Professional Documents
Culture Documents
eإعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط
eإعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط
*
عفاف مسعي
**
محمد بن سباع:إشراف الدكتور
ّ
Abstract :ملخص
This study seeks to indicate the تسعى هذه الدراسة إلى ِتبيان أهمية
importance of the read Presented "قدمها "هشام جعيط ّ القراءة التي
by "Hisham Djait" about the
Prophet's biography,
ل
Wher حيث حاو،حو السيرة النبوية
ل
heattempted to present a new تقديم قراءة علمية جديدة لسيرة
scientific reading of a Prophet's نبوية مبنية على العقل باالعتماد على
biography based on the mind
relying on the Holy Quran as well القرآن الكريم وكذلك من خالل
as by relying on a range of الاعتماد على مجموعة من املناهج
scientific approaches which the
most important is the comparative العلمية أهمها املنهج التاريخي املقارن
history of religions, anthropology لألديان وألانثروبولوجيا والثقافة
and historical and philosophical ّ ّ
culture, here aches that the name of
فتوصل إلى أن ،التاريخية والفلسفية
the Prophet Muhammad since his اسم النبي محمد منذ والدته وقبل
birth and before the mission is ومحمد هو ترجمة ّ َُ
"البعثة هو "قثم ِ
"Quthum" and Muhammad is a
translation of the word لكلمة "البراكليتس" التي تطلق على
"consolatory" Which calls on the وأن محمد ّ الرجل ذو الشأن العظيم
man of great interest, and that َّ
Muhammad was for ciblyd is تم تهجيره بالقوة من مكة ولم يهاجر
َّ
placed from Mecca and did not توصل إلى أن ّ كما،هو وأتباعه بإرادتهم
emigrate he and his followers by بعثة محمد لم تكن في غار حراء حسب
their will ,He also found that the
َ
mission of Muhammad was not in ما ورد في املصادر التراثية إلاسالمية
the cave of Hira according to the تؤكد ّ
وإنما كانت في ألافق املبين كما
sources of the Islamic heritage, but َ
it was in the horizon shown as باإلضافة إلى،سورتي النجم والتكوير
confirms Surah Al-Najm and Al- ميزت ّ مجموعة من النتائج ألاخرى التي
Takwir, In addition to a set of other
142
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
القراءة العلمية للسيرة النبوية عند results that characterized the
scientific reading of the Prophet's
biography according to ‘’hicham "هشام جعيط".
Djait’’.
مقدمة:ّ
لقد حاول "هشام جعيط" من خالل مشروعه حول إعادة قراءة السيرة،
تقديم قراءة علمية جديدة لسيرة نبوية مبنية على العقل باالعتماد على
مقدسا وصحيحا كما أنه متزامن مع النبي، نصا ّ القرآن الكريم وحده باعتباره ّ
ومن خالل الاعتماد أيضا على الكثير من املعارف واملناهج العلمية أهمها
التاريخ املقارن لألديان ،باإلضافة إلى الانفتاح على أفق الثقافة التاريخية
ّ
متشبع بالثقافة التاريخية وألانثروبولوجية والفلسفية ،ف ـ "هشام جعيط"
ّ ُ َّ
والفلسفية الحديثة ،وباملقابل فقد قلل من قيمة ما كتب عن النبي ألنه جاء
ُ ّ
متأخرا زمنيا وكتب نقال عن مصادر شفوية (وذلك حوالي 051عام بعد
الهجرة).
ّ ّ ُ ّ
لعل قراءة "هشام جعيط" تعد أول دراسة جادة للسيرة النبوية في العالم
العربي وإلاسالمي –بعد دراستها والتفصيل في قضاياها من طرف
املستشرقين ،-باعتبارها محاولة من أجل الوصول إلى نتائج علمية تتعلق
بسيرة محمد ونشأة إلاسالم ،عكس تلك الدراسات التقليدية التي ترتكز على
العاطفة الدينية وال ّتتصف باملوضوعية ،فلقد ّ
تبين لـ ـ "جعيط" بأنه ال ّ
يهم
املفكر مؤمنا أو غير مؤمن وإنما املهم هو أن ّ ّ
يقدم أفكا ًرا عقلية أن يكون
بعيدة عن العاطفة ،وأن يحاول دراسة السيرة من منطلق الباحث املحايد،
وبما ّأن شخصية محمد أثرت كثيرا في تاريخ إلانسانية وال تزال تؤثر ،فإنه ال
فإن "هشام توجد شخصية أخرى تستحق الد اسة أكثر من محمد ،لذلك ّ
ر
143
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
جعيط" حاول دراسة موضوعة السيرة النبوية دراسة علمية بعدما قام ّ
بدراستها املستشرقون فقط مع ّأن دراساتهم يغلب عليها الطابع إلايديولوجي
أمثال" :تيودور نولدكه" Noldeke Theodorو"ريجيس بالشير"،Régis Blachère
"منتغمري وات" Montgomery Watt Williamوغيرهم ،...كما أن "هشام جعيط"
يهدف إلى كتابة سيرة نبوية خالية من ألاكاذيب وألاساليب ألادبية التي
كتاب السيرة في القديم أمثال "ابن إسحاق" و"الطبري" و"ابن استعملها ّ
هشام" وغيرهم .وعليه ،فإن املشكلة الرئيسة التي نطرحها في هذه الدراسة
هي :ما هي القراءة الجديدة التي قدمها "هشام جعيط" للسيرة النبوية؟ وما
أهم الاستنتاجات التي ّ
توصل إليها من خالل هاته القراءة؟
أوال :املرحلة املكية:
-1شخصية النبي:
تغير العالم تدور حولها العديد من ّإن الشخصيات العظمى في التاريخ والتي ّ
ُ
الخرافات وألاكاذيب ،وتنسج حولها أحداث ميثية من أجل تقديمها بصورة
خارقة ملا هو طبيعي ،وشخصية النبي محمد من الشخصيات التاريخية
العظيمة ،إذ أسس دينا عامليا انطالقا من وسط عربي َب َدو ّ ِي منغلق على
ُ
ذاته ،ولهذا نسجت ألاساطير والخرافات حول حياته ،ومن هنا أراد "هشام
جعيط" من خالل إعادة قراءته للسيرة النبوية بأدوات ومناهج البحث العلمي
املعاصرة أن يستقرئ املصادر التراثية ويقدم لنا شخصية محمد ألاقرب إلى
املنطق منها إلى الخرافة:
أ/اسمه ُّ
وسنه:
ينتسب النبي محمد إلى قريش وكل الشواهد تؤكد على هذا النسب ،1إذ
ينتمي إلى بني هاشم من جهة أبيه ،وإلى بني ُزهرة من جهة أمه ،أما أعمامه
فتذكرهم قصيدة موضوعة 2وهي:
اذكر ضرارا إن عددت فتى ندى والليث حمزة واذكر َّ
العباسـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا
144
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
جال والفتى َّ ّ َ ً ّ واعدد ز ً
الرآس ـ ـ ـ ــا واملقوم بع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــده والصم َحِ بيرا
الجساسـ ـ ـ ـ ــا ّ وأبا عتيبة فاذكرنه ثامن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا والقرم عبد مناف
َ
العدو الناسـا ّ ً
جحاجح ـ ـ ـ ـ ــا سادوا على رغم والقوم غيداقا ت َع ُّد
ولي ماج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًـدا أيام نارعه الهمام الكاس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا الفياض ّ والحارث َّ
يذهب "هشام جعيط" من خالل تحليله لهاته ألابيات إلى ّأن أب النبي لم
ُيذكر هنا ،بل ُيشار إليه من دون تأكد كامل ب ـ ـ "الفتى الرآسا" ،وأنه من
املستحيل أن يكون اسمه "عبد هللا" ،بل محمد هو من قام بتعويض اسم
أبيه باسم إسالمي ،كما فعل مع أسماء أصحابه الوثنية .3واملشكل نفسه
فيرجح "جعيط" أن اسم النبي َيطرحه "جعيط "بالنسبة إلى اسم النبي ذاتهّ ،
ألن تسمية "محمد" ترد إلاشارة محمدا"ّ ،
ً بعد والدته وقبل البعثة لم يكن "
إليها في القرآن أربع مرات في الفترة املدنية من نزول الوحيُ ﴿ :م َح َّم ٌد َر ُسو ُل
الر ُس ُل﴾َ ﴿ ،5ما ين َم َع ُه﴾َ ﴿ ،4و َما ُم َح َّم ٌد إ َّال َر ُسو ٌل َقد َخ َلت ِمن َقب ِل ِه ُّ الله َو َّالذ َ
ِ ِ
َّ
ِ
ُ َّ ّ َ 6 َ ُ َ ََٰ َ ُ َل َّ َ َ َ َ َ َك َ
ان ُم َح َّم ٌد أ َبا أ َح ٍد ِمن ِرج ِالكم ول ِكن رسو الل ِه وخاتم الن ِب ِيين﴾ ﴿ ،وآمنوا
َ َ َ
َ ُ
ِب َما ن ّ ِز َل َعل َٰى ُم َح َّم ٍد َو ُه َو ال َح ُّق ِمن َرِّب ِهم﴾ ،7أما اسم "أحمد" فيرد مرة واحدة
َ ّ
وفي سورة مدنية أيضاَ ﴿ :و ُم َب ِش ًرا ِب َر ُسو ٍل َيأ ِتي ِمن َبع ِدي اس ُم ُه أح َم ُد﴾ ،8ففي
هذه آلاية إشارة واضحة إلى العالقة بين إلاسالم واملسيحية ،فعبارة
املواس ي بعدي ( )consolateurفي الفرنسية ،أما "الباراكليتس" في الانجيل تعنيِ :
محمدان" وتعني ألامجد وألاشهرّ .إن عبارة "محمد" بالسريانية فتترجم بـ ـ " َّ
بالعربية تعني املحمود كثيرا ،وهي ترجمة لكلمة "الباراكليتس" اتخذها محمد
في املدينة بعد أن ارتفع مقامه ،9وهذا خالفا للتصور الشائع القائل بأن
نبي اسمه أبناءهن الذكور باسم "محمد" انتظارا لوالدة ّ ّ كن ّ
يسمين النساء َّ
محمد من العرب.10
ألن أباه كان يدعى بأن اسم النبي في الفترة املكية هو " ُق َثم"ّ ، يرى "جعيط" ّ
ُ ّ َُ
"أبا قثم" ،11حيث يقول "جعيط"« :إن من أبناء عبد املطلب من اسمه قثم
145
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
توفي في الصغر وأن أباه كان يحبه كثيرا .فمن املعقول أن نستنتج أن النبي
تلقب النبي بمحمد سمي على اسم عمه املفقود وهذا من عادات قريش ،وملا َّ
َ
أو باألحرى ّلقبه الوحي بذلكَ ،س َّمى العباس ابنا له ُبقثم ألن لقب محمد نزع
الاسم ألاصلي عن الرسول .هذا أيضا استنتاج مقبول ( )...وهكذا يكون اسم
تم انتقاده من طرف العديد من النبي أصال هو ُق َثم» ،12ولكن هذا الرأي َّ
املفكرين إلاسالميين ،إذ ذهبوا إلى أن ما قاله "جعيط" مجرد خرافة باطلة
شرعا وعقال وتاريخا ،إضافة إلى أنه ال يستند إلى دليل عقلي ومنطقي يثبت
يصح عند العلماء املسلمين ،ألنه به رأيه ،كما أن استشهاده ب ـ "البالذري" ال ّ
أسند خبرا دون إسناد يمكن التحقق من صحته أو خطئه .13ولكن على الرغم
من أن الحجج التي قدمها "جعيط" ليست كافية إلثبات فكرة لم يألفها
التاريخ إلاسالمي إال أنه ال يمكن ّاتهامه بمحاولة تزييف الحقيقة التاريخية،
ألنه ال يوجد من كان حاضرا وشاهدا على الحقيقة ،كما ّأن ما نقلته لنا
إن كل الاحتماالت واردة ويمكن الكتب التراثية لم يكن معاصرا للنبي ،ولهذا ف ّ
ألاخذ بها.
بما أن الجديد الذي جاء به "هشام جعيط" ال يتوقف عند اسم النبي ّ
بأن النبي محمد لم يولد قبل فإن "جعيط" يرى ّ بسنه كذلك ّ وإنما يتعلق ّ
سنة 581م أو حواليها أو بعدها ،وذلك ألن هجمة أبرهة على العرب وقعت
صح أن البعثة كانت سنة سنة 545م حسب النقوش ،باإلضافة إلى أنه لو َّ
البردي التي001م والهجرة إلى املدينة كانت سنة 066م حسب شهادة أوراق ُ
لدينا ،14فمن املستحيل أن يكون محمدا قد ُبعث في سن ألاربعين من عمره،
بسن كهولة ،كما ّأنألن سن ألاربعين في ذلك الزمن هو سن شيخوخة وليس ّ
ََ َ
الرقم 41هو رقم سحري عند الساميين ،15حيث جاء في القرآن﴿ :فقد ل ِبث ُت
َ ََ َ ُ َ َ ُ
ِفيكم ُع ُم ًرا ِمن قب ِل ِه أفال تع ِقلون﴾ ،16فاملقصود بالعمر هنا كما يؤكد
فإن محمد ُبعث في الثالثين من "جعيط" هو الجيل 17أي ثالثين سنة ،ولهذا ّ
146
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
عمره أو قبلها ،ولم يعش سوى خمسين سنة ونيف ،ألنه أثناء الغزوات كان
شابا قويا.
ب/زواجه وخروجه للتجارة:
تؤكد جميع املصادر التراثية على أن محمد عاش حياة الفقر والهامشية
قبل زواجه من "خديجة بنت خويلد" (08ق ه550/م3-ق ه061/م) ،وبعد
تتيسر حياته القاسية وشديدة املعاناة، أن أصبح أجيرا عند "خديجة" بدأت ّ
ً ََ
إذ يذكر القرآنَ ﴿ :و َو َج َد َك َعا ِئال فأغ َن َٰى﴾ ،18فعائل تعني فقير ،ونظرا ألمانته
وأخالقه العالية طلبت منه الزواج وهي أرملة وصاحبة ثمان وعشرين عاما
وهو في الثالثة والعشرين من عمره ،19وفي رواية أخرى هي في ألاربعين من
ويرجح "جعيط" الرواية ألاولى ألن ّ عمرها والنبي في الخامسة والعشرين،
خديجة فيما بعد أنجبت العديد من ألاوالد ،ولو كانت في ألاربعين من عمرها
لكانت عجوزا وملا أمكنها ذلك ،20ثم تغيب املعلومات حول تفاصيل حياة
خديجة مع النبي بعد زواجهما ،21وكل ما يتم ذكره هو من فعل ألاسطورة
واملخيال الديني.
ّإن أهم مرحلة في زواج محمد من خديجة هي خروجه إلى التجارة وسفره
ّ ُ
إلى الشام وربما إلى اليمن أيضا ،وهنا تطرح مشكلة تأثره باملسيحية وألاديان
ّ
ألاخرى ،ولكن النبي قبل سفره إلى الشام فقد تأثر في محيطه وبيئته ،ب ـ ـ
ّ
"ورقة بن نوفل" (القرن 0م) ابن عم "خديجة" زوجة النبي ،22وبالتالي تأثره
بأن القرآن أرقى بكثير من أن يكون تأثر باملسيحية ،ولكن "جعيط" يرى ّ
بمسيحيي مكة في تلك الفترة ،23إال ّأن ألاهم في هذا هو أن محمدا كان على
َ ُ َّ
ان ال ِذي علم باللغة ألاعجمية (السريانية مثال!!؟) ،حيث جاء في القرآنِ ﴿ :لس
ُيلح ُدو َن إ َليه َأع َجم ٌّي َو ََٰه َذا ل َس ٌ
ان َع َرِب ٌّي ُم ِب ٌين﴾24؛ أي كانت له اتصاالت ِ ِ ِ ِ ِ
وحوارات مع ألاعاجم حول الدين الجديد ،ومجادلتهم أيضا في أديانهم.
147
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
ج/تهجير محمد:
إن الهجرة حدث كبير في التاريخ إلاسالمي ،إذ قام التأريخ عليها عند
وتمت تسميته بها (التأريخ الهجري) ،25ونظرا ألهمية الحدث فقد املسلمين ّ
طرح "هشام جعيط" إزاءه عدة مشكالت أهمها :هل حصلت هجرة أم تهجير
وإخراج للنبي محمد من مكة26؟؛ أي هل هاجر محمد من مكة بمحض إرادته
تم إخراجه وتهجيره منها بالقوة؟ ،هنا "جعيط" ومن خالل تحليله ملا جاء أم ّ
في بعض آلايات املدنية التي تتحدث عن الهجرة ،رأى بأن محمدا تم تهجيره
وإخراجه بالقوة والتهديد من مكة ولم يخرج منها بإرادته ،عكس ما قالت به
خصوصا عند املؤرخين املسلمين. ً القراءات السابقة للسيرة النبوية
ّإن الدالئل التي يقدمها القرآن حول تهجير محمد وأصحابه كثيرة ،منها:
َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ َ َ ُّ ُ َّ ً ﴿ َو َك َأ ّ
اص َر
ِ ن ال ف م اه ن ك ل هأ كت جر خ أ ي تِ ال ك ت
ِ ي
ر ق ن م
ِ ةو ق د ش أ ي ه
ِ ةٍ ي
ر ق ن م ن
ِ ِ ي
َ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َّ َ ُ ُ ُ َ َ َ َ َ ُ َّ َ
ل ُهم﴾ِ ﴿ ،27إال تنصروه فقد نصره الله ِإذ أخرجه ال ِذين كفروا﴾ ،
28 ُ
َ ُ َ َ ُ ُ ُ ُ َ َ َ َّ َ ُ َّ ُ ُ َ َ َ َّ 29 ﴿ َو َأخر ُج ُ
ين قاتلوكم وهم ِمن حيث أخرجوكم﴾ ِ ﴿ ،إنما ينهاكم الله ع ِن ال ِذ ِ
َ ُ َ َ ُ ُ ُ َ َ َ َّ َ ُ ُ َ َ 30 ّ ََ َ ُ ُ
الد ِين وأخرجوكم ِمن ِدي ِاركم﴾ ﴿ ،وِإذ يمكر ِبك ال ِذين كفروا ِليث ِبتوك أو ِفي ِ
ُ َيق ُت ُلوك أو ُيخر ُجوك﴾ ﴿ ،فالذين ه َ
َ َ َّ َ َ َ َ
اج ُروا َوأخ ِر ُجوا ِمن ِد َيا ِر ِهم ﴾ ،
32
ِ
31
148
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
سادة قريش من أجل الدخول في الدين الجديد ،وهو قلق نفس ي صعب
عاشه النبي في فترة حساسة جدا من تبليغ هذا الدين الجديد آنذاك.
ولكن هذا القلق وهذه املعاناة ستكون سببا رئيسا فيما بعد في نجاح
الدعوة املحمدية ،ألنه على الرغم من هذا الطرد والتهجير ملحمد وأصحابه،
فإن إيمانه بالدين الجديد ،وقوة إرادته من أجل الرجوع إلى بلده ودخول
سيعوضانه عن كل خسائره ومحنته. ّ مكة مرة أخرى،
-2الوحي:
ّإن للوحي أهمية كبيرة في الدراسات العربية إلاسالمية بصفة عامة
وأهميته أيضا في قراءة السيرة النبوية بصفة خاصة ،حيث يعرفه صاحب
الوحي :إلاشارة والكتابة والرسالة وإلالهام والكالم الخفي "اللسان" بقولهُ « :
وكل ما ألقيته إلى غيرك» ،35والوحي" :ما أنزله هللا تعالى على أنبيائه عن طريق ّ
ُ
الرؤيا الصادقة ( )...أو إلالهام ،أو أصوات تبعث في أمكنة مختلفة ،أو جبريل
الذي كان يتمثل ملحمد صلى هللا عليه وسلم على صورة رجل" ،36وكلمة
"وحي" وردت مرات عديدة في القرآن من أجل وصف جوهر الخطاب القرآني،
املوجه من هللا إلى ّ وعالقة السيادة العليا (هللا) بالنبي محمد ،إلى إلالهام
وح َٰى﴾ 37كما ورد في ألانبياء السابقين عليه ،فالقرآن﴿ :إن ُه َو إ َّال َوح ٌي ُي َ
ِ ِ
فإن للوحي عبارات ومفاهيم أخرى ترادفه هي :التنزيل والكتاب القرآن ،ولهذا ّ
والحكمة والذكر .أما الوحي كلفظة إسالمية خالصة فتعني" :العملية التي ّ
تم
بها التبليغ إلى الرسول والتجربة الفريدة التي عاشها".38
املبسطة ملفهوم "الوحي"، ّ ينتقد "محمد أركون" النظرة ألارثوذوكسية
ِ
املنزل على محمد ،فعندما يتم الاستشهاد فالوحي بالنسبة لهم هو كالم هللا َّ
بآية من القرآن دوما يبدأها قائال« :قال هللا تعالى» وينهي كالمه بـ ـ ـ« :صدق هللا
العظيم» ،39فالوحي بالنسبة لهذه الفئة هو أمر بديهي ال يحتاج إلى بحث وال
ُ
إلى تساؤل وطرح مشكالت ،ومن هنا تم إغالق الفضاء الذي فتح للتفكير في
149
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
ُ
كالم هللا املوحى ،وأدرج في مجال املستحيل التفكير فيه .وليس ببعيد عن
موقف "محمد أركون" يرى "نصر حامد أبو زيد" أن العقل العربي قبل إلاسالم
ََ
تقبل فكرة نزول امللك من السماء إال َملا أمكنه ُّ ّ
كان على دراية بظاهرة الوحي،
ّ
بالجن، بأن العرب كانوا ّيتصلون على هيئة بشر مثله ،ويستدل على أيه هذا ّ
ر
ّ
من خالل إدراكهم لظاهرتي الشعر والكهانة .40في حين أن "الجابري" يرى
سهل مما ّ العكس ،إذ يؤكد أن العرب في الجاهلية لم يعهدوا مفهوم الوحيّ ،
على خصوم الدعوة املحمدية الدعاية ضدها وصرف الناس عنها ،41لكن
"جعيط" له رأي آخر إذ يؤكد على أنه سواء َع َرف العرب في الجاهلية الوحي
يتعرفوا عليه ،فإنه كان لهم والقرشيون بصفة خاصة مستوى عقالني أم لم ّ
بعيد عن السذاجة ،وبهذا يمكن تفسير صعوبة الدعوة في هذا الوسط
املعقلن الرافض لكل أشكال الخرافة.42
وأن لكل شاعر يتميزون بصناعة الشعر منذ القديمّ ، من املعلوم ّأن العرب َّ
تم رفض ما جاء به النبي من الجن ،وبناء عليه فقد ّ تابعه أو شيطانه أو ّ
الوحي على أساس أنه من هللا ،ووصفوه بأنه شاعر أو ساحر مجنون؛ أي أن
الجن .ويرى "جعيط" أن تكرار وصف الوحي ليس من هللا بل من الشيطان أو ّ
النبي بالجنون هو تصديق لنبوته إلى حد ما ،والجنون نقيض الافتراء؛ أي أن
والجن حسب ما ورد في ّ بكل وعي وعقالنية،43 النبي هو من أبدع القرآن ّ
القرآن تمت أسلمتهم ألنهم سمعوا القرآن وفهموه ومنهم من آمن بالوحي:
فالجن لم ّ َ ََٰ ُ َ َ
الص ِال ُحون َو ِم َّنا ُدون ذ ِل َك ك َّنا ط َرا ِئ َق ِق َد ًدا﴾ ،44وهكذا﴿ َو َأ َّنا م َّنا َّ
ِ
َ َ ُ َّ ّ
يوحوا إلى محمد ،والقرآن يشدد كثيرا على هذا ،فيؤكد أن الوحيِ ﴿ :إنه لقو ُل
َ َ َ ََ َ ُ َ
ص ِاح ُبكم ِب َمج ُنو ٍن (َ )...و َما ُه َو ِبقو ِل شيط ٍان َر ِج ٍيم﴾.45 َر ُسو ٍل ك ِر ٍيم ( )...وما
ّإن الجنون الذي ُوصف به النبي من طرف قومه ال يعني الخبال أو غياب
جنا يسكنه هو الذي يملي عليه العقل كما نعرفه آلان ،وإنما يعني ّأن له ًّ
وأن له عالقة بالقوى املاورائية الخفية ،فمحمد لم يغب عنه عقله الوحيّ ،
150
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
ألن القرآن الذي يقرؤه على قومه عقالني وحصيف إلى أبعد الحدود.46
َ
والجنون بمعنى اختالل في القوى العقلية لإلنسان ُيف ّسر بأنه مرض نفس ي أو
اضطراب يصيب إلانسان فيؤدي به إلى قول أمور ماورائية ال عالقة لها
بالواقع؛ كما الحال عند املتصوفة مثال ،وفي الجنون يوجد رابط" :بين
الالعقل ،باعتباره معنى أخير للجنون ،وبين العقالنية باعتبارها شكال
لحقيقته" ،47وهذا املعنى ال ينطبق على ألانبياء.
يرى "هشام جعيط" أن النبي كان قبل البعثة يبحث في اتجاهات عدة عن
يقدم "جعيط" قراءة جديدة للقرآن هداه إليها ،48وهنا ُّ الحقيقةّ ،
وأن هللا
مكنته من تحديد ّ ّ
تصور جديد حول ظاهرة كمصدر صحيح للسيرة النبوية
الوحي ،حيث رفض قصة غار حراء الذي نزل فيه الوحي على النبي ألول مرة
السير عن عائشة" :كان أول ما بدئ به رسول هللا صلى هللا عليه كما تذكر َّ
ََ
وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ،فكان ال يرى رؤيا إال جاءت مثل فلق
فمكث على ذلك ما شاء هللاُ ، َ
وح ّب َب إليه الخلوة فلم يكن ُّ
الصبح ،قالت:
فيتزود ملثلها حتى َفجئه ُّ
الحق وهو ّ أحب إليه منها ،وكان يخلو بغار حراء ش يء ُّ
في غار حراء" .49فعلى الرغم من ّأن القرآن يشير إلى املحطات الكبرى من حياة
النبي :صفته القرشية ُويتمه وفقره ثم غناه ،تجلي امللك أو هللا ذاته له
ُ
والتكذيب واملعاناة والهجرة وبدر وأ ُحد واملنافقون والفتح ،وغير ذلك" :إال أن
البتة إلى غار حراء وما جرى فيه حسب َّ
السير".50 القرآن ال يشير ّ
إن كتب السيرة التراثية تذكر لنا لحظتين لنزول الوحي على النبي ،ألاولى
ََ
للملك في ألافق املبين ،51وهذا حتى ال تتضارب رؤيا في غار حراء ثم رؤية ثانية
الرواية مع ما جاء في القرآن ،وبالتحديد في سورتي النجم والتكوير
بالتفصيل ،فيذكر "ابن اسحاق" الرؤيا في الغار نقال عن النبي إذ قال« :جاءني
وأنا نائم فقال :اقرأ ،فقلت :وما أقرأ؟ حتى ظننت أنه املوت ،ثم كشطه عني
فقال :اقرأ ،فقلت :وما أقرأ؟ فعاد لي بمثل ذلك ثم قال :اقرأ ،فقلت :وما
151
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
تنجيا أن يعود لي بمثل الذي صنع بي فقال﴿ :اق َرأ ِباس ِم أقرأ؟ وما أقولها إال ًّ
َّ َّ َ َ َ ّب َك َّالذي َخ َل َق َ 0خ َل َق إلان َس َ
ان ِمن َعل ٍق 6اق َرأ َو َر ُّب َك ألاك َر ُم 3ال ِذي َعل َم ِ ِ ر
52 َ َ َ َ َ َ َ ََّ ِ ََ
ِبالقل ِم 4علم ِإلانسان ما لم يعلم﴾ ثم انتهى فانصرف عني ،وهببت فكأنما
صور في قلبي كتاب»53؛ فمن خالل استقراء النص يبدو واضحا ّأن محمدا ال ّ
ُ يرفض القراءة وإنما يتساءل َّ
عما سيقرأ أو ماذا يقرأ؟ ،54وهنا تطرح مسألة
أمية النبي.
ّإن لفظ "ألامية" الوارد في القرآن يتم تأويله من طرف املفسرين املسلمين
القدامى بأنه يعني الجهل بالقراءة والكتابة ،حيث جاء في سورة ألاعراف:
َّ َ َ َّ ُ َ َّ ُ َ َّ َّ ُ
ألا ّم َّي َّالذي َيج ُد َون ُه َمك ُت ًوبا عن َد ُهم في َّ
التو َر ِاة ِ ِ ِ ِ ِ ﴿ال ِذين يت ِبعون الرسول الن ِبي
َّ ّ ُ ّ ّ 55 َّ َ
َو ِإلان ِج ِيل ( )...ف ِآم ُنوا ِبالل ِه َو َر ُس ِول ِه الن ِب ِي ألا ِم ِي﴾ ،فكلمة "أمي" تعني نقيض
"أهل الكتاب" وال تعني الجهل ،فالكلمة ليست عكس القادرين على الكتابة،
وإنما عكس من يعرفون الكتاب املقدس (العرب) ، 56ويرى "جعيط" أنه من
أميون يجهلون القراءة والكتابة ،ألنهم كانوا املستحيل أن يكون كل العرب ُّ
تجارا والكتابة كانت عندهم من شروط الرجل الكامل ،حيث يقول: قوما َّ
«"النبي ألامي" يعني النبي املبعوث من غير بني اسرائيل ،وهو حدث استثنائي
في التقليد التوحيدي السامي ( )...ولكلمة "أمي" و"أميين" مقابل بالعبرية ،وهي
"أمم ُعالم" ،أي أمم العاملين من غير بني اسرائيل» ،57ولكن "جعيط" يتردد في
يتيما خالفا تربى ً محمدا ال يعرف القراءة ألنه َّ ً رأيه هذا وال يستبعد أن يكون
ألبناء ألارستقراطية القرشية ،كما ّأن القرآن لم يكن مكتوبا بل شفويا
يحفظه في قلبه ،إذ يقول في تفسيره لآلية ألاولى من سورة العلق« :واملقصود
ََ َّ
في الحقيقة باآلية ﴿اق َرأ ِباس ِم َرِّب َك ال ِذي خل َق﴾ 58هو التبشير الشفوي بما
سيكون القرآن وتالوته على الغير وتبليغه .فالقراءة ليست بقراءة نص مكتوب
وبتالوة في الخلوة ،وإنما استخراج الوحي من القلب وقراءته بالصوت باسم
هللا ،أي نيابة عن هللا» ،59فالقرآن أتى من قلب الوحي والضمير ،إال أن الرأي
152
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
الذي يرجحه "جعيط" أكثر هو أن النبي كان ُيحسن القراءة والكتابة نظرا
للزمن والوسط الذي عاش فيه ،كما أنه كان يتمتع بالذكاء والنبوغ
والعبقرية ،وهنا ينتقد بعض املستشرقين الذين ينسبون القرآن إلى النبي.60
وعودة إلى رفض "هشام جعيط" لقصة غار حراء ،فهو يؤكد بأنها ُمختلقة
َ
ألن سورتي النجم والتكوير ترد فيهما لحظة من طرف ُك َّتاب السيرة القدامىّ ،
ّ ُ ّ
النبي تنعت بـ ـ التجلي بكل دقة ووضوح ،إذ ّأن" :الشخصية املاورائية التي رآها
ّ ُ َّ
يؤوله ك َّتاب «ذي القوة» و«شديد القوى»" ،61علمه ثم َّلقنه الوحي ،وهو ما
السيرة على أنه حدثان متتاليان ،ولكنه في الحقيقة حدث واحد لنزول الوحي
على النبي محمد.
َإن سورة التكوير نزلت قبل سورة النجم حسب الترقيم التاريخي
الاستشراقي للسور القرآنية ،والسورتان تعودان إلى الحدث نفسه ،حيث جاء
ُ َ ََ ّ
في سورة التكوير ما يصف لحظة التجلي﴿ :إ َّن ُه لقو ُل َر ُسو ٍل ك ِر ٍيم ِ 01ذي ق َّو ٍة
ََ ََ َ ُ َ َ َ
ص ِاح ُبكم ِب َمج ُنو ٍن َ 66ولقد ِعن َد ِذي ال َعر ِش َم ِك ٍين ُ 61مط ٍاع ث َّم أ ِم ٍين 60وما
َ َ َ األ ُفق املُبين َ 63و َما ُه َو َع َلى ال َغيب ب َ َ ُ ُ
ض ِن ٍين َ 64و َما ُه َو ِبقو ِل شيط ٍان ِ ِ رآه ِب ِ ِ ِ
َر ِج ٍيم 62﴾65؛ فالوحي هو قول بالكالم وليس كتابا كما ذكر "ابن اسحاق" ،
63
املرسل وهو "الرسول الكريم" أي جبريل ،ولكن جبريل كإسم وح َّدد لنا أيضا َ َ
واملرسل أيضا وهو هللا؛ ِ ظهر في الفترة املدنية وليس في مكة وفي بداية الوحي،
إذ أن الوحي ليس من الشيطان بل هو من هللا وهو حقيقي وليس شعرا قاله
النبي ،كما ّأن املقطع املهم في سورة التكوير ،يشير إلى املكان الذي نزل فيه
فصله أكثر سورة ست ّ الوحي للمرة ألاولى على النبي ،وهو ألافق املبين ،الذي ُ
ألي إشارة إلى حراء. النجم عند نزولها فيما بعد ،وبالتالي فال وجود ّ
وتوضح ما كان غامضا في سورة التكوير ،إذ ّ ثم تأتي سورة النجم ّ
لتبين
َ َ َ َّ َ ُ َ جاء فيهاَ ﴿ :و َّ
ص ِاح ُبكم َو َما غ َوى َ 6و َما َين ِط ُق َع ِن النج ِم ِإذا َه َوى 0ما ضل
َ ُ َّ َ
وحى َ 4عل َم ُه ش ِد ُيد ال ُق َوى 5ذو ِم َّر ٍة فاس َت َوى َ 0و ُه َو ال َه َوى 3إن ُه َو إ َّال َوح ٌي ُي َ
ِ ِ
153
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
َ ََ َ َ َ ََ َ َ َ َ ُ َ َ َّ ُُ َ َ
اب قو َسي ِن أو أدنى 1فأو َحى ِإلى َعب ِد ِه ِباألف ِق ألاعلى 5ث َّم َدنا ف َت َدلى 8فكان ق
ََ َ َ ََ َ َ َ َ َ
َما أو َحى َ 01ما كذ َب ال ُفؤ ُاد َما َرأى 00أف ُت َم ُارون ُه َعلى َما َي َرى َ 06ولقد َر ُآه
ّ َ
السد َرة ى ش
َ َ
غ ي ذ إ 05 ى وَن َزل ًة ُأخ َرى 03عن َد سد َرة املُن َت َهى 04عن َد َها َج َّن ُة املَأ َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
َ َّ ُ َ َ ََ َ َ َ َ َُ ََ َ َ َ َ
َ َما يغش ى 00ما زاغ البصر وما طغى 05لقد رأى ِمن آي ِ
64
ات رِب ِه الكبرى ، ﴾08
ّ
وهنا يؤكد "هشام جعيط" ّأن النبي رأى لحظة التجلي بالبصر وليس عن
طريق الرؤيا في املنام ،إذ كان في كامل قواه العقلية وليس في الخيال.65
ّ
ّإن الفترة ألاولى للتجلي وانطالق الوحي كما توضحه لنا سورتي التكوير
والنجم ،مليئة بالغموض ،إذ ّأن املفسرين أنفسهم احتاروا في كيفية تفسير
الضمائر الكثيرة الواردة في بعض آلايات وعلى من تعود ،فاهلل أوحى إلى محمد
يحدثه مباشرة ،ويرى "جعيط" بأنه من املستحيل أن عن طريق جبريل ولم ّ
ّ
يكون النبي قد اتصل باهلل مباشرة ،وإنما عن طريق َج ْب َر-إيل؛ أي قوى هللا
بالعبرية ،ولذا يصفه القرآن ب ـ ـ «ذي القوة» و«شديد القوة» ،66كما ّأن النبي
ّ
لحظة التجلي كان في حالة نفسية هادئة ولم يتصارع قد مع الشخص
تدل عليه آلايات التي تكشف لنا املاورائي الذي أنزل عليه الوحي ،وهذا ما ُّ
عن لحظة نزول الوحي .وعند الاسترسال في قراءة سورة النجم ،هناك مسألة
ُ
تطرح علينا وبإلحاح ،هي مشكلة "آلايات الشيطانية" التي نزلت ضمن هاته
السورة ،وقصة آلايات الشيطانية كما يسميها املستشرقون ،أو قصة
الغرانيق معناها ّأن" :الشيطان ،حسب التقليد ،ألقى على لسان النبي آيتين
ف ي مدح آلهة قريش أو أن النبي ،حسب الاستشراق ،عن دبلوماسية وإعراضا
يتقرب من قريش .وحصل فيما بعد فسخ عن أفكاره في التوحيد ،أراد أن ّ
لهذه آلايات ورجوع إلى التوحيد الصارم"ّ .67إن هذه القصة تذكرها املصادر
التراثية ،68ولكن "هشام جعيط" يرفضها خالفا للمستشرقين 69الذين
ُ
واحتفوا بها. صدقوها ّ
154
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
ّ ّ
اشتد إعراض وعداوة القوم للنبي محمد ،نزلت سورة النجم ،وتالها ملا
َّ ََ َ
عليهم وهم مجتمعين إلى أن وصل إلى آلايتين﴿ :أف َرأي ُت ُم الال َت َوال ُع َّزى 01
َ َّ َ َ ُ
َو َم َناة الث ِالثة ألاخ َرى ،70﴾61وفي املصحف الذي بين أيدينا يتم إكمال النص
َ ُ ُ َّ َ َ ُ
الذك ُر َول ُه ألان َثى ِ 60تل َك ِإ ًذا ِقس َم ٌة ِض َيزى القرآني على هذا النحو﴿ :لكم
ّ ّ ُ
71﴾66إلى آخر السورة ،أما قصة الغرانيق فتحدثنا عن أن النبي ملا وصل
َ َّ َ َ ُ
إلىَ ...﴿ :و َم َناة الث ِالثة ألاخ َرى﴾ ألقى الشيطان على لسانه آيتين هما« :تلك
رجى» بدل آلاية ،60وواصل إلى نهاية السورة فاع َت ُه َّن ُلت َ
وإن َش َ العالَّ ،
الغرانيق ُ
فسجد النبي وسجدت معه قريش ،72إال أنه بعد نزول جبريل على النبي
واشتد غضبهم وعدوانهم عليه، ّ وتصحيحه لآليات ،انقلب القرشيون عليه
سب آلهتهم ،وهنا هاجر أتباع النبي إلى املدينة. ألنه َّ
َ
ّإن املفسرين حين يوردون هذه القصة يستدلون عليها باآليةَ ﴿ :و َما أر َسل َنا
َّ َ َّ َ ُ ُ َ َ َّ َ َ َ َ َ
ان ِفي أم ِن َّي ِت ِه ف َين َس ُخ الل ُه ِمن قب ِل َك ِمن َر ُسو ٍل َوال ن ِب ّ ٍي ِإال ِإذا ت َم َّنى ألقى الشيط
يم َح ِك ٌ الل ُه َع ِل ٌَّ َ ُ ُ َّ ُ ُ َّ ُ َ َ َّ
يم﴾ ،73كما يستشهد َما ُيل ِقي الشيطان ثم يح ِكم الله آيا ِت ِه و
َ َ َ َّ َ َ َ َ
بآيات أخرى هيَ ﴿ :وِإن ك ُادوا ل َيف ِت ُنون َك َع ِن ال ِذي أو َحي َنا ِإلي َك ِل َتفت ِر َي َعلي َنا
َ َ َ َ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ ُ َ ً َ َّ َ ُ َ َ ً
اك لقد ِكد َت ترك ُن ِإلي ِهم شي ًئا وك خ ِليال 53ولوال أن ثبتن غيره وِإذا التخذ
َ َ َ
ات ث َّم ال ت ِج ُد ل َك َعلي َنا
َ َ ََ ُ َ َ َ ً َََ َ َ َ ً
ق ِليال ِ 54إذا ألذقناك ِضعف الح َي ِاة و ِضعف املم ِ
َ
ن ِص ًيرا .74﴾55
ُ
تؤيد القصة كثيرا ستشهد بها ّ َ يرى "جعيط" أنه على الرغم من ّأن آلايات امل
وتجعلها تبدو منطقية في ظاهرها ،إال ّأن إخضاعها للنقد التاريخي الحصيف
يجعلها غير مقبولة في خطوطها العريضة كما في تفاصيلها ،ويورد مجموعة
من الحجج التي يبرهن بها عن رأيه هي:
َّ ُ العالَّ ، آلايتان املنحولتان« :تلك الغرانيق ُ
شفاعتهن لترجى» أسلوبهما وإن
ركيك ،ومن املستحيل أن يكون القرآن عاجزا عن وصف آلالهة بنوع من
155
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
وأن لفظة الشفاعة ليس لها معنى ألناس ال يؤمنون أنواع الطيور (الغرانيق)ّ ،
بالحساب.
املفسرون كشاهد على الرواية ،هي آية مدنية وتشير ّ آلاية التي يعتمد عليها
َ ّ
بوضوح إلى املنافقين واليهود وليس إلى القرشيين ،كما أن آلايات املستشهد
بها تريد عرض فكرة غواية الشيطان للنبيُ ،لت َب ّين ّأن الشك قد يعتري حتى
النفوس الكبيرة.
يرفض "جعيط" أن يكون القرشيون قد سجدوا مع النبي بعد تالوة سورة
ألن سورة النجم لم تنزل دفعة واحدة ،بل هي مركبة من النجم عليهم ،وذلك ّ
مجموعة مقاطعً ،75
تبعا للوزن والقافية واملوضوع.
ّ إن أهم برهان على عدم صحة قصة الغرانيق هو التناقضات املوجودة بين
الروايات ،حول سبب تهجير محمد من مكة ووقوع الفتنة ألاولى ،فما تذكره
السيرة ش يء ،وما نجده في رسالة عروة بن الزبير إلى عبد امللك ش يء آخر.76
ّ إن سورة النجم هي السبب في النزاع مع أهل قريش ألنها ُ
تس ُّب آلهتهم بصفة
واضحة ،كما ّأن السورتين اللتين نزلتا بعدها يؤكدان القطيعة مع دين
قريش نهائيا 77وهما سورتا إلاخالص والكافرون.
فإن "جعيط" يرفض قصة الغرانيق أو آلايات الشيطانية بالحجة وهكذا ّ
املنطقية والبرهان العقلي املقنع.
َو َر َد في القرآن ّأن الوحي ثالثة مستويات حددتها آلاية القرآنية على النحو
َ َ ََ َ َ َ َ َ َ َ ُ َ ّ َ ُ َّ ُ َّ َ ً َ
اب أو ُير ِس َلالتالي﴿ :وما كان ِلبش ٍر أن يك ِلمه الله ِإال وحيا أو ِمن ور ِاء ِحج ٍ
َ
وح َي ِب ِإذ ِن ِه َما َيش ُاء﴾ 78هي: ُ ً َُ
َرسوال في ِ
َ ُ َ ّ
-0الوحي (إلالهام) :سواء تعلق ألامر بالجمادَ ﴿ :وأو َحى ِفي ك ِ ّل َس َم ٍاء أم َر َها﴾،79
َّ َ َ َ َ ُّ َ َ َّ َ
النح ِل أ ِن َّات ِخ ِذي ِم َن ال ِج َب ِال ُب ُي ًوتا َو ِم َن الش َج ِر أو بالحيوان﴿ :وأوحى ربك ِإلى
َ َ ُ َ َ
َوم َّما َيعر ُشو َن﴾ ،80أو باإلنسانَ ﴿ :وأو َحي َنا إلى أ ّم ُم َ
وس ى أن أر ِض ِع ِيه﴾.81 ِ ِ ِ ِ
156
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
َ َ َّ َ َّ ُ ُ َ َ
وس ى تك ِل ًيما﴾ ،82وهذا النوع عرفه -6الكالم من وراء حجاب﴿ :وكلم الله م
اليهود وعرب ما قبل إلاسالم ،ويدخل في إطار السحر والكهانة والعرافة.83
-3عن طريق جبريل :الذي ينقل كالم هللا إلى النبي ،84وحتى جبريل كان يأتي
للنبي على أشكال مختلفة ،كما تذكر لنا املصادر التراثية ،ومن بين هاته
ألاشكال الرؤيا في املنام ،وبالنسبة للنبي محمد فهي رؤيا صادقة؛ أي "املعبرة
الرؤ َياالل ُه َر ُس َول ُه ُّ
َّ َ َ َ َ َ 85
عن الواقع والحقيقة بدون تزييف وترميز" ﴿لقد صدق
عبر عنه القرآن بـ ـ ـ: بال َح ّق﴾ ،86وترد الرؤيا كمقابل للمنام العادي أو ما ّ
ِ ِ
87 َ َ ُ َ َ
﴿أضغاث أحال ٍم﴾ .
ثانيا :املرحلة املدنية ،أو الانتصار السياس ي للنبي:
-1استقبال محمد في املدينة:
عد املنعطف املديني ودخول محمد إلى املدينة بعد تهجيره من مكة بلده ُي ّ
سي ِقيم فيها ألاصلي ،مرحلة هامة وحاسمة في تاريخ الدين الجديد ،حيث ُ
نمو الدين النبي على مدى عشر سنوات إلى غاية وفاته ،وفيها َس َيك َتمل ّ
ِ
الجديد ويمتد إلى غرب الجزيرة العربية ،فهذا النجاح الباهر انطلق من هنا؛
من املدينة ،إذ حدث انقالب تام لألمور ،وفشل مكة تحول إلى نجاح.
لقد ورد اسم "املدينة" في القرآن أربعة عشر مرة ،88وتسمية "قرية"
مذكورة في القرآن أكثر من كلمة املدينة ،89وهي تدل أيضا على مفهوم
فإن "هشام جعيط" يذهب إلى ّأن املدينة كانت تعني" :املركز، املدينة ،ولهذا ّ
هناك حيث أقام النبي ،وحيث أقام مسجده ،مكانا للصالة واملناقشات
ُ ً
والقرارات ( )...ما كان ُمحاطا باألسوار والقلع"90؛ وسواء كانت تدعى املدينة أو
تدل على مكان إقامة النبي واملهاجرين معه من مكة. يثرب ،فهي ّ
تتميز املدينة عن مكة في كل ش يء تقريبا ،فمكة ذات رقعة صغيرة غير ّ
صالحة للزرع وجافة موحدة دينيا وغنية جدا ،لها العديد من املراكز
السياسة والدينية :الكعبة ودار الندوة ونوادي العشائر وغيرها ،أما املدينة
157
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
فعلى العكس تماما ،فهي عبارة عن واحة رقعتها كبيرة جدا تفيض باملاء
وغنية باملحاصيل الزراعية ،ولكنها أقل غنى من مكة ،فيها العديد من
الجماعات الدينية إال أنها تفتقد للمراكز السياسية والدينية ،91وبهذه
الطريقة كانت الحياة الاقتصادية في املدينة تعتمد على الزراعة فقط.92
لقد كانت املدينة مكونة من ثالث مجموعات كبرى هي :ألاوس ،والخزرج،
واليهود ،املجموعتين ألاولى والثانية كانتا وثنيتين وذات أصل وهوية عربية
خالصة ،أما اليهود فيتبعون الدين اليهودي القائم على التوحيد وأصلهم غير
عربي ،فأهل املدينة كانوا مفككين منذ وقعة ُبعاث ،ألن القبيلتين الكبيرتين
ألاوس والخزرج كانتا على خالف دائم ،وبما ّأن الخزرج كانوا أكثر عددا ّ
فإن
ألاوس استنجدوا باليهود وربحوا املعركة.
في هذه الظروف الاقتصادية العادية والاجتماعية املمزقة/الهادئةّ ،
تم
استقبال محمد وأتباعه في املدينة ،حيث يقول "جعيط"« :إن شئنا فهم عمل
ّ
محمد ،ينبغي أال ننس ى ّأن املدينة كانت فيما يختص بالعرب ،قابلة ألن
تتوحد؛ لكنها ظلت متنافرة بيهودها ،كما كانت مطبوعة بخمسين سنة من ّ
أعمال العنف والنزاعات»93؛ أي ّأن محمد هو من سيقوم بالتأليف بين
الفرقة والحروب املتوالية ،94حتى دمرتهم ُ قلوب وعقول أهل املدينة الذين ّ
يؤمن أهل املدينة بدين محمد الجديد ،وفي هذا قال "جعيط"َّ « :إن محمدا
لكن هذاجوا من التسالمَّ ، عي إلى إلاقامة في يثرب لكي ُيشيع بين الجماعات ًّ ُد ّ
ثم بالرابط ممكنا من دون الترحيب بمطلب إلايمان وبرسالته ،ومن ّ ً ليس
ّ 95 ُ
الديني ،من جانب أولئك الباحثين عن دعاة للوئام» ،ومن هنا فإن محمدا
كان بمثابة املحافظ أو الحاكم الوسيط بين أهل املدينة ،بهدف إرساء السلم
وألامن .وهنا تحديدا يخالف "هشام جعيط" الكثير من قراءات السيرة النبوية
حبا فيه وإنما ألنهم السابقة تبين لنا ّأن أهل املدينة لم يدخلوا في إلاسالم ًّ
وجدوا في محمد الشخص الذي يساعدهم على تحقيق السلم بينهم.
158
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
وهكذا نالحظ بداية التطور التدريجي للدين الجديد ،من خالل ربطه
بالسياس ي ،حيث يصبح للنبي عملين ،ألاول هو تبليغ الرسالة ،والعمل الثاني
له عالقة بمحمد البشر 96وهو محاولة إنشاء دولة يقودها محمد وفق نظام
سيفرضه على أتباعه من املؤمنين.
-2دستور املدينة (الصحيفة):
ّ
تمثل "صحيفة املدينة" ّأول عمل سياس ي رسمي للنبي محمد في يثرب،
حيث قامت على إرساء مفاهيم حقوقية جديدة ذات أهمية كبيرة ،وهذا من
أجل تنظيم ألامة إلاسالمية الناشئة حديثا ،وكذا تنظيم عالقتها مع اليهود
الذين يخالفونها في الدين ،ومن بقي من عرب ألاوس غير املؤمنين بالدين
الجديد ،حيث يقسمها "هشام جعيط" إلى قسمين كبيرين ،97وفي هذا ينتقد
بأن النبي جعل"منتغمري وات" الذي فهم عبا ة "أمة مع املؤمنين" أنها تعني ّ
ر
اليهود أمة واحدة بالتشارك مع املسلمين ،إال أن ألاصح هو ّأن اليهود بدينهم
ّ
يشكلون أمه مماثلة ألمة املؤمنين.98
ّ
ّإن أهمية الصحيفة باعتبارها دستورا منظما للمدينة ،استطاعت تغير
غيرت العديد من املفاهيم، العديد من ألامور ّ
السيئة السائدة في املدينة ،كما ّ
تم إلغاء كل الثارات التي تتصل باملعارك السابقة مثل مفهوم الثأر ،حيث ّ
بين ألاوس والخزرج ،إذ أصبحوا أمة واحدة بفضل الدين الجديد ،فال يمكن
ملؤمن أن يثأر لرجل بقيت عشيرته على الكفر ،99وهذا من أجل ضمان ألامن
الجماعي لألمة الجديدة.
يهتم القسم ألاول من الصحيفة بتعريف مفهوم ألامة وهي فكرة أساسية
جدا ،وكلمة "أمة" ترد في العديد من آلايات القرآنية بمعاني مختلفة،100
وتعني هذه اللفظة :مجموعة من ألافراد ،يشعرون أنهم متحدين تربطهم
معا ،101يربط بين صالت مادية ومعنوية وتجمع بينهم الرغبة في العيش ً
أفرادها إما الجنس ،أو اللغة والدين والتاريخ واملصالح املشتركة ،أما لفظ
159
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
عبر عن ذلك الكيان "ألامة" باملعنى الذي تحمله وثيقة صحيفة املدينة فهي ُت ّ
الاجتماعي السياس ي القائم على وحدة الدين (املؤمنون) مقابل ألامم ألاخرى:
يدل على التجمعات املتراصة اليهود واملشركين من العرب؛ أي أنه لفظ ّ
بالرباط الديني.102
فإن النبي أعلن أمة جديدة وسط ألامم القائمة آنذاك ،أمة ومن هنا ّ
عربية مؤمنة بالدين إلاسالمي وقائدها نبي عربي ،ولكن ليس بتلك السهولة
ألن محمدا في بداية هجرته إلى املدينة القى التي ُتصورها لنا املصادر التراثيةّ ،
صعوبات كبيرة إلقناع أهلها برسالته ،كما أنه بداية ألامر لم يتبعه إال نفر
قليل جدا ،في حين وجد معارضة من طرف القبائل واليهود ،مما اضطر
محمد إلى تنظيم العالقات مع املعارضين وخاصة اليهود (الطائفة اليهودية)
في القسم ألاول من صحيفة املدينة ،فهو يعترف بوجودهم ًّ
دينيا وهو ما
توضحه املواد 30-64من الصحيفة.103
ُ ُ
أما القسم الثاني من الصحيفة فكتب بين معركتي بدر وأحد ،أثناء بداية
التعمق السياس ي لعمل النبي ،حيث يتحدث عن ضرورة دفع النفقات من
طرف اليهود ،كما يدعوهم إلى ضرورة الدفاع عن املدينة مثل املؤمنين ،ألن
ّ
تخص كل الحرب هنا سياسية وليست لها عالقة بالدين الجديد فقط ،فهي
أهل املدينة على اختالف طوائفهم.
-3العمل السياس ي ملحمد ونجاح الدين الجديد:
يواصل "هشام جعيط" تحليله للمرحلة املدنية من عمر السيرة النبوية،
تحوال في موقفه من الكتب التراثية التي أصبح يعتبرها حيث الحظنا ّ
صحيحة ،حيث يقول« :هنا أيضا تأتي املصادر ملساعدتي ،ليس بتأويالتها ،بل
بمعلوماتها الخام ،وهي صحيحة ،يجب البدء بعرضها للوقائع ،املقرون
بشروحاتها»104؛ أي ّأن "جعيط" على الرغم من تحليله الجيد للمصادر،
واعتماده املباشر على القرآن ،فهو ال يطرح تلك ألاسئلة الكبرى فيما يخص
160
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
العمل الحربي للنبي ،إلى غاية انتصار الدين الجديد ،ألن السرد التاريخي ال
يهمنا أبدا ،ولهذا سنتحدث فقط على ألامور الهامة ،والخطوط الكبرى التي
جاء فيها "جعيط" بآراء وتحليالت جديدة فيما يخص هاته املرحلة.
ّإن التطور السياس ي للنبي بدأ منذ العام الثاني للهجرة إلى املدينة ،وتعميق
تم تغيير ِقبلة الصالة من القدس إلى الكعبة، الدين الجديد أيضا ،حيث َّ
وهذا حدث عميق جدا ،إذ يعلن عن امتداد الدين الجديد إلى إلابراهيمية،
ألنه يعترف بدين اليهود ونبوة موس ى ،ولكن اليهود استمروا على عنادهم ولم
ّ
الترغيبية إزاءهم.105 يعترفوا بنبوته وال بدينه ،على الرغم من كل املحاوالت
وبما ّأن الدين الجديد أعلن عن تغيير القبلة إلى الكعبة ،فهو إعالن عن
املطالبة بالبيت املوجود عند أهل مكة ،وهنا بداية الحرب مع قريش من أجل
استعادة املكان املقدس ،وبعد أكثر من عشر سنوات من الدعوة بالكلمة،106
ً ّ
تحول إلى الدعوة بالعنف والحرب ،وأول واقعة هي بدر باعتبارها حادثا
حاسما في تاريخ الدين إلاسالمي ،وهذا بعد أن قام هو وأتباعه بسلب ً
القوافل املكية القادمة من الشام ،من أجل قطع خطوط تجارة قريش ،وهي
خطة منهجية من طرف محمد ،وكانت السبب في غزوة بدر ،التي يخصص
لها القرآن سورة كاملة ،107حيث أطاح فيها محمد بكبار قريش ،108كما نال
غنيمة كبرى كذلك.
هنا بالضبط ينتقد "جعيط" املصادر التراثية ،ويصف ّأن ما تنقله مبالغ
تمجد الروايات بعض ألابطال املسلمين سواء في فيه جدا ،حيث قالّ « :
صفوف املهاجرين أو في عداد ألانصار ( ،)...هذه أسطرة خالصة ذات تأثيرات
علي منذ العصر العباس ي.فعالة في العقول لجهة ما قيل عن ّ صارت حقيقيةّ ،
ذلك ّأن ابن اسحاق رغب في إرضاء صريح للخلفاء العباسيين».109
بعد بدر حاول محمد الاستفادة من هالة النصر على القرشيينّ ،
فتم أوال
تم إعدام العديد من اخراج "بني َق ُينقاع" من املدينة ،110وفي آلان نفسه ّ
161
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
تم إعدام "كعب بن ألاشرف" (ت 064م) من العناصر املؤيدة لليهود ،حيث ّ
قبيلة بني النضير اليهودية ،ألنه قام برثاء السادة القرشيين الذين ماتوا في
ُ
بدر ،وكذلك أعدمت "العصماء بنت مروان" (ت 064م)؛ بسبب القصيدة
التي َهجت بها النبي ،وأيضا بسبب منع عشيرتها من اعتناق إلاسالم نظرا
لسلطتها العالية عليها.
قاسيا جدا على محمد ،حيث أنفقت ماال وفيرا ًّ لقد كان رد القرشيين
ُ
على حملة الثأر ملن قتل ببدر ،فألحقوا بالنبي خسارة كبيرة جدا في غزوة
أحد ،ولوال الصدفة ملات محمد وكل تابعيه ،ويرى "جعيط" أن الحرب كانت
ستنتهي بهذه الطريقة حتى ولو بقي الجنود في أماكنهم 111حيث أمرهم النبي،
ألن القوى غير متكافئة من البداية ،إضافة إلى أن أهل املدينة ليسوا
موحدين خلف النبي كما الحال بالنسبة لقريش ،كما ّأن هدفهم هو الغنائم ّ
وليس العمل الحربي لكن رغم هذه الهزيمة إال ّأن النبي واصل حروبه ضد
ويتعمق أكثر ،وبفضل الحماس ّ قريش وفي الوقت نفسه ّ
يتطور الدين الجديد
الديني ألصحاب النبي استطاع النجاح دينيا وسياسيا ،وفرض نفسه ودينه
في كامل الجزيرة العربية.
قدمها "هشام جعيط" للسيرة النبوية جعلته ّ
يتعرض ّإن هذه القراءة التي ّ
ألن قراءته الجديدة ال تتفق للنقد من طرف أتباع التيار السلفي إلاسالميّ ،
مع ما جاء في الكتب التراثية القديمة ،إضافة إلى انتقاده من طرف بعض
ّ
املستشرقين مثل "جاكلين شابي" )0143( Jacqueline Chabbiالتي أكدت أنه
من املستحيل كتابة سيرة تاريخية للنبي محمد ،ألن املوارد املادية قليلة ،وفي
شك كبير في املصادر التاريخية، القرآن توجد إشا ات فقط ،كما أنه يوجد ّ
ر
أمرا شبه مستحيل. والتي لم ُتكتب في عهد النبي ،جعلت من التأريخ للسيرة ً
162
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
خاتمة:
يتبين لنا ّأن القراءة الجديدة للسيرة النبوية عند من خالل كل ما سبق ّ
ّ
"هشام جعيط" تتمثل في تطبيقه ملجموعة من املناهج املعاصرة في حقل
العلوم إلانسانية والعلوم الاجتماعية على التاريخ العربي إلاسالمي وبالتحديد
وأهم منهج استخدمه هو منهج ألانثروبولوجيا التاريخية على السيرة النبويةّ ،
من خالل تطبيقه على الفترة التي عاش فيها النبي محمد ،باإلضافة إلى
تطبيقه للمنهج الفينومينولوجي على ظاهرة الوحي التي ّ
تميز بها النبي محمد
ألن القرآن الذي اعتمده "جعيط" كمرجع رئيس ي لقراءة السيرة النبوية ينبغي ّ
قراءته في الظاهر كما توحي به آلايات وال ينبغي الدخول في صراع التأويالت
الذي يبعدنا عن معناه الحقيقي.
لقد انتهى "هشام جعيط" إلى مجموعة من النتائج من خالل تحليله لحياة
ّ
ً
محمدا ،بل كان النبي ،حيث أكد ّأن اسمه منذ والدته وقبل البعثة لم يكن
ُ
ق ًثما ومحمد لقب وليس اسم وهو ترجمة لكلمة "البراكليتس" التي تطلق على
وأن ِس ُّنه أثناء البعثة كان ثالثين سنة وليس الرجل ذو الشأن العظيمّ ،
تم تهجيره بالقوة من مكة ولم يهاجر أربعين ،إضافة إلى استنتاجه ّأن محمد ّ
توصل إلى ّأن ِبعثة محمد لم تكن في غار حراء هو وأتباعه بإرادتهم ،كما ّ
حسب ما ورد في املصادر التراثية إلاسالمية ،وإنما كانت في ألافق املبين كما
وأن النبي محمد لم يكن يجهل تؤكد سورتي النجم والتكوير بالتفصيلّ ،
القراءة والكتابة كما يذكر املفسرين ألن كلمة " ّأمي" في القرآن تعني ألامة التي
ليس فيها نبي وليس معناها الجهل بالقراءة والكتابة.
ّ
إنه وبعد تهجير محمد إلى املدينة من طرف القرشيين القى صعوبات كبيرة
من أجل التأليف بين عقول وقلوب عرب املدينة من أوس وخزرج ،بعد أن
دمرتهم الحروب لسنوات طويلة ،لكنه بفضل الدين الجديد استطاع أن ّ
يجعلهم أمة واحدة ،ومن خالل التحول إلى الدعوة بالحرب والغزوات
163
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
استطاع فتح مكة وفرض الدين إلاسالمي في كامل الجزيرة العربية ،ولهذا
ُ
فإن النبي محمد رجل كارزمي ،بفضل السياسة املحكمة وإيمانه الشديد
برسالته.
164
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
الهوامش:
165
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
166
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
الرسالة بإشراف :محمد نعيم العرقسوس ي ،مؤسسة الرسالة ودار الريان للتراث،
ط ،8بيروت ،6115 ،ص .0346
31محمد أركون ،القرآن (من التفسير املوروث إلى تحليل الخطاب الديني) ،تر :هاشم
صالح ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،ط ،6بيروت ،6115 ،ص .05
36املوسوعة العربية امليسرة ،مج ،15شركة أبناء شريف ألانصاري للطباعة والنشر
والتوزيع ،ط ،3بيروت ،6111 ،ص .3553
37سورة النجم ،آلاية .14
38هشام جعيط ،الوحي والقرآن والنبوة ،ص .08
39محمد أركون ،القرآن (من التفسير املوروث إلى تحليل الخطاب الديني) ،تر :هاشم
صالح ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،ط ،6بيروت ،6115 ،ص .05
40نصر حامد أبو زيد ،مفهوم النص (دراسة في علوم القرآن) ،املركز الثقافي العربي
ومؤسسة مؤمنون بال حدود ،ط ،0الدار البيضاء ،6104 ،ص .34
41محمد عابد الجابري ،مدخل إلى القرآن الكريم :في التعريف بالقرآن ،مركز دراسات
الوحدة العربية ،ط ،0بيروت ،6110 ،ج ،10ص .006
42هشام جعيط ،الوحي والقرآن والنبوة ،ص .68
43املصدر نفسه ،ص .85
44سورة الجن ،آلاية .00
45سورة التكوير ،آلايات.65 ،66 ،01 :
46هشام جعيط ،الوحي والقرآن والنبوة ،ص .15
47ميشيل فوكو ،تاريخ الجنون (في العصر الكالسيكي) ،تر :سعيد بن كراد ،املركز
الثقافي العربي ،ط ،0الدار البيضاء ،6110 ،ص .650
48هشام جعيط ،الوحي والقرآن والنبوة ،ص .011
49ابن سعد ،كتاب الطبقات الكبير ،ج ،10تح :علي محمد عمر ،مكتبة الخانجي،
ط ،0القاهرة ،6116 ،ص .005
50هشام جعيط ،الوحي والقرآن والنبوة ،ص .35
51ألاولى رؤيا في املنام والثانية رؤية في اليقظة.
167
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
168
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
169
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
84محمد رشيد رضا ،الوحي املحمدي ،مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر ،ط،3
،0185ص .86
85هشام جعيط ،الوحي والقرآن و النبوة ،ص .61
86سورة الفتح ،آلاية .65
87سورة يوسف ،آلاية .44
88في ألاعراف؛ -063التوبة؛ 010و -061يوسف؛ - 31الحجر؛ - 05الكهف؛ 01
و - 86النمل؛ - 48القصص؛ 05و 08و - 61ألاحزاب؛ - 01يس؛ - 61املنافقون؛
.18
89ورد ذكر كلمة القرية في القرآن في ستة وخمسين موضعا ،ونظرا لكثرتها سنقدم
أمثلة فقط على هاته آلايات :النساء؛ -55ألانعام؛ -16إلاسراء؛ -58النحل؛
-006محمد؛ .13
90هشام جعيط ،في السيرة النبوية :مسيرة محمد في املدينة وانتصار إلاسالم ،ج ،13
دار الطليعة للطباعة والنشر ،ط ،0بيروت ،6105 ،ص .31
91املصدر نفسه ،ص ص .36 ،31
92هناك بعض املراجع التي تتساءل حول ألاموال التي تركتها خديجة بعد وفاتهاّ ،
وترجح
أن يكون النبي قد استخدمها من أجل تنمية اقتصاد يثرب بعد أن هاجر إليها،
ألنه هو وبناته الوريث الوحيد لخديجة .شاكر النابلس ي ،املال والهالل (املوانع
والدوافع الاقتصادية لظهور إلاسالم) ،دار الساقي ،ط ،0بيروت ،6116 ،ص
.065
93هشام جعيط ،مسيرة محمد في املدينة وانتصار إلاسالم ،ص .45
15هشام جعيط ،مسيرة محمد في املدينة وانتصار إلاسالم ،ص .55
94هنا استحدث محمد مؤسسة جديدة ،وهي مؤسسة املؤاخاة بين ألانصار واملهاجرين
من جهة ،ومن جهة أخرى آخى بين قبيلتي ألاوس والخزرج ،إذ جاء في القرآن:
ُُ ُ ََ َ َ َّ َ ُ َ
﴿ ِإذ ك ُنتم أع َداء فألف َبي َن قل ِوبكم فأص َبح ُتم ِب ِنع َم ِت ِه ِإخ َو ًانا﴾ .سورة آل عمران،
آلاية .013وهي تدل على التآخي بين أهل املدينة.
95هشام جعيط ،مسيرة محمد في املدينة وانتصار إلاسالم ،ص .55
170
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
ّ 96وما ّ
يعبر عنه "جعيط" ب ـ :محمد النبي (املبشر) ومحمد البشر (املحارب) .هشام
جعيط ،مسيرة محمد في املدينة وانتصار إلاسالم ،ص .54
97تحتوي الصحيفة على 45مادة ،القسم ألاول :من املادة 10إلى املادة ،30أما
ً
ابتداء من السنة ألاولى القسم الثاني :من املادة 35إلى املادة ،45ويؤرخ لها
للهجرة خالفا للمستشرقين الذين َي َرون أنها ُوضعت بعد معركة بدر .املصدر
نفسه ،ص .06
98 W. M. Watt‚ Mahomet à Médine‚ S.N.E.D )le monde islamique(‚ Alger‚ p 267-
272.
وقد ورد حديث الصحيفة كامال في سيرة "ابن اسحاق" ،أما الروايات التراثية ألاخرى
فتم ّر عليه فقط .ابن هشام ،السيرة النبوية ،ص ص .063-001وأيضا :حميد بن ُ
زنجويه ،كتاب ألاموال ،تح :شاكر ذيب فياض ،مركز امللك فيصل للبحوث
والدراسات إلاسالمية ،الرياض ،ط ،0180 ،0ص ص .451 -400
99 W. M. Watt‚ Mahomet à Médine‚ p 268.
100رضوان السيد ،ألامة والجماعة والسلطة (دراسة في الفكر العربي املعاصر) ،دار
اقرأ ،ط ،6بيروت ،0180 ،ص ص .44-43
101أحمد قائد الشعيبي ،وثيقة املدينة (املضمون والداللة) ،وزارة ألاوقاف والشؤون
إلاسالمية ،ط،0الدوحة ،6110 ،ص .84
102هشام جعيط ،مسيرة محمد في املدينة وانتصار إلاسالم ،ص .08
103املصدر نفسه ،ص .03
104املصدر نفسه ،ص .01
105وتطور النزاع مع اليهود تصوره سورة البقرة بالتفصيل في آلايات ،061-065 :أي
أن ابراهيم هو مؤسس الدين ألاصلي (إلاسالم).
106هشام جعيط ،مسيرة محمد في املدينة وانتصار إلاسالم ،ص .55
107سورة ألانفال.
108محمد بن عمر الواقدي ،كتاب املغازي ،ج ،10تح :مرسدن جونس ،دار عالم
الكتب ،ط ،3بيروت ،0184 ،ص .030
171
إعادة قراءة السيرة النبوية عند هشام جعيط ................................عفاف مسعي
172