاصل هذه العبارات أنه ترك العرس لليرس‪ ،‬وهو أصل‬
‫وَل يُرِيدُ بِكُ مُ ‪e‬ل‪c‬ع ‪ُc‬سرَ )‪ 122.Z‬ومن املـذهب املالكـي يقول ابن رشد يف‬
‫ُـسرَ َ‬
‫‪e‬لل بِكُ مُ ‪e‬ل‪c‬ي ‪c‬‬
‫يف الدين‪ .‬قال تعـاىل‪ ( :‬يُرِيدُ هَّ ُ‬
‫االستحسان‪X :‬االستحسان الذي يكثر استعامله‪ ،‬حتى يكون أعم من القياس‪ ،‬هو أن يكون طرحاً للقياس يؤدي إىل‬
‫فعدل عنه يف بعض املواضع ملعنـى يؤثر يف احلكم خيتص به ذلك املوضع‪ .Z‬ومن املذهب‬
‫غلو يف احلكـم ومبالغة فيه‪ُ ،‬‬
‫احلنفي يقول أبو احلـسن الكرخي (ت ‪ )340‬يف االستحسان‪X :‬هـو أن يعدل املجتهد عن أن حيكم يف املـسألة بمثل ما‬
‫حكم به يف نظائرها لوجه أقوى يقتيض العدول عن األول‪ .Z‬وهبذا كام ترى فقد ترك بعض الفقهاء القياس يف بعض‬
‫املسائل وجلـؤا إىل االستحسان الذي سنده املـصلحة والعدل‪ .‬فمن تعاريف االستحـسان ما قاله الرسخيس (ت ‪:)483‬‬
‫‪X‬االستحسان ترك القـياس واألخذ بام هو أوفق للناس‪ .Z‬وعرفه ابن الـعريب (ت ‪ )543‬فقال‪X :‬االستحسان إيثار ترك‬
‫الـدليل والرتخـيص بمخـالفته‪ ،‬ملعـارضة دلـيل آخر يف بعـض مقتضـياته‪ .‬وقـسمه إىل أربعـة أقسـام‪ :‬وهي ترك الـدليل‬
‫ض‬
‫ال حيق للاملك مطلق‬
‫للعرف‪ ،‬وتركه لإلمجاع‪ ،‬وتركه للمصلحة‪ ،‬وتركه للتيسري ودفع املشقة‪ .Z‬فبمقتضى القياس مث ً‬
‫ال يف سـاحة أصاهبا أحد الرشيكني يف القسمة وأراد أن‬
‫التـرصف فيام هو حقه‪ .‬فيقول الرسخيس (حنفي املذهب) مث ً‬
‫يبني فيهـا أو يرفع البناء وأراد اآلخر منعه وقـال‪ :‬إنك تسد عيل الريح والشمـس‪ ،‬يقول الرسخيس فيه‪X :‬فله أن يرفع‬
‫بناء مـا بدا له‪ ،‬ألن الساحـة ملكه‪ ،‬والساحـة حق خالص له‪ ،‬ولإلنسـان أن يترصف يف ملك نفسه مـا يبدو له‪ ،‬وليس‬
‫للجـار أن يمنعه من ذلك‪ ،‬وله أن يتخـذ فيها محامـاً أو تنور ًا ألنه يترصف يف خـالص ملكه‪ .Z‬إال أن متأخـري احلنفية‬
‫ظ‬
‫فقـد ذكر الرازي يف كتـاب االستحسان‪:‬‬ ‫عـدلوا عن مقـتضى القيـاس إىل األخذ باالسـتحسان وقيـدوا حق املالك‪.‬‬
‫‪X‬لو أراد أن يبـني يف داره تنور ًا للخبز الدائم كام يـكون يف الدكاكني أو رحى للطحـن أو مدقات للقصارين مل جيز‬
‫غـ‬
‫ألنه يـرض بجريانه رضر ًا فاحشاً ال يمكن التحرز منه‪ .Z‬ولعلك تتـعجب وتسأل أخي القارئ‪ :‬ولكن قد يرض الناس‬

‫ظ) وجـاء يف الـزيلعـي‪X :‬والقيـاس أنه جيـوز لـلاملك أن يـترصف يف‬ ‫ذ) مثـال آخر هـو قاعـدة الذرائـع والذي يعتـرب توثيقـاً ملبدأ املـصلحة‬
‫ملكه كيف شـاء‪ ،‬ولو تـرضر من ذلك جـاره رضر ًا بينـاً‪ ،‬ولكـن ‪X‬ترك‬ ‫والعـدل وقد تـوسع فيه املـالكيـة‪ .‬وأحد تعـاريفها هـو أهنا كل مـباح‬
‫ذلك استحساناً ألجل املصلحة‪Z Z‬؛ ويقول ابن عابدين يف أمر صاحب‬ ‫تـذرع بـه إىل مفسـدة كحفـر بئـر خلف البـاب يف الظالم بحـيث يقع‬
‫الـسفل يف بنــاءه‪X :‬حيث قـال كام يف جــامع الفصـولني‪ ،‬واحلـاصل أن‬ ‫الـداخـل فيه‪ .‬والـذريعــة يف اللغــة هي الــوسيلـة إىل الـيشء مـطلقـاً‪،‬‬
‫القيـاس يف جنس هذه املـسائل أن من ترصف يف خـالص ملكه ال يمنع‬ ‫واصطالحاً هـي الوسيلة إىل املفـسدة‪ .‬ويقول الشـاطبي عنها بـأهنا أمر‬
‫منه ولـو أرض بغريه ولكـن ترك القـياس يف حمل يـرض بغريه رضر ًا بيـناً‪،‬‬ ‫غري ممنوع لنفسه وخيـاف من ارتكابه الوقوع يف املمنوع‪ .‬وسد الذرائع‬
‫وقيل باملنع وبه أخذ كثري من مشاخينا وعليه الفتوى‪. )124( Z‬‬ ‫هو منع املبـاحات التي يتـذرع هبا إىل مفاسـد وحمظورات‪ .‬مثـال ثالث‬
‫غـ) يقول ابن عابدين شـارحاً هذه املسألة‪X :‬ويظهر من كالم الشارح‬ ‫هـو قاعـدة احليل‪ .‬وهي تقـديم عـمل جائـز يف ظاهـره إلبطـال حكم‬
‫املـيل إىل ما مـشى عـليه املصـنف يف متنه ألنه أوفـق بدفع الـرضر البني‬ ‫رشعي كالواهب ماله عند رأس احلول فرار ًا من الزكاة (‪.)121‬‬
‫عن اجلار املـأمور بإكرامه‪ ،‬ولذا كان هو االستحسان الذي مشى عليه‬ ‫ض) وقـال اإلمام الـعز بن عبـد السالم‪X :‬وقـد قدمنـا نظائـر كثرية ملا‬
‫مشـايخ املـذهب املتـأخـريـن (صحح إىل املتـأخـرون) ورصحـوا بـأن‬ ‫خالف القواعـد واألقيسة ملـا فيه من جلب املـصالح العامـة واخلاصة‪،‬‬
‫الفتــوى عليه‪ .‬واحلــاصل أهنام قـوالن معـتمــدان يرتجح أحـدمهـا بام‬ ‫والرشيعـة كلها مصـالح من رب األرباب لعـباده‪ .Z‬وكان اإلمـام مالك‬
‫ذكرنا‪ ،‬واآلخر بكونه أصل املذهب‪.)125( Z‬‬ ‫ريض اهلل عنه يقـول بـأن‪X :‬االسـتحسـان تسعـة أعشـار العلم‪Z‬؛ وكـان‬
‫يقول أيضاً‪X :‬إن املغرق يف القياس يكاد يفارق السنة‪.)123( Z‬‬
‫‪129‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫بعضهم بعـضاً؟ فـأجيب‪ :‬هـذا لن حيدث‪ ،‬ألن مـن يرض بغريه يعلـم جيد ًا أنه قـد ينال نفـس الرضر من جـاره‪ .‬وهذا‬
‫واضح من تـركيب املدينـة اإلسالمية‪ .‬فكام هـو معلوم فـإن مباين كل مـدينة إسالمـية متشـاهبة فيـام بينها‪ ،‬ذلك ألن‬
‫الـسكـان استخـدمـوا األعـراف الـتي تبلـورت عرب مئـات الـسنني للـوصـول ألفـضل عمـران يالئم ظـروفهم الـتقنيـة‬
‫واالقتصـادية واالجتـامعية‪ .‬وهـذه األعراف لن تـتبلور إال إن كـانت احلقوق مـقصوصـة كام أرادهتا الـرشيعة كام‬
‫سرتى بـإذن اهلل‪ .‬هذا من جهـة‪ ،‬ومن جهة أخـرى فإن نـوازل الرضر هذه كـانت ُحتَل معظمهـا يف املوقع بني اجلريان‬
‫أنفسهم دون تـدخل خارجي من السلطات‪ ،‬وما حدث هذا إال ألن حديث الرضر يضع حق السلطة يف االعرتاض أو‬
‫السامح للـرضر بامليض أو اإليقـاف يف أيدي الـسكان املتـرضرين‪ .‬لذلك‪ ،‬فـإن كان القـرار بأيـدي السكـان‪ ،‬فإن كل‬
‫بناء عىل‬
‫إنسـان يقدر جـاره وحيرتمه ويسعـى إلرضائه ألنه يعلـم أن جاره هو الـذي بيده االحـتجاج إن ثبت الـرضر ً‬
‫حديث الـرضر والرضار‪ .‬وحديث الرضر الذي أطلقه الرسول صىل اهلل عليه وسلم نص ال يمكن إغفاله‪ .‬ولعل األهم‬
‫من مسألـة الرضر بني السكـان هي حكمة الـرشيعة بوضع القـرارات املتصلة بـالرضر بأيـدي السكان وليـس بأيدي‬
‫سلطـة خارجـية‪ .‬وأمهيـة هذا املبـدأ كام سرتى بـإذن اهلل هو يف أن انتقـال احلقوق من يـد من هم يف املـوقع ملن هم‬
‫خارج املـوقع سيؤدي إىل تـركيبـة اجتامعيـة هرميـة يف تسلـطها‪ .‬فيـصبح املسـؤولون هم األهـم يف املجتمع‪ ،‬فيـظهر‬
‫االستعباد‪ ،‬وهذا ما ال تريده الرشيعة ألن له آفات مدمرة تؤدي للتخلف كام سرتى بإذنه تعاىل‪ .‬ولكن هذا ال يعني‬
‫أن السـلطة يف الـدولة اإلسالمـية ليـس هلا احلق يف التـدخل بني اجلريان إن حـدث خالف‪ .‬فللسـلطة حـق يف التدخل‬
‫فقط إن طـلب أحد السكان ذلك تـظلام ً‪ .‬وشتان بني هذا الـوضع وبني تدخل الدولة بـدعوى دفع الرضر قبل وقوعه‬
‫بأنظمة تغري مقصوصة احلقوق كيفام شاءت‪ .‬وهذا ما حاولت توضيحه يف كتاب ‪X‬عامرة األرض‪.Z‬‬

‫ولكل هذا فـإن هناك من الفقهـاء من حتفظ عىل االستحسـان كابن تيميـة يرمحه اهلل‪ ،‬ومنهم مـن رفضه متاماً‬
‫كابن حـزم رمحه اهلل‪ 126،‬ومنهم مـن أنكره كـالشـافعي أثابـه اهلل‪ .‬فيقول ابـن احلاجب املـالكي‪X :‬قـال الشـافعي من‬
‫رشع‪ ،‬يعني مـن أثبت حكام ً بـأنه مسـتحسن عـنده من غـري دليل من قبل الـشارع فهـو الشـارع لذلك‬
‫اسـتحسن فقـد ّ‬
‫احلكم ألنه مل يأخـذ من الشارع‪ ،‬وهـو كفر أو كبرية ‪ 127.Z...‬فللـشافعي ريض اهلل عـنه ستة من األدلـة التي تقنعك‬
‫برتك االستحسان واملصالح املرسلة‪ .‬فيقول‪:‬‬
‫‪X‬األول‪ :‬أن الرشيعة نـص ومحل عىل نص بالقيـاس‪ ،‬وما االستحسـان؟ أهو منهام أم غريمهـا؟ فإن كان‬
‫منهام فال حـاجة إىل ذكره‪ .‬وإن كان خارجاً عنهام فمعـنى ذلك أن اهلل تعاىل ترك أمر ًا من أمور الناس‬
‫ُتكَ ُسدً ي)‪ 128.‬فاالستحسان الذي‬ ‫نس^نُ أَن ي ‪َ c‬‬ ‫‪e‬ل َ‬‫ب ‪ِc‬‬ ‫من غري حكم وذلك يناقض قوله تعاىل‪( :‬أَيَح‪َ c‬س ُ‬
‫ال يكـون قياساً وال إعامالً لنص يناقض تلك اآلية الكريمـة‪ .‬الثاين‪ :‬أن اآليات الكثرية تأمر بطاعة اهلل‬
‫تعاىل وطاعة الرسول‪ ،‬وتنـهى عن اتباع اهلوى‪ ،‬وتأمرنا عند التنازع أن نرجع إىل كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬فاهلل‬
‫ِ‪e‬للِ‬
‫‪e‬لل وَ‪e‬لرهَّ ُسـولِ إِن كُنتُم‪ c‬تُـؤ‪ c‬مِنُو َن ب هَّ‬
‫سبحـانه وتـعاىل يـقول‪( :‬فَـإِن تَنَ^زَ ع‪ c‬تُم‪ c‬فِـى شَ ى‪ c‬ءٍ فَرُ دُّوهُ إِلَـى هَّ ِ‬
‫‪e‬لخِ رِ) ‪ 129.‬واالسـتحسان لـيس كتابـاً وال سنة‪ ،‬وال رد ًا للكـتاب والسنـة‪ ،‬إنام أمر غري ذلك‪،‬‬ ‫وَ‪e‬ل‪c‬يَو‪ c‬مِ ‪َ c‬‬
‫فهـو تزيد عليـهام‪ ،‬فال يقبل إال بدليل منهـام عىل قبوله‪ ،‬وال دليل عليه‪ .‬الثـالث‪ :‬أن النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلـم ما كـان يفتـي باسـتحسـانه وهو الـذي كان مـا ينطق عـن اهلوى‪ ،‬فقـد سئل عـن الرجـل يقول‬
‫المرأته‪ :‬أنت عيل كظهر أمي‪ ،‬فـلم يفت باستحسانه‪ ،‬بل انتظر حتى نزلت آية الظهار وكفارته‪ .‬وسئل‬
‫ال ويتهمها فـانتظر حتى نـزلت آية اللعان‪ ... ،‬ولو كـان ألحد أن يفتي بذوقه‬ ‫عمن جيـد مع امرأته رج ً‬
‫الفقهي أو باستحـسانه لكان سـيد املرسلني حمـمد صىل اهلل عليه وسلم‪ .‬فـامتناعه عنه يـوجب علينا أن‬
‫قص احلق‬ ‫‪130‬‬

‫نمتنع عن االستحـسان من غري اعتامده عىل نص‪ ،‬ولنا يف رسول اهلل تعـاىل أسوة حسنة‪ .‬الرابع‪ :‬أن النبي‬
‫صىل اهلل عليه وسلم قـد استنكـر عىل الصحابـة الذين غـابوا عنه وأفتـوا باستحـساهنم‪ .‬فقـد أنكر عىل‬
‫بعض الصحـابة أهنم أحـرقوا مرشكـاً الذ بشجرة ‪ ...‬ولـو كان االستحـسان جائـز ًا ما استنكـر عملهم‪.‬‬
‫الدليل اخلـامس‪ :‬أن االستحسـان ال ضابط له‪ ،‬وال مقـاييس يقـاس هبا احلق من الـباطل كالقـياس‪ ،‬فلو‬
‫جـاز لكل حـاكم أو مـفت أو جمتهـد أن يسـتحسـن من غري ضـابط لكـان األمـر فـرطـاً‪ ،‬والخـتلفت‬
‫األحكـام يف النـازلـة الـواحـدة عىل حـسب اسـتحسـان كل مفت‪ ... ،‬الـدلـيل السـادس‪ :‬أنه لـو كـان‬
‫االستحسان جائز ًا من املجتهد‪ ،‬وهو ال يعتمد عىل نص وال محل عىل النص بل يعتمد عىل العقل وحده‪،‬‬
‫لكـان جيوز االسـتحسـان ممن لـيس عنـده علم الكتـاب والسنـة‪ ،‬ألن العقل مـتوافـر عنـد غري العلامء‬
‫‪130‬‬
‫بالكتاب والسنة‪ ،‬بل ربام كان منهم من له عقل يفوق عقول هؤالء ‪.Z...‬‬

‫رحم اهلل اإلمـام الشافعي‪ .‬ولعلك الحـظت أنني مل أحاول التـطرق ملا ذهب إليـه ابن حزم رمحه اهلل حتى ال‬
‫أُهتم بالظاهرية برغم قـوة حجته وطرحه يف التمسك بالنص أحياناً‪.‬ب‪ 2‬أي أن مـا تم طرحه هنا ليس فكر ًا جديد ًا يف‬
‫جوهره (كام رأيـنا يف قول الشافعي رمحه اهلل)‪ .‬ولكن مـا أحاول لفت النظر إليه هو أن تـراكامت االقتصاد والتنمية‬
‫والعمـران ال يمكن أن تستـوعبها عقـول البرش‪ .‬لذلك وجـب علينا أن نتـأنى يف استخـدام عقولنـا يف إصدار األحكام‬
‫وأن نأخذ بالقيـاس فقط‪ .‬وأشدد هنا عىل أنني ال أعمم طـرح هذا الكتاب عىل أحكام العبـادات ونحوها مما ال يمس‬
‫حقـوق اآلدميني‪ .‬فتلك مـسائل مل أتقصـاها وليس يل عـلم هبا‪ .‬لذلـك استخدمت مبـدأ الرضر كمثال عـمراين حلقوق‬
‫اآلدميني ألبني كيف أن هذا املبدأ الذي وضع القرارات بأيدي الـسكان قد انقلب وأصبح باستخدام عقول القلة من‬
‫الفقهاء املعـارصين جرس ًا عرب به أولـو األمر من خالل القـواعد املـستنبطـة من حديث الـرضر إىل تغيري مقصـوصة‬
‫احلقوق الـتي وضعها اإلسالم‪ .‬وهكـذا بتقديـر املصلحة بـاستخدام العقـول البرشية القـارصة وباألخذ بـاالستحسان‬
‫وسد الذرائع والرضورة ونحـوها من وسائل‪ ،‬تـم ترك القياس‪ ،‬فتـغريت مقصوصة احلقـوق‪ .‬فظهرت أنظمـة البلديات‬
‫التـي متنع الناس من أفعال أباحتها هلم الرشيعة‪ ،‬وأقـطعت األرايض ملن ال يستحقوهنا‪ ،‬ولعل األهم هو منع الناس من‬
‫استخراج ثروات أوطاهنم وترك ذلك حرص ًا للسلطات‪ ،‬فرتكزت الثروات يف أيدي بعض الطوائف‪ ،‬وتفاضل الناس يف‬
‫َت‬
‫معاشهم واسـتعبد أفـراد املجتمع إخـوهتم‪ ،‬وهكذا ظـهر االستبـداد ومتكنت الـدول من تكميم أفـواه العلامء وخَ ف َ‬
‫احلق وختلف املجتمع‪ .‬وللخروج من هذا التخلف تم تبني برامج تنمـوية ذات منظومات حلقوق غربية (كام سنرى‬
‫يف فصل‪X :‬الفصل والوصل‪ Z‬بإذن اهلل) أدت باألمم املسلمة إىل البطالة والغرق يف الديون‪ ،‬وهكذا تدهور احلال‪.‬‬

‫عيب نفسه مراد لعمري ما أراد قريب‪.)131( Z‬‬ ‫ب‪ )2‬يقول ابن حزم راد ًا عىل من أخـذوا بالعقل‪X :‬وما نعلم يف األرض‬
‫جـ‪ )2‬نظـر ًا ألن بعض الفقهاء مل يـركزوا عىل األسبقيـة يف اإلحياء فقد‬ ‫بدع السوفـسطائية أشـد إبطاالً ألحكام العقـول من أصحاب القياس‪،‬‬
‫تغبـشت الصورة عليهم وأخـذ بعضهم بحديث سمـرة بن جندب‪ ،‬فقد‬ ‫يدعـون عىل العقـل ما ال يعـرفه العقل من أن الـيشء إذا حرم يف‬ ‫فإهنـم ّ‬
‫استـشهد الـدريني بقـضاء الـرسول صـىل اهلل عليه وسلم عىل َس ُـمرة بن‬ ‫الرشيعـة وجب أن حيرم مـن أجله يشء آخر لـيس من نـوعه‪ ،‬وال نص‬
‫جندب لتقييد حق امللكـية‪ .‬ففي سنن أيب دواد‪X :‬عن سمرة بن جندب‬ ‫اهلل تعـاىل وال رســوله صىل اهلل عـليه وسـلم عىل حتــريمه‪ ،‬وهـذا مـا ال‬
‫أنه كـانت له عضـد من نخل يف حـائط رجل من األنـصار‪ ،‬قـال‪ :‬ومع‬ ‫يعرفه العقل وال أوجب العقل قط حتريم يشء وال إجيابه إال بعد ورود‬
‫ويشق عليه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرجل أهله‪ ،‬قال‪ :‬فكان سمرة يدخل إىل نخله فيتأذى به‬ ‫الـنــص‪ ،‬وال خالف يف يشء مــن العقـــول أنه ال فـــرق بــني الكـبــش‬
‫فطلـب إليه أن يبيعه‪ ،‬فـأبى‪ ،‬فـطلب إليه أن ينـاقله‪ ،‬فأبـى‪ ،‬فأتـى النبي‬ ‫واخلنـزيـر‪ .‬ولـوال أن اهلل حـرم هـذا وأحل هــذا فهم يـبطلـون حجج‬
‫صىل اهلل عـليه وسلم فذكـر (ذلك) له‪ ،‬فطلب إليـه النبي صىل اهلل عليه‬ ‫العقـول جهــار ًا ويضـادون حكـم العقل رصاحـاً ثـم ال يسـتحبـون أن‬
‫وسـلم أن يبيعه‪ ،‬فأبـى‪ ،‬فطلب إليه أن يـناقله‪ ،‬فأبـى‪ ،‬قال ‪X‬فهبه له ولك‬ ‫يصفوا بذلك خصومهم‪ .‬فهم كام قال الشاعر‪ :‬ويأخذ عيب الناس من‬
‫‪131‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ومن األمثلـة العمرانيـة عىل أخذ العلامء بـاالستحسـان منتهني بـأحكام ختـالف نصوصـاً أو قياسـاً فرض حق‬
‫د‪2‬‬ ‫جـ‪2‬‬
‫وفرض االرتفـاق عىل حائط اجلار‪ .‬ولعل من أشهر األمثلة عىل ذلك‬ ‫املرور وجمرى ومسيل املاء عىل أرض اجلار‪،‬‬
‫هو مـنع اإلحياء‪ ،‬ومنع الناس مـن الوصول للثروات (وهـو موضوع الفصل القـادم‪ ،‬أي ‪X‬اخلريات‪ .)Z‬أما يف االقتصاد‪،‬‬
‫وهو لب موضوع الفصول الستة القادمة‪ ،‬فقد تنازلت آراء بعض الفقهاء يف الصدقات والغنائم والفيء لتذهب أموال‬
‫املجتـمع إىل بيت املال (أو بـاألحرى‪ :‬إىل بيت الـسلطان الـذي جند اجلنـد لقمع النـاس) وليس إىل النـاس مما زاد من‬
‫نفوذ رجاالت الدولـة عىل حساب عزة املجتمع‪ ،‬كام سيـأيت بيانه بإذنه تعاىل‪ .‬ولكن اآلن سآخـذ مثاالً عمرانياً واحد ًا‬
‫ببعض التفصـيل لرتى كيف أن العقل القارص قلب املـوازين من مقصوصـة حقوق تؤدي إىل للعـزة إىل نظام حقوقي‬
‫أدى هلضم حقوق العامة من الناس‪ ،‬وهذا املثال هو نزع امللكية‪:‬‬

‫غرُ و ُر اعلقل‪ :‬زنع املليكة مكاثل‬


‫أي كلام تـقادم الزمن كلـام ق ُّيد احلق‪ ،‬وكلام أفتـى بعض الفقهاء بـأحكام قد تنـايف النص كام سأوضح اآلن‪.‬‬
‫والذي أراه‪ ،‬واهلل أعـلم‪ ،‬هو االبـتعاد عـن القواعـد السـابقة املـستنبـطة مـن حديث الـرضر واألصول املـستنبـطة من‬
‫مقـاصد الـرشيعة كـاالستحـسان وذلـك متى مـا وجد نـص واختالف‪ 134،‬وذلك ألن مضـاعفات الـرضر االقتصـادية‬
‫ال‪ ،‬برغم وجـود قولـه صىل اهلل عليه وسلم يف احلـديث الذي رواه‬
‫والعـمرانيـة تقع خارج حـدود العقل البـرشي‪ .‬فمثـ ً‬

‫عـىل فعل ذلك‪ .‬ففـي املجمـوع‪X :‬وال جيــوز أن يفتح كـوة‪ ،‬وال يـسمـر‬ ‫كـذا وكذا‪ Z‬أمر ًا ر ّغبه فيه‪ ،‬فأبى‪ ،‬فقال‪X :‬أنت مضار‪ ،Z‬فقال رسول اهلل‬
‫مسامر ًا يف حائط جاره إال بإذنه‪ ،‬وال يف احلائط املشرتك بينه وبني غريه‬ ‫صىل اهلل علـيه وسلـم لألنـصــاري‪X :‬اذهب فــاقلـع نخله‪ .ZZ‬وبــرغم‬
‫إال بـإذنه‪ ،‬ألن ذلك يـوهي احلــائط ويـرض به‪ ،‬فال جيـوز مـن غري إذن‬ ‫وضـوح الرضر يف هذه احلادثة وانتفـاء مضاعفاهتا إال أنه صىل اهلل عليه‬
‫مـالكه‪ ،‬وال جيـوز أن يبنـي عىل حائـط جاره وال عىل احلـائط املـشرتك‬ ‫وسلم حـاول إقناع سـمرة؛ وأخري ًا‪ ،‬وبعـد حماوالت عـدة أصدر حكمه‬
‫شيئا من غري إذن مـالكه وال عىل السطحني املتالصقني حاجز ًا من غري‬ ‫عىل تعسـف سمرة يف استخدام حقه‪ .‬لذلك فـإن استخدام هذه احلادثة‬
‫إذن صاحبه ألنه محل عىل ملك الغري فلم جيز من غري إذن كاحلمل عىل‬ ‫لتـقييد حق املـالك وفرض حق االرتفـاق عليه أمر يـصعب االستدالل‬
‫هبيـمته‪ ،‬وال جيوز أن جيـري عىل سطحه مـاء من غري إذنه‪ ،‬فـإن صاحله‬ ‫ال والرضر‬‫به‪ ،‬وذلك ألن هـذه احلـادثـة نخلـة يف حـائط مـوجـودة أص ً‬
‫مـنه عىل عوض جـاز إذا عرف الـسطح الـذي جيري مـاؤه ألنه خيتلف‬ ‫أزيل عن مـالك األرض‪ ،‬وال رضر عىل مالـك النخلة‪ ،‬واألهم هـو انتفاء‬
‫ويتـفاوت‪ .Z‬ويقـول ابن رجـب يف القاعـدة التـاسعة والـتسعـون‪X :‬ما‬ ‫املـضاعفـات‪ .‬وشتـان بيـنها وبـني إحداث جمـرى يف احلائـط وإحداث‬
‫تدعـو احلاجـة إىل االنتفـاع به من األعـيان وال رضر يف بـذله لتيـسريه‬ ‫رضر عـىل مالك األرض‪ ،‬فكـام هو واضح من الـنوازل (انظـر الفصلني‬
‫وكثـرة وجــوده أو املنـافـع املحتــاج اليهــا جيب بـذلـه بغري عـوض يف‬ ‫الثـاين واخلـامـس مـن ‪X‬عامرة األرض‪ )Z‬فـإن املـالك البـد وأن يـترضر‬
‫األظـهر‪ .‬ويـندرج حتـت ذلك مسـائل‪( ... :‬ومنهـا) وضع اخلـشب عىل‬ ‫ال‪ ،‬هذا إذا مل يـترضر يف احلال‪ .‬بـاإلضافـة إىل تعاكـس احلالتني‬
‫مسـتقب ً‬
‫جـدار اجلــار إذا مل يرض‪ ،‬وكــذلك إجـراء املــاء عىل أرضه يف إحـدى‬ ‫(النخلة واملجرى) من حيـث حجم األعيان املسببة للرضر وعمرهيام‪.‬‬
‫الروايتني‪ .Z‬وبالنسـبة حلديث الرسول صىل اهلل عليه وسلم‪X :‬ال يمنعن‬ ‫فاملجـرى سيستمر إىل ما شاء اهلل‪ ،‬أما النخلة فعمرها معلوم‪ ،‬وقد يفقد‬
‫أحدكم جاره أن يضع خشـباً عىل جداره‪ Z‬فقد تم رشحه وتوضيحه يف‬ ‫سـمرة أو ورثته هـذا احلق يومـاً ما‪ .‬كام أن اإلمـام مالك خـالف قضاء‬
‫الفـصـل التــاسع مـن كتــاب ‪X‬عـامرة األرض‪ .Z‬إال أن بعــض الفقهــاء‬ ‫عمـر بـن اخلطــاب ريض اهلل عنه يف نـازلـة الـضحـاك بـإجبـار املـالك‬
‫املحدثني نـادوا بإلزام الفـرد بالسامح جلـاره باالرتفاق بحـائطه‪ .‬فهناك‬ ‫بالسامح بإجراء املاء خمـافة أن يدعي املرتفق ملكية رقبة األرض‪ .‬فهو‬
‫الكثري من األمثلة التي ا ّدعـى فيها اجلار أو أحد أحفاده ملكية احلائط‬ ‫يرى عـدم اإلجبار‪ .‬وإىل هـذا ذهب أمحد يف روايـة عنه واحلنفـية‪ .‬أما‬
‫الشـرتاكه يف استخـدامه‪ ،‬فـالتنـازع يف احلـائـط املشـرتك مسـألـة كثـر‬ ‫ابتداء‬
‫ً‬ ‫الشافعية فقـد قالوا بوجود حق املرور للضحاك يف أرض مسلمة‬
‫ذكـرها يف كتب الـفقه داللة عىل انتشـارها‪ .‬وهناك الكـثري من األمثلة‬ ‫ومل جييزوا فرض حق االرتفاق عىل املالك (‪.)132‬‬
‫التي قام اجلار فيها أو أحـد أحفاده بفتح نافذة مـرتفعة إلدخال الضوء‬ ‫د‪ )2‬وبالنـسبة لفـرض االرتفاق عىل حـائط اجلار كغـرس اخلشب يف‬
‫لداره من دار مالك احلائط مرض ًا بذلك مالك احلائط (‪.)133‬‬ ‫حـائطه‪ .‬فبـاستثـناء القلـيل من العلامء كـأمحد بن حـنبل واسحق وابن‬
‫حبيب من املـالكية وابن حزم‪ ،‬مل ير أكثر علامء السلف إجبار املالك‬
‫قص احلق‬ ‫‪132‬‬

‫الـدارقطـني وصححه األلبـاين‪{ :‬ال حيل مال أمـرئ مسلـم إال عن طيب نفـس}‪ ،‬ويف رواية {‪ ...‬إال عن طـيب نفس‬
‫منه}‪ 135،‬إال أن بعض الفقهـاء املعارصين أبـاحوا نـزع امللكيـة استنـاد ًا ملا تـم رشحه من قواعـد وأصول‪ .‬فقـد أجاز‬
‫‪136‬‬
‫فبـناء عىل قاعـدة ‪X‬يتحمل الرضر‬
‫ً‬ ‫جممـع الفقه اإلسالمي يف دورته الرابعـة نزع امللكيه الـفردية للـمصلحة العـامة‪.‬‬
‫اخلاص لدفع رضر عام‪ Z‬أجاز الفقـهاء انتزاع ملكية عقار خاص إذا ضـاق الطريق عىل املارة‪ .‬وكام هو معروف فإن‬
‫مراكز املـدن تزداد حركـة املرور إليها بـزيادة نشـاطاهتا االقـتصادية واإلداريـة‪ ،‬وهذا يتطلـب توسعة بعـض طرقها‬
‫بنزع ملكيـات بعض األفراد‪ .‬فتكون املصلحـة العامة يف الظاهـر يف توسعة الطريق‪ .‬ولكـن الواقع قد يكون عكس‬
‫ال‪ :‬هناك شخص يسكن يف الغـابة وبداره فئران ويريـد التخلص منها‪ ،‬فقام‬
‫ذلك عىل املدى البعيد‪ .‬ألرضب لـذلك مث ً‬
‫ال وخترج‬
‫ال مـنه يف أن تأكل الفئران قطع اخلبز الـواحدة تلو األخرى لي ً‬
‫بوضع قطع من اخلبـز من منزله إىل الغابة أم ً‬
‫للغابـة وال تعود إليه‪ .‬ولكن الـذي حدث هو أنه عـندما استيـقظ وجد فئران الـغابة يف داره! وهذا مـا سيحدث بنزع‬
‫امللكيات‪ ،‬فقد تتضـاعف املآيس‪ :‬فعند توسعة الشوارع بنزع امللكيـات ستزداد احلركة إىل قلب املدينة وهبذا سيزداد‬
‫مركـز املدينة أمهيـة وكثافة سكـانية ثم تأيت احلـاجة إىل زيادة استيعـاب شبكات املياه واملجـاري والكهرباء ومن ثم‬
‫الطرق مرة أخـرى وتنزع ملكيات أخـرى‪ ،‬وهكذا‪ .‬أما إذا مل توسع الـطرق فإن هذا سيـؤدي إىل نوع من االختناق‬
‫بنـاء عىل سعة مرافقها‪ ،‬ما سيؤدي‬
‫وإىل احلد من نشاط مركـز املدينة إىل املدى الذي يوافق مـا تستوعبه من خدمات ً‬
‫إىل ظهور مراكز أخـرى يف مناطق جماورة ألن االقتصـاد لن يتوقف‪ ،‬بل سينـمو يف مناطق جماورة‪ .‬هـذا باإلضافة إىل‬
‫ثراء‬
‫فوائـد أخرى كـتوزيع الـثروات بـطريقـة أشمل بني الـسكان‪ :‬فـبدل أن يـزداد مالك العقـارات يف ذلك املركـز ً‬
‫فـسيستفـيد أناس آخـرون يف مناطق أخـرى وهكذا‪ .‬والـذي أراه‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬هو االلتـزام بحديث الـرسول صىل اهلل‬
‫عليه وسلم‪{ :‬ال حيل مال أمرئ مسلم إال عن طيب نفس}‪ .‬واآلن لنفصل املسألة‪.‬‬

‫مـتى ُيـكره مـالك العقـار عىل البـيع رشعاً؟ قـال الفقهـاء بأن ذلـك حيدث يف ثالث حـاالت‪ :‬األوىل يف األخذ‬
‫بالشفعة‪ ،‬والثانية لقضاء الدين (وهاتان خارج دائـرة بحثنا)‪ ،‬والثالثة إن كان يف البيع كرهاً‪ ،‬أو يف نزع ملكية املالك‬
‫مصلحـة للجامعة والتـي نحن بصددهـا‪ 137.‬ألن نزع ملكيـة فرد تعكس تـقديم مصلحـة اجلامعة عىل مصـلحة الفرد‬
‫وذلك باستخـدام العقل البرشي وترك القياس أو الـنص‪ ،‬فهل قُدمت مصلحة اجلامعـة عىل مصلحة الفرد يف العقارات‬
‫وإىل أي مـدى؟ إن معظم فقهاء الـسلف قالوا بـمنع نزع ملكيـة العقار إذا مل يكـن منه رضر مبارش عىل العـامة كأن‬
‫ال للسقوط‪ .‬ولكن إذا ما تـعلقت مصلحة اجلامعة بنـزع امللكية‪ ،‬كإكراه مـالك عقار مالصق للمسجد عىل‬
‫يكـون آي ً‬
‫بيـع عقاره لـتوسعـة املسجـد‪ ،‬ورفض املـالك ذلك‪ ،‬فهـل للسلـطة إرغـام البـائع عىل البـيع ألجل مصلحـة األكثـرية؟‬
‫بـالرجـوع إىل حديـث الرسـول صىل اهلل عليه وسلـم‪{ :‬ال حيل مال أمـرئ مسـلم إال عن طيـب نفس مـنه} ال يمكن‬
‫ألحـد إكـراه املـالك عىل الـبيع‪ .‬فهـذا نـص واضح‪ .‬وهنـاك حـديث آخـر رواه مـسلم يف بـاب تغـليظ حتـريم الـدمـاء‬
‫واألعراض واألموال‪{ :‬كل املسلم عىل املسلم حـرام‪ ،‬دمه وماله وعرضه}‪ 138.‬كام قال صلوات اهلل وسالمه عليه يف‬
‫حجة الوداع فيام رواه الـبخاري عن ابن عباس ريض اهلل عنهام أن رسول اهلل صـىل اهلل عليه وسلم خطب بالناس يوم‬
‫النحـر فقال‪{X :‬يـا أهيا النـاس‪ ،‬أي يوم هـذا؟}‪ ،‬قالـوا‪ :‬يوم حـرام‪ .‬قال‪{ :‬فـأي بلد هـذا؟}‪ ،‬قالـوا‪ :‬بلد حـرام‪ .‬قال‪:‬‬
‫{فأي شهر هذا؟}‪ ،‬قالوا‪ :‬شهر حرام‪ .‬قـال‪{ :‬فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا‬
‫يف بلـدكم هذا يف شهركم هـذا}‪ .‬فأعادها مـرارا ثم رفع رأسه فقال‪{ :‬اللهم هل بـلغت؟ اللهم هل بلغت؟}‪ .‬قال ابن‬
‫عبـاس ريض اهلل عنهام‪ :‬فـوالذي نفـيس بيده إهنـا لوصـيته إىل أمته فلـيبلغ الشـاهد الـغائب‪ ،‬ال تـرجعوا بعـدي كفارا‬
‫‪133‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫يـرضب بعضكم رقاب بعض‪ .Z‬وجاء يف مسند اإلمام أمحد أنه صلوات ريب وسالمه عليه قال‪{ :‬من اقتطع مال أمرئ‬
‫‪139‬‬
‫مسلم بغري حق لقي اهلل عز وجل وهو غضبان}‪.‬‬

‫كـام أن الرشيعة منحت املالك احلق يف الدفاع عن ملكه وحقـوقه لدرجة الشهادة‪ .‬ففي صحيح البخاري أن‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم قال‪{ :‬من قتل دون ماله فهو شهيد}‪ .‬وذكر النووي حديث آخر جاء فيه‪ ...{ :‬كل‬
‫املسلـم عىل املسلم حـرام‪ ،‬عرضه ومـاله ودمه ‪ 140.}...‬هذه األحـاديث متنح املـسلم احلق‪ ،‬كل احلق يف الـدفاع عن‬
‫ٍ‬
‫عـمل يفيده‪ ،‬كبـناء سور عىل‬ ‫عقاره ضد أي كـائن‪ ،‬فحديث الـشهادة مطلـق‪ .‬فإذا أتت السـلطة ومنعـت شخصاً من‬
‫سطحه أو إضـافة دور علـوي‪ ،‬وأوقفته دون إثبـات الرضر عىل الغـري‪ ،‬فله خمالفـة تلك السلـطة حتـى وإن قتل وهو‬
‫يـدافع عن فعله ليفوز بالشهادة‪ .‬فمذهـب اجلمهور‪ ،‬وكام يقول الشوكاين‪X :‬أهنا جتـوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان‬
‫من غري فرق بني القليل والكثري إذا كان األخذ بغري حق‪ .Z‬ويـأيت استنتاجه هذا من احلديث اآليت‪X :‬عن أيب هريرة‬
‫قـال‪ :‬جاء رجل فـقال‪ :‬يا رسـول اهلل أرأيت إن جاء رجل يـريد أخذ مـايل؟ قال‪{ :‬فال تعطه مـالك}‪ .‬قال‪ :‬أرأيت إن‬
‫قـاتلني؟ قال‪{ :‬قـاتله}‪ .‬قال‪ :‬أرأيت إن قعلني؟ قـال‪{ :‬فأنت شهيـد}‪ .‬قال‪ :‬أرأيت إن قعلته؟ قـال‪{ :‬هو يف النار}‪.‬‬
‫عيل؟ قال‪:‬‬
‫رواه مسلم وأمحـد ويف لفظه‪ :‬يـا رسول اهلل‪ ،‬أرأيـت إن عدا عىل مـايل؟ قال‪{ :‬أنـشد اهلل}‪ .‬قـال‪ :‬فإن أبـوا ّ‬
‫لت ففي النـار}‪ 141.Z‬ومنع الناس من‬
‫عيل؟ قال‪{ :‬قـاتل‪ ،‬فإن قتلت ففي اجلـنة‪ ،‬وإن ق ََع َ‬
‫{أنـشد اهلل}‪ .‬قال‪ :‬فـإن أبوا ّ‬
‫الـترصف يف أمالكهم كـتحويل غـرفة يف دارهم إىل حـانوت أو بنـاء طابق إضـايف يف ملكهـم هو إنقـاص من حقهم‪،‬‬
‫وهذا ظلم‪ ،‬واهلل أعلم‪ 142.‬إال إذا ثبت أن عملهم هذا مرض بغريهم‪ .‬وشتان بني مالك يف بيئة كهذه وآخر يف بيئة تقيد‬
‫ابتداء بكل أنواع األنظمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫املترصف‬

‫ولكنك قـد تقول‪ :‬إن األحـاديث التـي أحتج هبا يف طـرحي ال تعنـي منع تدخل الـسلطات يف احلـقوق ولكن‬
‫تقصـد تدخل األفـراد كاجلريان‪ ،‬فـالرجل يعـد شهيد ًا إن حـاول إنسـان آخر أخـذ مالـه فقتل دفاعـاً عن حقه‪ .‬أما إن‬
‫أثبت لك يف هـذا الكتاب بإذنه تعاىل أن األفضل‬
‫حاولت السلطـات ذلك فإن املسألة خمـتلفة ! هنا أقول لك اآليت‪ :‬إن ّ‬
‫لعزة األمـة عدم تدخل الدولة وأن التدخل بدعة اجتهادية‪ ،‬وأنه سـيؤدي ملذلة األمة‪ ،‬فعندها البد وأن تكون منصفاً‬
‫سواء كانـت صادرة من أفراد أو مـن السلطات‪.‬‬
‫ً‬ ‫وتوافقني عىل أن مثـل هذه التدخالت يف حقـوق الناس هي اعتـداء‬
‫فاحلـديث واضح ومطلق وال يسـتثني السلـطات‪ .‬فلامذا استثـنى بعض الفقهـاء املعارصين الـسلطات بحجـة املصلحة‬
‫العامة؟ وللتوضيح أكثر أقول‪:‬‬

‫هل حيق لـلسلطـة رشعاً أخـذ جزء مـن عقار مـا للمـصلحة العـامة كـتوسعـة مسجـد أو طريق؟ لقـد وقعت‬
‫حادثة هامة وذكرت يف مصادر كـثرية وبألفاظ خمتلفة تؤكد حدوثها‪ ،‬وقـد مجعها السمهودي يف كتابه ‪X‬وفاء الوفا‪.Z‬‬
‫وألمهيتها فسأذكر إحداها بالكامل‪ .‬فمن هذه الروايات‪:‬‬
‫‪X‬ملـا كثر املسلمـون يف عهد عمر ريض اهلل عنه وضـاق هبم املسجد فـاشرتى عمر ما حـول املسجد من‬
‫وح َج َـر أمهات املؤمـنني‪ ،‬فقال عمـر للعباس‪ :‬يـا أبا الفضل‪ ،‬إن‬
‫الـدور إال دار العباس بن عـبد املطلب ُ‬
‫مسجـد املسلمني قد ضاق هبم‪ ،‬وقد ابتعت ما حـوله من املنازل نوسع به عىل املسلمني يف مسجدهم إال‬
‫دارك وحجر أمهات املـؤمنني‪ ،‬فأما حجـر أمهات املؤمنني فـال سبيل إليها‪ ،‬وأما دارك فـبعنيها بام شئت‬
‫من بيت مال املسلمـني أوسع هبا يف مسجدهم‪ .‬فقال العباس‪ :‬ما كنت ألفعل‪ .‬قال‪ :‬فقال له عمر‪ :‬اخرت‬
‫قص احلق‬ ‫‪134‬‬

‫مني إحـدى ثالث‪ :‬إما أن تـبيعنيهـا بام شئت من بـيت املال‪ ،‬وإمـا أن أخطك حـيث شئت من املـدينة‬
‫تص ّدق هبا عىل املسلمني فتوسع يف مسجدهم‪ .‬فقال‪ :‬ال‪ ،‬وال‬ ‫وأبنيها لك من بيت مـال املسلمني‪ ،‬وإما أن ّ‬
‫فقصا عليه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واحدة منها‪ .‬فقال عمر‪ :‬اجعل بيني وبينك مـن شئت‪ .‬فقال‪ :‬أ ّيب بن كعب‪ .‬فانطلقا إىل أ ّيب ّ‬
‫القصـة‪ .‬فقـال أ ُ ّيب‪ :‬إن شـئتام حـدثـتكام بحـديـث سمعـته من رسـول اهلل صىل اهلل علـيه وسلم‪ .‬فقـاال‪:‬‬
‫حـدثنا‪ .‬فقال‪ :‬سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلـم يقول‪ :‬إن اهلل أوحى إىل داود أن ابن يل بيتاً أذكر‬
‫فيه‪ ،‬فخط له هذه اخلطة‪ ،‬خطة بيت املقدس‪ ،‬فإذا تـربيعها بزاوية بيت رجل من بني إرسائيل‪ ،‬فسأله‬
‫داود أن يبيعه إيـاها‪ ،‬فأبى‪ ،‬فـحدث داود نفسه أن يأخـذه منه‪ ،‬فأوحى إليه‪ :‬أن يـا داود أمرتك أن تبني‬
‫الغصب‪ ،‬وإن عقـوبتك أن ال‬ ‫ـدخل يف بيتـي الغَصب‪ ،‬ولـيس من شـأين‬ ‫يل بيتـاً أذكر فـيه‪ ،‬فأردت أن ت ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أيب بن كعب فقال‪ :‬جئتك بيشء‬ ‫تبنيه‪ .‬قال‪ :‬يـا رب فمن ولدي‪ ،‬قال‪ :‬فمن ولـدك‪ .‬فأخذ عمر بمجـامع ّ‬
‫فجئت بام هـو أشد مـنه‪ ،‬لتخرجـن مما قلت‪ .‬فجـاء يقوده حتـى دخل املسجـد‪ ،‬فأوقفه عـىل حلقة من‬
‫ال سمع رسول اهلل صىل‬ ‫أصحاب رسـول اهلل صىل اهلل عليه وسلم فيهم أبو ذر‪ .‬فقـال أ ُ ّيب‪ :‬نشدت اهلل رج ً‬
‫اهلل عليه وسلم يـذكر حـديث بيـت املقدس حـني أمر اهلل داود أن يـبنيه إال ذكـره‪ ،‬فقال أبـو ذر‪ :‬أنا‬
‫سمعته من رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقال آخر‪ :‬أنا سمعته‪ ،‬يعني رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫قـال‪ :‬وقـال عمـر للعبـاس‪ :‬اذهب فال أعـرض لك يف دارك‪ .‬فقـال العبـاس‪ :‬أمـا إذ قلت ذلك فـإين قـد‬
‫تصدقت هبـا عىل املسلمني أوسـع عليهم يف مسجـدهم‪ ،‬فأمـا وأنت ختاصـمني فال‪ .‬قال‪ :‬فخـط له عمر‬
‫‪143‬‬
‫داره التي هي اليوم‪ ،‬وبناها من بيت مال املسلمني‪.Z‬‬

‫لقـد استخدمت هـذه احلادثة‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬كـسابقة لـدى السلف حلفظ حـرمة أمالك الغري حـتى وإن كانت‬
‫الـتوسعة للمسجـد النبوي (وهناك روايـة بأن التوسعة كـانت للمسجد احلـرام)‪ ،‬فام بالك باألماكـن األخرى! لنذكر‬
‫مثالني‪ :‬فقد كان اجلانب الشاميل ملـسجد البرصة منزوياً لوجود دار نافع بن احلـارث‪ .‬فأبى ولده بيعها‪ .‬واستمر احلال‬
‫هكـذا حتى َوىل معاوية البرصة لعبيد اهلل بن زياد‪ .‬فقـال عبيد اهلل ألصحابه‪X :‬إذا شخص عبد اهلل بن نافع إىل أقصى‬
‫ضيعته فـأعلموين ذلك‪ .Z‬فلام خـرج عبد اهلل بن نـافع إىل أقصى ضـيعته بعث الوايل الفعلـة فهدموا مـن تلك الدار ما‬
‫ساوى به تـربيع املسجـد‪X .‬فقدم ابن نـافع فضج إليه مـن ذلك فأرضاه بـأن أعطاه بكل ذراع مخـسة أذرع وفتح له يف‬
‫احلائـط خوخة (باباً صغري ًا) إىل املسجد‪ .Z‬هنا يف هذا املثـال نرى أن الوايل مل جيرؤ عىل نزع امللكية بحضور املالك‪.‬‬
‫ولكنه احتال عليه وأرضـاه وكان للاملك الرفـض إن أراد إشارة إىل أن نزع امللكيـة مل يكن عرفاً قـط‪ .‬واملثال اآلخر‬
‫من الفسـطاط‪ :‬فعندما نـزل املسلمون الفسطـاط سبق قيسبة بن كلثـوم اآلخرين ونزل بموضع تـم اختياره فيام بعد‬
‫لـيكون موضع اجلامع العتيق‪ ،‬أو جامع عمرو بن العاص‪ .‬ومل يتمـكن عندها املسلمون من أخذ ذلك املوضع ليكون‬
‫مـسجدهـم إال طواعيـة من قيـسبة الـذي قال‪X :‬لقـد علمتم يـا معارش املـسلمني أين حـزت هذا املنـزل وملكته وإين‬
‫‪144‬‬
‫فكام تـرى من مثل هذه النـوازل فإن أخذ أمالك‬ ‫أتصدق به عىل املـسلمني ‪ .Z...‬ثم ارحتل ونزل يف مـوضع آخر‪.‬‬
‫ّ‬
‫الناس للمصلحة العامة كان أمر ًا مرفوضاً إال يف حاالت نادرة وبعد إرضاء املالك‪.‬‬

‫ولكن إن كان الوضع هكذا‪ ،‬فلامذا أفتى الفقهاء املتأخرون بجواز نزع امللكية؟ إهنم ال يالمون ألن املهنيني‬
‫يدفعـوهنم إلصدار الفتاوى بنـزع امللكيات نظر ًا لـتغري تركيبات املـدن احلالية‪ .‬كـام أن السلطات أيضـاً تدفع الفقهاء‬
‫ملثل هـذه الفتـاوى‪ ،‬وبالـذات ألن املسـألة لـيست واضحـة فقهيـاً‪ ،‬إذ أن األرايض يف السـابق مل تكـن كأيـامنـا هذه‪.‬‬
‫كيف؟ أتذكر أخـي القارئ عندما طـرحت مثال مرض نقـص املناعة املعروف بـاإليدز وأن اإلسالم ليس السبب يف‬
‫ظهـوره‪ ،‬وأنه كيف يالم اإلسـالم ألنه مل يأت بـالعالج؟ هنـا أيضـاً مثـال مشـابه‪ .‬فقـد خلق اهلل الـثروات يف األرض‬
‫‪135‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ووزعها بطـريقة ستوجد مستـوطنات برشية ذات كثافـات منخفضة ومتفرقة إن كـان للناس احلق يف الوصول لتلك‬
‫الثروات بأنفسهم (كام سأوضـح يف فصيل ‪X‬اخلريات‪ Z‬و ‪X‬ابن السبيل‪ .)Z‬هلذا مل تكن ثمـة حاجة لنزع امللكيات ومل‬
‫تصدر الفتاوى بذلك‪ .‬ولكـن ألن الناس ُمنعوا من حقهم يف قطف الـثروات بأنفسهم‪ ،‬ومع انتشـار الرأساملية كنظام‬
‫سـيايس اقتصـادي يضع الثـروات الوطنيـة يف أيدي احلكـومات‪ ،‬تـكتل الناس يف مـراكز سكـنية ضخمـة رغام ً عنهم‪،‬‬
‫وتـزامحوا يف املـدن بطـريقة جعلـت من قطع األرايض مـواقع إسرتاتيجـية وذات أسعـار مرتفـعة يف وقت مـنعت فيه‬
‫السلطات الناس من إحياء األرض‪ .‬وهبذه الرتاكامت املخرجة عن الرشيعة أصبحت األرض سلعة‪ .‬ومل تكن كذلك‬
‫ولن تكون يف املـستقبل إن طبقت الـرشيعة كام سأوضـح بإذنه تعاىل‪ .‬وهكـذا تراكمت احلـاجة إلجياد فـتاوى لنزع‬
‫امللكيات ألن املجتمعات املسلمة خرجت عن مقصوصة احلقوق‪.‬‬

‫ونظر ًا لعدم وجـود فتاوى من فقهاء السلف بجواز نزع امللكية‪ ،‬فقد أفتى العلامء املتأخرون بذلك‪ .‬فلم أجد‬
‫للشافعية نصاً قاطعاً بـاملنع‪ .‬وكذلك األمر بالنسبة للحنابلة‪ .‬فهناك رواية تقول أن اإلمام أمحد سئل يف الرجل يزيد يف‬
‫املسجد (ليس املسجد اجلامع) من الطـريق فقال‪ :‬ال يصىل فيه‪ .‬وبالنسبة للمسجد اجلامع فيجوز إبدال موقع املسجد‬
‫بغريه للمصلحة كام حدث يف مـسجد الكوفة‪ .‬وجاء يف فتـاوي الشيخ ابن تيمية‪X :‬سئل أبـو عبد اهلل‪ :‬حيول املسجد؟‬
‫قال‪ :‬إذا كـان ضيقاً ال يسع أهله فال بـأس أن حيول إىل موضع أوسع مـنه‪ .Z‬فهذه إشارات إىل منع نـزع امللكية وذلك‬
‫بنقل املـسجد ملـوقع آخر بـدالً من تـوسعته‪ .‬ومـن جهة أخـرى يقول ابـن تيميـة‪X :‬فإذا جـاز جعل البـقعة املحـرتمة‬
‫املشرتكـة بني املسـلمني [يعني املـسجد] بقعـة غري حمرتمـة للمصلحـة‪ ،‬فألن جيوز جعل املـشرتكة الـتي ليسـت حمرتمة‬
‫كالـطريق الواسع بقعـة حمرتمة‪ .Z‬وهنـا إشارة اىل جواز األخـذ من الطريق للـمسجد ولكنـها ليست نـصاً عىل إكراه‬
‫املالك إذا رفض الـبيع‪ .‬أما بـعض فقهاء املـالكية واحلـنفية فقـد أباحـوا نزع امللكيـة يف حالـة احلاجـة املاسـة ملصلحة‬
‫اجلامعة واخـتلفوا يف ماهيـة تلك املصلحة‪ 145.‬ولكـن أي اآلراء ستغري مقصوصـة احلقوق؟ لإلجابـة عىل هذا السؤال‬
‫لنعطي أوالً فكرة رسيعة عن سبب االختالف بني املذاهب ثم نعود لنزع امللكية‪.‬‬

‫الـظاهر أن سبب اختالف املـذاهب يف نزع امللكية هـو األخذ باالستحسـان وباملصالح املـرسلة يف استنباط‬
‫األحكـام‪ .‬فقد ثـبت بالـنصوص الـرشعية أن الـرشيعة قـد اشتملت أحكـامها عىل مـصالح النـاس‪ .‬قال تعـاىل‪( :‬وَ مَا‪d‬‬
‫َ^ك إ اَِّل رَح‪ c‬مَةً لِّل‪c‬عَ^لَمِنيَ )‪ 146.‬وهناك رأيان يف كيفية الرجوع إىل هـذه املصالح الستنباط األحكام كام ذكرنا‪:‬‬
‫َر‪c‬سل‪c‬ن َ‬
‫أ َ‬
‫أحدمها هو أن هذه املصالح كلها واضحة بينة لذوي العقول فيمكن استنباط األحكام باالستناد للعقل باالستحسان‬
‫إذا مل يوجد نـص من الرشيعة ُحتمل علـيه؛ والرأي اآلخر والذي محل لـواءه الشافعي رمحه اهلل هـو أن الرشيعة نص‬
‫ومحل عىل نص بالقياس‪ ،‬لذلـك ال يؤخذ باالستحسان إذا مل ُحيمل عىل نص‪ ،‬وإذا محل يكون قياساً‪ .‬وقد عرف بعض‬
‫الفقهاء املصـالح املرسلة بـأهنا املصالـح املالئمة ملقاصـد الرشيعة‪ ،‬وال يـشهد هلا أصل خـاص باالعتبـار واإللغاء‪ .‬فإن‬
‫كـان يشهد هلا أصل خاص دخلت يف عموم القياس‪ ،‬وإال اعتربت مصلحة مرسلة أو استصالحاً‪ .‬واملالكية هم الذين‬
‫محلـوا لواء املصـالح املرسلـة‪.‬هـ‪ 2‬واستدلـوا عىل ذلك بثالثـة أدلة‪ :‬أوهلـا‪ :‬أن الصحـابة سـلكوا ذلك املـسلك كجمعهم‬
‫للقرآن الكـريم‪ ،‬وكإراقـة عمر ريض اهلل عنه اللـبن املغشوش تـأديباً للغـاشني‪ .‬والدليـل الثاين‪ :‬أن املصلحـة إذا كانت‬
‫مالئـمة ملقاصـد الشارع فـإن األخذ هبا يـكون موافقـاً ملقاصده‪ ،‬وإمهـاهلا إمهال ملقـاصده‪ ،‬وإمهال املقـاصد باطل يف‬
‫ذاته‪ .‬والدليل الثالـث‪ :‬أنه إذا مل يؤخذ باملصلحـة كان املكلف يف حرج وضيق‪ ،‬وقد قـال تعاىل‪( :‬وَ مَا جَ ع ََل عَ لَي‪c‬كُ م‪c‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪136‬‬

‫‪149‬‬
‫وَل يُرِيدُ بِكُ مُ ‪e‬ل‪c‬ع ‪ُc‬سرَ )‪.‬‬
‫‪e‬لل بِكُ مُ ‪e‬ل‪c‬ي ‪ُc‬سرَ َ‬
‫ين مِن‪ c‬حَ رَجٍ )‪ 148.‬وقال سبحانه‪( :‬يُرِيدُ هَّ ُ‬
‫فِى ‪e‬ل ّ ِد ِ‬

‫أما أدلة الذين مل يأخذوا باملصلحة فتتلخص يف أربعة كام جاءت يف أصول الفقه أليب زهرة‪:‬‬
‫‪X‬أوهلا‪ :‬أن املـصلحة التي ال يشهـد هلا دليل خاص تكـون نوعاً من الـتلذذ والتشهي‪ ،‬ومـا هكذا تكون‬
‫األصول اإلسالمية؛ وقـد قال الغزايل يف بيان هـذا الدليل بالنسـبة لالستحسان واملصـالح املرسلة‪X :‬إننا‬
‫نعلم قطعاً أن الـعامل ليس له أن حيكم هبـواء [كذا‪ ،‬وقد تكـون‪ :‬هبواه] وشهوته مـن غري نظر يف داللة‬
‫األدلة‪ ،‬واالستحسـان من غري نظر يف أدلـة الرشع حكم باهلـوى املجرد‪ .Z‬ويقول يف املصـالح املرسلة‪:‬‬
‫‪X‬وإن مل يشهد هلا الشارع فهي كاالستحسان‪ .Z‬الدليل الثاين‪ :‬أن املصالح إن كانت معتربة فإهنا تدخل‬
‫يف عموم القيـاس‪ ،‬وإن كانت غري مـعتربة فال تدخل فيه‪ ،‬وال يـصح أن ُي ّدعى أن هنـاك مصالح معتربة‬
‫وال تدخل يف نص أو قـياس‪ ،‬ألن ذلك القـول يؤدي إىل الـقول بقصـور النصـوص القرآنيـة واألحاديث‬
‫ال‪ ،‬وهذا ينـايف تبليغ النـبي صىل اهلل عليه وسـلم‪ ،‬تبليغـاً كام ً‬
‫ال‪.‬‬ ‫الـنبويـة عن بيـان الرشيعـة بيانـاً كامـ ً‬
‫وينايف قوله صىل اهلل علـيه وسلم‪X :‬تركتكم عىل املحجـة البيضاء ليلهـا كنهارها‪ .Z‬والـدليل الثالث‪ :‬أن‬
‫األخذ بـاملصلحة من غري اعـتامد عىل نص قد يؤدي إىل االنـطالق من أحكام الرشيعـة‪ ،‬وإيقاع الظلم‬
‫بالـناس بـاسم املـصلحة‪ ،‬كـام فعل بعض امللـوك الظـاملني‪ ،‬وقـد قال يف ذلـك ابن تيمـية‪X :‬إنه مـن جهة‬
‫بناء‬
‫املصالح حصل يف أمر الـدين اضطراب عظيم‪ ،‬وكثري مـن األمراء والعباد رأوا مصالح فـاستعملوها ً‬
‫عىل هذا األصل‪ .‬وقـد يكون منهـا ما هو حمـظور يف الرشع مل يعلمـوه‪ ،‬وربام قُدم يف املصـالح املرسلة‬
‫بناء عىل أن الرشع مل َي ِرد هبا‪،‬‬
‫كالماً خـالف النصوص‪ ،‬وكثري منها أمهل مـصالح جيب اعتبارها رشعـاً‪ً ،‬‬
‫ففوات واجبـات ومستـحبات‪ ،‬أو وقع يف حمـظورات ومكـروهات‪ ،‬وقـد يكون الـرشع ورد بذلك ومل‬
‫ال قائام ً‬‫يعـلمه [وهذا ما حدث بـالضبط يف نزع امللكيـة]‪ .Z‬الدليل الرابع‪ :‬أننـا لو أخذنا بـاملصلحة أص ً‬
‫بـذاته ألدى ذلـك إىل اختالف األحكـام باخـتالف البلـدان‪ ،‬بل بـاختالف األشـخاص يف أمـر واحد‪،‬‬
‫فيكون حراماً ملا فيه من مرضة يف بلد من البلدان‪ ،‬وحالالً ملا فيه من نفع يف بلد آخر‪ ،‬أو يكون حراماً‬
‫ملا فيه مـن مرضة بالنسبـة لبعض األشخاص‪ ،‬وحالالً بـالنسبة لـشخص آخر‪ ،‬وما هكـذا تكون أحكام‬
‫‪150‬‬
‫الرشيعة اخلالدة التي تشمل الناس أمجعني‪.Z‬‬

‫أخي القارئ‪ :‬هال قـرأت السابق مرة أخـرى لرتى عمق ما كان خيـشاه اإلمام أبو زهـرة رمحه اهلل‪ .‬وبالذات‬
‫ال قائام ً بذاته ألدى ذلك إىل اختالف األحكـام باختالف البلدان‪ ... ،‬وما‬
‫مما استنتجه‪X :‬أننا لـو أخذنا باملصلحـة أص ً‬
‫هكذا تكـون أحكام الـرشيعة اخلـالدة الـتي تشمل الـناس أمجعني‪ .Z‬رمحك اهلل يـا أبا زهـرة‪ ،‬لقد اختـلفت األحكام‬
‫ال) بالنـسبة حلقوق اآلدميني‪ :‬وهو أن املصالح يف البيئة‬
‫باختالف األزمان!! ويمكن إضافـة مسألة خامسة (وليس دلي ً‬
‫ال تدرك بالعقل البرشي القارص كام رأينا سـابقاً يف احلديث عن الرضر ومضاعفاته‪ .‬فقـد تكون املصلحة ظاهرياً يف‬

‫رفع حـرج الزم‪ ،‬بحيث لـو مل يؤخـذ باملـصلحة املعقـولة يف مـوضعها‬ ‫هـ‪ )2‬اشرتط اإلمام مالك لـألخذ باملصلحة املـرسلة رشوطاً ثالثة كام‬
‫لكان الناس يف حـرج‪ ،‬واهلل تعاىل يقول‪X :‬ما جعل عليكم يف الدين من‬ ‫ال‬
‫يقول اإلمام أبـو زهرة‪X :‬أوهلا‪ :‬املـالئمة بني املصلحـة التي تعترب أص ً‬
‫حرج‪ .Z‬ويكمل أبو زهرة فيقول‪X :‬وهذا األصل خمتلف فيه بني فقهاء‬ ‫ال من أصـوله‪ ،‬وال‬‫قـائام ً بـذاته‪ ،‬وبني مقـاصــد الشـارع‪ ،‬فال تنـايف أص ً‬
‫املسلـمني‪ ،‬فاحلنفيـة والشافعيـة مل يعتربوه أصال قائـام بذاته‪ ،‬وأدخلوه‬ ‫ال من أدلته الـقطعيـة‪ .‬بل تكـون متفقـة مع املصـالح التي‬‫تـعارض دلـي ً‬
‫يف باب القـياس‪ ،‬فـإن مل يكن للمـصلحة نـص يمكن ردهـا اليه‪ ،‬فـإهنا‬ ‫يقصد الشارع إىل حتصيلها‪ ،‬بأن تكون متى (ولعل األصح‪ :‬من) جنسها‬
‫ملغـاة ال تعترب‪ ،‬وقـال مالك واحلنـابلة إن املصـالح معتربة يـؤخذ هبـا ما‬ ‫ليست غـريبة عـنها‪ ،‬وإن مل يشهـد هلا دليل خـاص‪ .‬ثانيهـا‪ :‬أن تكون‬
‫دامت مستـوفية للرشوط السابقة‪ ،‬فإهنـا تكون حمققة ملقاصد الشارع‪،‬‬ ‫معقـولـة يف ذاهتـا جـرت عىل األوصـاف املنـاسبـة املعقـولـة الـتي إذا‬
‫وإن مل يكن هلا نص خاص‪ .Z‬وقد استدل كل منهم بعدة أدلة (‪.)147‬‬ ‫عرضت عىل أهل العقول تلقتها بالقبول‪ .‬ثالثها‪ :‬أن يكون يف األخذ هبا‬
‫‪137‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫دفع رضر ما قبل وقـوعه‪ ،‬ويتضح أن ذلك ليـس يف مصلحة املـجتمع ككل عىل األمد الـبعيد‪ ،‬فيقع الـظلم عىل الناس‬
‫باسم املصلحة العامة‪ ،‬وهذا ما حدث كام سرتى بإذن اهلل‪ .‬لذلك فمن األوىل االلتزام بالقياس يف املسائل البيئية‪.‬‬

‫كام ترى‪ ،‬فإن الذين أفاضـوا يف املصالح املرسلة ولدهيم الكثري من الـنوازل هم املالكية‪ .‬لذلك‪ ،‬سأركز اآلن‬
‫عىل املذهب املالكي لرتى تردد فقهاء املالكية يف نزع امللـكية رغم أن مذهبهم أخذ باملصالح املرسلة‪ .‬فإن كان هذا‬
‫حـال من أخذ باملـصالح املرسلـة من فقهاء املالـكية فالبد وأن يكـون اآلخرون من املذاهب األخـرى أكثر بعد ًا يف‬
‫إبـاحة نزع امللكية‪ .‬وللتـوضيح أقول‪ :‬إن املسائل الوحـيدة التي اعتربها بعض فقهـاء املذهب املالكي رضورة تتطلب‬
‫إكراه الناس عىل بيع أمالكهم للصالح العام هي يف حاالت حمددة كتوسعة املساجد اجلامعة والطرق املؤدية إليها إذا‬
‫ضـاقت عىل املصلني‪ ،‬أو ألمن مجاعـة املسلمني كدار تكـون جزء ًا من سور املـدينة فخيف عىل املسلـمني من سهولة‬
‫اقتحامها‪ .‬قـال ابن رشد أن مالـكاً ومجيع أصحابه املـتقدمني واملتأخـرين أخذوا بحادثـة العباس السـابق ذكرها‪ ،‬أي‬
‫أهنم مل جييـزوا إكراه املالك عىل البيع‪ .‬إال أنه جاء يف الطرر عن أيب زيد‪ ،‬قال عبد امللك بإكراه السلطان ألهل بعض‬
‫األمالك عىل بيعها إذا احتـاج الناس إليها جلـامعهم الذي به اخلطبـة واملنرب ليوسع هبـا‪ ،‬وليست املسـاجد التي ال جيمع‬
‫و‪2‬‬
‫فيها‪ .‬وبـالنسبة ألمن املسلمني فعنـدما سئل بعض الفقهاء‪ :‬هل لإلمام أن يعـطي ملن له جنان أو حدائق بقرب سور‬
‫البلد قيمته إذا خاف غدرة العدو من جهته أم ال؟ أجاب أحدهم‪:‬‬
‫‪X‬لإلمـام أن يعطي من له جنان قرب سور البلد إذا خـيش أن يطرقه العدو منه قيمته عىل أصول الرشع‬
‫عمـوماً وعىل أصول مذهبنـا خصوصاً‪ ،‬وله يف مذهبنـا [أي املالكي] نظائر تـشهد‪ ،‬وله جرب مالكها عىل‬
‫بيعه إن أبـى من ذلك بعد أن ينـزل له فيها قـيمة عدل‪ .‬هـذا إذا كان العدو مـتوقعاً‪ ،‬وأمـا إن كان نازالً‬
‫ببالد املسلـمني فإن له هـدمها علـيه بغري ثمن إال أن يـكون اختالطهـا وبناؤهـا من قبل إنـشاء الـسور‬
‫فالبـد مـن دفع الثـمن عىل كل حـال‪ .‬وهــذا كله إذا ظهـر رضرهـا بـالـسـور رضر ًا بـينـاً‪ ،‬واهلل تعـاىل‬
‫‪152‬‬
‫أعلم‪.Z‬‬

‫ماذا عن نزع امللكـية يف األمور البيئية األخرى (غري املسجد اجلامع وأمن املسلمني) كالطريق الذي يسلكه‬
‫ال‪ ،‬فهل للسلـطة إكراه املالك عىل الـبيع إذا أعاق ملكه مرور العـامة؟ لعل أفضل مثل عىل‬
‫العـامة للذهاب للـسوق مث ً‬
‫ذلك هو احلاجـة القصوى للطريق كتعطله (الحظ أن هناك فرقـاً بني تعطل الطريق وضيقه)‪ .‬لنقل أن هناك طريقاً‬
‫لعامة املـسلمني والبد هلم منهـا وتعطلت بالغـرق بامء املطر ألن جزء ًا مـنها منخفض فال يمـكن املرور به‪ ،‬وبجانب‬
‫الطـريق أرض‪ ،‬فهل جيرب مـالك األرض عىل بيـع جزء منـها ليـمر النـاس هبا؟ يـقول ابن الـرامي ملخـصاً أقـوال فقهاء‬
‫املالكية‪:‬‬
‫‪X‬فإن كانت [أي الطريق] يستغنى عنها لوجود غريها من غري مشقة‪ ،‬فال جيرب صاحب األرض عىل أن‬
‫يـدخل من أرضه شيئاً وال جيربه السلطان عىل ذلك‪ .‬واختُلِف إن مل توجد طريق غريها عىل قولني‪ .‬قال‬

‫وسئل الـرمـاح عـن إجبـار صـاحـب األرض عىل بيـع أرضه لتـزداد يف‬ ‫و‪ )2‬وقال مـطرف‪X :‬وإذا كان النهـر بجنب طريق عظـمى من طرق‬
‫امليضآت أم ال؟ فـأجاب‪X :‬ال جيرب‪ .‬قيل وال يتخـرج فيه من اخلالف ما‬ ‫املـسلمني التي يسـلك عليها العامـة حيفِرها حـتى قطعها‪ ،‬فـإن السلطان‬
‫يف املسـاجـد‪ .‬فـإن إقـامـة اجلامعـة سنـة يقـاتل عليهـا عىل األظهـر‪ ،‬أو‬ ‫جيرب أهـل تلك األرض التي حـوهلا عىل بـيع ما يـوسع به الـطريق مـنها‬
‫واجب فالبد من موضع جامـع‪ .‬والوضوء ال فضيلة فيه يف امليضآت بل‬ ‫عىل ما أحبـوا أم كرهوا‪( ،‬ثم سئل) فإن مل ينـظر السلطان فيها هل عىل‬
‫كـان بعض الـشيـوخ يرجـح وضوء الـدار عليه ويـقول‪ :‬وضـوء الدار‬ ‫النـاس حـرج يف مـرورهـم عىل أرض النــاس حتـى خيـرج إىل طـريق‬
‫يساوي دينار ًا ووضوء امليضة يساوي بيضة ‪.)151( ،Z...‬‬ ‫املـسلمني؟ قـال‪ :‬نعم أراهـم يف حرج وال يـسلكـون فيـها إال بـإذهنم‪.Z‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪138‬‬

‫سحنـون‪ :‬جيرب ويعطـى قيمـتها‪ .‬وقـال ابن حبيـب‪ :‬ال جيرب وال يؤخـذ من أرضه يشء إال بـرضاه‪ .‬ومن‬
‫الـعتبية سئل سحنون عن أرض رجل مالصقـة لطريق يسلكها النـاس إىل مرافقهم‪ ،‬والطريق عىل هنر‪،‬‬
‫فقـطع النهر تلـك الطريق‪ ،‬هل تـرى للسلطـان أن جيرب صاحب هـذه األرض عىل إعطاء طـريق فيها‪،‬‬
‫ويعطيه قيمتها من بـيت املال؟ فقال‪ :‬إن كانت الطـريق ال يستغنى عنها فـإن السلطان جيربه عىل نحو‬
‫ما ذكر‪ .‬ويف كتـاب ابن عبدوس وعن سحنـون مثل ذلك‪ .‬ويف الواضحـة عن مطرف وابـن املاجشون‬
‫[ت ‪213‬هـ]‪ :‬ال يؤخذ مـن صاحب األرض يشء من أرضه إال برضـاه وإذنه‪ ،‬وله أن يمنعه من ذلك إن‬
‫استطاع‪ .‬قال ابن حبيب‪ :‬قلت هلام فأين يذهب الناس وال مندوحة هلم عن طريقهم التي قطع النهر؟‬
‫فقاال‪ :‬ينظر يف ذلك إمامهم أن حياولوا ألنفسهم‪ ،‬ولست أرى ألحد املرور يف أرض مسلم أو يتخذ فيها‬
‫طريقاً إال بـإذن رهبا‪ ،‬وأرى ملن سلك فيها ولو مرة واحدة أن حيلل رهبا من ذلك‪ ،‬أو حيلله قبل‪ ،‬وأحب‬
‫‪153‬‬
‫إيل أن حيلله قبل املرور‪ .‬وقال ابن حبيب‪ :‬وسألت عن ذلك أصبغ فقال مثله‪.Z‬‬

‫أرأيت كيـف تردد فقهـاء املالكـية يف إكـراه املالك عـىل البيع ويف أكثـر الظـروف حاجـة كتعطل الـطريق‬
‫وتوقف املـرور به‪ ،‬فتـعطل الطـريق أكثـر مرضة للـناس مـن ضيقه‪ ،‬ومع ذلك تـردد فيه الفقهـاء‪ ،‬وهؤالء هـم فقهاء‬
‫املذهب املالـكي الذين أخذوا باملصـالح املرسلة‪ ،‬فام بالنـا باآلخرين‪ .‬إال أن الفقهاء املعـارصين مل يتورعوا عن فتح‬
‫هذا الـباب‪ .‬فقـد أجازوا نـزع امللكيـة للمـصلحة العـامة‪ .‬والـسؤال هـو‪ :‬من هم هـؤالء الذين سـيحددون املـصلحة‬
‫العامـة؟ أليسوا مجاعة مـن الناس ذوي مصالح؟ وقد يـسخّرون العلامء لتحقيق تلك املصـالح! لنرضب مثاالً‪ .‬إذا كان‬
‫كوهنا السد ونظر‬
‫هـناك سد حيجز املاء فأتى أحد الناس ونظر إىل املاء املحجـوز وغرف بيده من سطح البحرية التي ّ‬
‫إليها وقال‪X :‬هذا املاء ضعيف وتسهل السيطرة عليه‪ ،‬ونحن بحاجة له يف الطرف اآلخر من الوادي‪ .‬فبدل مشقة نقل‬
‫املاء ملـاذا ال نخرق الـسد مـن طرفنـا لنحـصل عىل املاء مـنه‪ .Z‬وما عـلم هذا بـأن القيـام بأي خـرق مهام كـان صغره‬
‫سيرشخ السـد ومن ثم لن يقاوم الـسد بعد ذلك الـضغط الشديـد للامء من أسفله وينهـار السد ويـنجرف الوادي بام‬
‫فيـه‪ .‬وهكذا نزع امللكية‪ .‬فمنع نزع امللكيـة متاماً هو السد‪ .‬واجلواز يف بعـض احلاالت امللحة التي نص عليها الفقهاء‬
‫كتوسيع الطريق هو اخلرق الصغري يف السد‪ .‬فمتى فُتح هذا الباب (اخلرق يف حالة السد) فلن تسهل السيطرة عليه‪.‬‬
‫فلسد هذا اخلرق حكمة‪ .‬فاملسألة ليست إرغام مالك واحد ملصلحة اجلامعة‪ ،‬أو مدى ترضر هذا الفرد قياساً بترضر‬
‫املـارة يف الطريق وأهيـام أوىل‪ ،‬ولكنها مـسألة نـظام اجتامعـي واقتصادي مـتكامل‪ .‬متـى ُرشخ هذا النظـام هلك‪ .‬إهنا‬
‫مسألـة حقوق‪ ،‬فأي قـرار لنزع ملكيـة عقار ما‪ ،‬هـو تغيري ملقصـوصة احلقوق‪ .‬أمل تـر وتسمع كيف كـونت اللجان‬
‫لتقـويم قيمـة األرض املنـزوعة وكـيف أدى ذلك إىل الظلـم؟ وعىل النقيـض‪ ،‬أمل ُختطط املـدن لتمـر من أرايض بعض‬
‫طع للبعض ٍ‬
‫أراض ثم انتزعت ملكيتها بمبالغ طائلة؟ أمل‬ ‫املقربني من أويل األمر لتنتزع ملكيتها بمبالغ طائلـة؟ أمل ُت ْق َ ْ‬
‫يفتح هـذا النظام باب الرشاوي عىل مرصاعيه مـكوناً بذلك طبقة تعيش عىل أكتـاف اآلخرين؟ وكام ذكرنا سابقاً يف‬
‫مثـال ساكن الغـابة الـذي أراد إخراج الفئـران ليجدهـا يف بيته‪ ،‬فإن انـتزاع امللكيـة ستزيـد من نشـاط مراكـز املدن‬
‫مؤدية إىل ثراء البعض وإهناك البعض اآلخر يف املجتمع اقتصادياً‪ ،‬وتفويت فرص نشوء مراكز أخرى‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫تبـديد الثروات بإنشـاء بنية حتتية أخرى أكـرب ملراكز املدن‪ :‬فتوسعـة الشوارع ستؤدي إىل زيادة حـركة قلب املدينة‬
‫والتي ستـؤدي إىل زيادة الطلب عىل املـاء والكهرباء واملجـاري‪ .‬وهكذا تظهـر احلاجة السـتبدال تلك البنـى التحتية‬
‫بـأخرى‪ .‬أمل تـسمع بمـرشوعات حتـسني وسط املـدينة‪ ،‬فـأكثر املـدن اإلسالميـة املعارصة الكـربى مرت بمـثل هذه‬
‫املرشوعات التي غريت شكل وسط املدينة ألهنا مل تعد كافية ملتطلبات السكان! فكم كلفت هذه التحسينات؟‬
‫‪139‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫عجباً ألولئك الـعلامء الذين يفتون عىل عجل! ملاذا يفرتضون أن النـاس سريفضون بيع أمالكهم ليفتحوا باب‬
‫انتـزاع امللكـية حـتى يـكون ذريعـة يف أيدي املـسؤولـني للوصـول إىل مصـاحلهم‪ .‬فهل هـناك عـاقل دفع له تعـويض‬
‫ال وأكثر مما‬
‫مناسب ورفض البيع؟ ولكن الذي حدث هو أن الدفع يـأيت متأخر ًا وأقل مما جيب للضعفاء‪ ،‬أو يأيت عاج ً‬
‫جيـب للمقـربني مـن متخـذي القـرارات‪ .‬فـانتــزاع امللكيــة أصبح أداة لألخـذ مـن املسـتحقني أو اإلغـداق عىل غري‬
‫ال بأن هناك من رفض‬
‫املستحقني ولـكن بطريقة تبدو وكأهنا نـظامية‪ .‬فللرشيعة حكمة يف قفل هـذا الباب‪ .‬ولنقل مث ً‬
‫حـياء‪ ،‬وإن مل يفعل فـسيفعل ورثته‪.‬‬
‫ً‬ ‫بيع أرضه‪ ،‬فسـيكون عقـاره نشـاز ًا يف وسط الطـريق وبذلـك سريضخ يومـاً ما‬
‫ولنقل بـأنه وورثته مل يرضوا وبقي العقـار مضيقاً للطـريق‪ ،‬فأهيام أوىل‪ :‬فتح باب انـتزاع امللكية بسـوء استخداماهتا‬
‫عىل عمـوم املجتـمع‪ ،‬أم بضع عقـارات هنـا وهنـاك تضـيق الطـريق‪ .‬وإن قيل‪ :‬ملـاذا افرتضـت أن اإلكراه عـىل البيع‬
‫سيساء استخـدامه‪ ،‬فاألصل هو حسن الـنية بالغري‪ .‬أقول‪ :‬لقـد أثبت لنا التاريخ يـوماً بعد يوم هذه املـسألة‪ .‬وهذا ما‬
‫ُ‬
‫أشار إلـيه ابن تيمـية عـندمـا قال‪X :‬إنه مـن جهة املـصالح حـصل يف أمر الـدين اضطـراب عظـيم‪ ،‬وكثري مـن األمراء‬
‫والعباد رأوا مصـالح فاستعملوها بناء عىل هذا األصل‪ .‬وقد يكون منها ما هو حمظور يف الرشع مل يعلموه‪ ،‬وربام قدم‬
‫يف املصالح املرسلـة كالماً خالف النصوص‪ ،‬وكثري منها أمهل مصالـح جيب اعتبارها رشعاً‪ ،‬بناء عىل أن الرشع مل يرد‬
‫‪154‬‬
‫هبـا‪ ،‬ففوات واجبات ومـستحبات‪ ،‬أو وقع يف حمـظورات ومكروهـات‪ ،‬وقد يكون الـرشع ورد بذلك ومل يعلمه‪.Z‬‬
‫رحـم اهلل شيخ اإلسالم‪ :‬أليس هـذا ما حـدث بالضبـط مع بعض العلامء املتـأخريـن؟ أمل يقع الظلم عىل النـاس؟ لقد‬
‫سمعنـا من القصص التي ظُلـم هبا الناس مـا تقشعر له األبـدان‪ ،‬ورأينا من الـناس من ِ‬
‫أغرقـوا بالتعويـضات من أموال‬
‫املسلمني‪ .‬قال يل أحـدهم‪ :‬لقد أعطي رجل ذو مكـانة منحة من الـسلطان بمليـون مرت يطبقها حيـث يشاء يف إحدى‬
‫املدن‪ ،‬ثـم تأيت الـسلطـات لتنتـزع ملكـية هـذه األرايض املمـنوحـة له بمـبالغ طـائلة‪ .‬وحـتى أن هـناك أراض نـزعت‬
‫ملكياهتـا لتقطع بعد ذلك آلخرين مقربني‪ .‬تـأمل أخي القارئ حكمة الرشيعة يف إحكـام إقفال هذا الباب من قوله‬
‫صىل اهلل علـيه وسلم‪{ :‬ال حيل مـال أمرئ مـسلم إال عـن طيب نفـس منه}‪ .‬رحم اهلل اإلمـام الشـافعـي الذي أنـكر‬
‫االستحسان‪.‬‬

‫أما بالنسبة لتلك العقارات التي هتدد األمن‪ ،‬فلامذا تـنتزع ملكياهتا؟ أال يمكن إخراج املالك منها فرتة اخلطر‬
‫وإعادة ملكه له بعـد زوال اخلطر ولـو بعد سـنني؟ ومن هذا الـذي سريفض مبلغـاً جمزياً عـن أرضه غري اآلمنة‪ .‬وإن‬
‫قيل بأنه قـد يتآمر مع األعداء‪ ،‬أقـول‪ :‬إن املسألة اآلن ليـست أخذ مال مسلم كـرهاً لتحسني عمـراين ونحوه‪ ،‬ولكنها‬
‫دخلت دائـرة رشعية أخرى‪ .‬ملحوظـة أخرية أخي القارئ‪ :‬ال تنس ما ذكـرته سابقاً من أن احلاجـة لنزع امللكية هي‬
‫ظاهـرة لرتاكم اخللل يف الـرتكيبة الـعمرانيـة التي نحن فـيها اآلن والنـاجتة عن تغـري مقصوصـة احلقوق‪ .‬فـالناس اآلن‬
‫يمنعون من استغالل الثروات املعدنية ألن الـدولة متتلكها حرص ًا هلا‪ .‬وهكذا يتجه الناس والعمران حيث ما تستثمر‬
‫السلطات األموال‪ .‬فظهـرت املدن اإلدارية كالعواصم‪ ،‬واملدن التجارية التي ترتكز فيها الصفقات التجارية‪ ،‬واملدن‬
‫الـصناعيـة التي جتلب إليـها املواد اخلـام؛ ويف الوقت ذاتـه منع الناس مـن اإلحياء‪ .‬فكل األرايض مملـوكة للـدولة التي‬
‫متـنحها ملـن ترغب‪ ،‬وهـؤالء يقومـون ببيعهـا ملن أراد البـناء من العـامة‪ .‬وهـكذا يتـزاحم النـاس وتكتظ املـدن وتأيت‬
‫احلاجة لتـوسعة الشوارع‪ ،‬ويطالب املخططـون ومسؤولو البلديات علامء الرشيعـة بفتوى جواز نزع امللكية‪ .‬أما إن‬
‫كان للـناس استخـراج الثروات‪ ،‬وإن عـاد اإلحياء للجـواز دون إذن اإلمام‪ ،‬فـإن املدن ستـنترش أفقيـاً وتفقد األرض‬
‫قيمتها وال تكون سلعة وتنعدم احلاجة لنزع امللكيات (وسأوضحه بتفصيل أكثر بإذن اهلل)‪.‬‬
‫قص احلق‬ ‫‪140‬‬

‫لقـد كان يل أمل أن أمتكن يوماً مـن حساب التكلفة التي يـتحملها املجتمع من جراء إبـاحة نزع امللكية‪ .‬وال‬
‫أعتقـد بأنني سـأمتكن من ذلك لكثـرة األموال التـي ال يمكن مجعها السـتحالة الـوقوف عليهـا‪ .‬فهناك نفـقات اللجان‬
‫التي قـررت نزع امللكـيات‪ ،‬وهنـاك الرشـاوي التي دفعهـا الناس هلـذه اللجان حمـاولني رفع تعـويضـاهتم‪ ،‬وهنـاك ما‬
‫يفرضه بعض أفراد اللجان لتطميع املالك‪ ،‬وهناك ما رصف من أموال الدولة لألفراد الذين قرر املسؤولون هلم أكثر‬
‫ممـا جيب‪ ،‬وهناك فقدان إنتـاجية من ظلموا ممن مل يـدفع هلم حقهم يف آنه‪ ،‬وهناك تكلفـة اإلنشاءات التي ستقام عىل‬
‫األرايض التي انتزعـت ملكيتها‪ ،‬وهنـاك التغيريات يف شبكـات البنية التحـتية من جراء زيـادة الكثافة االسـتخدامية‪.‬‬
‫فلامذا كل هذه النفقات التي كـان من األجدى أن تستثمر فيام هو أوىل؟ لـقد أحكمت الرشيعة إغالق هذا الباب‪.‬‬
‫فعند نشوء جلـان للتقويم تنـشأ معها الطـبقات يف املجتمع‪ .‬فأفـراد هذه اللجان أصبـحوا أناساً أكثـر أمهية يف املجتمع‬
‫وعلَت مجـاعة بحـكم سلطـتها ونـزلت‬
‫ألن مـصالح آخـرين أضحت يف أيـدهيم‪ .‬فـدخلت األهـواء يف قص احلقـوق‪َ .‬‬
‫أخـرى‪ .‬أي أن املجتمع بإباحته لنزع امللكيـة أتاح لطائفة من املجتمع أن تتـسلط عىل باقيه‪ ،‬وتم احلكم بغري ما أنزل‬
‫اهلل‪ .‬أي أن العقالنـية عنـدما دخلت أصـول الفقه غريت مقصـوصة احلقـوق لصالـح السلطـة‪ .‬هذا هـو غرور العقل‬
‫اإلنـساين والذي أصاب حتـى الرشيعة‪ .‬ولعل نزع امللكـية هي من التدخالت العمـرانية التي حيبذهـا احلكام‪ .‬هذا ما‬
‫ال ظهرت خالفـات بني الدولـة واملالك؛ فقد‬
‫يـذكره لـنا التـاريخ‪ .‬ففي وصف املـدن اإلسالميـة يف عهد املـامليك مثـ ً‬
‫ال‪ :‬ولتوسيع امليدان األخرض يف دمشق سنة‬
‫نزعت بعض امللكـيات دون رضى أصحاهبا‪ ،‬برغم خمالفتها للـرشيعة‪ .‬فمث ً‬
‫‪ 690‬هـ ُهدمت بعض املباين دون تعويض املالك‪ 155.‬فاملدن اإلسالمـية تعج بمثل هذه التعسفات للسالطني والتي مل‬
‫يـرض هبا الفقهاء آنـذاك‪ .‬إال أن هذه التعسفـات قليلة مقارنـة بوضعنا احلـايل‪ .‬فكام رأينا‪ ،‬إذا مل يتمكـن اخلليفة عمر‬
‫ريض اهلل عنه من انتـزاع ملكية عقـار بجانب املـسجد احلرام (ويف روايـة بجانب املـسجد النبـوي)‪ ،‬فكيف يأيت ِمن‬
‫املـتأخرين َمن يفعـل ذلك يف ما هو أقل شأنـاً كالطرق العـامة؟ لقد أصبـحت قضية نزع املـلكية اآلن مسألـة نظامية‬
‫وغري مستنكرة‪ .‬فال وجود ملدينة معارصة دون قانون حكومي يسمح للسلطات بنزع امللكية‪.‬‬

‫أخي القارئ‪ :‬إن اقتـنعت بام ورد عن عدم جـواز نزع امللكيـة فبإمكـانك القفز للعنـوان اآليت‪X :‬االجتهاد‪.Z‬‬
‫أمـا إن مل تقتـنع فأرجـو أن تستـمر يف القـراءة‪ .‬ألن كثري ًا مـن الناس يـسألـونني عنـدما أحتـدث عن عدم جـواز نزع‬
‫امللكية فيقولون‪X :‬ماذا إن ضاق احلرم املكي أو املدين عىل املصلني‪ .‬أال ترى رضورة نزع امللكية؟‪ .Z‬فأرد باآليت‪:‬‬

‫ٌ‬
‫فندق ضخم فخم ذو‬ ‫إن هلل سبـحانه وتعاىل أمثـاالً يرضهبا للـناس لعلهم يتعـظون‪ .‬فبالـقرب من احلرم املكـي‬
‫أجـر جد مرتفـع يفتح عىل ساحة احلـرم املكي مبارشة ودون طـريق يفصله عن السـاحة‪ .‬إن هذا الـفندق (أي فندق‬
‫دار التوحـيد) يقف شاهد ًا عىل كل من أفتى بجواز نـزع امللكية‪ .‬فقد كانت هناك أسواقـاً حميطة باملسجد احلرام ثم‬
‫نـزعت ملكيـاهتا مـع عقارات أخـرى وأعيـد ختطيـط املنطـقة بجـانب احلـرم املكـي ومنحت قـطعة كـبرية من تلك‬
‫األرايض املنزوعـة البن السلطان لبناء فندق ضخم يقف كعقبة مروريـة يف تلك املنطقة التي متيزت سابقاً بامللكيات‬
‫الصغرية املخلخلة بالطرقات فيام بينها قبل انتزاع ملكياهتا‪ .‬كيف حدث هذا؟‬

‫لبسط املسـألة سنتعـرض لقصة موقع آخـر بمكة املكـرمة‪ .‬لقد قـام البعض من املتخصـصني باإليامء للعلامء‬
‫برضورة جـواز نزع ملـكيات العقـارات الصغرية يف أواسط املـدن ألن تلك العقارت الـصغرية مفتتـة وال يستفـاد منها‬
‫بـطريقة أمـثل إال بجمعها يف مـساحات أكـرب‪ .‬لذلك أُنشـأت رشكات استـثامرية المتالك هـذه العقارات ومـنها رشكة‬
‫‪141‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫ال‪ .‬أي أن املسوغ األساس إلنشاء هذه الـرشكات هو يف كوهنا وسيلة لتحقيق هدف عمراين‬
‫مكـة لإلنشاء والتعمري مث ً‬
‫بالـدرجة األوىل واستثـامري بالدرجـة الثانيـة‪ .‬ولكن الذي حـدث هو قلـب املسألـة‪ :‬فقد تم تقـديم الربح عىل احلل‬
‫العـمراين‪ .‬فقد قـامت رشكة مكـة للتعمري بـامتالك معظم العقـارات التي عىل جبل عمـر غريب املسجـد احلرام والذي‬
‫تبلغ مساحة أرضه ‪ 230.000‬مرت ًا مربعـاً‪ .‬ثم أعدت الرشكة برناجمـاً استثامرياً بمتطلبات مـرتفعة لالستفادة القصوى‬
‫من املوقع‪ .‬فقـد كان املطلـوب هو حماولـة بناء مـا جمموع مـساحته ‪ 1.201.100‬مرت ًا مـربعاً إليقـاف ‪ 10.000‬سيارة‬
‫وبناء ‪ 3.400‬غـرفة فندقيـة بخدماهتا وأكثـر من ‪ 1.400‬شقة سكنيـة‪ ،‬وما مساحـته ‪ 135.000‬مرت ًا مربعاً كمحالت‬
‫جتارية‪ .‬وهذا كام تـرى منهكاً إلمكانات املوقع ذاته ويـزيد ألكثر من مخسة أضعـاف مساحة املوقع‪ .‬ثم أتى دور‬
‫التصميم وتم طرح مسابقة عمرانية إلجياد احللول‪ ،‬وكنت بفضل اهلل أحد املشاركني يف التقويم األويل‪ ،‬فقد كنا أربعة‬
‫حمكمني‪ ،‬مسلـم واحد‪ ،‬أي مجيل أكرب‪ ،‬مع ثالثـة مسيحيـني (تأمل هذا االخـتيار لتحكـيم مسابقـة تصميمـية يف مكة‬
‫املكـرمة‪ ،‬فام أغـربه‪ ،‬وكأن العـامل اإلسالمي جف من املهنـدسني املسلمـني)‪ 156.‬وباستثـناء مشـاركتني من اجلـامعات‬
‫السعوديـة‪ ،‬كان اهلدف األساس من احللـول التي تقدمت للمسـابقة هو حتقيق أهـداف الرشكة الربحـية‪ .‬وهذا مثال‬
‫جيد للـنظرة الـرأسامليـة التي تقـدم الربح عىل كل مـا عداه من املـصالح حتـى يف أطهر بقعـة‪ .‬فقد قـدم الربح عىل‬
‫مصالح أهل مكة أوالً‪ ،‬ومصالح املسلمني من معتمرين وحجيج ثانياً‪ .‬ألوضح هذا‪.‬‬

‫فبالنـسبة ألهل مكـة‪ ،‬فإن مصـاحلهم تتلخـص يف أن رشكة مكـة قد امتلكـت األرايض التي يملكهـا أفراد يف‬
‫جبل عمر ولكنها مل متتلـك الشوارع والساحات واملـمرات التي كانت عىل اجلبل؛ والتـي هي من حقوق سكان مكة‬
‫املكرمة عموماً‪ ،‬ومن حقوق من يسكنون غرب جبل عمر خصوصاً‪ .‬فلهذه الطرق حرمتها رشعاً‪ .‬كيف ذلك؟‬

‫لقد تعـامل الفقهاء رشعاً مع الطـرقات والساحات وحـواف األهنار والبحار بنـوع من احلذر واعتربوا كل ما‬
‫يـرتفق به املسلمون هـو ملك للمسلمني وليـس ملكاً لبيت مال املـسلمني (الحظ أنني قلت‪X :‬وليـس ملكاً لبيت مال‬
‫ال) سواء كان طـريقاً أو حافة هنر‪ .‬وهـذا التمييز بني ملكيـة بيت مال املسلمني‬
‫املسـلمني‪ Z‬أو من يمثلها كالـدولة مث ً‬
‫وملكية مجـاعة املـسلمني‪ ،‬والذي حـرص عليه السلف‪ ،‬مل يـأخذ به الفقهـاء املتأخـرون‪ ،‬واعتربوا كل ما هـو مملوك‬
‫لعمـوم املسلمني كـالطرق وحـواف األهنار وشطـوط البحار ملكـاً لبيت املال‪ ،‬وبـذلك أجازوا للسلـطان الترصف يف‬
‫هذه األماكن‪ .‬ولقـد حاول السيوطي توضيح هذا اخللط ونقل اآلتى‪X :‬ومما عظمت البلوى به اعتقاد بعض العوام أن‬
‫أرض النهـر ملك بيت املـال‪ ،‬وهذا أمـر ال دليل عليه‪ ،‬وإنـام هو كـاملعادن الـظاهـرة‪ ،‬وال جيوز لإلمـام إقطـاعها وال‬
‫متليكها‪ ،‬بل هو أعظم من املعادن الظـاهرة يف ذلك املعنى ‪ 157.Z...‬وهذا التمييز يـتضح أيضاً يف نازلة سئل عنها شيخ‬
‫اإلسالم ابن تـيمية عن رجل اشرتى من وكيل بيت املال مـن جانب الطريق أذرعاً معلومـة‪ ،‬وأقام حائطاً فيام اشرتاه‪.‬‬
‫فهل يـصح بيع األرض املبتاعة مـن وكيل بيت املال التي فيـها الطريق؟ وهل يفسـق الشاهد الذي يـشهد لألرض بأهنا‬
‫لبيت مال املسلمني؟ فأجاب رمحه اهلل‪:‬‬
‫سواء كانت‬
‫ً‬ ‫‪X‬احلمد هلل‪ .‬ال جيوز بيع يشء من طريق املسلمني النافذ‪ ،‬وليس لوكيل بيت املال بيع ذلك‪،‬‬
‫الطريق واسعـة‪ ،‬أو ضيقة‪ ،‬وليـس مع الشاهـد علم ليس مع سـائر النـاس‪ ،‬اللهم إال أن يشـهد أن هذه‬
‫لبيت املـال‪ ،‬مثل أن تكـون ملكـاً لرجل‪ ،‬فـانتقلـت عنه إىل بيت املـال‪ ،‬وأدخلت يف الـطريق بـطريق‬
‫الغصب‪ .‬وأمـا شهادته أهنـا لبيت املـال بمجرد كـوهنا طـريقاً‪ ،‬فهـذا إن أراد أن الطريق املـشرتكة حق‬
‫للـمسلمني مل يـسوغ ذلـك بيعها‪ ،‬وإن أراد أهنـا ملك لبيت املـال جيوز بيعهـا كام يبـاع بيت املـال فهذه‬
‫قص احلق‬ ‫‪142‬‬

‫شهـادة زور‪ ،‬يستـحق صاحـبها الـعقوبـة التـي تردعه وأمـثاله‪ .‬ولـيس للحـاكم أن حيـكم بصحـة هذا‬
‫البيع‪.Z‬‬

‫وهناك حديث أخرجه ابن سعد يف الطبقـات والطرباين عن احلكم بن احلارث السلمي أن رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم قـال‪{ :‬من أخذ من طـريق املسلمني شرب ًا جـاء به يوم القيـامة حيمله من سـبع أرضني}‪ 158.‬ففي احلديث‬
‫إشـارة إىل أن الطريق ليس ملكاً لبيت مال املسلمـني‪ ،‬ولكنه ملكاً للمسلمني من لفظه صىل اهلل عليه وسلم لـ ‪X‬طريق‬
‫املسلمني‪ .Z‬وهـذا التمييز بني ملكـية بيت املال وملكيـة مجاعة املسلمـني مهم ملقصوصة احلقـوق ألن اعتبار الطريق‬
‫ملكاً لبيت املـال يعطي السلطات احلـق يف الترصف فيه‪ ،‬أما اعتباره ملـكاً جلامعة املسلمني فال يعـطي كائناً من كان‬
‫حق الـترصف يف الطـرقات بـنقل ملكيـتها أو إنـقاصهـا أو تغيـري مواضـعها (وهـذا ما حـاول كتـاب ‪X‬عامرة األرض‪Z‬‬
‫إيضاحه)‪.‬‬

‫وهلذا‪ ،‬وبـالنـسبـة ألهل مـكة املـكرمـة أو غريهم يف أي مكـان‪ ،‬فقـد قصت الـطرق رشعـاً بحقـوقهـا (كام‬
‫سنوضح يف احلديث عن ‪X‬األمـاكن‪ Z‬بإذن اهلل)‪ .‬فلسكان أهل مـكة املكرمة ومن زارهـا احلق يف االستفادة من موقع‬
‫جبل عمـر بالنفاذ خالله ال سيام أن عـدد املعتمرين يف ازدياد‪ .‬فـمن ملك عقار ًا غريب جبل عمـر وما حوله من أحياء‬
‫له احلق يف استثامر عقاره وزيادة سكانه وبالتايل املـرور خالل جبل عمر للوصول للمسجد احلرام‪ 159.‬أما إن تم بناء‬
‫جبل عمـر كموقع ذي ملكيـة واحدة كام هو مقـرتح من احللول املقدمـة‪ ،‬فإن احللول املقـدمة قد تـتعامل مع املوقع‬
‫ككتلـة واحدة‪ .‬وهذا قد حدث رشقـي احلرم‪ .‬فقد تم انتزاع ملكيـات األفراد هناك وتم بناء مبـان حكومية وقصور‬
‫ملـكية بـطريقـة سدت املنـافذ من تلـك اجلهة‪ ،‬كام سـدت من جنـويب احلرم بعامئـر رشكة مكـة لإلنشـاء والتعمري‪،‬‬
‫وهكذا ظهرت مـشكلة صعوبة الوصـول للمسجد احلرام جلميع القـادمني من مجيع اجلهات‪ .‬ويف هذا مرضة أكرب من‬
‫تـرك هذه العقـارات بأيـدي أصحاهبـا األصليني الـذين قد يـستثمـرون قطعهم بحلـول عمرانـية ختلخل مـواقعهم من‬
‫أدوارها السفىل كجعـلها مصليات أو ممـرات عبور‪ ،‬وكمسـاكن يف أدوارها العليا‪ .‬فـالقطع الصغرية اململـوكة من أفراد‬
‫البـد وأن تتخلـلها شـوارع ذات عروض كـافيـة ملرور املـصلني للمـسجد احلـرام‪ .‬وهذا الـذي كان قـبل إباحـة نزع‬
‫امللكيات‪.‬‬

‫أمـا مصـالح املعتمـرين واحلجيج فـتكمن يف نـمط استـضافـتهم‪ .‬فقبل نـزع امللكـيات كـانت مـساكـن مكة‬
‫املكرمة عبارة عن عامئر أو منـازل صغرية يملكها أصحاهبا‪ .‬وهؤالء يستقبلون احلجيج واملعتمرين‪ .‬فقد كان النمط‬
‫السائد هو أن ينـزل احلاج أو املعتمر ضيفاً عىل من يـملك املسكن‪ ،‬حتى وإن تقاضى املـالك للعقار أجر ًا مقابل هذه‬
‫الضيافـة فإن العالقة بني الطـرفني (املضيف واملضاف) كـانت تتسم بنوع مـن اإلحسان واحلفاوة التي حتـتمها كرامة‬
‫وعزة املـالك‪ .‬فقد كـان بعض املـالك حيتسـبون األجـر من اهلل سبحـانه وتعـاىل فيقـدمون أفـضل ما لـدهيم من أكل‬
‫ومسكـن‪ ،‬وكانـوا يعينـون احلجيج يف أمـور شتـى‪ .‬كيف ال وهنـاك آراء متنع تـأجري البيـوت بمـكة املكـرمة إكـراماً‬
‫ال‪X :‬حـدثنا وكيع عن عبـيد اهلل بن أيب زياد عن أيب نجيـح عن عبد اهلل بن عمرو‬
‫للحجيج‪ .‬ففـي األموال أليب عبيد مث ً‬
‫قال‪ :‬مـن أكل من أجور بيوت مكة فـإنام يأكل يف بطنه نار جهـنم‪ .Z‬وقد كره عطاء الكـراء بمكة‪ ،‬كام أن عمر بن‬
‫‪160‬‬
‫عبد العزيز كتب للناس بمكة يمنعهم من كراء البيوت‪.‬‬

‫ومن صيغ املنع هذه نـستشف أن البعض من النـاس كانوا يؤجـرون البيوت بمكة كـام هو احلال اآلن برغم‬
‫‪143‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫اخلالف يف جوازه‪ .‬لذلـك‪ ،‬فإن مل يقدم بعـض املالك أفضل ما لـدهيم من مأكـل ومسكن للحجيج لـكسب األجر يف‬
‫ال‪ .‬أي أن لكـل مالك‬
‫اآلخـرة‪ ،‬فهم بـالتـأكيـد يفعـلون ذلك لـكسب الـسمعـة الجتـذاب املعتمـرين واحلجـيج مسـتقب ً‬
‫مصلحـة إما أخـروية أو دنيـوية‪ .‬هكـذا كان احلـال سابقـاً‪ ،‬عالقة محيمـة بني الطرفـني املضيف واملضـاف‪ .‬ثم ظهر‬
‫املـستثمـرون فأنـشؤا الفنـادق التي يعمل هبـا املوظـفون‪ ،‬فظـهرت طبقـة من املالك الذيـن قد ال يتـسع وقتهم خلـدمة‬
‫مسري يف تعامله مع ما يقتضيه من أجر‪،‬‬
‫احلجيج‪ .‬وهبذا حل املوظف األجري مكان املالك خلدمة احلاج‪ ،‬وهذا األجري ّ‬
‫فـتزداد خدمته بزيادة أجـره‪ ،‬حتى ابتسامته فقـد تعرض مقابل املال‪ .‬وشتـان يف التعامل بني االثنني (املالك أو األجري‬
‫مع احلـاج)‪ .‬أي أن للحجيج يف كل بقـاع األرض حقوقـاً بدؤا بفقـداهنا بتـغري أنامط ملكيـات األرايض حول املـسجد‬
‫احلرام من ملكيات أفـراد إىل ملكيات رشكات (كرشكة مكـة للتعمري) والتي يتوقع منهـا أن تقدم خدمات أفضل من‬
‫هم هلا إال اسـتغالل احلاج بـأقل خدمـة ممكنـة‪ .‬لقد أصـبحت االستضـافة سلعـة ال يقدر عـليها‬
‫تلك الفـنادق التـي ال ّ‬
‫الفقراء‪ .‬وهذا نمـط رأساميل يف التعامل‪ .‬ولعل املسـألة تزداد تعقيـد ًا إن نحن أيقنا أنه كلام زاد حـجم العقار اململوك‬
‫جلـهة واحدة‪ ،‬كلام حتـولت العالقة من إنـسانية إىل مـالية‪ .‬فأصـحاب الفنادق‪ ،‬بـرغم أن فنادقهـم أكرب من املنازل إال‬
‫أهنم أقرب للحـاج من مالك الفنادق األكـرب‪ ،‬وهؤالء أقرب للحـاج من مالكي األسهـم لرشكات أكرب كـرشكة مكة‪،‬‬
‫وهكذا‪.‬‬

‫أي أن هناك عالقة قـوية بني حجم عقار ما وعدد مالكه‪ .‬فقـد يشرتك ألف فرد يف امتالك حمل مساحته مرت‬
‫مـربع واحد‪ ،‬أو بالعكـس‪ ،‬أي قد يمتلك فـرد واحد ملحل مسـاحته ألف مرت مربع‪ .‬فـأي النمطني مـن امللكية أفضل‬
‫للعقار وللـمالك وللمجتـمع؟ لقد أبـدعت الرشيعـة يف هذا اخلصـوص‪ ،‬وقصت احلقـوق بوضع مـبادئ‪ ،‬مثل الـوراثة‬
‫والشفعـة‪ ،‬أدت ألفضل وضع مـوزون بني االثنني (وهـذا ما حـاولت تـوضيحـه يف الفصل الثـامن من كتـاب ‪X‬عامرة‬
‫األرض‪ .)Z‬ثـم أتى هؤالء الـفقهاء وأباحـوا نزع امللكيـة واختل هذا االتـزان بأن ملكت مجـاعة صغرية (أو حـتى فرد‬
‫ال) عقارات كثـرية وكبرية هنا وهـناك بعد نـزع امللكيات‪ ،‬أو أن مجـاعة غري مـتواجدة يف‬
‫واحد مـثل ابن السلطـان مث ً‬
‫املـوقع مثل مالك أسهم رشكـة مكة لـلتعمري أصبحـوا مالكاً بـدعوى مـصلحة اجلامعـة‪ .‬وهنا أطـرح عدة أسئلـة‪ :‬لقد‬
‫افرتض بعض الفقهاء املعارصين أن املصلحة العامة هي يف نزع امللكية‪ .‬فام دليلهم عىل ذلك؟ فهل حاولوا سؤال أهل‬
‫االختصاص يف العمران عن رضورة إجياد حلول عمرانية دون نزع امللكية؟ فهل نضبت احللول؟ فإن كان اهلدف هو‬
‫توسعة املسجد احلرام أليس من املمكن رفع السكان ملـبانيهم عىل أعمدة ليكون الدور األريض ممرات ومصليات وما‬
‫فوقه مصليات إن كانت هناك حـاجة للمزيد؟ هل تم حث بعض مالك املسـاحات الصغرية ودعمهم لضم ممتلكاهتم‬
‫اختيار ًا مـنهم‪ ،‬أو هل تم وضع تصـورات عمرانيـة لعقاراهتم مهـام صغرت لالستـفادة من تلك املـواقع هلم وللحجيج‬
‫بدعمهم مالياً كرشاكة من مؤسسات استثـامرية؟ ال‪ ،‬مل حيدث كل هذا‪ .‬فهناك ألف حل وحل عمراين للمسألة دون‬
‫اللجوء لنزع امللكية‪.‬‬

‫عند التفكر يف نـزع امللكية يف مكة املكرمة يظهر سؤال ملح‪ :‬أال يعلم عامل الغيب والشهادة بأنه سيأيت يوم‬
‫ويكثر فـيه احلجيج واملعتمرون لـدرجة يضيـق هبا املسجد احلـرام عىل الناس؟ فإن كـان يعلم كل هذا‪ ،‬فلامذا وضع‬
‫سبحانه وتعاىل العليم احلكيم الكعبة بني هذه اجلبال؟ فهل وضعها اخلبري اللطيف ليأيت الناس ليشيدوا العامئر فوقها‪،‬‬
‫أم لـينسفوهـا ليوسعـوا الساحـات حول املسـجد احلرام أو ليـستغلوا مسـاحة ما تم نـسفه ليكون مـن املستغالت التي‬
‫قص احلق‬ ‫‪144‬‬

‫متتص دمـاء املعتمرين؟ البد من حكمة هلذا االختيار ملوقع الكعـبة بني هذه اجلبال‪ ،‬فهو سبحانه وتعاىل حكيم منزه‬
‫عن العبث‪ .‬فام هي هذه احلكمة يا ترى؟ لعل اإلجابات هي بعدد من فكروا يف املسألة‪ .‬وهنا أطرح تصوري فأقول‬
‫واهلل أعلم‪ :‬مع ظهـور املرشوعـات العمالقـة حول املـسجد احلـرام وفوق اجلبـال بدأ االخـتناق حـول املسجـد احلرام‬
‫وبالذات يف العرش األواخر من رمضان‪ .‬قال يل الدكتور عمر طه (وهو طبيب متخصص يف مرض حساسية الصدر‪،‬‬
‫الربو)‪ ،‬وكـان ممن يقضون العرش األواخر يف مـكة املكرمة‪ ،‬أن الوضع يـزداد سوء ًا عاماً بعد عـام بسبب هذه املباين‬
‫ال يف قيام رمضان‪ .‬وحتى من ال يتحسسون فقد يصابون بالربو إن‬
‫التي متنع جتدد اهلواء فيختنق املعتمرون بالذات لي ً‬
‫هم أمضـوا عدة أيام يف منطقة املسجـد احلرام خالل العرش األواخر من رمضان‪ .‬وهـذا ما الحظه كطبيب‪ .‬إن الذي‬
‫أحدث كل هذا االختناق هو نزع امللكية الذي ذهب باألرايض ملن بيدهم زمام األمور واألموال ليحاولوا استثامرها‬
‫يف منشآت ضخمة بالقرب من املسجـد احلرام ليزداد ربحهم‪ .‬وحتى يتمكنوا من بـناء مثل هذه العامئر الضخمة فقد‬
‫ينسفـون بعض هذه اجلبال كام هو حـادث‪ .‬وقال يل مرة رئيس قسم املـياه بجامعة امللك عبد الـعزيز بجدة بأن هلذه‬
‫اجلبال وظيفة‪ .‬فمياه زمزم برغم أهنا تأيت من حوض وادي إبراهيم إال أهنا تتأثر هبذه اجلبال التي تغذهيا باملعادن‪.‬‬

‫أما إن مل تنـزع امللكيات‪ ،‬ومل يـتمكن هؤالء من بـناء تلك املنشـآت‪ ،‬فإن أحجام العقـارات ستكون صغرية‪.‬‬
‫وعنـدها فـإن هناك فـائدة ظـهرت من األبحـاث التي متت لـدراسة تـوسعة امللـك عبد اهلل بـن عبد العـزيز للمـسجد‬
‫احلـرام‪ ،‬وهو أن أحجـام املباين بـوضعها قـبل نزع امللكـيات ختفف االزدحـام ألن توزيعـها بطـريقة مفـتتة بـأحجام‬
‫ال أو عند القدوم لطواف‬
‫صغرية بالشوارع الضيقة خيفف وحيد من اندفاع حـشود احلجيج‪ .‬فبعد رمي مجرة العقبة مث ً‬
‫الوداع فإن احلشود القادمة من منـى واملهولة يف أعدادها وباندفاع عظيم قد تـؤدي للوفيات أحياناً‪ ،‬وعندها فإن هذه‬
‫العقارات الصغرية التي تتخللها الشوارع الصغرية تعمل كمصفاة للحد من انطالق احلشود ووصوهلا فجأة إىل املسجد‬
‫احلـرام‪ ،‬فتتفتت مجوع احلـشود جلامعات أصغـر وأصغر كلام اقرتبت من املـسجد احلرام ألن الـشوارع أضيق إال أهنا‬
‫أكثر عدد ًا‪ .‬فتكون احلركة أكثر انسياباً من وضع تكون فيه الشوارع أقل عدد ًا وأكثر اتساعاً‪.‬‬

‫وبالنسبـة لساحات املـسجد احلرام‪ ،‬فـإن األثرياء مـن العامل اإلسالمي قد حيـاولون رشاء بعض تلك األرايض‬
‫وإيقـافها كمـصليات حتـى تتسع ساحـة املسجد احلـرام‪ ،‬هذا إن مل يفعل ذلـك املالك األصليون طلبـاً لألجر ونزوالً‬
‫عـند إحلاح العلـامء عليهم بذلك‪ .‬وهـكذا تتحول املـناطق املحيطـة بالكعبـة املرشفة شيـئاً فشيئـاً إىل ساحات دون أي‬
‫مـبان ُت رى‪ ،‬حتـى وإن رفض أحدهـم وقف أرضه فبعد زمن سـيجد أحد أحفـاده أن مبناه وحيـد وحماط بالـساحات‪،‬‬
‫وهذا وضع خمجل‪ .‬هكـذا بالتدريج تتحـول سفوح اجلبال حـول الكعبة املرشفـة إىل مصاطب للصـالة‪ .‬تذكر سفوح‬
‫جبـال اليمـن الزراعـية‪ ،‬فـقد تـصبح مـنطقـة املسجـد احلرام كـذلك‪ ،‬كل مـصطـبة تـتصل بـاألخرى بـسلم أو درج‬
‫كهربائي‪ ،‬ثم ختـيل هذا املنظر املهيب‪ ،‬عندما يسجد الناس‪ ،‬تـرى املاليني يرفعون من السجود مرة واحدة‪ .‬لتتصور‬
‫الوضع‪ ،‬ختيل ملعباً كـبري ًا لكرة القدم‪ ،‬وختيل قيام مجيع املتفرجني بنفـس احلركات‪ ،‬هكذا قد يكون احلال ولكن مع‬
‫الفـارق يف املساحـة والتعداد‪ .‬يـا له من منظـر مهيب إن ختيـلت أنك تقف عىل أعىل نقطـة يف أحد هـذه اجلبال لرتى‬
‫املصـاطب العامرة بـاملعتمرين مـن كل جانب‪ ،‬واهلواء هيفهـم من كل مكان إذ ال منشـآت إال خلف اجلبال‪ .‬أو ختيل‬
‫العكـس‪ ،‬فأنت بالقرب من الكعبة‪ ،‬فحيثام نظرت ترى سفوح اجلـبال بيضاء من زي املعتمرين‪ .‬أما ما نراه اليوم من‬
‫تـداخل بني العمران والنـاس من شوارع ممتلئـة باملصلني بني الـبيوت والسيـارات‪ ،‬فهذا قد حيـدث ولكن خلف اجلبال‬
‫‪145‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫املطلة عىل الـكعبة وبكثـافة أقل‪ .‬أي أن االستيعـابية للمـسجد احلرام سـتزداد‪ .‬فاهلل الـعليم احلكيم يعلـم أن البرشية‬
‫ستتقدم وأن الناس سيسافرون بسهولة ويرس‪ ،‬وأن عددهم سيزداد‪ ،‬لذلك اختار العليم احلكيم موقع الكعبة املرشفة‬
‫واهلل أعلم لـتكون بني هـذه اجلبال حـتى يرى اجلـميع هذا املنـظر املهيب جلـموع املصلـني حول الكعبـة املرشفة عىل‬
‫ز‪2‬‬
‫سفوح هذه اجلبال‪ ،‬ال أن حيرش الناس بني العربات ويؤدون الصالة بني أعتاب املنازل ودواليب العربات‪.‬‬

‫قـال يل زميل‪ :‬هل رأيت كيـف نزعت الـدولة ملـكيات الـكثري من األرايض يف مكـة املكرمـة لتشـيد علـيها‬
‫املباين احلديثة بـدل تلك املتهالكة؟ وهل علمت أن اليشء ذاته سيقع يف املدينة املنورة؟ قلت‪ :‬وأين سيذهب املالك؟‬
‫قال‪ :‬ولكن البيئة التي كانوا فيها سيئة! فتعجبت من تأثري اإلعالم عىل الناس وأجبته باآليت‪ :‬هذه البيئات التي كانوا‬
‫فيها هـي بالفعـل ال ترتقي الحـتياجـات احلجيج واملعتمـرين‪ ،‬ولكنهـا سيئـة ألن املالك األصليني فقـراء بسـبب عدم‬
‫تطبيق الـرشيعة (كـام سرتى بإذن اهلل)‪ ،‬أو ألهنـم مل يتمكنـوا من استثامرهـا ألن األنظمـة متنعهـم‪ ،‬فرتكوهـا للفقراء‬
‫ككـراء‪ .‬وبزيادة حاهلا سوء ًا تطلب األمر إزالـتها أحياناً‪ ،‬وكانت اإلزالة مفروضـة عىل اآلخرين أحياناً أخرى برغم‬
‫جودة مـساكنهم ألن الـدولة أرادت ختطـيط احلي بأكـمله وإعادة إنشـائه‪ .‬لكن إن طبقـت الرشيعة‪ ،‬ملـا كان هؤالء‬
‫الـسكان األصلـيني فقراء‪ ،‬والهـتموا بـعقاراهتم وطـرقهم إلدراكهم أن هـذا يف صاحلـهم ان استثمـروه‪ ،‬وهكذا يـظهر‬
‫التنافس بني املالك جلـذب املعتمرين‪ ،‬وبالتـدريج ستكون أطهر بقـاع األرض هي األفضل يف تقنيات الـبناء وحلوهلا‬
‫الهتامم مالكهـا هبا‪ ،‬وملا احتـاجت مكة املكـرمة هلذا الـتدمري‪ ،‬بل تدرجيـياً سنة بعـد أخرى ستجد نـفسها يف أفضل‬
‫حال ألن كل حملة ستتغري تدرجيياً بتجدد بضعـة عقارات‪ .‬ولكانت اللمسة اإلنسانية بني املالك واحلجيج التي حتدثنا‬
‫عنـها هي سمة هـذه العقارات‪ .‬كام أن الشعـوب األخرى املسلـمة ستتبنـى تشييد وصـيانة بعض احلـارات ليسكن هبا‬
‫حجاجها‪ .‬هـذه حارة جاويـة وتلك مغربـية‪ ،‬وهكذا تـشتعل املنافـسة بني الشـعوب للمسـامهة يف إثراء عـمران مكة‬
‫املكرمة‪ ،‬كـل يساهم بـأفضل ما لـديه‪ .‬فرتى ثقافـات العامل اإلسالمي كلهـا مصغرة يف مكـة املكرمة وبـأهبى احللل‬
‫لتصبح بالفعل مـركز ًا دينياً وحضـارياً‪ .‬أما مع وجود احلـدود بني الدول ومنع انتقال املـسلمني ووقوع عبء مكة عىل‬
‫دولة واحدة‪ ،‬ثم بعـد نزع امللكيات‪ ،‬فـإن امللكيات إما سـتؤول إىل الدولة لـيسوء حاهلـا أو إىل متنفذين يسـتملكوهنا‬
‫ليزداد الفقر بني الناس وليسترشي الفساد بزيادة هذه الطبقات املالكة تنفذ ًا وبطر ًا كام سرتى بإذن اهلل‪.‬‬

‫كل فناء وآخـر‪ .‬وبالطبع فـإن هذه األفنيـة ستكون عىل بـعد كبري من‬ ‫ز‪ )2‬ولكن مـاذا عن أشعة الشـمس ويف صالة الظهر بـالذات؟ ليس يف‬
‫ال‪.‬‬
‫الكعبة املرشفة‪ ،‬أي حيث مـواقع فنادق رشكة مكة للتعمري اآلن مث ً‬ ‫هذا التصور ما يمنع وضع مـظالت خفيفة سهلة فوق رؤوس املصلني‬
‫وما هـذا التصـور الذي أطـرحه إال مـثاالً واحـد ًا‪ .‬وهنـاك الكـثري من‬ ‫تنصب وقت احلـاجة‪ .‬ومـاذا عن الطـرق للعربـات؟ هذه سـتقف عند‬
‫احللـول اهلنـدسيـة األخـرى والتـي مهام سـاءت فلن تكـون أسـوأ من‬ ‫الطرف اآلخر لسفوح اجلبـال املطلة عىل الكعبة املرشفة‪ .‬وهنا ختيلت‬
‫وضعنا احلايل الذي ُنسفـت فيه اجلبال لتحل حملها العامئر االستغاللية‪.‬‬ ‫منظـر ًا آخر‪ ،‬أال وهو حاجة املعتمـرين للخدمات مثل األكل والرشب‬
‫فـياهلـا من خـسارة‪ ،‬وحـسبنـا اهلل ونعم الـوكيل‪ .‬حـتى الـتكييـف‪ ،‬فقد‬ ‫ودورات امليـاه‪ .‬وهـذه حلهـا جـد مـيسـور وبـالـذات يف عـرص التقـدم‬
‫أخربين أحـد املتخـصصني (الـذين كـانوا يف الفـريق املكلف بـدراسة‬ ‫اإلنـشائي الـذي نحن فـيه‪ .‬تذكـر بعض القـرى ذات األفنيـة التي هي‬
‫املسجد احلرام وساحـاته يف توسعة خادم احلرمني الرشيفني امللك عبد‬ ‫حتت األرض يف تونـس والصني‪ .‬فهناك قـرى ال ترى مبانـيها من سطح‬
‫اهلل بن عبـد العزيـز‪ ،‬وهو د‪ .‬إبـراهيم حبـيب اهلل) أنه باإلمكـان إجياد‬ ‫األرض‪ ،‬ولكن إن زرهتـا فسرتى حفـر ًا مربعـة بعمـق دور واحد حتت‬
‫بـدائل لتـكييـف املسجـد احلـرام إن مل تـوجـد مبـان مغلقـة من خالل‬ ‫األرض‪ ،‬وكل حفـرة هي فناء ملنزل‪ ،‬فإن نـزلت إىل احلفرة فأنت يف فناء‬
‫الـتربيــد اإلشعــاعـي ‪ radiation‬من حتـت بالطــات األرض بــوضع‬ ‫مفتـوح ثم يتم الدخـول للبيوت أو للغـرف من هذا الفنـاء‪ .‬وهكذا قد‬
‫أنـابـيب للـتربيـد ومـظالت لتـحجب أشعـة الـشمـس املبــارشة وقت‬ ‫تكـون اخلـدمــات‪ ،‬فبــالنــزول لفنـاء صغـري حتت األرض كـمنـطقـة‬
‫الــذروة‪ ،‬فيكـون اهلــواء السـاكن بـارد ًا يف ذاته ألن اجلبـال املحـيطـة‬ ‫مرورية‪ ،‬سيجـد املعتمر األمكـنة التي يسـتطيع فيها أن جيـد ما يأكله‬
‫حتجب الرياح فتحتفظ الساحات بربودهتا صيفاً‪.‬‬ ‫ويـرشبه ويقيض حاجته‪ ،‬وقد تكون املسـافات قدر مئات األمتار بني‬
‫قص احلق‬ ‫‪146‬‬

‫الاجهتاد‬
‫إن من أهم نتـائج هذا اجلـزء (أي نزع امللـكية) هـو أن من سامت مقـصوصـة احلقوق حفـظ حقوق املالك‬
‫بطـريقة يستحيـل معها ألي فرد التعـدي عىل هذه احلقوق‪ .‬فكـل عقار له استقالليته وحـرمته وسيطرة املـالك التامة‬
‫عىل ملكه مطمئـنا أبد الدهر بأهنا لن تسلب منه عنـوة‪ .‬فال يرتدد يف استثامرها‪ ،‬وال يفكر يف رشوة آخرين لالستفادة‬
‫منها‪ .‬وقد رأينا يف احلديث عن الـرضر كيف أن الرشيعة منحت للمترصف املالك حقوقاً مكنته من إطالق الترصف‬
‫ال يف املجتمع‪ .‬فكـر أخي القارئ‪،‬‬
‫يف ملكه‪ .‬أي أن الـرشيعة حفـظت ملك من مكنـت له الترصف ليـصبح فرد ًا فـاع ً‬
‫فهل هنـاك نظـام من وضع الـبرش حيفـظ للنـاس حرمـة عقـاراهتم كـاإلسالم‪ ،‬وحيمـيهم من الـسلطـات يف أفعـاهلم؟‬
‫واإلجابة بالنسبة يل‪X :‬ال‪.Z‬‬

‫ولعل من الـنتائج املهمـة هلذا الفصـل ما يتجىل من سـؤالك اآليت‪ :‬مل كل هذه الضـجة هلذا املـؤلف عن جمرد‬
‫نـزع ملكـيات أدت لـظلم بعـض األفراد عـىل يد قـلة مـن املسـؤولني الضـالني‪ ،‬فهـذا أمر ال مـفر مـنه يف املجتمـعات‬
‫البرشية ويقع من البعض فقط؟ فأجيب‪ :‬إن املسألة ليست هبذه البساطة‪ .‬فهل رأيت أمة عزيزة وأفرادها أذالء؟ أو‬
‫هل رأيت أمة ذلـيلة وأفرادها أعـزاء؟ بالطبع ال‪ .‬فمعظـم من يفكرون يف عزة األمم املـسلمة من املسـؤولني يريدون‬
‫ال‪ ،‬ويشيدون‬
‫حيسنون مدهنـا مث ً‬
‫حتقيق العزة بتـسخري الشعوب هلدف الـعزة‪ ،‬وهبذا فهم يرسـمون طريق العزة كـأن ِّ‬
‫الصناعـات بمعرفتهم ونحوها من سياسـات‪ ،‬وهذا املسلك يغري مقصوصة احلقوق‪ .‬مـن هنا يأيت االستعباد الذي يفقد‬
‫الناس اهلمـة واملثابرة ليحـدث العكس‪ ،‬أي لتذل األمة‪ .‬وهـذا ما حاولت الرشيعـة تالفيه‪ ،‬أي تاليف االستعباد داخل‬
‫كيان املجتمع املسلم ليتحرر األفراد فينطلقون يف العطاء الذي إن تراكم عزت األمة وازدهرت‪.‬‬

‫وهنـا البد مـن كلمة تـوضيحيـة عن االجتهـاد‪ :‬كام الحظت أخي القـارئ فإن هـذا الكتاب ضـد االجتهاد‪.‬‬
‫فلعلك تقـول‪ :‬كيف يرفض مـسلم االجتهاد يف هـذا العرص امليلء باملـستجدات؟ ومـاذا عن حديـث الرسول صىل اهلل‬
‫علـيه وسلم يف صحيح الـبخاري والـذي رواه عمـرو بن العـاص أنه سمع رسـول اهلل صىل اهلل عليه وسلـم يقول‪{ :‬إذا‬
‫حكم احلـاكم فاجـتهد ثم أصـاب فله أجران‪ ،‬وإذا حـكم فاجـتهد ثم أخـطأ فله أجـر}؟‪ 161‬أقول‪ :‬هـذا إن مل يكن‬
‫هنـاك نص كام هـو معلوم‪ .‬أمـا إن كان هنـاك نص كام رأينـا يف مسـألة نـزع امللكيـة‪ ،‬وسرتى الكثري مـن األمثلة يف‬
‫الفـصول القادمة بـإذنه تعاىل‪ ،‬فال حيق ألحد االجتهـاد مهام تغري الزمان وتغـري املكان‪ .‬وسأحاول جـاهد ًا يف الفصول‬
‫القادمة بحول اهلل وقوته أن أثبت لك أن سبب ختلف املسلمني هو االجتهاد فيام كان فيه نص‪ ،‬فاختلت احلقوق بني‬
‫احلـاكم واملحكوم‪ .‬ولكن فقـط للتلخيص الرسيع ملـسألة االجتهـاد أقول‪ :‬هناك عـدة أنواع من املسـائل التي تتطلب‬
‫االجتهـاد‪ ،‬منها ما هو مـستجد وحلظي وقد ال يتكـرر‪ ،‬ومنها ما هو مـتكرر ولكن عىل فرتات متباعـدة‪ ،‬ومنها ما هو‬
‫دائم التكـرار‪ .‬فمن أمثلـة املسـائل التي قـد ال تتكرر هـو أخذ قـرار بالصـلح مع عدو أهنك املـسلمني‪ ،‬ونحـوها من‬
‫ظروف حمـددة برغم أهنا هتـم األمة إال أهنا قد ال متـت ملقصوصة احلقـوق بصلة‪ ،‬وهذه الـتي يشملها حـديث الرسول‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬واهلل أعلـم‪ .‬وحتى مـثل هذه االجتهـادات‪ ،‬فإن طبقـت مقصوصـة احلقوق فـستضمحل احلـاجة‬
‫إليهـا كام سيأيت يف فصل ‪X‬احلكم‪ Z‬بـإذن اهلل‪ .‬أما أمثلة مـا قد يتكرر ولكـن عىل فرتات متباعدة فـهو تعيني حاكم أو‬
‫ال‪ .‬فمتخـذ القرار سواء كـان فرد ًا أو مجاعـة بحاجة لـالجتهاد للمفـاضلة بني األفـراد‪ .‬وبالطبع ال‬
‫قاض إلقليم مـا مث ً‬
‫أستطيع اخلوض يف مدى حاجة األمة ملا سبق من مسائل اجتهادية‪ ،‬فهي خارج دائرة معرفتي‪.‬‬
‫‪147‬‬ ‫‪ 2‬قصور العقل‬

‫أمـا ما هـو كثري التكـرار‪ ،‬وهو األهم ملـوضوعنـا (ألن يف كثرة الـتكرار إن زلت الـفتوى مرضة شـديدة عىل‬
‫األمة)‪ ،‬فـباإلمكـان قسمـته إىل أربعة أقـسام‪ :‬األول مـرتبـط بالعالقـة بني اإلنسـان وربه‪ ،‬مثل العـبادات‪ ،‬وهـذه هبا‬
‫مـستجدات بحاجة لالجتهـاد‪ ،‬مثل مدى مسافة قـرص السفر بالسيـارة ملن يعمل بعيد ًا عن داره ويسـافر لعمله يومياً‪،‬‬
‫ومثل رفـض البعض خللع األحذيـة عند دخول املـساجد ذات الـسجاد يف أيامـنا هذه‪ .‬والثـاين مرتبط بعالقـة اإلنسان‬
‫بربه إال أنه لـيس بالرضورة مـن العبادات املتكـررة بالنسـبة للفرد‪ ،‬مـثل حكم أنابيـب األطفال أو حكم زرع الكىل‪.‬‬
‫الثالـث مرتبـط بعالقة اإلنـسان بـإنسـان آخر‪ ،‬وهـذه كثرية جـد ًا يف مسـائل املعامالت‪ ،‬مـثل حكم بنـاء درج يؤدي‬
‫للسطح يف منزل زيد مما قد يرض جاره عـبيد‪ ،‬فهل هيدم الدرج أم يمنع زيد من صعود السطح أم جيرب عىل بناء سور‬
‫يف سـطح منزله حتـى ال يكشف فنـاء جاره‪ ،‬ويف مثل هـذه املسائل تـكثر االختالفـات يف اجتهادات الفقهـاء‪ .‬وقسم‬
‫رابع مرتبط بعالقـة اإلنسان باآلخـرين عموماً أو من يـمثلهم‪ ،‬أي مرتبط بعالقـة اإلنسان بالسـلطات أو احلاكم مثل‬
‫جواز إحيـاء األرض دون إذن اإلمام أو نـزع امللكية الـتي حتدثنـا عنه أو أخذ الـزكاة‪ :‬فهل للحـاكم أخذ الـزكاة من‬
‫النـاس أم للناس دفعهـا ملستحقيهـا حتى وإن طلـبها احلاكـم؟ وال أريد اخلوض أبـد ًا يف القسمـني األولني‪ ،‬فهام خارج‬
‫نطاق هـذا الكتاب‪ ،‬ومهـا اللذان‪ ،‬ملـن له حق االجتهاد يف املـستجدات اإلفتـاء فيهام‪ .‬ومها احلـيز الذي يـنطبق عليه‬
‫حديث االجتهاد‪ ،‬واهلل أعلم‪ .‬أما القسمني الثالث والرابع ففيهام اإلشكالية بالنسبة يل‪ .‬ملاذا؟‬

‫بالـنسبة للـقسم الثالـث‪ ،‬وهي عالقة اإلنسـان باآلخر‪ ،‬فحتـى وإن اختلفت املذاهب فـإن معظم اآلراء حمقة‬
‫بـرغم ظاهـرها بأهنـا خمتلفة إن مل تـقحم احلاكم يف املـسألة‪ ،‬وقـد وضعت الكثري من الـنوازل عن العمـران يف كتاب‬
‫‪X‬عامرة األرض‪ Z‬لتوضيح هذه املسألـة‪ .‬والعلة يف ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪ ،‬هو أن احلق إن تغري من زيد لعبيد عند عمرو من‬
‫الفقهاء‪ ،‬أو تغري من عـبيد لزيد عند بكر من العلامء‪ ،‬فإن احلق الزال بني الناس ومل ينتقل للسلطات‪ .‬مثال ذلك حق‬
‫اجلـلوس يف األسـواق‪ ،‬هل يقـدم من كـان دائم اجللـوس يف موضـع ما وعـرف به أم ال؟ حـتى يف هـذا القـسم فهـناك‬
‫مذاهب أصلح للبيئة من مـذاهب أخرى‪ ،‬وألن االختالفات بني املذاهب هي داخـل حيز معني‪ ،‬فمهام أخطأ العلامء‬
‫فإن اخلطأ سينقل احلق مـن فرد آلخر‪ ،‬وبرغم الظلم عىل أحد الطـرفني‪ ،‬إال أن هذا االجتهاد قد ال يرض األمة الرضر‬
‫الذي سيأيت من االجتهـاد يف القسم الرابع‪ ،‬وهو الذي يربط الفـرد بمجموع األمة أو من يمثلهم‪ ،‬أي ويل األمر‪ .‬ومن‬
‫األمثلة عىل القسم الرابع حديث الرضر ونـزع امللكية اللذان حتدثنا عنهام‪ .‬ومن األمثلة القادمة الفيء‪ ،‬فمن حق من‬
‫سيكون الفيء؟ وما أحاول طـرحه يف هذا الكتاب هو أن مجيع ما يربط الفرد بـاألمة أو السلطة من حقوق متكينية‬
‫أتت هبا الرشيعة واضحة إال أن االجتهاد فيها هو الذي أدى لتخلف املسلمني‪ .‬ففيها نصوص قطعية مثل قوله تعاىل‪:‬‬
‫‪e‬لسبِيلِ كَى‪َ c‬ل‬
‫َـس^كِ نيِ وَ‪e‬ب ِ‪c‬ن هَّ‬
‫َل وَ لِلـرهَّ ُسولِ وَ لِذِي ‪e‬ل‪c‬قُـر‪ c‬بَى وَ‪e‬ل‪c‬يَتَ^مَى وَ‪e‬ل‪c‬م َ‬
‫رَسـولِهِ\ مِن‪ c‬أَه‪ c‬لِ ‪e‬ل‪c‬قُرَ ى ف ِ هَّ ِ‬
‫‪e‬لل عَ لَى ُ‬
‫(مهَّـا‪ d‬أَفَا‪d‬ءَ هَّ ُ‬
‫‪e‬لل شَ ـدِيدُ‬
‫‪e‬لل إِ َّن هَّ َ‬
‫ول فَخُ ـذُ وهُ وَ مَا نَهَـىكُ م‪ c‬عَ ن‪c‬هُ فَ‪e‬نتَهُـواْ وَ‪e‬تَّقُواْ هَّ َ‬
‫‪e‬لغ‪c‬نِيَـا‪d‬ءِ مِنكُ ـم‪ c‬وَ مَا‪ d‬ءَاتَـىكُ مُ ‪e‬لـرهَّ ُس ُ‬
‫َني ‪َ c‬‬
‫يَكُ و َن دُولَـةً ب ‪َ c‬‬
‫َاب)‪ ،‬ومـثل قول الـرسول صـىل اهلل عليه وسلم يف سـنن أيب داود ومسـند اإلمـام أمحد عـندمـا طلب النـاس منه‬
‫‪e‬ل‪c‬عِق ِ‬
‫الـتسعري عند غالء األسعار‪{ :‬إن اهلل هـو املسعر القابض الـباسط الرازق وإين ألرجو أن ألقـى اهلل وليس أحد منكم‬
‫يطـالبني بمظلمة يف دم وال مال}‪ 162.‬يف مثل هذه املسائـل تدخل الفقهاء واجتهدوا واختل االتزان بني الناس‪ .‬ولعلك‬
‫تقـول‪ :‬إن حديـث عدم التـسعري من سنـن أيب داود قد ال يكـون يف قوة مـا إن كان احلـديث يف صحيح الـبخاري يف‬
‫قطعيـته‪ ،‬لذلك قـد يضـطر احلـاكم للـتسعري إن سـاء احلال يف األسـواق‪ ،‬لذلـك تدخل الفقـهاء وأفتـى بعضهـم بجواز‬
‫التسعري (ال تنـسى مثال مرض اإليدز أخي القارئ)‪ .‬وهكذا من رضوريات كام يعتقدون‪ .‬فأجيب‪ :‬قد يكون قولك‬
‫قص احلق‬ ‫‪148‬‬

‫صحيحـاً إن مل يستـطع أحد اإلثبـات أن األمة ستكـون يف حال أفـضل إن هي رفضت الـتسعري‪ .‬أمـا إن أثبت لك أن‬
‫األوىل ملصحلـة األمة االلتزام بالنص‪ ،‬أي عدم تدخل احلاكم يف التـسعري‪ ،‬فعندها فإنني يف موقف أقوى ألن احلديث‬
‫واملنطق قد اجتمعا‪ .‬لـذلك أرفض االجتهاد يف هذا القسم الرابع الـذي يتم فيه ربط اإلنسان مع جمتمعه أو ويل أمره‪،‬‬
‫والذي يؤدي إىل عالقة دائمـة االستمرار مثل إحياء األرض دون إذن اإلمام‪ ،‬فالناس يف إحياء دائم لألرايض كل يوم‪.‬‬
‫وهنا تـأيت حكمة الرشيعة بوضـع نصوص قاطعة (مثل منع الـربا) حتى ال يتمكن حاكـم من إغراء عامل ما ليفتي له‬
‫بجـواز ذلك‪ .‬فمن بني عـرشات اآلالف من العلامء عـىل مر العصـور‪ ،‬البد وأن يـبيع عامل مـا (وهو ليـس بعامل) دينه‬
‫ويفتي للحاكم بام يالئم أهواءه‪ .‬وقد جيد حاكم ما من يفتي له بجواز الرضائب رشعاً (وقد حدث‪ ،‬كام سيأيت بيانه‬
‫بـإذن اهلل)‪ ،‬وهكذا ترتاكم االجـتهادات لتجد األمـة نفسها حتكم بـدين غري اإلسالم برغم حفـاظها عىل الصلوات يف‬
‫املساجـد وبرغم اكتظـاظ املسجد احلـرام باملعتمـرين وزيادهتم‪ .‬فال تـظنن أن األمة بخري واحلـال هذه يف االجتهاد‪.‬‬
‫لل خُ م َُسهُ‪/‬‬
‫لذلك فمن حكمة الرشيعة أهنا أتت بنصوص قاطعة مثل قوله تعاىل‪( :‬وَ‪e‬ع‪ c‬لَمُو‪ d‬اْ أَنَّمَا غَنِم‪c‬تُم مِّن شَ ى‪ c‬ءٍ فَأَ َّن ِ هَّ ِ‬
‫ِ‪e‬لل وَ مَا‪ d‬أَنزَ ل‪c‬نَا عَ لَـى عَ ب‪ِ c‬دنَا يَو‪ c‬مَ ‪e‬ل‪c‬فُر‪ c‬قَانِ‬
‫‪e‬لسبِيلِ إِن كُـنتُم‪ c‬ءَامَنتُم ب هَّ ِ‬
‫وَ لِلرهَّ ُسولِ وَ لِذِي ‪e‬ل‪c‬قُر‪ c‬بَـى وَ‪e‬ل‪c‬يَتَ^مَى وَ‪e‬ل‪c‬م ََس^كِ نيِ وَ‪e‬ب ِ‪c‬ن هَّ‬
‫وَ‪e‬لل عَ لَى ك ّ ُِل شَ ى‪ c‬ءٍ قَدِيرٌ )‪ ،‬ومثل قوله صىل اهلل عليه وسلم‪{ :‬املسلمون رشكاء يف ثالث‪ :‬يف املاء‬
‫يَو‪ c‬مَ ‪e‬ل‪c‬تَقَى ‪e‬ل َ‪c‬جم‪c‬عَانِ هَّ ُ‬
‫قفل لباب االجتهـاد‪ ،‬بل جذٌ جلذور االجتهاد يف القـسم الرابع بالذات‪ .‬إال أن‬
‫والنار والكأل}‪ ،‬وما هـذه النصوص إال ٌ‬
‫(وَ‪e‬لل ‪e‬ل‪c‬م ‪ُc‬ستَعَا ُن عَ لَى مَا ت َِصفُونَ)‪.‬‬
‫هَّ ُ‬ ‫بعض العلامء جترؤا عىل النصوص فأفتوا بعقوهلم القارصة كام سرتى بإذن اهلل‪،‬‬

‫ولـتلخيص هذا الفصل أقول‪ :‬إن لإلسالم طـريق مرسوم واحد وواضح للعـزة‪ .‬فكام رأينا يف أول الفصل فقد‬
‫أصبحت العقالنية هـي كل يشء‪ ،‬وبالذات يف إدارة املجتمعـات‪ ،‬وإلثبات بطالن هذه الـدعوى تقصينـا ملكية العلو‬
‫كمثـال لتوضيـح الفارق الشـديد بني مـنابع مقصـوصة احلقـوق يف اإلسالم وبني منـابع منظـومات احلقـوق املعارصة‪.‬‬
‫ومررنا رسيعاً عىل حكم من حكم بغري مـا أنزل اهلل وأنه إنام يتبع اهلوى ليضل الناس بغري علم‪ .‬وإلثبات ذلك نظرنا‬
‫للعـقالنية لنـثبت أهنا أهـواء تسريهـا املصالح ولـيست عقالنيـة جمردة كام يـظن الكثري‪ ،‬فـأخذنـا مثالـني لتأكيـد هذا‬
‫االستنتاج مها التلوث واملـستقبليات‪ ،‬ثم تقصينا نظريات ختلف املـسلمني لنستنتج أن معظمها يتهم اإلسالم بالتخلف‬
‫ألنه ال ُيـعمل عقله يف إدارة شـؤون حيـاته‪ ،‬بـل يتبع مـا أنـزل إليه من قـرآن وسنـة‪ ،‬وأن يف هـذا كام يـزعـم منتقـدو‬
‫اإلسالم تـعطيل للعقل‪ .‬ثم نظرنا للعقـل فوجدنا أنه ليس إال أداة جيب إطالقهـا فقط يف التعامل مع كل ما مل ِ‬
‫يأت به‬
‫نص مثل التعـامل مع األعيان‪ ،‬ولتوضيح هذه املـسألة قسمنا عقليـة األمم إىل أربعة سبل بالنسبـة لطبيعة القرار‪ .‬وقلنا‬
‫أن اإلسالم حيث عىل السبيل الثـالث‪ :‬وهو االندفاع جتاه األعيان يف طبيعة القرار واملحافظة جتاه اإلنسان‪ ،‬أي تعطيل‬
‫العقل أمام مقصوصة احلقوق مع حتريكه يف شتى املجاالت‪ ،‬وهذا كام سرتى بإذنه تعاىل سينهض باألمة‪ .‬فكام رأينا‬
‫من استقصاء لفظ العقل يف القـرآن وبربطه باحلق‪ ،‬فإن احلق واحد ال يتبدل بتغري الزمان واملكان‪ .‬ثم أكدنا ذلك من‬
‫خالل تقيص العقل يف السنة املطهرة‪ .‬ورأينا ما فعله املـعتزلة‪ ،‬وكيف أن بعض الفقهاء املعارصين‪ ،‬وبحسن نية منهم‪،‬‬
‫هنجوا هنجـاً مشاهباً يف أصـول الفقه بإعامل عقـوهلم باالستحسـان وتقييد احلق‪ ،‬فتغـريت مقصوصة احلقـوق‪ ،‬وما نزع‬
‫امللكيـة إال مثال واحـد هلذا التغيـري‪ .‬وهناك أمثلـة أخرى سنـأيت عليها بـإذنه تعاىل‪ .‬ومجـيع هذه التغيـريات تراكمت‬
‫فضيقت اآلفاق اإلنتاجية عىل الناس واضمحلت مهمهم فازدادت البطالة‪ ،‬كام سرتى‬
‫وأدت لفقدان النـاس حلقوقهم‪ُ ،‬‬
‫بـإذن اهلل‪ ،‬وأتى التخلف بـسبب شلل املجتمع‪ .‬ومثـالنا األهم عىل هـذا هو قتل إحيـاء األرض‪ ،‬وهو أحد مـوضوعات‬
‫الفصل اآليت‪ :‬أي فصل ‪X‬اخلريات‪.Z‬‬

You might also like