Professional Documents
Culture Documents
إنشاء - ما دور التجربة في بناء النظرية العلمية
إنشاء - ما دور التجربة في بناء النظرية العلمية
م جزوءة المعرفة /النظرٌة والتجربة نموذج تطبٌقً حول صٌغة السؤال المفتوح
(الفهم) 4:ن
لقد شكل موضوع "بناء النظرٌة العلمٌة ،ودور كل من التجربة والعقل فً ذلك" واحدا من القضاٌا الكبرى التً استرعت اهتمام الفالسفة
والعلماء .ولئن كان هذا السؤال :ما دور التجربة فً بناء النظرٌة العلمٌة؟ ٌبدو فً ظاهره بسٌطا فهو فً مضمونه ٌحمل نقاشا ابستٌمولوجٌا
عمٌقا تؤطره مجزوءة المعرفة كمجال عام ،ومفهوم النظرٌة والتجربة كمجال خاص ،وٌطرحنا أمام مفارقة مفتوحة على عدة أبعاد؛ بعد أول
ٌعطً للتجربة دورا أساسٌا وحاسما فً بناء النظرٌة العلمٌة ،وبعد ثان ٌعطً للعقل الدور األساسً والجوهري فً بناء النظرٌة العلمٌة ،وبعد
ثالث ٌعتبر أن بناء النظرٌة العلمٌة هو بناء جدلً ،وهذا من ٌمكن أن نعبّر علٌه من خالل التساؤالت اإلشكالٌة التالٌة:
ما دور كل من التجربة والعقل فً بناء النظرٌة العلمٌة ؟ هل تلعب التجربة دورا حاسما أم أن العقل هو أساس بناء النظرٌة العلمٌة ؟ بأي
معنى ٌمكن اعتبار أن بناء النظرٌة العلمٌة هو عبارة عن حوار جدلً بٌن العقل والتجربة ؟ هل للعقل األولوٌة فً بناء النظرٌة العلمٌة ،أم أن
األولوٌة فً ذلك للتجربة أم هو حوار جدلً بٌنهما ؟
(التحلٌل) 5 :ن
بالعودة إلى منطوق السؤال اإلشكالً ،نجد أنه مكوّ ن من تركٌبة مفاهٌمٌة تتضمن مفهوم التجربة ومفهوم النظرٌة العلمٌة ،وهنا ال بد من التمٌٌز
بداٌة بٌن التجربة فً داللتها العادٌة من حٌث هً "مجموعة من الخبرات الحسٌة التً ٌراكمها اإلنسان فً مجال حٌاتً ما" ، Expérience
والتجربة فً داللتها العلمٌة من حٌث هً "العملٌة التً ٌقوم من خاللها العالم بإعادة إحداث ظاهرة ما ،تمت مالحظتها ،فً ظروف وشروط
مختبرٌة صارمة ومضبوطة قصد الوصول التً نتٌجة تمكن من تفسٌر تلك الظاهرة والتنبؤ بها"( Expérimentation .التجرٌب العلمً )،
أما النظرٌة فهً "تركٌب عقلً مؤلف من تصورات منسقة تهدف إلى ربط المبادئ بالنتائج" ،وهً فً مجال العلم "نسق من المبادئ والقوانٌن
ٌمكن من خاللها تفسٌر الظاهرة التً تشكل موضوع بحث علمً" .فالتجربة إذن تحٌل على مجال الواقع الحسً ،بٌنما النظرٌة تحلٌل على
التصور العقلً المجرد الذي ٌكون المعرفة العلمٌة.
هكذا إدنٌ،مكن القول أن "للتجربة التً تستمد أسسها من الواقع دور حاسما فً بناء النظرٌة العلمٌة ،بمعنى أن النظرٌة العلمٌة تبنى بناء تجرٌبٌا
واقعٌا" وهنا البد من االستناد إلى المنهج التجرٌبً الكالسٌكً الذي تأسس وتطور على ٌد مجموعة من العلماء (فرانسٌس بٌكون/غالٌلٌو/
ونٌوتن) ،أما مع كلود برنار C. Bernardفإن هذا المنهج (التجرٌبً) سٌأخذ صٌغة صارمة ومضبوطة حصرها فً أربعة خطوات ومجموعة
من الشروط التً ال ٌمكن تجاوزها ،وهً:
-المالحظة :أي لحظة اللقاء األولى بٌن العالم والظاهرة المدروسة ،بحٌث ٌقوم بمعاٌنتها بحٌاد وموضوعٌة تامٌن ،فعلى العالم أن ال ٌتدخل فً
التأثٌر على مجرٌات الظاهرة وأن ٌسجل ما ٌالحظه بعٌدا عن كل إسقاط لمٌوالته ورغباته .
-الفرضٌة :أي الفكرة األولٌة التً ٌقترحها العالم كتفسٌر للظاهرة ،وهً نقطة االنطالق األساسٌة لكل استدالل تجرٌبً ،أي بدونها ال ٌمكن
الحصول على أٌة معرفة ،وكل ما ٌمكن الحصول علٌه هو ركام من المالحظات العقٌمة ،وهناك شرطان ٌجب توفرهما فً كل فرضٌة علمٌة،
وهما :أن ٌكون لها سند واقعً مستوحاة من طبٌعة الظاهرة المدروسة ،وأن تكون قابلة للتحقق التجرٌبً.
-التجربة :أي العملٌة التً ٌقوم من خاللها العالم بإعادة إحداث الظاهرة المدروسة فً شروط مختبرٌة صارمة ومضبوطة ،بحٌث ٌكون العالم
هو من ٌحدث الظاهرة وٌتحكم فً عواملها ومتغٌراتها ،بهدف التحقق من الفرضٌة والوصول إلى نتٌجة ،وٌجب أن تكون التجربة قابلة للتكرار
وإال فإنها ستفقد علمٌتها.
-القانون :وهو االستنتاج النهائً الذي ٌتوصل إلٌه العالم بعد تجاربه المتكررة ،وٌمكن التعبٌر عنه من خالل مجموعة من الرموز (أرقام،
حروف )...تبٌّن العالقات الثابتة بٌن عناصر الظاهرة ،وٌجب أن ٌكون القانون خاضعا لمبدأ الحتمٌة وإال فإنه سٌفقد علمٌته ،إذ أن الحتمٌة هً
روح العلمٌ .قول كلود برنار " :إن صادف العالم خالل أبحاثه ظاهرة ال تقبل الحتمٌة،فإن علٌه أن ٌبعدها من طرٌقه " (ٌمكن االستدالل على كل
خطوة بمثال تجربة األرانب ).
هكذا إذن ،تلعب التجربة دورا حاسما فً بناء النظرٌة العلمٌة والوصول إلى الحقائق العلمٌة.
مادة الفلسفة -مجزوءة المعرفة /النظرٌة والتجربة -نموذج تطبٌقً حول صٌغة السؤال المفتوح المستوى :السنة الثانٌة بكالورٌا -ذ محمد بنعبو
(المناقشة ) 5 :ن
ال أحد من الدارسٌن أو المهتمٌن بتارٌخ العلم ٌمكنه أن ٌنكر أو ٌتجاهل ما للتجربة من أهمٌة تارٌخٌة ،فبفضل صرامة المنهج التجرٌبً عرف
العلم تطورا نوعٌا ،فبات باإلمكان تمٌٌز الممارسة العلمٌة والتفسٌر العلمً عن غٌرها من أنماط التفسٌر األخرى كالالهوت والمٌتافٌزٌقا ،كما أن
قٌمة أطروحة كلود برنار تتجلى فً كونها من أبرز األطروحات التً ساهمت فً إغناء النقاش الفلسفً والعلمً حول قضٌة أساس بناء المعرفة
العلمٌة .لكنها تبقى اطروحة محدودة ،فلقد ارتكز هذا المنهج على مفاهٌم وقوانٌن مرتبطة بالواقع الحسً القابل لإلدراك والمالحظة .لكن التطور
العلمً كشف عن بعض الظواهر الدقٌقة والمعقدة انفلتت منه مما حتم مراجعة تلك القوانٌن والمفاهٌم التً ارتكزت علٌها التجربة ،واستبدالها بما
هو قادر على استٌعاب هذه الظواهر الجدٌدة ،فما الدور الذي ٌمكن أن ٌكون للعقل الرٌاضً فً بناء النظرٌة العلمٌة ؟
وٌعتبر أن بناء
ِ هنا البد من استحضار أطروحة ألبرت آٌنشتٌن A. Einsteinالذي ٌعد من أبرز المعبرٌن عن العقالنٌة العلمٌة المعاصرة ،
النظرٌة العلمٌة ٌتوقف على دور العقل .فالمعرفة العلمٌة تتكون من مفاهٌم وقوانٌن ٌنشئها العقل بما ٌملكه من قدرات ال محدودة (العقل الخالق) ،
وبالتالً فما تتوصل إلٌه التجربة ٌجب أن ٌكون بالضرورة تابعا للعقل ومنسجما مع مبادئه.
لقد أحدث ألبرت آٌنشتٌن ثورة كبرى فً مجال العلم بعدما قلب نظرة الناس إلى بعض المفاهٌم والمسلمات؛ ومعه انتقلنا من الثابت إلى المتغٌر
ومن المطلق إلى النسبً ( الزمان نسبً ومتغٌر ،المكان نسبً ومتغٌر ،الكتلة نسبٌة ومتغٌرة ) ،وهذا االنتقال كان بفضل العقل وما له من قدرات
وخصائص خالقة ومبدعة ،ولٌس بفضل التجربة التً هً محدودة وعاجزة .إن بناء النظرٌة العلمٌة وفهم الموضوعات والظواهر ،مهما كانت
دقتها ودرجة تعقٌدها ،ال ٌمكن أن ٌتم إال من خالل االعتماد على العقل ومبادئه الرٌاضٌة ،ألنه ٌتمٌز بمجموعة من الخصائص تجعل منه عقال
حرا وخالقا ،وبالتالً فان النظرٌة العلمٌة هً معرفة عقالنٌة تبنً بناء رٌاضٌا خالصا.
أما بالنسبة لالبستٌمولوجً الفرنسً غاستون باشالر G. Bachelardأحد رواد العقالنٌة المنفتحة أو المطبقة ،فهو ٌعتبر أن النظرٌة العلمٌة
تبنى بناء جدلٌا ،أي:بناء قائم ا على حوار وتكافؤ العقل النظري ( الرٌاضً) والتجرٌب المطبق (الواقعً )(،أي حوار بٌن العقل والتجربة) ،من
حٌث أن الجدل هو عالقة تكامل بٌن التجرٌب العلمً والعقالنٌة العلمٌة ،بمعنى أن النظرٌة والتجربة لٌسا نقٌضٌن فً الممارسة العلمٌة ،وإنما
متكاملٌن ومتكافئٌن ،وألن المعرفة العلمٌة ال ٌمكن أن تقوم إال ضمن تكامل هذٌن العنصرٌن ،ال ضمن تضادهماٌ ،قول باشالر" :ما أن نفكر فً
الممارسة العلمٌة حتى ندرك أن العقالنٌة والتجرٌبٌة ٌتبادالن النصائح بدون توقف"؛ فالعقالنٌة لوحدها تكون "منغلقة" و"فارغة" ،والتجرٌبٌة
لوحدها تكون "ساذجة" و"عمٌاء" .وهكذا فإن عالِم الفٌزٌاء ٌحتاج إلى ٌقٌن أن النظرٌة العلمٌة تبنى بناء مزدوجا ،ألن كل منهما (العقل
والتجربة ) ٌكون أقدر من اآلخر فً بعض األحٌان على إلقاء الضوء على االكتشافات العلمٌة الجدٌدة ،وهذه هً العقالنٌة المنفتحة أو المطبقة كما
ٌسمٌها باشالر( .فً كتبه وتحلٌالته اإلبستٌمولوجٌة)
(التركٌب) 3 :ن
نستنتج إذن ،بعد تحلٌلنا ومناقشنا لهذا الموضوع ،أن االختالف والتعدد هما السمة الغالبة على هذا النقاش الفلسفً االبستٌمولوجً ،فإذا كان هناك
من اعتبر أن النظرٌة العلمٌة تبنى بناء تجرٌبٌا مؤكدا على أهمٌة الواقع والتطبٌق فً الممارسة العلمٌة (كلود برنار ) ،فإن هناك من اعتبر أن
النظرٌة العلمٌة تبنى بناء نظرٌا مجردا ٌكون فٌه للعقل الرٌاضً الدور األساسً (ألبرت آٌنشتٌن ) ،وبٌن هذا الموقف وذاك وجدنا من ٌقول أن
النظرٌة العلمٌة تتأسس على ٌقٌن مزدوج و حوار جدلً ٌتكامل فٌه ما هو عقلً نظري مع ما هو تجرٌبً تطبٌقً (غاستون باشالر ) .وهكذا نجد
أنفسنا أمام رهان ابستٌمولوجً ٌعكس حجم النقاش العلمً التً عرفته الفلسفة عبر مراحل تطور المعرفة اإلنسانٌة ،فغاٌة المعرفة هً أن تفسر
لنا نحن البشر كٌف نفهم صمٌم العالم الذي نحٌى فٌه ونعاٌشه بحسنا المشترك ،دون إخالل بتوازنات الطبٌعة ،وهو منطلق وجوهر وجودنا العاقل
فً هذا الكون.