Professional Documents
Culture Documents
2. الفصل الثاني - قصور العقل
2. الفصل الثاني - قصور العقل
45
قص احلق 46
إن الذين حيكمون بغري ما أنزل اهلل دون علمهم كثري ،وذلك ألهنم يطبقون يف أعامهلم علوماً ُخترج عن امللة
بالرضورة ،فهل األخـذ هبذه العلوم كفـر؟ أخي :من أنا ألكفر هـذا أو ذاك؟ ولكن فقط لرتى عظم االشـكالية التي
ال،
نحن هبا كـأمة ،سأختار علم التخطيط كمثال ،ألنه ختصص يعـتمد عىل التنبؤ بام يمكن أن حيدث للعمران مستقب ً
ومن ثم خيطـط له املخططون ،وكذلـك العلوم اإلنسانيـة األخرى ،فإن كان األخـذ بالتخطيط عىل حـساب الرشيعة
كفـر ،فمـن األجدر أن يكـون العمـل بالعلـوم اإلنسـانيـة األخرى كـالقانـون واالقتـصاد والـتنميـة التي تـنظم حـياة
املسـلمني أيضاً كفـر ألنه حكم بغري ما أنـزل اهلل 1.ذلك ألن املعطيات الـواقعية مـن املدينة وبـالتايل املعلـومات التي
ال ،وليس كباقي العلوم التي جتد
تبنى عليها التحليالت تضع علم التخطيط يف موقع أفضل للتنبؤ بام سيحدث مستقب ً
نفسها يف موقع البد هلا فيه من االتكال عىل كثري من املعلومات التي قد ختطئ مثل علم االقتصاد.
وبناء عىل دراسات مستفيضة ،وبعـد مجع معلومات وبالرجوع لنظـريات حديثة يف التخطيط،
ً إن املخطـطني
وما إىل ذلك مـن أدوات وأفكار تـبهر العقـول خيططـون لإلقليم أو املـدينة أو احلـي .وبعد ذلك يـأيت التنفـيذ .ومهام
كانت نظريـات التخطيط متفهمـة لظروف السكـان ومنصفة وأميـنة ،كتلك التي تنـادي بمشاركـة السكان يف اختاذ
القرارات ونحوهـا من توجهات ،فـإهنا ستنتهـي بتوصيات ألويل األمـر أو بقرارات للتنفيـذ ،وعندها تتغـري مقصوصة
ال بأن املـخططني رأوا أن هـذه منطقـة سكنيـة وأراد مستـثمر مـا بناء
احلقـوق التي وضعهـا اإلسالم .كيف؟ لنقـل مث ً
مصنع وسطها ،فسيمنع بـالرجوع لبنود التخطيط وليس بالـرجوع ملا أحله اهلل وحرمه .وهكذا فإن أي قرار ختطيطي
البـد وأن يسلب من بعض الناس حقوقاً ويـضيف آلخرين حقوقاً .مثال آخر :إذا كـان القرار التخطيطي بأن يكون
التعيل يف البنـاء يف منطقة مـا دورين فقط ،فعنـدما يرص مـالك عىل العلو إىل ثالثـة أدوار فإنه سيمـنع من ذلك .وهنا
حيـدث خالف بـني املالـك والسلـطات وعـندهـا يتـم الرجـوع ألنظمـة العـمران الـتي وضعتهـا السلـطات بـتوصـيات
eلل رَ بِّى
eلل ذَ^لِكُ مُ هَّ ُ
املخططني ،ال إىل الرشيعـة برغم وجود قـوله تعاىل( :وَ مَا eخ cتَلَـفcتُم cفِيهِ مِن شَ ى cءٍ فَحُ ك cمُهُ /dإِلَى هَّ ِ
ِيب) 2.وما حدث هذا إال ألن السلطـات هي احلاكمة .وهكذا تم األخذ بحكم عقل البرش ال
cت وَ إِلَيcهِ أُن ُ
عَ لَيcهِ تَوَ كَّل ُ
بحكم اهلل سبحانه وتعاىل يف مقصوصة احلقوق (فأين توحيد األلوهية؟) .لنوضح هذه املسألة بنوع من اإلجياز:
اتلعيل مكاثل
مالحظة :لدي هنا إشكـالية :إن تعمقت يف هذا املثال فإن القـارئ قد يتيه عن املحور األساس هلذا الفصل،
وإن أوجزته فسيظهـر املثال ركيكاً ألنه مل يتـعامل مع األدلة واإلثباتـات واالحتامالت بشموليـة مقنعة .لذلك رأيت
أال أسهـب يف املثال مع التنويه بـأنه عىل من أراد االستزادة والتأكـد من اإلثباتات الـرجوع لكتاب Xعامرة األرض يف
اإلسالم.Z
إن من الواضح لنا مجيعاً بأن من أراد أن يعيل عقاره يف املدن ال يتأتى له ذلك إال بموافقة السلطات التي لدهيا
مربراهتـا للموافقـة أو الرفض .وهـذه املربرات هي من اجتهـادات املخططـني الذين يفـاضلون بـني املصالح للـوصول
للـمصلحة العـامة ويلجـؤون لنظريـات التخطيط املـبنية عىل جتـارب من سبقهم .أي أن من أراد تعـلية بنيـانه يطلب
موافقـة من بيده اإلذن لذلك .أي أن هـذه الوضعية أنـتجت لنا جهتني :جهـة ذات يد عليا ،وهي الـسلطة ،وهي التي
47 2قصور العقل
تقـرر؛ وجهـة ذات يــد سفىل وهي مـن أراد التعيل .وتـلك اليــد العليــا ،وعىل افرتاض أهنـا كـانت نـزهيـة ولـن تقبل
بـالرشاوي ،فإهنا عـندما متنع من أراد التعيل فهـي متنعه ألسباب جوهريـة هلا ،كأن يكون املنع تالفـياً لزيادة األمحال
عىل مـرافق املدينة مثل املاء والكهـرباء وشبكات الرصف ونحو ذلك .فـإن أجازت التعيل فهي (أي السلطات) زادت
بناء عىل تقديرها للمصلحة.
من حقوق املـالك ،وإن منعته فهي انتقصت من حقه .أي أن السلطات قد نـظمت احلق ً
ولكن لننظر للرشيعة أوالً كيف تقص احلق يف هذه املسألة ثم نعلق عىل املنهجني اإلسالمي والوضعي معاً.
إن الـذي حيدد ما جيـوز ملكه وما ال جيـوز ملكه يف اإلسالم مها قـاعدتان :األوىل هـي احلاجة ،والثـانية هي
السـيطرة .بالنسبـة للحاجة يقول الـقرايف رمحه اهلل (ت 684هـ) :إن Xالرشع له قاعدة :وهـو إنام يملك ألجل احلاجة،
وما ال حاجـة فيه ال يرشع فيه امللك ،Zفاجلنني ملـا كان ميتاً رشعاً ،وهـو بصدد احلاجة العـامة يف حياته ملك األموال
باإلمجاع ،وامليت بعـد احلياة مل تبق له حاجة عامة فلم يملك 3.وقـاعدة احلاجة هذه جيب أن ال تتعارض مع حديث
4
الرسول صىل اهلل عليه وسلم{ :ال رضر وال رضار}.
وهتـدم ،فلن تكـون مفـيدة والـقاعـدة الثـانيـة هي الـسيـطرة :فـاألعيـان إذا مل ُينتفـع هبا بـأن ُتصـان وتبـنى ُ
ملسـتخدمـيها .هلـذا استثمـرت الرشيعـة التـرصف يف املالك .أي أن أي عـني البد وأن ي ِ
ـسيطـر عليهـا من له االنـتفاع ُ ّ
ومنع من ذلك والترصف السائغ رشعا ال ينازعه فيه منازع ألن االنتفاع ال يكتمل بالتنازع بني الناس .فمن أراد التعيل ُ
فـإنه مل ينتفع بام ملك .وأغلـب تعاريف امللكيـة ،إن مل تكن مجيعها ،تـذكر حق التـرصف أو املقدرة عىل الترصف
كـرشط للملكيـة .فقد عـرف ابن تيميـة (ت 728هـ) من املذهـب احلنبيل امللكيـة بقولهX :هـو القدرة الـرشعية عىل
الترصف يف الـرقبة ،Zوعـرفه القايض حـسني بن حممـد املروذي (ت 462هـ) من املـذهب الشـافعي بأنه Xاخـتصاص
يقتيض إطالق االنتفاع والترصف ،Zوعرفه ابن اهلامم (ت 861هـ) من املذهب احلنفي بقولهX :امللك هو قدرة يثبتها
ابتداء عىل الترصف .Zومن هـذا يستنتج العلامء أن هـناك أشياء ال متلك الستحـالة السيطـرة عليها ،مثل أشعة
ً الشـارع
الشمـس وطبقات اهلـواء؛ وأشياء ال متلـك لصعوبـة السيـطرة عليهـا ،مثل السـمك يف البحر 5.أي أن قـاعديت احلـاجة
والسيطرة دون اإلرضار باآلخرين مها مدخالن البتداء امللكية عموماً .فامذا عن ملكية العلو؟
يقول القـرايف (ت 684هـ) بالرجـوع لقاعـدة احلاجة بـأن فقهاء املـذهب املالكـي مل خيتلفوا يف ملـك ما فوق
البناء من اهلواء ولكن يف الـسفل؛ وحلاجة الناس للعلـو يف األبنية لالسترشاف والنظـر إىل املواضع البعيدة من األهنار
ومواضع الـفرح والتنـزه ،وحلاجـة الناس لالحـتجاب عن غـريهم بعلو بـنائهم وغـري ذلك من املقاصـد التي ال تتـوافر
دواعيهم يف بـطن األرض عىل أكثـر مما يـستمـسك به البنـاء من األساسـات ،وحيث إن الـرشع له قاعـدةX :وهو إنام
يملك ألجل احلـاجة ،وما ال حاجة فـيه ال يرشع فيه امللك ،فلذلك مل ُيملك مـا حتت األبنية من ختوم األرض بخالف
اهلـواء إىل عنان الـسامء .Zوقد رد ابن الـشاط (ت )723بقـولهX :إذا كانت القـاعدة الـرشعية أن ال يمـلك إال ما فيه
احلاجة ،وأي حاجـة يف البلوغ إىل عنان الـسامء؛ وإذا كانت القاعـدة أنه يملك مما فيه احلاجـة ،فام املانع من ملك ما
حتت البنـاء حلفر بئـر يعمقها حـافرهـا ما شـاء .Zويشري ابن الـشاط أن Xمن أراد أن حيفـر مطمـورة حتت ملك غريه
يتوصل اليها من ملك نفسه يمنع من ذلك بال ريب 6.Zوجاء يف القواعد للزركيش (ت 794هـ) من املذهب الشافعي
بأنه Xينبغي أن ال يملك [أي األرض] من قـراره إال ما تدعو احلاجة إليه دون ما سفل إىل سبع أرضني ،إذ ال حاجة له
7.Z..إن هذه األمثلة السابقة من خالل اللجوء للحجج واالنتهاء بأقوال خمتلفة ما هي إال إشارة لتوضيح دور احلاجة
قص احلق 48
ال إن
يف حتديد امللكية ،وهذا هو املهم ملوضوعنا .وهناك تفاصيل أخرى كثرية متعلقة بملكية العلو .فامذا حيدث مث ً
باع رجـل الدور الثاين من مبناه وسقط املبنـى ،فهل يلزم بالبناء؟ ونحوهـا من احتامالت تتجىل هبا كيف أن الرشيعة
8
قصت احلق من خالل مبدأي احلاجة والسيطرة.
أي أن حتديد ارتفاعات املباين يف املدينة اإلسالمية مل تقرره سـلطة حكومية أو أنظمة قانونية ونحو هذا مما
نعرفه يف أيامنـا هذه ،ولكن قرار التعيل كـان بيد السكان يف املـوقع ،كل اختذ قراره لنفـسه .ولكن ماذا سيحدث إن
قام شـخص بتعليـة بنائـه ليكشف جـاره أو يمنع عـنه الشمـس أو اهلواء .إن من املـثري أن هذا مل حيـدث إال نادر ًا يف
املدن اإلسالمية ،ملاذا؟ إن املسألة ليست متعلقة بالتقنية؛ فاملباين املرتفعة يف جوانب أودية حرضموت دليل عىل توفر
التقنـية للتعيل يف البناء قديام ً ،واملشاهد يف املـدن اإلسالمية هو أن معظم مباين مدينة مـا متشاهبة يف ارتفاعاهتا .فهذه
مدينة ال تـزيد ارتفاعات مبـانيها عن دور واحد ،وتلك مجيع مبـانيها ما بني ثالثة إىل أربعـة أدوار .إن املسألة تكمن
يف األعراف :فهناك عـرف واضح للجميع ويتبعه الـكل بأن البناء يف هـذه املنطقة يكـون بارتفاع كـذا وبمواد كذا.
لذلك نـرى األحياء السكنيـة يف املدن اإلسالمية متـشاهبة إال أهنا غـري متطابقة ،متـاماً كأوراق الشجـرة الواحدة التي
تتشابه وال تتطابق ،بـرغم أن مجيع السكان كان هلم اخليـار يف اختاذ القرار ،فلامذا كانت قـراراهتم متشاهبة وأنتجت
عمراناً متجانساً .إن هذا من إعجاز الرشيعة يف العمران وتفسري هذا اإلعجاز باختصار هو اآليت:
إن مبـدأ الرضر (وسيـوضح الحقاً بـإذنه تعاىل) الـذي أخذ به العلامء يف احلـكم عىل أفعال األفـراد منبثق من
حديث الرسول صىل اهلل عليه وسلم{ :ال رضر وال رضار} .فقد كان ألي فرد احلق يف الترصف يف العمران كإضافة
دور ملبنـاه أو فتح مصنع يف منزلـه رشيطة أال يرض ذلك باآلخـرين .فعند تعليـة رجل ملبناه فإن للـساكنني من حوله
احلق يف االعرتاض عىل هذا العلـو إن أثبت اجلريان املترضرون الـرضر 9،وهبذا فإن الـرشيعة أوجدت أرضـية للجدل
بني اجلـريان للتشاور واالختالف يف ماهية الرضر ،ومن ثم حتديد مـدى شدته وما هو املسموح به .وهكذا من أسئلة
عمرانيـة تؤدي إىل جتمع اخلربة للسكان وتبلـور هلم أمور بيئتهم ليزدادوا وعيـاً ،وهبذا تأيت احللول من عندهم .أي أن
السكان يف املـوقع هم وحدهم وبالتفـاهم فيام بينهم اختذوا القـرار بإمضاء التعيل أو بمنعه ،وبـالطبع فإن كان عليهم
رضر منعـوه ،وإن مل يكن هـناك رضر أبـاحوه .وإن أبـاحوه ألحـدهم فقـد حيذوا حـذوه اآلخرون ألنه فـعل نافع،
وهكذا يصبح عرفاً يتبعه اآلخرون (وسنوضح هذه احلركية يف احلديث عن املعرفة بإذن اهلل).
وهـناك قـاعدة رشعـية تـطالـب من أرص عىل التعيل أن يقـوم بإزالـة الرضر وال جتـربه عىل عدم الـتعيل إن هو
متكن من إزالـة الرضر أو التحـايل عليه؛ 10أي أن مقـصوصـة احلقـوق ال تعطـي اجلريان احلق يف منـع من أراد التعيل
ولـكنها تـعطيهم احلق يف املـطالبـة بإزالـة الرضر عنهم ،فقـد ُيمنع املـالك من التعيل بحجـة أن األدوار اإلضافيـة التي
سيقوم ببنائها ستزيد العبء عىل شبكات املياه ،وعندهـا سيحاول جلب املاء باالستغناء عن شبكات املياه أو بالعمل
عىل توسعة الشبكة أو قد حيفر بئر ًا .أو قد ُيمنع من الـتعيل بحجة أن زيادة السكان يف األدوار العليا املضافة سيزيد
العبء عىل شبكـات الرصف الصحي وعندهـا قد حيفر املالك كـنيفاً (حفرة امتصـاصية )septic tankللتخلص من
الفضـالت ،وعندهـا أيضـاً قد يـمنعه اجلريان بحجـة أن هذا الكـنيف سينـزف املاء املـلوث من حـوائطه إىل تـربتهم
الزراعـية بحدائقهم ممـا يضطره إىل حلـول أخرى ،كأن يقـوم بالتخلص من الفـضالت بشفطها لعـربات نقل إن كان
املردود املـايل من تعليـة مبناه جمـدياً اقـتصاديـاً .أو قد يفكـر هو وأمثـاله يف طريقـة للتخلص مـن الفضالت يف نفس
49 2قصور العقل
أي أن مقصـوصة احلقـوق اإلسالميـة أوجدت حـركيـة يف البيـئة تـؤدي إىل حتفيـز مالك املواقع وحتـريكهم
لإلتيان بـاحللول .أما مـا تضعه منظومـات احلقوق املعارصة من أنـظمة تقيد األيـدي وجترب األفراد لالنصـياع للقوانني
الوضعية فهي بـذلك تعطل هلم عقوهلم وتزرع فيـهم بذرة اخلنوع ليصبح كل املجـتمع أفراد ًا تابعني رغام ً عنهم ودون
علمهـم بأهنم مـسلوبـو اإلرادة .وشتان بـني جمتمعني أحـدمها أفـراده يف حركـة مسـتمرة لـلبحث عن احللـول ،واآلخر
أفراده مشلولـون يف عمومهم باستثناء طائفـة متخصصة منهم (كاملخطـطني واملعامريني) تبحث عن احللول وتفرضها
عىل البـاقني من خالل املسـؤولني أو متخذي القـرارات .ولقد أثبتـت الدراسات أن القـرارات التخطيـطية النـابعة من
رؤوس جممـوعة من األفراد كاملخـططني أو متخذي القرارات ومهام كـانت مهاراهتم وخرباهتم فهي مـثقلة باألخطاء
وذلك ألهنـا تتـصف بثالث صفـات ال مفـر منهـا ،كام أثـبت كل من هـولنـج وجولـدنربج بـعد دراسـتهم للكـثري من
القرارات التخطـيطية 12.الصفة األوىل هي أن أي قرار ختطيطي هو قرار معزول عن حميطه؛ فمهام كانت الدراسات
ال لن يتـمكن من استـيعاب البـيئة املحـيطة للـمحطة بـشمولـيتها.
مستفـيضة فـإن من قرر إنـشاء حمطـة للقطـارات مث ً
ال ،حيدد عادة بضيق يف األفق ،فقد تكون هناك بدائل
والصفة الثانية هي أن اهلدف ،وهو إنشاء حمطـة للقطارات مث ً
ال) غـالباً مـا يكون
أخرى أفضل .والـصفة الثـالثة هـي أن التدخل حلل املـشكلة املـحددة (احلاجـة إىل املواصالت مث ً
بسيطاً ومبارش ًا .فعندما حاولت حكومة مجال عبد النارص مث ً
ال السيطرة عىل اإلجيارات يف املساكن يف مرص أصدرت
العـرشات من القـوانـني ،ولكن الـذي حـدث من جـراء هـذا التـدخل هـو وضع مل يـتصـوره أحـد من واضـعي تلك
الـقوانني :فـبدل أن حتل أزمـة اإلسكان تفـاقمت نـظر ًا لعـزوف املستـثمريـن عن البنـاء 13.أي كام قلـت :فإن البـيئة
واملجـتمع ذاتا نـظم ومعطيـات اقتصـادية وجغـرافية واجتـامعية متـداخلة ويف عـدة مستـويات يـعتمد كـل منها عىل
اآلخر .فهي بذلـك خارج حدود تفكري البـرش .وهذه النظم واملعطـيات تعتمد عىل أحـداث غري مرئية وغـري متتالية
ال .فأهداف بنائه نبيلة
أحياناً ،لذلك يستحيل دراستها .فلم يكن أحـد ليتوقع حجم نتائج بناء السد العايل يف مرص مث ً
جـد ًا ،ولكن إيقـاف املاء وتنـظيمه أدى إىل نتـائج زراعيـة واقتصـادية غري مـتوقعـة مل ندرك بعـد مضـارها كـتوقف
ال ،واألهم من هـذا فقد ُحرم املجتمع
انـسياب الطمي للمـزارع ،وكظهور حياة مل تكـن موجودة يف منطقـة السد أص ً
من فرصـة إجياد احللول املـوقعية للتـعامل مع الفيضـانات يف ظل التقنيـة املعارصة .أي أن كل تدخل إنـساين Xيف هذا
اإلطار Zالبد له مضار مل تكن لتخطر عىل بال من اختذ القرار (وسنوضحه يف عدة فصول قادمة بإذن اهلل).
قص احلق 50
ولتلخيص مـا سبق أقول :لقـد نظرنـا إىل حق التعيل كمثـال لتوضيـح الفرق بني منـابع مقصوصـة احلقوق يف
اإلسالم (الرشيعة) ومـنبع النظم الوضعية املعارصة (العقل) إلبراز دور احلقوق يف علم التخطيط وذلك حتى نشكك
مـبدئيـاً يف علم التخـطيط كمثـال للعلوم اإلنـسانيـة (وهذا بـالطبـع ينطبق عىل العـلوم اإلنسـانية األخـرى كالقـانون
والتنميـة واالجتامع واالقتصاد) .ولـكن من البدهي أن يقـول القارئ وبالـذات إن كان من املخطـطني :إن التخطيط
من دواعي احلـضارة وإال لعمـت العمران الفـوضى! كـام أن املخططني هلـم آالف املربرات هلذه القـرارات! واألدهى
من ذلك هـو أن لدهيم وسائل كـثرية لربط قراراهتـم بالرشيعة مـن خالل األخذ باملصـالح املرسلة ،ومـن باب إطاعة
أويل األمـر وغريه؛ وما يطـرحه هذا الكـتاب هو أن هـذه الوسائل قـد يؤخذ هبـا فقط إن مل يوجـد احلكم يف الرشع
ال احلكم فيه واضح بـاإلباحة إن مل يكن فيه رضر عىل
ال ،أي إذا كـانت هناك احلاجة لالجـتهاد؛ فحق التعيل مث ً
أص ً
اجلوار؛ وإن كان هناك رضر فسيـطلب ممن أراد التعيل إزالة الرضر ،إال أن املخططني بـرفضهم ملبدأ الرضر يأخذون
باملصالح املرسلة ويتنبؤون بـالرضر مقدماً ويمنعون من أراد التعيل باستـصدار القوانني؛ وهذا ما سنحاول دحضه يف
هذا الكتـاب .ولكنك قـد تقول أخي القـارئ :ماذا إن أردت بنـاء جممع سكني ضخـم ،أال أحتاج ملخـطط لتنفيـذ ما
أردت بطريقة تصميمية حكيمة؟ أقول :هذا وضع خمتلف متاماً ،فأنت تستأجر املخطط ليعمل لك ،فهو يعمل داخل
حدود حقـوقك وال يستطيع أن يفرض عليـك األنظمة رغام ً عنك .أي أن مقصوصـتك للحقوق مل تتغري ،وما أنقده يف
هذا الكتاب هـو ما يقوم به املخـططون حتت مظلـة احلكومات من وضع قـوانني تغري احلقوق .هـذا من جهة ،ومن
جهـة أخرى فـإن طبقت الـرشيعة فـلن جتد ثـرياً يـتمكن مـن بناء مـستوطـنة كبـرية ألن الثراء سـيتوزع بـني الناس
بطريقة يصعب معها تسخري فرد واحد ملئات األفراد الستثامراته كام سرتى بإذنه تعاىل.
ولكن عىل العموم ،فكل مـن مل يرجع للرشيعة يف أمـوره التي حكم هبا الرشع فقـد حكم بغري ما أنزل اهلل.
وبـالنسبة للمجتمع ،فال توجد مسألـة اقتصادية أو اجتامعية أو سياسية أو بيـئية أو عمرانية إال وللرشيعة فيها حكم
ال لـلتعمق يف هذه العلـوم ودراستها
بطريقـة خترج مجيع العلـوم اإلنسانـية من دائرة حـاجة املسلمـني ،فال حاجة أص ً
وتدريسها إن طبقت الرشيعة ،ألن اهلـدف من دراسة مثل هذه العلوم هو السمـو باملجتمع آلفاق أجمد ،وهذا سيأيت
تلقائياً إن نحن طبقـنا الرشيعة ،وبتوفري كبري للكثري من الطـاقات التي هتدر اآلن يف هذه العلوم .ومن جهة أخرى،
فال حـاجة لالجتهـاد الرشعي إذ ًا يف هـذه العلوم كـام سأثبت بـإذنه تعاىل ،فـهذا من أهم حمـاور هذا الـكتاب .وذلك
ألننا إن حـكمنا بـاإلسالم فإننـا سنصل ألمثل احللـول االقتصاديـة واالجتامعيـة والعمرانيـة ويف كل املستـويات كام
cت عَ لَيcكُ م cنِعcمَتِى
cت لَكُ م cدِينَكُ ـم cوَ أَتcمَم ُ
سنرى بـإذنه تعاىل .أي أن اإلسالم ديـن مكتمل .قـال تعاىلe( :لcيَـو cمَ أَكcمَل ُ
َ^ب مِن شَ ى cءٍ ثُمهَّ إِلَى
eل cسلَ^مَ دِينًا) 14.فام معـنى االكتامل هنا إذ ًا؟ وقال تعـاىل( :مهَّا فَرهَّ طcنَا فِى eلcكِ ت ِ
يت لَكُ مُ ِ c
رَض ُ
وَ ِ
رَ بِّهِم cيُح cشَ رُ ونَ) 15.ولـكن ماذا إن أرص االقتصـاديون والقانـونيون وعلـامء االجتامع واملخططـون عىل رأهيم ! فهنا
اخـتالف بيننـا .عندهـا هناك طـريقان إلقنـاعهم ،أحدمهـا إلزامي :أي إلـزام من رفض رشع اهلل بـاالنصيـاع إن كان
مسلام ً ،فال خرية له؛ واآلخر منطقي :وهو ما حياول هذا الكتاب طرحه .وسنبدأ باإللزامي .فإن مل تكن أهيا القارئ
ممن يؤمنون بأن القرآن الكريم كالم اهلل العليم احلكيم ،فبإمكانك قفز الصفحات الست اآلتية إىل العنوان التايل يف
هذا الفصل ،أي إىل Xاحلداثة :عقالنية أم أهواء.Z
51 2قصور العقل
يا سـبحان اهلل ،إن مـا قاله الـشيخ الشـنقيطـي يرمحه اهلل ،شـديد عىل كـل من رجع لغري اهلل يف أصغـر أمور
احلكم ،فام بالنـا بأمور التخطيـط أو االقتصاد أو السياسـة أو التنمية والتي تـرفع وتضع فئات من املجتمع من خالل
سلب احلقوق وإعطاء اآلخرين حقـوقاً :فعندما يمنع النـاس من إحياء األرض بدعوى التنـظيم فقد سلبوا حقوقهم.
وعنـدما يمنع من أراد السفر من بلد مـسلم آلخر إال بتأشرية دخول بدعـوى األمن فقد سلب من حقه كابن السبيل،
وكـذلك عندما يمـنع من أراد الزواج بمسلمـة من دولة جماورة فقد سـلب من حقه ،وعندما يـمنع من أراد املتاجرة يف
بلد مسلم غري مـوطنه فقد منع من حـقه .ومن أراد أن يرضب يف األرض ويستخرج مـن معادهنا فإنـه سيمنع بدعوى
أهنا مـلك للدولـة (وسيأيت بـيانه بـإذن اهلل) .وسلب احلقـوق هذا هـو أهم سبب لـتخلف املسلـمني كام سنـرى بإذنه
تعاىل .ثم يوضح الشيخ الشنقيطي أثابه اهلل وأسكنه فسيح جناته أسباب استحالة أخذ األحكام من غري اهلل فيقول:
Xاعلم أن اهلل جل وعال ّبني يف آيـات كثرية صفات من يستـحق أن يكون احلكم له ،فعىل كل عاقل أن
يتـأمل الصفـات املـذكـورة الـتي سنـوضحهـا اآلن إن شـاء اهلل ،ويقـابلهـا مع صفـات الـبرش املـرشعني
للقـوانني الوضعـية ،فينظـر هل تنطبق علـيه صفات من له التـرشيع ،سبحان اهلل وتعـاىل عن ذلك ،فإن
قص احلق 52
كانت تنطبق عليهم ولن تكون ،فليتبع ترشيعهم .وإن ظهر يقيناً أهنم أحقر وأخس وأذل وأصغر من
ذلك ،فليقف هبم عند حـدهم ،وال جياوزه هبم إىل مقـام الربوبـية .سبحانـه وتعاىل أن يكون له رشيك
يف عبـادتـه ،أو حكمه أو ملـكه .فمن اآليـات القـرءانيـة التي أوضح هبـا تعـاىل صفـات مـن له احلكم
eلل) ،ثم قـال مبيـناً صفـات من له والتـرشيع قولـه هنا( :وَ مَـا eخ cتَلَفcتُم cفِيهِ مِن شَ ـى cءٍ فَحُ ك cمُهُ /dإِلَى هَّ
َرcض جَ ع ََل لَكُ م مِّنc وَeل ِ
^ت c eلـسمَ^وَ ِ ِيـب 10#فَاطِ رُ هَّ cت وَ إِلَيcهِ أُن ُ eلل رَ بِّى عَ لَـيcهِ تَوَ كَّل ُ
احلكـم( :ذَ^لِكُ مُ هَّ ُ
eلسمِيعُ eلcب َِصيُ 11#لَهُ/ cس كَـمِثcلِهِ\ شَ ى cءٌ وَهُ وَ هَّ eلنcعَ^مِ أَز cوَ ^جً ا يَذ cرَ ؤُ كُم cفِيهِ لَي َ
أَنفُسِ كُ ـم cأَز cوَ ^جً ا وَ مِنَ َ c
َرcض يَب ُcسـطُ eل ِّرزَ cق لِمَـن يَشَ اdءُ وَ يَـقcدِرُ إِنَّهُ /بِكُ ّ ِل شَ ى cءٍ عَ لِيمٌ (،11 ،10- 42 وَeل ِ ^ت c eلسمَ^وَ ِمَقَالِيـدُ هَّ
.))12فهـل يف الكفرة الفجـرة املرشعـني للنظم الـشيطـانية ،مـن يستحق أن يـوصف بأنه الـرب الذي
تفوض إليه األمور ويتوكل عليه ،وأنه فاطر السموات واألرض ،أي خالقهام وخمرتعهام ،عىل غري مثال
سابـق ،وأنه هو الـذي خلق لـلبرش أزواجـاً ... ،وأنه ليـس كمثله يشء وهـو السـميع البـصري ،وأنه له
مقـاليد السمـوات واألرض ،وأنه هو الذي يـبسط الرزق ملن يـشاء ويقدر ،أي :يضـيقه عىل من يشاء،
وهو بكل يشء علـيم .فعليكم أهيا املـسلمون أن تتفهـموا صفات من يـستحق أن يرشع وحيلل وحيرم،
وال تتقبلـوا ترشيعـاً من كافـر خسيـس حقري جاهل .ونـظري هذه اآليـة الكريمـة قوله تعـاىل( :فَإِن
ي وَ أَحَ cسنُ
ِك خَ ٌ c
eلخِ رِ ذَ^ل َِeلل وَeلcيَو cمِ َ c
eلل وَeلرهَّ ُسولِ إِن كُنتُم cتُؤ cمِنُو َن ب هَّ ِ تَنَ^زَ ع cتُم cفِى شَ ى cءٍ فَرُ دُّوهُ إِلَى هَّ ِ
eلل)Z... eلل) ،كقوله يف هذه( :فَحُ ك cمُهُ /dإِلَى هَّ ِيل ( ،))59-4فقوله فيها( :فَرُ دُّوهُ إِلَى هَّ تَأcو ً
اطلاوغت
إن من عبد صنام ً فـإنام إثمه عىل نفسه بـرغم أن هذا جرم شـنيع يف حق اخلالق الذي أكـرم اإلنسان وفضله،
أما من حتاكم إىل غري اهلل فإن رشه سيرسي يف األمة كلها ألنه برضائه باحلكم بغري ما أنزل اهلل قد ساهم بالتأكيد يف
نرش الـتلوث البيئي واالنحـالل اخللقي كام سأثبت بـإذن اهلل ،لذلك فقد كفـر يف بعض األقوال (وسيـأيت بيان األقوال
املختـلفة يف فـصل Xاحلكم Zبـإذن اهلل) .ولعلك تـتسـاءل :ملاذا هـذا التغليـظ يف احلكم عىل مـن يوحـد اهلل عز وجل
وحيكم بغري الرشيعة؟ فأقول :إن توحيد اهلل يعني بالرضورة احلكم برشعه يف مجيع أمور احلياة .فعندما تقرأ آية مثل
َوَاصو cاْ بِeلcحَ ّ ِق) ،يف سورة العرص ،فتأكـد أن كلمة احلق تشتمل أيضـاً عىل االمتثال لفقه املعامالت؛
قوله تعـاىل( :وَ ت َ
eللَ) ،تـأكد أن العبادة تعني أيضاً االلتجاء إليه يف احلكم بني
وعـندما متر عليك آية مثل قوله تعاىل( :أ اََّل تَعcبُدُ و dاْ إ اَِّل هَّ
ِeلل إ اَِّل وَهُ م مُّش cرِكُونَ) ،أي أن الذين آمنوا
cثهُ م ب هَّ ِ
الناس .أمل يقل اهلل الغني العزيز يف سـورة يوسف( :وَ مَا يُؤ cمِنُ أَك َ ُ
بوحـدانية اهلل وجلـؤا لغريه يف تدبـري أمور حيـاهتم كثري .والبـد هلؤالء الكـثر من حـاكم حيكم هلم .فـإن حكم هذا
احلـاكم بغري رشع اهلل فـال مفر عنـدها مـن التلوث الـبيئي واالنحالل اخلـلقي .لذلـك كانت صفـة من ريض أن حيكم
بغري ما أنزل اهلل أنه طاغوت .ولتتأكد مما أقوله تريث يف قراءة اآليت مما قاله الشيخ الشنقيطي يرمحه اهلل:
eلل) من الذين يدعون اإليامن مع أهنم Xوقـد عجب نبيه صىل اهلل عليه وسلم بعد قوله( :فَرُ دُّوهُ إِلَى هَّ
يـريدون املحاكـمة إىل من مل يتـصف بصفات مـن له احلكم املعرب عنه يف اآليـة بالطـاغوت ،وكل من
حتاكم إىل غري رشع اهلل فهو حتاكـم إىل الطاغوت؛ وذلك يف قوله تعـاىل( :أَلَم cتَرَ إِلَى eلاَّذِينَ يَز cعُ مُو َن
ُوت وَ قَد cأُمِرُ و dاْ أَن
ِك يُـرِيدُ و َن أَن يَتَحَ اكَمُو dاْ إِلَـى eلطاَّ^غ ِ
cك وَ مَا dأُنز َِل مِن قَبcل َ
أَنَّهُم cءَامَنُواْ بِمَـا dأُنز َِل إِلَي َ
َ^ل بَعِيدً ا ( .))60-4فالكفـر بالطاغوت الذي رصح اهلل يَك cفُـرُ واْ بِهِ\ وَ يُرِيدُ eلشَّ يcطَ^نُ أَن ي ُِضلاَّهُمَ cضل ً
ُوت
بـأنه أمـرهم به يف هـذه اآليــة ،رشط يف اإليامن؛ كام بـينه تعـاىل يف قـوله( :فَمَـن يَك cفُر cبِeلـطاَّ^غ ِ
53 2قصور العقل
ك بِeلcعُر cوَ ةِ eلcوُ ثcقَى ( .))256-2فيفـهم منه أن من مل يكفـر بالطـاغوت مل eستَـم َcس َ ِeلل فَقَ ِد c
وَ يُؤ cمِن cب هَّ ِ
يتمسك بـالعروة الوثقى ،ومن مل يتمـسك هبا فهو مرتد مع اهلالكني .ومـن اآليات الدالة عىل ذلك قوله
وَل يُش cرِكُ فِى َرcض أَب ِcصر cبِهِ\ وَ أ َcسمِع cمَـا لَهُم مِّن دُونِهِ\ مِن وَ ل ٍ ِّى َ وَeل ِ ^ت c eلسمَ^وَ ِ cب هَّ تعـاىل( :لَهُ /غَي ُ
حُ ك cمِهِ \dأَحَ ـدً ا ( .))26-18فهل يف الكفـرة الفجـرة املـرشعني من يـستحق أن يـوصف بـأن لـه غيب
الـسمــوات واألرض؟ وأن يبـالـغ يف سمعـه وبرصه إلحـاطــة سمـعه بكل املـسمـوعـات وبـرصه بكل
املبـرصات؟ وأنه ليس ألحد دون من ويل؟ سبحانه وتعاىل عن ذلك علو ًا كبري ًا .ومن اآليات الدالة عىل
ِك إ اَِّل وَج cهَهُ /لَهُ eلcحُ ك cمُ ل إِلَ^هَ إ اَِّل هُ وَ ك ُُّل شَ ى cءٍ هَ ال ٌ eلل إِلَ^هًـا ءَاخَ رَ | َ d (وَل تَد cعُ مَعَ هَّ ِ ذلك قـوله تعاىلَ :
وَ إِلَيcهِ تُـرcجَ عُـو َن ( .))88-28فهل يف الكفـرة الفجـرة املـرشعـني من يــستحق أن يـوصف بـأنه اإلله
الواحـد؟ وأن كل يشء هالـك إال وجهه؟ وأن اخلالئق يرجعـون إليه؟ تبـارك ربنا وتعـاظم وتقدس أن
eللُ يـوصف أخس خلقه بـصفاته .ومن اآليـات الدالـة عىل ذلك قوله تعـاىل( :ذَ^لِكُ م بِأَنَّهُ /dإِذَا دُعِ ىَ هَّ
لل eلcعَل ِ ِّى eلcكَ بِيِ ( .))12-40فهـل يف الكفرة الفجرة وَح cدَ هُ /كَفَر cتُم cوَ إِن يُـش cرَك cبِهِ\ تُؤ cمِنُواْ فَeلcحُ ك cمُ ِ هَّ ِ
املرشعني للنظم الشيطانية ،من يستحق أن يوصف يف أعظم كتاب ساموي بأنه العيل الكبري؟ سبحانك
ربنـا وتعاليـت عن كل ما ال يلـيق بكاملك وجاللك .ومن اآليـات الدالـة عىل ذلك قوله تعـاىل( :وَهُ وَ
وَeلخِ ـرَ ةِ وَ لَهُ eلcحُ ك cمُ وَ إِلَيcهِ تُـرcجَ عُـونَ 70#ق ُcل أَرَ ءَيcتُم cإِن ل إِلَ^هَ إ اَِّل هُ ـوَ لَهُ eلcحَ مcدُ فِـى ecلُولَى َ c eلل َ d
هَّ ُ
eلل يَأcتِيكُ م ب ِِضيَاdءٍ أَف ََل ت َcسمَعُونَ 71#ق ُcل َي هَّ ِ eلل عَ لَيcكُ مُ eلاَّي َcل َسر cمَدً ا إِلَى يَو cمِ eلcقِيَ^مَةِ مَن cإِلَ^هٌ غ ُ c جَ ع ََل هَّ ُ
eلل يَأcتِيكُ م بِلَيcلٍ ت َcسكُ نُو َن َي هَّ ِeلل عَ لَيcكُ مُ eلنَّهَـارَ َسر cمَدً ا إِلَى يَو cمِ eلcقِيَ^مَةِ مَـن cإِلَ^هٌ غ ُ c أَرَ ءَيcتُم cإِن جَ ع ََل هَّ ُ
فِيهِ أَف ََل تُب ِcصـرُ ونَ 72#وَ مِن رهَّ ح cمَتِهِ\ جَ ع ََل لَـكُ مُ eلاَّي َcل وَeلنَّهَـارَ لِت َcسكُ ـنُواْ فِـيهِ وَ لِتَبcتَغُـواْ مِن ف َcضلِهِ\
وَ لَعَلاَّكُ ـم cتَش cكُ ـرُ و َن ( .))73، 72 ،71 ،70-28فهل يف مـرشعي القـوانني الــوضعيـة ،من يــستحق أن
يوصف بأن له احلمد يف األوىل واآلخـرة ،وأنه هو الذي يرصف الليل والنهار مبيناً بذلك كامل قدرته،
وعظمـة إنعامه عىل خلقه؟ سبحان خالـق السموات واألرض جل وعال أن يكون له رشيك يف حكمه،
لل أَمَرَ أ اََّل تَعcبُدُ و dاْ إ اَِّلd أو عبادته أو ملكـه ،ومن اآليات الدالـة عىل ذلك قوله تعـاىل( :إِنِ eلcحُ ك cمُ إ اَِّل ِ هَّ ِ
َّـاس َل يَعcلَمُو َن ( ،))40-12فـهل يف أولئك من يـستحق أن cث eلن ِِك eل ّ ِديـنُ eلcقَيِّمُ وَ لَ^كِ نهَّ أَك َ َ إِيهَّـاهُ ذَ^ل َ
يوصف بأنه هو اإلله املعبود وحده ،وأن عبادته وحـده هي الدين القيم؟ سبحان اهلل وتعاىل عام يقول
cت وَعَ لَيcهِ فَلcيَتَوَ كَّلِ eلcمُتَوَ كِّلُو َن لل عَ لَيcهِ تَوَ كَّل ُ
الظاملون علو ًا كبـري ًا .ومنها قوله تعاىل( :إِنِ eلcحُ ـك cمُ إ اَِّل ِ هَّ ِ
( .))67-12فهل فـيهم من يـستحق أن يتـوكل عليـه ،وتفوض األمـور إليه؟ ومنهـا قولـه تعاىل( :وَ أَنِ
cك eلل إِلَي َ
cض مَـا dأَنزَ َل هَّ ُ وَل تَتَّبِع cأَه cوَ اdءَهُ م cوَeح cذَ رcهُ ـم cأَن يَفcتِنُوكَ عَ ن cبَع ِ eلل َeح cكُ م بَـيcنَهُم بِمَا dأَنـزَ َل هَّ ُ
َّـاس لَفَ^سِ قُونَ49# cض ذُنُوبِهِـم cوَ إِ َّن كَثِيًا مِّنَ eلن ِ eلل أَن ي ُِصيبَهُـم بِبَع ِ فَإِن تَـوَ لاَّو cاْ فَeع cلَم cأَنَّمَـا يُرِيـدُ هَّ ُ
eلل حُ ـك cمًا لِّقَـو cمٍ يُوقِـنُو َن ( .))50،49-5فـهل يف أولئك أَفَحُ ك cمَ eل َcج^هِلِيهَّـةِ يَبcغُـو َن وَ مَن cأَحَ cسنُ مِنَ هَّ ِ
املرشعـني من يستحق أن يوصف بأن حكمه بام أنزل اهلل وأنه خمالف التباع اهلوى؟ وأن من توىل عنه
أصـابه اهلل ببعـض ذنوبـه؟ ألن الذنـوب ال يؤاخـذ بجميعـها إال يف اآلخـرة؟ وأنه ال حكم أحـسن من
eلل أَبcتَغِى حَ ـكَ مًا وَهُ ـوَ eلاَّذِي dأَنـزَ َل إِلَيcكُ مُ َي هَّ ِ حكمه لـقوم يـوقنـون؟ ....ومنـها قـوله تعــاىل( :أَفَغ َ c
ّك بِeلcحَ ّ ِق ف ََل تَكُ ـونَنهَّ مِنَ َ^ب يَعcلَمُـو َن أَنَّهُ /مُنَـزَّ ٌل مِّن رهَّ بِ َ َ^ب مُف هََّص ًل وَeلاَّـذِينَ ءَاتَيcنَ^هُـمُ eلcكِ ت َ eلcكِ ـت َ
ّك ِصد cقًا وَعَ د cاًل ( ... .))115 ،114-6أي صدقاً يف األخبار وعدالً يف َت رَ بِ َ هَّت كَلِم ُ eلcمُم َcتِينَ 114#وَ تَم c
َ^ل وَهَ ^ذَ ا ِب هَ ^ذَ ا حَ ل ٌ (وَل تَقُـولُواْ لِمَـا ت َِص ُف أَلcسِ نَتُـكُ مُ eلcكَ ذ َ األحكـام .... ...ومنـها قـوله تعـاىلَ :
ِيل وَ لَهُمc ِب َل يُفcلِحُ و َن 116#مَتَ^عٌ قَل ٌ eلل eلcكَ ذ َ cتو َن عَ لَى هَّ ِ ِب إِ َّن eلاَّـذِينَ يَف َ ُ eلل eلcكَ ذ َ cتواْ عَ لَى هَّ ِ حَ رَامٌ لِّتَف َ ُ
اب أَلِـيمٌ ( .))117 ،116-16فقــد أوضحت اآليـة أن املـرشعـني غري مــا رشعه اهلل إنام تـصف عَ ـذَ ٌ
ال ثـم يعذبون العذاب ألسنـتهم الكذب؛ ألجل أن يفرتوه عىل اهلل ،وأهنم ال يفلحـون وأهنم يمتعون قلي ً
األليم ،وذلك واضح يف بعـد صفاهتم مـن صفات من له أن حيـلل وحيرم .ومنهـا قوله تـعاىل( :ق ُcل هَ لُمهَّ
قص احلق 54
eلل حَ رهَّ مَ هَ ^ذَ ا فَإِن شَ هِدُ واْ ف ََل تَش cهَد cمَعَهُم .))150-6( cفقوله( :هَ لُمهَّ
شُ هَدَ اdءَكُمُ eلاَّذِينَ يَش cهَدُ و َن أَ َّن هَّ َ
شُ هَدَ اdءَكُمُ ) صيغـة تعجيـز ،فهم عاجـزون عن بيـان مستـند التحـريم ،وذلك واضح يف أن غري اهلل ال
يتصف بصفـات التحليل وال التحـريم ،وملا كـان الترشيع ومجـيع األحكام ،رشعيـة كانت أو كـونية
قدريـة ،من خـصائـص الربـوبيـة؛ كام دلت علـيه اآليات املـذكورة كـان كل من اتـبع ترشيعـاً غري
ترشيع اهلل قد اختذ ذلك املرشع رباً ،وأرشكه مع اهلل.Z.... .
اختاذ ألارابب
كام يؤكـد الشيخ الشنقيطـي عىل أن من اتبع ترشيعاً غري ترشيـع اهلل فقد اتبع الشيطان ،وهـذا رشك بالنسبة
له .لـيس هـذا فحسـب ،ولكن هنـاك شيـاطني اإلنـس وهم الـذين بحـكمهم بغـري ما أنـزل اهلل يرغـمون الـناس عىل
اتباعهم ،فام هو ُحكم هؤالء التابعني؟ وما أكثرهم ! تأمل ما قاله الشيخ الشنقيطي يرمحه اهلل:
Xفقوله تعـاىل( :ب َcل كَانُواْ يَعcبُدُ و َن eلcجِ نهَّ ) ،أي يتبعون الشياطني ويطـيعوهنم فيام يرشعون ويزينون
هلم مـن الكفر واملعـايص ،عىل أصح التفـسريين .والشـيطان عـامل بأن طـاعتهم له املـذكورة إرشاك به
َالكام رصح بذلك وتـربأ منهم يف اآلخرة؛ كام نص اهلل علـيه يف سورة Xإبراهيم ،Zيف قـوله تعاىل( :وَ ق َ
eلل وَعَ ـدَ كُم cوَع cدَ eلcحَ ّ ِق وَ وَعَ ـدتُّكُ م cفَـأَخ cلَفcتُكُ م ،) cإىل قـوله( :إِنِّى
eلمcرُ إِ َّن هَّ َ
eلـشَّ يcطَ^نُ لَمهَّـا ق ُِضىَ َ c
َرcت بِمَـا dأَش cرَ كcتُمُونِ مِن قَب ُcل ( ،))22-14فقـد اعرتف بأهنم كـانوا مـرشكني به من قبل ،أي يف دار كَف ُ
الدنيا ،ومل يكفر برشكهم ذلك إال يـوم القيامة .وقد أوضح النبي صىل اهلل عليه وسلم هذا املعنى الذي
بينا يف احلـديث ملا سألـه عدي بن حاتـم ريض اهلل عنه عن قولهe( :تَّخَ ـذُ و dاْ أَح cبَارَهُ م cوَ رُه cبَ^نَهُم cأَر cبَابًا
( ،))31-9كيف اختذوهـم أرباباً؟ وأجـابه صىل اهلل عليه وسلم أهنم أحلـوا هلم ما حـرم اهلل ،وحرموا
عليهـم ما أحل اهلل فاتبعوهم ،وبـذلك االتباع اختذوهم أربابـاً .ومن أرصح األدلة يف هذا أن الكفار إذا
أحلـوا شيئـاً يعلمـون أن اهلل حرمه وحـرموا شـيئاً يـعلمون أن اهلل أحـله ،فإهنم يـزدادون كفر ًا جـديد ًا
(وَeلل َل
هَّ ُ بذلك مع كفرهم األول؛ وذلك يف قوله تعـاىل( :إِنَّمَا eلنَّسِ ى dءُ زِيَادَةٌ فِى eلcكُ فcرِ) ،إىل قوله:
يَـهcدِي eلcقَو cمَ eلcكَ ^فِـرِينَ ( .))37-9وعىل كل حـال ،فال شـك أن كل من أطـاع غري اهلل ،يف تـرشيع
خمالف ملا رشعه اهلل فقد أرشك به مع اهلل .Z...
إن يف النصـوص السـابقة ،وبـالذات يف إجـابة الـرسول صىل اهلل علـيه وسلم ملا سـأله عدي بن حـاتم يف اختاذ
األرباب (سورة التوبة :اآلية ،)31استنتاج قوي بأن من أطاع غري اهلل راضياً فقد أرشك ،وتأكيد عىل أن املقصود من
العبادة هـو أيضاً فقـه املعامالت .ويتـضح هذا من اآليـة التي تليهـا .فقد قـال تعاىلe( :تَّخَ ـذُ و dاْ أَح cبَارَهُ م cوَ رُه cبَ^نَهُمc
ل إِلَ^هَ إ اَِّل هُ وَ ُسبcحَ ^نَهُ /عَ مهَّا يُش cرِكُونَ31#
eلل وَeلcمَسِ يحَ eبcنَ مَر cيَمَ وَ مَا dأُمِرُ و dاْ إ اَِّل لِـيَعcبُدُ و dاْ إِلَ^هًا وَ ^حِ دً ا اَّ d
أَر cبَابًا مِّن دُونِ هَّ ِ
ِل أَن يُتِمهَّ نُـورَ هُ /وَ لَو cكَرِهَ eلcكَ ^فِرُ ونَ) .فكيف يتم اهلل نوره إال إن
eلل إ اَّ d
eلل بِأَفcوَ ^هِهِم cوَ يَأcبَى هَّ ُ
يُرِيـدُ و َن أَن يُطcفُِEواْ نُورَ هَّ ِ
هـدى البرش للـحكم بام رشع سبحـانه وتعاىل فـينترش بـذلك يف املجتمع العـدل والسـعادة والنقـاء عىل حسـاب الظلم
والتعاسـة والتلوث .أي أن الرشك رشكـان :أحدمها إنكـار وحدانية اهلل ،واآلخـر احلكم بغري رشع اهلل ،وهنـا خطاب
واضح ألولئك املـرجئة (كـاجلاميـة واملدخليـة) الذين يـريدون النـاس اخلنوع ألويل األمـر كيفام حكمـوا .فلو أهنم
ال،
أدركـوا حجم ذُل األمة بسبب حكم هـؤالء احلكام الذين مل يتمسكـوا برشع اهلل كالتهاون مع البـنوك الربوية مث ً
ملا قـالوا بطاعتـهم .فهم ال يميزون بني الـرشكني برغم أن هذا الـتمييز يظهـر بوضوح يف الكثـري من اآليات مثل قوله
55 2قصور العقل
فصل
إن اآليات تصف الـبرش الذين يتبعون أهواءهم باحلكم بغري ما أنزل اهلل بأهنم جمرمون .فالعيل القدير ُي ّ
اآليات حتى يـتبني لنا احلق من الـباطل ،وبذلك ال نتـبع سبيل املجرمني ألنه قـد استبان لنـا ،فقد هنينـا عن إطاعة من
حيكـم بغري ما أنـزل اهلل ،ألن من فعل فقـد اتبع أهواء الـكفرة ،وعنـدها يـأيت الضالل ويضـيع اهلدى .فكـأن اآليات
تقول للرسول صىل اهلل عليه وسلم :يا حممد ،قل ملن ال يؤمن بالرسالة بأنك هنيت أن تطيع يف األحكام أحد ًا من دون
قص احلق 56
بعـد قراءة ما سبـق من كالم الشيخ الشـنقيطي يرمحه اهلل ،ومـا بيناه من مقـصوصة احلقـوق يف التعيل كمثال
لتغري احلقـوق بالعمـل بتخصص الـتخطيط ،أتـرك لك العودة ألهل العـلم الرشعي يف أولـئك الذين يـأخذون بـالعلوم
اإلنسـانية لإلجابة عىل سـؤالنا األول وهو :هل األخذ بـالعلوم اإلنسانيـة كفر ألنه سيؤدي إىل نفي تـوحيد األلوهية؟
فلم يكن اهلدف من إثارة هذا السـؤال هو التكفري لزيادة الشقة ،ولكن لتـوضيح عظم جرم من قام باحلكم بغري ما
أنـزل اهلل ،فهذا الكـتاب سيحـاول أن يثبـت أن السبب الـرئيس لـتخلف املسلـمني هو يف حـكمهم بغري مـا أنزل اهلل.
فـالتكفـري مراتـب ،فالكـافر هـو من اعـتقد بـأن حكم البـرش أفضل من حكـم اهلل ،أما مـن حكم بغري مـا أنزل اهلل
مضـطر ًا ،كأن يـكون موظفـاً يطبق ما أمـر به ،فإن من العلـامء من ال يكفره ومنهـم من يعترب ذلك من الكـبائر وأنه
عـاصيا .وهذا الكتاب عن التمكني وليس يف أحكام التكفري .لـذلك نرتك هذه املسألة ملن هم أهل هلا .فهذا موضوع
ال :هناك قـول أن اإلطاعة يف املعصيـة بغري اعتقاد ِحلهـا ال تكون كفر ًا
قد تبحـر فيه علامء الرشيعة أثـاهبم اهلل ،فمث ً
بل معـصية ،بينام اإلطـاعة يف التحليل والتـحريم تكون رشكـاً ،ومذاهب أخرى واضحـة وبأدلة جليـة .ومل أثر هذه
املسألـة إال ألوضح ملن يؤمنون بأن القـرآن الكريم هو كالم اهللِ ،عظم ُجـرم من اعتقد أن اإلسالم دين قد ال يالئم
متطلبـات احلارض .وهبذا يكـون السؤال األهم لنـا اآلن هو :ملاذا وكـيف خرجت املجتمعـات عن حكم اهلل سبحانه
وتعاىل إىل حكم البرش؟ أي كيف حدنا عن الطريق؟ واإلجابة باختصار :لقد بدأت باستخدام العقل ضد النص منذ
الـعهود األوىل (وهـذا هو مـوضوع الفـصول 2إىل 9وبـالذات فـصيل Xالديـوان Zو Xاملكـوس Zبإذنـه تعاىل) ،إال أن
الوضع تفاقم بتـأثر املجتمعات املسلمـة بالغرب الذي أخذ بـالعقالنية يف احلداثة ،وهي مـوضوعنا اآليت ،ومن ثم فإن
هذا أدى إىل العقالنية يف استنباط األحكام يف الرشيعة بني املعارصين ،وهو موضوع اجلزء الثاين من هذا الفصل.
وهم األقل نـظافة واألكـثر مرضـاً برغم تعـاليم دينهم (الـوضوء) .لذلـك كانوا األرسع طـرد ًا كام حدث بـاألندلس،
واألسهل استعـامر ًا كام حدث يف مرص والشام ،واألكـثر تبعية كام حصل بـشامل أفريقيا ،واألكثـر اتكالية كام هو
باخلليج العريب ،وهكـذا أصبحوا األمسخ هوية ،واألشد متزقاً ،واألقل إنـتاجاً ،واألكثر استهالكاً ،وبالطبع األضعف
شوكة ،بينام احتمى بعض علامئهم خلف أسوار جامعـاهتم ،وتقوقع آخرون داخل جملدات تراثهم برشحه واختصاره
ومجعه ،واقـرتب آخرون من حكامـهم ونافق ،وقليل هم الـذين احتكوا بـاملجتمعات وقـاوموا السـلطات ولكن اخلري
الكثري فيهم بإذنه تعاىل .لذلك ُح ّق عىل املسلمـني بأن يتوجوا بأجهلهم قادة .فهذا قذف احلق بكتابه األخرض ،وذاك
صـدم شعباً بـأخيه ،ومنهم من سـاد اآلخرين وسبـقهم بالتـسليم لليهـود ثم أتى خليـفته وبارك ذاك االستـسالم ،فقام
جاره بعد سنني واستحسن هـذا االستسالم وطبّعه ،ومنهم من استأسد عىل شعبه وطغى وتسلط ،وهكذا كام يكونوا
يـوىل عليهم :جهلة خـرجوا عن حكم اهلل فـحكمهم من هو أجهل مـنهم! فهل يف العامل اإلسالمي ،والعـريب بالذات،
من هو أجـهل من الطبقـات احلاكمـة .فإن كـانت الرشيعـة تؤدي ملجـتمع عزيـز قوي كـام أزعم يف هذا الـكتاب،
فلامذا ختلف املـسلمون؟ للوقوف عىل هـذا جيب علينا أن نبحث أوالً عـن اإلجابة لسؤال معـاكس وهوX :ملاذا تقدم
العامل الغريب؟ Zلعلنا نصل إىل يشء بإذنه تعاىل.
ال يستطيـع أي منا أن ينكر أن البرشيـة حتت مظلة معتقدات العـامل الغريب أو الليربايل أو الرأساميل حققت
ال ،وقللت ساعات العمـل ملوظفيها من خالل
الكثري من اإلنجازات .فـقد متكنت من ختفيف آالمهـا بتقدم الطب مثـ ً
اآللة ،وقربت أطـراف األرض بالتقنية ،ورفهت أنـاسها باإلثارة من مشـاهد وألعاب ،وأتاحت للمتـباهني منهم فرصة
التفاخر بالتمتع بالزيـنة واقتناء الرصعات .ومن جهة أخرى ،ومن خـالل التصنيع ،فقد جعلت معظم هذا يف متناول
أيدي املقتـدرين منهم .فقـد تضاعفـت يف القرن العرشيـن قيمة البـضائع واخلدمـات املنتجة سـنوياً عـرشين ضعفاً،
وتضـاعف استهالك الطاقـة ثالثني ضعفاً ،واملـنتجات الصـناعية مخـسني ضعفاً .كـام أن دول العامل الرأسـاميل مقارنة
بدول الـعامل الثـالث حفـظت لإلنسـان حريـة القول واملـشاركـة يف اختاذ القـرار من خالل آليـات التعـددية احلـزبية
والديمقراطية .أي أن الغرب حقق حتت شعار احلداثة مرشوع ديكارت يف السيطرة عىل الطبيعة قدر املستطاع.
ولكـن يف الوقت ذاته قادت جمـتمعات احلداثـة الكرة األرضيـة للتلوث البيـئي واالنحالل اخللقي والظلم ،أي
إىل الفساد .فالتـلوث أنواع :منها تلوث اهلـواء بالغازات ،والتلوث اإلشعـاعي من حمطات الطاقـة ،والتلوث الكيميائي
من املبـيدات احلـرشية ،والـتلوث احلـراري من خملفـات املصـانع من امليـاه السـاخنـة التي تلقـى يف األهنار والـبحار،
والرضر النـفيس من الضـوضاء ،وهـكذا من ملـوثات الكل يـعلمها .وبـالنسبـة للفسـاد اخللُقي ،فمـرض نقص املنـاعة
املعروف باإليدز والذي يصـيب الشاذين جنسياً قتل حتى العـام 2001م أكثر من 34مليون شخص .ولعل َ
األم ُّر هو
الظلم ،فقـد مزقت احلـداثة شعـوب العامل إىل غـني وفقري ،فحتـى التسعيـنات من القـرن املايض كـان يف العامل 157
بليـونري ًا ومليـوين ملـيونـري ،يف حني أن مئـة ملـيون نـسمـة كانـوا يعيـشون دون مـأوى يف حاويـات القاممـة وحتت
األرصفة .وبـإمكانك أن تتصور شدة هذا الفارق يف الثراء إن أدركت أن ما يملكه أغنى ثالثة بليونريات يفوق إنتاج
أفقـر 48دولة يف العامل؛ فدخل رجل احلـاسبات اآللية (بيل جـيت) ارتفع ليصل يف منتصف التـسعينات إىل 64بليون
دوالر كـأغنى رجـل يف العامل ليهـزمه رجل أعامل آخر يـملك حمالت جتاريـة يف السنـة التي تلـيها ليـصبح األثرى يف
العـامل ،يف وقت يعيـش فيه أكثـر من بلـيون وثـلث إنسـان عىل دخل يقل عن دوالر واحـد يومـياً ،وحـوايل %32من
قص احلق 58
سكان دول العامل الثالث يعيشون عىل ما يقل عن أربعة دوالرات يومياً .أما يف العامل الصناعي الذي يدعي التحرض،
فــإن %11من سكـانه يعـيشـون عىل دخـل يقل عن 4.14دوالر يـوميـاً .ويف املجمـوع فــإن %20من سكـان األرض
حيصلـون عىل %83تقـريبـاً من جممـوع دخل العـامل ،بيـنام يعيـش %20من أفقـر الفقـراء عىل %4.1من دخـل العامل.
وهناك إحصـائية أخرى تقـول أن 358ملياردير ًا يف عـام 1997امتلكوا أرصـدة تفوق جمموع مـداخيل نصف سكان
األرض .ومن الناحية الغذائية فإن األمـريكيني ينفقون سنوياً مخسة باليني دوالر لوجبات غذائية لتخفيف أوزاهنم،
يف وقـت يعيش فيه 400ملـيون نسمـة عىل الكفاف ويعـانون من اإلعـاقة يف النـمو أو التخلف العقيل بـسبب الفقر.
وبالـنسبة للمـرافق الصحية ،فـإن نصف سكان الكـرة األرضية ال يتمتعـون باملراحيـض الصحية .كام أن يـنبوع مياه
إفيـان يف فرنسـا يشحن للـمرفهني إىل مجيع أطـراف األرض ،بينام يـغتسل ويرشب حـوايل بليوين نـسمة امليـاه امللوثة.
ومن الناحية الثقـافية ،فبينام تزخر املكتبات بنحو مخسني بلـيون كتاب ،فإن حوايل 900مليون نسمة من البالغني ال
جيـيدون حـتى قـراءة أسامئهـم .وبالـنسبـة للنفقـات احلربـية ،فقـد اعتـمدت دول العـامل (سنـة )1988ترلـيون دوالر
أمريـكي لصـناعـة األسلحـة ،أي بمعـدل مائـتي دوالر لكل فـرد عىل وجه األرض ،يف حني فـشلت يف تـدبري مخـسة
دوالرات كنفقـات عالجية لكل طفـل مما أدى ملقتل أربعة عـرش مليون طفل .كام أن تكلفـة رشاء جهاز حاسب آيل
حممول لفرد يف الدول الصنـاعية تكفي لتطعيم ألفي طفـل ضد ستة أمراض يف الدول الفقـرية .وهكذا من إحصائيات
مقـززة أفرزهتا جمتمعات احلداثة Xحتى Zهناية القـرن العرشين (هذه الصفحات كتبت قبل أكثر من عرشة سنوات،
هلذا فـإن إحصائياهتا قديمة ،إال هـناك إحصائيات حديثة ستـأيت يف فصل Xالفصل والوصل ،Zومنها ستلحظ بإذن اهلل
تردي احلال أكثر وأكثر).
ال تدفع
كام أن احلداثة قسمت األمم إىل متمكن ومسلوب ،ومتبـوع وتابع ،دائن ومثقل بالديون ،فالفلبني مث ً
يـومياً للبنـوك نصف دخلها القـومي لتغطية فـوائد ديوهنـا فقط ناهيك عن الـديون ذاهتا .ويف مـوزانبيق فإن %25من
األطفال يموتون قبل بلوغ اخلـامسة من العمر بسبب األمراض املعديـة ،يف حني أن الدولة مضطرة لتخصيص ضعف
ما تنفقه عىل الصحـة والتعليم لسداد ديـوهنا 17.أي أن احلداثة مسخـت شعوب العامل الثالث املـسلوب إىل مجاعة من
ثراء وغناهـم بطر ًا .وهكذا
الفقراء واجلـهالء واملرضى ليرتكهـا املتعلمون من أبنـائها ويلحقوا بـالغرب لتزداد قـوهتم ً
من عـامل ثالث ،أو بـاألصح عامل متهـالك ،من يسء إىل أسوأ .وكل هـذا حتت شعار احلـداثة .ولـكنك قد تقـول :وما
دخل احلداثـة يف كل هذا البالء يف العامل؟ فـأقول :بل هي املسؤولـة الوحيدة كام سـرتى بإذن اهلل ،ولكن قبل إثبات
ذلك كام سيـأيت يف فصـول خمتلفـة ،وللخروج مـن هذا االستـعباد والـفقر واجلهل واملـرض ،البد يل من الـتذكري أوالً
بجذور احلداثة وباختصار شديد إذ أهنا مسألة جد معروفة للكثري من القراء.
املادةي
لقد كانت الكنيسـة هي املسيطرة عىل املجتمع .وكـان اإلنسان األورويب مسري ًا ال حقوق له وال إرادة إال من
خالل إرادة الكنيسـة .الكنيسة هي املرجع لكل ما هو سيايس واقتـصادي واجتامعي .وكانت بعض أحكام الكنيسة
تتعارض مع الـعقل أحيانـاً ،فبدأت مـسامهـات الفالسفة مـثل كانط وفـولتري وروسـو يف البحث عن خمـرج ملثل هذا
59 2قصور العقل
التعـطيل العقيل املرفوض ،فكان الطريق هو اهلروب من أغالل حكم الكنيسة إىل حكم العقل البرشي .وهذا النهج
الـفكري مل ينـترص وينتـرش إال يف القرن الثـامن عرش من خالل مـسامهـات أولئك الفالسفـة .وقد سمـي هذا النهج
الفكري كام هو معلوم بـ Xالتنوير .Zوأول من صاغ فلسفـة التنوير هو كانط ،فقد آمنت فلسفته بإمكانية تشكيل
دستور للحـرية مالئم جلميع احلضـارات وإمكانية إجيـاد سالم دائم بني األمم من خالل التقـدم البرشي عقلياً ودون
اللجوء لألديان ألهنا مصدر اخلالفات بني الشعوب .أي أن جـذور احلداثة مغروسة يف عرص التنوير كام هو معلوم.
وبالـطبع انترش هـذا الفكر بني أفـراد املجتمع وحبـذوه ألنه سيحررهـم من الكنيسـة الالعقالنية ،حتـى أتت الثورة
الفـرنسية (سـنة 1789م) وانترصت هـذه الفلسفة وانـترشت عىل مستـوى شعبي ،ثم أتت الـثورة الصنـاعية يف إنجلرتا
لـتؤكـد انتصـار حكـم عقل اإلنسـان عىل الكـنيسـة .فالـثورة الفـرنسـية حـررت الشعـوب األوروبيـة من االستـبداد
اإلقطاعـي إىل إجياد دستـور يضمن سيـادة دولة القـانون .فـكانت القـوانني التي هي مـن نسج عقل البـرش حتكم بني
الناس .أما الثورة الصناعية فقد حررت اإلنتاجية الصناعية برأسامليتها ونقلتها إىل آفاق أخرى اتسمت بالرفاهية من
خالل زيـادة االستهالك وتـسخري املـوارد الطـبيعيـة للمصـنوعـات ،وهكـذا تكـدست الـثروات .وهبـذا ظهـرت قيم
العقالنية والـديمقراطية أو ما يسمـى باحلداثة .أي أن العقل البرشي هـو املرجع واحل َ
كم ،فهو الذي حيكم من خالل
الديـمقراطيـة .ومن البـدهي أن يتبع كل رافـض للدين هلـذا املذهب اجلـديد املـسمى بـ Xالـتنويـر ،Zوهم كثري ألن
أحكام كنائسهم مل يكن ليقبلها عاقل .إال أن هناك عدة إشكاليات من أمهها الديمقراطية ،كيف؟
إن الـديمقراطية ما هي بـاختصار إال أداة حلكم الشعب؛ وهي أيـضاً أداة لتنظيم احلريـة .ولكن السؤال هو:
حكم من وتنـظيم من؟ إهنا حكم من هم أحياء من الناس وتنظيم شـؤون حياهتم .كيف؟ إن الديمقراطية احلقة هي
التـي تنتهـي بانـتخاب مـسؤولـني يقومـون بتحقيق رغـبات ومـصالح الـشعب من خالل أدوات عـدة مثل الربملـانات
واألحـزاب وتداول السلطة .ولكن رغبات ومصالح أي شعب؟ إنه الـشعب الذي يعيش اآلن ،وليس من سيأتون بعد
عرشات أو مئـات السنني .فهـؤالء الذي مل يولـدوا بعد ،ال تصـويت هلم ،لذلك فـإن مصاحلهم لن يـؤخذ هبا ألهنم مل
يـولدوا بعد .وهذه من أهم كوارث الـديمقراطية كام سيتـضح بإذن اهلل .فعندما يقوم سلـطان أو حكومة باالقرتاض
بـإصدار سنـدات ماليـة فإنـام هم يرحلـون مآزقـهم املاليـة لألجيال القـادمة ،واألهـم هو أن الشـعب احلايل عنـدما ال
يكـرتث بنقاء البيئة مـستأثر ًا بالـتمتع بمنتجات استـهالكية من مصانع تلـوث البيئة ،فهو إنـام يرحل فضالته لألجيال
القادمة ،وهكذا .لذلك كان العلم بالغيب رشط ملن أراد أن حيكم ،وهذا ال يتوفر ألي برش كام سبق وأن وضحت.
ومن إشـكاليات احلـداثة أيضـاً اآليت :إن تم رفض الديـن يف احلداثة فام هـو املرجع للقيم؟ فالبـد ألي إنسان
عنـد اختاذ قرار ما من مـرجع .هنا أتت الفيزيـاء النيوتونيـة ودخلت يف علم السلوكـيات .فإنكار التـنوير للدين أدى
إىل جمتمع بدأ ينظر ويتقبل األفعـال البرشية عىل أهنا عمليات كأهنا فيزيائيـة أو كيميائية ،فتم بذلك إنكار الظواهر
التي ال يمكن إثباهتـا بالتجربة واملالحظة ،فارتفع شأن العقل والعلم عىل حساب األديان ،فأصبحت العلوم اإلنسانية
علوماً مادية بـحتة .فظهرت املادية التـي تؤمن أن املادة هي املكون األزيل للكون ،فـال حكمة هناك إذ ًا من الوجود
والكون ،حتى وإن وجدت فـال طائل من معرفتها ألهنـا ميتافيزيقيـة أو غيبية ،فال أمهية لآلخـرة واحلساب .لذا فإن
ال هو الذي ُحيكّم اللذة والشهوة
الثروة وامللذات اجلسدية هي اهلـدف األساس من حياة الناس .فالعقل الربمجـايت مث ً
اإلنسانية ،وهذه هي الطريقة األمريكية يف التنوير .وهكذا توجهت املجتمعات الرأساملية إىل املادية التي ازدادت
قص احلق 60
قـوة عرب السنني وأدت إىل وضع مأسـاوي ألن ما حيدد أولويـات الناس هو املـصلحة الذاتيـة التي من املفرتض هبا أن
ترتاكم لتعكس مصلحة املجتمع والبرش .إال أن هذا مل حيدث لسبب واضح هو أن الفرد عندما يتخذ قراره بطريقة
عقالنيـة إنام ُيغلّب أهـواءه ،فيتخـذ القرار الـذي يلبـي متطلـباته أوالً .وهبـذا انقلـبت العقالنيـة يف جممـوع األمة إىل
أهواء .فظهر من املفكرين من يمقت هذا الوضع.
مايلك وفوك
لقـد بدأت أمـراض احلداثـة تتفشـى بسبب انـتشار الـبطالـة والالمسـاواة يف توزيع الثـروات وما إىل ذلك من
إفرازات الرأساملـية ،والتي عزاها املفكـرون املعارصون إىل ظهور املؤسسـات السلطوية حتـت مظلة العقالنية (مثل
الـدوائر احلكومـية والبنوك) والـتي تسري املجتمعـات .فباسم العقالنيـة التي تتطلب جمتـمعاً آمناً مثـ ً
ال ظهرت الرشطة
التي تـتغذى يف نفقاهتـا عىل الدولة ،ثم تـطور من هذه املـؤسسة جهـاز ًا استخباراتيـاً مستق ً
ال حيافـظ عىل أمن الدولة.
فبدأ هذا اجلهاز يف تقديم خدمات أخرى تقيد ذات احلرية التي دعت إليها احلداثة ،وبالذات يف دول العامل الثالث.
وهكذا كثـرت املؤسسـات وأصبحت هي العمـود الفقري للـمجتمعات .وهـذه املؤسسـات التي بيدهـا زمام قرارات
ال أو رفضه أدت إىل ظهور طبقات مالـية سلطوية من السكـان بعضها فوق بعض .وما
إجازة أو متويل مرشوع مـا مث ً
كان هـذا إال ألن من بيـده القرار قـد يقدم مصـلحته عىل مصلحـة مجاعتـه ،فبدأ القهـر والظلم يف االنتـشار .عنـدها
ظهرت مجاعة من املفكرين ،وبالذات من الفرنسيني مثل جان ليوتار ومايكل فوكو وجاك داريدا ممن دب اليأس يف
نفوسهم من تضاربـات إنجازات احلداثة املؤملـة مع مبادئ عرص التنويـر التي دعت إىل حتكيم العقل البرشي يف كل
يشء .فكانت احلـرية ،وظهرت الكتـابات التـي تبحث عن النجـاة للفرار بـاملجتمعـات من حكم العقالنـية إىل حكم
آخر ال يعلـمون ما هو ،وكيف سيكون موقع العقل منه؟ فمن هؤالء املفكرين ،ومن أشهرهم مايكل فوكو 18والذي
ال شاذ ًا جنـسياً وأنه كتم هذا طيلة حيـاته ،فامت متأثر ًا بمرضه وبحرسته دون
اتفق الكثري ممن عـرفوه بأنه كان رج ً
إعالن شـذوذه .تأمل أخي القـارئ مدى الضيـاع الذي هم فيه :إن فـوكو هذا يعـترب من أشهر مفـكري الغرب اآلن،
انظر إىل مصدر فكرهم وفلسفـتهم! (والعجيب هو أن الباحثني يفصلون بني فكـر فوكو وبني حياته وكأهنام اثنان)،
وألن الشـذوذ كان مرفوضـاً خالل شباب فوكـو ثم بدأ باالنتـشار ،وبمثل هذه امللـحوظات ،وضع فوكـو فلسفته التي
تنص عىل أن املجتمعات يف تغري دائم تبعاً لقيم مـن حيكم .فالحظ من خالل أبحاثه أن بعض ما كان حمرماً يف حقبة
من الزمن أصبح مباحاً يف حقبة أخرى نظر ًا لـتغري قيم املهيمنني عىل املجتمع .واستحب كثري من الناس فكرته هذه
من أن التسلط يف املجتمعات هـو أهم بنية توضح تركيبة املجتمع والتـي توصل من خالهلا فوكو إىل أن احلداثة نظام
مشحون بـالسيطـرة برغم رفعـه لشعار احلـرية ،فـاحلداثـة ُختضع النـاس إلرادهتا وذلـك ألن قيم وأهواء ومـصالح من
بيدهم الـسلطة هـي التي حتكم النـاس .فالعقالنيـة ال ريادة هلا ألهنـا تتبع منـطق وأهواء من بيـدهم السلطـة .فكان
ال
هجومه العنيف عىل أسس احلداثة ومؤسساهتا .فاحلداثة بعقالنيتها كام يرى فوكو أدت من خالل تطور العلوم مث ً
إىل ظهور اجلامعـات ،وبالشهادات تكتسب األموال ،فمن مل يتمكن من دخول اجلامعة لعرس مايل أو لقصور فكري
عـاش فقري ًا .ومن عـاش فقري ًا صـار تعيـساً يف جمتـمع مادي .فـالعلم مـن خالل احلداثـة أصبح مقيـاساً للـرفع والوضع
املعييش بـني الناس .وهكـذا السفـر أيضاً ،فال يـمكن ألي فرد الـتحرك دون إثبـاتات ورقيـة ،ودون بطاقـات وطنية
61 2قصور العقل
ونحو ذلك من أدوات السيطرة التي قد يساء استخدامهـا .فكل فرد خاضع ملراقبة مؤسسات احلداثة .وإلدراك ذلك،
فكل ما عليك فعله إن كنت تعيش يف الغـرب هو حماولة رشاء منزل من خالل نظام التقسيط عرب املؤسسات ،حيث
يوضع املشرتي حتت تسلط املؤسسات املالية والقانونيـة والتي ستنهك املشرتي بالفوائد واألرباح ليعيش أكثر عمره
منـهكاً بالـديون وبالـتايل ال سيطـرة له ألن املال أصبح سلـطاناً .وقـد تقول أخي الـقارئ إن كنت ممن عـاش يف نظام
غريب مدجج بـاملؤسساتX :ما هذا اهلراء؟ إذا أردت رشاء منزل فالبـد وأن حتاول هذه املؤسسات حفظ حقوقها؟.Z
فـأقولX :ألنـنا نـشأنـا يف جمتمعـات تتـغذى عـىل احلداثـة يصعـب علينـا التفكـري من منـظور آخـر ،فاإلسـالم أوجد
مقصوصة من احلقوق ال تؤدي هلذا االستعباد؛ ال ،بل وجتذه من جذوره ،وتوفر املسكن كام سيأيت بإذنه تعاىل.Z
أي أن احلريـة املزعومة عـىل املستوى الفكري يف العـامل الغريب تكبلت باألغالل عـىل املستوى الواقعي ،أي
عىل مستـوى اإلرادة الشخصية أو املؤسسـاتية .فتقدم التقنيـة أدى إىل أسلحة الدمار الشـامل وارتفاع نفقات التجهيز
ال .وأفلتت املصـانع بمهارة حمامـيها من قيود القـوانني ولوثت البيـئة جرياً
احلريب والذي كـان عىل حساب التـعليم مث ً
وراء الربح ،وهكذا من تنـاقضات مل ختطر عىل عقل أي ممـن وضعوا أسس احلداثة .ويف دول العـامل الثالث فالوضع
كـان أسوأ .فـاألنوار الـتي أدت إىل احلريـات يف احلداثـة أفرزت األغالل يف املجتـمعات املتخـلفة من خالل املـدرسة
واملعمل والـثكنــة والبنـك وخطـابـات التـوصيـات والـضامنـات والكـمبيـاالت والـرخـص واالستامرات والـصكـوك
والتأشريات واجلوازات .فمن ملك شهادات أعىل كانت له السيطرة من خالل املادة ،ومن ملك رأس مال أكثر كانت
له فرصـة تسخري اآلخريـن خلدمته ،ومن كانـت بيده صالحية إصـدار تأشرية سفر كـان هو األعىل ،ومن كانت يف
مكتبه تراخـيص البناء كـان هو األقوى ،وهكـذا استعبدت املجـتمعات أنفسهـا ليقل إنتاجهـا نظر ًا لتحـطم أفرادها.
فكل من وصل ملـنصب انـتفخ ،وكل من نـزل من كـريس انكمـش ،ومن ملك الـتقنيـة من بني األمـم استعمـر من مل
يملكها .ومن اقتنع بقـي ٍم ما حاول فرضها عىل غريه .أي أن احلـداثة خرجت من جمراها املتـوقع هلا ،فتغلبت الغريزة
املنفعـية السلطويـة لدى البرش عىل الغريـزة املعرفية الـتحررية احلاملـة ،وتغلبت سامت التوسع واهلـيمنة حتت شعار
التقدم يف احلداثـة عىل أحالم حترير البـرش .وهبذا خضعت املجتمعـات يف العامل الغريب لتسلـط رأس املال والقانون
واملؤسـسات بـدالً من تسـلط الكنيـسة .أمـا يف العامل الثـالث فقد خـضع أفراد املجتـمعات لتـسلط من بيـدهم زمام
املجتـمعات من احلكام ومن يدورون يف فلـكهم ألهنم أبدعوا يف تسخري مـؤسسات احلداثة لتـثبيت أنفسهم وقهر من
خالفهم .أمل تر ما فعله صدام يف العراق وبن عيل يف تونس ومبارك يف مرص؟ أي أن الفالسفة الغربيني الذين وضعوا
أسس احلـداثة ،مثل ديـكارت وكانـط وهيغل ،والذيـن اعتقدوا أن البـرشية ستتقـدم باستمـرار نحو السعـادة والرفاه
للجمـيع ،مل يكن ليتوقعـوا أن هذا سيحدث .ولـكنه الضنك بسـبب اخلروج عن حكم اهلل .أمل يقل سـبحانه وتعاىل:
رَض عَ ن ِذكcرِي فَـإِ َّن لَهُ /مَعِيشَ ـةً َضنكً ا وَ نَح cشُ ـرُ هُ /يَو cمَ eلcقِيَ^مَةِ
وَل يَـش cقَى 123#وَ مَن cأَعَ c
َـن eتَّبَعَ هُ دَ ايَ ف ََل ي َِض ُّل َ
(فَم ِ
19
أَع cمَى)؟
ولـكن كيف دفعت احلداثة البرش هلذا الضنك؟ فهي تنادي باالحتكام للعقل .ومن هذا الذي يرفض العقل؟
إن فك هذا اللغـز ال يكون إال بتجريد احلداثة ملا تنادي به من جهة ،وملا تفعله من جهة أخرى .فهذا التمييز بني ما
تنـادي به احلـداثة ومـا تفعله متيـيز جـد مهم يـغفل عنه الكـثري ،بل وحتـى أن أكثـرهم ،أي الـغربـيون ومـن تبعهم،
يرفـضون النظر إليه إذ أنه طريق مسـدود بالنسبة هلم ،لذلك يـرفضون حتى جمرد التفكري فيـه فلسفياً برغم عويلهم
قص احلق 62
من نـتائجه .فاحلداثـة تنادي بالعقالنيـة ،ولكن عقالنية من هي الـتي ستطبق عىل أرض الواقع ،هـذا هو لب املشكل
الذي ال يريدون أن يقروا بخطئه .فكل فرد من البرش له عقله وفكره واعتقاده وقناعته .وبالطبع ،فالذي يطبق هو
عقالنية من بـيده القرار أو الـسلطة .وهنـا املشكلة .فـالناس هلم قـناعات .وهـذه القناعـات عادة ما تـصبغ عقوهلم.
ال ،ومنهم
فمـنهم من يريد منع محل األسلحة بني العامة ،وهم الديمقراطيون ،كام يف الواليات املتحدة األمريكية مث ً
من يريد تـرخيصه وهم اجلمهـوريون .ومنهم مـن يريد منع اإلجهـاض ،ومنهم من يريـد إباحته وعىل نفقـة الدولة.
ولعل املصـالح هي أهم مـا يصبغ عقـول النـاس .فمن كـان فقري ًا يف نـظام ديـمقراطـي كانـت مصلحتـه يف أن يكون
التعليم عىل نفقة الدولـة التي تأخذ الرضائب من األثريـاء .أما األثرياء فمصلحتـهم عكس ذلك حتى يفلتوا من دفع
الرضائب .وهـكذا نجـد أن املصـالح جتمع الـناس و ُتـكتلهم حـوهلا إىل أحـزاب .وتتنـافس هـذه األحزاب للـوصول
للسلطة عـن طريق االنتخابـات .ومن وصل للسلطـة استخدم عقله ملـصلحته وغري القانـون لصاحله ليفعل مـا يريد.
وهبـذا ينجرف النـاس للضنك .وسـنأخذ مـثالني ببعـض التفصيل عىل هـذا املأزق للعقالنـية التي تنـادي بيشء وتنتهي
مـر مؤلف هذا الكـتاب رسيعاً عىل أفكـار فيلسوف
بالرضورة بفعل يشء آخـر .ولكن قبل ذلك لعلك تتـساءل :لقد ّ
غـريب ما بعد حـداثي ينقد احلـداثة .أي أنه هترب من نقـد عقالنيي احلداثـة مثل هابرمـاز أو كارل بوبـر .أقول :لقد
نقدت أهم مفكـر غريب عقالين وهو كارل بوبر ثم قررت سحب النقد من هذا اجلزء من الكتاب ووضعته يف فصل
Xاملعرفـة Zألنني رأيت أن النقد طويل يف صفحاته ممـا سيشتت تركيز القارئ عـن حمور هذا الفصل ،وألن مسامهات
كارل بوبـر مهمة لفهم الفكر الغـريب عقالنياً وال يمكن جتاهلهـا ،وألهنا ذات صلة بموضـوع العلوم ،فقد وضعتها يف
فصل Xاملعرفة.Z
ثم بدأ عامل أمريكي اسمه كيلنـج Keelingسنة 1958م بقياس كمية غاز ثاين أكسيد الكربون كل عرشة
ثـوان وملدة أربعني سنة ليـثبت أن كمية الغاز يف زيـادة مستمرة .وبعد إثـبات ذلك ظهرت سنة 1974م نـظرية تزعم
أن عرص ًا جليـدياً سيـأيت وأن الذي يدعـم هذا هو حجـب الغازات ألشعة الـشمس وأن األرض قد ال تـرتفع حرارهتا
ض ّعفت ورفـضت عندمـا أتت عىل الكرة األرضيـة شهور ًا صيفـية حارة
كـام قال بعض العلـامء .إال أن هذه النظـرية ُ
بشـكل غري معتـاد يف الثـامنينـات .ثم كـانت سـنة 1985م سـنة حـاسمـة لكل مـن كان يـشكك يف تلـويث اإلنـسان
لألرض .فقـد اكتشف جـو فارمـان Jo Farmanفتحـة فوق القـطب املتجمـد الشـاميل بمسـاحة الـواليات املـتحدة
األمريكيـة يف طبقة األوزون بسبب غـاز CFCsوالذي ينتجه البـرش .وطبقة األوزون هذه تعـمل حلامية البرش من
األشعـة فوق البـنفسجيـة التي تـؤدي إىل تلف العني وإىل رسطـان اجللد إن نفـذت لألرض .وهكذا تـأكد لـلناس أن
أفعاهلم ستـدمر الكـرة األرضية .عـندها بـدأ العامل الـغريب احلريـص عىل احلياة بـاالستيقاظ خـوفاً عىل نفـسه .وبعد
ثـالث سنوات من ذلك االكتشاف ويف عـام 1988م قدم العامل األمريكي جـيمس هانسون Hansonلـلجنة الطاقة
يف جملس الشيوخ األمريكـي تقرير ًا يؤكد فيه العالقة بني ظواهر التـلوث وسلوكيات االستهالك الرأساملية وبالذات
للـطاقـة ،كتلك الفـضالت الغازيـة التي ختـرج من عـوادم السـيارات واملـصانـع .وخالل أشهر قـامت األمم املـتحدة
مرسعة بتكـوين جلنة احلكـومات البينيـة للتغري املناخي أو Inter-governmental Panel on Climate( IPCC
)Changeلتقيص مـدى صحة مسؤوليـة البرش عن التغري املنـاخي .وكان أول تقريـر للجنة هو أن هنـاك إمجاعاً من
أبـرز العلامء بأن جـو الكرة األرضيـة سيشكل خـطر ًا عىل حيـاة البرش إن استمـر احلال عىل مـا هو عليـه من انبعاث
للغازات التي ستؤدي إىل ظاهرة االحتبـاس احلراري .وكان التقرير واضحاً وشديد ًا لدرجة ال يمكن معها للسياسيني
الـرتاجع عن وضع قوانـني حتد من االسـتهالك .وبعدهـا اجتمعت 160دولـة يف مونـرتيال بكنـدا للحد مـن استخدام
الغاز الذي يـؤثر عىل طبقة األوزون .ozoneوهنا بدأت أهواء الرأساملية عملها .فقد حتركت جمموعة من الرشكات
األمريكـية الكـبرية التي سـتترضر من مـثل هذه القـرارات وتكاتفـت (وعرفت بـ )Global Climate Coalition
وأنتجت فـيلام ً يسعى إلقناع العـامة بأن ظاهرة اجلـو املشبع بالكربـون لن يقتل األحياء عىل األرض ،بل عىل العكس
سيؤدي إىل ازدهارهـا .وانترش هذا الفيلم وبدأت أفكاره تؤثر يف العامـة ومن ثم يف تشكيل السياسة األمريكية التي
مل تـتعاون مع الـدول األخرى للحـد من التلـوث .ثم يف العـام 1992م اجتـمع حوايل 180فـرد ًا من رؤسـاء الدول يف
امللـوثة ودول اجلنـوب التي
ّ العامل يف ريـودجيانـريو بالربازيل .إال أن خالفـاً بدأ يـدب بني دول شامل الكـرة األرضية
طلبت من دول الـشامل ختفيف التلويث ودفع ما يلـزم حيال حتمل تبعات التلـوث ووضع رضائب عىل الطاقة .وهذا
مـا رفضته الـواليات املتحـدة األمريـكية ممثـلة لرشكـات الطاقـة ،فأيـن العقل هنا؟ ثـم وقعت 160دولة عىل اتقـافية
تسعى لتخفيف التلوث ،إال أن أحد ًا مل يلتزم بذلك واستمرت الرشكات يف إنتاجها املعتاد.
ويف سنة 1995م قامت جلنة IPCCبنرش تقـريرها الثاين الذي تؤكد فيه مـسؤولية البرش عن التغري املناخي،
وعندهـا أيضاً قـامت الرشكـات بحملـة إعالمية أثـارت فيها الـربط بني سـعر الطـاقة ومـا يمكن أن حيـدث يف حال
وضعت رضائب عىل الـطاقـة .أي أن ما حيـرك عقالنيـة الرشكـات هو مـصاحلهـا .فام تـدعيه احلـداثة مـن مرجعـية
قص احلق 64
للـعقالنية هي يف الـواقع جري وراء املصـالح .وماذا عن رجـال السيـاسة؟ هم أيضـاً برغم ادعـائهم للعقالنـية جيرون
وراء مصـاحلهم .فربغم كل هذه اإلثباتات التـي تؤكد عىل رضورة تقييد املجتمعـات لالستهالك إال أن رجال السياسة
يف الواليات املتحدة األمريكية وخوفاً من فقدان االنتخابات اتبعوا أهواء الرشكات .فأين هي العقالنية التي تزعمها
احلـداثة؟ ولعلك تقول :إن هـذا الرصاع بني االجتاهـني له جذر فلسفي .فـاحلداثة تعتـرب ،والعياذ باهلل ،اإلنـسان وكأنه
رب للكـون ،أما ما بعـد احلداثة فتعـترب اإلنسان عـنرص أو حيوان كبـاقي احليوانـات التي تعيش عىل هـذا الكوكب.
فمن هـم متأثـرون باألفكـار ما بعـد احلداثيـة جتدهم يـرتاجعون يف متجيـد اإلنسـان الستعامر هـذا الكوكب .إال أن
املحصلـة يف كلتي احلالتني هي احلكم بـالعقل القارص .فهؤالء ما بعـد احلداثيني ال بديل فكري لـدهيم ليقدموه سوى
التأفف والتذمر من إنجازات احلداثة .فهم املفلسون فكرياً كام سرتى بإذنه تعاىل .نعود ملثال التلوث:
ثم بعد ذلك أتى اجتامع كيـوتو سنة 1997م والذي طـالب فيه العلامء السياسـيني العمل عىل ختفيض انبعاث
الـغازات الدفيئة بنـسبة %60إن هم أرادوا إيقاف خماطـر ارتفاع حرارة اجلو يف الكـرة األرضية .إال أن مندويب الدول
مل يتـفقوا إال عـىل التخفيـض بنسـبة %5.2بـحلول عـام 2010م .واملضحك يف املـسألـة هو أن الـتفكري الـرأساميل أو
العقالين املصلحي كان أيضاً هو احلاكم .وأنى هلم التفكري بطريقة أخرى؟ فقد حاولت الدول االتفاق عىل حصص
للـتلويث بحـيث حيق للدولـة رشاء حصة تلـويث من دولة أخـرى .وهذه احلـصص تزيـد إن قامت الـدولة بـابتكار
واستخدام تقنية غري ملوثـة ،أو قامت بزيادة رقعة املـساحة الزراعية الـتي متتص ثاين أكسيد الكـربون أو ما تسمى
بأحواض الـكربون .carbon sinksوهكذا كان عىل ممثيل الدول االجتامع مـرة أخرى لالتفاق عىل كيفية التنفيذ.
وكام يقول املهـتمون بـشؤون البـيئة ،فـإن الدول الغـنية حتـاول الفالت من مسـؤلياهتـا جتاه التلـوث .أي أن كل دولة
ال ،ادعت الـواليات
حتاول أن تـرمي عبء ختـفيف التلـويث عىل الـدول األخرى لـتفلت هي بـاملجهـود األقل .فـمث ً
املتحـدة األمريكـية بأهنـا إن قامت بـاحلفاظ عىل رقعـة غاباهتـا دون نقصان فـهي إنام تسهم يف احلـد من التلوث ألن
الرقعـة املزروعـة يف الكرة األرضـية يف نقصـان .كام أهنا طـالبت مسـاعدة املجـتمع الدويل يف ختفـيف التلوث إال يف
أراضيهـا .فهـي تريـد دعم استـخدام أرخـص الوسـائل لتنـظيف التـلويـث يف أوروبا الـرشقيـة ،وتريـد أن تعني عىل
استخدام الـرياح لتوليد الطاقة يف اهلنـد ،وتريد دعم الطاقة الشمسيـة يف أفريقيا ،أما عىل أرضها (أي أرض الواليات
املتحدة األمريكية) فهي ال تريد التغيري انصياعاً للرشكات .والظاهر هو أن الدول الصناعية ستميض يف االتفاق فيام
بينها حتـى وإن مل توافق معهم الـواليات املتحدة األمـريكية والتـي تنتج ربع الغازات الكـربونية امللـوثة يف العامل.
وقبل انتخاب جورج بوش االبن رئيساً للواليات املتحدة األمريكية قطع هذا عىل نفسه عهد ًا بأن يعمل عىل ختفيض
إرضاء ،ومن ثم كـسباً ألصوات املهتـمني بشؤون البيئـة .ثم بعد فوزه بـاالنتخابات
ً غـاز ثاين أكسيد الكـربون وذلك
مبارشة قامت إدارته باإلعالن بـأن اتفاق كويوتو Koyot Accordبـشأن ختفيض الغازات (ومنهـا غاز ثاين أكسيد
الكربون )CO2التي تؤدي إىل ظـاهرة االحتباس احلراري greenhouseغري ملـزم لإلدارة اجلديدة .ويف أغسطس
لـسنـة 2002م يف قمـة األرض بمـدينـة جـوهـانـسربغ مل يـوافق الـوفـد األمــريكي عىل احلـد مـن استخـدام الطـاقـة
األحفورية .fossil fuelsلقـد ضاعت مسـؤولية احلفـاظ عىل جو األرض نظيفـاً بني املنتجني املـصنعني وبني رجال
الـسياسة املنتخبني والذين تـسريهم رشكات التصنيع ذات املصالح .كـل يريد اآلخر أن يترصف دون أن يترضر هو.
وهكـذا متيض األيام ويزداد الوضع سوء ًا وتنترص الرشكات لتفعل مـا تريد حتت مظلة احلداثة ،وإرادة الرشكات هي
مـن إرادة مالكها الـذين ال يفكـرون إال يف مجع املال ألنـفسهم وألبـنائهـم يف أحسن األحـوال .فام قد حيـدث للكرة
65 2قصور العقل
األرضـية ولألجـيال القـادمة مـن أرضار أمر ال يـرتفع يف أمهيتـه لربح املـالك اآلين ،وهكذا تـنترص الـرأسامليـة التي
تـستنشق احلداثـة برغم ادعائهـا العقالنية .أما مصـالح األجيال القادمـة فال تعترب ألنه ال مصوتني هلـا يف االنتخابات.
أهواء .فـالرأساملية بـرغم إنتاجيتهـا الشديدة هي بـاختصار دمار قـادم للبرش ،كام سنرى يف
ً وهبذا أصـبحت احلداثة
فصيل Xالـقذف بـالغيـب Zو Xالفصل والـوصل Zبـإذنه تعـاىل ،ألن الكل بـاستطـاعته أن يفعل مـا يشـاء حتت مظـلة
العقالنية املؤطرة بـالقانون الذي تـسريه املصالح من خالل الدسـاتري واملرافعات .وهكذا فـإن الكل ينتظر من الكل
اآلخـر أن يتـرصف إليقاف الـتلويـث ،كل عاصـمة تـنتظـر العاصـمة األخـرى ،وكل مصنع يـنتظـر املصـنع اآلخر،
cب مِن مهَّكَ ـانٍ بَعِيدٍ) .ومتـى ما قـام بعض العـقالء عىل إحدى هـذه اجلهات
مصـداقاً لـقوله تعــاىل( :وَ يَقِ cذفُو َن بِeلcغَي ِ
ال ،وجد ذلك امللوث خمرجاً قانونياً بامله الذي يشرتي به احلق بمحام ماهر فذ ضد
امللوثة ،كالرشكات الكياموية مث ً
الكل البطيء يف احلركة ألنه غري متآزر.
ومن األمثلة الـواضحة عىل غلبـة األهواء عىل العقالنيـة هو ما حيـدث عادة يف االنتخـابات األمريكـية .فقد
ال يف الطاقـة يف والية كاليفورنيـا ،وكان التوجه هو وضع حلـول لرتشيد االستهالك يف فرتة حكم
كان هـناك عجز مث ً
الديمقراطيـني .ثم بعد فوز جورج بـوش االبن بالرئاسـة ،قام هذا باقرتاح سـياسات ترجح كفـة البحث عن مصادر
جـديدة للطـاقة عىل كفة تـرشيد االستهالك .وكـان أول رد فعل ملعارضيه هـو أن الرئيس اجلـديد إنام يسعـى لتسهيل
أمـور رشكات النفط والـطاقة ألنه الزال حتـت سيطرهتـا إذ أن معظمها كـانت من واليته الـتي أتى منهـا (تكساس)،
هذا باإلضافة إىل أن بعـض أفراد طاقمه احلاكم هم رؤسـاء لرشكات نفطية مثل نـائبه ووزيرة داخليته التي أصبحت
وزيرة للخارجية فيام بعد.
أي أن هناك رشخاً بني ما يؤكده العلامء من الربط بني التلوث البيئي وبني ما جيب عىل املستهلكني القيام به
لتخفيف هـذا الرضر من جهة ،وبني ما باستطاعـة احلكام فعله من جهة أخرى .فاحلكام يـسعون للسلطة التي تؤثر
عليهـا الرشكات .وهكذا فإن مصري تلـويث األرض يتأرجح بني األهواء ليدفع الضعـفاء الثمن .فدولة بنجالدش التي
ال متلك املـال لبناء احلوائط والـسدود لصد ارتفاع مـنسوب مياه البحـر ستفقد يف السنني القـادمة من األرايض ما كان
يـأوي 110مليون نسمـة .أما اجلزر الصغرية املـستوية ،مثـل جزر املالديـف يف املحيط اهلندي ،فهي مـهددة بالزوال
ال هـو بسـبب ارتفاع حـرارة الكرة
متامـاً .وبالنـسبة لـألمراض فهنـاك دالئل علميـة عىل أن انتشـار أمراض الـربو مث ً
األرضيـة املصحوبة بالغـازات امللوثة كتلك التي تنـبعث من السيارات .كام أن املالريا بـدأت يف االنتشار يف املناطق
الباردة أيضاً التي مل يعتد السكان عليها من قبل ،وهبذا ارتفع عدد القتىل يف أفريقيا وحدها إىل مليون شخص سنوياً
ال مـنذ بدايـة القرن
يف أواخـر القرن العـرشين .أما يف الـدول الغنية ،فـإن ارتفاع حـرارة املحيط املتجمـد الشاميل مث ً
بسبعة أعشـار درجة مئوية وذوبان مياه القطب أديـا إىل حتلية مياه البحر نسبياً ممـا أثر يف انسياب املواد الغذائية من
أعامق املـحيط إىل الـسطح والـتي يعيـش عليهـا سمك الـسلمـون ،وهبـذا نقصـت كميـات الـسمك لـدرجـة أهنـا قـد
تنقـرض 20.أي أن احلداثة ما هي إال حكم األهواء برغم ادعائـها للعقالنية .فكل فرد عقالين ملصلحته .وهبذا يكون
الصالح العام يف العقالنية البرشية هـو جمموع أهواء األفراد املتحزبني واألكثر نشاطاً .فإن رأت األكثرية أن اجلامع
من غري رابط قانوين أمر من حق الفرد ،انترش الزنـى وأصبح عرفاً .وهكذا يتبلور الصالح العام واملجتمع من خالل
األهواء .فقيم املجتمـع إذ ًا يف تغري مستمر لتساير أهواء األفـراد .وإن عشت يف الغرب ألدركت أن انتخاباهتم ما هي
قص احلق 66
إال تغليب ملـصاحلهم فـيام بينهم بـالتدافع .لـذلك يتحزبـون .ولكن إىل أين؟ ومن هـذا ترى أخي القـارئ أن احلداثة
ليـست ببسـاطة كام يقـول معظم البـاحثني عىل أهنا فـصل الدين عن الـدولة ،بل هي أكثـر من ذلك ،إهنا الـنواة التي
بـدأت يف تـدمـري كل القيـم واملعتقــدات اإلنسـانيـة لـتحل حملهـا الـرغبـات والنـزوات والـشهـوات كمحـرك أسـاس
َرcض وَ مَن فِيهِنهَّ ).
وَeل ُ
^ت c
eلسمَ^وَ ُ
ت هَّ
للمجتمعات .تدبر قوله تعاىل( :وَ لَوِ eتَّبَعَ eلcحَ ُّق أَه cوَ اdءَهُ م cلَف ََسدَ ِ
ملـشـاعـر الـسكـان أو راحـتهم ألن هـدفه هـو أن تعــرض أعامله يف ب) لقد كنت مرة يف حمارضة يف جامعـة هارفارد ،وكان املحارض أحد
املجالت املعامرية ،وأن هذه الغرائب التي تبناها حققت له ذلك ألنه مشـاهـري ختصـص العامرة ( آيـزنامن) وكـان مـن ضمن مـا عـرضه من
يف عـرص اإلعالم واالتصـاالت ،فـنرشت أعـامله عىل أغلفـة املجالت، غـرائب نـوافذ سفلـية تـقع حتت مسـتوى ركـب البرش ،فال يـروا شيـئاً
وأنه حقـق ما كـان يصبـو إليه .فقلـت لرئـيس قـسم العـامرة آنذاك يف وهـم قائـمون أو قـاعدون ،وكـأن أعيـنهم جيب أن تـوضع يف سيقـاهنم
جـامعـة (معهـد) MITوكـان جيلـس بجـانـبي (ستـانفـورد أنـدرسـون ليتـمكنـوا من النـظر .وقـام بتصـميم درج صـعود أجـزاؤه ال تتعـامد
X :)Stanford Andersonإن لـكل ختصـص شيـاطني ،وهـذا كـبري بطريقـة تنهك الصـاعد أو النـازل ،وكأن أرجل النـاس جيب أن تكون
شيـاطني العامرة ،ZفقـالX :أنه شيطـان لذيـذ! فهكذا تـتقدم العامرة،Z ذات خمـالب كالقـردة حتى ال ينـزلقوا! فـسألته طـالبة عن هـذا اهلراء
مشري ًا بذلك إىل أن اخلروج عىل ما هو مألوف يفتح آفاق كل جديد! مسـتنكـرة مثـل هذه األعـامل؛ فأجـاب بفم ميلء وقـاحة بـأنه ال يـأبه
67 2قصور العقل
تلتقي مع أية ذرة عقل يف أرض الواقع .فمبـانيه تعكس رشه املصالح البرشية ،فهـي جد باهظة التكاليف يف وقت ال
جيد فيه مـئات املاليني مـا يسدون بـه رمقهم ،وهذه الـتكاليف مـفتعلة ال هلـدف إال لإلهبار .فـأشكال مبـانيه تقلب
املوازين رأساً عىل عقب ،فتجدهـا يف األعىل مث ً
ال أكرب من األسفل ال ليشء مجايل إال إلظهار حتـدي التقنية للجاذبية،
فال حدود وال قـيود وال مسـؤولية يف إجيـاد األشكال إال االنفالت بـال حساب .وقـد كنت معه يـوماً يف حفلـة عشاء
بسويـرسا ،فسأله أحد املدعوين عن أغرب مرشوع حاول أو متكن من تـصميمه .فأجاب بأن ثرياً فاحش الثراء (وال
يريد فـضح اسمه حفاظاً عىل أمانة املهنة) قد أوكل إليه مهـمة تصميم قرص له .وطلب منه الثري أن يزوره يف منزله
ملرات عـدة حتـى يتـمكن من فهـم نمط حيـاته ليالئم القـرص اجلديـد احتـياجـاته ،فكـان عليه أن يـزوره يف إحدى
حفالته الساهـرة .ففعل .فقال بأنه رأى عجباً .فسألناه بـاهتامم :وما ذا رأيت؟ وكلنا ندرك أن هذا املعامري يعيش يف
والية كـاليفـورنيـا التي يعـيش فيهـا كثري مـن منتجـي أفالم الدعـارة وهي ،أي كـاليفـورنيـا ،من أهـم مواقع الفـساد
واملصدرة لـه يف عرص العوملة .فكل انحالل خلقـي إن مل يكن مصدره كاليفـورنيا فإن سكاهنـا هم أول من يتبنوه يف
العامل .فام الذي يمكن أن يراه هذا املهندس من عجائب تبهره؟ فقال بأنه ال يستطيع أن يصف ما رآه من ابتكارات
وإبداعات جمونية تفوق اخليال لتفجري الشهوات بطريقة عـجيبة (فاحشة) بني الرجال والنساء يف تلك احلفلة .فأخذ
كـل واحد من احلـارضين يف التفكـري يف ماهيـة هذا املجـون الذي ال يـستطيع حـتى شخـص يعيش يف جمـتمع منحل
اجتمعت فيه مجيع أنامط الشذوذ اجلنـيس واملخدرات واملجون من وصفه .وهكذا باقي التخصصات التي ثارت عىل
العقالنيـة وانفلتـت دون مرجعيـة أخالقية ال يف الـدين وال يف القيم إال يف الـتقيد بـالقوانـني التي هي من نـسج خيال
ال بعد جيل ولكن بدرجات متفاوتة بني التخصصات.
ال بعد جيل فتكون قوانينه منحلة جي ً
ينحل جي ً
ُّ البرش الذي
إال أن هذا التوجه الذي تبناه بعض الفـرنسيني بقيادة فوكو أثر يف الفنون واآلداب واحلرف والعلوم أكاديمياً
وإنتاجياً فقط أكثر مـن تأثريه يف احلياة العملية بمـؤسساهتا املجتمعية املـنفعية ،كاملؤسسات احلـكومية واالقتصادية
واخلدمية والتي ظلت كام هي متبنية ألفكار هيغل ،أي متبنية للحداثة .ولرضب مثال واحد فقط :فرغم انتباه بعض
الباحـثني الغربيني يف علم الـتخطيط مؤخـر ًا إىل أن القرارات التخطيـطية إنام تعكس أهـواء من بيدهم الـسلطة وأهنا
ليسـت عقالنية ،إال أن ختصـص التخطيط الزال مـستمر ًا يف نفـس التوجه عملـياً .فقد أثـبت الباحث الـنروجيي بنت
فاليفبـجريج Bent Flyvbjergيف دراسته ملـرشوع إعادة ختـطيط مـركز مـدينـة آلبـورج Aalborgبالـدنامرك أن
القرارات التـي اختذت مل تتخـذ بعقالنيـة ،rationalityولكن بعـقلنة الـقرار .rationalizationأي إعطـاء القرار
املتخذ مـربرات تبدو وكأهنـا عقالنية بعـد اختاذه .وما كـان اختيار ذلك املـرشوع للدراسة إال ألنه حـصل عىل جائزة
أوربية عريقة يف التخطيـط نظر ًا لنجاحه .فأثبت النروجيي يف دراسته أن القـرارات التخطيطية اختذت بسبب تدافع
املصالـح ثم بعد ذلك تم إعطـاء تلك القرارات مربارت عقالنيـة ،وأن النجاح املزعـوم ما هو إال لـطوائف يف املجتمع
عىل حسـاب أخرى .فاستنتج هذا البـاحث أن العقالنية حتكمها الـسلطة لتصبح عقلنة .لـذلك بدأ عمل هذا الباحث
يف االنتشار ألنه قـرن القرار التخطيطي بالتـسلط يف كتابه 22،Rationalaty and Power :فلفت أنظار من هم يف
املجـال األكاديمي إىل التمييز بني العقالنية والعقلنة ،وأن العقالنيـة التي ينتحلها الكثريون تنقلب إىل تنفيذ املصلحة
عىل أرض الواقع .لـذلك فهـيهات أن يـلتفت مفكـر غريب إىل مـا يقوله هـذا البـاحث ألنه ال خمـرج هلم مـن زنقتهم
الفكرية.
قص احلق 68
أي أن التحرريـة الفكريـة التي أسسهـا كانط زرعت جمـتمعاً ذا نظـام واضح املالمح يف مؤسسـاته وقوانينه
وعالقـاته بـني أفراده وزيـادة إنتـاجيته .أي أن احلـداثة انـغرسـت عميـقاً يف املـجتمعـات وأصبحت الـرأسامليـة هي
احلاكمة وأنجزت الكثري من التقدم املادي .لكنهـا مع كل هذه اإلنجازات تعرضت لنقد حاول حتريرها من قيودها
بـرفض جذورها العقالنية إال أن هذا الـنقد مل يفلح إال يف دفع املجتمعات للنزوات والـغرائز وازداد املجتمع ضياعاً.
أي أن عرص مـا بعد احلـداثة هـو الضيـاع والرصاع القـائم بني هـذين اخلطـني من العقالنيـة (كانـط) ،والثورة عـليها
بالتحرر منها (فوكو) .ولكن إىل أين؟
إن ما تم تلخيصه عن احلـداثة ،برغم تذبـذب الوضع احلايل بني تقبـل العقالنية يف احلداثة ورفـضها جزئياً يف
ما بعـد احلداثة ،تم أيضـاً باستخدام العقل البـرشي وبرفض األديان .وكام رأينـا فالعقالنية تنـتهي إىل مصالح وأهواء.
أي من خالل احلداثة تبلورت العـقول يف مجيع التخصصات وبـالذات العلمية منهـا برفض األديان .فاحلـداثة باهتامها
لكل باحث علمي يـلجأ لألديان بالتخلف ،قد سـاعدت عىل خنق اإلسالم وأبعدته من ساحـة احلوار الفكري .فمتى
ما حـاول باحث إدخـال الديـن يف دراسة االقتـصاد أو الـتنميـة اهتم بالـتخلف .هذا هـو موقـف معظم البـاحثني من
اإلسالم ،فهم يـرفضـون اإلسالم ويلجـؤون للعقالنيـة التي هي مـن نسج عقـول البرش .وهـذه العقول الـتي ال تعلم
الغيب قارصة كام أرشنا .لـذلك انتهت العقالنية باملجتمعات إىل تبني املـصالح والنزوات واألهواء .تدبر قوله تعاىل:
cض eلاَّذِي عَ مِلُواْ لَعَلاَّهُم cيَرcجِ عُونَ).
َّاس لِيُذِيقَهُم بَع َ
َت أَيcدِي eلن ِ
cب وَeلcبَح cرِ بِمَا ك ََسب c
(ظَهَرَ eلcف ََسادُ فِى eل َ ِّ
تـارخييـة مل يتعـرض هلـا العـامل اإلسالمي .ويـدعـو إىل إعـادة قـراءة احلـداثـة الغـربيـة من زاويـة الـوضع التـارخيي
والفكري اخلاص بـالعقل اإلسالمي .وبمثل هذه الـدراسات االجتامعية واألنـثروبولوجيـة والدينية يـدعو إىل مقارنة
نـقائص عقل كل حـضارة من خالل جتـارب العقول األخـرى ،وتعميم املقـارنة للـوصول لعقل مـا بعد احلـداثة .وهذا
يتطلب إعامل العقل البرشي يف النظر يف النصوص التي شكلت احلضارة اإلسالمية كالقرآن الكريم والسنة املطهرة.
فهـو بذلـك يستخـدم العقل البـرشي (وبالـذات من خـالل التحليل األلـسني أو اللغـوي للنصـوص العربـية) وأدوات
التحليل التارخيي واالجتامعي واألنثروبولوجي إلضاءة تلك النصوص .وهبذا يتمكن اإلنسان (كام يقول أركون) من
بلـورة علمنـة جديـدة جتيب مطـالب اإلنسـان بكال بعدهيـا الروحي واملـادي لسعـادة قادمـة ،ال كام فعلت احلـداثة
الغربية بتوفـريها البعد املادي وإلغاء البعد الروحي ،أو كام فعـلت احلضارة اإلسالمية بعدم إرسافها يف البعد املادي.
وسنـأيت عىل أفكار آخرين من املسلمني الـذين رفضوا الدين (وذلك عند احلـديث عن أسباب التخلف يف هذا الفصل
بـإذن اهلل) .ولكن قبل ذلك سـأرشح باخـتصار بعـض أفكار الغـربيني جتـاه األديان (واإلسالم خصـوصاً) حتـت مظلة
العقالنية يف عرص العوملة.
لقد بـدأ رفض العامل الغريب لألديان عمومـاً ولإلسالم خصوصاً يزداد نفور ًا عنـدما بدأ العامل أمجع يقتنع بأنه
ال سبيل أمثل للـحياة إال من خالل الـديمقراطيـة التي مل يرفـضها بشـدة من جذورهـا إال القلة من اإلسـالميني .فقد
استسلمت معظم املـذاهب وامللل والنحل للديمقـراطية والرأسامليـة واقتنعت بأهنا الـطريق الوحيد لـلحياة وبالذات
بعد سقـوط املعسكـر الرشقـي ،فلم يبق للغـرب إال اإلسالم ليرصعه ،وهـذا واضح من مقـالة صـامويل هـانتنـغتون
Samuel Huntingtonاألستاذ بجامعة هارفارد عن صـدام احلضارات برغم أن بعض الغربيني يظهرون غري ذلك.
َّـص^رَ ى حَ تَّى تَتَّبِعَ مِلاَّتَهُم cق ُcل إِ َّن
وَل eلن َ
نك eلcيَهُودُ َ
َـرcضى عَ َ
تـأمل قوله تعـاىل يف اآلية 120من سـورة البقرة( :وَ لَن ت َ
وَل ن َِصيٍ) .فاآلية
eلل مِن وَ ل ٍ ِّى َ
َك مِنَ هَّ ِ
cت أَه cوَ اdءَهُ م بَعcدَ eلاَّذِي جَ اdءَكَ مِنَ eلcعِلcمِ مَـا ل َ
َئ eتَّبَع َ
eلل هُ وَ eلcهُـدَ ى وَ ل ِ ِ
هُ دَ ي هَّ ِ
تـربط بني اتبـاع اليهود والنـصارى من جهـة (الغرب) ،واألهـواء والعلم من جهـة أخرى .فمقـالة هـانتنغتـون يوافق
عليها بعض أهل الغرب وبالذات متخذي القرارات منهم ،وهي أشهر من أن توضع هنا .ولكن البد من املرور عليها
رسيعـاً وذلك لرتى كيف أن الغـرب الذي يـدعي العقالنيـة ليـس عقالنيـاً قط يف تعـامله مع العـامل اإلسالمي (كام
أثبت إدوارد سعيد) ،بل يتبع أهـواءه ومصاحله .وهذا أمر أشهر من أن يطـرح يف هذا الكتاب ،ولكن فقط للتذكري.
فمام قـاله هانتنغتـون أن العامل قد أصبـح اآلن أصغر بسبب رسعـة االنتقال واالتصـال ،وهبذا تتزايـد التفاعالت بني
أبناء احلضارات املختلفة ،وهذه التفـاعالت املتزايدة تؤدي عادة إىل تكثيف الوعي احلضاري واإلحساس بالفروقات
بني احلضارات .فعىل سبيل املثال (كام يقول هانتنغتـون) ،فقد استثارت اهلجرة من شامل أفريقيا مشاعر العداء لدى
الفرنـسيني وزادت من حـدة الرتحيب هبجـرة البولـونيني الكـاثوليك األوروبـيني Xالطيبـني .Zفعندمـا تؤدي عـمليات
التحـديث والتغيري االجـتامعي بسبب الـعوملة إىل انتـزاع الناس من هـوياهتم املحلـية الراسخـة العريقة ،فـإن الدولة
القـومية أيـضاً تضعف بـوصفها أحـد منابع اهلـوية ،عنـدها تسـارع األديان مللء الفـراغ احلاصل من خالل احلـركات
األصوليـة .وألن الغرب بـدأ يأخذ الـصدارة من حيـث القوة كام يقـول ،فهناك نـوع من العودة للجـذور بني صفوف
أبـناء احلضـارات الغربيـة ،وهذا بـدوره يؤدي لنـزعات حلـدوث اليشء ذاته يف حضـارات أخرى كام هـو حادث يف
ال من تأكيد الصفة اآلسيوية ،ويف اهلند التي حتاول لبس ثوب هندويس ،أو العامل اإلسالمي الذي انترشت
اليـابان مث ً
فيه األسلـمة .يقول هانتـنغتون مستنتجـاًX :ثمة غرب يف أوج قوته يـواجه أطرافاً أخرى غري غـربية متنامـية الرغبة،
قص احلق 70
25
واإلرادة ،واملوارد الالزمة لصياغة العامل بطرائق وأشكال غري غربية.Z
كام أن هانتنغـتون يعلل هذا الـتغري بقوله أن النخـب احلاكمة يف الـسابق يف املجتمـعات غري الغربـية كانت
مؤلفة عادة من أنـاس كانوا يف وضع أكثر تشابكـاً مع الغرب مثل خرجيي أكسفورد والـسوربون وساندهرست ممن
اسـتوعـبوا مجلـة القيم الغـربيـة ،بينام الـسكان مـشبعـني بالـثقافـة املحلـية األصلـية ،أمـا اآلن ومع العـوملة فـإن هذه
العالقـات ،كام يقول ،بدأت تنقلب رأساً عىل عقبX :ثمـة عملية ابتعاد عن األساليب الغـربية واحتضان ملا هو حميل
أصيل من جـانب الـنخب تتـم عىل قدم وسـاق يف العديـد من الـبلدان غـري الغربـية .Z...وحيـلل هانـتنغتـون الوضع
مـوضحاً بـأن السامت والفـروق الثقافيـة أقل قابليـة للتحول مـقارنة بـالسامت الـسياسيـة واالقتصاديـة ،فقد يـستطيع
شـيوعي أن يـصبح ديمقـراطياً يف روسـيا ،غري أن الـرويس ال يستـطيع أن يصـبح أستونـياً ،كام ال يـستطيع األذري أن
يصبح أرمنيـاً .ففي الرصاعات الطبقيـة واأليدولوجية كـان السؤال احلاسم كام يقـول هانتنغتون :يف أي صف تقف؟
وكان للنـاس االختيار والتغيري من حزب سيايس إىل آخر .أما يف الرصاع بني احلضارات فإن السؤال هو :ماذا تكون؟
وهنا جييب هـانتنغتونX :وكـام نعرف ،فإن من شـأن اإلجابة اخلـطأ عن ذلك السـؤال ،من البوسـنة إىل القفقاس وإىل
السودان ،أن يعني طلقة رصاص يف الرأس ،يستطـيع املرء أن يكون نصف فرنيس ونصف عريب ويف وقت واحد ،بل
26
وأن حيمل جنسية بلدين ،غري أنه من األصعب أن يكون اإلنسان نصف كاثوليكي ونصف مسلم.Z
إن هذا الذي وصفـه هانتنغتـون من رصاع بني احلضارت مل حيـدث إال يف وقت نضج فيه الفـكر الغريب عىل
مبـادئ احلداثة ،فـأين العقل إذ ًا من حماولـة الغرب التحكـم يف العامل اآلخر .فهـو (أي هانتنغـتون) يرمـي باللوم عىل
العامل غري الغـريب الذي رجع لقـيمه ألنه ال يعترب قـيم تلك الشعـوب غري الغربـية عقالنيـة ،وهبذا ظهـر الصدام مع
العامل الغريب العقالين .وهنا أقـولX :شهد شاهد من أهلها ،Zفهـا هو ذا هانتنغتون يعرتف بـأن الغرب يستخدم قوته
لفرض قيمه عىل العامل .أي أن الغريزة املنفعية السلطوية غلبت االحتكام للعقل .يقول هانتنغتون:
Xفـالقرارات املتخـذة يف جملس األمن الـدويل أو يف صندوق الـنقد الدويل الـتي تعكس مصـالح الغرب
جيـري تقديمهـا إىل العامل كام لـو كانـت عاكسـة لرغبـات األرسة العامليـة ،وعبارة Xاألرسة العـامليةZ
بـالذات بـاتت تسميـة مجاعـية مشـذبة وملطفـة (حلت حمل عبـارة Xالعامل احلـر )Zإلضفاء املـرشوعية
العامليـة عىل أفعال وحتـركات ال تعكـس سوى مصـالح الواليـات املتحدة وقـوى غربيـة أخرى ،وعن
طريق استـخدام صندوق النقد الـدويل ،مع مؤسسات اقتصـادية دولية أخرى ،يـدعم الغرب مصاحله
االقتصادية ويفرض عىل الـدول األخرى مجلة من اخلطط والسياسات االقتـصادية التي يراها مناسبة،
يف أي اسـتطالع لرأي الـشعوب غري الغـربية من املـؤكد أن الـصندوق سـيفوز بتـأييد وزراء املـالية مع
عدد قـليل من اآلخـرين ،غري أنـه لن حيظـى إال بالـشجب واإلدانـة الكـاسحني من اآلخـرين مجيـعاً
تقريبـاً ،ممن سيكـونون متـفقني يف الرأي مع جـورجي آرباتـوف الذي وصـف رسميي صنـدوق النقد
الدويل بـ Xالبالشفة اجلدد املولعني بنهـب أموال اآلخرين ،بفرض القواعد الالديمقراطية والشاذة عىل
السلـوك االقتصادي والـسيايس ،وبخنق احلـرية االقتـصادية .Zمتـخضت السيـطرة الغربـية عىل جملس
األمن الـدويل وقراراتـه ،هذه الـسيطـرة التي ال يـشوهبـا إال امتنـاع الصـني عن التـصويـت بني احلني
واآلخر ،عن إضفـاء الرشعيـة الدوليـة عىل قيام الغـرب باستخـدام القوة لطـرد العراق من الـتصويت
وإلجهازه عىل أسلحـة العراق املتطـورة كام عىل قدرته عىل إنتـاج مثل هذه األسلحـة ،ومتخضت أيضاً
عن اخلطوة غري املسبوقة متاماً التي مكنت الواليـات املتحدة وبريطانيا وفرنسا من جعل جملس األمن
71 2قصور العقل
يطالب ليبيـا بتسليم املتهمـني بتفجري طائرة البـان آم ( )103ويبادر بعد ذلك إىل فـرض العقوبات حني
رفضت ليبـيا االمتثال للطلب .وبعد إحلاق اهلزيمة بأكرب اجليوش العربية مل يرتدد الغرب يف إلقاء كل
ثقله عىل سائر أرجاء العامل العريب ،وهكذا فإن الغرب يقوم عملياً بتوظيف املؤسسات الدولية والقوة
العسكـرية واملوارد االقتصاديـة إلدارة العامل بام يكفل بقاء اهليمـنة الغربية ،ومحايـة املصالح الغربية
وتعزيز القيم السياسـية واالقتصادية الغربية .تلك عىل األقل هي الـطريقة التي يرى هبا غري الغربيني
العامل اجلديد ،وثمـة قسط غري قليل من احلقيقـة يف نظرهتم ،وهكذا فـإن أوجه االختالف يف السلطة
والـنفوذ وأشكـال الرصاع من أجل امـتالك القوة العـسكريـة واالقتصـادية واملـؤسسـاتية تـشكل أحد
منابع الـنزاع بني الغـرب واحلضارات األخـرى ،أما الفـروق يف الثقافـة ،أي يف جمال القيـم واملعتقدات
األساسية فتشكل مصدر ًا ثانياً من مصادر هذا النزاع .Z...
ال) ،متاماً
والسؤال هو :إن كان العامل الغريب عقالنياً ويـؤمن بإعطاء األقليات حلرياهتا (كالشاذين جنسياً مث ً
كام حيـاول محايـة حريـة الفرد ،فلـامذا إذ ًا حياول فـرض هيمـنته عىل من هلـم قيم ختتلـف عن قيمه خـارج حدوده؟
واإلجابـة هي :كام وضحـت يف احلديث عـن األهواء (يف املثـال األول عندمـا فشلت الـدول يف الوصـول حلل ألزمة
التلوث) ،فـإن اليشء ذاته حيدث هنـا (يف املثال الثاين) .فـالعقالنية إن طبقت عىل أرض الـواقع بني الدول فام هي إال
حتقيق للمـصالح .فالدول الغربية تكون جد عقالنية داخل حـدودها ،أما يف عالقاهتا الدولية فلن تفعل ذلك .فالعامل
الـغريب مقتنع متاماً بقيـم حضارته التي يريد فـرضها عىل اآلخرين عىل أن يبقى هـو األعىل .وهنا تناقض عجيب يقع
فيه العامل الغريب وبحامقة :فهو يـريد شعوباً متحررة ديمقراطيـة ولكن حتت هيمنته .فكيف يمكن هلذا الوضع أن
يتحقق .إن هذا التناقض (مـنطقياً) هلو استكبار أمحق .فحكـومات العامل الغريب منافقـة .ترفع شعار احلرية لألفراد
واملشاركة يف احلكم وتدعم يف الوقت ذاته الدكتاتوريـات العربية التي زاد بعضها عن ثالثني عاماً كدعم بن عيل يف
تونس ومبارك يف مرص وعبد اهلل صالح يف اليمن.
وهنـاك استكبار آخر أخرق .يقول هانـتنغتون بأن هناك يف الغرب الكثـري ممن يعتقدون أن احلضارة الغربية
هي احلضـارة الكونيـة التي جيب عىل اجلـميع أن يتبعهـا ،فاألفكـار الغربيـة املتمثلـة يف الفردانيـة والليرباليـة وحقوق
اإلنسان والدسـتور واملساواة واحلـرية وسيادة القـانون والديمقـراطية واألسواق احلـرة وفصل الكنسـية (أو املسجد)
عن الدولة ،هي الطريق األمثل للسعادة ،كام يعتقد الغربيون ،برغم ظهور اإلثباتات من األبحاث بعكس ذلك كام
يقول هانـتنغتون .ففـكرة إمكانـية وجود حـضارة كونـية شاملـة هي فكرة غـربية متنـاقضة مع خصـوصية أكـثرية
ال .فبعد عرض ملئة دراسة ِ
مقارنـة للقيم يف جمتمعات خمتلفة توصل العرض الستنتاج يقول إن املجتمعات اآلسيوية مث ً
Xالقيـم األكثر أمهـية للغـرب هي األقل أمهيـة للعامل كـكل 27.Zفربغم كثـرة مثل هـذه الدراسـات ،وبرغم انـتفاض
بعض الشعـوب وبالذات املثقفني من أبنـائها ضد قيم احلضـارة الغربية (أو باألصح الضالل الـغريب كام سأثبت بإذنه
تعـاىل) ،إال أن الغربـيني ال يريـدون أن يروا عـاملاً آخـر بنظـم سياسـية واجتـامعية ختـتلف عن نظـمهم لقنـاعتهم أن
الديمقـراطية برأسـامليتها هي النـظام األمثل .إن هذا الـرفض عقالنياً هلـو استكبار أمحق :فهل مـن احلكمة أن يقتنع
اإلنسـان العقالين أنه وصـل لنظـام جمـتمعي أمـثل ال يقبل الـتغيري اجلـذري؟ أي أنه يـريـد أن يـوقف عجلــة التطـور
املجـتمعي! فـأين العقل هـنا؟ ألـيس هـذا استكـبار ًا وغـرور ًا؟ ولكنك قـد تقـول :أال ينـطبق نفـس هذا املـنطق عىل
اإلسالم؟ أليـس من الغـرور وتعطـيل العقل أن نـزعم أن اإلسالم هـو الـنظـام املجـتمعـي األمثل؟ فـأجيب :هـذا مـا
سأحاول تقصيه يف هذا الكتاب .فقد تتعـدد النظم املجتمعية والعقول إال أن احلق البد وأن يكون واحد ًا كام سرتى
قص احلق 72
بـإذنه تعاىل .وألن احلق هو أسـاس النظام املجتمـعي فالبد وأن يكون هنـاك نظام جمتمعي واحـد أمثل فقط .وهو ما
نؤمن نـحن املسلمون أنه لدينـا ألنه منزل من احلق سبحانه وتعـاىل .فهو يشء ال نستطيع أن نصل إلـيه بعقولنا .لذلك
ال :إن هذا منطق سلفي
جيب علينا أن نتقصى احلق كمجتمع برشي أين ما كان ومتى ما كان .ولكنك قد تستمر قائ ً
متخلف .فـأجيب :قد يكـون ،ولكنني سأثـبت لك بإذنه تعاىل يف هـذا الكتاب أن البـرشية لن جتد مـنطقاً أفضل من
هذا احلق الذي أتى به اإلسالم ألنه ليس من صنع البـرش .فاإلعجازات العلمية يف القرآن الكريم دليل عىل صحة أن
القرآن الكريـم كالم اهلل العيل القدير وبالتايل دليل عىل صحة ما نـدعيه نحن املسلمون من جهة .ومن جهة أخرى،
فإن فيام سيأيت بـيانه يف هذا الكتاب حمـاولة إلقناع كل ذي حكمـة حتى وإن مل يكن مسلام ً بـأن مقصوصة احلقوق
التي أتت هبا الرشيعة ،هي النظام احلق وغريه باطل ال لسبب إال ألهنا حترر البرش من استعباد بعضهم البعض.
أخي القارئ :لقد ظهرت مقالـة هانتنغتون عن رصاع احلضارات ( )1993قبل أن يـزداد الوضع سوء ًا بالنسبة
للغـرب .ولكن بعد ظهور منظـمة Xالقاعدة Zوتبنيهـا لعدة أعامل استشهاديـة ضد مصالح الغرب وبعـد انتشار سمعة
منـظامت إسالمية مثل Xمحـاس Zو Xحزب اهلل Zونعتها بـأهنا منظـامت إرهابية ،ظهـرت أفكار غربيـة متعددة حتاول
النظر لإلسالم من زواياه املختلفـة لعلها تنجح يف تغيري هذا الدين الـذي ال يقبل بوجود إرسائيل يف قلبه وال ينخرط
مثقفوه وبـالذات اإلسالميني منهم ليصبحوا حداثيني .وسـأضع بني يديك بعض األطروحات ملثل هذه األبحاث لرتى
كيـف أن الغرب حيـاول جاهـد ًا جتريـد املسلـمني من معـتقداهتـم ليصـبحوا كـالغرب املـؤمن بـاحلداثـة .فمـن هذه
ال ،واجلـهاد هـو قتل
األطروحـات أن اإلسالم دين يـرفض اآلخـر وأنه يـولد اإلرهـاب ،فاإلسـالم يدعـو للجهـاد مث ً
مقدس لآلخـرين من غري املـسلمني كام يقـولون ،وهـذا ختلف ومرض بحـاجة لنـوع من العالج .فظهـرت مقاالت
لفتت نظر العامل هلذا اخلطر القادم عىل الغرب ،أو باألحرى عىل املجتمع املدين الديمقراطي.
لنـنظر أخي القـارئ إلحدى هذه املقـاالت :لقد كتـب بنيامني بـاربر Benjamin Barberبحثـاً يصور فيه
حـال مجيع األمم التي حتـاول التمسك هبـوياهتا خـوفاً من الضـياع أمام تيـار العوملة .فـكان أن اختار كـلمة XاجلهادZ
ال يف مقــابل كلمـة
جمـاز ًا لـيصف حـال هـذه الـيقظـة سـواء كـان الـسكـان من املـسلمـني أم غريهم كـاهلنــدوس مث ً
Xاملاكـدونالـد Zوالتي تـصف حال مـتقبيل النظـام العاملي اجلـديد ،أو العـوملة .فكـان عنوان بحـثه الذي اشتهـر هو:
Xاجلهاد يف مواجهة عامل املاكدونالد .ZJihad vs. Mc Worldفهو يقول معرفاً اجلهاد:
Xأقر أن كلمـة جهاد قويـة ،إهنا بألـطف صيغها تـوحي برصاع دينـي باسم العقيـدة ،بنوع من احلامس
اإلسالمي ،أما بأقوى جتلياهتا السياسيـة فتعني حرباً مقدسة باسم هوية حزبية حمددة ميتافيزيقياً [أي
غيبياً] وحمميـة بأسلحة التعصب ،ومن ثم فإن اجلهاد الذي قد ال يعني بالنسبة إىل كثريين من املسلمني
سـوى نوع من الغرية واحلامس بـاسم دين معني يمكن عـده أداة مناسبة إلشـاعة النزعـة الكونية (وإن
مل تصل إىل مسـتوى النـزعة املـسكونـية) ،استـمد معنـاه من أولئك الـناشطـني الذين جيـعلون من ذبح
Xاآلخـر Zواجباً مقدساً .إنني أستخدم العبارة ببنيتها الكفـاحية للداللة عىل نزعة خصوصية دوغامئية
28
جامدة وعنيفة معروفة لدى املسيحيني مثلام هي معروفة عند املسلمني.Z... ،
ويوضح باربـر أصل الرصاع بني عاملـي اجلهاد واملاكـدونالد عىل أنه مـا أطلق عليه William Batlerوليم
بتلر اسم:
73 2قصور العقل
أي أن باربـر ينتقد كال املنـظورين اجلهادي واملـاكدونالـدي ال ليشء إال خلوفه عىل الـديمقراطيـة العقالنية.
فيقول بأن املنظور األول للعامل عىل أنه عامل اجلهاد هو منظور متجذر يف:
Xتربة العـرق باألفق املظلم لنـوع من عودة قطاعـات واسعة من البرشيـة إىل احلالة القبلـية الغارقة يف
بحـار احلروب والـدماء :لـنوع من خطـر بلقنة الـدول القوميـة حيث متسك هـذه الثقافـة بخناق تلك،
ينقض هـذا [هؤالء] القـوم عىل ذاك [أولئك] ،تبـادر هذه القبـيلة بنهـش تلك ،يتم إطالق اجلهـاد باسم
املئات من العقائد املفهومة بصـورة ضيقة ومشوهة ضد سائر أشكال التبعية املتبادلة ،ضد مجيع ألوان
التعاون اإلجتامعي املصطـنع والتبادلية :ضد التكنولـوجيا ،ضد الثقافة الشـعبية [ثقافة البوب] ،وضد
األسواق املندجمة ،ضد احلداثة نفسها جنباً إىل جنب مع املستقبل الذي حيمل احلداثة يف رمحه.Z... ،
ولكن ملاذا هـذا اخلوف من كال الـتوجهني :لعـلك استنتجت أن بـاربر قلق عىل الـديمقراطـية التي أوجـدها
ال من عامل اجلهاد وعامل املاكـدونالد يندفعان بقـوتني متساويتني يف اجتاهني
الغرب ،وما ذلك إال (كام يقـول) ألن ك ً
متعاكسني،
ال عىل إعادة خلق Xاألول مدفـوعاً بـأحقاد حملـية ضيقـة ،واآلخر بـأسواق كـونية مـوحدة ،األول عـام ً
ِ
حدود حتـت قومـية وعـرقيـة قديـمة مـن الداخل ،والـثاين دائـباً عىل جـعل احلدود القـوميـة ُمنفـذة من
اخلارج ،ومـع ذلك فإن للجهاد وعامل املاكدونالد هذه الصفـة املشرتكة :كالمها يشن حرباً عىل الدولة
القومية ذات السيـادة ويعمل ،من ثم ،عىل تقويض مؤسـسات الدولة القوميـة الديمقراطية ،كل منهام
يراوغ املـجتمع املـدين ويقلل مـن شأن املـواطنـية والـديمقـراطيـة دون أن يسعـى أي منهـام إىل إجياد
أفـضت ممـارســاهتام النـاسفــة ألسس الـدولـة إىل تقــويضهـا ،كام أن جـ) ثم يلخص باربر قلقه عىل الديمقراطية مضيفاًX :يف زمحة املجاهبة
األسـواق العامليـة ومجاعـات قرابـة الدم بعيـدة عن خدمـة اخلري العام بني الـتجارة العـامليـة واالنتامء العـرقي الضـيق ،تضيع فـضائل الـدولة
وعـن السعـي إىل املسـاواة والعـدالـة .فـاألجهـزة القضـائيـة املحـايـدة الديمقراطية وتتعرض مجلة األدوات التي مكنت هذه الدولة هبا مجلة
واملجالس التشاورية ال تضطلع بأي دور لدى عصابات القتلة السائبة األقـوام والشعـوب من التحـول إىل أمم والـوصول إىل امـتالك السلـطة
التي تتحدث باسم Xالشعوب Zاملتحررة حديثاً.)31( Z... ، الـسياديـة باسم احلـرية واملـصلحة العـامة للـخطر .ال اجلهـاد وال عامل
املـاكدونالـد يتطلعـان إىل إعادة تأمـني الفضائل املـدنية واألهلـية التي
قص احلق 74
مؤسـسات ديمقـراطية بـديلة ،لعل اخليـط املشرتك بينهـام هو خيط الالمـباالة باحلـرية املدنـية .يقوم
اجلهاد باجرتاح مجاعات قائمة عىل الدم متجذرة يف تربة اإلقصاء واحلقد ،مجاعات حتتقر الديمقراطية
لصـالح النـزعة األبـوية االسـتبداديـة أو النزعـة القبـلية الـقائمـة عىل اإلمجاع ،أمـا عامل املـاكدونـالد
جـ
فيجرتح أسواقاً عاملية متجذرة يف تربة االستهالك والربح .Z...
هكذا كام ترى فـإن الغرب وأتباعه يـرفضون األديان ألهنـا بالنسبـة هلم قد تدمـر املجتمعات الـديمقراطية
الـتي أنتجتها عـقوهلم .ولكن أين املفـر؟ فاألديان حقـيقة واقعة البـد من مواجهتهـا .لذلك ظهرت حـركة احلوار بني
األديان لتذيب ما بني األديان من خالفات لتتحد حـول مفاهيم جتمع سكان األرض عىل ما هو ديمقراطي .ولكن ما
هـو اخليط الذي جيمع بني األديـان؟ انظر ملكرهم للـوصول ألهدافهم :لقـد قالوا إنه األخالق .فظهـرت حركة لنرش
التـآلف بني األديان من خالل األخالق اإلنسانيـة .يقول هانس كونغ ،Hans Kungوهـو الشخص املكلف بكتابة
مسـودة البيان الـصادر عن االجتامع األول الـذي دعى إليه جملس بـرملان أديان العـامل الذي عقد يف شيـكاغو بني 28
أغسطس و 4سبتمرب سنة 1993والذي حرضه ستة آالف ومخس مئة شخص من معظم األديان:
Xلـن يكتب للـديمقـراطيـة أي بقاء مـا مل يتم اجرتاح نـوع من التحـالف بني املـؤمنني واملـالحدة عىل
قـاعدة االحرتام املتبـادل ...لن يكون ثمـة سالم بني احلضارات يف غـياب السلـم بني األديان! كام لن
يكـون أي سلم بـني األديان دون إجـراء حوار بـني هذه األديـان ... .ليس [لـن] يكون ثـمة أي نـظام
عاملـي جديـد يف غيـاب منظـومة أخالقـية كـوكبـية جـديدة ...ال يـسعني إال أن أكـرر أن املنظـومة
األخالقيـة الكوكبية ليست إيديـولوجيا أو بنية فوقيـة جديدة ..املنظومة األخالقـية الكوكبية ليست
إال احلـد األدنى من القاسم املـشرتك عىل صعيد القيـم واملعايري واملواقف األسـاسية اإلنسـانية ،وبعبارة
أدق يمكن أن يقـال :ليست املنظـومة األخالقية الـكوكبية إال نـوعاً من اإلمجاع عىل سلـسلة من القيم
32
اإللزامية ،من املعايري التي يتعذر إبطاهلا.Z... ،
الحظ يف االقتبـاس السابق أنه بدأ بـالديمقراطيـة لينتهي باألخالق! أي أن األخالق املـشرتكة بني البرش (أو
اإلمجاع عىل سلسلـة من القيم اإللزامية ،كام يقول) هي املـدخل لنرش الديمقراطية .يـاله من مدخل خمادع .فبالتسرت
ال
حتت األخالق والتي ال يـستطيع أي عاقل أن يـرفضها سيتم جتـريد املسلمـني من بعض أسس الرشيعـة كاجلهاد مث ً
ليذوب املجتمع املسلم رويد ًا رويد ًا فيبقى اإلسالم يف القلوب حبيساً أو يف أحسن األحوال يف املسجد طقوساً وليس
ال :وألن
ال إلنزال هذه األفكار إىل أرض الواقع .فيقول كونغ معل ً
كنظام جمتمعي فعال .ولقد بدأ التحرك السيايس فع ً
العامل Xمـوبوء أيضـاً بالتطـرف والعنف الدينـيني اللذين يـتم الوعظ هبـام وممارستهام بـاسم الدين ،Zفهـناك حماوالت
جـادة إلجياد دستور عاملي جـديد ،مشابه مليثـاق حقوق اإلنسان ،تتعهـد فيه مجيع األمم بااللتـزام به .فقد قام فريق
عمل مكون من رؤساء الـدول واحلكومات السابقني برئاسـة مستشار أملانيا االحتادية الـسابق هلموت شميدت بتأييد
بـيان شيكـاغو ،ثم متت مـناقشـة البيان يف فـينا يف شهـر مارس سـنة 1996مع خرباء مـن األديان املختلفـة ،ثم جرى
إقـراره بمدينة فانـكوفر يف شهر مايـو 1996؛ هكذا ُسحب بعض املسلمني مـن خالل حفنة من داريس الرشيعة (وال
أقول رجـال الديـن) للتنـازل عن أسـس معتقـداهتم وذلك أن جمـرد املوافقـة عىل قيم أخالقـية عـامليـة يعنـي أن هذه
األخالق مقدمـة عىل كل يشء آخر بام فيهـا السياسـة والقانون .فـهناك حيثيـات متتاليـة يذكرهـا هانس كـونغ منها
ال )X :البد لألخالق من أن تتقدم عىل السياسة والقانون ،ألن الفعل السيايس مهتم بالقيم واالختيار ،ومن ثم فإن
(قائ ً
عىل األخالق أن توجه وتلهم قيادتـنا السياسية .Zأي أن عىل احلـكام اخلضوع هلذه القيم األخالقيـة الكوكبية .هكذا
75 2قصور العقل
يتم جتـريد اإلسالم من احلكم بام أنـزل اهلل .فإن أراد حاكم مـا منع البنوك الـربوية فلـن يستطيع ذلك ألن األخالق
الكوكبية املتفق عليها ستمنعه من ذلك .كيف؟
إن من احليثيات إلجياد نـواة للمنظومة األخالقية الـكوكبية االنطالق من رضورة معامـلة Xكل إنسان معاملة
إنسانية! ذلك يعني أن كل كائن برشي ،دونام متييز عىل أسس السن واجلنس والعرق والبرشة واللون والقدرة البدنية
أو الذهـنية أو اللغة والـدين ووجهة النظـر السياسـية أو اجلذور االجتامعـية ،يتمتع بكـرامة ثابتـة ال يمكن املساس
هبـا 33.Zفإن أراد تـاجر مـا إنشـاء بنـك ربوي فلـن حيق للدولـة منعه .ولـعلك الحظت أخـي القارئ أيـضاً أن تقـديم
األخالق عىل القـانون ،أي قـانون مجـيع املجتمعـات ،واملسـاواة بني مجـيع البرش ،البـد وأن يعني أنه ال حيق للـمسلم
التفكري يف اجلهاد لنرش اإلسالم .أال يتعـارض هذا مع ما فعله الرسول صىل اهلل علـيه وسلم ،وبالذات ما فعله اخلليفة
الثـاين عمر بن اخلطاب ريض اهلل عـنه وأرضاه قبل فتح العراق والـشام من ختيري غري املسـلمني بني اإلسالم أو اجلزية
أو القـتال؟ ليـس هذا فحـسب .بل هنـاك املزيـد :لوضع مـنظومـة األخالق الكوكـبية الـتي جيب أن ختضـع هلا مجيع
األديان فقـد تم وضع مـبدأيـن تنطلـق منهام املعـايري لألخالق الكـوكبـية ،وهـذان املبـدءان مها (كـام يقول هـانس
كـونغ)X :جيب التعـامل مع مجيع الـبرش بطـريقة إنـسانـية .افعل لآلخـرين ما يـطيب لك أن يفعـله اآلخرون لك.Z
وينبغي هلـذين املبـدأين أن يشكـال املعيار العـام الذي ال يقبل اجلـدل وغري املرشوط بـالنسبـة جلميع جمـاالت احلياة
وجلميع األديـان والعرقـيات كام يقـول كونغ .هلـذا فقد تم تـأكيد عـدة توجهـات كمعايـري منهاX :االلـتزام بثقـافة
الالعنف واحرتام احليـاة كلها :بـتلك الوصيـة القديمـة قدم الـزمن :ال تقتل! أو احرتم احليـاة بصيغـة اإلجياب.Z... .
الحـظ عبارة ... Xأو احرتم احليـاة بصيغة اإلجيـاب .Z...أدرك أهيا القارئ أنـك قلت (إن مل تكن مؤمنـاً بأن القرآن
كالم اهلل) :هل يريد هـذا املؤلف (أي مجيل أكرب) حتـريض املسلمني عىل سفـك دماء اآلخرين حتت مـظلة اجلهاد؟
فـأجيب :كام سـأوضح يف فصول الحقـة بإذنه تـعاىل فإن املـسلمني إن مل جياهـدوا فإن احلكم بـاإلسالم لن ينترش يف
األرض ولكـن الذي سينترش هو الفسـاد ببعديه (التلوث البيئي واالنـحالل اخللقي) .فإن مل تقر بأن االنحالل اخللقي
كارثـة الختالف قيمك ،فمـن احلكمة أن توافـقني عىل أن التلوث البـيئي كارثة قـادمة ال حمالـة .فالبد إذ ًا من اجلهاد
إلنقـاذ كوكب األرض ألن هـذا اإلنقاذ لن يـأيت إال باحلكم بـالرشيـعة ،ولكن يف الـوقت ذاته (وهذا جـد مهم) ترك
احلريات للناس العتناق ما أرادوا من األديـان والعادات .أي ال إكراه يف الدين ،ولكن حتت مظلة مقصوصة احلقوق
إلنقاذ األرض من فساد قادم ال حمالة (وسيأيت بيانه بإذنه تعاىل).
وحتى ال ينقاد العامل إىل الفوضى ،كام يقولون ،فقد تم وضع تقرير أعدته هيئة إدارة العامل من قبل منظمة
األمم املتحـدة بعنوان :حارتنا الـكوكبية .ويقول هـانس كونغ بأن املقـصود بإدارة العامل ليـس حكمه ،فهذا أمر غري
واقعـي ،بل حماولة Xحتقـيق التوازن بطـريقة متكـن إدارة الشؤون الكـوكبية مـن التجاوب مع مصـالح مجيع الناس يف
مـستقبل قابل للدوام ،أي بطريقة تكون معها مسرتشدة بالقيـم اإلنسانية األساسية ،وبطريقة جتعل التنظيم الكوكبي
منسجام ً مع تنوع العامل .Zوممـا حيويه التقرير هو تعزيز األمن الكوكبي وإدارة الـتبعية االقتصادية املتبادلة وتقوية
سيادة القـانون (القانـون الدويل) عىل النطـاق الكوكبي وإصـالح األمم املتحدة 34.أي أهنم بـاختصار يـريدون إجياد
نـظام جلميع البرش بجميع معتـقداهتم للعيش معاً حتت نظـام دويل حيق فيها لكل مجاعة فعل مـا تريد ما مل ِ
تعتد عىل
اآلخرين تعـدياً مبارش ًا .فهم هبذا يـؤكدون عىل حقوق األقليات مـهام كانت معتقداهتم مثل الـشاذين جنسياً .أي أن
قص احلق 76
القانون الدويل سيحمـي طوائف مثل اللوطيني والسحـاقيات واملرابني .وقد ال يـكون رضر هؤالء مبارش ًا عىل األفراد
اآلخـريـن ،ولكن مع الـزمن قـد تـنتقل عـدوى مـرض هـؤالء عىل الـبعض اآلخـر من أفـراد املجـتمع .لـذلك يـمنعه
اإلسالم .أمــا هم فال يـريـدون ذلـك حتت شعـار احلـريــات .ولكن أنــى هلم ذلك .ملـاذا؟ نعـود اآلن إىل صـامـويل
هـانتنغتـون Samuel Huntingtonفهو يـرى يف حديثـه عن صدام احلـضارات اسـتحالـة مثل هـذا املنظـور :فهو
يقول:
Xتؤدي الفـروق يف الثقافة والـدين إىل ظهور خالفات حـول أمور السيـاسة والتخطيـط ،بدء ًا بحقوق
اإلنـسان ووصوالً إىل قـضايا اهلجـرة والتجارة واألعامل ،ومـرور ًا بمشكالت الـبيئة .يتـمخض التجاور
اجلغرايف عن صدور مزاعم إقليميـة متضاربة من البوسنة إىل مينداناو ،لعل األهم هو أن جهود الغرب
الراميـة إىل نرش قيمه املـتمثلة بـالديمقـراطية واللـيربالية بـوصفها قـيام ً كونيـة شاملـة ،إىل احلفاظ عىل
هيمنته الـعسكرية ،وإىل تـدعيم مصاحله االقتـصادية تولـد ردود ًا مقابلة لـدى حضارات أخرى ،ومع
تنـاقص قـدرهتـا عـىل استنفـار الـدعم والتحـالف بـاالستنـاد إىل أسـاس األيـديـولـوجيـا ،سـوف تبـادر
احلكـومات واجلامعـات إىل مضـاعفة مـساعيـها للحـصول عـىل الدعم عـرب مناشـدة الديـانة املـشرتكة
واهلوية احلضارية .وهـكذا فإن صدام احلضارات حيدث عىل مستويني ،فعىل املستوى الضيق تتصارع
اجلامعات املوجـودة عىل امتداد خطوط الـصدع الفاصلة بـني احلضارات ،بعنف غالبـاً ،حول السيطرة
عىل األرض .أما عىل النطاق العام املـوسع فإن دوالً منتمية إىل حضارات خمتلفـة تتنافس يف ما بينها عىل
امتالك املـؤسسات الدولية واألطـراف الثالثة ،وتظل عاكفـة عىل التباري يف جمال نرش قيـمها السياسية
35
والدينية اخلاصة.Z
وباخـتصار :إن أعدت قـراءة ما سبق وغريهـا من كتب واضعاً يف ذهـنك أن العامل الغريب حيـاول جاهد ًا (أو
يتظـاهر أنه حياول جاهـد ًا) نرش قيمه الديمـقراطية داخل حدود الـدول مع حماولته اهليمنـة عىل تلك الدول القتنعت
أن العقالنية ال يمـكن أن تنتهي إال بنـظام دويل هييمن فـيه األقوى عىل األضعف ،ونظـام جمتمعي هييمـن فيه األغنى
عىل األفقر (كام سيـأيت بإذن اهلل) .أي أن العقالنية هـي أداة للمفاضلة وليـست للعدل .أي أهنا أداة تقـول شيئاً وتنتج
شيئـاً آخر .فـاألرسة قد تكـون عقالنيـة لتحقـيق أهدافهـا ،ولكن عىل مسـتوى احلي ،إن كـان لسـكان احلي احلق يف
ال فإن النـاتج هو تغليب مصـالح األكثرية أو األقـوى والذي قد ال يكون يف
تقـرير املصري من خالل التـصويت مث ً
صالح إحدى األرس .وكـذلك عىل مستوى احلي ،فقد يكون سكان احلي عقالنيني لتحقيق مصاحلهم ،أما عىل مستوى
املدينـة فإن األقوى هو الذي حيقق مصاحله الذي قد ال يكـون يف صالح سكان حي آخر .وكذلك املدن ،فقد تكون
املـدينة من خالل حاكمها ومعاونيه عقالنية يف حتقيق مصاحلها ولكن بعض املدن لن تستطيع أن حتصل عىل ما تريد
إن مل تكـن قوية عىل مستوى الدولـة .واليشء ذاته بني الدول كام مر بنا .وهـكذا كل يعتقد أنه عقالين يف مستواه،
بنـاء عىل سلطته وقـوته (وهناك بحث مـتميز 36يف
إال أنه عىل املـستوى األعىل منه إمـا أن يكون خـارس ًا أو ال يكون ً
هذا املوضـوع) .ولعل أوضح مثال عـىل هذا هو مـؤسسات الـدولة كالـوزارات .فمعظم الـوزارات تعتقد بـاستخدام
العقل أهنا مـن األهم ،وأن ما تقـدمه من خدمـات هي من األهـم ،ولذلك تـسعى للحـصول عىل أكرب قـدر ممكن من
املوازنة العـامة حتى وإن كـان هذا عىل حسـاب قطاعات أخـرى أهم .فأهيام أهم ،مـؤسسات الكهـرباء أم التعليم؟
ومن يقرر يف هذه املـسألة؟ إنه األقوى .وهكـذا يرتاكم اخلارسون يف مجيع املسـتويات ليشكلـوا جزء ًا له سلبياته يف
املجتـمع كام سيأيت .أي أن الـعقالنية ،ال تنـتج إال خارس ًا ومنتـرص ًا لتكون الرتكـيبة املجتـمعية مكـونة من مـؤسسات
77 2قصور العقل
متصارعـة تستنهك الكثـري من موارد املجتمع حلل هـذه الرصاعات .أما مـا تفعله الرشيعة فهـو فصل متقن بني مجيع
بنـاء عىل كفاءته دون احلـاجة لـلرصاعات ،بل بـالفصل
األطـراف بقص احلقـوق ليحصل كل طـرف عىل ما يـستحقه ً
َ^صلِنيَ )( ،وسيأيت بيانه بإذن اهلل) .وبرغم
ي eلcف ِ
ُص eلcحَ َّق وَهُ وَ خَ ُ c
لل يَق ُّ
املـتقن بينهم كام قال تعاىل( :إِنِ eلcحُ ك cمُ إ اَِّل ِ هَّ ِ
كل هذا الوضوح ملآيس العقالنية إال أن الغرب يـرفض األديان متاماً .فهو ال يريد لألديان أي دور ال يف التخصصات
العلـمية مـثل دراسة القـانون أو االقتـصاد ،وال يف علـم املستقـبليات الـذي ُين ّ
ظـر إلجياد مـا يسمـى بـ Xالنظـام العاملي
اجلديد.Z
اعلقل أم المتكني
أي أن العـقل لكل غريب أو علامين هـو املرجع األسـاس يف معظم التـوجهات الفلـسفية املعـمول هبا سـابقاً أو
ال ،يا هلا من خـديعة وقع فيها العامل .لقد أصبح العقل
املعارصة ،أو تلك التي تبحث عن خمرج ألزمـة احلداثة مستقب ً
البرشي القـارص هو املحـور وهو املحك وهـو املقرر وهـو العصب .إنه كل يشء .ومـن مل يقبل هبذا فهـو ناقص يف
كيانه ومـرفوض يف منـطقه .فاملفكـرون املسـتكربون ال يريـدون أن يروا أن األمـم ستنتهي بـالعقالنيـة إىل املصالح
الـذاتية التي إن تـراكمت ستدمـر البرش ،وهذا وضع كل مـسلم مفكر يف حرية :فـإنجازات احلداثـة من راحة للبرش
كاخرتاع اهلواتف الذكية أمر ملموس .لذلك يكون السؤال :هل هذا اإلنجاز التقني الغريب بسبب احلداثة؟
كام قلت :فمعـظم ادعاءات املفكرين ترص عىل أن الـعقالنية يف احلداثة هي الـسبب األهم هلذه اإلنجازات
لـدرجة أن هـناك نظـريات تعـزو ختلف املسلمـني إىل عدم إعامل عقـوهلم .وأنا ال أرى ذلـك ،والذي أعتقـده هو أن
XCالتمكني للـشعوب Zالذي أتت به احلـداثة ،والذي كسـبه الغرب من خالل حكمه لنـفسه بعد حترره مـن الكنيسة،
أدى هلذه اإلنجازات .فاحلداثة مكونة من شقني :عقالنية برشية من جهة ،ومتكني للشعوب من جهة أخرى .وأعني
بالـتمكني هنـا أن الناس يـدركون من خـالل تعاملهـم يف جمتمعهم الـرأساميل أن سعـادهتم يف نظـام رأساميل مربـوطة
بزيادة دخلـهم ألن لكل يشء سعرا .وزيادة الـدخل هذه تأيت من املثـابرة عىل العمل وابتكـار ما هو جـديد أو نحوه
من حمفزات ،ومن ثم حريـة احلركة يف املتاجـرة بام تم إنتاجه ببيعهـا يف مناطق أخرى ،وهذا مـا اتفق الغربيون عىل
الX :لـذلك
نعته بـالفـرنـسيـةX :دعه يعـمل ،دعه يمـر .Zlaissez faire, laissez passerفيقـول د .حممـد ربـيع مث ً
يالحظ أن زيـادة اإلنتاج والـتقدم االقتصـادي والعلمي كانـا قد اقرتنـا بحصول الفـرد عىل حقوق وحـريات وفرص
جديـدة تسببت يف إعالء شأنه وتعـزيز إنسانيـته إىل حد كبري 37.Zفاملجتمع الـغريب كفل لكل من يعمل حقه إن هو
ُ
وحفـظ مثل هـذه احلقـوق هي أهم حـافز جـد يف العمـل وثابـر عىل االبتـكار؛ وكـفل له أو لغريه حق املـتاجـرة به.
لألفراد لإلنجـاز .أي أن إنجازات احلداثة هي بسبـب متكني الشعوب وحفظ احلقوق الـتي أدت للمزيد من الكسب
املـادي لألفراد الـذين دأبـوا للمـزيد مـن العمل واإلنتـاج واالبتـكار .وهكـذا انطلقـت املجتمعـات احلداثـية .أو عىل
األصح ،انفلتت ملزيد من االستهالك والذي تراكم ليلوث األرض ومن عليها .أي أن هذا اإلنجاز املادي ليس بسبب
العقالنية ،ولكـن بسبب حفظ حقوق األفراد الذي أدى للتمكني .وهذا التمييز بني العقالنية والتمكني مهم ملوضوع
هـذا الكتاب ،وهـو خطأ وقع فيه الـكثري .فمعظم الـباحثني اعتقـدوا أن عقالنية احلـداثة هي أهم سبـب إلنجازاهتا،
قص احلق 78
ولـذلك انـتقدوا اإلسـالم يف العقالنيته (كـام يزعـمون) .وهـنا يف هـذا الكتـاب (كام سنـرى بإذن اهلل) أرص عىل أن
Xالتمكني Zيف الغرب (وبـرغم أنه مبتور مقارنة بام تـقدمه الرشيعة) هو سبب هـذه اإلنجازات .وأن العقالنية تبقى
فاعلـة عىل املستوى االبتكاري ،أما عىل أرض الـواقع للفصل بني األفراد ،فهي برغم دفع شعـوهبا للمزيد من اإلنتاج،
إال أهنا املسبب للفساد ألهنا تنقلب إىل مصالح وأهواء .وهذا أمر ال مفر منه للمجتمعات التي تأخذ باحلداثة.
وبالطبع ستسأل :إن كان التـمكني للشعوب هو من إفرازات احلداثـة ،وأنه رفع اإلنتاجية ،فلامذا ال نأخذ به
كمسلـمني؟ فأجـيب :إن ما يـطرحه هـذا الكتـاب هو أن اإلسالم أكـثر متكـيناً ممـا أتت به احلـداثة ،كام أنـه أكثر
حترير ًا لألفـراد .فام حيتاجه البرش هـو جمتمعات متمكنـة متحررة يف حركتهـا .وما تقدمه احلداثـة هو بعض التمكني
مع الكثري من التقيـيد ،لذلك ثـار فوكو عىل الـتقييد كام وضحـنا .فشتـان بني جمتمعني :أحـدمها ،أي اإلسالم ،أفراده
مـتمكنـون (كام سنـوضح يف الفـصول 3إىل )7ويـنطلقـون دون تقيـيد حـركتـهم (الفصـول 9إىل ،)17واآلخر ،أي
احلـداثي ،أفراده متمكنون جزئياً مع تقييد يف احلركة .فقـد أوجدت املجتمعات احلداثية الكثري من القيود التي تثبط
اهلمم (الفصول 8و 12و .)18ولكـن إنجازاهتا تبهرك ألنك مل تر البـديل .فلم حيكم اإلسالم لريى العامل ما يمكن
أن يقدمه للبرشيـة من تقدم تقني وإنـتاج غزير وسـعادة دائمة .وإن حكم لكـان حال العامل اآلن يف وضع خمتلف.
أو كـام أزعم يف هذا الكتـاب ،لتمكن املـسلمون يف القـرن السادس أو حـتى الرابع اهلجـري من ابتكار احلـاسوبات
واهلواتف النقـالة ونحوها من منجـزات ،وألصبحنا اآلن يف حضارة متقـدمة جد ًا تليق بإنسـانية البرش .أي أن الغرب
مل يتقدم إال اليسري ،وألن املسلمني مل يتقـدموا نرى تقدم الغرب إنجاز ًا ،فـاإلنسان املبدع الذي خلقه اهلل عز وجل،
إن تفـاعل مع ما أوجـده اهلل من خريات عىل األرض بـاالحتكـام ملقصـوصة احلقـوق ألنتج الـكثري وبنـوعيـة عالـية.
فحذار أخي القارئ وأختي القارئـة من اخللط بني العقالنية والتمكني .وهذا التـمييز هو من أهم حماور وأطروحات
هـذا الكتـاب (وسيـتضح أكثـر بإذنـه تعاىل) .وقـبل االستمـرار ،البد مـن املرور رسيعـاً عىل بعض نـظريـات ختلف
املسلمني والتي ترص يف طرحها عىل أن ختلف املسلمني هو بسبب رفض العقالنية البرشية !
أسابب اتلخلف
لقد ُنـرش الكثـري من الدراسـات التحليلـية عن أسـباب ختلـف املسلمـني .فام حدث يف اجلـزائر التـي قدمت
مـاليني الشهداء يثري الدهشة ،فبعد مخسني سنة من االستقالل وبرغم كل الثروات واملعادن التي هبا ،وبرغم الطقس
البـديع واألرض اخلصبـة ،وما إىل ذلك من عـوامل العزة ،فـربغم كل هذه املقـومات الـتمكينيـة إال أن شباهبـا الفقراء
يـقذفون بـأنفسهم عىل أعتـاب أوروبا التي تـزجهم طرد ًا .فام هـو الذي ينقـص العامل اإلسالمي لـيتخلف؟ إنه سؤال
حمري ،ولإلجـابة علـيه ظهرت أسئلـة أخرى :هل الـتخلف بسبب اإلفـرازات املعارصة أم أنه آت من املـايض؟ هل هو
من عوامـل داخل األمة أم من خـارجها بـسبب مكـر أعدائهـا؟ هل هو غيـاب التقنيـة أم غياب املفـاهيم اإلنتـاجية
السامـية؟ أين هي مكامن اخللل ومـا هي بدائل النهوض؟ وبـرغم كثرة األسئلة إال أن هنـاك إمجاعاً عىل أنه كلام زاد
تـاريخ األمة عراقـة كلام كان ملـاضيها حـضور ًا مؤثـر ًا يف توجهها املـستقبيل ،واألمة املـسلمة تكـاد تكون من أعمق
الشعـوب حضارة .فال يمـكن تاليف أو مسح ماضـيها من الذاكـرة اجلامعية .ومـن الباحثني من يـرى أن تقدم الغرب
79 2قصور العقل
ليس إال اقـتصاديـاً وتقنيـاً ،أما من الـناحيـة االجتامعـية والنفـسية واألمـنية فهـو يف كآبـة وضياع ،وأن احلـضارة هي
حمصول التقدم يف مجيع املجاالت األمنية واألخالقية واالقتصادية والتقنية.
وبالطبـع ،ونظر ًا الختالف القنـاعات والتخصصـات بني الباحثـني ،فقد اختلفت تفـسرياهتم عن سبب ختلف
املسلمني .وسأعرض لك بإجيـاز أهم نظريات التخلف ،فهي أكثـر من أن حترص .بل يمكن القول بأن لكل مثقف يف
العـامل اإلسالمي نظريته اخلاصـة به ،وسأبدأ بام ذهب إليه اإلسـالميون :فهم يرون أن سبب الـتخلف اجلوهري هو
اإلعـراض عن كتاب اهلل وسنـة نبيه صلوات ريب وسالمه علـيه .وبسبب هذا اإلعـراض انترش اجلهل بالـدين وبالتايل
ال كـام يقولون:
انترش احلكم بغـري ما أنزل اهلل ،فـأقيمت كل احليـاة بعيد ًا عن اإلسالم ،فـانترش الفكـر اإلرجائي مث ً
وهـو أن يؤمن اإلنسـان بقلبه وال مكان لإليامن يف تـأطري العمل .فيكفي أن يـؤمن اإلنسان أن اهلل عـز وجل موجود،
وأن اإلسالم حق ،وأن الرسول صىل اهلل عليه وسلم قد بعث ،ثم ال يـرضه ما فعل ،أو كام قالت املرجئة :ال يرض مع
اإليـامن ذنب ،كام ال ينفـع مع الكفر طـاعة .ومـن األسباب أيـضاً (يف نظـرهم) يف هذا اإلطـار ضعف عقيـدة الوالء
والرباء .فـالدين ليس مـرجعاً يف من يوالـونه املسلمون ويعـادونه ،بل هي املصالح واألهـواء .ومن أسباب التخلف يف
نظـر اإلسالميني أيـضاً هيـمنة علـم الكالم عىل أبواب االعـتقاد بحجـية أن العقل له احلـق يف أن يقول كلمـته ،فكان
ال متـى ما ذكـر املأمـون الذي أذن
الـتخلف بسبـب تعريب كـتب الفلسفـة .هلذا كـان ابن تيـمية رمحه اهلل يقـول مث ً
برتمجـة كتـب الفلسفـةX :عليه مـن اهلل ما يـستحق .Zومـثل هذه األسـباب أدت إىل اجلـهل الذي مـزق الوحـدة التي
متيزت هبا األمة ،فظهرت الفرق كالبهائية والقديانية ،فعاد املسلمون كام كانوا يف اجلاهلية ممزقني بفعل العصبيات.
وازداد الضعف باالنبهـار بالغرب ثم االقتداء به .فـالضعيف يقلد القوي ،فكـانت اهلزيمة النفسيـة والتبعية املطلقة.
أو كام وضحها شكـيب أرسالن :إن من أعظم أسـباب انحطـاط املسلمني فقـدهم كل ثقة بـأنفسهم .وهـذا من أشد
األمراض االجتامعية وأخبـث اآلفات الروحية ،وال يـتسلط هذا الداء عىل أمـة إال ساقها للفنـاء .ومن األسباب أيضاً
ظهور البـدع (كام يقول اإلسالميـون) ،فالبدعـة هي النار الـتي حترق املجتمع ،أو هـي األكسجني الذي يـزيد النار
احرتاقاً ،فيزيد التخلف هشاشـة .ومن األسباب أيضاً معاناة األمة من اخلـونة عىل مر التاريخ مثل ابن العلقمي الذي
أعان التتار عند سقوط بغداد سنة 656هـ .ومن أعظم اخلـيانات بالطبع اخليانة الفكرية .ومثال ذلك كتاب عيل عبد
الرازق عن Xاإلسالم وأصول احلكم .Zوالذي ذهب فيه إىل فصل الدين عـن الدولة .ولعل املثال األشهر هو كتابات
طه حـسني التي حتـث عىل اتباع الغـرب .لذلك كـان لضعف العلـامء يف توجيه األمـة األثر الـواضح يف التخلف كام
يقول اإلسالميون.
ومن البـاحثني من يرى أن التخلف بسبب التصادم بني الفكـر القومي والفكر اإلسالمي :فالفكر القومي مل
يكـن ليوجـد يف العامل اإلسالمـي ولكنه انتقل مـن أوروبا إىل العـامل اإلسالمي من خالل األتـراك ،فاألتـراك بحرص
احلكم يف جنـسهم ،وما إليـه من قرارات مركـزية ،أوجدوا نـوعاً من التحـزب يف العامل اإلسالمي ضـدهم ،وهذا ولد
الشعـور بالقومية يف وقت كان هـذا الشعور منترش ًا أيضاً يف الـعامل الغريب ،فانترشت النزعـة القومية والتي كان البد
هلـا وأن تصـطدم مع اإلسـالم الذي ال يعـرتف بالقـوميـات كمـيزة تفـرق بني الـبرش ،فكـان التمـزق .ومن األسـباب
للتخلف ما هـو خارجي ،مثـل كتابات املـسترشقني املضللـة واجتامع كلمة الـكفرة عىل اإلسالم برغـم شتاهتم .ومن
ال من ضمن
الباحثني من يقبل هبذه األسباب إال أنه حيـاول جاهد ًا إجياد خمرج هلذا التخلف .فالداعية عمرو خالد مث ً
قص احلق 80
ما عزاه من أسباب للتخلف هو البطالة التي قد تصل إىل %30يف العامل العريب .ويعزو ذلك إىل التعليم الذي ال يلبي
مطالب السوق وإىل عدم وجود مـرشوعات قومية كبرية متتص هذه البطالـة وإىل قلة الصناعات الصغرية واملتوسطة
والتي ستـوفر الـكثري من املنـتجات ببعـض اجلهد واملبـادرة وما إليهـا من أسبـاب كضعف التجـارة البينيـة بني الدول
ال قوله
اإلسالمية .لذلك نجده حياول إجيـاد وصفات معاكسة ألسباب التخلف للخـروج منه .فمن هذه الوصفات مث ً
بأن العزة ال تكون إال بـاملبادرة ذات اإلرادة العظيمـة .واإلرادة ال تكون إال بإيامن شديـد بفكرة ما مع أمل كبري يف
حتقيـقها .ومتـى ما تكـونت اإلرادة العظـيمة وتـوافرت اإلمكـانات الـنفسيـة واملاديـة فإن الـنجاح أكيـد بإذن اهلل إن
تغريت نفوس الناس وبرامج التـعليم ،وهكذا من حماوالت وكأهنـا ترمي باللوم عىل عمـوم أفراد املجتمع دون الرتكيز
بالدرجة األوىل عىل األنـظمة احلاكمة .ولعله معذور فهو حياول تـاليف االصطدام مع احلكومات ليتمكن من التحرك
يف مساحة أكرب للوصول ألكرب عدد من الناس.
ويف الـوقت ذاته ،فهـناك من الـباحثـني من حياول الـتوجه مـبارشة إىل أصل املـشكل بنـقد النـظام احلـاكم من
جـذره .فمن أهم الـنظريـات وأقواهـا لدى اإلسالمـيني ما بـدأ ينترش بـني كثري من البـاحثني مـن أن السبب الـرئيس
للوهن هو سيـايس بالدرجة األوىل ويكمن يف طريقة الوصول للحكم ومن ثم يف تداوله ،ومن أمثلة ذلك كتاب عبد
اهلل الـنفييس Xعندما حيكم اإلسالم ،Zوكتـاب حاكم املطرييX :احلرية أو الطـوفان .Zوكل الذي سبق قليل من كثري
من نـظريات اإلسالميني التي بحثت يف ختلف املسلمني .أما الطرح الذي حياول هذا الكتاب إثباته فهو قد ال يناقض
ما سبق ،إال أنه يعزوه مجيعه إىل اخلروج عن مقصوصة احلقوق.
ويف النقيض فـإن عموم الـباحثني غـري اإلسالميني رأوا أن التخلف هـو بسبب عـدم فصل الدين عـن الدولة،
كام يف الغـرب .وبالطبع ،فهؤالء الباحثون يـرحبون بالديمقراطية .ويـنبثق من هؤالء من يركزون عىل أن السبب يف
التخلف هو غياب مفهوم املواطنـة ،فالعامل اإلسالمي يميز بني املسلم واملسيحي كام يقولون؛ أما العامل الغريب ،فإن
اجلميع فيه مواطن وبغض النظـر عن الدين .فالعلامنيون مل يفرقوا بـني األفراد إال بكفاءاهتم ،وهذا التمييز يف العامل
اإلسالمي أدى لضعف اإلنتاجية .ومنهم من يرى أن الـتخلف هو بسبب التسلط يف غياب الديمقراطية ،وأنه بدأ مع
الدولة األمـوية ،وأن حكام العامل اإلسالمي متكنوا من توظيف الدين ملـصاحلهم .فرجال الدين الذين حيومون حول
السلطان الـذي استخدمهم لتـوطيد دعائم حكـمه سبب رئيس يف التخلف ألن رجـال الدين استخدمـوا الدين وسيلة
لتكفري هذا وتكميم فم هـذا وزندقة ذاك كام يفعل اجلاميـة اليوم .وهبذا تم استئصـال كل من خالف احلاكم .حتى
أن مثقفـاً عربياً (أبو يعرب املـرزوقي) عزى التخلف إىل خلل يف علم الكالم .فهو يـرى أن الفلسفة حتولت من علم
يبحث عن احلقيقة إىل علم يدافع عن عقيدة ما .فاملؤسسات بدل أن تعمل للدين تستعمل الدين .فهناك جواب ديني
بدل السؤال الـديني عند العـامل ،وهذا يقتل التقـدم يف التأويل ألن التـأويل قد خرج عن الـدين .ومنهم من يرى أن
الرتاكامت العـديدة التـي تداخلت من الـدين والعادات ومـا إليها ممـا ال يتوافق مع الـتقدم العرصي جعل مـن الدولة
ال بالبريوقـراطيات التي ال تتعـامل مع مشاكل الغـد إال بأفكار األمـس ،أي وكأن كل دولة إسـالمية عبارة
جهـاز ًا مثق ً
عن رشكة كبـرية خارسة .ومنهم من رأى أن مشكلـة املسلمني هي يف حتزهبم وانـقساماهتم ،فام أهنك الـدولة العثامنية
ال هو حماوالهتا املستمـرة إلمخاد الفتن التي أثارها الشيعة ،وعدم تفرغهم (أي العثامنيون) لسحق أوروبا التي كان
مث ً
ِ
مـن املمكن أن تكون قـد أسلمت إن أمنـت الدولة الـعثامنية جـانبها الـرشقي .وهذا االنقسـام طائفي عـرقي ،وهناك
81 2قصور العقل
وقليل من البـاحثني يرى أن الـتخلف بسبب اللغـة :فاللغة العـربية العامـية أصبحت هي الـلغة التي حتمل يف
مضـامينهـا التجارب املعـارصة النابعـة من العامـة ،أما املـؤسسـات االقتصـادية واإلعالميـة والدوائـر احلكوميـة فقد
تعـاملت فيام بينها باللغة الفصحـى ،فحدث انقطاع بني اللهجتني أخل يف مسرية بلـورة التجارب مما عرقل سري التقدم
كام يقولون .ومن الـباحثني من يعزو ختلف املسـلمني نسبياً إىل انعدام Xالـفردانية Zindividualismيف املجتمعات
املسلمة .فـاملجتمعات الغـربية ما هـي إال انعكاس ملنظـومة حقوق األفـراد التي ُوضعت بطـريقة تتـيح للفرد حتدي
املنظـومة االجتـامعية الـسائـدة ،وهذا دفع األفـراد ملزيـد من االستقالليـة واالعتامد عىل الـذات ،وبالتـايل االنتعاش
االقتصـادي والتفوق التقني إذ أن الفـرد يسعى وراء مصلحته اخلـاصة فيكون أكثـر إبداعاً لتنـافسه مع اآلخرين ،ما
رفع مـن إنتاجـية املجـتمع .ومن املفكـرين من أخـذوا بنظـرية املـؤامرة :ومقـالتهم الـدائمة هـيX :وماذا نتـوقع من
األعداء غري املؤامـرة علينا؟ .Zأمل يتم رضب حممد عيل باشا ليتم تفكيك مصانعه يف مرص ومن ثم نقلها إىل الغرب يف
وقـت كانت اهلوة التقنية بني الغـرب والعامل اإلسالمي صغرية ،وأن التاريخ يعيد نفـسه ،فهاهم حيتلون عراق صدام
حسـني الذي حاول الـنهوض عسكـرياً .ومنهـم من يعزو التخلـف لعوامل اقتصـادية تارخيـية ،كالغـزو الترتي الذي
قطع خـط احلريـر مع الصـني التي استخـدمت البـوصلة بـاملرور بجـنوب اجلـزيرة العـربيـة فامتت البـرصة وبغداد
اقـتصاديـاً ،فسقط العـامل اإلسالمي بسـقوط قلبهـا االقتصـادي يف عهد العبـاسيني واستمـر السقـوط .ومن نظـريات
الـتخلف أيضـاً ما أثـاره البـاحثـون يف علم الـتغذيـة بأن شـعوب دول العـامل الثـالث نـظر ًا لـفقرهـا تفتقـر إىل الغذاء
املنـاسب ،إذ أنه ُوجد من األبحـاث أن متوسط خاليـا دماغ الطفـل الغريب تزيـد عىل متوسط خاليـا دماغ الطفل يف
ال بحوايل ،%20وهـذا بالطبع سيؤثر عـىل أداء البرش يف املجتمعات .ومنهم من يـرى أن العقلية املسلمة
بنجالدش مث ً
هي عقلية شفهيـة وليست تدوينية ،فالعقلـية التدوينية ظهرت يف عرص النهـضة يف أوروبا ،وقد كان العرص العبايس
تدوينـياً ،إال أن العثامنيني أرجعـوا العقل املسلم إىل الشفـاهة مرة أخـرى .ومنهم من يسـأل :هل نحن أمة نقل أم أمة
عقل؟ ويرصون عىل أننا أمـة نقل ،فنحن ننقل ما كتبه األسالف بتقـديس يصعب معه نقده ،لذلك فـاملسلمون ليسوا
أمة عقل (كام يدعون) ،فكان الـتخلف .ومنهم من يقول بأننا أمة تؤمـن بالغيبيات ،وأن هذا اإليامن بغري املحسوس
أجـهد البـحث عن احلقيقـة ،فالبـحث العلمي الـذي حمص املـادة وجرهبـا وحتداهـا وطوعهـا يف الغرب ،مل يـتأصل يف
الفكـر اإلسالمي ،فكـان التخـلف التقني الـذي جذب معه الـتخلف االقتصـادي .ومنهـم من يرى أن الـتخلف سببه
قص احلق 82
القيود عىل الفرد يف املجتمعات املحافظة التي ال جتعله مبدعاً ،أما القيم واملبادئ التي يؤمن هبا الفرد (كام يف الغرب)
فهي أقوى من أي قيود تفرض عليه ،أي أن الشعوب التي تعيش حتت تقاليد متوارثة ال تستطيع التخلص من ماضيها
فتدفن مواهب شباهبا ويفقدون اهلمة وختبوا طاقاهتم وتقيد مواهبهم ليحل التخلف.
وهناك نظـريات ساذجـة مل يستطع أصحـاهبا التعمق يف فهم جمـريات األمور فكـانت استنتاجـاهتم سطحية
دون حتليـل معمق :فمن هـؤالء من يقول أن الـتخلف بسـبب ارتفاع الـكثافـة السـكانيـة .وهذا كـام هو معلـوم أمر
مشكـوك فيه إذ أن الكثـافة الـسكانـية مـصدر ثـراء كام سيـأيت بيـانه بإذن اهلل .ومـنهم من يقـول أنه بسـبب احلكم
ال) واالقتصـاد املوجه ،وبالـطبع فإن التخلف كـان قبل ظهور مثل
العسـكري الفردي (كمـرص مجال عبد الـنارص مث ً
هؤالء احلكـام الذين قلدوا مـن سبقهم مثل حممد عيل بـاشا .ومنهم من يقـول بأنه بسبب إهـدار األموال يف األسلحة.
فقـد أنفقت دول العـامل العريب خـالل عرشة سنـوات يف أواخر الـقرن العـرشين 130ملـيار دوالر لـتصبح األسـلحة
خردة يف املـخازن .ومنهم مـن يعزو التخلـف إىل عدم اهتامم العـامة بـالعلم وتنظـيم الوقت .فـالغريب يقـرأ يف املطار
ال .ومنهم من يقول بأن املجتمعات املسلمة مل تأخذ ال باإلسالم وال بالعلامنية ،فضاعت كام
واملسلم ال يفعل ذلك مث ً
38
يقولون .ومنهم من يسأل حرياناً :هل اإلسالم دين مدين أم ال؟
إال أن هنـاك نظـريات قـوية قـد تقنـع من مل يكن واعـياً هلـا بتـبنيهـا ،ولعل من أمههـا تلك التـي ختوض يف
التـمكني ،وهو جـوهر مـوضوع هـذا الكتاب ،لـذلك سأعـطي هذه الـنظريـة عن التخلف بعـض التوضـيح :كام هو
معلـوم فإن املجتمعات البرشية مرت كـام يقول املؤرخون بعدة مراحل من التـطورات :فهناك عرص الصيد والرعي،
ثم عـرص الزراعـة ،ثم عرص الـصناعـة واآلن عرص املعـرفة .أو هنـاك العرص احلجـري والعرص الربونـزي ،وهكذا.
وهناك طرح منترش يف الغرب وقد خلصه الدكتور حممـد ربيع بقولهX :هنالك الكثري من الدالئل التارخيية التي تشري
بوضـوح بالغ إىل أنه لـيس بإمكـان أي جمتمع دخول مـرحلة تطـور تاليـة وعيش حيـاهتا كامـلة بقيم ونـظم ومواقف
وعالقات مرحلة سـابقة .Zأي أن العامل اإلسالمي لن يـتمكن من اخلروج من هذا الـوهن إذا مل يغري قيمه وعالقاته
39
االجتامعيـة واالقتصـادية والـسياسـية بني أفـراده لتشـابه تلك التـي يف الغرب ،أي أنه الزال يف املـرحلة الـزراعية.
فالدكتور حممد ربيع يقول ناقد ًا الوضع يف العامل العريب لكل من اإلسالميني والقوميني:
Xوحيـث الفكر الـديني ،وال أقـول الدين ،يـدعو إىل العـودة باملجـتمع العريب مـن حيث القيـم والنظم
واملواقف القيـمية واملؤسسات إىل مـا كان سائد ًا قبل عرشات القـرون يف ظل حضارة الرعي والبداوة،
وإن الفكر القـومي جاء متأثر ًا بثقـافة غربية جتـاوزها الغرب نفسه ،وكرد فـعل عىل حركة استعامرية
فقدت مقومات وجودها ،فإن الفكرين الديني والقومي أصبحا جزء ًا من فكر ماضوي وتاريخ قديم
فقد منطقه ومرجعيته بحكم التطور املجتمعي اإلنساين احلديث.Z
وإلثبات ذلـك يرضب د .ربيع مثـاالً تارخييـاً عىل رضورة تغري قيـم املجتمع حتـى تتمكن الـدول العربـية من
ال:
اخلروج من عرص الزراعة لدخول عرص الصناعة ليتأتى التمكني قائ ً
Xأما العراق فيبدو أن قرهبا من اجلزيرة العربية وانتقال مركز الدولة اإلسالمية إليها يف عهد العباسيني
كان سـبباً يف خـضوعهـا من حيـث القيم االجتـامعية واملـواقف القيمـية من العـملية اإلنـتاجيـة لعرص
البداوة وأخالقياهتا القبلية ،وبالتايل أضعف قدرهتا عىل مواصلة مسرية التقدم.Z
83 2قصور العقل
أي أن القـيم البدويـة امللتصـقة بعرص الـصيد والـرعي مل متكن املجـتمع العريب املـسلم آنذاك مـن التجذر يف
العـرص الزراعي الذي تـطلب قيام ً أخرى .ثم يـرضب مثاالً آخر ًا مـن التجارب املعارصة مـدل ً
ال عىل أنه مل يستطع أي
ال باستثامر
جمـتمع قبيل أن يدخل عرص الـصناعة رغم اجلهـود الكبرية التي بذلـتها بعض الدول كـالدول األفريقيـة مث ً
الكثـري من األموال .فـربغم كل معونـات التنميـة ونظريـاهتا ،وبـرغم كل جهود الـبنك الدويل وغـريه من مؤسـسات
دوليـة ،إال أن تلك املجتمعات مل تدخل عرص الـزراعة بعد ،ناهيك عن دخـوهلا عرص الصناعـة أو املعرفة 40.وسنأيت
عىل نقد هذه املزاعم يف فصول قادمة بإذنه تعاىل.
وكام ترى أخي القارئ ،فإن استثنينا ما قاله اإلسالميون بأن سبب التخلف هو احلكم بغري ما أنزل اهلل ،فإن
مجيع اآلراء السابـقة ،وغريها كـثري( ،وبالذات مـا هو متعلق منهـا بتطور املـعرفة ،وسنـأيت عليها يف فـصل XاملعرفةZ
بإذن اهلل) تـتداخـل فيام بيـنها بـطريقـة يصعب عىل أي بـاحث عـزل سبب دون آخـر ،لكن من املالحـظ عىل هذه
األسباب هو أن التي تعزو التخلف لظاهـرة جغرافية أو حدث تارخيي ،وبرغم تأثريها عىل واقعنا ،فإن إصالحها قد
خرج من أيـدينا ألهنـا ذات وضعية خـاصة مـضت قد ال تـتكرر مقـارنة بام هـو مزمن ولـه مضاعفـات مسـتمرة إىل
عرصنـا احلارض .ولعلك الحظت أن معظم أسباب التخلف تلتقي حـول اهتام املسلمني بإحجامهم عن إعامل عقوهلم،
هلـذا ظهرت الكثـري من الكتابـات التي حتلل الفكـر اإلسالمي وتنتقـده يف نخاعه بـأنه دين يؤدي ملجـتمع تقليدي ال
إبداعي .فهنـاك شبه إمجاع عىل أن أهم سبب لتـخلف املسلمني هو مجود اإلسالم كـدين ألنه دفع املسلمني لإلحجام
عن إعامل عقـلهم البـرشي يف البـحث والنقـد وتـسيري املـجتمعـات .فهنـاك شبه إمجـاع يف األوسـاط الـعلميـة عىل أن
ال ال يـنتقدون
املسلـمني قوم ذو عـقلية ال إبـداعية وال نقـدية ألهنم تـرعرعـوا عىل تقبل األمـور دون نقدهـا ،فهم مث ً
القرآن الـكريم وال احلـديث الرشيف ويـسلّمون هلـام ،فالنـص عند املـسلمني مقـدم عىل العقل .وهكـذا فإن عـقلية
املسلمني تـشكلت وأصبحت قارصة عن اإلبداع .هلذا البـد من املرور رسيعاً عىل فئة من تلـك النظريات املطروحة
حول ختلف املسلمني.
مـن أهم هذه الـنظريـات ما رفع لـواءه حممد أركـون ،وهي نظـرية حمـنة خلق القـرآن الكريـم :ففي العرص
العبايس ظهـرت فلسفة املعتزلة التي تقول بأن القرآن الكريم خملوق وليس كالم اهلل العيل القدير ،وقد تبنى املأمون
هذه النظرة وحـاول تعميمها .ويستـشهد حممد أركون بـأن ظهور تلك الفلسفـة ،برغم اصطدامهـا مع املذهب السني
السائد ،مؤرش عىل خصوبة احلركة الفكـرية آنذاك لدرجة اخلوض يف ماهية القرآن الكريم مما أحدث حوار ًا فكرياً
مـتحرر ًا يف ذلك الـوقت الذي كـانت فيه العلـوم يف تقدم بـاهر.د ولـكن الذي حـدث هو وقـوف بعض الـعلامء ضد
فكرة خلـق القرآن الكـريم وعىل رأسهم اإلمـام أمحد بـن حنبل رمحه اهلل .وبـعد اقتـناع اخللـيفة املـتوكل بـأن القرآن
الكريم كالم اهلل أصدر أمـر ًا بعدم اخلوض يف مثل هـذه املسائل .وهبذا تـوقفت احلركة الفكـرية ألن ويل األمر قد
فحـبست احلرية الفكـرية و ُكبتت داخل إطار الـرشع فتوقف العقل اإلسالمي عن
قيدها (كام يـزعم حممد أركون)ُ .
ال متحدياً وبـاحثاً عن اجلديـد ومبدعاً.
ال تابعاً للرشع وبـالتايل جامـد ًا ال عق ً
اجلدل والبـحث عن احلقيقة ،وأصبح عقـ ً
سبب ختلف املسلمـني هلذا ينسون أن املأمـون واملعتصم والواثق قتلوا د) إال أن الـواقع غـري ذلك كام يـذكـر التـاريخ :فقـد تم نـرش فكـر
وعـذبـوا وسجنـوا الفقهـاء لـنرش مـذهب املعتـزلـة .فهم ال يـذكـرون املعتـزلة بـالقوة عىل يـد املأمـون الذي قلـد املنـاصب ملـن قالـوا بخلق
اإلرهاب الفكري الذي مارسته السلطة ضد أهل السنة آنذاك! (.)41 القـرآن وحارب كل مـن رفض فكـر املعتـزلة .فهـؤالء الذيـن يعزون
قص احلق 84
ويف هذا اإلطار ،فهنـاك نظرية أقوى وأشهـر بني الباحثني العرب حـول ختلف املسلمني وهي تدور أيـضاً حول مبدأ
التقليـد والتي بلورهـا حممد عـابد اجلـابري (من املغـرب العريب) يف كتـاباته ،وخالصـتها أن العقليـة العربـية التي مل
تنـاقش القرآن والسنة وتقـبلته وتبلورت عليه من خالل علوم الـدين واللغة ترعرعت بـروح التقليد وأصبحت عقلية
ال إبداعيـة 42.فالعقلية العـربية إذ ًا عقلية ال تنقـد ذاهتا .وقد دار كثري مـن الباحثني يف هذا الفلك مـثل برهان غليون
43
وجورج طرابييش برغم خمالفتهم أو حتى تصادمهم مع اجلابري يف كثري من اآلراء.
أمـا املنظـور األيديـولوجي ،وبـرغم ضيـاعه كمفهـوم يف العامل الغـريب ،إال أنه كان مـا اقتنع به الـكثري من
املفكرين يف نقدهم للمنهج اإلسالمي .فالتعاريف املضطربة التي بلورها كل من ماركس ولينني وغراميش وألتوسري
ومـاهنايم لأليديـولوجيا ،والـتي تضع الغموض والتـناقض لدى كل مفكـر منهم يف مصطلح Xأيـديولوجيـا Zباستخدام
عقله القـارص ،كانـت مع األسف جواد امتـطاه الكثـري ممن درسوا العـامل اإلسالمي مثل العـروي والبيطـار وغليون
وحنفي واستخـدموا عقـوهلم يف املقارنـة بني احلضـارتني العلامنـية واإلسالميـة ملحاولـة إرشاد العـامل اإلسالمي لنفق
احلضارة .إال أن نظـرية التخلف التي يقتنع هبا الكثري من العـامة تقول بأن املسلمني اهتمـوا فقط بالعلوم التي تربط
اإلنسـان بربه (التـوحيد) وتـربط اإلنسان بـاإلنسان (الفقه) وتـربط اإلنسان بـاألشياء امللمـوسة إىل احلد الـذي يفيد
ال (وهو كائن ال يـرى ولكنه يستـوعب حميطه
اإلنسـان .أما دراسة األعيـان لذاهتا ،كـدراسة حيوان كـالوطواط مثـ ً
بسمعـه مما أدى إىل اخرتاع الرادار) فقـد اعتربت من العلم الـذي ال ينفع وأنه مضيعـة للوقت الذي قـد ال يثاب عليه
اإلنسـان .وبذلـك أهدرت الكثـري من جمهودات املـسلمني يف اختـصار ورشح كتـب الدين بـدل توجيههـا يف دراسات
ميدانيـة أو معملية (استكـتشافية) تـدفع عجلة العلم والتقـنية لدى املسلـمني .وهكذا ختلف املسلمـون كام يقولون.
ولعل مما زاد الكثري قنـاعة بمسـبب التخلف هو اكتـساب هذا الطـرح قوة عىل يد األجيـال املعارصة التي درست يف
الغرب من خالل ربطه بعلم تقدم العلوم ،أو علم اإلبستمولوجيا .epistemologyفالتخصصات العلمية واإلنسانية
يف الغرب تستمد أفكارها يف تقدمها العلـمي من علم تطور العلوم .فقد كثرت األفكار يف ذلك التخصص عن أفضل
الوسـائل لدفـع عجلة العـلم قدمـاً إىل أن تبلـورت يف عدة نـظريـات ،منهـا مث ً
ال نـظريـة كارل بـوبر Karl Popper
وتلميذه إمـرا الكاتوش Imre Lakatosمن جـهة ،ونظريـات توماس كـون 44 Thomas Kuhnمن جهة أخرى
(وسنـوضحها يف فـصل Xاملعرفـة Zبإذن اهلل) .فربغـم وجود اختالفـات بينهـم إال أهنم يشرتكـون يف الفكرة األسـاسية
باعتامد العقل البرشي وال يشء غريه.
وأخري ًا بقي لنـا علم التنميـة .فالبد من املرور رسيعـاً عىل هذا العلم الذي حيـاول معاجلة الـتخلف باستخدام
العقل فـأقول :ألن العـامل الغريب الـذي حكـم بعقله انتهـى بفئـات كبـرية من املجتـمعات إىل الـفقر واجلـهل واملرض
والذي ازداد سوء ًا مع العوملة ،فقد ظهر علم Xالتنمية Zالذي تبنته األمم املتحدة ليعالج هذه املآيس .وكأي علم آخر
يف العامل الغـريب ،فقد ظهـر لعلم الـتنميـة هذا أدوات وطـرق حتليل ونـظريـات ،وكل هذا بـالطبـع باستـخدام العقل
الـبرشي .ويـعد هـذا العلم اآلن أهـم وأقوى تـوجه يـوضح سـبب ختلف سكـان العـامل الثـالث عـمومـاً ،ومن بـينهم
املسلمـون ،ومن ثم يضـع العالج هلذا التخلف .لـذلك سنؤجل تـوضيح ونقد هـذا العلم إىل فصـل Xالفصل والوصلZ
نتقص مقـصوصة احلقوق يف اإلسالم أوالً ،وذلك حتى تكون املقارنة مقنعة.
بإذن اهلل ألننا لن نتمكن من نقده إن مل ّ
ولكن لغرض التوضيح البد من إعطاء نبذة قصرية عن علم التنمية حتى تتسنى لك أخي القارئ املتابعة.
85 2قصور العقل
يتلخـص طرح علم التـنمية يف أن مـشكل العامل الثـالث يكمن يف عـدم استثامر جمـتمعاته يف الفـرد بتمكينه،
وذلك بتوسيع دائرة خياراته ألنه هو (أي الفـرد) حمور تركيز جهود التنمية .فـالفرد يف العامل الثالث ال مشاركة له يف
أي قرار وبالذات السيايس .فهـو بذلك مهضوم احلقوق ،وهبذا فهو ال إبـداعي وغري منتج .أي أن العالقة بني التنمية
اإلنسانية وحقـوق اإلنسان هي من أهم ركـائز تقدم أي أمة .فحـقوق اإلنسان تولـد الفرص للفرد باحلـركة ،ومتى ما
حترك أنجـز وأنتج .وعىل هـذا فإن فقـر التنميـة اإلنسـانية أشـد وطأة مـن الفقر املـادي ألنه حيد من قـدرات األفراد
واملجتمعـات عىل االستخدام األمثل ملواردهـم اإلنسانية واملـادية .ويف هذا اإلطار تـأيت املطالبة بـالتساوي يف احلقوق
بني أفراد املجتمع ،ومن ضمـنها التساوي بـني الرجل واملرأة .فدور املـرأة يف العامل العريب كام يقـولون قد انحرس يف
اإلنجاب ،فـأكثر من نصف النسـاء يف العامل العريب اليزلن أمـيّات ،وأن معدل وفيات األمهـات أثناء فرتة الوالدة هو
ضعف معدهلا يف أمريكا الالتينيـة ،وأربعة أضعاف معدهلا يف رشق أسيا .وهـذه كلها مؤرشات عىل عدم املساواة يف
املواطنة ويف احلقوق القانونيـة كالتصويت واالنتخاب بني املرأة والـرجل .لذلك كانت االستفادة من املرأة يف العامل
العريب هي األقل يف العامل لعدم تساوي فرص العـمل ،وهلذا سيعاين الكل يف املجتمع بتعطل نصفه ،وما هذا إال مثال
واحد .وبالطبع فإن هذا اهلضم للحقوق قد ساهم يف زيادة الفقر يف العامل العريب ،كام يقولون .فهناك مواطن عريب
واحد يعـيش عىل دخل يقل عن دوالرين يـومياً مـن بني مخسة مـواطنني .هذا بـاإلضافة إىل ضـعف الرعايـة الصحية
والتعليم .لـذلك فإن من أولـويات التـنمية االسـتثامر يف حريـة الفرد وتعليـمه .فالقصـور يف احلريـة يضعف التـنمية
اإلنسانية ويشكل أحد أكثر مظـاهر ختلف التنمية السياسية .ويف هذا اإلطار البد من حماربة املحاباة يف املجتمعات
ألهنا حتبط املبادرات وحتـرم البرش من اجلدارة واإلبداع .فاحلرمان والالمـساواة يف القدرات والفرص قد تكون أكثر
45
وباالً من الفقر .فال خمرج لألمم املتخلفة إال بتوسيع خيارات أفرادها ليتمكنوا من احلركة واإلنتاج كام يقولون.
ولعلك ستلحظ بإذن اهلل ،أن األفكار التي ينادي هبا علامء التنمية تنطلق من املنظومة الغربية للحقوق ،فهي
تـطالـب بتطبـيق الديـمقراطـية الغـربيـة ،فهي إذ ًا وبـطريقـة غري مبـارشة تنتقـد العقل املسلـم بالـتحجر وذلـك بعدم
ال لوجـود الرشيعة واألخذ منها كينبـوع لألفكار التنموية .فعلامء التـنمية مل يعرتفوا باإلسالم كطريق
االلتفات أص ً
للتنـمية حتـى بمجرد النـظر إليه ،بل أخـذوا مما توصـلت إليه عقوهلـم من أبحاثهم وجتـارهبم كام سنـوضح بإذن اهلل.
وسرتى أن املفاهيم التنموية ما هي إال حماوالت خلدمة الـرأساملية .فهي أفكار ،وبرغم أهنا نبيلة (كاملساواة) إال أهنا
وضعـت لتُنـفذ داخـل اإلطار الـرأساميل .أي أهنـا حتاول إسـعاف الـرأسامليـة .فهي بـذلك تـدعم استـمراريـة النـظام
الـرأساميل الـعاملـي احلديـث وذلك بمـحاولـة عالج خللـه اجلذري الـذي يفـرز الفـقر بـاستمـرار .وسرتى كيـف هو
التمكني يف اإلسالم بإذنه تعاىل ،عندها سنتمكن من املقارنة ومن نقد علم التنمية واالقتصاد يف العامل الغريب.
وللتلخيص أقول :إن العقـلية البرشية أصبحت هـي املحك وهي املعيار عىل احلكم عىل كل يشء علمي ،وأن
اإلسالم كـدين خرج متامـاً من دائرة النفـوذ يف التقدم العلمـي وإدارة املجتمعات .وهكـذا تم خنق اإلسالم وإبعاده
عن دائرة احليـاة املعارصة متامـاً .فكل من استخدم اإلسالم يف بحثـه أو إدارة شؤون حياته أصبح مـتخلفاً .وبرغم أن
اإلسالم دين حيث عىل استخدام العقل يف أطـر حمددة كام سيأيت بإذن اهلل ،إال أنه ديـن (كام يدعي الكثري) ال يرجع
يف جذوره إىل العقل كـالتفكري يف مـاهية الـوجود ونحـوها ،ويقبل بـالكثري من املـسلامت الواردة يف القـرآن الكريم
والسنـة املطهرة ،هبـذا أصبح أي عمل علـمي يتقبل اإلسـالم متخلفاً .وهـذه حفرة وقع فيهـا الكثري ،فهنـاك فرق بني
قص احلق 86
بحث علمي وإدارة جمتمع مـا ،فالعقالنية الـتي ينادي هبا العلـامء يف البحث العلمي والتي تـدفع العلم لألمام مل حيث
عليهـا اإلسالم فقط ،بل وضع حـركيـات جمتمعـية تـؤدي إليهـا (كام سنـرى بإذن اهلل) .أمـا ما يـرفضـه اإلسالم فهو
العقالنية البرشيـة يف إدارة املجتمع ألن العقل البرشي الذي ال يعلم الغيـب قارص ولن يدرك تراكامت قرارات عقله
القارص والذي سيؤدي ملنظومة من احلقوق ختل باالتزان املطلـوب إلجياد جمتمع أسعد .وهبذا تكون الغالبية العظمى
من أفكار البـاحثني من خالل احلداثـة أو الثورة عليهـا أو اهتام املسلمني بـالتقليد أو من خالل علـم تطور العلوم أو
التنمية قد اتفقت عىل أن كبح العقل سيؤدي للتخلف .فهل هذا صحيح؟ وما هو دور العقل يف اإلسالم؟
رمض إلاديز
لقـد ُوضع املسلم املفكر يف مـأزق .فاحلداثة تـدفع املجتمعات تقنـياً لألبعد عن شامله ،والـرشيعة اإلسالمية
التي اهتمت باجلمود تشـده من يمينه ،والتاريخ السيايس املصبوغ باملـؤامرات والشتات يسد عليه الطريق من خلفه.
وجمتمعه املـسلم املتخلف الـذي يعزو هـذا التخلف للـرشيعة يقـف من أمامه .فـكيف يميض هـذا املسلـم بمجتمعه
قـدماً؟ وبالـذات عندما يـطلب منه أقرانه مـن علامء االقتصاد والـسياسة واالجـتامع جتديد اإلسالم هلـم .فكان البد
علـيه من أن يتخـذ منهجـاً .فمنهـم من أخذ بـالرشع من جـذوره ،وبالـطبع مل ينجـز الكثـري ألن الوضع الـسيايس مل
يسـانده ،واهتم بأنه سلفي .ومنهم من اقترص عـمله عىل الدعوة لتطهري القلوب من شـوائب الدنيا ،واهتم بأنه تبليغي،
ومنهم من محل الـسالح وجاهد احلـكام واهتم بأنه إرهـايب ،ومنهم ،ومنهم ... ،وهـكذا ظهرت التـيارات واجلامعات.
وتعالت الـدعاوي بتـحديث اإلسالم ممـا دفع بعض علامء املـسلمني الغـيورين إىل إعـادة النظـر يف أحكام الـرشيعة
بدعوى االجتهاد ،حتى يف تلك األحكام التي أتى هبا نص!!! وما كان هذا إال لكي ال يتهم اإلسالم بالتخلف.
ولكن ملاذا هـذه املآيس التي يعـيشها املـسلمون؟ إن مـا يرص عليه هـذا الكتاب هـو أنه بسبب عـدم تطبيق
ال للتعامـل معها ،وأن هذه اآلفـات ستزول إن طبـقت الرشيعة.
الرشيعة مـا أدى لظهور آفـات مل تأت الرشيعـة أص ً
لنـرضب مثاالً توضيحـاً :هل يف الرشيعة نص مبـارش لعالج مرض نقص املنـاعة املعروف بـاإليدز Aids؟ بالطبع ال.
فالسبب يف انتـشار هذا املرض يف الغـرب هو عدم منـع اللواط وتفيش املخدرات .فـمن اإلجحاف إذ ًا أن ُيطلب من
الرشيعة عالج هذا املرض .وهذا مثال صارخ .وكذلك باقي الظـواهر واملآيس التي تعاين منها جمتمعاتنا املعارصة ،إال
أهنا ليست هبذا الوضوح .لنرضب مثاالً هلذا :إن من مبادئ الرشيعة إعطاء الناس احلرية يف استخدام عقاراهتم إن مل
ال أن يغري مزرعته إىل أرض سكنية ،وال حيق لكائن من كان منعه من ذلك
يرضوا بغريهم رضر ًا مبارش ًا .فلإلنسان مث ً
وسلب النـاس من حقهم يف
(وسـنوضحه بـإذن اهلل) .ولكن عـندمـا تم منع إحيـاء األرض بدعـوى التنـظيم العمـراين ُ
اإلحياء ،أي تغريت مقصوصة احلقوق ،مل تعد األرض مباحة للكل وأصبحت أكثر ندرة وبالتايل صار هلا سعر ًا مالياً
مـرتفعاً يفـوق مردودهـا الزراعـي .فانتـرشت ظاهـرة حتويـل األرايض الزراعيـة يف املدن إىل قـطع سكنيـة .ويف هذا
بالطبع هدر لثروات األمة .هنا قام املفكـرون ورجال الدولة املسؤولون عن اإلنتاج الزراعي وطالبوا املجتمع بإجياد
حل جـذري ،فوقع علامء الرشيعة يف حرية .فكان عليهم أن جيتهـدوا إلجياد عالج هلذا الوضع برغم أنه وضع ما أتى
ال إال بسبب اخلروج عن الرشيـعة بمنع إحياء األرض ومنع الناس من إحـياء املعادن .فلم ينترش الناس يف األرض
أص ً
87 2قصور العقل
حيث املعـادن وتكـدسوا يف املـدن التـي هبا الـوظائف احلـكومـية فـكان االزدحـام (كام سـيأيت بـيانـه يف فصل Xابن
السـبيل Zبـإذن اهلل) ،ثم ظهـرت احلـاجـة للفتـاوى والتـي تصـدى هلـا مـن يعتقـدون أهنم علـامء .فهنـاك مـن العلامء
املعارصين من يعتقد أن هذا الوضع املعـارص هو بسبب تغري الزمان ومتطلبـاته ،وليس بسبب اخلروج عن الرشيعة
بالـدرجة األوىل .فكـانت األزمـة التي تـواجه كل متـخصص يف علـم الرشيعـة .فال مفـر إذ ًا من إصـدار فتـوى متنع
األفراد من حرية الترصف يف العقار وإال اهتم اإلسالم بـالتخلف .وبالطبع ،فمن املنطق أال تصدر مثل هذه الفتاوى
إال بـاستخدام العقل الـبرشي حتى وإن كـانت يف إطار الضـوابط الرشعيـة .ويف هذا ،كام سأثـبت بإذن اهلل ،خروج
عن الرشيعـة ألننا نعـالج اخلطأ بخـطأ آخر ،وهـذا هو واقع جمتمعـاتنا اليـوم (وحسبنـا اهلل ونعم الوكيل) ،متـاماً كمن
حياول إجياد عالج ملـرض اإليدز ألنه إن نجح فإن اللواط سـينترش وستظهر آفـات سلبية اجتامعيـة عىل األبناء الذين
ال ،وهكـذا ينسحـب املجتمع من آفـة ألخرى .وهـذه هي املأسـاة التي بسـببها
تـربوا عىل أيـدي هؤالء املنحـرفني مث ً
كـتبت هذا الفصل وفصيل Xالـديوان Zو Xاملكوس ،Zأال وهي استخـدام العقل البرشي يف دراسة الـرشيعة بفتح باب
االجتهاد بسبب تغري الظروف عىل البرش .فـإن ظهرت فتاوى تغري مقصوصة احلقوق فهي إنام توجد وضعاً أسوأ من
ذي قبـل ،إال أن هذا الـسوء لـن يظهـر إال بعـد حني .لـذلك أقـول :ال حيق ألي عـامل التنـازل ،بل جيب اإلرصار عىل
تطبيق الرشيعـة ألهنا إن طبقت ،فـإن للرشيعة املقـدرة عىل إصالح ما أفسـده الناس بحكمهم بـغري ما أنزل اهلل كام
سرتى بإذنه تعاىل .وحتى تقتنع بام سبق أخي القارئ ،أي برضورة قفل باب االجتهاد والعودة للنص ،جيب أن ندرس
أوالً مسـألة دور العقل يف اإلسالم ،ونمـر رسيعاً عىل الضـوابط الرشعـية ،وهو مـوضوع باقـي هذا الفصل (مـلحوظة
مهمة :إن قويل هـنا برضورة قفل باب االجـتهاد ال ينطبق إال عىل حقـوق اآلدميني أو مقصوصـة احلقوق ،وليس عىل
مسائل أخرى ،كام سيأيت بيانه بإذنه تعاىل).
طيبعة ارقلار
مـا هو دور العقل يف اإلسالم؟ إن اإلنسـان كلام فكر أو قـرأ يف هذا الشـأن كلام ازدادت حريته .وذلك ألنه
يف البحـث عن اإلجابـة سيسـتخدم عقله بـال شك ،وعندمـا يفعل ذلك سيـزداد حرية .فكيف اخلـروج من احلرية؟ إن
مشكلة البرش احلقيقية واألهم هي يف غرورهم بمقدرة عقوهلم القارصة .لذلك علينا أال نستخدم عقولنا للخروج من
هذه احلـرية ،بل علينا أن نـستعني باإلسالم .فـكام أن اإلسالم وضع ليد اإلنـسان حمظـورات يف االستخدام كـالرسقة،
ووضع للعني حمـظورات كمنع النظر يف أعـراض الغري ،فقد وضع للعقل أيضاً حمـظورات ومباحات .فعنـدما يستخدم
اإلنسـان عقله من غري وجه حق فـسيخطئ .أمل يـقل سبحانه وتعـاىل( :إِنَّهُ /فَكَّ رَ وَ قَـدَّ رَ 18#فَقُت َِل كَي َcف قَدَّ رَ ) 46.فام
هو املباح إذ ًا ،وما هو املحظور يف التفكري رشعاً؟
كام قلت يف الفصل األول :إن مفرتق الطـريق بيننا وبني غري املسلمـني هو يف طريقة التفكري .فهم ،أي غري
املسلـمني ،يستخـدمون عقـوهلم يف كل شؤون حـياهتم ويفـسدون يف األرض .فكيـف نواجههم؟ إن اإلجـابة هي يف
تـوجيهه سـبحانه وتعـاىل لنا يف القـرآن الكريـم .فلم يأمـرنا سـبحانه وتعـاىل بتعطيـل عقولنـا ،بل عىل العكس ،أمـرنا
باستخدام عقولنا يف التفكر يف كل خملوقاته ،أي يف كل يشء ،ألن كل يشء من خملوقاته تعاظمت أسامؤه .كيف؟
قص احلق 88
كام هـو معلـوم ،فإن تـراكم اخلري والـرش يف أي جمتمـع ما هـو إال نتـاج لرتاكم أفـعال الـبرش .كـام أن هذه
األفعال ما هي إال نتيجة لقرارات يتخـذها أصحاب األفعال أو من يطيعوهنم .وبـالطبع فإن من هذه القرارات ما هو
ال للكثـري من التفكري لرشاء ما يلـبس ،إال أنه قد يرتيث يف اختيـار مدرسة البنه .ومثل
مصريي ،فلن حيـتاج الفرد مث ً
هذه القـرارات املصرييـة ،كشن حـرب عىل دولة أخـرى ،تأيت بعـد تدبـر وتفكر يف معـظم األحوال ،أو بـاتباع هنج
اآلخرين ،كـالسـابقني أو املعـارصين .ولكن يف مجـيع األحوال ،فـإن أي قرار ُيـتخذ يـأيت بعد إعـامل العقل والقلب
واملشورة والتحاليل وما شابه مـن أدوات اختاذ القرار .ويف هذا اإلطار ،فهناك ثـالثة ميادين لدراسة القرارات .األول
هو كيفية وصول العقل للقرار ،والثاين هو آليات أو حركيات اختاذ القرار يف املجتمع ،والثالث هو طبيعة القرار.
بالنسبة لألول ،أي لكيفيـة وصول العقل للقرار ،فاملقصود به هو كيفية تأثر العقل يف عمله عند اختاذ القرار
وعالقة ذلك باملـادة والروح وما إليهـا من أسئلة فلسفيـة تتصل بالعقل ذاته ،والـرتكيز عىل هذه املسـائل اآلن سيبعدنا
عن اهلدف املبارش ملوضوع الكتاب ،أال وهو التمكني؛ هلذا ،فالذي أقرتحه هو تأجيل النظر يف هذه الكيفية ليرشح
عند احلـديث عن املعرفـة بإذن اهلل .أما بـالنسـبة للميـدان الثاين ،أي آلـيات اختاذ الـقرار يف املجتمع ،فـإن املقصود به
احلـيز الذي حيق للفـرد التحرك فيه ،أو مـا حيق له فعله وما هـو حمظور عليه .أي مقـصوصة احلقـوق .وهذا هو جل
موضوع الفصول القادمة.
وبالنـسبة للـميدان الـثالث ،أي طـبيعة القـرارات التي يتخـذها النـاس ،وهي موضـوع هذا الـفصل ،فيمكـننا
تقسيمها إىل نوعني من القرارات :قرارات حمافظة ،وقرارات غري حمافظة .فالقرارات املحافظة هي التي تنبع من عقل
ال بإنشـاء خمبز فإن
حمـافظ كاتبـاع هنج من سلف .مثل االقتداء بقـرار سابق معلوم الـعواقب :فعندمـا يقوم تاجـر مث ً
عواقب استثامره هذا معلومة لـدرجة عالية ألنه إنام يطبق استثامر ًا سبـقه إليه اآلخرون .أما القرارات غري املحافظة
فهي املجهولة العواقب ،وقد متت تسميتها يف الغرب بالقرارات الثورية أو التفجريية ،ألهنا تثور عىل الوضع الراهن،
كمحاولة تـاجر إجياد زي خيرج عن عرف املجتمع كسباً لربح أعىل مث ً
ال؛ أو أهنا قرارات تفجر طاقات كامنة ،كأن
ال يف فائدة مرجوة للمجتمع من جراء التحويل .ولنرضب
يقـوم عامل بتحدى مادة ما بتحويلها من حال إىل حال مـؤم ً
مثـاالً توضيحياً ثالثاً هلـذه القرارات الثورية أو التفجريية :إن إقـامة صالة للتزلج الريـايض يف مدينة صحراوية (مثل
ديب) هلو مرشوع اسـتثامري جريء وبحاجـة للكثري من النفقـات التي قد ال تثمـر .فهل سيتقبل السـكان الدخول يف
جو بارد مل يعتادوا عليه؟ وهل ستتقبل أجسادهم هذا التغـري؟ وهل لدهيم من القناعة ما يكفي لتكرار زيارة القاعة
مرار ًا ورشاء مالبـس خمصصـة هلا؟ وهكـذا من أسئلـة ذات عواقـب مستقـبلية قـد تأيت للمـستثمـر بالـربح الكثري أو
باإلفالس .ومثل هذه الطريقة يف التفكري تدفع املجـتمعات للتجديد والتغيري املستمر إما لألفضل أو لألسوأ .وأقرتح
هنا تسمية هذا النوع من القرارات غري املحافظة بـ Xالقرارات املندفعة.Z
ومن جهة أخـرى ،فهناك تـقسيم آخـر لطبيعـة القرار :أال وهـو حال املفعـول به ،أي عىل من سـيقع القرار.
فكل قرار يتم اختاذه سيقع إما عىل إنسان أو عىل عني .فعندما تتخذ الدولة قرار ًا (أي تصدر قانوناً) بتحديد إجيارات
املسـاكن يف منطقة مـا ،فهناك أناس مـستفيدون مـن هذا القرار وهنـاك مترضرون .أي أن القرار قـد وقع عىل الناس
بـالدرجة األوىل بـرغم تأثر األعـيان املستـأجرة هبذا القـرار (القانون) .وبـالنسبـة لألعيان ،فعـندما يتخـذ الفرد قرار ًا
بحفـر حفرة امتصـاصية (كنيـف أو بيارة) لرصف الفـضالت يف منزله ،فـإن الفعل قد وقع عىل أرض حـديقته ولوث
89 2قصور العقل
أرض مـنزله ،وقـد يلوث أرض جـاره أيضـاً .أي أن القرارات عـمومـاً إما تـقع عىل أناس أو أعـيان .وبـاإلمكان أيـضاً
تقسيم القرارات الـتي تقع عىل الناس إىل قسمـني :قسم ذو تأثري اجتامعي ،مـثل قرار إنسان بمقـاطعة جار له ،وقسم
ذو تأثري متكيني ،مثل قرار شخص مـا بإنشاء مصنع ما .وسنركز هنا عىل القـرارات التمكينية .وهبذا فإن لدينا نوعني
من القرارات :قرارات تقع عىل الناس وقرارات تقع عىل األعيان.
عنـد دمج التقسيـمني سنلحظ أن هنـاك أربعة احـتامالت لطبيعـة القرار ،هي :قـرار حمافظ يقـع عىل إنسان،
وقـرار حمافظ يقع عىل عني ،وقـرار مندفع يقع عىل إنـسان ،وقرار منـدفع يقع عىل عني .وعند فـرز هذه االحتامالت
إىل إسـرتاتيجيـات أو سبل تـسلكهـا األمم سنـلحظ أن هنـاك أربعة سـبل )1 :أمة مـندفعـة يف قراراهتـا جتاه اإلنـسان
والعني ،وبـالعكس )2أمـة حمافـظة يف قـراراهتا جتـاه اإلنسـان والعني ،ثـم )3أمة حمـافظـة يف قراراهتـا جتاه اإلنـسان
ومندفعـة جتاه العني ،وبـالعكس )4أمـة حمافـظة يف قـراراهتا جتـاه العني ومنـدفعة جتـاه اإلنسـان .ومن املالحظ عىل
شعوب العـامل الغريب هو أن قـراراهتم تتجه غالبـاً نحو االندفـاع سواء كان ذلك عىل اإلنـسان أو عىل العني ،أي أهنم
ال ال يلزمون أنـفسهم باالقـتداء بمن سبقـهم يف منظومـات حقوقهم ،بل يـنتقلون من
يسلكـون السبيل األول .فهم مـث ً
منظومة حقوق ألخرى ،هلذا نـرى تركيبة جمتمعاهتم يف تغري مستمر .فهم حياولون حتدي وضعهم القائم يف استخدام
املـواد وتصنيعهـا ،لذلك تكـثر ابتكـاراهتم التي قـد تغري منظـومات حـياهتم أحيـاناً .فمن مـراجعة مـبيعات األحـذية
ال ،تلحظ أن جممـوع املبـيعات قـد ارتفعت يف الـواليات املـتحدة
الريـاضيـة مثل أحـذية نـايك Nikeالريـاضيـة مثـ ً
األمـريكية من 1.785مليون دوالر سنة 1981إىل 6.437مليـون دوالر سنة 1990م ،ذلك ألن لبس احلذاء الريايض
األنـيق أصبح رمز ًا يعرب عن أن مرتديه شخص ريـايض سليم اجلسم والعقل .فاالحصائيـات تقول بأن معدل ما يقتنيه
البـالـغ من العمـر 18عـامـاً هـو 4أحـذيـة .ومـا كـان هـذا القفـز إال من خالل اإلرساف يف اإلنفـاق عىل اإلعالنـات
التجارية التي تضلل الناس أحيانا 47.وبالطبع فإن يف هذه اإلحصائيات إشارة إىل تغري يف طريقة احلياة ،فقد انترشت
رياضة اهلرولة وامليش بني الناس وبالذات يف املنتزهات ،وهكذا تتغري منظومات حياهتم لألفضل أو لألسوأ .فهم ال
يرون بـأساً اآلن من انتشار ظاهرة عيشهم فرادى دون أرس تظلهم لرغبتهم الشديدة يف التمتع بحرياهتم الفردية ،وال
يـرون بأسـاً من انفـصال الـزوجني حـتى وإن كـان يف هذا رضر عىل تـربيـة األطفال .واألسـوأ أن بعضهـم اآلن أباح
ال الزواج والعيـش كعشيقني (اللواط) مع تبني األطفـال لتنشئتهم .فام هو حـال هؤالء األطفال النفيس يا
لرجلني مث ً
ترى؟ وما حدث هذا اخللل االجتامعي والتلوث البيئي إال ألن طبيعـة اختاذ قراراهتم اتسمت باالندفاع الذي يتصف
عادة بـالترسع الـذي ال يسـتطيع أن يـرى عواقـب القرارات إال بعـد عرشات الـسنني النعـدام القدوة بـمن سبق ،أي
القذف بالغيب من مكان بعيد.
وهـنا البد من الربط مع مـا ذكر سابقاً عن العقـل والتمكني من أن سبب التقدم الـتقني يف العامل الغريب هو
محاية حقـوق األفراد (أي التمكني) الـذي أتت به احلداثة ولـيس األخذ بالعقـالنية .واملقصود هبـذا هو أن جمتمعات
العامل الغريب بالثـورة عىل أفكار من سبق كانـوا مندفعني يف قراراهتم جتـاه األعيان ،وهبذا أتت االكتـشافات ،وكانوا
مندفعني أيضـاً يف قراراهتم جتاه أنظمـة جمتمعاهتم االقتصـادية والسياسيـة واالجتامعية ،مع الرتكيـز عىل محاية حقوق
الـفرد ما جعله أكثـر اندفاعـا ،فكان التمـكني ألن ثورهتم عىل منظـومة حقوق أسالفهم كـانت موجهة نحـو حترير
الفرد من تـسلط الكنيسة والـدولة أكثر فأكـثر .وبرغم هذا التقـدم العلمي الصناعي ،إال أن يف هـذا السبيل خطورة
قص احلق 90
عىل البرش بسبب مـا ينتجه من تلوث وانحالل ،فإن حتولت باقي شعوب العـامل لتصبح شعوباً مستهلكة دون حكمة
كـالعامل الغريب فـإن مصري الكرة األرضيـة الفساد ،لـذلك فإن من احلـكمة ترك هـذا السبيل كـقدوة لألمم األخرى.
ولكن املهم لـنا اآلن هـو تأثـري العقل البـرشي يف طبيـعة القـرار الذي أوجـد جمتـمعات مـندفعـة يف شتـى املجاالت،
فكانت جمتمعـات منتجة صنـاعياً ،لذلـك سيثور سؤال مـركزي يف ذهن أي قارئ أال وهـو :إن تم وصف املجتمعات
الغـربية التي أخذت باحلـداثة والديمقراطيـة يف هذا الكتاب بأهنـا جمتمعات مندفعـة يف قراراهتا ،وهذا وصف سلبي،
وهـم (أي الغربيـون) يصفـون هذا االنـدفاع بـاإلجيابيـة ألهنم يعزونـه لتحررهـم من املايض بـإعامل عقلـهم البرشي،
فالبد وأن نوافقهم هنا ملا ذهبوا إليه ألن واقع احلال يقف معهم ،فهم األكثر متكناً وقوة من املسلمني يف وقتنا احلايل!
وإن وافقناهـم يف هذا فالبد بالتـايل من أن نوافقهم يف أن دور العقالنيـة البرشية يف نسج احلقـوق هي السبيل األمثل
لألمم! وهذا ما وقع فيه املفكرون ،ولفهم هذا املأزق الفكري البد من توضيح اآليت:
إن العامل اإلسالمـي سقط يف واقعه املتخلف املـؤمل ألنه اقرتب من سلـوك السبيل الـثاين (أي أمة حمـافظة يف
قـراراهتا جتاه اإلنسان والعني) ،فقـد كان املجتمع املسلم متحفـظاً يف قراراته جتاه األعيان إىل سقـوط الدولة العثامنية
(كام سـيأيت بياته يف فـصل Xاملعرفة Zبـإذن اهلل إذ أن أفراده كانـوا يف معظم األحوال ذوي عقلـية تقليديـة مقلدة فلم
تكـثر املخرتعـات مقارنـة بالغـرب الذي أوجـد الثورة الـصناعيـة) .أما بـالنسبـة لإلنسـان فقد كـان متحفظـاً يف أمور
ومندفعاً يف أخرى ،ومتى ما اندفع برتك هنج من سلف فقد كـان هذا عىل حساب عموم الناس لصالح احلكام .لذلك
فإن املجـتمع املسـلم كان ،واهلل أعلـم ،أقل تقدمـاً يف تقنيته مـن العامل الغـريب ولكنه أكـثر ثبـاتاً يف تـركيبـة جمتمعه.
ونظر ًا هلذا الفـارق يف التقدم التقني مـقارنة بالغـرب كان التوقف االقـتصادي الذي أدى للتـخلف وذلك بسبب عدم
تـطبيق الرشيـعة وبالـذات يف احلقوق التـي إن تغريت (بسبب االجـتهادات الفقهيـة) كانت متيل ألهـواء احلكام عىل
حساب كبت حـركة الناس مقارنـة بام حدث لسكان العـامل الغريب الذي كان يفعل العكـس .وما سيتم توضيحه يف
هـذا الكتاب هـو أن الرشيعة أرادت جمتـمعاً مسلام ً حمـافظاً يف قـرارته التي تقع عىل النـاس ،ويف الوقت ذاته وضعت
مـن احلركيـات ما يـدفع األفراد الختـاذ قرارات تـتحدى األعيـان لتظهـر االبتكارات .أي أن الـرشيعة تـدعو لـسلوك
السبيل الثالث ولـيس الثاين كام وقع .فهي تتالىف القرارات املنـدفعة جتاه اإلنسان ،لذلك وضعـت مقصوصة ثابتة من
احلقـوق التي جيب عىل الـناس اتبـاعها ،أي اتـباع النـص يف احلقوق ،فـال حيق لكائـن من كان أن يـأيت بمنظـومة من
احلقوق ويقرتحها للـناس للسري عليها إلدارة املجتمع .ويف هذا حمافظـة كربى عىل تركيبة املجتمع التي تؤدي لضامن
االستقـرار واالستمـرار املنتج .ولعل املـعجز هـو أن هذه املقـصوصـة التي وضعـتها الـرشيعة بـرغم ثـباهتـا ،إال أهنا
اتسمـت من داخلها بدافـعيتها الشـديدة للناس لـلتمكني وللحركـة الستغالل خريات األرض وتفجري طاقـاهتا ألقصى
مدى ممكن ،أي أهنـا تدفع الـناس بشـدة لتسخـري املادة كام سرتى يف الـفصول القـادمة بـإذنه تعاىل .أي أن الـرشيعة
حتاول إجياد جمـتمع أفراده منـدفعني يف قراراهتم جتـاه األعيان ليـأيت االبتكار والـتمكني ،وحمافـظني يف ذات الوقت يف
قـرارهتم جتاه اآلخـرين من األفـراد باخلـضوع ملقـصوصـة احلقوق الـتي لن تتـغري أبد ًا (الـسبيل الـثالث) والـتي تطلق
األفراد للعمل واإلنتـاج بالفصل بينهم حتى ال تقع اخلالفات املثبطـة أو اخلالفات التي تتطلب تدخل السلطات وذلك
حتـى يضـمحل دور السلـطات مـن خالل ختفيف خطـوط التامس بني األفـراد املتمـكنني .وحتـى ال ينفلـت املجتمع
لفساد من جراء هـذه اإلسرتاتيجية يف التعامل مع األعيان ،وضعت الرشيعـة من احلركيات ما يمنع التلوث من خالل
ذات املقصـوصة للحقـوق .وامللفت للنظـر هو أن هذه احلـركيات املـانعة لـلفساد تـؤدي يف الوقت ذاته لـدفع الناس
91 2قصور العقل
ملزيد من االبتكارات إن طبقت الرشيعة .هلذا ،فإن ما سيحاول هذا الكتاب إثباته بإذن اهلل هو أن من احلكمة ترك
العقل البرشي متى اصطدم مع نص رشعي ألن العقل البرشي قارص مقارنة باحلكمة التي تؤدي إليها الرشيعة.
وهنا البد من التـنويه أن العقالنية ال يمكن هلـا أن تصطدم مع النص ،وإن فعلـت فهي ليست عقالنية عقل
بل عقالنـية أهـواء كام يفعـل الغرب .وألن الـشائـع هو لفـظ Xعقالنيـة Zللداللـة عىل عقالنـية الـبرش ،أي عقالنـية
األهـواء ،فسأستخـدم كلمة Xعـقالنية Zللتعـبري عام ينتجه العـقل البرشي .وهذا وضـع غري سليم ألن من املفرتض يف
العقالنيـة أن تؤدي للحكـمة .ولكن ألن العقالنـية املتصفـة باألهواء هـي الشائعـة كتعبري يف جمـتمعاتنـا فالبد يل من
استخـدام نفس الـتعبري ولكـن بالتـنبه هلذا الـفارق يف املعنـى .وقد تـسأل أخي القـارئ :أليس مـن اإلجحاف وصف
العقل البرشي بـاألهواء؟ فـأقول :عقل مـن سيكون املـرجع؟ فعنـد احلديث عـن العقل البرشي ،فـهناك عقـول كثرية
وبمرجعيـات وقناعات خمتلفة .فلكل فـرد عقله اخلاص به وقناعاته املربرة له .وللخـروج من هذا املأزق وجد العامل
الغريب خالصه يف الديمقراطية التي تطبق عقل األغلبيـة .فالعقلية البرشية هي دائام ً عقالنية َّ
مربرة لصاحبها وأهواء
لآلخرين .لذلك ،وألهنـا قارصة ،فقد تالفت الرشيعـة األخذ هبا يف احلقوق ،وأطلقتهـا يف التعامل مع األعيان .أي أن
الرشيعة تدفع للسبيل الثالث بينام املجتمعات املسلمة سلكت تارخيياً السبيل الثاين فكان التخلف.
ولعل السبـيل الرابع هـو أرش األحوال ،فهـو الذي ال يـدفع األفراد لـتحدي األعيـان وتفجري طـاقاهتـا ،لذلك
سيظل املجتمع املتبني هلذا السبـيل جمتمعاً متخلفاً تقنياً .ويف الوقت ذاته نجـده يقفز يف حقوقه من منظومة ألخرى،
أي أنه منـدفع يف طبيعـة قراراتـه جتاه اإلنـسان ،لـذلك فهـو جمتمع يف تـرد اجتـامعي واقتـصادي .وهـذه متثـل معظم
جمتمعات العامل الثالث (بام فيهـا العامل العريب املعارص) التي تقفز من منظومـات حقوقية ألخرى بتغري أنظمة دوهلا
أو حكـامها الـذين يغريون األنظـمة (بعثيـة أو اشرتاكية) أو يـستحدثـون برامج تنمـوية خمتلفـة ال هم هلا إال سلب
التمكـني من األفراد .فـالقرارات الـتي تؤثـر يف حقوق األفـراد يف جمتمـع العامل الثـالث دائمـة التقلـب .وأخري ًا أرجو
مالحـظة أن ما ذكـرناه سابـقاً ليس وصفـاً دقيقاً حلـال املجتمعات .فـإن ُوصف جمتمع ما بـأنه يتبع السبـيل الثاين مث ً
ال
فهـذا ال يعني أن طبـيعة قـرارات مجيع أفـراد ذلك املجتمع كـذلك .بل هي الـصفة الـسائـدة عىل أفراد املـجتمع كام
حدث يف الـعامل اإلسالمي يف تارخيه الـطويل إىل حني سقوط الـدولة العثامنيـة والذي بدأت بعـده معظم دول العامل
اإلسالمي يف اخلروج مـن السبيل الثـاين والدخول يف الـسبيل الرابع .أمـا السبيل الثـالث ،وهو ما يـدعو إليه اإلسالم،
فقد بقي دون استطراق .واآلن ،ولتأكيد السابق ،لنرى دور العقل يف السبيل الثالث.
Xوال شك أن القـرآن الكريم أضفـى عىل هذه األلفـاظ ثوبـاً جديـد ًا وأعطاهـا أبعاد ًا جـديدة ... ،ففي
حني نجد يف الشعر اجلاهيل وعند املحـاسبي أن األصل يف كلمة عقل التقييد والربط والذهن وإمساك
اليشء أو حبسه والديه ،وهـي تعقل اإلنسان عن الثـأر لقريبه وكأنه رجـح جانب العقل عىل الق ََود أي
الثأر ،إذا صح التعبري ،ثم نرى ابن األنباري وقد تأثر باإلسالم إذ يستنتج من هذه املعاين أن العقل هو
ال ألنه يعقل صـاحبه عن الـتورط يف مجع األمـر والرأي ،ونـرى يف Xاللسـان Zأنه قـد سمي العـقل عق ً
املهالك ،أي حيبـسه ،وهو يوافق الرتمذي يف ذلك التفسـري إذ يقول الرتمذي :إن العقل يعقل النفس عن
متابعة اهلوى ،ولكن Xاللسان Zال يلبـث أن يظهر متأثر ًا باألفكار الفلسفية عندما يقول :إن العقل هو
التمييز الذي به يتميـز اإلنسان من سائر احليوان .وتـظهر النزعة الفلسفيـة بشكل أقوى عند صاحب
القامـوس إذ يقولX :إن الـعقل هو العلم بـصفات األشيـاء من حسنهـا وقبحها .Z...وهكـذا تداخلت
الروح الـدينية اإلسـالمية مع األسلـوب الفلسفـي يف هذه التعـاريف لتؤكـد مدى الـتفاعل مع الـتطور
الثقايف يف تلك العصـور ... ،هذا إىل جانـب تفسريات للعقل كثرية مـنها أنه املرجع يف تقـرير األمور،
وأنه احلصن وامللجأ والعقل والفهم واحلكمـة وبه تتبني األشياء وبه يبتعد اإلنسان عن احلمق والضالل
والرشود ... .غري أن احللـم يأيت كميـزة متفوقـة ،ميزة خـلقية عليـا تدل عىل احلكمـة والتسـامح وسعة
52
الصدر .Z...
ومن هـذا العـرض الـرسيع ،وإن وضعنـا السـابق يف إطـار الـتحفظ أو االنـدفـاع يف القـرارات ،تلـحظ أخي
القارئ أن العقل يف العهد اجلـاهيل ويف أقوال بعض أهل اللغـة يف اإلسالم مل يوجه صاحبه إىل االنـدفاع يف القرارات
بقدر توجيهه إىل التحفظ فيها .فالعقل إمـا حيبس صاحبه عن الوقوع يف ما ال حتمـد عقباه ،أو أنه العلم بشمولية عام
هو كائن ،أو هو صفة تعكس شخـصية حاملها ،وهكذا من تعاريف تبدو كـأهنا حتفظية يف طبيعة القرار أكثر من
كـوهنا دافعـيه له ،فاألصـل تراثيـاً يف العقل ينجـذب للتحـفظ .إال أن اإلسالم أراد عقليـة أخرى غري هـذه .لقد أراد
اإلسالم للمسلم أن يتمتع بعقل يتحدى فيها األعيان .كيف؟
Xعق ََل Zيف القـرآن الكــريم :األوىل هي عـدم ظهـور االسـم Xالعقل Zيف
هنـاك ملحـوظتـان عىل ورود مـادة َ
املواضـع التي قد يتـوقع القارئ أهنـا قد تسـتخدم فيه ،فتـظهر املرادفـات كاحلكمـة والرشد ،أي وكـأن القرآن يتالىف
Xعقل Zعنـدما تستخـدم تأيت بصيغـة الفعل املضارع
عمد ًا استخـدام االسم Xالعقل .Zوامللحوظـة الثانيـة هي أن مادة َ
(وليس االسم) مثل( :لاَّعَلاَّكُ م cتَعcقِلُونَ) .وهبذا يكون السؤال :ما اهلدف من هذه املنهجية؟ وللتوضيح أقول:
بالنـسبة لـتوضيح امللحـوظة األوىل فسـأعطي مثـالني فقط :األول هـو تأويل كلمـة Xاحلكمة ،Zفقـد جاء يف
تـفسري الطربي أن تـأويل قوله تعـاىل( :يُؤ cتِى eلcحِ ك cمَةَ مَـن يَشَ اdءُ) ،هو العقـل .يقول الطربيX :ذكـر من قال ذلك،
ت
حدثني يونس قال أخربنا بن وهب قال :قال بن زيد( :يُؤ cتِى eلcحِ ك cمَةَ مَن يَشَ اdءُ) العقل يف الدين وقرأ( :وَ مَن يُؤَ c
يا كَثِيًا) .Z ... ،وجاء يف تفسري ابن كثري:
eلcحِ ك cمَةَ فَقَد cأُوتِىَ خَ ً c
(Xيُؤ cتِى eلcحِ ك cمَةَ مَن يَشَ اdءُ) :ليست بـالنبوة ولكنه العلم والفقه والـقرآن .وقال بن وهب عن مالك:
قال زيد بن أسلم :احلكمة العقل .قال مـالك :وإنه ليقع يف قلبي أن احلكمة هو الفقه يف دين اهلل وأمر
ال يف أمـر الدنيـا إذا نظر
يدخله اهلل يف الـقلوب من رمحتـه وفضله ،ومما يـبني ذلك أنك جتد الـرجل عاق ً
فيـها ،وجتد آخـر ضعيفا يف أمـر دنياه عـاملا بأمـر دينه بصري ًا به يـؤتيه اهلل إياه وحيـرمه هذا .فـاحلكمة
53
الفقه يف دين اهلل.Z
قص احلق 94
أما يف تفسري قوله تعـاىل( :ءَاتَيcنَ^هُ حُ ك cمًا وَعِ لcمًا) ،فيقول الطـربيX :وقوله (ءَاتَيcنَ^هُ حُ ك cمًا وَعِ لcمًا) ،يقول
تعـاىل ذكره أعطيناه حينئـذ الفهم والعلم .كام حدثني املثنـى قال :ثنا أبو حذيفـة قال :ثنا شبل عن بن أيب نجيح عن
جمـاهد( :حُ ك cمًا وَعِ لcمًا) قـال العقل والعلم قبل النبوة .Zوذكـر الطربي أيضاًX :وأخرج ابـن مردويه عن ابن عباس
54
ريض اهلل عنهام يف قوله( :وَ لَقَد cءَاتَيcنَا لُقcمَ^نَ eلcحِ ك cمَةَ) ،قال :يعني العقل والفهم والفطنة.Z
وبـالنسبة للمثال الثاين :فقـد جاء يف تفسري الطربي يف تأويل قوله تعـاىل يف سورة النساء( :فَإِ cن ءَان َcستُم مِّنcهُمc
رُش cدً ا)X :قال أبـو جعفـر :وأوىل هذه األقـوال عنـدي بمعنـى الرشـد يف هذا املـوضع العقل وإصالح املـال إلمجاع
اجلـميع عىل أنه إذا كان كـذلك مل يكن ممـن يستحق احلجـر عليه يف ماله وحـوز ما يف يـده عنه وإن كان فـاجر ًا يف
دينه .Zوجاء يف الدر املنثور يف تفسري نفس اآلية:
Xوأخـرج ابن أيب شيـبة وعبـد بن محيـد وابن جريـر وابن املنـذر وابن أيب حاتـم عن جماهـد (وَeبcتَلُواْ
eلcيَتَ^مَى) ،قال :عقوهلـم( .حَ تَّى dإِذَا بَلَغُواْ eلنِّكَ احَ ) ،يقول :احللم( .فَإِ cن ءَان َcستُم) ،قال :أحسستم.
(مِّنcهُم cرُش cدً ا) ،قـال :العقل .وأخـرج ابن جـرير عـن الســدي( :وَeبcتَلُواْ eلcيَتَ^مَـى) ،قال :جـربوا
55
عقوهلم( .فَإِ cن ءَان َcستُم مِّنcهُم cرُش cدً ا) ،قال :عقوالً وصالحا.Z
ففي مجيع السابق ،وغريها كثري ،تلحظ عدم ظهور كلمة Xالعقل Zأو مشتقاهتا ،بل تعابري أخرى .ملاذا؟
Xعق ََل Zيف القرآن الكريم يف تـسع وأربعني آية ،إال أهنا مل ترد
وبالنسـبة للملحوظة الـثانية ،فقد وردت مـادة َ
بصيغة االسم قط ،بل وردت بـصيغة الفعل مثل (تَعcقِلُونَ) .كام أهنا وردت يف معـظم اآليات بصيغة الفعل املضارع
عىل سبيل االستفهـام (أَف ََل تَعcقِلُونَ) ،أو الرتجي (لاَّعَلاَّـكُ م cتَعcقِلُونَ) ،أو التقريــر (لِّقَو cمٍ يَعcقِلُونَ) ،أو النفي ( َل
يَعcقِلُونَ) .كام أن املالحـظ عىل معظم اآليـات أهنا تـأمليـة يف خلق اهلل .قـال رب السمـوات واألرض ورب العرش
َّاس
cك eلاَّتِى ت َcجرِي فِى eلcبَح cرِ بِمَـا يَنفَعُ eلن َ
َ^ف eلاَّيcلِ وَeلنَّهَـارِ وَeلcفُل ِ
َرcض وَeخ cتِل ِ
وَeل ِ
^ت c
eلسمَ^وَ ِ
العظيم( :إِ َّن فِـى خَ لcقِ هَّ
اب
وَeلسحَ ِ
ِيف eلـ ِّريَ^حِ هَّ
َث فِيهَـا مِن ك ّ ُِل دَاdبهَّةٍ وَ ت َcصر ِ
َرcض بَعcدَ مَـو cتِهَا وَ ب َّ
eلـسمَاdءِ مِن مهَّـاdءٍ فَأَح cيَا بِهِ ecل َ
eلل مِنَ هَّ
وَ مَا dأَنزَ َل هَّ ُ
cس
(وَسخَّ رَ لَكُ مُ eلاَّـي َcل وَeلنَّهَارَ وَeلشَّ م َ
َ َ^ت لِّقَو cمٍ يَعcقِلُونَ) ،وقـال اخلالق العظيـم:
َرcض َ َلي ٍ
وَeل ِ
eلسمَـاdءِ c
َني هَّ
ُـسخَّ رِ ب َ c
eلcم َ
َ^ت لِّقَو cمٍ يَعcقِلُونَ) ،وقـال اللطيف اخلبـري( :وَهُ وَ eلاَّذِي يُحِ cى\
ِـك َ َلي ٍ
^ت بِأَمcرِهِ \dإِ َّن فِى ذَ^ل َ
ُـسخَّ رَ ٌ
وَeلcقَـمَرَ وَeلن ُُّجومُ م َ
َ^ف eلاَّيcلِ وَeلنَّهَارِ أَف ََل تَعcقِلُونَ) ،وبعد عرض مثل هذه اآليات يستنتج الشيخ اجلوزو قائ ً
ال: ِيت وَ لَهُ eخ cتِل ُ
وَ يُم ُ
Xنحن أمام حـركة الطبيعة ،تثـري النفس ،وتدفعها إىل التـأمل والتصور والتخيل ،وهـذه احلركة تبدو يف
ثنائيـة الطبيعـة ،يف الليل والنهـار ،يف الرشوق والغـروب ،يف احلياة واملـوت ،فالـقرآن يشـد اإلنسان إىل
هـذه احلركة ،ويـدعوه إىل تتبعهـا ،وفهم ما تـنطوي عليه أرسار اخلـالق ... .حقاً إن الـقرآن ليس كـتاباً
علمـياً يبحث يف الكـيمياء والفيـزياء وحيلل نظـريات العلم ،لكـنه يطرح القضـايا الكليـة وجيعل منها
56
منطقاً للبحث والتقيص.Z... ،
إن طريقة االستخـدام للفعل عقل يف القرآن كام هو واضح حتث النـاس إلعامل عقوهلم ،فهي تتعجب منهم
بالقـول( :أَف ََل تَعcقِلُونَ) ،وكأهنا ترتجاهم بـالقول( :لاَّعَلاَّكُ م cتَعcقِلُونَ) ،كام يف قوله تعـاىل( :إِنَّا dأَنزَ لcنَ^هُ قُر cءَ^نًا عَ رَ بِيًّا
لاَّعَلاَّكُ م cتَعcقِلُونَ) .أليس يف هـذا دافع لتحريك العقل وبـالذات ألهنا أتت بـصيغة الفعل املضـارع مسبوقـاً باالستفهام
اإلنكاري الذي يتضمن معنى التنديد والتعجب؟ كـام أن بعض اآليات أتت بصيغة التنديد كام يف قوله تعاىل( :ب َcل
95 2قصور العقل
وحتـى عندمـا يستعـرض القرآن الكـريم أصل اإلنسـان وخلقه أطوار ًا مـن تراب ثم من نـطفة وهكـذا حتى
املامت ،نجـده ينـبه اإلنسـان لـرضورة استخـدام عقله السـتنتـاج احلقيقـة عن ذاته كام يف قـوله تعـاىل( :هُ ـوَ eلاَّذِي
ُرَاب ثُمهَّ مِـن نُّطcفَةٍ ثُمهَّ مِن cعَ ـلَقَةٍ ثُمهَّ يُخ cرِجُ كُ م cطِ ـف ًcل ثُمهَّ لِتَبcلُغُو dاْ أَشُ ـدَّ كُم cثُمهَّ لِتَكُ ـونُواْ شُ يُوخً ـا وَ مِنكُ م مهَّن
خَ لَقَـكُ م مِّن ت ٍ
يُتَوَ فَّى مِن قَب ُcل وَ لِتَبcلُغُـو dاْ أَجَ ًل م َُّسمًّى وَ لَعَلاَّكُ م cتَعcقِلُونَ) .ويف آيـات أخرى يتحدى القـرآن الكريم اإلنسـان بطريقة
حتفزه لتحريك عقله بأن خيربه بتفاصيل ختلّقه وهو يف رحم أمه وذلك قبل أربعة عرش قرناً بطريقة إعجازية كام يف
نس^نَ مِن ُسلَ^لَةٍ مِّن طِ نيٍ 12#ثُمهَّ جَ عَلcنَ^هُ نُطcفَةً فِى قَـرَارٍ مهَّكِ نيٍ 13#ثُمهَّ خَ لَقcنَا eلنُّطcفَةَ عَ لَقَةً
eل َ
قوله تعاىل( :وَ لَقَد cخَ لَقcنَـا ِ c
eلل أَحَ cسنُ
ُـضغَةَ عِ ظَ^مًـا فَكَ َسـو cنَا eلcعِـظَ^مَ لَح cمًا ثُمهَّ أَنـشَ أcنَ^هُ خَ لcقًـا ءَاخَ رَ فَتَـبَارَكَ هَّ ُ
فَخَ لَقcنَا eلcعَـلَقَةَ م ُcضغَـةً فَخَ لَقcنَا eلcم c
eلcخَ ^لِقِنيَ ) .وإذا ما راجعت مجـيع آيات القرآن الكـريم العلمية اإلعجـازية ،أو التي حتث عىل إعـامل العقل جتدها
جتتمع حول رضورة حتريك العقل لتقيص احلقيقة يف الكون بالتأمل يف نواميس ما خلق اهلل وما صور وأبدع وأتقن.
َال هَ ^ذَ ا بَِEالِهَتِنَا dإِنَّهُ /لَمِنَ eلظاَّ^لِمِنيَ 59#قَالُواْ َسـمِعcنَا فَتًى يَذ cكُرُهُ م cيُق ُ لبِيهِ َال ِ َ ط) تأمل قصة إبراهيم يف سـورة األنبياء يف قوله تعاىل( :إِذ cق َ
َّاس لَعَلاَّهُم cيَش cهَدُ ونَ61# ني eلن ِ لَهُ /dإِبcرَ ^هِـيمُ 60#قَالُواْ فَأcتُواْ بِهِ\ عَ لَى dأَعِ ُ c ِيل eلاَّتِـى dأَنتُم cلَهَا عَ ^كِ ـفُونَ 52#قَالُـواْ وَجَ د cنَاd وَ قَـو cمِهِ\ مَا هَ ^ ِذهِ eلتَّـمَاث ُ
َال ب َcل فَعَلَهُ /كَبِيُهُ مc cت هَ ^ذَ ا بَِEالِهَتِنَـا يَ^dإِبcرَ ^هِيمُ 62#ق َ َنت فَعَل َ
قَالُو dاْ ءَأ َ َال لَقَـد cكُنـتُم cأَنتُم cوَ ءَابَـاdؤُ كُم cفِى َضلَ^لٍ ءَابَـاdءَنَا لَهَـا عَ ^بِدِيـنَ 53#ق َ
هَ ^ذَ ا ف َcسَEلُوهُ م cإِن كَانُواْ يَنطِ قُونَ 63#فَرَجَ عُو dاْ إِلَى dأَنفُسِ هِم cفَقَالُو dاْ إِنَّكُ مc َال بَل رهَّ بُّكُ مc
َنت مِنَ eللاَّ^عِبِنيَ 55#ق َ
مُّبِنيٍ 54#قَالُو dاْ أَجِ ئcتَنَـا بِeلcحَ ّ ِق أَم cأ َ
لءِ cت مَا هَ ^dؤُ َ d أَنتُمُ eلظاَّ^لِمُـونَ 64#ثُمهَّ نُكِ ُسـواْ عَ لَى رُ ءُوسِ هِم cلَقَـد cعَ لِم َ َرcض eلاَّــذِي فَطَــرَهُ نهَّ وَ أَنَـا Fعَ لَـى ذَ^لِكُ ـم مِّنَ وَeل ِ ^ت c eلـسمَ^وَ ِ رَب هَّ
ُّ
وَل eلل مَـا َل يَنفَعُـكُ م cشَ يًEcا َ َـال أَفَتَعcبُـدُ و َن مِن دُونِ هَّ ِ يَـنطِ قُـونَ 65#ق َ لكِـيدَ َّن أ َcصنَ^مَكُ م بَعcدَ أَن تُـوَ لُّواْ مُـد cبِرِينَ 57#َeلل َ َ
eلـشَّ ^هِدِينَ 56#وَ ت هَّ ِ
eلل أَف ََل تَعcقِلُونَ).ي َُضرُّ كُم 66# cأُفٍّ لاَّكُ م cوَ لِمَا تَعcبُدُ و َن مِن دُونِ هَّ ِ> ف ََجعَـلَهُم cجُ ذَ ^ذًا إ اَِّل كَبِيًا لاَّهُم cلَعَلاَّهُم cإِلَيcهِ يَـرcجِ عُونَ 58#قَالُواْ مَن فَع ََل
قص احلق 96
ويتأكـد هذا االستنتاج أكثر عـند ربط العقل باحلواس .فالقـرآن يأخذ من هذا الربـط موقفاً واضحاً برفض
اجلهل بسبب قفـل منافذه احلـسية كام يف قـوله تعاىل( :وَ مَث َُل eلاَّـذِينَ كَفَرُ واْ كَمَثَلِ eلاَّذِي يَـنcع ُِق بِمَا َل ي َcسمَعُ إ اَِّل دُعَ اdءً
(صمٌّ بُك cمٌ عُ مcىٌ ) بأنه غلق ملنافذ
وَ نِدَ اdءً ُصمٌّ بُك cمٌ عُ مcىٌ فَهُمَ cل يَعcقِلُونَ) .فإن كـانت الفاء سببية فهي تفرس معنـى ُ
eلصمُّ eلcبُك cمُ eلاَّذِينَ
eلل ُّ
dب عِ ندَ هَّ ِ
املعرفة ،وهذا هو اجلهل الـذي تم تشبيهه بالدواب كام يف قوله تعـاىل( :إِ َّن شَ رهَّ eلدَّ وَ ا ِّ
َل يَعcقِلُونَ)؛ فربغم أن احليوان يسمع ويرى إال أنه ال يفقه ،فام هي قيمة احلواس إن مل حيركها العقل يف البحث عن
ِيل) .بل
َeلنcعَ^مِ ب َcل هُ م cأ ََض ُّل َسب ً
cثهُ م cي َcسمَعُو َن أَو cيَعcقِلُو َن إِ cن هُ م cإ اَِّل ك َ c
ب أَ َّن أَك َ َ
احلقيقة .تدبر قوله تعـاىل( :أَم cتَحَ cس ُ
إن القرآن يصف من ال يبحثون عن احلقيقة بإعامل عقوهلم باملوتى ،وكأن الفرق بني احلياة واملوت هو حتريك العقل
eلصمهَّ eلدُّ عَ اdءَ إِذَا وَ لاَّـو cاْ مُد cبِرِينَ ) .وما يؤكد
وَل ت ُcسمِعُ ُّ
ُـسمِعُ eلcمَو cتَى َ
َّك َل ت c
بتشغيل احلواس كـام يف قوله تعاىل( :فَإِن َ
هذا املعنى هو ظهور أمهية حتريك العقل مـن خالل احلواس يف نعي الكفار ألنفسهم حترس ًا يوم القيامة كام يف قوله
eلسعِيِ) .أي أن أمهية احلواس تكمـن يف ارتباطها بالعقل.
^ب هَّ
تعـاىل( :وَ قَالُواْ لَو cكُنَّا ن َcسمَعُ أَو cنَعcق ُِل مَـا كُنَّا فِى dأ َcصحَ ِ
فهي أدوات التـأمل املوصل للحـقيقة التـي يستنبـطها العقل كام يف قـوله تعاىل( :وَ فِـى dأَنفُسِ كُ م cأَف ََل تُب ِcصرُ ونَ) ،ويف
َرcض
ـوق eلcمَاdءَ إِلَى ecل ِ
َرcض)؛ ويف قـوله تعاىل( :أَوَ لَـم cيَرَ و cاْ أَنَّا ن َُس ُ
وَeل ِ
^ت c
eلسمَ^وَ ِ
قولـه تعاىل(b :قُلِ eنظُـرُ واْ مَاذَا فِى هَّ
58
eل ُcجرُ زِ فَنُخ cرِجُ بِهِ\ زَ رcعً ا تَأcك ُُل مِنcهُ أَنcعَ^مُهُم cوَ أَنف ُُسهُم cأَف ََل يُب ِcصرُ ونَ).
ومن اآليات الـتي تتصل بـالبحث عن احلقـيقة أيضـاً بإعامل العقـل اآليات التي تـشيد بـأويل األلباب كام يف
َرcض ثُمهَّ يُخ cرِجُ بِهِ\ زَ رcعً ـا مُّخ cتَلِفًا أَلcوَ ^نُهُ /ثُمهَّ
َـسلَكَ هُ /يَنَ^بِيعَ فِى ecل ِ
eلـسمَاdءِ مَاdءً ف َ
eلل أَنزَ َل مِنَ هَّ
قـوله تعاىل( :أَلَـم cتَرَ أَ َّن هَّ َ
َ^ب) .ويف قـوله تعــاىل( :هُ وَ eلاَّـذِي dأَنزَ َل
eللcب ِ
ِـك لَ ِذكcرَ ى ِلُوْ لِى َ c
َتىهُ م ُcصفَـرًّ ا ثُمهَّ ي َcجعَلُهُ /حُ ـطَ^مًا إِ َّن فِى ذَ^ل َ
يَـهِيجُ ف َ َ
َ^ت فَأَمهَّا eلاَّذِينَ فِى قُلُـوبِهِم cزَ يcغٌ فَيَتَّبِعُو َن مَا تَشَ ^بَهَ
َ^ب وَ أُخَ ـرُ مُتَشَ ^بِه ٌ
َ^ت هُ نهَّ أُمُّ eلcكِ ت ِ
َ^ت مُّح cكَ م ٌ
َ^ب مِنcهُ ءَاي ٌ
cك eلcكِ ت َ
عَ لَي َ
eلل وَeلرهَّ ^سِ خُ ـو َن فِى eلcعِلcمِ يَقُولُو َن ءَامَنَّـا بِهِ\ ك ٌُّل مِّن cعِ ن ِد رَ بِّنَا
مِنcهُ eبcتِغَـاdءَ eلcفِتcنَةِ وَeبcتِغَاdءَ تَأcوِيلِـهِ\ وَ مَا يَعcلَمُ تَأcوِيلَهُ /dإ اَِّل هَّ ُ
َ^ب) .فمن هم أولوا األلـباب؟ إهنم القانتون الذين بإعامل عقوهلم أيقنوا بوعد اهلل وحيذرون
eللcب ِ
ِل أُوْ لُواْ َ c
وَ مَا يَذاَّ كَّرُ إ اَّ d
eلخِ ـرَ ةَ وَ يَرcجُ ـواْ رَح cمَةَ رَ بِّهِ\ ق ُcل هَ cل
ِت ءَانَاdءَ eلاَّيcلِ َسـاجِ دً ا وَ قَـاdئِمًا يَح cذَ رُ َ c
اآلخـرة كام يف قـوله تعـاىل( :أَمهَّن cهُ ـوَ قَ^ن ٌ
َ^ب) .فقولـه( :إِنَّمَا) هـنا هـي للحرص عىل أن
eللcب ِ
ي َcستَـوِي eلاَّذِينَ يَعcلَـمُو َن وَeلاَّذِيـنَ َل يَعcلَمُو َن إِنَّمَـا يَتَذَ كَّـرُ أُوْ لُواْ َ c
التـذكر هـو صفة من أيقـن فأصبح من الـراسخني يف العلم لـذلك فهو مـن أويل األلباب .أي أن مجيع هـذه التأمالت
وال ّتبرصات والـتفكرات بـاستخـدام احلواس بـتحريـك العقل البد وأن تـؤدي إىل حقيقـة واحدة كام يف قـوله تعاىل:
97 2قصور العقل
َني لَهُم cأَنَّهُ eلcحَ ُّق) 60.أي أنـنا إن أعملنـا حواسنـا وتأملنـا وعقلنا
eلفَاقِ وَ فِى dأَنفُسِ هِـم cحَ تَّى يَتَب هَّ َ
(س ُنِيهِم cءَايَ^تِنَـا فِى َ c
َ
سيتبني لنا احلق (وهذا استنتاج مهم) .ملاذا؟
فتاوتbاعلقل
اآلن لنربط االستنتاج السابق (أي أن الدور األهم للعقل يف اإلسالم هو البحث عن احلقيقة) ،مع ما ذكرناه
مـن أن مادة Xعقل Zمل ُتذكـر يف القرآن إال بصيغـة الفعل (امللحوظـة الثانيـة) .ولعل هنا إشـارة ،واهلل أعلم ،من عدم
ذكر القـرآن الكريـم للعقل بصـيغة االسـم إىل أنه قد ال يـوجد عقل كـكيان قـط ،بل فقط كـأداة .ومما يعـزز هذا
االسـتنتاج امللحـوظة األوىل التـي ذكرهتا سـابقاً من عـدم ظهور االسمX :العقل Zيف القـرآن الكريم ،بـل مرادفات له
مثل احلكـمة والرشد .كـيف؟ لنبدأ هبذا الـسؤال :هل هناك عقـل أم ال؟ إن كان هناك عقل ،فعقل مـن هو؟ وما هذا
السؤال إال ألن العقول البد وأن ختتلف .فام هو معقول لك قد ال يكون معقوالً آلخر .لذلك فلن يكون هناك اتفاق
بني الناس عىل العقل ،ألن العقل ليس كاحلقيقة التي Xقد Zيتفق عليها الناس ،بل هو متفاوت من إنسان آلخر .وهنا
البد يل من بعض األدلـة ألثبت لك أخي القارئ أن العـقل يشء متفاوت ،وهذه مـسألة مهمـة ذلك ألنني إن أثبت أن
العقل متفاوت فهـذا يعني أن العقل كأداة مـتفاوت يف أدائه من إنسـان آلخر ،أي أن مجيع العقـول قارصة ،وال وجود
للعقل الكامل لدى البرش .فكلام ارتقى العقل مرتبة ظهر قصور املرتبة التي قبلها ،وهكذا من مراتب قارصة بعضها
فوق بعض .لذلك سأتقصى فكرة تفاوت العقل يف بعض األحاديث أوالً ثم يف أقوال بعض العلامء ثانياً:
بالنـسبة لتفاوت العقل يف احلديث ،فمن املالحظ أن استخـدام مادة العقل يف األحاديث تشري بوضوح إىل أن
العقل يشء يمكن قسمته أو تضعيفه أو ما إىل ذلك من نعوت تشري إىل عدم كامله ،وأن الكامل هدف قد ال ُيتوصل
إليه .فـهناك بـاب يف صحيح الـبخاري بـعنوانX :بـاب من رد أمر الـسفيه والضعـيف العقل وإن مل يكن حجـر عليه
اإلمـام .Zفمن هـذا العـنوان تـلحظ من عـبارة Xوالـضعيف العقل ،Zأن هـناك عـقل ضعيف وعقل أقـوى منه .أي أن
العقل عرضة للتغري من الضعف للقوة .ومن مراجعـة بعض األحاديث ستلحظ برسعة بأن تفاوت العقل من الضعف
للقوة بني النـاس هو من مصدرين ،إما ذايت ،كأن يكـون اإلنسان مولود ًا به ،كأن يكـون متخلفاً عقلياً ،وهذا خارج
ال أن عمـر ريض اهلل عنه قالX :أما
دائرة بحثنـا ،أو أنه يشء يكتسبه اإلنسـان من ترصفاته .ففـي صحيح البخاري مث ً
بعد أهيا الناس ،إنه نزل حتريم اخلمر وهي من مخسة :من العـنب والتمر والعسل واحلنطة والشعري ،واخلمر ما خامر
العقل .Zأي أن رشب املسكـر سيخامـر العقل ويؤثـر عليه .ففي تفـسري الطـربيX :واخلمر كل رشاب خـامر العقل
فسرته وغطـى عليه ،وهو من قـول القائل مخرت اإلنـاء إذا غطيته ومخر الـرجل إذا دخل يف اخلمر 61.Zوكـذلك النوم
الX :كـل من نام بزوال العقل وجب عليه الوضوء سواء
فإنه ُيذهـب العقل كام هو معلوم .ففي صحيح ابن حبان مث ً
اختلفت أحـواله أو اتفقت ألن العلـة فيه زوال العقل ال تغـري األحوال علـيه .Z...وبالـطبع فكل مـا سبق من تـأثر
العقل أمر معلـوم بالبدهية ألهنا متغريات ملمـوسة تؤثر يف العقل .لكن هناك تـرصفات تؤثر يف العقل مل يكن يعلمها
النـاس مثل احلجامـة .فقد جاء يف املـستدرك عىل الصحـيحني عن نافع عن بـن عمر ريض اهلل عنهام قـال نافع :قال يل
ابن عمـرX :أبغني حجامـاً ال يكون غالماً صـغري ًا وال شيخاً كبري ًا فـإن الدم قد تـبيغ يب ،وإين سمعت رسول اهلل صىل
قص احلق 98
اهلل عليه وسلم يقول{ :احلجـامة تزيد يف العقل وتزيد يف احلفظ ،فعىل اسم اهلل يوم اخلميس ،ال حتتجموا يوم اجلمعة
وال يوم السبت وال يـوم األحد ،واحتجموا يوم اإلثنني والثالثاء ،وما نزل جذام وال برص إال يف ليلة األربعاء} .وقال
احلـاكم معلقـاً عىل احلديـثX :رواة هذا احلـديث كلهـم ثقات إال غـزال بن حممـد فإنه جمهـول ال أعرفه بعـدالة وال
62
جرح ،وقد صح احلديث عن ابن عمر ريض اهلل عنهام من قوله من غري سند وال متصل.Z
باإلضافـة ملا سبق من تـدخالت مادية تـؤثر يف العقل ،فهنـاك من األحاديث الـضعيفة ما حتـاول حث الناس
للترصف بـطريقة معينة لزيادة عقـوهلم .فقد جاء يف سنن البيهقي الكربى عن سـعيد بن املسيب أنه قال :قال رسول
اهلل صىل اهلل عليه وسلـمX :رأس العقل بعد اإليـامن باهلل التـودد إىل الناس ،ومـا يسـتغني رجل عن مـشورة ،وإن أهل
املعروف يف الـدنيا هـم أهل املعروف يف اآلخـرة ،وإن أهل املنكـر يف الدنـيا هم أهـل املنكر يف اآلخـرة .Zفمن مثل
هـذه األحاديـث الضعيفـة 63يستـشف اإلنسـان أن يف زيادة التـودد إىل الناس ومـشورهتم زيـادة للعقـل .وألن التودد
بناء عىل مهـة الفرد ،فكـذلك العقل بالـتايل سيـزيد وينقـص .وهناك عـدة أحاديث بـألفاظ
واملـشورة تـزيد وتنقـص ً
ضعف كـاحلديث الـذي جاء يف Xشـعب اإليامن Zعن سعـيد بن
ال ما ُ
خمـتلفة تـدور حول نفـس هذا املـعنى مـنها مـث ً
املسـيب عن أيب هـريـرة أنه قـالX :قـال رسـول اهلل صـىل اهلل عليه وسلـمX :رأس العقل بعـد اإليامن بـاهلل التـودد إىل
الناس .Zيف هذا اإلسناد ضـعف .Zومنها ما جاء يف فتح الباريX :وحـديث أيب هريرةX :رأس العقل بعد اإليامن باهلل
64
مداراة الناس Zأخرجه البزار بسند ضعيف.Z
اآلن سنـمر عىل بعـض أقوال الفقهـاء عن العقل .ولعل قـراءهتا سـتكون مملـة بعض الـيشء ،إال أنني وضعـتها
لـتأكـيد نفـس النقطـة ،أال وهي أن شيـوع فكـرة نقصـان العقـل كان العـرف السـائد فـكريـاً بني العلـامء ،وأن هلذا
النقصان زيادة قد تأيت من خالل بعض السلوكيات أو القناعات( .هلذا فبإمكانك قفزها أخي القارئ للعنوان القادم:
Xاحلق .)Zوقد رتبتهـا دون تعليق عليهـا ،ولكن بقليل من التـأمل باستـطاعتك أخي القـارئ الوصول الستـنتاجك عن
علـة اعتبار العقل قـارص ًا :جاء يف الزهـد البن املبارك أن ابن أنعم قـال X:لكل يشء آفة تفسـده :فآفة العبـادة الرياء،
وآفة احللم الـذل ،وآفة احلياء الـضعف ،وآفة العلم الـنسيان ،وآفـة العقل العجب بنفـسه ،وآفة احلكمـة الفحش ،وآفة
اللب الصلف ،وآفـة القصـد الشح ،وآفـة الزمـانة الـكرب ،وآفة اجلـود التبـذير .Zوجـاء يف شعب اإليامن أن حمـمد بن
األشعث الكـندي قـالX :إن لكل يشء دولـة ،حتـى إن للحمق عىل العـقل دولة ،قـال البيهقـي رمحه اهلل :الدولـة ملن
َّاس) .Zوقال أمحد بن عاصم األنطاكيX :أنفع
َني eلن ِ
eليهَّامُ نُدَ اوِلُهَا ب َ c
cك َ c
وافقه القضاء والتقدير ،قال اهلل تعاىل( :وَ تِل َ
العقل ما عـرفك نعم اهلل عليك وأعـانك عىل شكرهـا وقام بخالف اهلـوى .Zوعن عروة بـن زبري قال :قـيل لقس بن
ساعدةX :ما العقل؟ قال :معـرفة االنسان نفسه .قيل :فام أفضل العلم؟ قال :وقوف املرء عند علمه .Zوعن احلكم بن
عـبد الـرمحن قـالX :كانـت العرب تقـول :العقل الـتجارب ،واحلـزم سوء الـظن .Zوعن بـن شبيب قـالX :سئل بعض
اخللفـاء :أي يشء يؤيـد العقل؟ وأي يشء أشـد به إرضارا؟ قال :أمـا أشده تـأييـد ًا فمشـاورة العلـامء وجتربـة األمور
وحـسن التثبت ،وأشـد به إرضار ًا فاالسـتبداد والتهـاون والعجلة .Zوقـال أبو بـكر بن عيـاشX :العقل إمسـاك اللسان
والتؤدة ،واحلـمق ذرب اللسان وشـدة البيان .Zوعن حيـيى بن سعيـد عن شعبة أنه قـالX :من الناس مـن عقله بفنائه،
ومنهم مـن عقله معه ،ومنهم مـن ال عقل له .فأمـا العقل الذي عـقله معه فالـذي يبرص مـا خيرج منه قـبل أن يتكلم،
وأما الذي عقله بفنائـه فالذي يبرص ما خيرج منه بعـد ما يتكلم ،قال :فحدثت به عبـد الرمحن بن مهدي فقال :هذه
صنعتنـا ،يعني الـذي عقله بفنـائه .واستحـسن الكالم فقـال :ليس هـذا من كالم شعبـة ،إنه سمعه مـن غريه .Zوقال
عامر بن عبد قيسX :إذا عقلك عملك عام ال ينبغي فأنت عاقل .Zوسئل الرسي عن العقل فقالX :ما قامت به احلجة
عىل مـأمور ومـنهى .Zوعن الـفضيل بن عيـاض أنه قالX :كـان السلف يقـولون :إن عىل كل يشء زكـاة ،وزكاة العقل
طول احلزن .Zوعن حـارث املحابيس أنه قالX :لـكل يشء جوهر ،وجوهـر اإلنسان العقل .قيل :ومـا جوهر العقل؟
قـال :الصرب .Zوعن الـزهري أنه قـالX :ما عبـد اهلل بمثل العلـم .قال :وقال أيـوب :العقل يف الدين نعـم اليشء هو.Z
وعـن األحنف بن قـيس أنه قـالX :العقل خـري قريـن ،واألدب خري مرياث ،والتـوفيق خري قـرين .Zوجـاء يف جامع
العلـوم واحلكم :وروي عن سـليامن بن عـبدامللـك أنه قالX :الـصمت منـام العقـل ،والنطق يقـظته ،وال يتـم حال إال
بحال .يعني ال بد من الصمت والكالم .Zوأخري ًا :جاء يف نوادر األصول يف أحاديث الرسول صىل اهلل عليه وسلم عن
عمرو بـن معد يكـرب ريض اهلل عنه قالX :قـال رسول اهلل صىل اهلل علـيه وسلمX :عرامـة الصبي يف صغـره زيادة يف
عقله يف كربه .Zالعـرم املنكر .وصار ذلك من ذكاوة فؤاده وحرارة رأسه والنـاس يتفاضلون يف أصل البنية يف الفطنة
والكيـاسة واحلظ مـن العقل .والعقل عىل رضبني :رضب منه يبـرص أمر دنياه ،وهـو من نور الروح ،وهـو موجود يف
عامة ولـد آدم عليه السالم ،إال من كان فيه خلل أو علة ،وبينهم يف ذلك العقل تفاوت عظيم .ورضب منه يبرص أمر
آخـرته وهو من نور اهلـداية والقربـة ،وذاك موجود يف املوحـدين مفقود يف املرشكني ،وبـني املوحدين يف ذلك العقل
ال ألن اجلهل ظلمة وعمله عىل القلب ،فـإذا غلب النور وبرصه يف تلك الظلمة زالت الظلمة
تفاوت عظيم ،وسمي عق ً
68
وأبرص فصار عقاال للجهل.Z
قص احلق 100
احلقّ
واآلن لنحاول الربط بني العقل كأداة وبني احلقيقة املطلقة التي عىل العقل مهمة الوصول إليها :استنتجنا من
ال ،فمنهم
السابق أن العقل متفاوت بني الناس ،أي أنه كأي أداة أخرى يستخدمها الناس ،أي كاملنشار أو املطرقة مث ً
من هو مـاهر يف استخدامه ومنهـم من قد ييسء استخدامه .فـإن كان كذلك ،فإن تم اسـتخدامه كأداة ضد أي نص
رشعي فالبد وأن خيطئ ال حمالة ألن العقل كأداة ليـس كاحلقيقة التي يتفق عليها الناس ألنه يتفاوت .فموعد رشوق
ال يومياً حقيقة فلكية مستمـرة يتفق عليها مجيع الناس ،ودرجة غليان املاء هو 100درجة مئوية ،وهكذا
الشمس مث ً
من حقائق ال تعـد وال حتصى .ولكن الـسؤال هو :هل هـذه حقائق بـرغم اتفاق النـاس عليها؟ إن بـاإلمكان تـسمية
هذه Xاحلقائق Zبالظـواهر أو باألحداث أو نحوها من أسامء ،إال أهنا ليـست حقائق .وهذه الظواهر واألحداث هي
مـا نبحث عنهـا بعقولنـا عادة ونقرتب مـن إدراكها كلام اسـتخدمنـا عقولنـا كأداة لـتصبح حقيقـة Xلنا Zعنـدما نتفق
ال أيضـاً .فبالبحث العلمي نقـرتب من احلقائق إال أننا لن نـصل إليها .هذا ما
عليـها ،إال أهنا ليست حقـيقة وليست عق ً
الدقة .فجـميع األجهزة التي تقيـس املسافات
أثبته لنـا العلم يف العامل الغريب .لـنرضب مثاالً عىل ذلك :لنـأخذ مسألـة ِّ
ذات دقة لـدرجة معينـة .فعندما نـرغب يف احلصول عـىل قطعة من النـحاس تبلغ تسعـة سنتيمرتات طـوالً ،فسنحصل
عليها يف إطار توفر األجهزة املتاحة يف ذلك الوقت .ولكن هل هي تسعة سنتيمرتات بالضبط .كال ،ولن نستطيع أن
ندرك ذلك إال عنـد تطور العلم والتقنية إلجياد جهـاز يقيس املسافات بدقـة أكرب ،هي أجزاء امللميرتات .فقد تكون
القطـعة التي لـدينا تـسعة سـنتيمرتات وعـرش املليمرت يف طـوهلا ،إال أننـا مل ندرك تلك الـزيادة إال بظهـور أداة تقيس
أجزاء املليمرتات .وحتى هنا ،فنحن مل نصل حلقيقة طول القطعة بعد ،وعند ظهور جهاز يقيس املسافات بدقة أعىل
نكـون قد اقـرتبنا أكـثر ،وهكـذا نستمـر بالتـدرج إىل أجزاء أصغـر وأصغر حتـى نصل إىل النـانومـرت (أي جزء من
املليون من امليل مرت) لنقرتب من احلقيقة ،ولكننا لن نصل إليها .وما هذا إال مثال واحد عىل الدقة ،وهناك النظريات
وما إلـيها من أدوات املعرفـة والعقل .فهناك إمجـاع بني فالسفة علم تطـور العلوم epistemologyأن النظـريات ما
هي إال فرضيات من وضع البرش ملحاولـة فهم ما حيدث من حولنا لعلنا نـصل للحقيقة .وأن هذه النظريات البد وأن
ال ألن أية نظـرية لن تستـطيع أن تفرس مجيع الظـواهر الكونيـة املستجدة عىل العلـم ،بل فقط تفرس ما
تتغري مـستقب ً
ندركه .وعنـدما تتـوقف النظـرية عـن تفسري الظـواهر املسـتجدة ،ستـأيت نظريـات أخرى لتـستوعب مـا ندركه من
ظواهر ،ويف الوقت ذاته تصمد هذه النظريات لسنني قادمة لتفسري ظواهر أخرى .وهكذا فإن كل نظرية ستغطي
عىل مـا قبلها .فقد أتت النظرية النسبية لتفرس ظواهر مل تـستطع نظرية نيوتن تفسريها (كام ذكرنا يف احلديث عن
ال ،بل فقط
حتميـة العلم يف الفـصل السـابق) ،ذلك ألنه مل خيـطر عـىل البرش يف عهـد نيوتـن قياس رسعـة الضـوء مث ً
رسعة األجسـام املتحركة ،فكان البد من نظريـة أخرى تتمكن من ذلك ،ثم أتت نظرية الفـيزياء الكمية لتغطي ما
مل تتمكن النظرية النسبـية من فعله .أي أننا لن نصل إىل احلقيقة املطلقـة .فإن وافقتني أخي القارئ أننا لن نصل إىل
احلـقيقة املـطلقة فـامذا عن العقل؟ هل هنـاك عقل مطلق يـستطـيع فرد من الـناس استحـواذه أو حتى الـوصول إليه؟
بالطـبع فإن اإلجابـة منطقيـاً :ال؛ ألن العقل بالنـسبة لنـا أداة ،أما احلقيقـة فهي هدف ،فـإن عجزنا عـن بلوغ اهلدف،
فالبد وأن تكون األداة قارصة .أي أن العقل قارص ،أي لن يتمكن اإلنسان من استحواذ العقل املطلق ،هذا إن وجد،
لذلك يبقى السؤال :ما هو العقل إذ ًا؟
101 2قصور العقل
مـلحوظـة أخرى :حـتى يكـون للعقل وجـود (وليس كـأداة) البد وأن يكـون صحيحـاً ،فال يعقل للعقل أن
يكون خمطئـاً .وإن كان صحيحاً فالبد وأن يـكون عق ً
ال واحد ًا ،ألن الصحة ال جتتـمع الثنني يف آن واحد .فقد نقول
بأن زيـد ًا أعقل من عبيـد ،ولكن عبيـد ًا أعقل من بكـر ،وهكذا .وإن كـان عقل واحد هـو الصحيـح ،فعقل من هو
سري ّجح عىل بـاقي العقول؟ هنـا نقف يف حرية ال خمرج منهـا إال باإلجابـة بأن العقل املكتـمل الذي نبحث
هـذا الذي ُ
عنه البد وأن يكـون للخالق جل وعال .لكـنه سبحانه وتعـاىل مل يستخـدم أي لفظ مشتـق من مادة العقل يف وصف
أسامء أخـرى تشـري إىل كامل إدراكه وعلمه
ً نفـسه يف أي من أسامئـه احلسنـى ،ولكنه أراد تعـاظمـت أسامؤه لنفـسه
وإحاطته بكل يشء ،مثل العليم واحلكيم واخلبري واملحيط والـواسع .والذي أعتقده هو أن كل ما يأيت من اهلل العليم
احلكيم هو ما يـمكن تصنيفه بأنه يتصف بـالعقل املطلق الذي ال خطأ فيه .أمـا ما لدى البرش من موارد لإلدراك فال
ال مـطلقاً ألهنا غري مكتملة من جهة ،وألهنا لن توصل للحقيقة املطلقة من جهة أخرى ،بل تقرتب
يمكن تسميتها عق ً
منها .ونظر ًا هلـذا النقصان ،فالبد للعقـل من أن يكون أداة لإلنسان ،وليـس كينونة مسـتقلة ،بل حتى أنه أداة قارصة
كام رأيـنا يف تفـاوت العقل .وألنه أداة قـارصة فهو سـيخطئ ال حمـالة إن اسـتخدم ضـد النص .وألنه ال وجـود للعقل
املطلق لدى البرش ،مل يذكـر بصيغة االسم يف القرآن الكريم .أما ما عند اهلل العيل العليم فهو املكتمل والذي يمكن
أن يتصف بالعقل الكامل أو املطلق .لذلك أراد سبحانه وتعاىل له اسام ً آخر (واهلل أعلم) يميزه عام لدى اخللق ،نظر ًا
لكامله وأمهيته ،أال وهو Xاحلق .Zكيف؟
ملاذا اختار سبحانه وتعاىل لفظ Xاحلق Zللتعـبري عن العقل املطلق الذي ال نقصان فيه؟ هنا يأيت الربط مع ما
استنتجناه سابقاً ،واهلل أعلم ،من أن دور العقل األهم هو البحث عن احلقيقة .فعند البحث عن احلقيقة بإعامل العقل
(س ُنِيـهِم cءَايَ^تِنَا فِى
سيصـل البرش إىل حقـيقة واحـدة ،أال وهي مـا عرب عـنها القـرآن بـ Xاحلق .Zتدبـر قوله تعـاىلَ :
َني لَهُم cأَنَّهُ eلcحَ ُّق) .ثم تأيت حتت هذه احلقيقة ،أو تنبثق منها حقائق أخرى .وألن هذه
eلفَاقِ وَ فِى dأَنفُسِ هِم cحَ تَّى يَتَب هَّ َ
َc
احلقائق من اهلل احلي القيوم ،وهي لدى اهلل العليم العيل املتعال ،فالبد هلا من أن تأتينا كبرش بواسطة الرسل صلوات
اهلل وسالمه عليهم .لـذلك ورد لفظ Xاحلق Zيف القـرآن مرار ًا وتكـرار ًا للتـعبري عن الكـامل يف كل ما هـو متصف أو
متصل بـالعقل (كام سـنوضح بـإذن اهلل) ،وورد أيضـاً بصيغ تـدل عىل أنه أمـر ذو اجتاه واحـد بكـونه منـزل من اهلل
ِك بِأَ َّن هَّ َ
eلل سبحانه وتعـاىل خللقه نظر ًا لكـامله وأن علينا القبـول به والعمل به .تدبـر اآليات اآلتية :قـال تعاىل( :ذَ^ل َ
يا لاَّكُ م cوَ إِن
ـول بِeلcحَ ّ ِق مِن رهَّ بِّكُ م cفََEامِنُـواْ خَ ً c
َّـاس قَد cجَ ـاdءَكُمُ eلرهَّ ُس ُ
َ^ب بِeلcحَ ّ ِق)؛ وقـال تعــاىل( :يَ^dأَيُّهَا eلن ُ
نَزَّ َل eلcكِ ت َ
َ^ب بِeلcحَ ّ ِق
cك eلcكِ ت َ
eلل عَ ـلِيمًا حَ ـكِ يمًا)؛ وقـال تعاىل( :نَـزَّ َل عَ لَي َ
َرcض وَ كَا َن هَّ ُ
وَeل ِ
^ت c
eلـسمَ^وَ ِ
لل مَا فِى هَّ
تَك cفُرُ واْ فَـإِ َّن ِ هَّ ِ
ّك ف ََل تَكُ ـونَنهَّ مِنَ eلcمُم َcتِينَ ) ،وقال تعاىل( :فَـأَمهَّا eلاَّذِينَ ءَامَنُواْ
َني يَدَ يcه)؛ وقـال تعاىلe( :لcحَ ُّق مِن رهَّ بِ َ
م َُصـ ّ ِدقًا لِّمَا ب َ c
eلل يَهcدِي لِلcحَ ّ ِق أَفَمَن
فَيَعcلَـمُو َن أَنَّهُ eلcحَ ُّق مِن رهَّ بِّهِم) c؛ وقال تعـاىل( :ق ُcل هَ cل مِن شُ رَ كَاdئِـكُ م مهَّن يَهcدِي dإِلَى eلcحَ ّ ِق قُلِ هَّ ُ
ِل أَن يُهcدَ ى فَمَا لَكُ م cكَي َcف تَح cكُ مُونَ)؛ وقال تعـاىل( :أَفَمَن يَعcلَمُ أَنَّمَاd
يَهcدِي dإِلَى eلcحَ ّ ِق أَحَ ُّق أَن يُتَّبَعَ أَمهَّن اَّل يَهِـ ّ ِدي dإ اَّ d
ُك وَهُ وَ eلcحَ ُّق
ب بِهِ\ قَو cم َ
َ^ب)؛ وقال تعـاىل( :وَ كَذاَّ َ
eللcب ِ
ـق كَمَن cهُ وَ أَع cمَى dإِنَّمَا يَـتَذَ كَّرُ أُوْ لُواْ َ c
ّك eلcحَ ُّ
cك مِن رهَّ بِ َ
أُنز َِل إِلَي َ
َ^ب مُف هََّص ًل وَeلاَّذِينَ
eلل أَبcتَغِى حَ كَ ـمًا وَهُ وَ eلاَّـذِي dأَنزَ َل إِلَيcكُ مُ eلcكِ ـت َ
َي هَّ ِ
ت عَ لَيcكُ م بِـوَ كِيلٍ )؛ وقال تعـاىل( :أَفَغ َ c
قُل ل cاَّس ُ
(eلل eلاَّـذِي dأَنزَ َل
هَّ ُ ّك بِeلcحَ ّ ِق ف ََل تَكُ ـونَنهَّ مِنَ eلcمُم َcتِينَ )؛ وقـال تعـاىل:
َ^ب يَعcلَـمُو َن أَنَّهُ /مُنَـزَّ ٌل مِّن رهَّ بِ َ
ءَاتَيcنَ^هُمُ eلcكِ ت َ
َّاس بِeلcحَ ّ ِق
َ^ب لِلن ِ
cك eلcكِ ت َ
ِيب)؛ وقال تعـاىل( :إِنَّا dأَنزَ لcنَـا عَ لَي َ
eلساعَ ـةَ قَر ٌ
ِيك لَع ََّل هَّ
َ^ب بِeلcحَ ّ ِق وَeلcمِيزَ ا َن وَ مَـا يُد cر َ
eلcكِ ت َ
قص احلق 102
َنت عَ لَيcهِم بِوَ كِيلٍ )؛ وقال تعـاىل( :وَ يَرَ ي eلاَّذِينَ أُوتُواْ eلcعِلcمَ
فَم َِن eه cتَـدَ ى فَلِنَفcسِ هِ\ وَ مَن َض َّل فَإِنَّمَا ي َِض ُّل عَ لَيcهَـا وَ مَا dأ َ
ي
^ط eلcعَزِيزِ eلcحَ مِيدِ) ،وهناك آيات أخرى كثرية.
ّك هُ وَ eلcحَ َّق وَ يَهcدِي dإِلَى ِصرَ ِ
cك مِن رهَّ بِ َ
eلاَّذِي dأُنز َِل إِلَي َ
كـام أن من املالحظ من اآليـات السـابقة أن اجتـاه احلق فيهـا هو Xالنـزول Zمن اهلل العيل األعىل املـتعال إىل
ال يف
خلـقه نظر ًا لـكامله .أما إعـامل العقل البرشي للـوصول إىل احلـقيقة فهـو يف االجتاه املعـاكس ،أي من البـرش تأم ً
آيات الكون لالقرتاب من احلقيقة ،فهي عملية ذات اجتاه واحد أيضاً إال أهنا Xتصاعدية .Zلذلك فهي حركة مستمرة
أبد الـدهر لكل إنسان يـولد ،ولذلك أتت ،واهلل أعلم ،بصـيغ الفعل املضارع إشارة لالستمـرارية كقوله تعاىل( :أَف ََل
تَعcقِلُـونَ)( ،لاَّعَلاَّكُ م cتَعcقِلُونَ)( ،أَوَ لَم cيَتَفَكَّ ـرُ واْ )( ،يَتَفَكَّ رُ ونَ) .واالستثنـاء الوحيد الـذي أتى بصيغـة املايض هو
قـوله تعاىل يف سورة املـدثر( :إِنَّهُ /فَكَّ رَ وَ قَـدَّ رَ 18#فَقُت َِل كَي َcف قَدَّ رَ ) .واآلية كام هـو معلوم تصـف حال أحد زعامء
قريش الذين فـكروا يف ما أتى به الرسـول صىل اهلل عليه وسلم من وحي ثم وصلوا بتقـديرهم إىل أن القرآن الكريم
(والعيـاذ باهلل) ليس بكالم اهلل .والـتفكري يف هذه احلالـة بالطبع ال يـوافق املنطق ،بل يوافق هـوى صاحب التفكري،
فهـو بذلك تفـكري حيوي سـوء الظن واملكـابرة والتـكذيب .لـذلك ،واهلل أعلم ،أتت بـصيغة املـايض للتعبـري عن أمر
انتهـى منه صـاحبه ،فهـو سلبي يف تـفكريه وأذهب عـن نفسه فـرصة جتـديد الـتفكري لـلوصـول إىل احلقيقـة .وهذه
الطريقة يف التفـكري بالطبع تنطبق عىل كل من كذب من البرش .فاحلركـة املطلوبة بالفعل املضارع (يَتَفَكَّ رُ ونَ) قد
توقفت بقوله (فَكَّ رَ )؛ فتأمل.
وقـد تسـأل أخي القـارئ :لكـن ملاذا ال يـنطبق هـذا التـأويل عىل الـصفات األخـرى مثل الـسميع والـبصري؟
فالبرش يـسمعون ويتفـاوتون يف السمـع ،إال أن اهلل هو السمـيع؛ والناس يتفـاوتون يف البرص ،إال أن اهلل هـو البصري،
فـلامذا مل يعط اهلل سبحـانه وتعاىل نفـسه اسام ً جيمع له صفـة العقل كام يف السـميع والبصـري والعليم واحلكـيم ،كأن
يكون االسم Xاألعقل Zأو XالعقّيلZ؟ فـالسميع تعني أن اهلل قد سمع ويسمع وسيسمع كل األصوات التي أطلقت يف
املايض واحلارض واملستقبل ويف آن واحد .فلامذا مل ينطبق هذا عىل العقل؟
اإلجـابـة واهلل أعلم كـاآليت :إن وافـقتنـي أخي القـارئ أن العقل أداة ،وأنه غـري مكتـمل إال عنـد اهلل العـليم
وحـده ،أقول لك :إن السـمع والبرص واحلكمـة وغريها من الـصفات هي صفـات متفاوتـة ختتلف من فـرد آلخر ،أما
احلق ،فهو يشء واحد ال يتفاوت .فإما أن يكون حقاً أو باطال ،فإن قلنا أن زيد ًا أحق من عبيد ،فهذا يعني ضمناً أن
زيد ًا عىل حق ،وأن عبيـد ًا بالتـايل ليس عىل حق .وأرجـو التنبه بـأن هذا ال ينطـبق إال عىل احلقوق بني الـبرش ،وليس
عـىل أحكام العـبادات .فقـد ختتلـف آراء الفقهاء جتـاه نفس املـسألـة ،كتحـديد املـسافـة األقل التي يـباح معهـا قَرص
ال؛ فقـد يكونون مجيعاً عىل حق ،أو قـد يكون أحدهم أحق من اآلخر ،ألهنـم اجتهدوا برغم االختالفات
الصالة مث ً
رهَّ بِّكُ م cفَمَن شَ اdءَ فَلcيُؤ cمِن وَ مَن شَ اdءَ فَلcيَك cفُر) P c؛ وقال تعاىل يف اآلية 252 ال قـوله تعاىل يف اآلية 53من سورة األعراف: ي) ومن هذه اآليات مث ً
َّك لَمِنَ
cك بِeلcحَ ّ ِق وَ إِن َeلل نَـتcلُوهَ ا عَ لَي َ
َ^ت هَّ ِ
cك ءَاي ُ من سـورة البقرة( :تِل َ ُول eلاَّذِيـنَ ن َُسوهُ مِن (هَ cل يَنـظُرُ و َن إ اَِّل تَأcوِيلَه /يَـو cمَ يَأcتِى تَأcوِيـلُهُ /يَق ُ
ُـرcسلِنيَ )؛ وقال تعـاىل يف اآلية 84مـن سورة املـائدة (وَ مَـا لَنَا َل eلcم َ رُس ُل رَ بِّـنَا بِeلcحَ ّ ِق) ،وقـوله تعـاىل يف اآليـة 108من َت ُ قَب ُcل قَـد cجَ اdء c
ِeلل وَ مَـا جَ اdءَنَـا مِنَ eلcحَ ّ ِق)؛ وقال تعـاىل يف اآلية 5مـن سورة نُؤ cمِنُ ب هَّ ِ ـق مِن رهَّ بِّكُ م cفَم َِن
َّاس قَـد cجَ اdءَكُمُ eلcحَ ُّ
سورة يـونس( :ق ُcل يَ^dأَيُّهَـا eلن ُ
األنعـام( :فَقَد cكَذاَّ بُواْ بِeلcحَ ّ ِق لَـمهَّا جَ اdءَهُ م) c؛ وقال تعاىل يف اآلية 1من eه cتَدَ ى فَـإِنَّمَا يَهcتَدِي لِنَفcسِ هِ\)؛ وقـوله تعاىل يف اآليـة 105من سورة
َّاس
cث eلن ِّك eلcحَ ُّق وَ لَ^كِ نهَّ أَك َ َ
cك مِن رهَّ بِ َ سورة الرعـد( :وَeلاَّذِي dأُنز َِل إِلَي َ َـشرًا
َ^ك إ اَِّل مُب َِّرcسلcن َ
ـق نَزَ َل وَ مَـ dا أ َ
ـق أَنزَ لcنَ^هُ وَ بِeلcحَ ّ ِ
اإلرساء( :وَ بِeلcحَ ّ ِ
َل يُؤ cمِنُونَ).)69( ، وَ نَذِيرًا)؛ وقوله تعاىل يف اآلية 29من سورة الكهف( :وَ قُلِ eلcحَ ُّق مِن
103 2قصور العقل
بينهم ،ومثل هذه املـسائل هي التي فتحت فيه الرشيعة أبـواهبا لالجتهاد (وسيأيت بيانه بـإذن اهلل) .أما بالنسبة حلقوق
اآلدميني ،أي مقـصوصة احلـقوق ،وألهنا مـتعلقة بحقـوق األفراد ،فهنـاك حق واحد إن أتـى به نص .وهذا بـالطبع ال
ينطبق عىل الـصفات األخرى كـاإلبصار .فـإن قلنا أن زيـد ًا أبرص من عبيـد ،فهذا ال يعني أن عـبيد ًا ال يبرص .إال أن
َص ٌص أو فـعل واحد ثابـت .وكل هذا إن أتى
هـذا ال ينطبق عىل احلق ،فـاحلق غري متفاوت ،فـهو قول أو مفـهوم أو ق َ
من عند اهلل بنص فهـو احلق ،وما عدا ذلك فهو باطل :ومن اآليات اآلتية ستلحظ أن أي حق وضعه اهلل ثم أتى غريه
ال .تدبر قوله تعـاىل( :وَ ق ُcل جَ اdءَ eلcحَ ُّق وَ زَ هَ َق eلcبَ^طِ ُل إِ َّن eلcبَ^طِ َل كَا َن زَ هُ وقًا)؛
من عند غري اهلل فالبد وأن يكـون باط ً
َـصفُونَ)؛ وقوله تعاىل( :أَمc
ِف بِeلcحَ ّ ِق عَ لَى eلcبَ^طِ لِ فَيَد cمَغُهُ /فَـإِذَا هُ وَ زَ اه ٌِق وَ لَكُ مُ eلcوَ ي ُcل مِمهَّا ت ِ
وقوله تعـاىل( :ب َcل نَقcذ ُ
ات
eلل eلcبَ^طِ َل وَ يُحِ ُّق eلcحَ َّق بِكَ لِمَ^تِهِ \dإِنَّهُ /عَ لِيمٌ بِذَ ِ
ِك وَ يَمcحُ هَّ ُ
eلل يَخ cتِم cعَ لَى قَلcب َ
eلل كَ ِذبًا فَإِن يَشَ إِ هَّ ُ
cت ى عَ لَى هَّ ِ
يَقُولُو َن eف َ َ
َ^ب لِمَ تَلcب ُِسو َن eلcحَ َّق بِeلcبَ^طِ لِ وَ تَك cتُمُو َن eلcحَ َّق وَ أَنتُم cتَعcلَمُونَ)؛ وقوله تعاىل:
eلصدُ ورِ)؛ وقوله تعاىل( :يَ^dأَهَ cل eلcكِ ـت ِ
ُّ
(لِيُـحِ َّق eلcحَ َّق وَ يُبcطِ َل eلcبَ^طِ َل وَ لَـو cكَـرِهَ eلcم ُcجرِمُـونَ) .ومن جهـة أخـرى ،فـإن صفـة الـسمـع مث ً
70
ال تـدل عىل أن
األصوات منترشة ،أي مشاعة ،وكل فرد يأخذ منها حسب قوة سمعه .لذلك تتفاوت املخلوقات يف السمع .هذا أسمع
من ذاك .وكـذلك البرص ،هذا أبـرص من ذاك ،ألن األعيان منتـرشة وكل يرى منها بـمقدار قوة إبصـاره .أما احلق فهو
واحد ومتـى أخذ منع عن اآلخريـن .فاألرض املوات املشاعـة متى أخذها فـرد باإلحياء منعـت من آخرين يريدون
نفس املوقع .فاحلق إذ ًا واحد وغري متفاوت.
َّاس مِنَ
cك لِتُخ cرِجَ eلن َ
َ^ب أَنـزَ لcنَ^هُ إِلَي َ
البـاطل متعددة .واآليـات يف هذا كثرية مـثل قوله تعـاىل يف سورة إبـراهيم( :كِت ٌ
ُوسى بَِEايَ^تِنَا dأَ cن أَخ cرِجc
َرcسـلcنَا م َ
^ط eلcعَزِيزِ eلcحَ مِيدِ) ،وقـوله تعاىل( :وَ لَقَد cأ َ
َ^ت إِلَـى eلنُّورِ بِإِذcنِ رَ بِّهِم cإِلَى ِصـرَ ِ
eلظُّلُم ِ
َ^ت لِّكُ ّ ِل َصبهَّارٍ شَ كُ ورٍ).
ِك َ َلي ٍ
eلل إِ َّن فِى ذَ^ل َ
َ^ت إِلَى eلنُّورِ وَ ذَكِّرcهُ م بِأَيهَّىمِ هَّ ِP
َك مِنَ eلظُّلُم ِ
قَو cم َ
ومن جهة أخـرى ،فإن احلق كـصفة (وليـس كاسم مـن أسامء اهلل احلسنـى) ،خيتلف عن بـاقي الصفـات بأنه
يتجزأ أو متعدد برغم عدم تفاوته .فهناك الوعد احلق ،والقول احلق ،والقصص احلق ،واحلق املبني ،وغريها من لوازم
eلل حَ ٌّق وَ لَ^كِ نهَّ
َل إِ َّن وَع cدَ هَّ ِ
َرcض أ َ d
وَeل ِ
^ت c
eلـسمَ^وَ ِ
لل مَـا فِى هَّ
َل إِ َّن ِ هَّ ِ
احلق الـتي تـنبـثق منه وتــؤدي إليه .قـال تعـاىل( :أ َ d
ب eلcوَع cدُ eلcحَ ُّق فَإِذَا هِىَ شَ ^خِ َصـةٌ أَب َcص^رُ eلاَّذِينَ كَفَرُ واْ يَ^وَ يcلَنَـا قَد cكُنَّا فِى
cت َ
cثهُ مَ cل يَعcلَمُونَ)؛ وقوله تعـاىل( :وَeق َ َ
أَك َ َ
eلل لَهُوَ eلcعَزِيزُ
eلل وَ إِ َّن هَّ َ
ص eلcحَ ُّق وَ مَا مِن cإِلَ^هٍ إ اَِّل هَّ ُغَفcلَةٍ مِّن cهَ ^ذَ ا ب َcل كُنَّا ظَ^لِمِنيَ )؛ وقوله تعـاىل( :إِ َّن هَ ^ذَ ا لَهُوَ eلcق ََص ُ
َّك عَ لَى eلcحَ ّ ِق eلcمُبِنيِ ) 72.وبالطبع ،جيب أن نلتفت لعدم اخللط بني ما
eلل إِن َ
eلcحَ كِ يمُ )؛ وقوله تعاىل( :فَتَوَ ك َّcل عَ لَى هَّ ِ
نناقشه هنا من صفـة احلق مع اسم اهلل .فلفظ Xاحلق Zكام هو معلوم من أسامء اهلل احلسنى كام يف قوله تعاىل( :ثُمهَّ
eلل رَ بُّكُ مُ eلcحَ ُّق فَمَاذَا بَعcدَ
eلل مَو cلَىهُمُ eلcحَ ّ ِق أ ََل لَهُ eلcحُ ك cمُ وَهُ وَ أ َcسرَ عُ eلcحَ ^سِ بِنيَ )؛ وقـوله تعاىل( :فَذَ ^لِكُ مُ هَّ ُ
رُ دُّو dاْ إِلَى هَّ ِ
وَل تَع َcج cل بِeلcقُر cءَانِ مِن قَبcلِ أَن يُق َcضىd
ِك eلcحَ ُّق َ
eلل eلcمَـل ُ
َ^ل فَأَنَّـى ت ُcصرَ فُونَ)؛ وقوله تعـاىل( :فَتَعَ^لَى هَّ ُ
eلضل ُ
eلcحَ ّ ِق إ اَِّل َّ
eلل هُ وَ eلcحَ ُّق وَ أَنَّهُ /يُحِ cى eلcمَو cتَى وَ أَنَّهُ /عَ لَى ك ّ ُِل شَ ى cءٍ
ِك بِـأَ َّن هَّ َ
ب زِدcنِى عِ لcمًا)؛ وقوله تعاىل( :ذَ^ل َ
cك وَح cيُهُ /وَ قُل رهَّ ِّ
إِلَي َ
73
eلل هُ وَ eلcحَ ُّق eلcمُبِنيُ ).
eلل دِينَهُمُ eلcحَ َّق وَ يَعcلَمُو َن أَ َّن هَّ َ
قَدِيرٌ )؛ وقوله تعاىل( :يَو cمَئِ ٍذ يُوَ فِّيهِمُ هَّ ُ
عـرف احلق بأنه كل ما ال يقبل اجلدل أو الـتحدي أو التغيري أو التفاوت ،بل جيب
لذلك نستطيع Xاآلن Zأن ُن ّ
ال من
علينـا القبول به والتـسليم له واالنقيـاد إليه واالنصيـاع ألمره ،مثل القـول احلق والقصص احلق ،ألنه أتـى مكتم ً
عنـد اهلل .وألنه مكتمل فال جيـوز للعقل البـرشي أن يتحداه ،بل يـذعن إليه ويـستسـلم له .لذلك كـان عىل املسلم أن
يـتصف بعقليـة غري اندفـاعية جتـاه كل ما أتـى من عنـد اهلل .أما غري ذلك فـهو يقع حتت الـبحث عن احلقيقـة والتي
ال بـاحثاً ممحصاً كام أمـر سبحانه وتعاىل بقولـه( :أَف ََل تَعcقِلُونَ) و (أَف ََل تَتَفَكَّ رُ ونَ) كام مر بنا .وكيف
تتطلب عق ً
يكون العقل باحثاً وممحصاً إن مل يكن حتداويـاً ومندفعاً يف طبيعته كام سرتى بإذنه تعاىل يف فصل Xاملعرفة .Zوهذه
هي طبـيعة اخلالئق ،أال تـرى األطفال يقلـبون األشيـاء ويشـدوهنا ويلقـوهنا ،إهنم حيـاولون فهمهـا باللعـب هبا .وهم
يفعلون ذلك ألهنا غريزة فطروا عليها ،وهي نعمة من اهلل علينا لنزداد علام ً من خالل املتعة باللعب والتجربة.
وللتلخيص أقول :إن املسلم جيب عليه أن يتمتع بعقلية مندفعة جتاه كل يشء ما عدا احلق :واحلق هو كل ما
أتـى من اهلل العليم احلكيم .وتـأيت حتت هذا بالـطبع مقصوصـة احلقوق أو احلكم بام أنـزل اهلل ،ألن كل ما عدا ذلك
َ^ك خَ لِيفَةً فِى
من أحكام تفـصل بني الناس هـي هوى وبغي كام تـستشف ذلك من قـوله تعاىل( :يَ^دَ اوُ /دُ إِنَّـا جَ عَلcن َ
eللِ)؛ ومن قوله تعـاىل( :ق ُcل إِنَّمَا حَ رهَّ مَ رَ بِّىَ
اَّك عَ ن َسبِيلِ هَّ
ُـضل َ
وَل تَتَّبِعِ eلcهَوَ ى فَي ِ
َّاس بِeلcحَ ّ ِق َ
َـني eلن ِ
َرcض فَeح cكُ م ب َ c
ecل ِ
َ^ب بِeلcحَ ّ ِق م َُص ّ ِدقًا
cك eلcكِ ت َ
َي eلcحَ ّ ِق)؛ وقـوله تعاىل( :وَ أَنزَ لcنَـا dإِلَي َ
وَeلثcمَ وَeلcبَغcىَ بِغ ِ c
ش مَا ظَهَرَ مِنcهَـا وَ مَا بَطَنَ ِ c
eلcفَـوَ ^حِ َ
وَل تَتَّبِع cأَه cوَ اdءَهُ م cعَ مهَّا جَ اdءَكَ مِنَ eلcحَ ّ ِق)؛ وقوله
eلل َ
َ^ب وَ مُهَيcمِنًا عَ لَيcهِ فَeح cكُ م بَيcنَهُم بِـمَا dأَنزَ َل هَّ ُ
َني يَدَ يcهِ مِنَ eلcكِ ت ِ
لِّمَا ب َ c
وَل تَكُ ن لِّلcخَ اdئِنِنيَ خَ ِصيمًا)؛ وقوله تعاىل:
eلل َ
َرَىك هَّ ُ
َّاس بِمَا dأ َ
َني eلن ِ
َ^ب بِeلcحَ ّ ِق لِتَح cكُ مَ ب َ c
cك eلcكِ ت َ
تعـاىل( :إِنَّا dأَنزَ لcنَا dإِلَي َ
َّاس فِيمَا
َني eلن ِ
َ^ب بِeلcحَ ّ ِق لِيَح cكُ مَ ب َ c
eلل eلنَّبِيِّCنَ مُب َِّشرِينَ وَ مُن ِذرِينَ وَ أَنـزَ َل مَعَهُمُ eلcكِ ت َ
َث هَّ ُ
َّاس أُمهَّةً وَ ^حِ ـدَ ةً فَبَع َ
(كَا َن eلن ُ
eلل eلاَّذِينَ ءَامَنُـواْ لِمَا
َ^ت بَغcيًـا بَيcنَهُم cفَهَـدَ ي هَّ ُ
eخ cتَلَفُـواْ فِيهِ وَ مَا eخ cتَل ََف فِـيهِ إ اَِّل eلاَّذِينَ أُوتُـوهُ مِن cبَعِ cد مَا جَ ـاdءَتcهُمُ eلcبَيِّن ُ
105 2قصور العقل
اعلقل يف اسلنة
بـالطبع لن نـتمكن من إعطـاء هذا املوضـوع حقه من البحث هـنا ،ذلك ألن اخلالف ،كام يـقال ،رسمدي يف
طـبيعته بني الـنصيني والـعقالنيني ،أو بني أهل احلـديث وأهل الفقه .ولعـلك استنتجـت أخي القارئ أن هـذا الكتاب
يدعوا إىل تعطيل العقل متى وجد النص .أي أنه نيص ألنه يقف مع أهل احلديث .فهل هذا صحيح؟ إنني كام سرتى
بإذن اهلل ،أحاول جاهد ًا إقـناعك بأن من احلكمة ترك العـقل أمام النص نظر ًا لقصوره .هلـذا فإن هذا الكتاب يرفض
هذا التقـسيم الذي انترش بني عـامة العلامء ،فهذا التـقسيم باطل ألن احلق واحد ،واحلق هـو تعطيل العقل أمام النص
إن ثبتت صحة النص .لتوضيح هذا البد لنا من املرور أوالً عىل األحاديث التي وردت عن العقل يف السنة املطهرة.
إن أول كـتابني عن الـعقل كام هو معـروف مها لـداود بن املحرب (ت 206هـ) وابن أيب الـدنيا (ت 281هـ).
ولـقد تعـرض كتـاب Xفضل العقل Zالبـن املحرب للكـثري من النـقد .فقـد أمجع عدد مـن رجال اجلـرح والتعـديل عىل
الX :الديـن هو العقل ،ومن ال دين له ال عقل له ،Zوقد
تكـذيب األحاديث التي وردت فيه .ومـن هذه األحاديث مث ً
صنفه األلباين بأنه بـاطل .وقال احلافظ بن حجر أن أحـاديث كتاب ابن املحرب كلها موضـوعة .وقال أمحد بن حنبل
عنه أنه ال يدري ما احلديث .هذا باإلضافـة لتضعيفات أخرى من رجال احلديث .ويف املقابل فقد قال ابن معني عن
ابن املحربX :ما زال معروفاً باحلديث يكتب احلديث ،ثم تركه وصحب قوماً من املعتزلة فأفسدوه ،وهو ثقة.Zك أما
كـتاب ابن أيب الـدنيا Xالـعقل وفضله ،Zفلـم يطعن يف صـدقه أحد .وقـد ورد يف كتابـه اثنا عـرش حديثـاً عن العقل.
لذلك ،وحتى يأخذ املوضوع حقه البد من توضيح أهم األحاديث التي بجلت العقل أوالً:
بأسـانيد أخـرى ،ثم رسقه سليـامن بن عيسـى السجـزي فأتـى بأسـانيد ك) بـالنـسبـة للحـديث فقـد ذكـر يف كتـاب Xاألحـاديث الـضعيفـة
أخـرى .Zوجاء يف Xاملسنـد املستخرج عـىل صحيح مسلم X :Zداود بن واملوضوعة Zللشيخ نارص الدين األلباين ،وقال النسائيX :هذا حديث
املحرب بن قحـذم أبو سليـامن حدث بمـناكري يف الـعقل وغريه حدثـونا باطل منكر .Zوبالنسبـة البن املحرب فقد قال عنه Xابن املديني :ذهب
عن احلارث ابن أيب أسامة عنه ،كذبه أمحد بن حنبل والبخاري رمحهام حــديثه؛ وقـال أبـو زرعـة وغـريه :ضعيف؛ وقـال أبـو حـاتـم :ذاهب
اهلل .Zويقول الشيخ اجلوزوX :فالقول إن ابن املحرب Xصحب قوماً من احلديث ،غري ثقـة .وقال الدارقـطني مرتوك ،وذهب إىل أن ابن املحرب
املعتـزلة فـأفسـدوه ،Zيشري إىل نقـطة هـامة ،ربام تـكون هي الـسبب سـارق .وقال اخلطيب البـغدادي :حدثني حممـد بن عيل الصوري قال:
الـرئيس لـرفض أحاديـثه كلها ،فـاملعتزلـة بالغـوا يف تقديـر العقل كام سمعت عبد الغـني بن سعيد عـن الدارقطني قـال :كتاب العقل وضعه
قدمنا ،متأثرين بالفلسفة اليونانية.)75( Z أربعة ،أوهلم مـيرسة ابن عبـد ربه ،ثم رسقه منه داود بن املحـرب فركبه
بـأسانـيد غري أسـانيد مـيرسة ،ورسقه عبـد العزيـز بن أيب رجاء فـركبه
قص احلق 106
لعل مـن أشهر األحـاديث التـي جمدت العـقل هو مـا رواه الغزايل يف اإلحـياء مـن أن الرسـول صىل اهلل عليه
وسـلم قالX :أول مـا خلق اهلل العقل ،فقـال له :أقبل .فـأقبل .ثـم قال له :أدبـر .فأدبـر .ثم قال اهلل عـز وجل :وعزيت
وجاليل مـا خلقت خـلقاً أكـرم عيل منك؛ بك آخـذ ،وبك أعطي ،وبـك أثيب ،وبك أعـاقب .Zوقـد قال العـراقي أن
احلديـث ذُكر يف معجـم الطرباين األوسط مـن حديث أيب أمـامة وأبـو نعيم مـن حديث عـائشـة بإسنـادين ضعيفني.
الX :أما احلديـث األول فهو كذب
وعنـدما سئـل شيخ اإلسالم ابن تيميـة رمحه اهلل عن هذا احلـديث وغريه أفتى قـائ ً
موضـوع عند أهـل العلم باحلـديث .ليس هـو يف يشء من كتب اإلسالم املعـتمدة .وإنام يـرويه مثل داود بن املحرب
وأمثاله مـن املصنفني يف العقل .ويذكره أصحـاب رسائل إخوان الصفا ونحـوهم من املتفلسفة .وقـد ذكره أبو حامد
يف بعض كـتبه ،وابن العريب وابـن سبعني .Zوقد حـاول املرتضـى الزبيـدي تصحيح احلـديث بقولهX :فهـذا كام ترى
سنـد جيـد .فقـول احلــافظ العـراقي :وبــاجلملــة فطـرقه كلهــا ضعيفـة حمل تـأمل .وكـذا إيـراد ابن اجلـوزي له يف
املوضوعـات ،وتبعه ابن تيمـية والزركـيش وغري هؤالء .فـغاية مـا يقال فيه :إنه ضعـيف يف بعض طرقه .Zأمـا الشيخ
األلباين فقد صـنفه بلفظ خمتلف يف Xالسلسلة الضـعيفة Zبأنه باطل .وثمة قـول أن تغيري ًا قد طرأ عىل نص احلديث يف
العبـارة منX :ملـا خلق اهلل اخللق Zإىل جعلـهاX :أول مـا خلق اهلل العقل ،Zوهبـذا تبجل الـعقل كام بني ابـن تيمـية يف
ل
فتواه.
وهناك حديث آخر ذكره الغزايل يف اإلحـياء وفيه تبجيل للعقل أيضاً .فقد Xروي أن عبد اهلل بن سالم ريض
اهلل عنه سـأل النبي صىل اهلل علـيه وسلم يف حديث طـويل يف آخره وصف عـظم العرش وأن املالئكـة قالت :يـا ربنا
هل خلقت شيئاً أعظم من العرش؟ قال :نعم ،العقل .قـالوا :وما بلغ من قدره؟ قال :هيهات ال حياط بعلمه ،هل لكم
بعدد الرمل؟ قـالوا :ال ،قال اهلل عـز وجل :فإين خلقت العقل أصنـافاً شتى كعـدد الرمل ،فمن النـاس من أعطي حبة
ومن أعطي وسقاً ومن أعطي أكثر مـن ذلك .Zوقال الشيخ اجلوزو ناقد ًا بأن احلـديث Xتبدو فيه املغاالة والنزعة إىل
تقديس العقل ،وذلك بتفـضيله عىل العرش ،فإذا كـان العرش ينسب إىل اهلل ،فـإنه يصبح يف الرشف والقيـمة واملرتبة
فيام يـضاف إليه أو نسب له ،والـذي ينسب إليه ال جيوز مقـارنته بالذي يـنسب إىل اإلنسان ...وهـذه أمثلة من تلك
77
األحاديث التي تتجه اجتاهاً فلسفياً ،والتي نميل إىل القول بضعفها ألهنا أقرب إىل التأثر بالفكر الفلسفي .Z...
وكام تلحظ أخي القارئ ،أختي القـارئة :فإن هذه األحاديث الثالثة السـابقة تعرض العقل وكأنه ذو كينونة
مـستقلة ذات تبجيل ومكانة قد تدفعه ليكون ند ًا لـلنص .فقد حيكم العقل بنفسه لنفسه بأن يقبل ويرفض من النص
ما أراد .وكام تلحظ أيضاً فإهنا أحاديـث إما أهنا قد كُذبت أو غُريت أو ُ
ضعفت يف أحسن األحوال .وهناك أحاديث
أخرى تعرضت للنقـد أيضاً إال أن معناها ال يرتقي بالعقل لتحـدي النص .ومعظم هذه األحاديث هي من كتاب ابن
املحرب .فقد ذكـر الغزايل احلـديث الذي يـربط بني العقل واملعـرفةX :اعقلـوا عن ربكم ...تعـرفوا ما أمـرتم به وما
لـكن املتفـلسفـة القـائلـون بقـدم العـامل أتبـاع أرسطـو هـم ومن سلك ل) يقول اجلـوزو :أما املرتضـى الزبيدي ،فقـد أراد تصحيح احلديث،
سبيلهم من باطنية الشيعة واملتصوفة واملتكلمة رووهّ :أو ُل ما خلق اهلل فقالX :قال عـبد اهلل بن أمحد يف Xزوائد الزهـد Zحدثنا عيل بن مسلم،
العقل -بالـضم -ليكون ذلك حجـة ملذهبهم يف أن أول املبـدعات هو حدثنـا سيار ،حدثنا جعفـر ،حدثنا مالك بـني دينار عن احلسن يرفعه:
العقل األول .وهـذا اللفظ مل يروه به أحد من أهل احلديث ،بل اللفظ Xملا خلق اهلل العـقل قال له :أقبل ،فـأقبل ،ثم قـال له :أدبر ،فـأدبر .ثم
املروي مع ضعفـه يدل عىل نقيـض هذا املعنـى ،فإنه قـالX :ما خلقت قال :ما خلقت شيئـاً أحسن منك ،فبك آخذ ،وبك أعطي .ZZويستنتج
خلقاً أكرم عيل منك .Zفدل عىل أنه قـد خلق قبله غريه ،والذي يسميه اجلوزو من نص احلديث وبـالرجوع البن تيمـية أن اهلل سبحانه وتعاىل
الفالسفة العقل األول ليس قبله خملوق عندهم.)76( Z قال Xللعقل يف أول أوقـات خلقه ،ليـس فيه أن العقل أول املخلـوقات.
107 2قصور العقل
هنيتم عـنه .Zوهذا الـربط ورد يف أحـاديث أخـرى كثرية ذكـرها ابـن املحرب يف كتـابه ،وضعـفها احلـافظ العـراقي،
ومنهـاX :ما اكتسب رجل مثل فضل عقل هيدي صاحبه إىل هـدى ويرده عن ردي ،وما تم إيامن عبد وال استقام دينه
حتى يكمل عـقلهZ؛ ومنهاX :ال يتم لـرجل حسن خلقه حتـى يتم عقلهZ؛ ومنهـاX :لكل يشء دعامة ،ودعـامة املؤمن
عقـله ،فبقدر عقـله تكون عبـادته .Zوبرغم أن هـذه األحاديث ،وغريهـا مـ قد ُ
ضعـفت ،وبرغم أهنـا تبالغ يف وصف
العقل ومـدحه ،إال أهنـا ال تـدفعه لتحـدي النـص .فهي أحــاديث حتث الفـرد عىل حتـريـك عقله لفهـم دينه .وهنـاك
أحـاديث أخـرى صنفت بـأهنا بـاطلـة ،منـهاX :الـدين هـو العقل ،ومن ال ديـن له ال عقل له .Zومنـها مـا صنف بـأنه
موضـوع مثلX :العلم خلـيل املؤمن ،والعقل دلـيله ،والعلم قيمه ،واحلـلم وزيره ،والصـرب أمري جنوده ،والـرفق والده،
واللني أخـوه .Zومثل Xقـسم اهلل العقل عـىل ثالثة أجـزاء ،فمـن كن فيه فـهو العـاقل ،ومن مل يكـن فيه فال عقل له،
حسن املعـرفة باهلل عـز وجل ،وحسن الطـاعة هلل عز وجل ،وحـسن الصرب هلل عز وجل.Zن الحـظ أخي القارئ بأنه
حتى بعض هـذه األحاديث املوضـوعة أو الضعيفـة ُتظهر قصـور العقل مثل احلديث األخري الـذي قسم العقل ثالثة
أجزاء ،وأن كل جـزء قابل للتحـسني من خالل حسـن معرفة اهلل عـز وجل أو حسن طـاعته أو حسـن الصرب ،وهذه
مسائل تزيد وتنقص إشارة إىل القصور.
وبالـنسبة لألحاديث التي رواها ابـن أيب الدنيا فهي أحاديث مل ُيقدح هبـا ،ولكن يف الوقت ذاته مل يأخذ هبا
أهل السنة واجلـامعة .ومن هذه األحاديث قوله صىل اهلل عليه وسلمX :إن الشاهد عىل اهلل عز وجل أن ال يعثر عاقل
إال رفعـه اهلل عز وجل .ثم ال يعثـر إال رفعه ،حتى جيعل مـصريه إىل اجلنة .ZوقـولهX :ال يعجبنكم إسالم أمـرئ حتى
س
تعـرفوا معقـود عقله .Zوكام ترى فـإن املالحظ عىل هذه األحـاديث وغريها أهنـا ال خترج العقل من كـونه وسيلة
لـتقيص احلقيقة ،بل أداة تعني املسـلم عىل دينه برغم متجيدهـا للعقل .وما يدل عىل أن العقل أداة هي الـتناقضات التي
وردت يف كتاب ابن أيب الدنيا .ونظر ًا ألمهيـة كتاب ابن أيب الدنيا يف أيامنا هذه ،البد من املرور رسيعاً عىل بعض ما
جـاء يف كتـاب ابن أيب الـدنيـا لرتى التـناقـض (ذلك أن كثري ًا مـن العلامنيـني الذيـن يرفـعون مقـام العقل فـوق النص
الرشعي يلجؤون ملثل هذه األحاديث عن العقل الستثامرها يف أهدافهم):
إن يف نصوص ابن أيب الدنيا إشارة واضحة إىل أنه كـان فرد ًا يعكس التيار املنترش فكرياً عن العقل يف زمانه
برغم متجيده للعقل ،فهو مل يقفز بالعقل لتحدي النص كام هو عليه حال العلامنيني اليوم ،بل كان متواضعاً (مقارنة
بالضالني املعارصين) برغم تطرفه يف متجيد العقل ،فمن نصوصه التي متجد العقل اآليتX :حدثنا أمحد بن عبد األعىل
ملك آدم عـليهام السالم فقـال :قد جئـتك بالعقل والـدين والعلم ،فـاخرت أهيام شئت؟
الشيبـاين عن شيخ له قـال :أتى ٌ
يف العقل ويكرب الدماغ .)79( Z مـ) ومن هـذه األحاديث :عن عائـشة ريض اهلل عنها قـالتX :يا رسول
س) ومن هذه األحـاديث قولهX :ثالث من حـرمهن حرم خري الـدنيا اهلل ،بم يتفـاضل الـناس يف الـدنيـا؟ قال :بـالعقل .قلـت :ويف اآلخرة؟
واآلخـرة :عقل يداري به الـناس ،وحلم يـرد به السـفيه ،وورع حيجزه قال :بـالعقل .قلت :أليـس إنام جيزون بـأعامهلم؟ فقـال صىل اهلل عليه
عن املـعايصZ؛ وهناك حديث آخر من أن الرسول صىل اهلل عليه وسلم وسلم :يا عائشـة ،وهل عملوا إال بقدر ما أعطاهم عز وجل من العقل،
Xإذا بلغه عن أحد أصحابـه عبارة قال :كيف عقله؟ فـإن قالوا :عاقل، فبقدر ما أعطـوا من العقل كانت أعامهلم ،وبقـدر ما عملوا جيزون.Z
قـال :مـا أخلق صـاحبكـم أن يبلغ .وإن قـالـوا :لـيس بعـاقل ،قـال :مـا ومنهـاX :مطية املـرء العقل وأحسنكم داللـة ومعرفة بـاحلجة أفضلكم
أخلقه أن ال يـبلغ .Zويقــول الـشـيخ اجلـــوزو معلقــاًX :هــذه بعـض الZ؛ ومنهـاX :لكل يشء آلـة وعـدة ،وإن آلـة املـؤمـن العقل؛ ولكل
عق ً
األحـاديث الـتي وردت يف متجيـد العقل وجعله مـدار اإليـامن ،ومبلغ يشء مطيـة ،ومطـية املـرء العقل؛ ولكل يشء دعـامة ،ودعـامة الـدين
الـرشـد ،ومـوطن املـروءة ،ومنـاط اإلسالم ،وأســاس اخللق ،وركيـزة العقل؛ ولكل قوم غاية ،وغاية العباد العقل.)78( Z
النجاح يف احلياة الدنيا ويف اآلخرة)80( .Z ن) ومن هذه األحـاديث املوضوعة أيـضاًX :عليكم بالقـرع فإنه يزيد
قص احلق 108
فاختار العقل ،وقال للدين والعلم :ارتفعا ،قاال :أمرنا أن ال نفارق العقل .Zففي هذا املثال تشعر بأن القائل يرمي إىل
أن العـقل مقدم عىل الـدين والعلـم .مثال آخـرX :عن عبـد اهلل بن خبيق األنـطاكي قـال :كان يقـال :العقل رساج ما
بطن ،ومـالك ما علن ،وسائس اجلسد وزينة كل أحد ،فال تـصلح احلياة إال به ،وال تدور األمور إال عليه .Zهنا أيضاً
تشعر أن القائل يرمي إىل أن احليـاة لن تصلح بدون العقل ألن األمور تدور عليه ،وهنـا قد يعتقد فرد أن هذا يشمل
أيضاً الـدين الذي يدور عىل العقل ،وليـس العكس ،وهكذا مع نصـوص أخرى مرت بنـا سابقاً (منهـا ما هو ضعيف
ومنها ما هو موضوع كام رأينا).
لكن يف الوقـت ذاته ،وألن ابن أيب الدنيا يسـتنشق رحيق فكر عرصه ،نجـد من نصوصه ما جتعل العقل دون
الدين( ،أي أن هناك تناقضاً إن نظرنا للمسألة كام يريد العلامنيون) .فقد ذكر يف كتابه أن عبيد اهلل قالX :ما أويت
رجل بعد اإليامن باهلل عـز وجل خري من العقل .Zفنرى هنا بـوضوح أن العقل أتى بعد الـدين .مثال آخر :عن عروة
أنه قـالX :أفضل ما أعـطي العباد يف الـدنيا العـقل ،وأفضل ما أعطـوا يف اآلخرة رضوان اهلل عـز وجل .Zفربغم تقديم
العقل هـنا يف الـدنيـا دون الترصيح بـأنه مقـدم عىل الـدين ،إال أن هـذا التقـديم مـربوط بـرضوان اهلل عـز وجل يف
اآلخـرة ،أي أن العقل ضمناً قد يأيت بعد الـدين .مثال ثالث :عن وهب بن منبه أنه قـالX :املؤمن مفكر مذكر؛ فمن
ذكر تف ّ
كر ،فعلته السكينة ،وقنع فلم هيتم ،ورفض الـشهوات ،فصار حر ًا وألقى احلسد ،فظهرت له املحبة وزهد يف
كل فـان ،فاستكمل الـعقل ورغب يف كل يشء باق ،فعقل املعـرفة .Zنرى هنـا التدرج يف وصف حـال كل مفكر إن
كان مؤمنـاً كثري الذكـر هلل (واهلل أعلم) لينتهي بـاملعرفة التـي تتأتى بـاملرور عىل السكـينة أوالً ثم القنـاعة ثم رفض
الـشهوات ثم التحرر من الـكثري من األمور التي تشـد اآلخرين لدرجة تـرك حتى احلسد (وهـذا أمر صعب املنال)،
ثم الزهد يف كل أمـور الدنيا ألهنا فانية ،وعندها سيكتمل هلذا املؤمن العقل لينتهي باملعرفة أو احلقيقة ،أو كام قال:
Xفعـقل املعرفة .Zنلحظ هنا كيـف أن العقل كأداة حررت املؤمن وارتقت به من االنـشغال بام هو دنيوي إىل الرتفع
عن مهوم االنشغـال هبا .فاهلدف هنـا عىل الرغم من متجيد دور العقل هـو إناطة املسؤولـية عىل العقل بدور يقوم به
للتحرر من الدنيا لبلوغ اآلخرة ،وليس العكس كام حياول العلامنيون باستخدام العقل للتحرر من اآلخرة لالنغامس
يف املزيد من اإلنتاجية االستهالكيـة يف الدنيا .وهذا ينطبق عىل مجيع األحاديث الـسابقة عن العقل .أي أننا نستطيع
أن ننظر جلميع األحـاديث التي متجد العقل عىل أهنا تنظـر للعقل عىل أنه أداة تعني عىل تعميق القيم اإلسالمية ،ال أن
تكـون أداة هدم لنصوص الـدين .أي أنني ما أحـاول الوصول إليه هـو أن معظم هؤالء الـذين جمدوا العقل يف الرتاث
اإلسالمي مل يكن هدفهم هدم الدين بالعقل ،بل كانوا ينظرون للعقل كأداة ملزيد من التمكن من الدين.
ألرضب مـزيد ًا مـن األمثلة مـن كتاب ابـن أيب الدنيـا ألمهية املـسألـة :فعن صالح بـن عبد الكـريم أنه قال:
Xجعل اهلل عز وجل رأس أمور العـباد العقل ،ودليلهم العلم ،وسائقهم الـعمل ،ومقوهيم عىل ذلك الصرب .Zفكام ترى
مـن هذا النص ،فربغم أنه يمجـد العقل بجعله Xرأس أمور العباد Zإال أنه يـربط العقل بتعميق القيم الـدينية .فالعقل
مربوط بالعلم الرشعي .فالعلم آنذاك مل يكن مفرقاً لعلوم خمتلفة ،بل كان العامل جامعاً لكل العلوم كام هو معلوم،
بام يف ذلك بالـطبع العلم الرشعي وهو األهم .فـالعلم الرشعي هو دليل من كـان العقل رأس أموره ،ومن ساقه العمل
الصالح من خالل الصرب .وهكذا إن تأملت مجيع الـنصوص جتد أهنا ال حتاول أبد ًا التعيل عىل النص ،بل حتاول تعميق
الـقيم اإلسالمية .وبـاإلضافة ملـا سبق ،فإن كتـاب ابن أيب الدنيـا حيوي الكثـري من األقوال التي تـظهر العقل عىل أنه
109 2قصور العقل
ال :عن عامـر بن عبد قيس أنه قـالX :إذا عقلك عقلك عام ال ينبغي فـأنت عاقل .قال
متفاوت .فمن هـذه األقوال مث ً
ال مـن عقال اإلبل .Zوبـالطبع فـإن أحجمك عقلـك أحيانـاً أو أطلقك أحيـاناً أخـرى ،فإن
عيل :وإنام سـمي العقل عق ً
العقل بالتـايل متفاوت .كام أن هنـاك أقواالً تظهـر العقل عىل أنه أداة لربط اإلنـسان من االندفـاع .فقد سئل ورد بن
حممد نـرصويه ،وكان قـد بلغ عرشين ومـئة سنـة :ما الـعقل؟ قالX :أن يغـلب حلمك جهلـك وهواك .Zهنـا نرى أن
ذكر ابن أيب الدنيا هلذا القول يف كـتابه مؤرش عىل قبوله لفكرة أن من أحد تفسريات العقل أنه أداة ُتغلّب احللم عىل
اجلهل واهلـوى .وكذلك القـول اآليت :فعن أكثم بن صيفـي أنه قالX :دعامـة العقل احللم ،ومجاع األمـر الصرب ،وخري
األمـور مغبة العقل ،ويقـال املودة والتعـاهد .Zففي هـذا القول دليل واضح عىل أن العقل كـأداة يعمق القيم الـسامية
كاحللم وليس العقل أداة للتفكر هلدف التحرر من هذه القيم كام حياول العلامنيون فعل ذلك .وكذلك مجيع األقوال
األخرى يف كتاب ابن أيب الـدنيا ،إن تأملتهـا لوجدهتا تـشري بطريقة أو بـأخرى إىل أن العقل برغـم متجيده ال يرتقي
81
ألن يكون أداة ملساءلة النص الرشعي ،بل خلدمته.
ألااحدثي الصحيحة
أما األحـاديث الصحيحـة التي ذكر فـيها العقل فـإهنا ال تعـطي العقل ذات التبجـيل .بل تعده أداة اسـتيعاب
عمل عقله يف التحـرك داخل إطار الـرشيعة وال وحفـظ للبرش مـن املهالك ونحـوها من معـان حتفظه إنسـاناً رشيـد ًا ي ِ
ُ
يتحداهـا .فمن هذه األحـاديث ما رواه مـسلم مما ذكـره الصحايب جـابر بن عبـد اهلل عن زيارة الـنبي صىل اهلل عليه
وسلم لـه يف مرضه بـقولهX :وأنـا مريـض ال أعقل ،Zثم روى أن الـنبي صىل اهلل عـليه وسلم تـوضأ Xفعـصب عيل من
وضوئه فعقلت .Zفكام ترى فإن العقل هنا أتـى بمعنى الغياب عن الوعي بالتفـريق بني فرتيت الغيبوبة والوعي .وقد
ورد العقل أيـضاً يف املـوطأ عىل لـسان عبـد اهلل بن أيب حبـيبة يف الـتفريق بـني فرتتني أيضـاً ،مها حـداثة الـسن وبلوغ
الـرشد بـالقـولX :فقلته وأنـا يومـئذ حـديث الـسن ثم مكـثت حتـى عقلـت .Zوقد أتـى العقل أيضـاً بمعنـى احلفظ
والتذكر .وهذا واضح من األحـاديث التي رواها البخاري يف كل مـن قول عبد العزيز بـن رقيع وهو يسأل أنس بن
مالكX :قلت :أخربين بيشء عقلته عن النبي ،Zويف قول حممود بن الربيعX :عقلت عن النبي صىل اهلل عليه وسلم جمة
جمها يف وجهـي ،Zويف قول عائـشة ريض اهلل عنهـاX :مل أعقل أبوي قط إال ومهـا يدينـان الدين .Zوقـد وردت عبارة:
{ال يعقلـون} بصيغـة الفعل املـضارع يف احلـديث الـذي رواه البخـاري يف وصفه صلـوات ريب وسالمه عليه الـذين
تلهيهم شهـوات الدنـيا عن اآلخـرة بقوله{ :وإن هـؤالء ال يعقلـون ،إنام جيمعـون الدنيـا} .واالستخـدام هنا لـ {ال
يعقلون} يشبه ما ندد به القرآن الكريم الكفرة بتعطيل عقوهلم عن تقيص احلقيقة.
وحـتى إن ورد لفـظ العقل بصـيغة االسـم يف األحاديـث الصحيـحة ،فلـم ُيذكـر بطـريقة جتـعله ذا كينـونة
مكتملة مقـدسة متكنه من مساءلة الـنص؛ بل أداة تعمل داخله .فمن حديث صحيح مسلـم الذي يصف النساء بأهنن
Xناقصـات عقل ودين ،Zال يمكـن االستنتاج بـأن الضد مكتـمل ،أي أن الرجال ذوي عـقول مكتملـة مقارنة بـالنساء
لدرجـة متكن عقوهلم معهـا من حتدي النـص .فنص احلديث هـو :عن عبد اهلل بن عمـر عن رسول اهلل صىل اهلل عليه
وسلم أنه قال{ :يـا معرش الـنساء تـصدقن وأكثـرن االستغفار ،فـإين رأيتكن أكـثر أهل النـار} .فقالت امـرأة منهن
قص احلق 110
جـزلة :ومـا لنا يـا رسول اهلل أكـثر أهل النـار؟ قال{ :تكثـرن اللعن وتكفـرن العشري ،ومـا رأيت من ناقـصات عقل
ودين أغلب لـذي لب منكن} .قـالت :يا رسـول اهلل ،وما نقـصان العـقل والدين؟ قـال{ :أما نقـصان العقل فـشهادة
امرأتني تعـدل شهادة رجـل ،فهذا نقصـان العقل؛ ومتكث الليـايل ما تصيل وتفـطر يف رمضـان ،فهذا نقصـان الدين}.
فمن هذا احلـديث يتضـح معنى نقصـان الدين بـأنه إنقاص النـساء يف العبـادة مقارنة بـالرجال لـظروف جسـدية ،أما
نقصـان العـقل يف الشهـادة ،فهنـاك تفـسري مفـاده اآليت :إن املرأة عـادة ما تـتسـاهل يف احلقـائق جمـاراة لآلخـرين من
خجلها .فـبسبب تـساهل املـرأة هذا كـان احتسـاب شهادهتـا بنصف شهـادة .فقد أجـريت أبحاث يف كـندا بني غري
املسلمني عن كيفـية ترصف الرجال والنساء عندمـا ُيسألون .فعند توضيح معلومـة صحيحة كأن يكون ارتفاع مبنى
مـا مخسون طابقـاً ،ثم سؤال الرجل بعـد مدة عن االرتفاع ،نجـده يرص عىل أنه مخسون طـابقاً .أما املـرأة فإن جادهلا
الـسائل بنـوع من اإلحلاح مـن أن املبنى قـد ال يصل إىل مخسني طـابقاً ،بـل أقل من ذلك ،فإهنـا جتاريه وتـوافقه تالفياً
للخالف .فاملقـصود من احلديـث هو إذ ًا ،واهلل أعلم ،أن النقصـان ليس بالـرضورة يف معنى نقيض زيـادة العقل .حتى
وإن كـان املقصود هـو النقصان املـضاد للكامل ،فهـذا ال يعني تعظيـم العقل عند الـرجال ليقف نـد ًا للنص .ويتجىل
ال:
هـذا من حـديث مـسلم الـذي سأل فـيه الرسـول صىل اهلل علـيه وسلم عن الـرجل الذي اعـرتف أمامه بـالزنـا قائ ً
Xأتعلمون بعقله بـأساً تنكرون منه شيئاً؟ ،Zفكانـت اإلجابةX :ما نعلمه إال ويف ّ العقل .Zأي تام العقل وكامله ،إال أن
هذا الكامل ال يرقى لدرجة مساءلة النص ،بل يعني حتمل املسؤولية كام هو واضح من احلديث الذي رواه أبو داود
عن الـنبي صىل اهلل عليـه وسلم الذي قـال فيه{ :رفع القلـم عن ثالثة :عـن النائـم حتى يـستيقـظ ،وعن الصبـي حتى
حيتلم ،وعن املجنون حتى يعقل} .كام أن العقل ورد يف أحاديث أخرى بصيغة تدل عىل الثناء كام يف قوله صىل اهلل
عليه وسلـم يف احلديـث الذي رواه مـسلم{ :ثـم يقال لـلرجل مـا أجلده ،مـا أظرفه ،مـا أعقلـه} ،وكام ورد يف مسـند
اإلمـام أمحد أنه صىل اهلل عليه وسلم قـال{ :كرم الرجل دينه ،ومـروءته عقله ،وحسبه خلقه} .فربغـم تقدير العقل
هنـا ورفع مكـانته إال أنـه ال يرقـى كام تـرى ألن يتحـدى النص ،بل هـو يف إطار صـفة بـرشية كـام يف قولـه{ :ما
82
أعقله} بقـرنه مع اجلَلد ،أو يف إطـار ميزة إنـسانيـة ساميـة ترفـعه ملروءة البـرش كام يف قوله{ :ومـروءته عقله}.
83
وباإلضافة للسابق ،فقد ورد لفظ العقل يف عدة أحاديث بمعان قد ال تعني العقل أو قد ال تتصل بموضوعنا.
وأخري ًا لنعـرض لبعـض أقوال الـصحابـة عن العقل :قـال عمـر بن اخلطـاب ريض اهلل عنهX :لـيس العـاقل من
عرف اخلري من الـرش ،بل العاقل من عـرف خري الرشين .Zوقـال عيل كرم اهلل وجههX :ال مـال أعو ُد من العقل ،وال
مكيال ثـلثه فطنة وثلثاه تغافـل .Zوقال معاوية لعمرو بن
ٌ أرض من اجلهل .Zوقال معـاوية بن أيب سفيانX :العقل
فقر ُّ
العاصX :ما بلغ من عقلك؟ قال :ما دخلت يف يشء قط إال خرجت منه .فقال معاوية :لكني ما دخلت يف يشء قط
84
أريـد اخلروج منه .Zوقيل لعـمرو بن العاصX :مـا العقل؟ فقال :اإلصابـة بالظن ،ومعـرفة ما يكـون بام قد كان.Z
وكام تـرى ،فإن هذه أقـوال من عارصوا الـرسول صىل اهلل عليه وسلم .وأقـواهلم تدور حـول معان يديـرون هبا أمور
حياهتم وفهم دينهم باستخـدام عقوهلم .أي أن العقل كام ورد يف السنة باختـصار ليس إال أداة خادمة للمقصد األهم
يف احلياة ،أال وهو فهم الرشيعـة والعمل هبا للخروج من الدنيا لبلوغ اآلخـرة .وهذا املفهوم يتطابق وخيدم ما أتى به
القرآن الكريم من البحث عن احلقيقة .وشتان بني هـذا املفهوم وبني أن يكون العقل كياناً مقدساً والعياذ باهلل يسري
أمور احليـاة بتغيري الرشيعة والتعيل عليها .ولكن إن كان الـسابق صحيحاً ،فكيف خرجت األمم اإلسالمية يف بعض
فتواها عن الرشيعة؟ أي كيف حتدى العقل النص؟
111 2قصور العقل
املعزتةل املعارصون
هل اإلنسان مـسري أم أنه خمري؟ لقد شغل هذا الـسؤال عقول املسلمني وكـان ،واهلل أعلم ،أحد أسباب ختلفهم
بسبب اجلـدل واخلوض فيه .إنه البـوابة اخللفيـة التي دخلت منهـا الفلسفـة إىل علوم املـسلمني لتـسحق مقدرهتم عىل
ال يف زمن الرسول صىل اهلل عليه وسلم وال يف عهد اخللفاء من
اإلنتاج .كيف؟ لقد ظهرت أسئلة فلسفية مل توجد أص ً
بعـده .أسئلة فـكرية ال تـزيد يف إنتـاج املجتمع ،بل تـسحبه إىل حفرة جـدلية ال خمـرج منها إال بـالتعمق فيهـا ليزداد
املجتمع جدالً ومتزقاً .قل يل باهلل عليك :هل رأيت أو سمعت عن فيلسوفني اتفقا قط؟ بالطبع ال ،ألهنام إن فعال فهم
ليسا من الفالسفة .فلطاملا اختلفا ،فالبـد وأن يكون أحدمها عىل احلق أو كالمها عىل ضالل .وإن كان أحدمها عىل
احلق ،فكيف نعرفه؟
كـام يقال ،فإن كتب الفـلسفة اليونـانية املرتمجة إىل العـربية حركت بـعض النفوس ملحاولـة فك لغز التخيري
والتسـيري .وكيف يكـون اخلروج مـن هذا املـأزق إال من خالل العـقل البرشي! هـنا كـانت الـبدايـة .لقد بـدأ بعض
املسلمني بتـمجيد العقل بـاستخدام عقـوهلم يف مراجعـة نصوص الـرشيعة ،وهذا كـان بفعل التأثـر بالفكـر الفلسفي
الـيونـاين .هكذا بـدأت اجلرأة عىل الـنص .إنه منـزلق كبري وقع فـيه الكثري وبحـسن نيـة .ولعل املعـتزلـة منهـم ،فقد
استندوا عىل العقل وحاولوا نفي الـظلم عن اهلل سبحانه وتعاىل من خالل تفسرياهتم .فـقد قالوا بأن اهلل خلق لإلنسان
قدرة خيلق هبـا أفعاله .أي أن اإلنسـان يف نظرهم فـاعل خمتار وحـر اإلرادة .فهو يترصف بـالقدرة التـي منحها اهلل له
كام يشـاء .وبذلك فـاإلنسان يـوجه ويستغل ،وبـالتايل خيـلق أفعاله .وألن احلق سبحـانه وتعاىل خـلق البرش وكلفهم،
فقد أكمل هلـم عقوهلم حتى يتمكنـوا من العملX .والقدرة ال تكون إال قدرة عىل املـأمور به وعىل ضده .وهلذا صار
ال مفكـر ًا حتى يستطيع أن يـنظر ويعترب ويتوصل بعضهم (أي املعتزلة) إىل أن أول مـا خيلقه اهلل جيب أن يكون عاق ً
بالعقل إىل معـرفة اخلالق .Zلـذلك اهتِموا بوضع احلـديث الذي ذكرنـاه سابقاً ،والـذي يبجل العقلX :أول ما خلق اهلل
العقـل .Z...وهبذا ،كام يعتقـدون ،فإهنم ينفـون الظلم عن اهلل سبحـانه وتعاىل ،وإال فكيف حيـاسب اهلل الناس عىل
الرش وهو الـذي أقدرهم عىل فعله؟ فالبـد وأن يكون الرش مـن صنع البرش الذيـن مل يتمكنوا من اسـتخدام عقوهلم
كام جيب ،وليس من صنع اهلل اللطيف الـودود .فاخلري إذ ًا من اهلل عز وجل ،والرش من اإلنـسان .وهبذا يكون العقل
أسـاس املعرفة ومـوطن املسؤوليـة واالختيار .وهكـذا تم تبجيل العقـل وبدأ عهد من الـتقديس للعقل لـدرجة حتدي
خلق مـن خلقه .وهذا قـول مل يأت به الـرسول
النـصوص حتـى وصلوا إىل أن القـرآن ليس بكـالم اهلل عز وجل ،بل ٌ
صىل اهلل عليه وسلم وال خلفاؤه وال أصحـابه من بعده .وبالطبع ،فإن أمة أوصاهـا رسوهلا بتاليف البدع حتى يف أصغر
أمـورها ،وجتد نفـسها يف دوامة بـدع متس صلب عقـيدهتا وبـدعم من السلـطة احلاكـمة آنذاك (املـأمون) ،فالبد وأن
يثور فيها جدل يمزق وحدهتا .وقد كان.
وال أريـد هنـا اخلوض يف مـسألـة القدر ،فـموضـوع بحثـنا هـو التمكـني ،ولكن للتـوضيح فقط أقـول :إن ما
ال بـإرادته وخيلق أفعاله ،أو مل يكن ،فإنه خملوق هلل،
يذهب إليه أهل السنة واجلامعـة هو أن العقل سواء كان مستق ً
واستقالليـته ال تنفي أنه خملـوق ،فإرادة اهلل كليـة وخالقـة لكل يشء .أما إرادة اإلنـسان فهي جـزئية .وهبـذا تتحقق
معنـى العبـودية الـكاملـة للحق سبـحانه وتعـاىل ،ألن إرادة اإلنسـان احلرة لـيست إرادة مـطلقة ،أمـا إرادة اهلل القوي
ٍ
ضعف لـدى املعتزلة إذ أهنم مل ينكروا أن العقل العزيز فهـي مطلقة ،ما شاء فعل ،وما مل يـشأ مل يفعل .وهذه نقطة
قص احلق 112
والقدرة التي خيلـق هبا اإلنسان أفعـاله خملوقة هلل أيضـاً .ويف هذا رجوع للحق جـلت قدرته ،وأن كل يشء خملوق له
سـبحانه وتعـاىل ،وهبذا تكـون احلريـة التي يـدعوهنـا حريـة نسبـية .أي أن منـطق أهل السـنة واجلامعـة هو األوىل
بـاالتباع ألهنم قالوا أن اخلري والرش مـن اهلل ألن قضاءه سبحانه وتعاىل سابقX ،وأن اإلنـسان يكسب عمله الذي قُدر
له بإرادته وباختياره ،وهـذا ال يتعارض مع إرادة اهلل ،ألن علم اهلل األزيل حييط بكل يشء ،لذلك سخر طرق اهلداية
للمهتـدي ،وطرق الضـاللة للضـال 85.Zولعل العلة تـكمن ،واهلل أعلم ،يف قنـاعة اإلنـسان يف لطف اهلل وطـيبته .فمن
اعتقد أن اهلل لطيف رؤوف رحيم بعبـاده ،جتده حيسن الظن باهلل وأنه سبحـانه وتعاىل ليس بظالم للعبيد .بل ألن اهلل
سبحانه وتعاىل يعلم الغيـب ،فقد قدر الضاللة للضال .حتى وإن أسمعهم لتولوا كام قال احلق سبحانه وتعاىل( :وَ لَوc
يا اَّل َcسمَعَهُم cوَ لَو cأ َcسمَعَهُم cلَتَـوَ لاَّواْ وهَّ هُ م مُّعر ُِضونَ) 86.فاإلشكالية تـكمن ،واهلل أعلم ،يف عدم قناعة
eلل فِيهِم cخَ ً c
عَ لِمَ هَّ ُ
ال يف رأس ال يتجاوز يف حجمه
البعض بقدرة اهلل عىل علم الغيب .وهلل املثل األعىل ،فأنت أهيا اإلنسان الذي متلك عق ً
كرة صـغرية ،تستطيع أن حتيـط علام ً بمعظم ما هـو يف غرفتك؟ فتصـور أنه سبحانه وتعاىل خـلق كائناً ذا عقل رأسه
كحجم الشمس أو حتى كحجم جمموعتنا الشمسية وبنفس مادة عقل البرش ،وهو سبحانه اخلالق اخلالق القادر عىل
ذلك( ،وإال كيف يكون رباً؟) ،أال يستطيع هذا املخلوق ذو الرأس الضخم أن حييط بام عىل األرض علام ً من خالل
ال عىل ذلك :أال يستطيع هذا املخلوق أن حيسب من التفاعالت
ال .ألرضب مث ً
حسابات دقيقة لترصفات البرش مستقب ً
الكيمـيائية داخل رأس زيـد من الناس أنه سيـستيقظ يف السـاعة كذا ثم خيـرج بعد كذا وهـكذا حتى تـأتيه حمادثة
هـاتفيـة وهو يقـود عربـته لعمله يف اللحـظة كـذا فيسـهو ثم تـكون هنـاك عربـة عبيـد من النـاس يف نفس اللحـظة
ليحدث حادث يودي بحيـاة زيد أو شلل عبيد فيكتب هـذا املخلوق مقدماً موعـد هالك زيد وشلل عبيد .فام ظنك
^ت
وَeلسمَ^وَ ُ
َرcض جَ مِيعًا قَب َcضـتُهُ /يَو cمَ eلcقِيَ^مَةِ هَّ
وَeل ُ
eلل حَ َّق قَد cرِهِ\ c
برب العـاملني الذي ليـس كمثله يشء( :وَ مَا قَـدَ رُ واْ هَّ َ
هَّ^ت بِيَمِينِهِ\ ُسبcحَ ^نَهُ /وَ تَعَ^لَى عَ مهَّـا يُش cرِكُونَ) 87.أي أن هذا املخلوق ذا الدمـاغ اهلائل يستطـيع ما ال يستطيعه
مَطcوِي ٌ
البرش بتحـويل مجيع التفاعالت اليومية ملعادالت حـسابية ومن ثم يتوقع ما قـد يقع .فام بالك برب العاملني القائل يف
cب وَeلشَّ هَ^دَ ةِ وَهُ وَ eلcحَ كِ يمُ eلcخَ بِيُ).
eلصورِ عَ ^لِمُ eلcغَي ِ
cك يَو cمَ يُنفَخُ فِى ُّ
سورة األنعام( :قَو cلُهُ eلcحَ ُّق وَ لَهُ eلcمُل ُ
مـسألة أخـرية b:حتى وإن قدر العـليم احلكيم الضالل عىل فـرد ما ،فإن ذلـك الفرد يستحق ذلـك التقدير ألنه
أتى من عند اهلل العليم احلكيم الـودود اللطيف الرمحن الرحيم ،أمل يقل سبحـانه وتعاىل يف آخر سورة اإلنسان( :إِ َّن
eلل كَا َن عَ لِيمًـا حَ كِ يمًا 30#يُد cخِ ُل
eلل إِ َّن هَّ َ
ِل أَن يَشَ اdءَ هَّ ُ
ِيل 29#وَ مَا تَشَ ـاdءُو َن إ اَّ d
هَ ^ ِذهِ\ تَذ cكِرَ ةٌ فَمَن شَ اdءَ eتَّخَ ـذَ إِلَى رَ بِّهِ\ َسب ً
مَن يَشَ اdءُ فِى رَح cمَتِهِ\ وَeلظاَّ^لِـمِنيَ أَعَ دَّ لَهُم cعَ ذَ ابًا أَلِـيمًا) .واآليات يف هذا كثـرية جد ًا لتؤكـد أن ما حكم به اهلل عىل
ال بعلمه وحكمته ،قال تعاىل يف اآلية 83
خلقه هو احلق لكامل علمه وحكمته ،فهـو قد رفع ابراهيم عليه السالم مث ً
هَّك حَ ـكِ يمٌ عَ لِيمٌ ).
^ت مهَّن نَّـشَ اdءُ إِ َّن رَ ب َ
cك حُ هَّجتُنَـا dءَاتَيcنَ^هَا dإِبcرَ ^هِـيمَ عَ لَى قَـو cمِهِ\ نَر cفَعُ دَرَجَ ٍ
مـن سورة األنعـام( :وَ تِل َ
وأعتقـد بأن هذه املسألة جوهرية يف كامل العقيدة :وهي اإليامن بأن هلل احلق يف فعل أي يشء ،حتى وإن حكم عىل
كل الـبرش بـأن يصـليهم نـار جهـنم ويف أسفل سـافلني ،فهـو خلقـهم وله فعل مـا أراد هبم ،إال أنه رمحـن رحيم ودود
لطيف .لذلك نحمد اهلل عىل أسامئه احلسنى وصفاته.
أي أن علـينا كـمسلمني أن نـعتقد بقـرص عقول البـرش إليقافهـا عند الـنصوص .وأن نـستخدم عقـولنا لـنتأمل
احلكمـة من رشعه سبحانه وتعـاىل .نتفكر يف الرشع ولـكن ال نحاول تغيريه كام حـدث عند فتح بـاب االجتهاد كام
113 2قصور العقل
سرتى بإذن اهلل ،فهذا حمظور علينا .هنا ،أي عند النصوص ،البد لنا من الوقوف والتسليم .ولكن الذي حدث هو أن
أحكاماً قد أطلقت بفتح باب االجتهاد فتغريت مقصوصة احلقوق ومن ثم تم احلكم بغري ما أنزل اهلل فكان الضياع.
ال
ولعل من مسبـبات هذا التحـوير للرشيـعة هو اعتقـاد بعض الفقهاء أن الـدين يف أحكامه بني النـاس ال يكون قاب ً
لكل زمان ومكـان إن مل يتغري بـتغري الزمـان واملكان .ولعل األسـوأ هو اعتقـاد أكثر العـامة ،ومـنهم أويل األمر ،أن
اخلطـاب الديني يف القرآن واحلـديث إنام هو موجه للـسلف بالدرجة األوىل ،وأن بـعض هذه النصوص لـيست بالتايل
ّك َل يُؤ cمِـنُو َن حَ تَّى يُـحَ ِّكمُوكَ فِيمَـا شَ َجرَ بَيcنَهُم cثُمهَّ َل
ال( :ف ََل وَ رَ بِ َ
موجهـة لنا لـتغري الزمـان .تأمل اآليـة اآلتية مـث ً
cت وَ ي َُسلِّـمُواْ ت َcسلِيـمًا) 88.فكثري هم الـذين يعتقـدون ،وبرغم عـدم ترصحيهم
يَـجِ دُ واْ فِى dأَنفُسِ هِـم cحَ رَجً ا مِّمهَّـا ق ََضي َ
بذلك ،أن هذه اآليـة قد تعطلت ألن الرسـول صىل اهلل عليه وسلم ال يعيش بيننـا اليوم .فعندما متـنع السلطات الناس
من اسـتخراج معـادن األرض إال بإذن مـنها ،فقـد حياول فـرد الرجـوع حلكم الـرشيعة مـستنـد ًا إىل هذه اآليـة ،برفع
دعوى ضد الـسلطات يف املحـاكم (هذا إن استـطاع) ،أي أن شجار ًا قـد وقع بني الفرد وسلـطته ،وعندهـا ،وبحسب
نص هـذه اآلية ،عىل احلاكم الـرجوع ملا حكمـت به الرشيعة ألن الرسـول صىل اهلل عليه وسلم ال يعيش بيـننا اليوم،
بل الـرشيعة هي الـتي تعيش معـنا وأن عىل اجلمـيع التسليـم ملا أتت به الـرشيعة دون أن يكـون يف ذلك أي حرج يف
النـفوس؛ هـنا جتـد الرفـض يف املجتمع وبـالذات مـن أويل األمر وبـدعم مـن بعض الفقهـاء بحجـة أن الظـروف قد
تغريت .فمن الفقهاء من يميز بني أحاديث الرسول صىل اهلل عليه وسلم ،هل قاهلا عىل أنه نبي مرسل أم قاهلا عىل أنه
حاكم أو إمام للـمسلمني آنذاك! فحديث إحياء املوات برغم وضوح نصه الذي يبيح للناس اإلحياء دون إذن اإلمام،
إال أن البعض أوله عىل أن الرسول صىل اهلل عليه وسلم ما أطلقه إال كحاكم وليس كنبي مرسل ،لذلك فاحلديث غري
ملـزم لنـا اآلن ،فال إحيـاء إال بإذن اإلمـام .هكـذا يكـون التعـطيل ألحكـام الرشيعـة .وهذا عـادة ال حيدث إال يف
مقصـوصة احلقوق وال حيدث يف األحكام التعبـدية .وحتى يف األحكام التعبديـة جيب علينا التسليم يف كل األحكام
ال ،جيب عليـنا أن نسلم بأن املسح ُرشع
حتى وإن مل ندرك احلكـمة من خلفها .فعند الـتفكر يف املسح عىل اخلفني مث ً
ليكون مـن فوق اخلف وليـس من أسفله رغم أن هـذا قد ال يكـون منطقـياً للبعـض منا ،فعلـينا أن نـستخدم عقـولنا
إلدراك احلكمة من وراء احلكم ،ولكن ال حيق لـنا أن نخالف احلكم إن مل نتوصل بعقـولنا للحكمة من وراء احلكم،
ال ألن مـعارفهـم املرتاكمـة ستكـون أكثـر منـا ال حمالـة .وهكـذا ترتاكم املعـرفة
فقـد يتـوصل إليهـا آخرون مـستقب ً
اإلسالمـية :أي ترتاكم من خالل حمـاولة فهم املقـاصد من األحكـام دون تغيريها ،ال أن نـستنتج ونرجح املـقاصد ثم
نغري األحكـام لتلحق باملـقاصد كـام حدث يف الرشع مـؤخر ًا (كام سرتى بـإذن اهلل) .فبالنـسبة للحقـوق ،فالبد وأن
تلحق املقاصـد باألحكـام ،وأن يسخر الـعقل إلدراك حكمة األحكـام ومقاصدهـا .هذا يف العلـوم اإلنسانـية .أما يف
العـلوم الـتقنيـة ،فإن اإلبـداع سيـأيت بعـد إطالق العقل ألقـصى مـدى ممكن يف األعيـان رغام ً عـن اجلميـع إن طبقت
الرشيعة بإيقـاف العقل عند النص ،ألن يف إيقاف العـقل عند النص إطالق للجميع للمـزيد من اإلنتاج والرتحال ألن
النصـوص الرشعية تـدفع لالنطالق رغام ً عن اجلـميع بطريقـة ال يمكن أن تفعلهـا منظومـات حقوقيـة أخرى .وهذا
سيؤدي إىل االكتشافات التي ستزيد االخرتاعات ليأيت التمكني (وسنوضحه بإذن اهلل).
أي أن هنجنا يف التفكري هو إطالق وتسليم .إطالق حيث أمرنا سبحانه وتعاىل يف التفكر يف خملوقاته ،كيف
تتواجد وتعيش وتتكاثر؟ كيف تنمو األشياء والكائنات وتتحول وتتفاعل؟ كيف تصهر املعادن وتتغري من حال إىل
حال؟ وكـيف نستفـيد منـها؟ أي سعي حـثيث لالكتـشافـات ،وعمل دؤوب لالخرتاعـات والتجارب والـتطويـر ليأيت
قص احلق 114
التمكني .وهـذا لن يتأتى إال بـإطالق البرش يف شتى املـجاالت ،وهذا ما تـدفع إليه الرشيعة كام سـيأيت بإذن اهلل .أما
األحكام التـي تربط النـاس برهبم ،واملـعامالت التي حتـكم عالقات النـاس فيام بينـهم (احلقوق) ،فنـسلم هلا أمـرنا:
نطلق عقولنا ملحاولة فهمها ،وإن مل ندرك احلكمة من أحكامها علينا أن ننتظر ونسلم ،ألهنا فوق مستوى عقولنا ،ال
أن نغري ما ال نـدرك حكمته .وهذا ما بدر مع األسف من بعض علامء الرشع مـؤخر ًا .فلقد ظهرت أحكام حمدثة من
بعض العلامء باتباع عقوهلم والتي تناقض نصوصاً يف الرشع (كام حدث يف نزع امللكية مث ً
ال).
وأنـوه هنــا إىل ضعفي يف الـرشيعـة ،فام سـأقـوله قـد ال ينـطبق عـىل املسـائل غري الـتنمـويـة واالقـتصـاديـة
والعـمرانـية .أخـي القارئ :إن لـدي يقيـناً بـأن كل ما أتـى به الرشع هـو األمثل لكل زمـان ومكان 89.وهـذا إعجاز
ترشيعي أتى به اإلسالم ،إال أنه تغري لوقوع بعض الفقهاء املعارصين يف منزلق .فهم يف تفكريهم يف األمور املعارصة
اصطـدموا مع املتـطلبات احلـديثة فـأرسعوا لألخـذ بمنطقهـم البرشي .ولكي ال يـظهر اإلسالم دينـاً متخلفـاً أوجدوا
أحكـاماً خالفت الرشع حتت مـظلة االجتهاد باسـتخدام عقوهلم ،فأرسع احلـكام (وهنا كانت الكـارثة) بتطبيق هذه
األحكام ،وهبذا ظهر خلل يف املجتمع املسلم ،وعندها مل تكن الرشيعة مهيئة للتعامل مع هذا اخللل الذي مل حتدثه
ال (تـذكر مثال مـرض نقص املناعـة اإليدز) مما تـطلب اجتهاد ًا آخـر ،فتم تطبـيقه ،فظهر خلل آخـر بحاجة
هي أص ً
الجتهاد آخـر .وهكذا تـراكمت االجتهـادات حتى خـرجت املجتمعـات عن حكم اهلل وذلت .أي أن بـعض الفقهاء
هنجوا هنـج املعتزلـة ولكن هلـدف خمتلف .فـاملعتزلـة حرصـاً منهم عىل نفـي الظلم عن اهلل عـز وجل ،انتهـوا بإعامل
عقوهلـم إىل القول بخلق القرآن الكـريم لتتمزق األمـة آنذاك .وكذلك فعـل هؤالء القلة من الفقـهاء املعارصين ،فهم
حرصـاً منهم وبحـسن نيـة عىل أن يظهـر اإلسالم مالئام ً لعـرصنا ،أعـملوا عقـوهلم يف نصـوص األحكام ،فـأصبحت
فتاواهم أحكـاماً طبقها الـسالطني .واألمثلة عىل هـذا كثرية كام سيأيت بـإذنه تعاىل .فكيف حـدث هذا اخلروج عن
حكم اهلل العليم احلكيم إىل حكم عقول البرش؟
أصول افلقه
لإلجابة عىل السؤال السابق ،عليـنا أوالً أن نلم ببعض املصطلحات يف أصول الفقه .فأصول الفقه هي املناهج
التي يلتـزمها الفقيه الستنـباط األحكام.عـ فبـالرجوع إىل كل مـن القرآن الكريم والـسنة املطهـرة واإلمجاع وفتاوي
الـصحابـة والقيـاس واالستحسـان والعرف واملـصالح املـرسلة والـذرائع واالستصحـاب (عىل الرتتيب) ،حـدد األئمة
ال حيد منـاهج استنباطـه األساسية بـالكتاب فـالسنة
املجتهدون منـاهجهم الستنبـاط األحكامX .فنجـد أبا حنيفـة مث ً
ففتاوي الصحابـة ،يأخذ ما جيمعون عليه ،وما خيتلفون فيه يـتخري من آرائهم وال خيرج عنها ،وال يأخذ برأي التابعني
ألهنم رجال مثله ،ونجـده يسري يف القياس واالستحـسان عىل منهاج ّبني .حتـى لقد يقول عنه تلميـذه حممد بن احلسن
الشيبـاين ،كان أصحابه ينازعونه يف القياس فإذا قال استحسـن مل يلحق به أحد .Zونجد املالكية يأخذون ،باإلضافة
إىل القرآن والسنـة ،بعمل أو إمجاع أهل املدينة واالستحسـان والعرف واملصالح املرسلة .أمـا الشافعي فلم يأخذ بكل
واحد جيمعها ،أو إىل ضبط فقهي يربطها كقواعد امللكية .ومن كتب عـ) هناك فرق بـني أصول الفقه والقواعـد الفقهية .فـأصول الفقه هي
القواعد كتاب الفروق للقرايف ،واألشباه والنظائر البن نجيم ،وقواعد القـوانني التي يلتـزمها الفقـيه ليعتصـم هبا من اخلطـأ يف االستنبـاط ،أما
ابن رجب (.)90 القواعد الفقهية فهي جمموعة األحكـام املتشاهبة التي ترجع إىل قياس
115 2قصور العقل
من عمل أهل املـدينة واالستحسان والعـرف واملصالح املرسلةX .ونجـد أن احلنابلة أقرب إىل املـالكية من حيث عدد
الـينابـيع التي استـقوا منهـا مادة الفقه .Zوبـرغم هذه االخـتالفات بني املـذاهب إال أن اجلميع جمـمعون عىل الـكتاب
والسـنة واإلمجاع والقيـاس .واملقصود بـاإلمجاع هو اتفـاق املجتهدين من األمـة اإلسالمية يف عرص من العـصور بعد
النبـي صىل اهلل عليه وسلم .وهنـاك خالف يف من هم هـؤالء الذيـن ينعقد اإلمجـاع هبم؟ أهم األئمـة الذين تلـو عهد
الرسول صىل اهلل عليه وسلم ،أم هم األئمة يف كل عرص؟ والظـاهر هو أن حجية اإلمجاع ،وكام يقول أبو زهرة :هي
أهنا Xكلها كانـت يف إمجاع الصحابة ريض اهلل تبارك وتعـاىل عنهم ،ومل يكونوا قد تفـرقوا يف األقاليم ،فكان اإلمجاع
ممكناً .أما يف عـرص التابعني وقد تفرقوا يف األقـاليم ،فإن اإلمجاع حينئذ مل يكـن ميسور ًا ،إن مل يكن متعذر ًا.Zف أما
املقصود بـالقياس فهو Xبيان حكم أمر غـري منصوص عىل حكمه بإحلاقه بأمـر معلوم حكمه بالنص عليه يف الكتاب
92
والسنة Zوذلك الشرتاكهام يف العلة كتحريم كل ما هو مسكر قياساً عىل اخلمر مث ً
ال.
أي أن هناك اختالفاً بني املذاهب يف اسـتنباط األحكام .برغم أهنا تنبع من القـرآن والسنة ،وبرغم أهنا مبنية
عىل مصـالح العباد كـام رشعها اهلل .فهل للعقل دور يف هـذا االختالف ويف استنبـاط األحكام؟ لقـد قال الشـيعة بأن
العقل مصدر فقهي فيام مل يرد به كتاب أو سنة .أمـا مجهور فقهاء السلف فال جيعلون العقل حاكام ًX ،بل يردون ما
ال نص فيه إىل ما فيه نـص بالطرق املخـتلفة ،إما بطـريق القياس أو االستحـسان ،أو الرد إىل املصـالح املعتربة رشعاً،
ـرشع األحكام ،وال يضع التكليفات،
وإن مل يشـهد هلا دليل خاص .Zأي Xأن العقل عنـد مجهور الفقهاء ليس له أن ُي َ ّ
ال ،ولكنه ينطلق يف عمله حيث يـطلقه اهلل سبحانه وتعاىل .Zوذلك
وليـس معنى ذلك أنه ال جمال لعمله ،بل إن لـه عم ً
ألن األصـول املذكورة سابقاً (كاإلمجاع والقياس) كلها تـرجع إىل القرآن والسنة .لذا كان الشافعي رمحه اهلل يقول:
محل عىل نـص .Zوكان ُيـضيق معنـى احلمـل عىل النص فـيقرصه عىل القـياس.
Xإن األحـكام ال تـؤخذ إال مـن نص أو َ ْ
93
وغريه من األئـمة يوسعـون معنى احلمل عىل الـنص فيدجمـون فيه مصادر أخـرى كاالستـحسان واملصـالح املرسلة.
وهنا يـأيت دور العقل البرشي بـالربـط بني األمور بـاملامثلة السـتنباط األحـكام كام يف القيـاس 94.ال أن يقوم العقل
بالترشيع كام حدث مع معظم الفقهاء املتأخرين الذين تطرقوا للمسائل املعارصة.
أرجو منك أخي القـارئ أن تأخذ هـذه املسألة بـنوع من احلذر عنـد قراءتك للجزء اآليت .فهـذه املسألة (أي
ترك القياس لـغريه) هي انزالق كبري وقع فيه بعض الـعلامء لعدم إملامهم بتكـوين البيئة االقتصـادية والعمرانية أوالً،
ولـتحرجهم أمـام من اعتقـدوا بضعف الرشيعـة يف مسـايرة متـطلبات العـرص ثانيـاً ،مؤديـاً هبم إىل استخـدام عقوهلم
ومنطقهم البـرشي من خالل توسيع باب االستحسان الستنباط األحـكام ،وهو خالف ما عليه مجهور أئمة املذاهب
كـام هو واضح .وإلثـبات هـذا البد يل أوالً مـن املرور رسيعـاً عىل حديـث الرضر كمـثال تـوضيـحي عىل احلكم يف
املسـائل املعـارصة (وهو مـن أهم مبـادئ الفـصل بني النـاس ،وسيـأيت موضـحاً بـإذن اهلل مع مـبادئ أخـرى يف فصل
Xاملوافقات.)Z
صىل اهلل عليه وسلمX :ال جتتمع أمتي عىل ضاللة ،Zومن قوله فيام رواه ف) ويثري اإلمـام الشافعي عدة أسئلة معرتضاً عىل إمكانية اإلمجاع يف
الشـافعي عن عمـر ريض اهلل عنهX :أال فمن رسه بحـبحة اجلـنة فلـيلزم كل زمـان .وأن سند األمجـاع يف االجتهاد من الـسنة هـو قوله صىل اهلل
اجلامعـة ،فـإن الــشيـطــان مع الفـذ ،وهــو من االثـنني أبعـد.)91( Z عليه وسلـمX :ما رآه املسلمـون حسناً فـهو عند اهلل حـسن ،Zومن قوله
قص احلق 116
لعلك هنا ُت ـستثار أخي القـارئ وتسأل :كيـف حيق للفرد أن يترصف كيفـام أراد ألن البيئة ستـصبح فوضى؟
فأقول :الحـظ أنني قلتX :إذا مل يرض باآلخرين .Zوهذا هو املحك أو املعيار املهم الذي وضعته الرشيعة .ومعظم
ما يف كتاب Xعامرة األرض يف اإلسالم Zحياول توضيح فكرة أن يف ترصف األفراد دون إذن من السلطات خري كثري
للـمجتـمع ألنه سيـؤدي ملجتـمع يتـم قص احلقـوق فـيه بطـريقـة تـؤدي إىل اجلـدارة يف العـمل واملثـابـرة ،ولـيس إىل
املحسـوبيـات والتـزلف والنفـاق كام هـو حاصـل اآلن .فاملهـم يف أيامـنا هـذه هو إذن الـسلطـات ملن أراد أن يـبادر
ويوجـد مصنـعاً أو حتـى إن أراد أن يغري املـالك وظيفـة داره ملعمل صغـري ،وليس املـهم هو الـرضر الناجـم من هذه
املنشـأة كام سيتضح من باقي فصول الكتـاب بإذن اهلل .ولكنك قد تقول :بأن اإلذن من الـسلطات مربوط بدراسات
مستفيضة حتاول املحافظة عىل الـبيئة بتاليف الرضر ،أي أهنا ليست عبثاً .فأقـول :هذا نظرياً ،أما يف الواقع العميل فإن
الـذي حيدث هو تغليب األهواء واملصالح ،ففي مثل هذه الظروف التي تكون السلطات فيها هي املهيمنة فالبد وأن
يساء استخـدام هذه الصالحية التي بيد السلطات بإجـازة مصنع هذا ومنع مصنع ذاك كام هو معلوم .لذلك نجد أن
الرشيعة قد جـذت هذا من جذوره كام سيأيت بإذن اهلل .وهنا أود لفت نظـرك ملسألة منهجية هي اآليت :قد تقول أن
األصل هو تقييـد ترصفات الـناس كام تتجه لـذلك قلة من كـتب الفقه ومعظم آراء الفقهـاء املعارصين .فـأقول :قد
أثـبت لك أخي
ّ يـكون هـذا صحيحـاً إن ثبت أن املجـتمع سيكـون أفضل حـاالً بتقيـيد تـرصفات األفـراد ،ولكن إن
الـقارئ يف هذا الكـتاب (وسأنجح بـتوفيق اهلل ومنه بـإذنه تعاىل) أن األفضل هـو األخذ بنص احلـديث كام هو دون
حتميله ما ليس فيه ،فعندها إن كنت منصفاً فـعليك أن ترتاجع عن اعتقادك بأن تطبيق احلديث سيؤدي لفوضى وأنه
البد للسلطات حينئد من الرتاجع عن فكرة تقييد ترصفات األفراد .إال أن تراجع السلطات لن حيدث ألن فيه مرضة
ملن هم يف املناصب .حتى هذا فقد وضعت له الرشيعة عالجاً كام سيأيت بإذنه تعاىل.
الـدكتور الربنـو القواعـد اخلمس الكـربى يف كتابه الـوجيز وهي)1 : ص) قـال أبــو داود (ت X :)275الفقه يــدور عىل مخـسـة أحــاديث:
األمور بمقاصدها؛ )2وال رضر وال رضار؛ )3واليقني ال يزول بالشك؛ احلـالل بني واحلرام بني .وقوله صىل اهلل عليه وسلم :ال رضر وال رضار.
)4واملشقة جتلب التيسري؛ )5والعادة حمكمة (.)96 وقوله :إنام األعامل بـالنيات .وقوله :الدين النصيحة .وقوله ما هنيتكم
عنه فـاجـتنبـوه ومـا أمــرتكم به فـأتـوا منه مـا اسـتطـعتم ،Zويـوضح
117 2قصور العقل
هـناك اخـتالف بني الفقهـاء يف حتديـد املعنـى الدقـيق لكل من الـرضر والرضار والفـرق بينهـام ،وبالـتايل يف
استخدام احلـديث يف معاجلـة املسائل الـبيئية .فـفي نيل األوطارX :فقـيل إن الرض فعل الواحـد ،والرضار فعل االثنني
والرض أن تـرضه وتنـتفع أنت به .وقـيل الرضار اجلــزاء عىل الرض
ّ فصـاعـد ًا .وقيل الـرضار أن ترضه بـغري أن تنـتفع،
ق
َـص َد
والرض االبتـداء .Zوقيل :الرضر هـو ما لـك فيه منفـعة وعىل جـارك فيه مـرضة ،واملقصـود هو أن الـرضر ما ق َ
اإلنسان به منـفعة نفسه ،فكـان فيه رضر عىل غريه كبنـاء مرحاض يف ملـك نفسه عند جـدار جاره مما قـد يؤثر عىل
ُصـد به اإلرضار بغريه كفتح نافذه ال يستفيد منها ويطل منها عىل عورة جاره .ويقولحائط اجلار .والرضار هو ما ق ِ
ابن الراميX :وحيتمل أن يـكون معنى الـرضر أن يرض أحد اجلاريـن جاره ،ومعنى الـرضار أن يرض كل واحد منهام
صاحبه ...وقـال القايض ابن عبد الـرفيع (توىل القضاء سـنة 699هـ) يف كتابه معني القضـاة واحلكام :تفسري الرضار
أن ترض نفسك ليترضر بـذلك غريك 98.Zوقال ابن حبيب (ت 182هـ)X :مهـا كلمتان بمعنـى واحد رددت توكيد ًا يف
املنع مـنه ،وقد يأخـذه ترصيف اإلعراب ،فـالرضر االسم والرضار الـفعل 99.Zكام قيل عن الرضر أنه إحلـاق مفسدة
100
بالغري مطلقة ،والرضار هو الثأر ملجرد االنتقام ممن أرض بالشخص مما يوسع من دائرة الرضر.
وبرغم هذه االختالفات يف التعريف 101،إال أن هناك مفهومـاً عمرانياً واضحاً يفرضه احلديث وهو أن لكل
فرد احلق يف الترصف يف البـيئة إذا انعدم الرضر دون أخذ إذن مـسبق من أحد .كام أن التعريفـات السابقة تشري إىل
أن تفـسريات الفقهـاء تتعـامل مع األفعال الـضارة بـالغري خـارج حدود عـقار املتـرصف وليس داخلـه .أي أن حديث
الرضر ال يعطـي اآلخريـن كاجلـريان أو السلـطة احلق يف الـتدخل يف شـؤون املالك الـتي ال ترض بـاخلارج ،فال حيق
لكـائن من كـان أن يمنـع شخص من بـناء غـرفة يف حـديقـة منـزله إذا مل تـثبت العـالقة بـني هذه الـقرارات ورضر
اجلريان .فلـإلنسان الترصف داخل حـدود ملكه إذا مل يرض بغريه دون االستـئذان املسبق من أحـد؛ ال كام هو احلال
يف أيامنـا هذه .أي أن حديث الرضر يـوسع من دائرة حق الفرد يف الترصف .وبـذلك فالترصفات الـوحيدة التي ُيمنع
منهـا املالك هي تلك التي تؤثر يف أعيان اجلريان مبارشة كوضع آلـة ت ِ
صدر اهتزاز ًا يؤثر يف حائط اجلار ،أو تلك التي ُ
تؤثـر يف اجلريان أنفسهـم دون أعياهنـم كالنـظر إىل عـوراهتم من النـافذة .فبـذلك يكون احلـديث مصـدر ًا للسيـطرة
اخلارجية عىل كل من األعيان وترصفات األفراد.
هـذا يف العمـران ،أمـا عمـومـاً ،فـإن حـديث الـرضر يعنـي لكل من أراد اسـتثامر مـا أو القيــام ببحث مـا أو
ال واحد ًا اآلن فقط:
استكـشاف معـدن يف موقع مـا احلريـة املطلقـة إن مل يثبـت الرضر عىل اآلخريـن .سأرضب مثـ ً
ال للجـامعة يف جلنة األبـحاث تقدم زميل للحـصول عىل دعم مايل إلجـراء بحث عن األسامك يف مياه
عنـدما كنت ممث ً
اخلليج العـريب .فتمت املـوافقة عىل الـبحث ألنه بحث جـيد وسيـثري االقتـصاد الـوطني وتم اعـتامد املبلغ .ثـم بعد
سنتني أعـيدت أوراق الباحث ألعـضاء اللجنة مـرة أخرى بطلب إللغـاء البحث ألن الباحث مل يـتمكن من احلصول
عىل التصـاريح الدائمـة من خفر الـسواحل بـوزارة الداخليـة ومن األمارة فكـان عليه أن يقوم بـعرشات اإلجراءات
األمنية والورقية يف كل مـرة أراد فيها النزول للبحر بقـاربه .أليس يف هذا مرضة عىل األمة ألهنا فـقدت فرصة بحثية
الفعل ،والرضار اجلزاء علـيه؛ وقيل :الرضر ما ترض به صاحبك وتنتفع ق) ويف لـسان العربX :فمـعنى قوله ال رضر أي ال يـرض الرجل أخاه،
أنت به ،والرضار أن ترضه من غري أن تنتفع.)97( Z... ، ـضــار كل واحــد منـهام
ّ وهــو ضــد الـنفع ،وقــوله :وال رضار أي ال ُي
صاحـبه ،فالـرضار منهام معـاً والرضر فعل الـواحد ...والـرضر ابتداء
قص احلق 118
إلثـراء اقتصادها من باحث مهتم؟ وإن قلـت :ولكن القضايا األمنية أهم! أقول لـك :إن املشكل هو االعتقاد السائد
أن من هم يف الـدولـة أكثـر حـرصـاً من عـامـة النـاس عىل األمـن ،ولعل األهم هـو أن القلق األمنـي يف مجيع العـامل
اإلسالمي نـاتج بسبـب الوهن الـذي فيه األمـة والذي مـا كان إال بـسبب تقـييد األفـراد ألن مقصـوصة احلقـوق قد
تغريت .أما إن طبقـت الرشيعة فإن العـزة التي ستكون فيـها األمة ستغري مفهـوم األمن كام سيأيت بيـانه بإذنه تعاىل.
أي أن مبدأ الرضر سيطلق األفراد للمزيد من املثابرة كام سيأيت بيانه أيضاً بإذن اهلل.
اقلوادع واملابدىء
لقـد استـنبط الفـقهاء أثـاهبم اهلل عـدة قواعـد من حـديث الرضر مـنهاX :الـرضر يزال ،Zو Xالـرضر ال يزال
بمـثله ،Zو Xيتحـمل الرضر اخلـاص لـدفع رضر عـام ،Zو Xالرضر األشـد يـزال بـالرضر األخف ،Zو Xإذا تعـارضت
مفسـدتان روعي أعـظمها رضر ًا بـارتكاب أخفهام ،Zو Xخيـتار أهون الـرشين أو أخف الرضرين ،Zو Xدرء املـفاسد
أوىل من جلب املصـالح ،Zو Xالرضر يدفع بقدر اإلمكـان .Zوبالنسبـة للمسائل الفقهـية غري االقتصاديـة والعمرانية،
فـاألمر واضح لدى الفـقهاء يف استخدام هـذه القواعد ،لـذلك لن نخوض فيه ألنـه خارج نطاق هـذا الكتاب ،ولكن
ال قاعـدة Xالرضر يدفع بقـدر اإلمكان ،Zفهـذه القاعـدة تدل عىل وجـوب دفع الرضر قبل
إلعطاء فكـرة سنأخـذ مث ً
وقـوعه وفقاً ألصل املصـالح املرسلـة والسيـاسة الرشعـية كرشع اجلهـاد لدفع رش األعـداء ،أو إيقاع العقـوبة لصـيانة
فبـناء عىل قاعدة Xخيتار أهون
ً األمن ،أو رشع احلجر عىل السفـيه لدفع رضر سوء ترصفاته املاليـة .لنأخذ مثاالً آخر:
الرشين أو أخف الرضرين Zإذا ابتلعت دجـاجة شخص ما لؤلؤة ثمينة آلخر ،فلصاحب اللؤلؤة أن يمتلك الدجاجة
بقيـمتها ليـذبحها 102.أي بـاإلمكان معـرفة حدود الـرضر بالعقل البـرشي ،ألن الرضر يقف وال يتضـاعف .فعند ذبح
الدجاجة قد تنتهي املسألة ،وال سبيل لدفع رش األعداء إال باجلهاد ،وهكذا.
أما بالنـسبة للمسائل االقتصـادية والبيئية فاألمـر ليس هبذا الوضوح .ألن القواعـد املنبثقة من حديث الرضر
مبنيـة عىل فكرة أسـاسية هي أن الـرضر واضح وباإلمكـان قياسه ومعـرفة مضـاعفاته بعقـولنا البـرشية .وهنـا كان
املنزلق الذي وقـع فيه بعض الفقهاء املعارصين ،ألن هذا ليس هو احلال يف املسائل العمرانية واالقتصادية ،فاألرضار
سواء كـان مرض ًا أو مل يكن ،مضـاعفات أو
ً ومضاعفـاهتا مبهـمة كام وضحنـا يف مثال الـشجرة .فلكل قـرار أو فعل
مـآالت (مجع مآل) .فمـآالت األفعال يف الـبيئة ال تـقف عند معـرفة الـرضر بني اجلاريـن ،ولكنها سـتمتد إىل مـستوى
املدينـة وإىل األجيال القادمـة .فكيف يمكن استخـدام العقل معها؟ فال يعـلم مآالت األفعال إال اهلل سـبحانه وتعاىل
عالم الغيوب .لـذلك فرض احلكيم اخلـبري األحكام املنـاسبة هلـا .لنأخـذ مثاالً :إذا أراد رجل بنـاء رحى يف داره ،فقد
يكون هـناك رضر واضح عىل جـدار أحد اجلـريان باالهـتزاز ،وعـندهـا قد متـنعه السلـطات بحجـة دفع الرضر قبل
وقوعه .إال أن مآل ذلك الفعل قـد يكون ذا فائدة اقتصـادية عىل مستوى املدينـة عىل املدى البعيد ألن إرصار الرجل
ال بحديث الرضر) قد يكون مؤرش ًا عىل أن موضع داره هو أفضل موقع
عىل بناء الرحى يف داره (دون إذن مسبق عم ً
يف املدينة لـطحن الدقيق من حـيث جلب املواد األوليـة وتسويق املنـتج .ومالك الرحـى هو الوحيـد الذي رأى هذه
اإلجيابيـة ،لذلك أرص عليهـا .ويف هذه احلالـة ،فمن األوىل أن يطلب من صـاحب الرحـى (وهذا ما فعلـته الرشيعة)
119 2قصور العقل
التحايل عىل الـرضر إلزالته بدالً من مـنع الرحى .وقـد يستحـدث صاحب الـرحى طريـقة ملنع انتقـال االهتزاز من
ر
ال عمل رجل يف داره رحى ،فـاشتكى جـاره رضر اهتزار جـداره من هذه
داره لدار جـاره .ففي إحدى الـنوازل مثـ ً
الـرحى .فـبأي وسيلـة يكتشفـون االهتزاز ورضره .قـال القايض البـن الرامي يف هـذه النازلـة من املذهـب املالكي:
Xتأخـذ طبقاً من كاغيـد (ورق) وتربط أركانه بأربعـة أخياط يف كل ركن خيط ،وجتـمع أطراف األخياط وتعلقهم
من السقف الـذي عىل احلائط الـفاصل بني الدار وبـني الرحى من جهـة الدار ،وتعمل عىل الكـاغيد حبـة من كزبر
يابس ،وتقـول لصاحب الـرحى هز رحـاك؛ فإن اهتز الـكزبر عىل الكـاغيد قيل لـصاحب الرحـى اقلع رحاك ألهنا
ترض بـاجلار؛ وإن كان ال هيتـز الكزبر عىل الـكاغيد قيل لـصاحب الدار اتـرك صاحب الرحـى خيدم ألهنا ال ترض
بـك.Zش أي أن املجتمع متكـن من إجياد وسـيلة لكـشف الرضر .ومتـى تم اكتـشاف الـرضر فقد يـتمكن املـالك من
ال يف إزالـة رضر الرحى :إن Xالـذي يريد أن يعـمل يف داره رحى [عليه أن] يتـباعد عن
إزالته .فيقـول ابن الرامي مث ً
حائط اجلـار بثامنيـة أشبار مـن حد دوران البهـيمة إىل حـائط اجلار ،ويـشغل ذلك بالـبناء أمـا ببيـت أو بمخزن أو
بمجـاز .البد لـذلك مـن حائل بـالبنـاء ألن البـناء حيـول بني املـرضة وحائـط اجلار.Zت وهـناك الـكثري من مـثل هذه
النـوازل التي حـاول فيهـا أهل البـصارة أو الـسكان أو القـضاة قيـاس الرضر والتحـايل عليه ،والـتي تدل عـىل شيوع
ث
التحايل عىل الرضر.
أي أن مصالح األفعـال ومضارهـا أو مفاسـدها (أي مـآالت األفعال) واملـوازنة بـينها أمـر يصعب عىل العقل
البرشي تـرجيحه يف املسـائل االقتصـادية والعـمرانيـة ،والرتجيح بني املـصالح بـاستخـدام العقل هو يف الـواقع قص
مسـتحدث للحقوق .فعند املنع يؤخذ من نصيب الفـرد املترصف .وعند السامح له يزيد حقه .والرشيعة من خالل
حديث الرضر أوجـدت مقصاً هلـذه احلقوق بـإعطاء الفـرد املترصف الفـرصة للـميض يف ترصفه دون اإلرضار بغريه
ث) لتأكيد ذلك لنأخذ مثاالً آخر :ففي نازلة أحدث رجل خلف بيت ر) النازلة أو case studyهـي حالة وقعت وتؤخذ كسابقة ألحكام
جاره رواء دابـة صغرية (البيت هـو الغرفـة يف الدور األريض يف أيـامنا ال
الحقـة .فقد يقع خالف بني شخـصني حول بناء دكـة يف الطريق مث ً
هـذه ،والـرواء هـو اإلسـطبل) .فــاشتكـى صـاحب الـبيـت من رضر أو عنـد تغيري أحـد اجلاريـن داره لفرن ويعرتض اآلخـر عليه .عنـدها
الرواء .فعند النظر قال أهل البصارة أنه حمدث وأنه مرض فأمر القايض تعرض املـسألـة عىل الفقهـاء ويتـم دراسة املـسألـة من مجـيع جوانـبها
بزواله ،ولفعل ذلك كـان البد من خروج الدابة .فصاح صاحب الدار ويعطي كل فقيه رأيه يف املسألة (.)103
وقال بـأنه ليس له غنى عنها ألن عليهـا معاشه .وكان احلل البنائي لدفع الX :فإن كـان احلائط الـساتر بـني الرحى ش) ثم سـأل ابن الرامـي قائ ً
الرضر هو حفر أساس Xفينزل فيه قدر القامة خلف احلائط الذي هو والــدار ليـس فيه خـشـب وإنام هــو سرتة ال خـشـب فيه فـأيـن يعلق
صدر الـبيت ،ويـرفع يف حقـه حائـطاً مـن حتت وجه األرض بخمـسة الكاغيد؟ قال يل :تـأخذ قصبة غليظة وحتفر هلا يف احلائط الفاصل بني
أشبار ،ويكون عرض احلـائط شربين ،وجيعل بينه وبني احلائط الذي الـدار والـرحـى قـدر نـصف شرب ،وتـدخل طـرف الـقصبـة يف احلـائط
هـو مصـدر الـبيت نـصف شرب تـروحيـاً بني احلـائـطني .والـرتويح بني وتشدهـا يف جهة الدار وتعلق الكاغيد يف تـلك القصبة وتعمل الكزبر
احلائـطني من حتت وجه األرض بخمـسة أشبـار إىل منتهـى السقف ... عىل احلائط وتقول لصاحب الرحى هـز رحاك ،فإن اهتز الكزبر منع
فلام فعل ذلك انقـطع الرضر عن صـاحب البـيت .Zويف نازلـة مشـاهبة صـاحب الـرحـى؛ وإن مل هيتـز مل يمـنع .قلت له :فـإن كـان احلـائط
قـال ابن الراميX :وقـد نزلت هـذه أيضاً يف مـوضع خراب أراد ربه أن الفـاصل بني الرحـى والدار مـن أمالك صاحب الـرحى وهيتـز بدوران
يعمله أروى فـمنعه جـاره وارتفعـا إىل القـايض فسـألنــا النظـر يف ذلك الـرحـى أيمنع أم ال؟ قـال إن كـان ال هيتـز يشء مـن حيطـان صـاحب
فرأيـنا مـوضعه كبري ًا حيـده الشـارع من الغـرب واجلوف ،والـدار من الدار فال يمنع إذا كانت هتتز حيطانه وال هتتز حيطان غريه.)104( Z
القبلة والرشق ،والذي يليه من القبلة أروى فسمح له صاحب األروى ت) جـاءت هذه املقالـة البن الرامي بعـد سؤاله للفقيه أبـا عبد اهلل بن
ومنعه صـاحب الدار الرشقية .فـأمرناه أن يعمل بيتـاً بني الدار الرشقية الـغامز عن رجـل أراد أن يعمل يف داره رحـىX :كـم يبعـد من احلـائط
وبني الـذي يريـد أن يعمله أروى يـكون عـرض البيـت تسـعة أشـبار الذي جياوره من دار جـاره؟ .Zفأجابه بأنه لـيس له يف ذلك حد ،وقال:
وعرض احلائط شربين.)106( Z Xأنتم أهـل املعرفة تعرفون ذلك كم يبعـد الرحى عن احلائط ،وهذا ال
يعمل فيه حد.)105( Z
قص احلق 120
بالـتحايـل عىل الرضر .إال أن بعض داريس الـرشيعة املعـارصين ظنـوا أن املصـالح واملفاسـد املتعلقـة بمسـائل البـيئة
معـروفة بالعـقل وأفتوا ورجحوا مـا وصل اليه عقلهم دون أي تردد ،فـأخذت السلـطات بفتاواهـم وأصدرت القوانني
واألنظمة الـتي قيدت النـاس .أي أن هناك حـركية تـؤدي إىل إمضاء الفعل أو مـنعه قد وضعتهـا الرشيعة وقـاموا هم
بتعـطيلها باستخـدام عقوهلم .كام أن هلذه احلـركية فوائد كـربى من حيث حث الناس عىل املبـادرة واإلتيان باحللول
االقتصادية والبيئية والعمرانيـة إال أهنا تعطلت (كام سرتى بإذنه تعاىل) .ومن الفقهاء الذين أدركوا بثاقب نظرهم أن
هناك أفعـاالً ال نعرف مصاحلهـا وجيب أن نتأنى هبـا ،العز بن عبد الـسالم (ت )660حيث يقول رمحه اهللX :األفعال
رضبان :أحـدمها مـا خفت عـنا مـصاحلـه ومفاسـده ،فال نقـدم عليه حـتى تـظهر مـصلحته املجـردة عن املفـسدة أو
خـ
الراجحة عليها ،وهذا الذي جاءت الرشيعة بمدح األناة فيه إىل أن يظهر رشده وصالحه.Z
ومما زاد من شدة انزالق بعض العلامء املعارصين هو أن القواعد املستنبطة من الرضر دعمت بأصول أخرى
كاالستحسان والرضورة وسد الذرائع واملصالح املـرسلة عند الفقهاء من جهة ،وبالعدل البيئي بمفهومه احلديث عند
املهنيني من اقتصاديني وخمططني من جهة أخـرى (مثل أن عقارات احلي الواحد قد ختضع يف الغالب لنفس األنظمة)
مما أدى إىل وضع تـنازل فـيه بعض الفقـهاء املعـارصين واملهـنيني عن األسـس الرشعيـة يف االقتصـاد والعمـران ،فقد
أباحوا نزع امللكية ،وقالوا بـرضورة إذن اإلمام يف اإلحياء ،ونادوا بوضع قيود عىل ترصفات األفراد (فال يكون للفرد
ال دون إذن مـسبق) ،وأطلقوا يد الـدولة يف التسلط عىل
استخراج معـدن من باطن األرض ،كالـنفط أو الفوسفات مث ً
تلك احلقـوق لدرجة تم تقـريب الرشيعة فيهـا من بعض املبادئ االشـرتاكية أو الرأسامليـة يف املسائل البيـئية والعياذ
ال وفتاوى مستحدثة يف مسائل االقتـصاد .وهبذا تغريت مقصوصة احلقوق .كيف حدث
باهلل ،فهناك قوانني للبنـاء مث ً
كل هذا؟
يف ظل احلكم النارصي االشرتاكي يف مرص والبعثـي يف سوريا وجدت كليات الـرشيعة نفسها حتت ضغوط
إلبراز دور الرشيعة يف احلقوق وذلك ألن التضاد يف احلقوق بني اإلسالم واالشرتاكية كان واضحاً :فاإلسالم إطالق
للمـلكيات ولتـرصفات األفراد واالشـرتاكية تقيـيد هلا .ففـي هذه الفرتة ،واهلل أعلم ،بـدأ النظر يف هـذا التضاد إىل أن
ظهر سنة 1965م بحث للدكتوراه للدكـتور فتحي الدريني ينظر يف هذه اإلشـكالية .ثم نرش هذا البحث يف كتاب
بعنوانX :احلق ومـدى سلطان الدولة يف تقييـده ،Zثم نرش كتاب آخر بعنوانX :نـظرية التعسف يف استخدام احلق.Z
ولقـد أعجبت هبـذين الكتـابني يف أول األمـر ،ولكن كـلام تعمقـت فيهام أدركـت مدى خـطورهتـام عىل مقصـوصة
احلقوق .فاستشـهادات الدكتور الـدريني باملسـائل البيئية مل تكن بـالعمق الكايف ،وهذا طـبيعي ألن العمران خارج
ختصصه جزاه اهلل خري ًا .فكتاباته تضع نظرية يف استـعامل احلق قائمة عىل Xأصول من مصادر الرشيعة ومقاصدها،
وقواعدهـا الكلية Z...بحيـث يتم التوفيق ،كـام يقول مقدم الكـتابX ،بني حريـة الفرد ومصلحـة اجلامعة يف ضوء
مقتـضيات العـدالة وتـطورات احليـاة ،وبام جتعل من احلقـوق وسائل ملصـالح وغايـات جديـة ،اقتصـادية واجـتامعية
وعن غريه حممـود حسن ،وأن تقـديم أرجح املصـالح فأرجحهـا حممود خـ) لقد كتب الفقهاء يف مسألة املوازنة بني املصالح واملفاسد ثم اختاذ
حـسن ،وأن درء أفـسد املفـاسد فـأفسـدها حمـمود حـسن .وأن تقـديم احلكـم ووضعوا قـواعد هلـا إذا تم العلـم بمآالت األفـعال من املـصالح
املصـالح الـراجحـة عىل املفـاسـد املـرجـوحـة حممـود حـسن .وأن درء واملفاسـد .يقول العـز بن عبد الـسالم يف فصل فيام تعـرف به املصالح
املفـاسـد الـراجحــة عىل املصـالح املـرجـوحـة حممـود حـسن ،واتفق واملفـاسد ويف تفـاوهتامX :ومعظـم مصالح الـدنيا ومفـاسدهـا معروف
احلكامء عىل ذلك.)107( Z بـالـعقل وذلك معـظم الـرشائـع .إذ ال خيفي عىل عـاقل ورود الـرشع أن
حتـصيل املصـالح املحـضة ،ودرء املفـاسد املحـضة عـن نفس اإلنـسان
121 2قصور العقل
رشعت تلك احلقوق مـن أجلها 108.Zهنا بدأت مقصوصـة احلقوق بالتغري .إن جمرد حماولـة التوفيق Xبني حرية الفرد
ومصلحـة اجلامعة يف ضـوء مقتضيـات العدالـة وتطـورات احلياة Z...تـتطلب إعامل الـعقل البرشي ،وهـنا الكـارثة.
لنرضب مثاالً لذلك :يقول د .الدريني:
Xالرضر العام الذي يلزم عن ترصف الفرد فيام منح من حق أو إباحة فإنه يمنع منه ،ولو مل يقصد إىل
ذلك الرضر ،أو يقرص يف االحتياط؛ بل ولو كان الباعث عليه مرشوعاً أو حسناً ،من مثل تلقي السلع،
أو إقامة مصنع يف ظاهر املدينة ليسـاهم يف االقتصاد الوطني أو الثروة الوطنية ،وهو استعامل مرشوع
راق للسكن ،بحيـث أضحى وجود املـصنع مصدر ومعتـاد حلق امللكية ،ثـم ينشأ حـوله بعد حني حـي ٍ
ال النتفاعهم بـاملنافع األصلية املقـصودة عادة من العقارات
قلق وإزعاج وخطر عـىل صحتهم ،أو معط ً
التـي يسكنوهنـا ،فالسلـوك معتاد ،والـترصف يف دائرة احلق ،ومعتـاد أيضاً ،والبـاعث مرشوع ،واملصنع
ال باملقـررات الرشعية ،من أن
سابق يف وجوده عىل احلي ،ومع ذلك يمـنع إذا أربى رضره عىل نفعه ،عم ً
الـرضر يزال ،قـديام ً كـان أم حادثـاً ،وخيتـار أهون الـرشين ،فـهذه الـقواعـد ال تقيم وزنـا للعـنارص
ً
109
النفسية ،وإنام تنظر إىل الوقائع اخلارجية.Z
وضع نتج
ٌ إن هـذا الوضع الذي يقول عنه د .الـدريني حيدث متى منع اإلحيـاء أو قيد بموافقة الـسلطة .فهو
ال ألن السـكان يعلمون
من تطبيق األنظـمة الوضعيـة .أما إذا طبقت قـواعد الرشيعـة فقد ال حيدث هـذا الوضع أص ً
ابتـداء .فهناك مـا هو
ً بـأن املصنع قـد حاز عىل حق الـرضر وعليهم أن يتالفـوا السـكن يف موقع بـالقرب مـن املصنع
معـروف يف الرشع Xبحيازة الرضر Zكام سنوضح بإذن اهلل .أما إذا سكن الناس بالقرب من املصنع مع علمهم بحيازة
املصنع للـرضر ،فهم اجلانـون عىل أنفسهم ،فحكـمهم حكم من يقـوم باجلنـاية عىل نفـسه ،ألننا إن نقـلنا كل من أراد
االستثامر ببناء مصنع ،فمن هذا الذي سيسـتثمر مئات املاليني يف مصنع سيجذب الناس ملوقعه كسباً للرزق ثم ُجيرب
عىل االنتقال؟ وألننا إن ربطنا إنشاء املصنع بمـوافقات الدولة فتحنا أبواب الرشاوي ونحوها من آفات .فكل مسؤول
بيده قرارات تـربط مصالح الناس سـيصبح مستهدفـاً للراشني .فمنهم النـزيه الذي يفلت ،ومنهم الـذي يستسلم أمام
ظروف احليـاة الصعبة التـي ما وجدت إال باخلـروج عن الرشيعة .وهكـذا أصبح للدولة سلـطة ودور .أي أن الدولة
اكتسبت حقـوقاً .أي أن مقصـوصة احلقـوق تغريت ألن صاحب املـصنع فقد حقـوقه .وهكذا فتحـت األبواب أمام
السلـطات إلصـدار القوانـني بحجة تـنظيم األمـور .وبالتـايل تغريت مقـصوصـة احلقوق وقـتلت اهلمم لـدى األفراد،
وتسلط الناس بعضهم عىل بعض وفشت الرشاوي وما إىل ذلك من أمراض سيأيت بياهنا بإذن اهلل.
لـعلك تقول بـأن املصنع مـرض والبد من إزالـته .هنا أجـيب :إن للرشيعـة طرقـاً أخرى إلزالـة رضر املصنع،
كيف؟ ألن الرشيعـة استثمـرت السلطـات يف أيدى الـناس كام سيـأيت بيانه بـإذن اهلل ،ومل تضعها يف أيـدي مسؤويل
الـدولة ،فلـن يتجرأ مـستثمـر من إقامـة مصنع قـد يرض النـاس ألن املستثـمر يعلـم جيد ًا أن مـصنعه سيغلق إن أرض
باجلـريان ألن للجريان املقدرة عىل ذلك بـأن حيارصوا مصـنعه أو نحو ذلك من أفـعال إن مل توقفه الـسلطات .فـالناس
أقويـاء وليسـوا مسلـوبو اإلرادة كام هـو حالنـا اليوم .أمـا عندمـا ُسلبت املقـدرة من أيدي الـناس ووضعت بـأيدي
مسؤويل الـدولة ،وليس بأيدي املترضرين مبارشة ،فإن حركة مـسؤويل الدولة بحاجة هلمة ودفع حتى يتخذوا القرار
من خالل جلان وتقارير وأوراق ثم ُيتخذ القرار باإلزالة ليـتحداه صاحب املصنع من خالل مرافعات حماميه وهكذا
يستمر املـصنع .وكل هذا بسبـب تنازل بعض الفقهـاء من خالل عقوهلم القـارصة التي حاولت حتـديث الرشع بوضع
قص احلق 122
احلق يف أيدي مسـؤويل الدولة الـذين يمكـن رشوهتم أو إقنـاعهم برضورة املـصنع لالقتصـاد الوطنـي .وألن مسؤويل
الدولة ال يـسكنون بالقرب من املـصنع فإن الرضر قد يستـمر .وهذا هو احلال يف كل مكـان ،فهناك مصنع لألسمدة
ال) بالقرب من مـدينة الدمام ويقع بـني األحياء السكنية ،واملـضحك املبكي يف املسألة
الكيميـائية (رشكة سافـكو مث ً
هـو أن املصنع يرمي بفضالته الغـازية التي ثبت رضرها عىل مكـاتب ومساكن كل من جامـعة امللك فيصل والكلية
الـبحرية ومصلحة األرصاد ومحاية البيئة .وهـذه األخرية تقف عاجزة أمام مالك املصنع وال تستطيع فعل يشء برغم
أن محاية البيئة من صلب ختصصها .فإن فشلـت يف محاية صحة موظفيها ،فكيف ستحمي البيئة؟ وقد عقدت الكثري
من االجتامعات إلثبات الرضر ،ورفـعت الكثري من الشكاوي إال أن املصنع استمر شـاخماً ضار ًا بالعمران دونام أدنى
جميب فقـط ألنه سبق املنشـآت املحيطـة به يف اإلنشاء ،ولـكن رضره وصل حتى لـلمناطق الـبعيدة التـي ظهرت قبله
بسنني عديـدة ،ومع هذا استمـر ألكثر من أربعني سـنة ،ثم أخري ًا أغلق .فتـأمل هذا املثل الـذي جيسد فـشل األنظمة
املعارصة بطريقة ساخـرة .أما إن طبقت الرشيعة ،فإن حق إيقاف املصنع سيكون يف أيدي املترضرين حتى وإن مل
يكونوا من املجاورين للمصنع (وهذا ما حـاولت توضيحه يف كتاب Xعامرة األرض يف اإلسالم ،)Zوعندها لن جيرؤ
ابتداء عىل املخاطرة بإنشاء مثل هذه املصانع الضارة بالقرب من العمران ،وهكذا من حركيات سيتم رشحها
ً مسـتثمر
بإذنه تعـاىل ،وسيتمكن املجتمع املسلـم من احلصول عىل بيئة غري مـلوثة ألن التصنيع سيكـون نظيفاً غري ملوث ،كام
سيأيت بيانه بإذنه تعاىل.
مثال آخر :فـبالرجوع إىل قاعدة Xالـرضر يدفع قدر اإلمكان ،Zظهرت القـوانني التي متنع الفرد من ترصفات
مستقبليـة يف ملكه كمنعه من حتـويل منزله إىل فـرن دفعاً لرضر الـدخان عن اجلـريان .فاهلدف هـنا دفع الرضر قبل
وقـوعه ألن الدفع أسهل من الـرفع .فيقول د .الـدريني يف هذه القـاعدةX :وهذا مقـصد عام جيب أن يـراعى يف مجيع
شئون الدولة ،االقتصاديـة واالجتامعية والسياسيـة ،فللدولة أن تسن من القوانـني ما يدفع الرضر املتوقع عن األفراد
واجلامعـة 110.Zوكام سنـرى بإذن اهلل فـإن ترصف املـالك دون االستئـذان من الـسلطـة ،ثم ظهـور الرضر ،ثم إجـبار
املالك عىل التحايل عىل الـرضر أو منعه ،ذو فائدة للعمـران ألهنا توسع من دائرة الـتجارب البيئية لألمـة مؤدية بذلك
إىل تطور األعراف البنائية .ولتـوضيح ما سبق البد لنا من رشح موجز ملـوضوع التعسف يف استخدام احلق وهو أمر
كثـر تداوله وقبوله بني الفقهاء املتـأخرين ،فبعد ظهور كتـاب الدريني اهنمرت الكتب الفقـهية وأبحاث الدكتوراه
ويل أعنـاقها لـتقييد حقـوق األفراد مطلقـة بذلك ٍ
واملاجـستري حول تعـسف احلق والتنقيـب يف الرشيعة عـن نصوص ّ
الزمام للـدول للتسلط عىل احلقـوق وتفصيلها كـيفام شاءت .ولعل مسـألة التعسف تكـون أكثر وضوحـاً يف القضايا
العمرانية منها يف املسائل االقتصادية .لذلك سأركز عليها اآلن لتوضيح الصورة .أما االقتصاد فله فصل خمصص.
قتييد احلق
الفرق بني التـعسف والتعدي هـو أن ترصف الفرد واستخـدامه حلقه إذا آل إىل اإلرضار بالغري يعـترب تعسفاً،
ال .فترصف الشخص يف التعـسف مرشوع يف ذاته ولكنه معيب يف مآله كأن
وأما التعدي فهـو الفعل غري املرشوع أص ً
يقـوم شخص بتعليـة داره بشكل يـقطع اهلواء عن اجلـار ،فهذا يعتـرب تعسفاً إذا تـرضر اجلار؛ أما إذا أخـرج جزء من
123 2قصور العقل
مبـناه إىل ملك جـاره فإن هـذا يعترب تعـدياً عىل ملك جـاره 111.والتعدي يـمنع باتفـاق املذاهب ،وبـالنسبـة للتعسف
ال؟
فالسؤال هو :ما هي حدود التعسف يف املسائل العمرانية مث ً
كـام هو معـروف فإن فـكرة احلـق ختتلف من مـذهب فـكري إىل آخـر وتستـمد حـقوقهـا من عقيـدة ذلك
املذهب .ففي املذهب الفردي كالرأساملية والتحررية (الليربالية) تعترب حقوق الفرد هي األساس باعتباره إنساناً له
حقـوق مطلقـة سابقـة للجامعـة .وبذلك فـإن هذه احلقـوق هي أساس القـانون ،وعىل القـانون محـاية هـذه احلقوق
ومتكني الناس من التمتع هبا .فاجلامعة مسخرة خلدمة الفرد ألن الفرد حمور القانون وغايته ،مع الرتكيز عىل التساوي
يف احلقـوق بني األفراد .فـحرية الفـرد عنرص أساس يف هـذا املبدأ ،ولـذلك ال تتدخل الـدولة يف نشـاطات األفراد إال
بالقدر الذي يمنع التعارض بـني األفراد لتمكني املجتمع من التقدم ،حيـث أن االفرتاض املهيمن هو أن الصالح العام
ليس إال حصيلة ملجموع املصالح الفردية ،فمتى متت محاية مصالح الفرد حتققت مصالح املجتمع .هذا نظرياً ،أما يف
الـواقع العميل فإن اإلشكالية هي يف حتديد الصالح العام .من الـذي حيدد الصالح العام وينفذه؟ لذلك فهناك سلطات
ترشيعيـة وسلطات تـنفيذيـة .ومجيع أفراد هـذه السلطـات ما هم إال انعكـاس لتحزبـات األفراد واجلامعـات الذين
بناء عىل حتديد الصالح العام .وهذا التفصيص يفاضل بني
جتمعهم املصالح .ثم بعد ذلك تأيت مسـألة تفصيص احلقوق ً
النـاس فيعطي حقـوقاً ويمنع أخـرى .فإن وصل باالنـتخابات ملـنصب عمدة املـدينة من رأى أن الصـالح العام هو يف
املوافقة عىل توسيع مطار قائم ،فإن احلقوق ستتغري عىل كل من ملك عقار ًا بالقرب من املطار .فمنهم من قد يستفيد
بـنزع ملكيـة أرضه ،ومنهم من ال يـريد تـرك أرضه وجيرب عىل ذلك ،ومنـهم من يزداد الـضجيج عليه .وهكـذا تتغري
احلقـوق .أي برغم االدعاء بأن احلـق يف املذاهب الفردية صفـة مميزة إلرادة اإلنسان ومـظهر حلريته ،وأن األصل فيه
بناء عىل األهـواء التي حتركهـا مصالح من وصل إىل ِ
ـي حلاميته ،نجـد أن القانون دائـم التغري ً اإلطالق ،وأن القانـون ُبن َ
السلطة ،أي أن هناك خارس ًا ورابحاً عىل الدوام.
وعىل النقيض مـن هذا ،فإن املـذاهب التي تنـادي بالتـضامن االجتامعـي كالشيـوعية واالشرتاكيـة تنبثق من
فكرة أن اإلنسان ال يعيش إال يف وسط اجتامعي متضـامن مع أفراد جمتمعه ،ولذلك فاملجتمع هو األساس؛ والبد من
قواعد تنـظيمية لـسلوك األفراد فـيه ،وبالتايل ال وجـود للحريات املـطلقة للفرد؛ وأن الـتضامن االجتـامعي ومصلحة
اجلامعة هي أسـاس القانون ،والفـرد إذ ًا مسخر لذلـك اهلدف .هلذا فإن هـذه املذاهب توسع من دائـرة اختصاصات
الدولة يف اإلرشاف عىل املسائل الفرديـة واالجتامعية .فالدولة تضع األهـداف وترسم الطريق لبلوغ تلك األهداف،
ال ألنه جمرد عنرص تكـوين مسخر خلدمـة اجلامعة 112.فاحلق يف نظـر املذاهب االجتامعية
وبذلك يصبح الفـرد عام ً
هو أنه Xمنحـة من اجلامعة وللجـامعة ،وهو وظيفـة اجتامعية تنـظمها الدولـة التي تنوب عـن املجتمع عىل ضوء من
مصلحـة اجلامعة .Zوهبـذا يفقد الفـرد معظم احلقـوق وتذهـب مجيع الصـالحيات ملـؤسسـات الدولـة .واملؤسـسات
مكونة من أفراد ،وهبذا يستحوذ هؤالء األفراد عىل احلقوق عىل أرض الواقع .فكل من هو مقرب من احلزب احلاكم
جتده اسـتأثر بـاخلريات لنفسه وهبـذا يفقد عمـوم السكـان اهلمة للـعمل واإلنتاج ويـضعف املجتمع وخيتـل .وهذا ما
حدث يف الدول الشيوعية واالشرتاكية ومن سار عىل هنجهم كالبعثيني.
أما الرشيعة اإلسالميـة فتنظر إىل احلق نظرة خمتلفة ،فهـي تقسمه إىل قسمني (كام يقول د .الدريني) ،األول
هـو حق الفرد ،ويـشمل مجيع احلقـوق التي تتـعلق هبا مـصالح األفـراد؛ والثـاين هو حق اهلل ،وهـو حق املجتـمع مما
قص احلق 124
يتعـلق بالصالح العـامX ،وأضيف إليه تعاىل نظـر ًا خلطره وعميم نـفعه ،فال يسقط باإلسقـاط وليس ألحد فيه خرية.Z
وقد رتـب د .الدريني عىل هـذا األصل نتائج منهـاX :أنه تعاىل مـنح احلق حلكمة هـي مصلحة قـصد الشـارع حتقيقها
برشعـية احلق ،وإال كان املنح لغري غاية ،وهو عبث ،واهلل تعـاىل منزه عن العبث .Zوأن يكون استعامل احلق موافقاً
لقصد اهلل يف الـترشيع ،وإال كان منـاقضاً للـرشع ومناقضـة الرشع باطلـة ،فالترصف الـذي يتعسف فيه ذو احلق عن
غايته وينـاقض به الرشع باطـل .وأن الفرد كاجلامعـة كالمها خيتص بحقه .أي أن األصـل يف احلق التقييد ،ألن احلق
ابتداء؛ وأن احلق ليـس غاية يف ذاته ،بل وسيلة إىل مصلحة ُرشع احلق
ً منحة من الشارع فهي مقيـدة بام يقيده الشارع
113
من أجلها.
إن ما رشحته سابقاً هو مـا قال به بعض الفقهاء املتأخـرين وقبله الكثري من أن األصل يف احلق التقييد .وكام
سنرى بإذن اهلل فإن األصل يف احلق ليـس التقييد وليس اإلطالق ،فحقوق اآلدميني إمـا حق وإما باطل كام استنتجنا
عند تعريف احلق سابقـاً .فمن املالحظ عىل اآليات القرآنية التي حتوي لفظ احلق أهنا تشري هلذه املسألة .تدبر قوله
تعـاىل يف سورة الكهـف( :وَ قُلِ eلcحَ ُّق مِن رهَّ بِّكُ م cفَمَن شَ ـاdءَ فَلcيُؤ cمِن وَ مَن شَ اdءَ فَلcيَك cفُـر cإِنَّا dأَع cتَد cنَا لِـلظاَّ^لِمِنيَ نَارًا أَحَ اطَ
وفصله لنـا وال حيتمل التغيري بـأن يكون أصله التقـييد ثم يطلقه بِهِمُ cسرَا ِدقُهَا) .فـاحلق من اهلل سبحانه وتـعاىل ّ
قصه ّ
يقيـدونه .فـلعظم شـأن احلقـوق بني النـاس ،فقـد أتتـنا
الـبرش بعقـوهلم ،أو الـعكس ،كـأن يكـون أصلـه اإلطالق ثم ّ
ُرcسلِنيَ إ اَِّل مُب َِّشرِينَ وَ مُن ِذرِينَ وَ ي َُج^د ُِل eلاَّذِينَ كَفَرُ واْ
مـفصلة .تدبر أيضاً قوله تعاىل يف سورة الكهـف( :وَ مَا نُرcسِ ُل eلcم َ
بِeلcبَ^طِ لِ لِيُد cحِ ُضواْ بِهِ eلcحَ َّق وَeتَّخَ ذُ و dاْ ءَايَ^تِى وَ مَـا dأُنذِرُ واْ هُ زُ وًا) .فاحلقوق ،إذ ًا ،ولعظم أمـرها مسألـة قامت الرشيعة
بقصها بـدقة من خالل مبادئ ال حتتمل التغـيري باالجتهاد .فهي واضحة وهلـا سامت مميزة (كام سنرى بإذن اهلل) .أي
أن الرشيعة ال تتغري بتغري الزمـان واملكان (وهذه ميزة كام سنوضح بـإذن اهلل) .إال أن ما رشح سابقاً من تقييد احلق
يـرجح بني
استخـدم كمـنطلـق رشعي أدى يف النهـايـة إىل اخلـروج عن أصــول يف الرشيعـة ،ألن العقل الـبرشي بـدأ ّ
املصالح حتى تلك التي أتى هبا نص ،فكيف تم هذا؟
يف ظل هـذا املنظـور املفعم بـتقييـد احلق (ألن الفقهـاء اعتـقدوا أنـه بإمـكاهنـم إدراك حدود الـرضر بعقلهم
الـقارص) ،أتى Xالـربط Zبني احلق ومـقاصد الـرشيعة اخللقيـة كالرب واإلحـسان والرمحـة واألخوة واإليثـار والتعاون
والعفو من جهة ،وبني احلق وروح الرشيعـة كالعدل واملصلحة والقـصد من جهة أخرى .فمن قـول اإلمام الشاطبي
الX :قصـد الشـارع مـن املكلف أن يكـون قصـده يف العمل مـوافقـاً لقصـده يف التـرشيع ،Zذهب بعـض الفقهـاء
مـث ً
املعارصين (وهـم قلة واحلمـد هلل) إىل الربـط الذي أدى إىل اللجـوء إىل بعض أصـول الفقه الستنبـاط األحكام دون
غريها ،كالـلجوء إىل االستحسان والرضورة وسـد الذرائع ،ومن ثم األخذ هبا وتـرك القياس .وذلك ألن الفقهاء ،وكام
يقول الدريني،
Xأدركـوا بثـاقـب نظـرهم ومـا أوتـوا من ملكـة فقهيـة ،أن اجلـري وراء ظـواهـر الـنصـوص ،أو العمل
بمقتـضى القـياس يـؤدي -يف بعض الـوقائع -إىل مـا ينـاقض مقـصد الـشارع ،وهـذا هو الـتعسف يف
الـترشيع (أي االجـتهاد الـترشيعـي) ،ألن احلكم يف الظـاهر يـستنـد إىل ظاهـر من نص أو إىل قـاعدة
114
عامة ،ولكنه يف الوقت نفسه يناقض روح الرشيعة ومقاصدها.Z
فبـالنسبـة ملقصوصـة احلقوق :من هـنا بدأت الـكارثة املـعارصة .إن جمرد الـتفكري بأن Xاجلـري وراء ظواهر
125 2قصور العقل
النصوص Zأو العمل بمقـتضى القياس سيؤدي إىل مـا يناقض مقصد الرشع وأنه تعـسف ترشيعي هلو استخدام للعقل
البـرشي القارص يف تغـيري األحكام 115.فقـد وافق بعض العلامء ،وبحـسن نية مـنهم ،عىل منع إحيـاء األرض إال بإذن
اإلمام ألهنم أقـنعوا بأن اإلحياء دون إذن اإلمـام سيؤدي إىل عشوائيـة عمرانية (وهذا بـالطبع غري صحيح كام سرتى
بـإذن اهلل) .فربغـم وجود نـصوص جتـيز اإلحـياء دون إذن اإلمـام وأخذ ثالثـة من األئـمة بـذلك (مـاعدا اإلمـام أبو
بناء عىل هـذه األصول .وهبذا أدت هـذه األصول (االستحسـان والرضورة وسد الذرائع)
حنيفة) ،إال أن اإلحيـاء منع ً
116
إىل أحكام ال تتفق مع القياس ،أو حتى ختالف نصوص الرشيعة (كام سأوضح بإذن اهلل).
ولعل كتـاب Xاملوافقات Zلإلمام الـشاطبي رمحه اهلل هو مـن أهم املراجع التي أخذ هبـا العلامء يف الربط بني
الX :ملا ثبت أن األحكـام رشعت ملصالح العـباد ،كانت األعامل
احلق ومقاصد الـرشيعة .فيقول اإلمـام الشاطبـي مث ً
معتربة بـذلك؛ ألنه مقصـود الشـارع منهـا ،كام تبني ،فـإذا كان األمـر يف ظاهـره وباطـنه عىل أصل املرشوعـية ،فال
إشكال ،وإن كان الظاهر مـوافقاً ،واملصلحة خمالفة ،فالـفعل غري صحيح وغري مرشوع؛ ألن األعامل الرشعية ليست
مقصودة ألنفـسها؛ وإنام قصد هبا أمور أخـرى هي معانيها ،وهي املصالح الـتي رشعت ألجلها ،فالذي عمل من ذلك
عىل غـري هذا الـوضع ،فليـس عىل وضع املرشوعـات 117.Zويلخص الـدريني تـأثري هـذا الربـط بني احلق ومقـاصد
الرشيـعة وروحهـا ،أو بعبـارة أخرى ،تـأثري رشع األحكـام ملصـالح العبـاد عىل إقامـة التـوازن بني احلـقوق الفـردية
املتعارضة وبني احلق الفردي وحق اجلامعة فيقول:
Xويرتتب عىل هـذا النـظر املـستمـد من طبيـعة احلق ،أن اإلخالل هبـذا التـوازن بني املـصالح اخلـاصة
املتعارضة غري مرشوع ،وال يرشع بالتـايل ما يؤدي إليه ،وهو الفعل ،فإذا أفضى استعامل حق فردي إىل
إحلاق مرضة راجحـة ،كان يف هذا مناقـضة ملقصد الشـارع؛ ألنه مل يرشع احلق ليكون مـصدر ًا ملفاسد
راجحة؛ بل رشع للمصالح الراجحـة ،ويتناقض بالتايل مع األصل العـام الذي قامت عليه الرشيعة من
جلب املصـالح ودرء املـفاسـد ،ولو كـان الفعل يف األصل مـستنـد ًا إىل حق ،وهـذا احلكم ينـطبق عىل
تعارض حق الفـرد مع حق اجلامعة مـن باب أوىل؛ إذ من البـدهي أن استعامل احلق الفـردي إذا أفضى
إىل اإلرضار بـمصلحـة اجلامعـة كان ممـنوعـاً ،ألن اختالل التـوازن هنـا يكـون أظهـر ،وألن املفـسدة
118
الالحقة باجلامعة فاحشة ال تتناسب مع املنفعة التي جينيها صاحب احلق الشخيص.Z
أخي القارئ :إذا قرأت ما كتـبه د .الدريني ستلحظ ثغرات يدخل فيها العقل البرشي عىل حساب الرشع يف
بناء عىل األصل العـام بجلب املصـالح ودرء املفاسـد رجح حق اجلامعة ،وهكـذا منع الفرد من
وضع األحكام .فهـو ً
استعامل حقه ،وهبذا تغريت مقصوصـة احلقوق .ولكن كام قلنا :ألن العقول البـرشية لن تتمكن من معرفة األصلح
للـمجتمع فهي لن تتـمكن من الرتجيح بني املـصالح ألهنا لـن تدرك ماهيـة املصالح كام وضحـنا يف مثال بـاين الرحى.
فقـد يكون تراكم حقـوق األفراد أرجح من حق اجلامعـة وهذا لن يدرك إال بعـد عرشات السنني ،وهـذا ما حاولت
تبيانه مرار ًا وتكرار ًا يف كتاب Xعامرة األرض .Zوالبد من التنويه هنا عىل أن ما يراه الدريني من خلل يف املجتمعات
والتي تتطلب تـرجيح احلاكم ملصلحة اجلامعـة عىل الفرد ألن املصالح ستتضـارب ،لن حيدث إن طبقت الرشيعة ألن
أحكامه سبحـانه وتعاىل ستفصل بني النـاس ،فلن تظهر احلاجـة للرتجيح بني املصالح كـام سيأيت بإذن اهلل ،فهو احلق
َ^صلِنيَ ) .فام معـنى
ُص eلcحَ َّق وَهُ ـوَ خَ cيُ eلcف ِ
لل يَق ُّ
خري الفـاصلني كـام قال تعـاىل يف آية قـص احلق( :إِنِ eلcحُ ك cمُ إ اَِّل ِ هَّ ِ
خري الفاصلني هنا؟ إهنا تعني كام سيتضح يف الفصـول القادمة بإذنه تعاىل ،أن للجميع احلق يف الترصف دون حدوث
قص احلق 126
صدامـات بني املترصفـني يف حقوقهـم ألهنم مفصـولني يف مسـارات ال تسحـبهم للتـصادم ،بل تـتآزر حقـوقهم ليـظهر
ال ال
الـصالح العام .كام أن هنـاك ضوابط وضعتهـا الرشيعة لكل مـترصف وعليه أن يتعامل معهـا .فإحياء األرض مث ً
يـكون إال بـاحرتام حـريم األرايض األخـرى املحيـاة والذي كـان معـلومـاً للجميـع لدرجـة أنه كـان عرفـاً (كام تم
توضيحة يف كـتاب Xعامرة األرض ،)Zوهبذا لن يصطدم األفـراد فيام بينهم حقوقياً .أي أن استـنباطات الدريني التي
تتطلب تقييد حقوق األفراد وتدخل السلطات نابعة من رصده لوضع مل تطبق فيه الرشيعة.
وبــالطبـع لن ينجــو االقتصـاد من التـغيري يف احلقـوق .فـالـدول اإلسالميـة احلـاليـة ال حتـكم بام رشع اهلل يف
غري األحداث ملصاحله.
اقتصـادها .وهل االقتصاد إال حقوق ماليـة؟ ومن ملك املال ملك السلطة ،ومن ملـك السلطة ّ
فعندما تعطي الدول حقوق امتيـاز التنقيب عن الثروات لرشكات لتأخـذ هي الدخل ،فإهنا ستنفق األموال كام تراه.
غري أن ما تراه مالئام ً قد يكون يف خدمة مصاحلها أوالً .فقليل من العلامء الذين يعتقدون أن تركيب الدول املعارصة
غري إسالمـي .فهم يعتقـدون بفسـاد الدول ،ولـكنهم ال يعـتقدون بعـدم إسالميـتها يف تـركيبـتها .لـذلك ظهـرت عدة
حماوالت ألسلمة األنظمة املالية يف الدول املعـارصة .وهي كثرية سنأيت عىل بعضها الحقاً بإذن اهلل ،وسأقترص هنا عىل
عمل بـاحثني فـقط .فاالقـتصادي شـابرا ،عىل الـرغم من املجهـود الذي وضـع يف كتابه ،إال أن مـأخذي علـيه هو أنه
فبنـاء عىل قاعـدة :ما ال يـتم الواجـب إال به فهو
ً حـاول تلبيـس القواعـد الفقهيـة عىل أولويـات الدولـة يف االقتصـاد.
واجب ،اقرتح أن حتظـى مرشوعـات البنـى التحتيـة باألولـوية يف التـنفيذ مـن قبل الدولـة لتسـاعد الـنمو االقـتصادي
ولتوجـد فرص العـمل .كام اقرتح أيضـاً رضورة زيادة قـدرة الفقراء عىل زيـادة الكسب وذلك بـتعليمهم وتـدريبهم.
وبناء عىل قاعدة :درء املفاسد أوىل من جلب املصالح ،يرى أن هـذا املبدأ Xيقتيض إعطاء األولوية للمرشوعات التي
ً
من شأهنـا أن تساعد عىل إزالة الصعوبات واملعـاناة النامجة ،عىل سبيل املثال ،عن األوضـاع السائدة من سوء التغذية،
واألميـة ،وعدم توفـر املساكن واألوبـئة وعدم وجـود املرافق الطبـية .Z..ولعلك تتعـاطف أخي مع ما يـطرحه هذا
االقتصـادي املعروف (احلائـز عىل جائزة امللك فـيصل العامليـة يف االقتصاد اإلسالمي) ،ولـكن ما يدعـو إليه سيعطي
الدولـة احلق يف اإلنفـاق باسـتخدام هـذه القواعـد .وحتـى تنـفق الدولـة األموال البـد هلا مـن جنيهـا .لذلـك ستضع
الرضائب أو تسـتأثر بـاملوارد كاملعـادن لنفسهـا؛ وبزيادة املـال ستزداد حـقوقها عىل حـساب حقوق الـناس ،وهكذا
تتغري مقصوصة احلقوق.
ومن القواعـد املستنـبطة مـن حديث الـرضر أيضاً القـاعدة الـتي تنص عـىل أن Xيتحمل الرضر اخلـاص لدفع
الرضر العـام ،Zومن هذه القـاعدة الفقهـية استنـبط شابـرا رضورة توجيه اسـتثامر الدولـة نحو سكـان الريف ألهنم
أكثر عددا ،وذلك للحـد من هجرة سكان األريـاف للمدن .وهبذا يـمكن للمجتمعات املـسلمة أن تتاليف املشكالت
االجتامعية النـامجة عن اكتظـاظ املدن .لذلك فهـو يرى أولوية تـوفري التعليم يف األرياف للحـد من اهلجرة .وهبذه
التصـورات فإن شابرا رمى هذه املهام اقتصادياً عىل الـدولة ،إال أنه يف إطار مؤسلم .وبالطبع ،فإن هذا حل أفضل من
الواقع املر ،إال أنه ليـس األمثل ،فاألمثل هو مـا أتت به الرشيعة .ألنه إن طبقت الـرشيعة فسيأيت الـتمكني للسكان
يف كل مـكان .كام أن مـسؤويل الـدولة ،حتـى وإن توجهت أولـوياهتم نحـو الريف ،فـإهنم هم أصحـاب القرارات
والتي قد ُت َو ّجه بعد املـرور عىل مصالح املسؤولني يف الدولة .وهـذا وضع جتذه الرشيعة من أصوله ،كام سرتى بإذن
اهلل.
127 2قصور العقل
لقد وجـدت الدول اإلسالمـية من بعـض الفقهاء مـا يعينهـا عىل فرض الـرضائب عىل السكـان (كام سيأيت يف
ال عىل آراء بعض الفقهاء مثل املرغينـاين ويوسف القرضاوي ودعا إىل
فصل :املكوس بـإذن اهلل) .فقد استند شابرا مـث ً
رضورة إجيـاد نظـام رضيبـي عادل لـتتمكـن الدولـة من القـيام بـمهامـها .فهـو يقول بـأن آراء الفقهـاء الذيـن أجازوا
الرضائب ،برغم التسميات املختلفـة التي تستمد من الرشيعة كالعفو واخلراج ،ال تكون عادلة إال إن استوفت بعض
املعـايري مثل أن تكون الرضائب لتـمويل ما هو رضوري ملصلحـة حتقق مقاصد الرشع ،وأن ال تـكون الرضيبة فوق
طاقـة الناس ،وأن توزع بني القادرين منهم .وهنـا يأيت سؤال :أليست هذه املعايري هـي ما تدعيه الدول؟ ونظر ًا لتغري
الظـروف احلاليـة كام يقول شـابرا فـمن الرضورة إذ ًا إعادة الـنظر يف النـظام الرضيبـي يف اإلسالم ليالئم احتيـاجات
الX :فال يكون
العرص .وقد برر د .احلرصي احلاجة للرضائب من باب أننا Xأدرى الناس بشؤون دنيانا Zواستنتج قائ ً
من املخالفـة للرشيعة أو األحاديـث فيها أن تسن اليـوم قوانني تفرض عىل أهـل اليسار والقدرة رضائـب فوق ما هو
مقرر يف الكتاب أو السنة من الزكاة والعرش ،فإن نصوص الرشيعة ليس فيها ما يمنع من ذلك .Zأخي القارئ ،أختي
119
ثراء
القارئة :أليس يف هذا خروج عىل الرشع؟ فام ذنب من كافح وفتح اهلل عليه؟ وقد ال يالم احلرصي ألنه يرى ً
فاحشـاً لدى البعض .وهذا وضع مل يـنتج إال ألننا مل نطبق الرشيـعة أص ً
ال .فكان اخللل بالفـارق املهول بني األثرياء
والفقـراء .وال يعـالج اخللل بخلل آخـر يـعمق خلل الـنظـام االقـتصـادي احلـاكم ليـستمـر الـضالل ،ولكل بجـذّ ه من
جذوره ،أي بـالعودة للـرشيعة .هكـذا ُوضع الباحثـون يف حرية ،فأرادوا تصـوير اإلسالم عىل أنه صـالح لكل زمان،
ال :بأن عىل الـسكان أن يدركـوا أن ما يدفعـونه من رضائب هو هلم أوالً وأخري ًا
فأوجـدوا املربرات .فيقول شـابرا مث ً
مقـابل ما حيصلـون عليه من خدمـات .ونظر ًا لصعـوبة احلصول عـىل الرضائب ممن يتمتعـون باخلدمـات مبارشة ،كأن
يـؤخذ مـن كل ساكـن قدر استـخدام سيـارته للطـريق ،فال مفـر من الرضائب 120.والـسؤال هـو :أليس هـذا الذي
حيدث يف الغرب؟ وأن هذه الرضائـب عندما تتجمع يف أيدي املـسؤولني ستصبح أداة للسيـطرة! وهكذا ،وباستخدام
العقل تم اخلـروج عن الرشيعة .وكـام سنرى بإذن اهلل فـإن مجيع هذه املـرافق املدنيـة ستكون ذاتيـة التشيـيد وذاتية
الصيانـة إن تم تطبـيق الرشيعة ودون احلـاجة للرضائـب وبطريقـة أكفأ .ولعل الـسؤال البـدهي هو :مـن هم الذين
سيقـررون األولـويـات ،ألـيسـوا املسـؤولني يف الـدولـة؟ ويف هـذا خـروج عـىل الرشيعـة ألن القـرار أصبح يف أيـدي
املـسؤولني الـذين خيططـون كام يرون أو هيـوون؛ وهبذا تتـغري مقصوصـة احلقوق .أدرك أخي القـارئ بأن يف رأسك
ألف سؤال وسـؤال ترفض فيـه نقدي ملا ذهـب إليه املعارصون ألهنم جيـاهدون وجيتهـدون ألسلمة الـوضع املعارص.
ولكن كل مـا أطلبه منـك هو االنتـظار .فلـن تكتمل الـصورة يف ذهـنك إال بعد قـراءة الفصـول القادمـة .فعىل سبيل
املثال :إن دعـوة شابرا لـالستثامر يف التعليـم يف األرياف إليقاف اهلجـرة ما هو إال عالج ملـرض نشأ بـسبب اخلروج
عن الرشيعة .أي وكأنـنا نحاول عالج مرض اإليـدز ليزداد اللواط والعـياذ باهلل .فلم تظهـر األرياف متخلفة إال ألن
هناك مدنـاً تبتلع أموال األمـة ألن احلكام منعـوا الناس من الرضب يف األرض والـوصول للخريات ،فهل يـستطيع فرد
إجيـاد منجم ذهب إال بتصـاريح ،وهكذا وبـتكدس األموال لـدى الدولة كـان االزدحام يف املدن ألهنـا هي التي يتم
االستثامر فيها ،كام أن معظم الوظائف هبا .فكـانت املدن نقاط جذب ألهل القرى ،وكان هذا عىل مر التاريخ مثل
دمشق األمـويني وبغداد العبـاسيني وقاهـرة الفاطـميني .وما يـدعو إليـه شابرا هـو عالج ألعراض االنحـراف ،وليس
عالجاً لالنحراف ذاته ،كام سيتضح بإذنه تعاىل.
قص احلق 128
الاسحتسان أم اقلايس
بـاختصـار ،فإن اللـجوء إىل القـواعد املـنبثقـة من الرضر ،بـاإلضافـة إىل دعم هـذه القواعـد بأصـول أخرى
ال
كــاالستحـسـان وسـد الـذرائع أدى إىل ختيل بعـض العلامء عـن القيـاس وعـن بعض الـنصـوص .لـنرضب لـذلـك مث ً
بـاالستحـسان.ذ فـاالستحـسان هـو Xطلب الـسهولـة يف األحكام فـيام يبتىل فـيه اخلاص والعـام ،وقيل األخـذ بالـسعة
وابتغاء الدعة ،وقيل األخذ بالسامحة وابتغاء ما فيه الراحة ،وحاصل هذه العبارات أنه ترك العرس لليرس ،وهو أصل
وَل يُرِيدُ بِكُ مُ eلcع ُcسرَ ) 122.Zومن املـذهب املالكـي يقول ابن رشد يف
ُـسرَ َ
eلل بِكُ مُ eلcي c
يف الدين .قال تعـاىل ( :يُرِيدُ هَّ ُ
االستحسانX :االستحسان الذي يكثر استعامله ،حتى يكون أعم من القياس ،هو أن يكون طرحاً للقياس يؤدي إىل
فعدل عنه يف بعض املواضع ملعنـى يؤثر يف احلكم خيتص به ذلك املوضع .Zومن املذهب
غلو يف احلكـم ومبالغة فيهُ ،
احلنفي يقول أبو احلـسن الكرخي (ت )340يف االستحسانX :هـو أن يعدل املجتهد عن أن حيكم يف املـسألة بمثل ما
حكم به يف نظائرها لوجه أقوى يقتيض العدول عن األول .Zوهبذا كام ترى فقد ترك بعض الفقهاء القياس يف بعض
املسائل وجلـؤا إىل االستحسان الذي سنده املـصلحة والعدل .فمن تعاريف االستحـسان ما قاله الرسخيس (ت :)483
Xاالستحسان ترك القـياس واألخذ بام هو أوفق للناس .Zوعرفه ابن الـعريب (ت )543فقالX :االستحسان إيثار ترك
الـدليل والرتخـيص بمخـالفته ،ملعـارضة دلـيل آخر يف بعـض مقتضـياته .وقـسمه إىل أربعـة أقسـام :وهي ترك الـدليل
ض
ال حيق للاملك مطلق
للعرف ،وتركه لإلمجاع ،وتركه للمصلحة ،وتركه للتيسري ودفع املشقة .Zفبمقتضى القياس مث ً
ال يف سـاحة أصاهبا أحد الرشيكني يف القسمة وأراد أن
التـرصف فيام هو حقه .فيقول الرسخيس (حنفي املذهب) مث ً
يبني فيهـا أو يرفع البناء وأراد اآلخر منعه وقـال :إنك تسد عيل الريح والشمـس ،يقول الرسخيس فيهX :فله أن يرفع
بناء مـا بدا له ،ألن الساحـة ملكه ،والساحـة حق خالص له ،ولإلنسـان أن يترصف يف ملك نفسه مـا يبدو له ،وليس
للجـار أن يمنعه من ذلك ،وله أن يتخـذ فيها محامـاً أو تنور ًا ألنه يترصف يف خـالص ملكه .Zإال أن متأخـري احلنفية
ظ
فقـد ذكر الرازي يف كتـاب االستحسان: عـدلوا عن مقـتضى القيـاس إىل األخذ باالسـتحسان وقيـدوا حق املالك.
Xلو أراد أن يبـني يف داره تنور ًا للخبز الدائم كام يـكون يف الدكاكني أو رحى للطحـن أو مدقات للقصارين مل جيز
غـ
ألنه يـرض بجريانه رضر ًا فاحشاً ال يمكن التحرز منه .Zولعلك تتـعجب وتسأل أخي القارئ :ولكن قد يرض الناس
ظ) وجـاء يف الـزيلعـيX :والقيـاس أنه جيـوز لـلاملك أن يـترصف يف ذ) مثـال آخر هـو قاعـدة الذرائـع والذي يعتـرب توثيقـاً ملبدأ املـصلحة
ملكه كيف شـاء ،ولو تـرضر من ذلك جـاره رضر ًا بينـاً ،ولكـن Xترك والعـدل وقد تـوسع فيه املـالكيـة .وأحد تعـاريفها هـو أهنا كل مـباح
ذلك استحساناً ألجل املصلحةZ Z؛ ويقول ابن عابدين يف أمر صاحب تـذرع بـه إىل مفسـدة كحفـر بئـر خلف البـاب يف الظالم بحـيث يقع
الـسفل يف بنــاءهX :حيث قـال كام يف جــامع الفصـولني ،واحلـاصل أن الـداخـل فيه .والـذريعــة يف اللغــة هي الــوسيلـة إىل الـيشء مـطلقـاً،
القيـاس يف جنس هذه املـسائل أن من ترصف يف خـالص ملكه ال يمنع واصطالحاً هـي الوسيلة إىل املفـسدة .ويقول الشـاطبي عنها بـأهنا أمر
منه ولـو أرض بغريه ولكـن ترك القـياس يف حمل يـرض بغريه رضر ًا بيـناً، غري ممنوع لنفسه وخيـاف من ارتكابه الوقوع يف املمنوع .وسد الذرائع
وقيل باملنع وبه أخذ كثري من مشاخينا وعليه الفتوى. )124( Z هو منع املبـاحات التي يتـذرع هبا إىل مفاسـد وحمظورات .مثـال ثالث
غـ) يقول ابن عابدين شـارحاً هذه املسألةX :ويظهر من كالم الشارح هـو قاعـدة احليل .وهي تقـديم عـمل جائـز يف ظاهـره إلبطـال حكم
املـيل إىل ما مـشى عـليه املصـنف يف متنه ألنه أوفـق بدفع الـرضر البني رشعي كالواهب ماله عند رأس احلول فرار ًا من الزكاة (.)121
عن اجلار املـأمور بإكرامه ،ولذا كان هو االستحسان الذي مشى عليه ض) وقـال اإلمام الـعز بن عبـد السالمX :وقـد قدمنـا نظائـر كثرية ملا
مشـايخ املـذهب املتـأخـريـن (صحح إىل املتـأخـرون) ورصحـوا بـأن خالف القواعـد واألقيسة ملـا فيه من جلب املـصالح العامـة واخلاصة،
الفتــوى عليه .واحلــاصل أهنام قـوالن معـتمــدان يرتجح أحـدمهـا بام والرشيعـة كلها مصـالح من رب األرباب لعـباده .Zوكان اإلمـام مالك
ذكرنا ،واآلخر بكونه أصل املذهب.)125( Z ريض اهلل عنه يقـول بـأنX :االسـتحسـان تسعـة أعشـار العلمZ؛ وكـان
يقول أيضاًX :إن املغرق يف القياس يكاد يفارق السنة.)123( Z
129 2قصور العقل
بعضهم بعـضاً؟ فـأجيب :هـذا لن حيدث ،ألن مـن يرض بغريه يعلـم جيد ًا أنه قـد ينال نفـس الرضر من جـاره .وهذا
واضح من تـركيب املدينـة اإلسالمية .فكام هـو معلوم فـإن مباين كل مـدينة إسالمـية متشـاهبة فيـام بينها ،ذلك ألن
الـسكـان استخـدمـوا األعـراف الـتي تبلـورت عرب مئـات الـسنني للـوصـول ألفـضل عمـران يالئم ظـروفهم الـتقنيـة
واالقتصـادية واالجتـامعية .وهـذه األعراف لن تـتبلور إال إن كـانت احلقوق مـقصوصـة كام أرادهتا الـرشيعة كام
سرتى بـإذن اهلل .هذا من جهـة ،ومن جهة أخـرى فإن نـوازل الرضر هذه كـانت ُحتَل معظمهـا يف املوقع بني اجلريان
أنفسهم دون تـدخل خارجي من السلطات ،وما حدث هذا إال ألن حديث الرضر يضع حق السلطة يف االعرتاض أو
السامح للـرضر بامليض أو اإليقـاف يف أيدي الـسكان املتـرضرين .لذلك ،فـإن كان القـرار بأيـدي السكـان ،فإن كل
بناء عىل
إنسـان يقدر جـاره وحيرتمه ويسعـى إلرضائه ألنه يعلـم أن جاره هو الـذي بيده االحـتجاج إن ثبت الـرضر ً
حديث الـرضر والرضار .وحديث الرضر الذي أطلقه الرسول صىل اهلل عليه وسلم نص ال يمكن إغفاله .ولعل األهم
من مسألـة الرضر بني السكـان هي حكمة الـرشيعة بوضع القـرارات املتصلة بـالرضر بأيـدي السكان وليـس بأيدي
سلطـة خارجـية .وأمهيـة هذا املبـدأ كام سرتى بـإذن اهلل هو يف أن انتقـال احلقوق من يـد من هم يف املـوقع ملن هم
خارج املـوقع سيؤدي إىل تـركيبـة اجتامعيـة هرميـة يف تسلـطها .فيـصبح املسـؤولون هم األهـم يف املجتمع ،فيـظهر
االستعباد ،وهذا ما ال تريده الرشيعة ألن له آفات مدمرة تؤدي للتخلف كام سرتى بإذنه تعاىل .ولكن هذا ال يعني
أن السـلطة يف الـدولة اإلسالمـية ليـس هلا احلق يف التـدخل بني اجلريان إن حـدث خالف .فللسـلطة حـق يف التدخل
فقط إن طـلب أحد السكان ذلك تـظلام ً .وشتان بني هذا الـوضع وبني تدخل الدولة بـدعوى دفع الرضر قبل وقوعه
بأنظمة تغري مقصوصة احلقوق كيفام شاءت .وهذا ما حاولت توضيحه يف كتاب Xعامرة األرض.Z
ولكل هذا فـإن هناك من الفقهـاء من حتفظ عىل االستحسـان كابن تيميـة يرمحه اهلل ،ومنهم مـن رفضه متاماً
كابن حـزم رمحه اهلل 126،ومنهم مـن أنكره كـالشـافعي أثابـه اهلل .فيقول ابـن احلاجب املـالكيX :قـال الشـافعي من
رشع ،يعني مـن أثبت حكام ً بـأنه مسـتحسن عـنده من غـري دليل من قبل الـشارع فهـو الشـارع لذلك
اسـتحسن فقـد ّ
احلكم ألنه مل يأخـذ من الشارع ،وهـو كفر أو كبرية 127.Z...فللـشافعي ريض اهلل عـنه ستة من األدلـة التي تقنعك
برتك االستحسان واملصالح املرسلة .فيقول:
Xاألول :أن الرشيعة نـص ومحل عىل نص بالقيـاس ،وما االستحسـان؟ أهو منهام أم غريمهـا؟ فإن كان
منهام فال حـاجة إىل ذكره .وإن كان خارجاً عنهام فمعـنى ذلك أن اهلل تعاىل ترك أمر ًا من أمور الناس
ُتكَ ُسدً ي) 128.فاالستحسان الذي نس^نُ أَن ي َ c eل َب ِc من غري حكم وذلك يناقض قوله تعاىل( :أَيَحَ cس ُ
ال يكـون قياساً وال إعامالً لنص يناقض تلك اآلية الكريمـة .الثاين :أن اآليات الكثرية تأمر بطاعة اهلل
تعاىل وطاعة الرسول ،وتنـهى عن اتباع اهلوى ،وتأمرنا عند التنازع أن نرجع إىل كتاب اهلل تعاىل ،فاهلل
ِeللِ
eلل وَeلرهَّ ُسـولِ إِن كُنتُم cتُـؤ cمِنُو َن ب هَّ
سبحـانه وتـعاىل يـقول( :فَـإِن تَنَ^زَ ع cتُم cفِـى شَ ى cءٍ فَرُ دُّوهُ إِلَـى هَّ ِ
eلخِ رِ) 129.واالسـتحسان لـيس كتابـاً وال سنة ،وال رد ًا للكـتاب والسنـة ،إنام أمر غري ذلك، وَeلcيَو cمِ َ c
فهـو تزيد عليـهام ،فال يقبل إال بدليل منهـام عىل قبوله ،وال دليل عليه .الثـالث :أن النبي صىل اهلل عليه
وسلـم ما كـان يفتـي باسـتحسـانه وهو الـذي كان مـا ينطق عـن اهلوى ،فقـد سئل عـن الرجـل يقول
المرأته :أنت عيل كظهر أمي ،فـلم يفت باستحسانه ،بل انتظر حتى نزلت آية الظهار وكفارته .وسئل
ال ويتهمها فـانتظر حتى نـزلت آية اللعان ... ،ولو كـان ألحد أن يفتي بذوقه عمن جيـد مع امرأته رج ً
الفقهي أو باستحـسانه لكان سـيد املرسلني حمـمد صىل اهلل عليه وسلم .فـامتناعه عنه يـوجب علينا أن
قص احلق 130
نمتنع عن االستحـسان من غري اعتامده عىل نص ،ولنا يف رسول اهلل تعـاىل أسوة حسنة .الرابع :أن النبي
صىل اهلل عليه وسلم قـد استنكـر عىل الصحابـة الذين غـابوا عنه وأفتـوا باستحـساهنم .فقـد أنكر عىل
بعض الصحـابة أهنم أحـرقوا مرشكـاً الذ بشجرة ...ولـو كان االستحـسان جائـز ًا ما استنكـر عملهم.
الدليل اخلـامس :أن االستحسـان ال ضابط له ،وال مقـاييس يقـاس هبا احلق من الـباطل كالقـياس ،فلو
جـاز لكل حـاكم أو مـفت أو جمتهـد أن يسـتحسـن من غري ضـابط لكـان األمـر فـرطـاً ،والخـتلفت
األحكـام يف النـازلـة الـواحـدة عىل حـسب اسـتحسـان كل مفت ... ،الـدلـيل السـادس :أنه لـو كـان
االستحسان جائز ًا من املجتهد ،وهو ال يعتمد عىل نص وال محل عىل النص بل يعتمد عىل العقل وحده،
لكـان جيوز االسـتحسـان ممن لـيس عنـده علم الكتـاب والسنـة ،ألن العقل مـتوافـر عنـد غري العلامء
130
بالكتاب والسنة ،بل ربام كان منهم من له عقل يفوق عقول هؤالء .Z...
رحم اهلل اإلمـام الشافعي .ولعلك الحـظت أنني مل أحاول التـطرق ملا ذهب إليـه ابن حزم رمحه اهلل حتى ال
أُهتم بالظاهرية برغم قـوة حجته وطرحه يف التمسك بالنص أحياناً.ب 2أي أن مـا تم طرحه هنا ليس فكر ًا جديد ًا يف
جوهره (كام رأيـنا يف قول الشافعي رمحه اهلل) .ولكن مـا أحاول لفت النظر إليه هو أن تـراكامت االقتصاد والتنمية
والعمـران ال يمكن أن تستـوعبها عقـول البرش .لذلك وجـب علينا أن نتـأنى يف استخـدام عقولنـا يف إصدار األحكام
وأن نأخذ بالقيـاس فقط .وأشدد هنا عىل أنني ال أعمم طـرح هذا الكتاب عىل أحكام العبـادات ونحوها مما ال يمس
حقـوق اآلدميني .فتلك مـسائل مل أتقصـاها وليس يل عـلم هبا .لذلـك استخدمت مبـدأ الرضر كمثال عـمراين حلقوق
اآلدميني ألبني كيف أن هذا املبدأ الذي وضع القرارات بأيدي الـسكان قد انقلب وأصبح باستخدام عقول القلة من
الفقهاء املعـارصين جرس ًا عرب به أولـو األمر من خالل القـواعد املـستنبطـة من حديث الـرضر إىل تغيري مقصـوصة
احلقوق الـتي وضعها اإلسالم .وهكـذا بتقديـر املصلحة بـاستخدام العقـول البرشية القـارصة وباألخذ بـاالستحسان
وسد الذرائع والرضورة ونحـوها من وسائل ،تـم ترك القياس ،فتـغريت مقصوصة احلقـوق .فظهرت أنظمـة البلديات
التـي متنع الناس من أفعال أباحتها هلم الرشيعة ،وأقـطعت األرايض ملن ال يستحقوهنا ،ولعل األهم هو منع الناس من
استخراج ثروات أوطاهنم وترك ذلك حرص ًا للسلطات ،فرتكزت الثروات يف أيدي بعض الطوائف ،وتفاضل الناس يف
َت
معاشهم واسـتعبد أفـراد املجتمع إخـوهتم ،وهكذا ظـهر االستبـداد ومتكنت الـدول من تكميم أفـواه العلامء وخَ ف َ
احلق وختلف املجتمع .وللخروج من هذا التخلف تم تبني برامج تنمـوية ذات منظومات حلقوق غربية (كام سنرى
يف فصلX :الفصل والوصل Zبإذن اهلل) أدت باألمم املسلمة إىل البطالة والغرق يف الديون ،وهكذا تدهور احلال.
عيب نفسه مراد لعمري ما أراد قريب.)131( Z ب )2يقول ابن حزم راد ًا عىل من أخـذوا بالعقلX :وما نعلم يف األرض
جـ )2نظـر ًا ألن بعض الفقهاء مل يـركزوا عىل األسبقيـة يف اإلحياء فقد بدع السوفـسطائية أشـد إبطاالً ألحكام العقـول من أصحاب القياس،
تغبـشت الصورة عليهم وأخـذ بعضهم بحديث سمـرة بن جندب ،فقد يدعـون عىل العقـل ما ال يعـرفه العقل من أن الـيشء إذا حرم يف فإهنـم ّ
استـشهد الـدريني بقـضاء الـرسول صـىل اهلل عليه وسلم عىل َس ُـمرة بن الرشيعـة وجب أن حيرم مـن أجله يشء آخر لـيس من نـوعه ،وال نص
جندب لتقييد حق امللكـية .ففي سنن أيب دوادX :عن سمرة بن جندب اهلل تعـاىل وال رســوله صىل اهلل عـليه وسـلم عىل حتــريمه ،وهـذا مـا ال
أنه كـانت له عضـد من نخل يف حـائط رجل من األنـصار ،قـال :ومع يعرفه العقل وال أوجب العقل قط حتريم يشء وال إجيابه إال بعد ورود
ويشق عليه،
ّ الرجل أهله ،قال :فكان سمرة يدخل إىل نخله فيتأذى به الـنــص ،وال خالف يف يشء مــن العقـــول أنه ال فـــرق بــني الكـبــش
فطلـب إليه أن يبيعه ،فـأبى ،فـطلب إليه أن ينـاقله ،فأبـى ،فأتـى النبي واخلنـزيـر .ولـوال أن اهلل حـرم هـذا وأحل هــذا فهم يـبطلـون حجج
صىل اهلل عـليه وسلم فذكـر (ذلك) له ،فطلب إليـه النبي صىل اهلل عليه العقـول جهــار ًا ويضـادون حكـم العقل رصاحـاً ثـم ال يسـتحبـون أن
وسـلم أن يبيعه ،فأبـى ،فطلب إليه أن يـناقله ،فأبـى ،قال Xفهبه له ولك يصفوا بذلك خصومهم .فهم كام قال الشاعر :ويأخذ عيب الناس من
131 2قصور العقل
ومن األمثلـة العمرانيـة عىل أخذ العلامء بـاالستحسـان منتهني بـأحكام ختـالف نصوصـاً أو قياسـاً فرض حق
د2 جـ2
وفرض االرتفـاق عىل حائط اجلار .ولعل من أشهر األمثلة عىل ذلك املرور وجمرى ومسيل املاء عىل أرض اجلار،
هو مـنع اإلحياء ،ومنع الناس مـن الوصول للثروات (وهـو موضوع الفصل القـادم ،أي Xاخلريات .)Zأما يف االقتصاد،
وهو لب موضوع الفصول الستة القادمة ،فقد تنازلت آراء بعض الفقهاء يف الصدقات والغنائم والفيء لتذهب أموال
املجتـمع إىل بيت املال (أو بـاألحرى :إىل بيت الـسلطان الـذي جند اجلنـد لقمع النـاس) وليس إىل النـاس مما زاد من
نفوذ رجاالت الدولـة عىل حساب عزة املجتمع ،كام سيـأيت بيانه بإذنه تعاىل .ولكن اآلن سآخـذ مثاالً عمرانياً واحد ًا
ببعض التفصـيل لرتى كيف أن العقل القارص قلب املـوازين من مقصوصـة حقوق تؤدي إىل للعـزة إىل نظام حقوقي
أدى هلضم حقوق العامة من الناس ،وهذا املثال هو نزع امللكية:
عـىل فعل ذلك .ففـي املجمـوعX :وال جيــوز أن يفتح كـوة ،وال يـسمـر كـذا وكذا Zأمر ًا ر ّغبه فيه ،فأبى ،فقالX :أنت مضار ،Zفقال رسول اهلل
مسامر ًا يف حائط جاره إال بإذنه ،وال يف احلائط املشرتك بينه وبني غريه صىل اهلل علـيه وسلـم لألنـصــاريX :اذهب فــاقلـع نخله .ZZوبــرغم
إال بـإذنه ،ألن ذلك يـوهي احلــائط ويـرض به ،فال جيـوز مـن غري إذن وضـوح الرضر يف هذه احلادثة وانتفـاء مضاعفاهتا إال أنه صىل اهلل عليه
مـالكه ،وال جيـوز أن يبنـي عىل حائـط جاره وال عىل احلـائط املـشرتك وسلم حـاول إقناع سـمرة؛ وأخري ًا ،وبعـد حماوالت عـدة أصدر حكمه
شيئا من غري إذن مـالكه وال عىل السطحني املتالصقني حاجز ًا من غري عىل تعسـف سمرة يف استخدام حقه .لذلك فـإن استخدام هذه احلادثة
إذن صاحبه ألنه محل عىل ملك الغري فلم جيز من غري إذن كاحلمل عىل لتـقييد حق املـالك وفرض حق االرتفـاق عليه أمر يـصعب االستدالل
هبيـمته ،وال جيوز أن جيـري عىل سطحه مـاء من غري إذنه ،فـإن صاحله ال والرضربه ،وذلك ألن هـذه احلـادثـة نخلـة يف حـائط مـوجـودة أص ً
مـنه عىل عوض جـاز إذا عرف الـسطح الـذي جيري مـاؤه ألنه خيتلف أزيل عن مـالك األرض ،وال رضر عىل مالـك النخلة ،واألهم هـو انتفاء
ويتـفاوت .Zويقـول ابن رجـب يف القاعـدة التـاسعة والـتسعـونX :ما املـضاعفـات .وشتـان بيـنها وبـني إحداث جمـرى يف احلائـط وإحداث
تدعـو احلاجـة إىل االنتفـاع به من األعـيان وال رضر يف بـذله لتيـسريه رضر عـىل مالك األرض ،فكـام هو واضح من الـنوازل (انظـر الفصلني
وكثـرة وجــوده أو املنـافـع املحتــاج اليهــا جيب بـذلـه بغري عـوض يف الثـاين واخلـامـس مـن Xعامرة األرض )Zفـإن املـالك البـد وأن يـترضر
األظـهر .ويـندرج حتـت ذلك مسـائل( ... :ومنهـا) وضع اخلـشب عىل ال ،هذا إذا مل يـترضر يف احلال .بـاإلضافـة إىل تعاكـس احلالتني
مسـتقب ً
جـدار اجلــار إذا مل يرض ،وكــذلك إجـراء املــاء عىل أرضه يف إحـدى (النخلة واملجرى) من حيـث حجم األعيان املسببة للرضر وعمرهيام.
الروايتني .Zوبالنسـبة حلديث الرسول صىل اهلل عليه وسلمX :ال يمنعن فاملجـرى سيستمر إىل ما شاء اهلل ،أما النخلة فعمرها معلوم ،وقد يفقد
أحدكم جاره أن يضع خشـباً عىل جداره Zفقد تم رشحه وتوضيحه يف سـمرة أو ورثته هـذا احلق يومـاً ما .كام أن اإلمـام مالك خـالف قضاء
الفـصـل التــاسع مـن كتــاب Xعـامرة األرض .Zإال أن بعــض الفقهــاء عمـر بـن اخلطــاب ريض اهلل عنه يف نـازلـة الـضحـاك بـإجبـار املـالك
املحدثني نـادوا بإلزام الفـرد بالسامح جلـاره باالرتفاق بحـائطه .فهناك بالسامح بإجراء املاء خمـافة أن يدعي املرتفق ملكية رقبة األرض .فهو
الكثري من األمثلة التي ا ّدعـى فيها اجلار أو أحد أحفاده ملكية احلائط يرى عـدم اإلجبار .وإىل هـذا ذهب أمحد يف روايـة عنه واحلنفـية .أما
الشـرتاكه يف استخـدامه ،فـالتنـازع يف احلـائـط املشـرتك مسـألـة كثـر ابتداء
ً الشافعية فقـد قالوا بوجود حق املرور للضحاك يف أرض مسلمة
ذكـرها يف كتب الـفقه داللة عىل انتشـارها .وهناك الكـثري من األمثلة ومل جييزوا فرض حق االرتفاق عىل املالك (.)132
التي قام اجلار فيها أو أحـد أحفاده بفتح نافذة مـرتفعة إلدخال الضوء د )2وبالنـسبة لفـرض االرتفاق عىل حـائط اجلار كغـرس اخلشب يف
لداره من دار مالك احلائط مرض ًا بذلك مالك احلائط (.)133 حـائطه .فبـاستثـناء القلـيل من العلامء كـأمحد بن حـنبل واسحق وابن
حبيب من املـالكية وابن حزم ،مل ير أكثر علامء السلف إجبار املالك
قص احلق 132
الـدارقطـني وصححه األلبـاين{ :ال حيل مال أمـرئ مسلـم إال عن طيب نفـس} ،ويف رواية { ...إال عن طـيب نفس
منه} 135،إال أن بعض الفقهـاء املعارصين أبـاحوا نـزع امللكيـة استنـاد ًا ملا تـم رشحه من قواعـد وأصول .فقـد أجاز
136
فبـناء عىل قاعـدة Xيتحمل الرضر
ً جممـع الفقه اإلسالمي يف دورته الرابعـة نزع امللكيه الـفردية للـمصلحة العـامة.
اخلاص لدفع رضر عام Zأجاز الفقـهاء انتزاع ملكية عقار خاص إذا ضـاق الطريق عىل املارة .وكام هو معروف فإن
مراكز املـدن تزداد حركـة املرور إليها بـزيادة نشـاطاهتا االقـتصادية واإلداريـة ،وهذا يتطلـب توسعة بعـض طرقها
بنزع ملكيـات بعض األفراد .فتكون املصلحـة العامة يف الظاهـر يف توسعة الطريق .ولكـن الواقع قد يكون عكس
ال :هناك شخص يسكن يف الغـابة وبداره فئران ويريـد التخلص منها ،فقام
ذلك عىل املدى البعيد .ألرضب لـذلك مث ً
ال وخترج
ال مـنه يف أن تأكل الفئران قطع اخلبز الـواحدة تلو األخرى لي ً
بوضع قطع من اخلبـز من منزله إىل الغابة أم ً
للغابـة وال تعود إليه .ولكن الـذي حدث هو أنه عـندما استيـقظ وجد فئران الـغابة يف داره! وهذا مـا سيحدث بنزع
امللكيات ،فقد تتضـاعف املآيس :فعند توسعة الشوارع بنزع امللكيـات ستزداد احلركة إىل قلب املدينة وهبذا سيزداد
مركـز املدينة أمهيـة وكثافة سكـانية ثم تأيت احلـاجة إىل زيادة استيعـاب شبكات املياه واملجـاري والكهرباء ومن ثم
الطرق مرة أخـرى وتنزع ملكيات أخـرى ،وهكذا .أما إذا مل توسع الـطرق فإن هذا سيـؤدي إىل نوع من االختناق
بنـاء عىل سعة مرافقها ،ما سيؤدي
وإىل احلد من نشاط مركـز املدينة إىل املدى الذي يوافق مـا تستوعبه من خدمات ً
إىل ظهور مراكز أخـرى يف مناطق جماورة ألن االقتصـاد لن يتوقف ،بل سينـمو يف مناطق جماورة .هـذا باإلضافة إىل
ثراء
فوائـد أخرى كـتوزيع الـثروات بـطريقـة أشمل بني الـسكان :فـبدل أن يـزداد مالك العقـارات يف ذلك املركـز ً
فـسيستفـيد أناس آخـرون يف مناطق أخـرى وهكذا .والـذي أراه ،واهلل أعلم ،هو االلتـزام بحديث الـرسول صىل اهلل
عليه وسلم{ :ال حيل مال أمرئ مسلم إال عن طيب نفس} .واآلن لنفصل املسألة.
مـتى ُيـكره مـالك العقـار عىل البـيع رشعاً؟ قـال الفقهـاء بأن ذلـك حيدث يف ثالث حـاالت :األوىل يف األخذ
بالشفعة ،والثانية لقضاء الدين (وهاتان خارج دائـرة بحثنا) ،والثالثة إن كان يف البيع كرهاً ،أو يف نزع ملكية املالك
مصلحـة للجامعة والتـي نحن بصددهـا 137.ألن نزع ملكيـة فرد تعكس تـقديم مصلحـة اجلامعة عىل مصـلحة الفرد
وذلك باستخـدام العقل البرشي وترك القياس أو الـنص ،فهل قُدمت مصلحة اجلامعـة عىل مصلحة الفرد يف العقارات
وإىل أي مـدى؟ إن معظم فقهاء الـسلف قالوا بـمنع نزع ملكيـة العقار إذا مل يكـن منه رضر مبارش عىل العـامة كأن
ال للسقوط .ولكن إذا ما تـعلقت مصلحة اجلامعة بنـزع امللكية ،كإكراه مـالك عقار مالصق للمسجد عىل
يكـون آي ً
بيـع عقاره لـتوسعـة املسجـد ،ورفض املـالك ذلك ،فهـل للسلـطة إرغـام البـائع عىل البـيع ألجل مصلحـة األكثـرية؟
بـالرجـوع إىل حديـث الرسـول صىل اهلل عليه وسلـم{ :ال حيل مال أمـرئ مسـلم إال عن طيـب نفس مـنه} ال يمكن
ألحـد إكـراه املـالك عىل الـبيع .فهـذا نـص واضح .وهنـاك حـديث آخـر رواه مـسلم يف بـاب تغـليظ حتـريم الـدمـاء
واألعراض واألموال{ :كل املسلم عىل املسلم حـرام ،دمه وماله وعرضه} 138.كام قال صلوات اهلل وسالمه عليه يف
حجة الوداع فيام رواه الـبخاري عن ابن عباس ريض اهلل عنهام أن رسول اهلل صـىل اهلل عليه وسلم خطب بالناس يوم
النحـر فقال{X :يـا أهيا النـاس ،أي يوم هـذا؟} ،قالـوا :يوم حـرام .قال{ :فـأي بلد هـذا؟} ،قالـوا :بلد حـرام .قال:
{فأي شهر هذا؟} ،قالوا :شهر حرام .قـال{ :فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا
يف بلـدكم هذا يف شهركم هـذا} .فأعادها مـرارا ثم رفع رأسه فقال{ :اللهم هل بـلغت؟ اللهم هل بلغت؟} .قال ابن
عبـاس ريض اهلل عنهام :فـوالذي نفـيس بيده إهنـا لوصـيته إىل أمته فلـيبلغ الشـاهد الـغائب ،ال تـرجعوا بعـدي كفارا
133 2قصور العقل
يـرضب بعضكم رقاب بعض .Zوجاء يف مسند اإلمام أمحد أنه صلوات ريب وسالمه عليه قال{ :من اقتطع مال أمرئ
139
مسلم بغري حق لقي اهلل عز وجل وهو غضبان}.
كـام أن الرشيعة منحت املالك احلق يف الدفاع عن ملكه وحقـوقه لدرجة الشهادة .ففي صحيح البخاري أن
رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم قال{ :من قتل دون ماله فهو شهيد} .وذكر النووي حديث آخر جاء فيه ...{ :كل
املسلـم عىل املسلم حـرام ،عرضه ومـاله ودمه 140.}...هذه األحـاديث متنح املـسلم احلق ،كل احلق يف الـدفاع عن
ٍ
عـمل يفيده ،كبـناء سور عىل عقاره ضد أي كـائن ،فحديث الـشهادة مطلـق .فإذا أتت السـلطة ومنعـت شخصاً من
سطحه أو إضـافة دور علـوي ،وأوقفته دون إثبـات الرضر عىل الغـري ،فله خمالفـة تلك السلـطة حتـى وإن قتل وهو
يـدافع عن فعله ليفوز بالشهادة .فمذهـب اجلمهور ،وكام يقول الشوكاينX :أهنا جتـوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان
من غري فرق بني القليل والكثري إذا كان األخذ بغري حق .Zويـأيت استنتاجه هذا من احلديث اآليتX :عن أيب هريرة
قـال :جاء رجل فـقال :يا رسـول اهلل أرأيت إن جاء رجل يـريد أخذ مـايل؟ قال{ :فال تعطه مـالك} .قال :أرأيت إن
قـاتلني؟ قال{ :قـاتله} .قال :أرأيت إن قعلني؟ قـال{ :فأنت شهيـد} .قال :أرأيت إن قعلته؟ قـال{ :هو يف النار}.
عيل؟ قال:
رواه مسلم وأمحـد ويف لفظه :يـا رسول اهلل ،أرأيـت إن عدا عىل مـايل؟ قال{ :أنـشد اهلل} .قـال :فإن أبـوا ّ
لت ففي النـار} 141.Zومنع الناس من
عيل؟ قال{ :قـاتل ،فإن قتلت ففي اجلـنة ،وإن ق ََع َ
{أنـشد اهلل} .قال :فـإن أبوا ّ
الـترصف يف أمالكهم كـتحويل غـرفة يف دارهم إىل حـانوت أو بنـاء طابق إضـايف يف ملكهـم هو إنقـاص من حقهم،
وهذا ظلم ،واهلل أعلم 142.إال إذا ثبت أن عملهم هذا مرض بغريهم .وشتان بني مالك يف بيئة كهذه وآخر يف بيئة تقيد
ابتداء بكل أنواع األنظمة.
ً املترصف
ولكنك قـد تقول :إن األحـاديث التـي أحتج هبا يف طـرحي ال تعنـي منع تدخل الـسلطات يف احلـقوق ولكن
تقصـد تدخل األفـراد كاجلريان ،فـالرجل يعـد شهيد ًا إن حـاول إنسـان آخر أخـذ مالـه فقتل دفاعـاً عن حقه .أما إن
أثبت لك يف هـذا الكتاب بإذنه تعاىل أن األفضل
حاولت السلطـات ذلك فإن املسألة خمـتلفة ! هنا أقول لك اآليت :إن ّ
لعزة األمـة عدم تدخل الدولة وأن التدخل بدعة اجتهادية ،وأنه سـيؤدي ملذلة األمة ،فعندها البد وأن تكون منصفاً
سواء كانـت صادرة من أفراد أو مـن السلطات.
ً وتوافقني عىل أن مثـل هذه التدخالت يف حقـوق الناس هي اعتـداء
فاحلـديث واضح ومطلق وال يسـتثني السلـطات .فلامذا استثـنى بعض الفقهـاء املعارصين الـسلطات بحجـة املصلحة
العامة؟ وللتوضيح أكثر أقول:
هل حيق لـلسلطـة رشعاً أخـذ جزء مـن عقار مـا للمـصلحة العـامة كـتوسعـة مسجـد أو طريق؟ لقـد وقعت
حادثة هامة وذكرت يف مصادر كـثرية وبألفاظ خمتلفة تؤكد حدوثها ،وقـد مجعها السمهودي يف كتابه Xوفاء الوفا.Z
وألمهيتها فسأذكر إحداها بالكامل .فمن هذه الروايات:
Xملـا كثر املسلمـون يف عهد عمر ريض اهلل عنه وضـاق هبم املسجد فـاشرتى عمر ما حـول املسجد من
وح َج َـر أمهات املؤمـنني ،فقال عمـر للعباس :يـا أبا الفضل ،إن
الـدور إال دار العباس بن عـبد املطلب ُ
مسجـد املسلمني قد ضاق هبم ،وقد ابتعت ما حـوله من املنازل نوسع به عىل املسلمني يف مسجدهم إال
دارك وحجر أمهات املـؤمنني ،فأما حجـر أمهات املؤمنني فـال سبيل إليها ،وأما دارك فـبعنيها بام شئت
من بيت مال املسلمـني أوسع هبا يف مسجدهم .فقال العباس :ما كنت ألفعل .قال :فقال له عمر :اخرت
قص احلق 134
مني إحـدى ثالث :إما أن تـبيعنيهـا بام شئت من بـيت املال ،وإمـا أن أخطك حـيث شئت من املـدينة
تص ّدق هبا عىل املسلمني فتوسع يف مسجدهم .فقال :ال ،وال وأبنيها لك من بيت مـال املسلمني ،وإما أن ّ
فقصا عليه ُ ُ
واحدة منها .فقال عمر :اجعل بيني وبينك مـن شئت .فقال :أ ّيب بن كعب .فانطلقا إىل أ ّيب ّ
القصـة .فقـال أ ُ ّيب :إن شـئتام حـدثـتكام بحـديـث سمعـته من رسـول اهلل صىل اهلل علـيه وسلم .فقـاال:
حـدثنا .فقال :سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلـم يقول :إن اهلل أوحى إىل داود أن ابن يل بيتاً أذكر
فيه ،فخط له هذه اخلطة ،خطة بيت املقدس ،فإذا تـربيعها بزاوية بيت رجل من بني إرسائيل ،فسأله
داود أن يبيعه إيـاها ،فأبى ،فـحدث داود نفسه أن يأخـذه منه ،فأوحى إليه :أن يـا داود أمرتك أن تبني
الغصب ،وإن عقـوبتك أن ال ـدخل يف بيتـي الغَصب ،ولـيس من شـأين يل بيتـاً أذكر فـيه ،فأردت أن ت ِ
ُ ُ
أيب بن كعب فقال :جئتك بيشء تبنيه .قال :يـا رب فمن ولدي ،قال :فمن ولـدك .فأخذ عمر بمجـامع ّ
فجئت بام هـو أشد مـنه ،لتخرجـن مما قلت .فجـاء يقوده حتـى دخل املسجـد ،فأوقفه عـىل حلقة من
ال سمع رسول اهلل صىل أصحاب رسـول اهلل صىل اهلل عليه وسلم فيهم أبو ذر .فقـال أ ُ ّيب :نشدت اهلل رج ً
اهلل عليه وسلم يـذكر حـديث بيـت املقدس حـني أمر اهلل داود أن يـبنيه إال ذكـره ،فقال أبـو ذر :أنا
سمعته من رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ،وقال آخر :أنا سمعته ،يعني رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم.
قـال :وقـال عمـر للعبـاس :اذهب فال أعـرض لك يف دارك .فقـال العبـاس :أمـا إذ قلت ذلك فـإين قـد
تصدقت هبـا عىل املسلمني أوسـع عليهم يف مسجـدهم ،فأمـا وأنت ختاصـمني فال .قال :فخـط له عمر
143
داره التي هي اليوم ،وبناها من بيت مال املسلمني.Z
لقـد استخدمت هـذه احلادثة ،واهلل أعلم ،كـسابقة لـدى السلف حلفظ حـرمة أمالك الغري حـتى وإن كانت
الـتوسعة للمسجـد النبوي (وهناك روايـة بأن التوسعة كـانت للمسجد احلـرام) ،فام بالك باألماكـن األخرى! لنذكر
مثالني :فقد كان اجلانب الشاميل ملـسجد البرصة منزوياً لوجود دار نافع بن احلـارث .فأبى ولده بيعها .واستمر احلال
هكـذا حتى َوىل معاوية البرصة لعبيد اهلل بن زياد .فقـال عبيد اهلل ألصحابهX :إذا شخص عبد اهلل بن نافع إىل أقصى
ضيعته فـأعلموين ذلك .Zفلام خـرج عبد اهلل بن نـافع إىل أقصى ضـيعته بعث الوايل الفعلـة فهدموا مـن تلك الدار ما
ساوى به تـربيع املسجـدX .فقدم ابن نـافع فضج إليه مـن ذلك فأرضاه بـأن أعطاه بكل ذراع مخـسة أذرع وفتح له يف
احلائـط خوخة (باباً صغري ًا) إىل املسجد .Zهنا يف هذا املثـال نرى أن الوايل مل جيرؤ عىل نزع امللكية بحضور املالك.
ولكنه احتال عليه وأرضـاه وكان للاملك الرفـض إن أراد إشارة إىل أن نزع امللكيـة مل يكن عرفاً قـط .واملثال اآلخر
من الفسـطاط :فعندما نـزل املسلمون الفسطـاط سبق قيسبة بن كلثـوم اآلخرين ونزل بموضع تـم اختياره فيام بعد
لـيكون موضع اجلامع العتيق ،أو جامع عمرو بن العاص .ومل يتمـكن عندها املسلمون من أخذ ذلك املوضع ليكون
مـسجدهـم إال طواعيـة من قيـسبة الـذي قالX :لقـد علمتم يـا معارش املـسلمني أين حـزت هذا املنـزل وملكته وإين
144
فكام تـرى من مثل هذه النـوازل فإن أخذ أمالك أتصدق به عىل املـسلمني .Z...ثم ارحتل ونزل يف مـوضع آخر.
ّ
الناس للمصلحة العامة كان أمر ًا مرفوضاً إال يف حاالت نادرة وبعد إرضاء املالك.
ولكن إن كان الوضع هكذا ،فلامذا أفتى الفقهاء املتأخرون بجواز نزع امللكية؟ إهنم ال يالمون ألن املهنيني
يدفعـوهنم إلصدار الفتاوى بنـزع امللكيات نظر ًا لـتغري تركيبات املـدن احلالية .كـام أن السلطات أيضـاً تدفع الفقهاء
ملثل هـذه الفتـاوى ،وبالـذات ألن املسـألة لـيست واضحـة فقهيـاً ،إذ أن األرايض يف السـابق مل تكـن كأيـامنـا هذه.
كيف؟ أتذكر أخـي القارئ عندما طـرحت مثال مرض نقـص املناعة املعروف بـاإليدز وأن اإلسالم ليس السبب يف
ظهـوره ،وأنه كيف يالم اإلسـالم ألنه مل يأت بـالعالج؟ هنـا أيضـاً مثـال مشـابه .فقـد خلق اهلل الـثروات يف األرض
135 2قصور العقل
ووزعها بطـريقة ستوجد مستـوطنات برشية ذات كثافـات منخفضة ومتفرقة إن كـان للناس احلق يف الوصول لتلك
الثروات بأنفسهم (كام سأوضـح يف فصيل Xاخلريات Zو Xابن السبيل .)Zهلذا مل تكن ثمـة حاجة لنزع امللكيات ومل
تصدر الفتاوى بذلك .ولكـن ألن الناس ُمنعوا من حقهم يف قطف الـثروات بأنفسهم ،ومع انتشـار الرأساملية كنظام
سـيايس اقتصـادي يضع الثـروات الوطنيـة يف أيدي احلكـومات ،تـكتل الناس يف مـراكز سكـنية ضخمـة رغام ً عنهم،
وتـزامحوا يف املـدن بطـريقة جعلـت من قطع األرايض مـواقع إسرتاتيجـية وذات أسعـار مرتفـعة يف وقت مـنعت فيه
السلطات الناس من إحياء األرض .وهبذه الرتاكامت املخرجة عن الرشيعة أصبحت األرض سلعة .ومل تكن كذلك
ولن تكون يف املـستقبل إن طبقت الـرشيعة كام سأوضـح بإذنه تعاىل .وهكـذا تراكمت احلـاجة إلجياد فـتاوى لنزع
امللكيات ألن املجتمعات املسلمة خرجت عن مقصوصة احلقوق.
ونظر ًا لعدم وجـود فتاوى من فقهاء السلف بجواز نزع امللكية ،فقد أفتى العلامء املتأخرون بذلك .فلم أجد
للشافعية نصاً قاطعاً بـاملنع .وكذلك األمر بالنسبة للحنابلة .فهناك رواية تقول أن اإلمام أمحد سئل يف الرجل يزيد يف
املسجد (ليس املسجد اجلامع) من الطـريق فقال :ال يصىل فيه .وبالنسبة للمسجد اجلامع فيجوز إبدال موقع املسجد
بغريه للمصلحة كام حدث يف مـسجد الكوفة .وجاء يف فتـاوي الشيخ ابن تيميةX :سئل أبـو عبد اهلل :حيول املسجد؟
قال :إذا كـان ضيقاً ال يسع أهله فال بـأس أن حيول إىل موضع أوسع مـنه .Zفهذه إشارات إىل منع نـزع امللكية وذلك
بنقل املـسجد ملـوقع آخر بـدالً من تـوسعته .ومـن جهة أخـرى يقول ابـن تيميـةX :فإذا جـاز جعل البـقعة املحـرتمة
املشرتكـة بني املسـلمني [يعني املـسجد] بقعـة غري حمرتمـة للمصلحـة ،فألن جيوز جعل املـشرتكة الـتي ليسـت حمرتمة
كالـطريق الواسع بقعـة حمرتمة .Zوهنـا إشارة اىل جواز األخـذ من الطريق للـمسجد ولكنـها ليست نـصاً عىل إكراه
املالك إذا رفض الـبيع .أما بـعض فقهاء املـالكية واحلـنفية فقـد أباحـوا نزع امللكيـة يف حالـة احلاجـة املاسـة ملصلحة
اجلامعة واخـتلفوا يف ماهيـة تلك املصلحة 145.ولكـن أي اآلراء ستغري مقصوصـة احلقوق؟ لإلجابـة عىل هذا السؤال
لنعطي أوالً فكرة رسيعة عن سبب االختالف بني املذاهب ثم نعود لنزع امللكية.
الـظاهر أن سبب اختالف املـذاهب يف نزع امللكية هـو األخذ باالستحسـان وباملصالح املـرسلة يف استنباط
األحكـام .فقد ثـبت بالـنصوص الـرشعية أن الـرشيعة قـد اشتملت أحكـامها عىل مـصالح النـاس .قال تعـاىل( :وَ مَاd
َ^ك إ اَِّل رَح cمَةً لِّلcعَ^لَمِنيَ ) 146.وهناك رأيان يف كيفية الرجوع إىل هـذه املصالح الستنباط األحكام كام ذكرنا:
َرcسلcن َ
أ َ
أحدمها هو أن هذه املصالح كلها واضحة بينة لذوي العقول فيمكن استنباط األحكام باالستناد للعقل باالستحسان
إذا مل يوجد نـص من الرشيعة ُحتمل علـيه؛ والرأي اآلخر والذي محل لـواءه الشافعي رمحه اهلل هـو أن الرشيعة نص
ومحل عىل نص بالقياس ،لذلـك ال يؤخذ باالستحسان إذا مل ُحيمل عىل نص ،وإذا محل يكون قياساً .وقد عرف بعض
الفقهاء املصـالح املرسلة بـأهنا املصالـح املالئمة ملقاصـد الرشيعة ،وال يـشهد هلا أصل خـاص باالعتبـار واإللغاء .فإن
كـان يشهد هلا أصل خاص دخلت يف عموم القياس ،وإال اعتربت مصلحة مرسلة أو استصالحاً .واملالكية هم الذين
محلـوا لواء املصـالح املرسلـة.هـ 2واستدلـوا عىل ذلك بثالثـة أدلة :أوهلـا :أن الصحـابة سـلكوا ذلك املـسلك كجمعهم
للقرآن الكـريم ،وكإراقـة عمر ريض اهلل عنه اللـبن املغشوش تـأديباً للغـاشني .والدليـل الثاين :أن املصلحـة إذا كانت
مالئـمة ملقاصـد الشارع فـإن األخذ هبا يـكون موافقـاً ملقاصده ،وإمهـاهلا إمهال ملقـاصده ،وإمهال املقـاصد باطل يف
ذاته .والدليل الثالـث :أنه إذا مل يؤخذ باملصلحـة كان املكلف يف حرج وضيق ،وقد قـال تعاىل( :وَ مَا جَ ع ََل عَ لَيcكُ مc
قص احلق 136
149
وَل يُرِيدُ بِكُ مُ eلcع ُcسرَ ).
eلل بِكُ مُ eلcي ُcسرَ َ
ين مِن cحَ رَجٍ ) 148.وقال سبحانه( :يُرِيدُ هَّ ُ
فِى eل ّ ِد ِ
أما أدلة الذين مل يأخذوا باملصلحة فتتلخص يف أربعة كام جاءت يف أصول الفقه أليب زهرة:
Xأوهلا :أن املـصلحة التي ال يشهـد هلا دليل خاص تكـون نوعاً من الـتلذذ والتشهي ،ومـا هكذا تكون
األصول اإلسالمية؛ وقـد قال الغزايل يف بيان هـذا الدليل بالنسـبة لالستحسان واملصـالح املرسلةX :إننا
نعلم قطعاً أن الـعامل ليس له أن حيكم هبـواء [كذا ،وقد تكـون :هبواه] وشهوته مـن غري نظر يف داللة
األدلة ،واالستحسـان من غري نظر يف أدلـة الرشع حكم باهلـوى املجرد .Zويقول يف املصـالح املرسلة:
Xوإن مل يشهد هلا الشارع فهي كاالستحسان .Zالدليل الثاين :أن املصالح إن كانت معتربة فإهنا تدخل
يف عموم القيـاس ،وإن كانت غري مـعتربة فال تدخل فيه ،وال يـصح أن ُي ّدعى أن هنـاك مصالح معتربة
وال تدخل يف نص أو قـياس ،ألن ذلك القـول يؤدي إىل الـقول بقصـور النصـوص القرآنيـة واألحاديث
ال ،وهذا ينـايف تبليغ النـبي صىل اهلل عليه وسـلم ،تبليغـاً كام ً
ال. الـنبويـة عن بيـان الرشيعـة بيانـاً كامـ ً
وينايف قوله صىل اهلل علـيه وسلمX :تركتكم عىل املحجـة البيضاء ليلهـا كنهارها .Zوالـدليل الثالث :أن
األخذ بـاملصلحة من غري اعـتامد عىل نص قد يؤدي إىل االنـطالق من أحكام الرشيعـة ،وإيقاع الظلم
بالـناس بـاسم املـصلحة ،كـام فعل بعض امللـوك الظـاملني ،وقـد قال يف ذلـك ابن تيمـيةX :إنه مـن جهة
بناء
املصالح حصل يف أمر الـدين اضطراب عظيم ،وكثري مـن األمراء والعباد رأوا مصالح فـاستعملوها ً
عىل هذا األصل .وقـد يكون منهـا ما هو حمـظور يف الرشع مل يعلمـوه ،وربام قُدم يف املصـالح املرسلة
بناء عىل أن الرشع مل َي ِرد هبا،
كالماً خـالف النصوص ،وكثري منها أمهل مـصالح جيب اعتبارها رشعـاًً ،
ففوات واجبـات ومستـحبات ،أو وقع يف حمـظورات ومكـروهات ،وقـد يكون الـرشع ورد بذلك ومل
ال قائام ًيعـلمه [وهذا ما حدث بـالضبط يف نزع امللكيـة] .Zالدليل الرابع :أننـا لو أخذنا بـاملصلحة أص ً
بـذاته ألدى ذلـك إىل اختالف األحكـام باخـتالف البلـدان ،بل بـاختالف األشـخاص يف أمـر واحد،
فيكون حراماً ملا فيه من مرضة يف بلد من البلدان ،وحالالً ملا فيه من نفع يف بلد آخر ،أو يكون حراماً
ملا فيه مـن مرضة بالنسبـة لبعض األشخاص ،وحالالً بـالنسبة لـشخص آخر ،وما هكـذا تكون أحكام
150
الرشيعة اخلالدة التي تشمل الناس أمجعني.Z
أخي القارئ :هال قـرأت السابق مرة أخـرى لرتى عمق ما كان خيـشاه اإلمام أبو زهـرة رمحه اهلل .وبالذات
ال قائام ً بذاته ألدى ذلك إىل اختالف األحكـام باختالف البلدان ... ،وما
مما استنتجهX :أننا لـو أخذنا باملصلحـة أص ً
هكذا تكـون أحكام الـرشيعة اخلـالدة الـتي تشمل الـناس أمجعني .Zرمحك اهلل يـا أبا زهـرة ،لقد اختـلفت األحكام
ال) بالنـسبة حلقوق اآلدميني :وهو أن املصالح يف البيئة
باختالف األزمان!! ويمكن إضافـة مسألة خامسة (وليس دلي ً
ال تدرك بالعقل البرشي القارص كام رأينا سـابقاً يف احلديث عن الرضر ومضاعفاته .فقـد تكون املصلحة ظاهرياً يف
رفع حـرج الزم ،بحيث لـو مل يؤخـذ باملـصلحة املعقـولة يف مـوضعها هـ )2اشرتط اإلمام مالك لـألخذ باملصلحة املـرسلة رشوطاً ثالثة كام
لكان الناس يف حـرج ،واهلل تعاىل يقولX :ما جعل عليكم يف الدين من ال
يقول اإلمام أبـو زهرةX :أوهلا :املـالئمة بني املصلحـة التي تعترب أص ً
حرج .Zويكمل أبو زهرة فيقولX :وهذا األصل خمتلف فيه بني فقهاء ال من أصـوله ،والقـائام ً بـذاته ،وبني مقـاصــد الشـارع ،فال تنـايف أص ً
املسلـمني ،فاحلنفيـة والشافعيـة مل يعتربوه أصال قائـام بذاته ،وأدخلوه ال من أدلته الـقطعيـة .بل تكـون متفقـة مع املصـالح التيتـعارض دلـي ً
يف باب القـياس ،فـإن مل يكن للمـصلحة نـص يمكن ردهـا اليه ،فـإهنا يقصد الشارع إىل حتصيلها ،بأن تكون متى (ولعل األصح :من) جنسها
ملغـاة ال تعترب ،وقـال مالك واحلنـابلة إن املصـالح معتربة يـؤخذ هبـا ما ليست غـريبة عـنها ،وإن مل يشهـد هلا دليل خـاص .ثانيهـا :أن تكون
دامت مستـوفية للرشوط السابقة ،فإهنـا تكون حمققة ملقاصد الشارع، معقـولـة يف ذاهتـا جـرت عىل األوصـاف املنـاسبـة املعقـولـة الـتي إذا
وإن مل يكن هلا نص خاص .Zوقد استدل كل منهم بعدة أدلة (.)147 عرضت عىل أهل العقول تلقتها بالقبول .ثالثها :أن يكون يف األخذ هبا
137 2قصور العقل
دفع رضر ما قبل وقـوعه ،ويتضح أن ذلك ليـس يف مصلحة املـجتمع ككل عىل األمد الـبعيد ،فيقع الـظلم عىل الناس
باسم املصلحة العامة ،وهذا ما حدث كام سرتى بإذن اهلل .لذلك فمن األوىل االلتزام بالقياس يف املسائل البيئية.
كام ترى ،فإن الذين أفاضـوا يف املصالح املرسلة ولدهيم الكثري من الـنوازل هم املالكية .لذلك ،سأركز اآلن
عىل املذهب املالكي لرتى تردد فقهاء املالكية يف نزع امللـكية رغم أن مذهبهم أخذ باملصالح املرسلة .فإن كان هذا
حـال من أخذ باملـصالح املرسلـة من فقهاء املالـكية فالبد وأن يكـون اآلخرون من املذاهب األخـرى أكثر بعد ًا يف
إبـاحة نزع امللكية .وللتـوضيح أقول :إن املسائل الوحـيدة التي اعتربها بعض فقهـاء املذهب املالكي رضورة تتطلب
إكراه الناس عىل بيع أمالكهم للصالح العام هي يف حاالت حمددة كتوسعة املساجد اجلامعة والطرق املؤدية إليها إذا
ضـاقت عىل املصلني ،أو ألمن مجاعـة املسلمني كدار تكـون جزء ًا من سور املـدينة فخيف عىل املسلـمني من سهولة
اقتحامها .قـال ابن رشد أن مالـكاً ومجيع أصحابه املـتقدمني واملتأخـرين أخذوا بحادثـة العباس السـابق ذكرها ،أي
أهنم مل جييـزوا إكراه املالك عىل البيع .إال أنه جاء يف الطرر عن أيب زيد ،قال عبد امللك بإكراه السلطان ألهل بعض
األمالك عىل بيعها إذا احتـاج الناس إليها جلـامعهم الذي به اخلطبـة واملنرب ليوسع هبـا ،وليست املسـاجد التي ال جيمع
و2
فيها .وبـالنسبة ألمن املسلمني فعنـدما سئل بعض الفقهاء :هل لإلمام أن يعـطي ملن له جنان أو حدائق بقرب سور
البلد قيمته إذا خاف غدرة العدو من جهته أم ال؟ أجاب أحدهم:
Xلإلمـام أن يعطي من له جنان قرب سور البلد إذا خـيش أن يطرقه العدو منه قيمته عىل أصول الرشع
عمـوماً وعىل أصول مذهبنـا خصوصاً ،وله يف مذهبنـا [أي املالكي] نظائر تـشهد ،وله جرب مالكها عىل
بيعه إن أبـى من ذلك بعد أن ينـزل له فيها قـيمة عدل .هـذا إذا كان العدو مـتوقعاً ،وأمـا إن كان نازالً
ببالد املسلـمني فإن له هـدمها علـيه بغري ثمن إال أن يـكون اختالطهـا وبناؤهـا من قبل إنـشاء الـسور
فالبـد مـن دفع الثـمن عىل كل حـال .وهــذا كله إذا ظهـر رضرهـا بـالـسـور رضر ًا بـينـاً ،واهلل تعـاىل
152
أعلم.Z
ماذا عن نزع امللكـية يف األمور البيئية األخرى (غري املسجد اجلامع وأمن املسلمني) كالطريق الذي يسلكه
ال ،فهل للسلـطة إكراه املالك عىل الـبيع إذا أعاق ملكه مرور العـامة؟ لعل أفضل مثل عىل
العـامة للذهاب للـسوق مث ً
ذلك هو احلاجـة القصوى للطريق كتعطله (الحظ أن هناك فرقـاً بني تعطل الطريق وضيقه) .لنقل أن هناك طريقاً
لعامة املـسلمني والبد هلم منهـا وتعطلت بالغـرق بامء املطر ألن جزء ًا مـنها منخفض فال يمـكن املرور به ،وبجانب
الطـريق أرض ،فهل جيرب مـالك األرض عىل بيـع جزء منـها ليـمر النـاس هبا؟ يـقول ابن الـرامي ملخـصاً أقـوال فقهاء
املالكية:
Xفإن كانت [أي الطريق] يستغنى عنها لوجود غريها من غري مشقة ،فال جيرب صاحب األرض عىل أن
يـدخل من أرضه شيئاً وال جيربه السلطان عىل ذلك .واختُلِف إن مل توجد طريق غريها عىل قولني .قال
وسئل الـرمـاح عـن إجبـار صـاحـب األرض عىل بيـع أرضه لتـزداد يف و )2وقال مـطرفX :وإذا كان النهـر بجنب طريق عظـمى من طرق
امليضآت أم ال؟ فـأجابX :ال جيرب .قيل وال يتخـرج فيه من اخلالف ما املـسلمني التي يسـلك عليها العامـة حيفِرها حـتى قطعها ،فـإن السلطان
يف املسـاجـد .فـإن إقـامـة اجلامعـة سنـة يقـاتل عليهـا عىل األظهـر ،أو جيرب أهـل تلك األرض التي حـوهلا عىل بـيع ما يـوسع به الـطريق مـنها
واجب فالبد من موضع جامـع .والوضوء ال فضيلة فيه يف امليضآت بل عىل ما أحبـوا أم كرهوا( ،ثم سئل) فإن مل ينـظر السلطان فيها هل عىل
كـان بعض الـشيـوخ يرجـح وضوء الـدار عليه ويـقول :وضـوء الدار النـاس حـرج يف مـرورهـم عىل أرض النــاس حتـى خيـرج إىل طـريق
يساوي دينار ًا ووضوء امليضة يساوي بيضة .)151( ،Z... املـسلمني؟ قـال :نعم أراهـم يف حرج وال يـسلكـون فيـها إال بـإذهنم.Z
قص احلق 138
سحنـون :جيرب ويعطـى قيمـتها .وقـال ابن حبيـب :ال جيرب وال يؤخـذ من أرضه يشء إال بـرضاه .ومن
الـعتبية سئل سحنون عن أرض رجل مالصقـة لطريق يسلكها النـاس إىل مرافقهم ،والطريق عىل هنر،
فقـطع النهر تلـك الطريق ،هل تـرى للسلطـان أن جيرب صاحب هـذه األرض عىل إعطاء طـريق فيها،
ويعطيه قيمتها من بـيت املال؟ فقال :إن كانت الطـريق ال يستغنى عنها فـإن السلطان جيربه عىل نحو
ما ذكر .ويف كتـاب ابن عبدوس وعن سحنـون مثل ذلك .ويف الواضحـة عن مطرف وابـن املاجشون
[ت 213هـ] :ال يؤخذ مـن صاحب األرض يشء من أرضه إال برضـاه وإذنه ،وله أن يمنعه من ذلك إن
استطاع .قال ابن حبيب :قلت هلام فأين يذهب الناس وال مندوحة هلم عن طريقهم التي قطع النهر؟
فقاال :ينظر يف ذلك إمامهم أن حياولوا ألنفسهم ،ولست أرى ألحد املرور يف أرض مسلم أو يتخذ فيها
طريقاً إال بـإذن رهبا ،وأرى ملن سلك فيها ولو مرة واحدة أن حيلل رهبا من ذلك ،أو حيلله قبل ،وأحب
153
إيل أن حيلله قبل املرور .وقال ابن حبيب :وسألت عن ذلك أصبغ فقال مثله.Z
أرأيت كيـف تردد فقهـاء املالكـية يف إكـراه املالك عـىل البيع ويف أكثـر الظـروف حاجـة كتعطل الـطريق
وتوقف املـرور به ،فتـعطل الطـريق أكثـر مرضة للـناس مـن ضيقه ،ومع ذلك تـردد فيه الفقهـاء ،وهؤالء هـم فقهاء
املذهب املالـكي الذين أخذوا باملصـالح املرسلة ،فام بالنـا باآلخرين .إال أن الفقهاء املعـارصين مل يتورعوا عن فتح
هذا الـباب .فقـد أجازوا نـزع امللكيـة للمـصلحة العـامة .والـسؤال هـو :من هم هـؤالء الذين سـيحددون املـصلحة
العامـة؟ أليسوا مجاعة مـن الناس ذوي مصالح؟ وقد يـسخّرون العلامء لتحقيق تلك املصـالح! لنرضب مثاالً .إذا كان
كوهنا السد ونظر
هـناك سد حيجز املاء فأتى أحد الناس ونظر إىل املاء املحجـوز وغرف بيده من سطح البحرية التي ّ
إليها وقالX :هذا املاء ضعيف وتسهل السيطرة عليه ،ونحن بحاجة له يف الطرف اآلخر من الوادي .فبدل مشقة نقل
املاء ملـاذا ال نخرق الـسد مـن طرفنـا لنحـصل عىل املاء مـنه .Zوما عـلم هذا بـأن القيـام بأي خـرق مهام كـان صغره
سيرشخ السـد ومن ثم لن يقاوم الـسد بعد ذلك الـضغط الشديـد للامء من أسفله وينهـار السد ويـنجرف الوادي بام
فيـه .وهكذا نزع امللكية .فمنع نزع امللكيـة متاماً هو السد .واجلواز يف بعـض احلاالت امللحة التي نص عليها الفقهاء
كتوسيع الطريق هو اخلرق الصغري يف السد .فمتى فُتح هذا الباب (اخلرق يف حالة السد) فلن تسهل السيطرة عليه.
فلسد هذا اخلرق حكمة .فاملسألة ليست إرغام مالك واحد ملصلحة اجلامعة ،أو مدى ترضر هذا الفرد قياساً بترضر
املـارة يف الطريق وأهيـام أوىل ،ولكنها مـسألة نـظام اجتامعـي واقتصادي مـتكامل .متـى ُرشخ هذا النظـام هلك .إهنا
مسألـة حقوق ،فأي قـرار لنزع ملكيـة عقار ما ،هـو تغيري ملقصـوصة احلقوق .أمل تـر وتسمع كيف كـونت اللجان
لتقـويم قيمـة األرض املنـزوعة وكـيف أدى ذلك إىل الظلـم؟ وعىل النقيـض ،أمل ُختطط املـدن لتمـر من أرايض بعض
طع للبعض ٍ
أراض ثم انتزعت ملكيتها بمبالغ طائلة؟ أمل املقربني من أويل األمر لتنتزع ملكيتها بمبالغ طائلـة؟ أمل ُت ْق َ ْ
يفتح هـذا النظام باب الرشاوي عىل مرصاعيه مـكوناً بذلك طبقة تعيش عىل أكتـاف اآلخرين؟ وكام ذكرنا سابقاً يف
مثـال ساكن الغـابة الـذي أراد إخراج الفئـران ليجدهـا يف بيته ،فإن انـتزاع امللكيـة ستزيـد من نشـاط مراكـز املدن
مؤدية إىل ثراء البعض وإهناك البعض اآلخر يف املجتمع اقتصادياً ،وتفويت فرص نشوء مراكز أخرى ،باإلضافة إىل
تبـديد الثروات بإنشـاء بنية حتتية أخرى أكـرب ملراكز املدن :فتوسعـة الشوارع ستؤدي إىل زيادة حـركة قلب املدينة
والتي ستـؤدي إىل زيادة الطلب عىل املـاء والكهرباء واملجـاري .وهكذا تظهـر احلاجة السـتبدال تلك البنـى التحتية
بـأخرى .أمل تـسمع بمـرشوعات حتـسني وسط املـدينة ،فـأكثر املـدن اإلسالميـة املعارصة الكـربى مرت بمـثل هذه
املرشوعات التي غريت شكل وسط املدينة ألهنا مل تعد كافية ملتطلبات السكان! فكم كلفت هذه التحسينات؟
139 2قصور العقل
عجباً ألولئك الـعلامء الذين يفتون عىل عجل! ملاذا يفرتضون أن النـاس سريفضون بيع أمالكهم ليفتحوا باب
انتـزاع امللكـية حـتى يـكون ذريعـة يف أيدي املـسؤولـني للوصـول إىل مصـاحلهم .فهل هـناك عـاقل دفع له تعـويض
ال وأكثر مما
مناسب ورفض البيع؟ ولكن الذي حدث هو أن الدفع يـأيت متأخر ًا وأقل مما جيب للضعفاء ،أو يأيت عاج ً
جيـب للمقـربني مـن متخـذي القـرارات .فـانتــزاع امللكيــة أصبح أداة لألخـذ مـن املسـتحقني أو اإلغـداق عىل غري
ال بأن هناك من رفض
املستحقني ولـكن بطريقة تبدو وكأهنا نـظامية .فللرشيعة حكمة يف قفل هـذا الباب .ولنقل مث ً
حـياء ،وإن مل يفعل فـسيفعل ورثته.
ً بيع أرضه ،فسـيكون عقـاره نشـاز ًا يف وسط الطـريق وبذلـك سريضخ يومـاً ما
ولنقل بـأنه وورثته مل يرضوا وبقي العقـار مضيقاً للطـريق ،فأهيام أوىل :فتح باب انـتزاع امللكية بسـوء استخداماهتا
عىل عمـوم املجتـمع ،أم بضع عقـارات هنـا وهنـاك تضـيق الطـريق .وإن قيل :ملـاذا افرتضـت أن اإلكراه عـىل البيع
سيساء استخـدامه ،فاألصل هو حسن الـنية بالغري .أقول :لقـد أثبت لنا التاريخ يـوماً بعد يوم هذه املـسألة .وهذا ما
ُ
أشار إلـيه ابن تيمـية عـندمـا قالX :إنه مـن جهة املـصالح حـصل يف أمر الـدين اضطـراب عظـيم ،وكثري مـن األمراء
والعباد رأوا مصـالح فاستعملوها بناء عىل هذا األصل .وقد يكون منها ما هو حمظور يف الرشع مل يعلموه ،وربام قدم
يف املصالح املرسلـة كالماً خالف النصوص ،وكثري منها أمهل مصالـح جيب اعتبارها رشعاً ،بناء عىل أن الرشع مل يرد
154
هبـا ،ففوات واجبات ومـستحبات ،أو وقع يف حمـظورات ومكروهـات ،وقد يكون الـرشع ورد بذلك ومل يعلمه.Z
رحـم اهلل شيخ اإلسالم :أليس هـذا ما حـدث بالضبـط مع بعض العلامء املتـأخريـن؟ أمل يقع الظلم عىل النـاس؟ لقد
سمعنـا من القصص التي ظُلـم هبا الناس مـا تقشعر له األبـدان ،ورأينا من الـناس من ِ
أغرقـوا بالتعويـضات من أموال
املسلمني .قال يل أحـدهم :لقد أعطي رجل ذو مكـانة منحة من الـسلطان بمليـون مرت يطبقها حيـث يشاء يف إحدى
املدن ،ثـم تأيت الـسلطـات لتنتـزع ملكـية هـذه األرايض املمـنوحـة له بمـبالغ طـائلة .وحـتى أن هـناك أراض نـزعت
ملكياهتـا لتقطع بعد ذلك آلخرين مقربني .تـأمل أخي القارئ حكمة الرشيعة يف إحكـام إقفال هذا الباب من قوله
صىل اهلل علـيه وسلم{ :ال حيل مـال أمرئ مـسلم إال عـن طيب نفـس منه} .رحم اهلل اإلمـام الشـافعـي الذي أنـكر
االستحسان.
أما بالنسبة لتلك العقارات التي هتدد األمن ،فلامذا تـنتزع ملكياهتا؟ أال يمكن إخراج املالك منها فرتة اخلطر
وإعادة ملكه له بعـد زوال اخلطر ولـو بعد سـنني؟ ومن هذا الـذي سريفض مبلغـاً جمزياً عـن أرضه غري اآلمنة .وإن
قيل بأنه قـد يتآمر مع األعداء ،أقـول :إن املسألة اآلن ليـست أخذ مال مسلم كـرهاً لتحسني عمـراين ونحوه ،ولكنها
دخلت دائـرة رشعية أخرى .ملحوظـة أخرية أخي القارئ :ال تنس ما ذكـرته سابقاً من أن احلاجـة لنزع امللكية هي
ظاهـرة لرتاكم اخللل يف الـرتكيبة الـعمرانيـة التي نحن فـيها اآلن والنـاجتة عن تغـري مقصوصـة احلقوق .فـالناس اآلن
يمنعون من استغالل الثروات املعدنية ألن الـدولة متتلكها حرص ًا هلا .وهكذا يتجه الناس والعمران حيث ما تستثمر
السلطات األموال .فظهـرت املدن اإلدارية كالعواصم ،واملدن التجارية التي ترتكز فيها الصفقات التجارية ،واملدن
الـصناعيـة التي جتلب إليـها املواد اخلـام؛ ويف الوقت ذاتـه منع الناس مـن اإلحياء .فكل األرايض مملـوكة للـدولة التي
متـنحها ملـن ترغب ،وهـؤالء يقومـون ببيعهـا ملن أراد البـناء من العـامة .وهـكذا يتـزاحم النـاس وتكتظ املـدن وتأيت
احلاجة لتـوسعة الشوارع ،ويطالب املخططـون ومسؤولو البلديات علامء الرشيعـة بفتوى جواز نزع امللكية .أما إن
كان للـناس استخـراج الثروات ،وإن عـاد اإلحياء للجـواز دون إذن اإلمام ،فـإن املدن ستـنترش أفقيـاً وتفقد األرض
قيمتها وال تكون سلعة وتنعدم احلاجة لنزع امللكيات (وسأوضحه بتفصيل أكثر بإذن اهلل).
قص احلق 140
لقـد كان يل أمل أن أمتكن يوماً مـن حساب التكلفة التي يـتحملها املجتمع من جراء إبـاحة نزع امللكية .وال
أعتقـد بأنني سـأمتكن من ذلك لكثـرة األموال التـي ال يمكن مجعها السـتحالة الـوقوف عليهـا .فهناك نفـقات اللجان
التي قـررت نزع امللكـيات ،وهنـاك الرشـاوي التي دفعهـا الناس هلـذه اللجان حمـاولني رفع تعـويضـاهتم ،وهنـاك ما
يفرضه بعض أفراد اللجان لتطميع املالك ،وهناك ما رصف من أموال الدولة لألفراد الذين قرر املسؤولون هلم أكثر
ممـا جيب ،وهناك فقدان إنتـاجية من ظلموا ممن مل يـدفع هلم حقهم يف آنه ،وهناك تكلفـة اإلنشاءات التي ستقام عىل
األرايض التي انتزعـت ملكيتها ،وهنـاك التغيريات يف شبكـات البنية التحـتية من جراء زيـادة الكثافة االسـتخدامية.
فلامذا كل هذه النفقات التي كـان من األجدى أن تستثمر فيام هو أوىل؟ لـقد أحكمت الرشيعة إغالق هذا الباب.
فعند نشوء جلـان للتقويم تنـشأ معها الطـبقات يف املجتمع .فأفـراد هذه اللجان أصبـحوا أناساً أكثـر أمهية يف املجتمع
وعلَت مجـاعة بحـكم سلطـتها ونـزلت
ألن مـصالح آخـرين أضحت يف أيـدهيم .فـدخلت األهـواء يف قص احلقـوقَ .
أخـرى .أي أن املجتمع بإباحته لنزع امللكيـة أتاح لطائفة من املجتمع أن تتـسلط عىل باقيه ،وتم احلكم بغري ما أنزل
اهلل .أي أن العقالنـية عنـدما دخلت أصـول الفقه غريت مقصـوصة احلقـوق لصالـح السلطـة .هذا هـو غرور العقل
اإلنـساين والذي أصاب حتـى الرشيعة .ولعل نزع امللكـية هي من التدخالت العمـرانية التي حيبذهـا احلكام .هذا ما
ال ظهرت خالفـات بني الدولـة واملالك؛ فقد
يـذكره لـنا التـاريخ .ففي وصف املـدن اإلسالميـة يف عهد املـامليك مثـ ً
ال :ولتوسيع امليدان األخرض يف دمشق سنة
نزعت بعض امللكـيات دون رضى أصحاهبا ،برغم خمالفتها للـرشيعة .فمث ً
690هـ ُهدمت بعض املباين دون تعويض املالك 155.فاملدن اإلسالمـية تعج بمثل هذه التعسفات للسالطني والتي مل
يـرض هبا الفقهاء آنـذاك .إال أن هذه التعسفـات قليلة مقارنـة بوضعنا احلـايل .فكام رأينا ،إذا مل يتمكـن اخلليفة عمر
ريض اهلل عنه من انتـزاع ملكية عقـار بجانب املـسجد احلرام (ويف روايـة بجانب املـسجد النبـوي) ،فكيف يأيت ِمن
املـتأخرين َمن يفعـل ذلك يف ما هو أقل شأنـاً كالطرق العـامة؟ لقد أصبـحت قضية نزع املـلكية اآلن مسألـة نظامية
وغري مستنكرة .فال وجود ملدينة معارصة دون قانون حكومي يسمح للسلطات بنزع امللكية.
أخي القارئ :إن اقتـنعت بام ورد عن عدم جـواز نزع امللكيـة فبإمكـانك القفز للعنـوان اآليتX :االجتهاد.Z
أمـا إن مل تقتـنع فأرجـو أن تستـمر يف القـراءة .ألن كثري ًا مـن الناس يـسألـونني عنـدما أحتـدث عن عدم جـواز نزع
امللكية فيقولونX :ماذا إن ضاق احلرم املكي أو املدين عىل املصلني .أال ترى رضورة نزع امللكية؟ .Zفأرد باآليت:
ٌ
فندق ضخم فخم ذو إن هلل سبـحانه وتعاىل أمثـاالً يرضهبا للـناس لعلهم يتعـظون .فبالـقرب من احلرم املكـي
أجـر جد مرتفـع يفتح عىل ساحة احلـرم املكي مبارشة ودون طـريق يفصله عن السـاحة .إن هذا الـفندق (أي فندق
دار التوحـيد) يقف شاهد ًا عىل كل من أفتى بجواز نـزع امللكية .فقد كانت هناك أسواقـاً حميطة باملسجد احلرام ثم
نـزعت ملكيـاهتا مـع عقارات أخـرى وأعيـد ختطيـط املنطـقة بجـانب احلـرم املكـي ومنحت قـطعة كـبرية من تلك
األرايض املنزوعـة البن السلطان لبناء فندق ضخم يقف كعقبة مروريـة يف تلك املنطقة التي متيزت سابقاً بامللكيات
الصغرية املخلخلة بالطرقات فيام بينها قبل انتزاع ملكياهتا .كيف حدث هذا؟
لبسط املسـألة سنتعـرض لقصة موقع آخـر بمكة املكـرمة .لقد قـام البعض من املتخصـصني باإليامء للعلامء
برضورة جـواز نزع ملـكيات العقـارات الصغرية يف أواسط املـدن ألن تلك العقارت الـصغرية مفتتـة وال يستفـاد منها
بـطريقة أمـثل إال بجمعها يف مـساحات أكـرب .لذلك أُنشـأت رشكات استـثامرية المتالك هـذه العقارات ومـنها رشكة
141 2قصور العقل
ال .أي أن املسوغ األساس إلنشاء هذه الـرشكات هو يف كوهنا وسيلة لتحقيق هدف عمراين
مكـة لإلنشاء والتعمري مث ً
بالـدرجة األوىل واستثـامري بالدرجـة الثانيـة .ولكن الذي حـدث هو قلـب املسألـة :فقد تم تقـديم الربح عىل احلل
العـمراين .فقد قـامت رشكة مكـة للتعمري بـامتالك معظم العقـارات التي عىل جبل عمـر غريب املسجـد احلرام والذي
تبلغ مساحة أرضه 230.000مرت ًا مربعـاً .ثم أعدت الرشكة برناجمـاً استثامرياً بمتطلبات مـرتفعة لالستفادة القصوى
من املوقع .فقـد كان املطلـوب هو حماولـة بناء مـا جمموع مـساحته 1.201.100مرت ًا مـربعاً إليقـاف 10.000سيارة
وبناء 3.400غـرفة فندقيـة بخدماهتا وأكثـر من 1.400شقة سكنيـة ،وما مساحـته 135.000مرت ًا مربعاً كمحالت
جتارية .وهذا كام تـرى منهكاً إلمكانات املوقع ذاته ويـزيد ألكثر من مخسة أضعـاف مساحة املوقع .ثم أتى دور
التصميم وتم طرح مسابقة عمرانية إلجياد احللول ،وكنت بفضل اهلل أحد املشاركني يف التقويم األويل ،فقد كنا أربعة
حمكمني ،مسلـم واحد ،أي مجيل أكرب ،مع ثالثـة مسيحيـني (تأمل هذا االخـتيار لتحكـيم مسابقـة تصميمـية يف مكة
املكـرمة ،فام أغـربه ،وكأن العـامل اإلسالمي جف من املهنـدسني املسلمـني) 156.وباستثـناء مشـاركتني من اجلـامعات
السعوديـة ،كان اهلدف األساس من احللـول التي تقدمت للمسـابقة هو حتقيق أهـداف الرشكة الربحـية .وهذا مثال
جيد للـنظرة الـرأسامليـة التي تقـدم الربح عىل كل مـا عداه من املـصالح حتـى يف أطهر بقعـة .فقد قـدم الربح عىل
مصالح أهل مكة أوالً ،ومصالح املسلمني من معتمرين وحجيج ثانياً .ألوضح هذا.
فبالنـسبة ألهل مكـة ،فإن مصـاحلهم تتلخـص يف أن رشكة مكـة قد امتلكـت األرايض التي يملكهـا أفراد يف
جبل عمر ولكنها مل متتلـك الشوارع والساحات واملـمرات التي كانت عىل اجلبل؛ والتـي هي من حقوق سكان مكة
املكرمة عموماً ،ومن حقوق من يسكنون غرب جبل عمر خصوصاً .فلهذه الطرق حرمتها رشعاً .كيف ذلك؟
لقد تعـامل الفقهاء رشعاً مع الطـرقات والساحات وحـواف األهنار والبحار بنـوع من احلذر واعتربوا كل ما
يـرتفق به املسلمون هـو ملك للمسلمني وليـس ملكاً لبيت مال املـسلمني (الحظ أنني قلتX :وليـس ملكاً لبيت مال
ال) سواء كان طـريقاً أو حافة هنر .وهـذا التمييز بني ملكيـة بيت مال املسلمني
املسـلمني Zأو من يمثلها كالـدولة مث ً
وملكية مجـاعة املـسلمني ،والذي حـرص عليه السلف ،مل يـأخذ به الفقهـاء املتأخـرون ،واعتربوا كل ما هـو مملوك
لعمـوم املسلمني كـالطرق وحـواف األهنار وشطـوط البحار ملكـاً لبيت املال ،وبـذلك أجازوا للسلـطان الترصف يف
هذه األماكن .ولقـد حاول السيوطي توضيح هذا اخللط ونقل اآلتىX :ومما عظمت البلوى به اعتقاد بعض العوام أن
أرض النهـر ملك بيت املـال ،وهذا أمـر ال دليل عليه ،وإنـام هو كـاملعادن الـظاهـرة ،وال جيوز لإلمـام إقطـاعها وال
متليكها ،بل هو أعظم من املعادن الظـاهرة يف ذلك املعنى 157.Z...وهذا التمييز يـتضح أيضاً يف نازلة سئل عنها شيخ
اإلسالم ابن تـيمية عن رجل اشرتى من وكيل بيت املال مـن جانب الطريق أذرعاً معلومـة ،وأقام حائطاً فيام اشرتاه.
فهل يـصح بيع األرض املبتاعة مـن وكيل بيت املال التي فيـها الطريق؟ وهل يفسـق الشاهد الذي يـشهد لألرض بأهنا
لبيت مال املسلمني؟ فأجاب رمحه اهلل:
سواء كانت
ً Xاحلمد هلل .ال جيوز بيع يشء من طريق املسلمني النافذ ،وليس لوكيل بيت املال بيع ذلك،
الطريق واسعـة ،أو ضيقة ،وليـس مع الشاهـد علم ليس مع سـائر النـاس ،اللهم إال أن يشـهد أن هذه
لبيت املـال ،مثل أن تكـون ملكـاً لرجل ،فـانتقلـت عنه إىل بيت املـال ،وأدخلت يف الـطريق بـطريق
الغصب .وأمـا شهادته أهنـا لبيت املـال بمجرد كـوهنا طـريقاً ،فهـذا إن أراد أن الطريق املـشرتكة حق
للـمسلمني مل يـسوغ ذلـك بيعها ،وإن أراد أهنـا ملك لبيت املـال جيوز بيعهـا كام يبـاع بيت املـال فهذه
قص احلق 142
شهـادة زور ،يستـحق صاحـبها الـعقوبـة التـي تردعه وأمـثاله .ولـيس للحـاكم أن حيـكم بصحـة هذا
البيع.Z
وهناك حديث أخرجه ابن سعد يف الطبقـات والطرباين عن احلكم بن احلارث السلمي أن رسول اهلل صىل اهلل
عليه وسلم قـال{ :من أخذ من طـريق املسلمني شرب ًا جـاء به يوم القيـامة حيمله من سـبع أرضني} 158.ففي احلديث
إشـارة إىل أن الطريق ليس ملكاً لبيت مال املسلمـني ،ولكنه ملكاً للمسلمني من لفظه صىل اهلل عليه وسلم لـ Xطريق
املسلمني .Zوهـذا التمييز بني ملكـية بيت املال وملكيـة مجاعة املسلمـني مهم ملقصوصة احلقـوق ألن اعتبار الطريق
ملكاً لبيت املـال يعطي السلطات احلـق يف الترصف فيه ،أما اعتباره ملـكاً جلامعة املسلمني فال يعـطي كائناً من كان
حق الـترصف يف الطـرقات بـنقل ملكيـتها أو إنـقاصهـا أو تغيـري مواضـعها (وهـذا ما حـاول كتـاب Xعامرة األرضZ
إيضاحه).
وهلذا ،وبـالنـسبـة ألهل مـكة املـكرمـة أو غريهم يف أي مكـان ،فقـد قصت الـطرق رشعـاً بحقـوقهـا (كام
سنوضح يف احلديث عن Xاألمـاكن Zبإذن اهلل) .فلسكان أهل مـكة املكرمة ومن زارهـا احلق يف االستفادة من موقع
جبل عمـر بالنفاذ خالله ال سيام أن عـدد املعتمرين يف ازدياد .فـمن ملك عقار ًا غريب جبل عمـر وما حوله من أحياء
له احلق يف استثامر عقاره وزيادة سكانه وبالتايل املـرور خالل جبل عمر للوصول للمسجد احلرام 159.أما إن تم بناء
جبل عمـر كموقع ذي ملكيـة واحدة كام هو مقـرتح من احللول املقدمـة ،فإن احللول املقـدمة قد تـتعامل مع املوقع
ككتلـة واحدة .وهذا قد حدث رشقـي احلرم .فقد تم انتزاع ملكيـات األفراد هناك وتم بناء مبـان حكومية وقصور
ملـكية بـطريقـة سدت املنـافذ من تلـك اجلهة ،كام سـدت من جنـويب احلرم بعامئـر رشكة مكـة لإلنشـاء والتعمري،
وهكذا ظهرت مـشكلة صعوبة الوصـول للمسجد احلرام جلميع القـادمني من مجيع اجلهات .ويف هذا مرضة أكرب من
تـرك هذه العقـارات بأيـدي أصحاهبـا األصليني الـذين قد يـستثمـرون قطعهم بحلـول عمرانـية ختلخل مـواقعهم من
أدوارها السفىل كجعـلها مصليات أو ممـرات عبور ،وكمسـاكن يف أدوارها العليا .فـالقطع الصغرية اململـوكة من أفراد
البـد وأن تتخلـلها شـوارع ذات عروض كـافيـة ملرور املـصلني للمـسجد احلـرام .وهذا الـذي كان قـبل إباحـة نزع
امللكيات.
أمـا مصـالح املعتمـرين واحلجيج فـتكمن يف نـمط استـضافـتهم .فقبل نـزع امللكـيات كـانت مـساكـن مكة
املكرمة عبارة عن عامئر أو منـازل صغرية يملكها أصحاهبا .وهؤالء يستقبلون احلجيج واملعتمرين .فقد كان النمط
السائد هو أن ينـزل احلاج أو املعتمر ضيفاً عىل من يـملك املسكن ،حتى وإن تقاضى املـالك للعقار أجر ًا مقابل هذه
الضيافـة فإن العالقة بني الطـرفني (املضيف واملضاف) كـانت تتسم بنوع مـن اإلحسان واحلفاوة التي حتـتمها كرامة
وعزة املـالك .فقد كـان بعض املـالك حيتسـبون األجـر من اهلل سبحـانه وتعـاىل فيقـدمون أفـضل ما لـدهيم من أكل
ومسكـن ،وكانـوا يعينـون احلجيج يف أمـور شتـى .كيف ال وهنـاك آراء متنع تـأجري البيـوت بمـكة املكـرمة إكـراماً
الX :حـدثنا وكيع عن عبـيد اهلل بن أيب زياد عن أيب نجيـح عن عبد اهلل بن عمرو
للحجيج .ففـي األموال أليب عبيد مث ً
قال :مـن أكل من أجور بيوت مكة فـإنام يأكل يف بطنه نار جهـنم .Zوقد كره عطاء الكـراء بمكة ،كام أن عمر بن
160
عبد العزيز كتب للناس بمكة يمنعهم من كراء البيوت.
ومن صيغ املنع هذه نـستشف أن البعض من النـاس كانوا يؤجـرون البيوت بمكة كـام هو احلال اآلن برغم
143 2قصور العقل
اخلالف يف جوازه .لذلـك ،فإن مل يقدم بعـض املالك أفضل ما لـدهيم من مأكـل ومسكن للحجيج لـكسب األجر يف
ال .أي أن لكـل مالك
اآلخـرة ،فهم بـالتـأكيـد يفعـلون ذلك لـكسب الـسمعـة الجتـذاب املعتمـرين واحلجـيج مسـتقب ً
مصلحـة إما أخـروية أو دنيـوية .هكـذا كان احلـال سابقـاً ،عالقة محيمـة بني الطرفـني املضيف واملضـاف .ثم ظهر
املـستثمـرون فأنـشؤا الفنـادق التي يعمل هبـا املوظـفون ،فظـهرت طبقـة من املالك الذيـن قد ال يتـسع وقتهم خلـدمة
مسري يف تعامله مع ما يقتضيه من أجر،
احلجيج .وهبذا حل املوظف األجري مكان املالك خلدمة احلاج ،وهذا األجري ّ
فـتزداد خدمته بزيادة أجـره ،حتى ابتسامته فقـد تعرض مقابل املال .وشتـان يف التعامل بني االثنني (املالك أو األجري
مع احلـاج) .أي أن للحجيج يف كل بقـاع األرض حقوقـاً بدؤا بفقـداهنا بتـغري أنامط ملكيـات األرايض حول املـسجد
احلرام من ملكيات أفـراد إىل ملكيات رشكات (كرشكة مكـة للتعمري) والتي يتوقع منهـا أن تقدم خدمات أفضل من
هم هلا إال اسـتغالل احلاج بـأقل خدمـة ممكنـة .لقد أصـبحت االستضـافة سلعـة ال يقدر عـليها
تلك الفـنادق التـي ال ّ
الفقراء .وهذا نمـط رأساميل يف التعامل .ولعل املسـألة تزداد تعقيـد ًا إن نحن أيقنا أنه كلام زاد حـجم العقار اململوك
جلـهة واحدة ،كلام حتـولت العالقة من إنـسانية إىل مـالية .فأصـحاب الفنادق ،بـرغم أن فنادقهـم أكرب من املنازل إال
أهنم أقرب للحـاج من مالك الفنادق األكـرب ،وهؤالء أقرب للحـاج من مالكي األسهـم لرشكات أكرب كـرشكة مكة،
وهكذا.
أي أن هناك عالقة قـوية بني حجم عقار ما وعدد مالكه .فقـد يشرتك ألف فرد يف امتالك حمل مساحته مرت
مـربع واحد ،أو بالعكـس ،أي قد يمتلك فـرد واحد ملحل مسـاحته ألف مرت مربع .فـأي النمطني مـن امللكية أفضل
للعقار وللـمالك وللمجتـمع؟ لقد أبـدعت الرشيعـة يف هذا اخلصـوص ،وقصت احلقـوق بوضع مـبادئ ،مثل الـوراثة
والشفعـة ،أدت ألفضل وضع مـوزون بني االثنني (وهـذا ما حـاولت تـوضيحـه يف الفصل الثـامن من كتـاب Xعامرة
األرض .)Zثـم أتى هؤالء الـفقهاء وأباحـوا نزع امللكيـة واختل هذا االتـزان بأن ملكت مجـاعة صغرية (أو حـتى فرد
ال) عقارات كثـرية وكبرية هنا وهـناك بعد نـزع امللكيات ،أو أن مجـاعة غري مـتواجدة يف
واحد مـثل ابن السلطـان مث ً
املـوقع مثل مالك أسهم رشكـة مكة لـلتعمري أصبحـوا مالكاً بـدعوى مـصلحة اجلامعـة .وهنا أطـرح عدة أسئلـة :لقد
افرتض بعض الفقهاء املعارصين أن املصلحة العامة هي يف نزع امللكية .فام دليلهم عىل ذلك؟ فهل حاولوا سؤال أهل
االختصاص يف العمران عن رضورة إجياد حلول عمرانية دون نزع امللكية؟ فهل نضبت احللول؟ فإن كان اهلدف هو
توسعة املسجد احلرام أليس من املمكن رفع السكان ملـبانيهم عىل أعمدة ليكون الدور األريض ممرات ومصليات وما
فوقه مصليات إن كانت هناك حـاجة للمزيد؟ هل تم حث بعض مالك املسـاحات الصغرية ودعمهم لضم ممتلكاهتم
اختيار ًا مـنهم ،أو هل تم وضع تصـورات عمرانيـة لعقاراهتم مهـام صغرت لالستـفادة من تلك املـواقع هلم وللحجيج
بدعمهم مالياً كرشاكة من مؤسسات استثـامرية؟ ال ،مل حيدث كل هذا .فهناك ألف حل وحل عمراين للمسألة دون
اللجوء لنزع امللكية.
عند التفكر يف نـزع امللكية يف مكة املكرمة يظهر سؤال ملح :أال يعلم عامل الغيب والشهادة بأنه سيأيت يوم
ويكثر فـيه احلجيج واملعتمرون لـدرجة يضيـق هبا املسجد احلـرام عىل الناس؟ فإن كـان يعلم كل هذا ،فلامذا وضع
سبحانه وتعاىل العليم احلكيم الكعبة بني هذه اجلبال؟ فهل وضعها اخلبري اللطيف ليأيت الناس ليشيدوا العامئر فوقها،
أم لـينسفوهـا ليوسعـوا الساحـات حول املسـجد احلرام أو ليـستغلوا مسـاحة ما تم نـسفه ليكون مـن املستغالت التي
قص احلق 144
متتص دمـاء املعتمرين؟ البد من حكمة هلذا االختيار ملوقع الكعـبة بني هذه اجلبال ،فهو سبحانه وتعاىل حكيم منزه
عن العبث .فام هي هذه احلكمة يا ترى؟ لعل اإلجابات هي بعدد من فكروا يف املسألة .وهنا أطرح تصوري فأقول
واهلل أعلم :مع ظهـور املرشوعـات العمالقـة حول املـسجد احلـرام وفوق اجلبـال بدأ االخـتناق حـول املسجـد احلرام
وبالذات يف العرش األواخر من رمضان .قال يل الدكتور عمر طه (وهو طبيب متخصص يف مرض حساسية الصدر،
الربو) ،وكـان ممن يقضون العرش األواخر يف مـكة املكرمة ،أن الوضع يـزداد سوء ًا عاماً بعد عـام بسبب هذه املباين
ال يف قيام رمضان .وحتى من ال يتحسسون فقد يصابون بالربو إن
التي متنع جتدد اهلواء فيختنق املعتمرون بالذات لي ً
هم أمضـوا عدة أيام يف منطقة املسجـد احلرام خالل العرش األواخر من رمضان .وهـذا ما الحظه كطبيب .إن الذي
أحدث كل هذا االختناق هو نزع امللكية الذي ذهب باألرايض ملن بيدهم زمام األمور واألموال ليحاولوا استثامرها
يف منشآت ضخمة بالقرب من املسجـد احلرام ليزداد ربحهم .وحتى يتمكنوا من بـناء مثل هذه العامئر الضخمة فقد
ينسفـون بعض هذه اجلبال كام هو حـادث .وقال يل مرة رئيس قسم املـياه بجامعة امللك عبد الـعزيز بجدة بأن هلذه
اجلبال وظيفة .فمياه زمزم برغم أهنا تأيت من حوض وادي إبراهيم إال أهنا تتأثر هبذه اجلبال التي تغذهيا باملعادن.
أما إن مل تنـزع امللكيات ،ومل يـتمكن هؤالء من بـناء تلك املنشـآت ،فإن أحجام العقـارات ستكون صغرية.
وعنـدها فـإن هناك فـائدة ظـهرت من األبحـاث التي متت لـدراسة تـوسعة امللـك عبد اهلل بـن عبد العـزيز للمـسجد
احلـرام ،وهو أن أحجـام املباين بـوضعها قـبل نزع امللكـيات ختفف االزدحـام ألن توزيعـها بطـريقة مفـتتة بـأحجام
ال أو عند القدوم لطواف
صغرية بالشوارع الضيقة خيفف وحيد من اندفاع حـشود احلجيج .فبعد رمي مجرة العقبة مث ً
الوداع فإن احلشود القادمة من منـى واملهولة يف أعدادها وباندفاع عظيم قد تـؤدي للوفيات أحياناً ،وعندها فإن هذه
العقارات الصغرية التي تتخللها الشوارع الصغرية تعمل كمصفاة للحد من انطالق احلشود ووصوهلا فجأة إىل املسجد
احلـرام ،فتتفتت مجوع احلـشود جلامعات أصغـر وأصغر كلام اقرتبت من املـسجد احلرام ألن الـشوارع أضيق إال أهنا
أكثر عدد ًا .فتكون احلركة أكثر انسياباً من وضع تكون فيه الشوارع أقل عدد ًا وأكثر اتساعاً.
وبالنسبـة لساحات املـسجد احلرام ،فـإن األثرياء مـن العامل اإلسالمي قد حيـاولون رشاء بعض تلك األرايض
وإيقـافها كمـصليات حتـى تتسع ساحـة املسجد احلـرام ،هذا إن مل يفعل ذلـك املالك األصليون طلبـاً لألجر ونزوالً
عـند إحلاح العلـامء عليهم بذلك .وهـكذا تتحول املـناطق املحيطـة بالكعبـة املرشفة شيـئاً فشيئـاً إىل ساحات دون أي
مـبان ُت رى ،حتـى وإن رفض أحدهـم وقف أرضه فبعد زمن سـيجد أحد أحفـاده أن مبناه وحيـد وحماط بالـساحات،
وهذا وضع خمجل .هكـذا بالتدريج تتحـول سفوح اجلبال حـول الكعبة املرشفـة إىل مصاطب للصـالة .تذكر سفوح
جبـال اليمـن الزراعـية ،فـقد تـصبح مـنطقـة املسجـد احلرام كـذلك ،كل مـصطـبة تـتصل بـاألخرى بـسلم أو درج
كهربائي ،ثم ختـيل هذا املنظر املهيب ،عندما يسجد الناس ،تـرى املاليني يرفعون من السجود مرة واحدة .لتتصور
الوضع ،ختيل ملعباً كـبري ًا لكرة القدم ،وختيل قيام مجيع املتفرجني بنفـس احلركات ،هكذا قد يكون احلال ولكن مع
الفـارق يف املساحـة والتعداد .يـا له من منظـر مهيب إن ختيـلت أنك تقف عىل أعىل نقطـة يف أحد هـذه اجلبال لرتى
املصـاطب العامرة بـاملعتمرين مـن كل جانب ،واهلواء هيفهـم من كل مكان إذ ال منشـآت إال خلف اجلبال .أو ختيل
العكـس ،فأنت بالقرب من الكعبة ،فحيثام نظرت ترى سفوح اجلـبال بيضاء من زي املعتمرين .أما ما نراه اليوم من
تـداخل بني العمران والنـاس من شوارع ممتلئـة باملصلني بني الـبيوت والسيـارات ،فهذا قد حيـدث ولكن خلف اجلبال
145 2قصور العقل
املطلة عىل الـكعبة وبكثـافة أقل .أي أن االستيعـابية للمـسجد احلرام سـتزداد .فاهلل الـعليم احلكيم يعلـم أن البرشية
ستتقدم وأن الناس سيسافرون بسهولة ويرس ،وأن عددهم سيزداد ،لذلك اختار العليم احلكيم موقع الكعبة املرشفة
واهلل أعلم لـتكون بني هـذه اجلبال حـتى يرى اجلـميع هذا املنـظر املهيب جلـموع املصلـني حول الكعبـة املرشفة عىل
ز2
سفوح هذه اجلبال ،ال أن حيرش الناس بني العربات ويؤدون الصالة بني أعتاب املنازل ودواليب العربات.
قـال يل زميل :هل رأيت كيـف نزعت الـدولة ملـكيات الـكثري من األرايض يف مكـة املكرمـة لتشـيد علـيها
املباين احلديثة بـدل تلك املتهالكة؟ وهل علمت أن اليشء ذاته سيقع يف املدينة املنورة؟ قلت :وأين سيذهب املالك؟
قال :ولكن البيئة التي كانوا فيها سيئة! فتعجبت من تأثري اإلعالم عىل الناس وأجبته باآليت :هذه البيئات التي كانوا
فيها هـي بالفعـل ال ترتقي الحـتياجـات احلجيج واملعتمـرين ،ولكنهـا سيئـة ألن املالك األصليني فقـراء بسـبب عدم
تطبيق الـرشيعة (كـام سرتى بإذن اهلل) ،أو ألهنـم مل يتمكنـوا من استثامرهـا ألن األنظمـة متنعهـم ،فرتكوهـا للفقراء
ككـراء .وبزيادة حاهلا سوء ًا تطلب األمر إزالـتها أحياناً ،وكانت اإلزالة مفروضـة عىل اآلخرين أحياناً أخرى برغم
جودة مـساكنهم ألن الـدولة أرادت ختطـيط احلي بأكـمله وإعادة إنشـائه .لكن إن طبقـت الرشيعة ،ملـا كان هؤالء
الـسكان األصلـيني فقراء ،والهـتموا بـعقاراهتم وطـرقهم إلدراكهم أن هـذا يف صاحلـهم ان استثمـروه ،وهكذا يـظهر
التنافس بني املالك جلـذب املعتمرين ،وبالتـدريج ستكون أطهر بقـاع األرض هي األفضل يف تقنيات الـبناء وحلوهلا
الهتامم مالكهـا هبا ،وملا احتـاجت مكة املكـرمة هلذا الـتدمري ،بل تدرجيـياً سنة بعـد أخرى ستجد نـفسها يف أفضل
حال ألن كل حملة ستتغري تدرجيياً بتجدد بضعـة عقارات .ولكانت اللمسة اإلنسانية بني املالك واحلجيج التي حتدثنا
عنـها هي سمة هـذه العقارات .كام أن الشعـوب األخرى املسلـمة ستتبنـى تشييد وصـيانة بعض احلـارات ليسكن هبا
حجاجها .هـذه حارة جاويـة وتلك مغربـية ،وهكذا تـشتعل املنافـسة بني الشـعوب للمسـامهة يف إثراء عـمران مكة
املكرمة ،كـل يساهم بـأفضل ما لـديه .فرتى ثقافـات العامل اإلسالمي كلهـا مصغرة يف مكـة املكرمة وبـأهبى احللل
لتصبح بالفعل مـركز ًا دينياً وحضـارياً .أما مع وجود احلـدود بني الدول ومنع انتقال املـسلمني ووقوع عبء مكة عىل
دولة واحدة ،ثم بعـد نزع امللكيات ،فـإن امللكيات إما سـتؤول إىل الدولة لـيسوء حاهلـا أو إىل متنفذين يسـتملكوهنا
ليزداد الفقر بني الناس وليسترشي الفساد بزيادة هذه الطبقات املالكة تنفذ ًا وبطر ًا كام سرتى بإذن اهلل.
كل فناء وآخـر .وبالطبع فـإن هذه األفنيـة ستكون عىل بـعد كبري من ز )2ولكن مـاذا عن أشعة الشـمس ويف صالة الظهر بـالذات؟ ليس يف
ال.
الكعبة املرشفة ،أي حيث مـواقع فنادق رشكة مكة للتعمري اآلن مث ً هذا التصور ما يمنع وضع مـظالت خفيفة سهلة فوق رؤوس املصلني
وما هـذا التصـور الذي أطـرحه إال مـثاالً واحـد ًا .وهنـاك الكـثري من تنصب وقت احلـاجة .ومـاذا عن الطـرق للعربـات؟ هذه سـتقف عند
احللـول اهلنـدسيـة األخـرى والتـي مهام سـاءت فلن تكـون أسـوأ من الطرف اآلخر لسفوح اجلبـال املطلة عىل الكعبة املرشفة .وهنا ختيلت
وضعنا احلايل الذي ُنسفـت فيه اجلبال لتحل حملها العامئر االستغاللية. منظـر ًا آخر ،أال وهو حاجة املعتمـرين للخدمات مثل األكل والرشب
فـياهلـا من خـسارة ،وحـسبنـا اهلل ونعم الـوكيل .حـتى الـتكييـف ،فقد ودورات امليـاه .وهـذه حلهـا جـد مـيسـور وبـالـذات يف عـرص التقـدم
أخربين أحـد املتخـصصني (الـذين كـانوا يف الفـريق املكلف بـدراسة اإلنـشائي الـذي نحن فـيه .تذكـر بعض القـرى ذات األفنيـة التي هي
املسجد احلرام وساحـاته يف توسعة خادم احلرمني الرشيفني امللك عبد حتت األرض يف تونـس والصني .فهناك قـرى ال ترى مبانـيها من سطح
اهلل بن عبـد العزيـز ،وهو د .إبـراهيم حبـيب اهلل) أنه باإلمكـان إجياد األرض ،ولكن إن زرهتـا فسرتى حفـر ًا مربعـة بعمـق دور واحد حتت
بـدائل لتـكييـف املسجـد احلـرام إن مل تـوجـد مبـان مغلقـة من خالل األرض ،وكل حفـرة هي فناء ملنزل ،فإن نـزلت إىل احلفرة فأنت يف فناء
الـتربيــد اإلشعــاعـي radiationمن حتـت بالطــات األرض بــوضع مفتـوح ثم يتم الدخـول للبيوت أو للغـرف من هذا الفنـاء .وهكذا قد
أنـابـيب للـتربيـد ومـظالت لتـحجب أشعـة الـشمـس املبــارشة وقت تكـون اخلـدمــات ،فبــالنــزول لفنـاء صغـري حتت األرض كـمنـطقـة
الــذروة ،فيكـون اهلــواء السـاكن بـارد ًا يف ذاته ألن اجلبـال املحـيطـة مرورية ،سيجـد املعتمر األمكـنة التي يسـتطيع فيها أن جيـد ما يأكله
حتجب الرياح فتحتفظ الساحات بربودهتا صيفاً. ويـرشبه ويقيض حاجته ،وقد تكون املسـافات قدر مئات األمتار بني
قص احلق 146
الاجهتاد
إن من أهم نتـائج هذا اجلـزء (أي نزع امللـكية) هـو أن من سامت مقـصوصـة احلقوق حفـظ حقوق املالك
بطـريقة يستحيـل معها ألي فرد التعـدي عىل هذه احلقوق .فكـل عقار له استقالليته وحـرمته وسيطرة املـالك التامة
عىل ملكه مطمئـنا أبد الدهر بأهنا لن تسلب منه عنـوة .فال يرتدد يف استثامرها ،وال يفكر يف رشوة آخرين لالستفادة
منها .وقد رأينا يف احلديث عن الـرضر كيف أن الرشيعة منحت للمترصف املالك حقوقاً مكنته من إطالق الترصف
ال يف املجتمع .فكـر أخي القارئ،
يف ملكه .أي أن الـرشيعة حفـظت ملك من مكنـت له الترصف ليـصبح فرد ًا فـاع ً
فهل هنـاك نظـام من وضع الـبرش حيفـظ للنـاس حرمـة عقـاراهتم كـاإلسالم ،وحيمـيهم من الـسلطـات يف أفعـاهلم؟
واإلجابة بالنسبة يلX :ال.Z
ولعل من الـنتائج املهمـة هلذا الفصـل ما يتجىل من سـؤالك اآليت :مل كل هذه الضـجة هلذا املـؤلف عن جمرد
نـزع ملكـيات أدت لـظلم بعـض األفراد عـىل يد قـلة مـن املسـؤولني الضـالني ،فهـذا أمر ال مـفر مـنه يف املجتمـعات
البرشية ويقع من البعض فقط؟ فأجيب :إن املسألة ليست هبذه البساطة .فهل رأيت أمة عزيزة وأفرادها أذالء؟ أو
هل رأيت أمة ذلـيلة وأفرادها أعـزاء؟ بالطبع ال .فمعظـم من يفكرون يف عزة األمم املـسلمة من املسـؤولني يريدون
ال ،ويشيدون
حيسنون مدهنـا مث ً
حتقيق العزة بتـسخري الشعوب هلدف الـعزة ،وهبذا فهم يرسـمون طريق العزة كـأن ِّ
الصناعـات بمعرفتهم ونحوها من سياسـات ،وهذا املسلك يغري مقصوصة احلقوق .مـن هنا يأيت االستعباد الذي يفقد
الناس اهلمـة واملثابرة ليحـدث العكس ،أي لتذل األمة .وهـذا ما حاولت الرشيعـة تالفيه ،أي تاليف االستعباد داخل
كيان املجتمع املسلم ليتحرر األفراد فينطلقون يف العطاء الذي إن تراكم عزت األمة وازدهرت.
وهنـا البد مـن كلمة تـوضيحيـة عن االجتهـاد :كام الحظت أخي القـارئ فإن هـذا الكتاب ضـد االجتهاد.
فلعلك تقـول :كيف يرفض مـسلم االجتهاد يف هـذا العرص امليلء باملـستجدات؟ ومـاذا عن حديـث الرسول صىل اهلل
علـيه وسلم يف صحيح الـبخاري والـذي رواه عمـرو بن العـاص أنه سمع رسـول اهلل صىل اهلل عليه وسلـم يقول{ :إذا
حكم احلـاكم فاجـتهد ثم أصـاب فله أجران ،وإذا حـكم فاجـتهد ثم أخـطأ فله أجـر}؟ 161أقول :هـذا إن مل يكن
هنـاك نص كام هـو معلوم .أمـا إن كان هنـاك نص كام رأينـا يف مسـألة نـزع امللكيـة ،وسرتى الكثري مـن األمثلة يف
الفـصول القادمة بـإذنه تعاىل ،فال حيق ألحد االجتهـاد مهام تغري الزمان وتغـري املكان .وسأحاول جـاهد ًا يف الفصول
القادمة بحول اهلل وقوته أن أثبت لك أن سبب ختلف املسلمني هو االجتهاد فيام كان فيه نص ،فاختلت احلقوق بني
احلـاكم واملحكوم .ولكن فقـط للتلخيص الرسيع ملـسألة االجتهـاد أقول :هناك عـدة أنواع من املسـائل التي تتطلب
االجتهـاد ،منها ما هو مـستجد وحلظي وقد ال يتكـرر ،ومنها ما هو مـتكرر ولكن عىل فرتات متباعـدة ،ومنها ما هو
دائم التكـرار .فمن أمثلـة املسـائل التي قـد ال تتكرر هـو أخذ قـرار بالصـلح مع عدو أهنك املـسلمني ،ونحـوها من
ظروف حمـددة برغم أهنا هتـم األمة إال أهنا قد ال متـت ملقصوصة احلقـوق بصلة ،وهذه الـتي يشملها حـديث الرسول
صىل اهلل عليه وسلم ،واهلل أعلـم .وحتى مـثل هذه االجتهـادات ،فإن طبقـت مقصوصـة احلقوق فـستضمحل احلـاجة
إليهـا كام سيأيت يف فصل Xاحلكم Zبـإذن اهلل .أما أمثلة مـا قد يتكرر ولكـن عىل فرتات متباعدة فـهو تعيني حاكم أو
ال .فمتخـذ القرار سواء كـان فرد ًا أو مجاعـة بحاجة لـالجتهاد للمفـاضلة بني األفـراد .وبالطبع ال
قاض إلقليم مـا مث ً
أستطيع اخلوض يف مدى حاجة األمة ملا سبق من مسائل اجتهادية ،فهي خارج دائرة معرفتي.
147 2قصور العقل
أمـا ما هـو كثري التكـرار ،وهو األهم ملـوضوعنـا (ألن يف كثرة الـتكرار إن زلت الـفتوى مرضة شـديدة عىل
األمة) ،فـباإلمكـان قسمـته إىل أربعة أقـسام :األول مـرتبـط بالعالقـة بني اإلنسـان وربه ،مثل العـبادات ،وهـذه هبا
مـستجدات بحاجة لالجتهـاد ،مثل مدى مسافة قـرص السفر بالسيـارة ملن يعمل بعيد ًا عن داره ويسـافر لعمله يومياً،
ومثل رفـض البعض خللع األحذيـة عند دخول املـساجد ذات الـسجاد يف أيامـنا هذه .والثـاين مرتبط بعالقـة اإلنسان
بربه إال أنه لـيس بالرضورة مـن العبادات املتكـررة بالنسـبة للفرد ،مـثل حكم أنابيـب األطفال أو حكم زرع الكىل.
الثالـث مرتبـط بعالقة اإلنـسان بـإنسـان آخر ،وهـذه كثرية جـد ًا يف مسـائل املعامالت ،مـثل حكم بنـاء درج يؤدي
للسطح يف منزل زيد مما قد يرض جاره عـبيد ،فهل هيدم الدرج أم يمنع زيد من صعود السطح أم جيرب عىل بناء سور
يف سـطح منزله حتـى ال يكشف فنـاء جاره ،ويف مثل هـذه املسائل تـكثر االختالفـات يف اجتهادات الفقهـاء .وقسم
رابع مرتبط بعالقـة اإلنسان باآلخـرين عموماً أو من يـمثلهم ،أي مرتبط بعالقـة اإلنسان بالسـلطات أو احلاكم مثل
جواز إحيـاء األرض دون إذن اإلمام أو نـزع امللكية الـتي حتدثنـا عنه أو أخذ الـزكاة :فهل للحـاكم أخذ الـزكاة من
النـاس أم للناس دفعهـا ملستحقيهـا حتى وإن طلـبها احلاكـم؟ وال أريد اخلوض أبـد ًا يف القسمـني األولني ،فهام خارج
نطاق هـذا الكتاب ،ومهـا اللذان ،ملـن له حق االجتهاد يف املـستجدات اإلفتـاء فيهام .ومها احلـيز الذي يـنطبق عليه
حديث االجتهاد ،واهلل أعلم .أما القسمني الثالث والرابع ففيهام اإلشكالية بالنسبة يل .ملاذا؟
بالـنسبة للـقسم الثالـث ،وهي عالقة اإلنسـان باآلخر ،فحتـى وإن اختلفت املذاهب فـإن معظم اآلراء حمقة
بـرغم ظاهـرها بأهنـا خمتلفة إن مل تـقحم احلاكم يف املـسألة ،وقـد وضعت الكثري من الـنوازل عن العمـران يف كتاب
Xعامرة األرض Zلتوضيح هذه املسألـة .والعلة يف ذلك ،واهلل أعلم ،هو أن احلق إن تغري من زيد لعبيد عند عمرو من
الفقهاء ،أو تغري من عـبيد لزيد عند بكر من العلامء ،فإن احلق الزال بني الناس ومل ينتقل للسلطات .مثال ذلك حق
اجلـلوس يف األسـواق ،هل يقـدم من كـان دائم اجللـوس يف موضـع ما وعـرف به أم ال؟ حـتى يف هـذا القـسم فهـناك
مذاهب أصلح للبيئة من مـذاهب أخرى ،وألن االختالفات بني املذاهب هي داخـل حيز معني ،فمهام أخطأ العلامء
فإن اخلطأ سينقل احلق مـن فرد آلخر ،وبرغم الظلم عىل أحد الطـرفني ،إال أن هذا االجتهاد قد ال يرض األمة الرضر
الذي سيأيت من االجتهـاد يف القسم الرابع ،وهو الذي يربط الفـرد بمجموع األمة أو من يمثلهم ،أي ويل األمر .ومن
األمثلة عىل القسم الرابع حديث الرضر ونـزع امللكية اللذان حتدثنا عنهام .ومن األمثلة القادمة الفيء ،فمن حق من
سيكون الفيء؟ وما أحاول طـرحه يف هذا الكتاب هو أن مجيع ما يربط الفرد بـاألمة أو السلطة من حقوق متكينية
أتت هبا الرشيعة واضحة إال أن االجتهاد فيها هو الذي أدى لتخلف املسلمني .ففيها نصوص قطعية مثل قوله تعاىل:
eلسبِيلِ كَىَ cل
َـس^كِ نيِ وَeب ِcن هَّ
َل وَ لِلـرهَّ ُسولِ وَ لِذِي eلcقُـر cبَى وَeلcيَتَ^مَى وَeلcم َ
رَسـولِهِ\ مِن cأَه cلِ eلcقُرَ ى ف ِ هَّ ِ
eلل عَ لَى ُ
(مهَّـا dأَفَاdءَ هَّ ُ
eلل شَ ـدِيدُ
eلل إِ َّن هَّ َ
ول فَخُ ـذُ وهُ وَ مَا نَهَـىكُ م cعَ نcهُ فَeنتَهُـواْ وَeتَّقُواْ هَّ َ
eلغcنِيَـاdءِ مِنكُ ـم cوَ مَا dءَاتَـىكُ مُ eلـرهَّ ُس ُ
َني َ c
يَكُ و َن دُولَـةً ب َ c
َاب) ،ومـثل قول الـرسول صـىل اهلل عليه وسلم يف سـنن أيب داود ومسـند اإلمـام أمحد عـندمـا طلب النـاس منه
eلcعِق ِ
الـتسعري عند غالء األسعار{ :إن اهلل هـو املسعر القابض الـباسط الرازق وإين ألرجو أن ألقـى اهلل وليس أحد منكم
يطـالبني بمظلمة يف دم وال مال} 162.يف مثل هذه املسائـل تدخل الفقهاء واجتهدوا واختل االتزان بني الناس .ولعلك
تقـول :إن حديـث عدم التـسعري من سنـن أيب داود قد ال يكـون يف قوة مـا إن كان احلـديث يف صحيح الـبخاري يف
قطعيـته ،لذلك قـد يضـطر احلـاكم للـتسعري إن سـاء احلال يف األسـواق ،لذلـك تدخل الفقـهاء وأفتـى بعضهـم بجواز
التسعري (ال تنـسى مثال مرض اإليدز أخي القارئ) .وهكذا من رضوريات كام يعتقدون .فأجيب :قد يكون قولك
قص احلق 148
صحيحـاً إن مل يستـطع أحد اإلثبـات أن األمة ستكـون يف حال أفـضل إن هي رفضت الـتسعري .أمـا إن أثبت لك أن
األوىل ملصحلـة األمة االلتزام بالنص ،أي عدم تدخل احلاكم يف التـسعري ،فعندها فإنني يف موقف أقوى ألن احلديث
واملنطق قد اجتمعا .لـذلك أرفض االجتهاد يف هذا القسم الرابع الـذي يتم فيه ربط اإلنسان مع جمتمعه أو ويل أمره،
والذي يؤدي إىل عالقة دائمـة االستمرار مثل إحياء األرض دون إذن اإلمام ،فالناس يف إحياء دائم لألرايض كل يوم.
وهنا تـأيت حكمة الرشيعة بوضـع نصوص قاطعة (مثل منع الـربا) حتى ال يتمكن حاكـم من إغراء عامل ما ليفتي له
بجـواز ذلك .فمن بني عـرشات اآلالف من العلامء عـىل مر العصـور ،البد وأن يـبيع عامل مـا (وهو ليـس بعامل) دينه
ويفتي للحاكم بام يالئم أهواءه .وقد جيد حاكم ما من يفتي له بجواز الرضائب رشعاً (وقد حدث ،كام سيأيت بيانه
بـإذن اهلل) ،وهكذا ترتاكم االجـتهادات لتجد األمـة نفسها حتكم بـدين غري اإلسالم برغم حفـاظها عىل الصلوات يف
املساجـد وبرغم اكتظـاظ املسجد احلـرام باملعتمـرين وزيادهتم .فال تـظنن أن األمة بخري واحلـال هذه يف االجتهاد.
لل خُ م َُسهُ/
لذلك فمن حكمة الرشيعة أهنا أتت بنصوص قاطعة مثل قوله تعاىل( :وَeع cلَمُو dاْ أَنَّمَا غَنِمcتُم مِّن شَ ى cءٍ فَأَ َّن ِ هَّ ِ
ِeلل وَ مَا dأَنزَ لcنَا عَ لَـى عَ بِ cدنَا يَو cمَ eلcفُر cقَانِ
eلسبِيلِ إِن كُـنتُم cءَامَنتُم ب هَّ ِ
وَ لِلرهَّ ُسولِ وَ لِذِي eلcقُر cبَـى وَeلcيَتَ^مَى وَeلcم ََس^كِ نيِ وَeب ِcن هَّ
وَeلل عَ لَى ك ّ ُِل شَ ى cءٍ قَدِيرٌ ) ،ومثل قوله صىل اهلل عليه وسلم{ :املسلمون رشكاء يف ثالث :يف املاء
يَو cمَ eلcتَقَى eل َcجمcعَانِ هَّ ُ
قفل لباب االجتهـاد ،بل جذٌ جلذور االجتهاد يف القـسم الرابع بالذات .إال أن
والنار والكأل} ،وما هـذه النصوص إال ٌ
(وَeلل eلcم ُcستَعَا ُن عَ لَى مَا ت َِصفُونَ).
هَّ ُ بعض العلامء جترؤا عىل النصوص فأفتوا بعقوهلم القارصة كام سرتى بإذن اهلل،
ولـتلخيص هذا الفصل أقول :إن لإلسالم طـريق مرسوم واحد وواضح للعـزة .فكام رأينا يف أول الفصل فقد
أصبحت العقالنية هـي كل يشء ،وبالذات يف إدارة املجتمعـات ،وإلثبات بطالن هذه الـدعوى تقصينـا ملكية العلو
كمثـال لتوضيـح الفارق الشـديد بني مـنابع مقصـوصة احلقـوق يف اإلسالم وبني منـابع منظـومات احلقـوق املعارصة.
ومررنا رسيعاً عىل حكم من حكم بغري مـا أنزل اهلل وأنه إنام يتبع اهلوى ليضل الناس بغري علم .وإلثبات ذلك نظرنا
للعـقالنية لنـثبت أهنا أهـواء تسريهـا املصالح ولـيست عقالنيـة جمردة كام يـظن الكثري ،فـأخذنـا مثالـني لتأكيـد هذا
االستنتاج مها التلوث واملـستقبليات ،ثم تقصينا نظريات ختلف املـسلمني لنستنتج أن معظمها يتهم اإلسالم بالتخلف
ألنه ال ُيـعمل عقله يف إدارة شـؤون حيـاته ،بـل يتبع مـا أنـزل إليه من قـرآن وسنـة ،وأن يف هـذا كام يـزعـم منتقـدو
اإلسالم تـعطيل للعقل .ثم نظرنا للعقـل فوجدنا أنه ليس إال أداة جيب إطالقهـا فقط يف التعامل مع كل ما مل ِ
يأت به
نص مثل التعـامل مع األعيان ،ولتوضيح هذه املـسألة قسمنا عقليـة األمم إىل أربعة سبل بالنسبـة لطبيعة القرار .وقلنا
أن اإلسالم حيث عىل السبيل الثـالث :وهو االندفاع جتاه األعيان يف طبيعة القرار واملحافظة جتاه اإلنسان ،أي تعطيل
العقل أمام مقصوصة احلقوق مع حتريكه يف شتى املجاالت ،وهذا كام سرتى بإذنه تعاىل سينهض باألمة .فكام رأينا
من استقصاء لفظ العقل يف القـرآن وبربطه باحلق ،فإن احلق واحد ال يتبدل بتغري الزمان واملكان .ثم أكدنا ذلك من
خالل تقيص العقل يف السنة املطهرة .ورأينا ما فعله املـعتزلة ،وكيف أن بعض الفقهاء املعارصين ،وبحسن نية منهم،
هنجوا هنجـاً مشاهباً يف أصـول الفقه بإعامل عقـوهلم باالستحسـان وتقييد احلق ،فتغـريت مقصوصة احلقـوق ،وما نزع
امللكيـة إال مثال واحـد هلذا التغيـري .وهناك أمثلـة أخرى سنـأيت عليها بـإذنه تعاىل .ومجـيع هذه التغيـريات تراكمت
فضيقت اآلفاق اإلنتاجية عىل الناس واضمحلت مهمهم فازدادت البطالة ،كام سرتى
وأدت لفقدان النـاس حلقوقهمُ ،
بـإذن اهلل ،وأتى التخلف بـسبب شلل املجتمع .ومثـالنا األهم عىل هـذا هو قتل إحيـاء األرض ،وهو أحد مـوضوعات
الفصل اآليت :أي فصل Xاخلريات.Z