You are on page 1of 478

‫التوظيف العلماين ألسباب الزنول‬

‫دراسة نقدية‬

‫د‪ .‬أحمد قوشتي عبد الرحيم مخلوف‬


‫الطبعة األوىل‬

‫جملة البيان‪١٤٣٨ ،‬هـ‬ ‫ح‬


‫فهرسة مكتبة امللك فهد الوطنية أثناء النرش‬
‫خملوف‪ ،‬أمحد قوشتي‬
‫التوظيف العلامين ألسباب النزول دراسة نقدية‪ /.‬د‪ .‬أمحد قوشتي‬
‫خملوف‪ - ،‬الرياض‪١٤٣٨ ،‬هـ‬
‫ص ‪٤٧٩‬؛ ‪ ٢٤ ×١٧‬سم‬
‫ردمك‪٩٧٨ - ٦٠٣ - 8191 - ١١ - ٨ :‬‬
‫‪ - 1‬القرآن ‪ -‬دفع مطاعن‬
‫‪ - ٢‬اإلسالم والعلامنية‬
‫أ‪ .‬العنوان‬

‫‪١٤٣٨/١٩٧١‬‬ ‫ديوي ‪٢٢٩٫٩٠١‬‬

‫رقم اإليداع‪١٤٣٨/١٩٧١ :‬‬


‫ردمك‪٩٧٨ - ٦٠٣ - 8191 - ١١ - ٨ :‬‬
‫المقدمة‬

‫المقدمة‬

‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف المرسلين‪ ،‬نبينا محمد‪،‬‬
‫وعلى آله وصحبه‪ ،‬وبعد‪:‬‬

‫فيعنى هذا البحث بتتبع مواقف العلمانيين العرب‪ ،‬ومنهجية تناولهم‪ ،‬وكيفية‬
‫توظيفهم لباب «أسباب نزول القرآن الكريم» والذي يعتبر واحد ًا من أبرز موضوعات‬
‫علوم القرآن‪ ،‬التي اهتم هؤالء العلمانيون بدراستها‪ ،‬وأكثروا من االستشهاد بها‪ ،‬بغية‬
‫ترويج أفكارهم‪ ،‬وإيجاد مبررات لقبولها‪ ،‬وتوظيفها ألغراض شتى‪ ،‬بحيث يمكن‬
‫القول إنه «إذا كانت مباحث علوم القرآن ذات شأن خطير‪ ،‬فإن أسباب النزول من أهم‬
‫هذه المباحث‪ ،‬بل أهمها على اإلطالق‪ ،‬ذلك ألن هذا المبحث قد حف بكثير من‬
‫الشبهات والشوائب‪ ،‬التي حاول كثير من خصوم اإلسالم قديم ًا وحديث ًا أن يصوبوا‬
‫منها إلى نحر الشريعة سموم سهامهم»(((‪.‬‬

‫ونقصد بالتوظيف العلماني ألسباب النزول‪ :‬استدعاء العلمانيين لهذا الباب من‬
‫أبواب علوم القرآن‪ ،‬واستخدامه ‪ -‬بصورة انتقائية ‪ -‬كغطاء يمررون من خالله األفكار‪،‬‬
‫والنظريات الحداثية‪ ،‬حول الدين‪ ،‬والوحي‪ ،‬والنبوة‪ ،‬والقرآن‪ ،‬وأحكام الشريعة‪ ،‬مع‬
‫العمل على إضفاء طابع من المشروعية على تلك اآلراء‪ ،‬وتهيئة األذهان لقبولها‪ ،‬وهو‬
‫ما يعني أنهم لم يدرسوا قضية أسباب النزول ‪ -‬وغيرها من قضايا علوم القرآن‪ ،‬بل‬

‫((( د‪ .‬فضل حسن عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن ‪.241/1‬‬

‫‪5‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫سائر علوم اإلسالم ‪ -‬ألسباب علمية مجردة‪ ،‬أو أهداف موضوعية خالصة‪ ،‬تقصد‬
‫الوصول للحق‪ ،‬والبحث عن الصواب بإنصاف وعدل‪ ،‬وإنما كان بحثهم منذ بدايته‬
‫موجه ًا لتحقيق أغراض محددة سلف ًا‪ ،‬تتعامل مع علوم اإلسالم بغرض توظيف جوانب‬
‫معينة منها‪ ،‬واستخدامها كشواهد على صحة مجموعة من المقوالت الحداثية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫القول بتاريخية القرآن‪ ،‬وأنسنته‪ ،‬وبشريته‪ ،‬وتأثره بالواقع الذي نزل فيه‪ ،‬بل أولوية‬
‫الواقع على النص‪ ،‬وعدم صالحية أحكام القرآن للتطبيق في كل زمان ومكان‪ ،‬وما‬
‫أشبه ذلك من األفكار‪.‬‬

‫وثمة اعترافات علمانية عدة بهذا المنهج التوظيفي في التعامل مع قضايا التراث‬
‫اإلسالمي عموم ًا‪ ،‬ومع قضية أسباب النزول على وجه الخصوص‪ ،‬وسوف يرد معنا‬
‫‪ -‬في ثنايا البحث ‪ -‬كثرة كاثرة من الشواهد على ذلك‪ ،‬ويكفي هنا أن نسوق بعض‬
‫النماذج على كال األمرين‪.‬‬

‫فمن الشواهد على توظيف العلمانيين للتراث عموم ًا‪ ،‬إقرار حسن حنفي بأنه كتب‬
‫مشروعه الضخم «من العقيدة إلى الثورة» لمخاطبة أطراف عدة‪ ،‬منهم العلماني «كي‬
‫يعرف أن التراث الذي يقطع معه يمكن أن يجد فيه بغيته»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه تكلم محمد عابد الجابري عن مبعث اهتمامه بالتراث‪،‬‬
‫فقال‪« :‬والحق أن اهتمامي بالتراث لم يكن من قبل‪ ،‬وليس هو اآلن‪ ،‬من أجل التراث‬
‫ذاته‪ ،‬بل هو من أجل حداثة نتطلع إليها‪ ،‬حداثة نابعة من صميم حياتنا‪ ،‬معبرة عن‬
‫مقومات شخصيتنا»(((‪ ،‬وحينما تناول الجابري مسألة حقوق اإلنسان في اإلسالم‬
‫اعترف صراحة بأن قراءته لما كتب حول هذا الموضوع «في تراثنا‪ ،‬ستكون موجهة‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬من النص إلى الواقع ‪.8/1‬‬


‫((( د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ :‬المسألة الثقافية في الوطن العربي ص ‪.250‬‬

‫‪6‬‬
‫المقدمة‬

‫بالرغبة في إيجاد سند تاريخي‪ ،‬يمكننا من تأصيل المضامين الحديثة والمعاصرة‪ ،‬التي‬
‫يحملها مفهوم اإلنسان وحقوقه‪ ،‬تأصيلها في وعينا ومرجعياتنا»(((‪ ،‬ومن ثم فال بد‬
‫للفكر العربي «أن يستعيد‪ ،‬ويستوعب الجوانب العقالنية والليبرالية في تراثه‪ ،‬ويوظفها‬
‫توظيف ًا جديد ًا»(((‪.‬‬

‫ومن أجل هذا الغرض التوظيفي للتراث‪ ،‬ال يرى محمد أركون مانع ًا من التخلي‬
‫عن مصطلح العلمانية‪ ،‬واستعمال مصطلحات أخرى أقل حساسية لدى الجماهير‪ ،‬لما‬
‫يتيحه ذلك من استخدام «المصادر الثقافية الخاصة بالفكر اإلسالمي‪ ،‬من أجل حث‬
‫مسلمي اليوم على فهم المكتسبات اإليجابية للعلمنة‪ ،‬أو للدنيوية بشكل أفضل‪ ،‬ومن‬
‫أجل تبنيها أيض ًا»(((‪.‬‬

‫وفي شرحه للطريقة التي لجأت إليها التيارات العلمانية لترويج أفكارها بين‬
‫الجماهير‪ ،‬ذكر نصر أبو زيد أن تلك التيارات حينما تصدت لمواجهة الحاضر وحل‬
‫إشكالياته بآليات ذات طابع عصري «أحست بضرورة طرح هذه اآلليات طرح ًا يسوغ‬
‫قبولها من الجماهير‪ ،‬فوجدت في بعض اتجاهات التراث سند ًا لتوجهاتها‪ ،‬وعلى‬
‫ذلك‪ ،‬فلم يكن الخالف بين جناحي األمة خالف ًا جذري ًا فيما يرتبط بعالقة كل منهما‬
‫بالتراث‪ ،‬بل تركز الخالف في الطريقة التي استعمل بها كل منهما التراث‪ ،‬حيث تحول‬
‫لدى السلفيين إلى إطار مرجعي‪ ،‬بينما تحول عند العلمانيين إلى غطاء وسند‪ ،‬وفي كال‬
‫الحالتين فقد التراث وجوده الموضوعي‪ ،‬لحساب التلوين اإليديولوجي النفعي»(((‪.‬‬

‫((( د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ :‬الديمقراطية وحقوق اإلنسان ص ‪ ،20‬سلسلة كتاب في جريدة‪ ،‬عدد ‪،95‬‬
‫يوليو ‪2006‬م‪.‬‬
‫((( د‪ .‬محمد عابد الجابري‪ :‬في نقد الحاجة إلى اإلصالح ص ‪.115‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬اإلسالم أوربا الغرب‪ ،‬رهانات المعنى‪ ،‬وإرادات الهيمنة ص ‪.103‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.154‬‬

‫‪7‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أما توظيف العلمانيين ألسباب النزول على وجه الخصوص‪ ،‬فمن الشواهد الدالة‬
‫عليه ما ذكره نصر أبو زيد من أن «أسباب النزول أحد علوم القرآن المعروفة جد ًا‪ ،‬والتي‬
‫يشير إليها الجميع‪ ،‬وال يكاد أحد يوظفها كواحدة من مستويات السياق»(((‪.‬‬
‫كذلك كتب حسن حنفي مقا ً‬
‫ال مختصر ًا بعنوان «ماذا تعني أسباب النزول»‬
‫(((‬

‫كفانا فيه مؤونة البحث والتفتيش عن مقاصد هذا التوجه العلماني‪ ،‬حيث لخص أبرز‬
‫القضايا التي حرص العلمانيون على توظيف أسباب النزول من أجل تقريرها‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫إثبات أن النص القرآني انطلق من الواقع وكان نداء له‪ ،‬ومن ثم فاألولوية لهذا الواقع‬
‫على النص‪ ،‬كما أن للمصلحة أيض ًا األولوية على النص‪ ،‬إضافة إلى أن أسباب النزول‬
‫تعني أن بإمكاننا أن نختار من الوحي في كل مناسبة ما نراه األنسب لحل مشاكلنا‪ ،‬دون‬
‫أن نلزم أنفسنا بالنظر له في جملته‪ ،‬أو األخذ بأحكامه كلها‪.‬‬

‫وفي كتابه عن علوم القرآن‪ ،‬استفتح حسن حنفي الكالم عن أسباب النزول‬
‫باإلشارة إلى أنها تعني «أولوية الواقع على الفكر‪ ،‬وتقدم السؤال على الجواب‪ ،‬الواقع‬
‫يسأل والوحي يجيب‪ ،‬وال تهم معرفة سبب آية كسبب تاريخي في حد ذاته‪ ،‬بل الداللة‬
‫العامة ألسباب النزول‪ ،‬فقد يختلف فيها الرواة‪ ،‬وال يهم تعدد األسباب‪ ،‬بل السبب أي‬
‫ارتباط الفكر بالواقع»(((‪.‬‬

‫وحتى االسم الذي عبر عنه القدماء لهذا النوع من علوم القرآن ‪ -‬ومثله أيض ًا‬
‫النسخ ‪ -‬يمكن تجاوزه في صورته التراثية‪ ،‬كي يتم االنطالق إلى الغاية والمقصود منه‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬التفكير في زمن التكفير ص ‪.143‬‬


‫((( مقال بمجلة روز اليوسف العدد ‪ 2519‬بتاريخ ‪ ،1976/9/20‬وقد أعاد د‪ .‬حسن حنفي نشره‬
‫في كتابه الدين والثورة في مصر‪ ،1981 -1952 ،‬الجزء السابع اليمين واليسار في الفكر الديني‬
‫ص ‪.70‬‬
‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬من النقل إلى العقل‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬علوم القرآن من المحمول إلى الحامل ص ‪.83‬‬

‫‪8‬‬
‫المقدمة‬

‫في العصر الحاضر‪ ،‬وبعبارة حسن حنفي فإن «ما عبر عنه القدماء باسم أسباب النزول‪،‬‬
‫لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر ومناداته له‪ ،‬كما أن ما عبر عنه القدماء باسم‬
‫الناسخ والمنسوخ‪ ،‬ليدل على أن الفكر يتجدد طبق ًا لقدرات الواقع وبناء على متطلباته‪،‬‬
‫إن تراخى الواقع تراخى الفكر‪ ،‬وإن اشتد الواقع اشتد الفكر(((‪.‬‬

‫وهكذا يظهر لنا أن اشتغال هذا االتجاه العلماني بأسباب النزول ليس مقصود ًا‬
‫به المعرفة الحقيقية بتلك األسباب‪ ،‬أو التأكد من صحتها‪ ،‬أو الترجيح بين المتعارض‬
‫منها‪ ،‬أو ما قيل بتكرار نزوله‪ ،‬أو االستفادة منها في فهم معاني اآليات‪ ،‬فكل ذلك ليس‬
‫مقصود ًا وال جوهري ًا‪ ،‬وإنما المهم هو كيف توظف لخدمة المشروع العلماني الحداثي‪،‬‬
‫حيث تحولت أسباب النزول من اعتبارها وسيلة لفهم النص‪ ،‬ومعرفة المقصود منه ‪-‬‬
‫كما هو الحال عند علماء المسلمين ‪ -‬إلى أداة ‪ -‬عند العلمانيين ‪ -‬للتفلت من هذا‬
‫النص وأحكامه‪ ،‬وإيقاف العمل به‪ ،‬من خالل حجج شتى‪ :‬كالتاريخية‪ ،‬واألنسنة‪،‬‬
‫والمصلحة‪ ،‬وقصر النص على سببه‪ ،‬ال على عموم لفظه‪.‬‬

‫ومن المهم أن نشير هنا إلى ذلك التحول الجوهري الذي حدث في أدوات‬
‫الصراع بين الفكر اإلسالمي‪ ،‬والفكر العلماني الوضعي‪ ،‬ففي الماضي‪ ،‬خاصة خالل‬
‫نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬والنصف األول من القرن العشرين‪ ،‬كانت اإلشكاالت‬
‫الموجهة للعقيدة اإلسالمية والقرآن والسنة تعتمد في الغالب على مقررات العلوم‬
‫التجريبية‪ ،‬التي اعتبرت حينها مناوئة للفكر الديني عموم ًا‪ ،‬لكن هذه المرحلة قد ولت‪،‬‬
‫وصار الخصم يفتش عن فضاء آخر يجدد الصراع من خالله‪ ،‬ومن ثم جعل من القرآن‬
‫وعلومه مجال بحث‪ ،‬ومدخ ً‬
‫ال جديد ًا للتشكيك في الثوابت‪ ،‬ونشر األفكار الحداثية(((‪.‬‬

‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.15‬‬


‫((( مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر ص ‪.526‬‬

‫‪9‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال أظننا بحاجة ألن نطيل في تقرير ما هو معلوم لدى المسلمين كافة من أن القرآن‬
‫الكريم‪ :‬هو كالم الله العظيم‪ ،‬وكتابه المبين‪ ،‬ووحيه الخاتم‪ ،‬ومعجزة النبي ‪ #‬الكبرى‪،‬‬
‫وآيته العظمى‪ ،‬وسبيل الهداية‪ ،‬ومورد الفالح والرشاد‪ ،‬وأساس هذا الدين ومصدره‬
‫األول‪ ،‬فكل ذلك مما ال يحتاج لكثير استدالل وال برهنة على إثباته ‪ -‬في حق المؤمن‬
‫باإلسالم ‪ -‬إذ يعد من ثوابت الدين وقطعيات االعتقاد‪ ،‬وكما ذكر الشاطبي رحمه الله‪:‬‬
‫فإنه قد تقرر أن القرآن «كلية الشريعة‪ ،‬وعمدة الملة‪ ،‬وينبوع الحكمة‪ ،‬وآية الرسالة‪ ،‬ونور‬
‫األبصار والبصائر‪ ،‬وأنه ال طريق إلى الله سواه‪ ،‬وال نجاة بغيره‪ ،‬وال تمسك بشيء يخالفه‪،‬‬
‫وهذا كله ال يحتاج إلى تقرير واستدالل عليه؛ ألنه معلوم من دين األمة»(((‪.‬‬

‫وقد تتابعت نصوص أهل العلم من المذاهب كافة على تقرير الحقيقة السابقة‬
‫والتأكيد عليها‪ ،‬بحيث يمكننا القول بأنه ال يكاد يوجد خالف ‪ -‬على المستوى النظري‬
‫‪ -‬وإن شاب التطبيق العملي ما شابه من خلل أو انحراف ‪ -‬حول اإلقرار بحجية القرآن‪،‬‬
‫وأنه كالم الله الواجب االتباع‪ ،‬والمصدر الرئيس لالستدالل على قضايا الدين‪ ،‬وال‬
‫فرق في ذلك بين سلفي(((‪ ،‬أو معتزلي(((‪ ،‬أو زيدي(((‪ ،‬أو أشعري(((‪ ،‬كما ال فرق بين‬
‫القدامى‪ ،‬أو العلماء المحدثين(((‪ ،‬على تنوع مدارسهم‪ ،‬واتجاهاتهم الفكرية(((‪.‬‬

‫((( الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪.144/4‬‬


‫السنَّة النبوية ‪ ،110/2‬وشرح العقيدة األصفهانية ص‪.16‬‬
‫((( انظر‪ :‬ابن تيمية‪ :‬منهاج ُّ‬
‫((( انظر‪ :‬القاضي عبد الجبار‪ :‬المغني ‪.330 ،329/16 ،181/12‬‬
‫((( انظر‪ :‬ابن الوزير اليمني‪ :‬ترجيح أساليب القرآن ص ‪.16 ،15‬‬
‫((( انظر‪ :‬اإليجي‪ :‬المواقف ص‪ ،30‬ومحمد صالح الزركان‪ :‬فخر الدين الرازي وآراؤه الكالمية‬
‫والفلسفية ص‪.640‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد المخزومي‪ :‬خاطرات جمال الدين األفغاني ص ‪ ،88‬ومحمد عبده‪ :‬تفسير جزء عم‬
‫ص ‪ ،133‬ومحمد رشيد رضا‪ :‬تفسير المنار ‪ ،120/5‬ومحمود شلتوت‪ :‬اإلسالم عقيدة وشريعة‬
‫ص‪ ،57‬ومحمد حامد الفقي‪ :‬نور من القرآن ص ‪.13‬‬
‫ً‬
‫تفصيال لذلك عند‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬مناهج االستدالل على مسائل العقيدة اإلسالمية في العصر‬ ‫((( انظر‬
‫الحديث ص ‪.135 - 133‬‬

‫‪10‬‬
‫المقدمة‬

‫وصحيح أنه جرى خالف شديد بين الفرق حول تأويل آيات القرآن‪ ،‬وظهر لدى‬
‫كثير منهم أنواع من التعسف والتكلف في صرف اآليات عن معانيها المتبادرة إلى‬
‫معان أخرى‪ ،‬كي توافق مذاهبهم‪ ،‬بحجة أن هذا هو مقتضى العقل‪ ،‬وأنه ال يصح حمل‬
‫اآليات على ظواهرها‪ ،‬ألن هذا الظاهر غير مراد‪ ،‬لكن يبقى مع ذلك أنهم كانوا في‬
‫الجملة ‪ -‬باستثناء الفرق الباطنية الغالية ممن ال يصح أص ً‬
‫ال إدراجهم في عداد طوائف‬
‫األمة ‪ -‬معظمين للقرآن‪ ،‬والنبوة والشريعة‪ ،‬ومقرين بمحاسنها‪ ،‬ولم ينقل عنهم طعن‬
‫فج في أحكامها القطعية‪.‬‬

‫وقد ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية أن «الفالسفة‪ ،‬والصابئة‪ ،‬وأتباعهم من باطنية‬
‫أهل الملل ونحوهم يعظمون أمر األنبياء‪ ،‬ويقرون بكمال علمهم ودينهم وصدقهم‪،‬‬
‫ويدعون أن ما جاءت به األنبياء ال يناقض أصول الفلسفة»(((‪ ،‬ويؤيد ذلك نص مهم‬
‫للكندي يقول فيه «ولعمري إن قول الصادق محمد صلوات الله عليه‪ ،‬وما أدى عن الله‬
‫جل وعز لموجود جميع ًا بالمقاييس العقلية‪ ،‬التي ال يدفعها إال من حرم صورة العقل‪،‬‬
‫واتحد بصورة الجهل من جميع الناس»(((‪.‬‬

‫وليس القصد من ذكر هذه النقول‪ :‬الحكم بسالمة معتقد الفالسفة اإلسالميين‪ ،‬أو‬
‫الجزم بخلو آرائهم من انحرافات عديدة ال تخفى على المطالع لفكرهم‪ ،‬وإنما قصدنا‬
‫ال ‪ -‬من الوحي‬ ‫بيان الفارق الكبير بين مواقف هؤالء الفالسفة ‪ -‬إجما ً‬
‫ال ال تفصي ً‬
‫والنبوات وشريعة اإلسالم؛ وما آل إليه األمر عند العلمانيين والحداثيين العرب في‬
‫الوقت الحاضر‪.‬‬

‫((( ابن تيمية‪ :‬الصفدية ‪ ،193/1‬وانظر‪ :‬ماجد األسمري‪ :‬العلمانيون والنبوة ص ‪.142 ،116‬‬
‫((( الكندي‪ :‬رسالة الكندي إلى أحمد بن المعتصم في اإلبانة عن سجود الجرم األقصى وطاعته لله‬
‫عز وجل‪ ،‬ضمن رسائل الكندي ص ‪ ،244‬تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة‪ ،‬وانظر أيض ًا‪ :‬فهمي‬
‫جدعان‪ :‬الماضي في الحاضر‪ ،‬دراسات في تشكالت ومسالك التجربة الفكرية العربية ص ‪.232‬‬

‫‪11‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال شك أن هؤالء النفر من العلمانيين كانوا مدركين بوضوح لمكانة القرآن‬


‫الجوهرية لدى األمة المسلمة‪ ،‬وتأسيسه لعقائدها وشرائعها وسائر أنظمتها‪ ،‬واشتغال‬
‫جميع العلوم الحادثة في هذه األمة بخدمته‪ ،‬سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير‬
‫مباشرة‪.‬‬

‫وقد تكرر اعترافهم «بمحورية النص القرآني‪ ،‬وأهميته في ميادين العقيدة‪،‬‬


‫واألخالق‪ ،‬والسلوك»(((‪ .‬كما نبهوا إلى أن «النص القرآني احتفظ بمكانة مرجعية في‬
‫المنظومة الثقافية العربية‪ ،‬على الرغم من طبيعة التحوالت التي عرفتها المجتمعات في‬
‫عالقتها بالمقدس طيلة الفترة الحديثة»(((‪ ،‬وها هو علي حرب يقر بأن النص القرآني‬
‫هو «أصل الثقافة اإلسالمية‪ ،‬ومحورها الذي تدور عليه»(((‪ .‬ومن ثم فإن درس التراث‬
‫وتأوله ينبغي أن يبدأ من هذا األساس‪ ،‬كذلك أشار حسن حنفي إلى أن «القرآن هو‬
‫منبع تراث األمة‪ ،‬وأساس حضارتها‪ ،‬ومصدر معرفتها‪ ،‬والباعث على معظم الحركات‬
‫االجتماعية والسياسية على أربعة عشر قرن ًا من تاريخها‪ ،‬وإن كل حركات التجديد‬
‫المعاصرة التي أحدثت أثر ًا في عالمنا المعاصر‪ ،‬إنما خرجت كلها من فهم القرآن‪،‬‬
‫ومنهج تفسيره»(((‪.‬‬

‫والنص القرآني في رأي نصر أبو زيد «يمثل في تاريخ الثقافة العربية نص ًا محوري ًا‪،‬‬
‫وليس من قبيل التبسيط‪ ،‬أن نصف الحضارة العربية اإلسالمية بأنها حضارة النص‪،‬‬
‫بمعنى أنها حضارة أنبتت أسسها‪ ،‬وقامت علومها‪ ،‬وثقافتها على أساس‪ ،‬ال يمكن‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم والحداثة ص ‪.63‬‬


‫((( احميدة النيفرة‪ :‬اإلنسان والقرآن وجه ًا لوجه ص ‪.9‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.201‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬الدين والثورة في مصر ‪ ،1981 -1952‬الجزء السابع‪ :‬اليمين واليسار في الفكر‬
‫الديني ص ‪.7‬‬

‫‪12‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫تجاهل مركز النص فيه»(((‪ ،‬كما يضاف لذلك ما «للقرآن في حضارتنا من دور ثقافي‪،‬‬
‫ال يمكن تجاهله في تشكيل مالمح هذه الحضارة‪ ،‬وفي تحديد طبيعة علومها»(((‪.‬‬

‫والمتتبع لكتابات هؤالء النفر من العلمانيين والحداثيين العرب في اآلونة‬


‫األخيرة يلحظ اهتمامهم الكبير بالقرآن الكريم‪ ،‬دراسة‪ ،‬وقراءة‪ ،‬وتأوي ً‬
‫ال‪ ،‬وتأليف ًا‪ ،‬وكثير‬
‫من مشاريعهم الفكرية‪ ،‬إما منصبة على إعادة قراءة القرآن خصوص ًا‪ ،‬أو النص الديني‬
‫والتراث عموم ًا‪ ،‬والذي يشغل القرآن قلبه ومحوره األساسي‪ ،‬ومن ثم ال نكاد نجد‬
‫واحد ًا منهم لم يتعرض للقرآن وعلومه بصورة أو بأخرى‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك كتاب محمد أركون «القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل‬
‫الخطاب الديني»‪ ،‬وكتابه «قراءات في القرآن»‪ ،‬وكتاب محمد عابد الجابري «مدخل‬
‫إلى القرآن الكريم»‪ ،‬ومشروعه التفسيري «فهم القرآن الحكيم‪ ،‬التفسير الواضح حسب‬
‫ترتيب النزول»‪ ،‬وكتاب نصر أبو زيد «مفهوم النص دراسة في علوم القرآن»‪ ،‬وكتاب‬
‫حسن حنفي «علوم القرآن من المحمول إلى الحامل»‪ ،‬وكتاب طيب تيزيني «النص‬
‫القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة»‪ ،‬وكتاب أدونيس «النص القرآني وآفاق الكتابة»‪،‬‬
‫وكتاب محمد شحرور «الكتاب والقرآن»‪ ،‬وكتاب صادق بلعيد «القرآن والتشريع‬
‫قراءة جديدة في آيات األحكام»‪ ،‬وغير ذلك من المؤلفات‪.‬‬

‫وإضافة للدراسات النظرية العديدة حول القرآن عموم ًا‪ ،‬أو تناول بعض سوره‬
‫وآياته بصورة جزئية‪ ،‬فقد سعى بعض العلمانيين العرب إلى كتابة تفسير كامل للقرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ولعل المحاولة الوحيدة المكتملة في هذا الصدد‪ :‬ما قام به محمد عابد‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.11‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.11‬‬

‫‪13‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الجابري من تفسير للقرآن بحسب ترتيب النزول وقد صدر في ثالثة أجزاء(((‪.‬‬

‫وقد وصل الطموح ببعضهم ‪ -‬رغم أنه ليس متخصص ًا في التفسير وعلومه‪،‬‬
‫وال يمتلك األدوات الموصلة لذلك ‪ -‬أن يحاول كتابة تفسير للقرآن‪ ،‬متضمن ًا رؤيته‬
‫الحداثية‪ ،‬وموظف ًا المناهج الغربية الحديثة في التأويل‪ ،‬معل ً‬
‫ال ذلك بأننا «بحاجة إلى‬
‫فتح آفاق جديدة في الدراسات القرآنية‪ ،‬مستفيدين من المناهج الحديثة في قراءة النص‬
‫القرآني‪ ،‬ومن الحفريات واالكتشافات التي تتعلق بالمصحف»(((‪.‬‬

‫وإذا غضضنا الطرف عن فكرة االستفادة من المناهج الحديثة‪ ،‬بكل ما تنطوي‬


‫عليه من إشكاالت‪ ،‬فإن من الصادم جد ًا ‪ -‬والمخالف لثوابت المنهج العلمي والتي‬
‫تقضي بضرورة المناسبة بين المنهج المستخدم‪ ،‬وطبيعة العلم المراد دراسته ‪ -‬تلك‬
‫الدعوة لالستفادة من الحفريات واالكتشافات التي تتعلق بالمصحف‪ ،‬وكأننا بصدد‬
‫دراسة آثار قديمة‪ ،‬أو ثقافات مندرسة‪ ،‬وليس كتاب ًا موحى به من الله‪ ،‬قام ابتداء على‬
‫النقل الشفهي المتواتر‪ ،‬وحفظ الصدور عبر أجيال متالحقة من المؤمنين به ال يحصون‬
‫عدد ًا لكثرتهم البالغة‪ ،‬ثم صاحب هذا النقل الشفهي كتابة موثقة منذ زمن نزوله األول‪،‬‬
‫ومن فم الرسول ‪ ،#‬وحتى يومنا هذا‪ ،‬وإلى أن يرث الله األرض ومن عليها‪ ،‬ولم‬
‫يتعرض قط لفترات من انقطاع السند‪ ،‬وضياع النسخ المكتوبة‪ ،‬وذهاب الحفظة‪،‬‬
‫ولحوق السقط والتحريف والتبديل‪ ،‬كما حدث مع التوراة واإلنجيل‪.‬‬

‫وكان من أماني نصر أبو زيد قبل موته ‪ -‬حسبما أشار إلى ذلك في آخر ما نشر له‬
‫من أعمال ‪ -‬أن يسعى إلنشاء مؤسسة علمية‪ ،‬تختص بالدراسات القرآنية‪ ،‬وقد سافر‬

‫((( انظر كتابه‪ :‬فهم القرآن الحكيم‪ ،‬التفسير الواضح حسب ترتيب النزول‪ ،‬مطبعة دار النشر المغربية‪،‬‬
‫الدار البيضاء ‪2008‬م‪.‬‬
‫((( مقدمة كتاب نصر أبو زيد‪ :‬التجديد والتحريم والتأويل ص ‪.10‬‬

‫‪14‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫إلى إندونيسيا من أجل هذا الغرض(((‪ ،‬كما قرر البدء في تفسير جديد للقرآن «على أن‬
‫يقوم بهذا العمل على دفعات‪ ،‬وأن يضم الجزء األول من هذا التفسير مقدمة تكون‬
‫بمثابة دراسة نقدية للتفاسير الموجودة‪ ،‬مع إبراز ميزات وأهمية التفسير الجديد الذي‬
‫يقترحه‪ ،‬مع تقديم نماذج من طريقته في التفسير واستنباط المعنى»(((‪.‬‬

‫وهذا الهدف نفسه نجده عند حسن حنفي الذي ذكر أن من مشروعاته الفكرية‬
‫التي ينوي إنجازها في المرحلة األخيرة‪ :‬كتابة تفسير موضوعي للقرآن‪ ،‬واصف ًا إياه‬
‫بأنه «ليس تفسير ًا معتاد ًا طوي ً‬
‫ال‪ ،‬يبدأ بالفاتحة حتى سورة الناس‪ ،‬ولكن تفسير ًا بحسب‬
‫الموضوعات‪ ،‬يجمع مث ً‬
‫ال كل اآليات التي تبحث في اإلنسان‪ ،‬في اإلرادة‪ ،‬في العقل‪،‬‬
‫في المجتمع‪ ،‬في التاريخ‪ ،‬وكان هذا العمل هو هدف أساسي لعمل الشهيد محمد باقر‬
‫الصدر فقد كان له تفسير موضوعي‪ ،‬وأنا أريد الشيء نفسه‪ ..‬أقول إذن بأن المرحلة‬
‫األخيرة من مشروعي ستكون مخصصة للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم‪ ،‬واضع ًا‬
‫في اعتباري كل مشاكل العصر‪ ،‬إن تفسيري سيكون نفسي ًا أدبي ًا اجتماعي ًا تاريخي ًا‪،‬‬
‫يحاول أن يعطي قدر اإلمكان نظرية إسالمية‪ ،‬أو بداية األيديولوجية اإلسالمية‪ ،‬انطالق ًا‬
‫من تحليل األلفاظ في القرآن الكريم»(((‪.‬‬

‫وثمة مالحظة جديرة بالتأمل فيما نشره العلمانيون بالفعل من أعمال حول القرآن‪،‬‬
‫أو ما انتووا نشره قبل أن يداهم األجل طائفة منهم‪ ،‬وهي أنه قد حدث نوع من التغير‬
‫الجوهري في استراتيجية التعامل مع القرآن الكريم‪ ،‬والعلوم اإلسالمية‪ ،‬أو التراث‬
‫عموم ًا‪.‬‬

‫((( مقدمة كتاب نصر أبو زيد‪ :‬التجديد والتحريم والتأويل ص ‪.8‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.9‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬الدين والثورة في مصر‪ ،‬ج ‪ ،8‬اليسار اإلسالمي والوحدة الوطنية ص ‪.258 ،257‬‬

‫‪15‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫فهناك مرحلة متقدمة‪ ،‬ساد فيها اإلعراض عن دراسة اإلسالم وعلومه‪ ،‬والنظر‬
‫إليه نظرة دونية‪ ،‬واعتقاد رجعيته وجموده‪ ،‬وكونه تراث ًا متقادم ًا فقد صالحيته‪ ،‬ويجب‬
‫إحداث قطيعة تامة معه‪ ،‬إلحداث النهضة والتقدم‪.‬‬

‫وفي وصف هذه المرحلة التي اتسمت باإلعراض عن التراث‪ ،‬والقطيعة معه‪،‬‬
‫يقول عبد اإلله بلقزيز‪« :‬كان المألوف أن ُيقرأ خطاب الحداثة في الفكر العربي بما‬
‫هو خطاب قطيعة مع التراث في المقام األول‪ ،‬والقطيعة هنا‪ ،‬ال تقتصر على الرؤية‬
‫المعرفية والموقف الفكري فحسب‪ ،‬وإنما تشمل الموضوع نفسه‪ :‬موضوع التراث‪،‬‬
‫وهكذا ال تكون الحداثة قطيعة مع رؤية تراثية تقليدية فقط‪ ،‬بل تكون أيض ًا قطيعة مع‬
‫االهتمام بالتراث نفسه‪ ،‬الذي يمثل مجرد االنشغال بأمره انجرار ًا إلى سلطته‪ ،‬وسقوط ًا‬
‫في وهم إمكانية اإلفادة منه‪ ،‬وبمقتضى هذا الموقف الرافض للتراث‪ ،‬بحسم قاطع‪،‬‬
‫ال يكون ألي رؤية عصرية‪ ،‬أو حتى تنويرية للتراث ما يشفع لها‪ ،‬أو يعترف لها بمساحة‬
‫ما من مساحات المشروعية‪ ،‬ألنها ‪ -‬بحسبه ‪ -‬واقعة تحت سلطان موضوعها‪ ،‬وإن‬
‫ادعت لنفسها تحرر ًا من النظرة التراثية إلى التراث»(((‪.‬‬

‫وثمة مرحلة أخرى اتسمت بطابع الهجوم المباشر‪ ،‬والحاد على التراث وتشويهه‬
‫بكل وسيلة ممكنة‪ ،‬لكن هذا الصنيع لم يؤت أكله‪ ،‬وإنما أحدث ردود فعل عكسية‪،‬‬
‫ولذا تم االنتقال إلى مرحلة جديدة تمثلت في العكوف على التراث اإلسالمي‪،‬‬
‫ومحاولة التفتيش في علومه‪ ،‬إليجاد شواهد ومسوغات وتكأة‪ ،‬يمرر العلمانيون من‬
‫خاللها أفكارهم‪ ،‬ويوظفون التراث لخدمة أهدافهم في نشر قيم الحداثة والعلمنة في‬
‫العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫((( د‪ .‬عبد اإلله بلقزيز‪ :‬نقد التراث ص ‪.311‬‬

‫‪16‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وفي هذه المرحلة األخيرة أدرك العلمانيون والحداثيون العرب أن محاولة‬


‫الخروج من العزلة‪ ،‬وحالة االنحسار التي أحاطت بفكرهم‪ ،‬وحالت دون انتشاره‬
‫في المجتمعات اإلسالمية تتطلب نوع ًا من االنتساب للتراث‪ ،‬والبحث في ثناياه عما‬
‫يروج لفكرهم‪ ،‬ومعنى هذا أن التراث لم يكن مصدر ًا حقيقي ًا للحداثي العربي‪ ،‬وإنما‬
‫هو ملجأ اضطر للجوء إليه‪ ،‬حماية له في حربه الشعواء مع الخطاب اإلسالمي‪ ،‬ويبقى‬
‫المصدر األساسي والحقيقي عند هؤالء العلمانيين هو الفكر الغربي‪ ،‬وما أفرزه من‬
‫مناهج وأدوات معرفية(((‪.‬‬

‫ونخلص مما تقدم إلى أن العالقة التي أقامها العلمانيون مع التراث وعلومه‬
‫ومناهجه‪ :‬عالقة نفعية ال انتفاعية(((‪ ،‬أي أن غرضها ليس االنتفاع بما في هذا التراث‪،‬‬
‫وتلمس أوجه الصواب والبحث عن الحقيقة‪ ،‬وإنما الغرض هو البحث عما يمكن أن‬
‫يفيد في تعضيد مشروعهم الفكري‪ ،‬والترويج له في المجتمع المسلم‪.‬‬

‫ولمحمد عابد الجابري كالم مهم يؤكد هذا المعنى‪ ،‬حيث أشار إلى أن أية‬
‫محاولة الستنبات الحداثة في مكان آخر غير البيئة الغربية‪ ،‬ال بد أن تقوم على عمليتين‬
‫متكاملتين‪ :‬إحداهما فهم الحداثة في إطار تاريخها الخاص أي األوربي‪ ،‬والثانية‪:‬‬
‫البحث في تاريخ الجهة التي يراد نقلها إليها ‪ -‬وهي المجتمع العربي اإلسالمي ‪-‬‬
‫بهدف تهيئة التربة لها‪ ،‬وطبعها بخصوصية هذه الجهة‪ ،‬ويعد نقد العقل العربي ‪ -‬وهو‬
‫مشروع الجابري األبرز‪ -‬جزء ًا من عملية تهيئة التربة(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬الحارث فخري‪ :‬الحداثة وموقفها من السنة ص ‪.86‬‬


‫((( انظر‪ :‬الجيالني مفتاح‪ :‬الحداثيون العرب في العقود الثالثة األخيرة ص ‪.70 ،69‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ :‬المسألة الثقافية في الوطن العربي ص ‪.250‬‬

‫‪17‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وعلى المنوال نفسه أقر أدونيس بأنه «إذا كان التغير يفترض هدم ًا للبنية القديمة‬
‫التقليدية‪ ،‬فإن هذا الهدم ال يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي‪ ،‬وإنما يجب‬
‫أن يكون بآلة من داخله‪ ،‬إن هدم األصل يجب أن يمارس باألصل ذاته»(((‪.‬‬

‫وإذا كان خوض العلمانيين في قضايا التراث بصفة عامة لم يمثل لهم أدنى‬
‫إشكال أو حرج‪ ،‬فال شك أن تعاملهم مع القرآن ‪ -‬أصل أصول هذا الدين ‪ -‬لم يكن‬
‫ليسير على الوتيرة نفسها‪ ،‬ومن ثم وجدنا بعضهم يعبر عما يواجهونه من حساسية‬
‫وإشكاالت تجاه الخوض في بعض القضايا المتعلقة بالقرآن الكريم‪ ،‬وال سيما ما‬
‫تعلق بقطعية ثبوته وتواتر نقله‪ ،‬مشيرين إلى أن مثل هذه الموضوعات تعتبر خطوط ًا‬
‫حمراء‪ ،‬ينبغي البعد عنها في المرحلة الحاضرة(((‪ ،‬ويستحيل عملي ًا فتح الباب‬
‫لمناقشتها(((؛ ألن ما يسميه ‪ -‬علماني مثل أركون ‪ -‬باألرثوذكسية اإلسالمية‪ ،‬كانت‬
‫«تضغط دائم ًا بالمحرمات على الدراسات القرآنية‪ ،‬وتمنع االقتراب منها أكثر مما‬
‫يجب»(((‪ ،‬وقد أدى ذلك كله إلى أن المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية‬
‫محققة عن النص القرآني لم يعد الباحثون يواصلونها‪ ،‬أو «يتجرأون عليها‪ ،‬أو على‬
‫أمثالها‪ ،‬خوف ًا من رد فعل األصولية اإلسالمية المتشددة»(((‪ ،‬والتي ترى أن «القرآن‬
‫يمثل قدس األقداس‪ ،‬وبالتالي فتطبيق الدراسة العلمية عليه‪ ،‬يعتبر جرأة ما بعدها‬
‫جرأة‪ ،‬بل ويعتبر تدنيس ًا وكفر ًا»(((‪.‬‬

‫وثمة اعترافات مدهشة لكثير من العلمانيين‪ ،‬يعترفون فيها باضطرارهم إلى‬


‫((( أدونيس‪ :‬الثابت والمتحول بحث في اال بداع واالتباع عند العرب‪ ،‬الجزء األول األصول ص ‪.64‬‬
‫((( ‪ -‬انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.82‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.51‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪.44‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.44‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب أركون الفكر األصولي واستحالة التأصيل هامش ص ‪.44‬‬

‫‪18‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫التلميح ‪ -‬دون التصريح ‪ -‬في بعض القضايا الحساسة‪ ،‬وعلى رأسها ما يتعلق بالقرآن‬
‫الكريم؛ ألن الوقت لم يحن بعد إلظهارها‪ ،‬كما ينصحون بسياسة النفس الطويل‪،‬‬
‫وعدم إبداء ما عندهم دفعة واحدة‪ ،‬حتى ال يستثيروا مشاعر الجماهير‪ ،‬ويدفعوهم لرد‬
‫فعل عكسي لما يقصدونه‪.‬‬

‫والسبب في ذلك أن ظروف البيئة العربية ‪ -‬كما يرى الجابري ‪ -‬ال تسمح بنقد‬
‫مماثل للنقد الالهوتي في الغرب‪ ،‬الذي مورس على الكتاب المقدس‪ ،‬ويجب على‬
‫المرء أن يعيش داخل واقعه ال خارجه‪ ،‬حتى يستطيع تغييره(((‪.‬‬

‫وهذه الظروف نفسها تعد عذر ًا ‪ -‬عند عبد المجيد الشرفي ‪ -‬لمن ال تواتيهم الجرأة‬
‫على إثارة القضايا المحرجة والحساسة في دائرة العلوم اإلسالمية‪ ،‬وعسر التجاوز‬
‫لألسيجة والخطوط الحمراء الضمنية والصريحة‪ ،‬التي وضعها العلماء المسلمون‬
‫على مر العصور‪ ،‬وهو ما جعل «إخضاع المسلمات للنقد والتمحيص يتطلب قدر ًا من‬
‫الشجاعة‪ ،‬وأن إعادة النظر في ما يحشر تعسف ًا ضمن المعلوم من الدين بالضرورة قد‬
‫تجر لمن يمارسها الويالت‪ ،‬وشتى التهم والصعوبات»(((‪.‬‬

‫وال ينكر علي حرب الصعوبة التي يواجها العلمانيون ‪ -‬وعلى رأسهم محمد‬
‫أركون ‪ -‬في نقد الفكر اإلسالمي‪ ،‬والقيام بتشريحه؛ ألنها «مهمة عويصة‪ ،‬بل حساسة‪،‬‬
‫وأن أركون إذ يتصدى لها يدرك بأن عليه أن يخوض معركة على أكثر من جبهة‪ ،‬ضد‬
‫القوى المحافظة‪ ،‬والعقليات الدوغمائية‪ ،‬ذلك أنه يالمس بنقده مناطق محرمة‪ ،‬ويطرق‬
‫أبواب ًا يصعب طرقها‪ ،‬ومن هنا حذره في اختيار المصطلحات»(((‪.‬‬

‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬التراث والحداثة ص ‪.260‬‬


‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬تقديمه لكتاب بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.7‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.76 ،75‬‬

‫‪19‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن النصوص المهمة جد ًا‪ ،‬والكاشفة عن استراتيجية العلمانيين في التعامل مع‬


‫قضايا العقيدة والدين والقرآن والسنة‪ ،‬ما ذكره حسن حنفي من أن «علوم التأويل وقراءة‬
‫الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي ميدان ملغوم‪ ،‬يمكن السير فيه‪ ،‬شرط عدم‬
‫وطء أحد األلغام فتنفجر في السائر على األقدام دون رؤية أو تبصر‪ .‬إن وضع القنابل‬
‫الموقوتة قد تكون مهمة جيل وليس تفجيرها‪ ،‬وسيأتى الوقت عندما ينتهى أجلها‬
‫باالنفجار‪ ،‬حتى تحدث فعلها بعد أن تتحول المعارك الجزئية الفردية إلى معركة كلية‬
‫شاملة‪ .‬أن تقال الحقائق إلى المنتصف ثم يكمل جيل قادم النصف اآلخر‪ ،‬خير من أن‬
‫تقال مرة واحدة فتلفظ مرة واحدة كالكرة التي تقذف في الحائط فترتد على صاحبها‪.‬‬
‫أن تقال الحقائق على نحو متشابه ويترك لجيل قادم إحكامها‪ ،‬خير من أن تقال محكمة‬
‫فتقابل بمحكم آخر‪ ،‬وتسيل الدماء في عصر التكفير والتخوين المتبادلين»(((‪.‬‬

‫وتطبيق ًا لهذه االستراتيجية نصح حسن حنفي صاحبه نصر أبو زيد أن يغير من‬
‫أسلوبه الصادم والمستفز لعقائد الجمهور‪ ،‬وبد ً‬
‫ال من ذلك فعليه أن «يحاول أن يتبع‬
‫سياسة النفس الطويل‪ ،‬وليس النفس القصير‪ ،‬وأن يكون أقل مثالية وأكثر واقعية‪ ،‬وأن‬
‫معارك التاريخ ال يتم النصر فيها بين عشية وضحاها»(((‪.‬‬

‫وقد أقر أحد العلمانيين ذوي التوجه الماركسي ‪ -‬وهو خليل عبد الكريم ‪ -‬أنه‬
‫لجأ إلى التلميح واأللغاز‪ ،‬وعدم التصريح بكل ما يعتقده أو ما يريد قوله‪ ،‬واكتفى بما‬
‫هو «مخبوء بين السطور‪ ،‬وما جاء تحت ضغط الظروف الحاضرة تلميح ًا‪ ،‬ألن الوقت‬
‫لم يحن بعد‪ ،‬وربما لعقود عديدة قادمة‪ ،‬للتصريح به»(((‪.‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬حوار األجيال ص ‪.512‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.436‬‬
‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬مقال بعنوان «في كتاب إبراهيم عوض اليسار اإلسالمي وتطوراته «مجلة أدب‬
‫ونقد ص ‪ ،42‬أكتوبر ‪ ،2001‬والمقال مصور بكتاب منصور أبو شافعي‪ :‬العلمانيون وأنسنة القرآن‬
‫الرد على الخليل عبد الكريم ص ‪.153‬‬

‫‪20‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫لكن مع كل هذه االعترافات العلمانية المتعددة علينا أن نتساءل‪ :‬هل استمرت‬


‫تلك الحساسية والحرج من الخوض فيما يتعلق بالقرآن الكريم لدى العلمانيين؟ وهل‬
‫التزموا بما قدموه من نصح لغيرهم؟ أم أن ذلك كله قد تالشى مع مرور الوقت وتغير‬
‫الظروف‪ ،‬وصرنا نرى خطاب ًا مختلف ًا؟‬

‫في ظني أن من يطالع ما ضمنه العلمانيون في كتبهم من آراء‪ ،‬وما صاروا‬


‫يصرحون به من أقوال‪ ،‬سوف يدرك أن تلك الحساسية لم يبق منها إال القليل النادر‪،‬‬
‫ولم يعد مستغرب ًا أن نرى خوض ًا وتشكيك ًا صريح ًا أو ضمني ًا فيما هو من ضرورات‬
‫الدين وثوابت االعتقاد‪ ،‬ومن ذلك مث ً‬
‫ال مسألة قطعية ثبوت النص القرآني‪ ،‬وسالمته‬
‫التامة من لحوق التحريف زيادة أو نقص ًا(((‪.‬‬

‫ويضاف لذلك توالي دعوات نفر من العلمانيين في كتبهم المختلفة إلى‬


‫المواجهة الصريحة‪ ،‬والجرأة في التعامل مع األسئلة الممنوعة والمحرمة في مجال‬
‫الفكر اإلسالمي دون خوف أو وجل‪ ،‬حيث نادى بعضهم بالكف عن المداورة‬
‫وااللتفاف في مواجهة قضية دقيقة وحساسة مثل تاريخية القرآن الكريم‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪:‬‬
‫«ال مجال إذ ًا للمداورة وااللتفاف‪ ،‬بل األحرى واألولى مجابهة المشكلة‪ ،‬بد ً‬
‫ال من‬
‫الدوران حولها‪ ،‬والحل يكون في البرهنة على أن قراءة القرآن لم تكن يوم ًا وال يمكن‬
‫أن تكون إال تاريخية‪ ،‬ما دام اإلنسان ال ينفك عن تاريخيته وزمنيته‪ .‬هكذا كان األمر‬
‫على الدوام»(((‪.‬‬

‫كذلك صرح نصر أبو زيد بأن من ضمن أهدافه تأسيس «خطاب تنويري‪ ،‬ال‬
‫يتجاهل األسئلة المكبوتة والمحرمة‪ ،‬خطاب ال يخشى المغامرة‪ ،‬فينقل تلك األسئلة‬

‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.83‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.77‬‬

‫‪21‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫من مستوى الكبت والتحريم إلى مستوى اإلفصاح والعلن‪ ،‬نازع ًا قناع التحريم‪،‬‬
‫ومسلط ًا عليها ضوء العقل»(((‪.‬‬

‫وهكذا يبدو واضح ًا أن هؤالء العلمانيين قد وجدوا أن انتظار تهيؤ المجتمع لتقبل‬
‫أفكارهم ربما يطول‪ ،‬ولذا فال مفر من تعجيل وتيرة التغيير‪ ،‬من خالل سلوك النقد‬
‫التشكيكي العدمي‪ ،‬بطريقة ظاهرها العناية بالتراث(((‪ ،‬وباطنها وغايتها تحقيق أهدافهم‬
‫الحداثية‪ ،‬وكما أشار الجابري فمن الممكن «أن نمارس النقد الالهوتي من خالل‬
‫القدماء‪ ،‬يعني نستطيع بشكل أو بآخر استغالل الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما‬
‫بين المتكلمين بعضهم مع بعض‪ ،‬ونوظف هذا الحوار»(((‪.‬‬

‫ولعل تناولهم لمسألة أسباب النزول ‪ -‬وهي موضوع بحثنا هذا ‪ -‬يؤكد‬
‫بالفعل انتقالهم من مرحلة المداورة والمناورة إلى مرحلة الصراحة بل الفجاجة‬
‫في عرض آرائهم حول القرآن الكريم وعلومه‪ ،‬وعدم التواني عن توظيف أي قضية‬
‫من قضاياه لخدمة مشروعهم العلماني‪ ،‬والسعي لترسيخه في المجتمعات العربية‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫وثمة مالحظة مهمة يجدر بنا أن نشير إليها في هذه المقدمة حول عنوان البحث‬
‫الذي نحن بصدده‪ ،‬وهي أن كاتب هذه السطور كان ينوي أن يطلق على مجموعة‬
‫الك ّتاب الذين تم تناولهم بالدراسة وصف «الحداثيين» على غرار بحث سابق له أبان‬
‫في مقدمته((( أنه على الرغم من الخالف الكبير‪ ،‬والجدل الحاد‪ ،‬والغموض الذي أحاط‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬النص‪ ،‬السلطة‪ ،‬الحقيقة ص ‪.47‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪.258‬‬
‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬التراث والحداثة دراسات ومناقشات ص ‪.260‬‬
‫((( انظر‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي عرض ونقد ص ‪.7‬‬

‫‪22‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫بمصطلح الحداثة‪ ،‬وماذا يراد به تحديد ًا(((‪ ،‬فإننا نقصد باالتجاه الحداثي‪ :‬مجموعة‬
‫الك ّتاب المعاصرين الذين يشتركون في تبني عدة أفكار مثل‪ :‬الذاتية‪ ،‬والعقالنية‪،‬‬
‫والعلمانية‪ ،‬ونسبية الحقيقة‪ ،‬ونزع القداسة‪ ،‬والتاريخية‪ ،‬والدعوة للقطيعة مع الماضي‪،‬‬
‫وتجاوز ما قرره السابقون‪ ،‬وفتح باب التأويل‪ ،‬وإعادة فهم النصوص فهم ًا جديد ًا‪،‬‬
‫واستحداث مناهج جديدة للتعامل مع التراث ونصوص القرآن والسنة‪ ،‬مأخوذة في‬
‫الغالب من تراث الغرب النقدي واأللسني‪.‬‬

‫وقد بذل كثير من أصحاب هذا االتجاه جهد ًا حثيث ًا لتقديم مشروعات عدة لقراءة‬
‫التراث عموم ًا‪ ،‬والنص الديني على وجه الخصوص‪ ،‬ورغم تعدد تلك المشاريع وتنوع‬
‫اهتماماتها‪ ،‬إال أن ثمة جامع ًا مشترك ًا يجمع بينها‪ ،‬وهو «أنها تهدف إلى التشكيك في‬
‫المنهجية التي يختص بها اإلسالم‪ ،‬من حيث ارتباطها بالوحي‪ ،‬ويشمل ذلك التشكيك‬
‫في الوحي‪ ،‬وإنكار ثبوته‪ ،‬أو التشكيك في دالالت النصوص‪ ،‬وتفريغها من معانيها‪ ،‬أو‬
‫التشكيك في العلوم اإلسالمية التي قام عليها الوحي»(((‪.‬‬

‫ومن أبرز الشخصيات التي يمكن إدراجها في عداد هذا االتجاه الحداثي‪،‬‬
‫وإن اختلفت مشاربهم ومذاهبهم الفلسفية‪ :‬محمد أركون‪ ،‬وأدونيس‪ ،‬ومحمد عابد‬

‫((( انظر في الكالم عن تعريفات الحداثة‪ :‬بيتر بروكر‪ :‬الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬ترجمة د‪ .‬عبد الوهاب‬
‫علوب ص ‪ ،9‬وآالن تورين‪ :‬نقد الحداثة‪ ،‬ترجمة أنور مغيث ص ‪ ،19‬ود‪ .‬عبد الوهاب المسيري‪:‬‬
‫دراسات معرفية في الحداثة الغربية ص ‪ ،34‬ود‪ .‬طه عبد الرحمن‪ :‬روح الحداثة‪ ،‬المدخل إلى‬
‫تأسيس الحداثة اإلسالمية ص ‪ ،17‬ومحمد عبد العزيز العلي‪ :‬الحداثة في العالم العربي ص ‪،44‬‬
‫ود‪ .‬مصطفى حلمي‪ :‬المنهج السلفي ال الحداثة طريق النهضة ص ‪ ،7‬ومحمد سبيال‪ :‬مدارات‬
‫الحداثة ص ‪ ،123‬ود‪ .‬محمد محمود‪ :‬أعداء الحداثة‪ ،‬مراجعات العقل الغربي في تأزم فكر‬
‫الحداثة ص ‪ ،16‬ود‪ .‬ميجان الرويلي ود‪ .‬سعد البازعي‪ :‬دليل الناقد األدبي ص ‪ ،225 ،224‬ود‪.‬‬
‫علي عبد الفتاح‪ :‬الحداثة وأثرها في تأويل النص القرآني في الثقافة العربية ص ‪.1‬‬
‫((( د‪ .‬عبد الله القرني‪ :‬األساس الفلسفي للتاريخية‪ ،‬وأثره على الموقف من ثبوت الوحي في الفكر‬
‫الحداثي العربي ص ‪.3‬‬

‫‪23‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الجابري‪ ،‬وحسن حنفي‪ ،‬وهاشم صالح‪ ،‬والطيب تيزيني‪ ،‬ومحمد النويهي‪ ،‬ومحمد‬
‫شحرور‪ ،‬ونصر أبو زيد‪ ،‬وجورج طرابيشي‪ ،‬وعلي حرب‪ ،‬وعبد المجيد الشرفي‪،‬‬
‫ومحمد الشرفي‪ ،‬وهشام جعيط‪ ،‬والصادق نيهوم‪ ،‬وقاسم بلعيد‪ ،‬ومحمد سعيد‬
‫العشماوي‪ ،‬وجمال البنا‪ ،‬ونضال الصالح‪ ،‬وسيد القمني‪ ،‬وعبد الجواد يس‪ ،‬وبسام‬
‫الجمل‪ ،‬وعلي مبروك‪ ،‬وسعيد ناشيد‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫لكنني آثرت العدول عن تلك التسمية‪ ،‬واستخدام مصطلح العلمانيين‪ ،‬وال سيما‬
‫أن «مفهوم الحداثة في الفكر العربي مفهوم مطاط وغير مستقر‪ ،‬وليس له صورة واحدة‬
‫أو شكل محدد‪ ،‬فهو مفهوم متحرك وشمولي‪ ،‬يشمل كل التيارات الفكرية والمذاهب‬
‫الفلسفية بكل فروعها التي وفدت لعالمنا العربي‪ ،‬فهي أحيان ًا تعني الليبرالية‪ ،‬وأحيان ًا‬
‫تعني القومية‪ ،‬وأحيان ًا تعني االشتراكية‪ ،‬وأحيان ًا تعني الشيوعية بكل تياراتها‪ ،‬وأحيان ًا‬
‫أخرى تعني العلمنة»(((‪.‬‬

‫وقد اعترف عدد من الكتاب الغربيين‪ ،‬والعرب بغموض مفهوم الحداثة‪ ،‬وصعوبة‬
‫تقديم تعريف محدد له‪ ،‬ومن ذلك قول توني بينكني إن «الحداثة غير محددة على نحو‬
‫يدعو لإلحباط‪ ،‬كما أنها عصية شموس من حيث تحديدها الزمني بين كل مذاهب‬
‫تاريخ الفن ومفهوماته»(((‪.‬‬

‫ومن الحداثيين العرب‪ ،‬أقر هاشم صالح بضبابية هذا المصطلح‪ ،‬واستحالة إعطاء‬
‫تعريف واحد له‪ ،‬فقال‪« :‬ال بد من طرح هذا السؤال‪ :‬ما الحداثة؟ وللوهلة األولى‪،‬‬
‫كان يبدو لي أن تعريفها سهل‪ ،‬بل وتحصيل حاصل‪ ،‬بل وليست بحاجة إلى تعريف!‬

‫((( الجيالني مفتاح‪ :‬الحداثيون العرب في العقود الثالثة األخيرة والقرآن الكريم ص ‪.22 ،21‬‬
‫((( توني بينكني‪ :‬تصدير كتاب طرائق الحداثة لرايموند ويليامز ص ‪ ،12‬ترجمة فاروق عبد القادر‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ولكن وبعد تفكير‪ :‬اكتشفت استحالة إعطاء تعريف واحد لهذا المفهوم‪ ،‬الذي مأل‬
‫الدنيا وشغل الناس‪ ،‬وال يزال»(((‪.‬‬

‫وليس القصد من تسميتنا لمجموعة الكتاب الذين تناول هذا البحث آراءهم‬
‫بالعلمانيين أي نوع من التحامل المسبق‪ ،‬أو التشويه الظالم للخصوم‪ ،‬بل هو من قبيل‬
‫تقرير األمر الواقع‪ ،‬والتعبير عن حقيقة توجهاتهم الفكرية‪.‬‬

‫فهم جميع ًا متبنون للعلمانية ‪ -‬الشاملة أو الجزئية ‪ -‬ومدافعون عنها‪ ،‬ومروجون‬


‫لها‪ ،‬مع تباين نسبي في المواقف بين من يصرح بقبول العلمانية مضمون ًا واسم ًا‪ ،‬دونما‬
‫خوف أو حرج‪ ،‬ومن يتبنى المضمون ويستميت في الدفاع عنه‪ ،‬لكنه يحرص على‬
‫االبتعاد عن االسم الصريح‪ ،‬من باب التقية وعدم مصادمة مشاعر الجماهير التي تنفر‬
‫بشدة من لفظ العلمانية‪ ،‬لكن يبقى أنهم جميع ًا «من العلمانيين‪ ،‬الذين يعتبرون الدين‬
‫شأن ًا شخصي ًا‪ ،‬ال عالقة له بالشأن االجتماعي العام‪ ،‬ومنهم من ينتمي إلى العلمانية‬
‫اليسارية التي تعتبر الدين في أبعاده الغيبية قضية باطلة من أصله‪ ،‬وربما كان بعضهم‬
‫يتمسح بمسحة روحية صوفية‪ ،‬ولكنها ليست إال ظاهرية‪ ،‬أما الجوهر فهو علماني»(((‪.‬‬

‫والعلمانيون العرب وإن اتفقوا على إبعاد الدين عن الدولة والسياسة وشؤون‬
‫الحياة التفصيلية‪ ،‬إال أن موقفهم من الدين لم يكن واحد ًا‪ ،‬فهناك علمانية صلبة متطرفة‬
‫في مواقفها من الدين‪ ،‬تبني آراءها ومواقفها على أسس فلسفية وإبستمولوجية عقالنية‬
‫صرفة‪ ،‬وال تتورع عن التصريح بمعاداة الدين ومهاجمة أصوله العقدية وأحكامه‬
‫الشرعية‪ ،‬وهناك علمانية أخرى يمكن تسميتها بالعلمانية المائعة أو الجزئية‪ ،‬وهي تلك‬

‫((( هاشم صالح‪ :‬من الحداثة إلى العولمة‪ ،‬رحلة في الفكر الغربي وأثرها في الفكر العربي ص ‪.7‬‬
‫((( د‪ .‬عبد المجيد النجار‪ :‬القراءة الجديدة للنص الديني عرض ونقد‪ ،‬مجلة مجمع الفقه اإلسالمي‬
‫الدولي‪ ،‬الدورة السادسة عشرة ‪1426‬ﻫ ‪2005 -‬م‪ ،‬العدد السادس عشر‪.102/2 ،‬‬

‫‪25‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫العلمانية التي تقر بالدين شكلي ًا وال تصرح بمعاداته‪ ،‬وإن سعت لتأويله كي يتوافق مع‬
‫مبادئ الحداثة الفكرية‪ ،‬ومع أنظمتها التشريعية وخصائصها األخالقية(((‪.‬‬

‫وثمة أساليب عدة لجأ إليها هؤالء النفر من العلمانيين‪ ،‬كي يروجوا لفكرهم‪،‬‬
‫ويصححوا صورة العلمانية في عقول أبناء المجتمع المسلم‪ ،‬ويزيلوا حالة النفور‬
‫والكراهية الشديدة تجاه هذا المصطلح‪ ،‬والظالل التاريخية والنفسية المالزمة له‪،‬‬
‫ورغم تنوع تلك األساليب إال أنها ال تخرج عن تلك االستراتيجية المتبعة عندهم في‬
‫نشر أي فكرة مصادمة لعقائد األمة حيث «يشير أحدهم إلى فكرة من طرف خفي‪،‬‬
‫ويليه آخر فيقرر أن هذه الفكرة جائزة‪ ،‬ويأتي ثالث فيرفع هذا الجواز إلى مرتبة النظرية‪،‬‬
‫وهكذا تتطور الفكرة أربعة أطوار أو خمسة‪ ،‬حتى ينتهي بها المطاف إلى أن تصبح‬
‫حقيقة مقررة»(((‪.‬‬

‫‪ -1‬وأول تلك األساليب تقديم العلمانية في صورة براقة شديدة اإلغراء‪ ،‬تبتعد بها‬
‫عن الجانب المشكل‪ ،‬وهو فكرة فصل الدين عن الحياة أو عن الدولة‪ ،‬وتربطها بقيم‬
‫عصرية‪ ،‬مثل‪ :‬الحرية‪ ،‬والتعددية‪ ،‬والحق في االختالف‪ ،‬وكأن العلمانية هي العالج‬
‫الناجح لكل مشكالت المجتمع‪ ،‬والكفيل بتحقيق حلم المدينة الفاضلة أو الفردوس‬
‫المفقود‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك تعريف حسن حنفي للعلمانية بأنها ليست سوى استرداد اإلنسان‬
‫«لحريته في السلوك والتعبير‪ ،‬وحريته في الفهم واإلدراك‪ ،‬ورفضه لكل أشكال‬

‫((( انظر‪ :‬شاكير السحمودي‪ :‬مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث ص ‪،56‬‬
‫ويمكن مراجعة المسألة بتفصيل أوسع عند عبد الوهاب المسيري‪ :‬العلمانية الجزئية والعلمانية‬
‫الشاملة‪ ،‬وعادل ضاهر‪ :‬األسس الفلسفية للعلمانية‪.‬‬
‫((( خوجة كمال الدين‪ :‬المثل األعلى في األنبياء ص ‪ ،81‬عربه أمين محمود الشريف‪ ،‬وقدم له اللورد‬
‫هدلي‪ ،‬دار الفكر المعاصر‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬الطبعة األولى ‪1409‬هـ ‪1989 -‬م‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫الوصايا عليه وألي سلطة فوقه إال من سلطة العقل والضمير‪ ،‬العلمانية إذن رجوع‬
‫إلى المضمون دون الشكل‪ ،‬وإلى الجوهر دون العرض‪ ،‬وإلى الصدق دون النفاق‪،‬‬
‫وإلى وحدة اإلنسان دون ازدواجيته‪ ،‬وإلى اإلنسان دون غيره»(((‪ .‬وعلى غراره تعريف‬
‫نصر أبو زيد للعلمانية بأنها «نمط من التفكير يناهض الشمولية الفكرية‪ ،‬واإلطالقية‬
‫العقلية للكنيسة ‪ -‬أي لرجال الدين ‪ -‬على عقول البشر‪ ،‬حتى في شؤون العلم والحياة‬
‫االجتماعية‪ .‬العلمانية هي مناهضة حق امتالك الحقيقة المطلقة‪ ،‬دفاع ًا عن النسبية‬
‫والتاريخية والتعددية‪ ،‬وحق االختالف‪ ،‬بل وحق الخطأ»‪.‬‬

‫‪ -2‬واألسلوب الثاني هو التأكيد على أن العلمانية ال تعادي األديان مطلق ًا‪ ،‬وال‬
‫تحجر على معتقديها أو تضيق عليهم‪ ،‬وهي أيض ًا ال تعادي اإلسالم وال تتعارض معه‪.‬‬

‫وفي تقرير هذا المعنى يقول واحد من رموز العلمانيين العرب المعاصرين‪ ،‬وهو‬
‫د‪ .‬فؤاد زكريا‪« :‬إن هدف الحملة الفكرية المطلوبة هو أن نقنع الناس بوجوب األخذ‬
‫بالنظرية العلمانية الخالصة في كل ما يختص بأمور معاشهم ودنياهم‪ ،‬وهي لن تفلح‬
‫في هذا إال إذا أقنعتهم بأن اإلسالم ‪ -‬فيما عدا مسائل العقيدة والعبادة ‪ -‬ال يتنافى مع‬
‫النظرة العلمانية»(((‪.‬‬

‫ويؤكد هاشم صالح على ضرورة «أال نفهم العلمنة على أساس أنها ضد الدين‪ ،‬أو‬
‫حتى كفر‪ ،‬كما يتوهم الكثيرون عندنا في العالم اإلسالمي أو العربي‪ ،‬فالعلمنة ال تعني‬
‫الكفر‪ ،‬أو فرض اإللحاد على الناس بالقوة»(((‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.63‬‬


‫((( د‪ .‬فؤاد زكريا‪ :‬حوار مع جريدة الثورة الدمشقية العدد ‪ً ،6775‬‬
‫نقال عن عبد السالم البسيوني‪ :‬اليسار‬
‫اإلسالمي خنجر في ظهر اإلسالم ص ‪.30‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬من الحداثة إلى العولمة‪ ،‬رحلة في الفكر الغربي وأثرها في الفكر العربي ص ‪.29‬‬

‫‪27‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وفي رده على مخاوف من ظن أن في العلمانية قضاء على تراثنا القديم وموروثاتنا‬
‫الروحية وآثارنا الدينية؛ نبه حسن حنفي إلى أن العلمانية نشأت في الغرب‪ ،‬رد ًا على استغالل‬
‫المؤسسات الدينية للجماهير‪ ،‬وتواطئها مع السلطة وحفاظها على األنظمة القائمة‪ ،‬فكانت‬
‫بذلك استجابة طبيعية لرفض قسمة الحياة إلى قسمين‪ ،‬ورفض كل أشكال الوصاية على‬
‫اإلنسان(((‪ ،‬كذلك أكد نصر أبو زيد أن «العلمانية لمن قرأ النذر اليسير عنها في الكتب‬
‫المدرسية والملخصات ودوائر المعارف ليست نمط ًا من التفكير معادي ًا للدين»(((‪.‬‬

‫أما ما فهمه بعض الناس من أن العلمانية تعادي الدين أو تضيق عليه‪ ،‬فليس‬
‫بصحيح‪ ،‬بل على العكس تمام ًا «فالعلمانية هي الحماية الحقيقية لحرية الدين والعقيدة‬
‫والفكر وحرية اال بداع‪ ،‬وهي الحماية الحقة للمجتمع المدني‪ ،‬وال قيام له بدونها»(((‪،‬‬
‫ويرى أبو زيد أن سبب السمعة السيئة التي أحاطت بمصطلح العلمانية في الخطاب‬
‫الديني المعاصر‪ ،‬يرجع إلى خوف القائمين على هذا الخطاب من رجال الدين أن‬
‫تسلبهم العلمانية أهم أدواتهم ووسائلهم في التأثير على الجمهور‪ ،‬أو أن تجردهم من‬
‫السلطة المقدسة التي يدعونها ألنفسهم‪ ،‬حين يزعمون امتالكهم للحقيقة المطلقة(((‪.‬‬

‫‪ -3‬أما األسلوب الثالث‪ ،‬فهو أشد تلك األساليب تطرف ًا ومصادمة للحقائق الثابتة‪،‬‬
‫حيث لم يكتف هؤالء العلمانيون بتقديم معنى مغلوط للعلمانية‪ ،‬أو اإللحاح على عدم‬
‫معاداتها لألديان عموم ًا وعلى رأسها اإلسالم‪ ،‬وإنما وصل بهم الشطط والمغالطة إلى‬
‫درجة تصوير اإلسالم نفسه على أنه دين علماني في أصله‪ ،‬وال يمكن فهمه إال على‬
‫هذا النحو‪ ،‬وأن العلمانية هي التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.63‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.37‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.43‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.38‬‬

‫‪28‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ومن أمثلة هذا المسلك ما فعله محمد أركون في بعض كتبه حيث وضع عنوان ًا‬
‫هو‪« :‬نحو ممارسة علمانية لإلسالم»(((‪ .‬وأكد من خالله أنه عبر تطبيق المراجعة النقدية‬
‫لتاريخ اإلسالم وللتراث اإلسالمي «يصبح ممكن ًا تعبيد الطريق وتمهيده نحو ممارسة‬
‫علمانية لإلسالم‪ ،‬وذلك على ضوء التحديد الذي أعطيناه للعلمنة سابق ًا‪ ،‬يمكن للعلمنة‬
‫عندئذ (لكن متى) أن تنتشر في المجتمعات التي اتخذت اإلسالم دين ًا»(((‪.‬‬

‫ومن القطعيات التي سعى أركون للتشكيك فيها‪ ،‬حقيقة أن اإلسالم دين ودنيا‪،‬‬
‫وأنه ‪ -‬من ثم ‪ -‬يستبعد قطعي ًا فكرة العلمنة‪ ،‬وأنه ال يفصل الديني عن الدنيوي‪ ،‬في‬
‫حين أن المسيحية قد فعلت ذلك‪ ،‬منذ أن أصدرت تلك العبارة الشهيرة‪ :‬ما لقيصر‬
‫لقيصر وما لله لله(((‪ ،‬وخالف ًا لذلك زعم أركون‪ ،‬بال حجة أو برهان «أن اإلسالم قد‬
‫عرف تجارب علمانية فعلية أو بالفعل‪ ،‬لكن لم ينظر لها‪ ،‬ولم تسجل على هيئة مبادئ‬
‫وقوانين‪ ،‬كما حصل في الغرب بدء ًا من القرن التاسع عشر وأوائل العشرين‪ ،‬ولم يكن‬
‫ممكن ًا أن تكون األمور على غير هذا النحو‪ ..‬إذن ال يكفي أن نردد كالببغاوات بأن‬
‫اإلسالم دين ودنيا‪ ،‬وأنه بالتالي يستبعد قطعي ًا فكرة العلمنة‪ ،‬ذلك بأن األديان األخرى‬
‫كانت كذلك في المراحل السابقة للتاريخ»(((‪.‬‬

‫ويبدو األمر أكثر صراحة وفجاجة عند حسن حنفي‪ ،‬فالعلمانية في تصوره ليست‬
‫فقط مفهوم ًا مقبو ً‬
‫ال‪ ،‬أو على أحسن األحوال ال يتعارض مع اإلسالم‪ ،‬وإنما هي جوهر‬
‫اإلسالم وأساس الوحي‪ ،‬ومن ثم نجده يقول بالحرف الواحد‪« :‬اإلسالم دين علماني‬

‫((( محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.294‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.295‬‬
‫((( انظر‪ :‬مقدمة هاشم صالح لترجمة كتاب أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.11‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.11‬‬

‫‪29‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫في جوهره‪ ،‬ومن ثم فال حاجة له لعلمانية زائدة عليه مستمدة من الحضارة الغربية»(((‪،‬‬
‫وفي كتاب آخر له يزعم أن العلمانية «هي أساس الوحي‪ ،‬فالوحي علماني في جوهره‪،‬‬
‫والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ‪ ،‬تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن‬
‫التطور‪ ،‬وما شأننا بالكهنوت‪ ،‬والعلمانية ما هي إال رفض له؟ العلمانية في تراثنا وواقعنا‬
‫هي األساس‪ ،‬واتهامها بالالدينية تبعية لفكر غريب‪ ،‬وتراث مغاير‪ ،‬وحضارة أخرى»(((‪.‬‬

‫وفي كتابه «نقد الفكر الديني» دافع نصر أبو زيد باستفاضة عن العلمانية‪ ،‬ورد على‬
‫من فهم معناها خطأ‪ ،‬أو زعم معاداتها للدين عموم ًا أو لإلسالم على وجه الخصوص‪،‬‬
‫وبعد أن تالعب بالمفاهيم‪ ،‬وتعسف في تحديد المراد بها‪ ،‬خلص إلى النتيجة التي‬
‫يريدها وهي «أن العلمانية ليست بالضرورة مضادة للعقيدة‪ ،‬بل إن اإلسالم هو الدين‬
‫العلماني بامتياز‪ ،‬ألنه ال يعترف بسلطة الكهنوت‪ ،‬وألنه يمثل بداية تحرير العقل لتأمل‬
‫العالم واإلنسان أي الطبيعة والمجتمع واكتشاف قوانينهما»(((‪ ،‬وجوهر العلمانية ‪-‬‬
‫عند نصر أبو زيد ‪ -‬ليس شيئ ًا مخالف ًا للدين أو معارض ًا له‪ ،‬أو دعوة إلى اإللحاد‪ ،‬بل‬
‫األمر على العكس من ذلك كله «وليست العلمانية في جوهرها سوى التأويل الحقيقي‬
‫والفهم العلمي للدين‪ ،‬وليست ما يروج له المبطلون من أنها اإللحاد الذي يفصل الدين‬
‫عن المجتمع والحياة»(((‪.‬‬

‫((( حسن حنفي ومحمد عابد الجابري‪ :‬حوار المشرق والمغرب ص ‪ ،38‬وإذا كان حسن حنفي يجعل‬
‫اإلسالم هنا متفق ًا‪ ،‬بل متطابق ًا مع العلمانية‪ ،‬فهو في كتاب آخر له يجعله متفق ًا مع الماركسية في‬
‫األهداف‪ ،‬حيث قال‪« :‬اإلسالم والماركسية متفقان في األهداف‪ ،‬وهو تحقيق العدالة االجتماعية‪،‬‬
‫وإقامة المجتمع الالطبقي‪ ،‬وأن يكون العمل وحده مصدر القيمة‪ ..‬وقد تختلف الوسائل في تحقيق‬
‫ذلك» الدين والثورة في مصر ‪.224/7‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.63‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.38 ،37‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.64‬‬

‫‪30‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وعلى الشاكلة نفسها ذهب محمد أحمد خلف الله إلى أن القرآن الكريم هو «أول‬
‫وآخر كتاب سماوي يعمل على القضاء على الدولة الدينية‪ ،‬وإحالل الدولة المدنية‬
‫الديمقراطية محلها»(((‪ .‬وزعم محمد سعيد العشماوي أن السياسة في اإلسالم ليست‬
‫أص ً‬
‫ال وال أساس ًا‪ ،‬والنبي ‪ #‬نفسه لم يمارس السياسة قط في العهد المكي(((‪.‬‬

‫‪ -4‬وثمة نوع آخر من األساليب المضللة‪ ،‬والمتبرقعة ببرقع التقية والمخاتلة التي‬
‫لجأ إليها نفر من العلمانيين كإجراء تكتيكي مؤقت‪ ،‬ريثما تتغير الظروف واألحوال في‬
‫المجتمعات اإلسالمية‪ ،‬ويتمثل في التخلي عن المجاهرة باستخدام مصطلح العلمانية‪،‬‬
‫وإن تم اإلبقاء على مضمونه وحقيقته األساسية‪ ،‬خالف ًا لجيل سابق من العلمانيين لم‬
‫يكن يتحرج مطلق ًا من التصريح بدعوة الناس إلى اجتياز ما يصفه «بالمرحلة الدينية‬
‫الضيقة في التفكير إلى المرحلة العلمانية الواسعة في كل شؤونهم الدنيوية»(((‪.‬‬

‫وممن صرح بذلك محمد أركون في أحد كتبه المتأخرة‪ ،‬حيث أشار إلى أن «كلمة‬
‫العلمانية تثير نفور كثير من المسلمين للوهلة األولى‪ ،‬إنهم يخشونها‪ ،‬ويعود ذلك إلى‬
‫أسباب تاريخية معروفة»(((‪ .‬ومن هذا المنطلق تساءل أركون عن إمكانية التخلي عن‬
‫العلمنة دون خطر‪ ،‬والميزات الناتجة عن ذلك؟ وكان جوابه أن العلمنة مفهوم عرضي‬
‫أو تاريخي‪ ،‬وليس أزلي ًا أو سرمدي ًا‪ ،‬ومن مميزات التخلي عنه واالنتقال إلى مفهوم‬
‫فلسفي واسع وكوني‪ ،‬أنه يتيح استخدام المصادر الثقافية الخاصة بالفكر اإلسالمي‬
‫لحث المسلمين على فهم العلمنة بشكل أفضل‪ ،‬وتبنيها أيض ًا(((‪.‬‬

‫((( محمد أحمد خلف الله‪ :‬القرآن نظرة عصرية جديدة ص ‪.8 ،7‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد سعيد العشماوي‪ :‬حقيقة الحجاب ص ‪.73‬‬
‫((( د‪ .‬محمد النويهي‪ :‬نحو ثورة في الفكر الديني ص ‪.102‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬اإلسالم أوربا الغرب ص ‪.103‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪ ،103‬وانظر‪ :‬جورج طرابيشي‪ :‬من النهضة إلى الردة ص ‪.137‬‬

‫‪31‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫كذلك نلحظ تغير ًا واضح ًا في موقف محمد عابد الجابري من استعمال مصطلح‬
‫العلمانية‪ ،‬ففي أعماله المبكرة كان يصرح بتبني العلمانية ومباركتها‪ ،‬لكنه في أعماله‬
‫المتأخرة مال لترك هذا المصطلح بعد تشوهه‪ ،‬ودعا لوضع مصطلحات أخرى أقل‬
‫حساسية(((؛ ألنه «ما من شعار من شعارات الفكر العربي الحديث كان وما يزال مدعاة‬
‫للبس وسوء التفاهم كشعار العلمانية»(((‪ ،‬ومن ثم فالحل في رأيه استبداله بشعارات‬
‫أخرى مثل «الديمقراطية والعلمانية‪ ،‬فهما اللذان يعبران تعبير ًا مطابق ًا عن حاجات‬
‫المجتمع العربي»(((‪ .‬وأما ما يخص الدولة نفسها فمن الممكن أن تكون «علمانية‬
‫المضمون كما هو الحال اليوم‪ ،‬لكنها ال يمكن أن تتبنى العلمانية شعار ًا أيديولوجي ًا‪،‬‬
‫بل ال بد أن تعلن تمسكها بالدين والعمل على نصرته»(((‪.‬‬

‫لكن هذا المسلك األخير الساعي للتخلي عن مصطلح العلمانية مؤقت ًا‪ ،‬واستبداله‬
‫بغيره لم يعجب بعض العلمانيين المتطرفين‪ ،‬الذين ساءتهم تلك النزعة التي ترمي إلى‬
‫التقريب بين اإلسالم والعلمانية‪ ،‬أو البحث عن مسوغات شرعية للعلمانية‪ ،‬وترويجها‬
‫بين الشعوب المسلمة التي ظلت في مجملها تنفر من هذا المصطلح‪.‬‬

‫ومن هذا الفريق عادل ضاهر في كتابه «األسس الفلسفية للعلمانية» حيث انتقد تلك‬
‫ال‪« :‬واألخطر من كل هذا‪ ،‬واألكثر تدلي ً‬
‫ال على تراجع الفكر العلماني عندنا‪،‬‬ ‫النزعة قائ ً‬
‫ما نشهده من محاوالت حثيثة من قبل المفكرين العلمانيين لدعم موقفهم عن طريق‬

‫((( انظر‪ :‬إبراهيم السكران‪ :‬مآالت الخطاب المدني ص ‪.34 ،33‬‬


‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬الدين والدولة وتطبيق الشريعة ص ‪ ،108‬وفي نقد الحاجة إلى اإلصالح‬
‫ص ‪.83‬‬
‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬الدين والدولة وتطبيق الشريعة ص ‪ ،113‬وحسن حنفي ومحمد عابد‬
‫الجابري‪ :‬حوار المشرق والمغرب ص ‪.39‬‬
‫((( انظر‪ :‬منى الشافعي‪ :‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن ص ‪ ،99‬ود‪ .‬صالح الدميجي‪:‬‬
‫موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪.258‬‬

‫‪32‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫اللجوء إلى اإلسالم نفسه ‪ -‬إلى القرآن والسنة ‪ -‬غير مدركين أنهم إنما يقدمون بهذا‬
‫أكبر التنازالت للحركات المناوئة للعلمانية‪ ،‬وأنهم ‪ -‬وهذا هو األخطر ‪ -‬إنما يناقضون‬
‫أنفسهم أيما تناقض‪ ،‬إذ يجعلون النص الديني مرجعهم األخير في مجال دفاعهم عن‬
‫علمانيتهم‪ ،‬بينما العلمانية تقوم في المقام األول على مبدأ أسبقية العقل على النص»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه دعا جورج طرابيشي ‪ -‬دون تحرج من كونه مسيحي ًا ‪ -‬إلى‬
‫علمنة اإلسالم‪ ،‬وعدم االكتفاء بعلمنة الدولة وحدها‪ ،‬أو الدولة والمجتمع مع ًا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«ليس المطلوب علمنة الدولة وحدها على مستوى السطح‪ ،‬بل أيض ًا علمنة المجتمع‬
‫على مستوى العمق»‪ .‬ثم أشار إلى أنه باإلضافة إلى ضرورة علمنة المجتمع‪ ،‬فال بد‬
‫من «علمنة الدين‪ ،‬فالدين وهنا اإلسالم هو من أحوج األديان اليوم إلى الفصل فيه بين‬
‫الزمني والروحي»(((‪.‬‬

‫أما نصر أبو زيد ‪ -‬فعلى الرغم من أنه أحد الساعين لتحسن صورة العلمانية ‪ -‬فقد‬
‫أبدى ضيقه من أولئك «العلمانيين الذين يخضعون لالبتزاز الديني في أغلب األحوال‪،‬‬
‫فيتحاشون استخدام مصطلح العلمانية تقية وخشية االتهام بالكفر واإللحاد‪ ،‬لكنهم‬
‫بهذه التقية يؤكدون بالصمت التزييف الذي كشفناه»(((‪.‬‬

‫وقبل ختام هذه المقدمة‪ ،‬أود اإلشارة إلى وجود عدد من الدراسات المهمة التي‬
‫تناولت جوانب من موضوع دراستنا هذه بصورة أو بأخرى‪ ،‬وقد اطلع كاتب السطور‬
‫على الكثير منها‪ ،‬واستفاد مما فيها‪ ،‬وإن كانت في نظري ال تغلق الباب أمام الكتابة‬
‫في هذا الموضوع‪ ،‬ألنها في الغالب تناولت أسباب النزول عند العلمانيين عرض ًا أثناء‬

‫((( عادل ضاهر‪ :‬األسس الفلسفية للعلمانية ص ‪.5‬‬


‫((( جورج طرابيشي‪ :‬هرطقات ‪ 2‬ص ‪.93‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.44‬‬

‫‪33‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫التعرض لموقفهم عموم ًا من القرآن‪ ،‬أو دعواهم الخطيرة في إثبات تاريخية القرآن‪ ،‬أو‬
‫الموقف من تفسيره‪ ،‬أو علومه(((‪.‬‬
‫والدراسة الوحيدة التي اطلعت عليها‪ ،‬وأفردت لهذا الموضوع استقال ً‬
‫ال‪ ،‬هي‬
‫دراسة د‪ .‬محمد سالم أبو عاصي‪ ،‬والتي كانت طبعتها األولى بعنوان «أسباب النزول‬
‫بين الفكر اإلسالمي والفكر العلماني»‪ ،‬ثم عدل المؤلف عنوانها في الطبعة الثانية‬
‫إلى عنوان أكثر انطباق ًا على مضمونها وهو‪« :‬أسباب النزول تحديد مفاهيم ورد‬
‫شبهات»(((‪ ،‬وتقع هذه الدراسة في طبعتها الثانية فيما يقارب مائة وسبعين صفحة‪،‬‬

‫((( وسوف يرد في قائمة المصادر والمراجع إن شاء الله عناوين الكثير من تلك الدراسات‪ ،‬لكننا‬
‫نخص بالذكر هنا بعض ًا منها مثل‪:‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬التفسير الماركسي لإلسالم‪ ،‬وسقوط الغلو العلماني‪.‬‬
‫‪ -‬مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬أحمد إدريس الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم‪ ،‬تاريخية النص‪ .‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬محمد محمود كالو‪ :‬القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير‪.‬‬
‫‪ -‬الجيالني مفتاح‪ :‬الحداثيون العرب في العقود الثالثة األخيرة والقرآن الكريم‪ ،‬دراسة نقدية‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬عبد المجيد النجار‪ :‬القراءة الجديدة للنص الديني‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم‪ ،‬دراسة‬
‫تحليلية نقدية‪.‬‬
‫‪ -‬منى الشافعي‪ :‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬أحمد محمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن‪.‬‬
‫‪ -‬عبد الله العجيري‪ :‬ينبوع الغواية الفكرية‪ ،‬غلبة المزاج الليبرالي‪ ،‬وأثره في تشكيل الفكر والتصورات‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬سليمان بن صالح الغصن‪ :‬إعادة قراءة النص الشرعي واستهدافه في الفكر العربي المعاصر‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬علي عبد الفتاح‪ :‬الحداثة وأثرها في تأويل النص القرآني في الثقافة العربية‪.‬‬
‫‪ -‬د‪ .‬محمود بن علي البعداني‪ :‬موقف المدرسة العقلية المعاصرة من علوم القرآن وأصول التفسير‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد سالم أبو عاصي‪ :‬أسباب النزول تحديد مفاهيم ورد شبهات‪ ،‬دار البصائر القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪1423 ،‬ﻫ ‪2002 -‬م‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫لكن التناول المباشر آلراء العلمانيين لم يكد يتجاوز ثالثين صفحة‪ ،‬وقد جاء مختصر ًا‬
‫جد ًا‪ ،‬ولم يتعرض سوى لنماذج عابرة‪.‬‬

‫وأخير ًا فقد جاءت هذه الدراسة في مقدمة‪ ،‬وثالثة فصول‪ ،‬وخاتمة‪:‬‬

‫تناول الفصل األول موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‪ ،‬كتعريفه‪،‬‬
‫واالدعاء بأن لكل آية سبب نزول‪ ،‬وهل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب‪.‬‬

‫أما الفصل الثاني فقد تناول مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‪،‬‬
‫والمتمثلة في توظيف هذا الباب من أبواب علوم القرآن‪ ،‬إلثبات عالقة النص بالواقع‪،‬‬
‫وتاريخية النص‪ ،‬وبشرية القرآن وأنسنته‪ ،‬ووقتية األحكام الشرعية‪ ،‬وقابليتها للتغيير‪.‬‬

‫وأما الفصل الثالث فقد عرض ألبرز التناقضات واإلشكاالت المنهجية التي وقع‬
‫فيها العلمانيون خالل تعاملهم مع باب أسباب النزول‪.‬‬

‫ثم ختمت الدراسة بتعقيب أخير‪ ،‬وقائمة بأهم المصادر والمراجع‪.‬‬

‫وإني ألسأل الله سبحانه التوفيق والسداد والقبول‪ ،‬وأن يكون هذا العمل‬
‫خالص ًا لوجهه الكريم‪ ،‬وزاد ًا لنا في يوم معادنا‪ ،‬وأن يجعلنا سبحانه ‪ -‬بمنه وكرمه ‪-‬‬
‫من جملة المنافحين عن كتاب الله الكريم‪ ،‬وسنة رسوله ‪ #‬المطهرة‪ ،‬وحياض هذا‬
‫الدين العظيم‪ ،‬وحمى هذه الشريعة الغراء‪ ،‬والنافين عن علم الشرع الشريف‪ :‬تأويل‬
‫الجاهلين‪ ،‬وانتحال المبطلين‪ ،‬وتحريف الغالين‪.‬‬

‫وصلى الله على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‪ ،‬وسلم تسليم ًا كثير ًا‪ ،‬والحمد لله‪،‬‬
‫أو ً‬
‫ال وآخر ًا‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫الفصل األول‪ :‬موقف العلمانيين من‬
‫أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وحيتوي عىل ثالثة مباحث‪:‬‬

‫» »املبحث األول‪ :‬مفهوم أسباب النزول عند‬


‫العلامنيني‪.‬‬

‫» »املبحث الثاين‪ :‬االدعاء بأن لكل آية سبب‬


‫نزول‪.‬‬

‫» »املبحث الثالث‪ :‬هل العربة بعموم اللفظ‬


‫أم بخصوص السبب؟‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫يعد «أسباب النزول» واحد ًا من أهم موضوعات علوم القرآن‪ ،‬وقد لقي عناية‬
‫كبيرة من أهل العلم قديم ًا وحديث ًا‪ ،‬حيث أفرد بمصنفات خاصة(((‪ ،‬كما تمت دراسته‬
‫بتفصيل وتوسع في الكتب المؤلفة في علوم القرآن‪ ،‬والتي ال يكاد يخلو أحد كتبها من‬
‫إفراد أسباب النزول بمبحث مستقل‪ ،‬إضافة إلى تناول علماء أصول الفقه لبعض قضايا‬
‫أسباب النزول‪ ،‬التي لها صلة وثيقة باستنباط األحكام الفقهية‪ ،‬مثل‪ :‬قضية العبرة بعموم‬
‫اللفظ‪ ،‬أم بخصوص السبب‪.‬‬

‫وثمة مسائل عدة تعرض لها المصنفون في علوم القرآن أثناء تناولهم لباب أسباب‬
‫النزول‪ ،‬منها(((‪ :‬تعريفه‪ ،‬وتحرير المراد منه‪ ،‬وبيان ما ليس داخ ً‬
‫ال فيه‪ ،‬وبيان فوائده‬
‫وأهميته‪ ،‬وصوره‪ ،‬وألفاظ التعبير عنه‪ ،‬وطريق معرفته‪ ،‬وتعدد النزول‪ ،‬والترجيح بين ما‬
‫تعارض منه‪ ،‬وهل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب‪ ،‬إضافة إلى التتبع المفصل‬
‫ألسباب النزول‪ ،‬وجمعها‪ ،‬وترتيبها بحسب سور القرآن الكريم‪.‬‬
‫((( ومن نماذج ذلك قديم ًا‪ :‬أسباب نزول القرآن للواحدي‪ ،‬والعجاب في بيان األسباب البن حجر‪،‬‬
‫ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي‪ ،‬ومن الكتب المؤلفة حديث ًا‪ :‬الصحيح المسند من‬
‫أسباب النزول لمقبل الوادعي‪ ،‬واالستيعاب في بيان األسباب لسليم الهاللي ومحمد موسى نصر‪،‬‬
‫وصحيح أسباب النزول إلبراهيم العلي‪ ،‬وفتح الرحمن في أسباب نزول القرآن للدكتور محمد‬
‫سالم محيسن‪ ،‬والمحرر في أسباب نزول القرآن من خالل الكتب التسعة للدكتور خالد المزيني‪،‬‬
‫وغير ذلك الكثير‪ ،‬وانظر في تتبع تلك المصنفات‪ :‬مقدمة د‪ .‬عبد الحكيم األنيس لتحقيق العجاب‬
‫في بيان األسباب البن حجر ‪ ،80/1‬وأسباب النزول أسانيدها وأثرها في التفسير للشيخ بن جمعة‬
‫سهل‪ :‬ص ‪ ،6‬وأسباب النزول وأثرها في بيان النصوص للدكتور عماد الدين الرشيد ص ‪،105‬‬
‫وموسوعة بيبلوغرافيا علوم القرآن ‪.86/1‬‬
‫ً‬
‫تفصيال لتلك المسائل عند‪ :‬ابن تيمية‪ :‬مقدمة في أصول التفسير ص ‪ ،34‬والزركشي‪ :‬البرهان‬ ‫((( انظر‬
‫في علوم القرآن ‪ ،22/1‬والسيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪ ،107/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان‬
‫‪ ،106/1‬والطاهر بن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ‪ ،46/1‬ود‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم‬
‫القرآن ‪ ،241/1‬ومناع القطان‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص ‪ ،75‬ود‪ .‬صبحي الصالح‪ :‬مباحث‬
‫في علوم القرآن ‪ ،127‬ود‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬المحرر في علوم القرآن ص ‪ ،121‬ود‪ .‬خالد المزيني‪:‬‬
‫المحرر في أسباب نزول القرآن ‪.19/1‬‬

‫‪39‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أما التناول العلماني ألسباب النزول فقد ركز على نوعية من القضايا التي تخدم‬
‫توجههم وغاياتهم في ترسيخ مشروعهم الفكري‪ ،‬والتي دارت في األغلب حول إثبات‬
‫تاريخية القرآن‪ ،‬وأنسنته‪ ،‬وانبثاقه من الواقع‪ ،‬وتغير أحكامه بتغير الزمان‪.‬‬

‫وسوف نعرض فيما يلي لثالث مسائل‪ ،‬تعتبر في رأيي أهم ما دارت حوله كتابات‬
‫العلمانيين في هذا الباب‪ ،‬وتفصيلها فيما يلي‪:‬‬

‫‪40‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫المبحث األول‬

‫مفهوم أسباب النزول عند العلمانيين‬

‫أو ًال‪ :‬متهيد عن مفهوم أسباب النزول عند علامء املسلمني‪:‬‬


‫لعل من المهم أن نبدأ أو ً‬
‫ال بتحرير مفهوم أسباب النزول عند علماء المسلمين‬
‫قديم ًا وحديث ًا‪ ،‬ليتبين لنا حقيقة هذا المصطلح‪ ،‬وما المقصود به‪ ،‬وما الذي يصلح أن‬
‫يكون سبب نزول‪ ،‬وما ال يصلح أن يكون سبب ًا‪ ،‬ثم لنقارن بين هذا المفهوم اإلسالمي‪،‬‬
‫وتلك المفاهيم التي قدمها أصحاب الفكر العلماني‪.‬‬

‫ومما يلفت النظر أننا ال نكاد نقف على تعريف لهذا المصطلح عند العلماء‬
‫المتقدمين‪ ،‬كعادتهم في عدم االنشغال بوضع الحدود والتعريفات النظرية‪ ،‬والتركيز‬
‫على الجانب العملي المتمثل في جمع ما روي من أسباب النزول‪.‬‬

‫أما المتأخرون والمعاصرون‪ ،‬فقد قدموا تعريفات عديدة ألسباب النزول‪ ،‬منها‬
‫تعريف السيوطي بأنه «ما نزلت اآليات أيام وقوعه»(((‪ .‬وزاد الشيخ الزرقاني هذا‬
‫التعريف تفصي ً‬
‫ال وضبط ًا‪ ،‬فرأى أن «سبب النزول هو ما نزلت اآلية أو اآليات متحدثة‬
‫عنه‪ ،‬أو مبينة لحكمه أيام وقوعه‪ ،‬والمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبي ‪ #‬أو سؤال‬
‫وجه إليه‪ ،‬فنزلت اآلية أو اآليات من الله تعالى ببيان ما يتصل بتلك الحادثة أو بجواب‬
‫هذا السؤال»(((‪ ،‬وعرفه الشيخ مناع القطان بأنه «ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه كحادثة‬

‫((( السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪ ،116/1‬ولباب النقول في أسباب النزول ص ‪.4‬‬
‫((( الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،106/1‬وقد تابعه على هذا التعريف آخرون‪ ،‬فانظر‪ :‬د‪ .‬محمد أبو شهبة‪:‬‬
‫المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ‪ ،132‬ود‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن ‪.253/1‬‬

‫‪41‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أو سؤال»(((‪ ،‬ومال بعض الدارسين المعاصرين إلى تعريف سبب النزول بتعريف جيد‬
‫ٍ‬
‫سؤال ممن عاصروا التنزيل نزل بشأنه‬ ‫يجمع جل صوره فعرفه بأنه «كل قول أو فعل أو‬
‫قرآن عند وقوعه»((( أو «هو الحوادث واألسئلة التي نزل بشأنها قرآن وقت وقوعها»(((‪.‬‬

‫ونخلص مما سبق إلى أن سبب النزول عبارة عن واقعة أو حادثة ‪ -‬سواء كانت‬
‫ال أو سؤا ً‬
‫ال ‪ -‬وقعت في زمان النبوة‪ ،‬ونزل القرآن من أجلها‪ ،‬مجيب ًا عنها‪،‬‬ ‫قو ً‬
‫ال أو فع ً‬
‫ومؤص ً‬
‫ال لحكم الله فيها(((‪.‬‬

‫وعلى هذا‪ ،‬فيشترط فيما يعد سبب نزول؛ أمران‪ :‬أحدهما‪ :‬أن ينزل القرآن من‬
‫أجله وبسببه‪ ،‬واآلخر‪ :‬أن ينزل في زمن وقوع الوحي‪ ،‬ومن ثم فال يصح مث ً‬
‫ال أن يقال‬
‫بأن سبب نزول سورة الفيل هو قدوم الحبشة لهدم الكعبة‪ ،‬فليس هذا من باب أسباب‬
‫النزول في شيء‪ ،‬بل هو من اإلخبار عن الوقائع الماضية‪ ،‬مثله مثل سائر قصص‬
‫القرآن(((‪.‬‬

‫وهناك أمثلة عديدة على كل نوع من أنواع أسباب النزول‪ ،‬فمن أمثلة السؤال‬
‫أو االستفتاء‪ ،‬سواء كان من المسلمين أو من غيرهم‪ :‬ما رواه الشيخان عن َجابِر ْبن‬
‫اش َي ْي ِن‪َ ،‬ف ُأ ْغ ِم َي َع َل َّي‪،‬‬
‫الله ‪َ #‬و َأ ُبو َب ْك ٍر َي ُعو َدانِي َم ِ‬
‫ول ِ‬ ‫ال‪َ :‬م ِر ْض ُت َف َأ َتانِي َر ُس ُ‬ ‫َع ْب ِد ِ‬
‫الله َق َ‬
‫ف َأ ْق ِضي ِفي َمالِي؟‬ ‫ول ِ‬
‫الله‪َ ،‬ك ْي َ‬ ‫َفت ََو َّض َأ ُث َّم َص َّب َع َل َّي ِم ْن َو ُضوئِ ِه َف َأ َف ْق ُت‪ُ ،‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬

‫((( مناع القطان‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص ‪.78‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬خالد المزيني‪ :‬المحرر في أسباب نزول القرآن ‪ ،105/1‬ود‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬المحرر في‬
‫علوم القرآن ص ‪.124‬‬
‫((( عبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول وأثرها في اختالف المفسرين والفقهاء ص ‪.12‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عماد الدين الرشيد‪ :‬أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص ص ‪ ،26‬ود‪ .‬محمد أبو‬
‫عاصي‪ :‬أسباب النزول تحديد مفاهيم ورد شبهات ص ‪.24‬‬
‫((( انظر‪ :‬السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪.116/1‬‬

‫‪42‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫َف َل ْم َي ُر َّد َع َل َّي َش ْيئ ًا َح َّتى َنزَ َل ْت آ َي ُة ا ْل ِم َير ِ‬


‫اث‪َ { :‬ي ْس َتفْ ُتو َن َك ُق ِل الل ُه ُيفْ ت ُ‬
‫ِيك ْم فِي ا ْل َكال َلةِ}‬
‫[سورة النساء‪.(((]176 :‬‬

‫الله َت َعا َلى‪َ { :‬و ِإنْ‬ ‫الز َب ْي ِر‪َ :‬أ َّن ُه َس َأ َل َعائِ َش َة َر ِض َي ُ‬
‫الله َع ْن َها‪َ ،‬ع ْن َق ْو ِل ِ‬ ‫وعن ُع ْر َو ُة ْب ُن ُّ‬
‫ون ِفي ِح ْج ِر َولِ ِّي َها‪ُ ،‬ت َشا ِر ُك ُه‬ ‫خِ فْ ُت ْم} إلى { َو ُر َب َاع} َف َقا َل ْت‪َ :‬يا ا ْب َن ُأ ْختِي‪ِ ،‬ه َي ا ْل َيتِ َ‬
‫يم ُة َت ُك ُ‬
‫ِفي َمالِ ِه‪َ ،‬ف ُي ْع ِج ُب ُه َما ُل َها َو َج َما ُل َها‪َ ،‬ف ُي ِريدُ َولِ ُّي َها َأ ْن َيتَزَ َّو َج َها‪ ،‬بِ َغ ْي ِر َأ ْن ُي ْق ِس َط ِفي َصدَ ِاق َها‪،‬‬
‫وه َّن إِ َّل َأ ْن ُي ْق ِس ُطوا َل ُه َّن‪َ ،‬و َي ْب ُل ُغوا بِ ِه َّن َأ ْع َلى‬
‫َف ُي ْع ِط َي َها ِمث َْل َما ُي ْع ِط َيها َغ ْي ُر ُه‪َ ،‬فن ُُهوا َأ ْن َي ْن ِك ُح ُ‬
‫اء ِس َو ُاه َّن‪َ .‬ق َ‬
‫ال ُع ْر َو ُة‪َ :‬قا َل ْت‬ ‫اق‪َ ،‬و ُأ ِم ُروا َأ ْن َي ْن ِك ُحوا َما َط َ‬
‫اب َل ُه ْم ِم َن الن َِّس ِ‬ ‫الصدَ ِ‬‫ُس َّنتِ ِه َّن ِم َن َّ‬
‫الله ‪َ #‬ب ْعدَ َه ِذ ِه ْال َي ِة‪َ ،‬ف َأ ْنزَ َل ُ‬
‫الله { َو َي ْس َتفْ ُتو َن َك فِي‬ ‫ول ِ‬ ‫اس َت ْفت َْوا َر ُس َ‬ ‫اس ْ‬ ‫َعائِ َش ُة‪ُ :‬ث َّم إِ َّن ال َّن َ‬
‫ال ِّن َساءِ} إلى َق ْولِ ِه { َوت َْرغَ ُبونَ َأنْ َت ْنكِ ُحو ُه َّن} [سورة النساء‪.(((]127 :‬‬

‫ال‪َ :‬ب ْينَا َأ َنا‬


‫الله بن مسعود َق َ‬ ‫ومن أمثلة سؤال اليهود ما رواه الشيخان عن َع ْب ِد ِ‬
‫ب ا ْل َم ِدين َِة َو ُه َو َيت ََو َّك ُأ َع َلى َع ِس ٍ‬
‫يب َم َع ُه‪َ ،‬ف َم َّر بِ َن َف ٍر ِم َن ا ْل َي ُه ِ‬
‫ود‬ ‫َأ ْم ِشي َم َع ال َّنبِ ِّي ‪ِ #‬في َخ ِر ِ‬
‫يه بِ َش ْي ٍء‬ ‫ال َب ْع ُض ُه ْم‪َ :‬ل َت ْس َأ ُلو ُه؛ َل َي ِج ُ‬
‫يء ِف ِ‬ ‫وح‪َ ،‬و َق َ‬‫الر ِ‬ ‫ض‪َ :‬س ُلو ُه َع ِن ُّ‬ ‫ال َب ْع ُض ُه ْم لِ َب ْع ٍ‬
‫َف َق َ‬
‫وح؟‬ ‫الر ُ‬‫اس ِم‪َ ،‬ما ُّ‬ ‫ال َب ْع ُض ُه ْم‪َ :‬لن َْس َأ َل َّن ُه‪َ ،‬ف َق َام َر ُج ٌل ِم ْن ُه ْم َف َق َ‬
‫ال‪َ :‬يا َأ َبا ا ْل َق ِ‬ ‫َت ْك َر ُهو َن ُه‪َ .‬ف َق َ‬
‫وح ُق ِل‬ ‫وحى إِ َل ْي ِه‪َ ،‬ف ُق ْم ُت‪َ ،‬ف َل َّما ان َْج َلى َع ْن ُه َق َ‬
‫ال‪َ { :‬و َي ْس َأ ُلو َن َك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫َف َس َك َت‪َ .‬ف ُق ْل ُت‪ :‬إِ َّن ُه ُي َ‬
‫وح م ِْن َأ ْم ِر َر ِّبي َو َما ُأو ُتوا م َِن ا ْلعِ ْل ِم ِإ َّل َقلِي ًال} [سورة اإلسراء‪.(((]85 :‬‬ ‫الر ُ‬‫ُّ‬
‫اس َر ِض َي‬ ‫ال‪ ،‬ما في صحيح البخاري عن ا ْب ِن َع َّب ٍ‬ ‫ال أو فع ً‬ ‫ومن أمثلة الحوادث قو ً‬
‫ون‪،‬‬ ‫ون‪َ ،‬و َي ُقو ُل َ‬
‫ون‪َ :‬ن ْح ُن ا ْل ُمت ََو ِّك ُل َ‬ ‫ان َأ ْه ُل ا ْل َي َم ِن َي ُح ُّج َ‬
‫ون َو َل َيتَزَ َّو ُد َ‬ ‫الله َع ْن ُه َما قال‪َ :‬ك َ‬ ‫ُ‬
‫الزا ِد ال َّتقْ َوى}‬ ‫الله َت َعا َلى‪َ { :‬وت ََز َّو ُدوا َف ِإنَّ خَ ْي َر َّ‬‫اس‪َ ،‬ف َأ ْنزَ َل ُ‬ ‫َفإِ َذا َق ِد ُموا َم َّك َة َس َأ ُلوا ال َّن َ‬

‫((( رواه البخاري (‪ )194‬ومسلم (‪.)1616‬‬


‫((( رواه البخاري (‪ )2494‬ومسلم (‪.)3018‬‬
‫((( رواه البخاري (‪ )125‬ومسلم (‪.)2794‬‬

‫‪43‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫[سورة البقرة‪.(((]197 :‬‬

‫اب ِم ِن ا ْم َر َأ ٍة ُق ْب َل ًة‪َ ،‬ف َأ َتى ال َّنبِ َّي ‪َ #‬ف َأ ْخ َب َر ُه‪َ ،‬ف َأ ْنزَ َل‬
‫ال َأ َص َ‬ ‫ود‪َ :‬أ َّن َر ُج ً‬ ‫وعن ا ْب ِن َم ْس ُع ٍ‬
‫ات} [سورة‬ ‫الله‪َ { :‬و َأق ِِم َّ‬
‫الصال َة َط َر َف ِي ال َّن َها ِر َو ُز َلف ًا م َِن ال َّل ْي ِل ِإنَّ ا ْل َح َس َن ِ‬
‫ات ُي ْذه ِْب َن َّ‬
‫الس ِّي َئ ِ‬ ‫ُ‬
‫يع ُأ َّمتِي ُك ِّل ِه ْم(((‪.‬‬ ‫الله‪َ ،‬ألِي َه َذا؟ َق َ‬
‫ال‪ :‬لِ َج ِم ِ‬ ‫ول ِ‬ ‫الر ُج ُل‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫هود‪َ ]114 :‬ف َق َ‬
‫ال َّ‬
‫ونختم الكالم عن تعريف أسباب النزول عند أهل العلم‪ ،‬بمالحظتين مهمتين‪:‬‬

‫المالحظة األولى‪:‬‬

‫أن هناك فرق ًا واضح ًا في استعمال مصطلح أسباب النزول بين المتقدمين من‬
‫الصحابة والتابعين‪ ،‬وما استقر عليه االصطالح العلمي عند المتأخرين‪ ،‬فعبارة سبب‬
‫النزول لم تكن شائعة االستعمال في عهد الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم‪ ،‬وقلما‬
‫نجد في الروايات عنهم قولهم‪ :‬سبب نزول هذا اآلية كذا(((‪ ،‬وإنما الشائع قولهم‪ :‬نزلت‬
‫هذه اآلية في كذا وكذا‪ ،‬وهم ال يعنون بذلك دائم ًا ما استقر عليه اصطالح علماء القرآن‬
‫والتفسير‪ ،‬بل يقصدون أن موضوع اآلية كذا وكذا‪ ،‬وهو أشبه ما يكون باالستدالل‬
‫واالستنباط‪ ،‬وليس من باب النقل لما وقع(((‪.‬‬

‫ويضاف لذلك أن األلفاظ المستعملة عندهم ليست على مرتبة واحدة في صراحتها‬
‫وداللتها على السببية‪ ،‬بل هناك ألفاظ يغلب على الظن أنها تعبر عن سبب النزول‬
‫صراحة‪ ،‬مثل قول الصحابي (في أو فينا نزلت اآلية أو اآليات) أو أن يقسم على كالمه‪،‬‬
‫وهناك ألفاظ أخرى غير صريحة في التعبير عن سبب النزول مثل (أحسب أو أظن أن‬

‫((( رواه البخاري (‪.)1523‬‬


‫((( رواه البخاري (‪ )526‬ومسلم (‪.)2763‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬فضل حسن عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن ‪.252/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد القادر الحسين‪ :‬معايير القبول والرد ص ‪.488‬‬

‫‪44‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫هذه اآلية نزلت في كذا‪ ،‬أو ونزل كذا)(((‪.‬‬

‫ومن هنا يتبين لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يستعملون السبب بمعناه‬
‫اللغوي‪ ،‬وهو ما يتوصل به إلى الشيء‪ ،‬وعلى ذلك‪ ،‬فكل لفظ يؤدي إلى معنى في اآلية‬
‫فهو مقصود‪ ،‬سواء كان سبب نزول اآلية أو كان تفسير ًا لآلية‪ ،‬أو كان ذكر ًا لقصة اآلية‪،‬‬
‫أو كان تنزي ً‬
‫ال لآلية على الواقع‪.‬‬

‫ولكن عندما جاء المتأخرون قالوا‪ :‬سبب النزول هو «ما نزل قرآن بشأنه أيام وقوعه»‬
‫ومن ثم حدثت لدى بعضهم إشكاالت ناشئة عن عدم مراعاتهم لشمولية مصطلح‬
‫الصحابة والتابعين المتسع‪ ،‬فطفقوا يبحثون عن األلفاظ الداخلة في مصطلحهم‪ ،‬فما‬
‫إن يجدوا قول الصحابي‪« :‬حدث كذا فأنزل الله كذا»‪ ،‬أو قوله «نزلت هذه اآلية في‬
‫فالن أو في فالن» حتى يقولوا‪ :‬هذا سبب النزول‪ ،‬ويغضون الطرف عن مفهوم قول‬
‫الصحابي‪ ،‬وهذا ما جعل بعض العلماء يشير إلى ذلك ويضع ضابط ًا له(((‪.‬‬

‫وقد نبه عدد من أهل العلم عإلى هذا األمر(((‪ ،‬ومنهم ابن تيمية الذي أشار إلى أن‬
‫«قولهم‪ :‬نزلت هذه اآلية في كذا‪ ،‬يراد به تارة أنه سبب النزول‪ ،‬ويراد به تارة أن ذلك‬
‫داخل في اآلية وإن لم يكن السبب‪ ،‬كما تقول‪ :‬عني بهذه اآلية كذا»(((‪ ،‬وقال الزركشي‪:‬‬
‫«وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه اآلية في كذا‪ ،‬فإنه‬
‫يريد بذلك أن هذه اآلية تتضمن هذا الحكم‪ ،‬ال أن هذا كان السبب في نزولها‪ ،‬وجماعة‬
‫من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسند‪ ...‬وأما اإلمام أحمد فلم يدخله في‬

‫((( عبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول ص ‪.36‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬الشيخ التجاني أحمدي‪ :‬أسباب النزول بين الحقيقة واألسطورة‪ ،‬مقال على موقع ملتقى‬
‫أهل التفسير‪tafsir.net.‬‬
‫((( انظر‪ :‬السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪.115/1‬‬
‫((( ابن تيمية‪ :‬مقدمة في أصول التفسير ص ‪.38‬‬

‫‪45‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫المسند‪ ،‬وكذلك مسلم وغيره‪ ،‬وجعلوا هذا مما يقال باالستدالل وبالتأويل‪ ،‬فهو من‬
‫جنس االستدالل على الحكم باآلية‪ ،‬ال من جنس النقل لما وقع»(((‪.‬‬

‫وخالصة األمر أن قول المتقدمين نزلت هذه اآلية في كذا‪ :‬يحتمل أحد أمرين‪ :‬األول‪:‬‬
‫أن يدل على سبب النزول المباشر‪ ،‬والثاني‪ :‬أن يراد به االستدالل على الحكم باآلية‪ ،‬وأن‬
‫هذا الحكم مما يدخل في معناها‪ ،‬وال يمكن أن يعلم المراد بأحدهما إال بالقرائن(((‪.‬‬

‫وهذه التفرقة بين معاني المصطلحات عند السلف المتقدمين‪ ،‬وما شاع الحق ًا عند‬
‫المتأخرين من األمور المهمة جد ًا‪ ،‬والتي أدى عدم االنتباه إليها إلى الوقوع في إشكاالت‬
‫عدة في الكثير من العلوم‪ ،‬كالعقيدة والفقه ومصطلح الحديث وأصول الفقه‪.‬‬

‫ومثلما كان استعمال المتقدمين لسبب النزول أعم مما شاع لدى المتأخرين‪ ،‬فقد‬
‫حدث األمر نفسه مع مصطلح آخر من مصطلحات علوم القرآن‪ ،‬أكثر العلمانيون أيض ًا‬
‫من توظيفه‪ ،‬وهو مصطلح النسخ‪ ،‬حيث «يظهر من كالم المتقدمين‪ ،‬أن النسخ عندهم‬
‫في اإلطالق أعم منه في كالم األصوليين؛ فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخ ًا‪ ،‬وعلى‬
‫تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخ ًا‪ ،‬وعلى بيان المبهم والمجمل نسخ ًا‪،‬‬
‫كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخ ًا؛ ألن جميع ذلك‬
‫مشترك في معنى واحد»(((‪.‬‬

‫والمالحظة الثانية‪ :‬أن أسباب النزول ‪ -‬وإن سميت بهذا االسم ‪ -‬فهي أقرب‬
‫إلى كونها مناسبات من أن تكون أسباب ًا تقتصر اآليات النازلة عليها‪ ،‬وترتبط بها ارتباط‬
‫السبب بالمسبب‪ ،‬بحيث يلزم من وجودها الوجود‪ ،‬ومن عدمها العدم‪.‬‬

‫((( الزركشي‪ :‬البرهان ‪.32 ،31/1‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬شرح مقدمة في أصول التفسير البن تيمية ص ‪.93‬‬
‫((( الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪ ،344/3‬وانظر أيض ًا‪ :‬ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪.30 ،29/13‬‬

‫‪46‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ومعنى ذلك أن وقائع أسباب النزول ليست منشئة لآليات‪ ،‬وليست العلة في‬
‫تشريع األحكام‪ ،‬وإنما هي مناسبات للنزول تعين على فهم اآليات(((‪ ،‬ولذا حرص‬
‫بعض المعاصرين على ذكر هذا القيد في بيان المراد بأسباب النزول‪ ،‬فعرفها بأنها‬
‫«المناسبات الزمانية‪ ،‬والمكانية‪ ،‬والشخصية‪ ،‬والجماعية‪ ،‬التي نزلت فيها آيات معينة‪،‬‬
‫بيان ًا لحكم‪ ،‬فيما استشكل على الجماعة المؤمنة»(((‪.‬‬

‫وممن نبه إلى هذا الملمح المهم محمد الفاضل بن عاشور‪ ،‬والذي أشار إلى أن‬
‫أسباب النزول «ما هي إال مناسبات ال أسباب حقيقية‪ ،‬وإن سميت أسباب ًا عن طريق‬
‫التسامح والتجوز‪ ،‬فإن العلماء متفقون على أن ما يدل عليه الكالم القرآني هو الذي‬
‫يؤخذ به على ما في داللته من شمول واتساع‪ ،‬ال يضيق منهما مراعاة المالبسات‬
‫الظرفية التي اتصلت بتاريخ نزوله»(((‪.‬‬

‫وسوف نرى الحق ًا أن االتجاه العلماني قد أثار الكثير من الغبش حول هذه‬
‫المسألة‪ ،‬وسعى بكل ما وسعه من جهد لتصوير أسباب النزول على أنها علل وأسباب‬
‫منشئة لألحكام‪ ،‬وليست مجرد مناسبات لتشريعها(((‪ ،‬ومن ثم اعتبرها قيود ًا على‬
‫شمول النص القرآني وعموم ألفاظه‪ ،‬واألحكام المستنبطة منه‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني ص ‪ ،247‬والنص اإلسالمي بين التاريخية واالجتهاد‬
‫والجمود ص ‪.6 ،5‬‬
‫((( د‪ .‬عبد الصبور شاهين‪ :‬تاريخ القرآن ص ‪.30‬‬
‫((( محمد الفاضل بن عاشور‪ :‬التفسير ورجاله ص ‪ ،12 ،11‬وانظر‪ :‬د‪ .‬غانم قدوري‪ :‬محاضرات في‬
‫علوم القرآن ص ‪ ،36 ،35‬وعبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول وأثرها في اختالف المفسرين‬
‫والفقهاء ص ‪.13‬‬
‫((( انظر‪ :‬مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر ص‬
‫‪ ،38‬والتاريخية‪ ،‬المفهوم وتوظيفاته الحداثية‪ ،‬مجلة إسالمية المعرفة ص ‪ ،67‬العدد ‪ ،63‬شتاء‬
‫‪1432‬ﻫ‪2011/‬م‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ثاني ًا‪ :‬تعريف العلامنيني ألسباب النزول‪:‬‬

‫يلحظ الواقف على تعريفات العلمانيين ألسباب النزول‪ ،‬أنهم لم يتوانوا عن‬
‫إضفاء توجهاتهم األيديولوجية‪ ،‬وغايات مشروعهم الحداثي في إعادة قراءة القرآن‬
‫والتراث اإلسالمي عموم ًا‪ ،‬أثناء تحديدهم للمقصود بأسباب النزول‪ ،‬مع تنوع‬
‫األساليب والصور في هذا الصدد‪.‬‬

‫وحتى في الحاالت التي عرف فيها بعضهم أسباب النزول بتفسير يقترب ‪ -‬وإن‬
‫كان ال يتوافق تمام ًا ‪ -‬مع ما ذكره أهل العلم القدامى والمحدثون الذين كتبوا في علوم‬
‫القرآن‪ ،‬فغالب ًا ال يخلو األمر من إضافة قيود أو تفسيرات أخرى للتعريف‪ ،‬تجعله يميل‬
‫تجاه التوجه الفكري لهذا الكاتب‪.‬‬

‫ولعل من المهم أن نستعرض نماذج تؤيد هذا الذي ذكرناه‪ ،‬ومن ذلك تعريف‬
‫حسن حنفي للسبب بأنه «الظرف أو الحادثة أو البيئة التي نزلت فيها اآلية»(((‪ ،‬لكنه ال‬
‫يقتصر على ذلك‪ ،‬بل يضفي على تعريفه بعض الظالل والتفسيرات المتأثرة بالمنهج‬
‫الماركسي‪ ،‬فيشير إلى أنه «إذا كان لفظ النزول يعني الهبوط من أعلى ألسفل‪ ،‬فلفظ‬
‫السبب إنما يعني الصعود من أسفل ألعلى‪ ،‬ولما كانت اآلية ال تنزل إال بعد وقوع‬
‫السبب‪ ،‬كان األدنى شرط األعلى»(((‪.‬‬

‫ومعنى ذلك أن الواقع وظروف البيئة ‪ -‬أو ما يسمى بالبنية التحتية ‪ -‬هو الذي‬
‫استدعى هذا البناء الفوقي أي نزول النص الشرعي‪ ،‬ومجيئه بحكم تشريعي معين‪،‬‬
‫ولوال هذا السبب لم ينزل النص‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.20/1‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.20/1‬‬

‫‪48‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وال يخفى بطالن هذه الفكرة أص ً‬


‫ال‪ ،‬ومناقضتها لإليمان بأن القرآن كالم الله‬
‫ووحيه لعباده‪ ،‬وليس كالم ًا بشري ًا استدعته أحوال ما‪ ،‬وال إفراز ًا لظروف اجتماعية أو‬
‫اقتصادية أو سياسية لبيئة معينة في زمان بعينه‪ ،‬كما تدعي تفسيرات الماركسيين لظهور‬
‫اإلسالم وسائر األديان‪.‬‬

‫وفي موضع آخر من كتبه ينطلق حسن حنفي في تحديده ألسباب النزول من قضية‬
‫التاريخية‪ ،‬التي يعتبرها إحدى خصائص النصوص الشرعية‪ ،‬ومن ثم يرى أن أسباب النزول‬
‫هي الظروف االجتماعية الخاصة التي نشأت فيها النصوص‪ ،‬وهذه النصوص الموسومة بسمة‬
‫التاريخية قد تطورت طبق ًا للزمن‪ ،‬وتجدد حاجات المجتمع‪ ،‬وتنوع القدرات البشرية(((‪.‬‬

‫وإذا انتقلنا لشخصية آخرى من العلمانيين‪ ،‬فسوف نجد أن أسباب النزول عند نصر‬
‫أبو زيد تعني «نزول النصوص الدينية منجمة‪ ،‬أي مفرقة بحسب الظروف والمالبسات‬
‫والوقائع العينية المباشرة‪ ،‬وهو ما يعرف باسم أسباب النزول»(((‪.‬‬

‫وهو يرادف بين أسباب النزول وما يسميه السياق االجتماعي للنصوص‪ ،‬بما يعني‬
‫أن «أسباب النزول ليست سوى السياق االجتماعي للنصوص»‪ ،‬ثم يرتب على هذا‬
‫المفهوم أن استخالص تلك األسباب والوصول إليها ليس موقوف ًا على أمور من خارج‬
‫النص فحسب‪ ،‬متمثلة في النقل والرواية‪ ،‬وإنما يمكن الوصول إليها أيض ًا من داخل‬
‫النص‪ ،‬سواء في بنيته الخاصة أو في عالقته باألجزاء األخرى من النص العام(((‪.‬‬

‫وال شك أن تفسير نصر أبو زيد ألسباب النزول بالسياق االجتماعي للنصوص‬
‫غير صحيح بالمرة‪ ،‬فهو من جهة يخالف تعريفه األول‪ ،‬كما يخالف ما أطبق عليه‬

‫((( المصدر السابق ‪.73/1‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.200‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.126‬‬

‫‪49‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫العلماء المتقدمون من تعريف ألسباب النزول‪ ،‬ثم هو أيض ًا يهدم فكرة أسباب النزول‬
‫من أساسها؛ ألن هذا السياق االجتماعي للنصوص أعم بكثير من فكرة سبب معين‬
‫ينزل نص ما من أجله‪ ،‬وال نعرف هذا السبب إال بالنقل والرواية‪.‬‬

‫أما ذلك السياق المشار إليه‪ ،‬فهو وإن كان مهم ًا في فهم القرآن بصفة عامة‪،‬‬
‫وتفسير آياته وفق ًا لمعهود الخطاب‪ ،‬وعادات المخاطبين الذين نزل فيهم أول مرة (((؛‬
‫لكنه ال يعتبر سبب ًا لنزول آية بعينها‪ ،‬بل هو شرط في فهم الشريعة بصفة عامة‪ ،‬مثلما نبه‬
‫الشاطبي إلى أنه «ال بد في فهم الشريعة من اتباع معهود األميين‪ ،‬وهم العرب الذين نزل‬
‫القرآن بلسانهم‪ ،‬فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر‪ ،‬فال يصح العدول عنه في‬
‫فهم الشريعة‪ ،‬وإن لم يكن ثم عرف‪ ،‬فال يصح أن يجرى في فهمها على ما ال تعرفه»(((‪.‬‬

‫وكالمنا السابق كله على فرض أن هذا السياق االجتماعي للنصوص يقصد‬
‫به مجمل الظروف التي أحاطت بنزول النص على مختلف المستويات االجتماعية‬
‫والثقافية واالقتصادية والسياسية‪ ،‬ال على ذاك المفهوم المتعسف لدى العلمانيين‬
‫والذي يركز على صورة متخيلة لهذا الواقع‪ ،‬ويغلب جانب ًا على غيره‪ ،‬وكثير ًا ما يكون‬
‫الجانب االقتصادي‪ ،‬انطالق ًا من الخلفية الماركسية لكثير منهم‪.‬‬

‫ومن العلمانيين الذين تناولوا مفهوم أسباب النزول علي أومليل‪ ،‬الذي حرص‬
‫في تعريفه على ربط سبب النزول بمعنى السؤال‪ ،‬سواء أكان سؤاال صريحا أو سؤاال‬
‫ضمنيا‪ ،‬فقال «سبب نزول آية أو ورود حديث هو سؤال‪ ،‬سواء كان سؤا ً‬
‫ال صريح ًا وجه‬
‫إلى الرسول‪ ،‬أو سؤا ً‬
‫ال ضمني ًا اقتضته واقعة معينة تطلبت جواب ًا عليها أي تشريع ًا»(((‪.‬‬

‫((( وقد أكد الشاطبي أهمية مراعاة هذا األمر‪ ،‬فانظر‪ :‬الموافقات ‪.111 ،103/2‬‬
‫((( الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪ ،131/2‬وانظر أيض ًا‪.111 ،103/2 :‬‬
‫((( علي أومليل‪ :‬في شرعية االختالف ص ‪49‬‬

‫‪50‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وال يخفى أن سبب النزول أعم من أن يقتصر على كونه سؤا ً‬


‫ال‪ ،‬فقد يكون حادثة أو‬
‫واقعة ما‪ ،‬وإطالق معنى السؤال على الحادثة فيه تجوز واضح‪ ،‬لكن إذا غضضنا الطرف‬
‫عن النقاش في هذه النقطة‪ ،‬فإن الفكرة األخطر لدى أومليل أنه انطلق من ربط معنى‬
‫أسباب النزول بالسؤال إلى نتائج متعلقة بفكرة تاريخية النص ونسبيته وقابليته للتطور‪.‬‬

‫فالسؤال الذي طرح في الماضي لدى جيل الصحابة الذين نزل فيهم القرآن «ال‬
‫يمكن أن يظل هو السؤال الذي يستمر الناس في إعادة طرحه‪ ،‬مهما تغيرت ظروفهم‬
‫وتحولت مجتمعاتهم‪ .‬إن أسئلة الماضي ال يمكن أن تختزل فيها كل األسئلة بما فيها‬
‫ما سيطرحه المستقبل‪ ،‬ذلك أن أسئلة المستقبل ال يمكن التنبؤ بها‪ ،‬وال أن تختزلها أو‬
‫تنوب عنها أسئلة الماضي»(((‪.‬‬

‫وبهذه الطريقة المراوغة التي ما برح العلمانيون يطرحونها بطرق مختلفة؛ يتم‬
‫التعامل مع أسباب النزول على أنها أسباب طرحت في فترة زمنية ما‪ ،‬وأجيب عنها‬
‫بإجابات ما مناسبة لعصرها‪ ،‬وإذا ما فتحنا الباب في عصرنا وفي كل عصر ألسئلة‬
‫جديدة؛ فالطبيعي أن تتجدد اإلجابات أيض ًا‪ ،‬بما يعني تطور األحكام‪ ،‬وحذف بعضها‪،‬‬
‫وإبقاء بعضها اآلخر‪ ،‬وتطوير ما ال يتالءم مع ظروف العصر‪.‬‬

‫أما محمد سعيد العشماوي‪ ،‬فقد حرص في تعريفه ألسباب النزول على أن يفرق‬
‫بين مصطلحين‪ :‬أحدهما أسباب النزول‪ ،‬واآلخر مناسبات النزول‪ ،‬فأسباب النزول في‬
‫رأيه «تعني الظروف الواقعية‪ ،‬التي كانت سبب ًا للنص‪ ،‬أو كانت سبب ًا لتعديله(((‪ .‬وهي‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.54‬‬


‫((( وال يخفى أن التعبير بتعديل النص غير صحيح‪ ،‬وهو تعبير فج ال يلتزم حدود األدب‪ً ،‬‬
‫فضال عن‬
‫أن سبب النزول ال يعدل النص وإنما يفسره‪ ،‬وحتى على القول بأنه يخصصه في بعض الحاالت‪،‬‬
‫ال للنص‪.‬‬‫فتخصيص العموم ال يعتبر تعدي ً‬

‫‪51‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أمر الزم لتفسير النص وشرح أحكامه»(((‪ ،‬أما مناسبات النزول «فتعني أن النص كان‬
‫معد ًا سلف ًا‪ ،‬وأنه كان يتحين مناسبة ليظهر ويتربص فرصة ليكون‪ ،‬فإذا حانت المناسبة‬
‫أو ظهرت الفرصة كان النص أو تنزلت اآلية»(((‪.‬‬

‫ويضخم العشماوي جد ًا من الفارق بين أسباب النزول ومناسباته‪ ،‬فيقول‪:‬‬


‫«والفرق بين أن تكون الظروف الواقعية للنص أسباب ًا للتنزيل‪ ،‬أو أن تكون مناسبات‬
‫له؛ كبير جد ًا‪ ،‬كما أن له آثار ًا من أخطر ما يمكن‪ ،‬وأجل من أن يعبر عليها دون بيان»(((‪.‬‬

‫وهو ال يكتفي بهذا التهويل‪ ،‬بل يتهم الفكر اإلسالمي وعلماء المسلمين بأنهم‬
‫خلطوا بين أسباب النزول ومناسباتها «بمعنى أن الفكر اإلسالمي يبحث عن أسباب‬
‫التنزيل لبيانها‪ ،‬ثم يقصر فهمه على المعنى المقصود من مناسبات التنزيل‪ ،‬وعلى‬
‫أحكام هذه المناسبات ونتائجها‪ ،‬فهو بذلك يبدل األسباب مناسبات‪ ،‬وهذا الخلط هو‬
‫ما يعبر عنه في الفقه بقاعدة أن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب»(((‪.‬‬

‫ومن مزاعم العشماوي المتهافتة في هذا الباب ربطه بين ظهور مصطلح مناسبات‬
‫النزول من جهة‪ ،‬والخالف الذي دار حول قدم القرآن وحدوثه بين أهل السنة والمعتزلة‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬وهو ربط مفتعل ال دليل عليه بحال سوى عادة العلمانيين في البحث‬
‫عن أي فكرة يمكن توظيفها لخدمة اتجاههم الفكري(((‪.‬‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.69‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.69‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.69‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.70‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪ ،72 -69‬وانظر مناقشة هذا الكالم عند د‪ .‬محمد‬
‫عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني ص ‪ ،250‬ومنى الشافعي‪ :‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير‬
‫القرآن الكريم ص ‪.226‬‬

‫‪52‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وخالصة األمر أن العشماوي ‪ -‬ومن وافقه الرأي من العلمانيين ‪ -‬ال ينظرون إلى‬
‫أسباب النزول على أنها مناسبات‪ ،‬كما هو معروف عند علماء التفسير وأصول الفقه‬
‫وعلماء القرآن‪ ،‬بل يعتبرونها عل ً‬
‫ال مؤثرة‪ ،‬ارتبطت نصوص الوحي في نزولها بها‪ ،‬وما‬
‫دام أن هذه األسباب كانت في بيئة معينة‪ ،‬فإن النص مرتبط ببيئته وسببه‪ ،‬وال يصح‬
‫تطبيقه في بيئة أخرى(((‪.‬‬

‫وهكذا ال تقتصر أسباب النزول على تفسير النص وبيان المراد منه‪ ،‬بل هي‬
‫تخصصه وتحصره‪ ،‬وتقصره على السبب فقط وال تعممه فيما سواه من أحوال‪ ،‬وال‬
‫يخفى أن «ربط النص القرآني بسبب النزول‪ ،‬وتعليق األحكام التشريعية القرآنية بوقائع‬
‫نزولها منهج مادي ماركسي‪ ،‬يجعل النص ثمرة للواقع‪ ،‬وتابع ًا له‪ ،‬ومعلو ً‬
‫ال به وجود ًا‬
‫وعدم ًا»(((‪.‬‬

‫وال يكاد التناول العلماني ألسباب النزول ينفك من اإللحاح على أحد األفكار‬
‫األساسية التي وظف العلمانيون أسباب النزول من أجلها‪ ،‬وهو عالقة النص بالواقع‪،‬‬
‫وال يقتصر األمر على إثبات تلك العالقة التي ال يتصور إنكار أصلها‪ ،‬وإنما يصل‬
‫الشطط والغلو إلى القول بأولوية الواقع وأسبقيته وتقديمه على النص الشرعي‪ ،‬بل‬
‫يصير الواقع هو صانع النص‪ ،‬ومكونه‪ ،‬والعلة في وجوده‪.‬‬

‫ومن هذا المنطلق نجد حسن حنفي ينص صراحة على أن أسباب النزول «تعني‬
‫أولوية الفكر على الواقع»(((‪ .‬وتفسير ذلك ‪ -‬من وجهة نظره ‪ -‬أن نصوص الوحي‬
‫ليست كتاب ًا أنزل مرة واحدة ليتقبله جميع البشر‪ ،‬بل هو مجموعة من الحلول لبعض‬

‫((( انظر‪ :‬مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر‬
‫ص ‪.38‬‬
‫((( د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني ص ‪.247‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬اليسار اإلسالمي والوحدة الوطنية ص ‪ ،37‬وانظر أيض ًا‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.179‬‬

‫‪53‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫المشكالت اليومية‪ ،‬التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة‪ ،‬وكثير من هذه الحلول قد‬
‫تغيرت وتبدلت حسب التجربة‪ ،‬كما أن الكثير منها لم يكن في بادئ األمر معطى من‬
‫الوحي‪ ،‬بل كان عبارة عن مقترحات من الفرد أو الجماعة‪ ،‬ثم أيدها الوحي وفرضها‬
‫«فهو ليس عطاء من الوحي‪ ،‬بقدر ما هو فرض من الواقع‪ ،‬وتأييد الوحي له‪ ،‬وهذا هو‬
‫معنى أسباب النزول»(((‪.‬‬

‫ويتخذ حسن حنفي من االرتباط الوثيق بين اآليات وأسبابها‪ ،‬وما يزعم أنه نزول‬
‫كل آية على سبب؛ دلي ً‬
‫ال على أسبقية الواقع على الفكر‪ ،‬فيقول‪« :‬وإن كثرة الحديث‬
‫الخطابي عن واقعية اإلسالم إنما نشأ من هذا الموضوع وهو (أسباب النزول) أسبقية‬
‫ال والوحي ثاني ًا‪ ،‬الناس أو ً‬
‫ال‬ ‫الواقع على الفكر‪ ،‬وأولوية الحادثة على اآلية‪ ،‬المجتمع أو ً‬
‫والقرآن ثاني ًا‪ ،‬الحياة أو ً‬
‫ال والفكر ثاني ًا» (((‪.‬‬

‫وينطلق محمد سعيد العشماوي من أسباب النزول وتنزل القرآن على سبب إلى‬
‫ما يعتبره خصيصة للقرآن كله‪ ،‬ولفهم الشريعة بأسرها فيقول‪« :‬إن فكرة أن القرآن كائن‬
‫حي تنزل على األسباب‪ ،‬فكرة تختزل كل المقصود من الشريعة في فهم واحد‪ ،‬أن‬
‫الشريعة تفاعل مع الحياة‪ ،‬ونسيج بالواقع‪ ،‬فهي قواعد للحياة وليست نظريات للفكر‬
‫المجرد‪ ،‬إنها ضرورة تواكب الضرورات‪ ،‬وليست ترف ًا تتزين به التركيبات العقلية أو‬
‫تتبدى في ثياب من الجدل العقيم»(((‪.‬‬

‫أما نصر أبو زيد فقد أكثر من اإللحاح على ما يصفه بالعالقة الجدلية بين النص‬
‫والواقع‪ ،‬واألثر المهم لعلم أسباب النزول في كشف تلك العالقة والتدليل عليها‪ ،‬ومن‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.136 ،135‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.20/1‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.75‬‬

‫‪54‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ثم نجده يقول‪ :‬إن «علم أسباب النزول من أهم العلوم الدالة والكاشفة عن عالقة‬
‫النص بالواقع وجدله معه»(((‪.‬‬

‫وكما هي عادة العلمانيين في اإلغراب والبحث عن جذور أجنبية لمفاهيم شرعية‪،‬‬


‫يقارن نصر أبو زيد بين تصور النقاد العرب لمفهوم المحاكاة أو المماثلة أو التشبيه‬
‫والذي تأثر بالتراث اليوناني؛ وأسباب النزول‪ ،‬مشير ًا إلى أنه «إذا كان النقاد العرب قد‬
‫نظروا لعالقة النصوص األدبية بالواقع من خالل مفهوم المحاكاة أو المماثلة والتشبيه‬
‫والوصف؛ فإن علم أسباب النزول يمكن أن يطرح لنا مفهوم ًا مغاير ًا لعالقة النص‬
‫بالواقع‪ ،‬وإذا كانت مفاهيم النقد العربي عن المحاكاة قد تأثرت في صياغاتها الفلسفية‬
‫بخطى التراث اليوناني بعد أن أعادت تأويله ليالئم واقع النصوص العربية؛ فإن علم‬
‫أسباب النزول يزودنا من خالل الحقائق التي يطرحها علينا بمادة جديدة ترى النص‬
‫استجابة للواقع تأييد ًا أو رفض ًا‪ ،‬وتؤكد عالقة الحوار والجدل بين النص والواقع»(((‪.‬‬
‫وقد يتعجب المرء من الدافع إلى هذا اإلقحام ‪ -‬الذي يبدو مفتع ً‬
‫ال ‪ -‬لنظرية‬
‫المحاكاة ذات األصل اليوناني‪ ،‬والتي اتكأ عليها بعض النقاد في تفسير األدب عموم ًا‬
‫والشعر على وجه الخصوص(((‪ ،‬وما المبرر إليرادها هنا في الكالم عن أسباب نزول‬
‫النص القرآني؟‬

‫وفي ظني أن نصر أبو زيد لم يورد هذا الكالم اعتباط ًا‪ ،‬وإنما جاء ذلك متسق ًا مع‬
‫نظرته للنص القرآني ومنهجية التعامل معه‪ ،‬فهذا النص عنده ال يخرج عن كونه في نهاية‬
‫األمر نص ًا بشري ًا‪ ،‬ومنتج ًا ثقافي ًا يتعامل معه كما يتعامل مع سائر النصوص‪ ،‬وقد صرح‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.109‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.109‬‬
‫((( انظر في الكالم عن نظرية المحاكاة‪ :‬د‪ .‬محمود الربيعي‪ :‬في نقد الشعر ص ‪ ،15‬ومديونة صليحة‪:‬‬
‫نظرية المحاكاة بين الفلسفة والشعر ص ‪.2‬‬

‫‪55‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫بهذا األمر دونما مواربة‪ ،‬فقال‪« :‬إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي‪ ،‬والمقصود‬
‫بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خالل فترة تزيد على العشرين عام ًا»(((‪ ،‬وكعادته في‬
‫المغالطة وإطالق األحكام بال حجة أو دليل جزم أبو زيد بأن ما قرره آنف ًا من كون القرآن‬
‫منتج ًا ثقافي ًا يعد «قضية بدهية ال تحتاج إثبات»((( وحقيقة «تبدو بديهية ومتفق ًا عليها»(((‪.‬‬

‫وهكذا يتحول هذا القول الفاسد في نفسه‪ ،‬والمناقض إلجماع األمة القطعي‬
‫المؤيد باألدلة الشرعية والعقلية على أن القرآن كالم الله ووحيه وليس كالم البشر؛ إلى‬
‫حقيقة بدهية متفق عليها‪ ،‬وال تحتاج إلثبات عند نصر أبو زيد‪ ،‬وإن كان يعود ليعترف‬
‫بأن الذي يعكر على رأيه ‪ -‬المنحرف في بشرية القرآن ‪ -‬هو اإليمان بنزول القرآن من‬
‫السماء‪ ،‬وأنه لم ينشأ من األرض أو من قول البشر‪ ،‬وأنه وحي الله الذي أوحاه الله إلى‬
‫رسوله‪ ،‬وجاء به أمين الوحي جبريل‪ ،‬وبنص كالمه «فإن اإليمان بوجود ميتافيزيقي‬
‫سابق للنص‪ ،‬يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البدهية ويعكر ‪ -‬من ثم ‪ -‬إمكانية الفهم‬
‫العلمي لظاهرة النص»(((‪.‬‬

‫وأما الرافضون لتلك الفكرة المنحرفة القائلة ببشرية النص القرآني‪ ،‬واعتباره‬
‫مجرد نص لغوي مثل غيره من النصوص األخرى؛ فهم في رأي أبو زيد يمثلون‬
‫االتجاهات الرجعية‪ ،‬التي صاغت تصور ًا «يعزل النص عن سياق ظروفه الموضوعية‬
‫التاريخية‪ ،‬بحيث يتباعد به عن طبيعته األصلية بوصفه نص ًا لغوي ًا‪ ،‬ويحوله إلى شيء‬
‫له قداسته»(((‪ ،‬ورغم إقراره بسطوة تلك االتجاهات وسيطرة أفكارها‪ ،‬فإن نصر أبو‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.27‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.28‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.27‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.27‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪ ،14‬وانظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬التفسير الماركسي لإلسالم ص ‪.46‬‬

‫‪56‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫زيد يتفاخر بأنه هو ومن يوافقه في الرأي قد أضحوا «في موقف يسمح لنا بالقول بأن‬
‫النصوص الدينية نصوص لغوية‪ ،‬شأنها شأن أية نصوص أخرى في الثقافة‪ ،‬وأن أصلها‬
‫اإللهي ال يعني أنها في درسها وتحليلها تحتاج لمنهجيات ذات طبيعة خاصة تتناسب‬
‫مع طبيعتها اإللهية الخاصة»(((‪.‬‬

‫وفي محاولة فاشلة للتخفيف من مصادمة هذا الطرح العلماني الفج المصادم‬
‫لعقيدة كل مسلم في أن القرآن كالم الله ووحيه إلى رسوله؛ لجأ نصر أبو زيد إلى شيء‬
‫من المراوغة والتحايل المليء بالمغالطات والهروب من محل النزاع الحقيقي حيث‬
‫ذكر» أن اإليمان بالمصدر اإللهي للنص‪ ،‬ومن ثم إلمكانية أي وجود سابق لوجوده‬
‫العيني في الواقع والثقافة؛ أمر ال يتعارض مع تحليل النص من خالل فهم الثقافة التي‬
‫ينتمي إليها‪ ..‬إن ألوهية مصدر النص ال تنفي واقعية محتواه‪ ،‬وال تنفي من ثم انتماءه‬
‫إلى ثقافة البشر»(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من خداع فج‪ ،‬حتى بالمعايير العلمانية‪ ،‬فالقرآن إما‬
‫وحي إلهي نزل من عند الله ‪ -‬وهو ما يعتقده كل مسلم ‪ -‬وإما منتج ثقافي بشري ‪-‬‬
‫كما زعم أبو زيد ‪ -‬وال واسطة بين القولين البتة‪ ،‬إال عند من يتلبسون بلباس التقية‪،‬‬
‫ويحاولون التالعب بالمصطلحات خوف ًا من مصادمة عقائد جماهير األمة!‬

‫ثالث ًا‪ :‬صور من التحريف العلامين ملفهوم أسباب النزول‪:‬‬

‫والمتتبع لكتابات العلمانيين حول أسباب النزول يمكنه أن يرصد محاوالت‬


‫عدة للتالعب بمفهوم سبب النزول‪ ،‬الذي درج أهل العلم المتقدمون على استعماله‪،‬‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.206‬‬


‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.27‬‬

‫‪57‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وألفوا عشرات الكتب وفق ًا له‪ ،‬وقد أخذت تلك المحاوالت العلمانية صور ًا شتى‪،‬‬
‫نشير إلى أهمها فيما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬فيما يتعلق باالسم نفسه الذي سمى به هذا النوع من علوم القرآن ‪ -‬أي‬
‫سبب النزول ‪ -‬نالحظ أنه ال إشكال عند العلمانيين في تجاوزه في صورته التراثية من‬
‫أجل االنطالق إلى الغاية والمقصود منه في العصر الحاضر‪ ،‬ومن ثم االستعاضة عنه‬
‫باسم جديد‪ ،‬والتعبير عنه بما يدل على حقيقته ‪ -‬وفق ًا للتصور العلماني المتأثر بالمنهج‬
‫الماركسي عند بعضهم ‪ -‬وهو أولوية الواقع على الفكر‪.‬‬

‫وفي تقرير هذا المعنى يقول حسن حنفي‪ :‬إن «ما عبر عنه القدماء باسم أسباب‬
‫النزول‪ ،‬لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر ومناداته له‪ ،‬كما أن ما عبر عنه القدماء‬
‫باسم الناسخ والمنسوخ‪ ،‬ليدل على أن الفكر يتجدد طبق ًا لقدرات الواقع وبناء على‬
‫متطلباته‪ ،‬إن تراخى الواقع تراخى الفكر‪ ،‬وإن اشتد الواقع اشتد الفكر»(((‪.‬‬

‫ومن المحاوالت األخرى للتخلص من مسألة التسمية بسبب النزول‪ ،‬ما ذكره‬
‫محمد شحرور من التفرقة بين مناسبات النزول وأسباب النزول‪ ،‬حيث نقل كالم ًا‬
‫للزركشي حول عادة الصحابة والتابعين في القول بأن هذه اآلية نزلت في كذا‪ ،‬قاصدين‬
‫بذلك أنها تتضمن هذا الحكم‪ ،‬ال أن هذا كان السبب في نزولها(((‪ ،‬ثم عقب شحرور‬
‫على كالم الزركشي بأن عبارته تذكر بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه((( «كان‬

‫((( التراث والتجديد ص ‪.15‬‬


‫((( الزركشي‪ :‬البرهان في علوم القرآن ‪.32 ،31/1‬‬
‫((( ومن المالحظ أن شحرور قد ساق دعوى أن علي ًا رضي الله عنه كان يسمي أسباب النزول‬
‫بالمالبسات‪ ،‬بدون توثيق أو مرجع‪ ،‬يدل على ثبوتها‪ ،‬وهي سمة مطردة في كتابات العلمانيين حيث‬
‫يرسلون القول على عواهنه دونما حرج!‬

‫‪58‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫يسميها مناسبات النزول‪ ،‬وليس أسباب النزول‪ ،‬والفرق بين التسميتين ال يخفى على‬
‫أهله»(((‪.‬‬

‫ومن الواضح أن محاولة شحرور هذه تأتي من منطلق نفيه لوجود أسباب نزول‬
‫في القرآن‪ ،‬وإثبات ذلك فيما يتعلق بالكتاب(((‪ ،‬ولعله رأى أن مناسبات النزول أخف‬
‫في الداللة من أسباب النزول‪ ،‬ثم هي ال تتعارض مع دعواه في التفرقة بين القرآن‬
‫والكتاب‪ ،‬وال يخفى ما في هذا الكالم من مغالطات عدة‪.‬‬

‫فتفرقته بين الكتاب والقرآن فيما يصدق عليه كل واحد منهما تفرقة باطلة تمام ًا‪،‬‬
‫وكالم الزركشي ال يدل على دعواه بالتفرقة بين أسباب النزول ومناسباته‪ ،‬وإنما يريد‬
‫الزركشي أن ينبه إلى أن قول بعض الصحابة والتابعين إن هذه اآلية نزلت في كذا ال‬
‫يلزم منه أن هذا سبب نزولها المباشر‪ ،‬وإنما يقصدون أحيان ًا أن اآلية تتضمن هذا‬
‫الحكم ويمكن أن يستدل بها عليه‪ ،‬وال يعني ذلك أنه ليس هناك أسباب للنزول‪ ،‬وال أن‬
‫كل ما نقل عن الصحابة من أن اآلية نزلت في كذا يعني االستدالل به‪ ،‬بل ما نقله عنهم‬
‫يتضمن النوعين‪ ،‬فهو أسباب تارة واستدالل تارة أخرى‪.‬‬

‫وتأثر ًا بخلفيته القانونية عقد محمد سعيد العشماوي مقارنة بين أسباب النزول‪،‬‬
‫وما يعرف باألعمال التحضيرية للقانون‪ ،‬انتهى من خاللها إلى أن «أسباب النزول هي‬
‫ما يمكن أن يقال عنه بلغة القانون المعاصرة األعمال التحضيرية للقانون‪ ،‬وإذا كانت‬
‫هذه األعمال الزمة لبيان سبب وضع النص القانوني‪ ،‬وظروف وضعه‪ ،‬وما كان مقترح ًا‬
‫بشأنه وما أدخل عليه من تعديل حتى صار إلى الشكل الذي أصبح عليه‪ ..‬فإن أسباب‬

‫((( محمد شحرور‪ :‬نحو أصول جديدة ص ‪.84‬‬


‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.92‬‬

‫‪59‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫التنزيل هي ما يمثل األعمال التحضيرية للنص القانوني‪ ،‬وهي ألزم في تفسير آيات‬
‫القرآن من لزوم األعمال لتفسير النصوص»(((‪.‬‬

‫ومع اإلقرار بأن المشابهة بين أمرين ال تعني التماثل التام بينهما‪ ،‬لكن ال يخفى أن‬
‫المقارنة بين أسباب النزول آليات القرآن واألعمال التحضيرية للقانون غير دقيقة‪ ،‬كما‬
‫أنها ال تخلو من إيحاءات وأغراض علمانية معروفة التوجه‪ ،‬فالقرآن ابتداء وانتهاء هو‬
‫كالم الله ووحيه لعباده‪ ،‬والمتصف بالشمول والعموم‪ ،‬وهو يختلف تمام ًا عن النص‬
‫القانوني الذي تضعه لجنة بشرية‪ ،‬بعد سلسلة من المداوالت والمناقشات والتعديالت‬
‫والتغييرات‪ ،‬حتى تصل لصورته النهائية‪ ،‬وال يمكن عزل هذا النص القانوني عن أعماله‬
‫التحضيرية‪.‬‬

‫ولدى سامر اإلسالمبولي نجد دعوة صريحة إلى إلغاء مفهوم أسباب النزول‪،‬‬
‫على أن يوضع مكانه مفهوم آخر وهو «تاريخية النزول» معل ً‬
‫ال ذلك بتعليل غير‬
‫صحيح‪ ،‬حيث خلط بين مفهوم السبب في علم أصول الفقه‪ ،‬ومفهوم السبب في علوم‬
‫القرآن‪ ،‬مع أن بين المفهومين فارق ًا كبير ًا‪.‬‬

‫وبناء على هذا الخلط بين المصطلحين جزم اإلسالمبولي بأنه «ال يصح استخدام‬
‫كلمة (سبب) على نزول التشريع اإللهي؛ ألن السبب هو‪ :‬ما يلزم من وجوده الوجود‬
‫ومن عدمه العدم‪ ،‬وهذا غير منطبق على التشريع‪ ،‬ألنه سوف ينزل ال محالة كونه‬
‫تشريع ًا إنساني ًا عالمي ًا وليس قومي ًا عيني ًا‪ ،‬واألصح إطالق كلمة تاريخية نزول التشريع‪،‬‬
‫التي تفيد داللة الوقت والحدث المناسب الذي تم اختياره من قبل الخالق‪ ،‬لينزل‬
‫النص التشريعي بصياغة مناسبة فور ًا؛ ألن النص التشريعي ليس للتالوة‪ ،‬إنما هو‬
‫تشريع للواقع االجتماعي‪ ،‬ومن هذا الوجه ارتبطت أحداث معينة بنزول النص‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.68‬‬

‫‪60‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫التشريعي ليس كسبب نزول له‪ ،‬وإنما كظرف مناسب إلنزال النص اإللهي إلى حيز‬
‫التطبيق العملي»(((‪.‬‬

‫ووفق ًا لهذا التعليل العليل انتهى اإلسالمبولي إلى أن «مفهوم أسباب النزول‬
‫يجب أن ُيلغى ويوضع مكانه مفهوم تاريخية النزول‪ ،‬وبالتالي يفهم الدارس لهذا‬
‫الموضوع من العنوان ابتداء أنه يدرس الظروف والحيثيات الزمكانية للمجتمع الذي‬
‫تمت فيه صياغة ونزول النص اإللهي»(((‪.‬‬

‫ومنشأ الخلط والغلط في هذا الكالم ظن قائله أن مصطلح السبب ال يطلق إال على‬
‫ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم‪ ،‬وهذا فهم خاطئ‪ ،‬فالسبب بمفهومه‬
‫العام أشمل من ذلك بكثير‪ ،‬ثم هو عند علماء القرآن يقصد به ما نزلت اآليات عقبه أو‬
‫متحدثة عنه‪ ،‬وال يقصدون أنه لو عدم لما نزلت اآليات أص ً‬
‫ال‪.‬‬

‫ولعل من المفيد أن نقارن هنا تلك المحاوالت العلمانية للتفلت من مصطلح‬


‫أسباب النزول بمحاوالت بعض الكتاب اإلسالميين لنحت مصطلح جديد‪ ،‬يستفيد‬
‫من أسباب النزول‪ ،‬ويبني عليها ويوسع من دائرتها‪.‬‬

‫ونعني بذلك مصطلح «المالبسات التاريخية»(((‪ ،‬الذي أكثر سيد قطب من‬
‫استخدامه‪ ،‬وأكد على ضرورة اإللمام بالظروف والمالبسات المحيطة بنزول آيات‬
‫القرآن؛ حتى تفهم على وجهها الصحيح أو ً‬
‫ال‪ ،‬ثم ليستفاد من ذلك في االنتفاع‬
‫عملي ًا في دنيا الناس ثاني ًا؛ وهكذا يصير من الالزم‬
‫ّ‬ ‫بتوجيهاته‪ ،‬وتطبيقها تطبيق ًا‬
‫«استصحاب األحوال‪ ،‬والمالبسات‪ ،‬والظروف‪ ،‬والحاجات‪ ،‬والمقتضيات الواقعية‬

‫((( سامر اإلسالمبولي‪ :‬ظاهرة النص القرآني تاريخ ومعاصرة ص ‪.125 ،124‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.125‬‬
‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬مناهج االستدالل على مسائل العقيدة ص ‪.535 ،534‬‬

‫‪61‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫العملية التي صاحبت نزول النص القرآني‪ ،‬ال بد من هذا إلدراك وجهة النص وأبعاد‬
‫مدلوالته‪ ،‬ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي‪ ،‬ويواجه حالة واقعية‪ ،‬كما يواجه‬
‫أحياء يتحركون معه أو ضده‪ ،‬وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها‪ ،‬كما هي‬
‫ضرورية لالنتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والمالبسات في فترة تاريخية‬
‫تالية‪ ،‬وعلى األخص فيما يواجهنا اليوم‪ ،‬ونحن نستأنف الدعوة اإلسالمية»(((‪.‬‬

‫وفهم النصوص القرآنية وإدراكها حق اإلدراك ال يتوقف ‪ -‬في رأيه ‪ -‬على التعامل‬
‫ال ‪ -‬وقبل كل شيء‪ -‬بالحياة في‬ ‫مع مدلوالتها البيانية واللغوية فقط «إنما تدرك أو ً‬
‫جوها التاريخي الحركي‪ ،‬وفي واقعيتها اإليجابية‪ ،‬وتعاملها مع الواقع الحي‪ ،‬وهي ‪-‬‬
‫وإن كانت أبعد مدى وأبقى أثر ًا من الواقع التاريخي الذي جاءت تواجهه ‪ -‬ال تتكشف‬
‫عن هذا المدى البعيد إال في ضوء ذلك الواقع التاريخي‪ ،‬ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم‪،‬‬
‫وفاعليتها المستمرة»(((‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أن مصطلح «المالبسات التاريخية» عند سيد قطب ال يساوي‬
‫تمام ًا مصطلح أسباب النزول الذي عني به المفسرون؛ وإنما هو أوسع نطاق ًا وأكثر‬
‫شمو ً‬
‫ال‪ ،‬فأسباب النزول جزء من المالبسات التاريخية‪ ،‬لكن تضاف إليها أمور أخرى؛‬
‫منها‪ :‬الجو العام المصاحب لنزول السورة أو اآلية المعينة‪ ،‬وواقع المسلمين‪ ،‬وواقع‬
‫المشركين‪ ،‬ومالمح كل فريق‪ ،‬والمرحلة التي وصلت إليها الدولة المسلمة‪ ،‬والمجتمع‬
‫المسلم تربو ّي ًا ودعو ّي ًا وجهاد ّي ًا وغير ذلك من أمور‪.‬‬

‫لكن مع كل هذا االهتمام بالمالبسات التاريخية؛ فإن سيد قطب ال يجعل نزول‬
‫اآليات لسبب معين أو لحادثة ما قيد ًا على معناها‪ ،‬أو حصر ًا ألحكامها فيمن نزلت فيهم‬

‫((( سيد قطب‪ :‬في ظالل القرآن ‪.2122 ،2121/4‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.1453/3‬‬

‫‪62‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫فقط؛ وإنما هي عامة في كل زمان ومكان‪ ،‬وتصلح لكل جماعة وطائفة‪ ،‬ومن إعجاز‬
‫القرآن وصالحيته لكل العصور واألجيال أن «النصوص التي نزلت لتواجه معركة‬
‫معينة‪ ،‬ما تزال بذاتها تصور طبيعة المعركة الدائمة المتجددة بين الجماعة المسلمة في‬
‫كل مكان وعلى توالي األجيال‪ ،‬وبين أعدائها التقليديين الذين ما يزالون هم هم‪ ،‬وما‬
‫تزال حوافزها هي هي في أصلها‪ ،‬وإن اختلفت أشكالها وظواهرها القريبة‪ ،‬وما تزال‬
‫أهدافهم هي هي في طبيعتها‪ ،‬وإن اختلفت أدواتها ووسائلها»(((‪.‬‬

‫‪ - 2‬فيما يتعلق بحقيقة أسباب النزول وطريقة المعرفة بها‪ ،‬فثمة اتفاق بين أهل‬
‫العلم على أن مدار المعرفة بأسباب النزول هو النقل والرواية‪ ،‬وأنه ال يحل التكلم ابتداء‬
‫ال على الرواية والسماع‪ ،‬وأن‬ ‫في هذا الباب‪ ،‬وإثبات سبب نزول معين إال باالعتماد أو ً‬
‫المرجع في معرفة أسباب النزول هو النقل الصحيح عن صحابة رسول الله ‪ ،#‬ألنهم‬
‫هم وحدهم الذين عاصروا الوحي‪ ،‬وعايشوا التنزيل‪ ،‬ووقفوا على األحداث والوقائع‬
‫التي أحاطت بما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب‪ ،‬كما أنهم سمعوا من الرسول‬
‫الكريم ‪ #‬ما لم يسمعه غيرهم‪ ،‬ومن ثم فقد تحتم أن ينفرد هؤالء الصحابة بكونهم‬
‫المرجع المعتبر في معرفة أسباب النزول‪ ،‬وال مجال لعمل العقل في هذا األمر‪ ،‬اللهم‬
‫إال أن يكون في إطار ما ورد من أسباب النزول‪ ،‬ونقل عن الصحابة‪ ،‬وتعدد في الحادثة‬
‫الواحدة‪ ،‬فإن عمل العقل عندئذ يتمثل في محاولة الترجيح بين الروايات‪ ،‬أو الجمع‬
‫بينها فيما ظاهره التعارض منها(((‪.‬‬

‫وقد نبه الواحدي في مقدمة كتابه أسباب النزول على هذا األمر‪ ،‬وذكر أنه «ال‬
‫يحل القول في أسباب نزول الكتاب‪ ،‬إال بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل‪،‬‬

‫((( سيد قطب‪ :‬في ظالل القرآن ‪.566/1‬‬


‫((( الموسوعة القرآنية المتخصصة ص ‪.35‬‬

‫‪63‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ووقفوا على األسباب‪ ،‬وبحثوا عن علمها وجدوا في الطالب‪ ،‬وقد ورد الشرع بالوعيد‬
‫للجاهل ذي العثار في العلم بالنار»(((‪.‬‬

‫فإذا ما انتقلنا إلى العلمانيين فسوف نجد لديهم إلحاح ًا واضح ًا على تجاوز هذه‬
‫الحقيقة المتفق عليها‪ ،‬وتفريغ أسباب النزول من أهم أركانها المبينة لطبيعتها‪.‬‬

‫ونعني بذلك أن أسباب النزول مدارها على النقل والرواية ممن شهد نزول القرآن‪،‬‬
‫وهو األمر الذي أراد العلمانيون تجاهله‪ ،‬كي يوسعوا من دائرة أسباب النزول‪ ،‬وليصير‬
‫المقصود بها ارتباط الفكر بالواقع‪ ،‬دون أن يقتصر ذلك على سبب تاريخي وقع آلية‬
‫بعينها‪ ،‬بل من الممكن استنباط أسباب النزول عق ً‬
‫ال ونظر ًا دون ورود خبر مروي‪ ،‬أو‬
‫نقل موثوق به عمن شهد التنزيل‪.‬‬

‫وقد نص حسن حنفي صراحة على أنه «ال يهم معرفة سبب آية كسبب تاريخي‬
‫في حد ذاته‪ ،‬بل الداللة العامة ألسباب النزول‪ ،‬فقد يختلف فيها الرواة وال يهم تعدد‬
‫األسباب‪ ،‬بل السبب أي ارتباط الفكر بالواقع»(((‪.‬‬

‫وثمة محاولة مشابهة من محمد عابد الجابري لتوسيع دائرة المقصود بأسباب‬
‫النزول‪ ،‬بحيث ال يقتصر على الحادثة المعينة التي نزل الحكم بشأنها‪ ،‬وإنما يشمل‬
‫مجمل الظروف التاريخية التي نزل النص فيها‪ ،‬والتي يؤثر أن يطلق عليها وصف‬
‫«الظرفية التي كانت سائدة»(((‪ ،‬وفي شرح فكرته تلك يشير الجابري إلى أن المرحلة‬
‫المدنية من النبوة كانت غنية بأحداث متداخلة متزاحمة متقلبة‪ ،‬وصحيح أن التنزيل لم‬

‫((( الواحدي‪ :‬أسباب النزول ص ‪ ،10‬وانظر‪ :‬السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪.114/1‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬من النقل إلى العقل‪ ،‬الجزء األول‪ :‬علوم القرآن من المحمول إلى الحامل ص ‪.83‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد عابد الجابري فهم القرآن الحكيم‪ ،‬التفسير الواضح حسب ترتيب النزول الجزء الثالث‬
‫ص ‪.33‬‬

‫‪64‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫يتتبعها كلها‪ ،‬لكنه كاد يغطيها بخطاب مباشر تارة وغير مباشر تارة أخرى‪ ،‬بما في ذلك‬
‫اإلجابة عن األسئلة التي يطرحها الناس‪ ،‬وفي مثل هذه الحالة كان ال بد لألجوبة أن‬
‫تأتي ذات عالقة بالوضع المعيش‪ ،‬وبناء على ذلك «فليست ما يعبر عنها عادة بأسباب‬
‫النزول هي وحدها التي يجب األخذ بها عند محاولة فهم هذا الجواب أو ذلك‪ ،‬بل ال‬
‫بد من مراعاة الظرفية التي كانت سائدة»(((‪.‬‬

‫وانطالق ًا من هذا التصور انتهى الجابري إلى أنه ال بد من إدخال كثير من المرونة‬
‫على القوالب الفكرية األصولية وغيرها التي وجهت عملية فهم القرآن منذ عصر‬
‫التدوين‪ ،‬وهذه المرونة عند الرجل ال تقف عند حد‪ ،‬بل يمكن معها التحرر من كل‬
‫المصطلحات القديمة‪ ،‬ومن ثم نجده يقول نص ًا‪« :‬ال بد إذن من التحرر من المفاهيم‬
‫المقولبة‪ ،‬التي تتعامل مع الذكر الحكيم كنص جامد يجب تطويع معطياته معها‪ ،‬بينما‬
‫أن الواجب هو العكس‪ ،‬أعني تطويعها هي مع غنى النص وحركيته‪ ،‬وإن اقتضى الحال‬
‫التحرر منها تمام ًا‪ ،‬ألنها تقضي على الحكمة من تنجيم آي الذكر الحكيم»(((‪.‬‬

‫وهكذا مع تلك المرونة المزعومة‪ ،‬ودعوات التحرر المنفلتة من كل قيد يمكننا‬


‫على سبيل المثال أن نجد باب أسباب النزول في صورته المعروفة عند أهل العلم‬
‫قديم ًا وحديث ًا‪ ،‬قد تم قلبه رأس ًا على عقب‪ ،‬سواء من حيث االسم‪ ،‬أو من حيث طبيعته‬
‫الموقوفة على النقل والرواية‪.‬‬

‫والعجيب حق ًا أننا ال نجد مع هذه الدعاوي العريضة التي قدمها هؤالء النفر‬
‫من العلمانيين إلعادة قراءة باب أسباب النزول وما أشبهه من علوم المتقدمين رؤية‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.33‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.34 ،33‬‬

‫‪65‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫متماسكة ورصينة‪ ،‬يمكن أن تزاحم الرؤية التراثية وإنما األمر كله ال يتجاوز مجرد‬
‫جعجعات فارغة‪ ،‬ال تقنع منصف ًا‪ ،‬وال تنهض على أسس ثابتة‪.‬‬

‫ومن الشخصيات األخرى التي انتقدت ما انتهى إليه المفسرون واألصوليون‬


‫من القول بأن أسباب النزول موقوفة على الرواية والسماع‪ :‬علي أومليل‪ ،‬والذي رأى‬
‫أن مثل هذا المبدأ قد أدى إلى أن تكون «هذه األسباب قد ثبتت مرة واحدة وإلى اال‬
‫بد‪ ،‬فال ينبغي أن يظل باب األسباب مفتوح ًا‪ ،‬وال للظرفيات المتغيرة أن تغير من هوية‬
‫النص أي من ثبات الحكم»(((‪.‬‬

‫وهو يتساءل بحسرة «لماذا جعلوا أسباب النزول موقوفة فأقفلوا األسئلة»(((‪ .‬ثم‬
‫يتخيل ما يمكن أن يكون عليه الحال لو لم يحدث ذلك‪ ،‬و ُت ِرك باب السؤال مفتوح ًا‪،‬‬
‫ومن ثم باب الجواب‪ ،‬الذي سوف يتغير بدوره‪ ،‬ويفتح باب تطوير األحكام الشرعية‬
‫على مصراعيه‪ ،‬يقول أومليل‪« :‬ماذا لو لم يعتبروا أسباب النزول موقوفة؟ آنذاك‬
‫سيمكن تعميم الحق في السؤال‪ ،‬ولن تكون األسئلة الوحيدة التي طرحت هي تلك‬
‫التي طرحها األسالف خالل فترة محدودة واستثنائية‪ .‬هؤالء طرحوا أسئلتهم قبل‬
‫صدور النص‪ ،‬في حين أن األسئلة المفتوحة ستكون استجواب ًا مستمر ًا للنص‪ ،‬بعد أن‬
‫صارت أسئلة األسالف في ذمة الماضي»(((‪.‬‬

‫أما نصر أبو زيد فقد زعم أن أسباب النزول ليست سوى السياق االجتماعي‬
‫للنصوص(((‪ ،‬وبناء على هذا المفهوم المدعى ‪ -‬وغير الدقيق ‪ -‬رأى أن تلك األسباب‬

‫((( علي أومليل‪ :‬في شرعية االختالف ص ‪.52‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪54‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.54‬‬
‫((( نصر أبو زيد مفهوم النص ص ‪.126‬‬

‫‪66‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫يمكن الوصول إليها من خارج النص ‪ -‬أي عبر النقل والرواية‪ ،‬كما «يمكن كذلك‬
‫الوصول إليها من داخل النص‪ ،‬سواء في بنيته الخاصة أو في عالقته باألجزاء األخرى‬
‫من النص العام»(((‪.‬‬

‫ويؤكد أبو زيد فكرته هذا بانتقاد منهج العلماء المتقدمين في التعامل مع باب‬
‫أسباب النزول‪ ،‬وكيفية الوصول إليها‪ ،‬واقتصارهم على النقل والرواية وهي أمور‬
‫خارجة عن النص نفسه كما يرى أبو زيد‪ ،‬حيث يقول‪« :‬ولقد كانت معضلة القدماء أنهم‬
‫لم يجدوا وسيلة للوصول ألسباب النزول إال االستناد إلى الواقع الخارجي والترجيح‬
‫بين المرويات‪ ،‬ولم ينتبهوا إلى أن في النص دائم ًا دوال يمكن أن يكشف تحليلها عن‬
‫ما هو خارج النص‪ ،‬ومن ثم يمكن اكتشاف أسباب النزول من داخل النص‪ ،‬كما يمكن‬
‫اكتشاف داللة النص بمعرفة سياقه الخارجي»(((‪.‬‬

‫ولعله ال يخفى ما في هذا الكالم من خلط ومجازفات‪ ،‬فسبب النزول ‪ -‬كما تقدم‬
‫معنا ‪ -‬يقصد به ما نزلت اآلية أو اآليات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه(((‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أن هناك واقعة ما حدثت في زمنه ‪ ،#‬وكانت سبب ًا نزلت اآليات على إثره‪،‬‬
‫والوقائع التاريخية مردها أساس ًا إلى باب النقل أو الرواية‪.‬‬

‫وقد يكون للعقل مدخل في فهم هذه الروايات‪ ،‬أو االستنباط منها‪ ،‬أو إدراك علة‬
‫في متونها‪ ،‬أو ترجيح رواية على أخرى طبق ًا لسياق النص‪ ،‬لكن ال يتصور بحال أن‬
‫يكون له مدخل أو دور في إيجادها أو االدعاء بحصولها‪ ،‬دون وجود خبر دال على‬
‫ذلك‪ ،‬فالعقل يفهم‪ ،‬لكنه ال ينشئ ما كان مداره على النقل والخبر‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.126‬‬


‫((( نصر أبو زيد مفهوم النص ص ‪.126‬‬
‫((( انظر‪ :‬الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،106/1‬ود‪ .‬محمد أبو شهبة‪ :‬المدخل لدراسة القرآن الكريم‬
‫ص ‪ ،132‬ود‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن ‪.253/1‬‬

‫‪67‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن التناقض الواضح لدى نصر أبو زيد أنه أقر‪ -‬نظري ًا ‪ -‬بالطبيعة النقلية ألسباب‬
‫النزول وما أشبهها من مباحث علوم القرآن‪ ،‬حيث أشار إلى ما يسميه بالجوانب العامة‬
‫الخارجية للنص‪ ،‬مثل‪ :‬العلم بأسباب النزول والقصص والمكي والمدني والناسخ‬
‫والمنسوخ‪ ،‬وبنص كالمه فإن هذه الجوانب «كلها علوم نقلية تعتمد على الرواية عند‬
‫القدماء‪ ،‬وال مجال فيها لالجتهاد‪ ،‬سوى الترجيح بين الروايات أو محاولة الجمع‬
‫بينها»(((‪.‬‬

‫ويزداد األمر وضوح ًا إذا علمنا أن هذا التهويم النظري الذي ذكره نصر أبو زيد‬
‫حول إمكانية اكتشاف أسباب النزول من داخل النص وليس من خارجه فحسب‪ ،‬لم‬
‫يصاحبه تطبيق عملي ذو بال‪ ،‬يمكننا من التعامل معه بجدية‪ ،‬وإال فأين هي اآليات التي‬
‫استنبط هؤالء العلمانيون سبب نزولها من داخل النص وحده‪ ،‬ثم ما العمل يا ترى إذا‬
‫استنبط شخص سبب نزول ما‪ ،‬واستنبط آخر سبب نزول مختلف‪ ،‬وال سيما إذا تذكرنا‬
‫ما ألح عليه العلمانيون من أن دالالت النص مفتوحة‪ ،‬وقابلة للعديد من التأويالت‪،‬‬
‫وال يمكن القطع بصحة واحد منها ورفض ما سواه‪ ،‬وهكذا يتحول األمر إلى فوضى‬
‫ال ضابط لها بحال!‬

‫وليس بمستبعد أن يكون نصر أبو زيد قد تأثر بما قرره المستشرق نولدكه في كيفية‬
‫معرفة ترتيب سور القرآن‪ ،‬حيث اقترح نولدكه معايير موضوعية لترتيب سور القرآن‬
‫حسب النزول‪ ،‬بحيث ال تعتمد هذه المعايير على الروايات‪ ،‬وإنما على مضمون السور‬
‫القرآنية‪ ،‬وانطالق ًا من أمرين أساسيين‪ ،‬هما(((‪:‬‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.263‬‬


‫((( انظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ :‬مدخل إلى القرآن الكريم ص ‪ ،241 ،240‬وبسام الجمل‪ :‬أسباب‬
‫النزول ص ‪.41 ،40‬‬

‫‪68‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫أ‪ -‬اإلشارات التي تحيل في القرآن إلى وقائع تاريخية‪ ،‬وإذا كانت السور المكية‬
‫‪ -‬حسب رأيه ‪ -‬ال تقدم لنا في هذا المجال سوى ما يسمح بالتمييز في المرحلة المكية‬
‫بين ثالث حقب‪ ،‬فإن السور المدنية تحتوي على كثير من اآليات تشير إلى حوادث‬
‫وقعت قبيل نزولها‪.‬‬

‫ب‪ -‬خصائص النص القرآني‪ ،‬وبالخصوص منها الفرق الواضح بين السور المكية‬
‫والسور المدنية‪ ،‬سواء على مستوى األسلوب أو مستوى الموضوعات‪.‬‬

‫وعلى أساس هذين المعيارين وضع نولدكه ترتيب ًا للقرآن حسب النزول‪ ،‬وقد تبناه‬
‫المستشرق الفرنسي بالشير‪ ،‬مع تعديالت طفيفة(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من خلط واضح بين أمرين مختلفين‪ ،‬أحدهما معرفة‬
‫المكي والمدني من سور القرآن‪ ،‬واآلخر الترتيب الدقيق للسور ومعرفة أيها نزل قبل‬
‫اآلخر‪ ،‬والمعايير المذكورة ‪ -‬وقد ذكر ما هو أدق منها وأصح علماء المسلمين((( ‪ -‬قد‬
‫تفيد في األمر األول‪ ،‬لكنها ال يمكن أن تفي بمعرفة ترتيب نزول سور القرآن‪ ،‬ولذا نجد‬
‫أن نفر ًا من العلمانيين مثل أركون(((‪ ،‬والجابري((( قد أقروا بهزالة النتائج‪ ،‬التي توصل‬
‫إليها المستشرقون في هذا الصدد‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ :‬مدخل إلى القرآن الكريم ص ‪ ،241‬وفهم القرآن الحكيم ‪،10/1‬‬
‫ومحمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة هامش ص ‪ ،60‬وبسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪،40‬‬
‫‪.41‬‬
‫((( انظر‪ :‬الزركشي‪ :‬البرهان في علوم القرآن ‪ ،188/1‬والسيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪،68/1‬‬
‫والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،193/1‬ومناع القطان‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص ‪ ،50 ،49‬ود‪.‬‬
‫مساعد الطيار‪ :‬المحرر في علوم القرآن ص ‪.112‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.72‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ :‬مدخل إلى القرآن الكريم ص ‪.243‬‬

‫‪69‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫واألمر نفسه ينطبق على أسباب النزول‪ ،‬فقد يدل مضمون بعض اآليات على‬
‫مدنيتها أو مكيتها‪ ،‬أو تقدمها أو تأخرها‪ ،‬أو ارتباطها بحادثة ما في الجملة كغزوة‬
‫ال‪ ،‬لكن ذلك كله ال يكفي لمعرفة األسباب تفصي ً‬
‫ال‪ ،‬كما ال يعم كل‬ ‫من الغزوات مث ً‬
‫آيات القرآن ذوات السبب‪ ،‬ويبقى االعتماد األساسي على النقل بوصفه وسيلة رئيسة‬
‫للتعرف إلى أسباب نزول القرآن الكريم‪.‬‬

‫‪ - 3‬تقدم معنا سابق ًا أن سبب النزول هو ما نزلت اآلية أو اآليات متحدثة عنه أو‬
‫مبينة لحكمه أيام وقوعه‪ ،‬وأن تقييد التعريف بقولنا «أيام وقوعه» مهم جد ًا‪ ،‬ألنه يرسم‬
‫حدود أسباب النزول‪ ،‬ويبين المجال الذي تقف عنده‪ ،‬فسبب النزول مرتبط بزمن نزول‬
‫اآليات‪ ،‬وما حدث قبل ذلك ال يدخل في أسباب النزول‪ ،‬ألنه لم يعاصر زمان نزول‬
‫الوحي‪ ،‬وبهذا القيد ُيمنَع إقحام كثير من القصص في دائرة أسباب النزول(((‪.‬‬

‫وقد نبه إلى هذا المعنى بعض أهل العلم من القدامى والمعاصرين(((‪ ،‬وكما قال‬
‫السيوطي فإن «الذي يتحرر في سبب النزول أنه ما نزلت اآلية أيام وقوعه‪ ،‬ليخرج ما‬
‫ذكره الواحدي في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به‪ ،‬فإن ذلك ليس من‬
‫أسباب النزول في شيء‪ ،‬بل هو من باب اإلخبار عن الوقائع الماضية‪ ،‬كذكر قصة قوم‬
‫نوح وعاد وثمود وبناء البيت ونحو ذلك‪ ،‬وكذلك ذكره في قوله‪َ { :‬وات ََّخ َذ ال َّل ُه ِإ ْب َر َ‬
‫اهِيم‬
‫ال‪ ،‬ليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما ال‬ ‫خَ لِي ًال} [النساء‪ ]125 :‬سبب اتخاذه خلي ً‬
‫يخفى»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬عماد الرشيد‪ :‬أسباب النزول ص ‪.27 ،26‬‬


‫((( انظر‪ :‬السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪ ،116/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،108/1‬ومناع‬
‫القطان‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص ‪ ،78‬ود‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن‪،253/‬‬
‫‪.254‬‬
‫((( السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪.116/1‬‬

‫‪70‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ومن العلماء المعاصرين نبه الشيخ الزرقاني إلى أن «كلمة أيام وقوعه في تعريف‬
‫سبب النزول قيد ال بد منه لالحتراز عن اآلية أو اآليات التي تنزل ابتداء من غير سبب‪،‬‬
‫بينما هي تتحدث عن بعض الوقائع واألحوال الماضية أو المستقبلة‪ ،‬كبعض قصص‬
‫األنبياء السابقين وأممهم‪ ،‬وكالحديث عن الساعة وما يتصل بها‪ ،‬وهو كثير في القرآن‬
‫الكريم»(((‪.‬‬

‫فإذا ما جئنا لمواقف بعض العلمانيين من هذا التقييد المهم‪ ،‬فسوف نجد أن‬
‫محمد أركون ال يلقي له با ً‬
‫ال‪ ،‬بل يزعم أن قصص األنبياء شكلت الخلفية األسطورية‬
‫التي انبثقت منها أسباب النزول‪ ،‬فيقول‪« :‬يوجد في التراث اإلسالمي شيء يدعى‬
‫قصص األنبياء‪ ،‬وهي التي تحتوي على العديد من القصص‪ ،‬ونخص بالذكر منها‬
‫تلك التي جمعها يهوديان اعتنقا اإلسالم‪ ،‬وهما كعب األحبار ووهب بن منبه‪ ،‬وهذه‬
‫القصص العديدة تشكل الخلفية األسطورية التي تفسر لنا نزول كل آية من آيات‬
‫القرآن‪ ..‬إن هذه القصص تبين لنا العالقة القوية بين تفاسير القرآن‪ ،‬وبين المخيال‬
‫الديني الذي ساد طيلة القرون الهجرية الثالثة األولى‪ ،‬في الوسط الطائفي لمنطقة‬
‫الشرق األدنى»(((‪.‬‬

‫ولست أدري أي منهجية علمية ودقة بحثية تلك التي يدندن حولها أركون دائم ًا‪،‬‬
‫ثم هو يصدر أحكام ًا لم يسبقه إليها أحد‪ ،‬ولم يقم عليها أي دليل أو برهان‪ ،‬وأعني‬
‫بذلك قوله اآلنف الذكر إن «هذه القصص العديدة تشكل الخلفية األسطورية التي‬
‫تفسر لنا نزول كل آية من آيات القرآن»‪.‬‬

‫((( عبد الرحيم الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪.108/1‬‬


‫((( محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.30‬‬

‫‪71‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫فهل القرآن الكريم مقتصر فقط على القصص؟ وهل ما ورد بشأنها من إسرائيليات‬
‫يفسر لنا نزول كل آية من آيات القرآن؟ وهل قبل علماء التفسير جميع ًا تلك القصص‪،‬‬
‫واعتمدوا عليها في تفسيرهم للقرآن كله؟ وبالطبع فإن اإلجابة عن األسئلة السابقة‬
‫كلها بالنفي‪ ،‬لكن هكذا هي عادة كثير من العلمانيين‪ ،‬أن يطلقوا أحكام ًا ضخمة دونما‬
‫مستند‪ ،‬ثم يسوقونها كما لو كانت حقيقة ال مجال للتشكيك فيها‪.‬‬

‫وخالف ًا لرأي أركون المتقدم فقد أقر بسام الجمل أن جانب ًا من القصص القرآني‬
‫يخرج عند الفحص عن حد علم أسباب النزول ودالالته االصطالحية‪ ،‬لخروجه عن‬
‫مرحلة الوحي المحمدي(((‪ ،‬ومن ثم انتقد الواحدي في إيراده سبب نزول لقوله تعالى‪:‬‬
‫ال َأ َو َل ْم تُؤْ م ِْن َق َ‬
‫ال َب َلى َو َلكِ ْن ل َِي ْط َمئ َِّن َق ْلبِي‬ ‫ِيم َر ِّب َأ ِرنِي َك ْي َف ت ُْح ِي ا ْل َم ْوتَى َق َ‬ ‫{ ِإ ْذ َق َ‬
‫ال ِإ ْب َراه ُ‬
‫الط ْي ِر َف ُص ْر ُه َّن ِإ َل ْي َك ُث َّم ْاج َع ْل َع َلى ُك ِّل َج َب ٍل ِم ْن ُه َّن ُج ْزءاً ُث َّم ا ْد ُع ُه َّن َي ْأتِي َن َك‬
‫ال َفخُ ْذ َأ ْر َب َع ًة م َِن َّ‬
‫َق َ‬
‫يم} [البقرة‪ .]260:‬كما انتقد الرازي إليراده سبب نزول‬ ‫َس ْعي ًا َو ْاع َل ْم َأنَّ ال َّل َه َع ِزي ٌز َحكِ ٌ‬
‫لقوله تعالى‪َ { :‬أ ْو َكا َّلذِ ي َم َّر َع َلى َق ْر َي ٍة َوه َِي خَ ا ِو َي ٌة َع َلى ُع ُروشِ َها َق َ‬
‫ال َأنَّى ُي ْحيِي َهذِ ِه ال َّل ُه َب ْع َد‬
‫َم ْوت َِها َف َأ َما َت ُه ال َّل ُه مِا َئ َة َع ٍام ُث َّم َب َع َث ُه} [البقرة‪.]259 :‬‬

‫‪ - 4‬لم يكتف بعض العلمانيين بالتالعب في المفهوم المستقر ألسباب النزول‪ ،‬أو‬
‫توظيفه لخدمة أهدافهم‪ ،‬وإنما تجاوزوه من خالل نحت مصطلح جديد أكثر خطورة‪،‬‬
‫وهي عادة مطردة في باب االنحرافات الفكرية أن يبدأ األمر بمسألة أو فكرة ما‪ ،‬ثم‬
‫تنتابها تطورات وتحوالت عدة‪ ،‬تذهب بها لمسار أكثر غلو ًا وأشد انحراف ًا‪.‬‬

‫والمثال الواضح في هذا الصدد هو مصطلح «السياق التاريخي االجتماعي لنزول‬


‫الوحي» الذي ذكره نصر أبو زيد‪ ،‬ورأى أنه يمثل منظور ًا أوسع للتعامل مع النصوص‪،‬‬
‫وعنصر ًا مهم ًا من عناصر منهج تجديدي‪ ،‬يسمى بمنهج القراءة السياقية للنصوص‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.172‬‬

‫‪72‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وهذا المنهج المزعوم ال يعتبر جديد ًا تمام ًا في رأي نصر أبو زيد‪ ،‬وإنما يعتبره‬
‫مزيج ًا من تطوير مناهج علم أصول الفقه التقليدي من جهة‪ ،‬واستمرار ًا لجهود رواد‬
‫النهضة خاصة محمد عبده‪ ،‬وأمين الخولي من جهة أخرى‪ ،‬ومن هذا المنطلق فإن‬
‫هذا المنهج ال يرفض منظومة علوم القرآن‪ ،‬خاصة علم أسباب النزول وعلم الناسخ‬
‫والمنسوخ‪ ،‬إلى جانب منظومة علوم اللغة كأدوات أساسية للتفسير واستخراج‬
‫األحكام واستنباطها من النصوص‪ ،‬بل يجعل هذه األدوات من أهم أدوات منهج‬
‫القراءة السياقية(((‪.‬‬

‫وبينما يؤكد علماء األصول على أهمية أسباب النزول لفهم المعنى‪ ،‬فإن هذا‬
‫المنهج الجديد‪ ،‬وما يتضمنه من القراءة السياقية للنصوص‪ ،‬يتعامل مع المسألة من‬
‫منظور أوسع «وهو مجمل السياق التاريخي االجتماعي ‪ -‬القرن السابع الميالدي ‪-‬‬
‫لنزول الوحي‪ ،‬ألنه هو السياق الذي يمكن للباحث من خالله أن يحدد في إطار األحكام‬
‫ال بين ما هو من إنشاء الوحي أص ً‬
‫ال‪ ،‬وبين ما هو من العادات واألعراف‬ ‫والتشريعات مث ً‬
‫الدينية أو االجتماعية السابقة على اإلسالم‪ ،‬كما يمكن التمييز في هذه األخيرة بين ما‬
‫ال‪ ،‬وبين ما تقبله تقب ً‬
‫ال جزئي ًا مع اإليحاء‬ ‫ال مع تطويره كالحج مث ً‬
‫ال كام ً‬
‫تقبله اإلسالم تقب ً‬
‫بأهمية تطويره للمسلمين‪ ،‬مثل مسألة العبودية‪ ،‬وقضايا حقوق النساء‪ ،‬والحروب»(((‪.‬‬

‫وبهذه الطريقة يتم التفرقة بوضوح بين السياق التاريخي االجتماعي‪ ،‬وأسباب‬
‫النزول‪ ،‬بما يمهد لالستغناء عنها وترسيخ المصطلح الجديد‪ ،‬وقد أكد نصر أبو زيد‬
‫على تلك التفرقة‪ ،‬فقال‪« :‬علينا التفريق بين أسباب النزول كمصطلح معروف في‬
‫المعنى الفقهي في المرويات التراثية‪ ،‬وما أسميه السياق التاريخي للوحي‪ ،‬هذا السياق‬

‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ص ‪.203‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.202‬‬

‫‪73‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ال يمكنه أن يتجاهل مفهوم أسباب النزول في المعنى التاريخي للوحي‪ ،‬لكنه ال يتعامل‬
‫معه تعام ً‬
‫ال نقدي ًا‪ ،‬ألن بعض هذه األسباب متناقض‪ ،‬وبعضها اآلخر يأتي تبرير ًا لمعنى‬
‫معين‪ ،‬يريد المفسر أن يفرضه‪ ،‬كما يجب عدم االكتفاء بأسباب النزول‪ ،‬ألنها كما‬
‫ذكرت قليلة»(((‪.‬‬

‫وهكذا ينتهي بنا األمر مع نصر أبو زيد‪ ،‬وما يسميه بالسياق التاريخي االجتماعي‬
‫لنزول الوحي إلى حيلة جديدة تضاف ألخواتها من حيل التفلت من دالالت النصوص‬
‫الشرعية وأحكامها الواضحة‪.‬‬

‫ولم تعد الحيلة هذه المرة هي قضية أسباب النزول‪ ،‬وهل العبرة في التعامل معها‪،‬‬
‫وفهمها بعموم األلفاظ أم بخصوص األسباب‪ ،‬وإنما تم صك مصطلح جديد يفتح باب ًا‬
‫أوسع للتملص من كل حكم شرعي‪ ،‬ال يتناسب مع العقلية العلمانية‪ ،‬بحجة أنه كان‬
‫حكم ًا مؤقت ًا متناسب ًا مع السياق التاريخي االجتماعي لنزول الوحي في القرن السابع‬
‫الميالدي‪ ،‬وال غضاضة مطلق ًا في تجاوزه وعدم التقيد به‪.‬‬

‫ويندرج في ذلك جل ما يتعلق بقضايا المرأة‪ :‬كالحجاب والقوامة واإلرث‬


‫والوالية‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن مسائل الجهاد والحدود والخالفة والحرية الدينية‪ ،‬وغيرها من‬
‫القضايا التي تمثل مصدر حساسية هائلة للعلمانيين‪ ،‬نظر ًا لتعارضها مع ما انتهت إليه‬
‫العقلية الغربية الحديثة‪ ،‬في نسختها الديمقراطية الليبرالية المعاصرة‪.‬‬

‫‪ - 5‬وقبل أن نختم الكالم عن المفهوم العلماني ألسباب النزول‪ ،‬ننبه إلى أن هذا‬
‫الخلط المتعمد‪ ،‬ومحاوالت وضع مفهوم جديد بقصد التوظيف المغرض ألسباب‬

‫((( انظر‪ :‬حوار محمد علي األتاسي «القرآن نص تاريخي وثقافي» ملحق جريدة النهار الثقافي دمشق‬
‫عدد الخميس ‪ 17‬أكتوبر ‪ ،2002‬نق ً‬
‫ال عن إبراهيم أبو هادي‪ :‬نصر أبو زيد ومنهجه في التعامل مع‬
‫التراث ص ‪.272‬‬

‫‪74‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫النزول؛ قد حدث ما يماثله في قضية النسخ‪ ،‬والذي يرتبط في حقيقته المتفق عليها‬
‫بين أهل العلم بوجود نص الحق رفع حكم نص سابق(((‪ ،‬وال بد في تحقق النسخ من‬
‫وجود النص الشرعي الدال على حصول النسخ‪ ،‬ومن وجود حكم شرعي منسوخ رفعه‬
‫حكم شرعي ناسخ‪ ،‬ومن ثم فال مجال للعمل بالحكم األول‪ ،‬فالصالة مث ً‬
‫ال إلى بيت‬
‫المقدس لم تعد جائزة بحال‪ ،‬بعد األمر بالتوجه إلى البيت الحرام‪.‬‬

‫ومن المجمع عليه عند المسلمين أن وقت حصول النسخ مرتبط بزمان نزول‬
‫الوحي على النبي‪ # ،‬وقد انتهى بوفاته ‪ ،#‬وال يمكن بحال أن يقع نسخ بعد ذلك‪،‬‬
‫إذ الدين قد كمل واستقر‪ ،‬وال يجوز الزيادة أو النقصان منه‪ ،‬وما بقي هو حسن الفهم‬
‫له واالجتهاد في تنزيله وتطبيقه‪ ،‬ومعرفة حكم ما لم ينص عليه وإلحاقه بالمنصوص‪،‬‬
‫وقد نقل ابن حزم اتفاق األمة على هذا المعنى‪ ،‬فقال‪« :‬واتفقوا أنه مذ مات النبي ‪#‬‬
‫فقد انقطع الوحي‪ ،‬وكمل الدين واستقر‪ ،‬وأنه ال يحل ألحد أن يزيد شيئ ًا من رأيه بغير‬
‫استدالل منه‪ ،‬وال أن ينقص منه شيئ ًا‪ ،‬وال أن يبدل شيئ ًا مكان شيء‪ ،‬وال أن يحدث‬
‫شريعة‪ ،‬وأن من فعل ذلك كافر»(((‪.‬‬

‫لكن نفر ًا من العلمانيين عملوا على توسيع دائرة النسخ ومفهومه‪ ،‬ليخدم أهدافهم‬
‫في إثبات تاريخية الشريعة‪ ،‬والزعم بأن الناسخ والمنسوخ «يعني التطور في التشريع‬
‫طبق ًا لألهلية والقدرة»(((‪ .‬وأنه «إذا كانت النصوص نفسها تناسخت ‪ -‬نسخ بعضها‬
‫البعض ‪ -‬خالل عشرة أعوام أو يزيد قلي ً‬
‫ال هي عمر التجربة اليثربية أو تجربة المدينة‪..‬‬
‫((( انظر‪ :‬الغزالي‪ :‬المستصفى ص ‪ ،83‬وابن حزم‪ :‬اإلحكام في أصول األحكام ‪ ،59/4‬والزركشي‪:‬‬
‫البحر المحيط ‪ ،195/5‬وعبد الوهاب خالف‪ :‬علم أصول الفقه ص ‪ ،207‬ود‪ .‬مصطفى أبو زيد‪:‬‬
‫النسخ في القرآن الكريم ‪ ،105/1‬ود‪ .‬عبد الكريم النملة‪ :‬المهذب في علم أصول الفقه المقارن‬
‫‪.530/2‬‬
‫((( ابن حزم‪ :‬مراتب اإلجماع ص ‪.175 ،174‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬اليسار اإلسالمي والوحدة الوطنية ص ‪.37‬‬

‫‪75‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫فكيف تستسيغ العقول رفض مبدأ أو نظرية التاريخية»(((‪.‬‬

‫ومن أخطر ما قرره بعضهم في هذا الصدد أن النسخ لم ينته بوفاته ‪ ،#‬بل يمكن‬
‫أن يظل مستمر ًا بنسخ ما يحتاج المجتمع لنسخه من أحكام لم تعد مناسبة للعصر‬
‫وظروفه‪.‬‬

‫وممن قال بذلك محمد جمال باروت‪ ،‬والذي ذهب إلى أن النسخ‪ ،‬وإن كان‬
‫قد «انتهى مع وفاة النبي ‪ ،#‬فإن فهم ًا تاريخي ًا له يشير إلى أنه مستمر بأشكال أخرى‬
‫يضطلع فيها التطور االجتماعي بنصيبه في النسخ‪ ،‬فقد اقتضى هذا التطور إلغاء القانون‬
‫الوضعي للرق وحظره»(((‪ ،‬وقريب من ذلك ما زعمه العشماوي من أن «حقيقة النسخ‬
‫لم تكن مجرد نقل الناس من حكم إلى حكم‪ ،‬بل إنه في الحقيقة كان لتعويدهم اتباع‬
‫أسلوب الحركة إزاء أحداث الحياة الجارية‪ ،‬وتعويدهم نهج التغيير الصالح‪ ،‬كلما‬
‫تغيرت الظروف أو تبدلت الوقائع»(((‪.‬‬

‫ومما قرره الحداثيون أيض ًا أن النسخ ليس موقوف ًا على ورود الدليل الشرعي‬
‫من آية أو حديث‪ ،‬بل يمكن أن يحصل النسخ باالجتهاد‪ ،‬بما يتيح للمجتمع ومفكريه‬
‫أن يتركوا حكم ًا ما لعدم صالحيته للتطبيق من وجهة نظرهم‪ ،‬وفي هذا المعنى يقول‬
‫محمد جمال باروت‪« :‬فالمفهوم السائد يقوم على أنه ال ينسخ القرآن إال القرآن‪ ،‬ولكن‬
‫مفهوم ًا عصري ًا ألساليب التلقي والتأويل‪ ،‬والتفسير يسمح بالقول إن االجتهاد ينسخ‬
‫بعض األحكام‪ ،‬حتى وإن سمينا هذا النسخ تقييد ًا أو تخصيص ًا‪ ،‬فال يغير ذلك من‬
‫الوظيفة الفعلية»(((‪.‬‬

‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي ضمن األعمال الكاملة ص ‪.109‬‬
‫((( محمد جمال باروت‪ :‬االجتهاد النص الواقع المصلحة ص ‪.138‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬الربا والفائدة في اإلسالم ص ‪.38‬‬
‫((( محمد جمال باروت‪ :‬االجتهاد النص الواقع المصلحة ص ‪.178‬‬

‫‪76‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ومن المغالطات الحداثية أيض ًا االدعاء بأن الحكم المنسوخ لم يرفع بالكلية‬
‫بحيث يحل محله الحكم الناسخ‪ ،‬وإنما يمكن بقاء الحكمين مع ًا جنب ًا إلى جنب‬
‫ليتسنى الرجوع إلى الحكم المنسوخ مرة ثانية‪ ،‬إذا اقتضى األمر وتغيرت الظروف‪.‬‬

‫وممن تبنى هذا القول الشاذ وغير المسبوق نصر أبو زيد‪ ،‬والذي رأى أنه «إذا‬
‫كانت وظيفة النسخ هي التدرج في التشريع والتيسير‪ ،‬فال شك أن بقاء النصوص‬
‫المنسوخة إلى جانب النصوص الناسخة يعد أمر ًا ضروري ًا‪ ،‬وذلك ألن حكم المنسوخ‬
‫يمكن أن يفرضه الواقع مرة أخرى»(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من مغالطة‪ ،‬فالنسخ شيء وتعليق الحكم الشرعي‬
‫على توافر شروط وانتفاء موانع شيء آخر‪ ،‬فالحكم المنسوخ مثل التوجه لبيت‬
‫المقدس ال يجوز الرجوع له بحال‪ ،‬بل تكون الصالة وقتها لمن تعمد ذلك باطلة‪ ،‬أما‬
‫األمر بجهاد الكافرين مث ً‬
‫ال‪ ،‬فهو منوط بالقدرة واالستطاعة وإذا لم يوجد ذلك‪ ،‬فإن‬
‫الحكم ال ينسخ‪ ،‬وإنما يسقط الوجوب لعدم تحقق شروطه‪ ،‬مثل‪ :‬القيام في الصالة‬
‫المفروضة ال يكون واجب ًا على العاجز عن القيام‪ ،‬لكن ذلك استثناء وليس أص ً‬
‫ال‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.137‬‬

‫‪77‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫المبحث الثاني‬

‫االدعاء بأن لكل آية سبب نزول‬

‫لم تختلف كلمة أهل العلم ممن كتبوا في التفسير وعلوم القرآن على تقرير القول‬
‫بأن آيات القرآن من حيث النزول تنقسم إلى قسمين(((‪:‬‬

‫األول‪ :‬ما نزل ابتداء من غير سبب من األسباب الخاصة‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬ما له سبب نزول‪ ،‬بأن نزل عقب واقعة أو سؤال‪ ،‬أو ما أشبه ذلك‪.‬‬

‫وال شك أن األكثرية العظمى من آيات القرآن الكريم هي من النوع األول‪،‬‬


‫الذي نزل ابتداء من غير سبب‪ ،‬ومن ذلك تقرير أصول االعتقاد‪ ،‬والحث على فضائل‬
‫األخالق‪ ،‬وبيان أحكام العبادات‪ ،‬وأكثر قصص القرآن مع أممهم وكذا وصف بعض‬
‫الوقائع الماضية‪ ،‬أو أنباء الغيب وتفاصيل أهوال القيامة والجنة والنار(((‪.‬‬

‫ويؤيد ذلك أن أسباب النزول للسور واآليات المدنية كانت أكثر عدد ًا مما جاء‬
‫لآليات والسور المكية(((‪ ،‬كما أن اآليات المقررة للتوحيد‪ ،‬وهو المقصود األول من‬
‫الدين «ال حاجة إلى التماس أسباب نزولها؛ بل هي ال تتوقف على انتظار السؤال‪،‬‬
‫((( انظر‪ :‬السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪ ،107/1‬وابن عقيلة المكي‪ :‬الزيادة واإلحسان في علوم‬
‫القرآن ‪ ،292/1‬والطاهر بن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ‪ ،46/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪،106/1‬‬
‫ومناع القطان‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص ‪ ،75‬ود‪ .‬صبحي الصالح‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص‬
‫‪ ،132‬ود‪ .‬عبد المنعم القيعي‪ :‬األصالن في علوم القرآن ص ‪ ،14‬ود‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان‬
‫في علوم القرآن ص ‪ ،257‬ود‪ .‬غانم قدوري‪ :‬محاضرات في علوم القرآن ص ‪ ،36‬ود‪ .‬نور الدين‬
‫عتر‪ :‬علوم القرآن الكريم ص ‪.46‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬صبحي الصالح‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص ‪ ،132‬ود‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في‬
‫علوم القرآن ‪ ،257‬ود‪ .‬نور الدين عتر‪ :‬علوم القرآن الكريم ص ‪.46‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن ص ‪.253‬‬

‫‪78‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وإنما كانت تبين عند كل مناسبة‪ ،‬وما عساه يكون قد قارن نزولها من حادثة أو سؤال‪،‬‬
‫فهو إن صح ال يزيدنا بيان ًا في فهم اآلية‪ ،‬وال يصح أن يجعل سبب ًا لنزولها»(((‪.‬‬

‫وليس لما نزل على سبب من آيات القرآن مزيد مزية أو خصوصية على ما نزل‬
‫ابتداء‪ ،‬بل الكل سواء في وجوب اتباعه‪ ،‬وقد طبق الصحابة رضوان الله عليهم تعاليم‬
‫القرآن في جوانب سلوكهم كلها‪ ،‬ال فرق في ذلك بين ما نزل على سبب أو نزل ابتداء‪،‬‬
‫وما تتميز به اآليات النازلة على سبب هو فقط فيما تفيده معرفة أسباب نزولها من مزيد‬
‫فهم لمعانيها‪ ،‬وبيان المراد منها(((‪.‬‬

‫وخالصة األمر أن ما له سبب نزول من اآليات ال يمثل سوى نسبة قليلة من القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬ويشهد على صحة هذه الحقيقة تتبع مرويات أسباب النزول‪ ،‬وتمييز ما صح‬
‫منها مما لم يصح‪ ،‬بحيث ال يصفو لنا في نهاية األمر مما له سبب نزول سوى عدد‬
‫محدود من اآليات‪.‬‬

‫ولما كان هذا األمر يهدم دعاوى العلمانيين العريضة في الزعم بتاريخية القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وأنسنته‪ ،‬وانبثاقه من الواقع‪ ،‬فقد سعى بعضهم بكل ما أوتي من جهد لتقرير‬
‫قاعدة جديدة وغير مسبوقة‪ ،‬وهي‪ :‬أن كل آية من القرآن الكريم لها سبب نزول‪ ،‬اقترن‬
‫بنزولها‪ ،‬وال يمكن أن تفهم إال من خالله‪.‬‬

‫ومن أبرز من تبنى هذه القاعدة من العلمانيين حسن حنفي‪ ،‬والذي جزم بأن «كل‬
‫آيات الوحي نزلت في حوادث بعينها‪ ،‬وال توجد آيات أو سور لم تنزل بال أسباب‪،‬‬
‫والسبب هو الظرف أو الحادثة أو البيئة التي نزلت فيها اآلية»(((‪ .‬وهو يجعل من هذا‬

‫((( رشيد رضا‪ :‬تفسير المنار‪.46/1‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬أحمد محمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن ص ‪.255‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.20/1‬‬

‫‪79‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫االرتباط الوثيق بين اآليات وأسبابها‪ ،‬وتلك الكثرة الكاثرة من أسباب النزول دلي ً‬
‫ال‬
‫على أسبقية الواقع على الفكر‪ ،‬وأولوية الحادثة على اآلية‪ ،‬فالمجتمع أو ً‬
‫ال والوحي‬
‫ثاني ًا‪ ،‬والناس أو ً‬
‫ال والفكر ثاني ًا(((‪.‬‬

‫ومما يؤكد أن اآلية ال تنزل إال بعد وقوع السبب ‪ -‬عند حسن حنفي ‪ -‬مفهومه‬
‫لكل من النزول والسبب‪ ،‬والذي أشرنا إليه من قبل‪ ،‬حيث فسره بتفسير ال يخلو من‬
‫مؤثرات ماركسية‪ ،‬فلفظ النزول يعني الهبوط من أعلى ألسفل‪ ،‬ولفظ السبب يعني‬
‫الصعود من أسفل ألعلى‪ ،‬ولما كانت اآلية ال تنزل إال بعد وقوع السبب‪ ،‬كان األدنى‬
‫شرط األعلى(((‪.‬‬

‫لكن األمر العجيب حق ًا‪ ،‬والذي يدل على كم التناقضات الكبير في تناول العلمانيين‬
‫ألسباب النزول‪ ،‬أن حسن حنفي بعد أن قرر أن كل آيات الوحي نزلت في حوادث بعينها‪،‬‬
‫وأنه ال توجد آيات أو سور لم تنزل بال أسباب؛ عاد فقام بعملية إحصائية آليات القرآن‬
‫من جهة‪ ،‬وللحوادث التي نزلت اآليات بسببها‪ ،‬وهذا اإلحصاء يهدم بوضوح كل ما‬
‫قيل عن أن لكل آية سبب نزول‪ ،‬حيث يقول حسن حنفي‪« :‬وإذا كان القرآن ‪ 114‬سورة‬
‫وبضعة آالف آية‪ ،‬فإن مجموع الحوادث التي نزلت فيها حوالي ‪ 460‬حادثة موزعة بين‬
‫السور طبق ًا لطولها وقصرها وتتناقص الحوادث تبع ًا لصغر السور‪ .‬كلما كانت السورة‬
‫طويلة كانت حوادثها أكبر‪ ،‬وكلما كانت قصيرة كانت حوادثها أقل»(((‪.‬‬

‫وبعملية حسابية يسيرة يظهر لنا أنه طبق ًا لهذا اإلحصاء ألسباب النزول‪ ،‬والذي‬
‫نقله حسن حنفي دونما تدليل أو عزو ألحد المصادر؛ فإن آيات القرآن البالغة ستة‬

‫((( المصدر السابق ‪.20/1‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.20/1‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.21/1‬‬

‫‪80‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫آالف ومائتين وست ًا وثالثين آية‪ ،‬لها أربعمائة وستون سبب نزول أي أن السبب الواحد‬
‫تنزل بشأنه حوالي ثالث عشرة آية‪ ،‬وهو أمر غير صحيح بالمرة وال يشهد له نقل‪ ،‬أو‬
‫تأمل في معاني اآليات وموضوعاتها‪.‬‬

‫ويزداد اإلحصاء المذكور ضعف ًا وتهافت ًا‪ ،‬إذا أضفنا ما ذكره حسن حنفي نفسه‬
‫من أن اآلية الواحدة قد يكون لها سببا نزول‪ ،‬كما أن أسباب النزول نفسها لم تخل من‬
‫خيال أو انتحال‪ ،‬ألنها قد اعتمدت على الروايات مثل الحديث‪ ،‬والروايات الشفاهية‪،‬‬
‫والنقل الشفاهي أكثر عرضة لدخول الخيال من النقل الكتابي (((‪.‬‬

‫ومن الشخصيات األخرى التي تبنت القول بأن لكل آية سبب نزول‪ :‬نصر أبو زيد‪،‬‬
‫والذي جازف ‪ -‬كما هي عادته في أحيان كثيرة ‪ -‬بإطالق حكم عام‪ ،‬فقال‪« :‬إن الحقائق‬
‫األمبريقية المعطاة عن النص تؤكد أنه نزل منجم ًا على بضع وعشرين سنة‪ ،‬وتؤكد أيض ًا‬
‫أن كل آية أو مجموعة من اآليات نزلت عند سبب خاص استوجب إنزالها‪ ،‬وأن اآليات‬
‫التي نزلت ابتداء أي دون علة خارجية قليلة جد ًا»(((‪.‬‬

‫وبغض النظر عن هذا التهويل‪ ،‬ومحاولة اإلغراب في استخدام المصطلحات‬


‫فسوف نرى الحق ًا أنه ال توجد حقائق أمبريقية وال غير أمبريقية تشهد لهذه الدعوى‬
‫العريضة‪ ،‬التي يطلقها هؤالء النفر من العلمانيين في وجوه قراء كتبهم‪ ،‬دون أن يكلفوا‬
‫أنفسهم بتعضيدها‪ ،‬أو سوق ما يؤيدها من إحصاءات موثقة لعدد اآليات القرآنية التي‬
‫نزلت على سبب‪ ،‬وكم نسبتها إلى جملة آيات القرآن الكريم‪.‬‬

‫ومما يلفت النظر في كالم نصر أبو زيد اآلنف الذكر وصفه لسبب النزول بأنه‬
‫استوجب نزول اآلية‪ ،‬ووصفه له أيض ًا بأنه علة خارجية‪ ،‬وهو تأكيد للفكرة الخطيرة‬

‫((( المصدر السابق ‪.22/1‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.109‬‬

‫‪81‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫التي حاولوا ترسيخها بكل وسيلة‪ ،‬وهي أن العالقة بين أسباب النزول واآليات عالقة‬
‫علة ومعلول‪ ،‬وإيجاب ناشئ عن علة‪ ،‬بما يعني في نهاية األمر أنه بدون السبب ال معنى‬
‫لآلية‪ ،‬وال صحة لتطبيقها في واقع مختلف عن واقع هذا السبب‪.‬‬

‫وعلى المنوال السابق جزم محمد سعيد العشماوي بأن كل آيات القرآن قد تنزلت‬
‫على سبب‪ ،‬حيث قال‪« :‬فالقرآن تنزل منجم ًا متفرق ًا على مدى ثالثة وعشرين عام ًا‪،‬‬
‫حيث كانت كل آية‪ ،‬أو كل مجموعة من اآليات تتعلق بواقعة بذاتها‪ ،‬أو تتصل بحادثة‬
‫معينة‪ ،‬أو تعد رد ًا على سؤال وجه أو تحد أثير»(((‪.‬‬

‫وهذا التعميم عند العشماوي ال يفرق بين آيات أحكام‪ ،‬أو أخالق‪ ،‬أو قواعد‬
‫أصولية بل «كل آيات القرآن نزلت على األسباب‪ ،‬حتى وإن تضمنت حكم ًا شرعي ًا أو‬
‫قاعدة أصولية أو نظم ًا أخالقية‪ ،‬غير أن من يقرأ القرآن ألغراض تعليمية أو ألسباب‬
‫تعبدية قد يقف عند قراءة اآليات‪ ،‬وال يتعداها إلى العلم بأسباب النزول‪ ،‬ومن ثم فإنه‬
‫ال يدرك أنها تنزلت على أسباب‪ ،‬كما ال يستطيع أن يفهم حقيقتها وما تقصد إليه‪ ،‬ما‬
‫دام ال يعرف أسباب التنزيل»(((‪.‬‬

‫ومع أن العشماوي يعمم حكمه هنا على كل آيات القرآن‪ ،‬وأنها نزلت على سبب‪،‬‬
‫فإنه يعود في موضع آخر من كتبه ليستثني السور القرآنية األولى التي نزلت في بداية‬
‫الدعوة‪ ،‬دون أن يحدد لنا عددها‪ ،‬وال العلة من نزولها‪ ،‬بغير سبب حيث يقول‪« :‬ففيما‬
‫عدا السور األولى في بداية الدعوة‪ ،‬لم تتنزل آية إال بسبب‪ ،‬فقد كانت تحدث الواقعة‬
‫أو يسأل النبي رأي ًا أو حكم ًا فتتنزل اآلية على السبب الذي طلبت من أجله»(((‪.‬‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.260‬‬


‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.67‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.65‬‬

‫‪82‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وال يكتفي العشماوي بهذه الدعاوى العريضة والباطلة‪ ،‬بل يبني عليها أوهام ًا‬
‫ومزاعم ال دليل من نقل أو عقل يدل عليها‪ ،‬حيث ادعى أن الصحابة والتابعين كانوا‬
‫يسكتون عن تفسير ما لم يعرفوا له سبب ًا (((‪ ،‬وبناء على ذلك فالمنهج األصولي السديد‬
‫في تفسير القرآن يقوم ‪ -‬في رأيه ‪ -‬على ربط كل آية بسبب نزولها‪ ،‬وتفسيرها على‬
‫خلفية األحداث التي تنزلت عليها‪ ،‬والوقائع التي استدعت حكمها‪ ،‬وهذا هو «المنهج‬
‫الذي وضعه القرآن‪ ،‬وشرحه ابن عباس وانتهجه المسلمون األوائل في تفسير آياته‪،‬‬
‫بربط كل آية بسبب نزولها ‪ -‬كما قال ابن عباس بحق ‪ -‬وتفسيرها على أساس الوقائع‬
‫التي أنزلت من أجلها والظروف التي قصدت حكمها‪ ،‬فالقرآن عامة‪ ،‬وآية المعامالت‬
‫خاصة لن تفهم الفهم السليم الذي أراده التنزيل وتغياه الحق إال بعد بيان أسباب تنزيل‬
‫كل آية‪ ،‬وتفسيرها على خلفية األحداث التي تنزلت عليها‪ ،‬والوقائع التي استدعت‬
‫حكمها»(((‪.‬‬

‫وأول من تنكب هذا المنهج ‪ -‬في رأي العشماوي ‪ -‬هم الخوارج‪ ،‬الذين اقتطعوا‬
‫آيات من السياق القرآني‪ ،‬واجتثوها من أسباب نزولها‪ ،‬واستعملوها على عموم‬
‫ألفاظها‪ ،‬ثم «حدث في فترات الظالم الحضاري واالنحطاط العقلي أن نظر الفقهاء‬
‫هذا االتجاه الخاطئ»(((‪.‬‬

‫ويظهر االدعاء بأن لكل آية سبب نزول عند بعض الشخصيات األخرى ومنهم‬
‫الفيلسوف الفرنسي المعروف رجاء جارودي‪ ،‬والذي ردد في كتابه «األصوليات‬
‫المعاصرة» عدد ًا من األفكار الشائعة لدى العلمانيين العرب كفكرة التاريخية‪ ،‬وأن‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪ ،68‬وانظر أيض ًا‪ :‬الربا والفائدة ص ‪ ،33‬واإلسالم‬
‫السياسي ص ‪.63‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬الربا والفائدة ص ‪ ،33‬وانظر أيض ًا‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.260 ،64‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.261‬‬

‫‪83‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫المفسرين ذكروا الظروف التاريخية التي نزلت فيها كل آية(((‪ ،‬حيث قال‪« :‬إن الله في‬
‫القرآن‪ ،‬كما في التوراة واإلنجيل‪ ،‬يكلم اإلنسان في التاريخ‪ ،‬وإن كبار المفسرين األوائل‬
‫للقرآن كالطبري يذكرون بالظروف التاريخية التي نزلت فيها كل آية‪ ،‬والمقصود دائم ًا‬
‫هو جواب عيني من الله عن مسألة كانت أمة النبي تطرحها عليه‪ ،‬إن هذه التاريخانية‬
‫ال تنقص شيئ ًا من قيمة الرسالة الشمولية واال بدية‪ ،‬فكل تنزيل من تنزيالت األزلي في‬
‫التاريخ يتضمن مبدأ عمل صالح لكل الشعوب وكل العصور لكنه يرتدي شك ً‬
‫ال خاص ًا‬
‫مرتبط ًا بظروف هذا العصر وهذا البلد»(((‪.‬‬

‫وال شك أن كالم جارودي هذا مجرد دعوى مكررة عند غيره‪ ،‬ولعل ضعف‬
‫معرفته باإلسالم وعلومه‪ ،‬قد جعله يتبنى مقوالت شائعة دون تمحيص‪ ،‬وما نسبه‬
‫للطبري غير صحيح بالمرة‪ ،‬وليس من عادة الطبري وال غيره من المفسرين أن يذكروا‬
‫بالظروف التاريخية التي نزلت فيها كل آية‪ ،‬مثلما يقول جارودي‪.‬‬

‫الدعوة لرتتيب سور القرآن بحسب تاريخ النزول‪:‬‬

‫وإذا كنا قد فرغنا من ذكر آراء العلمانيين الزاعمين بأن لكل آية سبب نزول‪ ،‬فيجدر‬
‫بنا أن نعرج على ما نراه مظهر ًا آخر من مظاهر هذا الولع العلماني بالجوانب التاريخية‬
‫للقرآن الكريم‪ ،‬بغية إثبات تاريخيته وواقعيته وأنسنته‪.‬‬

‫ويتمثل ذلك في سعي نفر منهم سعي ًا حثيث ًا إلعادة ترتيب سور القرآن بحسب‬
‫تاريخ نزولها ال بحسب الترتيب الموجود بين أيدينا اآلن في المصاحف العثمانية‪،‬‬

‫((( وقد ناقش د‪ .‬محمد عمارة أبرز تلك األفكار التي رددها جارودي وبين ما وقع فيه من أخطاء‪،‬‬
‫فانظر كتابه‪ :‬األصولية بين الغرب واإلسالم ص ‪ ،61 ،19‬وانظر أيض ًا‪ :‬د‪ .‬أحمد الفاضل‪ :‬االتجاه‬
‫العلماني المعاصر في علوم القرآن ص ‪.254‬‬
‫((( روجيه جارودي‪ :‬األصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها ص ‪ ،88‬تعريب الدكتور خليل أحمد خليل‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وال شك أن ترتيب ًا كهذا يستلزم معرفتنا بالتاريخ الدقيق لنزول كل سورة‪ ،‬أو على األقل‬
‫معرفتنا بموقعها بين سور القرآن‪ ،‬وما سبقها‪ ،‬وما لحقها من السور األخرى‪.‬‬

‫وقد أشار محمد سعيد العشماوي إلى المقصد الذي من أجله ألحوا على هذا‬
‫النوع من ترتيب سور القرآن‪ ،‬وهو يدور في الجملة حول إثبات وقتية أحكام الشريعة‬
‫وتاريخيتها‪ ،‬وارتباطها بزمان نزولها‪ ،‬فقال‪« :‬ولتحديد األصول العامة للشريعة يتعين‬
‫متابعة أول مصادر األحكام الشرعية‪ ،‬وهو القرآن الكريم متابعة تاريخية تتدرج على‬
‫آياته آية آية‪ ،‬بحسب وقت نزولها‪ ،‬وسبب التنزيل وغايته وحكمته حتى يمكن اإلبانة‬
‫عن غايات الشارع من التنزيل عموم ًا‪ ،‬وهو هدف يتجاوز الوقوف عند األحكام العامة‬
‫التي توخاها الشارع‪ ،‬إلى التبصر باألصول العامة التي نبع منها التنزيل وتغياها وجرى‬
‫على سننها»(((‪.‬‬

‫كذلك انتقد نصر أبو زيد طريقة ترتيب سور القرآن وآياته‪ ،‬والتي حدثت إبان ما‬
‫يسميه عملية تقنين القرآن‪ ،‬أي جمعه وتدوينه وترتيبه في المصحف الذي نعرفه اآلن‪،‬‬
‫ووجه هذا االنتقاد ‪ -‬عنده ‪ -‬أنه «لم يتم االحتفاظ بالترتيب التاريخي لهذه الخطابات‬
‫‪ -‬أي آيات القرآن ‪ -‬بل تم إدماج هذه الخطابات في وحدات أكبر السور‪ ،‬ثم ترتيب‬
‫هذه السور وفق ًا ألحجامها‪ ،‬فوضعت السور األطول في المقدمة واألقصر في نهاية‬
‫المصحف‪ ،‬أي تم استبدال هذا الترتيب الحالي الذي صار يعرف باسم ترتيب التالوة‪،‬‬
‫بالترتيب الزماني الذي يعرف باسم ترتيب النزول»(((‪.‬‬

‫ويثير نصر أبو زيد الشكوك بصورة مبطنة حول جمع القرآن وتدوينه وترتيبه‪ ،‬بما‬
‫يعني التشكيك في سالمة ذلك كله‪ ،‬وفي توقيفية ترتيب اآليات داخل السور‪ ،‬محتج ًا‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.61 ،60‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬التجديد والتحريم والتأويل ص ‪.199‬‬

‫‪85‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫بأن الجمع األول للقرآن في عهد عثمان رضي الله عنه تم رسم المصحف فيه دون‬
‫تنقيط أو إعراب‪ ،‬ثم أضيفت النقط واإلعراب الحق ًا (((‪.‬‬

‫وال يخفى تهافت هذه الشبهة‪ ،‬فاألصل في حفظ القرآن وتواتر نقله هو حفظ‬
‫الصدور‪ ،‬والتلقي سماع ًا‪ ،‬ونقل ذلك جي ً‬
‫ال بعد جيل‪ ،‬والكتابة تابعة لحفظ الصدور‪،‬‬
‫وليست أص ً‬
‫ال له‪ ،‬أما مسألة النقط أو اإلعراب أو رسم المصحف فكلها أمور ال تؤثر‬
‫مطلق ًا على تواتر النقل‪ ،‬وسالمة القرآن من التحريف‪ ،‬ألنها أمور ظهرت في مرحلة‬
‫الحقة‪ ،‬لتسهيل القراءة‪ ،‬ومنع وقوع اللحن من األجيال الناشئة‪ ،‬التي بدأت االختالط‬
‫باألمم األخرى على إثر الفتوحات شرق ًا وغرب ًا‪.‬‬

‫وعلى يد محمد عابد الجابري نجد أبرز المحاوالت التطبيقية ألحد العلمانيين‬
‫العرب لتفسير القرآن بحسب ترتيب نزوله‪ ،‬وليس بحسب الترتيب الموجود في‬
‫المصحف العثماني(((‪ ،‬حيث رأى أن «المكتبة العربية اإلسالمية تفتقر إلى تفسير‬
‫يستفيد في عملية الفهم من جميع التفاسير السابقة‪ ،‬ولكنه يعتمد ترتيب النزول»(((‪.‬‬

‫أما سيد القمني ‪ -‬المعروف بتطرفه‪ ،‬وضالله المتجاوز لكل حد ‪ -‬فقد هاجم‬
‫بشدة ترتيب القرآن بسوره وآياته‪ ،‬كما هو موجود بين أيدينا اآلن وتناقلته األمة بالتواتر‬
‫جي ً‬
‫ال بعد جيل‪ ،‬ورأى أن طريقة جمع المصحف التي اتبعتها اللجنة التي شكلها الخليفة‬
‫عثمان بن عفان برئاسة زيد بن ثابت قد مكنت الفقهاء من اختطاف القرآن وتحنيطه‪،‬‬
‫والسبب في ذلك ‪ -‬على زعمه ‪ -‬أن تلك اللجنة «لم تراع الترتيب الزمنى لآليات‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.200 ،199‬‬
‫((( انظر‪ :‬بحث د‪ .‬سليمان محمد الدقور‪ :‬منهج التعامل مع النص القرآني حسب ترتيب النزول‪ ،‬قراءة‬
‫في كتاب الجابري «فهم القرآن الحكيم‪ ،‬ضمن مؤتمر التعامل مع النصوص الشرعية (الكتاب‬
‫والسنة) الذي أقامته كلية الشريعة بالجامعة األردنية من ‪2008/11/6- 4‬م‪.‬‬
‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬فهم القرآن الحكيم ‪.10/1‬‬

‫‪86‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫واألحداث‪ ،‬وال جمعت اآليات مث ً‬


‫ال حسب نوع الموضوع‪ ،‬كجمع اآليات القانونية‬
‫مع ًا‪ ،‬والعبادية مع ًا‪ ،‬والتسبيحية مع ًا‪ ،‬واإلرشادية مع ًا‪ ،‬إنما اتبعت اللجنة أسلوب ًا يبدأ‬
‫بأطول السور‪ ،‬ويتدرج حتى ينتهى بأقصرها‪ ،‬علم ًا أن قصار السور كانت هي األولى‬
‫زمن ًا‪ ،‬فتجد سورة مدنية تعقبها مكية تعقبها مدنية‪ ،‬وتتضمن السورة الواحدة خلط ًا بين‬
‫ما هو مكي وما هو مدني‪ ،‬وإذا المنسوخ يتلو الناسخ‪ ،‬وآيات تبحث في مواضيع ال رابط‬
‫بينها‪ ،‬مما كان سبب ًا للتخبط وسوء الفهم عند المسلم العادي‪ ،‬ووسيلة لالنتهازية بسوء‬
‫النية عند القائمين على شؤون التقديس في بالدنا‪ ،‬الذين يعلمون يقين ًا أن ترتيب السور‬
‫واآليات كان من عمل البشر‪ ،‬وال يتمتع بأي قدسية‪ ،‬ولم تذكر كتب السير أن الوحي‬
‫نزل على زيد بن ثابت ولجنته ليرتبوها (اآليات والسور) على شكلها الحالي‪ ،‬وهكذا‬
‫ظل الحال دون أي محاولة إلعادة النظر‪ ،‬واتباع طريقة علمية في ترتيب المصحف عن‬
‫قصد مبيت‪ ،‬وتم إكساب الشكل قدسية المضمون‪ ،‬مع إغالقه بالضبة ووضع المفتاح‬
‫بيد فقهاء السلطان»(((‪.‬‬

‫وواضح ما في هذا الكالم من إفك وترهات‪ ،‬ال يستحق بعضها أن نطيل في الرد‬
‫عليه لتهافته وفجاجته‪ ،‬وتعامله مع القرآن كما لو كان مصنف ًا بشري ًا خاضع ًا لقواعد‬
‫التأليف البشرية‪ ،‬أو كتاب ًا يجمع التشريعات ويصنفها بحسب الموضوعات‪ ،‬وليس‬
‫كتاب هداية وإرشاد‪ ،‬منزل من لدن حكيم خبير‪.‬‬

‫لكن ما يجدر بنا التنبيه إليه هنا‪ ،‬أن مزاعم القمني ونصر أبو زيد وغيرهم من‬
‫العلمانيين حول ترتيب اآليات داخل السور‪ ،‬وأنها من صنيع زيد بن ثابت رضي الله‬
‫عنه ومن معه‪ ،‬أمر غير صحيح بحال‪.‬‬

‫((( سيد القمني‪ :‬مقال بمجلة أدب ونقد العدد ‪ ،201‬مايو ‪2002‬م‪ ،‬ص ‪ً ،35 ،34‬‬
‫نقال عن منصور أبو‬
‫شافعي‪ :‬التنوير بالتزوير ص ‪.69 ،68‬‬

‫‪87‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وإذا كان هناك خالف قد وقع بين أهل العلم المتقدمين في ترتيب سور القرآن‪،‬‬
‫وهل هو توقيفي عن النبي ‪ ،#‬أم هو من قبيل االجتهاد‪ ،‬فإنه ال خالف على أن ترتيب‬
‫اآليات داخل السور أمر توقيفي صرف‪ ،‬ال مجال فيه لالجتهاد‪ ،‬وليس من صنيع زيد‬
‫بن ثابت وال غيره من الصحابة‪.‬‬
‫وقد دل على توقيفية ترتيب آيات القرآن إجماع المسلمين‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أدلة كثيرة‬
‫من السنة الصحيحة‪ ،‬وقد نقل اتفاق المسلمين جميع ًا بال خالف على هذا األمر غير‬
‫واحد من أهل العلم‪ ،‬منهم الباقالني‪ ،‬حيث قال‪« :‬واتفقت األمة على وجوب ترتيب‬
‫اآليات‪ ،‬وحظر تقديم بعضها على بعض‪ ،‬وتغييرها في الكتابة‪ ،‬والتالوة‪ ،‬وغير ذلك»(((‪.‬‬
‫وممن نقل هذا االتفاق أيض ًا‪ :‬أبو جعفر بن الزبير في مناسباته وعبارته(((‪ ،‬والزركشي‬
‫في البرهان(((‪ ،‬والسيوطي في اإلتقان(((‪ ،‬وغيرهم(((‪.‬‬

‫أما نصوص السنة‪ ،‬فال يشك الواقف عليها مطلق ًا في أن ترتيب اآليات توقيفي‪،‬‬
‫كيف وقد ثبت عنه ‪ - #‬على سبيل القطع ‪ -‬أنه كان يقرأ في الصالة بسور عديدة(((‪،‬‬
‫كسورة البقرة‪ ،‬وآل عمران‪ ،‬والنساء‪ ،‬وقرأ في صالة المغرب بسورة األعراف كاملة‪،‬‬
‫وكان يقرأ في فجر الجمعة بالسجدة واإلنسان‪ ،‬وكان يقرأ على المنبر بسورة قاف‪،‬‬
‫وغير ذلك من األمثلة التي يطول المقام بحصرها‪ ،‬كما أخبر ‪ #‬أن « َم ْن َق َر َأ بِ ْال َيت َْي ِن‬

‫((( الباقالني‪ :‬االنتصار ‪.281/1‬‬


‫((( انظر‪ :‬السيوطي‪ :‬اإلتقان ‪.212/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬الزركشي‪ :‬البرهان ‪ ،256/1‬السيوطي‪ :‬اإلتقان ‪.212/1‬‬
‫((( السيوطي‪ :‬اإلتقان ‪.212/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪.346/1‬‬
‫((( ‪ -‬انظر‪ :‬ابن القيم‪ :‬زاد المعاد ‪ ،204 ،203/1‬والسيوطي‪ :‬اإلتقان ‪ ،213/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل‬
‫العرفان ‪ ،348 ،347/1‬واأللباني‪ :‬صفة صالة النبي ‪ #‬ص ‪.118 - 109‬‬

‫‪88‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ات ِم ْن َأ َّو ِل ُس َ‬
‫ور ِة‬ ‫ور ِة ا ْل َب َق َر ِة ِفي َل ْي َل ٍة َك َفتَا ُه»(((‪ .‬وقال ‪َ « :#‬م ْن َح ِف َظ َعشْ َر آ َي ٍ‬ ‫ِم ْن ِ‬
‫آخ ِر ُس َ‬
‫ال»(((‪.‬‬ ‫ف ُع ِص َم ِم َن الدَّ َّج ِ‬ ‫ا ْل َك ْه ِ‬

‫ومن األدلة أيض ًا إعجاز النظم القرآني‪ ،‬والتحدي بسورة أو بعشر سور منه وتناسق‬
‫آياته والمناسبات القوية بينها‪ ،‬بحيث يجزم كل عارف باللغة العربية ومتذوق لبالغتها‬
‫وأساليبها في التعبير؛ أن هذا الترتيب آليات كل سورة ال يمكن أن يكون إال وحي ًا من‬
‫لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫ويبقى سؤال مهم يطرح نفسه بإزاء تلك الدعوات العلمانية لترتيب القرآن بحسب‬
‫نزوله‪ ،‬وهو‪ :‬كيف يمكن الوصول إلى معرفة دقيقة بترتيب نزول سور القرآن ترتيب ًا‬
‫تاريخي ًا؟ وهل ما بين أيدينا من روايات يكفي لذلك؟‬

‫المستغرب حق ًا أن أقوال العلمانيين قد تتابعت في بيان صعوبة هذا األمر‪ ،‬وربما‬


‫استحالته‪ ،‬ألن الروايات التي بين أيدينا ال تكفي لذلك‪ ،‬فض ً‬
‫ال عما بينها من اختالف‬
‫يصعب معه الترجيح والجزم بمن يقدم على اآلخر‪.‬‬

‫وقد جزم هاشم صالح باستحالة التوصل بدقة إلى الترتيب الزمني الحقيقي لآليات‬
‫والسور القرآنية‪ ،‬فقال‪« :‬نعلم من خالل النقد التاريخي الحديث أنه من المستحيل‬
‫التوصل بدقة إلى الترتيب الزمني الحقيقي لآليات والسور القرآنية»(((‪ .‬وعلى المنوال‬
‫نفسه أقر محمد عابد الجابري بأنه «من الصعب تمام ًا إضفاء مقدار كاف من الصدق‬
‫والصحية على اللوائح التي تمدنا بجميع سور القرآن مرتبة حسب النزول‪ ،‬خصوص ًا‬

‫((( رواه البخاري (‪ ،)5009‬ومسلم (‪.)807‬‬


‫((( رواه مسلم (‪.)809‬‬
‫((( انظر‪ :‬تعليق هاشم صالح على كتاب أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.74‬‬

‫‪89‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وقد رأينا كم كان االختالف بينهم كبير ًا حول تمييز السور المكية من المدنية»(((‪.‬‬

‫وحتى فيما يتعلق بالمرويات المنقولة في هذا الصدد‪ ،‬فإنها ال تكفي في رأي‬
‫الجابري‪ ،‬وال يرجع ذلك فقط «إلى أن سور ًا كثيرة من القرآن تتألف من آيات نزلت في‬
‫مرحلة الحقة‪ ..‬بل أيض ًا ألن ما يطبع الروايات التي يمكن االستعانة بها في هذا الشأن‬
‫هو االختالف إلى حد التناقض»(((‪ .‬وهكذا يكون الحل عند الجابري هو فتح الباب‬
‫لالجتهاد وتوظيف المنطق‪ ،‬بغية الوصول للترتيب المنشود‪ ،‬حيث يقول‪« :‬االعتماد‬
‫على المرويات وحدها ال يكفي في الوفاء بغرضنا‪ ،‬فال بد إذ ًا من توظيف المنطق‬
‫في عملية استثمار المواد التي يقدمها المأثور‪ ،‬وفي هذه الحالة قد تدعو الحاجة‬
‫إلى التصرف في ترتيب النزول المعتمد اليوم بوصفه نتيجة اجتهاد مبني على الظن‬
‫والترجيح تصرف ًا تبرره النتائج التي يمكن استخالصها منه»(((‪.‬‬

‫وممن اعترف أيض ًا بصعوبة المعرفة التاريخية الدقيقة بترتيب نزول آيات‬
‫القرآن الكريم نصر أبو زيد‪ ،‬والذي اعتبر أن مثل هذا الترتيب «أمر ليس سه ً‬
‫ال كما‬
‫نتصور‪ ،‬وحين سأل محمد بن سيرين عكرمة لماذا لم يؤلف الصحابة القرآن كما أنزل‬
‫األول فاألول؟ كان جوابه‪ :‬لو اجتمعت اإلنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف‬
‫ما استطاعوا»(((‪ .‬والمعنى نفسه تردد عند محمد سعيد العشماوي الذي أشار إلى أن‬
‫ترتيب اآليات في القرآن «لم يقصد إلى أن يكون وضعها في السور‪ ،‬أو وضع السور في‬
‫القرآن مطابق ًا لتاريخ التنزيل»(((‪.‬‬

‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬مدخل إلى دراسة القرآن ص ‪.239‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.254‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.244‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.136 ،135‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة هامش ص ‪.60‬‬

‫‪90‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ومما يجدر ذكره هنا التأثر الواضح والتقليد األعمى من هؤالء النفر لمقوالت‬
‫المستشرقين(((‪ ،‬الذين عنوا عناية ال تخفى دوافعها بقضية إعادة ترتيب سور القرآن‬
‫بحسب نزولها(((‪.‬‬

‫وقد كرر محمد أركون كثير ًا في كتبه أنه مدين للمستشرقين في الفهم والمعرفة‬
‫بالقرآن ‪ -‬وبالطبع هو يقصد فهم الطعون حول القرآن وليس الفهم العلمي الموضوعي‬
‫له((( ‪ -‬ومن نماذج ذلك قوله في أحد كتبه‪« :‬جميع أنماط القراءة التي استعرضناها‬
‫حتى اآلن‪ ،‬تقود إلى نفس النتائج والمالحظات‪ ،‬وهي أن تقدم الدراسات القرآنية قد تم‬
‫بفضل التبحر األكاديمي االستشراقي منذ القرن التاسع عشر»(((‪.‬‬

‫وفي موضع آخر من الكتاب نفسه ذكر أركون أنه اقتصر على استعراض أسماء‬
‫المستشرقين فقال‪« :‬كنت قد ذكرت الئحة بأسماء الباحثين الرواد الذين ساهموا في‬
‫الدراسات القرآنية بشكل علمي‪ ،‬وأدوا إلى تقدمها‪ ،‬وإلى تقدم معرفتنا العلمية بالقرآن‪،‬‬
‫وربما كان القارئ قد الحظ أني لم أذكر إال أسماء مستشرقين»(((‪.‬‬

‫((( انظر في الكالم عن موقف المستشرقين من ترتيب سور القرآن‪ :‬د‪ .‬محمد بهاء الدين حسين‪:‬‬
‫المستشرقون والقرآن الكريم ص ‪.125‬‬
‫((( وال يعترض هنا بوجود مفسرين معاصرين ال يشك في غاياتهم النبيلة كتبوا تفاسير للقرآن بحسب‬
‫ترتيب السور‪ ،‬مثل‪ :‬دروزة وحبنكة الميداني‪ ،‬فغاية هؤالء تختلف تمام ًا عن الغايات العلمانية‬
‫المغرضة والخبيثة‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر‬
‫ص ‪ ،313‬ود‪ .‬محمد بن سعيد السرحاني‪ :‬األثر االستشراقي في موقف أركون من القرآن الكريم‬
‫ص ‪ ،33‬وإبراهيم السكران‪ :‬التأويل الحداثي للتراث ص ‪.313 ،90 ،89‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر للفكر اإلسالمي‪ ،‬ترجمة وتعليق‬
‫هاشم صالح ص ‪.70‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.40 ،39‬‬

‫‪91‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وقد علل هاشم صالح اقتصار أركون على كتب المستشرقين دون غيرهم بأن‬
‫«المستشرقين هم وحدهم الذين طبقوا المنهجية الفيلولوجية التاريخية على القرآن‪،‬‬
‫مثلما طبق أسالفهم أو زمالؤهم ذات المنهجية على اإلنجيل‪ ،‬أما الباحثون المسلمون‬
‫فلم يتجرأوا حتى أمد قريب على فعل ذلك»(((‪.‬‬

‫وليس هذا اإلعجاب العلماني بالغرب وحضارته وعلمائه بمستغرب‪ ،‬بل هو‬
‫متسق تمام االتساق مع توجهات العلمانيين الفكرية‪ ،‬واعترافاتهم في هذا الصدد‬
‫كثيرة ومتنوعة‪ ،‬وقد بلغ األمر بهاشم صالح أن يقول في أحد كتبه‪« :‬سوف أقولها بكل‬
‫صراحة‪ ،‬ومن دون أي لف أو دوران‪ :‬لو لم تتح لي الفرصة للقدوم إلى أوروبا قبل أكثر‬
‫من ربع قرن‪ ،‬لكنت قد عشت ومت‪ ،‬دون أن أفهم شيئ ًا»(((‪.‬‬

‫لكن من المهم أن نشير إلى أنه فيما يتعلق بقضية ترتيب سور القرآن على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬فقد انتقد أركون ما توصل إليه المستشرقون في هذا الباب من نتائج‪ ،‬وإن‬
‫كان نقده هذا لم يخل من غمز وتنقيص لمنهجية العلماء المسلمين‪ ،‬حيث قال‪« :‬فيما‬
‫يخص الترتيب الزمني للسور واآليات‪ ،‬فإننا نعلم مدى هشاشة النتائج التي توصل إليها‬
‫المستشرقون في هذا المجال على الرغم من تسلحهم بالمنهجية الفلولجية األكثر دقة‬
‫وفعالية من منهجية المحدثين المسلمين ومؤلفي أسباب النزول والفقهاء الذين كان‬
‫عليهم أن يحسموا الخالف الناشب بخصوص اآليات التشريعية أو مضامينها وجدوا‬
‫أنفسهم كالمسلمين اليوم أمام حالة صعبة جد ًا ومحرجة»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬تعليق هاشم صالح على كتاب أركون الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪ ،40‬وانظر‪:‬‬
‫أحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.87‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬االنسداد التاريخي‪ ،‬لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي ص ‪.38‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.72‬‬

‫‪92‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وأما محمد سعيد العشماوي‪ ،‬فهو لم يجد ما يشير إليه من محاوالت لترتيب سور‬
‫القرآن ترتيب ًا تاريخي ًا سوى محاوالت نولدكه وبالشير‪ ،‬فقال‪« :‬وقد وضع مستشرق‬
‫ألماني هو نولدكه ترتيب ًا آليات القرآن بحسب تاريخ التنزيل (على ما يراه) وتبعه في‬
‫ذلك الفرنسي بالشير في محاولة ثانية»(((‪.‬‬

‫لكن يبقى أمر مهم يجدر ذكره هنا وهو‪ :‬أنه على الرغم من عناية المستشرقين‬
‫بقضية ترتيب سور القرآن الكريم ترتيب ًا تاريخي ًا بحسب نزوله‪ ،‬ومحاوالت نولدكه‬
‫وبالشير الحثيثة في هذا الصدد‪ ،‬فإننا ال نجد منهم اهتمام ًا مماث ً‬
‫ال بمسألة أسباب‬
‫النزول‪ ،‬سواء من سلك منهم المنهج الوضعي أو المنهج الفيلولوجي(((‪ ،‬حتى إن‬
‫بالشير «لم يعتن بعلم أسباب النزول إال في أقل من صفحتين‪ ،‬مكتفي ًا بالقول إن علماء‬
‫القرآن القدامى سعوا إلى معرفة مراحل الوحي استناد ًا إلى هذا العلم وإلى السنة مع ًا‪،‬‬
‫وبين المؤلف صعوبة تحديد تاريخ نزول السور المكية حتى ما يبدو منها هين التحديد‪،‬‬
‫ورغم ذلك اقترح بالشير أن نأخذ بعين االعتبار عدد ًا من المقاييس الدقيقة في كل‬
‫محاولة لترتيب سور القرآن ترتيب ًا تاريخي ًا»(((‪.‬‬

‫تعقيب نقدي‪:‬‬

‫وبعد أن عرضنا مزاعم هؤالء النفر من العلمانيين بأن لكل آية سبب نزول؛ فيجدر‬
‫بنا أن نسوق عدد ًا من أوجه الرد على تلك الدعوى‪ ،‬وأهمها ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬ما ادعاه العلمانيون من أن لكل آية سبب نزول مجرد دعوى لم يقرنوها بأدنى‬
‫حجة أو دليل‪ ،‬وما ذكره نصر أبو زيد من أن الحقائق اإلمبريقية المعطاة عن النص‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة هامش ص ‪.60‬‬


‫((( انظر‪ :‬بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.46 - 35‬‬
‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.43‬‬

‫‪93‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫تؤكد صحة دعواه أن لكل آية سبب نزول؛ نوع من االجترار ألسلوب يتكرر كثير ًا لدى‬
‫العلمانيين «حيث يوهمون القارئ بأن تلك التحكمات واالدعاءات التي تكال جزاف ًا‬
‫دونما دليل علمي معتبر أو حجة منطقية‪ ،‬إنما هي حقائق إمبريقية‪ ،‬أي نتاج دراسات‬
‫علمية موثوقة‪ ،‬وحصيلة دراسات ميدانية‪ ،‬بينما الواقع خالف ذلك»(((‪.‬‬

‫ويذكرنا ادعاء نصر أبو زيد بأن الحقائق اإلمبريقية المعطاة عن النص تدل على أن‬
‫كل آياتها نزلت على سبب دون أن يقدم حجته على تلك الدعوى؛ بمسلك مطرد عند‬
‫كثير من العلمانيين الذين يقذفون في وجوه قارئي كتبهم بإحصائيات مغلوطة‪ ،‬وغير‬
‫مبنية على دليل أو استقراء معتبر‪ ،‬ولكنهم يطرحونها كما لو كانت ثوابت ال خالف‬
‫حولها‪.‬‬

‫ومن نماذج هذا المسلك الفج‪ :‬ادعاء محمد سعيد العشماوي أن األحكام السارية‬
‫في القرآن والمتضمنة ألحكام تشريعية ثمانون آية فقط من جملة ستة آالف آية‪ ،‬وتقوم‬
‫هذه اإلحصائية العشماوية على سلسلة من عمليات الجمع والطرح الهزيلة والمتهافتة‬
‫لدى من له أدنى معرفة بالعلوم الشرعية‪ ،‬فآيات األحكام للعبادات والمعامالت عنده‬
‫ال تصل إلى سبعمائة آية‪ ،‬وما يخص المعامالت منها حوالي مائتين(((‪ ،‬بعضها منسوخ‪،‬‬
‫وما تبقى هو ثمانون آية بالتمام والكمال(((‪.‬‬

‫((( د‪ .‬عبد القادر محمد الحسين‪ :‬معايير القبول والرد لتفسير النص القرآني ص ‪.524‬‬
‫((( واستمرار ًا لهذه الفوضى المنهجية‪ ،‬وإطالق القول على عواهنه‪ ،‬نجد علماني ًا آخر ‪ -‬وهو محمد‬
‫الشرفي ‪ -‬يذهب إلى أن اآليات ذات السمة القانونية تتراوح بين ‪ 200‬و‪ 500‬آية‪ ،‬وتتعلق بمجالين‬
‫محددين‪ ،‬هما القانون الجنائي وقانون الميراث‪ ،‬دون أن يذكر أي مستند لدعواه‪ ،‬ومتجاه ً‬
‫ال أبواب‬
‫األحكام األخرى‪ ،‬كالمعامالت والنكاح والجهاد وغيرها‪ ،‬انظر‪ :‬محمد الشرفي‪ :‬اإلسالم والحرية‪،‬‬
‫سوء الفهم التاريخي ‪.96‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪ ،54‬وانظر في الرد عليه‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط‬
‫الغلو العلماني ص ‪.212‬‬

‫‪94‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وال يخفى بطالن كالم العشماوي جملة وتفصي ً‬


‫ال‪ ،‬فتحديد آيات األحكام بعدد‬
‫معين غير صحيح وال دليل عليه‪ ،‬ومجال االستنباط من اآليات حتى ما كان منها متعلق ًا‬
‫بالقصص؛ واسع ومفتوح‪ ،‬ثم إن تفرقة العشماوي بين ما كان من قبيل األحكام عموم ًا‪،‬‬
‫وما كان من قبيل المعامالت تحكم ال حجة عليه‪ ،‬ويضاف لذلك كله أن العشماوي‬
‫ال يكلف نفسه أن يذكر لقارئه تلك اآليات الثمانين‪ ،‬وال المعيار الذي قام عليه حصره‬
‫هذا‪ ،‬وال اآليات المائة والعشرين التي ادعى أنها منسوخة‪ ،‬وهل هذا النسخ متفق عليه‬
‫أم رأيه الخاص‪ ،‬وهكذا األمر في سلسلة من الدعاوي الفارغة من أناس طالما تكلموا‬
‫عن المنهجية العلمية‪ ،‬والبعد عن الكالم المرسل‪ ،‬وهم أبعد الناس عن تلك المنهجية‪.‬‬

‫‪ -2‬تتبع اآليات التي لها سبب نزول وحصرها عددي ًا يدحض تلك الدعوى‬
‫العلمانية‪ ،‬وإذا أخذنا أشهر وأوسع كتابين في أسباب النزول‪ ،‬وهما كتاب الواحدي‬
‫والسيوطي‪ ،‬فسوف نجد أن نسبة ما أوردوه من اآليات التي لها سبب نزول ال تتجاوز‬
‫سبع آيات القرآن البالغ عددها (‪ 6236‬آية)‪ ،‬وقد بلغت اآليات التي لها سبب عند‬
‫الواحدي (‪ 472‬آية)(((‪ ،‬وعند السيوطي الذي عرف باإلكثار في جمع الروايات (‪888‬‬
‫آية) أي ما نسبته نحو ‪ %14‬من آيات القرآن الكريم‪ ،‬مع مالحظة أن هذه الروايات فيها‬
‫كم كبير ال يصح أص ً‬
‫ال ال سند ًا وال متن ًا‪ ،‬كما أن بعضها ليس من قبيل أسباب النزول(((‪،‬‬

‫((( يالحظ اختالف الدارسين في اإلحصاء الدقيق لما أورده كل من الواحدي والسيوطي من أسباب‬
‫نزول‪ ،‬وهو أمر طبيعي من جهة‪ ،‬كما أنه ال يؤثر في النتيجة التي نريدها من جهة أخرى؛ ألن أقصى‬
‫عدد وصل إليها البعض ال يصل إلى تسعمائة آية‪ ،‬وانظر‪ :‬د‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم‬
‫القرآن ‪ ،358/1‬ود‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني ص ‪ ،255‬والتفسير الماركسي لإلسالم‬
‫ص ‪ 78‬ومنى الشافعي‪ :‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن ص ‪ ،403‬بسام الجمل‪:‬‬
‫أسباب النزول ص ‪.120‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن ‪ ،358/1‬ومنى الشافعي‪ :‬التيار العلماني‬
‫الحديث وموقفه من تفسير القرآن ص ‪ ،403‬ود‪ .‬أحمد الفاضل االتجاه العلماني المعاصر في‬
‫علوم القرآن ص ‪.،256‬‬

‫‪95‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫فض ً‬
‫ال عن أن اآلية الواحدة قد يرد لها أكثر من سبب نزول‪.‬‬

‫فهذه نتيجة االحتكام إلى الحقائق اإلمبريقية والتي تنقض تمام ًا دعاوى العلمانيين‪،‬‬
‫وما أسبغوا عليه صبغة القطعية العلمية من أن كل آية لها سبب نزول‪ ،‬مع أن القول‬
‫الصحيح الذي تشهد له األدلة‪ :‬هو أن الكثرة الكاثرة من آيات القرآن الكريم قد نزل‬
‫ابتداء بدون سبب(((‪.‬‬

‫‪ -3‬ثمة آراء لنفر من العلمانيين تهدم صراحة تلك الدعوى بأن لكل آية سبب‬
‫نزول‪ ،‬وقد تقدم معنا ما قاله حسن حنفي بأن مجموع الحوادث التي نزلت بسببها سور‬
‫القرآن حوالي ‪ 460‬حادثة‪ ،‬ومع أن هذا الرقم غير صحيح وال دليل عليه‪ ،‬لكن ما يعنينا‬
‫هنا أنه على فرض صحته ال يمثل إال نسبة قليلة من آيات القرآن التي تزيد على ست‬
‫آالف آية‪.‬‬

‫وفي رسالته عن أسباب النزول خلص بسام الجمل إلى قلة اآليات التي لها أسباب‬
‫نزول‪ ،‬فقال‪« :‬لعل أهم نتيجة نخلص إليها بعد هذا العرض‪ ،‬أن عدد اآليات التي لها‬
‫أسباب نزول يمثل نسبة ضعيفة مقارنة بمجموع آيات المصحف»(((‪ .‬ثم أضاف أن‬
‫العلماء «القدامى كانوا مدركين تمام اإلدراك أن علم أسباب النزول ال يتعلق بآيات‬
‫المصحف كلها‪ ،‬بل بعدد محدود منها ال يتجاوز في أقصى الحاالت ‪.(((»%14‬‬

‫‪ -4‬لم يسبق العلمانيين إلى هذه الدعوى أحد من علماء المسلمين المعتبرين‪،‬‬
‫وأقصى ما نجده عند عدد من المفسرين والمصنفين في أسباب النزول من العلماء‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬التفسير الماركسي لإلسالم ص ‪ ،78‬وسقوط الغلو العلماني ص ‪،255‬‬
‫ود‪ .‬محمد أبو عاصي‪ :‬أسباب النزول ص ‪ ،113‬ود‪ .‬عبد القادر الحسين‪ :‬معايير القبول والرد‬
‫لتفسير النص القرآني ص ‪.525‬‬
‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.120‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.122‬‬

‫‪96‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫المتقدمين هو نوع من التوسع في إيراد أسباب النزول‪ ،‬وعدم الفحص والتمييز بين‬
‫ما صح وما لم يصح‪ ،‬وهو ما أحدث وهم ًا في أذهان البعض أن كل آية لها سبب‬
‫نزول‪.‬‬

‫وقد قوبل هذا المسلك بانتقادات عدة‪ ،‬ومن ذلك قول الواحدي في مقدمة كتابه‬
‫أسباب النزول‪« :‬وأما اليوم فكل أحد يخترع شيئ ًا ويختلق إفك ًا وكذب ًا‪ .‬ملقي ًا زمامه إلى‬
‫الجهالة‪ ،‬غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب نزول اآلية‪ .‬وذلك الذي حدا بي إلى‬
‫إمالء هذا الكتاب‪ ،‬الجامع لألسباب‪ ،‬لينتهي إليه طالبو هذا الشأن والمتكلمون في‬
‫نزول هذا القرآن‪ ،‬فيعرفوا الصدق‪ ،‬ويستغنوا عن التمويه والكذب‪ ،‬ويجدوا في تحفظه‬
‫بعد السماع والطلب»(((‪.‬‬

‫وللدهلوي انتقاد مهم لهؤالء النفر من المفسرين‪ ،‬الذين بالغوا في ربط كل آية‬
‫بسبب نزول مدعى‪ ،‬حيث قال‪« :‬وقد ربط عامة المفسرين كل آية من آيات األحكام‬
‫وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها‪ ،‬وظنوا أنها هي سبب النزول‪ ،‬والحق أن‬
‫نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس اإلنسانية‪ ،‬وإزالة العقائد الباطلة‪ ،‬واألعمال‬
‫الفاسدة‪ .‬فالسبب الحقيقي ‪ -‬إذن ‪ -‬في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة‬
‫في نفوس المخاطبين‪ ،‬وسبب نزول آيات األحكام إنما هو شيوع المظالم‪ ،‬ووجود‬
‫األعمال الفاسدة فيهم‪ ،‬وسبب نزول آيات التذكير (بآالء الله وأيامه وبالموت) إنما هو‬
‫عدم تيقظهم وتنبههم بما يرون ويمرون عليه من آالء الله وأيامه‪ ،‬وحوادث الموت‪ ،‬وما‬
‫سيكون بعده من وقائع هائلة‪ ،‬أما األسباب الخاصة والقصص الجزئية التي تجشم بيانها‬
‫المفسرون‪ ،‬فليس لها دخل في ذلك إال في بعض اآليات الكريمة‪ ،‬التي تشتمل على‬
‫تعريض بحادث من الحوادث في عهد النبي ‪ #‬أو قبله‪ ،‬بحيث يقع القارئ بعد هذا‬

‫((( الواحدي‪ :‬أسباب النزول ص ‪.11‬‬

‫‪97‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫التعريض في ترقب وانتظار لما كان وراءه من قصة أو حادث أو سبب»(((‪.‬‬

‫وثمة انتقاد مشابه نجده عند الطاهر بن عاشور‪ ،‬والذي استنكر ما وصفه بولع «كثير‬
‫من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن‪ ،‬وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن‬
‫نزلت ألجلها‪ ،‬لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك‪ ،‬وأغربوا في ذلك‬
‫وأكثروا‪ ،‬حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب»(((‪.‬‬

‫ومع أن هؤالء المفسرين لم يصرحوا قط بأن لكل آية سبب نزول‪ ،‬إال أن إكثارهم‬
‫من حكاية الروايات‪ ،‬هم ومن صنفوا في أسباب النزول قد أدى إلى تسرب هذا الوهم‬
‫ألذهان بعض الناس‪ ،‬وبينما يعذر ابن عاشور المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول‬
‫فاستكثروا منها‪ ،‬فإنه ال يعذر من وصفهم بأساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات‬
‫الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعف ًا‪ ،‬ومن ثم يقول‪« :‬وأنا‬
‫عاذر المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها‪ ،‬بأن كل من يتصدى‬
‫لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه‪ ،‬فال ينفك يستزيد من‬
‫ملتقطاته ليذكي قبسه‪ ،‬ويمد نفسه‪ ،‬فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد‪ ،‬ويقول زدني‬
‫من حديثك يا سعد‪ ،‬غير هياب لعاذل‪ ،‬وال متطلب معذرة عاذر‪ ،‬وكذلك شأن الولع‬
‫إذا امتلك القلب‪ ،‬ولكني ال أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة‬
‫فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعف ًا‪ ،‬حتى أوهموا كثير ًا من الناس‬
‫أن القرآن ال تنزل آياته إال ألجل حوادث تدعو إليها‪ ،‬وبئس هذا الوهم‪ ،‬فإن القرآن‬
‫جاء هادي ًا إلى ما به صالح األمة في أصناف الصالح‪ ،‬فال يتوقف نزوله على حدوث‬
‫الحوادث الداعية إلى تشريع األحكام»(((‪.‬‬

‫((( الدهلوي‪ :‬الفوز الكبير في أصول التفسير ص ‪.31‬‬


‫((( الطاهر بن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ‪46/1‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.46/1‬‬

‫‪98‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫كذلك انتقد رشيد رضا نزعة اإلسراف لدى رواة أسباب النزول وما ترتب عليه من‬
‫آثار سيئة فقال‪« :‬ومن عجيب شأن رواة أسباب النزول أنهم يمزقون الطائفة الملتئمة‬
‫من الكالم اإللهي‪ ،‬ويجعلون القرآن عضين متفرقة‪ ،‬بما يفككون اآليات‪ ،‬ويفصلون‬
‫بعضها من بعض‪ ،‬وبما يفصلون بين الجمل الموثقة في اآلية الواحدة‪ ،‬فيجعلون لكل‬
‫جملة سبب ًا مستق ً‬
‫ال‪ ،‬كما يجعلون لكل آية من اآليات الواردة في مسألة واحدة سبب ًا‬
‫مستق ً‬
‫ال»(((‪.‬‬

‫‪ -5‬وإذا كنا قد أشرنا فيما مضى لهذا االتجاه العلماني المبالغ في كم اآليات‬
‫النازلة على سبب إلى درجة الزعم بأن لكل آية سبب نزول‪ ،‬وما يتصل بذلك من‬
‫دعوات لترتيب القرآن تاريخي ًا بحسب نزوله؛ فإن من الضروري أن نشير إلى اتجاه‬
‫مضاد ‪ -‬بصورة كلية أو جزئية ‪ -‬ذهب إليه نفر آخر من العلمانيين‪ ،‬وقد تفاوتت آراؤهم‬
‫ما بين ناف أص ً‬
‫ال ألسباب النزول‪ ،‬وألي فائدة من ورائها‪ ،‬وما بين مقر بوجودها‪ ،‬لكنه‬
‫ذهب إلى أن أكثر ما هو متاح بين أيدينا مختلق أو موضوع من قبل المفسرين أو الفقهاء‪،‬‬
‫الذين اخترعوها ليبرروا ما اعتنقوه من آراء‪.‬‬

‫والذي يدعونا إلى اإلشارة لتلك اآلراء‪ ،‬ليس اإلقرار بها أو التسليم بصحتها‪ ،‬فهي‬
‫ال تقل خطأ وتعميم ًا عن آراء مخالفيهم‪ ،‬وإنما نسوقها هنا باعتبارها رد ًا على العلمانيين‬
‫من نفس الفريق المتبني لرؤيتهم ومنهجيتهم‪ ،‬ومن غير المعظمين للتراث وعلومه‬
‫والدائرين في فلكه ‪ -‬كما يشنع العلمانيون دائم ًا‪ ،‬ثم إنها تعتبر شاهد ًا مهم ًا يضاف‬
‫لعشرات الشواهد التي تثبت حالة التضارب والتناقض المنهجي في الفكر العلماني‪،‬‬
‫والتي سوف نعرض لها تفصي ً‬
‫ال فيما بعد إن شاء الله تعالى‪.‬‬

‫((( رشيد رضا‪ :‬تفسير المنار ‪.10/2‬‬

‫‪99‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن الشخصيات التي أنكرت وجود أسباب النزول محمد شحرور‪ ،‬الذي عرف‬
‫بتفرقته المتهافتة بين القرآن والكتاب‪ ،‬وبناء على تلك التفرقة أنكر تمام ًا وجود أسباب‬
‫نزول للقرآن الكريم‪ ،‬بينما أقر بوجود أسباب نزول للكتاب(((‪.‬‬

‫ومن القائلين أيض ًا بقلة ما له سبب نزول من آيات القرآن والمشككين في ثبوت‬
‫معظم ما روي منها‪ :‬جمال البنا‪ ،‬الذي رأى أن أسباب النزول ال أهمية لها وال جدوى‬
‫منها‪ ،‬كما أنها تقدم فهم ًا خاطئ ًا وتفسير ًا مغلوط ًا آليات القرآن الكريم(((‪ ،‬كما أن عدد‬
‫اآليات القرآنية التي لها سبب نزول قليلة جد ًا في رأيه(((‪.‬‬

‫كذلك رفض عبد المجيد الشرفي الدعوى القائلة بأن كل آيات القرآن نزلت‬
‫على سبب‪ ،‬وذهب إلى خالف ذلك مقرر ًا «أن تسعة أعشار آيات المصحف ال‬
‫تتوفر عنها أسباب معينة‪ ،‬وأن ثمانين في المائة من األسباب تتعلق بآيات األخبار‬
‫ال بآيات األحكام‪ ،‬بصرف النظر عن كونها أسباب ًا ذات صبغة تاريخية أو أسطورية‬
‫منحولة»(((‪.‬‬

‫ومن المتبنين أيض ًا لتلك الوجهة المشككة في أسباب النزول بصورة أو بأخرى‬
‫محمد أركون‪ ،‬الذي ادعى أن أسباب النزول من وضع الفقهاء واختالقهم(((‪ ،‬إضافة‬
‫إلى أن أسباب النزول لم توضع على المحك التاريخي واألدبي‪ ،‬الذي ال بد منه‬
‫لنقدها(((‪.‬‬

‫((( محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪92‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل‪ :‬التوظيف الحداثي آليات المرأة وإشكالياته‪ ،‬جمال البنا نموذج ًا ص ‪،234‬‬
‫‪.237‬‬
‫((( جمال البنا‪ :‬نحو فقه جديد ص ‪.168 ،167‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬تقديمه لكتاب بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.9‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.74‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.242‬‬

‫‪100‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ولمحمد عابد الجابري انتقاد للقول بأنه ما من آية في القرآن إال ولها سبب نزول‪،‬‬
‫حيث اعتبر أن «عنصر المبالغة في هذه العبارة واضح‪ ،‬ألن ما هو متداول من أسباب‬
‫النزول قليل جد ًا بالنسبة آلي الذكر الحكيم»(((‪ ،‬وهو يقر أيض ًا بأن من القرآن ما أنزل‬
‫ابتداء‪ ،‬كخطاب يشرح العقيدة‪ ،‬أو قصص‪ ،‬أو نصوص تشريعية أو أخالقية‪ ،‬وهذا‬
‫الصنف في رأيه «ال يتعلق في الغالب بأسباب أو مناسبات خاصة‪ ،‬وبالتالي فهو ليس‬
‫مما يرجع فيه إلى أسباب النزول»(((‪ ،‬وحتى ما ورد بشأنه سبب نزول‪ ،‬فإنه في رأي‬
‫الجابري موضع شك في مصداقية الكثير منه(((‪.‬‬

‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬فهم القرآن الحكيم ‪.370/3‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.370/3‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.371/3‬‬

‫‪101‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫المبحث الثالث‬

‫هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟‬

‫‪ -1‬متهيد عن موقف علامء املسلمني من هذه املسألة‪:‬‬

‫والمقصود بهذه المسألة أن تنزل آية من آيات القرآن الكريم لسبب خاص‪ ،‬كسؤال‬
‫أو واقعة بعينها‪ ،‬ويأتي الجواب أو الحكم أعم من السبب‪ ،‬فيكون اللفظ عام ًا يستوعب‬
‫أفراد ًا عديدين‪ ،‬بينما السبب خاص بالنسبة إلى اللفظ العام النازل فيه‪ ،‬فهل تكون العبرة‬
‫حينئذ بعموم ألفاظ اآلية‪ ،‬وال تختص بالسبب الذي نزلت من أجله‪ ،‬أم تكون العبرة‬
‫بهذا السبب الخاص‪ ،‬ويقصر الحكم الوارد في النص العام على سبب نزوله إن كان‬
‫خاص ًا(((‪.‬‬

‫وحتى تتضح طبيعة المسألة بشكل أكثر وضوح ًا فال بد أن نشير إلى أن ألهل‬
‫العلم تقسيمات عدة في تناولهم لهذه القضية(((‪ ،‬يهمنا منها أن اللفظ العام الوارد على‬
‫سبب له ثالث حاالت(((‪:‬‬

‫((( انظر‪ :‬الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،125/1‬ود‪ .‬عماد الرشيد‪ :‬أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص‬
‫ص ‪.392‬‬
‫((( انظر‪ :‬الرازي‪ :‬المحصول ‪ ،121/3‬والزركشي‪ :‬البحر المحيط ‪ ،269/4‬والشوكاني‪ :‬إرشاد‬
‫الفحول ‪ ،333/1‬ود‪ .‬محمد أبو شهبة‪ :‬المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ‪ ،155‬ود‪ .‬خالد‬
‫المزيني‪ :‬المحرر في أسباب نزول القرآن ‪ ،129/1‬ود‪ .‬عماد الرشيد‪ :‬أسباب النزول وأثرها في‬
‫بيان النصوص ص ‪.392‬‬
‫((( انظر‪ :‬الشنقيطي‪ :‬مذكرة في أصول الفقه ص ‪ ،250‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،124/1‬ود‪ .‬محمد‬
‫أبو شهبة‪ :‬المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ‪ ، ،155‬ومناع القطان‪ :‬مباحث في علوم القرآن‬
‫ص ‪ ،82‬ونور الدين عتر‪ :‬علوم القرآن ص ‪ ،52‬وعبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول ص ‪،194‬‬
‫ود‪ .‬خالد السبت‪ :‬قواعد التفسير جمع ًا ودراسة ‪594/2‬‬

‫‪102‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫أ‪ -‬أن يقترن بما يدل على العموم‪ ،‬فيعم إجماع ًا‪.‬‬

‫ب‪ -‬أن يقترن بما يدل على التخصيص‪ ،‬فيخص إجماع ًا‪.‬‬

‫ج‪ -‬أال يقترن بدليل التعميم وال التخصيص‪ ،‬بل يرد النص القرآني عام ًا وسبب‬
‫نزوله خاص ًا‪ ،‬ولم تقم قرينة على تخصيص النص‪ ،‬وهذه الحالة هي موضوع حديثنا‪.‬‬

‫وقد حظيت قضية‪ :‬العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب‪ ،‬باهتمام كبير من‬
‫المصنفين في علوم القرآن‪ ،‬كما حظيت باهتمام وتفصيل أوسع من علماء أصول‬
‫الفقه؛ ألنهم ينظرون في حال األدلة‪ ،‬من حيث إفادتها لألحكام من عموم وخصوص‬
‫وإطالق وتقييد ونحو ذلك(((‪ ،‬إضافة لما ترتب على الخالف في هذه المسائل من‬
‫تطبيقات فقهية عديدة‪ ،‬وألهل العلم المتقدمين قوالن رئيسان في هذه المسألة(((‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن العبرة بخصوص السبب ال بعموم اللفظ‪.‬‬

‫وقد ذهب الجمهور إلى القول األول‪ ،‬أي أن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص‬
‫السبب‪ ،‬وال يكاد الواقف على ما ساقوه من أدلة يتردد في أن هذا القول هو األقوى‬
‫واألرجح(((‪ ،‬ويميل بعض المؤلفين المعاصرين في علوم القرآن إلى أن الخالف في‬
‫((( انظر‪ :‬الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،123/1‬ود‪ .‬محمد أبو شهبة‪ :‬المدخل لدراسة القرآن الكريم‬
‫ص ‪ ،155‬ود‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان ‪ ،344/1‬ونور الدين عتر‪ :‬علوم القرآن ص ‪.52‬‬
‫((( انظر‪ :‬الزركشي‪ :‬البحر المحيط ‪ ،276 ،275/4‬والسيوطي‪ :‬اإلتقان ‪ ،110/1‬وابن النجار‪:‬‬
‫شرح الكوكب المنير ‪ ،177/3‬والشوكاني‪ :‬إرشاد الفحول ‪ ،335/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان‬
‫‪ ،125/1‬ومناع القطان‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص ‪ ،84‬ود‪ .‬عبد الكريم النملة‪ :‬المهذب في علم‬
‫أصول الفقه المقارن ‪.1523/4‬‬
‫((( انظر‪ :‬الرازي‪ :‬المحصول ‪ ،125/3‬والسيوطي‪ :‬اإلتقان ‪ ،110/1‬وابن عقيلة المكي‪ :‬الزيادة‬
‫واإلحسان في علوم القرآن ‪ ،298/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،127/1‬ود‪ .‬محمد أبو شهبة‪:‬‬
‫المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ‪ ،158‬ونور الدين عتر‪ :‬علوم القرآن ص ‪ ،53‬والشيخ بن جمعة=‬

‫‪103‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫هذه المسألة من األمور الحادثة‪ ،‬ولم يكن موجود ًا في األزمنة األولى‪ :‬أزمنة الصحابة‬
‫والتابعين رضي الله عنهم‪ ،‬وطبيعة اإلسالم أنه دين عام خالد جماعي‪ ،‬جاء يسوي‬
‫بين الناس‪ ،‬ويلغي كثير ًا من الميزات والمكتسبات التي كانت لبعض األفراد والفئات‪،‬‬
‫وقد كانت قريش تظن أن لها االمتياز عن غيرها‪ ،‬ألنهم أهل الحرم‪ ،‬فنزل قوله تعالى‪:‬‬
‫اس} [سورة البقرة‪ ]199 :‬ومن هنا كانت أحكام القرآن‬ ‫ِيضوا م ِْن َح ْي ُث َأ َف َ‬
‫اض ال َّن ُ‬ ‫{ ُث َّم َأف ُ‬
‫والسنة ال تخص أحد ًا دون أحد(((‪.‬‬

‫لكن ال بد من التنبيه إلى أن القائلين بخصوص السبب ال بعموم اللفظ‪ ،‬ال‬


‫يقصدون أن أحكام الله النازلة على سبب تختص بالشخص المعين الذي نزلت فيه‬
‫اآلية وال تتعداه‪ ،‬لكن مرادهم أنها مختصة به من جهة النزول‪ ،‬ويدخل معه غيره من‬
‫طريق القياس‪ ،‬ال من طريق تعميم اللفظ (((‪.‬‬

‫والفرق بين المذهبين هو في طريقة التعميم‪ ،‬فالقائلون بأن العبرة بعموم اللفظ‬
‫ال يعنيهم من نزل فيه الخطاب‪ ،‬بقدر ما يعنيهم المعنى الذي يعممونه‪ ،‬أما القائلون‬
‫بأن العبرة بخصوص السبب فيعنيهم بالدرجة األولى من نزل فيه الخطاب؛ ألنه هو‬
‫المقصود األول به‪ ،‬ثم يدخل معه غيره بعد ذلك قياس ًا‪ ،‬كما أن من يذهب إلى عموم‬
‫اللفظ قد يدخل غير صورة السبب في معنى اآلية‪ ،‬أما من يذهب إلى القياس‪ ،‬فال يقيس‬

‫=سهل‪ :‬أسباب النزول ص ‪ ،147‬وعبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول ص ‪ ،195‬ود‪ .‬خالد‬
‫السبت‪ :‬قواعد التفسير جمع ًا ودراسة ‪ ،594/2‬ود‪ .‬عماد الرشيد‪ :‬أسباب النزول وأثرها في بيان‬
‫النصوص ص ‪.402‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن ‪.345 ،344/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،126/1‬ود‪ .‬محمد أبو شهبة‪ :‬المدخل لدراسة القرآن الكريم ص‬
‫‪ ،157‬والشيخ بن جمعة سهل‪ :‬أسباب النزول ص ‪ ،146 ،145‬ود‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬المحرر في‬
‫علوم القرآن ص ‪.138‬‬

‫‪104‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫إال في صورة السبب‪ ،‬وال يدخل غير صورته فيه(((‪.‬‬

‫ولشيخ اإلسالم ابن تيمية نص مهم‪ ،‬يؤكد فيه على هذا الملحظ‪ ،‬وأن العلماء‬
‫الذين «قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم اآلية مختص بأولئك األعيان دون غيرهم‪ ،‬فإن‬
‫هذا ال يقوله مسلم‪ ،‬وال عاقل على اإلطالق‪ ،‬والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد‬
‫على سبب هل يختص بسببه أم ال؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين‪ :‬إن عمومات‬
‫الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين‪ ،‬وإنما غاية ما يقال‪ :‬إنها تختص بنوع ذلك‬
‫الشخص فيعم ما يشبهه‪ ،‬وال يكون العموم فيها بحسب اللفظ‪ ،‬واآلية التي لها سبب‬
‫معين‪ ،‬إن كانت أمر ًا ونهي ًا‪ ،‬فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته‪ ،‬وإن‬
‫كانت خبر ًا بمدح أو ذم‪ ،‬فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيض ًا»(((‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف العلامنيني من هذه املسألة‪:‬‬

‫فإذا ما انتقلنا إلى موقف العلمانيين من هذه المسألة‪ ،‬التي حظيت لديهم باهتمام‬
‫الفت للنظر‪ ،‬فيمكننا أن نرصد ثالثة اتجاهات مختلفة‪:‬‬

‫االتجاه األول‪ :‬وهو االتجاه الناقد بشدة‪ ،‬والرافض تمام ًا لقاعدة أن العبرة بعموم‬
‫اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬نظر ًا لما يترتب على هذه القاعدة من تقرير لعمومية‬
‫النصوص‪ ،‬وصالحية ما تضمنته من أحكام لكل زمان ومكان‪ ،‬وهدم لفكرة تاريخية‬
‫النصوص‪ ،‬ووقتية األحكام‪ ،‬وارتباطها بظروف تنزيلها‪ ،‬والواقع الذي نشأت فيه‪.‬‬

‫وبيان ذلك أن القول بعموم داللة النصوص الشرعية‪ ،‬وعدم تخصيصها بأسبابها‬
‫يتعارض تعارض ًا تام ًا مع فكرة التاريخية وموقفها من القرآن الكريم‪ ،‬بل سائر‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد أبو شهبة‪ :‬المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ‪ ،158‬والشيخ بن جمعة سهل‪:‬‬
‫أسباب النزول ص ‪ ،146‬ود‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬المحرر في علوم القرآن ص ‪.138‬‬
‫((( ابن تيمية‪ :‬مقدمة في أصول التفسير ص ‪.37‬‬

‫‪105‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫النصوص بصفة عامة؛ ألن «القرآن وفق ًا لفكرة التاريخية ظاهرة‪ ،‬وهو مرتهن بوقت‬
‫معين وأشخاص معينين ال يتجاوزهم‪ ،‬وال ينفع غيرهم‪ ،‬بل وال يتواصل داللي ًا إال في‬
‫ظروف محددة ال تتجاوز العصر الذي نزل فيه»(((‪.‬‬

‫وإلى هذا االتجاه مال أكثر العلمانيين‪ ،‬ومن نماذج ذلك مهاجمة نصر أبو زيد‬
‫الشديدة لتلك القاعدة‪ ،‬وما اعتبره آثار ًا ونتائج خطيرة مترتبة عليها‪ ،‬مشير ًا إلى أن‬
‫«التمسك بعموم اللفظ‪ ،‬وإهدار خصوص السبب في كل نصوص القرآن‪ ،‬من شأنه‬
‫أن يؤدي إلى نتائج يصعب أن يسلم بها الفكر الديني‪ .‬إن أخطر هذه النتائج للتمسك‬
‫بعموم اللفظ مع إهدار خصوص السبب‪ ،‬أنه يؤدي إلى إهدار حكمة التدرج بالتشريع‬
‫في قضايا الحالل والحرام‪ ،‬خاصة في مجال األطعمة واألشربة‪ ،‬هذا إلى جانب أن‬
‫التمسك بعموم اللفظ في كل النصوص الخاصة باألحكام يهدد األحكام ذاتها»(((‪.‬‬

‫ويستدل نصر أبو زيد بالتدرج الذي حدث في تحريم الخمر على خطأ تلك‬
‫القاعدة‪ ،‬حيث إن الخمر حرمت بالتدريج‪ ،‬وهذا التدرج في التشريع في رأيه يدل‬
‫على جدلية الوحي والواقع‪ ،‬ويكشف منهج النص في تغيير الواقع‪ ،‬ومن ثم فليس من‬
‫المنطقي تمسك العلماء بعموم اللفظ دون مراعاة لخصوص السبب‪ ،‬ولو كان عموم‬
‫اللفظ هو األساس في اكتشاف داللة النصوص‪ ،‬ألمكن التمسك ببعض اآليات التي‬
‫تدرجت في تحريم الخمر للداللة على حلها (((‪.‬‬

‫وبالطبع فهذا الكالم يتضمن مغالطة واضحة‪ ،‬ولم يقل أحد إن هناك قاعدة واحدة‬
‫فقط تحكم فهم النص القرآني وتضبط التعامل معه‪ ،‬وصحيح أن العبرة بعموم اللفظ‬

‫((( إبراهيم أبو هادي‪ :‬نصر أبو زيد ومنهجه في التعامل مع التراث ص ‪.277‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.117‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.119‬‬

‫‪106‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ال بخصوص السبب‪ ،‬لكن تلك القاعدة محكومة بقاعدة غيرها‪ ،‬وهي ضرورة جمع‬
‫نصوص القرآن كلها‪ ،‬وعدم تقطيعها واألخذ ببعضها وترك بعضها اآلخر‪ ،‬حيث ذم‬
‫ض} [سورة‬‫اب َوت َْكف ُُرونَ ب َِب ْع ٍ‬ ‫الله من فعل ذلك‪ ،‬فقال سبحانه‪َ { :‬أ َف ُتؤْ ِم ُنونَ ب َِب ْع ِ‬
‫ض ا ْلكِ َت ِ‬
‫ين} [سورة الحجر‪.]91 :‬‬ ‫البقرة‪ ،]85 :‬وقال سبحانه‪{ :‬ا َّلذِ َ‬
‫ين َج َع ُلوا ا ْلق ُْرآنَ عِ ِض َ‬
‫ثم إن العلماء القائلين بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬لم يقل أحد منهم قط‬
‫بإهدار السبب أو عدم مراعاته‪ ،‬بل إنهم يستأنسون بسبب النزول‪ ،‬ويجعلونه مرشد ًا‬
‫ومعين ًا لفهم النص‪ ،‬لكنهم ال يقصرون النص على سبب‪ ،‬كما يزعم أبو زيد ومن وافقه‬
‫الرأي من العلمانيين(((‪.‬‬

‫ومن العجيب حق ًا أن نصر أبو زيد يدعي أن التمسك بعموم اللفظ ال بخصوص‬
‫السبب يمكن أن يؤدي «في النهاية إلى القضاء على التشريعات واألحكام كلها»(((‪،‬‬
‫وهو كالم يذكرنا بالمثل العربي المشهور الذي يضرب لمن يعير صاحبه بعيب هو‬
‫فيه‪« :‬رمتني بدائها وانسلت»(((‪ ،‬وإال فإن كل منصف يجزم أن الذي يؤدي إلى القضاء‬
‫على التشريعات واألحكام كلها هو القول بقصر األحكام على خصوص أسبابها‪،‬‬
‫وليس القول بعموم ألفاظها‪ ،‬الذي يؤدي إلى استثمار النص وتعميمه‪ ،‬وشموله لسائر‬
‫المكلفين في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله األرض ومن عليها(((‪.‬‬

‫ومن المهاجمين بشدة لتلك القاعدة أيض ًا خليل عبد الكريم‪ ،‬الذي عبر عن‬
‫رفضه لها‪ ،‬وعدم التسليم بما تضمنته بحجة أن فيها «إهدار ًا للسبب‪ ،‬وإهداره يحجب‬
‫المدلول الحقيقي للفظ‪ ،‬ويغيم عليه ويشوش معناه‪ ،‬ومن ثم يجيء الحكم رجراج ًا‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد القادر الحسين‪ :‬معايير القبول والرد ص ‪.518‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.119‬‬
‫((( انظر‪ :‬الميداني‪ :‬مجمع األمثال‪.286/1 :‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد القادر الحسين‪ :‬معايير القبول والرد ص ‪.520‬‬

‫‪107‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫مائع ًا غير منضبط‪ ،‬وهذا أحد وجوه علل اختالف الفقهاء وتناقض أحكامهم‪ ،‬حتى في‬
‫أخطر األمور»(((‪.‬‬

‫وهو ال يكتفي بمجرد رفض هذه القاعدة‪ ،‬بل يتهم الفقهاء أنهم وضعوها كنوع من‬
‫الحيل‪ ،‬فيقول‪« :‬وفي رأينا أن هذه القاعدة تدخل في باب الحيل التي لجأ إليها عديد‬
‫من الفقهاء‪ ،‬ونؤكد أن المعايير لن تنضبط إال إذا عدلنا عن هذه القاعدة‪ ،‬ووضعنا نصب‬
‫أعيننا السبب‪ ،‬ونحن نفسر النصوص»(((‪.‬‬

‫ولسيد القمني هجوم شديد على تلك القاعدة أيض ًا‪ ،‬حيث كرر نفس الدعاوى‬
‫العلمانية القائلة إن هذه القاعدة لم تنشأ إال في عصور متأخرة «وفي عصور التخلف‪،‬‬
‫واستخدام الدين لخدمة توجهات السلطان‪ ،‬تم وضع قاعدة فقهية تقول إن العبرة‬
‫بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام االستخدام‬
‫االنتهازي الصريح لنصوص الدين»(((‪ .‬وما حدث بالفعل ‪ -‬من وجهة نظره ‪ -‬أنه تم‬
‫توظيف تلك القاعدة أسوأ توظيف حيث «وجد القائمون على شئون الدين بناء على‬
‫تلك القاعدة الفقهية مكاسب دائمة‪ ،‬تبرر للسالطين عبر العصور آراءهم واتجاهاتهم‪،‬‬
‫بل ونزواتهم بالدين ونصوصه»(((‪.‬‬

‫وكعادته في السب والشتم بأسلوب متدن‪ ،‬هاجم سيد القمني الفقهاء الذين عولوا‬
‫على تلك القاعدة‪ ،‬واصف ًا إياهم «بالمتفقهين من أهل شئون التقديس‪ ،‬المستفيدين من‬
‫الدين في مواقعهم االجتماعية‪ ،‬والذين يرفعون القاعدة التليدة (العبرة بعموم اللفظ ال‬
‫بخصوص السبب) لتشغيل القرآن‪ ،‬ورب القرآن حسب الحال المرغوب‪ ،‬ينتهزون به‬

‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي‪ ،‬ضمن األعمال الكاملة ص ‪.108‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.109‬‬
‫((( سيد القمني‪ :‬رب الزمان ص ‪.236‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.236‬‬

‫‪108‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫النهز‪ ،‬ويستنبطون منه حسب الطلب‪ ،‬شهادات الشرعية للمواقف السياسية المتقلبة من‬
‫النقيض إلى النقيض»(((‪.‬‬

‫والحق أن المرء يحار من هذا األسلوب العلماني المخادع‪ ،‬والقائم على إطالق‬
‫الدعاوى‪ ،‬وتوزيع السباب والشتائم ذات اليمين والشمال‪ ،‬دون مناقشة موضوعية‬
‫ألصل المسألة‪ ،‬ودون بيان لتلك التالعبات المزعومة‪ ،‬التي قام بها الفقهاء عبر العصور‬
‫إرضاء للسالطين‪.‬‬

‫فاآليات النازلة على سبب ‪ -‬وصح نقل هذا السبب ‪ -‬ال تمثل إال نسبة قليلة جد ًا‬
‫من القرآن الكريم‪ ،‬ثم إن ما يتعلق منها بشئون الحكم والسياسة واألموال ال يمثل نسبة‬
‫تذكر‪ ،‬فأي مبرر إذن لذلك اللف والدوران ووضع قاعدة كهذه إلرضاء الحكام‪ ،‬مع‬
‫أن أصحاب الهوى وعلماء السوء ليسوا بحاجة لتلك القاعدة‪ ،‬وفتاويهم وأقضيتهم‬
‫الجائرة من أجل السالطين جاهزة ومفصلة وليست متوقفة على تلك القاعدة‪.‬‬

‫ثم كيف تستقيم تلك الدعاوى العلمانية الجائرة‪ ،‬مع أن المتبنين لتلك القاعدة هم‬
‫جماهير علماء المسلمين سلف ًا وخلف ًا عبر سائر العصور‪ ،‬ومن هؤالء العلماء من كانت‬
‫لهم مواقف مشهودة في مواجهة الظلم والجور‪ ،‬والجهر بكل الحق في وجه السالطين‬
‫الجائرين‪ ،‬ولو أدى بهم ذلك للحرمان من الوظائف أو السجن‪ ،‬وربما وصل األمر‬
‫للقتل‪.‬‬

‫والقائمة في هذا الباب طويلة جد ًا‪ ،‬وتتضمن أسماء علماء كبار‪ ،‬وأئمة عظام من‬
‫أمثال سعيد بن جبير‪ ،‬والشعبي‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬ومالك بن أنس‪ ،‬والشافعي‪،‬‬
‫وأحمد بن حنبل‪ ،‬وأحمد بن نصر الخزاعي‪ ،‬والبخاري‪ ،‬والعز بن عبد السالم‪ ،‬والنووي‪،‬‬

‫((( سيد القمني‪ :‬مقال بمجلة أدب ونقد العدد ‪ ،201‬مايو ‪2002‬م‪ً ،‬‬
‫نقال عن منصور أبو شافعي‪ :‬التنوير‬
‫بالتزوير ص ‪.68‬‬

‫‪109‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وابن تيمية‪ ،‬وابن القيم‪ ،‬وغيرهم الكثير(((‪ ،‬ممن ثبتوا على مواقفهم‪ ،‬ولم يعطوا الدنية‬
‫في دينهم‪ ،‬ولم يرضوا تغيير ًا أو تبدي ً‬
‫ال لشرع الله‪ ،‬من أجل رغبة هذا الحاكم أو ذاك‪.‬‬

‫ومن الشخصيات العلمانية األخرى التي تبنت القول بخصوص األسباب ال‬
‫بعموم األلفاظ‪ ،‬طيب تيزيني‪ ،‬وقد احتفى بتلك القاعدة التي تفسر آيات القرآن وفق ًا‬
‫ألسبابها‪ ،‬معدد ًا النتائج المترتبة عليها من خالل نقل كالم محمد سعيد العشماوي‪،‬‬
‫مرتضي ًا إياه‪ ،‬حيث قال‪« :‬فقاعدة تفسير آيات القرآن وفق ًا ألسباب تنزيلها تؤدي إلى‬
‫واقعية هذه اآليات‪ ،‬وتنتهي إلى تاريخيتها‪ ،‬وتفرض ربطها باألحداث‪ ،‬ومن ثم ينبغي‬
‫تفسير القرآن بأسباب تنزيله ال بعموم ألفاظه»(((‪.‬‬

‫ومن المنتقدين أيض ًا لقاعدة العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ :‬علي‬
‫أومليل‪ ،‬والذي يرى أن المفسرين واألصوليين قد حرصوا على تمييز بحثهم في‬
‫أسباب النزول عن أي بحث تاريخي‪ ،‬ومن ثم لجأوا إلى عدة أمور‪ :‬منها أنهم «قد نفوا‬
‫عن مبحثهم جريانه مجرى التاريخ»(((‪ .‬وأما االحتياط اآلخر األهم فهو تقرير قاعدة‬

‫((( وفي تراجم هؤالء العلماء واألئمة المدونة في كتب التاريخ والتراجم‪ :‬تفصيل لمحنهم وما‬
‫جرى لهم من ابتالءات وشدائد وانظر نماذج عديدة في إنكار العلماء على أصحاب السلطة‬
‫وعدم االنصياع ألهوائهم‪ ،‬وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر عند الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين‬
‫‪ ،343/2‬وعبد العزيز البدري‪ :‬اإلسالم بين العلماء والحكام ص ‪ ،129‬ود‪ .‬سيد العفاني‪ :‬صالح‬
‫األمة في علو األمة ‪ ،101/3‬وأحمد قوشتي‪ :‬مبدأ التقية بين أهل السنة والشيعة اإلمامية ص ‪،204‬‬
‫ويراجع أيض ًا‪ :‬كتاب المحن ألبي العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي‪ ،‬وكتاب نبيل بن محمد‬
‫محمود‪ :‬العلماء بين المحن والشدائد‪ ،‬عرض لالبتالءات والمحن الكبرى التي تعرض لها علماء‬
‫األمة‪ ،‬وكيف تحملوها وصبروا عليها‪.‬‬
‫((( د‪ .‬طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق ص ‪ ،104‬وقد نسب هذا الكالم لبحث‬
‫العشماوي‪ :‬تحديث العقل اإلسالمي ضمن ندوة التراث وآفاق التقدم في المجتمع العربي‬
‫المعاصر‪ ،‬عدن‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫((( علي أومليل‪ :‬في شرعية االختالف ص ‪.51‬‬

‫‪110‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫أن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬وفي ذلك يقول أومليل‪« :‬واحتياط آخر‬
‫يلجأون إليه‪ ،‬لكي ال يفهم من أسباب النزول أنها أسباب تاريخية بالمعنى الذي يجعل‬
‫التاريخ محدد ًا للخطاب‪ ،‬وهو أن اللفظ القرآني عام حتى حين يرتبط بسبب خاص‬
‫قيل بمناسبته‪ .‬للقرآن أسباب نزول إال أنه قد تعدى هذه األسباب‪ ،‬ولهذا قالوا العبرة‬
‫بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ .‬أسباب النزول ليس معناها عندهم ظرفيات خاصة‬
‫استدعت إيراد أحكام تتعلق بهذه الظرفيات وحدها»(((‪.‬‬

‫وإذا انتقلنا لشخصية أخرى‪ ،‬وهي محمد سعيد العشماوي‪ ،‬فسوف نجد أنه من‬
‫أكثر المتوسعين في مهاجمة قاعدة أن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬حيث‬
‫وجه لها انتقادات شديدة‪ ،‬وكرر الكالم عنها في العديد من كتبه‪ ،‬حتى إنه لينقل العبارات‬
‫نفسها فض ً‬
‫ال عن األفكار ‪ -‬دون إضافة تذكر ‪ -‬وقد جزم بأن تلك القاعدة ال تعدو أن‬
‫تكون «قاعدة فقهية‪ ،‬قال بها فقهاء أي بشر‪ ،‬وليست قاعدة شرعية وردت في القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬أو جاءت في أحاديث النبي ‪ ،#‬ومن شأنها أن تقتطع اآليات من السياق‪،‬‬
‫وأن تفاصل بين آيات القرآن وتباعد بين أجزائه‪ ،‬مع أن القرآن كل ال يتفاصل‪ ،‬وجمع‬
‫ال يتجزأ»(((‪ .‬ومن النتائج الخطيرة المترتبة على هذه القاعدة‪ ،‬التي يصفها بالخاطئة‬
‫أنها «توجد تناقضات شديدة بين أحكام القرآن‪ ،‬كما أنها تؤدي إلى نتائج غريبة عن‬
‫اإلسالم‪ ،‬لم يقصدها التنزيل‪ ،‬ولم يهدف إليها القرآن»(((‪.‬‬

‫ومع أن جماهير األصوليين وغيرهم من المفسرين والفقهاء على القول بعموم‬


‫اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬إال أن األمر يتحول على العكس من ذلك تمام ًا عند‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.51‬‬


‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬الربا والفائدة ص ‪ ،33‬وانظر‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.64‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.64‬‬

‫‪111‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫العشماوي‪ ،‬فيصير المنهج األصولي هو القائل بخصوص السبب ال بعموم اللفظ‪،‬‬


‫كما أن األمر ال يتوقف عند هذا الحد‪ ،‬بل نجد استمرار ًا لعادة العلمانيين في خلط‬
‫األمور واستغالل الظروف السياسية واالجتماعية في الدول العربية لترويج أفكارهم‪،‬‬
‫حيث وصف العشماوي المنهج القائل بعموم اللفظ ال بخصوص السبب بأنه المنهج‬
‫التقليدي‪ ،‬ويوافقه في ذلك منهج المتطرفين واإلرهابيين‪ ،‬وهو يتبنى القول بأن آيات‬
‫القرآن الكريم إنما تفسر على عموم ألفاظها‪ ،‬أي وفق ًا لمطلق ألفاظ اآلية‪ ،‬دون نظر إلى‬
‫الظروف التاريخية التي أحاطت بنزولها وبغير اعتداد بأسباب تنزيلها(((‪.‬‬

‫وال يكتفي العشماوي بالزعم أن علماء األصول ‪ -‬خالف ًا للمتطرفين واإلرهابيين‬


‫‪ -‬يقولون بخصوص السبب ال بعموم اللفظ‪ ،‬بل يزعم أيض ًا أن منهج الصحابة والتابعين‬
‫في تفسير القرآن كان قائم ًا على ربط كل آية بسبب نزولها‪ ،‬وفهمها على خلفية الواقعة‬
‫أو الحادثة التي تنزلت بشأنها‪ ،‬وهذا هو المنهج الصحيح في تفسير القرآن‪ ،‬وأي تفسير‬
‫ال يتبع هذا المنهج ال بد أن يقع في خطأ جسيم‪ ،‬وأن يتردى في التأويل المنحرف‪،‬‬
‫واالستشهاد الفاسد(((‪.‬‬

‫أما عن كيفية نشوء هذا المنهج المنحرف في التفسير‪ ،‬فيرى العشماوي أن أول‬
‫ظهور له كان على يد الخوارج‪ ،‬الذين اقتطعوا آيات من السياق القرآني‪ ،‬واجتثوها‬
‫من أسباب نزولها‪ ،‬واستعملوها على عموم ألفاظها(((‪ ،‬وبعد هذا االنحراف الخارجي‬
‫«حدث في فترات الظالم الحضاري واالنحطاط العقلي أن نظر الفقهاء هذا االتجاه‬
‫الخاطئ في قاعدة تقول إن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬وبمقتضى هذه‬

‫((( انظر‪ :‬محمد سعيد العشماوي‪ :‬حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص ‪.48‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.260‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.261‬‬

‫‪112‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫القاعدة الفقهية تغير تفسير كثير من آيات القرآن‪ ،‬وأصبح من الجائز ألي جماعة وألي‬
‫فرد أن يستعمل آية على عموم ألفاظها ال على خصوص تنزيلها‪ ،‬وتبع ًا للتركيب اللفظي‬
‫وحده‪ ،‬وللتكوين اللغوي دون سواه»(((‪.‬‬

‫ويبدو أن هوس هدم تلك القاعدة قد سيطر على تفكير العشماوي‪ ،‬حتى إنه جعل‬
‫ضوابط وقواعد التفسير منحصرة أو ً‬
‫ال وآخر ًا في أمر واحد‪ ،‬ال يرى سواه‪ ،‬وهو ارتباط‬
‫تفسير اآليات القرآنية بأسباب تنزيلها‪ ،‬ومن ثم قال‪« :‬إن الضوابط والحدود والقواعد‪،‬‬
‫التي ال بد من التزامها والتقيد بها‪ ،‬حتى ال ينحرف تفسير القرآن‪ ،‬وال يحيد فهم المسلم‪،‬‬
‫هي ‪ -‬أو ً‬
‫ال وآخر ًا ‪ -‬أن يرتبط تفسير اآليات القرآنية بأسباب تنزيلها»(((‪.‬‬

‫وإمعان ًا في ربط اآليات بأسبابها ال بعموم ألفاظها‪ ،‬زعم العشماوي أنه ال يصح‬
‫بحال تعميم اآليات التي نزلت‪ ،‬وفيها أحكام أو وقائع أو تقريرات خاصة بالنبي‬
‫‪ #‬إلى غيره من الناس‪ ،‬وليس المقصود هنا ما نزل من األحكام خاص ًا بالنبي ‪#‬‬
‫وحده‪ ،‬كحل ما زاد على أربع نسوة‪ ،‬أو جواز أن تهب له المرأة نفسها‪ ،‬أو تحريم‬
‫الزواج من نسائه بعد وفاته ‪ ،#‬وإنما المقصود بذلك ‪ -‬عند العشماوي ‪ -‬تلك‬
‫اآليات التي نزلت لتأمر النبي بالحكم بين الناس‪ ،‬أو إقامة دين الله في األرض(((‪،‬‬
‫ِيما شَ َج َر َب ْي َن ُه ْم ُث َّم َل َي ِج ُدوا فِي‬ ‫مثل قوله تعالى‪َ { :‬ف َل َو َر ِّب َك َل ُيؤْ ِم ُنونَ َح َّتى ُي َح ِّك ُم َ‬
‫وك ف َ‬
‫َأ ْنف ُِس ِه ْم َح َرج ًا م َِّما َق َض ْي َت َو ُي َس ِّل ُموا ت َْسلِيم ًا} [سورة النساء‪ ،]65 :‬وقوله تعالى‪ِ { :‬إنَّا‬
‫اس ب َِما َأ َر َاك ال َّل ُه َو َل ت َُك ْن ِل ْل َخا ِئن َ‬
‫ِين خَ ِصيم ًا}‬ ‫َأن َْز ْل َنا ِإ َل ْي َك ا ْلكِ َت َ‬
‫اب بِا ْل َح ِّق ِل َت ْح ُك َم َب ْي َن ال َّن ِ‬
‫[سورة النساء‪.]105 :‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.261‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.63‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪60‬‬

‫‪113‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن الواضح أن غاية العشماوي من هذا كله‪ :‬نفي أي مشروعية لتطبيق الشريعة‪،‬‬
‫أو إقامة حكم إسالمي‪ ،‬أو دولة إسالمية المنهج والوجهة والتشريع‪ ،‬فذلك كله عند‬
‫العشماوي من اختراعات دعاة اإلسالم السياسي‪ ،‬الذين يصفهم بأقسى األلفاظ‪ ،‬وأشد‬
‫العبارات المليئة بالسب والشتم والهمز واللمز‪ ،‬وهم ‪ -‬فيما يرى ‪ -‬إما أناس جهلهم‬
‫مركب‪ ،‬وإما أنهم دهاة بغاة‪ ،‬يعلمون أنهم يجهلون‪ ،‬ويجعلون من هذا الجهل تجارة(((‪.‬‬

‫وقد استخدم العشماوي من القول بخصوص السبب مسوغ ًا لرأيه المنكر والشاذ‪،‬‬
‫والمخالف إلجماع األمة قديم ًا وحديث ًا‪ ،‬والمتمثل في القول بعدم وجوب الحجاب‪،‬‬
‫ال‪ ،‬حيث زعم أن األمر بإدناء الجالبيب الوارد في‬ ‫وأن شعر المرأة ليس بعورة أص ً‬
‫قوله تعالى‪ُ ( :‬يدْ نِ َ‬
‫ين َع َل ْي ِه َّن ِم ْن َج َلبِيبِ ِه َّن) (األحزاب‪ )59 :‬ليس عام ًا وال مقصود ًا به‬
‫التشريع‪ ،‬وإنما ورد «لسبب خاص‪ ،‬هو أن تتميز المؤمنات من غيرهن‪ ،‬فإذا زال سبب‬
‫هذا التميز زالت الضرورة إلدناء الجالبيب‪ ،‬وهو األمر الواقع في العصر الحالي»(((‪.‬‬

‫االتجاه الثاني‪ :‬وإذا كان االتجاه السابق‪ ،‬ويمثله أكثرية العلمانيين قد هاجم‬
‫بشدة القول بأن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب‪ ،‬ودعا إلى ربط اآليات‬
‫وتخصيصها بأسباب نزولها؛ فإن ثمة اتجاه ًا آخر قليل العدد قد رفض فكرة تخصيص‬
‫آيات القرآن بأي علة كانت‪ ،‬سواء أسباب النزول أو غيرها‪.‬‬

‫ومن المتبنين لهذا االتجاه جمال البنا‪ ،‬الذي عارض بشدة قاعدة تخصيص اآليات‬
‫بأسباب نزولها‪ ،‬العتبارات عدة‪ ،‬منها‪ :‬التشكيك في أسباب النزول بالكلية‪ ،‬أو رفض‬
‫تخصيص آيات القرآن بأحاديث آحاد ظنية‪ ،‬وردت مخبرة عن أسباب النزول‪ ،‬ويعبر‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.61 ،60‬‬


‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص ‪.50‬‬

‫‪114‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫جمال البنا عن رأيه هذا‪ ،‬فيقول‪« :‬والحق أن أي تخصيص للقرآن سواء كان بطريق‬
‫أسباب النزول‪ ،‬أو لتعريف ما أبهمه القرآن ولم يحدده بأخبار آحاد ‪ -‬كما هو الحال‬
‫بالفعل ‪ -‬غير جائز»(((‪.‬‬

‫وقد استدل على عدم جواز تخصيص القرآن بعدة أمور منها‪ :‬أن خبر الواحد‬
‫ظني الداللة والقرآن قطعي الداللة‪ ،‬وال يجوز ترجيح الظني على القطعي‪ ،‬ومنها أن‬
‫اتباع الظن مذموم في القرآن‪ ،‬ولو كان القرآن يحتاج لخبر من أخبار اآلحاد لتخصيص‬
‫عمومه لوجب أن يتواتر ذلك الخبر‪ ،‬حتى ال يفوت أحد ًا من المسلمين العمل به‪ ،‬وال‬
‫يكون العامل به عام ً‬
‫ال بالظن‪ ،‬وهو األمر المذموم في القرآن الكريم‪ ،‬وحيث إنه لم‬
‫يتواتر دل ذلك على أن الله ال يريد اتباعه(((‪.‬‬

‫وال شك أن أدلة جمال البنا المذكورة غير صحيحة بالمرة‪ ،‬وهو يخلط خلط ًا‬
‫قبيح ًا بين بابي الثبوت والداللة‪ ،‬ومن ثم يجعل القرآن قطعي الداللة وخبر الواحد‬
‫ظني الداللة‪ ،‬وهو أمر باطل‪ ،‬فخبر الواحد قد يكون قطعي الداللة وقد يكون ظني ًا‪،‬‬
‫ال‪ ،‬وال خالف حول معانيها‪،‬‬ ‫وآيات القرآن نفسها قد تكون داللتها قطعية ال تقبل احتما ً‬
‫وقد تكون داللتها من قبيل المختلف حوله‪ ،‬ثم إن الظن المنهي عنه في القرآن شيء‬
‫مختلف عن مفهوم الظن والقطع المرتبط بباب األخبار متواترها وآحادها‪ ،‬ورغم وهاء‬
‫ما ساقه جمال البنا من أدلة‪ ،‬فإنه يعتبرها «أقوى ما ينسف تفسير المفسرين القدامى‪،‬‬
‫وما أبدعوه من فنون افتاتوا بها على القرآن‪ ،‬ومن أبرزها تخصيص العموم والنسخ أو‬
‫أسباب النزول‪ ،‬وهي تكاد أن تكون لحمة التفسير وسداه»(((‪.‬‬

‫((( جمال البنا‪ :‬تفسير القرآن بين القدامى والمحدثين ص ‪.227‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.228 ،227‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.228‬‬

‫‪115‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫االتجاه الثالث‪ :‬وقد لجأ أصحاب هذا االتجاه إلى الخروج من إشكالية الخالف‬
‫حول أسباب النزول‪ ،‬وهل العبرة فيها بعموم اللفظ أم بخصوص السبب‪ ،‬عن طريق‬
‫حل جديد يتجاوز اختيار أحد الموقفين ‪ -‬العموم أو الخصوص ‪ -‬بطرح مصطلحات‬
‫أو أفكار جديدة‪ ،‬وهي بالطبع ال تخرج عن منظومة األفكار العلمانية‪ ،‬الساعية للتفلت‬
‫من النصوص الشرعية‪.‬‬

‫ومن النماذج المهمة في هذا الصدد ما ذهب إليه عبد المجيد الشرفي من دعوة إلى‬
‫الخروج عن كال الرأيين المعروفين في هذه المسألة‪ ،‬بحيث ال تصير العبرة بخصوص‬
‫السبب وال بعموم اللفظ؛ بل بأمر ثالث جديد‪ ،‬وهو ما وراء السبب الخاص واللفظ‬
‫المستعمل له‪ ،‬بمعنى أنه يتعين البحث عن الغاية والمقصد من النص الشرعي‪ ،‬وليس‬
‫َ‬
‫عن خصوصية سببه أو عموم ألفاظه‪.‬‬

‫وقد انطلق الشرفي في تقرير رأيه هذا من تلك المس ّلمة العلمانية التي ما انفك‬
‫العلمانيون من اإللحاح عليها‪ ،‬والتي تنظر للقرآن باعتبار أنه جاء بحلول ظرفية‪،‬‬
‫استجابت لواقع تاريخي محدد‪ ،‬وعبرت عن وضع معرفي معين‪ ،‬ومن ثم ينبغي‬
‫تدبر الغايات المرجوة من تلك الحلول‪ ،‬حتى ال ننحرف بالرسالة المحمدية عن‬
‫مقاصدها(((‪.‬‬

‫ومن خالل تلك المس ّلمة انتقل الشرفي إلى تقرير رأيه فقال‪« :‬إن تركيزنا على هذه‬
‫الخصائص يؤدي بالضرورة إلى قلب المس َّلمة التي استقرت في الوجدان اإلسالمي‬
‫من القرن الثاني للهجرة‪ ،‬وإلى اإلقرار بأن العبرة ليست بخصوص السبب وال بعموم‬
‫المستعمل له‪ ،‬يتعين البحث عن‬
‫َ‬ ‫اللفظ مع ًا؛ بل فيما وراء السبب الخاص واللفظ‬

‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪ ،157 ،156‬وبسام الجمل‪ :‬أسباب‬
‫النزول ص ‪.32‬‬

‫‪116‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫الغاية والمقصد‪ .‬وفي هذا البحث مجال الختالف التأويل بحسب احتياجات الناس‪،‬‬
‫واختالف بيئاتهم وأزمنهم وثقافتهم وما إلى ذلك‪ ،‬وفيه كذلك مجال للتطور»(((‪.‬‬

‫وبهذا المخرج الجديد وهو االعتبار فقط «بالغاية أو المقصد» من النص ينفتح‬
‫باب التأويل والتفلت من التكاليف الشرعية على مصراعيه أمام هؤالء العلمانيين‪ ،‬إذ‬
‫لم يعد النص عقبة وال مشكلة‪ ،‬ال في خصوص سببه وال في عموم ألفاظه‪ ،‬وإنما العبرة‬
‫بذلك المفهوم الفضفاض عندهم ‪ -‬وهو المقصد والغاية من النص ‪ -‬والذي يفهمه‬
‫كل شخص حسبما يريد‪ ،‬وتبع ًا أليديولوجيته ومذهبيته الفكرية‪.‬‬

‫وال شك أن هذا االعتماد على نظرية المقاصد ‪ -‬وفق ًا للمفهوم العلماني ‪-‬‬
‫سوف يؤول حتم ًا إلى إهدار أحكام الشريعة التفصيلية والشرائع التكليفية‪ ،‬بناء على‬
‫التوظيف العلماني لقاعدة أن أحكام الشريعة لم تشرع إال لتحقيق مقاصدها‪ ،‬وأن تلك‬
‫األحكام تقوم مقام الوسائل بالنسبة للغايات‪ ،‬وبناء على ذلك سيزعم هؤالء القوم أن‬
‫«أحكام الحدود لم تشرع إال لردع مقترفي المعاصي‪ ،‬ومنع الربا لم يشرع إال لتحقيق‬
‫مقصد العدالة‪ ،‬ومنع استغالل القوي للضعيف‪ ،‬وهكذا األمر في كل حكم من أحكام‬
‫الشريعة‪ ،‬فهي ال تحمل أي قيمة في ذاتها؛ وإنما قيمتها من جهة تحقيقها لمقاصدها‪،‬‬
‫فإذا تحقق المقصد من غيرها بحيث إن العصر أو حاجة الناس أوجبت طريق ًا آخر‬
‫يحقق لنا المقصد منها‪ ،‬فال داعي لاللتزام بها‪ ،‬وال يبقى مبرر الستمرارها‪ ،‬وهذا الحكم‬
‫شامل لكل العبادات الشرعية؛ فالشريعة إنما جاءت بها ألنها هي التي تحقق أغراضها‬
‫في زمن الرسالة‪ ،‬وهذا يعني أنها غير مقصودة بالتشريع إال على جهة الوسيلة فقط»(((‪.‬‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.80‬‬


‫((( د‪ .‬سلطان العميري‪ :‬التداول الحداثي لنظرية المقاصد‪ .‬دراسة نقدية‪ ،‬مقال منشور على موقع‬
‫‪/http://saaid.net‬‬

‫‪117‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وهكذا يتضح لنا أن المقاصد التي يدندن حولها العلمانيون ليست هي المقاصد‬
‫التي قررها علماء المسلمون الثقات‪ ،‬كالشاطبي ومن سبقه ومن لحقه‪ ،‬وإنما المقصود‬
‫بها عندهم «تحويل النصوص الجزئية إلى معنى سيال ال ينضبط‪ ،‬وغالب من يردد‬
‫المقاصد في هذا السياق يعنون بالمقاصد تعطيل النصوص الجزئية‪ ،‬ويظن أن هذا هو‬
‫معنى المقاصد‪ ،‬فتحت الفتة العدل والرحمة والتيسير يتم اغتيال النصوص الجزئية‬
‫المخالفة لثقافة الغالب ‪ -‬وهو الغرب‪.(((»-‬‬

‫ومن المهم أن نشير هنا إلى ذلك المسلك المألوف لدى كثير من العلمانيين‬
‫والمتمثل في تضارب اآلراء‪ ،‬وانتقاء ما يناسبهم من قواعد وأدلة إذا وافقت هواهم‪،‬‬
‫والتملص منها‪ ،‬إذا خالفت مرادهم‪.‬‬

‫ومن تجليات هذا المسلك المعيب‪ ،‬أن عبد المجيد الشرفي ‪ -‬رغم تبنيه القول بأن‬
‫العبرة ليست بعموم اللفظ أو بخصوص السبب‪ ،‬بل بما وراءهما ‪ -‬قد أعرض عن رأيه‬
‫هذا‪ ،‬وعول على خصوصية السبب ال عموم اللفظ‪ ،‬ظن ًا منه أن تلك القاعدة تخدم رأيه‬
‫الباطل ‪ -‬والمخالف إلجماع األمة كلها ‪ -‬والمشكك في حرمة شرب الخمر‪ ،‬اعتماد ًا‬
‫على قوله تعالى‪ُ { :‬ق ْل َل َأجِ ُد فِي َما ُأوحِ َي ِإ َل َّي ُم َح َّرم ًا َع َلى َطاعِ ٍم َي ْط َع ُم ُه ِإ َّل َأنْ َي ُكونَ َم ْي َت ًة‬
‫ير َف ِإ َّن ُه ِر ْج ٌس َأ ْو ف ِْسق ًا ُأه َِّل ل ْ‬
‫ِغَي ِر ال َّل ِه ِبهِ} [األنعام‪،]145 :‬‬ ‫َأ ْو َدم ًا َم ْسفُوح ًا َأ ْو َل ْح َم خِ ْن ِز ٍ‬
‫حيث زعم أن هذه اآلية التي تحصر المحرمات في األصناف األربعة المذكورة‪ ،‬وال‬
‫تذكر الخمر من بينها‪ ،‬قد غيبت من قبل الفقهاء «وذلك بالرغم من أن األدبيات الخاصة‬
‫بأسباب النزول تؤكد أن هذه اآلية ‪ -‬إن لم تكن آخر آية أنزلت‪ ،‬وهذا ما نجده في بعض‬
‫المصادر القديمة ‪ -‬فإنها على كل حال من آخر ما نزل‪ ،‬ويقال إنها نزلت يوم عرفة في‬
‫حجة الوداع‪ ،‬رغم ذلك فإن الفقهاء اعتبروا الخمر محرم ًا»(((‪.‬‬
‫((( إبراهيم السكران‪ :‬سلطة الثقافة الغالبة ص ‪.36 ،35‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪.64 ،63‬‬

‫‪118‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫وما ذكره الشرفي من أن آية سورة األنعام المذكورة آخر‪ ،‬أو من آخر ما نزل؛ افتراء‬
‫محض أو جهل فادح‪ ،‬ولم أجد في كتب أسباب النزول أو التفاسير التي رجعت إليها‬
‫من قال ذلك‪ ،‬والغريب أن الشرفي لم يكلف نفسه ‪ -‬احترام ًا للعلم ولقرائه ‪ -‬أن يوثق‬
‫كالمه بمصدر‪ ،‬وإنما ألقى القول على عواهنه‪ ،‬كما هي عادة العلمانيين‪ ،‬ولست أدري‬
‫هل خلط عمد ًا أو خطأ بين هذه اآلية من سورة األنعام‪ ،‬وآية سورة المائدة‪ ،‬التي نزلت‬
‫يوم عرفة في حجة الوداع‪ ،‬وهي قوله تعالى‪{ :‬ا ْل َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم دِي َن ُك ْم َو َأت َْم ْم ُت َع َل ْي ُك ْم‬
‫ال ْس َل َم دِين ًا} [المائدة‪.]3 :‬‬
‫يت َل ُك ُم ْ ِ‬
‫ن ِْع َمتِي َو َر ِض ُ‬

‫وقد سار بسام الجمل على منوال أستاذه‪ ،‬والمشرف على رسالته عبد المجيد‬
‫الشرفي في الموقف من عموم اللفظ وخصوص السبب‪ ،‬حيث عرض لمذهب القائلين‬
‫بعموم اللفظ‪ ،‬ثم لمذهب القائلين بخصوص السبب‪ ،‬وانتقد كال المذهبين‪ ،‬وإن كان‬
‫النصيب األكبر من النقد قد توجه للقائلين بعموم اللفظ‪ ،‬حيث شكك في أغراضهم من‬
‫تبنيهم لهذا القول ووصفها باألغراض النفعية‪.‬‬

‫وتتضارب تفسيرات الجمل لموقف جماهير أهل العلم القائلين بعموم اللفظ‪،‬‬
‫حيث يردها مرة إلى إيجاد مخرج لتضارب روايات أسباب النزول‪ ،‬وليست الرغبة فقط‬
‫في تعميم األحكام على ما شابه أسباب النزول من حاالت وأحداث(((‪ ،‬لكنه يعود في‬
‫موضع آخر للقول بأن «المفسرين وعلماء القرآن دافعوا بشتى الوسائل عن مقالة عموم‬
‫اللفظ دون خصوص السبب‪ ،‬حتى ال تبقى األحكام الواردة في نص المصحف معطلة‬
‫غير نافذة المفعول»(((‪.‬‬

‫وبعيد ًا عن هذا التضارب في تعليل موقف القائلين بعموم اللفظ‪ ،‬فقد انتهى بسام‬
‫الجمل إلى انتقاد كال الفريقين القائلين بالعموم أو الخصوص‪ ،‬فقال‪« :‬واعتقادنا أن‬

‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.358‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.363‬‬
‫‪119‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫التمسك بعموم اللفظ أو بخصوص السبب يترجم عن تعامل نفعي وظرفي مع نص‬
‫المصحف من ناحية‪ ،‬وعن تبرير ألحكام فقهية أفرزتها أحوال المعاش ونظم المجتمع‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬وال ريب في أن توجيه دالالت النص الديني إلى هذه الوجهة يؤدي‬
‫إلى االنحراف عن حقيقة الرسالة المحمدية‪ ،‬وجوهرها»(((‪.‬‬

‫وبعد هذا الرفض لرأي كال االتجاهين‪ ،‬نوه بسام الجمل بمحاولة أستاذه‬
‫الشرفي إليجاد مخرج جديد للقضية برمتها‪ ،‬بعيد ًا عن عمومية اللفظ أو خصوصية‬
‫السبب من خالل «قلب المسلمة التي استقرت في الوجدان اإلسالمي منذ القرن‬
‫الثاني للهجرة‪ ،‬وإلى اإلقرار بأن العبرة ليست بخصوص السبب وال بعموم اللفظ‬
‫المستعمل له يتعين البحث عن الغاية‬
‫َ‬ ‫مع ًا؛ بل في ما وراء السبب الخاص واللفظ‬
‫والمقصد»(((‪.‬‬

‫وثمة نموذج آخر نجده عند نصر أبو زيد ‪ -‬والذي تقدم معنا هجومه الشديد على‬
‫قاعدة أن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب ‪ -‬لكن يبدو أنه في مرحلة الحقة من‬
‫تطوره الفكري قد آثر أن ينتقل بالمسألة إلى منهج آخر‪ ،‬عبر استعمال مصطلح جديد‪،‬‬
‫وهو ما يعرف بالسياق التاريخي االجتماعي لنزول الوحي‪.‬‬

‫وقد اعتبر أبو زيد أن هذا المصطلح يمثل منظور ًا أوسع للتعامل مع النصوص‪،‬‬
‫وعنصر ًا مهم ًا من عناصر منهج تجديدي يسمى بمنهج القراءة السياقية للنصوص‪،‬‬
‫وهو منهج هجين ال يمانع في توظيف منظومة علوم القرآن‪ ،‬خاصة علم أسباب النزول‬
‫وعلم الناسخ والمنسوخ‪ ،‬إلى جانب منظومة علوم اللغة‪ ،‬معتبر ًا تلك األدوات من أهم‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.367‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.368 ،367‬‬

‫‪120‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫أدوات منهج القراءة السياقية(((‪ ،‬لكنه بالطبع ال يقف عندها وحدها‪ ،‬بل يتجاوزها إلى‬
‫مجاالت أخرى خارج دالالت النصوص‪.‬‬

‫وبهذه الطريقة ال يقتصر األمر على االهتمام بأسباب النزول وحدها لفهم المعنى‪،‬‬
‫بل يتسع األمر ليشمل مجمل السياق التاريخي االجتماعي ‪ -‬القرن السابع الميالدي ‪-‬‬
‫لنزول الوحى؛ ألن مثل هذا السياق يمكن للباحث في تعامله مع األحكام والتشريعات‬
‫أن يفرق بين ما هو من إنشاء الوحي أص ً‬
‫ال‪ ،‬وما هو من العادات واألعراف الدينية‬
‫أو االجتماعية السابقة على اإلسالم‪ ،‬كما يمكنه التمييز في هذه األخيرة بين ما تقبله‬
‫ال‪ ،‬وما تقبله تقب ً‬
‫ال جزئي ًا‪ ،‬مع اإليحاء بأهمية‬ ‫ال مع تطويره كالحج مث ً‬
‫ال كام ً‬
‫اإلسالم تقب ً‬
‫تطويره للمسلمين‪ ،‬مثل‪ :‬مسألة العبودية‪ ،‬وقضايا حقوق النساء‪ ،‬والحروب(((‪.‬‬
‫وبد ً‬
‫ال من أن يكون مدار الخالف القديم حول محورين هما‪ :‬عموم اللفظ أم‬
‫خصوص السبب‪ ،‬فإن المسألة تنتقل عند نصر أبو زيد إلى محورين جديدين هما‬
‫المعنى والمغزى‪ ،‬ومن ثم نجده يقول‪« :‬وإذا كان علماء األصول يرون أن أسباب‬
‫النزول ال تعني وقتية األحكام وال اقتصارها على السبب‪ ،‬فوضعوا قاعدة العبرة بعموم‬
‫اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬فإن القراءة السياقية تضع تمييز ًا بين المعاني والدالالت‬
‫التاريخية المستنبطة من السياق من جهة‪ ،‬وبين المغزى الذي يدل عليه المعنى في‬
‫السياق التاريخي االجتماعي للتفسير من جهة أخرى‪ ،‬وهذا التمييز هام جد ًا بشرط أن‬
‫يكون المغزى نابع ًا من المعنى‪ ،‬ومرتبط ًا به ارتباط ًا وثيق ًا مثل ارتباط النتيجة بالسبب‬
‫أو المعلول بالعلة‪ ،‬وأال يكون تعبير ًا عن هوى المفسر‪ ،‬ووثب ًا على المعنى أو إسقاط ًا‬
‫عليه»(((‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ص ‪.202‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.202‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ص ‪.203 ،202‬‬

‫‪121‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وبهذا التحايل العلماني الجديد‪ ،‬فإن من السهل جد ًا في التعامل مع كل مسألة‬


‫شرعية تثير الحساسية أو الحرج لدى العلمانيين ‪ -‬مثل قضايا المرأة والحدود والجهاد‬
‫وما أشبهها ‪ -‬أن يقال إن معنى النص يقتضي المنع من كذا‪ ،‬لكن هذا المعنى ليس‬
‫مقصود ًا‪ ،‬وإنما هو نتاج للسياق التاريخي االجتماعي في القرن السابع الميالدي أي‬
‫زمن نزول الوحي‪ ،‬والمقصود الحقيقي هو المغزى‪ ،‬وليس المعنى الظاهر‪.‬‬

‫وبالطبع فإن هذا المغزى الفضفاض‪ ،‬يمكن لكل أحد أن يوجهه كيف شاء‬
‫بحسب ضغوط الواقع‪ ،‬والرغبة في التفلت من التشريعات‪ ،‬وتطويع أحكام الشريعة‪،‬‬
‫ولي أعناق نصوصها‪ ،‬لتتماشى مع آراء الحضارة الغربية الحديثة‪ ،‬ونتيجة ذلك كله أن‬
‫ّ‬
‫تنحى شريعة الله بالكلية‪ ،‬وأن يتحول األمر إلى فوضى ينعق فيها كل من يريد التخلص‬
‫من كل ما ال يوافق هواه من أحكام شرعية‪.‬‬

‫ومن النماذج األخرى التي تندرج في عداد هذا االتجاه ما ذهب إليه عبد الجواد‬
‫يس في تناوله لقضية أسباب النزول‪ ،‬وذلك ضمن فكرته العامة التي يدعو إليها وهي‬
‫التفرقة بين الدين ‪ -‬كما هو في نفسه ‪ -‬والتدين‪ ،‬كما يتجلى في فهم وممارسات أتباع‬
‫الدين أي ًا كان هذا الدين‪.‬‬

‫وقد انتقد عبد الجواد يس بشدة العلماء المتقدمين‪ ،‬الذين تبنوا مقولة النزول‬
‫المسبق والمجمل للقرآن الكريم‪ ،‬ووجوده المتقدم في اللوح المحفوظ‪ ،‬بما يعني أن‬
‫هناك وجود ًا سابق ًا للقرآن يتقدم نزوله هنا في الواقع الدنيوي‪ ،‬وهذه المقولة في رأيه‬
‫سوف تقطع الطريق مسبق ًا أمام أي نقاش حول التفاعل الطبيعي بين النص واالجتماع‪،‬‬
‫كما أنها تسلب أسباب النزول باعتبارها مظهر ًا مباشر ًا لهذا التفاعل أية قيمة فعل‬
‫حقيقية‪ ،‬إضافة إلى أن الممارسات التفسيرية والفقهية كانت تضمر نوع ًا من القطع‬
‫بين النص واالجتماع‪ ،‬لحساب القول باألصل المفارق والمسبق للنص» وهو النزوع‬

‫‪122‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫الذي سيتم تقنينه الحق ًا في علم األصول بقاعدة استباقية‪ ،‬تقول‪ :‬العبرة بعموم اللفظ‬
‫ال بخصوص السبب»(((‪.‬‬

‫ووفق ًا لهذه الرؤية‪ ،‬فإن عبد الجواد يس يرى أن المشكلة أو المسألة األساسية‬
‫في استنباط النص حينئذ لن تكون متوقفة على ما إذا كانت العبرة بعموم اللفظ أو‬
‫بخصوص السبب «ألنه أي ًا كان المعنى المستنبط‪ ،‬لن يتغير موقع أسباب النزول كمظهر‬
‫للتفاعل بين النص واالجتماع‪ ،‬وكعالمة على الحقيه األول على الثاني‪ ،‬وبالتالي على‬
‫زمنية النص التشريعي ومحليته‪ ،‬المسألة إذن ال تتعلق بداللة النص التشريعي (مبحث‬
‫أصولي فقهي) بل باجتماعانية هذا النص‪ ،‬التي تفرض التساؤل عن قوة سريانية‬
‫اإللزامية في الزمان (مبحث تاريخي أنثروبولوجي قانوني ديني) وحينئذ سيتوفر لدينا‬
‫منطوق جديد لمسألة جديدة»(((‪.‬‬

‫ويفرق يس بين أن تكون العبرة بمجرد النصية‪ ،‬أو أن تكون بمضمون النص‪،‬‬
‫فالعبرة بمجرد النصية «تعني أن مجرد ورود الحكم في نص يعني أنه صار مطلق ًا في‬
‫الزمان‪ ،‬بغض النظر عن المحيط االجتماعي الذى استدعى وروده‪ ،‬والذى تم تفصيل‬
‫النص على مقاييسه وحاجاته‪ ،‬وما إذا كان هذا المحيط االجتماعي ال يزال قائم ًا بهياكله‬
‫وأبنيته االقتصادية والثقافية أم ال‪ ،‬أما كون العبرة بمضمون النص‪ ،‬فيعني وجوب النظر‬
‫في هذا المضمون‪ ،‬كي نفرق بين المطلق الذي ينتمي ألصل الدين‪ ،‬اإليمان بالله‬
‫واألخالق الكلية‪ ،‬فهو ثابت ممتد في الزمان‪ ،‬وبين النسبي الذي يتعلق باالجتماع‬
‫المباشر كالتشريع‪ ،‬فهو متغير بضرورة االجتماع‪ ،‬حتى لو تضمنه نص»(((‪.‬‬

‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.74‬‬


‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.75‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.75‬‬

‫‪123‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وأخير ًا يخلص الرجل إلى ما يراه ح ً‬


‫ال‪ ،‬ومخرج ًا من ثنائية العبرة بعموم النصوص‬
‫أو بخصوص السبب‪ ،‬ويتمثل ذلك في حل ثالث وهو «مراد النص» بما يعني أن «العبرة‬
‫في داللة النص أي نص‪ ،‬ليس بعموم اللفظ وال بخصوص السبب‪ ،‬بل هي ضمن‬
‫اعتبارات أخرى مركبة بمراد النص»(((‪.‬‬
‫وإذا تساءلنا عن المقصود بمراد النص هذا‪ ،‬والذي سيمثل مخرج ًا وح ً‬
‫ال للمشكلة‬
‫كلي ًا‪ ،‬فسوف نجد أنه يعني أمور ًا عدة‪ ،‬أهمها أن إدراك المراد من النص أي فهمه سيخضع‬
‫في النهاية لعملية استدالل من خارجه‪ ،‬أي من قبل المتعاطي مع النص‪ ،‬بما يعني أن‬
‫عملية االستدالل خارجية دائم ًا‪ ،‬والنص ال يشرح ذاته إال عبر ثقافة المتلقي(((‪.‬‬

‫وهكذا نعود بعد كل هذا اللف والدوران إلى أن العبرة ليست في عموم اللفظ أو‬
‫في خصوص السبب‪ ،‬والذي سوف يربط النص بتاريخيته التي ال يفهم إال من خاللها؛‬
‫ألن النص عند هؤالء العلمانيين ال ينفك عن واقع تاريخي أول نشأ فيه‪ ،‬ويستحيل‬
‫التعامل مع النص إال من خالل الوقائع األولى التي نزل مصاحب ًا لها(((‪ ،‬بما يؤول في‬
‫نهاية األمر إلى نسبية هذا النص وصالحيته فقط للواقع الذي نزل فيه‪ ،‬وعدم إلزاميته‬
‫للعصور الالحقة‪ ،‬وتلك هي الفكرة الرئيسة التي يناور ويداور العلمانيون لترسيخها‬
‫بين المسلمين‪.‬‬

‫‪ -3‬تعقيب نقدي‪:‬‬

‫وبعد أن عرضنا ‪ -‬فيما سبق ‪ -‬لموقف العلمانيين من قاعدة «العبرة بعموم اللفظ‬
‫ال بخصوص السبب» وتبين لنا أن التوجه العام لديهم ‪ -‬سوى استثناءات قليلة ال تمثل‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.76‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.77 ،76‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.78 ،77‬‬

‫‪124‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫شيئ ًا ذا بال ‪ -‬يميل إلى رفض تلك القاعدة‪ ،‬ونقدها بشدها‪ ،‬واختيار القول بخصوصية‬
‫السبب ال عموم اللفظ‪ ،‬أو على أحسن األحوال اختيار مخرج جديد من تلك الثنائية‬
‫يؤول إلى النتيجة نفسها‪ ،‬وهي التفلت من عمومية النصوص وداللتها‪ ،‬وانطباقها على‬
‫سائر المكلفين أي ًا كان زمانهم أو مكانهم أو طبيعتهم؛ فثمة مالحظات عدة يجدر بنا أن‬
‫نشير إليها حول هذا الموقف العلماني‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬تبين لنا مما سبق أن مذهب جمهور علماء المسلمين قديم ًا وحديث ًا هو‬
‫القول بعموم اللفظ ال بخصوص السبب(((‪ ،‬وتأكيدهم على أهمية مراعاة هذه القاعدة‬
‫للمفسر واألصولي والفقيه‪ ،‬وكما نبه الشيخ السعدي فإن «هذه القاعدة نافعة جد ًا‪،‬‬
‫بمراعاتها يحصل للعبد خير كثير وعلم غزير‪ ،‬وبإهمالها وعدم مالحظتها يفوته علم‬
‫كثير‪ ،‬ويقع الغلط واالرتباك الخطير‪ ،‬وهذا األصل اتفق عليه المحققون من أهل‬
‫األصول وغيرهم‪ ...‬فمراعاة هذه القاعدة أكبر عون على معرفة حدود ما أنزل الله على‬
‫رسوله والقيام بها‪ ،‬والقرآن قد جمع أجل المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضح األلفاظ‬
‫وأحسنها»(((‪.‬‬

‫وصحيح أن هناك جماعة قليلة خالفت في ذلك‪ ،‬لكنهم ال يقصدون بحال أن‬
‫األحكام الشرعية النازلة على سبب تختص بالشخص المعين الذي نزلت فيه اآلية‬
‫وال تتعداه‪ ،‬لكن مرادهم أنها مختصة به من جهة النزول‪ ،‬ويدخل معه غيره من طريق‬

‫((( انظر‪ :‬ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪ ،44/31‬وابن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم ‪ ،19/3‬ود‪ .‬محمد أبو‬
‫شهبة‪ :‬المدخل لدراسة القرآن الكريم ص ‪ ،155‬وقد اعترف بعض العلمانيين بذلك‪ ،‬فانظر‪ :‬بسام‬
‫الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.354‬‬
‫((( عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ :‬القواعد الحسان في تفسير القرآن ص ‪.12 ،11‬‬

‫‪125‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫القياس‪ ،‬ال من طريق تعميم اللفظ (((‪ ،‬وبهذا فإن «الخالف في هذه القضية يكاد يكون‬
‫لفظي ًا‪ ،‬وبخاصة في القرآن الكريم»(((‪.‬‬

‫أما القول الذي تبناه العلمانيون من قصر األحكام على أسبابها ‪ -‬شخص ًا أو بيئة أو‬
‫زمان ًا ‪ -‬فقد وصفه ابن تيمية بأنه ال يقوله مسلم وال عاقل على اإلطالق‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫من التنازع في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم ال؟ «فلم يقل أحد من‬
‫علماء المسلمين‪ :‬إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين‪ ،‬وإنما غاية‬
‫ما يقال‪ :‬إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه‪ ،‬وال يكون العموم فيها بحسب‬
‫اللفظ‪ ،‬واآلية التي لها سبب معين‪ ،‬إن كانت أمر ًا ونهي ًا فهي متناولة لذلك الشخص‬
‫ولغيره ممن كان بمنزلته‪ ،‬وإن كانت خبر ًا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص‬
‫وغيره‪ ،‬ممن كان بمنزلته أيض ًا»(((‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬من يقرأ كتابات العلمانيين حول هذه المسألة يدرك بوضوح أنهم لم يتناولوها‬
‫كواحدة من مسائل علوم القرآن‪ ،‬أو أصول الفقه التي تهدف لبيان معاني آيات القرآن‪،‬‬
‫أو وضع أصول االستنباط لألحكام الشرعية‪ ،‬كما أنهم لم يدرسوا المسألة بموضوعية‬
‫وإنصاف‪ ،‬وبحث عن القول الراجح المؤيد باألدلة‪.‬‬

‫وإنما المقصد األساسي من هذا السعي العلماني الحثيث لتقرير القول بخصوص‬
‫السبب ال بعموم اللفظ‪ :‬هو تكريس مبدأ تاريخية القرآن الكريم وداللة آياته‪ ،‬ووقتية‬
‫األحكام الشرعية وارتباطها بزمانها‪ ،‬وعدم صالحيتها للعصور الالحقة‪ ،‬التي يحق‬

‫((( انظر‪ :‬الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،126/1‬ود‪ .‬محمد أبو شهبة‪ :‬المدخل لدراسة القرآن الكريم ص‬
‫‪ ،157‬ود‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬المحرر في علوم القرآن ص ‪.138‬‬
‫((( د‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان ‪.346/1‬‬
‫((( ابن تيمية‪ :‬مقدمة في أصول التفسير ص ‪.37‬‬

‫‪126‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ألهلها أن يختاروا من تلك األحكام ما شاءوا‪ ،‬وأن يتخلصوا مما شاءوا‪ ،‬بحجة أن‬
‫تلك األحكام خاصة بمن نزلت فيهم وليس عامة لجميع المكلفين‪.‬‬

‫وإذا ضممنا قول العلمانيين بأن كل آيات القرآن نزلت على سبب‪ ،‬ولم تنزل ابتداء‪،‬‬
‫مع قولهم بأن العبرة بخصوص السبب ال بعموم اللفظ؛ فنتيجة ذلك أن كل آيات القرآن‬
‫خاصة بأسبابها‪ ،‬وال تصلح للتعميم في حق سائر المكلفين‪.‬‬

‫وهكذا فإن ما ذهب إليه العلمانيون من ربط األحكام التشريعية بأسباب نزولها‬
‫وقصرها على من نزلت فيهم دون سائر األمة يعني «تاريخية المضمون‪ ،‬ونسخ المفهوم‬
‫في هذه اآليات‪ ،‬وبقاء اللفظ دون وظيفة‪ ،‬اللهم إال التالوة التعبدية‪ ،‬األمر الذي تتساوى‬
‫فيه النصوص القرآنية عندئذ مع النصوص الميتة والدارسة»(((‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬ليست الفائدة من القول بعموم اللفظ ال بخصوص السبب محصورة في‬
‫مجال استنباط األحكام الفقهية فحسب‪ ،‬بل لهذه القاعدة فائدة أخرى مهمة جد ًا‬
‫متعلقة بتنزيل اآليات القرآنية على الواقع في كل زمان ومكان‪ ،‬حتى لو كانت تلك‬
‫اآليات نزلت في واقع مختلف‪.‬‬

‫وقد استدل المفسرون بهذه القاعدة على قضية تنزيل اآليات على الواقع‪ ،‬من‬
‫منطلق أن كل حادثة نزل بشأنها النص القرآني‪ ،‬فإنه غير مقصور عليها‪ ،‬بل يعم كل‬
‫واقعة كانت‪ ،‬طالما أنها شابهت الحدث الرئيس الذي من أجله أنزلت هذه اآليات(((‪.‬‬

‫وتعد هذه الفائدة مما يتناقض تمام ًا مع التوجه العلماني‪ ،‬إذ بينما يبذل العلمانيون‬
‫أقصى جهودهم لحصر آيات القرآن في الزمان والمكان والواقع واألشخاص الذين‬

‫((( د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني ص ‪.247‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد العزيز الضامر‪ :‬تنزيل اآليات على الواقع عند المفسرين دراسة وتطبيق ص ‪.47‬‬

‫‪127‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫نزلت فيهم‪ ،‬فإن هذه القاعدة توسع من مدلول اآليات وعطائها‪ ،‬وتنزل معانيها‬
‫وهداياتها في كل زمان ومكان‪ ،‬ويعتبر تنزيل اآليات على الواقع من الفنون المهمة التي‬
‫تحتاج إلى دراية وبصر تام بمرادات الوحي ومناطات التطبيق‪ ،‬وقد عالجه المفسرون‬
‫على تفاوت بينهم ما بين مستقل ومستكثر (((‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬لم تخل مواقف العلمانيين في هذا الباب من تناقضات فجة‪ ،‬وهدم لما قرروه‬
‫إذا خالف أهواءهم‪ ،‬وقد رأينا منهم من خالف في هذه المسألة بالكلية مثل جمال البنا‪،‬‬
‫كما وجدت تناقضات على مستوى الشخص الواحد‪ ،‬مثل محمد سعيد العشماوي الذي‬
‫قرر في بعض كتبه قبول عموم األحكام األخالقية في القرآن‪ ،‬حتى لو كانت نازلة في أهل‬
‫الكتاب بحجة أن القواعد األخالقية ال تختلف من أمة أخرى‪ ،‬لكنه في موضع آخر جعل‬
‫آيات القرآن مخصوصة بأسبابها‪ ،‬حتى لو كانت متضمنة لنظم أخالقية(((‪.‬‬

‫ومن التناقضات الفجة لدى العشماوي أنه يقبل بعموم اآليات التي نزلت في أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬ونهت عن الغلو في الدين كقوله تعالى‪َ { :‬يا َأ ْه َل ا ْلكِ َت ِ‬
‫اب َل تَغْ ُلوا فِي دِين ُِك ْم}‬
‫[سورة النساء‪ ]171 :‬ألنها تفيده في محاربة من يصفهم بجماعات الغلو اإلسالمي‪،‬‬
‫لكنه في الوقت نفسه يرى أن اآليات الواردة في وصف من يحكم بغير ما أنزل الله‬
‫بالكفر أو الفسق أو الظلم خاصة بأهل الكتاب وحدهم وال يصح تعميمها في حق‬
‫سائر المسلمين((((‪ ،‬وبهذه الطريقة «فالنهي ألهل الكتاب عن الغلو ‪ -‬عند العشماوي ‪-‬‬
‫مقبول تعميمه على المسلمين‪ ،‬أما النهي ألهل الكتاب عن ترك الحكم بما أنزل الله‬
‫فهو عند العشماوي خاص بأهل الكتاب‪ ،‬وال شأن فيه لحاكم مسلم أو شعب مسلم‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬قطب الريسوني‪ :‬النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر ص ‪.121‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني ص ‪.269 ،268‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد سعيد العشماوي‪ :‬معالم اإلسالم ص ‪ً 60 ،56‬‬
‫نقال عن د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو‬
‫العلماني ص ‪.268 ،267‬‬

‫‪128‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫أو فرد مسلم!! إن الرجل قد تفوق على ما سمي بالنظام الدولي الجديد في ازدواج‬
‫المكاييل والمقاييس التي تقاس بها األمور»(((‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬من المستغرب أن هؤالء النفر من العلمانيين الذين ما انفكوا ينادون بفصل‬
‫الدين عن الدولة‪ ،‬ويرون وجوب تطبيق القوانين الوضعية واحترامها‪ ،‬ال يجدون أدنى‬
‫بأس في تخصيص نصوص الشرع بأسبابها‪ ،‬بينما ال يطبقون القاعدة نفسها فيما يتعلق‬
‫بالقوانين الوضعية‪ ،‬مع أن القوانين في الدنيا كلها قد تصدر ألسباب خاصة في أحيان‬
‫كثيرة ثم يكون حكمها عام ًا على الجميع(((‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬ومع أن مسألة األدلة الشرعية وعمل الصحابة ال تمثل شيئ ًا ذا بال في‬
‫الخطاب العلماني‪ ،‬وال حرج لديهم في التملص منها‪ ،‬إال أنه يجدر بنا أن نشير إلى‬
‫وجود الكثير من أدلة السنة النبوية وفهم الصحابة وعملهم المطرد‪ ،‬إضافة لداللة اللغة‬
‫والعقل((( على ترجيح القول بأن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪.‬‬

‫ومن األحاديث النبوية الدالة على ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه ٍ‪َ :‬أ َّن‬
‫اب ِم ِن ا ْم َر َأ ٍة ُق ْب َل ًة‪َ ،‬ف َأ َتى ال َّنبِ َّي ‪َ #‬ف َأ ْخ َب َر ُه‪َ ،‬ف َأ ْنزَ َل ُ‬
‫الله‪َ { :‬و َأق ِِم َّ‬
‫الصال َة َط َر َف ِي‬ ‫ال َأ َص َ‬ ‫َر ُج ً‬
‫الر ُج ُل‪َ :‬يا‬ ‫ال َّ‬‫ات} [سورة هود‪َ ]114 :‬ف َق َ‬ ‫ال َّن َها ِر َو ُز َلف ًا م َِن ال َّل ْي ِل ِإنَّ ا ْل َح َس َن ِ‬
‫ات ُي ْذه ِْب َن َّ‬
‫الس ِّي َئ ِ‬
‫يع ُأ َّمتِي ُك ِّل ِه ْم»(((‪.‬‬‫ال‪ :‬لِ َج ِم ِ‬ ‫الله‪َ ،‬ألِي َه َذا؟ َق َ‬ ‫ول ِ‬ ‫َر ُس َ‬

‫((( د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني ص ‪.268‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬نور الدين عتر‪ :‬علوم القرآن الكريم ص ‪ ،53‬ود‪ .‬أحمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر‬
‫في علوم القرآن الكريم ص ‪.270‬‬
‫((( وفي تفصيل تلك األدلة انظر‪ :‬الغزالي‪ :‬المستصفى ص ‪ ،236‬والرازي‪ :‬المحصول ‪،125/3‬‬
‫والطوفي‪ :‬شرح مختصر الروضة ‪ ،503/2‬وابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪ ،29/31‬والسيوطي‪:‬‬
‫اإلتقان ‪ ،110/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،127/1‬والشنقيطي‪ :‬مذكرة في أصول الفقه ص‬
‫‪ ،251‬ود‪ .‬خالد السبت‪ :‬قواعد التفسير جمع ًا ودراسة ‪.594/2‬‬
‫((( رواه البخاري (‪ )526‬ومسلم (‪.)2763‬‬

‫‪129‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫فهذا الصحابي الذي قبل المرأة ونزلت فيه اآلية «قال للنبي‪ :‬ألي هذا وحدي‬
‫يا رسول الله‪ ،‬ومعنى ذلك هل حكم هذه اآلية يختص بي ألني سبب نزولها؟ فأفتاه‬
‫النبي ‪ #‬بأن العبرة بعموم لفظ‪(( :‬إن الحسنات يذهبن السيئات)) ال بخصوص السبب‬
‫حيث قال له‪( :‬بل ألمتي كلهم) وهو نص نبوي في محل النزاع»(((‪.‬‬
‫الله ‪َ #‬ط َر َق ُه َو َف ِ‬
‫اط َم َة بِ ْن َت ال َّنبِ ِّي‬ ‫ول ِ‬ ‫وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه َأ َّن َر ُس َ‬
‫الله‪َ ،‬فإِ َذا َشا َء َأ ْن‬ ‫الله‪َ ،‬أن ُْف ُسنَا بِ َي ِد ِ‬
‫ول ِ‬ ‫ان؟»‪َ .‬ف ُق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ال‪َ :‬أ َل ُت َص ِّل َي ِ‬ ‫َع َل ْي ِه َّ‬
‫الس َل ُم َل ْي َل ًة َف َق َ‬
‫ين ُق ْلنَا َذلِ َك‪َ ،‬و َل ْم َي ْر ِج ْع إِ َل َّي َش ْيئ ًا‪ُ ،‬ث َّم َس ِم ْع ُت ُه َو ُه َو ُم َو ٍّل َي ْض ِر ُب‬
‫َي ْب َع َثنَا َب َع َثنَا‪َ ،‬فان َْص َر َف ِح َ‬
‫اإلن َْسانُ َأ ْك َث َر شَ ْي ٍء َج َدال} [سورة الكهف‪.(((]54 :‬‬ ‫ول‪َ { :‬و َكانَ ِ‬ ‫َف ِخ َذ ُه َو ُه َو َي ُق ُ‬

‫وفي هذا الحديث جعل النبي ‪ #‬علي ًا داخ ً‬


‫ال في اآلية مع أن سبب نزولها الكفار‬
‫الذين يجادلون في القرآن‪ .‬وخطابه ‪ #‬لواحد كخطابه للجميع(((‪.‬‬

‫وأما منهج الصحابة في التعامل مع هذه المسألة‪ ،‬فقد نقل البعض إجماعهم «على‬
‫تعميم األحكام الواردة على أسباب خاصة‪ ،‬بيان ذلك‪ :‬أن أكثر العمومات ‪ -‬قد وردت‬
‫على أسباب خاصة‪ ،‬فمث ً‬
‫ال‪ :‬آيات الظهار نزلت في شأن أوس بن الصامت وزوجته‪،‬‬
‫وآيات اللعان نزلت في شأن عويمر العجالني وزوجته‪ ،‬وقيل‪ :‬إنها نزلت في هالل بن‬
‫أمية وزوجته‪ ،‬وآية السرقة قد نزلت في سرقة رداء صفوان بن أمية‪ ،‬وآية القذف نزلت‬
‫في شأن عائشة ‪ -‬رضي الله عن الجميع ‪ -‬واألمثلة كثيرة‪ ،‬والصحابة ‪ -‬رضي الله‬
‫عنهم ‪ -‬قد عمموا أحكام هذه اآليات من غير نكير‪ ،‬فدل على أن األحكام ال تخصص‬
‫بأسبابها»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬الشنقيطي‪ :‬مذكرة في أصول الفقه ص ‪.251‬‬


‫((( رواه البخاري (‪ )1127‬ومسلم (‪.)775‬‬
‫((( انظر‪ :‬الشنقيطي‪ :‬مذكرة في أصول الفقه ص ‪.251‬‬
‫((( د‪ .‬عبد الكريم النملة‪ :‬المهذب في أصول الفقه ‪.1534/4‬‬

‫‪130‬‬
‫الفصل األول‬
‫موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬

‫ومن األدلة على رسوخ هذا الفهم لدى الصحابة ما في الصحيحين عن كعب بن‬
‫الله ‪ #‬بِا ْل ُحدَ ْيبِ َي ِة َو َر ْأ ِسي َيت ََها َف ُت َق ْم ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫ول ِ‬ ‫ف َع َل َّي َر ُس ُ‬
‫عجرة رضي الله عنه قال‪َ :‬و َق َ‬
‫ال ِف َّي َنزَ َل ْت‬ ‫اح ِلقْ ‪َ ،‬ق َ‬ ‫اح ِلقْ َر ْأ َس َك‪َ ،‬أ ْو َق َ‬
‫ال‪ْ :‬‬ ‫ال‪َ :‬ف ْ‬ ‫يك َه َو ُّام َك‪ُ ،‬ق ْل ُت‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬ق َ‬ ‫ال‪ُ :‬ي ْؤ ِذ َ‬ ‫َف َق َ‬
‫اص ًة‪َ ،‬و ِه َي َل ُك ْم َع َّام ًة ‪َ { -‬ف َم ْن َكانَ ِم ْن ُك ْم َم ِريض ًا َأ ْو‬‫َه ِذ ِه ْال َي ُة ‪ -‬وفي رواية َنزَ َل ْت ِف َّي َخ َّ‬
‫ال ال َّنبِ ُّي ‪ُ :#‬ص ْم َث َل َث َة َأ َّيا ٍم‪َ ،‬أ ْو‬ ‫ِب ِه َأ ًذى م ِْن َر ْأسِ هِ} [سورة البقرة‪ ]196 :‬إلى ِ‬
‫آخ ِر َها‪َ ،‬ف َق َ‬
‫َت َصدَّ ْق بِ َف َر ٍق َب ْي َن ِس َّت ٍة‪َ ،‬أ ِو ان ُْس ْك بِ َما َت َي َّس َر»(((‪.‬‬

‫وخالصة ما نستفيده من هذه األدلة ومن غيرها‪ ،‬هي أن الشريعة جاءت لعموم‬
‫المكلفين في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله األرض ومن عليها‪ ،‬وال يستثنى من‬
‫ذلك إال ما قام الدليل على خصوصيته‪ ،‬وكما قال ابن حزم رحمه الله فقد «أيقنا أنه ‪#‬‬
‫بعث إلى كل من كان حي ًا في عصره في معمور األرض من إنسي أو جني‪ ،‬وإلى من ولد‬
‫بعده إلى يوم القيامة‪ ،‬وليحكم في كل عين وعرض يخلقهما تعالى إلى يوم القيامة‪ ،‬فلما‬
‫صح ذلك بإجماع األمة المتيقن المقطوع به المبلغ إلى النبي ‪ ،#‬وبالنصوص الثابتة‬
‫بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة ولزومه اإلنس والجن‪ ،‬وعلمنا بضرورة الحس‬
‫أنه ال سبيل إلى مشاهدته عليه السالم من يأتي بعده‪ ،‬كان أمره ‪ #‬لواحد من النوع‬
‫وفي واحد من النوع أمر ًا في النوع كله وللنوع كله‪ ،‬وبين هذا أن ما كان من الشريعة‬
‫خاص ًا لواحد أو لقوم‪ ،‬فقد بينه عليه السالم نص ًا‪ ،‬وأعلم أنه خصوص‪ ...‬وال خالف‬
‫بين أحد في أن أمره ألصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون؛ أمر لكل من يأتي إلى‬
‫يوم القيامة»(((‪.‬‬

‫((( رواه البخاري (‪ )1816 ،1815‬ومسلم (‪.)1201‬‬


‫((( ابن حزم‪ :‬اإلحكام في أصول األحكام ‪.89 ،88/3‬‬

‫‪131‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬مجاالت التوظيف‬
‫العلماني ألسباب النزول‬

‫وحيتوي عىل أربعة مباحث‪:‬‬

‫» »املبحث األول‪ :‬توظيف أسباب النزول‬


‫إلثبات العالقة بني النص والواقع ‪.‬‬

‫» »املبحث الثاين‪ :‬توظيف أسباب النزول‬


‫إلثبات تارخيية القرآن الكريم‪.‬‬

‫» »املبحث الثالث‪ :‬توظيف أسباب النزول‬


‫إلثبات برشية القرآن الكريم‪ ،‬وأنسنته‪.‬‬

‫» »املبحث الرابع‪ :‬وظيف أسباب النزول‪،‬‬


‫إلثبات وقتية األحكام الرشعية‪ ،‬وقابليتها‬
‫للتغيري‪.‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫متهيد عن فوائد املعرفة بأسباب النزول‪:‬‬


‫وقبل أن نستعرض ‪ -‬تفصي ً‬
‫ال ‪ -‬كيفية توظيف العلمانيين ألسباب النزول‪ ،‬فمن‬
‫المهم أن نقرر ابتداء أن ألسباب النزول العديد من الفوائد والثمرات‪ ،‬وأنه ال ضير‬
‫مطلق ًا في توظيفها لتحصيل تلك الثمرات والفوائد‪ ،‬ولكن اإلشكال الحقيقي هو أن‬
‫أسباب النزول عند علماء المسلمين وظفت لفهم النص‪ ،‬وبيان معناه‪ ،‬وإزالة ما يطرأ‬
‫عليه من إشكال‪ ،‬بينما وظفت عند العلمانيين ألغراض أخرى‪ ،‬آلت إلى نبذ النص‬
‫القرآني وتعطيله‪ ،‬وتفريغه من كل معاني الهداية والداللة على حكم الله تعالى‪.‬‬

‫وإذا تتبعنا ما ذكره علماء المسلمين ‪ -‬قديم ًا وحديث ًا ‪ -‬من فوائد ألسباب النزول‪،‬‬
‫فسوف نجدهم يبدأون غالب ًا بالرد على من زعموا خلو أسباب النزول من فائدة‬
‫حقيقية‪ ،‬واقتصارها على مجرد المعرفة بالتاريخ‪ ،‬وفي ذلك يقول الزركشي‪« :‬وأخطأ‬
‫من زعم أنه ال طائل تحته لجريانه مجرى التاريخ‪ ،‬وليس كذلك بل له فوائد»(((‪ .‬وتابعه‬
‫السيوطي على المعنى نفسه فقال‪« :‬زعم زاعم أنه ال طائل تحت هذا الفن لجريانه‬
‫مجرى التاريخ‪ ،‬وأخطأ في ذلك بل له فوائد»(((‪.‬‬

‫وإضافة لهذا الرد على من زعموا عدم وجود فائدة ألسباب النزول‪ ،‬فقد استفاض‬
‫المصنفون في علوم القرآن في تعداد ثمرات الوقوف على أسباب النزول‪ ،‬وأهميتها‬
‫البالغة في حسن فهم آيات القرآن‪ ،‬وبيان المراد منها‪ ،‬وإزالة ما قد يعتري فهمهما من‬
‫إشكاالت‪ ،‬ربما طرأت في أذهان البعض «بحيث لو فقد ذكر السبب؛ لم يعرف من‬
‫المنزل معناه على الخصوص‪ ،‬دون تطرق االحتماالت وتوجه اإلشكاالت»(((‪.‬‬

‫((( الزركشي‪ :‬البرهان في علوم القرآن ‪.22/1‬‬


‫((( اإلتقان في علوم القرآن ‪.107/1‬‬
‫((( الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪.152/4‬‬

‫‪135‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وقد اعتبر عدد من األصوليين والمفسرين المعرفة بأسباب النزول شرط ًا في جواز‬
‫التصدي لتفسير كتاب الله سبحانه‪ ،‬أو الوصول لمرتبة االجتهاد في استنباط األحكام‬
‫الفقهية(((‪ ،‬وهو ما يدل على أن اإلحاطة بأسباب النزول ليست مجرد ترف تاريخي‪ ،‬بل‬
‫هي سبيل ال غنى عنه في استخراج داللة النص واستجالء مراده‪ ،‬وهذا ما أعان الفقهاء‬
‫على تعدية الحكم من الوقائع الجزئية التي ورد فيها النص إلى الوقائع المشابهة‪،‬‬
‫استهداء بما في النص من دالالت(((‪.‬‬

‫ومن أهم فوائد المعرفة بأسباب النزول ما يلي(((‪:‬‬

‫‪ -1‬معرفة سبب النزول من أهم ما يعين على فهم معنى اآلية‪ ،‬ودفع اإلشكال‬
‫عنها(((‪ ،‬كما أن «الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه واإلشكاالت‪ ،‬ومورد‬
‫للنصوص الظاهرة مورد اإلجمال حتى يقع االختالف‪ ،‬وذلك مظنة وقوع النزاع»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬اآلمدي‪ :‬اإلحكام في أصول األحكام ‪ ،163/4‬والزركشي‪ :‬تشنيف المسامع بجمع الجوامع‬
‫للسبكي ‪ ،571/4‬والفتوحي‪ :‬شرح الكوكب المنير ‪ ،464/4‬والسيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن‬
‫‪ ،215/4‬ومحمد شعيب الله المفتاحي‪ :‬نفحات العبير في مهمات التفسير ص ‪ ،74‬ومناع القطان‪:‬‬
‫مباحث في علوم القرآن ص ‪.342‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬قطب الريسوني‪ :‬النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر ص ‪.85‬‬
‫((( انظر في تفصيل تلك الفوائد‪ :‬السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪ ،107/1‬وابن عقيلة المكي‪:‬‬
‫الزيادة واإلحسان في علوم القرآن ‪ ،292/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،109/1‬ود‪ .‬فضل عباس‪:‬‬
‫إتقان البرهان في علوم القرآن ‪ ،258/1‬ومناع القطان‪ :‬مباحث في علوم القرآن ص ‪ ،79‬ود‪ .‬صبحي‬
‫الصالح‪ :‬مباحث في علوم القرآن ‪ ،130‬ود‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬المحرر في علوم القرآن ص ‪ ،132‬ود‪.‬‬
‫خالد المزيني‪ :‬المحرر في أسباب نزول القرآن ‪ ،26/1‬وعبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول ص‬
‫‪ ،150‬ومعايير القبول والرد ص ‪.475 ،472‬‬
‫((( انظر‪ :‬الزركشي‪ :‬البرهان في علوم القرآن ‪ ،27 ،22/1‬والسيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن‬
‫‪.108/1‬‬
‫((( الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪.146/4‬‬

‫‪136‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وقد نص على هذا األمر الكثير من أهل العلم المتقدمين‪ ،‬ومن ذلك قول الواحدي‬
‫عن أسباب النزول «هي أوفى ما يجب الوقوف عليها‪ ،‬وأولى ما تصرف العناية إليها‪،‬‬
‫المتناع معرفة تفسير اآلية وقصد سبيلها‪ ،‬دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها»(((‪.‬‬
‫وقال ابن دقيق العيد‪« :‬بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز‪ ،‬وهو‬
‫أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا»(((‪ .‬وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬ومعرفة‬
‫سبب النزول يعين على فهم اآلية‪ ،‬فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب»(((‪.‬‬

‫وللشاطبي كالم مطول عن أهمية المعرفة بأسباب النزول‪ ،‬وأثر ذلك في فهم‬
‫معاني اآليات‪ ،‬حيث قرر أن «معرفة أسباب التنزيل الزمة لمن أراد علم القرآن» ثم‬
‫ساق على ذلك دليلين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فض ً‬
‫ال عن‬
‫معرفة مقاصد كالم العرب؛ إنما مداره على معرفة مقتضيات األحوال؛ إذ الكالم‬
‫الواحد يختلف فهمه بحسب األحوال والقرائن‪ ،‬وليس كل حال ينقل‪ ،‬وال كل قرينة‬
‫تقترن بنفس الكالم المنقول‪ ،‬وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة؛ فات فهم الكالم‬
‫جملة‪ ،‬أو فهم شيء منه‪ ،‬ومعرفة األسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط؛ فهي من‬
‫المهمات في فهم الكتاب بال بد‪ ،‬ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه واإلشكاالت‪ ،‬ومورد للنصوص‬
‫الظاهرة مورد اإلجمال(((‪.‬‬

‫((( الواحدي‪ :‬أسباب نزول القرآن ص ‪.10‬‬


‫((( الزركشي‪ :‬البرهان في علوم القرآن ‪ ،22/1‬والسيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪.108/1‬‬
‫((( ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪.339/13‬‬
‫((( الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪.146/4‬‬

‫‪137‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن اآليات التي كان عدم المعرفة بسبب نزولها موقع ًا في اإلشكال عند أحد‬
‫الصحابة وهو ‪ -‬قدامة بن مظعون رضي الله عنه ‪ -‬قول الله تعالى‪َ { :‬ل ْي َس َع َلى ا َّلذِ َ‬
‫ين‬
‫ات ُث َّم ا َّتق َْوا‬ ‫ِيما َطعِ ُموا ِإ َذا َما ا َّتق َْوا َوآ َم ُنوا َو َعمِ ُلوا َّ‬
‫الصال َِح ِ‬ ‫ات ُج َن ٌاح ف َ‬ ‫آ َم ُنوا َو َعمِ ُلوا َّ‬
‫الصال َِح ِ‬
‫ِين} [المائدة‪ .]93 :‬حيث ظن ‪ -‬رضي الله‬
‫َوآ َم ُنوا ُث َّم ا َّتق َْوا َو َأ ْح َس ُنوا َوال َّل ُه ُي ِح ُّب ا ْل ُم ْح ِسن َ‬
‫عنه ‪ -‬حل الخمر إذا كان الشارب مؤمن ًا عام ً‬
‫ال للصالحات‪ ،‬لكن الصحابة الذي شهدوا‬
‫التنزيل وعاينوا أسبابه‪ ،‬أزالوا إشكاله هذا‪ ،‬وأبانوا عن المعنى الصحيح لآلية(((‪ ،‬فقدامة‬
‫رضي الله عنه فهم من اآلية «رفع الجناح عن الخمر‪ ،‬حتى بين له عمر أنه ال يتناول‬
‫الخمر‪ ،‬ولو تأمل سياق اآلية لفهم المراد منها‪ ،‬فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه‬
‫متقين له فيه‪ ،‬وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم‪ ،‬فاآلية ال تتناول المحرم‬
‫بوجه ما»(((‪.‬‬

‫وأما سبب نزول اآلية والذي يعين على فهمها‪ ،‬فهو ما رواه البراء بن عازب رضي‬
‫اب ال َّنبِ ِّي ‪َ #‬ق ْب َل َأ ْن ُت َح َّر َم ا ْل َخ ْم ُر‪َ ،‬ف َل َّما ُح ِّر َم ِ‬
‫ت‬ ‫ال ِم ْن َأ ْص َح ِ‬
‫ات ِر َج ٌ‬ ‫الله عنه َق َ‬
‫ال‪َ :‬م َ‬
‫ين‬ ‫ف بِ َأ ْص َحابِنَا َو َقدْ َما ُتوا َيشْ َر ُب َ‬
‫ون ا ْل َخ ْم َر؟ َفنَزَ َل ْت‪َ { :‬ل ْي َس َع َلى ا َّلذِ َ‬ ‫ا ْل َخ ْم ُر َق َ‬
‫ال ِر َج ٌ‬
‫ال‪َ :‬ك ْي َ‬
‫ات} [سورة‬ ‫ِيما َطعِ ُموا ِإ َذا َما ا َّتق َْوا َوآ َم ُنوا َو َعمِ ُلوا َّ‬
‫الصال َِح ِ‬ ‫ات ُج َن ٌاح ف َ‬ ‫آ َم ُنوا َو َعمِ ُلوا َّ‬
‫الصال َِح ِ‬
‫المائدة‪.(((]93 :‬‬

‫ومن األمثلة األخرى قوله تعالى‪ِ { :‬إنَّ َّ‬


‫الصفَا َوا ْل َم ْر َو َة م ِْن شَ َعائ ِِر ال َّل ِه َف َم ْن َح َّج‬
‫ِيم}‬ ‫ا ْل َب ْي َت َأ ِو ْاع َت َم َر َف َل ُج َن َاح َع َل ْي ِه َأنْ َي َّط َّو َف ب ِِه َما َو َم ْن ت ََط َّو َع خَ ْيراً َف ِإنَّ ال َّل َه شَ اكِ ٌر َعل ٌ‬
‫[سورة البقرة‪ .]158 :‬وقد سأل عروة بن الزبير َعائِ َش َة َر ِض َي ُ‬
‫الله َع ْن َها عن هذه اآلية‬

‫((( انظر‪ :‬الزركشي‪ :‬البرهان في علوم القرآن ‪ ،28/1‬وعبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول ص ‪،152‬‬
‫‪.153‬‬
‫((( إعالم الموقعين ‪.266 ،265/1‬‬
‫((( رواه الترمذي (‪ )3050‬وابن حبان (‪.)5350‬‬

‫‪138‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫الله َت َعا َلى‪ِ { :‬إنَّ َّ‬


‫الصفَا َوا ْل َم ْر َو َة م ِْن شَ َعائ ِِر ال َّل ِه َف َم ْن َح َّج ا ْل َب ْي َت َأ ِو‬ ‫ت َق ْو َل ِ‬ ‫«أ َر َأ ْي ِ‬
‫فقال َل َها‪َ :‬‬

‫الص َفا‬
‫وف بِ َّ‬ ‫َاح َأ ْن َل َي ُط َ‬ ‫الله َما َع َلى َأ َح ٍد ُجن ٌ‬ ‫ْاع َت َم َر َفال ُج َن َاح َع َل ْي ِه َأنْ َي َّط َّو َف ب ِِه َما} َف َو ِ‬
‫س َما ُق ْل َت َيا ا ْب َن ُأ ْختِي‪ ،‬إِ َّن َه ِذ ِه َل ْو َكا َن ْت َك َما َأ َّو ْلت ََها َع َل ْي ِه‪َ ،‬كا َن ْت‪َ :‬ل‬ ‫َوا ْل َم ْر َو ِة َقا َل ْت‪ :‬بِ ْئ َ‬
‫ون‬‫الن َْصا ِر‪َ ،‬كا ُنوا َق ْب َل َأ ْن ُي ْس ِل ُموا‪ُ ،‬ي ِه ُّل َ‬ ‫َاح َع َلي ِه َأ ْن َل َيت ََطو َف بِ ِه َما‪َ ،‬و َل ِك َّن َها ُأ ْن ِز َل ْت ِفي ْ َ‬
‫َّ‬ ‫ُجن َ ْ‬
‫الص َفا‬ ‫ان َم ْن َأ َه َّل َيت ََح َّر ُج َأ ْن َي َّط َّو َف بِ َّ‬ ‫اغ َي ِة‪ ،‬ا َّلتِي َكا ُنوا َي ْع ُبدُ و َن َها ِع ْندَ ا ْل ُم َش َّللِ ‪َ ،‬ف َك َ‬ ‫لِ َمنَا َة َّ‬
‫الط ِ‬
‫ول ِ‬
‫الله‪ ،‬إِ َّنا ُك َّنا‬ ‫الله ‪َ #‬ع ْن َذلِ َك‪َ ،‬قا ُلوا‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ول ِ‬ ‫َوا ْل َم ْر َو ِة‪َ ،‬ف َل َّما َأ ْس َل ُموا‪َ ،‬س َأ ُلوا َر ُس َ‬

‫الله تعالى‪ِ { :‬إنَّ َّ‬


‫الصفَا َوا ْل َم ْر َو َة م ِْن شَ َعائ ِِر‬ ‫الص َفا َوا ْل َم ْر َو ِة‪َ ،‬ف َأ ْنزَ َل ُ‬
‫َنت ََح َّر ُج َأ ْن َن َّط َّو َف َب ْي َن َّ‬
‫س‬ ‫اف َب ْين َُه َما‪َ ،‬ف َل ْي َ‬ ‫الله ‪َّ #‬‬
‫الط َو َ‬ ‫ول ِ‬ ‫ال َّلهِ} ْال َي َة‪َ .‬قا َل ْت َعائِ َش ُة َر ِض َي ُ‬
‫الله َع ْن َها‪َ :‬و َقدْ َس َّن َر ُس ُ‬
‫ل َح ٍد َأ ْن َي ْت ُر َك َّ‬
‫الط َو َ‬
‫اف َب ْين َُه َما»(((‪.‬‬ ‫َِ‬

‫والظاهر أن اإلشكال قد نشأ عند عروة رحمه الله من أن اآلية نصت على نفي‬
‫الجناح‪ ،‬وهو ما ال يتفق مع الفرضية في رأيه‪ ،‬وبقي في إشكاله هذا حتى سأل خالته أم‬
‫المؤمنين عائشة رضي الله عنها‪ ،‬فأفهمته أن نفي الجناح هنا ليس نفي ًا للفرضية‪ ،‬إنما‬
‫هو نفي لما وقر في أذهان المسلمين يومئذ من أن السعي بين الصفا والمروة من عمل‬
‫الجاهلية‪ ،‬لوجود أصنام على الصفا والمروة كانوا يتمسحون بها‪ ،‬فلما ظهر اإلسالم‬
‫تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك‪ ،‬فنزلت هذه اآلية لترفع الحرج(((‪.‬‬

‫‪ -2‬أسباب النزول تدفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫{ ُق ْل َل َأجِ ُد فِي َما ُأوحِ َي ِإ َل َّي ُم َح َّرم ًا َع َلى َطاعِ ٍم َي ْط َع ُم ُه ِإ َّل َأنْ َي ُكونَ َم ْي َت ًة َأ ْو َدم ًا َم ْسفُوح ًا َأ ْو‬
‫ير َف ِإ َّن ُه ِر ْج ٌس َأ ْو ف ِْسق ًا ُأه َِّل ل ْ‬
‫ِغَي ِر ال َّل ِه ِبهِ} [األنعام‪ .]145 :‬وقد نقل الزركشي‬ ‫َل ْح َم خِ ْن ِز ٍ‬
‫توجيه الشافعي لآلية‪ ،‬ومفاده أن «الكفار لما حرموا ما أحل الله‪ ،‬وأحلوا ما حرم الله‪،‬‬

‫((( رواه البخاري (‪ )1643‬ومسلم (‪.)1277‬‬


‫((( الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪.111/1‬‬

‫‪139‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وكانوا على المضادة والمحادة‪ ،‬جاءت اآلية مناقضة لغرضهم‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬ال حالل‬
‫إال ما حرمتموه وال حرام إال ما أحللتموه‪ ،‬ناز ً‬
‫ال منزلة من يقول ال تأكل اليوم حالوة‪،‬‬
‫فتقول ال آكل اليوم إال الحالوة‪ ،‬والغرض المضادة ال النفي واإلثبات على الحقيقة‪،‬‬
‫فكأنه قال ال حرام إال ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به‪،‬‬
‫ولم يقصد حل ما وراءه‪ ،‬إذ القصد إثبات التحريم ال إثبات الحل»(((‪.‬‬

‫‪ -3‬ومن فوائد أسباب النزول أيض ًا «معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع‬
‫الحكم»(((‪ .‬أو بعبارة أخرى «معرفة حكمة الله تعالى على التعيين فيما شرعه بالتنزيل‪،‬‬
‫وفي ذلك نفع للمؤمن وغير المؤمن‪ .‬أما المؤمن فيزداد إيمان ًا على إيمانه‪ ،‬ويحرص‬
‫كل الحرص على تنفيذ أحكام الله والعمل بكتابه‪ ،‬لما يتجلى له من المصالح والمزايا‬
‫التي نيطت بهذه األحكام‪ ،‬ومن أجلها جاء هذا التنزيل‪ .‬وأما الكافر فتسوقه تلك الحكم‬
‫الباهرة إلى اإليمان إن كان منصف ًا‪ ،‬حين يعلم أن هذا التشريع اإلسالمي قام على رعاية‬
‫مصالح اإلنسان ال على االستبداد والتحكم والطغيان‪ ،‬خصوص ًا إذا الحظ سير ذلك‬
‫التشريع وتدرجه في موضوع واحد»(((‪.‬‬

‫‪ - 4‬وألسباب النزول أيض ًا فوائد تربوية وتعليمية‪ ،‬منها أن مجيء النص القرآني‬
‫تعقيب ًا على موقف أو تعليق ًا على حادث‪ ،‬أرسخ في فهمه وأدعى لتطبيقه‪ ،‬كما أن ارتباط‬
‫النص القرآني بواقع يحياه المخاطب‪ ،‬يوجد ارتباط ًا وثيق ًا بين المكلف والنص‪ ،‬ويهيئ‬
‫فرص ًا أوسع المتثال المكلف‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن توقف نزول بعض القرآن على حوادث‬
‫ووقائع‪ ،‬يجعل من القرآن نصوص ًا حية في قلوب المكلفين‪ ،‬يستحضرونها كلما‬

‫((( الزركشي‪ :‬البرهان في علوم القرآن ‪.23/1‬‬


‫((( السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪ ،107/1‬وانظر‪ :‬الزركشي‪ :‬البرهان في علوم القرآن ‪،22/1‬‬
‫ود‪ .‬فضل عباس‪ :‬إتقان البرهان في علوم القرآن ‪.258/1‬‬
‫((( الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪.109/1‬‬

‫‪140‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫تكررت تلك الحوادث والوقائع وال ينسونه أبد ًا(((‪.‬‬

‫ومن الفوائد التربوية أيض ًا «تيسير الحفظ‪ ،‬وتسهيل الفهم‪ ،‬وتثبيت الوحي في ذهن‬
‫كل من يسمع اآلية إذا عرف سببها‪ ،‬وذلك ألن ربط األسباب بالمسببات‪ ،‬واألحكام‬
‫بالحوادث‪ ،‬والحوادث باألشخاص واألزمنة واألمكنة‪ ،‬كل أولئك من دواعي تقرر‬
‫األشياء وانتقاشها في الذهن‪ ،‬وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها في الفكر‪،‬‬
‫وذلك هو قانون تداعي المعاني»(((‪.‬‬

‫ومن مجاالت االستفادة من أسباب النزول في ميادين التزكية والتربية والتعليم‬


‫أنها «تعطي المربي فرصة كبيرة في التعامل مع الناس على ما هم عليه من الواقع الذي‬
‫يعيشونه‪ ،‬ومن األخالق التي جبلهم الله عليها‪ ،‬وترشده إلى كيفية إثارتهم إلى القضية‬
‫التي يريد أن يتحدث عنها‪ ،‬ببيان كيفية عناية الله بمن نزل فيهم قرآن من المؤمنين‪ ،‬وكيف‬
‫عالج ما فيهم من األدواء‪ ،‬وكيف فضح أعداءهم‪ ،‬وأبان لهم صنائعهم ومنكراتهم‪،‬‬
‫وهذا وإن لم يكن يختص باآليات الواردة على سبب وحدها‪ ،‬إال أن نزولها على سبب‬
‫يزيد في قوتها من هذه الجهة»(((‪.‬‬

‫‪ -5‬ومن الفوائد األخرى ألسباب النزول معرفة تاريخ الحكم‪ ،‬بمعرفة سببه‪ ،‬مثل‬
‫أن يقال‪ :‬قذف هالل بن أمية امرأته في سنة كذا‪ ،‬فنزلت آية اللعان فيعرف تاريخها‬
‫بذلك‪ ،‬وال شك أن لمعرفة التاريخ أهمية كبيرة في باب النسخ‪ ،‬وتحديد المتقدم‬
‫والمتأخر في النزول من اآليات(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬الحسين جلو‪ :‬منهج القرآن التربوي في ضوء أسباب النزول ص ‪ 247‬نق ً‬
‫ل عن د‪ .‬عماد‬
‫الرشيد‪ :‬أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص ص ‪.65 ،64‬‬
‫((( الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،113/1‬وانظر‪ :‬عبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول ص ‪.190‬‬
‫((( د‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬المحرر في علوم القرآن ص ‪.136‬‬
‫((( انظر‪ :‬الطوفي‪ :‬شرح مختصر الروضة ‪ ،506/2‬ود‪ .‬خالد المزيني‪ :‬المحرر في أسباب نزول القرآن ‪.35/1‬‬

‫‪141‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫‪ -6‬ومن فوائد أسباب النزول أيض ًا‪ :‬تعيين المبهمات في اآليات‪ ،‬ومعرفة من‬
‫نزلت فيه اآلية على التعيين حتى ال يشتبه بغيره(((‪ ،‬وفي صحيح البخاري أنه لما‬
‫استعمل معاوية رضي الله عنه مروان بن الحكم على الحجاز‪ ،‬خطب فجعل يذكر‬
‫يزيد بن معاوية‪ ،‬لكي يبايع له بعد أبيه‪ ،‬فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئ ًا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫خذوه‪ ،‬فدخل بيت عائشة فلم يقدروا‪ ،‬فقال مروان‪ :‬إن هذا الذي أنزل الله فيه‪َ { :‬وا َّلذِ ي‬
‫ال ل َِوال َِد ْي ِه ُأ ٍّف َل ُك َما َأتَعِ َدا ِننِي َأنْ ُأخْ َر َج َو َق ْد خَ َل ِت ا ْلق ُُرونُ م ِْن َق ْبلِي} [سورة األحقاف‪:‬‬
‫َق َ‬
‫‪ ]17‬فقالت عائشة من وراء الحجاب‪ :‬ما أنزل الله فينا شيئ ًا من القرآن إال أن الله أنزل‬
‫عذري(((‪.‬‬

‫‪ -7‬كذلك تعتبر أسباب النزول شاهد ًا مهم ًا من شواهد إعجاز القرآن الكريم‪،‬‬
‫حيث تدل على تجاوب أسلوب القرآن مع حال السامعين إلى يوم القيامة‪ ،‬وال شك أن‬
‫نزول عدد غير قليل من آيات القرآن استجابة لمقتضيات األحوال‪ ،‬وح ً‬
‫ال لمشكالت‬
‫قائمة‪ ،‬وتغيير ًا ألخالقيات وعادات قبيحة شائعة يلقي ضوء ًا على وجه من وجوه‬
‫اإلعجاز البالغي للقرآن الكريم(((‪ ،‬وكما يقول الطاهر ابن عاشر فإن «ثمة فائدة أخرى‬
‫عظيمة ألسباب النزول‪ ،‬وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث‪ ،‬داللة على‬
‫إعجازه من ناحية االرتجال‪ ،‬وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم‪ ،‬فنزوله‬
‫على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير األولين»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬السيوطي‪ :‬اإلتقان في علوم القرآن ‪ ،110/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،113/1‬والطاهر‬
‫بن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ‪ ،47/1‬والشيخ بن جمعة سهل‪ :‬أسباب النزول أسانيدها وأثرها في‬
‫التفسير ص ‪ ،129‬وعبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول ص ‪.180‬‬
‫((( رواه البخاري (‪.)4630‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد أبو عاصي‪ :‬أسباب النزول‪ ،‬تحديد مفاهيم ورد شبهات ص ‪.44‬‬
‫((( الطاهر بن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ‪.50/1‬‬

‫‪142‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫‪ -8‬وربما يبدو ألول وهلة أن فائدة أسباب النزول تنحصر في آيات األحكام‪ ،‬وال‬
‫يحتاج إليها في آيات العقيدة والتوحيد‪ ،‬ألنه مع األحكام الفقهية يحتاج الفقيه لمعرفة‬
‫العلة أو الحكمة من تشريع تكليف ما؛ كي يقاس عليه ما يشبهه من أحكام‪ ،‬أما آيات‬
‫التوحيد فهي تتنزل غالب ًا بدون سبب‪ ،‬والهدف منها هو تقرير الحقائق‪ ،‬وغرسها في‬
‫قلوب المؤمنين(((‪.‬‬

‫ولكن عند التأمل يظهر أن ألسباب النزول عدد ًا من الفوائد المهمة أيض ًا بالنسبة‬
‫آليات العقيدة‪ ،‬إذا ما وسعنا من مفهوم سبب النزول‪ ،‬فلم نقصره على الحادثة المعينة‬
‫التي نزل النص بسببها‪ ،‬وإنما جعلناه يشمل المالبسات التاريخية‪ ،‬والجو العام الذي‬
‫نزل فيه النص‪.‬‬

‫فجدال القرآن مع المشركين‪ ،‬وأهل الكتاب‪ ،‬والمنافقين‪ ،‬وتفنيده لعقائدهم‪،‬‬


‫وإجابته عن شبههم‪ ،‬وعرضه لآلراء والمعتقدات التي كانوا يدينون بها‪ ،‬كل ذلك ال‬
‫ُيفهم بوضوح إال مع اإللمام الكافي باألحوال العامة لذلك العصر‪ ،‬وأبرز العقائد‬
‫الشائعة حينذاك‪ ،‬كما أن بعض آيات القرآن التي نزلت في المشركين أو المنافقين‬
‫مث ً‬
‫ال ال يصح حملها على المؤمنين‪ ،‬ولعل عدم االنتباه لهذا األمر كان من أهم أسباب‬
‫انحراف الخوارج وفساد منهجهم؛ حيث جعلوا ما نزل من آيات تتوعد الكافرين‬
‫بالخلود في النار واللعن والخروج من رحمة الله منطبق ًا على المؤمنين الموحدين‪.‬‬

‫وعلى الجانب اآلخر فإن قاعدة العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب ‪ -‬والتي‬
‫تقدم معنا الكالم عنها سابق ًا ‪ُّ -‬‬
‫ترد على نزعات اإلرجاء الخطيرة التي رأت أنه ال يضر‬
‫مع اإليمان ذنب مهما كان‪ ،‬ومن ثم زعم أصحابها أن اآليات الواردة في ذم األمم‬
‫السابقة كاليهود وغيرهم ال تنطبق على األمة المسلمة‪ ،‬حتى لو فعل نفر من أبنائها نفس‬

‫((( انظر‪ :‬رشيد رضا‪ :‬تفسير المنار‪.46/1‬‬

‫‪143‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ال اآليات القاضية بكفر وفسق وظلم من لم ِّ‬


‫يحكم شريعة الله‪،‬‬ ‫الفعلة‪ ،‬ومن ذلك مث ً‬
‫والواردة في سورة المائدة؛ حيث قالوا‪ :‬إنها خاصة باليهود وحدهم‪ ،‬وال تنطبق على‬
‫المسلمين حتى لو ارتكبوا الصنيع نفسه‪.‬‬

‫وهناك فائدة أخرى من أسباب النزول يمكن أن تخدم جانب االعتقاد‪ ،‬وهي أن‬
‫نزول القرآن منجم ًا بحسب الوقائع واألحداث دليل قاطع على أنه من عند الله‪ ،‬وليس‬
‫من أساطير األولين‪ ،‬أو متلقى من أحد من البشر‪ ،‬وإنما هو تنزيل من العليم الخبير‬
‫الذي يرى ويسمع ويشرع لكل حادثة حكم ًا‪ ،‬كما أنه من األدلة الواضحة على تحقق‬
‫اإلعجاز البالغي للقرآن؛ ألن السبب الذي دعا إلى نزول الحكم المعين هو مقتضى‬
‫الحال‪ ،‬ونزول النص استجابة للسبب ومطابق ًا له هو عين البالغة التي عرفت بأنها‬
‫مطابقة الكالم لمقتضى الحال مع فصاحته(((‪.‬‬

‫توظيف العلامنيني ألسباب النزول‪:‬‬

‫وإذا ما انتقلنا بعد ذلك إلى موقف العلمانيين من توظيف أسباب النزول‪ ،‬فسوف‬
‫نالحظ ‪ -‬كما ذكرنا من قبل ‪ -‬أنهم لم يدرسوا قضية أسباب النزول ألسباب علمية‪،‬‬
‫أو موضوعية بريئة‪ ،‬أو من أجل فهمها أو الوقوف على حقيقتها‪ ،‬وإنما كان بحثهم منذ‬
‫بدايته موجه ًا لتحقيق أغراض محددة سلف ًا‪ ،‬وتوظيفها كشاهد على صحة آراء علمانية‬
‫أساسية‪ ،‬مثل‪ :‬التاريخية‪ ،‬واألنسنة‪ ،‬ووقتية األحكام الشرعية‪ ،‬وما أشبه ذلك‪.‬‬

‫ولدينا الكثير من اعترافات العلمانيين بهذا األمر‪ ،‬وتنصيصهم عليه صراحة‪،‬‬


‫وأنهم تعاملوا بذلك المنهج التوظيفي مع قضايا التراث اإلسالمي عموم ًا‪ ،‬ومع قضية‬
‫أسباب النزول على وجه الخصوص‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪ ،201/3‬وابن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ‪ ،50/1‬وأحمد قوشتي‪:‬‬
‫مناهج االستدالل على مسائل العقيدة ص ‪.531 ،530‬‬

‫‪144‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫فالتوظيف العلماني ألسباب النزول يعد محور ًا من المحاور التي مثلت مشروع ًا‬
‫فكري ًا إلعادة بناء العلوم النقلية بأسرها كما هو الحال عند حسن حنفي‪ ،‬الذي جعل من‬
‫مشاريعه «إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة‬
‫والفقه من أجل إسقاط المادة القديمة التي أصبحت بغير ذي داللة‪ ،‬مثل اآليات التي‬
‫نسخت قراءتها وحكمها‪ ،‬أو تاريخ المصاحف وجمعها‪ ،‬وإبراز الموضوعات ذات‬
‫الداللة مثل أسباب النزول (أولوية الفكر على الواقع) والناسخ والمنسوخ (الزمن‬
‫والتطور)»(((‪.‬‬

‫وفي الفترة التي سعى فيها حسن حنفي إلحياء مصطلح اليسار اإلسالمي جعل من‬
‫علوم القرآن واحد ًا من الروافد التي يمكن أن تخدم مسعاه هذا‪ ،‬من منطلق أن ما يسميه‬
‫باليسار اإلسالمي يرتبط بالعلوم النقلية الخالصة «علوم القرآن والحديث والتفسير‬
‫والفقه‪ ،‬وهي العلوم األولى التي نشأت حول الوحي‪ ،‬ويجد الدالالت المعاصرة‬
‫لبعض فروع علوم القرآن‪ ،‬مثل‪ :‬أسباب النزول التي تعني أولوية الواقع على الفكر‪،‬‬
‫وعلم الناسخ والمنسوخ الذي يعني التطور في التشريع طبق ًا لألهلية والقدرة‪...‬وهي‬
‫العلوم التي يمكن لنا تطويرها إلى علوم الواقع‪ ،‬مثل اإلحصاء والعلوم االجتماعية‬
‫وعلوم التاريخ واأليديولوجية والنظم السياسية واالقتصادية»(((‪.‬‬

‫وفي كتابه عن علوم القرآن استفتح حسن حنفي كالمه عن أسباب النزول‬
‫باإلشارة إلى أنها تعني أولوية الواقع على الفكر‪ ،‬وتقدم السؤال على الجواب‪ ،‬وال‬
‫يهم معرفة سبب آية كسبب تاريخي في حد ذاته‪ ،‬بل الداللة العامة ألسباب النزول‬
‫وهي ارتباط الفكر بالواقع(((‪ ،‬واألمر نفسه نجده في كتابه عن علم أصول الفقه «من‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.179‬‬
‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬اليسار اإلسالمي والوحدة الوطنية ص ‪.37‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬من النقل إلى العقل‪ ،‬الجزء األول‪ :‬علوم القرآن من المحمول إلى الحامل ص ‪.83‬‬

‫‪145‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫النص إلى الواقع» حيث أشار إلى أن قضايا مثل أسباب النزول‪ ،‬والناسخ والمنسوخ‬
‫وما أشبههما يمكن أن تسهم في عملية إعادة بناء علم أصول الفقه القديم‪ ،‬وتحويله من‬
‫علم استداللي استنباطي منطقي‪ ،‬إلى علم فلسفي إنساني(((‪.‬‬

‫ومن أهم الشواهد في هذا الصدد مقال حسن حنفي «ماذا تعني أسباب النزول»(((‪.‬‬
‫حيث لخص فيه أبرز ما يمكن أن توظف فيه أسباب النزول في العصر الحاضر‪ ،‬والتي‬
‫تدور حول إثبات انطالق النص القرآني من الواقع‪ ،‬واألولوية لهذا الواقع على النص‪،‬‬
‫إضافة إلى أن أسباب النزول تعني أن بإمكاننا أن نختار من الوحي في كل مناسبة ما‬
‫نراه األنسب لحل مشاكلنا‪ ،‬دون أن نلزم أنفسنا بالنظر له في جملته‪ ،‬أو األخذ بأحكامه‬
‫كلها‪.‬‬

‫وإذا انتقلنا إلى شخصية أخرى مثل نصر أبو زيد‪ ،‬فسوف نجده يؤكد على أن‬
‫«أسباب النزول أحد علوم القرآن المعروفة جد ًا‪ ،‬والتي يشير إليها الجميع‪ ،‬وال يكاد‬
‫أحد يوظفها كواحدة من مستويات السياق»(((‪.‬‬

‫وأما محمد أركون فهو يدعو صراحة إلى إعادة االهتمام بعلم أسباب النزول‬
‫وتوظيفه ضمن غطاء تيولوجي حديث للوحي‪ ،‬بعد أن لم يعد هذا العلم محل اهتمام‬
‫بين المسلمين منذ وقت طويل‪ ،‬بينما من يسميهم بالفقهاء التيولوجيون «قد اهتموا ليس‬
‫فقط بالسياق اللغوي لآليات‪ ،‬وإنما أيض ًا بالسياق االجتماعي والتاريخي من خالل‬
‫العلم المدعو بأسباب النزول‪ .‬لم يعد المسلمون يهتمون بهذا العلم منذ وقت طويل‪،‬‬
‫ألنهم يعتقدون أن الشيء الالزم كان قد أنجز وبشكل جيد من قبل الفقهاء ومؤسسي‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬من النص إلى الواقع ‪.585/2‬‬
‫((( مقال بمجلة روز اليوسف العدد ‪ 2519‬بتاريخ ‪ ،1976/9/20‬وقد أعاد حسن حنفي نشره في كتابه‬
‫الدين والثورة في مصر ‪ ،1981 -1952‬الجزء السابع اليمين واليسار في الفكر الديني ص ‪.70‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬التفكير في زمن التكفير ص ‪.143‬‬

‫‪146‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫المدارس والمذاهب‪ .‬ينبغي اليوم استعادة اآليات المدعوة تشريعية أو معيارية‪ ،‬ضمن‬
‫إطار تيولوجيا حديثة للوحي»(((‪.‬‬

‫وهكذا نخلص من تلك الشواهد إلى أن أسباب النزول قد تحولت من كونها وسيلة‬
‫لفهم النص ومعرفة معناه والمقصود به ‪ -‬كما هو حالها عند علماء المسلمين ‪ -‬إلى‬
‫أداة عند العلمانيين للتفلت من هذا النص وأحكامه‪ ،‬وإيقاف العمل به من خالل حجج‬
‫شتى كالتاريخية واألنسنة‪ ،‬والمصلحة‪ ،‬وقصر النص على سببه ال على عموم لفظه‪،‬‬
‫ولم يقتصر األمر على توظيف أسباب النزول وما شابهها من مباحث علوم القرآن‪ ،‬بل‬
‫توازى مع ذلك الدعوة لتوظيف العلوم الغربية الحديثة‪ ،‬مثل‪ :‬التاريخية والفيلولوجية‬
‫وما أشبهها‪ ،‬وإذا كان السلف الصالح قد اشترطوا في المفسر عدة شروط أهمها صحة‬
‫االعتقاد‪ ،‬والتجرد من الهوى‪ ،‬والعلم باللغة العربية وفروعها‪ ،‬وبعلوم القرآن مثل‬
‫الناسخ والمنسوخ وأسباب التنزيل؛ فإن بعض العلمانيين يضيف إليها شروط ًا جديدة‪،‬‬
‫مثل‪ :‬العلم بالتاريخية‪ ،‬والفيللولجي‪ ،‬واالبستمولوجي‪ ،‬واأللسنية‪.‬‬

‫وحجتهم في ذلك أن ما اشترطه السلف من شروط كان يعبر عن آليات «متوافقة‬


‫مع فضائهم المعرفي‪ ،‬ولكن التجمد عليها آن له أن يتوقف‪ ،‬وأن ينضاف إليها العلوم‬
‫«اإلنسانية» التي استجدت في زماننا مثل‪ :‬التاريخية‪ ،‬الفيللولجي «فقه اللغة»‪،‬‬
‫اإلبستمولوجي «علم المعرفة» واأللسنية «لينجوويستك»‪ ..‬وليس القصد من ذلك‬
‫هو تقليد الفرنجة‪ ،‬إنما ألن هذه العلوم أصبحت من ألزم اللوازم في دراسة النصوص‬
‫الستخراج معانيها وأسرارها ورموزها وشفراتها ومعرفتها المعرفة الحقة‪ ،‬بل وحل‬
‫المعضالت القائمة سواء بداخلها أو من حولها‪ ،‬والباقية بغير حل حتى اآلن»(((‪.‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي رؤية علمية ص ‪.55‬‬


‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي‪ ،‬ضمن األعمال الكاملة ص ‪.119‬‬

‫‪147‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫والغريب حق ًا أن عدد ًا من العلمانيين قد اتهم الفقهاء القدامى بتوظيف أسباب‬


‫النزول لخدمة آرائهم وإضفاء المشروعية عليها‪ ،‬وقد ظهر هذا التوظيف في جانبي‬
‫المنهج والتطبيق‪.‬‬

‫فأما جانب المنهج فيرى عبد المجيد الشرفي «أن المنهج الذى طغى على توظيف‬
‫هذه األسباب هو منهج تبريري الختيارات الفقهاء المتأخرة عن زمن النزول من جهة‪،‬‬
‫وتوفيقي بين األسباب التي تشتمل على تناقض واضح من جهة ثانية‪ ،‬وإقصائي لبعض‬
‫الفرق والمذاهب الناشئة بعد عصر النبوة من جهة ثالثة»(((‪.‬‬

‫وأما جانب التطبيق‪ ،‬فتطبيقات الفقهاء ‪ -‬في رأي نفر من العلمانيين ‪ -‬تطبيقات‬
‫مغرضة‪ ،‬ظهرت من أجل البحث عن سلطة يشرعنون بها فهمهم‪ ،‬وتتحقق لهم السيادة‬
‫في المجتمع‪ ،‬وفي ذلك يقول المنصف بن عبد الجليل‪« :‬مهما حاول أهل الفقه‬
‫والشريعة االحتجاج على فهمهم لهذا النص الديني الفذ بقرائن مثل أسباب النزول‬
‫وغيرها‪ ،‬فإنما كانوا يبحثون في الواقع عن سلطة بها يشرعون لفهمهم ذاك حتى يسود‪،‬‬
‫ويسودهم‪ ،‬ومن يمثلون به‪ ،‬وال أدل على ذلك من توظيفهم ألسباب النزول التي قررت‬
‫لتركب فهم ًا لآليات»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه اعتبر الهادي الجطالوي أن أسباب النزول «عنصر من‬
‫عناصر التفسير ال يستأثر به منهج دون آخر‪ ،‬وهو سالح في غاية الخطورة يمكن أن‬
‫ينفخ بالمعنى في جميع االتجاهات‪ ،‬فكان من أكبر الذرائع التي توسلت بها الفرق‬
‫لتوجيه الداللة في خدمة المذهب‪ ،‬دفاع ًا عن النفس وطعن ًا في الغير‪ ،‬ولم يكن ذلك‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬تقديمه لكتاب بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.9‬‬
‫((( المنصف عبد الجليل‪ :‬المنهج األنثروبولوجي في دراسة مصادر الفكر اإلسالمي ضمن في قراءة‬
‫النص الديني ص ‪.57‬‬

‫‪148‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫يكلف من العناء سوى تهيئة السند الصحيح الموهم بصحة الخبر»(((‪.‬‬

‫وعلم أسباب النزول ‪ -‬في رأي بسام الجمل ‪ -‬كان أداة مهمة لجأت إليها الفرق‬
‫المختلفة لنصرة أقوالها‪ ،‬وقد حقق هذا العلم «مبتغى أصحاب الفرق مؤسسين وأتباع ًا‪،‬‬
‫فكان العامل اإليديولوجي سبب ًا من أسباب نشأة هذا العلم»(((‪.‬‬

‫أما محمد أركون فهو يرى أن أسباب النزول ليست «إال حجة أو ذريعة من أجل‬
‫إطالق حكم أو أمر‪ ،‬أو تثبيت معيار معين‪ ،‬أو تحريم شيء محدد‪ ،‬وهذه الحجة سوف‬
‫يستعيدها فيما بعد الفقهاء المؤسسون للمدارس‪ ،‬ويستفيدون منها من أجل إنقاذ‬
‫القانون الديني أو الشريعة»(((‪.‬‬

‫ومن الواضح أن كالم هؤالء النفر من العلمانيين ال يقتصر فقط على اتهام‬
‫الفقهاء بتوظيف أسباب النزول لخدمة أغراضهم ونصرة آرائهم‪ ،‬وإنما يتضمن أيض ًا‬
‫معنى أكثر خطورة‪ ،‬وهو أن تلك األسباب وهذا العلم بجملته تم وضعه وانتحاله‬
‫في فترة تاريخية متأخرة من خالل جمع ركام المرويات والقصص والحكايات التي‬
‫وضعها القصاص واألخباريون‪ ،‬ولقي ذلك ترحيب ًا واشتغا ً‬
‫ال من الفقهاء‪ ،‬كي يواكبوا‬
‫تطور الحياة من جهة‪ ،‬ويستفيدوا من هذا العلم كذريعة لترجيح مذاهبهم من جهة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫وال يخفى ما ينبني عليه هذا الطرح من أباطيل وترهات ال دليل عليها مطلق ًا‪ ،‬وإنما‬
‫هي مجرد دعاوى وتهويمات مرسلة بال أي حجة‪ ،‬وهي جزء من حمالت التشكيك في‬
‫كل علوم األمة وهدم ثوابتها‪.‬‬

‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.34‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.60 ،59‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.91‬‬

‫‪149‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ويبقى الفيصل الرئيس في هذه المسألة أن لدينا نحن المسلمين علم ًا راسخ ًا‬
‫تناقلته األمة جي ً‬
‫ال بعد جيل ‪ -‬حتى صار من قبيل التواتر المعنوي ‪ -‬وأقر به الفقهاء‬
‫والمحدثون والمفسرون عبر القرون دونما شك أو نكير‪ ،‬بل صار أحد شروط‬
‫االجتهاد عند األصوليين‪ ،‬وأيدته روايات منقولة بأوثق األسانيد وأصح الكتب وعلى‬
‫رأسها البخاري ومسلم‪.‬‬

‫وتلك كلها حجج مقبولة لدى المقتنع بصحة المنهج العلمي اإلسالمي‪ ،‬وبمثلها‬
‫تثبت العلوم وتقوم على أساس راسخ‪ ،‬وأما التشكيكات العلمانية فهي نابعة من مشكلة‬
‫أكبر ال يكون النقاش فيها منحصر ًا في باب أسباب النزول فحسب‪ ،‬إنما في أمور أشمل‬
‫وأخطر مثل‪ :‬التسليم بصدق النبوة‪ ،‬وقطعية نقل القرآن‪ ،‬وحجية السنة‪ ،‬ووجوب الرد‬
‫إلى الله ورسوله في كل نازلة‪ ،‬واالحتجاج باإلجماع‪ ،‬والتعويل على ما اتفقت عليه‬
‫أفهام السلف ووثاقة منهج النقل اإلسالمي للمرويات عموم ًا‪ ،‬وصحة المنهجية‬
‫اإلسالمية األصولية في فهم النصوص واالستنباط منها‪ ،‬وكل هذه قضايا منهجية‬
‫كبرى تعتبر من مفاصل النزاع األساسية بين المنهج اإلسالمي والمنهج العلماني‪،‬‬
‫ويأتي الخالف حول أسباب النزول متفرع ًا عن االختالف في واحد أو أكثر من مسائل‬
‫هذا المنهج‪.‬‬

‫فإذا ما جئنا لنرصد حقيقة األمر‪ ،‬فسوف نجد أن من وظف أسباب النزول‪ ،‬ولوى‬
‫أعناقها‪ ،‬وأخرجها عن حقيقتها‪ ،‬وحملها ما ال تحتمل؛ هم العلمانيون والحداثيون‬
‫الذين سعوا لتحقيق أهداف عدة من وراء أسباب النزول‪.‬‬

‫وثمة نص مهم لمحمد سعيد العشماوي أشار فيه بوضوح إلى تلك األهداف التي‬
‫اهتموا من أجلها بدراسة أسباب النزول فقال‪« :‬لتحديد األصول العامة للشريعة يتعين‬
‫متابعة أول مصادر األحكام الشرعية‪ ،‬وهو القرآن الكريم متابعة تاريخية تتدرج على‬

‫‪150‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫آياته آية آية بحسب وقت نزولها‪ ،‬وسبب التنزيل‪ ،‬وغايته وحكمته حتى يمكن اإلبانة‬
‫عن غايات الشارع من التنزيل عموم ًا‪ ،‬وهو هدف يتجاوز الوقوف عند األحكام العامة‬
‫التي توخاها الشارع إلى التبصر باألصول العامة التي نبع منها التنزيل‪ ،‬وتغياها وجرى‬
‫على سننها»(((‪.‬‬
‫وأهم تلك األصول في رأي العشماوي ستة وهي «أو ً‬
‫ال‪ :‬تنزيل الشريعة تعلق على‬
‫قيام مجتمع ديني‪ ،‬وتطبيقها منوط بوجود هذا المجتمع‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬الشريعة كانت تنزل ألسباب تقتضيها‪ ،‬وأسباب التنزيل ليست مناسبات لها‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬الشريعة كانت تستهدف الصوالح العامة للمجتمع‪ ،‬فينسخ بعضها بعض ًا‬
‫لتحقيق هذه الصوالح‪ ،‬وسداد الشريعة وصالحها مرتبط بالتقدم على الوقائع المتغيرة‬
‫واألحداث المتجددة‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬بعض أحكام الشريعة خاص بالنبي‪ ،‬وبعضها مخصص بحادثة بذاتها‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬الشريعة لم تكن منقطعة الصلة بالماضي‪ ،‬منبتة الجذور عن المجتمع‬
‫الذى تنزلت فيه‪ ،‬بل إنها أخذت من قواعد المجتمع وأعرافه وعوايده ما أصبح أحكام ًا‬
‫فيها‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬الدين كامل‪ ،‬واكتمال الشريعة هو سعيها الدائم إلى مالحقة أحوال‬
‫المجتمع‪ ،‬والتقدم باإلنسان إلى صميم اإلنسانية وروح الكونية»(((‪.‬‬

‫والناظر في تلك األصول المزعومة التي ذكرها العشماوي يجدها ال تخرج عن‬
‫االدعاء بوقتية األحكام الشرعية ونسبيتها وبشريتها‪ ،‬وارتباطها بالواقع التاريخي الذي‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.61 ،60‬‬


‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.61 ،60‬‬

‫‪151‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫نشأت فيها وعدم صالحيتها للتطبيق في واقع آخر متغير‪ ،‬وتعلقها فحسب باألسباب‬
‫التي نزلت من أجلها وعدم عموميتها‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن قابليتها للتعديل والتغيير بحسب تطور‬
‫األزمنة واألمكنة والمجتمعات واألعراف‪ ،‬وهي القواعد نفسها التي ما برح العلمانيون‬
‫يجترونها للتفلت من أحكام الشريعة‪.‬‬

‫وسوف نحاول فيما يلي أن نشير إلى ما نراه أهم األهداف التي سعى العلمانيون‬
‫لتوظيف أسباب النزول من أجل تقريرها‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫المبحث األول‬

‫توظيف أسباب النزول إلثبات العالقة بين النص والواقع‬

‫عني العلمانيون عناية كبيرة بقضية العالقة بين النص والواقع‪ ،‬وتتابعت نصوصهم‬
‫في إثبات تلك العالقة‪ ،‬واستخدام أسباب النزول كشاهد مهم عليها‪ ،‬مع مالحظة أن‬
‫األمر لم يقتصر على مجرد بيان الصلة بين النص الشرعي والواقع‪ ،‬بل كان الهدف‬
‫الحقيقي هو الوصول لنتيجتين غاية في الخطورة‪:‬‬

‫األولى‪ :‬أن الواقع هو الذي صنع النص وشكله‪ ،‬والعالقة القائمة بين النص والواقع‬
‫هي عالقة سببية إنشائية‪ ،‬يحتل الواقع فيها موقع األصل المنشئ للنص‪ ،‬وال يمكن لهذا‬
‫النص إال أن يبقى دائر ًا في فلك الواقع الذي أنتجه(((‪ ،‬وهو ما يعني أن األولوية دائم ًا‬
‫والتقديم إنما هو للواقع على حساب النص وما يتضمنه من حقائق أو أحكام‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬أن أثر الواقع ال يقتصر على تكوين النص وتشكله فحسب‪ ،‬بل يمتد‬
‫أيض ًا إلى جانب فهم النص‪ ،‬وقراءته‪ ،‬والوقوف على المراد منه‪ ،‬بما يعني أن الواقع‬
‫االجتماعي المشخص لقارئ النص له الدور األكبر في تحديد معنى النص‪ ،‬مثلما كان‬
‫له الدور األكبر في عملية إيجاد النص ذاته(((‪.‬‬

‫وال يخفى مصادمة هاتين النتيجتين للثوابت العقدية‪ ،‬وما أجمعت عليه األمة من‬
‫تصور لحقيقة النص الشرعي ‪ -‬ممث ً‬
‫ال في القرآن والسنة ‪ -‬وأنه وحي من الله سبحانه‪،‬‬
‫نزل ابتداء لهداية البشر‪ ،‬وإصالح واقعهم وتغييره‪ ،‬وليس إفراز ًا أو منتج ًا لهذا الواقع‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬الحارث فخري‪ :‬الحداثة وموقفها من السنة ص ‪.327‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪ ،328‬وانظر‪ :‬د‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر الحداثي العربي من‬
‫أصول االستدالل في اإلسالم ص ‪.241‬‬

‫‪153‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وتشابكاته المختلفة‪ ،‬كما أن لهذا النص معنى في ذاته‪ ،‬وحقيقة ثابتة أرادها منزله‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا المعنى صالح للواقع الذي نشأ فيه أول مرة‪ ،‬كما أنه صالح لكل‬
‫زمان ومكان‪ ،‬وقد تقترب أو تبتعد محاوالت فهم النص من قبل العلماء والمجتهدين‪،‬‬
‫وربما تأثرت ‪ -‬نوع ًا ما ‪ -‬بواقعهم الثقافي واالجتماعي‪ ،‬لكنها ليست بحال من يصنع‬
‫معنى النص‪ ،‬أو ينشئ المقصود منه ابتداء‪.‬‬

‫وإذا تتبعنا نماذج لمواقف العلمانيين من عالقة النص بالواقع‪ ،‬فربما كان حسن‬
‫حنفي من أكثرهم اهتمام ًا بهذه المسألة وكتابة عنها وغلو ًا فيها‪ ،‬وقد عنون ألحد كتبه‬
‫بعنوان «من النص إلى الواقع» كما عنون إلحدى دراسته عن أسباب النزول بعنوان‬
‫«الوحي والواقع»(((‪ ،‬وانتهى في دراسة أخرى إلى ما يشبه التطابق بين النص القرآني‬
‫والواقع‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪« :‬النص واقع‪ ،‬والواقع نص»(((‪.‬‬

‫وقد عرف حسن حنفي الوحي تعريف ًا يجعله خارج ًا من الواقع‪ ،‬ومنبثق ًا منه ومتكيف ًا‬
‫به‪ ،‬وهادف ًا إلى تغييره‪ ،‬فالوحي عنده «مجموعة من األفكار والتصورات‪ ،‬تصدر منها‬
‫أنظمة وشرائع‪ ،‬خرجت من الواقع بأسباب النزول‪ ،‬وتكيفت حسب الواقع بالناسخ‬
‫والمنسوخ‪ ،‬وهدفها تغيير الواقع إلى واقع أفضل منه»(((‪.‬‬

‫لكننا عند التأمل نجد أن مطابقته تلك بين النص والواقع غير حقيقية‪ ،‬ألنها لو‬
‫كانت كذلك لوقف النص والواقع على درجة سواء‪ ،‬ولم يكن أحدهما أولى بالتقديم‬
‫والترجيح على اآلخر‪ ،‬بينما ما يصرح به الرجل في كتبه أن األولوية للواقع‪ ،‬وهو‬
‫الذي فرض نفسه على النص‪ ،‬ويستدعي تغيير األحكام انصياع ًا لتطوراته‪ ،‬وقد عرف‬

‫((( انظر‪ :‬حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.23/1‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬حوار األجيال ص ‪.466‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.116‬‬

‫‪154‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫النص بأنه «إجابة عن سؤال يفرضه الواقع بدليل أسباب النزول‪ ،‬وتغير بدليل الناسخ‬
‫والمنسوخ‪ ،‬وبدليل تطور الوحي في التاريخ‪ ،‬نسخ ًا للشريعة السابقة بالشريعة الالحقة‪،‬‬
‫ويحتوي على مبادئ عامة في حاجة إلى تخصيص‪ ،‬طبق ًا للزمن والمكان وظروف كل‬
‫عصر»(((‪.‬‬

‫وهكذا يصير الواقع أساس الوحي والنص عند حسن حنفي(((‪ ،‬كما أن الواقع‬
‫يتقدم على النص‪ ،‬ويؤول النص من أجله‪ ،‬وقد صرح أنه كتب كتابه «من النص إلى‬
‫الواقع» للفقيه من أجل غاية بعينها وهي «أن يحسن االستدالل‪ ،‬ويغلب المصلحة‬
‫العامة وهي أساس التشريع على حرفية النص‪ ،‬وإعطاء األولوية للواقع على النص»(((‪.‬‬

‫ومن المغالطات التي يسوقها للداللة على تفضيل الواقع على النص‪ ،‬حجة‬
‫في غاية التهافت واالستغراب‪ ،‬وهي أن «الوقائع ال حصر لها‪ ،‬في حين أن المصالح‬
‫والنصوص محصورة ومحدودة‪ ،‬ومن ثم كان الواقع أكثر غنى من النص‪ ،‬الواقع حرية‬
‫والنص قيد‪ ،‬والحرية تتجاوز القيد بالضرورة»(((‪.‬‬

‫ومثلما كان الوحي خارج ًا ومنبثق ًا من الواقع ومتكيف ًا به عند حسن حنفي‪ ،‬فالعقيدة‬
‫في زعمه أيض ًا ليس لها أي صدق داخلي في ذاتها‪ ،‬بمعنى أنها ال تشتمل على حقائق‬
‫ذاتية يمكن التأكد من صدقها وثبوتها‪ ،‬وإنما معيار الصدق عنده في مدى تأثيرها في‬
‫الواقع وتغييرها له‪ ،‬وفي هذا المعنى الخطير جد ًا الذي ينسف كل قيمة أو حقيقة للعقيدة‬
‫والدين واإليمان يقول حسن حنفي‪« :‬ليس للعقائد صدق داخلي في ذاته‪ ،‬بل صدقها‬
‫هو مدى أثرها في الحياة وتغييرها للواقع‪ ،‬فالعقائد هو موجهات للسلوك وبواعث عليه‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬حوار األجيال ص ‪.466‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬من النص إلى الواقع ‪.269/2‬‬
‫((( المصدر السابق ‪ ،8/1‬وانظر أيض ًا‪.488/2 :‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.498/2‬‬

‫‪155‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ال أكثر‪ ،‬وليس لها أي مقابل مادي في العالم الخارجي‪ ،‬كحوادث تاريخية أو أشخاص‬
‫أو مؤسسات إال من الواقع العريض الذي هو حامل للمعاني وميدان للفعل»(((‪.‬‬

‫وفي ظل هذا التحريف الخطير جد ًا لحقيقة العقيدة‪ ،‬فلن نستغرب إذا وجدنا‬
‫الجرأة والضالل‪ ،‬واالنحراف الفكري‪ ،‬واالفتراء على الوحي‪ ،‬وإنكار الثوابت‬
‫وقطعيات الدين قد وصل بحسن حنفي إلى إنكار أن يكون الوحي قد قصد إثبات‬
‫موجود مطلق ‪ -‬أي الله سبحانه ‪ -‬وإنما الوحي في زعمه قصد تطوير الواقع‪ ،‬ومن‬
‫ثم يقول‪« :‬ليس المقصود من الوحي إثبات موجود مطلق غني ال يحتاج إلى الغير‪،‬‬
‫بل المقصود منه تطوير الواقع في اللحظة التاريخية التي نمر بها‪ ،‬والتي تحتاج إلى من‬
‫يساعدها على التطور»(((‪.‬‬

‫وكغيره من العلمانيين وظف حسن حنفي مبحث أسباب النزول‪ ،‬والناسخ‬


‫والمنسوخ شاهد ًا قوي ًا على العالقة الوثيقة بين النص والواقع‪ ،‬وقد أشار في دراسته‬
‫عن أسباب النزول إلى أن كال المبحثين يشتركان في الداللة نفسها‪ ،‬وهي صلة الوحي‬
‫بالواقع‪ ،‬وإن اختلفت الحيثية‪ ،‬فهي من باب األصل واألساس في أسباب النزول‪ ،‬ومن‬
‫باب التطور والتكيف والصياغة في الناسخ والمنسوخ(((‪ ،‬كما نبه إلى أن الجديد في‬
‫دراسته تلك إبراز الصلة الوثيقة بين الوحي والواقع‪ ،‬حيث حاولت «تجميع كل أسباب‬
‫النزول طبق ًا للمواقف اإلنسانية لمعرفة صلة الوحي بالواقع‪ ..‬متى يأتي الوحي ملبي ًا‬
‫لرغبة الواقع أفراد ًا وجماعات‪ ،‬ومتى يأتي مقوم ًا له‪ ،‬ومغير ًا إياه»(((‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.61‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.61‬‬
‫((( انظر‪ :‬حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.23/1‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.23/1‬‬

‫‪156‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ويؤكد حسن حنفي على أن كل آيات الوحي نزلت في حوادث بعينها‪ ،‬وال توجد‬
‫آية بال سبب نزول‪ ،‬ثم يفسر أسباب النزول تفسير ًا ال يخلو من تأثيرات ماركسية‪،‬‬
‫فيقول‪« :‬إذا كان لفظ النزول يعني الهبوط من أعلى ألسفل‪ ،‬فلفظ السبب إنما يعني‬
‫الصعود من أسفل ألعلى‪ ،‬ولما كانت اآلية ال تنزل إال بعد وقوع السبب كان األدنى‬
‫شرط األعلى»(((‪ ،‬وهذا الحديث المتكرر عن أسباب النزول دليل في رأيه على واقعية‬
‫اإلسالم‪ ،‬وأسبقية الواقع على الفكر‪ ،‬ألن «كثرة الحديث الخطابي عن واقعية اإلسالم‬
‫إنما نشأ من هذا الموضوع‪ ،‬وهو أسباب النزول‪ ،‬أسبقية الواقع على الفكر‪ ،‬وأولوية‬
‫ال والقرآن ثاني ًا‪ ،‬الحياة أو ً‬
‫ال‬ ‫ال والوحي ثاني ًا‪ ،‬الناس أو ً‬
‫الحادثة على اآلية‪ .‬المجتمع أو ً‬
‫والفكر ثاني ًا»(((‪.‬‬

‫وهو يشير أيض ًا إلى أن الوحي قد نزل على سؤال في صيغة «ويسألونك» وجواب‬
‫في صيغة «قل» وال سؤال بال جواب‪ ،‬وال جواب بال سؤال‪ ،‬وإذا تساءلنا عن األولوية‬
‫لمن تكون؟ للسؤال أم للجواب؟ فإن القضية محسومة عند حسن حنفي والذي يرى‬
‫أن األولوية للسؤال على الجواب «وقد أتى الوحي ليس لفرض حل معين أو إجابة‬
‫معينة‪ ،‬بل لترجيح أحد الحلول على األخرى ولتأكيد ما استطاع العقل ببديهته والواقع‬
‫بمصلحته أن يصل إليه‪ ...‬مما يؤكد أن الوحي مثبت ال مشرع‪ ،‬ومؤكد لحكم بادئ ًا به‪،‬‬
‫السؤال من الواقع واإلجابة من الوحي‪ ،‬ومن ثم تتجدد األسئلة‪ ،‬وتتجدد اإلجابات‬
‫طبق ًا لروح العصر»(((‪.‬‬

‫ويصل الغلو في توظيف أسباب النزول إلثبات عالقة النص بالواقع ‪ -‬بل أولوية‬
‫الواقع على النص ‪ -‬عند حسن حنفي إلى أقصى درجاته‪ ،‬حين يقرر أن أسباب النزول‬
‫((( المصدر السابق ‪.20/1‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.20/1‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬من النص إلى الواقع ‪.137/2‬‬

‫‪157‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫تعني «أن الوحي لم يفرض على الواقع ابتداء‪ ،‬بل كان نداء للواقع ذاته‪ ،‬وأن الجزيرة‬
‫العربية كانت تبحث عن فكر يعبر عنها‪ ،‬وعن أيديولوجية توحد قبائلها‪ ،‬وعن زعيم أو‬
‫قائد يقودها‪ ،‬وبه تؤدي رسالتها»(((‪ .‬ويترتب على ذلك نتيجة في غاية الخطورة وهي أن‬
‫«الواقع هو الذي يفرض نفسه‪ ،‬وهو أبلغ من كل نص يختلف في تفسيره المتحذلقون‪،‬‬
‫كل على هواه دفاع ًا عن مصلحته‪ ،‬الواقع هو مصدر النص ومنبعه‪ ،‬والبداية بالواقع هو‬
‫الرجوع والمصدر واألساس»(((‪.‬‬

‫ووفق ًا لتلك الرؤية‪ ،‬فإن الواقع له أولوية على الفكر‪ ،‬كما أن اإلسالم يعتبر‬
‫«بلغة العصر دين ًا واقعي ًا من األساس‪ ،‬وليس فقط من التشريعات‪ ..‬وذلك يعني أنه‬
‫مطلب من مطالب الواقع‪ ،‬وأن الواقع هو الذي نادى به وهو الذي فرضه‪ ،‬فلم يأت‬
‫عنوة ولم يفرض غصب ًا»(((‪ ،‬وثمة جذور عدة عند حسن حنفي لتقديم الواقع على‬
‫النص في التراث اإلسالمي‪ ،‬حيث «ظهر الواقع في علم األصول‪ ،‬ورأينا المصالح‬
‫المرسلة واالجتهاد‪ ،‬وأن (ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن) وأن الواقع‬
‫له األولوية على كل نص في (ال ضرر وال ضرار) ولكننا لم نسر في هذا الحدس‪،‬‬
‫ورجعنا إلى النص األول نعطي له األولوية على الواقع‪ .‬احتمينا بالنصوص فجاء‬
‫اللصوص»(((‪.‬‬

‫لكن العجيب حق ًا أنه رغم كل تلك الجهود التي بذلها حسن حنفي إلثبات عالقة‬
‫النص بالواقع‪ ،‬بل أولوية الواقعة وتقدمه على النص‪ ،‬فإن آراءه لم تخل من تناقض‬
‫واضطراب‪ ،‬كما هي العادة المطردة التي يلحظها القارئ لفكره‪ ،‬ويكاد المتتبع لعالقة‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬الدين والثورة في مصر‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬اليمين واليسار في الفكر الديني ص ‪.71‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.74 ،73‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.72‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.104‬‬

‫‪158‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫الوحي بالواقع عنده أن يصاب «بحالة من الدوار‪ ،‬ال يدري معها هل التجديد في هذا‬
‫المشروع ينطلق من اعتبار الوحي مؤثر ًا في الواقع‪ ،‬أو من اعتباره متأثر ًا بالواقع»(((‪.‬‬

‫وقد امتد هذا التناقض لموقفه من العالقة بين الفكر والواقع‪ ،‬ففي بعض كتاباته‬
‫يرى أسبقية الواقع على الفكر‪ ،‬فالحياة أو ً‬
‫ال والفكر ثاني ًا(((‪ ،‬وهو متفق هنا مع ما تقوله‬
‫الفلسفة الماركسية‪ ،‬لكنه في مواضع آخر ينفي ما قرره سابق ًا(((‪ ،‬ويقرر بكل ثقة نفي‬
‫تلك األولوية فيقول‪« :‬وفي حقيقة األمر الفكر هو الواقع‪ ،‬والواقع هو الفكر‪ ،‬وليس‬
‫ألحدهما أولوية زمنية على اآلخر أو أي نوع من األولوية من حيث الشرف والقيمة‪.‬‬
‫الفكر واقع متحرك والواقع فكر مرئي‪ ،‬وكل فكر ال يتحقق في الواقع ال يكون إال‬
‫هوى أو انفعا ً‬
‫ال ذاتي ًا‪ ،‬وكل واقع ال يتحول إلى فكر يكون واقع ًا مصمت ًا أو واقع ًا‬
‫ناقص ًا»(((‪.‬‬

‫وإذا انتقلنا إلى شخصية علمانية أخرى‪ ،‬وهي نصر أبو زيد‪ ،‬فسوف نجد أنه دائم‬
‫الحديث في كتبه عما يصفه بالعالقة الجدلية بين النص القرآني والواقع‪ ،‬والتي تمتد‬
‫لتشمل اإلسالم كله‪ ،‬بما يتسم به من عالقة جدلية «يكشف عنها التاريخ بين اإلسالم‬
‫والواقع‪ ،‬منذ اللحظة األولى لنزول الوحي»(((‪.‬‬

‫واإلسالم نفسه عند نصر أبو زيد إنما ظهر «تجاوب ًا مع حاجة الواقع‪ ،‬وهي الحاجة‬
‫التي عبر عنها األحناف وكان محمد واحد ًا منهم»(((‪ .‬ونبوة النبي ‪ #‬نفسه ال يمكن‬
‫((( د‪ .‬أحمد الطيب‪ :‬التراث والتجديد مناقشات وردود ص ‪.149‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.20/1‬‬
‫((( وإنما قلنا ذلك ألن كتاب‪ :‬التراث والتجديد؛ سابق في التأليف والظهور على كتاب‪ :‬من العقيدة‬
‫إلى الثورة‪.‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬من العقيدة إلى الثورة ‪.375/1‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.99‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.74‬‬

‫‪159‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أن تعزل عن سياقها التاريخي‪ ،‬كما أن النبي ‪ #‬ال يمكن أن يعزل عن ظروف واقعه‬
‫الموضوعية(((‪.‬‬

‫ويفسر أبو زيد ظهور اإلسالم وارتباطه بوجود الحنفاء‪ ،‬من خالل االدعاء بأن‬
‫العرب كان يبحثون عن هوية خاصة بهم‪ ،‬في ظل التهديدات التي كانت تتعرض‬
‫لها تلك الهوية‪ ،‬وبعد استعراض مليء بالتعسف والتكلف انتهى إلى أن البحث عن‬
‫دين إبراهيم كان «بحث ًا عن دين يحقق للعرب هويتهم من جهة‪ ،‬ويعيد تنظيم حياتهم‬
‫على أسس جديدة من جهة أخرى‪ ،‬وكان اإلسالم هو الدين الذي جاء يحقق هذه‬
‫األهداف»(((‪.‬‬

‫والتأكيد على أن العالقة بين النص والواقع عالقة جدلية عند أبي زيد يعني أن‬
‫األمر ال يقتصر على مجرد وجود عالقة مباشرة وبسيطة بين األمرين‪ ،‬وإنما ينظر‬
‫أبو زيد لتلك العالقة بوصفها عالقة مركبة جدلية‪ ،‬بمعنى أن النص تشكل في واقعه‬
‫الثقافي‪ ،‬ولكنه عمل في الوقت ذاته على تشكيل هذا الواقع(((‪.‬‬

‫والخطير في هذا األمر هو ما يترتب عليه من نتائج تطعن قطع ًا في حقيقة أن‬
‫اإلسالم دين موحى به من عند الله‪ ،‬وأن القرآن كالم الله ووحيه إلى رسوله ‪،#‬‬
‫بينما يصير القرآن ‪ -‬وفق ًا لهذا التصور المنحرف والضال ‪ -‬خاضع ًا للواقع في‬
‫آياته وما تضمنته من معان‪ ،‬بحيث ال مانع ‪ -‬عند نصر أبو زيد ‪ -‬من تغيير بعض‬
‫المضامين القرآنية‪ ،‬لتتناسق مع الواقع الثقافي واالجتماعي والمعرفي الذي نزل‬
‫فيه أول مرة‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.70‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ‪.74‬‬
‫((( انظر‪ :‬علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.212‬‬

‫‪160‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ومن أمثلة ذلك ‪ -‬كما الحظ علي حرب في تحليله لكالم نصر أبو زيد ‪ -‬أن‬
‫القرآن الكريم «إذ أبقى على االعتقاد بالجن‪ ،‬فألنه كان سائد ًا في الجاهلية‪ ،‬ولكنه عمل‬
‫على إعادة بناء هذا الواقع بأسلمة الجن‪ ،‬ومن األمثلة البارزة أن مفهوم الوحي لم يكن‬
‫ممكن ًا قبوله لدى الجاهليين إال لوجود شبه بينه وبين الكهانة‪ ،‬التي كانت هي أيض ًا من‬
‫االعتقادات السائدة في المجتمع الجاهلي ولكن الوحي ميز نفسه عن الكهانة‪ ،‬كما ميز‬
‫نفسه عن الشعر وفق ًا آلليات المخالفة والمشابهة التي يستخدمها الخطاب القرآني في‬
‫إنتاج الداللة»(((‪.‬‬

‫وليس هذا الكالم تجني ًا من علي حرب على نصر أبو زيد ‪ -‬وكالهما علماني‬
‫حداثي ‪ -‬فقد صرح نصر أبو زيد بكالم مشابه في كتابه مفهوم النص في سياق كالمه‬
‫عن الجن وحديث القرآن عنهم‪ ،‬حيث قال‪« :‬إن النص هنا وإن كان يمثل الواقع الذي‬
‫ينتمي إليه‪ ،‬يعيد تشكيل هذا الوقع من خالل آلياته اللغوية الخاصة‪ ،‬لقد صار الجن في‬
‫النص جن ًا مؤمن ًا مسلم ًا يدين سلوكه السابق‪ ،‬ويدين البشر الذين كانوا يعوذون به»(((‪.‬‬

‫كذلك قارن أبو زيد بين حديث القرآن عن الجن في سورة الناس‪ ،‬وحديثه عنهم‬
‫في سورة الجن‪ ،‬مشير ًا إلى أن صورتهم في سورة الناس صورة الموسوس الذي‬
‫يستعاذ بالله منه‪ ،‬بينما صورتهم في سورة الجن فيها مشابهة للبشر في انقسامهم إلى‬
‫مؤمنين وكافرين‪ ،‬ثم عقب على ذلك بتعقيب خطير‪ ،‬فقال‪« :‬وال شك أن الصورة الثانية‬
‫تعد نوع ًا من التطوير القرآني النابع من التوافق مع معطيات الثقافة من جهة‪ ،‬والهادف‬
‫إلى تطويرها لمصلحة اإلسالم من جهة أخرى»(((‪.‬‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.212‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.40‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.40‬‬

‫‪161‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وهكذا يتحول القرآن ‪ -‬وفق ًا لهذا التصور المنحرف ‪ -‬من وحي إلهي‪ ،‬إلى‬
‫كتاب بشري‪ ،‬منبثق من الواقع ومتجاوب معه‪ ،‬وقابل لتحوير مضامينه‪ ،‬ليتماشى مع‬
‫هذا الواقع‪ ،‬فطالما أن الجاهليين يتكلمون عن الجن‪ ،‬فال مانع من الكالم عنهم مع‬
‫أسلمتهم‪ ،‬بغض النظر عن كون وجودهم حقيقي ًا أم ال‪ ،‬فليس المعيار هو مطابقة القرآن‬
‫للحقيقة في ذاتها‪ ،‬وإنما تفاعله مع الواقع وجدليته معه‪.‬‬

‫وقد ُسبِق نصر أبو زيد بهذه الفكرة الخطيرة والمنحرفة من قبل محمد أحمد‬
‫خلف الله في كتابه الفن القصصي في القرآن الكريم (((‪ ،‬والذي كان في أصله عبارة‬
‫عن أطروحة دكتوراه تقدم بها صاحبها عام (‪1947‬م) إلى قسم اللغة العربية بكلية‬
‫اآلداب جامعة القاهرة‪ ،‬وكانت تحت إشراف الشيخ أمين الخولي‪ ،‬لكن تم ردها من‬
‫قبل الكلية‪ ،‬ثم نشرها صاحبها في صورة كتاب أثار ضجة كبرى عند ظهوره‪ ،‬ودارت‬
‫حوله معارك فكرية طاحنة‪ ،‬ال تقل عن تلك المعارك التي دارت حول كتاب طه حسين‬
‫«في الشعر الجاهلي» وكتاب علي عبد الرازق «اإلسالم وأصول الحكم»‪.‬‬

‫وقد قام هذا الكتاب من أوله إلى آخره على فكرة رئيسة‪ ،‬تتلخص في أن ما ورد في‬
‫القرآن من قصص ال يستلزم أن يكون قد وقع بالفعل؛ بل يمكن أن يحكي القرآن ما لم يقع‬
‫أص ً‬
‫ال‪ ،‬أو أن يغير ويبدل ما تم وقوعه؛ ألن قصد القرآن من القصص هو الهداية والموعظة‪،‬‬
‫وأسلوبه في عرضها هو األسلوب األدبي الفني‪ ،‬الذي ال يلتزم كثير ًا بحقائق التاريخ؛ وإنما‬
‫همه األول هو الجانب الهدائي‪ ،‬والفائدة المبتغاة من وراء عرض القصة(((‪.‬‬
‫((( وثمة احتفاء واضح من العلمانيين بهذا الكتاب‪ ،‬انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪،63‬‬
‫والخطاب والتأويل ص ‪ ،263‬ومحمد عابد الجابري‪ :‬مدخل إلى القرآن ص ‪ ،259‬وعبد المجيد‬
‫الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.45‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد أحمد خلف الله‪ :‬الفن القصصي في القرآن الكريم ص‪ ،45‬وأحمد قوشتي‪ :‬مناهج‬
‫االستدالل على مسائل العقيدة اإلسالمية في العصر الحديث ص ‪ ،515‬ود‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل‬
‫الحديثة في الفكر العربي المعاصر ص ‪ ،49‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪.549‬‬

‫‪162‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وعلى المنوال نفسه‪ ،‬تكرر لدى محمد أركون وصف قصص القرآن باألساطير‪،‬‬
‫بل إنه لم يقصر األمر على القصص وحده‪ ،‬بل اعتبر أن «إطار الزمان والمكان في‬
‫القرآن هو إطار أسطوري»(((‪.‬‬

‫أما محمد عابد الجابري‪ ،‬فقد شابه رأيه رأي خلف الله في النتائج‪ ،‬وإن اختلفت‬
‫المقدمات‪ ،‬ولطفت العبارة شيئ ًا ما‪ ،‬دون تغيير للهدف(((‪ ،‬وقد اعترف بذلك صراحة‪،‬‬
‫فقال في سياق تناوله لمسألة القصص القرآني والحقيقة التاريخية‪« :‬من الذين كتبوا‬
‫ال في الخمسينيات من القرن الماضي‪ ،‬كتاب‬ ‫في هذا الموضوع‪ ،‬وأثارت آراؤهم جد ً‬
‫المرحوم محمد خلف الله الفن القصصي في القرآن‪ ،‬وقد انتهى فيه إلى أن القصة‬
‫ال جاءت على لسان‬ ‫القرآنية لم يكن هدفها التاريخ‪ ،‬بل العظة واالعتبار‪ ،‬وأن هناك أقوا ً‬
‫بعض الشخصيات في القصة‪ ،‬أنطقها القرآن على لسانهم‪ ،‬وأن مضمون القصة القرآنية‬
‫هو ما يعرفه المعاصرون للنبي من تاريخ‪ ،‬ومع أننا ال نختلف كثير ًا حول هذه النتائج‪،‬‬
‫إال أن طريقنا إليها يختلف عن طريق خلف الله‪ ،‬كما أن دراستنا متحررة تمام ًا من‬
‫الجدل الذى دار حول موضوع القصص القرآني في ذلك الوقت»(((‪.‬‬

‫وال أظن أننا محتاجون ألن نطيل في بيان ضالل هذا الرأي‪ ،‬ومخالفته لثوابت‬
‫الدين والملة‪ ،‬وتكذيبه آليات القرآن‪ ،‬وإجماع األمة القطعي على أن القرآن وحي‬
‫الله الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬وليس كالم البشر‪ ،‬وأنه حق كله‪،‬‬
‫وهدى ونور‪ ،‬وقد جاء ليخرج العباد من الظلمات إلى النور‪ ،‬ال ليكون تابع ًا ألهوائهم‬
‫وواقعهم المنحرف‪.‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد ص ‪ ،139‬وانظر في نقده‪ :‬د‪ .‬محمود بن علي البعداني‪:‬‬
‫موقف المدرسة العقلية المعاصرة من علوم القرآن وأصول التفسير ‪.745/2‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪.309‬‬
‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬مدخل إلى القرآن ص ‪.259‬‬

‫‪163‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وإذا كان القرآن كما يزعم هؤالء إنما جاء منبثق ًا من الواقع الذي نزل فيه ومتجاد ً‬
‫ال‬
‫معه ومتأثر ًا به؛ فلماذا شن تلك الحملة الشعواء على دين المشركين‪ ،‬وآلهتهم‬
‫المزعومة‪ ،‬ومعتقداتهم الباطلة‪ ،‬وشعائرهم المنحرفة‪ ،‬وأحكامهم الجائرة‪ ،‬وأخالقهم‬
‫الفاسدة‪ ،‬ولماذا لم يسايرها ويقر ما فيها؟! بل على الضد من ذلك أمر اإلسالم بالبراءة‬
‫من الشرك والمشركين‪ ،‬وجعل ذلك من لوازم اإليمان ومقتضياته‪ ،‬كما أكد النبي ‪#‬‬
‫على حرمة التشبه بالمشركين في جل األمور ودقيقها‪ ،‬سواء أكان ذلك في العقائد‬
‫أو الشرائع أو األعياد‪ ،‬أو حتى فيما يتعلق بالمالبس والهيئات‪.‬‬

‫ومن المالحظ أن نصر أبو زيد يعتبر أن قضايا مثل‪ :‬الناسخ والمنسوخ‪ ،‬والمكي‬
‫والمدني‪ ،‬وأسباب النزول تعد أكبر دليل على جدلية العالقة بين الوحي والواقع‪،‬‬
‫فظاهرة «النسخ‪ ،‬التي أقر العلماء بحدوثها في النص‪ ،‬أكبر دليل على جدلية العالقة‬
‫بين الوحي‪ ،‬والواقع»(((‪ ،‬والمكي والمدني يعتبر دلي ً‬
‫ال على أن النص ثمرة للتفاعل‬
‫مع الواقع الحي التاريخي‪ ،‬وأن علم المكي والمدني يكشف عن المالمح العامة لهذا‬
‫التفاعل(((‪.‬‬

‫وأما باب أسباب النزول ‪ -‬وهو موضع اهتمامنا في هذه الدراسة ‪ -‬فهو في رأيه‬
‫من أهم العلوم الدالة على عالقة النص بالواقع وجدله معه‪ ،‬وتأكيد واقعية الظاهرة‬
‫الدينية‪ ،‬والطابع العملي لنصوصها(((‪ ،‬ولذا نجده يقول‪« :‬علم أسباب النزول من أهم‬
‫العلوم الدالة والكاشفة عن عالقة النص بالواقع وجدله معه»(((‪ ،‬وهو يعلل هذه العالقة‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.131‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.85‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.200‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.109‬‬

‫‪164‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫الوثيقة بين أسباب النزول والواقع بأن «علم أسباب النزول يزودنا من خالل الحقائق‬
‫التي يطرحها علينا بمادة جديدة ترى النص استجابة للواقع تأييد ًا أو رفض ًا‪ ،‬وتؤكد‬
‫عالقة الحوار والجدل بين النص والواقع»(((‪.‬‬

‫وفي تالعب بالمصطلحات وتقويل ألهل العلم المتقدمين ما لم يقولوه بحال‪،‬‬


‫ينسب أبو زيد إلى علماء القرآن إدراكهم «أن قدرة المفسر على فهم داللة النص ال بد‬
‫أن تسبقها معرفة بالوقائع التي أنتجت هذه النصوص»(((‪.‬‬

‫ووجه التالعب والتقول على أهل العلم في هذا النص‪ ،‬هو الزعم الخطير بأن‬
‫الوقائع هي «التي أنتجت هذه النصوص»‪ ،‬وتلك دعوى باطلة تمام ًا لم يقل بها أحد من‬
‫علماء المسلمين‪ ،‬وتتصادم تمام ًا مع كون القرآن كالم الله الموحى به إلى رسوله ‪،#‬‬
‫وليس كالم البشر‪ ،‬أو إفراز ًا لواقعهم‪ ،‬ومنتج ًا ثقافي ًا نشأ عن ثقافة العصر الذي نزل فيه‪،‬‬
‫ومشاكل أهله واحتياجاتهم المختلفة‪ ،‬أو بعبارة نصر أبو زيد‪ ،‬فإن النص القرآني «في‬
‫حقيقته وجوهره منتج ثقافي‪ ،‬والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خالل فترة‬
‫تزيد على العشرين عام ًا»(((‪.‬‬

‫وبهذه الرؤية فإن العالقة بين النص والواقع عند نصر أبو زيد لن تكون مجرد عالقة‬
‫وثيقة أو جدلية بين طرفين‪ ،‬ومقدمة ضرورة ال بد منها لفهم النص‪ ،‬وإنما يتجاوز األمر‬
‫كل حد‪ ،‬ويتم تحجيم النص وتقليص دوره تقليص ًا تام ًا‪ ،‬ويصير الواقع هو األصل‪،‬‬
‫والذي يأتي أو ً‬
‫ال وآخر ًا‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.109‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.109‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.27‬‬

‫‪165‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وليس ما ذكرناه آنف ًا من باب اإللزام لنصر أبو زيد‪ ،‬أو تقويله ما لم يقل‪ ،‬وإنما‬
‫ذلك نص كالمه حيث قال‪« :‬الواقع إذن هو األصل وال سبيل إلهداره‪ ،‬من الواقع تكون‬
‫النص‪ ،‬ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه‪ ،‬ومن خالل حركته بفعالية البشر تتجدد‬
‫داللته‪ ،‬فالواقع أو ً‬
‫ال والواقع ثاني ًا والواقع أخير ًا‪ ،‬وإهدار الواقع لحساب نص جامد‬
‫ثابت المعنى والداللة يحول كليهما إلى أسطورة»(((‪.‬‬

‫وانطالق ًا من هذا األثر الجوهري ‪ -‬الذي يزعمه نصر أبو زيد ‪ -‬لكل من الواقع‬
‫والثقافة في تشكيل النص القرآني‪ ،‬فقد أقر أن المنهج الذي سار عليه في دراسته للقرآن‬
‫وعلومه يختلف عن المناهج األخرى التي تبناها الخطاب الديني المعاصر‪ ،‬فتلك‬
‫المناهج تعطي األولوية عند مناقشة النصوص الدينية للحديث عن الله عز وجل قائل‬
‫النص‪ ،‬ثم الحديث عن النبي ‪ #‬المستقبل األول للنص‪ ،‬ثم الحديث عن الواقع‪ ،‬من‬
‫خالل الكالم عن أسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ (((‪.‬‬

‫أما المنهج الذي يفضله ويتبناه‪ ،‬فهو منهج واضح التأثر جد ًا بالماركسية ومنهجها‬
‫المادي الجدلي‪ ،‬وهو منهج مباين لمناهج علماء المسلمين والتي يعتبرها «بمثابة‬
‫ديالتكتيك هابط‪ ،‬في حين أن منهج هذه الدراسة ‪ -‬ويقصد كتابه مفهوم النص ‪ -‬بمثابة‬
‫ديالكتيك صاعد‪ ،‬وعلى حين يبدأ المنهج األول من المطلق والمثالي في حركة هابطة‬
‫إلى الحي والمتعين‪ ،‬فإن المنهج الثاني يبدأ من الحسي والعيني صعود ًا»(((‪.‬‬

‫وإذا انتقلنا إلى شخصيات أخرى من العلمانيين‪ ،‬فسوف نجد أن طيب تيزيني ‪-‬‬
‫انطالق ًا من توجهه الماركسي ‪ -‬يلح على ما يسميه بجدلية النص القرآني الحديثي‪،‬‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.130‬‬


‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.29‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪ ،29‬وانظر نقد ًا مهم ًا عند‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬التفسير الماركسي لإلسالم‬
‫ص ‪ ،43 ،34‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪.665‬‬

‫‪166‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫والواقع البشري المشخص‪ ،‬تلك الجدلية التي «تمثلت في ضرورة تصير النص‪،‬‬
‫أي في ضرورة انبساطه تاريخي ًا على نحو متسق مع حامله أو حوامله االجتماعية‬
‫البشرية»(((‪.‬‬

‫وقد حاول تيزيني أن يجد في سيرة الرسول وسنته ما يعضد رؤيته تلك للعالقة‬
‫بين النص والواقع‪ ،‬حيث أشار إلى أن الرسول ‪ #‬كان «ذا حساسية بالغة الرهافة حيال‬
‫الموقف من الواقع المشخص‪ ،‬واقع البشر المحددين بمواصفات اجتماعية وسياسية‬
‫واقتصادية ونفسية وأخالقية دينية‪ ،‬وكذلك إثنية وحضارية عامة»(((‪ ،‬وبناء على ذلك‬
‫فإنه يستحيل انفالت أي فكر ديني ‪ -‬إسالمي أو غيره ‪ -‬من الواقع استحالة منطقية‬
‫وواقعية‪ ،‬وليس المقصود بالفكر الديني اإلسالمي عند تيزيني األفهام البشرية للدين‬
‫فحسب‪ ،‬وإنما يصدق ذلك على القرآن والسنة أيض ًا‪ ،‬فهذان المصدران يستحيل أن‬
‫ينفلتا من الواقع‪« .‬وإذا كانت هذه االستحالة تنطبق دون خالف على السنة النبوية‪،‬‬
‫وعلى القرآن الكريم‪ ،‬حيث يتموضع اجتماعي ًا وبشري ًا‪ ،‬أي حيث يغدو كتاب تأويل‪،‬‬
‫فإنها تظهر كذلك في إطار القرآن نفسه»(((‪.‬‬

‫والقرآن وأحكامه في رأي عبد المجيد الشرفي عبارة عن حلول ظرفية استجابت‬
‫لواقع تاريخي محدد‪ ،‬وعبرت عن وضع معرفي معين(((‪ ،‬وبالطبع فإن نتيجة ذلك‪ ،‬أنه‬
‫إذا اختلف الواقع التاريخي‪ ،‬واختلفت ظروف أي مجتمع‪ ،‬فال بد أن تختلف األحكام‬
‫الواجبة في حقه‪ ،‬وهذه هي الفكرة التي يلح عليها العلمانيون دائم ًا للتفلت من أحكام‬
‫الله وشريعته‪.‬‬

‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.361‬‬


‫((( طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق ص ‪.119‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.133‬‬
‫((( انظر‪ :‬بسام الجمل أسباب النزول ص ‪.33 ،32‬‬

‫‪167‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ويطرح علي أومليل تساؤ ً‬


‫ال بلهجة تنبئ عن التمني الذي أصيب بخيبة أمل تجاه‬
‫مبحث أسباب النزول‪ ،‬كما حدد إطاره األقدمون‪ ،‬وهل كان من الممكن أن يذهب‬
‫إلى ما هو أبعد «أي إلى تجديد مستمر للتفسير‪ ،‬للمعنى‪ ،‬وبالتالي للتشريع‪ ،‬تجديد‬
‫يقوم على جدلية مستمرة بين النص والواقع؟ لقد فتح المفسرون واألصوليون أفق ًا‬
‫ممتاز ًا بابتكارهم مبحث أسباب النزول‪ ،‬إال أنهم وضعوا جهاز ًا كام ً‬
‫ال من التحديدات‬
‫والمفاهيم االحتياطية‪ ،‬ليقطعوا كل صلة لهذه األسباب بالتاريخ»(((‪.‬‬

‫ويستدل سيد القمني على جدلية القرآن مع الواقع بعدم تنزله على النبي ‪ #‬دفعة‬
‫واحدة‪ ،‬وكتلة متماسكة كألواح موسى «إنما تواتر مفرق ًا عبر ثالث وعشرين سنة‪ ،‬هي‬
‫عمر الوحي‪ ،‬أي أنه استغرق من التاريخ زمن ًا يتجادل مع أحداث الواقع ومستجداته‪،‬‬
‫ويتفاعل معها‪ ،‬ويجيب على ما تطرحه من إشكاليات دائمة التغير»(((‪.‬‬

‫ويوظف عبد الجواد يس مسألة العالقة المتبادلة بين النص القرآني والواقع إلثبات‬
‫تأثير الواقع في األحكام الشرعية‪ ،‬وأن تلك األحكام ليست عامة لكل المكلفين‪،‬‬
‫وإنما وقتية مرتبطة بواقع نزولها‪ ،‬فالنص كان «يتحاور مع الواقع بشكل آني ومتجدد‪،‬‬
‫فانعكست عليه خصوص ًا في شقه التشريعي حركية الواقع وظرفيته وطوال مرحلة‬
‫التنزيل‪ ،‬حيث كان النص بالدرجة األولى آلية عمل متقطعة‪ ،‬وليس وثيقة موضوعة‬
‫للمعرفة المقدسة‪ ،‬لم يبد أن النص يقصد إلى إصدار الئحة نهائية تشرع للمستقبل‪،‬‬
‫بقدر ما كان يقصد إلى معالجة األحداث والحاالت القائمة‪ ،‬بما يمكن اعتباره قرار ًا‬
‫وقتي ًا متعلق ًا بسببه ومحله»(((‪.‬‬

‫((( علي أومليل‪ :‬في شرعية االختالف ص ‪.53‬‬


‫((( سيد القمني‪ :‬رب الزمان ص ‪.235‬‬
‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.44‬‬

‫‪168‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ويصل الشطط عند جمال البنا في تصوره لعالقة الواقع بالنص إلى الدرجة التي‬
‫يجعل فيها للواقع األولوية في مجال التشريع‪ ،‬بحيث تنضبط األحكام الشرعية مع‬
‫إيقاع الواقع‪ ،‬وتتشكل وفق ما فيه‪ ،‬وقد صرح بأن «الواقع هو في الموقع األقوى‪ ،‬لذا‬
‫فإن تغيير الحكم الشرعي أيسر من تغيير الواقع»(((‪.‬‬

‫وقد بنى على هذا التأصيل المنحرف العديد من الفتاوى الشاذة والمنكرة‪،‬‬
‫كالتهوين من شأن العالقات المحرمة بين الفتيان والفتيات‪ ،‬حيث قال‪« :‬إن تعسف‬
‫اآلباء واألمهات في شروط الزواج‪ ،‬ورفضهم الحديث (إذا جاءكم من ترضون دينه‬
‫وأمانته فزوجوه‪ ،‬إن لم تفعلوا تكن فتنة في األرض وفساد عريض)‪ ،‬أدى إلى انحراف‬
‫الشباب‪ ،‬وإلى فساد كبير‪ ،‬وهذا االنحراف كان أمر ًا مقضي ًا ال راد له‪ ،‬ألنه هو نفسه‬
‫ليس فع ً‬
‫ال‪ ،‬ولكن رد فعل‪ ،‬وقد تنبأ به الحديث وحكم بوقوعه‪ ،‬فإذا أريد لوم فيجب أن‬
‫ال لآلباء واألمهات الذين هم السبب األصلي‪ ،‬ولما كان هذا في حقيقته ليس‬‫يوجه أو ً‬
‫إال نوع ًا من االستسالم للطبيعة البشرية أو الخضوع للطبيعة االجتماعية (الفعل ورد‬
‫الفعل)‪ ،‬فإن صفة اإلثم فيه ليست أصيلة‪ ،‬وإن كانت تخالف ما يريده اإلسالم‪ ،‬ولهذا‬
‫جعل اإلسالم له تكفير ًا في التوبة‪ ،‬واالستغفار‪ ،‬وأهم من هذين فعل الخيرات وعمل‬
‫َات) (سورة هود‪.(((»)114 :‬‬ ‫َات ُي ْذ ِه ْب َن َّ‬
‫الس ِّيئ ِ‬ ‫الحسنات (إِ َّن ا ْل َح َسن ِ‬

‫كذلك كتب جمال البنا مقا ً‬


‫ال بعنوان «الرقص واإلسالم هل يجتمعان» انتهى فيه‬
‫إلى أنه «ليس من العجيب إذن أن يجتمع الرقص واإلسالم‪ ،‬وال من المستبعد أن تكون‬

‫((( د‪ .‬كفاح كامل‪ :‬التوظيف الحداثي آليات المرأة ص ‪.374‬‬


‫((( جمال البنا‪ :‬الرقص واإلسالم هل يجتمعان‪ ،‬مقال بجريدة المصري اليوم القاهرية بتاريخ‬
‫‪ ،2009/8/19‬على موقع الجريدة اإللكتروني ‪oday.almasryalyoum.com/article2.‬‬
‫‪ ،aspx?ArticleID=222982‬وانظر أيض ًا‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل التوظيف الحداثي آليات المرأة‬
‫ص ‪.374‬‬

‫‪169‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫راقصة في أعلى عليين من الجنة‪ ،‬فرحمة الله أعظم مما تصفون‪ .‬وإذا كنا نستبعد ذلك‪،‬‬
‫فهذا يعود إلى أن عدالتنا تدين المذنب على ذنوبه دون أن تثيبه على إحسانه‪ ،‬وهذه‬
‫عدالة ناقصة‪ ..‬أما عدالة اإلسالم فإنه (تعادل) ما بين الحسنات والسيئات بحساب‬
‫إلهي رحيم‪ ،‬ومن الخطأ أن نمد عدالتنا إلى عدالة اإلسالم‪ ،‬وما دام الحديث عن‬
‫اإلسالم فهذا هو اإلسالم»(((‪.‬‬

‫ولخليل عبد الكريم محاولة مليئة بالمكر والتضليل في سعيه إلثبات العالقة بين‬
‫اإلسالم عموم ًا‪ ،‬والواقع التاريخي الذي نشأ فيه‪ ،‬حيث أقام كتابه «الجذور التاريخية‬
‫للشريعة اإلسالمية» على فكرة أساسية‪ ،‬وهي أن اإلسالم إبان ظهوره في القرن السابع‬
‫الميالدي قد ورث من القبائل العربية الكثير من الشؤون الدينية والتعبدية والعقوبات‪،‬‬
‫وغير ذلك الكثير‪.‬‬

‫فاإلسالم في رأيه أخذ من تلك القبائل «فريضة الحج‪ ،‬وشعيرة العمرة‪ ،‬وتعظيم‬
‫الكعبة‪ ،‬وتقديس شهر رمضان‪ ،‬وحرمة األشهر الحرام‪ ،‬وثالثة حدود‪ :‬الزنا والسرقة‬
‫وشرب الخمر‪ ،‬وشطر ًا كبير ًا من المسؤولية الجزائية مثل القصاص والدية والقسامة‬
‫والعاقلة إلخ‪ ،‬وفى باقي المجاالت أخذ بعضها وترك البعض اآلخر‪ ،‬وفي أحيان كان‬
‫يعدل فيها إما بالزيادة أو النقص‪ ،‬وفي أحيان أخرى كان يستعير النظام بأكمله دون‬
‫تحوير‪ ،‬فقط يغير اسمه»(((‪.‬‬

‫((( جمال البنا‪ :‬الرقص واإلسالم هل يجتمعان‪ ،‬مقال بجريدة المصري اليوم القاهرية بتاريخ‬
‫‪ ،2009/8/19‬على موقع الجريدة اإللكتروني ‪oday.almasryalyoum.com/article2.‬‬
‫‪ ،aspx?ArticleID=222982‬وانظر أيض ًا‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل التوظيف الحداثي آليات المرأة‬
‫ص ‪.375‬‬
‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬الجذور التاريخية للشريعة اإلسالمية ص ‪.9‬‬

‫‪170‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وقد يثور تساؤل عن المقصد الحقيقي الذي ألف خليل عبد الكريم كتابه من أجل‬
‫إثباته‪ .‬ومن حسن الحظ أن الرجل قد أجاب عن ذلك بوضوح في خاتمة كتابه‪ ،‬حيث‬
‫أشار إلى أن القبائل العربية وقت المبعث بتقاليدها وأعرافها ونظمها؛ هي المسودة أو‬
‫البروفة أو التجربة لإلسالم والشريعة اإلسالمية(((‪.‬‬

‫والذي نفهمه من هذا الكالم ‪ -‬بعيد ًا عن محاوالت الخداع ‪ -‬أن الشريعة‬


‫وأحكامها في رأي خليل عبد الكريم قد انبثقت من هذا الواقع‪ ،‬وجاءت متأثرة به‪،‬‬
‫ومصبوغة بصبغته‪ ،‬وال مانع مطلق ًا إذا تغير واقعنا عن واقع تلك القبائل أن نعيد النظر‬
‫في التشريعات التي جاء بها اإلسالم‪ ،‬لنبقي على ما شئنا ونغير ما شئنا‪ ،‬وبالمنطق نفسه‬
‫فإن ما يدعو إليه البعض من تطبيق للشريعة في اآلونة األخيرة «إنما هي في أصلها‬
‫أعراف قبلية‪ ،‬لها تاريخ مسطور‪ ،‬استخرجه العلماء من بطون الكتب مختلفة األنواع‪،‬‬
‫واآلثاريون من الحفريات التي قاموا بها في مواطن القبائل العربية‪ ،‬وعلماء االجتماع‬
‫من اختباراتهم للممارسات اليومية التي تصدر من أفراد القبائل التي تعيش معنا‬
‫اليوم»(((‪.‬‬

‫وتتكرر فكرة إرجاع النص القرآني وأحكام الشريعة إلى روافد خارجية من البيئة‬
‫المحيطة لدى عبد الجواد يس‪ ،‬والذي يرى أنه «في سياق التكون األول أو الصدور‪،‬‬
‫عكس النص مؤثرات البيئة االجتماعية في محيط الجزيرة العربية مطلع القرن السابع‬
‫الميالدي‪ ،‬وهو محيط تدخل في مكوناته العقلية ترسبات من الثقافة التشريعية للتوراة‪،‬‬
‫وأعراف ما بين النهرية السائدة منذ العهد اآلشوري‪ ،‬ومسحة معرفة يلزم افتراضها‬
‫من الشرق والشمال بالممارسات الفارسية البيزنطية ولكنه ظل في مجمله محيط ًا‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.134‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.136‬‬

‫‪171‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫مطبوع ًا بالخصائص العامة لمجتمع صحراوي قبلي بسيط نسبي ًا‪ ،‬ومحكوم بثقافة‬
‫البداوة الشفوية‪ ،‬بما في ذلك المراكز الحضرية المتناثرة التي كانت تمارس التجارة‬
‫أو الزراعة»(((‪.‬‬

‫وهو ينتقد بشدة ما قرره العلماء السابقون من وجود مسبق للقرآن في اللوح‬
‫المحفوظ‪ ،‬قبل نزوله فعلي ًا في الواقع البشري الدنيوي؛ ألن تلك المقولة في رأيه‬
‫«تقطع الطريق مسبق ًا أمام أي نقاش حول التفاعل الطبيعي بين النص واالجتماع‪،‬‬
‫وتفقد أسباب النزول باعتبارها مظهر ًا مباشر ًا لهذا التفاعل أية قيمة فعل حقيقية‪ ،‬رغم‬
‫الحديث السلفي المتكرر عن أهميتها ولزومها لفهم معاني اآليات‪ ،‬نتيجة لذلك‪ ...‬لم‬
‫تقف الممارسات التفسيرية والفقهية على الطبيعة الحقيقية لعالقة التداخل بين النص‬
‫القرآني والواقع االجتماعي المزامن له‪ ،‬بل كانت تضمر نوع ًا للقطع بينهما لحساب‬
‫القول باألصل المفارق والمسبق للنص‪ ،‬وهو النزوع الذي سيتم تقنينه الحق ًا في علم‬
‫األصول بقاعدة استباقية تقول‪ :‬العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب»(((‪.‬‬

‫أما محمد سعيد العشماوي فال يكاد كتاب من كتبه يخلو من تهوين ألمر الشريعة‬
‫وتشكيك في حقيقتها‪ ،‬وفي وجوب تحكيمها‪ ،‬ولزوم ذلك للمسلمين كافة في كل‬
‫زمان ومكان‪ ،‬وما يعنينا هنا أنه في سياق ذلك حرص على إثبات المشابعة بين الفقه‬
‫اإلسالمي والفقه الروماني‪ ،‬وترجع هذه المشابهة ‪ -‬في رأيه ‪ -‬إلى أن الفقه اإلسالمي‬
‫نشأ ابتداء في دمشق‪ ،‬والتي كانت أقرب مكان في الدولة األموية إلى بيزنطة‪ ،‬التي أصدر‬
‫فيها جستنيان مدونته‪ ،‬كما أن القانون الروماني كان يطبق في سوريا قبل اإلسالم(((‪.‬‬

‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.21‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.74‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد سعيد العشماوي‪ :‬الشريعة اإلسالمية والقانون المصري ص ‪.34‬‬

‫‪172‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ويستنكر العشماوي صنيع الرافضين إلثبات تلك المشابهة‪ ،‬ظن ًا منهم أنهم بذلك‬
‫يضعون اإلسالم في منزلة عليا‪ ،‬ويحفظون له سموه ونقاءه‪ ،‬وهو يصف تصرفهم هذا‬
‫بالتصرف الساذج الذي يسيء إلى اإلسالم ويتعارض مع نصوصه‪ ،‬ويتصادم مع روحه‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أنه مدحوض بالواقع العلمي والسند التاريخي(((‪ ،‬ثم يخلص إلى النتيجة‬
‫الباطلة التي يريد تقريرها‪ ،‬وهي إثبات «المشابهة بين الفقه الروماني والفقه اإلسالمي‪،‬‬
‫وكيف أن القانون الروماني عرف أغلب التعبيرات والنظم القانونية التي تقوم على‬
‫أساسها كل النظم القانونية األخرى‪ ...‬وخالصة الفهم أن القانون الروماني ليس غريب ًا‬
‫عن النظم اإلسالمية‪ ،‬كما أن الفقه الروماني ليس بعيد ًا عن الفقه اإلسالمي»(((‪.‬‬

‫وال شك أن كل هذا الذي ذكره العشماوي مجرد تخرصات ودعاوى ال دليل عليها‪،‬‬
‫وإنما هي ترديد ممجوج الفتراءات المستشرقين((( حول أصالة الفقه اإلسالمي‪ ،‬والذي‬
‫نشأ نشأة أصيلة‪ ،‬منبثقة من الكتاب والسنة‪ ،‬ولم يثبت مطلق ًا أن أحد ًا من أئمة الفقه‬
‫األوائل قد اطلع على تلك القوانين الرومانية المزعومة‪ ،‬والتي لم تترجم إال في مرحلة‬
‫متأخرة جد ًا من نضج الفقه اإلسالمي‪ ،‬وظهور مدارسه المتنوعة‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن كثير ًا من‬
‫هذه المدارس الفقهية األصيلة نشأت في الحجاز والعراق‪ ،‬وليس في دمشق(((‪.‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.36‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.36‬‬
‫((( انظر‪ :‬ديالس أوليري‪ :‬علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب ص ‪ ،193‬وإبراهيم السكران‪ :‬التأويل‬
‫الحداثي للتراث ص ‪.133‬‬
‫ً‬
‫تفصيال‪ :‬كتاب د‪ .‬صوفي أبو طالب‪ :‬بين الشريعة اإلسالمية‬ ‫((( ويراجع في الرد على تلك الفرية‬
‫والقانون الروماني‪ ،‬وانظر‪ :‬مقدمة د‪ .‬محمد عمارة له ص ‪ ،22 ،21‬وبحث د‪ .‬محمد حميد الله‪:‬‬
‫تأثير الحقوق الرومية على الفقه اإلسالمي‪ ،‬ضمن كتاب هل للقانون الرومي تأثير على الفقه‬
‫اإلسالمي ص ‪ ،25‬دار البحوث العلمية‪ ،‬الطبعة األولى‪1393 ،‬ﻫ ‪1973 -‬م‪ ،‬وكتاب الدسوقي‬
‫السيد الدسوقي‪ :‬استقالل الفقه اإلسالمي عن القانون الروماني والرد على شبه المستشرقين‪ ،‬مكتبة‬
‫التوعية اإلسالمية‪ ،‬الطبعة األولى‪1410 ،‬ﻫ ‪1989 -‬م‪ ،‬وإبراهيم السكران‪ :‬التأويل الحداثي للتراث‬
‫ص ‪.150 - 133‬‬

‫‪173‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وهناك من العلمانيين من طرح فكرة أخذ القرآن من الفكر الديني قبله ‪ -‬بعد‬
‫أسلمته ‪ -‬بطريقة مراوغة‪ ،‬ومن هؤالء المنصف عبد الجليل الذي عرض لهذه المسألة‬
‫في صورة أسئلة‪ ،‬ال يقدم لها أجوبة حاسمة‪ ،‬وإن كان يوجه ذهن القارئ إلى وجهة‬
‫معينة‪ ،‬حيث قال‪« :‬ماذا ذكر القرآن من عقائد العرب‪ ،‬وهل سكت عن بعضها ولم؟ فإذا‬
‫تم هذا وسع أن نقلب مسألة محرجة هي‪ :‬هل قطع القرآن مع الفكر الديني قبله قطع ًا‬
‫معرفي ًا‪ ،‬أم هل تراه وظف شيئ ًا من تلك العقائد حفظ ًا للتواصل‪ ،‬فأسلمها دون التصريح‬
‫بأصلها؟»(((‪.‬‬

‫أما محمد النويهي فقد نسب األخذ من الحضارات وتشريعات البلدان المختلفة‬
‫إلى من يسميهم بالمشرعين القدامى((( ‪ -‬مع أنه ال يوجد في اإلسالم من يشرع إال الله‬
‫ورسوله ‪ -‬لكن النويهي يطلق على الفقهاء هذا اللقب‪ ،‬حتى يثبت أن جل ما بين أيدينا‬
‫من أحكام شرعية هو من صنع الفقهاء‪ ،‬وليس تشريع ًا من الله‪ ،‬وهؤالء الفقهاء ‪ -‬في‬
‫زعمه الباطل ‪ -‬حينما شرعوا أخذوا الكثير من األمم والحضارات األخرى‪ ،‬حتى إن‬
‫«معظم األحكام الدنيوية التي وضعها المشرعون القدامى لم يستخرجوها من الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬بل أخذوها من تشريعات البلدان المفتوحة ومعامالتها ونظمها‪ ،‬حين تأكدوا‬
‫من أنها ال تخالف المثل اإلسالمية العليا التي قررها القرآن والحديث»(((‪.‬‬

‫ومع أنه ال دليل على تلك الفرية‪ ،‬فإن النويهي يتعامل معها كما لو كانت حقيقة‬
‫مقطوع ًا بها‪ ،‬ثم يرتب عليها نتيجة خطيرة‪ ،‬مفادها أنه إذا كان الفقهاء القدامى قد لجأوا‬
‫إلى األخذ عن األمم األخرى‪ ،‬حين واجهوا ما طرأ على المجتمع اإلسالمي من‬

‫((( المنصف عبد الجليل‪ :‬المنهج األنثروبولوجي في دراسة مصادر الفكر اإلسالمي‪ ،‬ضمن‪ :‬في قراءة‬
‫النص الديني ص ‪.51‬‬
‫((( محمد النويهي‪ :‬نحو ثورة في الفكر الديني ص ‪.152‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.152‬‬

‫‪174‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫التحوالت بعد االختالط باألعاجم‪ ،‬فنحن أشد إلى صنيع كهذا في عصرنا الذي يشهد‬
‫تحو ً‬
‫ال أكبر جسامة‪ ،‬وأكثر سرعة في كل شؤون دنيانا(((‪.‬‬

‫ومن النتائج األخرى الخطيرة‪ ،‬التي ترتبت على هذا الغلو العلماني في القول‬
‫بأولوية الواقع على النص‪ :‬ادعاؤهم أنه يمكن إيقاف النصوص مؤقت ًا إذا لم تتناسب‬
‫مع الواقع‪ ،‬وقولهم أنه يمكن لالجتهاد أن ينسخ بعض األحكام من خالل تطوير مفهوم‬
‫النسخ‪ ،‬وعدم اقتصاره على نسخ القرآن بالقرآن أو السنة‪ ،‬وبذلك يكون للمسلمين‬
‫المعاصرين الحق في إعادة صياغة أصول الفقه‪ ،‬وفي ممارسة االجتهاد مجدد ًا‪ ،‬حتى‬
‫في المسائل التي ورد بشأنها نصوص قاطعة في القرآن والسنة (((‪.‬‬

‫وقد دعا حسن حنفي إلى تغير طبيعة االجتهاد ووظيفته‪ ،‬بحيث ال يبقى فقط‬
‫منهج ًا في أصول الفقه‪ ،‬بل يمتد ليكون منهج ًا في أصول الدين‪ ،‬كما أن وظيفته ستتغير‪،‬‬
‫ولن تقتصر على القياس في األحكام‪ ،‬وهي أفعال السلوك‪ ،‬بل تمتد الختيار» النظريات‬
‫وأنسبها طبق ًا لحاجات العصر‪ ،‬فاالجتهاد يقوم بالتأسيس العلمي في علم أصول الفقه‪،‬‬
‫طبق ًا لقدرات الفرد‪ ،‬ويقوم بالتأسيس النظري في علم أصول الدين‪ ،‬طبق ًا لمتطلبات‬
‫العصر»(((‪.‬‬

‫كذلك أبدى عبد المجيد الشرفي تبرمه من االجتهاد األصولي المعروف‪،‬‬


‫ودعا الجتهاد آخر‪ ،‬منفلت من كل قيد أو ضابط‪ ،‬حتى لو خالف المعلوم من الدين‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.152‬‬


‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم والحداثة ص ‪ ،170‬ود‪ .‬حسن حنفي‪ :‬من النص إلى الواقع‬
‫ال عن د‪ .‬صالح‬ ‫‪ ،536/2‬ومحمد جمال باروت‪ :‬االجتهاد النص الواقع المصلحة ص ‪ ،123‬نق ً‬
‫الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪ ،552 ،541‬وانظر أيض ًا‪ :‬د‪.‬‬
‫هزاع بن عبد الله‪ :‬محاوالت التجديد في أصول الفقه ‪.979/2‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.22‬‬

‫‪175‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫بالضرورة‪ ،‬فقال‪« :‬واالجتهاد المطلوب اليوم ليس هو االجتهاد المقيد‪ ،‬وال االجتهاد‬
‫المطلق بمعناه األصولي الفقهي‪ ،‬فذاك اجتهاد في استنباط ما يسمى باألحكام الشرعية‬
‫مما ليس فيه نص‪ ،‬وهو ينخرط في منظومة نرى أن باإلمكان تجاوزها‪ ،‬بل نزعم أنه غير‬
‫ذي جدوى إن لم يكن مستحي ً‬
‫ال»(((‪.‬‬

‫وبعد أن نحى هذا االجتهاد كله وراء ظهره‪ ،‬أوضح االجتهاد الذي يدعو إليه‪ ،‬وهو‬
‫ذاك االجتهاد المنفلت من كل قيد أو ضابط‪ ،‬سوى شيء هالمي غير محدد المعالم‬
‫اسمه جوهر الرسالة‪ ،‬ومن ثم وجدناه يقول‪« :‬االجتهاد المطلوب إذن تفكر وتدبر‪،‬‬
‫يهمه الوفاء لجوهر الرسالة المحمدية‪ ،‬وال يخشى معارضة المسلمات‪ ،‬بدعوى أنها‬
‫من المعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬متى كانت تستوجب المعارضة‪ ،‬كما ال سبيل إلى‬
‫االعتراض عليه بما قال فالن أو فالن‪ ،‬ما دام ال ينظر إلى من قال‪ ،‬بقدر ما ينظر إلى ما‬
‫قال‪ ،‬وال يقدس السلف‪ ،‬بقدر ما يدافع عن حق الخلف»(((‪.‬‬

‫تعقيب نقدي‪:‬‬

‫وفي ختام استعراضنا لتلك المحاوالت العلمانية الحثيثة إلثبات عالقة النص‬
‫بالواقع‪ ،‬بل أولوية الواقع على النص وتقديمه عليه‪ ،‬وتوظيف أسباب النزول كشاهد‬
‫على هذا التأصيل الخطير‪ ،‬يجدر بنا أن نشير بإيجاز إلى عدد من األمور‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬ال بد أن نؤكد ابتداء على عدم وجود أي إشكال في إثبات وجود عالقة ما‬
‫بين النص الشرعي ‪ -‬كتاب ًا أو سنة ‪ -‬والواقع الذي نزل فيه النص أول مرة‪ ،‬فتلك حقيقة‬
‫ال يمكن ألحد التشكيك فيها‪ ،‬والشواهد عليها أكثر وأوضح من أن نطيل في تفصيلها‪.‬‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.8‬‬


‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪ ،8‬وانظر‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من‬
‫اإلمام الشافعي ص ‪.126 ،125‬‬

‫‪176‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وقد جاءت األديان جميع ًا وفي مقدمتها اإلسالم‪ ،‬لتخاطب اإلنسان بكل كيانه‪،‬‬
‫وهذا اإلنسان الذي جاءت األديان والشرائع لتخاطبه ال يعيش منفرد ًا أو معزو ً‬
‫ال في‬
‫بقعة نائية من األرض‪ ،‬ال أنيس بها وال رفيق‪ ،‬وإنما هو كائن مدني واجتماعي بطبعه‪،‬‬
‫يتفاعل مع ما حوله من الطبيعة والبشر بطرق وأساليب مختلفة‪ ،‬ومن خالل هذه الشبكة‬
‫المعقدة من التفاعالت والعالقات ينشأ ما نسميه بالواقع‪.‬‬

‫وضعي ًا صادر ًا عن فكر‬


‫ّ‬ ‫وال شك أن اإلسالم دين نزل من عند الله‪ ،‬وليس دين ًا‬
‫بشري‪ ،‬وإنما هو وحي من اإلله الخالق المحيط بكل شيء علم ًا وقدر ًة‪ ،‬والخبير بكل‬
‫ما دق وجل‪ ،‬والذي يعلم ما يصلح اإلنسان وينفعه‪ ،‬وإذا سلمنا بهذه الحقائق كلها ‪-‬‬
‫وال أظن مسلم ًا يشك في شيء منها ‪ -‬فال بد أن نخرج بنتيجة قاطعة‪ ،‬وهي أن اإلسالم‬
‫‪ -‬ممث ً‬
‫ال في نصوص القرآن وصحيح السنة ‪ -‬يستحيل أن يخالف الواقع‪ ،‬أو يتعارض‬
‫معه بحال‪ ،‬بل نستطيع أن نقول بكل طمأنينة‪ :‬إن اإلسالم دين واقعي بكل معنى الكلمة‪،‬‬
‫المشوه‪ ،‬فعندما يقال‪:‬‬
‫َّ‬ ‫بشرط أن نفهم الواقعية بمعناها الصحيح‪ ،‬وليس بالمعنى الزائف‬
‫إن الواقعية إحدى خصائص اإلسالم وسماته البارزة‪ ،‬فال يقصد بذلك قبول الواقع كما‬
‫هو‪ ،‬أو السير وراءه والخضوع له على ما فيه من خطأ وانحراف دون محاولة لالرتقاء‬
‫به وبذل الجهد في ترقيته؛ ليصل إلى اآلفاق الطاهرة والسامية(((‪.‬‬

‫أما المعنى الصحيح الذي نعنيه من وصف اإلسالم بالواقعية فيقصد به أن الحقائق‬
‫التي جاء بها اإلسالم حقائق واقعية‪ ،‬بمعنى أنه يتعامل مع حقائق موضوعية ذات وجود‬
‫حقيقي مستيقن‪ ،‬وليس مجرد تصورات عقلية مجردة‪ ،‬أو مثاليات ال وجود لها في‬
‫عالم الواقع(((‪ ،‬كذلك يتسم المنهج أو الشرائع التي جاء بها اإلسالم بالواقعية‪ ،‬بمعنى‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ :‬الخصائص العامة لإلسالم ص‪ ،149‬ومحمد العبدة تأمالت في الفكر‬
‫والدعوة ص ‪.99‬‬
‫((( انظر‪ :‬سيد قطب‪ :‬خصائص التصور اإلسالمي ص‪.164 ،163‬‬

‫‪177‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أنها راعت طبيعة اإلنسان وتكوينه وواقعه بكل ظروفه ومالبساته وأحواله في صحته‬
‫ومرضه‪ ،‬وقوته وضعفه‪ ،‬وفي عالقاته االجتماعية‪ ،‬ورغباته وتطلعاته‪ ،‬وما إلى ذلك‬
‫من مكونات ثابتة للحياة اإلنسانية بمعناها األعم‪ ،‬وبناء على المقدمات السابقة؛ فإن‬
‫اإلسالم بجملته دين واقعي‪ ،‬بمعنى أن حقائقه وشرائعه وأسلوب خطابه صالح أتم‬
‫صالحية‪ ،‬ومناسب غاية المناسبة لكل زمان ومكان وواقع وبيئة‪ ،‬أي ًا كانت أحوالها‬
‫وظروفها‪ ،‬وأي ًا كانت طبيعة اإلنسان المخاطب بهذا الدين(((‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬ثمة التباس قد ينشأ في أذهان البعض حول عالقة اإلسالم بالواقع‪ ،‬وسببه‬
‫أن اإلسالم نزل أول ما نزل في بيئة محددة هي الجزيرة العربية‪ ،‬وواقع هذه البيئة يتسم‬
‫بخصائص وسمات معينة‪ ،‬راجعة إلى مجمل أحوالها السياسية والفكرية واالجتماعية‪،‬‬
‫وما ساد فيها من عادات وتقاليد وأساليب في الحياة‪ ،‬وقد جاء القرآن ليعالج أمراض تلك‬
‫البيئة ومشاكلها‪ ،‬وكان الكثير من آياته يتنزل لحل مشكالت ووقائع حدثت في ظرف معين‬
‫بحكم أحوال هذه البيئة‪ ،‬فكيف يقال مع ذلك‪ :‬إن الدين الذي نزل في هذا المجتمع جاء‬
‫ليخاطب كل المجتمعات على امتداد الزمان واختالف المكان؟ ثم أليس من المشاهد‬
‫أن للواقع الذي نزل فيه النص دور ًا خطير ًا ومؤثر ًا في فهم معانيه وتوجيه دالالته‪ ،‬وهي‬
‫مرحلة ضرورية ال مناص منها‪ ،‬قبل التطبيق العملي للنص في أرض الواقع؟‬

‫ومن الواضح أن هذا االلتباس منشؤه عدم التفرقة بين حقيقتين متباينتين تمام ًا‪:‬‬
‫األولى‪ :‬كون البيئة التي تظهر فيها دعوة‪ ،‬أو ينزل فيها شرع وكتاب سماوي ما وعاء‬
‫ومكاني ًا لهذه الدعوة‪ ،‬والثانية‪ :‬كونها قيد ًا عليها يؤثر فيها إيجاب ًا أو سلب ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫زماني ًا‬
‫ّ‬ ‫وظرف ًا‬
‫ويتحكم في تشكيل حدودها وأبعادها‪ ،‬فيزيد فيها أو ينتقص منها أو يحصرها في تلك‬
‫البيئة وحدها‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬مناهج االستدالل على مسائل العقيدة ص ‪.490‬‬

‫‪178‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ومن خالل تأمل معنى قوله تعالى‪{ :‬ال َّل ُه َأ ْع َل ُم َح ْي ُث َي ْج َع ُل ِر َسا َل َت ُه} [األنعام‪]124 :‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬و َر ُّب َك َي ْخ ُل ُق َما َي َشا ُء َو َي ْخ َتا ُر} [القصص‪ ]68 :‬ندرك أن اختيار الله‬
‫لواقع الجزيرة العربية لم يأت ليكون قيد ًا يحد من اكتمال الرسالة وعمومها وشمولها‪،‬‬
‫أو يؤثر على حقائقها‪ ،‬وإنما جاء ليكون وعاء لها‪ ،‬وقد اختارها سبحانه وتعالى بما لها‬
‫من أبعاد ومالمح وأغوار من بين بيئات عديدة على مدار التاريخ كله زمان ًا‪ ،‬ورقعة‬
‫األرض الفسيحة بأسرها مكان ًا؛ لتناسب طبيعة الدعوة المحمدية‪ ،‬وتتفاعل مع أبعادها‬
‫المختلفة‪ ،‬وهو سبحانه القادر على اختيار البيئة المناسبة لحمل وحيه ودينه‪ ،‬ولو علم‬
‫أنها غير صالحة‪ ،‬أو أنها تمثل قيد ًا على الدعوة الختار بيئة أخرى ومجتمع ًا آخر يصلح‬
‫لذلك‪ ،‬ومثل هذا تمام ًا أن شخصية الرسول ‪ #‬كبشر لم تكن قيد ًا على الدعوة‪ ،‬وإنما‬
‫اصطفيت واختيرت على أحسن ما يكون االصطفاء‪ ،‬وأتم ما يكون االختيار(((‪.‬‬

‫وبمقتضى سنة االختيار واالصطفاء اإللهي‪ ،‬وأن الله سبحانه إذا قدر شيئ ًا َّ‬
‫هيأ‬
‫األسباب المؤدية إليه‪ ،‬وأزال الموانع التي تحول دون وجوده‪ ،‬نستطيع أن نقول‪ :‬إن‬
‫البيئة التي ظهرت فيها الرسالة المحمدية تشبه األمة التي حملت هذه الرسالة‪ ،‬وقال‬
‫اك ْم ُأ َّم ًة َو َسط ًا} [البقرة‪ ]143 :‬فهي أمة مجعولة‪،‬‬
‫الله تعالى عنها‪َ { :‬و َك َذل َِك َج َع ْل َن ُ‬
‫وكذا هذه البيئة «كانت مصنوعة بصنع الله‪ ،‬لتتبلور فيها جميع التجارب‪ ،‬وتتجمع فيها‬
‫جميع األحكام الخالدة بخلود هذا الدين‪ ،‬وأنها من ثم كانت بوفاة الرسول ‪ #‬مكتملة‬
‫من حيث كونها مجمع هذه التجارب واألحكام‪ ،‬ومركز الضوء في تاريخ الدعوة‬
‫اإللهية»(((‪ ،‬وإن قيل مع هذا كله‪ :‬إن القرآن هو األثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح‬
‫عصره‪ ،‬فهي كلمة حق من وجه‪ ،‬وقد يراد بها التلبيس والخداع من وجه آخر‪ ،‬فالقرآن‬
‫بالفعل يمثل روح عصره‪ ،‬والواقع الذي نزل فيه‪ ،‬ويمكن أن نستخرج من خالله صورة‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬يحيى هاشم فرغل‪ :‬األسس المنهجية لبناء العقيدة اإلسالمية ص‪.314-312‬‬
‫((( د‪ .‬يحيى هاشم فرغل‪ :‬حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب ص‪.112‬‬

‫‪179‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫للمجتمع الجاهلي في سلوكه وعقيدته(((‪ ،‬لكن القرآن وإن كان يمثل روح عصره فهو‬
‫«ال يتمثلها‪ ،‬وإن شئت فقل‪ :‬إنه يمثلها أصدق تمثيل‪ ،‬ثم يمثل بها أنكى تمثيل»(((‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬يتعجب المرء من إطالق القول بتقديم الواقع على النص هكذا بال تحرير‬
‫لمعاني المصطلحات‪ ،‬وبال ضبط أو تقعيد للمسألة‪ ،‬مع أن أول إيراد على هذا القول‬
‫الخاطئ هو مطالبة صاحبه بتحديد مقصوده بالواقع‪ ،‬وماذا يعني به‪ ،‬وهل هو واقع‬
‫األفراد‪ ،‬أم واقع المجتمع كله‪ ،‬وهل هو الواقع السوي أم الواقع المنحرف‪ ،‬وهل هو‬
‫واقع االختيار أم واقع الضرورة الملجئة؟‬

‫وماذا يبقى من النص والشرع إذا نحي بحجة أنه خالف كل ما عده الناس واقع ًا‬
‫يستصعبون معه تحكيم الشرع‪ ،‬والذي جاء إلخراج المكلف من داعية هواه إلى داعي‬
‫الشرع‪ ،‬حتى يكون عبد ًا لله اختيار ًا‪ ،‬كما هو عبد لله اضطرار ًا(((‪ ،‬كما جاء لتغيير الواقع‬
‫المنحرف إلى واقع سليم‪ ،‬وإخراج الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬دون أن يعني ذلك‬
‫بحال إغفال الضرورات‪ ،‬وحاجات الناس التي ال مناص منها‪ ،‬وعدم إيقاعهم في‬
‫العنت أو المشقة‪ ،‬ومراعاة األعراف التي ال تخالف الشرع‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬وفي ظني أن مآل هذا النظرة العلمانية المتطرفة في إثبات عالقة النص‬
‫بالواقع‪ ،‬ثم التدرج من ذلك إلى تقديم الواقع على النص‪ ،‬ال ينتهي إال إلى نتيجة‬
‫واحدة‪ ،‬وهي نفي المصدر اإللهي للقرآن الكريم وللوحي والنبوة‪ ،‬والنظر إلى ذلك‬
‫كله بمنطق مادي صرف‪ ،‬يرى أن القرآن ليس سوى إفراز وانبثاق من واقع معين في‬
‫جزيرة العرب‪ ،‬في حقبة تاريخية معينة‪ ،‬وقد اقتضى هذا الواقع أن يأتي القرآن في‬
‫عقائده وأحكامه وتشريعاته متماشي ًا مع هذا الواقع‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬مناهج االستدالل على مسائل العقيدة ص ‪.494 ،493‬‬
‫((( د‪ .‬محمد عبد الله دراز‪ :‬النبأ العظيم ص‪.59‬‬
‫((( انظر‪ :‬الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪ ،289/2‬واالعتصام ‪.308/3‬‬

‫‪180‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وهذا الواقع الذي نزل فيه الوحي أول مرة‪ ،‬هو واقع الناس في ذلك الزمان‬
‫بمجمل أحوالهم وظروفهم المختلفة‪ ،‬بما يستلزم ‪ -‬وفق ًا لهذا الزعم العلماني ‪ -‬أنه إذا‬
‫تغير الواقع أو أحد مكوناته‪ ،‬فمن الضروري أن تتغير األحكام والعقائد الموجهة له‪،‬‬
‫ولهذا التغيير آليات عدة‪ ،‬وبابها مفتوح في كل زمان ومكان‪.‬‬

‫وهكذا لن يبقى من ثوابت الدين‪ ،‬وقطعيات الملة‪ ،‬وأصول العقائد والشرائع شيء‬
‫ثابت إال ما أقره الواقع وارتضاه‪ ،‬وبذلك يعلو الواقع وتحوالته على الشرع وحقائقه‪،‬‬
‫وأعتقد أن كل مسلم ‪ -‬مقر بأن هذا الدين جاء من عند الله العليم الخبير‪ ،‬واألعلم بما‬
‫يصلح عباده ‪ -‬يكفيه أن يطلع على قول منكر كهذا‪ ،‬ليتبين له بطالنه‪ ،‬ومصادمته التامة‬
‫ألصل الدين‪ ،‬والغاية من إنزال الوحي‪ ،‬وإرسال الرسل والرساالت جميعها‪ ،‬وال سيما‬
‫رسالة اإلسالم الخاتمة‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫المبحث الثاني‬

‫توظيف أسباب النزول إلثبات تاريخية القرآن الكريم‬

‫وإذا بدأنا أو ً‬
‫ال بتحديد المقصود بالتاريخية‪ ،‬فسوف نجد العديد من التعريفات‬
‫التي قدمت لها‪ ،‬سواء من الكتاب الغربيين‪ ،‬أو العلمانيين العرب(((‪ ،‬ومن ذلك تعريف‬
‫التاريخية بأنها تعني أن «األمور الحاضرة ناشئة عن التطور التاريخي‪ ..‬وأننا ال نستطيع‬
‫أن نحكم على األفكار والحوادث إال بالنسبة إلى الوسط التاريخي الذي ظهرت فيه‪،‬‬
‫ال بالنسبة إلى قيمتها الذاتية»(((‪.‬‬

‫وعرف آخرون التاريخية بأنها «دراسة المواضيع واألحداث في بيئتها‪ ،‬وضمن‬


‫شروطها التاريخية»(((‪ .‬أو هي «العقيدة التي تقول بأن كل شيء‪ ،‬أو كل حقيقة تتطور‬
‫مع التاريخ‪ ،‬وهي تهتم أيض ًا بدراسة األشياء واألحداث من خالل ارتباطها بالظروف‬

‫((( انظر العديد من تلك التعريفات عند‪ :‬مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب‬
‫الحداثي العربي المعاصر ص ‪ ،24‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪،295‬‬
‫ود‪ .‬محمد عمارة‪ :‬خطر النزعة التاريخية على ثوابت اإلسالم ص ‪ ،3‬ود‪ .‬عبد الله القرني‪ :‬األساس‬
‫الفلسفي للتاريخية‪ ،‬وأثره على الموقف من ثبوت الوحي في الفكر الحداثي العربي ص ‪،7‬‬
‫ود‪ .‬محمد محمود كالو‪ :‬القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير ص ‪،88‬‬
‫ود‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم ص ‪،85‬‬
‫ود‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪ ،396‬ود‪ .‬سعد بن‬
‫بجاد العتيبي‪ :‬موقف االتجاه العقالني المعاصر من النص الشرعي ص ‪ ،437‬ود‪ .‬علي عبد الفتاح‪:‬‬
‫الحداثة وأثرها في تأويل النص القرآني في الثقافة العربية ص ‪.324‬‬
‫((( د‪ .‬جميل صليبا‪ :‬المعجم الفلسفي ‪ ،229/1‬وانظر أيض ًا‪ :‬د‪ .‬مراد وهبة‪ :‬المعجم الفلسفي‬
‫ص ‪.155 ،154‬‬
‫((( نقل هذا التعريف مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي‬
‫المعاصر ص ‪.25‬‬

‫‪182‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫التاريخية»(((‪ .‬وعرفها بعض الدارسين المعاصرين بأنها «إخضاع الوجود بما فيه لرؤية‬
‫زمكانية‪ ،‬قائمة على الحتمية‪ ،‬والنسبية‪ ،‬والصيرورة»(((‪.‬‬

‫أما تاريخية النص على وجه الخصوص‪ ،‬فتعني ارتباط هذا النص بواقعه‪ ،‬وظرفه‬
‫الزماني والمكاني الذي نزل فيه‪ ،‬بحيث ال يعدو النص أن يكون نتاج ًا للظروف‬
‫االجتماعية واالقتصادية التي أسهمت في تشكيله‪ ،‬ومحصور ًا في بيئة نشأته غير‬
‫منفك عن دواعي تشكله‪ ،‬ويجب أن يكون ساكن ًا هناك لحظة ميالد غير مفصول عن‬
‫تاريخه(((‪ ،‬أو هي «إخضاع النص ألثر الزمان والمكان والمخاطب مطلق ًا»(((‪.‬‬

‫ويترتب على هذا المفهوم أن ما تضمنه النص من أوامر ونواه‪ ،‬يقصد به مخاطبة‬
‫الناس في زمن نزوله‪ ،‬أما اآلخرون في غير ذلك الزمن‪ ،‬وفي غير ذلك الوضع‪ ،‬فهم غير‬
‫مشمولين بخطاب هذا النص(((‪ ،‬ومن الواجب عليهم فهمه بحسب حالهم وظروفهم‪.‬‬

‫وهكذا يتبين لنا أن التاريخية مفهوم تم صكه في الفضاء الفلسفي الغربي‪ ،‬وهو‬
‫على ارتباط بإشكالية المرجعية التي كانت من مضامين سؤال النهضة في الفلسفة‬
‫الحديثة‪ ،‬وتج َّلى توظيفها في الصراع الذي كان دائر ًا بين الفكر الديني والفكر الوضعي‬
‫في الغرب‪ ،‬والتاريخية تكرس القطيعة مع الماضي‪ ،‬وتعتبر أن المواقف والمسائل‬
‫َ‬
‫يتجاوز زمكانه‪ ،‬فهي مفهوم يعمل على رهن كل‬ ‫والنصوص وكل شيء ال يمكن أن‬
‫شيء في تاريخه‪ ،‬وتركز على أن السبيل إلى إدراك الحقيقة هو التاريخ‪ ،‬وهذا الكالم‬
‫((( نقل هذا التعريف عن معجم روبير‪ :‬هاشم صالح في تعليقه على كتاب محمد أركون‪ :‬الفكر‬
‫اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.139‬‬
‫((( د‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪.305‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬قطب الريسوني‪ :‬النص القرآني ص ‪ ،210 ،209‬ود‪ .‬محمد محمود كالو‪ :‬القراءات‬
‫المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير ص ‪.88‬‬
‫((( د‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪.305‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمود كالو‪ :‬القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير ص ‪.95‬‬

‫‪183‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫تضمن الميتافيزيقا للحقيقة‪ ،‬والوحي أيض ًا(((‪.‬‬


‫بمفهوم المخالفة يؤدي إلى إنكار ُّ‬
‫وتقوم التاريخية على أساسين متالزمين‪ ،‬أحدهما‪ :‬االرتباط بالواقع وعدم‬
‫تجاوزه‪ ،‬بحيث يكون التحقق من كل ما يخضع للتاريخية مشروط ًا بكونه في زمن‬
‫محدد‪ ،‬ومراجعة تطوره عبر تاريخه الواقعي‪ ،‬وعدم االعتماد في ذلك على كل ما‬
‫يجاوز الواقع المحسوس‪ ،‬وأما األساس الثاني فهو ما يلزم من التحول والصيرورة في‬
‫الواقع المادي من التحول والصيرورة في معرفتنا بذلك الواقع؛ ألن معرفتنا بالواقع هي‬
‫مجرد انعكاس له(((‪.‬‬

‫وتضفي التاريخية على الحقيقة سمات النسبية والزمنية‪ ،‬كما تربطها بزمنها‬
‫وتاريخها‪ ،‬وترفض أن تكون للحقائق أي ًا كانت ‪ -‬بما في ذلك الحقائق الدينية ‪-‬‬
‫عمومية أو إطالق‪ ،‬ومن ثم فهي تنكر وجود ثوابت للهوية‪ ،‬بل تشكك في وجود‬
‫الهويات من األساس‪ ،‬كما أنها تنطلق من نزعة مادية وضعية ال تؤمن بأن األديان من‬
‫عند الله سبحانه(((‪.‬‬

‫وأخطر ما ينطوي عليه القول بتاريخية القرآن من دالالت‪ ،‬أنه يلزم ‪ -‬وال بد ‪ -‬من‬
‫إثبات تاريخية النص «تاريخية تشكله‪ ،‬وتكوينه‪ ،‬ودالالته‪ ،‬وتاريخية فهمه‪ ،‬ويلزم منه‬
‫وال بد القول بتاريخية مصدره‪ ،‬وكونه مصدر ًا غير متعال‪ ،‬وهو ما يعني أنه ال ينتمي إلى‬
‫الله تعالى»(((‪ ،‬بل هو نص بشري تشكل عبر التاريخ‪ ،‬وال بد من فهمه وفق ًا لذلك‪.‬‬
‫((( مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر ص ‪،26 ،25‬‬
‫والتاريخية‪ ،‬المفهوم وتوظيفاته الحداثية‪ ،‬مجلة إسالمية المعرفة العدد ‪ 63‬ص ‪.54‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد الله القرني‪ :‬األساس الفلسفي للتاريخية‪ ،‬وأثره على الموقف من ثبوت الوحي في‬
‫الفكر الحداثي العربي ص ‪.9‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬خطر النزعة التاريخية على ثوابت اإلسالم ص ‪ ،3‬ود‪ .‬محمد محمود كالو‪:‬‬
‫القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير ص ‪.88‬‬
‫((( د‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم ص ‪.240‬‬

‫‪184‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وإذا ما انتقلنا للعلمانيين العرب‪ ،‬فسوف نجد أن مفهومهم للتاريخية ال يختلف‬


‫في شيء عن مفهومها عند الغربيين‪ ،‬وليس لهم في هذا الباب إال النقل واالقتباس‬
‫عن الغرب‪ ،‬ثم البحث عن توظيف هذا المفهوم في البيئة العربية اإلسالمية‪ ،‬وقد قدم‬
‫العلمانيون العديد من التعريفات للتاريخية(((‪ ،‬بعضها عام ومختصر‪ ،‬واآلخر مطول‬
‫وأكثر تفصي ً‬
‫ال‪.‬‬

‫ومن أمثلة التعريفات العامة والمختصرة‪ ،‬تعريف محمد أركون للتاريخية بأنها‬
‫«تعني أساس ًا أن حدث ًا تاريخي ًا ما قد حصل بالفعل‪ ،‬وليس مجرد تصور ذهني كما هو‬
‫الحال في األساطير أو القصص الخيالية أو التركيبات األيديولوجية»(((‪ ،‬وفي موضع‬
‫آخر من كتبه عرف أركون التاريخية بأنها تعني «التحول والتغير‪ ،‬أي تحول القيم‬
‫وتغيرها بتغير العصور واألزمان»(((‪.‬‬

‫وأما حسن حنفي فقد عرف التاريخية بأنها «تكوين الظاهرة نشأة وتطور ًا في‬
‫مجتمع بعينه‪ ،‬وفي ظروف محددة‪ ،‬وفي مرحلة زمنية خاصة»(((‪ .‬كذلك عرفها نصر‬
‫أبو زيد بأنها تعني‪ :‬الحدوث في الزمن‪ ،‬وكل األفعال تظل أفعا ً‬
‫ال تاريخية‪ ،‬بحكم أنها‬
‫تحققت في الزمن والتاريخ(((‪.‬‬
‫ومن التعريفات األخرى األكثر طو ً‬
‫ال وتحديد ًا‪ ،‬تعريف علي حرب للتاريخية‬
‫بأنها «تعني أن لألحداث والممارسات والخطابات أصلها الواقعي‪ ،‬وحيثياتها‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪ ،295‬ود‪ .‬عبد الله القرني‪ :‬األساس‬
‫الفلسفي للتاريخية‪ ،‬وأثره على الموقف من ثبوت الوحي في الفكر الحداثي العربي ص ‪.9‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.48‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.26‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.69/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة الحقيقة ص ‪.71‬‬

‫‪185‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الزمانية والمكانية‪ ،‬وشروطها المادية والدنيوية‪ ،‬كما تعني خضوع البنى والمؤسسات‬
‫والمفاهيم للتطور والتغير‪ ،‬أي قابليتها للتحويل والصرف‪ ،‬وإعادة التوظيف»(((‪.‬‬

‫وال يمكن ألحد أن يجادل في أن التاريخية في أصلها فكرة غربية النشأة والجذور‪،‬‬
‫وقد شغلت موقع ًا بالغ األهمية في الفكر الغربي‪ ،‬حيث شكلت «المقولة األساسية‬
‫لمنطق الفكر الغربي‪ ،‬والمفهوم المركزي الذي استعمله منذ بداية نهضته في إقصاء‬
‫سيطرة الموروث الديني‪ ،‬وتأسيس بناء معرفي جديد»(((‪.‬‬

‫وقد استوردها العلمانيون والحداثيون العرب‪ ،‬واهتموا بها اهتمام ًا كبير ًا جد ًا‪،‬‬
‫ومثلت محور ًا رئيس ًا في تعاملهم مع القرآن والسنة والشريعة والتراث اإلسالمي‬
‫بصفة عامة‪ ،‬ووصل األمر إلى ما يشبه حالة الهوس بها‪ ،‬حتى صارت الرهان األساسي‬
‫والمشروع الفكري األبرز لهم‪ ،‬وكما يشير بعض الدارسين‪ ،‬فإن «التاريخية من أهم‬
‫مضامين الخطاب الحداثي‪ ،‬ومحاوالت تأسيسها من أهم أهداف هذا الخطاب»(((‪.‬‬

‫وفي اعتراف مهم‪ ،‬أقر أحد أبناء تلك المدرسة العلمانية الحداثية بأن «القول‬
‫بتاريخية النص القرآني‪ ،‬وتاريخية فهم هذا النص‪ ،‬هما قطب الرحى في نظرية‬
‫التجديد التي يتبناها الفكر النقدي الجديد‪ ،‬وهو ما سنرى تبلور ًا واضح ًا له في‬
‫الموقف من النص اإلسالمي برمته‪ ،‬أي من النص المقدس والمنتجات المختلفة‬
‫التي تأتت منه»(((‪.‬‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.65‬‬


‫((( د‪ .‬محمد بن حجر‪ :‬موقف الفكر الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم ص ‪،85‬‬
‫وانظر أيض ًا‪ :‬قطب الريسوني‪ :‬النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر ص ‪ ،209‬ود‪ .‬صالح‬
‫الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪.391‬‬
‫((( مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر ص ‪.12‬‬
‫((( محمد حمزة‪ :‬إسالم المجددين ص ‪.56‬‬

‫‪186‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫كذلك جعل علي حرب الهم الفكري األكبر لمحمد أركون‪ ،‬ورهانه األساسي‬
‫فيما يبذله من جهود فكرية متواصلة متمحور ًا حول «إدخال التاريخية إلى ساحة الفكر‬
‫العربي اإلسالمي «بكل مراحله وأطواره‪ ،‬وبمختلف نصوصه وخطاباته‪ ،‬بما في ذلك‬
‫النص القرآني نفسه‪ .‬من هنا المكانة التي يوليها أركون للتاريخية في تفسير كل فترة‬
‫الوحي‪ ،‬والممارسة النبوية»(((‪.‬‬

‫والقراءة التاريخية للقرآن الكريم عند هاشم صالح هي وحدها ‪ -‬فيما يزعم ‪-‬‬
‫التي يمكن أن «تحررنا من كابوس األصوليين‪ ،‬والمتطرفين المتشددين‪ ،‬وتكشف‬
‫األمور على حقيقتها»(((‪ .‬وهذه القراءة التاريخية النقدية للتراث اإلسالمي أشبه بالقدر‬
‫المحتوم‪ ،‬الذي ال مناص منه‪ ،‬ولذا فإنها سوف تفرض نفسها علينا‪ ،‬شئنا أم أبينا(((‪.‬‬

‫ومن مظاهر الهوس بالتاريخية أنه صار من المألوف التنصيص عليها في عناوين‬
‫الكتب واألبحاث‪ ،‬سواء أكانت تدرس اإلسالم جملة‪ ،‬أو علم ًا بعينه من جملة العلوم‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‪ :‬كتاب محمد أركون «تاريخية الفكر العربي اإلسالمي»‪،‬‬
‫وكتاب هشام جعيط «تاريخية الدعوة المحمدية»‪ ،‬وكتاب علي مبروك «عن اإلمامة‬
‫والسياسة‪ ،‬والخطاب التاريخي في علم العقائد»‪ ،‬وكتاب عبد المجيد الشرفي‬
‫«اإلسالم بين الرسالة والتاريخ»‪ ،‬وبحث حسن حنفي «تاريخية علم الكالم»(((‪،‬‬
‫وبحث نصر أبو زيد «التاريخية المفهوم الملتبس»(((‪ ،‬وكتاب نائلة السليني «تاريخية‬
‫التفسير القرآني»‪.‬‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.66‬‬


‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل هامش ص ‪.50‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬االنسداد التاريخي ص ‪.77‬‬
‫((( انظر‪ :‬حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.69/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة الحقيقة ص ‪.67‬‬

‫‪187‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال يخفي العلمانيون احتفاءهم وتبجيلهم بأي كتاب يسهم في ترسيخ تاريخية‬
‫القرآن‪ ،‬حتى لو ألفه المستشرقون‪ ،‬وقد أثنى هاشم صالح على كتاب المستشرقة‬
‫جاكلين شابي «رب القبائل ‪ -‬إسالم محمد» فقال‪« :‬هذا الكتاب يعتبر حدث ًا بالمعنى‬
‫الحقيقي للكلمة‪ ،‬فهو يشكل أكبر عملية أرخنة للنص القرآني حصلت حتى اآلن‪،‬‬
‫ونقصد باألرخنة هنا‪ :‬الكشف عن تاريخية الخطاب القرآني‪ ،‬عن طريق ربطه بالبيئة‬
‫الجغرافية والطبيعية والبشرية القبائلية لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميالدي‪،‬‬
‫ومعلوم أن الخطاب القرآني كان قد برع في التغطية على هذه التاريخية عن طريق ربط‬
‫نفسه باستمرار بالتعالي الذي يتجاوز التاريخ األرضي كلي ًا أو يعلو عليه»(((‪.‬‬

‫وهكذا نفهم من هذا الكالم السقيم‪ ،‬الذي ساقه هاشم صالح‪ ،‬أن القرآن سعى‬
‫للتغطية على تاريخيته‪ ،‬وبرع في ذلك‪ ،‬حتى جاءت مستشرقة أعجمية في أيامنا هذه‪،‬‬
‫لتكشف اللثام عن تلك التغطية المزعومة‪ ،‬ولست أدري‪ :‬هل يتصور صدور هذا الكالم‬
‫ممن يؤمن أص ً‬
‫ال أن القرآن كالم الله ووحيه إلى عباده؟!‬

‫وإذا ما بحثنا عن جذور نشأة فكرة التاريخية عند الكتاب العرب‪ ،‬فسوف نجد‬
‫بعض الدارسين((( يميل إلى أن بوادر القول بتاريخية النص القرآني قد الحت منذ‬
‫زمن غير قصير في كتابات عدة شخصيات‪ ،‬مثل‪ :‬الطاهر الحداد في كتابه «امرأتنا في‬
‫الشريعة والمجتمع»‪ ،‬وعبد العزيز الثعالبي في كتابه «روح التحرر في القرآن»‪ ،‬وإن كان‬
‫من المالحظ أن اهتمامهم كان منصب ًا بالدرجة األولى على توظيف ذلك فيما يتعلق‬
‫بقضايا المرأة‪ ،‬والدعوة إلى مساواتها بالرجل‪ ،‬والتشكيك في فرضية الحجاب على‬
‫نساء األمة جميع ًا‪.‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب‬
‫الديني ص ‪.21‬‬
‫((( انظر‪ :‬قطب الريسوني‪ :‬النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر ص ‪.211 ،210‬‬

‫‪188‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫لكن هذه اإلشارات المتناثرة لم تكن كافية إلشاعة دعوى التاريخية في الفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬حتى بدأ هذا المصطلح يتردد في كتابات بعض المتأثرين بالفكر الغربي‪،‬‬
‫ولعل من أوائل من استخدمه المفكر المغربي الماركسي عبد الله العروي في كتابه‬
‫«العرب والفكر التاريخي» الذي صدر عام ‪1973‬م(((‪.‬‬

‫وبعد العروي جاء محمد أركون‪ ،‬الذي يعتبر المؤسس والمنشئ والمروج األبرز‬
‫لهذا المصطلح(((‪ ،‬منذ أن قال في إجابة سؤال وجه له عقب محاضرة بعنوان «العجيب‬
‫الخالب في القرآن» ألقاها بالمؤتمر العلمي المنعقد بباريس ‪1974‬م‪ ،‬والذي أقامته‬
‫منظمة تقدم الدراسات اإلسالمية(((‪« :‬إذا كانت قراءتي صحيحة‪ ،‬وإذا ما حظيت‬
‫بالقبول‪ ،‬فإن ذلك يطرح مشكلة حاسمة بالنسبة للفكر اإلسالمي المعاصر‪ ،‬وبالتالي‬
‫الفكر العربي‪ ،‬كما ال يزال يمارس حتى اليوم‪ ،‬أقصد بذلك ما يلي‪ :‬أريد لقراءاتي‬
‫هذه أن تطرح مشكلة لم تطرح عملي ًا قط بهذا الشكل من قبل الفكر اإلسالمي‪ ،‬أال‬
‫وهي‪ :‬تاريخية القرآن‪ ،‬وتاريخية ارتباطه بلحظة زمنية وتاريخية معينة‪ ،‬حيث كان العقل‬
‫يمارس آليته وعمله بطريقة معينة ومحددة‪ ،‬وبالتالي فلم يعد ممكن ًا إسقاط مفهوم‬
‫العقل وتجديدات العقل على القرآن‪ ،‬لم يعد ممكن ًا إسقاط الوعي العقالني المتأثر‬
‫بالفلسفة اإلغريقية عليه‪ ،‬كما فعلت القراءات اإلسالمية طيلة قرون وقرون‪ ،‬وهذا هو‬
‫الهدف األساسي من الدراسة التي أقدمها بين أيديكم اليوم»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪ ،296‬ود‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل‬
‫الحديثة في الفكر العربي المعاصر ص ‪ ،184‬ود‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد‬
‫العربية من محكمات الدين ص ‪.398‬‬
‫((( انظر‪ :‬قطب الريسوني‪ :‬النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر ص ‪.211‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.187‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.212‬‬

‫‪189‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وليست التاريخية عند أركون مجرد خيار يمكن قبوله أو رفضه‪ ،‬بل هي الوسيلة‬
‫الوحيدة لتفسير الوحي‪ ،‬ومن ثم نجده يقول‪« :‬إن التاريخية ليست مجرد لعبة ابتكرها‬
‫الغربيون من أجل الغربيين‪ ،‬وإنما هي شيء يخص الشرط البشري‪ ،‬منذ أن ظهر الجنس‬
‫البشري على وجه األرض‪ ،‬وال توجد طريقة أخرى لتفسير أي نوع من أنواع ما ندعوه‬
‫بالوحي‪ ،‬أو أي مستوى من مستوياته‪ ،‬خارج تاريخية انبثاقه‪ ،‬وتطوره‪ ،‬أو نموه عبر‬
‫التاريخ»(((‪.‬‬

‫وبعد أركون توالت كتابات العلمانيين والحداثيين في الدعوة إلى التاريخية‪،‬‬


‫وتثبيت دعائمها في البيئة الفكرية اإلسالمية‪ ،‬وإن كان من الواضح أن كثير ًا من‬
‫العلمانيين قد أدركوا ما لمصطلح التاريخية ‪ -‬ذي النشأة الغربية ‪ -‬من ظالل سيئة‬
‫وسمعة غير جيدة‪ ،‬وتعرضه لما وصفه بعضهم بحملة من الهجوم الضاري الجاهل(((‪،‬‬
‫ومن ثم حاولوا إزالة االتهامات المثارة حوله(((‪ ،‬كما حرصوا على البحث عن مداخل‬
‫وشواهد من العلوم اإلسالمية تثبت مشروعيته‪ ،‬وتمهد لقبوله في البيئة اإلسالمية‪.‬‬

‫وثمة شواهد ونماذج كثيرة آلراء العلمانيين الذين حاولوا ترسيخ مبدأ التاريخية‬
‫في التعامل مع النص القرآني‪ ،‬واستخدموا طرائق عدة إلثباته‪ ،‬وقد أشار جورج‬
‫طرابيشي((( إلى ما وصفه بحالة الهوس بالتاريخية عند واحد منهم وهو حسن حنفي‪،‬‬
‫والذي يالحظ المتتبع لكالمه في هذا الصدد حرصه الشديد على تعميم الوصف‬
‫بالتاريخية على كل ما يتعلق باإلسالم‪.‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.48‬‬
‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة الحقيقة ص ‪.75‬‬
‫((( كما في بحث نصر أبو زيد عن «التاريخية المفهوم الملتبس» في كتابه‪ :‬النص السلطة الحقيقة ص‬
‫‪.67‬‬
‫((( انظر‪ :‬جورج طرابيشي‪ :‬ازدواجية العقل‪ ،‬دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي ص ‪.14‬‬

‫‪190‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫فالنصوص الدينية عنده نصوص تاريخية‪ ،‬وهو يعتمد ‪ -‬مثل غيره من العلمانيين‬
‫‪ -‬على كل من أسباب النزول‪ ،‬والناسخ والمنسوخ‪ ،‬كشواهد على إثبات تاريخية‬
‫النصوص الشرعية‪ ،‬بل يرى أن هناك علوم ًا بأكملها‪ ،‬وهي علوم القرآن قد نشأت لبيان‬
‫تاريخية النصوص‪ ،‬ومن ثم نجده يقول‪« :‬النصوص الدينية ذاتها نصوص تاريخية‪،‬‬
‫نشأت في ظروف اجتماعية خاصة عرفت باسم أسباب النزول‪ ،‬وتطورت طبق ًا للزمان‬
‫وتجدد حاجات المجتمع وتنوع القدرات البشرية‪ ،‬من حيث هي مصادر للشرع عرفت‬
‫باسم الناسخ والمنسوخ‪ ،‬ونشأت لذلك علوم بأكملها هي علوم القرآن‪ ،‬لبيان تاريخية‬
‫النصوص‪ ،‬نشأة وتطور ًا واكتما ً‬
‫ال»(((‪.‬‬

‫وإضافة إلضفاء سمة التاريخية على النصوص الشرعية‪ ،‬فإن حسن حنفي يسحب‬
‫هذا الوصف على جوانب الدين كافة‪ ،‬بما في ذلك الوحي‪ ،‬واإلسالم‪ ،‬والقرآن‪،‬‬
‫والشريعة‪ ،‬فالوحي عنده نشأ «في الزمان‪ ،‬وتطور في الزمان من اليهودية إلى المسيحية‬
‫إلى اإلسالم‪ ،‬وتطورت الكتب المقدسة في الزمان»(((‪ .‬واإلسالم والقرآن والشريعة‬
‫كلها متصفة بسمة التاريخية ألن «اإلسالم ذاته الذي يجمع بين هذه النصوص المفرقة‬
‫على مدى ثالثة وعشرين عام ًا‪ ،‬فيما عرف باسم التنجيم هو حلقة تاريخية خاصة في‬
‫تطور الوحي العام‪ ،‬منذ آدم وحتى محمد‪ ،‬وأن القرآن آخر حلقة في صحف إبراهيم‬
‫وموسى‪ ،‬بعد زبور داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى‪ ،‬وأن الشريعة آخر صياغة لشريعة‬
‫الوحي‪ ،‬منذ شرعة آدم وشريعة نوح»(((‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪73/1‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬الدين والثورة في مصر‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬اليمين واليسار في الفكر الديني ص ‪،106‬‬
‫‪.107‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.74 ،73/1‬‬

‫‪191‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وتزداد هذه النزعة التاريخية المتطرفة عند حسن حنفي حتى تجور على الدين‬
‫كله‪ ،‬ويصير مجرد تراث لجماعة معينة ظهر في لحظة تاريخية محددة‪ ،‬وفي ذلك يقول‬
‫بالحرف الواحد‪« :‬فالدين ذاته أصبح تراثنا‪ ،‬ألن الدين قد تمثلته جماعة‪ ،‬وحولته إلى‬
‫ثقافة طبق ًا لمتطلبات العصر‪ ،‬ال يوجد دين في ذاته‪ ،‬بل يوجد تراث لجماعة معينة ظهر‬
‫في لحظة تاريخية محددة‪ ،‬ويمكن تطويرها طبق ًا للحظة تاريخية قادمة»(((‪.‬‬

‫ويتكرر األمر عند شخصية علمانية أخرى‪ ،‬وهي علي حرب‪ ،‬والذي يجعل من‬
‫التاريخية صفة الزمة للوحي والقرآن‪ ،‬وال محيص عنها بحال‪ ،‬وهو يحتج على ذلك‬
‫بأن «المتعالي ال يتجلى إال في التاريخ‪ ،‬والمقدس وال يظهر إال عبر الدنيوي‪ ،‬والوحي‬
‫بما هو كالم الله ال يقرأ إال بلغة مخصوصة»(((‪.‬‬

‫وال يكتفي علي حرب ببيان هذا التالزم المزعوم‪ ،‬والذي ال دليل عليه بين القرآن‬
‫والتاريخية‪ ،‬بل يطلق دعوى عريضة‪ ،‬وتعميم ًا فج ًا دون أي استقراء أو شاهد صحيح‪،‬‬
‫فيقول‪« :‬إن قراءة القرآن لم تكن يوم ًا وال يمكن أن تكون إال تاريخية‪ ،‬ما دام اإلنسان‬
‫ال ينفك عن تاريخيته وزمنيته‪ ،‬هكذا كان األمر على الدوام‪ ،‬وهذا ما فعله المفسرون‬
‫القدامى على اختالف مذاهبهم‪ ،‬وعلى تباين مجاالت اختصاصهم»(((‪.‬‬

‫وإذا تساءلنا عن تلك التاريخية المزعومة‪ ،‬التي وجدت عند سائر المفسرين‬
‫القدامى على اختالف مذاهبهم‪ ،‬ولماذا لم يصرح واحد منهم بها مطلق ًا‪ ،‬كما لم يقل‬
‫بشيء من نتائجها وتوظيفاتها التي صرح بها العلمانيون المعاصرون‪ .‬وهنا يأتي جواب‬
‫علي حرب مشتم ً‬
‫ال على تالعب واضح باأللفاظ والمصطلحات! حيث جعل من‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.24‬‬


‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.77‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.77‬‬

‫‪192‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫مجرد تعامل المفسرين مع القرآن على أنه خطاب عربي‪ ،‬وبحثهم عن أسباب نزوله في‬
‫الزمان وفي المكان؛ دلي ً‬
‫ال على أنهم قرأوا القرآن قراءة تاريخية (((‪.‬‬

‫لكن علي حرب يعود بعد ذلك‪ ،‬فيهدم هذا الذي ادعاه‪ ،‬حيث يقر بما في‬
‫محاولته تلك من نسبة التاريخية للمفسرين القدامى من تكلف‪ ،‬ألن المفسرين‬
‫القدامى «مارسوا القراءة التاريخية له ‪ -‬أي للوحي ‪ -‬دون أن يقولوا ذلك‪ ،‬فهم نسوا‬
‫ذلك أو تناسوه على حد تعبير أركون‪ ،‬في حين نحن نمارس القراءة التاريخية وننظر‬
‫لها‪ .‬ال شك أن ثمة عنصر ًا جديد ًا قد طرأ‪ ،‬عدا عن االختالف في المفاهيم واألدوات‬
‫بين الماضين والمعاصرين‪ ،‬وهذا العنصر يتمثل في نقد القراءات السابقة‪ ،‬واإلبانة‬
‫عن أصولها‪ ،‬والكشف عن آلياتها‪ ،‬وذلك ببيان تاريخيتها‪ ،‬ونزع صفة القداسة أو‬
‫األسطرة عنها»(((‪.‬‬

‫وهكذا يكون التعسف‪ ،‬ولي أعناق الحقيقة‪ ،‬وتجاوز كل ثوابت وبدهيات المنهج‬
‫العلمي! فالقدماء ‪ -‬باعتراف علي حرب ‪ -‬لم يستخدموا مصطلح التاريخية‪ ،‬بل نسوه‬
‫أو تناسوه‪ ،‬واختلفت مفاهيمهم وأدواتهم عما هو موجود عند المعاصرين‪ ،‬وغاب‬
‫عنهم نقد القراءات السابقة ونزع صفة القداسة عنها‪ ،‬ومع ذلك كله ومع غياب كل‬
‫أصول التاريخية ‪ -‬مفهوم ًا وتسمية وأصو ً‬
‫ال وتطبيق ًا ‪ -‬فما زال الرجل مصر ًا على أنهم‬
‫كانوا تاريخيين حتى النخاع!!‬

‫ولعل هذا اإللحاح المريب على إثبات وجود التاريخية عند المتقدمين‪ ،‬يفسر لنا‬
‫ذلك الحرص الشديد من العلمانيين على ترسيخ هذا المصطلح في البيئة اإلسالمية‪،‬‬
‫بكل ما يترتب عليه من نتائج خطيرة جد ًا‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.78‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.79‬‬

‫‪193‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ولحسن الحظ فإن علي حرب ‪ -‬وخالف ًا لعادة كثير من العلمانيين الذين يلجؤون‬
‫للمراوغة والمداراة‪ ،‬والتالعب باأللفاظ ‪ -‬ال يتردد في بيان مقصد العلمانيين من‬
‫التاريخية‪ ،‬التي يلحون عليها‪ ،‬والنتائج الخطيرة المترتبة عليها‪ ،‬حيث يقول‪« :‬التعامل‬
‫مع الفكر اإلسالمي بوصفه نتاج ًا تاريخي ًا‪ ،‬معناه نزع هالة القداسة عن ذلك الفكر‪،‬‬
‫أي تمزيق الحجاب وهتك الستر‪ ،‬هذا هو صلب القضية‪ ،‬كيف نقرأ التراث والقرآن‬
‫تحديد ًا»(((‪ ،‬وليس المقصود من قوله «كيف نقرأ التراث والقرآن» مجرد التأويل أو‬
‫إعادة القراءة‪ ،‬بل المقصود صراحة‪ ،‬وبنص كالم الرجل نفسه «إخضاع النص القرآني‬
‫للنقد التاريخي‪ ،‬ولمناهج التحليل الغربية الحديثة»(((‪.‬‬

‫وتستمر ظاهرة الهوس بالتاريخية عند الكثير من العلمانيين‪ ،‬مع مبالغة‪ ،‬وتكلف‬
‫في إسباغها على اإلسالم‪ ،‬والوحي‪ ،‬والقرآن‪ ،‬والشريعة‪ ،‬وكل ما يتعلق بدين اإلسالم‪،‬‬
‫حتى وصل األمر بنصر أبو زيد أن يجعل ذلك من قبيل األمور الضرورية‪ ،‬زاعم ًا أن‬
‫النصوص الدينية «بالضرورة نصوص تاريخية‪ ،‬بمعنى أن داللتها ال تنفك عن النظام‬
‫اللغوي الثقافي‪ ،‬الذي تعد جزء ًا منه»(((‪.‬‬

‫وال يدري المرء حق ًا أي ضرورة‪ ،‬وأي منهجية علمية‪ ،‬تلك التي تجعل شخص ًا يصل‬
‫بفكرة مزعومة‪ ،‬أو في أحسن األحوال مجرد دعوى‪ ،‬إلى مرتبة ما هو معلوم ضرورة‪ ،‬ثم‬
‫يكون دليله عليها فكرة أخرى أشد تهافت ًا وبطالن ًا وأبعد ضال ًال وانحراف ًا‪ ،‬وهي االدعاء‬
‫بأن النصوص الدينية تاريخية‪ ،‬ألنها نصوص بشرية‪ ،‬بحكم انتمائها للغة والثقافة في فترة‬
‫تاريخية محددة‪ ،‬هي فترة تشكلها وإنتاجها(((‪ ،‬فال مقدمات االستدالل صحيحة‪ ،‬وال‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.76‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.77 ،76‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.206‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.206‬‬

‫‪194‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫النتائج المستنبطة منها صائبة‪ ،‬وإنما هي ظلمات متراكمة بعضها فوق اآلخر‪.‬‬

‫والتاريخية عند طيب تيزيني من سمات اإلسالم‪ ،‬ومن سمات كتابه القرآن «بوصفه‬
‫كتاب تنزيل نزل نجم ًا نجم ًا‪ ،‬وكتاب تأويل بلغ كذلك نجم ًا نجم ًا‪ ،‬وفهم وفق قانونية‬
‫التعدد الفقهية المعرفية‪ ،‬واأليديولوجية المصلحية»((( وهو يرى أن القرآن يبرز نص ًا‬
‫لغوي ًا تاريخي ًا‪ ،‬ينتمي إلى مرجعية لغوية وسوسيوثقافية ذات سياق تاريخي محدد‪ ،‬وفي‬
‫هذه الحال يصبح الباحث مطالب ًا بأن يأتي النص المذكور‪ ،‬ويتناوله من موقع األدوات‬
‫المعرفية المناسبة»(((‪.‬‬

‫وفي فجاجة بالغة يزعم تيزيني أن الرسول ‪ #‬نفسه هو «أول من موضعه ‪ -‬أي القرآن ‪-‬‬
‫بشري ًا‪ ،‬وبشر به تاريخي ًا متورخ ًا‪ ،‬واستعان إدراكه في البدء بالسيدة خديجة‪ ،‬وبعمها أو ابن‬
‫عمها ورقة بن نوفل»(((‪ .‬لكن هذا البعد التاريخي للنصوص «قد جرى التنكر له من قبل‬
‫جموع متعاظمة من الفقهاء والمحدثين السلفويين‪ ،‬وكذلك الجمهور العام»(((‪.‬‬

‫وينتقد هاشم صالح غياب مفهوم التاريخية لدى الوعي اإلسالمي التقليدي‪ ،‬حتى‬
‫صار مفهوم ًا «غير وارد على اإلطالق بالنسبة للوعي اإلسالمي التقليدي‪ ،‬فالنصوص‬
‫الدينية تتعالى على التاريخ في نظره‪ ،‬ولكن البحث التاريخي الحديث يثبت لنا أن‬
‫القرآن مرتبط بظروف عصره وبيئته‪ ،‬أي بشبه الجزيرة العربية‪ ،‬وبخاصة منطقة الحجاز‬
‫في القرن السابع الميالدي»(((‪.‬‬

‫((( طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق ص ‪.133‬‬


‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.374‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق ص ‪.134‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.361‬‬
‫((( انظر‪ :‬تعليق هاشم صالح على كتاب محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل‬
‫الخطاب الديني ص ‪.14‬‬

‫‪195‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وانطالق ًا من منهجيته الماركسية‪ ،‬ذهب حسين مروة إلى أن ظهور اإلسالم‬


‫ال يمكن النظر إليه إال كحتمية تاريخية‪ ،‬حيث أتى في وقته المحتوم؛ ألنه حادث‬
‫ارتبط موضوعي ًا بضرورات اجتماعية تاريخية‪ ،‬وبحكم التناقضات التي كان المجتمع‬
‫الجاهلي ينطوي عليها؛ فأهل الجاهلية العرب كانوا في حاجة إلى تحول ينقلهم‬
‫إلى رحاب حياة أوسع‪ ،‬يتجاوز شبه الجزيرة العربية‪ ،‬والمفاجأة التي حيرت العالم‬
‫بظهور اإلسالم‪ ،‬لم تكن مفاجأة على صعيد شبه الجزيرة العربية(((‪.‬‬

‫ويؤكد محمد سعيد العشماوي أنه ينبغي لإلحاطة بالمعنى الصحيح المراد من‬
‫آيات القرآن‪ :‬معرفة الظروف التاريخية التي تداخلت معها‪ ،‬وأسباب التنزيل التي أدت‬
‫لوجودها‪ ،‬بما يعنى أن المنهج السديد للتفسير هو «الذي يفسر اآليات وفق ًا لظروفها‬
‫التاريخية‪ ،‬وتبع ًا ألسباب تنزيلها»(((‪ .‬وقد استخدم العشماوي هذا المنهج للتملص‬
‫من وجوب الحكم بالشريعة‪ ،‬وتطبيق أحكامها وذم من يخالفون ذلك‪ ،‬في سياق تناوله‬
‫لقول الله تعالى‪َ { :‬و َم ْن َل ْم َي ْح ُك ْم ب َِما َأن َْز َل ال َّل ُه َف ُأو َلئ َِك ُه ُم ا ْل َكاف ُِرونَ } [المائدة‪.]44:‬‬
‫حيث أشار إلى أنه تبع ًا للمنهج الذي يفسر اآليات وفق ًا لظروفها التاريخية‪ ،‬وتبع ًا‬
‫ألسباب تنزيلها‪ ،‬فإن هذه اآلية نزلت في يهود المدينة في واقعة معينة‪ ،‬ومن ثم فهي‬
‫«ال تعني المجتمعات أو الحكومات‪ ،‬كما ال يجوز إطالقها على المسلمين مهما كانت‬
‫أخطاؤهم»(((‪.‬‬

‫ولست أدري أي فهم هذا الذي يجعل اليهود مستحقين للذم والوعيد الشديد‪،‬‬
‫والحكم بالظلم والفسق والكفر إذا لم يحكموا بما أنزل الله‪ ،‬بينما المسلمون ال تثريب‬

‫((( انظر‪ :‬عبد الحميد بلواهم‪ :‬قراءة في التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬حسين مروة نموذجا ص ‪.94‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص ‪.48‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص ‪ ،48‬وانظر المعنى نفسه عند‪ :‬عبد‬
‫المجيد الشرفي‪ :‬تحديث الفكر اإلسالمي ص ‪.14‬‬

‫‪196‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫عليهم مطلق ًا‪ ،‬وليسوا ملزمين بحكم الله‪ ،‬ألن هذه اآلية كما يزعم العشماوي ال تعني‬
‫الحكومات‪ ،‬كما ال يجوز إطالقها على المسلمين بأي حال من األحوال‪.‬‬

‫وليس اإلشكال هنا هو تحديد المقصود بالكفر في اآلية‪ ،‬وهل هو أكبر أو أصغر‪،‬‬
‫وما حاالت الحكم بغير ما أنزل الله‪ ،‬وحكم كل حالة منها‪ ،‬وإنما موضع انتقادنا هو‬
‫ذلك المنهج المغلوط الذي يقصر اآلية بكل مقتضياتها على بني إسرائيل فحسب‪،‬‬
‫حتى ما يتعلق بوجوب الحكم بما أنزل الله وذم تاركيه‪ ،‬وال سيما أن اآلية قد اقترن بها‬
‫ما يدل على العموم‪ ،‬وهو لفظة «من» الشرطية(((‪ ،‬ولهذا قال أحد األئمة المتقدمين من‬
‫علماء المالكية الكبار‪ ،‬وهو إسماعيل القاضي (ت ‪282‬ﻫ)‪« :‬ظاهر اآليات يدل على‬
‫أن من فعل مثل ما فعلوا‪ ،‬واخترع حكم ًا يخالف به حكم الله‪ ،‬وجعله دين ًا يعمل به‪ ،‬فقد‬
‫لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكم ًا كان أو غيره»(((‪.‬‬

‫وثمة آثار عدة عن جماعة من الصحابة والتابعين(((‪ ،‬ينبهون فيها إلى انطباق‬
‫اآلية على من شابه اليهود في صنيعهم‪ ،‬كما ينتقدون ذلك المسلك الخاطئ الذي‬
‫يجعل الذم خاص ًا ببني إسرائيل وحدهم‪ ،‬ومن ذلك قول حذيفة بن اليمان رضي الله‬
‫عنه‪« :‬نعم األخوة لكم بنو إسرائيل‪ ،‬إِن كان لكم كل حلوة‪ ،‬ولهم كل مرة‪ ،‬كال والله‬
‫لتسلكن طريقهم قدر الشراك»(((‪ ،‬وقريب من هذا المعنى قول ابن عباس رضي الله‬
‫عنه‪« :‬نعم القوم أنتم‪ ،‬إِن كان ما كان من حلو فهو لكم‪ ،‬وما كان من مر فهو ألهل‬
‫الكتاب»(((‪ .‬وقال إبراهيم النخعي‪« :‬نزلت هذه اآليات في بني إسرائيل‪ ،‬ورضي لهذه‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد بن حجر‪ :‬التشريع الوضعي ص ‪.268‬‬


‫((( ابن حجر‪ :‬فتح الباري ‪.120/13‬‬
‫((( انظر‪ :‬الطبري‪ :‬تفسير الطبري ‪ ،466/8‬ود‪ .‬محمد بن حجر‪ :‬التشريع الوضعي ص ‪.269 ،268‬‬
‫((( رواه الحاكم في المستدرك ‪ ،342/2‬وانظر‪ :‬السيوطي‪ :‬الدر المنثور ‪.88/3‬‬
‫((( السيوطي‪ :‬الدر المنثور ‪88/3‬‬

‫‪197‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫األمة بها»(((‪ .‬وقال الحسن البصري‪« :‬نزلت في اليهود‪ ،‬وهي علينا واجبة»(((‪.‬‬

‫ومن الشخصيات العلمانية األخرى التي صرحت بتبنيها للتاريخية‪ :‬خليل عبد‬
‫الكريم‪ ،‬الذي اعتبر تاريخية النصوص أحد األسس التي قام عليها ما يسمى باليسار‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فقال‪« :‬نحن نؤمن بتاريخية النصوص‪ ،‬وبربطها بأسباب ورودها‪ ،‬وبالفترة‬
‫الزمنية التي ظهرت فيها‪ ،‬وبالبيئة التي انبعثت منها‪ ،‬وبالمجتمع الذي ولدت فيه‪ ،‬بل‬
‫بالظروف الجغرافية التي واكبتها‪ ،‬وبالدرجة الحضارية للمخاطبين بها‪ ،‬وبمداهم‬
‫المعرفي وأفقهم الثقافي‪ ،‬مع الوضع في االعتبار أن النصوص ذاتها ذكرت صراحة‬
‫أنها تتوجه إلى أمة أمية»(((‪.‬‬

‫والشريعة اإلسالمية عند إبراهيم فوزي وضعت وضع ًا في فترة تاريخية معينة‪،‬‬
‫وليس باعتبارها وحي ًا نزل من عند الله سبحانه‪ ،‬ومن ثم فإن التاريخية سمة ال تنفك‬
‫عنها تلك الشريعة «ومن البديهي أن تحمل في طياتها كثير ًا من سمات ذلك العصر‪،‬‬
‫لتتالءم أحكامها مع حاجات الناس القليلة والبدائية آنذاك‪ ،‬ومع قدراتهم الفكرية‬
‫واألخالقية على استيعابها واألخذ بها»(((‪.‬‬

‫وتصل المجازفة‪ ،‬والمبالغة الممجوجة بسيد القمني إلى الدرجة التي يجعل فيها‬
‫من تاريخية القرآن درس ًا تربوي ًا‪ ،‬وحقيقة أكدتها نصوص القرآن بما ال يحتمل لبس ًا أو‬
‫تأوي ً‬
‫ال‪ ،‬فالقرآن هو «ذلك النص الرفيع‪ ،‬الذي تأكدت تاريخيته درس ًا تربوي ًا للمؤمنين به‪،‬‬
‫تلك التاريخية التي أكدتها نصوص القرآن الكريم ذاتها بما ال يحتمل لبس ًا أو تأوي ً‬
‫ال»(((‪.‬‬
‫((( الطبري‪ :‬تفسير الطبري ‪.466/8‬‬
‫((( المرجع السابق ‪.467/8‬‬
‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي‪ ،‬ضمن األعمال الكاملة ص ‪.108‬‬
‫((( إبراهيم فوزي‪ :‬تدوين السنة ص ‪.13‬‬
‫((( سيد القمني‪ :‬رب الزمان ص ‪.228‬‬

‫‪198‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ويجزم القمني ‪ -‬بجرأة ال تنم عن ثقة‪ ،‬أكثر ما كونها تنم عن جهل‪ ،‬وعدم‬
‫معرفة بما يقول أو يتكلم فيه ‪ -‬بأن تاريخية النص القرآني «ال يجادل فيها إال مكابر‪،‬‬
‫أو صاحب مصلحة‪ ،‬وكانت هذه التاريخية واضحة تمام ًا في أذهان المسلمين‬
‫األوائل»(((‪.‬‬

‫وهكذا يتناسى هؤالء النفر من العلمانيين تلك (األسطوانة المشروخة) التي‬


‫تتابعوا على التلويح بها في وجه من ينكر عليهم إنكار الثوابت والقطعيات الشرعية‪،‬‬
‫بأنه ال توجد مسألة تعلو على النقد‪ ،‬أو ال تقبل النقاش أو الجدال‪ ،‬وال بد من طرح كل‬
‫القضايا على بساط البحث‪ ،‬دون تسفيه أو تشويه للمخالف‪ ،‬لكن ذلك كله ينمحي ها‬
‫هنا‪ ،‬وتتحول التاريخية إلى بدهية‪ ،‬ال تقبل النقاش‪ ،‬وال يجادل فيها إال المكابر‪ ،‬أو‬
‫صاحب المصلحة‪.‬‬

‫واألدهى واألمر من ذلك أن التاريخية ‪ -‬وهي فكرة فلسفية حديثة الظهور‪،‬‬


‫ومصطلح لم يعرف إال في عصور متأخرة ‪ -‬تتحول بكل بساطة عند القمني إلى‬
‫حقيقة «واضحة تمام ًا في أذهان المسلمين األوائل»(((‪ ،‬أما رافضو التاريخية فال‬
‫مجال لنقاشهم عند القمني أو محاورتهم‪ ،‬إنما الحل ‪ -‬كما هي عادته ‪ -‬يتمثل في‬
‫سبهم وشتمهم‪ ،‬سواء كانوا من الفقهاء القدامى أو المعاصرين‪ ،‬الذين يصفهم القمني‬
‫باإلكليروس اإلسالمي‪ ،‬مطالب ًا إياهم برفع يدهم عن اإلسالم‪ ،‬والتوقف عن التحريم‬
‫والتكفير‪ ،‬حتى يمكن إعادة النظر والترتيب والتصويب‪ ،‬دون خوف من اتهامات‬
‫المروق والتخوين(((‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.235‬‬


‫((( سيد القمني‪ :‬رب الزمان ص ‪.235‬‬
‫((( انظر‪ :‬منصور أبو شافعي‪ :‬التنوير بالتزوير ص ‪.69‬‬

‫‪199‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫والقراءة األمثل للقرآن الكريم عند القمني‪ ،‬هي القراءة الزمنية والمكانية‬
‫(التاريخية) والعلة في ذلك أن آيات القرآن كانت صالحة فقط في زمانها‪ ،‬ومتوافقة‬
‫مع واقعها‪ ،‬ومنسجمة مع محيطها‪ ،‬ومن ثم فإن أي دعوة لتطبيقها في العصر الحاضر‬
‫تصبح نشاز ًا‪ ،‬يفتئت على الله وعلى قرآنه‪ ،‬وبهذه التاريخية تنعدم صالحية القرآن لكل‬
‫زمان ومكان‪ ،‬وتظل اآليات معبرة فقط عن زمن مضى في تاريخ المسلمين(((‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن «على المسلم المؤمن قبول القرآن ليس كما هو في المصحف‪ ،‬وإنما كما كان‬
‫في تاريخيته‪ .‬تلك التاريخية التي يرفضها اإلكليروس‪ ،‬ليظل دين ًا خارج الزمان‬
‫والمكان»(((‪.‬‬

‫والتاريخية عند عبد الجواد يس سمة الزمة ال يمكن االنفكاك عنها بالنسبة لكل‬
‫نص تشريعي ديني ألن هذا النص «ال ينفك بنيوي ًا عن واقع تاريخي أول نشأ فيه وعنه‪،‬‬
‫وهو ما يستدعي التاريخ بالضرورة عند التعاطي مع النص‪ ،‬وفي النموذج اإلسالمي‬
‫تحديد ًا وردت التشريعات النصية متلبسة بالوقائع الخاصة بالجماعة المسلمة األولى‬
‫في المدينة‪ ،‬إلى الحد الذي جعل من المستحيل أحيان ًا التعامل مع النص إال من خالل‬
‫هذه الوقائع»(((‪.‬‬

‫ومن الطبيعي أن تمتد سمة التاريخية إلى فهم الدين عند عبد المجيد الشرفي‪،‬‬
‫حيث اختلف هذا الفهم من عصر آلخر «وأصبح فهم الدين وتصور أغراضه ومقاصده‬
‫متأثر ًا إلى حد بعيد بالظروف التي يمر بها المجتمع»(((‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.90‬‬


‫((( منصور أبو شافعي‪ :‬التنوير بالتزوير ص ‪ ،69‬وقد نقل كالم سيد القمني من مقال له بمجلة أدب‬
‫ونقد العدد ‪ ،201‬مايو ‪2002‬م‪.‬‬
‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.78‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪.189‬‬

‫‪200‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وخالصة ما نخرج به من هذا التتبع آلراء العلمانيين وموقفهم من التاريخية أنها‬


‫صارت عندهم من الحقائق المفروغ منها‪ ،‬والتي ال يمكن التعامل مع الدين ونصوص‬
‫القرآن والسنة وأحكام الشريعة إال من خاللها‪ ،‬مع بروز ظاهرة التكرار والتقليد‬
‫الممجوج‪ ،‬وسوق اآلراء دونما مستند‪ ،‬أو برهان معتبر‪.‬‬

‫وكما أشرنا من قبل‪ ،‬فإن هناك أمور ًا عدة وظفها العلمانيون إلثبات التاريخية‪ ،‬ومنها‬
‫بعض مباحث علوم القرآن الكريم‪ ،‬مثل‪ :‬أسباب النزول‪ ،‬والمكي والمدني‪ ،‬والناسخ‬
‫والمنسوخ‪ ،‬وهذه العلوم الثالثة في رأي العلمانيين «تثبت أن القدماء وعوا صلة ‪/‬‬
‫صالت ما بين النص الديني‪ ،‬والواقع التاريخي‪ ،‬وقرأوا األول على هذا المقتضى‪ ،‬وهو‬
‫ما يسوغ للمعاصرين‪ ...‬قراءة ذلك النص قراءة تاريخية بأدوات معاصرة مناسبة‪ ،‬تبني‬
‫على قراءات األقدمين‪ ،‬وتضيف إليها أبعاد ًا جديدة‪ ،‬تفتحها أسئلة الرؤية التاريخية‬
‫للنصوص في الفكر الحديث»(((‪.‬‬

‫وال شك أن أسباب النزول تعد من أهم المباحث التي عول عليها العلمانيون‬
‫والحداثيون إلثبات تاريخية القرآن الكريم‪ ،‬وألحوا على ذلك في كتبهم المختلفة‪،‬‬
‫ولعله ليس من المبالغة ما ذكره بعض الدارسين من أن «هذا المبحث من علوم القرآن‬
‫هو مدار إثبات تاريخية النص القرآني في الخطاب الحداثي‪ ،‬ألن هذا األخير ال ينظر‬
‫إلى هذه األسباب على أنها مناسبات كما هو معروف عند علماء التفسير وأصول الفقه‬
‫وعلماء القرآن‪ ،‬بل يعتبرها عل ً‬
‫ال مؤثرة‪ ،‬ارتبطت نصوص الوحي في نزولها بها‪ ،‬وما‬
‫دامت هذه األسباب كانت في بيئة معينة‪ ،‬فإن النص مرتبط ببيئته وسببه‪ ،‬وال يتجاوز في‬
‫توظيف ذلك‪ ،‬وهذا األمر أدى إلى هدم مبدأ عموم الداللة»(((‪.‬‬

‫((( عبد اإلله بلقزيز‪ :‬العرب والحداثة ‪ - 3‬نقد التراث ص ‪.244‬‬


‫((( مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر ص‬
‫‪ ،38‬والتاريخية‪ ،‬المفهوم وتوظيفاته الحداثية‪ ،‬مجلة إسالمية المعرفة ص ‪ ،67‬العدد ‪ ،63‬شتاء‬
‫‪1432‬ﻫ‪2011/‬م‪.‬‬
‫‪201‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫كذلك من المالحظ على سائر الدراسات الحديثة التي تنهج منهج التاريخية‪،‬‬
‫وتصدر عنه‪ ،‬أنها «تعتمد على ربط النص بالواقع في وجوده وزمانيته ومكانيته‪ ،‬فالقرآن‬
‫مرتبط بظروف تاريخية صاحبت نزوله منذ بداياته حتى اكتمل‪ ،‬هذه الظروف عبارة‬
‫عن أحداث ووقائع وسؤاالت‪ ،‬وهي ما يسمى بأسباب النزول عند المهتمين بعلوم‬
‫القرآن»(((‪.‬‬

‫ويعد محمد أركون‪ ،‬ونصر أبو زيد من أكثر الشخصيات العلمانية إلحاح ًا على‬
‫ترسيخ دعائم التاريخية‪ ،‬والبحث عن شواهد لها في علوم القرآن وغيره‪ ،‬وقد أشار عبد‬
‫اإلله بلقزيز إلى أنهما «أكثر من ألح على فكرة تاريخية النص القرآني في الفكر العربي‬
‫المعاصر‪ ،‬وفي ميدان الدراسات القرآنية بخاصة‪ ،‬ومواجهة تقليد غالب وسائد يعزل‬
‫نص القرآن عن ظروف التنزيل‪ ،‬ويرى في ذلك العزل التعبير األمين عن فكرة تعالي‬
‫النص‪ ،‬وأحكامه المطلقة المناسبة لكل مكان وزمان»(((‪.‬‬

‫وقد شن نصر أبو زيد هجوم ًا شديد ًا‪ ،‬مستخدم ًا عبارات حادة وقاسية جد ًا تجاه‬
‫المنكرين لفكرة التاريخية‪ ،‬واصف ًا إياهم بأنهم «ينطلقون من سوء قصد‪ ،‬ونية مبيتة‬
‫لالغتيال الفكري والمعنوي‪ ،‬مدعومة بالطبع بجهل فاجر‪ ،‬بلغ به فجره أن يتمسح‬
‫بمسوح العلم الكاذبة»(((‪.‬‬

‫وبغض النظر عن هذا األسلوب المتدني‪ ،‬والمليء بألفاظ السب والشتم‪ ،‬والبعيد‬
‫تمام ًا عما صدع به العلمانيون رؤوسنا من احترام اآلخر‪ ،‬وقبول التعددية وعدم احتكار‬
‫الحق والصواب؛ فإن العجيب حق ًا أن نصر أبو زيد يفسر رفض الرافضين للتاريخية‬

‫((( إبراهيم أبو هادي‪ :‬نصر أبو زيد ومنهجه في التعامل مع التراث ص ‪.267‬‬
‫((( د‪ .‬عبد اإلله بلقزيز‪ :‬العرب والحداثة ‪ - 3‬نقد التراث ص ‪.223‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة ص ‪.75‬‬

‫‪202‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫بأنهم «ينطلقون من توهم أن هذا المفهوم يؤدي إلى هدم مبدأ عموم الداللة‪ ،‬األمر‬
‫الذي يفضي بزعمهم إلى اعتبار القرآن الكريم من الحفريات التي ال يدرسها إال‬
‫المتخصصون‪ ،‬بهدف اكتشاف التاريخ المجهول»(((‪.‬‬

‫ووجه التعجب أن نصر أبو زيد وغيره من العلمانيين يقولون صراحة بعدم عموم‬
‫الداللة‪ ،‬وهي الزم من لوازم التاريخية(((‪ ،‬وقد تقدم معنا أن جل العلمانيين يقصرون‬
‫األحكام على أسباب نزولها‪ ،‬كما يقولون بوقتية األحكام الشرعية‪ ،‬وعدم صالحيتها‬
‫للتطبيق في العصور الحاضرة‪.‬‬

‫وعلى جانب آخر طرح نصر أبو زيد مسألة أسباب النزول «باعتبارها ممر ًا مهم ًا‬
‫للقول بالتاريخية‪ ،‬بل هي المبرر األساسي لربط النص بالحدث األساس المسبب‬
‫لنزول النص»(((‪ ،‬لكنه مع ذلك ينتقد منهجية ما يسميه بالخطاب الديني في التعامل مع‬
‫البعد التاريخي للنصوص‪ ،‬حيث اقتصر على علم أسباب النزول ‪ -‬والذي يدل على‬
‫ارتباط النصوص بالواقع‪ ،‬والحاجات المثارة في المجتمع والواقع‪ ،‬أو علم الناسخ‬
‫والمنسوخ ‪ -‬الذي يدل على تغيير األحكام لتغير الظروف والمالبسات ‪ -‬بينما أغفل‬
‫ما هو أهم‪ ،‬وأخطر داللة‪ ،‬وهو «تاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خالل‬
‫منطوقها‪ ،‬وذلك نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص»(((‪.‬‬

‫ومثل غيره من العلمانيين وظف علي حرب أسباب النزول إلثبات تاريخية القرآن‪،‬‬
‫ألن ما يسميه بحيثيات الوحي «أو باألحرى إحداثياته‪ ،‬أي أسباب نزوله تحيل دوم ًا إلى‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.75‬‬


‫((( انظر‪ :‬مرزوق العمري‪ :‬التاريخية المفهوم وتوظيفاته الحداثية‪ ،‬مجلة إسالمية المعرفة‪ ،‬العدد ‪63‬‬
‫ص ‪.69‬‬
‫((( إبراهيم أبو هادي‪ :‬نصر أبو زيد ومنهجه في التعامل مع التراث ص ‪.271‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.118‬‬

‫‪203‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أحداث وممارسات تقع في الهنا واآلن‪ ،‬وإلى ذوات مشدودة إلى الزمان والمكان‪ ،‬من‬
‫هنا إناسية الوحي وزمنيته»(((‪.‬‬
‫وأما علي أومليل‪ ،‬فقد قرر أو ً‬
‫ال أن النصوص قد «اقترنت بأسباب استدعت‬
‫ورودها‪ ،‬فجاءت في مناسبات معينة‪ .‬قد تحدث واقعة أو يطرح سؤال‪ ،‬فتأتي اآلية‬
‫أو الحديث جواب ًا‪ ،‬وتشريع ًا»(((‪ ،‬وبعد أن قرر هذا المعنى‪ ،‬بدأ بطرح عدة أسئلة‪ ،‬منها‬
‫سؤال عن‪ :‬العالقة بين النص والسبب الذي استدعاه‪ ،‬وبين النص والمناسبة التي قيل‬
‫فيها‪ .‬وسؤال آخر أكثر اتصا ً‬
‫ال بقضية التاريخية وهو «إذا كانت ثمة آيات وردت ألسباب‬
‫ظرفية معينة‪ ،‬هل يعني ذلك القول بنسبيتها التاريخية؟»(((‪.‬‬

‫ويجيب أومليل عن ذلك بأن العلماء المتقدمين من المفسرين واألصوليين قد‬


‫«أدركوا ما ينطوي عليه هذا السؤال من نتائج خطيرة‪ ،‬ولذا كان جوابهم قاطع ًا‪ :‬إن‬
‫مفهوم األسباب ليس يعني األسباب التاريخية بوجه من الوجوه»(((‪.‬‬

‫والجيد في كالم أومليل هنا اعترافه بأن فكرة التاريخية ‪ -‬بالمعنى الذي يقصده‬
‫العلمانيون وبما يترتب عليها من نتائج خطيرة ‪ -‬فكرة مرفوضة تمام ًا عند العلماء‬
‫المتقدمين‪ ،‬وهو مسلك مباين لطريقة بعض العلمانيين‪ ،‬الذين يتعسفون في إيراد‬
‫نصوص أو آراء لبعض العلماء المتقدمين مبتسرة عن سياقها‪ ،‬كي يثبتوا أن فكرة‬
‫التاريخية لها جذور تراثية‪.‬‬

‫لكن إذا كان ما سبق هو جواب العلماء المتقدمين الذين رفضوا بوضوح قضية‬
‫التاريخية‪ ،‬واحتاطوا لنفي أي صلة بينها وبين أسباب النزول‪ ،‬فإن رأي أومليل نفسه‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.77‬‬


‫((( علي أومليل‪ :‬في شرعية االختالف ص ‪.50‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.51‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.51‬‬

‫‪204‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫أن تلك الصلة ثابتة وال يمكن إنكارها‪ ،‬ومن األدلة على ذلك عنده أن سبب النزول‬
‫قد يكون سؤا ً‬
‫ال‪ ،‬والسؤال تاريخي‪ ،‬ألن السائل كائن في زمان وبيئة‪ ،‬وأسئلة الناس‬
‫وأجوبتهم تتجدد عبر التاريخ (((‪.‬‬

‫ومن القضايا التي وظفها بعض العلمانيين إلثبات التاريخية‪ :‬مسألة نزول القرآن‬
‫منجم ًا ‪ -‬أي آيات وسور تلو بعضها ‪ -‬وليس جملة واحدة كما اقترح المشركون‪،‬‬
‫ين َكف َُروا َل ْو َل ن ُِّز َل َع َل ْي ِه ا ْلق ُْرآنُ ُج ْم َل ًة‬ ‫وحكى الله عنهم ذلك في قوله تعالى‪َ { :‬و َق َ‬
‫ال ا َّلذِ َ‬
‫َواحِ َد ًة َك َذل َِك ِل ُن َث ِّب َت ِب ِه ُفؤَ ا َد َك َو َر َّت ْل َنا ُه ت َْرتِي ًال} [سورة الفرقان‪.]32:‬‬

‫وممن اعتمد على ذلك طيب تيزيني‪ ،‬الذي اعتبر أن نزول القرآن منجم ًا دليل‬
‫ضروري على تاريخيته‪ ،‬فقال‪« :‬ال شك في أن إقرار ًا بأن القرآن أتى على ذلك النحو‬
‫المنجم ينطوي بالضرورة على االنطالق من أن هذا النحو ذو بعد تاريخي بخصوصية‬
‫قرآنية معينة»(((‪ ،‬والقرآن في نظره كتاب جاء في زمان معين ليخاطب بشر ًا في سياق‬
‫تاريخي ومجتمعي معين‪ ،‬وليجيب عما كان لديهم من أسئلة ومشكالت ومعضالت(((‪.‬‬

‫وإذا كان العرض السابق آلراء العلمانيين يظهر حرصهم الشديد على توظيف‬
‫أسباب النزول إلثبات تاريخية القرآن الكريم‪ ،‬فإن األمر لم يخل من وجود آراء تنتقد‬
‫بعض ما شاب تناولهم من مجازفات ومبالغة‪ ،‬ومن هذا القبيل تنبيه محمد أركون ‪ -‬مع‬
‫أنه من أبرز دعاة التاريخية ‪ -‬على خطأ من يخلطون بين التاريخية من جهة‪ ،‬وأسباب‬
‫النزول من جهة أخرى‪ ،‬حيث قال‪« :‬ال ينبغي خلط التاريخية هنا بكل ما كان التفسير‬
‫التقليدي يدرسه وال يزال تحت اسم أسباب النزول‪ ،‬صحيح أن علم أسباب النزول‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.52‬‬


‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.357‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق ص ‪.105‬‬

‫‪205‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ينقل األسباب المباشرة التي أدت إلى نزول الوحي أو رافقته‪ ..‬ولكنه يتحدث عن‬
‫وقائع مبعثرة ومتقطعة وآنية ظرفية‪ ،‬لم تستكشف العالقة بينها‪ ،‬وبين المكانة اإللهية‬
‫لآليات»(((‪.‬‬

‫لكن أركون مع ذلك ال ينفي أهمية أسباب النزول‪ ،‬وكذلك الناسخ والمنسوخ في‬
‫خدمة ما يزعم أنه إعادة كتابة التاريخ الحقيقي للنص القرآني‪ ،‬بل يرى من الضروري‬
‫«أن نستعيد أدبيات أسباب النزول‪ ،‬والناسخ والمنسوخ‪ ،‬واألحاديث التي استشهد بها‬
‫دعم ًا للتفاسير المختلفة‪ ،‬من أجل أن ندرسها من جديد‪ ،‬ونعيد كتابة التاريخ الحقيقي‬
‫للنص القرآني»(((‪.‬‬

‫ومن تخبطات محمد شحرور وتناقضاته المتكاثرة أنه هاجم بشدة من اتخذوا‬
‫أسباب النزول تكأة للقول بتاريخية النص القرآني ومرحليته‪ ،‬ورفض صالحيته لكل‬
‫زمان ومكان‪ ،‬فقال‪« :‬إن زعم وجود أسباب للنزول يجرد اآليات والحكام والقول‬
‫اإللهي من مطلقيته وعموميته‪ ،‬ويجعله مقيد ًا مخصوص ًا‪ ،‬ويربطه لزوم ًا بالحدث‬
‫التاريخي‪ ،‬األمر الذي يفتح الباب واسع ًا أمام المؤمنين بالحتمية التاريخية للقول‬
‫بتاريخية النص القرآن ومرحليته‪ ،‬ولرفض فكرة صالحيته لكل زمان ومكان»(((‪.‬‬

‫وينبغي أال نفهم من كالم شحرور أنه ينفي فكرة التاريخية بالكلية‪ ،‬وإنما هو ينفيه‬
‫عن القرآن ويثبته للكتاب‪ ،‬بناء على تفرقته بين القرآن والكتاب‪ ،‬كما أنه ينفيها عن‬
‫القرآن نفسه‪ ،‬ويثبتها لفهم القرآن(((‪.‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.91‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.265‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬نحو أصول جديدة ص ‪.93‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.94‬‬

‫‪206‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وال يخفى أن المحصلة في نهاية األمر واحدة‪ ،‬فاألحكام الشرعية عند شحرور‬
‫مرتبطة بالكتاب وليس القرآن‪ ،‬ثم إن أي استنباط لحكم منها ولو كان بنص قطعي‬
‫ومجمع عليه‪ ،‬سيقال عنه من وجهة نظر شحرور أنه مجرد فهم تاريخي للنص‪ ،‬قابل‬
‫للتعديل والتطوير والتغيير‪ ،‬وكل ذلك يجعل النتيجة واحدة‪ ،‬وال فرق حقيقي بين‬
‫شحرور وغيره من العلمانيين سوى في المصطلحات‪ ،‬وليس في الحقائق أو المآالت‪.‬‬

‫ومن المداخل األخرى التي وظفها العلمانيون إلثبات التاريخية مسألة «الناسخ‬
‫والمنسوخ»‪ ،‬وقد توالت نصوصهم في تكرار وتقليد ممجوج في التأكيد على هذا‬
‫المعنى‪ ،‬ولم يخل األمر كما هي عادتهم من تهور وتعسف‪ ،‬ليس عليه أدنى أثارة من‬
‫علم‪.‬‬

‫فخليل عبد الكريم يرى أنه «إذا كانت النصوص نفسها تناسخت ‪ -‬نسخ بعضها‬
‫البعض ‪ -‬خالل عشرة أعوام أو يزيد قلي ً‬
‫ال‪ ،‬هي عمر التجربة اليثربية أو تجربة المدينة‪..‬‬
‫فكيف تستسيغ العقول رفض مبدأ أو نظرية التاريخية»(((‪ ،‬والنسخ عند سيد القمني‬
‫«يعني تاريخية النص‪ ،‬وتفاعله مع واقعه وارتباطه بظروف ذلك الواقع»‪.‬‬

‫وكعادة القمني في التهويل والجهل الفاضح‪ ،‬فإنه ينطلق من هذه المقولة التي‬
‫يصورها كما لو كانت حقيقة بدهية‪ ،‬إلثبات تناقض القائلين بثبوت النسخ من جهة‪،‬‬
‫والمنكرين للتاريخية من جهة‪ ،‬حيث يزعم أن إنكار النسخ لون من الكفر الصريح‪،‬‬
‫كما أن إنكار ثبات النص ورفض أزليته كفر أيض ًا‪ ،‬ومن ثم يقول‪« :‬وتأسيس ًا على ذلك‬
‫يصبح إنكار النسخ لون ًا من الكفر الصريح‪ ..‬وفي الوقت ذاته فإن إنكار عكس ذلك‬
‫ورفض األزلية والثبات كفر بدوره‪ ..‬وبين الكفرين يضيع المسلم»(((‪.‬‬

‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي‪ ،‬ضمن األعمال الكاملة ص ‪.109‬‬
‫((( سيد القمني‪ :‬رب الزمان ص ‪.228‬‬

‫‪207‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن األمور األخرى التي وظفها العلمانيون إلثبات تاريخية القرآن تبنى المذهب‬
‫االعتزالي القائل بأن القرآن مخلوق ومحدث‪ ،‬مع االختالف البين في المنطلق‬
‫والنتائج‪ ،‬بين كل من الرؤية االعتزالية‪ ،‬والرؤية العلمانية في هذا الباب‪.‬‬

‫وقد عني نصر أبو زيد باالحتجاج على تاريخية القرآن الكريم من خالل القول‬
‫بحدوثه‪ ،‬رابط ًا ‪ -‬بتعسف وتخليط ال دليل عليه ‪ -‬بين القول بقدم القرآن وتجميد‬
‫معانيه‪ ،‬بينما يعيد القول بحدوثه للنصوص حيويتها‪ ،‬قائ ً‬
‫ال‪« :‬إذا كان معنى قدم القرآن‪،‬‬
‫وأزلية الوحي يجمد النصوص الدينية‪ ،‬ويثبت المعنى الديني‪ ،‬فإن معنى حدوث القرآن‬
‫وتاريخية الوحي هو الذي يعيد للنصوص حيويتها‪ ،‬ويطلق المعنى الديني بالفهم‬
‫والتأويل من سجن للحظة التاريخية إلى آفاق االلتحام بهموم الجماعة البشرية في‬
‫حركتها التاريخية»(((‪ .‬كذلك اعتبر أبو زيد أن القول بتاريخية القرآن فرع عن النظر‬
‫إلى األفعال اإللهية‪ ،‬وفعلها بالعالم المخلوق المحدث‪ ،‬ومن ثم فالقرآن عنده ظاهرة‬
‫تاريخية من حيث إنه واحد من تجليات الكالم اإللهي(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذه المحاولة للتمحك بالمعتزلة من مغالطة وتضليل(((‪ ،‬والمعتزلة‬


‫وإن قالوا بخلق القرآن‪ ،‬فهم يقطعون بأنه كالم الله‪ ،‬وليس كالم البشر(((‪ ،‬ولهم جهود بارزة‬
‫في الدفاع عن القرآن‪ ،‬ورد مطاعن المشككين فيه‪ ،‬والقطع بصحة نقله‪ ،‬وأهمية االحتجاج‬
‫به‪ ،‬ووجوب االلتزام بأحكامه تحلي ً‬
‫ال وتحريم ًا‪ ،‬وعمومها في حق سائر المكلفين‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.202‬‬


‫((( انظر‪ :‬أمحمد رحماني‪ :‬قضية قراءة النص القرآني ص ‪.80‬‬
‫((( انظر‪ :‬ماجد األسمري‪ :‬العلمانيون والنبوة ص ‪ ،126‬ود‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر‬
‫الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم ص ‪ ،263‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون‬
‫والقرآن الكريم ص ‪ ،461‬ود‪ .‬ناصر الحنيني‪ :‬مآالت القول بخلق القرآن ص ‪ ،24‬ود‪ .‬علي عبد‬
‫الفتاح‪ :‬الحداثة وأثرها في تأويل النص القرآني في الثقافة العربية ص ‪.187‬‬
‫((( انظر‪ :‬القاضي عبد الجبار‪ :‬شرح األصول الخمسة ص ‪.528‬‬

‫‪208‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫تعقيب نقدي‪ ،‬وبيان النتائج املرتتبة عىل القول بالتارخيية‪:‬‬

‫‪ -1‬وأول ما نشير إليه في هذا الصدد أن دعوى التاريخية‪ ،‬وكالم العلمانيين‬


‫حولها‪ ،‬واهتمامهم الشديد بها‪ ،‬ومحاوالت إثباتها ومجاالت توظيفها‪ ،‬ال تعدو أن‬
‫تكون نوع ًا من التقليد والمحاكاة الهزيلة لما أحدثته الدراسات االستشراقية التاريخانية‪،‬‬
‫والدراسات الغربية النقدية للتوراة واإلنجيل‪ ،‬والنظر إلى ما فيهما من قصص وأخبار‬
‫على أنها مجرد رموز‪ ،‬بل النظر للدين والتدين نفسه على أنه يمثل مرحلة تاريخية في‬
‫عمر التطور اإلنساني‪ ،‬بمنزلة مرحلة طفولة عقلية‪ ،‬تلتها على طريق النضج مرحلة‬
‫الميتافيزيقا‪ ،‬ثم توارت لحساب المرحلة الوضعية التي ال تعتد إال بما هو محسوس‪.‬‬

‫وإذا كانت طبيعة كتابهم المقدس ‪ -‬بصورته المحرفة ‪ -‬وما اشتمل عليه من‬
‫تناقضات وإشكاالت مع العلم والتاريخ والواقع‪ ،‬ربما فسرت تبنيهم للقول بالتاريخية‪،‬‬
‫فإن من الخطل والمباينة للعلم ومنهجيته أن تطبق النظرية نفسها على القرآن الكريم‪،‬‬
‫والذي ال يستطيع أحد أن يثبت اشتماله قط على ما يصادم حقيقة علمية ثابتة بصورة‬
‫قطعية (((‪.‬‬

‫‪ -2‬يعتبر إدخال التاريخية ضمن مجال دراسة النص اإلسالمي أحد رهانات‬
‫الخطاب الحداثي العربي في سياق نقده للفكر الديني‪ ،‬ولكن هذا الرهان الذي بذل‬
‫العلمانيون والحداثيون غاية وسعهم لكسبه لم يلق النجاح الذي أملوه‪ ،‬بل هو باعتراف‬
‫بعضهم رهان يستحيل كسبه‪ ،‬وكما يقول أركون‪« :‬التحدث عن التاريخية اليوم بصورة‬
‫منطقية في الوسط اإلسالمي أمر ضروري من وجهة نظر ذاتية‪ ،‬وجهة نظر الباحث‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬خطر النزعة التاريخية على ثوابت اإلسالم ص ‪ ،38‬وشبهات حول اإلسالم‬
‫ص ‪ ،18 ،17‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪ ،295‬وأمحمد رحماني‪ :‬قضية‬
‫قراءة النص الديني‪ :‬ص ‪ ،102‬واالتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن ص ‪.241 ،240‬‬

‫‪209‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ولكنه من الوجهة الموضوعية أمر خطير‪ ،‬إن لم يكن مستحي ً‬


‫ال»(((‪.‬‬

‫‪ -3‬وفي ظني أنه يكفي في نقد فكرة التاريخية ‪ -‬كما تصورها العلمانيون‬
‫العرب ‪ -‬والرد عليها‪ ،‬وبيان مصادمتها لثوابت اإلسالم؛ أن نسوق طرف ًا من النتائج‬
‫واآلثار المترتبة عليها‪ ،‬والمآالت التي تنتهي بالمتبنين لها‪.‬‬

‫وقد ترتب على القول بتاريخية القرآن الكريم نتائج عديدة وخطيرة‪ ،‬يجمعها القول‬
‫بنفي حقيقة الوحي‪ ،‬والقول ببشريته‪ ،‬وأنه ليس من عند الله سبحانه‪ ،‬وجعله أسطورة‬
‫من األساطير‪ ،‬والتحرر من سلطته وأحكامه‪ ،‬ونفي القداسة عن النص‪ ،‬ونقله إلى حقل‬
‫المناقشة والنقد الهادم‪ ،‬ونفي العموم واإلطالق والخلود عن الحقائق والمعاني التي‬
‫جاءت بها النصوص الشرعية‪ ،‬وإلغاء أي حقيقة ثابتة للنص‪ ،‬وحتى إن وجدت وتم‬
‫التسليم بها ظاهري ًا‪ ،‬فهي حقائق نسبية زمنية مقصورة على الزمان والمكان الذي نزل‬
‫فيه النص أول مرة‪ ،‬والزعم بأن العقائد واألحكام التي جاءت بها النصوص الشرعية‬
‫مصنوعة من الواقع‪ ،‬وثمرة له‪ ،‬وليست وحي ًا إلهي ًا‪ ،‬وإحالة األديان وكتبها وعقائدها‬
‫وشرائعها ومنظومات قيمها إلى مستودع التاريخ‪ ،‬حاكمة بطي صفحاتها مع صفحات‬
‫ذلك التاريخ المنقضي‪ ،‬الذي ظهرت فيه أول مرة (((‪.‬‬

‫والطريقة التي تم بها ذلك كله تتمثل في الرجوع بالقرآن إلى قاعدته البيئية‪،‬‬
‫والعرقية اللغوية‪ ،‬واالجتماعية والسياسية الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة بداية‬
‫القرن السابع الميالدي‪ ،‬واإللحاح على أن خطاب القرآن تاريخي‪ ،‬يتغير فهمه ومعناه‬
‫مع تغير الزمان والمكان‪ ،‬ال فرق في ذلك بين عقائد أو تشريعات أو أحكام‪ ،‬وبذلك‬

‫((( مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر ص ‪.41‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬خطر النزعة التاريخية على ثوابت اإلسالم ص ‪ ،37‬ود‪ .‬سعيد بن ناصر‬
‫الغامدي‪ :‬االنحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها ‪.1098/2‬‬

‫‪210‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫يتم إبعاد القرآن عن حياة الناس‪ ،‬وحصره في القرون األولى‪ ،‬واعتبار كل من فسره من‬
‫منطلق كونه نص ًا إلهي ًا لم يفقه الغاية منه(((‪ ،‬بدء ًا من مفسري الصحابة‪ ،‬وحتى يومنا هذا‪.‬‬

‫وهكذا يمكن القول بأن الخطاب الحداثي‪ ،‬والعلماني العربي المعاصر في قراءته‬
‫للنص الديني حرص أشد الحرص على توظيف التاريخية «كآلية من آليات القراءة‪،‬‬
‫ألنها تقضي بجعل النص مرهون ًا بتاريخه‪ ،‬ساكن ًا فيه‪ ،‬متوقف ًا عند لحظة ميالده»(((‪.‬‬

‫وسوف يرد معنا الحق ًا نصوص عدة يصرح فيها نفر من العلمانيين بأنسنة القرآن‬
‫وبشريته‪ ،‬وأنه نتاج واقع تاريخي معين‪ ،‬وليس كالم الله على الحقيقة‪ ،‬ووحيه إلى أهل‬
‫األرض‪ ،‬الذي نزل به أمين الوحي جبريل على نبينا محمد ‪ ،#‬وإن حاولوا تخفيف‬
‫وقع ذلك كله بادعاء أن التاريخية ال تتنافى مع المصدر اإللهي للنصوص الدينية‪ ،‬وهي‬
‫حيلة فاشلة ال تنطلي على المطالع لمجمل ما كتبه هؤالء الكتاب‪.‬‬

‫وها هو أحدهم ‪ -‬وهو نصر أبو زيد ‪ -‬يصرح بحقيقة رأيه‪ ،‬فيقول‪« :‬ليست‬
‫النصوص الدينية نصوص ًا مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت في إطارها بأي حال من‬
‫األحوال‪ ،‬والمصدر اإللهي لتلك النصوص ال يلغي إطالق ًا حقيقة كونها نصوص ًا‬
‫لغوية‪ ،‬بكل ما تعنيه اللغة من ارتباط بالزمان والمكان التاريخي واالجتماعي»(((‪.‬‬

‫وبالطبع فإنه ما دام النص القرآني غير مفارق للواقع وقوانينه ‪ -‬كما يزعم هؤالء‬
‫العلمانيون ‪ -‬فإن ذلك يعني لزام ًا‪ :‬أنه ليس تنزي ً‬
‫ال من رب العالمين‪ ،‬وإنما هو استجابة‬
‫للواقع التاريخي المتعين‪ ،‬وغير متعال عليه بحال(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬أمحمد رحماني‪ :‬قضية قراءة النص القرآني ص ‪.106 ،101‬‬
‫((( مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر ص ‪.36‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة الحقيقة ص ‪.92‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم‬
‫ص ‪.239‬‬

‫‪211‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫‪ -4‬ومن النتائج المترتبة على التاريخية أيض ًا‪ ،‬قابلية القرآن لتعدد األفهام‬
‫والتأويالت والقراءات‪ ،‬التي ال يصح معها التعامل بمنطق الخطأ والصواب والحق‬
‫والباطل‪ ،‬وكما يقول طيب تيزيني‪« :‬ال يحق ألحد ممن ينتمي إلى التاريخيات أن يزعم‬
‫أنه وصي على اآلخرين‪ ،‬بحيث يحكم قسر ًا في االختالف الناشئ بينهم‪ ،‬وال أن يشق‬
‫صدورهم بغية معرفة ما فيها»(((‪ .‬ومن أسباب ذلك في رأيه أن النص «حمال أوجه‪،‬‬
‫يمثل إطار ًا مفتوح ًا يسع الجميع ويحتملهم‪ ،‬سواء ذلك بصيغة تفسيرية‪ ،‬أو أخرى‬
‫اجتهادية‪ ،‬أو ثالثة تأويلية‪ ،‬وكذلك سواء تم ذلك بكيفية تعسفية متزمتة‪ ،‬أو بأخرى‬
‫منطقية مستنيرة متفتحة»(((‪.‬‬

‫وال شك أنه وفق ًا لهذه النظرة‪ ،‬فلن يكون بوسعنا أن نقول إن هناك شيئ ًا محدد ًا‬
‫اسمه اإلسالم‪ ،‬وال توجد أصول ثابتة متفق عليها‪ ،‬يمكن القول بأنها ثوابت اإلسالم‬
‫ومعتقداته الرئيسة‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن عدم وجود قطعيات أو معلوم من الدين بالضروري‪ ،‬فكل‬
‫ذلك ليس سوى أفهام تاريخية‪ ،‬قابلة للتعدد والتنوع‪ ،‬والتغير بتغير الظروف واألوضاع‬
‫لكل عصر من العصور التاريخية‪.‬‬

‫والسؤال الذي يطرح نفسه هنا‪ :‬أي فائدة أو منفعة حقيقية إذن من نزول الوحي‬
‫بهذا القرآن العظيم؟ وأي مصلحة ترتبت على بعثة النبي ‪#‬؟ وأي معنى لوصف آيات‬
‫القرآن بأنها هدى ونور‪ ،‬وموعظة وشفاء لما في الصدور‪ ،‬وفرقان وحكم بين الناس‬
‫فيما فيه يختلفون‪ ،‬طالما أنه ال يوجد معيار ثابت‪ ،‬وال حقيقة يمكن القبض عليها‪،‬‬
‫والثقة بأنها المراد من كالم الله‪ ،‬وكالم رسوله ‪#‬؟‬

‫((( طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر‪ ،‬تحديات وآفاق ص ‪.121‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.122‬‬

‫‪212‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫‪ - 5‬ومن النتائج الخطيرة األخرى المترتبة على القول بالتاريخية‪ :‬هدم مبدأ عموم‬
‫داللة نصوص القرآن والسنة‪ ،‬وصالحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان‪ ،‬ومناسبتها‬
‫للمكلفين كافة‪ ،‬وتضمنها لتشريع متكامل لكل ما ينزل بالمكلف من حوادث‪ ،‬بحيث‬
‫ال يتصور وجود فعل من أفعال المكلفين ال تتضمن النصوص حكمه‪ ،‬إما بالنص‬
‫الصريح‪ ،‬وإما على سبيل االستنباط‪.‬‬
‫وبدي ً‬
‫ال عن هذا العموم يدعو هؤالء القائلون بالتاريخية إلى تفريغ النصوص‬
‫الشرعية ‪ -‬قرآن ًا وسنة ‪ -‬من سمات العموم واإلطالق والعالمية‪ ،‬ونزع ما بها من‬
‫صفة الخلود والصالحية لكل زمان ومكان‪ ،‬والنظر إليها باعتبارها نصوص ًا تاريخية‪،‬‬
‫محكومة بشروط تاريخية وظرفية‪ ،‬تزول بزوالها(((‪.‬‬

‫وال يخفى مصادمة تلك الرؤية العلمانية لقطعيات الشريعة‪ ،‬وثوابت الدين‪ ،‬وثمة‬
‫أدلة متكاثرة من القرآن والسنة تدل على عموم الشريعة‪ ،‬وشمولها‪ ،‬ومخاطبتها لسائر‬
‫اس َب ِشيراً َونَذِ يراً} [سورة‬ ‫المكلفين‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪َ { :‬و َما َأ ْر َس ْل َن َ‬
‫اك ِإ َّل َكا َّف ًة لِل َّن ِ‬
‫ين} [سورة يوسف‪ ،]104 :‬وقوله‬ ‫سبأ‪ ،]28 :‬وقوله تعالى‪ِ { :‬إنْ ُه َو ِإ َّل ذ ِْك ٌر ِل ْل َعا َلمِ َ‬
‫ين نَذِ يراً} [الفرقان‪ ،]1 :‬وقوله‬
‫تعالى‪{ :‬ت ََبا َر َك ا َّلذِ ي َن َّز َل ا ْلف ُْر َقانَ َع َلى َع ْبدِ ِه ل َِي ُكونَ ِل ْل َعا َلمِ َ‬
‫تعالى‪َ { :‬و ُأوحِ َي ِإ َل َّي َه َذا ا ْلق ُْرآنُ ِ ُلنْذِ َر ُك ْم ِب ِه َو َم ْن َب َل َغ} [األنعام‪ ،]19 :‬وقول النبي ‪:#‬‬
‫«وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»(((‪.‬‬

‫أما الحداثيون والعلمانيون‪ ،‬فإن المتتبع لكتبهم يالحظ كثرة الهجوم واالنتقاد‬
‫لمبدأ عموم داللة نصوص الوحي‪ ،‬وصالحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان‪ ،‬وقد‬

‫((( انظر‪ :‬أمحمد رحماني‪ :‬قضية قراءة النص القرآني ص ‪.101‬‬


‫((( رواه البخاري (‪ )335‬ومسلم (‪.)521‬‬

‫‪213‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫حل محله لدى العلمانيين مبادئ أخرى وضعية تشكل مرجعية بديلة(((‪ ،‬وعلى سبيل‬
‫المثال‪ :‬فقد زعم د‪ .‬محمد النويهي أن اإلسالم «ال يتضمن نظام ًا كام ً‬
‫ال نهائي ًا للمجتمع‬
‫اإلنساني‪ ،‬ولم يحاول قط أن يضع مثل هذا النظام‪ ،‬ولم يدع قط أن الله وحده هو‬
‫مصدر القوانين كلها دينيها ودنيويها‪ ،‬ألنه يقرر مبدأ تطور األحوال‪ ،‬وال يريد أن يقوم‬
‫عائق ًا أمام هذا التطور‪ ،‬وال يريد أن يشل عقول البشر»(((‪.‬‬

‫وال يكاد عجب المرء ينقضي من تلك الجرأة‪ ،‬وهذه اللغة الجازمة الحاسمة في‬
‫نسبة األحكام لإلسالم‪ ،‬مع أن عادة العلمانيين المطردة أنه ال أحد يمكنه أن يجزم‬
‫بأنه المعبر الوحيد أو الصحيح عن اإلسالم‪ ،‬والذي يقبل شتى األفهام والقراءات‬
‫والتأويالت‪ ،‬والنويهي نفسه يقول‪« :‬اإلسالم نفسه لم ينشئ قط‪ ،‬وال يعترف البتة بفئة‬
‫خاصة من الناس‪ ،‬تدعي االنفراد بتمثيله‪ ،‬وتحتكر تفسيره والتحدث باسمه‪ ،‬وتحجر‬
‫على اآلراء التي تظنها مخالفة له»(((‪.‬‬
‫لكنه مع ذلك ينفي نفي ًا قاطع ًا أن يكون أن اإلسالم قد تضمن نظام ًا كام ً‬
‫ال نهائي ًا‬
‫للمجتمع اإلنساني‪ ،‬ولم يدع قط أن الله وحده هو مصدر القوانين كلها دينيها‬
‫ودنيويها‪ ،‬وبغض النظر عما في بعض ألفاظه من إجمال واحتماالت‪ ،‬فإنني ال‬
‫أدري ماذا يفعل هؤالء العلمانيون مع آيات واضحة الداللة‪ ،‬مثل قول الله تعالى‪:‬‬
‫{ ِإنِ ا ْل ُح ْك ُم ِإ َّل ِل َّلهِ} [سورة يوسف‪ ،]40 :‬وقوله تعالى‪َ { :‬و َأنِ ْاح ُك ْم َب ْي َن ُه ْم ب َِما َأن َْز َل‬
‫ال َّل ُه} [المائدة‪.]49 :‬‬

‫((( انظر‪ :‬مرزوق العمري‪ :‬التاريخية‪ ،‬المفهوم وتوظيفاته الحداثية‪ ،‬مجلة إسالمية المعرفة ص ‪،68‬‬
‫العدد ‪.63‬‬
‫((( د‪ .‬محمد النويهي‪ :‬نحو ثورة في الفكر الديني ص ‪.150‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.150‬‬

‫‪214‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫كذلك وصف نصر أبو زيد القول باشتمال القرآن على حلول لكل المشكالت‬
‫بالنص أو القياس بأنه «مبدأ على درجة عالية من الخطورة»(((‪ ،‬ورغم اعترافه بأن هذا‬
‫المبدأ ساد تاريخنا العقلي والفكري‪ ،‬وما زال يتردد حتى اآلن في الخطاب الديني بكل‬
‫اتجاهاته وتياراته وفصائله‪ ،‬فإنه يرى أن خطورته تكمن في أنه «حول العقل العربي إلى‬
‫عقل تابع‪ ،‬يقتصر دوره على تأويل النص‪ ،‬واشتقاق الدالالت منه»(((‪.‬‬

‫ومن المغالطات الواضحة التي برر بها نصر أبو زيد رفضه لمبدأ شمولية‬
‫النصوص‪ ،‬االدعاء بأن األخذ به «يلغي من فهم اإلسالم تلك المناطق الدنيوية التي‬
‫تركها للعقل‪ ،‬والخبرة‪ ،‬والتجربة»(((‪.‬‬

‫وال يخفى أن هذا الكالم غير صحيح بالمرة‪ ،‬ولم يقل به أحد من المتبنين لشمولية‬
‫النصوص‪ ،‬إذ إن دائرة المباح والعفو واسعة جد ًا‪ ،‬ويدخل فيها سائر تلك المناطق‬
‫الدنيوية المتروكة للعقل والخبرة‪ ،‬لكنهم يرون أن الشرع أيض ًا هو الذي دلنا على إباحة‬
‫الخوض فيها كيف شئنا‪ ،‬بداللة نصوص الكتاب والسنة ‪ .‬مثل قوله تعالى‪َ :‬‬
‫(((‬
‫{وس َّخ َر‬
‫ال ْر ِض َجمِ يع ًا ِم ْن ُه} [سورة الجاثية‪ ،]13 :‬وقول النبي ‪:#‬‬
‫ات َو َما فِي ْ َ‬ ‫َل ُك ْم َما فِي َّ‬
‫الس َما َو ِ‬
‫«ما أحل الله في كتابه فهو حالل‪ ،‬وما حرم فهو حرام‪ ،‬وما سكت عنه فهو عفو»(((‪.‬‬

‫وقد أبدى كثير من العلمانيين ضيقهم مما قام به الشافعي في تأصيل شمول‬
‫النصوص‪ ،‬وعمومها لسائر أحوال المكلفين‪ ،‬وتضمنها حكم الله في كل نازلة تنزل‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪.101‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.102 ،101‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.33‬‬
‫((( انظر‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.63‬‬
‫((( رواه أبو داود (‪ )3800‬وابن ماجه (‪ )3367‬وحسنه األلباني في صحيح الجامع (‪ )3195‬وشعيب‬
‫األرناؤوط في تحقيقه لسنن ابن ماجه‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫بالعباد‪ ،‬إما نص ًا‪ ،‬وإما قياس ًا على ما نصت الشريعة عليه‪ ،‬ومن مغالطتهم في هذا‬
‫الباب((( ما زعمه عبد المجيد الشرفي من أن الشافعي هو أول من أسس لمبدأ شمولية‬
‫النصوص لسائر أفعال المكلفين‪ ،‬حيث «لم تكن المسلمة التي تقتضي أن يكون لكل‬
‫نازلة حكم الزم مسلمة صريحة معبر ًا عنها تعبير ًا دقيق ًا قبل الشافعي‪ ،‬بقدر ما كانت‬
‫مسلمة ضمنية‪ ،‬يبتعد عنها الواقع والممارسة حين ًا‪ ،‬ويقتربان منها حين ًا آخر»(((‪ .‬ثم‬
‫يضيف أنه بعد ترسيخ الشافعي لهذا المبدأ‪ ،‬والذي يعد أهم مبدأ أقره‪ ،‬أصبح «منذ‬
‫القرن الثالث مسلمة ال سبيل إلى مناقشتها‪ ،‬فقبلها الضمير اإلسالمي‪ ،‬باعتبار أن‬
‫اإلسالم يقتضيها‪ ،‬وانضم خالفها إلى ميدان غير المفكر فيه‪ ،‬دون وعي بأن المرحلة‬
‫التاريخية التي وضع فيها ذلك المبدأ هي التي فرضته‪ ،‬وأن اختالف العصر والظروف‬
‫التاريخية وتطور العقليات يمكن أن يؤدي إلى إقرار مبدأ مغاير»(((‪.‬‬

‫واستمرار ًا لتلك المغالطة الحداثية‪ ،‬زعم عبد الجواد يس أن الشافعي هو من‬


‫كرس مقولة النصوصية‪ ،‬وانتقد كل ما يخالفها من منهجيات فقهية غير معتمدة على‬
‫النصوص‪ ،‬فقال‪« :‬لقد كرس الشافعي مقولة النصوصية‪ ،‬أي أن النصوص كافية‬
‫لتغطية الواقع االجتماعي جميع ًا‪ ،‬كل ما نزل بمسلم ففيه حكم الزم‪ ،‬ووجه سهام‬
‫النقد إلى الممارسات الفقهية المبكرة التي لم تكن تؤسس أحكامها بشكل دائم على‬
‫النصوص»(((‪ .‬وقد ترتب على هذا السعي الحثيث من الشافعي لتأصيل تلك الفكرة‬
‫نتائج عدة متعلقة بالموقف من السنة والقياس‪ ،‬يشير إليها عبد الجواد يس‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫«أراد العقل الديني كما اختزله الشافعي أن يكون النص حاكم ًا على كل شيء‪ ،‬وألن‬

‫((( انظر‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.64‬‬


‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪.139‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪ ،149‬وانظر أيض ًا‪ :‬اإلسالم والحداثة ص ‪.150‬‬
‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين‪ ،‬التشريع والنص واالجتماع ص ‪.324‬‬

‫‪216‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫النص األصلي ال يحقق ذلك حرفي ًا لزم تمديد النص‪ ،‬تمديد مساحته بالحديث وتمديد‬
‫داللته بالقياس‪ ،‬وإذ اعتبر الشافعي ذلك كافي ًا لمواجهة جميع النوازل امتنع االجتهاد‬
‫بالرأي في أية نازلة‪ ،‬ما لم يتم ذلك من خالل القياس»(((‪.‬‬

‫ويبقى السؤال الذي لم يجب عنه هؤالء العلمانيون‪ :‬ما سر تلك السلطة الهائلة‬
‫التي أتيحت للشافعي‪ ،‬حتى صارت أقواله ملزمة لألمة كلها‪ ،‬بمختلف مذاهبها الفقهية‬
‫‪ -‬ومن أصحابها من كان له خصومة مع الشافعي في عصره وبعد عصره ‪ -‬وبمذاهبها‬
‫العقدية المتصارعة‪ ،‬حتى إنهم جميع ًا انقادوا لمبدأ قرره الشافعي‪ ،‬ولماذا يا ترى لم‬
‫ينقادوا آلرائه األخرى في الفقه والعقيدة‪ ،‬طالما أن له تلك السطوة الطاغية؟‬
‫والجواب ‪ -‬للمنصف ‪ -‬يبدو سه ً‬
‫ال يسير ًا‪ ،‬فهذا المبدأ ليس من بنات أفكار‬
‫الشافعي‪ ،‬وإنما هو مقتضى طبيعة اإلسالم نفسه‪ ،‬واتصافه بالشمول والكمال‪ ،‬وتضمنه‬
‫لتشريعات كافية لكل ما يحتاجه اإلنسان‪ ،‬دون أن يعني ذلك بحال أي قيد على العقل‪،‬‬
‫أن يعمل في ميدانه الفسيح‪ ،‬والمتمثل في األمور الدنيوية‪ ،‬بكل ما تشتمل عليه من‬
‫اختراع وابتكار‪ ،‬وهي داخلة في دائرة المباح‪ ،‬بل قد تصل إلى مرتبة الوجوب‪ ،‬إذا‬
‫تعينت سبي ً‬
‫ال لعزة األمة‪ ،‬وإعدادها لسبل القوة المتنوعة(((‪.‬‬

‫ومن النماذج العملية التي حاول من خاللها بعض العلمانيين حصر آيات القرآن‬
‫في الواقع التاريخي الذي نزلت فيه فحسب‪ ،‬وسلبها خصيصة العموم والشمول لسائر‬
‫المكلفين‪ ،‬وشتى األزمنة واألمكنة‪ ،‬تفسير عبد الجواد يس آليات الجهاد والقتال في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وهي من أكثر الموضوعات التي تثير حفيظة العلمانيين وحرجهم‬
‫الشديد‪ ،‬وقد زعم يس أن آيات القتال كانت تصف أجواء االجتماع القبلي العربية‪،‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.398‬‬


‫((( انظر‪ :‬بحثنا‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.65‬‬

‫‪217‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وثقافة الغزو والتحالف السائدة حينذاك‪ ،‬لكن اإلشكال في رأيه أن النص كان «يسجل‬
‫الوقائع‪ ،‬ويقدم معالجة سياسية لحاالت المواجهة مع القبائل والقوة المعادية‪ ،‬حسب‬
‫ظروف الواقع وموازين القوة‪ ،‬التي كانت تتطور لصالح الجماعة المسلمة‪ ،‬وهى‬
‫حاالت ظرفية وممعنة في المحلية‪ ،‬ولم يكن يشرع ألحكام تكليفية‪ ،‬قابلة للتعميم‬
‫والتمدد في الزمن»(((‪.‬‬

‫‪ -6‬ومن النتائج األخرى التي ترتبت على تاريخية النص القرآني عند العلمانيين‪،‬‬
‫أن القرآن صار ينظر إليه «مثل غيره من النصوص اللغوية‪ ،‬تسحب عليه جميع قوانين‬
‫اللغة وقواعدها‪ ،‬وما دامت اللغة في تطور‪ ،‬ويصبح الماضي منها مع التطور تاريخ ًا‪،‬‬
‫فكذلك األمر بالنسبة للنص الديني في نظر الخطاب الحداثي‪ ،‬فقد عد نص ًا لغوي ًا تشكل‬
‫في الثقافة‪ ،‬واكتسب سلطته في الواقع‪ ،‬وأضفيت عليه القداسة‪ ،‬ولم يكن مقدس ًا في‬
‫ذاته‪ ،‬وعدت المناهج اللغوية هي الكفيلة بإثبات ذلك»(((‪.‬‬

‫ويعتبر طه حسين ‪ -‬في نظر كثير من العلمانيين ‪ -‬رائد الحداثة التاريخية في‬
‫الفكر العربي الحديث(((‪ ،‬وقد أشار محمد أركون إلى أن حياة طه حسين الطويلة‪،‬‬
‫وشخصيته ذات الثروة النادرة‪ ،‬أتاحت له «أن يخلف آثار ًا تضم وحدها جميع صيغ‬
‫النهضة‪ .‬إحداث نثر عربي بسيط مؤثر‪ ،‬فرض أسلوب ال يرضخ للتزمت وال للحشو‪.‬‬
‫إخضاع تراث الماضي لفحص انتقادي‪ ،‬حتى يعاد ربطه بالميثي‪ ،‬وحتى يتم فضح‬
‫التمويه‪ ،‬وإعادة اآلفاق التاريخية الصحيحة»(((‪.‬‬

‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.126 ،125‬‬


‫((( مرزوق العمري‪ :‬التاريخية‪ ،‬المفهوم وتوظيفاته الحداثية‪ ،‬مجلة إسالمية المعرفة ص ‪ ،70‬العدد‬
‫‪.63‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.70‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر العربي ص ‪.156‬‬

‫‪218‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫أما نصر أبو زيد‪ ،‬فقد اعتبر أن فكره ومعاركه ليست سوى امتداد للمعركة التي‬
‫ثارت حول كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» واصف ًا إياها بالمعركة شبه الدموية‪،‬‬
‫والتي لم تكن في رأيه «معركة ثقافية فكرية حول قضية الشعر الجاهلي موضوع‬
‫الكتاب‪ ،‬لقد دارت المعركة حول ما طرحه طه حسين في سياق كتابه ‪ -‬بتردد وتواضع‬
‫‪ -‬قراءة لبعض النصوص الدينية المتصلة بالوقائع التاريخية»(((‪.‬‬

‫وبهذا الفهم لكل ما دار من ضجة حول كتاب طه حسين‪ ،‬فإن نصر أبو زيد ينقل‬
‫الصراع برمته من قضية أدبية حول الشعر الجاهلي‪ ،‬وهل هو صحيح أو منتحل إلى‬
‫قضية فكرية أخطر وأكثر حساسية‪ ،‬حيث يقول في نص مهم‪« :‬لم تكن المعركة إذن‬
‫معركة الشعر‪ ،‬بل كانت معركة قراءة النصوص الدينية طبق ًا آلليات العقل اإلنساني‬
‫التاريخي‪ ،‬ال العقل الغيبي الغارق في الخرافة واألسطورة‪ ،‬ولضراوة المعركة وشراسة‬
‫القوى االجتماعية صاحبة المصلحة في سيطرة الخرافة واألسطورة‪ ،‬تم قمع الخطاب‬
‫التنويري»(((‪.‬‬

‫‪ - 7‬وال يفوتنا في نهاية كالمنا عن التاريخية وتوظيف العلمانيين لها‪ ،‬أن نشير‬
‫إلى حرص نفر منهم على نفي المشابهة بين التاريخية التي قالوا بها‪ ،‬والتاريخية في‬
‫الفكر الغربي‪ ،‬ولعلهم فعلوا ذلك‪ ،‬كي يدفعوا عن أنفسهم تهمة التقليد األعمى لما‬
‫تبنته الدراسات الغربية النقدية للتوراة واإلنجيل‪.‬‬

‫ومن نماذج ذلك‪ ،‬الدفاع المطول عن فكرة التاريخية الذي ساقه نصر أبو زيد في‬
‫بحثه «التاريخية المفهوم الملتبس» ضمن كتابه «النص والسلطة والحقيقة»(((‪ ،‬وقد‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.62‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.62‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬النص والسلطة والحقيقة ص ‪.89 - 67‬‬

‫‪219‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫كال فيه أنواع ًا من السباب والشتم لمهاجمي التاريخية‪ ،‬متهم ًا إياهم بالعجز عن الفهم‬
‫آلفة مستعصية في العقول(((‪.‬‬

‫وفي اإلطار نفسه أيض ًا حرص حسن حنفي على التفرقة بين نوعي التاريخية‪،‬‬
‫حيث قال‪« :‬ال يرتبط مفهوم التاريخية بالضرورة بالمفهوم الغربي ‪،HISORICITE‬‬
‫فالتاريخية عندنا أمر واقع مثلها في علم الكالم تاريخ الفرق اإلسالمية نشأة وتطور ًا‪،‬‬
‫وتاريخ ًا في الفرق‪ ،‬وبنية في العقائد‪ ،‬الحظ ذلك القدماء والمحدثون طبق ًا لقانون‬
‫الفعل ورد الفعل»(((‪.‬‬

‫وغير خاف ما في هذا الكالم من مغالطة‪ ،‬فتأريخ العلوم‪ ،‬وتتبعها نشأة ونمو ًا‬
‫وتطور ًا شيء‪ ،‬والتاريخية مفهوم ًا وأصو ً‬
‫ال ومقصد ًا وآثار ًا شيء آخر‪ ،‬وإذا كان علماء‬
‫المسلمين قد عرفوا التاريخ‪ ،‬وتفننوا في التصنيف فيه على أنماط شتى‪ ،‬فإن التاريخية‬
‫مصطلح غربي وافد‪ ،‬منبت الجذور عن البيئة الفكرية اإلسالمية تمام ًا‪ ،‬وإذا جاز‬
‫االستفادة من بعض جوانبه فيما يتعلق بعلوم اإلسالم الحادثة وتراث المسلمين ‪-‬‬
‫باعتباره جهد ًا بشري ًا ‪ -‬فإنه ال يجوز بحال اللجوء إليه‪ ،‬أو استعماله‪ ،‬أو توظيفه فيما‬
‫يتعلق بالوحي اإللهي‪ ،‬ممث ً‬
‫ال في القرآن الكريم والسنة النبوية‪ ،‬على صاحبها أفضل‬
‫الصالة‪ ،‬وأتم التسليم‪.‬‬

‫((( المرجع السابق ص ‪.89‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.71/1‬‬

‫‪220‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫المبحث الثالث‬

‫توظيف أسباب النزول إلثبات بشرية القرآن الكريم‪ ،‬وأنسنته‬

‫ونعني بذلك تلك المحاوالت المنحرفة‪ ،‬الزاعمة أن القرآن ليس كالم الله‪،‬‬
‫ووحيه إلى عباده‪ ،‬الذي نزل على خاتم الرسل واألنبياء‪ ،‬نبينا محمد ‪ ،#‬وإنما هو نص‬
‫بشري إنساني‪ ،‬مثل غيره من النصوص البشرية‪ ،‬ومن ثم تسري عليه القواعد والقوانين‬
‫التي يتعامل بها مع سائر النصوص البشرية‪ ،‬كما يصير قاب ً‬
‫ال للنقد والتصحيح‪ ،‬وانفتاح‬
‫المعاني على مصراعيها‪ ،‬واحتماليات التأويل التي ال تنتهي‪ ،‬وليس ألحكامه سمة‬
‫العموم والشمول وتجاوز حدود الزمان والمكان‪ ،‬وإنما هي أحكام تاريخية‪ ،‬مقيدة‬
‫بقيود الزمان والبيئة التي شهدت نزوله أول مرة‪.‬‬

‫وال يخفى بالطبع مدى خطورة تلك األفكار‪ ،‬ومصادمتها لثوابت الدين والمعتقد‪،‬‬
‫وما علم من الدين بالضرورة‪ ،‬وأجمعت عليه األمة بأسرها‪ ،‬من أن القرآن كالم الله‪،‬‬
‫ووحيه إلى نبيه ‪ ،#‬وليس كالم البشر‪ ،‬كما ادعى المبطلون من كفار قريش قديم ًا‪،‬‬
‫والذين تنوعت افتراءاتهم ومزاعمهم‪ ،‬وقد حكاها الله عنهم في كتابه الكريم‪ ،‬ومن‬
‫ذلك زعم أحد أشقيائهم أن القرآن قول البشر‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ { :‬فق َ‬
‫َال إنْ َه َذا َّإل‬
‫سِ ْح ٌر ُيؤْ َث ُر ‪ )#^٢٤^#‬إنْ َه َذا َّإل َق ْو ُل ا ْل َب َش ِر} [سورة المدثر‪ .]25 -24:‬وادعوا أيض ًا أن من‬
‫بشر‪ ،‬وقصدوا بذلك رج ً‬
‫ال أعجمي ًا‪ ،‬فأكذبهم الله تعالى في‬ ‫القرآن ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الرسول ‪#‬‬ ‫يعلم‬
‫قوله‪َ { :‬و َلق َْد َن ْع َل ُم َأن َُّه ْم َيقُو ُلونَ ِإن ََّما ُي َع ِّل ُم ُه َب َش ٌر ل َِسانُ ا َّلذِ ي ُي ْل ِح ُدونَ ِإ َل ْي ِه َأ ْع َجمِ ٌّي َو َه َذا ل َِسا ٌن‬
‫َع َرب ٌِّي ُمبِين} [سورة النحل‪.]103 :‬‬

‫أما عن موقف العلمانيين والحداثيين من بشرية القرآن وأنسنته‪ ،‬فمن المالحظ‬


‫أن أساليبهم قد تنوعت في تناول تلك القضية الخطيرة‪ ،‬ما بين التصريح الفج تارة‪،‬‬

‫‪221‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫والمراوغة والمخاتلة (واللف والدوران)‪ ،‬وعدم مصادمة مشاعر الجمهور المسلم‪،‬‬


‫تارة أخرى‪.‬‬

‫وقد الحظ علي حرب هذا الفرق في االستراتيجية النقدية بين شخص وآخر‪،‬‬
‫وضرب مثا ً‬
‫ال لذلك بالمقارنة بين أركون والجابري‪ ،‬ففي الوقت الذي يستهدف‬
‫فيه أركون بالنقد الجانب الالهوتي‪ ،‬ممث ً‬
‫ال بالوحي القرآني والممارسة النبوية‪،‬‬
‫فإن الجابري يستبعد خطاب الوحي والنبوة من مجال النقد‪ ،‬ألنه يرى أن أوانه لم‬
‫يحن بعد‪ ،‬ومن ثم فقد اقتصر نقده على الخطابات التي نشأت وانتظمت حول نص‬
‫الوحي(((‪.‬‬

‫وبالفعل فإن الجابري يعترف بأن الظروف ليست مهيأة بعد لممارسة ما يصفه‬
‫بالنقد الالهوتي في البيئة العربية؛ ألن الوطن العربي في وضعيته الراهنة ليس قادر ًا‬
‫على تحمل هذا اللون من النقد‪ ،‬وال مهاجمة الالعقالنية في عقر دارها‪ ،‬ألن مهاجمة‬
‫الفكر الالعقالني في مسبقاته‪ ،‬والميدان ميدانه‪ ،‬يسفر في الغالب عن عملية تنبيه‬
‫وتحفيز على رد الفعل‪ ،‬والسيادة في النهاية ستكون حتم ًا لالعقل‪ ،‬والحل الممكن‬
‫‪ -‬في رأيه ‪ -‬تجاه وضع كهذا هو ممارسة النقد الالهوتي من خالل القدماء‪ ،‬يعني أن‬
‫نستعيد الحوار الذي دار في تاريخنا الثقافي ما بين المتكلمين والفالسفة‪ ،‬ونوظفه‬
‫في قضايا عصرنا «أما أن نقوم هكذا بهتك حرماتنا فال يمكن‪ .‬لنا حرمات يجب أن‬
‫نحترمها‪ ،‬حتى تتطور األمور‪ ،‬ونتطور معها‪ ،‬حتى ال نقفز على التاريخ‪ ،‬أنا ال أقول‬
‫هذا تقية‪ ،‬بل اقتناع ًا بأن المسألة مسألة تطور‪ ،‬وأن النقد الالهوتى يجب أن يمارس‬
‫داخل كل شخص منا»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.116‬‬


‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬التراث والحداثة دراسات ومناقشات ص ‪.260 ،259‬‬

‫‪222‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ونفهم من كالم الجابري اآلنف الذكر ‪ -‬وهو من المعتدلين نسبي ًا مقارنة بشخص‬
‫مثل أركون((( ‪ -‬أن المشكلة في التوقيت وظروف المجتمع‪ ،‬وليست في أصل الفكرة‪،‬‬
‫وهي تسلط النقد الالهوتي على القرآن‪ ،‬أما إذا تطورت ظروف المجتمع وثقافته‪،‬‬
‫فحينها يمكن التصريح بكل مكنون ومستور‪ ،‬دون حرج أو تحسب لردود فعل من هنا‬
‫أو هناك‪.‬‬

‫ولسنا هنا بصدد الحصر‪ ،‬أو التتبع التام لتلك اآلراء المغرقة في االنحراف‬
‫والضاللة‪ ،‬وإنما نكتفي بذكر عدة أمثلة تكشف عن تلك التوجهات العلمانية الخطيرة‪،‬‬
‫وكيف تم تقديمها‪ ،‬وما الوسائل والمداخل التي تم توظيفها في سبيل إثبات ذلك‪ ،‬مع‬
‫التأكيد على أن تلك اآلراء فرع عن موقف منحرف من النبوة والوحي بصفة عامة‪.‬‬

‫فالعلماني أو الحداثي‪ ،‬الذي يفسر النبوة والوحي تفسير ًا مادي ًا وضعي ًا‪ ،‬وينفي‬
‫عنهما أي صيغة علوية مفارقة‪ ،‬وأنهما من عند الله‪ ،‬ال يتصور بحال أن يعتبر القرآن‪،‬‬
‫وهو وحي الله إلى نبيه محمد ‪ :#‬كالم الله لفظ ًا ومعنى‪ ،‬وأنه ليس كالم البشر‪،‬‬
‫وليس نتاج ًا وإفراز ًا للبيئة التي نزل فيها أول مرة‪ ،‬بكل ظروفها االجتماعية والثقافية‬
‫واالقتصادية والسياسية‪.‬‬

‫ومن الواضح أن الموقف العلماني من النبوة ليس واحد ًا‪ ،‬بل مر بعدة مراحل‬
‫وتطورات‪ ،‬كما أن هناك فارق ًا واضح ًا بين العلمانيين الغالة المتبنين للعلمانية الصلبة‬
‫أو الشاملة؛ والمتبنين للعلمانية الجزئية‪ ،‬والذين لم يجعلوا من مهامهم مهاجمة الدين‬
‫وعقائده‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد الله القرني‪ :‬األساس الفلسفي للتاريخية‪ ،‬وأثره على الموقف من ثبوت الوحي في‬
‫الفكر الحداثي العربي ص ‪.24‬‬

‫‪223‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وإجما ً‬
‫ال يمكن القول بأن الموقف العلماني من النبوة مر بعدة تطورات‪ ،‬ففي‬
‫مرحلة ما كثر الحديث عن الرسول ‪ #‬كشخص عظيم‪ ،‬مع إهمال جانب النبوة‪ ،‬ثم‬
‫انتقل األمر إلى مرحلة أخرى‪ ،‬وهي عرض بعض الدراسات اإللحادية حول إنكار‬
‫النبوة‪ ،‬من أمثال كتابات ابن الراوندي(((‪ ،‬ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب(((‪ ،‬وابن‬
‫المقفع(((‪ ،‬وثمة مرحلة ثالثة‪ ،‬وهي محاوالت عرض النبوة عن طريق المنهجيات‬
‫(((‬
‫الحديثة‪ ،‬لتصل إلى أن النبوة ينبغي النظر إليها من زاويتها البشرية فقط‪.‬‬

‫وثمة مواقف شديدة االنحراف والضالل من قبل نفر من العلمانيين والحداثيين‬


‫تجاه النبوة والوحي‪ ،‬يطول بنا المقام إذا رمنا تتبعها تفصي ً‬
‫ال(((‪ ،‬ومن ذلك نفي حسن‬
‫حنفي أن يكون للعقائد عموم ًا ‪ -‬ومن بينها بالطبع الوحي‪ ،‬والنبوة ‪ -‬أي «مقابل مادي‬
‫في العالم الخارجي‪ ،‬كحوادث تاريخية أو أشخاص أو مؤسسات»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪ :‬من تاريخ اإللحاد في اإلسالم ص ‪ ،89‬وأدونيس‪ :‬الثابت والمتحول‬
‫‪ ،74/2‬ود‪ .‬علي مبروك‪ :‬النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ ص ‪.152‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪ :‬من تاريخ اإللحاد في اإلسالم ص ‪ ،230‬وأدونيس‪ :‬الثابت والمتحول‬
‫‪ ،80/2‬ود‪ .‬علي مبروك‪ :‬النبوة ص ‪.156‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪ :‬من تاريخ اإللحاد في اإلسالم ص ‪ ،53‬وأدونيس‪ :‬الثابت والمتحول‬
‫‪.73/2‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬حسن األسمري‪ :‬الفلسفة والنص‪ ،‬الوحي في دراسات الفلسفة العربية المعاصرة ص‬
‫‪ ،320‬وماجد األسمري‪ :‬العلمانيون والنبوة ص ‪.108 ،107‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪،427‬‬
‫ومصطفى باحو‪ :‬العلمانيون العرب وموقفهم من اإلسالم ص ‪ ،208 ،122‬ود‪ .‬أحمد الفاضل‪:‬‬
‫االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن ص ‪ ،229 ،199 ،109‬وغازي الشمري‪ :‬االتجاه‬
‫العلماني في دراسة السنة ‪ ،273 ،271‬وإبراهيم أبو هادي‪ :‬نصر أبو زيد ومنهجه في التعامل مع‬
‫التراث ص ‪.294‬‬
‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.61‬‬

‫‪224‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وال شك أن محصلة هذا الكالم أن تصير العقائد مجرد مفاهيم أو تصورات‬


‫عقلية‪ ،‬ليس لها في الخارج ما صدق أو وجود حقيقي‪ ،‬وهو ما يعني أنها مجرد أفكار‬
‫أو أوهام ال حقيقة لها‪ ،‬وال دليل على ثبوتها‪ ،‬ويلزم عن ذلك أن نبوة رسولنا محمد ‪#‬‬
‫وكذا سائر األنبياء مجرد أفكار وتصورات ذهنية مطلقة‪ ،‬وليست حقائق عينية خارجية‪،‬‬
‫قام عليها أدلة يقينية‪ ،‬وصارت أحد ثوابت االعتقاد وضرورات الدين‪.‬‬

‫ويتكرر معنى مشابه للفكرة نفسها عند نصر أبو زيد‪ ،‬فالوحي عنده‪ ،‬كما تدل على‬
‫ذلك نصوص كتبه‪ ،‬ليس واقعة أزلية ميتافيزيقية‪ ،‬وإنما هو واقعة تاريخية للواقع الذي‬
‫نزل فيه‪ ،‬وهو من جهة اعتباره نص ًا قد تكون من هذا الواقع‪ ،‬ومن لغته وثقافته صيغت‬
‫مفاهيمه‪ ،‬فالواقع أو ً‬
‫ال‪ ،‬والواقع ثاني ًا‪ ،‬والواقع أخير ًا(((‪.‬‬

‫وإذا ما انتقلنا من الكالم عن النبوة إلى تلك اآلراء العلمانية المنحرفة التي يتبنى‬
‫أصحابها صراحة القول بنفي صفة الوحي عن القرآن‪ ،‬والتعامل معه على أنه نص‬
‫بشري إنساني‪ ،‬فسوف نجد نماذج عدة منها‪.‬‬

‫ومن هذا القبيل دعوة محمد أركون إلى عدم اعتبار القرآن كالم ًا إلهي ًا آتي ًا من فوق‪،‬‬
‫وإنما هو حدث واقعي‪ ،‬مثل وقائع الفيزياء والبيولوجيا حيث يقول‪« :‬ودون أن نعتبر‬
‫القرآن كالم ًا آتي ًا من فوق‪ ،‬وإنما فقط كحدث واقعي تمام ًا كوقائع الفيزياء والبيولوجيا‬
‫التي يتكلم عنها العلماء‪ .‬إن القرآن يتجلى لنا كخطاب خاص‪ ،‬له ماديته وبنيته التي‬
‫يمكن لباحث األلسنيات أن يكتشف فيها أسلوب ًا خاص ًا في تشكيل المعنى وإنتاجه»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪ ،130 ،48 ،46 ،42‬ويحيى رمضان‪ :‬المقاربة‬
‫الهرمسية للوحي قراءة في الخطاب الالديني لنصر حامد أبو زيد‪ ،‬بحث بمجلة إسالمية المعرفة‬
‫ص ‪ ،19 ،18‬العدد ‪ ،63‬شتاء ‪1432‬هـ‪2011/‬م‪.‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.284‬‬

‫‪225‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال يقتصر األمر على القرآن فحسب‪ ،‬بل يشمل الوحي بصفة عامة‪ ،‬وفي كل‬
‫الديانات الثالث‪ ،‬وفي ذلك يقول أركون‪« :‬ما كان قد قبل وعلم وفسر وعيش عليه‪،‬‬
‫بصفته الوحي في السياقات اليهودية والمسيحية واإلسالمية‪ ،‬ينبغي أن يدرس ويقارب‬
‫منهجي ًا‪ ،‬بصفته تركيبة اجتماعية لغوية مدعمة من قبل العصبيات التاريخية المشتركة‪،‬‬
‫واإلحساس باالنتماء إلى تاريخ النجاة المشترك لدى الجميع»(((‪.‬‬

‫ويبدو أن أركون هنا قد تحلى بقدر أكبر من الصراحة في بيان حقيقة موقفه من‬
‫القرآن‪ ،‬وأنه ال يمثل عنده كالم ًا أو وحي ًا آتي ًا من فوق‪ ،‬وإنما هو حدث واقعي‪ ،‬مثله مثل‬
‫غيره من األحداث الواقعية األخرى‪.‬‬

‫وهو بذلك المسلك يتخلى عن شيء من الحساسية والحذر التي أبداها في بعض‬
‫كتبه األخرى‪ ،‬حينما طرح أسئلة عدة تؤول إلى النتيجة السابقة نفسها التي تؤنسن القرآن‪،‬‬
‫لكنه عقب عليها بقوله‪« :‬ال تهدف هذه األسئلة إلى نزع صفة الوحي عن النصوص‪ ،‬وال‬
‫إلى إلغاء شحنتها التقديسية‪ ،‬وال إلى إزالة آثار معناها الروحية بالنسبة للمؤمنين»(((‪.‬‬

‫وقد جلبت هذه العبارة على أركون نقد ًا شديد ًا وحاد ًا من علماني آخر‪ ،‬أكثر تطرف ًا‬
‫وصراحة في بيان حقيقة موقف هؤالء الحداثيين من القرآن‪ ،‬وهو علي حرب‪ ،‬الذي‬
‫أقر ابتداء بوعورة المهمة التي يقوم بها هو ورهطه من العلمانيين‪ ،‬فقال‪« :‬ال شك في‬
‫أن مهمة نقد الفكر اإلسالمي‪ ،‬والقيام بتشريحه هي مهمة عويصة بل حساسة‪ ،‬وأن‬
‫أركون إذ يتصدى لها يدرك بأن عليه أن يخوض معركة على أكثر من جبهة‪ ،‬ضد القوى‬
‫المحافظة والعقليات الدوغمائية‪ ،‬ذلك أنه يالمس بنقده مناطق محرمة‪ ،‬ويطرق أبواب ًا‬
‫يصعب طرقها‪ ،‬ومن هنا حذره في اختيار المصطلحات»(((‪.‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.21‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي‪ :‬قراءة علمية ص ‪.33‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.76 ،75‬‬

‫‪226‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫لكن رغم إقرار علي حرب بما يواجهه العلمانيون من صعوبات وتحديات في‬
‫نشر أفكارهم‪ ،‬فقد انتقد احتراز أركون المتقدم‪ ،‬وأنه ال يريد نزع صفة الوحي عن‬
‫النصوص‪ ،‬فقال معقب ًا على ذلك‪« :‬كيف نقرأ النصوص قراءة نقدية تاريخية‪ ،‬ونزعم أننا‬
‫ال ننفي عنها صفة التعالي والقداسة؟ ال مجال إذن للمداورة وااللتفاف‪ ،‬بل األحرى‬
‫واألولى مجابهة المشكلة‪ ،‬بد ً‬
‫ال من الدوران حولها‪ .‬والحل يكون في البرهنة على أن‬
‫قراءة القرآن لم تكن يوم ًا وال يمكن أن تكون إال تاريخية‪ ،‬ما دام اإلنسان ال ينفك عن‬
‫تاريخيته وزمنيته‪ ،‬هكذا كان األمر على الدوام»(((‪.‬‬

‫ولدى حسن حنفي نطالع أفكار ًا ونصوص ًا في غاية الخطورة‪ ،‬تنفي عن القرآن‬
‫صفة الوحي‪ ،‬وأنه كالم الله تعالى‪ ،‬وتجعله كغيره كالم ًا ناشئ ًا في الشعور‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫«ونصوص الوحي ذاتها نشأت في الشعور‪ ،‬إما في الشعور العام الشامل وهو ذات‬
‫الله‪ ،‬أو في الشعور المرسل إليه والمعلن فيه وهو شعور الرسول‪ ،‬أو شعور المتلقي‬
‫للرسالة‪ ،‬وهو شعور اإلنسان العادي الذي قد يشعر بأزمة‪ ،‬فينادي على حل‪ ،‬ثم يأتي‬
‫الوحي مصدق ًا لما طلب»(((‪.‬‬

‫وال شك أن التعبير بلفظ الشعور في حق الله قبيح ومستهجن‪ ،‬ومخالف لما تقرر‬
‫من توقيفية باب األسماء والصفات‪ ،‬وكلها أمور ال يبالي بها حسن حنفي‪ ،‬ثم إن اعتبار‬
‫القرآن نشأ في شعور النبي أو المخاطبين‪ ،‬ينسف تمام ًا كونه كالم الله ووحيه‪ ،‬ويجعله‬
‫إفراز ًا بشري ًا حادث ًا‪ ،‬ينشأ نتيجة احتياجات نفسية شعورية للرسول‪ ،‬أو للمتلقين للرسالة‪.‬‬

‫ويواصل حسن حنفي آراءه المنحرفة في هذا الباب‪ ،‬حيث يزعم أنه حصل تداخل‬
‫بين كالم الله وكالم البشر‪ ،‬وأنهما ليسا نقيضين‪ ،‬خالف ًا لما يظنه الكثيرون من أن كالم‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.77‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪ ،136 ،135‬وانظر‪ :‬محسن الميلي‪ :‬ظاهرة اليسار اإلسالمي‬
‫ص ‪.114‬‬

‫‪227‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الله وكالم البشر نقيضان‪ ،‬بينما الحقيقة ‪ -‬عنده ‪ -‬خالف ذلك‪ ،‬فقد تداخل كالم الله‬
‫وكالم البشر في أصل الوحي والذي بني على كالم البشر‪ ،‬سواء كان من الرسول‪ ،‬أو‬
‫المؤمنين‪ ،‬أو حتى من الكافرين والمشركين‪ ،‬وأهل الكتاب(((‪.‬‬

‫وواضح ما في هذا الكالم من تلبيس‪ ،‬وخلط بين أمرين مختلفين‪ ،‬أحدهما قائل‬
‫الكالم والمتكلم به ابتداء‪ ،‬والثاني مضمون الكالم‪ ،‬والذي ربما اشتمل على حكاية‬
‫لكالم آخرين‪ ،‬والكالم إنما ينسب لقائله والمتكلم به‪ ،‬وإن كان في أثناء كالمه ينقل‬
‫قو ً‬
‫ال لغيره‪.‬‬

‫وحينما يحكي الله في كتابه كالم األمم السابقة‪ ،‬أو شبهات المشركين وأهل‬
‫الكتاب‪ ،‬ويرد عليها بالنقض واإلبطال؛ فال يعني ذلك بحال أن هذا كالم البشر‪ ،‬بل‬
‫هو كالم الله‪ ،‬يحكي فيه سبحانه مقولة لبعض البشر‪ ،‬وربما كانت في أصلها بغير‬
‫اللغة العربية‪ ،‬كما هو حال األمم السابقة لكن الله تكلم بها‪ ،‬ووصلتنا في بيان عربي‬
‫معجز‪ ،‬وقد جرت عادة المؤلفين من البشر في كل زمان ومكان‪ ،‬أن ينقلوا كالم غيرهم‪:‬‬
‫استشهاد ًا‪ ،‬أو رد ًا‪ ،‬أو مناقشة‪ ،‬وليس ذلك مخرج ًا للكالم عن نسبته لمؤلفه األصلي‪.‬‬

‫ومن المغالطات األخرى التي استخدمها حسن حنفي في التفرقة بين ما هو‬
‫مقدس وإلهي‪ ،‬وما ليس كذلك فيما يتعلق بالقرآن الكريم‪ ،‬الزعم بأن المقدس هو‬
‫فقط العلم اإللهي قبل التدوين‪ ،‬وبالطبع فلم يطلع أحد من البشر على هذا العلم‪ ،‬بل‬
‫هو خاص بالله تعالى وحده‪ ،‬أما ما وصلنا نحن البشر فهو القرآن الذي أوحى الله به‬
‫إلى نبيه عبر أمين الوحي جبريل‪ ،‬وهذا القرآن عند حسن حنفي منذ تدوينه في اللوح‬
‫المحفوظ‪ ،‬أصبح مدون ًا في اللغة والزمان والمكان وله حوامله المخلوقة «وقد تعين‬
‫الوحي أكثر فأكثر‪ ،‬حتى فهم الرسول له‪ ،‬ثم فهم الناس من الرسول بعد سماعه منه‪،‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.23/1‬‬

‫‪228‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ففي كل مرحلة يزداد التعين وتكثر الحوامل‪ ،‬وتبتعد عن المحمول األول‪ ،‬وهو كالم‬
‫الله في العلم اإللهي»(((‪.‬‬

‫ومن العلمانيين الذين صرحوا بموقفهم من بشرية القرآن وأنسنته نصر أبو زيد‪،‬‬
‫وقد أشرنا من قبل إلى رأيه في القرآن الكريم وأنه «في حقيقته وجوهره منتج ثقافي‪،‬‬
‫والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خالل فترة تزيد على العشرين عام ًا»(((‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى له فإن «الواقع إذن هو األصل‪ ،‬وال سبيل إلهداره‪ ،‬من الواقع تكون‬
‫النص‪ ،‬ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه‪ ،‬ومن خالل حركته بفعالية البشر تتجدد‬
‫داللته‪ ،‬فالواقع أو ً‬
‫ال‪ ،‬والواقع ثاني ًا‪ ،‬والواقع أخير ًا»(((‪.‬‬

‫ولم يكتف أبو زيد بتقرير رأيه هذا‪ ،‬وإنما ادعى أنه «قضية بدهية ال تحتاج‬
‫إثبات»(((‪ ،‬وحقيقة «تبدو بديهية‪ ،‬ومتفق ًا عليها»(((‪ ،‬وأما الرافضون لها‪ ،‬فهم تلك‬
‫االتجاهات الرجعية‪ ،‬التي صاغت تصور ًا «يعزل النص عن سياق ظروفه الموضوعية‬
‫التاريخية‪ ،‬بحيث يتباعد به عن طبيعته األصلية بوصفه نص ًا لغوي ًا‪ ،‬ويحوله إلى شيء له‬
‫قداسته»(((‪.‬‬

‫وال يستنكف نصر أبو زيد من استعمال مصطلح أنسنة النصوص الدينية‪ ،‬معتبر ًا أن‬
‫تلك األنسنة قاعدة ال مناص منها‪ ،‬وتسري على سائر النصوص فيقول‪« :‬إن النصوص‬
‫‪ -‬دينية كانت أم بشرية ‪ -‬محكومة بقوانين ثابتة‪ ،‬والمصدر اإللهي للنصوص الدينية ال‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬علوم القرآن من المحمول إلى الحامل ص ‪21‬‬


‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.27‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.130‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.28‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.27‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪ ،14‬وانظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬التفسير الماركسي لإلسالم ص ‪.46‬‬

‫‪229‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫يخرجها عن هذه القوانين‪ ،‬ألنها تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة‪ ،‬وتوجهت‬
‫بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد»(((‪.‬‬

‫وهكذا ال يرى أبو زيد حرج ًا من القول صراحة ببشرية النصوص الدينية ‪ -‬والتي‬
‫يدخل القرآن في عدادها ‪ -‬حيث يقول‪« :‬وإذا كنا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص‬
‫الدينية‪ ،‬فإن هذا التبني ال يقوم على أساس نفعي أيديولوجي يواجه الفكر الديني السائد‬
‫والمسيطر‪ ،‬بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ‪ ،‬وإلى حقائق‬
‫النصوص ذاتها»(((‪.‬‬

‫ويتكرر اإللحاح على فكرة أنسنة القرآن منذ نزوله‪ ،‬وتحوله إلى نص إنساني‬
‫«يتأنسن»((( في مواضع عديدة من كتب نصر أبو زيد‪ ،‬بحجة أن «النص منذ لحظة نزوله‬
‫األولى ‪ -‬أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي ‪ -‬تحول من كونه نص ًا إلهي ًا‪ ،‬وصار فهم ًا‬
‫نص ًا إنساني ًا‪ ،‬ألنه تحول من التنزيل إلى التأويل»(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من مغالطة فجة‪ ،‬وخلط ما بين أمرين مختلفين تمام ًا‪،‬‬
‫أحدهما المتكلم بالقرآن سبحانه‪ ،‬والقرآن بهذا االعتبار كالم إلهي وحاشاه أن يكون‬
‫من قول البشر‪ ،‬واألمر الثاني المتلقي للقرآن والمتفهم له وهم البشر وفهمهم‪ ،‬وهذا‬
‫بشري‪ ،‬لكنه ال يؤثر بحال على مصدر القرآن‪ ،‬وال على أنه كالم الله سبحانه‪.‬‬

‫وليس فهم أي نص أو تأويله سبب ًا لنفي نسبته إلى قائله األول‪ ،‬وكوننا نفهم كالم‬
‫الله بقدراتنا البشرية اإلنسانية‪ ،‬ال يعني أن هذا الكالم تحول من كالم الله إلى كالم‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.119‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.206‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.126‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.126‬‬

‫‪230‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫بشري‪ ،‬وإنما يظل كالم الله سبحانه‪ ،‬وتظل أفهامنا هي البشرية النسبية المتغيرة‪ ،‬كما‬
‫أننا إذا فهمنا نص ًا قديم ًا‪ ،‬أو شعر ًا جاهلي ًا بفهمنا المعاصر‪ ،‬فال يعني هذا بالحال أن يفقد‬
‫هذا النص قدمه أو عراقته‪.‬‬

‫والقول ببشرية النصوص الدينية ‪ -‬عند نصر أبو زيد ‪ -‬يعني بالضرورة نفي وصفها‬
‫باإللهية‪ ،‬ألنها لو كانت كذلك لعجز البشر عن فهمها‪ ،‬وهي حجة داحضة ومتهافتة‪،‬‬
‫لكن نصر أبو زيد يسوقها للتدليل على رأيه الخطير هذا‪ ،‬فيقول‪« :‬إن القول بإلهية‬
‫النصوص‪ ،‬واإلصرار على طبيعتها اإللهية تلك‪ ،‬يستلزم أن البشر عاجزون بمناهجهم‬
‫عن فهمها‪ ،‬ما لم تتدخل العناية اإللهية بوهب بعض البشر طاقات خاصة تمكنهم من‬
‫الفهم»(((‪.‬‬

‫وإذا كان أبو زيد يقر في بعض مواضع من كتبه بأن القرآن نص إلهي في أصله‪ ،‬فإنه‬
‫سرعان ما يعقب على ذلك بما يؤكد على أن هذا البعد اإللهي للنص ال يعنينا كثير ًا؛‬
‫ألن النص منذ لحظة نزوله األولى ‪ -‬أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي ‪ -‬تحول من‬
‫كونه نص ًا إلهي ًا‪ ،‬وصار فهم ًا إنساني ًا(((‪.‬‬

‫وفي بعض مؤلفاته يرجع نصر أبو زيد مشكلة المتقدمين في التعامل مع القرآن‬
‫إلى كونهم نظروا إليه باعتباره ممث ً‬
‫ال لكلمات الله الحرفية المقدسة‪ ،‬بال زيادة وال‬
‫نقصان(((‪ ،‬وهو األمر الذي يحرص أبو زيد حرص ًا شديد ًا على إثبات خالفه الجوهري‬
‫معه‪ ،‬ومع الفكر الديني بأسره في محور االهتمام‪ ،‬ونقطة االنطالق‪ ،‬حيث يقول‪« :‬وإذا‬
‫كان الفكر الديني يجعل قائل النصوص ‪ -‬الله ‪ -‬محور اهتمامه ونقطة انطالقه‪ ،‬فإننا‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.206‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.126‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬التجديد والتحريم والتأويل ص ‪.212 ،211‬‬

‫‪231‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫نجعل المتلقي ‪ -‬اإلنسان ‪ -‬بكل ما يحيط به من واقع اجتماعي تاريخي هو نقطة البدء‬
‫والمعاد»(((‪.‬‬

‫ومن خالل هذه النصوص المتكاثرة وغيرها أجدني متفق ًا مع ما قرره بعض‬
‫الباحثين‪ ،‬من أن النواة المركزية للمشروع الفكري لنصر أبو زيد تقوم «على ما يدعوه‬
‫بأنسنة الوحي‪ ،‬فهذه النواة هي الغاية المطلوبة‪ ،‬والمقصد المراد تحقيقه‪ ،‬وكل ما عداها‬
‫من مفاهيم وقضايا وتصورات‪ ،‬ليست سوى وسائل وأدوات خادمة لهذا المسعى‪،‬‬
‫وبانية ألركانه»(((‪.‬‬

‫وقد وصف علي حرب قراءة نصر أبو زيد ‪ -‬وهي أيض ًا قراءة من يسميهم‬
‫بالمحدثين من علمانيين وتنويريين ‪ -‬بأنها قراءة تاريخية ناسوتية‪ ،‬ال قراءة الهوتية‬
‫أسطورية‪ ،‬ومن ثم فإن نصر أبو زيد «يسعى جهده إلى تقويض مفهوم النص كوحي‬
‫مفارق موجود على نحو أزلي خطي في اللوح المحفوظ‪ ،‬أو كمعطى مفروض بقوة‬
‫إلهية‪ ،‬يسبق الواقع‪ ،‬ويشكل وثب ًا عليه‪ ،‬وتجاوز ًا لقوانينه‪ ،‬ليحل محله مفهوم آخر‪،‬‬
‫قوامه أن القرآن نص لغوي ومنتج ثقافي‪ ،‬انطلق من حدود مفاهيم الواقع»(((‪.‬‬

‫ومن المالحظ أن نصر أبو زيد في بعض كتاباته يحرص على التفرقة بين نقد‬
‫الفكر الديني ونقد الدين‪ ،‬وأن نقد األول ال يعني بالضرورة نقد الثاني‪ ،‬لكن القارئ‬
‫لمشروعه بعناية يدرك بطالن تلك التفرقة‪ ،‬وقد نبه علي حرب إلى أن نصر أبو زيد‬
‫يتناول بالنقد والتحليل النص القرآني‪ ،‬ويجعله مادة لمعرفة نقدية‪ ،‬مساوي ًا في ذلك بينه‬

‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.200‬‬


‫((( يحيى رمضان‪ :‬المقاربة الهرمسية للوحي قراءة في الخطاب الالديني لنصر حامد أبو زيد‪ ،‬بحث‬
‫بمجلة إسالمية المعرفة ص ‪ ،18‬العدد ‪ ،63‬شتاء ‪1432‬ﻫ‪2011/‬م‪.‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.206 ،205‬‬

‫‪232‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وبين أي خطاب بشري(((‪.‬‬

‫ويؤيد ما سبق أن نصر أبو زيد يتباهي بأنه ‪ -‬هو ومن يوافقه في الرأي ‪ -‬قد‬
‫صاروا في موقف يسمح لهم أن يصرحوا بآرائهم‪ ،‬وأن يتخلصوا من تلك السيطرة‬
‫التي حظيت بها التيارات الفكرية الدينية‪ ،‬ومن ثم يقول‪« :‬إذا كانت التيارات الفكرية‬
‫الدينية التبريرية‪ ،‬هي التي سادت وهيمنت في تاريخ كل من المسيحية واإلسالم‪ ،‬فليس‬
‫معنى ذلك أن أطروحاتها صحيحة ال تقبل النقاش والرد‪ ،‬فسيطرة تيار فكري وسيادته‬
‫ليس إال محصلة لصراع قوى اجتماعية سياسية في واقع تاريخي محدد‪ ،‬ولعلنا اآلن‬
‫أصبحنا في موقف يسمح لنا القول بأن النصوص الدينية نصوص لغوية‪ ،‬شأنها شأن أية‬
‫نصوص أخرى في الثقافة‪ ،‬وأن أصلها اإللهي ال يعني أنها في درسها وتحليلها تحتاج‬
‫لمنهجيات ذات طبيعة خاصة‪ ،‬تتناسب مع طبيعتها اإللهية الخاصة»(((‪.‬‬

‫ومع هذه الحالة من الشعور بالقوة‪ ،‬واالنتقال من مرحلة كتمان الرأي إلى الجهر به‪،‬‬
‫فمن الواضح أن نصر أبو زيد يحاول أن يبقي على شيء من المراوغة والتقية‪ ،‬وعدم الجهر‬
‫بحقيقة رأيه في القرآن كام ً‬
‫ال‪ ،‬إذ على الرغم من تبنيه القول بأن القرآن منتج ثقافي‪ ،‬وأنه نص‬
‫لغوي يتعامل معه كسائر النصوص اللغوية‪ ،‬فإنه ما زال يطرح فكرة األصل اإللهي للقرآن‪،‬‬
‫متجاورة مع كونه منتج ًا ثقافي ًا‪ ،‬وذا طبيعة بشرية في نصوصه‪ ،‬فيقول‪« :‬إن اإليمان بالمصدر‬
‫اإللهي للنص‪ ،‬ومن ثم إلمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة‪ ،‬أمر ال‬
‫يتعارض مع تحليل النص من خالل فهم الثقافة التي ينتمي إليها»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪ ،201‬ويحيى رمضان‪ :‬المقاربة الهرمسية للوحي قراءة في‬
‫الخطاب الالديني لنصر حامد أبو زيد‪ ،‬ص ‪.22‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.206 ،205‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.27‬‬

‫‪233‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال يخفى ما في الجمع بين هذين األمرين من تناقض فج‪ ،‬وقد أدرك هذا التناقض‬
‫وهاجمه علماني آخر أكثر تطرف ًا في علمانيته‪ ،‬وأكثر صراحة في المجاهرة برأيه وهو‬
‫علي حرب‪ ،‬والذي وصف صنيع أبو زيد بالتلفيق المنهجي فقال‪« :‬وهذا كالم هو في‬
‫منتهى التلفيق‪ :‬القول من جهة بأن اإليمان بالوجود الميتافيزيقي للنص يطمس إمكانية‬
‫فهمه العلمي‪ ،‬والقول من جهة ثانية بأن اإليمان بمصدره اإللهي ال يتعارض مع إمكانية‬
‫تحليله وفهمه‪ ،‬الجمع بين ألوهية النص من حيث مصدره‪ ،‬وبين بشريته من حيث‬
‫محتواه»(((‪.‬‬

‫ومن العلمانيين المتطرفين‪ ،‬الذين صرحوا ببشرية القرآن‪ ،‬دونما حرج أو حساسية‪،‬‬
‫سعيد ناشيد في كتابه «الحداثة والقرآن» والذي جزم فيه أن «القرآن هو كالم الرسول‬
‫محمد عليه السالم‪ ،‬كالمه الذي يعبر عن ثقافته‪ ،‬ولغته وشخصيته‪ ،‬وبيئته‪ ،‬وعصره‪،‬‬
‫وهذا دون أن ننفي دور الله‪ ،‬الذي هو الموحي ومصدر المادة الخام»(((‪.‬‬

‫وال يخفى أنه ليس هناك أدنى فائدة من تصريح هذا العلماني وأمثاله بأن الله‬
‫هو الموحي‪ ،‬ومصدر المادة الخام للقرآن‪ ،‬إذا ما تجاوزنا عن كنه ما يزعم أنه المادة‬
‫الخام للقرآن؛ ألنه يفرق ما بين ثالثة إطالقات للقرآن الكريم‪ :‬أولها الوحي اإللهي‪ ،‬أو‬
‫المادة الخام‪ ،‬وهذا باعترافه ال نعرف عنه شيئ ًا‪ ،‬والثاني ما يسميه بالقرآن المحمدي‪،‬‬
‫وهو تأويل الرسول إلشارات الوحي وصياغته للقرآن‪ ،‬وحتى هذا لم يصلنا أيض ًا‪،‬‬
‫وإنما الذي وصلنا المعنى الثالث‪ ،‬وهو المصحف العثماني‪ ،‬الذي تم بجمع بشري‬
‫من الصحابة‪ ،‬والذي يمثل ما يصفه العلمانيون بالصياغة النصية الرسمية للقرآن‬
‫المحمدي‪.‬‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.210 ،209‬‬


‫((( سعيد ناشيد‪ :‬الحداثة والقرآن ص ‪.21‬‬

‫‪234‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وهكذا‪ ،‬وبعيد ًا عن تلك السلسلة من التالعبات بالمفاهيم والتقسيمات‪ ،‬نصل إلى‬


‫بيت القصيد‪ ،‬ومحل االفتراق بين التصور اإلسالمي والعلماني في هذه القضية‪ ،‬وهو‬
‫الموقف من القرآن الكريم‪ ،‬الذي بين أيدينا اآلن محفوظ ًا في الصدور‪ ،‬ومكتوب ًا في‬
‫السطور‪ ،‬من أول الفاتحة وحتى سورة الناس‪ ،‬وهل هو كالم ووحي إلهي‪ ،‬أم نص بشري؟‬

‫وهنا يجيب سعيد ناشيد بكل صراحة «أننا ال نملك من أمر القرآن اليوم سوى‬
‫نسخ لنسخ‪ ،‬وال نعرف عنه سوى تأويالت لتأويالت‪ ،‬وهذا يكفي لكي نقول‪ :‬إن نسخ‬
‫المصحف العثماني التي صارت بين أيدينا‪ ،‬باختالفها في القراءات نصوص بشرية‬
‫تاريخية تراثية وأرضية‪ ،‬بكل ما تعنيه الكلمات من دالالت»(((‪.‬‬

‫ولعل من فوائد أمثال تلك الكتابات العلمانية المتطرفة أنها تكشف تهافت‬
‫مراوغات نفر من العلمانيين اآلخرين في تمرير القول ببشرية القرآن‪ ،‬تحت ستار‬
‫الجمع بين كون القرآن كالم الله باعتبار مصدره‪ ،‬وكالم البشر باعتبار لغته‪ ،‬وهو‬
‫تالعب مفضوح؛ ألن المحصلة في النهاية واحدة‪ ،‬وهي أن ما بين أيدينا بالفعل ليس‬
‫سوى كالم البشر وصياغتهم‪ ،‬بغض النظر عن مصدره األصلي‪.‬‬

‫وممن لجأ لتلك التفرقة التي ال تأثير لها عبد المجيد الشرفي‪ ،‬والذي زعم أن‬
‫القرآن الذي تلقاه الرسول ‪ #‬هو «كالم الله‪ ،‬يؤديه هو في لغة بشرية‪ ،‬أو هو كالم‬
‫الله وكالمه هو في اآلن نفسه‪ .‬هو كالم الله من حيث مصدره‪ ،‬وكالم البشر من حيث‬
‫انتماؤه إلى لغة بعينها‪ ،‬وصياغته في ألفاظ وتراكيب يقتضيها معجم تلك اللغة ونحوها‪،‬‬
‫وفي أطر فكرية مستمدة من ثقافة المتكلم الشخصية‪ ،‬ومن الثقافة المتاحة في الوسط‬
‫الذي يعيش فيه»(((‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.22‬‬


‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.36‬‬

‫‪235‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وثمة أفكار عدة تتكرر بصورة أو بأخرى في كتابات العلمانيين فيما يخص موقفهم‬
‫من القرآن‪ ،‬ومن ذلك فكرة نزع القداسة المحاطة بالقرآن لدى عموم المسلمين‪ ،‬من‬
‫أجل إمكانية دراسته دراسة علمية متجردة‪ ،‬وتطبيق المنهجيات النقدية الحديثة‪ ،‬التي‬
‫ال تلتفت لفكرة القداسة هذه‪ ،‬وإنما كل ما يعنيها دراسة النص في ذاته‪.‬‬

‫ولست أدري كيف يتصور أن تنزع تلك القداسة‪ ،‬وهذا التعظيم والتوقير من قلب‬
‫مؤمن‪ ،‬رسخ في عقيدته ويقينه أن هذا القرآن كالم الله‪ ،‬وليس كالم البشر‪ ،‬وأنه ال يأتيه‬
‫الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬تنزيل من حكيم حميد‪.‬‬

‫وهناك مسالك وأساليب عدة يمكن تلمس شواهدها بكثرة في كتابات العلمانيين‪،‬‬
‫وكلها تصب في ترسيخ فكرة بشرية القرآن‪ ،‬وتاريخيته‪ ،‬ونزع القداسة عنه‪ ،‬والتشكيك‬
‫في كونه كالم الله سبحانه‪.‬‬

‫ومن ذلك(((‪ :‬حذف عبارات التعظيم للقرآن الكريم‪ ،‬حتى إننا قلما نجدهم‬
‫يصفونه بالقرآن الكريم‪ ،‬أو العزيز‪ ،‬أو كالم الله‪ ،‬وإنما يستعملون غالب ًا لفظة النص‪،‬‬
‫أو الحدث القرآني‪ ،‬أو الظاهرة القرآنية‪ ،‬أو المدونة الكبرى‪ ،‬وكل ذلك كي يصلوا في‬
‫نهاية المطاف إلى التسوية بين الكالم اإللهي والكالم البشري‪.‬‬

‫والشواهد على األمور السابقة من كتابات العلمانيين كثيرة ومتنوعة‪ ،‬ومن نماذجها‪:‬‬
‫إيثار محمد أركون الستخدام مصطلح الحدث القرآني‪ ،‬بدي ً‬
‫ال عن القرآن؛ ألن المصطلح‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬فهد القرشي‪ :‬القراءة التأويلية عند حسن حنفي‪ ،‬بحث بمجلة التأصيل ص ‪،151 ،150‬‬
‫العدد الثالث‪1432 ،‬ﻫ‪ ،‬ود‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر‬
‫ص ‪ ،309‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪ ،760‬ود‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف‬
‫الليبرالية في البالد العربية ص ‪ ،666‬ود‪ .‬سليمان الغصن‪ :‬إعادة قراءة النص الشرعي واستهدافه في‬
‫الفكر العربي المعاصر ص ‪.135‬‬

‫‪236‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫األول يدل على ارتباط القرآن بالواقع‪ ،‬وأنه مجرد حدث‪ ،‬كأي حدث واقعي آخر‪ ،‬بينما‬
‫التعبير بالقرآن دون وصفه بالحدث يحمل دالالت يرفضها أركون‪ ،‬وهي أن القرآن وحي‬
‫منزل‪ ،‬تكلم الله به على الحقيقة‪ ،‬وليس حدث ًا تاريخي ًا منبثق ًا من الواقع(((‪ ،‬وفي ذلك كله‬
‫يقول أركون في اعتراف مهم‪« :‬وقد استخدمت مفهوم الحدث القرآني عن قصد؛ ألنه‬
‫أكثر فعالية‪ ،‬وغني من الناحية العلمية من مصطلح القرآن نفسه‪ ،‬فهذا المصطلح األخير‬
‫مثقل أكثر مما ينبغي بالقيم التقليدية‪ ،‬ومحاط من كل الجهات بالتصورات الدوغمائية‪،‬‬
‫والتحديدات المغلقة‪ ،‬والموروثة‪ ،‬التي ال يمكن للباحث أن يسيطر عليها بسهولة»(((‪.‬‬

‫ويتكرر المعنى نفسه عند هاشم صالح والذي يدعو إلى التحرر من تلك الهيبة‬
‫الهائلة حول القرآن اسم ًا ومضمون ًا داعي ًا إلى تفكيكه قبل استخدامه‪ ،‬حيث قال‪« :‬كلمة‬
‫قرآن مشحونة الهوتي ًا‪ ،‬إلى درجة أنه يصعب استخدامها قبل تفكيكها»(((‪.‬‬

‫وفي اعتراف آخر مهم من داخل الصف العلماني الحداثي‪ ،‬أقر علي حرب بأن‬
‫النقد الذي يمارسه أركون وغيره من الحداثيين «يؤدي إلى نزع هالة القداسة عن‬
‫الوحي‪ ،‬بتعرية آليات األسطرة والتعالي التي يمارسها الخطاب في تعامله مع األحداث‬
‫والوقائع التاريخية‪ ،‬أو مع التجارب والممارسات اإلنسانية»(((‪.‬‬

‫ومن األفكار المتكررة لدى كثير من العلمانيين اإللحاح على أن القرآن نص وال‬
‫فرق بينه ‪ -‬في هذه الحيثية ‪ -‬وبين سائر النصوص‪ ،‬ومن الواجب التعامل معه كما‬
‫يتعامل مع غيره من النصوص‪ ،‬حتى لو كان مقدس ًا عند المؤمنين به‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد الله القرني‪ :‬األساس الفلسفي للتاريخية‪ ،‬وأثره على الموقف من ثبوت الوحي في‬
‫الفكر الحداثي العربي ص ‪.20‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬اإلسالم‪ ،‬أوروبا‪ ،‬الغرب‪ ،‬رهانات المعنى وإرادات الهيمنة ص ‪.49‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب أركون الفكر األصولي واستحالة التأصيل هامش ص ‪.29‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.203‬‬

‫‪237‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال يخفى بطالن هذا القول عند كل مؤمن‪ ،‬ثبت لديه يقين ًا أن هذا القرآن كالم‬
‫الله‪ ،‬ووحيه الخاتم إلى نبيه محمد ‪ ،#‬وليس المقام هنا تقرير ذلك والتدليل عليه‪،‬‬
‫فهذا األمر مبسوط في كتب العقيدة‪ ،‬وما يعنينا هنا أن من لم يسلم بهذه الحقيقة فليس‬
‫بمسلم أص ً‬
‫ال‪ ،‬أما من آمن بها‪ ،‬فهو يدرك يقين ًا أن أخص خصيصة للقرآن هي أنه كالم‬
‫الله‪ ،‬وأنه نص إلهي وليس كالم ًا بشري ًا‪.‬‬

‫وإذا فقد الناظر في القرآن ‪ -‬سواء أكان قارئ ًا أم مفسر ًا أم مستنبط ًا ‪ -‬هذه الخصيصة‪،‬‬
‫فقد القاعدة المنهجية األولى‪ ،‬التي تضبط تعامله مع القرآن الكريم(((‪ ،‬وترشده إلى‬
‫المنهج األمثل في فهمه وتطبيقه‪.‬‬

‫وليست هذه الفكرة من بنات أفكار العلمانيين وإنما تلقفوها عن االتجاهات‬


‫النقدية الغربية «حيث نشأ المنهج التاريخي النقدي في الالهوت‪ ،‬وأكدت المدرسة‬
‫اللغوية‪ ،‬والمدرسة التاريخية في التفسير‪ ،‬أن المناهج التأويلية السارية على الكتاب‬
‫المقدس هي بعينها المناهج السارية على سواه من الكتب‪ ،‬وأن المعنى اللفظي في‬
‫الكتاب المقدس‪ ،‬يجب أن يتحدد بنفس الطريقة التي يتحدد بها في بقية الكتب»(((‪.‬‬

‫وقد أشار حسن حنفي إلى هذا المعنى بوضوح فقال‪« :‬النص في النهاية نص‪ ،‬ال‬
‫فرق بين النص الديني‪ ،‬والنص األدبي‪ ،‬والنص التاريخي‪ ،‬والنص القانوني‪ ،‬والنص‬
‫الفلسفي‪ ،‬فالكل إبداع‪ ،‬وال اختالف بين النصوص من حيث تكونها‪ ،‬وأثرها‪ ،‬تشكلها‬
‫وتشكيلها إال في الدرجة‪ ،‬أما في النوع فال اختالف‪ ،‬فالمسافة بين النص الديني والنص‬
‫األدبي ليست بعيدة»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد سالم أبو عاصي‪ :‬أسباب النزول تحديد مفاهيم ورد شبهات ص ‪.92‬‬
‫((( د‪ .‬عادل مصطفى‪ :‬فهم الفهم مدخل إلى الهرمنيوطيقا ص ‪.69‬‬
‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬حوار األجيال ص ‪.412‬‬

‫‪238‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫والنصوص عند علي حرب كلها سواء‪ ،‬وال يهم اختالف النصوص وتباعدها‪،‬‬
‫وفي نقد النص تستوي النصوص على اختالفها‪ ،‬فال يهم هنا الفرق بين نص وآخر من‬
‫حيث المضامين والمحتويات‪ ،‬أو من حيث الموضوعات والطروحات‪ ،‬وإنما المهم‬
‫كيفية بناء الخطاب وطريقة تشكله‪ ،‬وهنا «يمكن الجمع بين النص الفلسفي والنص‬
‫النبوي‪ ،‬إذ كالهما يشكل نص ًا لغوي ًا‪ ،‬كالهما يتألف من وقائع خطابية»(((‪.‬‬

‫وعلى الرغم من إقراره بأن النص القرآني نص فريد من نوعه‪ ،‬إال أن ذلك لم يحل‬
‫بينه وبين عرض هذا النص على جميع المناهج النقدية واأللسنية‪ :‬ابتداء من المنهج‬
‫اللغوي‪ ،‬ومرور ًا بالمنهج السيميائي‪ ،‬والتفكيكي‪ ،‬واألركيولوجي أي الحفري(((‪.‬‬

‫وفي مفتتح كتاب أدونيس «النص القرآني وآفاق الكتابة» نجده يشير إلى أنه‬
‫سيتكلم عن الكتابة القرآنية بوصفها نص ًا لغوي ًا‪ ،‬دون أية اعتبارات أخرى فيقول‪« :‬أشير‬
‫ال أنني أتكلم على الكتابة القرآنية بوصفها نص ًا لغوي ًا خارج كل بعد ديني‪ ،‬نظر ًا‬‫أو ً‬
‫وممارسة‪ :‬نص ًا نقرؤه كما نقرأ نص ًا أدبي ًا»(((‪.‬‬

‫كذلك ساوى محمد أركون بين القرآن‪ ،‬وسائر النصوص الدينية المقدسة عند‬
‫القرآن ليس َّإل نص ًا من جملة نصوص‬
‫َ‬ ‫أصحاب الديانات المختلفة‪ ،‬حيث جزم «بأن‬
‫الفوارة الغزيرة؛ كال َّتوراة واإلنجيل‬
‫أخرى‪ ،‬تحتوي على نفس مستوى ال َّتعقيد والمعاني َّ‬
‫تأسيسي من هذه النصوص‬
‫ّ‬ ‫الهندوسية‪ ،‬وكل نص‬
‫َّ‬ ‫وال ُّنصوص المؤسسة للبوذ َّية أو‬
‫بتوسعات أخرى في المستقبل»(((‪.‬‬
‫معينة‪ ،‬وقد يحظى ُّ‬
‫تاريخية َّ‬
‫َّ‬ ‫بتوسعات‬
‫الكبرى حظي ُّ‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.11‬‬


‫((( د‪ .‬محمد محمد يونس وماجد العلوي‪ :‬القراءة الحداثية للنص عند علي حرب ص ‪.611‬‬
‫((( أدونيس‪ :‬النص القرآني وآفاق الكتابة ص ‪.19‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪.36 ،35‬‬

‫‪239‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وعلى المنوال نفسه أكد نصر أبو زيد على التسوية بين القرآن في طريقة التناول‪،‬‬
‫وسائر النصوص اللغوية واألدبية‪ ،‬بل إنه جعل منطلق التعامل مع القرآن ونقطة البداية‬
‫في تعريفه أنه نص لغوي‪ ،‬وقد أدرك علي حرب ذلك فقال‪« :‬بما أن أبو زيد يعيد النظر‬
‫في مفهوم الوحي من منظور تاريخي ناسوتي‪ ،‬فإنه يقدم تعريف ًا جديد ًا للقرآن بوصفه‬
‫نص ًا لغوي ًا‪ ،‬مستبعد ًا بذلك كل الحموالت ذات المضامين الالهوتية أو الغيبية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫وحي إلهي أو قدسي أو نبوي»(((‪.‬‬

‫وقد انتقد أبو زيد من جعلوا النص القرآني نص ًا خاص ًا‪ ،‬انطالق ًا من ألوهية مصدره‪،‬‬
‫فقال‪« :‬قد يقال إن النص القرآني نص خاص‪ ،‬وخصوصيته نابعة من قداسته وألوهية‬
‫مصدره‪ ،‬لكنه رغم ذلك يظل نص ًا لغوي ًا ينتمي لثقافة خاصة»(((‪ .‬وفي كتاب آخر نبه أبو‬
‫زيد إلى أن «كون الخطاب إلهي ًا ‪ -‬من حيث المصدر ‪ -‬ال يعني عدم قابليته للتحليل‪،‬‬
‫بما هو خطاب إلهي تجسد في اللغة اإلنسانية بكل إشكاليات سياقها االجتماعي‬
‫والثقافي والتاريخي»(((‪.‬‬

‫وبناء على أن القرآن مثله مثل سائر النصوص اللغوية واألدبية‪ ،‬فإن نصر أبو زيد‬
‫يجعل من بين أهداف مشروعه الفكري األساسية((( «إعادة ربط الدراسات القرآنية‬
‫بمجال الدراسات األدبية والنقدية‪ ،‬بعد أن انفصلت عنها في الوعي الحديث‬
‫والمعاصر‪ ،‬نتيجة لعوامل كثيرة أدت إلى الفصل بين محتوى التراث وبين مناهج‬
‫الدرس العلمي»(((‪ .‬وقد حرص على تلمس جذور سابقة لدعوته هذه متمثلة في فكر‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.207‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.21‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة الحقيقة ص ‪.9‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد اإلله بلقزيز‪ :‬العرب والحداثة ‪ - 3‬نقد التراث ص ‪.238‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.21‬‬

‫‪240‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫الشيخ أمين الخولي‪ ،‬فقال‪« :‬وليست الدعوة إلى درس القرآن بوصفه نص ًا إال استجابة‬
‫لدعوة قديمة‪ ،‬شاءت لها الظروف أن تمر دون أن تتحقق‪ .‬إنها دعوة الشيخ أمين‬
‫الخولي»(((‪.‬‬

‫وبالطبع فإن الهدف من تلك الدعوة واضح تمام الوضوح‪ ،‬وهو البعد بالقرآن عن‬
‫أن يتعامل معه كوحي إلهي‪ ،‬يتلمس ما فيه من هدايات ورشاد‪ ،‬كما هو الحال في علوم‬
‫التفسير والقرآن وغيرها‪ ،‬وتحويله إلى نص لغوي أدبي‪ ،‬يتعامل معه كسائر النصوص‪،‬‬
‫ويطبق عليه الناقد الحداثي ما شاء أن يطبق من المنهجيات المقتبسة من الغرب‪.‬‬

‫ومن الكتاب العلمانيين من يرى أن المحاوالت النقدية للتعامل مع النص القرآن‬


‫قد بدأت مبكر ًا مع شخصيات مثل‪ :‬طه حسين‪ ،‬والثعالبي‪ ،‬ومحمد أحمد خلف الله‪،‬‬
‫وغيرهم(((‪.‬‬

‫وإذا استعرضنا محاولة طه حسين باعتباره أكثر تلك الشخصيات شهرة وتأثير ًا‪،‬‬
‫فسوف نجد أنه قد شكك في وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السالم‪ ،‬وهجرتهما إلى‬
‫مكة‪ ،‬وبنائهما الكعبة‪ ،‬وزعم بأنه ال يوجد دليل تاريخي معتبر يثبت ذلك‪ ،‬فقال‪« :‬للتوراة‬
‫أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل‪ ،‬وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيض ًا‪ ،‬لكن ورود هذين‬
‫االسمين في التوراة والقرآن ال يكفي إلثبات وجودهما التاريخي‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن إثبات‬
‫هذه القصة‪ ،‬التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة‪ ،‬ونشأة العرب المستعربة‬
‫فيها‪ ،‬ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوع ًا من الحيلة في إثبات الصلة بين‬
‫اليهود والعرب من جهة‪ ،‬وبين اإلسالم واليهودية من جهة أخرى‪ ،‬وأقدم عصر يمكن‬
‫أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة‪ ،‬إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.22‬‬


‫((( انظر‪ :‬محمد حمزة‪ :‬إسالم المجددين ص ‪.49 ،48‬‬

‫‪241‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫فيه شمال البالد العربية»(((‪ ،‬وبعد أن وصف طه حسين هذه القصة باألسطورة‪ ،‬وأخذ‬
‫يتكلف في تفسير األسباب التي دعت قريش ًا لقبولها وتبنيها‪ ،‬خلص إلى القول بأن «أمر‬
‫هذه القصة إذن واضح‪ ،‬فهي حديثة العهد‪ ،‬ظهرت قبيل اإلسالم‪ ،‬واستغلها اإلسالم‬
‫لسبب ديني‪ ،‬وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيض ًا‪ ،‬وإذن فيستطيع التاريخ األدبي‬
‫واللغوي أال يحفل بها‪ ،‬عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى»(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من خطأ بين‪ ،‬ومصادمة لثوابت العقيدة(((‪ ،‬والمصدق‬
‫بالقرآن وأخباره يكفيه ورود ذكر هذين الرسولين العظيمين في القرآن للتدليل على‬
‫وجودهما‪ ،‬أما غير المؤمن بالقرآن أص ً‬
‫ال‪ ،‬فيقال له‪ :‬إنه ال يوجد أدنى مانع عقلي أو‬
‫تاريخي أو جغرافي أو مادي يمنع من وجود نبي عظيم اسمه إبراهيم‪ ،‬عاش في الشام‪،‬‬
‫ثم زار بالد العرب عدة مرات‪ ،‬وهناك رفع قواعد بيت للعبادة اسمه الكعبة‪ ،‬وهو بناء‬
‫‪ -‬في مقاييس الناس ‪ -‬مما يمكن للشخص العادي أن يفعل مثله‪ ،‬وإلى هذين الرجلين‬
‫تنتسب أمتان كبيرتا العدد وهم العرب وبنو إسرائيل‪ ،‬وليس هناك أي دا ٍع لتواطؤ هاتين‬
‫األمتين على انتحال مثل هذا النسب‪ ،‬وال سيما العرب الذين ُعرف عنهم الحرص‬
‫الشديد على حفظ أنسابهم والتفاخر بها‪ ،‬ولست أدري هل هناك أدلة تاريخية أكثر‬
‫إقناع ًا من شهادة ماليين البشر على االنتساب لشخص ما هو إبراهيم عليه السالم‪،‬‬
‫وورود ذكره في مصدرين مهمين وهما القرآن والتوراة‪ ،‬ثم ترك هذا النبي ألثر مادي‬
‫مشاهد‪ ،‬وهو الكعبة(((‪.‬‬

‫((( طه حسين‪ :‬في الشعر الجاهلي ص‪.31‬‬


‫((( المصدر السابق ص‪.32‬‬
‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬مناهج االستدالل على مسائل العقيدة ص ‪.510 ،509‬‬
‫((( انظر نقد ًا تفصيل ّي ًا لكالم طه حسين في هذه المسألة عند‪ :‬محمد فريد وجدي‪ :‬نقد كتاب الشعر‬
‫الجاهلي ص‪ ،71 ،70‬ومحمد أحمد عرفة‪ :‬نقض مطاعن في القرآن الكريم ص‪.111-85‬‬

‫‪242‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ولعل من أخطر ما تضمنه كالم طه حسين المتقدم أنه فتح الباب لتأصيل قاعدة‬
‫مغرقة في االنحراف والبطالن‪ ،‬وهي أن إخبار القرآن عن أمر ما ‪ -‬حتى ولو وافقته‬
‫التوراة في ذكره ‪ -‬ال يكفي إلثبات حقيقة تاريخية‪ ،‬وال يستلزم أنها وجدت بالفعل‪،‬‬
‫كما جوز اشتمال قصص القرآن وأخباره على األساطير التاريخية‪ ،‬واستغالل اإلسالم‬
‫لمثل هذه األساطير في خدمة أغراضه ومقاصده‪ ،‬وال شك أن ذلك كله يفتح الباب‬
‫واسع ًا للتشكيك في القرآن ومصدره‪ ،‬وصدق قائله‪ ،‬وهل هو كالم الله ح ّق ًا‪ ،‬أم كالم‬
‫النبي ‪#‬؟ وإذا كان كالم الله سبحانه‪ ،‬فكيف يتصور أن يلجأ هذا اإلله العظيم القادر‬
‫على كل شيء ‪ -‬والعالم بما كان وما سيكون ‪ -‬الستغالل أسطورة خرافية غير حقيقية‪،‬‬
‫وذكرها في كتابه الذي أنزله على رسوله أ ّي ًا كان الدافع وراء ذلك؟!‬

‫والذي أفهمه هو أن من يسير وراء الدوافع واألسباب‪ ،‬ويعتمد على وسيلة غير‬
‫صحيحة لتبرير أي أمر ‪ -‬مهما كانت قيمته أو فائدته ‪ -‬هم البشر وليس رب البشر‪ ،‬وأن‬
‫اللجوء ألسلوب كهذا ال يفعله سوى أصحاب مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)‪ ،‬وهو مبدأ‬
‫منقطع الصلة تمام ًا باألخالق الفاضلة‪ ،‬والقيم الرفيعة(((‪.‬‬

‫ولعل من يقرأ ما وراء السطور في كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» يتولد‬
‫لديه انطباع قوي بأن المقصود من إثارة مثل هذا الكالم هو اإليحاء للقارئ بأمرين‪ ،‬كل‬
‫واحد منهما ال يقل خطورة وبعد ًا عن الحق والصواب من اآلخر(((‪ ،‬وهذان األمران‬
‫كما أشار لذلك د‪ .‬محمد البهي(((؛ هما‪:‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬سعيد بن ناصر الغامدي‪ :‬االنحراف العقدي في أدب الحداثة ‪ ،1077/2‬ومناهج‬
‫االستدالل على مسائل العقيدة ص ‪.510‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.511 ،510‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد البهي‪ :‬الفكر اإلسالمي الحديث ص‪ ،221-210‬ونحو القرآن ص ‪.126‬‬

‫‪243‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫إلهي ًا‪ ،‬وقد ألفه صاحبه لمخاطبة‬


‫األول‪ :‬أن القرآن كتاب بشري مؤلف‪ ،‬وليس وحي ًا ّ‬
‫قوم معينين وهم العرب‪ ،‬وامتاز تأليفه بكونه يمثل حياة العرب في شبه الجزيرة العربية‬
‫في شتى مناحيها‪ ،‬ويعبر عن أمانيهم وتطلعاتهم‪ ،‬وما يروج بشأنها من قصص وأساطير‪.‬‬

‫عالمي ًا موجه ًا لخطاب الناس‬


‫ّ‬ ‫والثاني‪ :‬أن القرآن كتاب محلي الطابع‪ ،‬وليس‬
‫جميع ًا‪ ،‬وقد قاله صاحبه متأثر ًا بالبيئة التي عاش فيها‪ ،‬ولذا فهو يعبر عنها أصدق تعبير‪،‬‬
‫ولكنه ال يرسم هدف ًا عا ّم ًا لإلنسانية ذاتها‪.‬‬

‫وكما هي عادة العلمانيين‪ ،‬فقد وظفوا أمور ًا عدة في ترويج فكرتهم المنحرفة‬
‫عن بشرية القرآن وأنسنته وتاريخيته‪ ،‬ومن ذلك أسباب النزول‪ ،‬وكون القرآن عربي ًا‬
‫نزل على مقتضى لسان العرب‪ ،‬وال يمكن أن يفهم إال في ضوء قوانين اللسان العربي‬
‫وطريقته في االستعمال‪.‬‬

‫وقد أشار عبد المجيد الشرفي إلى أن أسباب النزول ‪ -‬وكذا النسخ في القرآن ‪ -‬من‬
‫الشواهد التي تضاد ما شاع بين المسلمين من الصبغة اإللهية والمفارقة والالتاريخية‬
‫للقرآن الكريم(((‪ ،‬وينسب الشرفي إلى حسن حنفي أنه حاول في أطروحته للدكتوراه‬
‫«االنطالق من أسباب النزول‪ ،‬ليبين أن القرآن ليس وحي ًا عن الله‪ ،‬ولكنه وحى عن‬
‫اإلنسان‪ ،‬وأنه يعبر عن تجربة محمد البشرية التي يمكن النفاذ منها إلى التجربة البشرية‬
‫عموم ًا في بحثها في حقيقتها اإللهية‪ ،‬وهو ما يخول تأويله حسب حاجات األمة‬
‫اإلسالمية الحاضرة»(((‪.‬‬

‫وممن وظف تلك األمور أيض ًا علي حرب والذي استدل على أنسنة القرآن بأن‬
‫الوحي بما هو كالم الله ال يقرأ إال بلغة مخصوصة‪ ،‬والوحي اإلسالمي إنما نطق به‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم والحداثة ص ‪.89‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.89‬‬

‫‪244‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫رجل عربي على مقتضى لسان العرب‪ ،‬وبحسب طريقتهم في إنتاج المعنى واستعمال‬
‫الداللة «فهو إذن خطاب عربي‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن حيثياته أو باألحرى إحداثياته‪ ،‬أي أسباب‬
‫نزوله تحيل دوم ًا إلى إحداث وممارسات تقع في الهنا واآلن‪ ،‬وإلى ذوات مشدودة إلى‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬من هنا إناسية الوحي وزمنيته»(((‪.‬‬

‫ولست أدري ما الذي كان يريده علي حرب وأمثاله من العلمانيين؟ هل كانوا‬
‫يريدون تنزل القرآن بلغة إلهية‪ ،‬ال قبل للبشر بفهمها وال تدبر ما فيها‪ ،‬وحينئذ كانوا‬
‫سيقولون لوال أنزل علينا هذا القرآن بلغة نفهمها‪ ،‬وهو األمر الذي يذكرنا بطلب‬
‫الجاهليين أن ينزل عليهم ملك ال رسول بشري‪ ،‬مع أنه لو نزل عليهم ملك ما تحملوا‬
‫رؤيته وال مجالسته‪ ،‬وال فهموا عنه‪ ،‬وقد قال الله سبحانه‪َ { :‬و َقا ُلوا َل ْوال ُأ ِنز َل َع َل ْي ِه َم َل ٌك‬
‫َو َل ْو َأ َنز ْل َنا َم َل ًكا َّلق ُِض َي ا َأل ْم ُر ُث َّم ال ُي َ‬
‫نظ ُرونَ ‪َ )#!٨!#‬و َل ْو َج َع ْل َنا ُه َم َل ًكا َّل َج َع ْل َنا ُه َر ُج ًل َو َل َل َب ْس َنا‬
‫َع َل ْي ِهم َّما َي ْلب ُِسونَ } [سورة األنعام‪.]9 - 8 :‬‬

‫كذلك وظف العلمانيون قضية خلق القرآن‪ ،‬التي اشتهر المعتزلة بحمل لوائها‪،‬‬
‫محملين كالم المعتزلة ورأيهم في تلك القضية ‪ -‬رغم خطئه البين‪ -‬ما ال يحتمل‪،‬‬
‫وقاصدين االنطالق من القول بخلق القرآن إلى القول ببشريته وتاريخيته(((‪ ،‬بل إعادة‬
‫تفسير النبوة والوحي بصورة كاملة‪.‬‬

‫وقد ادعى بعض الباحثين أن ما نشب من صراع حول القرآن‪ ،‬قديم ًا وحديث ًا‬
‫«كان في جانبه العقائدي حول ما يمكن تسميته‪ :‬عالقة الوحي بالتاريخ‪ ،‬ففي حين كان‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.77‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر ص ‪ ،194‬ود‪ .‬ناصر‬
‫الحنيني‪ :‬مآالت القول بخلق القرآن ص ‪ ،24‬ود‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر الحداثي‬
‫العربي من أصول االستدالل في اإلسالم‪ ،‬دراسة تحليلية نقدية ص ‪ ،257‬ود‪ .‬محمود بن علي‬
‫البعداني‪ :‬موقف المدرسة العقلية المعاصرة من علوم القرآن وأصول التفسير ‪ ،301/1‬ود‪ .‬علي‬
‫عبد الفتاح‪ :‬الحداثة وأثرها في تأويل النص القرآني في الثقافة العربية ص ‪.187‬‬

‫‪245‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫القائلون بقدم القرآن من أهل الحديث يرون أن ال صلة لكالم الله بالمجال الزمني‪،‬‬
‫كان موقف خصومهم من المعتزلة قائم ًا على أن القرآن مخلوق‪ ،‬وهو قول يفضي إلى‬
‫اعتبار أن الوحي ال يمكن أن يتمثل إال من خالل الواقع والتاريخ»(((‪.‬‬

‫ومن هذا القبيل أيض ًا ما فهمه حسن حنفي من رأي المعتزلة في هذه المسألة‬
‫حيث قال‪« :‬وكان القرآن عند المعتزلة مخلوق ًا‪ ،‬أي إبداع ًا بشري ًا في قراءته وفهمه‬
‫وتحققه»(((‪ .‬كذلك تقدم معنا مقارنة نصر أبو زيد بين القول بحدوث القرآن وقدمه‬
‫وما يترتب على ذلك من نتائج وثيقة الصلة بقضية التاريخية والفهم للنصوص‪ ،‬حيث‬
‫قال‪« :‬وإذا كان معنى قدم القرآن وأزلية الوحي يجمد النصوص الدينية‪ ،‬ويثبت المعنى‬
‫الديني‪ ،‬فإن معنى حدوث القرآن وتاريخية الوحي هو الذي يعيد للنصوص حيويتها‪،‬‬
‫ويطلق المعنى الديني بالفهم والتأويل من سجن للحظة التاريخية إلى آفاق االلتحام‬
‫بهموم الجماعة البشرية في حركتها التاريخية»(((‪.‬‬

‫وأما محمد أركون فقد حرص على التمييز ‪ -‬في النظرة للقرآن ‪ -‬بين ما يسميه‬
‫بالخطاب النبوي‪ ،‬والكالم اإللهي‪ ،‬بناء على أن الكالم اإللهي خطاب أزلي ال يقدر أي‬
‫خطاب بشري على احتوائه‪ ،‬ومن ثم «يترجم النبي المعاني المستقرة في نفسه‪ ،‬بخطاب‬
‫إنساني متلبس بمقتضيات الزمان الذى قيل فيه الخطاب‪ ،‬ومن هنا ال يمكن رفع القرآن‬
‫إلى مستوى الكالم اإللهي‪ ،‬ألنه مجرد خطاب نبوي‪ ،‬تلفظ به النبي محمد‪ ،‬بما يتوافق‬
‫ومستواه اللغوي‪ ،‬ومقدرته البيانية‪ ،‬فالقرآن ليس إلهي المصدر في لغته وأحكامه‪،‬‬
‫والقرآن الحالي نسخة أرثوذكسية فرضتها فئة من الصحابة على المسلمين»(((‪.‬‬
‫((( احميدة النيفر‪ :‬اإلنسان والقرآن ص ‪43‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.400/1‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.202‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪ ،30 ،29‬ود‪ .‬محمد محمود كالو‪:‬‬
‫القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير ص ‪.220 ،219‬‬

‫‪246‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وال يخفى ما تشتمل عليه تلك المحاوالت العلمانية من مغالطات‪ ،‬وتعسف‪،‬‬


‫وتقويل المعتزلة بما لم يخطر لهم ببال‪ ،‬مع الفارق الجوهري والكبير بين المسلك‬
‫ال‪ ،‬وتفريع ًا‪ ،‬ومآ ً‬
‫ال‪.‬‬ ‫االعتزالي‪ ،‬والمسلك العلماني‪ :‬تأصي ً‬

‫فالمعتزلة ‪ -‬وإن أخطأوا خطأ بين ًا في قولهم بخلق القرآن ‪ -‬إال أنهم لم ينفوا أن‬
‫القرآن كالم الله‪ ،‬ووحيه إلى رسوله‪ ،‬وأنه المصدر األساس لهذا الدين‪ ،‬والحجة البينة‬
‫في الداللة على نبوة الرسول ‪ ،#‬وقد نص القاضي عبد الجبار على مذهب المعتزلة‬
‫في هذه المسألة‪ ،‬فقال‪« :‬وأما مذهبنا في ذلك‪ ،‬فهو أن القرآن كالم الله تعالى ووحيه‪،‬‬
‫وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيه‪ ،‬ليكون علم ًا ودا ً‬
‫ال على نبوته‪ ،‬وجعله داللة‬
‫لنا على األحكام لنرجع إليه في الحالل والحرام‪ ،‬واستوجب منا بذلك الحمد والشكر‬
‫والتحميد والتقديس‪ ،‬وإذن هو الذي نسمعه اليوم ونتلوه‪ ،‬وإن لم يكن محدث ًا من جهة‬
‫الله تعالى‪ ،‬فهو مضاف إليه على الحقيقة‪ ،‬كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ‬
‫القيس على الحقيقة‪ ،‬وإن لم يكن محدث ًا لها من جهته اآلن»(((‪.‬‬

‫وهكذا يظهر لنا أن المعتزلة يباينون العلمانيين في هذا الباب مباينة واضحة‪،‬‬
‫فالمعتزلة ‪ -‬مع خطئهم ‪ -‬قصدوا من القول بخلق القرآن‪ :‬تنزيه الله عن مشابهة خلقه‪،‬‬
‫وعدم حلول الحوادث به‪ ،‬أما العلمانيون فأرادوا بذلك أن يكون القرآن صنع ًا بشري ًا‬
‫تنتزع منه القداسة‪ ،‬فشتان بين المرادين‪ ،‬كما أن المعتزلة يقرون بأن القرآن من فعل‬
‫الله‪ ،‬وأن الله أنشأه‪ ،‬وهذا ما يتعارض مع قول العلمانيين‪ ،‬الذى يريدون قطع صلته‬
‫بالله سبحانه وتعالى(((‪.‬‬

‫((( القاضي عبد الجبار‪ :‬شرح األصول الخمسة ص ‪.528‬‬


‫((( انظر‪ :‬ماجد األسمري‪ :‬العلمانيون والنبوة ص ‪ ،126‬ود‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر‬
‫الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم ص ‪.263‬‬

‫‪247‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ولعل الفارق يزداد وضوح ًا إذا ما سقنا هنا نص ًا ‪ -‬غاية في الضالل‪ ،‬وسوء األدب‪،‬‬
‫والمباينة للدين وثوابته ‪ -‬ألحد غالة العلمانيين‪ ،‬يرتب فيه على مقولة المعتزلة نتائج‬
‫وآثار ًا‪ ،‬ال أظن أنها خطرت لهم ببال‪ ،‬بل ال يمكن أن تصدر من مؤمن بأن القرآن كالم‬
‫الله سبحانه‪ ،‬حيث قال‪« :‬بكل تأكيد‪ ،‬القرآن مخلوق كما أكد المعتزلة قديم ًا‪ ،‬ونضيف‬
‫بأن جميع المخلوقات محكوم عليها بالنقص والنسبية والعرضية والزوال‪ ،‬وإذا كان‬
‫هذا شأن كل مخلوق بما في ذلك المخلوق البشري أيض ًا‪ ،‬فما بالك بالقرآن‪...‬األصل‬
‫في الخطاب القرآني باعتباره وحي ًا إلهي ًا‪ ،‬صار كالم ًا مخلوق ًا ومؤلف ًا بلغة بشرية‪ ،‬هو‬
‫نقص التعبير وسوء الفهم»(((‪.‬‬

‫كذلك نجد لدى العلمانيين إطالق أوصاف وأحكام مستنكرة جد ًا بحق القرآن‬
‫‪ -‬ألفاظه ومعانيه ‪ -‬تؤول إلى نفي كونه كالم الله ووحيه إلى رسوله ‪ ،#‬فتارة يطلقون‬
‫على القرآن أنه «شعر ال كالشعر‪ ،‬وتارة هو شبيه بالكهانة‪ ،‬أو هو نتاج اتصال بالجن‪،‬‬
‫وتارة يوصف القرآن بالتناقض‪ ،‬وتارة (يقال إن) الوحي واإللهام وجهان لعملة واحدة‬
‫معرفي ًا‪ ،‬وتارة يتم تفسير النبوة اعتماد ًا على مفهوم الخيال‪ ،‬وتارة يطلق الدعوات إلى‬
‫تأنسن الوحي‪ ،‬أو إناسيته»(((‪.‬‬

‫كذلك نشير هنا إلى وصف محمد أركون للقرآن بأنه «خطاب أسطوري البنية»(((‪،‬‬
‫وهو وصف ‪ -‬مهما حاول أركون االدعاء بأنه يريد به معنى خاص ًا وحداثي ًا ‪ -‬يذكرنا بما‬
‫قاله مشركو قريش قديم ًا عن القرآن‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ { :‬و ِإ َذا ُت ْت َلى َع َل ْي ِه ْم آ َيا ُت َنا َقا ُلوا‬

‫((( سعيد ناشيد‪ :‬الحداثة والقرآن ص ‪.27 ،26‬‬


‫((( د‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪ً ،280‬‬
‫نقال عن كل‬
‫من أدونيس‪ :‬الثابت والمتحول ‪ ،23/3‬وعلي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪ ،206‬ونصر أبو زيد‪ :‬مفهوم‬
‫النص ص ‪ ،40 - 23‬وهشام جعيط‪ :‬الوحي والقرآن والنبوة ص ‪.100 - 85‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.10‬‬

‫‪248‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ِين} [سورة األنفال‪ ،]31 :‬وقوله‬ ‫ير ْ َ‬


‫ال َّول َ‬ ‫َق ْد َسمِ ْع َنا َل ْو َن َشا ُء َل ُق ْل َنا ِمث َْل َه َذا ِإنْ َه َذا ِإ َّل َأ َساطِ ُ‬
‫ِين ْاك َت َت َب َها َف ِه َي ت ُْم َلى َع َل ْي ِه ُب ْك َر ًة َو َأ ِصي ًال} [سورة الفرقان‪.]5 :‬‬ ‫تعالى‪َ { :‬و َقا ُلوا َأ َساطِ ُ‬
‫ير ْ َ‬
‫ال َّول َ‬
‫وقد اعترف أركون بما أحدثه هذا الوصف للقرآن من استنكار شديد‪ ،‬محاو ً‬
‫ال‬
‫التخفيف من شناعته بأنه يريد بهذا المصطلح دالالت أخرى غير الشائعة في التراث‪،‬‬
‫وإن كان تبريره ال يخلو من نزعة إقصائية واستعالئية مستنكرة‪ ،‬حيث يرى أنه ال يحق‬
‫ألحد من علماء الدين أن يتدخل بتعقيب أو مناقشة فض ً‬
‫ال عن تكفير‪ ،‬إذا لم يكن محيط ًا‬
‫ببعض المصطلحات عند علماء األلسنيات المحدثين(((‪.‬‬

‫لكن حتى مع هذا التبرير غير المقنع من أركون‪ ،‬فيبقى أن األسطورة عند هؤالء‬
‫الحداثيين توظف للداللة على كل من‪ :‬المقدس والمتعالي وحتى الميتافيزيقى‪ ،‬وهي‬
‫مفاهيم تقابل الواقعية تقاب ً‬
‫ال ضدي ًا‪ ،‬كما أنها تضاد التاريخية التي تعني الواقعية وتدل‬
‫على المعرفة الوضعية‪ ،‬ويترتب على ذلك كله أن عملية تجلية األسطوري يلزم عنها‬
‫نزع قداسة النص‪ ،‬والتي ال تزال تشكل عقبة متينة في وجه النقد التاريخي(((‪ ،‬كما يرى‬
‫ذلك بعض العلمانيين مثل عزيز العظمة(((‪.‬‬

‫وقد تكرر عند علي حرب وصف القرآن والدين عموم ًا بالخطاب األسطوري‪،‬‬
‫والحكم بتضمنه لألساطير(((‪ ،‬فالنص الديني عنده «نص ذو بنية أسطورية‪ ،‬وهو خطاب‬

‫((( انظر‪ :‬محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.10‬‬


‫((( انظر‪ :‬مرزوق العمري‪ :‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر‬
‫ص ‪.34‬‬
‫((( انظر‪ :‬عزيز العظمة‪ :‬دنيا الدين في حاضر العرب ص ‪ً ،94‬‬
‫نقال عن المصدر السابق ص ‪.34‬‬
‫((( وقد طال الوصف باألسطورة العقائد الدينية عند علمانيين آخرين‪ ،‬انظر‪ :‬شاكير السحمودي‪:‬‬
‫مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث ص ‪ ،55‬ومرزوق العمري‪ :‬إشكالية‬
‫تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر ص ‪ ،33‬ود‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف‬
‫الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪.677‬‬

‫‪249‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫يقدم لنا نفسه بوصفه أنطولوجيا غيبية»(((‪ .‬وال يتصور نفي الجانب الغيبي أو المحتوى‬
‫األسطوري من الدين‪ ،‬مثلما حاول البعض‪ ،‬ألنه حينئذ «ماذا يبقى من الدين‪ ،‬إذا انتفى‬
‫منه جانبه القدسي‪ ،‬وبعده الغيبي‪ ،‬أو محتواه األسطوري؟ ال شيء هام ًا‪ ،‬ألن األسطورة‬
‫هي القوة المحركة للمشروع الديني‪ ،‬وللدعوات التي تتم باسم الدين»(((‪.‬‬

‫ومن األوصاف المنكرة والمستبشعة التي أطلقها كل من أركون وهاشم صالح‬


‫على القرآن وأسلوبه‪ :‬وصف الفوضى‪ ،‬مهما حاولوا التخفيف من شناعة اللفظ‬
‫وضالله‪ ،‬وقد وصف أركون القرآن بأنه «كتاب طالما عاب عليه الباحثون فوضاه‪،‬‬
‫ولكنها الفوضى التي تحبذ الحرية المتشردة من كل االتجاهات»(((‪ .‬وعقب هاشم‬
‫صالح على ذلك بأن وصف القرآن بالفوضى سببه أنه «ينتقل من موضوع إلى آخر‪،‬‬
‫مختلف تمام ًا‪ ،‬دون أي تمهيد أو تسلسل منطقي»(((‪.‬‬

‫وال أظن أننا بحاجة ألن نطيل في الرد على مثل تلك الترهات‪ ،‬فبالغة القرآن‪،‬‬
‫وتناسب آياته وسوره‪ ،‬وارتباط بعضها ببعض من القضايا التي أشبعت بحث ًا من قبل‬
‫المتخصصين في التفسير والبالغة والمصنفين في إعجاز القرآن‪.‬‬

‫وليس أركون أو هاشم صالح أو من سار على منوالهم من العلمانيين بأهل ألن‬
‫يصدروا أحكامهم على أسلوب القرآن وبالغته‪ ،‬وال حتى على أي نص أدبي عربي‬
‫رفيع‪ ،‬ويكفي فقط أن يطالع المنصف كتبهم‪ ،‬وما فيها من عسر وركاكة‪ ،‬وحشو‬
‫وإغراب ومعاظلة‪ ،‬ليعلم فقرهم الشديد في اللغة العربية‪ ،‬وقلة حظهم من الفصاحة‬
‫والبيان‪ ،‬وانعدام أهليتهم بالكلية للتكلم في الحكم على األساليب العربية‪.‬‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.211‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.211‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪.76‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب أركون الفكر األصولي واستحالة التأصيل هامش ص ‪.76‬‬

‫‪250‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وفي تقليد ممجوج آلراء المستشرقين‪ ،‬زعم هشام جعيط وجود تأثيرات مسيحية‬
‫وكتابية على القرآن الكريم‪ ،‬فقال‪« :‬كمؤرخين‪ ،‬يجب أن نقر بتأثير المسيحية السورية‬
‫على إسكاتولوجيا((( القرآن‪ ،‬وعلى قسط وافر من األفكار والتعابير‪ ،‬وأن القرآن كنص‬
‫من القرن السابع الميالدي‪ ،‬ووثيقة من هذه الفترة قد أخذ من موروثها ببراعة فائقة»(((‪.‬‬

‫وال شك أن هناك فارق ًا كبير ًا بين تصديق القرآن لما بين يديه من الكتب‪ ،‬وذكره‬
‫لبعض ما فيها مع تصحيح وهيمنة‪ ،‬وبين أن يكون ناق ً‬
‫ال ومتأثر ًا مثلما يردد المستشرقون‬
‫ومن تبعهم من العلمانيين‪ ،‬ولست أدري كيف يكون القرآن مجرد ناقل‪ ،‬ومردد لما‬
‫في هذه الكتب من قصص وأخبار‪ ،‬بينما هو يصحح الكثير مما ورد فيها‪ ،‬ويذكر ما‬
‫لم تعرض له بحال‪ ،‬ويكفي أن نقارن بين قصص آدم أو يوسف أو موسى أو مريم في‬
‫القرآن‪ ،‬وما ورد بشأنها في العهدين القديم والجديد‪ ،‬لبيان الفارق الجلي بين األمرين‪.‬‬

‫ومن التوظيفات العلمانية الخطيرة والمغرضة للقول بخلق القرآن‪ ،‬أنهم أثاروا‬
‫الخالف حول ألفاظ القرآن ومعانيه‪ ،‬زاعمين أن هناك خالف ًا بين العلماء المتقدمين‬
‫حول هذه المسألة‪ ،‬ومرجحين القول بأن معاني القرآن من عند الله‪ ،‬أما ألفاظه وصياغته‬
‫فهي من عند النبي ‪.(((#‬‬

‫وقد نسب عبد المجيد الشرفي إلى الكاتب الحداثي الباكستاني فضل الرحمن‬
‫القول بأن «القرآن بتمامه كالم الله‪ ،‬وهو بالمعنى الحقيقي بتمامه كذلك كالم محمد»‬
‫(((‬

‫((( والمقصود بها علم األخرويات أو علم آخر الزمان‪ ،‬وهو تعبير مستخدم في الالهوت المسيحي‪،‬‬
‫انظر‪ :‬الموسوعة المسيحية العربية اإللكترونية‪ ،‬مادة «نهاية العالم»‪ ،‬والموسوعة الحرة ويكيبيديا‬
‫مادة «علم األخرويات» ومادة «إسخاتولوجيا مسيحية»‪.‬‬
‫((( هشام جعيط‪ :‬تاريخية الدعوة المحمدية ص ‪.176‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬أحمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن ص ‪.176‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.36‬‬

‫‪251‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أما رأي الشرفي نفسه فهو أن القرآن «كالم الله يؤديه هو ‪ -‬أي الرسول ‪ - #‬في لغة‬
‫بشرية‪ ،‬أو هو كالم الله وكالمه هو في اآلن نفسه‪ ،‬هو كالم الله من حيث مصدره‪،‬‬
‫وكالم البشر من حيث انتماؤه إلى لغة بعينها‪ ،‬وصياغته في ألفاظ وتراكيب يقتضيها‬
‫معجم تلك اللغة ونحوها‪ ،‬وفي أطر فكرية مستمدة من ثقافة المتكلم الشخصية‪ ،‬ومن‬
‫الثقافة المتاحة في الوسط الذي يعيش فيه»(((‪.‬‬

‫وفي تقول واضح على العلماء المتقدمين‪ ،‬وتصيد ألقوال شاذة طواها التاريخ‪،‬‬
‫ولم يقل بها أحد من العلماء المعتبرين‪ ،‬زعم نصر أبو زيد أن العلماء قد اختلفوا على‬
‫قولين في قضية المنزل من القرآن‪ ،‬وهل هو اللفظ والمعنى أم المعنى فقط‪ ،‬القول‬
‫األول يرى أن المنزل كان اللفظ والمعنى مع ًا(((‪ ،‬والقول الثاني «يجعل الصياغة‬
‫اللغوية للوحي مهمة جبريل مرة‪ ،‬ويجعلها مهمة محمد مرة أخرى»(((‪.‬‬

‫وقد اجتر عبد المجيد الشرفي الفكرة نفسها‪ ،‬زاعم ًا أن الرأي القائل بأن جبريل‬
‫نزل على الرسول ‪ #‬بمعاني القرآن‪ ،‬بينما صاغ الرسول األلفاظ من عنده بلغة العرب‬
‫هو «في الحقيقة أقرب المواقف من المعقولية الحديثة‪ ،‬ولعله يصلح منطلق ًا لتفكير‬
‫جديد‪ ،‬منسجم في الوحي‪ ،‬غير مقيد بالنظريات الموروثة بدعوى ما حصل حولها من‬
‫إجماع»(((‪.‬‬

‫وال أظنه يخفى ما في تناول العلمانيين لهذه المسألة من كذب وتلبيس وافتراء‬
‫وتقويل أهل العلم المتقدمين ما لم يقولوه‪ ،‬وال أدري كيف يتصور مسلم أن ألفاظ‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.36‬‬


‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪ ،48‬وانظر‪ :‬د‪ .‬أحمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في‬
‫علوم القرآن ص ‪.176‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.50‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.37‬‬

‫‪252‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫القرآن من إنشاء النبي ‪ ،#‬وهو يسمع آيات الله تترى في وصف القرآن أنه كالم الله‪،‬‬
‫وفي نفي الرسول القاطع أن يبدله من تلقاء نفسه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ { :‬و ِإ َذا ُت ْت َلى َع َل ْي ِه ْم‬
‫ين ال َي ْر ُجونَ ِلقَا َء َنا ائ ِْت ِبق ُْرآنٍ غَ ْي ِر َه َذا َأ ْو َب ِّد ْل ُه ُق ْل َما َي ُكونُ لِي َأنْ ُأ َب ِّد َل ُه‬ ‫ات َق َ‬
‫ال ا َّلذِ َ‬ ‫آ َيا ُت َنا َب ِّي َن ٍ‬
‫يم}‬ ‫اب َي ْو ٍم َعظِ ٍ‬ ‫اف ِإنْ َع َص ْي ُت َر ِّبي َع َذ َ‬ ‫وحى ِإ َل َّي ِإنِّي َأخَ ُ‬ ‫م ِْن ِت ْلقَا ِء َنفْ ِسي ِإنْ َأ َّتب ُِع ِإ َّل َما ُي َ‬
‫ِيم} [النمل‪،]6 :‬‬ ‫يم َعل ٍ‬ ‫[يونس‪ ،]15 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و ِإن ََّك َل ُت َلقَّى ا ْلق ُْرآنَ م ِْن َل ُدنْ َحكِ ٍ‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬و ِإ َذا َل ْم ت َْأت ِِه ْم بِآ َي ٍة َقا ُلوا َل ْوال ْاج َت َب ْي َت َها ُق ْل ِإن ََّما َأ َّتب ُِع َما ُي َ‬
‫وحى ِإ َل َّي م ِْن َر ِّبي}‬
‫[األعراف‪.]203 :‬‬

‫وللشيخ الزرقاني رد جيد على هذه الفرية الباطلة‪ ،‬يجدر بنا أن نسوقه هنا‪ ،‬حيث‬
‫قال‪« :‬وقد أسف بعض الناس‪ ،‬فزعم أن جبريل كان ينزل على النبي ‪ #‬بمعاني‬
‫القرآن‪ ،‬والرسول يعبر عنها بلغة العرب‪ .‬وزعم آخرون أن اللفظ لجبريل وأن‬
‫الله كان يوحي إليه المعنى فقط‪ ،‬وكالهما قول باطل أثيم مصادم لصريح الكتاب‬
‫والسنة واإلجماع‪ ،‬وال يساوي قيمة المداد الذي يكتب به‪ ،‬وعقيدتي أنه مدسوس‬
‫على المسلمين في كتبهم‪ ،‬وإال فكيف يكون القرآن حينئذ معجز ًا واللفظ لمحمد‬
‫أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول‪َ :‬‬
‫{ح َّتى‬
‫َي ْس َم َع َكال َم ال َّلهِ} [التوبة‪ ]6 :‬إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله»(((‪ .‬والقول الحق‬
‫في هذه المسألة هو أن القرآن كالم الله سبحانه ألفاظه ومعانيه‪ ،‬وليس لجبريل سوى‬
‫إيحائه للنبي ‪ ،#‬وليس للنبي ‪« #‬في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه‪ ،‬ثم حكايته‬
‫وتبليغه‪ ،‬ثم بيانه وتفسيره ثم تطبيقه وتنفيذه‪ ،‬نقرأ في القرآن نفسه أنه ليس من إنشاء‬
‫جبريل وال محمد ‪.(((»#‬‬

‫((( الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪.49/1‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.49/1‬‬

‫‪253‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن نماذج العبث العلماني أيض ًا ما ذكره محمد سعيد العشماوي في تناوله‬
‫لقضية األحرف السبعة والمراد بها‪ ،‬حيث ذهب إلى رأي في غاية الخطورة‪ ،‬وخالصته‬
‫أن «القرآن نزل على المعاني وقصد إليها‪ ،‬وإذا كانت المعاني تقبل التعبير عنها بأكثر‬
‫من لفظ‪ ،‬فقد تضمن التنزيل صياغتها في لفظ‪ ،‬وأجاز للنبي أن يعبر عنها بلفظ آخر يفيد‬
‫معناه»(((‪.‬‬

‫وال شك في بطالن هذا القول‪ ،‬وفتحه الباب للطعن في أن القرآن كالم الله لفظ ًا‬
‫ومعنى‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن األحرف السبعة أي ًا كان المقصود بها موقوفة على النقل عن‬
‫الرسول ‪ ،#‬والذي تلقاها عن أمين الوحي جبريل عليه السالم‪ ،‬وليست كأل مباح ًا‪،‬‬
‫وباب ًا مفتوح ًا على مصراعيه لكل أحد أن يحدث من األلفاظ ما أراد‪.‬‬

‫كذلك ربط نفر من العلمانيين ربط ًا متعسف ًا بين مسألة خلق القرآن وفشل المدرسة‬
‫االعتزالية؛ وما يعتبرونه ضياع ًا لفرصة التفرقة بين القرآن المتلو والقرآن المدون‪ ،‬وهي‬
‫تفرقة حاولوا النفاذ من خاللها لتمييع معاني القرآن‪ ،‬والزعم أن القرآن الحقيقي هو‬
‫المتلو‪ ،‬وليس المدون الذي أدى لتكبيل وجمود الفكر اإلسالمي‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن هذا‬
‫المكتوب ليس آمن ًا تمام ًا من شوائب التحريف والتغيير‪.‬‬

‫وقد أشار هاشم صالح إلى أن أركون يفرق بين حالتين فيما يخص القرآن الكريم‪،‬‬
‫األولى حالة القرآن في زمن النبي‪ ،‬عندما كان ال يزال نص ًا شفهي ًا‪ ،‬والثانية حالته فيما‬
‫بعد‪ ،‬عندما تحول إلى نص مكتوب‪ ،‬ثم يضيف بأن «عملية االنتقال من النص الشفهي‬
‫إلى النص المكتوب ليست مضمونة دائم ًا بحذافيرها»(((‪.‬‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬حصاد العقل في اتجاهات المصير اإلنساني ص ‪.90‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪.29‬‬

‫‪254‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وإذا ما تتبعنا آراء أركون نفسه‪ ،‬فسوف نجده يتحسر على ما آلت إليه األمور‬
‫داخل الوعي اإلسالمي‪ ،‬فيقول‪« :‬وأما من الناحية النفسية‪ ،‬فنجد أن الوعى اإلسالمي‬
‫كان قد تمثل وهضم منذ فشل المدرسة المعتزلية بخصوص القرآن المخلوق‪ ،‬ذلك‬
‫االعتقاد اليقيني الذى يقول بأن كل الصفحات الموجودة بين دفتي المصحف تحتوي‬
‫على كالم الله بالذات‪ ،‬وهم بذلك يطابقون بين القرآن المكتوب‪ ،‬والخطاب القرآني‬
‫الشفهي أو القرآن المقروء‪ ،‬وهذا األخير هو وحده الذي يشكل بالفعل انبثاق ًا مباشر ًا‬
‫عن أم الكتاب»(((‪.‬‬

‫كذلك انطلق أركون من تلك التفرقة المزعومة والباطلة‪ ،‬بين القرآن الشفاهي‬
‫والمكتوب‪ ،‬إلثبات وقوع ما يصفه بعمليات حذف وانتخاب‪ ،‬وتالعبات لغوية في‬
‫النص القرآني المكتوب‪ ،‬ومن ثم نجده يقول بكل تهور‪ ،‬ومصادمة للثوابت وقطعيات‬
‫الدين «إن االنتقال من مرحلة الخطاب الشفهي إلى المرحلة المدونة النصية الرسمية‬
‫المغلقة‪ ،‬أي إلى مرحلة الصحف؛ لم يتم إال بعد حصول الكثير من عمليات الحذف‬
‫واالنتخابات والتالعبات اللغوية‪ ،‬التي تحصل دائم ًا في مثل هذه الحاالت‪ ،‬فليس كل‬
‫الخطاب الشفهي يدون‪ ،‬وإنما هناك أشياء تفقد أثناء الطريق»(((‪.‬‬

‫ويدل كالم أركون هذا على أن األمر لم يقتصر عند العلمانيين على تبني القول‬
‫ببشرية النصوص ونزع القداسة عنها‪ ،‬بل سار الشوط إلى منتهاه كما هو متوقع‪ ،‬وبدأت‬
‫فكرة إمكانية التحريف‪ ،‬وحصول نقص أو زيادة في القرآن الكريم في الظهور‪ ،‬إذ طالما‬
‫أنه نص بشري غير مقدس‪ ،‬فما المانع أن يكون قد أصابه ما أصاب سائر النصوص‬
‫البشرية األخرى‪ ،‬وما أصاب كتب األديان األخرى كالتوراة واإلنجيل‪.‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد ص ‪.82‬‬


‫((( محمد أركون‪ :‬قضايا في نقد العقل الديني ص ‪.188‬‬

‫‪255‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وقد تكررت فكرة التفرقة بين القرآن المتلو الشفهي‪ ،‬والقرآن المكتوب عند‬
‫عبد المجيد الشرفي‪ ،‬والذي جزم بأن «لفظ القرآن ال يصح أن يطلق إال على الرسالة‬
‫الشفوية‪ ،‬التي بلغها الرسول إلى الجماعة التي عاصرته»(((‪.‬‬

‫وال شك أن مقتضى هذا الرأي المنحرف أن ما بين الدفتين‪ ،‬والذي بين أيدينا‬
‫اآلن من المصحف الشريف المكتوب‪ ،‬ال يصدق عليه اسم القرآن‪ ،‬بكل ما يترتب على‬
‫سلب تلك التسمية من نتائج في غاية الخطورة‪ ،‬يريد هؤالء العلمانيون الترويج لها‪،‬‬
‫كادعاء بشرية القرآن‪ ،‬ونزع القداسة عنه‪ ،‬والتشكيك في حفظه‪ ،‬وعدم لزوم تشريعاته‪،‬‬
‫أو عمومها لسائر المكلفين‪.‬‬

‫ويبدو أن بعض العلمانيين كان يشعر بحساسية الخوض في هذه القضايا المتعلقة‬
‫بقطعية ثبوت النص القرآني‪ ،‬ويراها خطوط ًا حمراء ينبغي البعد عنها في المرحلة‬
‫الحاضرة (((‪ ،‬والتي يتم فيها دائم ًا الضغط بالمحرمات على الدراسات القرآنية‪،‬‬
‫وتمنع االقتراب منها أكثر مما يجب(((‪ ،‬وقد أدى ذلك كله إلى أن المعركة التي حاول‬
‫العلمانيون خوضها من أجل تقديم طبعة نقدية محققة عن النص القرآني‪ ،‬لم يعد‬
‫الباحثون يواصلونها‪ ،‬أو «يتجرأون عليها أو على أمثالها‪ ،‬خوف ًا من رد فعل األصولية‬
‫اإلسالمية المتشددة»(((‪.‬‬

‫ويعترف أركون بأن القول بحفظ القرآن حفظ ًا تام ًا من كل تحريف أو نقص‬
‫أثناء جمعه في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما يمثل الموقف اإلسالمي العام‪،‬‬
‫ويعد من قبيل المسلمات التي ال تناقش وال تمس‪ ،‬وقد صارت «هذه هي المقولة‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.49‬‬


‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.51‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪.44‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.44‬‬

‫‪256‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫الرسمية التي ال يسمح ألحد من البشر أن يوجه إليها أدنى ذرة من الشك‪ ،‬وليس‬
‫المسلمون بحاجة إلى جهاز ديني أعلى للحفاظ على هذه المقولة‪ ،‬وإنما يكفي أن‬
‫يتمثلها الوعي الجماعي الجبار‪ ،‬ويكفيها هذا اإلجماع (إجماع األمة) المتشكل خالل‬
‫القرون األربعة األولى لإلسالم‪ ،‬لكي تصبح حقيقة مطلقة‪ .‬فهذا اإلجماع ‪ -‬إجماع‬
‫األمة سنة وشيعة ‪ -‬قوي لدرجة أن من يتصدى له‪ ،‬فسوف يعرض نفسه لعقاب الجسد‬
‫االجتماعي بأسره»(((‪.‬‬

‫لكن من الواضح أن تلك الحساسية والشعور بالحرج ‪ -‬التي أومأ إليها أركون‬
‫آنف ًا ‪ -‬قد تالشت مع مرور الوقت‪ ،‬وصرنا نرى تشكيك ًا صريح ًا أو ضمني ًا بطريقة‬
‫ملتوية في قطعية ثبوت النص القرآني‪ ،‬وتبني ًا للقول بالتحريف زيادة أو نقص ًا(((‪ ،‬على‬
‫نحو ال يبتعد كثير ًا عما تبناه نفر من المستشرقين(((‪ ،‬وال سيما أن هؤالء النفر من‬
‫العلمانيين يعترفون بأن المستشرقين هم من تجرأوا على طرق هذا الباب قبل غيرهم‪،‬‬
‫ويعتبرون ذلك ميزة كبرى لهم‪ ،‬وكما يقول أركون فقد «كانت لنولدكه الميزة الكبرى‬
‫في أنه أدخل للمرة األولى منذ القرن الرابع الهجري ‪ -‬العاشر الميالدي السؤال الذي‬
‫ال مفر منه‪ ،‬والخاص بالتاريخ النقدي للنص القرآني»(((‪.‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.289‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمود بن علي البعداني‪ :‬موقف المدرسة العقلية المعاصرة من علوم القرآن وأصول‬
‫التفسير ‪ ،284/1‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪ ،787‬ود‪ .‬سليمان الغصن‪:‬‬
‫إعادة قراءة النص الشرعي واستهدافه في الفكر العربي المعاصر ص ‪ ،289‬وأحمد قوشتي‪ :‬موقف‬
‫االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.83‬‬
‫((( انظر‪ :‬في موقف المستشرقين من جمع القرآن‪ :‬د‪ .‬محمد بهاء الدين حسين‪ :‬المستشرقون والقرآن‬
‫الكريم ص‪.71‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي رؤية علمية ص ‪.264‬‬

‫‪257‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أما طيب تيزيني‪ ،‬فهو يزايد على المستشرقين‪ ،‬ويفوقهم في الضاللة واالنحراف‬
‫الفج‪ ،‬فيقول‪« :‬وسوف نتبين ‪ -‬في ضوء عودة مد ّققة لنصوص إسالمية مبكرة ‪ -‬أنه‬
‫يبدو أن للمسألة وجه ًا آخر أكثر داللة وحساسية‪ ،‬ولم ينتبه إليه ماسيه والبيرك‪،‬‬
‫وباحثون آخرون كثيرون‪ ،‬ويقوم على أن القرآن‪ ،‬وفق آراء جمع من الكتاب‬
‫اإلسالميين‪ ،‬خضع أثناء جمعه ‪ -‬وبتأثير من المصالح السياسية المتصارعة‪ ،‬خصوص ًا‬
‫للتكونات السياسية واإليديولوجية اإلسالمية الناهضة ‪ -‬لعمليات أدت إلى اختراق‬
‫متنه‪ ،‬زيادة ونقصان ًا»(((‪.‬‬
‫ويستخدم تيزيني باب النسخ مدخ ً‬
‫ال للتشكيك في ثبوت النص القرآني‪ ،‬ووجوده‬
‫السابق في اللوح المحفوظ‪ ،‬زاعم ًا أن صيغ النسخ تالوة وحكم ًا تشكك في أزلية‬
‫النص القرآني وترفضها‪ ،‬كما أن ما نسخ تالوة وحكم ًا على وجه الخصوص يفضي‬
‫«إلى وضع مصداقية القول بأن المصحف العثماني يشتمل على كل ما أماله النبي على‬
‫كتابه قرآن ًا موضع الشك واالرتياب»(((‪.‬‬

‫وثمة شخصيات عديدة من العلمانيين الذين قالوا بتحريف القرآن ‪ -‬صراحة‬


‫أو ضمن ًا ‪ -‬ومنهم محمد أركون الذي تناول هذا األمر في العديد من كتبه(((‪ ،‬حيث‬
‫أشار لما سماه بالتالعبات التي لحقت بالنص القرآني(((‪ ،‬كما ادعى أن النص النهائي‬
‫المعروف للقرآن «لم يتم التوصل إليه دفعة واحدة كما تتصور جماهير المسلمين‪،‬‬

‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪ ،65‬وانظر‪ :‬سامر إسالمبولي‪ :‬ظاهرة النص القرآني تاريخ‬
‫ومعاصرة ص ‪.10‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.254‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد بن سعيد السرحاني‪ :‬األثر االستشراقي في موقف أركون من القرآن الكريم ص ‪.29‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد أركون‪ :‬الفكر العربي ص ‪ ،31 ،30‬وتاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.85‬‬

‫‪258‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وإنما حصل اإلجماع حوله من قبل الفرق اإلسالمية األساسية (من شيعة وسنة) بعد‬
‫صراع طويل لم ينته نهائي ًا إال في القرن الرابع الهجري»(((‪.‬‬

‫وحتى هذا اإلجماع الذي حصل في القرن الرابع ‪ -‬وفق ًا لهذه الفرية األركونية‪،‬‬
‫وكأن األمة قبل هذا القرن لم تكن متفقة على نص قرآني واحد ‪ -‬لم يتم التوصل إليه‬
‫إال بعد العديد مما يصفه «بالمالبسات السياسية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬التي واكبت‬
‫فرض اإلرادة الرسمية (الخلفاء األمويون ثم العباسيون بإزاء معارضة الدعوة الشيعية‬
‫ثم التشيع) الصيغة المعتمدة للوحي‪ ،‬وإن تحديد هذه الصيغة وانتصارها ال ينفصالن‬
‫عن مأساة الفتنة الكبرى وعقابيلها»(((‪.‬‬

‫وال يرى أركون أي حرج في أن يطبق على القرآن نفس قواعد النقد الفللوجي‬
‫التاريخي للنصوص المقدسة‪ ،‬الذي تم تطبيقه من قبل على التوراة واإلنجيل ومن ثم‬
‫يقول‪« :‬من المعلوم أن النقد الفللوجي التاريخي للنصوص المقدسة كان قد طبق سابق ًا‬
‫على التوراة واألناجيل‪ ،‬دون أن يولد انعكاسات سلبية بالنسبة لمفهوم الوحي‪ .‬ومن‬
‫المؤسف له أن هذا النقد ال يزال مرفوض ًا من قبل الرأي العام اإلسالمي‪ ،‬فال تزال‬

‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي رؤية علمية ص ‪ ،265‬وكالم أركون هذا ينم عن جهل فاضح‪،‬‬
‫وإلقاء للكالم على عواهنه دون أدنى تثبت أو احترام لقواعد المنهج العلمي‪ ،‬فاألمة بكل فرقها ‪ -‬ما‬
‫عدا الشيعة ‪ -‬تسلم بقطعية نقل النص القرآني وحفظه حفظ ًا تام ًا من أي تحريف أو تغيير أو تبديل‪،‬‬
‫ويعد هذا األمر من قطعيات الدين ومحكمات الشريعة وموضع اإلجماع‪ ،‬وأما الشيعة فالخالف‬
‫داخل مذهبهم معروف حول هذه المسألة ما بين القائلين بالتحريف والنافين له‪ ،‬وهذا الخالف‬
‫داخل المذهب الشيعي لم يتوقف في القرن الرابع الهجري كما زعم أركون‪ ،‬بل استمر عبر القرون‬
‫ويكفي أن أشهر كتاب لهم حول هذه المسألة وهو كتاب «فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب‬
‫رب األرباب» ألفه الطبرسي المتوفى ‪1320‬هـ‪ ،‬أي في أوائل القرن الرابع عشر الهجري والعشرين‬
‫الميالدي‪.‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر العربي ص ‪.30‬‬

‫‪259‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أعمال المدرسة الفللوجية األلمانية متجاهلة ومهملة‪ ،‬وال يجرؤ البحاثة المسلمون‬
‫حتى اآلن على استعادة هذه األبحاث»(((‪ ،‬وفي مقابل ذلك يدعو أركون للقيام بما‬
‫يسميه بالتاريخ االنتقادي للنص القرآني‪ ،‬والذي ال يقصد به البحوث الرامية إلقامة‬
‫طبعة انتقادية للنص القرآني فحسب‪ ،‬بل يشمل أيض ًا مراجعات إجمالية للقراءات‬
‫المختلفة المتصلة بالنص القرآني منذ ظهوره(((‪.‬‬

‫ومن افتراءات أركون األخرى على القرآن الكريم‪ ،‬زعمه المتهافت بعدم وجود‬
‫معيار لقضية ترتيب السور واآليات‪ ،‬وتحقق المناسبة بينها‪ ،‬وووصفه نظام ترتيب‬
‫السور واآليات بأوصاف منكرة جد ًا‪ ،‬حيث قال‪« :‬نحن نعلم أن نظام ترتيب السور‬
‫واآليات في المصحف ال يخضع ألي ترتيب زمني حقيقي‪ ،‬وال ألي معيار عقالني‬
‫أو منطقي‪ ،‬وبالنسبة لعقولنا الحديثة المعتادة على منهجية معينة في التأليف واإلنشاء‬
‫والعرض القائم على المحاجة المنطقية‪ ،‬فإن نص المصحف وطريقة ترتيبه تدهشنا‬
‫بفوضاها‪ ،‬ولكني كنت قد بينت في دراسات سابقة أن هذه الفوضى تخبئ وراءها نظام ًا‬
‫داللي ًا وسيميائي ًا عميق ًا»(((‪.‬‬

‫وألركون نص مستفز يعترف فيه صراحة بوقع التحريف‪ ،‬حيث قال في سياق‬
‫كالمه عن حكاية أصحاب الكهف المذكورة في سورة الكهف (يبدو أن نص الحكاية‬
‫هذه قد تعرض لتحويرات أو لتغييرات‪ ،‬كان ريجيس بالشير قد كشف بوضوح بواسطة‬
‫التنضيد الطباعي عن نسختين متوازيتين لآليات من ‪ 9‬إلى ‪ ،16‬يضاف إلى ذلك أن‬
‫اآلية ‪ 25‬تجد مكانتها باألحرى بعد اآلية ‪ ،11‬لوال أنها تنتهي بالقافية «عا» هذا في حين‬
‫أن مجمل الحكاية تشتمل على آيات مقفاة بـ «دا» وقد كشفوا في هذه اآلية ذاتها عن‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد ص ‪.82‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد أركون‪ :‬الفكر العربي ص ‪.29‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد ص ‪.87 ،86‬‬

‫‪260‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫شذوذ لغوي(((‪ ،‬هو كلمة سنين الواردة بعد عبارة ثالث مائة بد ً‬
‫ال من سنة‪ ،‬ولبثوا في‬
‫الكهف ثالث مائة سنين وازدادوا تسع ًا‪ ،‬وهذا ما يجعلنا نفترض العديد من الفرضيات‬
‫حول شروط أو ظروف تثبيت النص‪ ،‬كما يقول بالشير)(((‪.‬‬

‫وهكذا بكل استخفاف وصفاقة‪ ،‬يكون كالم بالشير ‪ -‬الذي يدعي اطالعه على‬
‫نسختين مطبوعتين للقرآن فيهما اختالف ‪ -‬حجة في إثبات وقوع التحريف‪ ،‬وال‬
‫يدري هذا المتعالم الجاهل بعلوم اإلسالم أن المعول عليه في وثاقة النص القرآن‬
‫هو النقل الشفوي المتواتر جي ً‬
‫ال بعد جيل‪ ،‬وليست النسخ المكتوبة إال مجرد تابع‬
‫لحفظ الصدور‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬وقد أشار ابن تيمية رحمه الله إلى أن «االعتماد في‬
‫نقل القرآن على حفظ القلوب‪ ،‬ال على المصاحف» وهذا مما يختص به المسلمون‬
‫ويباينون به أهل الكتاب «الذين ال يحفظونه إال في الكتب وال يقرؤونه كله إال نظر ًا ال‬
‫عن ظهر قلب»(((‪.‬‬

‫وال أظن أن وصف ًا غير وصف «الفضيحة العلمية» يتناسب مع صنيع أركون هذا‪،‬‬
‫الذي طالما صدع أدمغة قارئي كتبه بالكالم عن المنهج والمنهجية‪ ،‬حينما يثبت وقوع‬
‫التحريف بالخالف بين نسختين مطبوعتين رآهما مستشرق أعجمي‪ ،‬دون إشارة لتلك‬
‫النسخ وال أين ومتى طبعت‪ ،‬ومدى الثقة به‪.‬‬

‫ويضاف لذلك أيض ًا أن طباعة المصحف مسألة حديثة جد ًا وال تتجاوز أربعة‬
‫قرون‪ ،‬فما بالنا بما سبق ذلك من أحد عشر قرن ًا كاملة‪ ،‬وقد ذكر د‪ .‬عبدالرحمن بدوي‬

‫((( وليت شعري كيف استطاع بالشير المستشرق األعجمي‪ ،‬وأركون الذي ألف سائر كتبه بالفرنسية‪،‬‬
‫أن يكتشفوا شذوذ ًا لغوي ًا في القرآن‪ ،‬غاب عن أنظار العرب األقحاح‪ ،‬فرسان البالغة‪ ،‬وأساطين‬
‫الفصاحة والبيان‪ ،‬طوال قرون عديدة؟!‬
‫((( محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.148‬‬
‫((( ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪.400/13‬‬

‫‪261‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫عند حديثه عن طبعات القرآن الكريم في أوروبا أن «أول طبعة للقرآن في نصه العربي‬
‫هي تلك التي تمت في البندقية في وقت غير محدد بالدقة‪ ،‬ولكن المرجح هو أن‬
‫تاريخها هو سنة ‪ 1530‬م تقريب ًا‪ .‬لكن جميع النسخ التي طبعت أحرقت‪ ،‬وكانت طبعة‬
‫كاملة لكل القرآن‪ ،‬ولم يعثر لها على أثر حتى اآلن»(((‪.‬‬

‫لكن أحد الباحثين((( ذكر أن أول نسخة مطبوعة من القرآن الكريم‪ ،‬صدرت في‬
‫القرن السادس عشر ميالدي‪ ،‬ال تزال موجودة في إيطاليا‪ ،‬وهذه النسخة التي كان يعتقد‬
‫أنها فقدت تبين أنها موجودة في مكتبة الدير الفرنسيسكاني بالبندقية‪ ،‬حيث نشرت‬
‫الباحثة اإليطالية أنجيال نيوفر بحث ًا عنها أرفقته بنماذج مصورة من تلك الطبعة التي‬
‫صدرت مطبوعة بالحجم الكبير في ‪ 232‬ورقة وبأحرف عربية مائلة مطبوعة‪ ،‬وتشتمل‬
‫ٍ‬
‫حواش كبيرة‪ ،‬وقد تضمنت ترجمة التينية بين بعض السطور‪.‬‬ ‫على‬

‫أما أول طبعة كاملة للقرآن الكريم وبحروف عربية كتب لها االنتشار وال يزال نسخ‬
‫منها موجودة في بعض مكتبات أوروبا «فهي التي قام بها أبراهام هنكلمان (‪-1652‬‬
‫‪ 1695‬م) في مدينة هامبورج بألمانيا‪ ...‬وفي سنة ‪ 1694‬وتقع في ‪ 560‬صفحة»(((‪.‬‬

‫وال يخفى أن تلك الطبعات األولى قام بها أناس غير مسلمين‪ ،‬سواء أكانوا من‬
‫الرهبان أو المستشرقين‪ ،‬وليسوا أه ً‬
‫ال لالحتجاج في هذا الباب‪ ،‬ال من حيث العدالة وال‬
‫من حيث الضبط‪ ،‬ومن ثم فال حجة في عملهم هذا أص ً‬
‫ال‪ ،‬بل إن الطبعات التي طبعت‬
‫في بالد إسالمية لم تكن أول األمر تلتزم بقواعد الرسم العثماني فال يعول عليها‪ ،‬وقد‬
‫بدأ التقيد التام بطباعة المصحف بالرسم العثماني في عام ‪1917‬م‪ ،‬وتم مصادرة كل ما‬

‫((( ‪ -‬د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪ :‬موسوعة المستشرقين ‪.302/1‬‬


‫((( وهو الدكتور يحيى محمود جنيد‪ ،‬انظر تفاصيل ذلك على مشاركة بموقع ‪ttp://vb.tafsir.net‬‬
‫((( د‪ .‬عبد الرحمن بدوي‪ :‬موسوعة المستشرقين ‪.303/1‬‬

‫‪262‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫كتب بخالف الرسم العثماني على إثر فتوى األزهر الشريف‪ ،‬فطبع بإشراف نخبة على‬
‫رأسهم شيخ المقارئ محمد علي خلف الحسيني(((‪ .‬‬

‫ثم إنه لم يقل أحد قط إن نسخ المصحف المطبوعة ال يمكن أن يلحقها شيء من‬
‫األخطاء الطباعية‪ ،‬التي ترجع لسهو أو نسيان أو خطأ من قبل طابعيها وهم بشر عاديون‪،‬‬
‫وإنما الحفظ اإللهي لكتابه المحفوظ في صدور المؤمنين‪ ،‬والمنقول بالتواتر‪ ،‬والمؤيد‬
‫بالكتابة في المصاحف‪.‬‬

‫وآخر ما نشير إليه هنا‪ ،‬ولعله يكشف طرف ًا من حقيقة هؤالء المستغربين أمثال‬
‫أركون‪ ،‬وتناقضاتهم المخزية في التعامل مع القرآن من جهة‪ ،‬ومع الكتب السماوية‬
‫السابقة مثل التوراة من جهة أخرى‪ ،‬أن تحريف التوراة قضية دلت عليها نصوص‬
‫القرآن(((‪ ،‬وأيدتها دراسات ال تكاد تحصر لكثرتها‪ ،‬ومع ذلك فإننا نجد أركون في‬
‫سياق كالمه عن قصص األنبياء‪ ،‬يصف التوراة بالمصدر الموثوق والصحيح‪ ،‬بينما‬
‫يتكلم عن األخطاء والتشويهات واإللغاءات واإلضافات التي يمكن أن توجد في‬
‫النسخة القرآنية‪ ،‬ولعل من المهم أن نسوق نص كالمه بحذافيره‪ ،‬حيث قال‪« :‬إن مهمة‬
‫التحليل التاريخي ال تتركز في الكشف عن المؤثرات التي أتت من مصدر موثوق‬
‫وصحيح هو التوراة‪ ،‬وبالتالي إدانة األخطاء والتشويهات واإللغاءات واإلضافات التي‬
‫يمكن أن توجد في النسخة القرآنية بالقياس إلى النسخة التوراتية‪ ،‬هنا يكمن كما هو‬
‫معروف الهم األساسي للنقد الفيلولوجي»(((‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬موقع ‪http://vb.tafsir.net‬‬
‫ين َها ُدوا يُ َح ِّرفُو َن ا ْل َكل َم َع ْن َم َواضعه} [النساء‪ ،]46 :‬وقوله تعالى‪َ { :‬ف ِب َما‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫((( مثل قوله تعالى‪ِ { :‬م َن ال َِّذ َ‬
‫اض ِع ِه َو َن ُسوا َح ّظاً ِم َّما ُذ ِّك ُروا ِب ِه}‬
‫َاسي ًة يُ َحرفُو َن ا ْل َك ِلم َع ْن َم َو ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬ ‫َن ْق ِضهِ ْم ِمي َثاق َُه ْم لَ َع َّن ُ‬
‫اه ْم َو َج َع ْل َنا ُقلُوبَ ُه ْم ق َ‬
‫[المائدة‪.]13 :‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي رؤية علمية ص ‪ ،130‬وانظر في الرد عليه‪ :‬د‪ .‬محمود بن علي‬
‫البعداني‪ :‬موقف المدرسة العقلية المعاصرة من علوم القرآن وأصول التفسير ‪.721/2‬‬

‫‪263‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وباإلضافة إلى موقف محمد أركون السابق والذي ذكرنا بشيء من التفصيل‬
‫لخطورته‪ ،‬فقد تكرر القول بتحريف القرآن صراحة أو ضمن ًا عند علمانيين آخرين‬
‫(((‬

‫من أمثال‪ :‬هاشم صالح(((‪ ،‬وعبد المجيد الشرفي(((‪ ،‬ومحمد عابد الجابري(((‪ ،‬ولعل‬
‫من أصرحهم في التعبير عن رأيه طيب تيزيني الذي نص على أن القرآن «خضع أثناء‬
‫جمعه‪ ،‬وبتأثير من المصالح السياسية المتصارعة‪ ،‬خصوص ًا للتكونات السياسية‬
‫واإليديولوجية اإلسالمية الناهضة ‪ -‬لعمليات أدت إلى اختراق متنه زيادة ونقصان ًا»(((‪.‬‬

‫ومن أقوال تيزيني األخرى‪ ،‬واألصرح في الضالل واالنحراف‪ ،‬والمصادمة‬


‫لقطعيات الدين وثوابت الملة‪ ،‬ما زعمه من أن «الكثير من السور واآليات زيدت‪ ،‬أو‬
‫نقصت‪ ،‬أو أبعدت‪ ،‬بحيث لم يعد صحيح ًا‪ -‬باالعتبار الوثيقي التاريخي ‪ -‬أن يقال‬
‫بأنه لم يطرأ على النص المعني أي تغيير‪ ،‬وبأننا نملك اآلن هذا النص في حجمه‬
‫األساسي تمام ًا»(((‪.‬‬
‫وال يقل عن هذا الكالم سوء ًا وجه ً‬
‫ال‪ ،‬وال يتصور قط صدوره من مؤمن بالله‬
‫ورسوله وكتابه ومعظم له‪ ،‬ما ذكره هاشم صالح من عدم وجود ما يصفه بنسخة محققة‬
‫تمام ًا من القرآن الكريم‪ ،‬مما يجعل دراستنا له ناقصة‪ ،‬وفي ذلك يقول‪« :‬ما دمنا لم‬

‫((( انظر‪ :‬شاكير السحمودي‪ :‬مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث ص ‪،57‬‬
‫ومصطفى باحو‪ :‬العلمانيون العرب ص ‪ ،163‬ود‪ .‬هزاع بن عبد الله‪ :‬محاوالت التجديد في أصول‬
‫الفقه ‪ ،909/2‬وأحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.83‬‬
‫((( انظر‪ :‬تعليقه على كتاب أركون الفكر األصولي واستحالة التأصيل هامش ص ‪ ،44 ،29‬وكتاب‬
‫محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.148‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي وآخرون‪ :‬في قراءة النص الديني ص ‪.23‬‬
‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬مدخل إلى القرآن الكريم‪ ،‬الجزء األول ص ‪.232‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪ ،65‬وانظر أيض ًا‪ :‬ص ‪.396 ،392‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.253‬‬

‫‪264‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫نتوصل بعد إلى نسخة محققة تمام ًا عن القرآن‪ ،‬فإن قراءتنا التاريخية له سوف تظل‬
‫ناقصة‪ ،‬وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلها االستشراق‪ ،‬منذ نولدكه وحتى اليوم‪،‬‬
‫إال أن تحقيق القرآن ال يزال يعاني من ثغرات مهمة»(((‪.‬‬

‫وال أظننا بحاجة ألن نطيل في بيان تهافت كالم مثل هذا ينتظر صاحبه نسخة‬
‫محققة من القرآن‪ ،‬وكأنه مخطوطة تراثية ذات نسخ عدة‪ ،‬تحتاج لمن يراجع نسخها‪،‬‬
‫ويثبت فروقها‪ ،‬ويتحقق من ألفاظها‪ ،‬وليس وحي ًا إلهي ًا محفوظ ًا بحفظ الله أو ً‬
‫ال‪ ،‬ثم‬
‫بنقل المسلمين المتواتر في الصدور والسطور عبر القرون‪ ،‬والمضحك في األمر أن‬
‫نولدكه وأضرابه من المستشرقين هم من تصدوا لمهمة التحقيق هذه‪ ،‬التي غابت عن‬
‫األمة كلها بقرائها ومفسريها ونحوييها ولغوييها وعلمائها من شتى الفنون!!‬

‫ومن العلمانيين اآلخرين‪ ،‬الذين ظهر لديهم هذا التشكيك في سالمة القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وحفظه حفظ ًا تام ًا‪ ،‬حسن حنفي‪ ،‬والذي اعتبر القول بحفظ الله لكتابه من‬
‫التغيير والتبديل نوع ًا من الغلو الذي قال به الالهوتيون المحافظون‪ ،‬وهو يورد احتما ً‬
‫ال‬
‫يجعل المقصود بالحفظ هو الحفظ للمعنى‪ ،‬وتطبيقه في الواقع‪ ،‬وليس حفظ النص‬
‫الحرفي المدون (((‪.‬‬

‫ومع أن فكرة الفصل بين حفظ المضمون دون األلفاظ فكرة متهافتة‪ ،‬وتتعارض‬
‫مع عموم حفظ الذكر المذكور في قوله تعالى‪ِ { :‬إنَّا َن ْح ُن َن َّز ْل َنا ِّ‬
‫الذ ْك َر َو ِإنَّا َل ُه َل َحاف ُِظونَ }‬
‫[الحجر‪ ]9 :‬إال أنها وجدت نوع ًا من القبول عند العلمانيين كحيلة يموهون بها على‬
‫قراء كتبهم‪.‬‬

‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب أركون الفكر األصولي واستحالة التأصيل هامش ص ‪.45‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬مقدمة ترجمة رسالة في الالهوت والسياسة السبينوزا ص ‪.22‬‬

‫‪265‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وقد تكررت هذه الفكرة المتهافتة عند عبد المجيد الشرفي‪ ،‬والذي اعتبرها فكرة‬
‫منطقية‪ ،‬دون أن يسوق أي حجة على دعواه تلك‪ ،‬حيث قال‪« :‬فالنتيجة المنطقية التي‬
‫تفرض نفسها‪ ،‬بناء على هذا الواقع التاريخي‪ ،‬الذي ال يماري فيه أحد أن الذكر الذي‬
‫وعد الله بحفظه هو المحتوى وليس الظرف‪ ،‬هو مضمون الدعوة بما انطوت عليه‬
‫من تبشير وإنذار‪ ،‬ومن توجيه وإرشاد‪ ،‬وليس األلفاظ والتعابير التي صيغت فيها تلك‬
‫الدعوة‪ ،‬والتي دونت في ظرف معين»(((‪.‬‬

‫وفي أسلوب ماكر ومراوغ‪ ،‬أشار الشرفي إلى أن الروايات والخالفات حول وقوع‬
‫التحريف «ال تعكس بالضرورة الحقيقة التاريخية بالمفهوم المعاصر لهذه الحقيقة‪،‬‬
‫ولكنها يمكن كذلك أن تدل على أحداث معينة‪ ،‬واكبت عملية الجمع والتدوين‪،‬‬
‫وجعلتها مشوبة ببعض النقائص‪ ،‬مثل أي عملية بشرية»(((‪.‬‬

‫كذلك ذكر سيد القمني أن هناك مؤاخذات كثيرة على ترتيب القرآن «واختالف‬
‫الكتابة للكلمة الواحدة بين آية وأخرى‪ ،‬وذهاب بعض اآليات‪ ،‬بل وبعض السور»(((‪،‬‬
‫أما هشام جعيط‪ ،‬فقد طرح رأيه المنحرف عبر إثارة عدد من األسئلة فقال‪( :‬وال ندري‬
‫فع ً‬
‫ال هل أن ترتيب القرآن وعناوين السور كان من عمل النبي ذاته‪ ،‬أو من عمل لجنة‬
‫عثمان؟ وهل وقعت زيادات في صلب النص‪ ،‬أي إقحام كلمات أو عبارات لم يبح‬
‫بها النبي‪ ،‬أو حصل إسقاط لبعض العبارات نسيت أو لم تسجل؟ رأيي أن هذا محتمل‬
‫في حاالت قليلة‪ ،‬مث ً‬
‫ال‪ :‬عبارة «وأمرهم شورى بينهم» ال تنسجم مع نسق اآلية‪ ،‬التي‬
‫وضعت فيها)(((‪.‬‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.50‬‬


‫((( عبد المجيد الشرفي وآخرون‪ :‬في قراءة النص الديني ص ‪.23 ،22‬‬
‫((( سيد القمني‪ :‬شكر ًا بن الدن ص ‪.194‬‬
‫((( هشام جعيط‪ :‬تاريخية الدعوة المحمدية في مكة ص ‪.23 ،22‬‬

‫‪266‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وفي صفاقة‪ ،‬وتبجح ال حد له‪ ،‬جزم سعيد ناشيد بوقوع التحريف قائ ً‬
‫ال‪« :‬نحن‬
‫متأكدون من شيء واحد‪ ،‬هو أن حجم المصحف الذي وصلنا أصغر بكثير من حجم‬
‫القرآن المحمدي‪ ،‬أي أنه أقل من مجموع اآليات التي نزلت على الرسول عليه‬
‫السالم‪ ...‬هذا في الحد األدنى الذي تؤكده شواهد النص‪ .‬لكن األمر في ما يبدو‬
‫أكبر من ذلك‪ ،‬حيث ترجح الدراسات القرآنية أن تكون بعض اآليات أو السور قد‬
‫ضاعت»(((‪.‬‬

‫ومثلما امتدت الطعون إلى القرآن الكريم‪ ،‬فقد امتدت إلى القراءات‪ ،‬في تقليد‬
‫ممجوج للمستشرقين الذين أثاروا األراجيف حولها(((‪ ،‬وقد ادعى بعض العلمانيين‬
‫أنه تم التالعب بالقراءات‪ ،‬وفي ذلك يقول أركون‪« :‬نحن نعلم كيف أن قراءات القرآن‬
‫كانت قد شذبت‪ ،‬أو تم التقريب والمواءمة بينها بشكل تدريجي‪ ،‬ونقصد بذلك أنهم‬
‫غربلوها ونخلوها‪ ،‬واختاروا منها بعض العناصر وحذفوا بعضها اآلخر‪ ،‬من أجل‬
‫التوصل إلى إجماع أرثوذكسي»(((‪ ،‬وهو يتحسر على ما يدعي أنه قرارات مؤسفة‪،‬‬
‫نجمت عن جمع المصحف في عهد عثمان‪ ،‬ومنها «القضاء على المجموعات الفردية‬
‫السابقة‪ ،‬وعلى المواد التي كانت بعض اآليات قد سجلت عليها‪ ،‬التعسف في حصر‬
‫القراءات في خمس‪ ،‬حذف مجموعة ابن مسعود المهمة جد ًا وهو صحابي جليل»(((‪.‬‬

‫((( سعيد ناشيد‪ :‬الحداثة والقرآن ص ‪.65 ،64‬‬


‫((( ولنولدكه‪ ،‬وجولد تسيهر‪ ،‬الكثير من الكالم في هذا الباب‪ ،‬فانظر‪ :‬كتاب نولدكه‪ :‬تاريخ القرآن‬
‫ال آلراء جولد تسيهر في‪ :‬كتاب د‪ .‬محمد حسن‬ ‫ص ‪ ،555‬ترجمة جورج تامر‪ ،‬وانظر نقد ًا مفص ً‬
‫جبل‪ :‬الرد على المستشرق اليهودي جولد تسيهر في مطاعنه على القراءات القرآنية‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1423‬هـ ‪2002 -‬م‪.‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني هامش ص ‪ ،72‬وانظر في‬
‫الرد عليه‪ :‬د‪ .‬عادل الشدي‪ :‬االتجاهات المنحرفة في التفسير في العصر الحديث ص ‪.198‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر العربي ص ‪.31‬‬

‫‪267‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال شك أن كالم أركون هذا ينم عن جهل مخز وفاضح بعلم القراءات‪ ،‬والخلط‬
‫بين ما يعرف بالقراءات التفسيرية الموجودة في مصاحف بعض الصحابة كابن‬
‫مسعود(((؛ واألحرف السبعة‪ ،‬والقراءات السبع أو العشر‪ ،‬والعجيب أن أركون يدعي‬
‫أنه تم حصر القراءات في خمس‪ ،‬وهو قول ال أدري من أين أتى به‪ ،‬ولم يقل أحد من‬
‫العلماء المعتبرين إن األحرف أو القراءات خمس فقط‪ ،‬بل األحرف كما هو معروف‬
‫سبعة‪ ،‬أما القراءات فالمتواتر منها سبع‪ ،‬ثم هناك غيرها ثالث أخرى‪ ،‬بحيث يصل‬
‫مجموعها إلى عشر‪ ،‬وليس خمس ًا فقط (((‪.‬‬

‫كذلك يظهر جلي ًا أن التجربة الغربية بأفكارها ومصطلحاتها في التعامل مع‬


‫الكتاب المقدس كانت حاضرة في ذهن أركون‪ ،‬وقد حاول إسقاطها على صنيع علماء‬
‫القراءات‪ ،‬مع اإلغفال المتعمد لقواعد هذا العلم‪ ،‬وشروط اعتماد القراءة‪ ،‬وضرورة‬
‫صحة سندها‪ ،‬وكون هذا العلم مبني ًا على نقل الثقات عن الثقات‪ ،‬ممن جمعوا بين‬
‫رسوخ العلم وصدق الدين‪ ،‬والذي يحول بينهم وبين التالعب أو العبث بنقل كتاب‬
‫الله سبحانه‪.‬‬

‫ولم يقتصر الطعن في القرآن من قبل غالة العلمانيين على الجوانب المتعلقة بنقله‬
‫وحفظه وقراءاته‪ ،‬بل امتد الطعن أيض ًا إلى الجوانب المتعلقة بمضمون القرآن ومعانيه‪،‬‬

‫ً‬
‫مفصال لهذه المسألة عند‪:‬‬ ‫((( وفي الكالم عن المصاحف المنسوبة لبعض الصحابة‪ ،‬انظر عرض ًا‬
‫محمد عبد الرحمن الطاسان‪ :‬المصاحف المنسوبة للصحابة والرد على الشبهات المثارة حولها‪،‬‬
‫عرض ودراسة‪ ،‬دار التدمرية‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األولى‪1433 ،‬ﻫ ‪2012 -‬م‪.‬‬
‫((( انظر في الكالم عن المقصود باألحرف السبعة والقراءات‪ :‬د‪ .‬محمد أبو شهبة‪ :‬المدخل لدراسة‬
‫القرآن الكريم ص ‪ ،166‬ود‪ .‬شعبان محمد إسماعيل‪ :‬القراءات أحكامها ومصدرها ص ‪،22‬‬
‫‪ ،27‬ود‪ .‬السيد رزق الطويل‪ :‬مدخل في علوم القراءات ص ‪ ،27‬ود‪ .‬نبيل بن محمد إبراهيم‪ :‬علم‬
‫القراءات‪ ،‬نشأته‪ ،‬أطواره ص ‪ ،26 ،17‬وصبري األشوح‪ :‬إعجاز القراءات القرآنية‪ :‬دراسة في تاريخ‬
‫القراءات واتجاهات القراء ص ‪.13‬‬

‫‪268‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وسالمتها من التناقض أو االختالف‪ ،‬حيث افترى بعضهم فرية كاذبة خاطئة‪ ،‬حين زعم‬
‫أن في القرآن الكريم آيات متناقضة ومتعارضة ال يمكن الجمع بينها‪.‬‬

‫وممن صرح بذلك هشام جعيط‪ ،‬والذي ادعى احتواء القرآن وكل األديان الكبرى‬
‫على التناقضات فقال‪« :‬إن احتواء القرآن على قانون‪ ،‬وأخالقية‪ ،‬وحتى على تناقضات‪،‬‬
‫أكسبه تأثير ًا عظيم ًا ومعنى مطلق ًا‪ .‬فالتناقضات موجودة في كل األديان الكبرى‪ ،‬وهي‬
‫التي تجعلها تجيب على كل تساؤل‪ ،‬وتتجه إلى كل األفراد والجماعات‪ ،‬بتعدد‬
‫حاجاتهم ورؤاهم‪ ،‬ومع تناقض عقولهم‪ ،‬وأهوائهم»(((‪.‬‬

‫وممن تبنى هذه المقولة المنحرفة أيض ًا‪ :‬طيب تيزيني‪ ،‬الذي انتقد صنيع أهل‬
‫العلم المتقدمين في دفع التعارض المتوهم بين بعض آيات القرآن‪ ،‬بحملها على أنها‬
‫من قبيل الناسخ والمنسوخ‪ ،‬أو المحكم والمتشابه‪ ،‬لكن تيزيني يرفض ذلك‪ ،‬بحجة‬
‫أنه كان من الممكن قبوله لو حدث في مراحل تاريخية متعاقبة‪ ،‬ولو أن ما يصفه بتطور‬
‫شخصية محمد ‪ #‬كان على صورة متتابعة‪ ،‬وليست خطية ذات بعد واحد‪ ،‬لكن ما هو‬
‫واقع بالفعل على حد زعمه أنه «في المرحلة الواحدة توجد آيات متناقضة متعارضة‪،‬‬
‫تناقض ًا وتعارض ًا ال يمكن التشكيك فيهما من قبل من يملك حد ًا ضروري ًا من الفهم‬
‫اللغوي العربي‪ ،‬بل كيف سيكون الموقف حين نواجه في السورة الواحدة‪ ،‬بل في‬
‫اآليتين المتتاليتين نصين متناقضين»(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من دعاوى باطلة ال دليل عليها مطلق ًا‪ ،‬ولم يأت‬
‫تيزيني بمثال واحد يؤيد صحة زعمه‪ ،‬وقد رد الله سبحانه في كتابه المحكم على تلك‬
‫األكذوبة المفتراة‪ ،‬والزاعمة أن في القرآن تناقض ًا أو اختالف ًا‪ ،‬فقال سبحانه‪َ { :‬أ َف َل‬

‫((( هشام جعيط‪ :‬الوحي والقرآن والنبوة ص ‪.10‬‬


‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.251 - 249‬‬

‫‪269‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫َي َت َد َّب ُرونَ ا ْلق ُْرآنَ َو َل ْو َكانَ م ِْن عِ ْندِ غَ ْي ِر ال َّل ِه َل َو َج ُدوا فِي ِه اخْ ت َِلف ًا َكثِيراً} [سورة النساء‪]82:‬‬
‫ِير}‬ ‫اب ُأ ْحكِ َم ْت آ َيا ُت ُه ُث َّم ُف ِّص َل ْت م ِْن َل ُدنْ َحكِ ٍ‬
‫يم خَ ب ٍ‬ ‫كما أخبر سبحانه عن كتابه أنه {كِ َت ٌ‬
‫ين َكف َُروا‬ ‫[هود‪ ]1 :‬فكيف يتضمن اختالف ًا أو تناقض ًا‪ ،‬بل هو كما قال تعالى‪{ :‬إنَّ ا َّلذِ َ‬
‫َنز ٌ‬
‫يل‬ ‫اب َع ِزي ٌز ‪ )#^١٤^#‬ال َي ْأتِي ِه ا ْل َباطِ ُل م ِْن َب ْي ِن َي َد ْي ِه َوال م ِْن خَ ْل ِف ِه ت ِ‬
‫ِالذ ْك ِر َل َّـما َجا َء ُه ْم َوإ َّن ُه َلكِ َت ٌ‬
‫ب ِّ‬
‫يم َحمِ يدٍ } [فصلت‪.]٢٤ ،١٤ :‬‬
‫ِّم ْن َحكِ ٍ‬
‫وليس هذا االفتراء من تيزيني بجديد‪ ،‬بل سبقه إليه نفر من الملحدين القدامى‬
‫تحدث عنهم ابن قتيبة المتوفى (‪276‬ﻫ) فقال‪« :‬وقد اعترض كتاب الله بالطعن‬
‫ملحدون ولغوا فيه‪ ،‬وهجروا‪ ،‬واتبعوا {ما تَشا َب َه ِم ْن ُه ا ْبتِغا َء ا ْل ِف ْت َن ِة َوا ْبتِغا َء ت َْأ ِوي ِلهِ} بأفهام‬
‫فحرفوا الكالم عن مواضعه‪ ،‬وعدلوه عن سبله‪،‬‬
‫كليلة‪ ،‬وأبصار عليلة‪ ،‬ونظر مدخول‪ّ ،‬‬
‫ثم قضوا عليه بال ّتناقض‪ ،‬واالستحالة‪ ،‬وال ّلحن‪ ،‬وفساد ال ّنظم‪ ،‬واالختالف‪ ،‬وأدلوا في‬
‫الغر‪ ،‬واعترضت بالشبه في القلوب‪،‬‬ ‫ذلك بعلل‪ ،‬ربما أمالت ّ‬
‫الضعيف الغمر‪ ،‬والحدث ّ‬
‫وقدحت بالشكوك في الصدور»(((‪.‬‬

‫وقد ساق ابن قتيبة رد ًا إجمالي ًا على هذه الشبه فقال‪« :‬ولو كان ما نحلوا إليه على‬
‫وتأولهم ‪ -‬لسبق إلى الطعن به من لم يزل رسول الله‪ ،‬ص ّلى الله عليه وآله‬
‫تقريرهم ّ‬
‫لنبوته‪ ،‬والدليل على صدقه‪ ،‬ويتحداه في‬
‫يحتج عليه بالقرآن‪ ،‬ويجعله العلم ّ‬
‫ّ‬ ‫وس ّلم‪،‬‬
‫موطن بعد موطن‪ ،‬على أن يأتي بسورة من مثله‪ ،‬وهم الفصحاء والبلغاء‪ ،‬والخطباء‬
‫والشعراء‪ ،‬والمخصوصون من بين جميع األنام باأللسنة الحداد‪ ،‬وال ّلدد في الخصام‪،‬‬
‫مع ال ّلب وال ّنهى‪ ،‬وأصالة ّ‬
‫الرأي‪ .‬وقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب‪،‬‬
‫مرة يقولون‪ :‬هو سحر‪ ،‬ومرة يقولون‪ :‬هو قول الكهنة‪ ،‬ومرة‪ :‬أساطير األولين‪،‬‬
‫وكانوا ّ‬

‫((( ابن قتيبة‪ :‬تأويل مشكل القرآن ص ‪.22‬‬

‫‪270‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ولم يحك الله تعالى عنهم‪ ،‬وال بلغنا في شيء من الروايات ‪ -‬أنهم جدبوه((( من الجهة‬
‫التي جدبه منها الطاعنون»(((‪.‬‬

‫وإضافة لهذا الرد اإلجمالي‪ ،‬فثمة ردود تفصيلية ومؤلفات كثيرة ألهل العلم في‬
‫توضيح وبيان كل ما ثار حوله إشكال من آيات القرآن‪ ،‬أو ادعى المرجفون أنها مختلفة‬
‫أو متناقضة(((‪ ،‬ومن تلك المصنفات‪ :‬كتاب اإلمام أحمد بن حنبل «الرد على الزنادقة‬
‫والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله»‪ ،‬وكتاب ابن قتيبة‬
‫«تأويل مشكل القرآن»‪ ،‬وكتاب القاضي عبد الجبار «تنزيه القرآن عن المطاعن»‪،‬‬
‫وكتاب الشيخ محمد األمين الشنقيطي «دفع إيهام االضطراب عن آيات الكتاب»‪،‬‬
‫وغير ذلك الكثير‪.‬‬

‫((( أي عابوه وذموه‪ ،‬انظر‪ :‬مادة «جدب» عند الفيروز آبادي‪ :‬القاموس المحيط ‪ ،66/1‬وابن منظور‪:‬‬
‫لسان العرب ‪.257/1‬‬
‫((( ابن قتيبة‪ :‬تأويل مشكل القرآن ص ‪.23 ،22‬‬
‫((( وقد جعل السيوطي النوع الثامن واألربعين من أنواع علوم القرآن في مشكله وموهم االختالف‬
‫والتناقض‪ ،‬انظر‪ :‬اإلتقان ‪ ،88/3‬وانظر عرض ًا ألهم ما صنف في مشكل القرآن في‪ :‬كتاب عبد الله‬
‫بن حمد المنصور‪ :‬مشكل القرآن الكريم ص ‪.26‬‬

‫‪271‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫المبحث الرابع‬

‫توظيف أسباب النزول‪ ،‬إلثبات وقتية األحكام الشرعية‪،‬‬


‫وقابليتها للتغيير‬

‫وقد بنى العلمانيون على األساسين المنحرفين السابقين‪ ،‬اللذين عرضنا لهما‬
‫وهما‪ :‬القول بتاريخية النصوص‪ ،‬وبشرية القرآن الكريم وأنسنته؛ أساس ًا ثالث ًا ال يقل‬
‫ال وانحراف ًا‪ ،‬ويتلخص في أنه طالما تقرر تاريخية النصوص وارتباطها بزمان‬ ‫ضال ً‬
‫وبيئة معينة‪ ،‬وكونها منتج ًا ثقافي ًا ونص ًا بشري ًا إنساني ًا‪ ،‬فال مجال مطلق ًا للقول بعمومها‪،‬‬
‫وصالحيتها للتطبيق في كل زمن ومكان‪ ،‬وإنما هي نصوص وقتية‪ ،‬كانت صالحة للبيئة‬
‫التي نزلت فيها‪ ،‬ثم لم تعد صالحة بحال لزماننا هذا الذي تقدمت فيها األحوال العلمية‬
‫واالجتماعية واالقتصادية تقدم ًا مذه ً‬
‫ال‪.‬‬

‫رعي ُة من أوامر ونواه‪،‬‬ ‫صوص َّ‬


‫الش َّ‬ ‫ُ‬ ‫والنتيجة المترتبة على ذلك َّ‬
‫أن ما تضمنته ال ُّن‬
‫موجه ًة إلى الناس الموجودين في زمن نزول الوحي‪َّ ،‬‬
‫وأما‬ ‫وحالل وحرام‪ ،‬إ َّنما كانت َّ‬
‫َمن جاء بعدَ هم‪ ،‬وعاش واقع ًا غير واقعهم فال يشمله النص الشرعي‪ ،‬وإذا تغيرت أوضاع‬
‫الناس في مجمل حياتهم ‪ -‬كما هو األمر في حياة الناس اليوم ‪َّ -‬‬
‫فإن تلك األحكام التي‬
‫يتضمنها النص ليست متعلقة بهم أمر ًا ونهي ًا‪ ،‬ولهم أن يتدينوا فهم ًا وتطبيق ًا بخالفها(((‪.‬‬

‫وقد أخذت الدعوة إلى وقتية األحكام الشرعية وقابليتها للتغيير صور ًا شتى‪ ،‬كما‬
‫اعتمدت على العديد من المداخل والتبريرات‪ ،‬مع تفاوت في أسلوب القائلين بها‪ ،‬ما‬
‫بين لهجة صريحة فجة‪ ،‬وأخرى تتسم بالمناورة والحرص على عدم صدمة جماهير‬
‫القراء‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد صالح المنجد‪ :‬بدعة إعادة فهم النص ص ‪.51 ،50‬‬

‫‪272‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ومن نماذج ذلك ما ذهب إليه عبد المجيد الشرفي من إبقاء القرآن «سلطة مرجعية‬
‫رئيسية‪ ،‬لكن في مستوى المقاصد ال األحكام التفصيلية‪ ،‬وهو موقف يقبل بالخصوص‬
‫أن يتعطل العمل بهذه األحكام‪ ،‬على أساس أن هذا التعطيل أكثر وفاء لسياسة اإلسالم‬
‫التشريعية‪ ،‬من تطبيقها دون مراعاة اختالف الظروف التاريخية»(((‪.‬‬

‫أما حسن حنفي فيعتبر نصوص الوحي «مجموعة من الحلول لبعض المشكالت‬
‫اليومية‪ ،‬التي تزخر بها حياة الفرد والجماعة‪ ،‬وكثير من هذه الحلول قد تغيرت وتبدلت‬
‫حسب التجربة على مقدار اإلنسان وقدرته على التحمل‪ ،‬وكثير من الحلول لم تكن‬
‫كذلك في بادئ األمر‪ ،‬معطاة من الوحى بل كانت مقترحات من الفرد أو الجماعة ثم‬
‫أيدها الوحي وفرضها»(((‪ ،‬لكن هذا الواقع القديم الذي نزلت فيه الشريعة أول مرة قد‬
‫«تجاوزه التشريع إلى واقع أكثر تقدم ًا‪ ،‬في حين أن واقعنا الحالي الذي يقام التجديد‬
‫عليه لم يتخطاه أي تشريع بعد‪ ،‬وتظل كل التشريعات أقل مما يحتاجه‪ ،‬ويظل هو متطلب ًا‬
‫ألكثر مما تعطيه التشريعات»(((‪.‬‬

‫وينطلق نصر أبو زيد من القول بتاريخية القرآن إلى التدليل على أننا ملزمون‬
‫باستعادة السياق التاريخي لنزول القرآن‪ ،‬من أجل أن نتفهم مستويات المعنى وآفاق‬
‫الداللة‪ ،‬وبذلك نستطيع التمييز في مجال األحكام والتشريعات بين مستويات لم ينتبه‬
‫لها أسالفنا(((‪.‬‬

‫وإذا تساءلنا عن ذلك الجديد الذي انتبه له أبو زيد‪ ،‬ولم ينتبه له أسالفنا‪ ،‬فسوف‬
‫نجده يخترع تفرقة متهافتة‪ ،‬بين ما يعتبره الداللة العامة الكلية للنصوص والداللة‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم والحداثة ص ‪.156 ،155‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.136 ،135‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.58‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬دوائر الخوف في خطاب المرأة ص ‪.11‬‬

‫‪273‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الجزئية الخاصة‪ ،‬وليست المشكلة في المصطلح نفسه‪ ،‬وإنما في النتائج المترتبة عليه‪،‬‬
‫ومنها أن «بعض الدالالت الجزئية ‪ -‬خاصة في مجال األحكام والتشريع ‪ -‬يسقطها‬
‫تطور الواقع االجتماعي التاريخي وتتحول من ثم إلى شواهد داللية تاريخية»(((‪.‬‬

‫وبالطبع فليس هناك معيار موضوعي لتلك الدالالت التي أسقطها تطور الواقع‪،‬‬
‫سوى أنها ال تتناسب مع العقلية العلمانية الحداثية‪ ،‬وال تتماشى مع ثقافة الغرب‪ ،‬التي‬
‫صارت الثقافة المهيمنة‪ ،‬والحاكمة على مقاييس تلك النخب المتغربة‪.‬‬

‫وقد ابتدع محمد شحرور مصطلح ًا جديد ًا غير تاريخية النص‪ ،‬وهو ما يسميه‬
‫بالنص التاريخي‪ ،‬والذي ال يؤخذ منه أي أحكام شرعية‪ ،‬حيث قال‪« :‬النص التاريخي‬
‫حسب التنزيل يحمل صفة العبرة وال يحمل أي تشريع»(((‪ ،‬وبعد أن يفرغ شحرور‬
‫آيات القرآن ‪ -‬التي يصفها بالتاريخية ‪ -‬من كونها تشريع ًا دائم ًا والزم ًا‪ ،‬ينتقل إلى ما سنه‬
‫الرسول ‪ #‬من أحكام‪ ،‬وما حفلت به سنته من تشريعات‪ ،‬تتضمن أوامر ونواهي‪ ،‬حيث‬
‫يعطلها تمام ًا‪ ،‬ويرى أن السنة النبوية القولية بمتواترها وآحادها لالستئناس فقط‪ ،‬ألنها‬
‫أحكام تتغير بتغير الزمان والمكان‪ ،‬كما أن تعامل الرسول مع التنزيل الحكيم وتطبيقه‬
‫آليات األحكام كان تطبيق ًا نسبي ًا تاريخي ًا‪ ،‬من خالل الصيرورة التاريخية للعرب في شبه‬
‫جزيرتهم‪ ،‬أي في حدود التاريخ والجغرافيا‪ ،‬وضمن مستواهم االجتماعي والمعرفي‪،‬‬
‫وليس له صفة اإللزام وال الدوام‪ ،‬كما ال يصح القياس عليه‪ ،‬بل يبقى األساس في آيات‬
‫األحكام هو االجتهاد والعقل(((‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.210‬‬


‫((( محمد شحرور‪ :‬تجفيف منابع اإلرهاب ص ‪.39‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬نحو أصول جديدة للفقه اإلسالمي ص ‪ ،64 ،63‬وتجفيف منابع اإلرهاب‬
‫ص ‪.41‬‬

‫‪274‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ويدعو حسين أحمد أمين إلى «تفهم الظروف التاريخية واالجتماعية واالقتصادية‬
‫التي أحاطت بهذا الحكم أو ذاك‪ ،‬وبيان ضرورة تغير الحكم لسقوط علته بتغير الظروف‪،‬‬
‫وفق القاعدة الفقهية القائلة بأن الحكم يدور مع العلة وجود ًا وعدم ًا»(((‪ ،‬وهو يهاجم‬
‫الفقهاء ممن كان الواجب عليهم ‪ -‬في رأيه ‪ -‬أن يعلنوا صراحة «أن بعض أحكام القرآن‬
‫والسنة قد قصد بها التصدي لعالج شرور وثيقة الصلة بالمجتمع الجاهلي»(((‪.‬‬

‫وكعادة سيد القمني في عرض آرائه بكل فجاجة‪ ،‬ودون لجوء للمناورة أو التحايل‬
‫‪ -‬كما هي طريقة بعض العلمانيين اآلخرين ‪ -‬نجده يتبنى القول بأن القراءة الزمانية‬
‫والمكانية آليات القرآن الكريم هي األمثل؛ ألن تلك اآليات كانت صالحة في زمانها‪،‬‬
‫ومتوافقة مع واقعها‪ ،‬ومنسجمة مع محيطها‪ ،‬وأي دعوة إلى تطبيقها اليوم تصبح عزف ًا‬
‫نشاز ًا‪ ،‬يفتئت على الله وعلى قرآنه‪ ،‬وبهذه التاريخية تنعدم صالحية القرآن لكل زمان‬
‫ومكان‪ ،‬وتظل اآليات معبرة عن زمن مضى في تاريخ المسلمين(((‪.‬‬

‫وأحكام الحدود والجنايات كلها في رأي محمد الشرفي‪ ،‬ال عالقة لها بالدين‪،‬‬
‫وليست منه في شيء‪ ،‬وهي من نتاج الفقهاء‪ ،‬وقد «نشأت في ظروف تاريخية معينة‪،‬‬
‫وينبغي أن يتم اليوم تجاوزها‪ ،‬بالنظر إلى زوال الظروف التي أدت إلى سنها»(((‪.‬‬

‫ولم ينفرد بتلك الدعوة الباطلة إلى وقتية األحكام الشرعية‪ ،‬العلمانيون من‬
‫أصحاب المشاريع الحداثية وإعادة قراءة النص الديني فحسب‪ ،‬بل قال بها نفر‬

‫((( حسين أحمد أمين‪ :‬حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ص ‪.76 ،75‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.53‬‬
‫((( سيد القمني‪ :‬مقال بمجلة روز اليوسف العدد ‪ 3964‬بتاريخ ‪ً 2004/5/29‬‬
‫نقال عن منصور أبو‬
‫شافعي‪ :‬التنوير بالتزوير ص ‪.90‬‬
‫((( محمد الشرفي‪ :‬اإلسالم والحرية‪ ،‬سوء الفهم التاريخي ص ‪.72‬‬

‫‪275‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫سابقون منهم الطاهر الحداد((( الذي بشر بالتاريخية المطلقة للشريعة‪ ،‬واستثنى من‬
‫ذلك العقائد ومكارم األخالق وقيم العدالة‪ ،‬أما الثوابت األخرى مما يسلك في دائرة‬
‫القطعيات‪ ،‬فال ضير أن يشملها التغيير بحسب الزمان والمكان‪ ،‬ألنها مرتبطة بسياقها‬
‫التاريخي في اإلسالم األول‪ ،‬وال تتعداه إلى اللحظة المعاصرة(((‪.‬‬

‫وثمة علمانيون آخرون من مرحلة ما قبل ظهور مشاريع إعادة القراءة الجديدة‬
‫نادوا بفكرة وقتية األحكام الشرعية‪ ،‬ونضرب مثا ً‬
‫ال لذلك بمقاالت محمد النويهي التي‬
‫كتبها بعد هزيمة يونيه ‪1967‬م((( ونشرت تحت عنوان «نحو ثورة في الفكر الديني»‪.‬‬

‫وفي هذا الكتاب قرر النويهي مبدأ وقتية الشريعة وقابليتها للتغيير بصورة صريحة‪،‬‬
‫ورأى أن «كل التشريعات التي تخص أمور المعاش الدنيوي‪ ،‬والعالقات االجتماعية‬
‫بين الناس التي يحتويها القرآن والسنة ‪ -‬دعك من سائر مراجع التشريع اإلسالمي ‪-‬‬
‫لم يقصد لها الدوام وعدم التغير‪ ،‬ولم تكن إال حلو ً‬
‫ال مؤقتة‪ ،‬احتاج لها المسلمون‬
‫األوائل‪ ،‬وكانت صالحة وكافية لزمانهم وبيئتهم‪ ،‬فليست بالضرورة ملزمة لنا‪ ،‬ومن‬
‫حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من اإلضافة والحذف والتعديل والتغيير ما نعتقد أن‬
‫تغير األحوال يستلزمه‪ ،‬وما نعتقد أنه اآلن أكفل بتحقيق الغايات اإلسالمية العليا»(((‪.‬‬

‫ويبدو أن التقعيد السابق على ضالله وانحرافه ومصادمته لقطعيات الشريعة‬


‫وثوابت الدين لم يكف النويهي‪ ،‬فراح يقرر تقعيد ًا آخر ال يقل في خطورته عن سابقه‪،‬‬
‫حيث قال‪« :‬حتى تلك األحكام القرآنية التي كانت في عهد الرسول من بابي الفرض‬
‫والحرام‪ ،‬ليس من الضروري أن تبقى كذلك‪ ،‬بل يجوز لنا ‪ -‬ويجب علينا ‪ -‬أن ننقلها‬

‫((( وقد احتفى نصر أبو زيد بآراء الطاهر حداد‪ ،‬انظر‪ :‬دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ص ‪.67‬‬
‫((( د‪ .‬قطب الريسوني‪ :‬النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر ص ‪،210‬‬
‫((( انظر‪ :‬مقدمة كتابه‪ :‬نحو ثورة في الفكر الديني ص ‪.10‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.153‬‬

‫‪276‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫إلى بابي الندب والكراهة أو باب المباح‪ ،‬ما دمنا في هذا كله ال نخالف الغايات التي‬
‫رفع القرآن منارها»(((‪.‬‬

‫وثمة مالحظة جديرة بأن نشير إليها هنا‪ ،‬حول االختالف الواضح بين الموضوعات‬
‫التي تسلطت عليها تأويالت المتقدمين من المتكلمين والفالسفة ‪ -‬إذا ما استثنينا‬
‫الباطنية ‪ -‬وتأويالت العلمانيين والحداثيين في الوقت الحاضر‪.‬‬

‫فتأويالت المتقدمين كانت تدور غالب ًا حول قضايا الصفات‪ ،‬والقدر‪ ،‬والبعث‬
‫والمعاد‪ ،‬وحقيقة النبوة والغيبيات‪ ،‬أما الشرائع فقد كانوا معظمين لها((( في الجملة‪،‬‬
‫وكان الفالسفة منهم يرون «أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموس محمد ‪#‬‬
‫وكان هذا موجب عقلهم وفلسفتهم»(((‪.‬‬

‫أما تأويالت المعاصرين‪ ،‬فقد امتدت إلى جانب الشرائع‪ ،‬وصارت تهتم اهتمام ًا‬
‫شديد ًا بالقضايا التي يشعرون فيها بوجود تعارض بين نصوص الوحي وثقافة الغرب‬
‫الغالب(((‪ ،‬ومن أمثلة ذلك قضايا «المصلحة المرسلة‪ ،‬والمقاصد والحدود الجنائية‪،‬‬
‫والربا‪ ،‬والحجاب‪ ،‬والقوامة‪ ،‬والوالء والبراء‪ ،‬وأحكام الذميين‪ ،‬والحسبة على المنكر‪،‬‬
‫والموقف من المخالف‪ ،‬ومنزلة العلوم الدنيوية‪ ،‬ونحوها من قضايا التشريعات العملية»(((‪.‬‬
‫وقد وظف العلمانيون أسباب النزول باعتبارها مدخ ً‬
‫ال مهم ًا‪ ،‬يقررون من خاللها‬
‫أولوية الواقع على النص‪ ،‬وتقديم المصلحة على النص‪ ،‬وإمكانية اختيار ما شاؤوا من‬
‫أحكام ونبذ أخرى‪ ،‬بحجة أنها لم تعد مناسبة لظروف الناس وعصرهم الحاضر‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.153‬‬


‫((( انظر‪ :‬إبراهيم السكران‪ :‬سلطة الثقافة الغالبة ص ‪.44‬‬
‫((( ابن تيمية‪ :‬منهاج السنة النبوية ‪.317/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬إبراهيم السكران‪ :‬سلطة الثقافة الغالبة ص ‪.21‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.45‬‬

‫‪277‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن نماذج ذلك ما ذهب إليه حسن حنفي من تفسير لمعنى الوحي ينزع عنه‬
‫معنى التكليف واإللزام‪ ،‬ويجعله قاب ً‬
‫ال للتعديل والتغير‪ ،‬وناشئ ًا عن الواقع ومتطلباته‪،‬‬
‫حيث قال‪« :‬الوحي ذاته مجموعة من اآليات نزلت إبان ثالثة وعشرين عام ًا‪ ،‬كل آية أو‬
‫مجموعة من اآليات تمثل ح ً‬
‫ال لموقف معين في الحياة اليومية لفرد‪ ،‬أو لجماعة من‬
‫األفراد»(((‪.‬‬

‫وإلى جانب هذا التفسير الخطير لمعنى الوحي‪ ،‬فقد فسر حسن حنفي أسباب‬
‫النزول وما يستفاد منها بتفسير يؤول إلى فتح الباب على مصراعيه للتخير واالنتقاء‬
‫ال‪ ،‬وتغيير ًا وتبدي ً‬
‫ال‪ ،‬حيث رأى أن أسباب‬ ‫من األحكام الشرعية كيفما شئنا‪ :‬إبقاء وتعدي ً‬
‫النزول تعني «أننا نختار من الوحي في كل مناسبة ما نجد فيه ح ً‬
‫ال لمشاكلنا ومآسينا»(((‪.‬‬
‫ويستفاد من هذه األسباب أيض ًا أولوية الواقع على النص‪ ،‬وتقديم المصلحة على‬
‫النص‪ ،‬وأن بإمكانية العقل أن يدرك ما هو األنفع واألصلح للناس‪ ،‬ومن ثم اختيار ما‬
‫يناسبهم من أحكام‪ ،‬وترك ما ال يناسبهم(((‪.‬‬

‫وهكذا يخلص حسن حنفي إلى تقرير قاعدة في غاية الخطورة‪ ،‬تنسف أي حاجة‬
‫للوحي أو الشرع‪ ،‬وتجعل الواقع هو األصل والمقدم‪ ،‬وكل ما سواه فرع وتابع‪ ،‬وفي‬
‫ذلك يقول حرفي ًا‪« :‬فالواقع هو الذي يفرض نفسه‪ ،‬وهو أبلغ من كل نص يختلف في‬
‫تفسيره المتحذلقون كل على هواه دفاع ًا عن مصلحته‪ ،‬الواقع هو مصدر النص ومنبعه‪،‬‬
‫والبداية بالواقع هو الرجوع إلى المنبع والمصدر واألساس»(((‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.135‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬الدين والثورة في مصر‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬اليمين واليسار في الفكر الديني ص ‪.74‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.73 ،72‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.74 ،73‬‬

‫‪278‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ووجود النص ال يمثل أدنى مشكلة عند هؤالء العلمانيين‪ ،‬ألن هذا النص مفتوح‬
‫وفضفاض‪ ،‬وقابل ألن يمأل بما شئنا من معان‪ ،‬وكما يقول حسن حنفي‪« :‬إن النص‬
‫بطبيعته مجرد صورة عامة‪ ،‬تحتاج إلى مضمون يملؤها‪ ،‬وهذا المضمون بطبيعته قالب‬
‫فارغ‪ ،‬يمكن ملؤه من حاجات العصر‪ ،‬ومقتضياته»(((‪.‬‬

‫ولدى محمد سعيد العشماوي نجد تقعيد ًا منحرف ًا وغير مسبوق‪ ،‬وتوظيف ًا خاطئ ًا‬
‫ألسباب النزول في إثبات وقتية األحكام‪ ،‬وتغيرها وتبدلها‪ ،‬والمقصود بوقتية األحكام‬
‫عنده «تعليق الحكم بعد فترة معينة‪ ،‬لكونه حكم ًا وقتي ًا يتصل بزمان معين ومكان‬
‫محدد»(((‪ ،‬وهو يزعم أن األحكام الشرعية «لم تنزل في القرآن مرة واحدة‪ ،‬وإنما‬
‫كان الحكم ينزل إذا ما وجد سبب له‪ ،‬وبمعنى آخر كان الحكم ينزل عندما تحدث‬
‫واقعة تستدعي وجود حكم لها‪ ،‬فما لم يوجد من الوقائع ‪ -‬على عهد النبي وفي فترة‬
‫التنزيل ‪ -‬لم ينزل بشأنه حكم‪ ،‬وإنما ترك الجتهاد األمة»(((‪ ،‬ثم خلص العشماوي من‬
‫هذا الكالم إلى المقصد الذي يريده‪ ،‬وهو أن «األحكام كانت تتغير بتغير األسباب‪ ،‬أو‬
‫بتبدل الوقائع‪ ،‬بحيث ينسخ (يلغي) الحكم الالحق الحكم السابق»(((‪.‬‬

‫وال أظننا بحاجة ألن نطيل في بيان تهافت دعوى العشماوي بأن ما ليس له سبب‬
‫نزول فال حكم له‪ ،‬فتلك فرية لم يقل بها أحد قط‪ ،‬وهي تؤول إلى تعطيل الشطر األعظم‬
‫من آيات القرآن وأحكامه‪ ،‬وتجعل من الشريعة مجرد أحكام تاريخية ومحلية‪ ،‬ومقصورة‬
‫على واقع المسلمين في مكة والمدينة‪ ،‬إبان نزول الوحي وال تعم سائر المكلفين‪ ،‬وهذا‬
‫ما تبناه العشماوي بالفعل‪ ،‬حيث ذهب إلى أن كل آيات األحكام تتعلق بحادثة بذاتها‪،‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬من العقيدة إلى الثورة ‪.374/1‬‬


‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص ‪.100 ،41‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬الشريعة اإلسالمية والقانون المصري ص ‪.41‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.41‬‬

‫‪279‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وهي مخصصة بأسباب النزول وال بد أن تفسر بها وليس بعموم ألفاظها‪ ،‬ومن ثم فهي‬
‫ليست مطلقة بل مؤقتة ومحلية تنطبق في وقت محدد‪ ،‬وفي مكان بعينه(((‪.‬‬

‫وال يكتفي العشماوي بإثبات قابلية األحكام للتغير‪ ،‬والتبدل‪ ،‬والتطور‪ ،‬بل إنه‬
‫‪ -‬بكل فجاجة ‪ -‬يجعل ذلك معنى الشريعة ومقصد الدين‪ ،‬فيقول‪« :‬وال بأس من‬
‫االجتهاد‪ ،‬ووضع أحكام جديدة تالئم الظروف المتغيرة‪ ،‬بل إن االجتهاد بالرأي‪،‬‬
‫ومسايرة األحكام لمقتضى التطور االجتماعي‪ ،‬هو معنى الشريعة الذي قصد إليه‬
‫الدين‪ ،‬واستهدفه الشارع األعظم»(((‪.‬‬

‫ومن مواقف العلمانيين الصريحة في توظيف أسباب النزول إلثبات وقتية‬


‫األحكام الشرعية‪ ،‬وتبدلها‪ ،‬وتغيرها‪ ،‬ما ذهب إليه سعيد ناشيد من أن «المضامين‬
‫المعرفية والتشريعية المحضة للنص الديني آيلة إلى التبدل أو الزوال‪ ،‬بل لعلها تبدلت‪،‬‬
‫وزال بعضها بزوال أسباب نزولها»(((‪.‬‬

‫ومن نماذج األحكام اآليلة للتبدل عنده‪ ،‬والتي تنتظر شهادة الوفاة‪ ،‬ما يصفه ‪-‬‬
‫بكل صالفة وسوء أدب ‪ -‬باألحكام «البدوية والبدائية‪ ،‬من قبيل القصاص والفيء‪،‬‬
‫والحدود‪ ،‬والجزية‪ ،‬والسبي‪ ،‬والرجم أو الجلد‪ ،‬وكل ما ينتمي إلى أزمنة ما قبل الدولة‪،‬‬
‫بل باألحرى ما قبل دولة القانون»(((‪.‬‬

‫وللتملص من األحكام الشرعية الواردة في السنة النبوية‪ ،‬وتبرير عدم وجوبها‬


‫والقول بوقتيتها‪ ،‬وقابليتها للتغيير والتبديل‪ ،‬لجأ العلمانيون إلى حيل شتى‪ ،‬من أشهرها‬

‫((( انظر‪ :‬محمد سعيد العشماوي‪ :‬جوهر اإلسالم ص ‪ ،130‬ود‪ .‬محمد عمارة‪ :‬النص اإلسالمي بين‬
‫التاريخية واالجتهاد ص ‪.5‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬الشريعة اإلسالمية والقانون المصري ص ‪.47‬‬
‫((( سعيد ناشيد‪ :‬الحداثة والقرآن ص ‪.27‬‬
‫((( انظر‪ :‬سعيد ناشيد‪ :‬الحداثة والقرآن ص ‪.29‬‬

‫‪280‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫بالطبع الطعن في حجية السنة بأسرها‪ ،‬والتشكيك في وثاقة نقلها‪ ،‬واالدعاء بأن جل إن‬
‫لم يكن كل األحاديث قد تم انتحالها‪ ،‬ووضعها في فترة زمنية متأخرة لنصرة مذاهب‬
‫وآراء فقهية معينة‪ ،‬أو التبرير لمواقف سلطوية أو سياسية‪ ،‬وكذا الزعم بأن اإلمام‬
‫الشافعي رحمه الله هو أول من أسس القول بحجية السنة في الفكر اإلسالمي‪ ،‬ورسخ‬
‫لتلك الفكرة واستدل لها‪ ،‬وتلقفها كل من جاء بعده من العلماء‪ ،‬وهو تجاهل صارخ‬
‫من هؤالء العلمانيين ألدلة القرآن الدالة على وجوب طاعة الرسول ‪ #‬واتباع سنته‪،‬‬
‫وهو األمر الذي أجمعت عليه األمة كلها‪ ،‬قبل الشافعي وبعده‪.‬‬

‫ومن تهويمات محمد شحرور‪ ،‬وقواعده التي اخترعها‪ ،‬دون أن يكلف نفسه ذكر‬
‫أي حجة أو برهان عليها‪ ،‬ما قرره تجاه أحاديث السنة المتضمنة ألحكام تحليل وتحريم‪،‬‬
‫حيث ذهب إلى أن «علينا اعتبار كل األحاديث المتعلقة بالحالل والحرام والحدود‪،‬‬
‫التي لم يرد نص فيها في الكتاب‪ ،‬على أنها أحاديث مرحلية‪ ،‬مثل‪ :‬الغناء والموسيقى‬
‫والتصوير‪ ،‬واعتبارها أحاديث قيلت في حينها‪ ،‬بحسب الظروف السائدة»(((‪.‬‬

‫وإضافة للتشكيك في حجية السنة عموم ًا‪ ،‬أو وثاقة نقلها على وجه الخصوص‪،‬‬
‫فثمة مسلك آخر لجأ إليه بعض العلمانيين ‪ -‬وهو عبد الجواد يس ‪ -‬إلثبات عدم لزوم‬
‫أحكامها‪ ،‬بناء على وضع مفهوم جديد لها‪ ،‬يقوم على أن السنة لم يكن لها إال معنى‬
‫واحد هو «تطبيقات الرسول العملية في أرض الواقع لمبادئ القرآن الكلية‪ ،‬أي للمطلق‬
‫الديني‪ ،‬وهي بهذا المعنى بمثابة نموذج مباشر للتفاعل بين االجتماع والدين»(((‪.‬‬

‫وبهذه الطريقة المنحرفة انتهى يس إلى أن أحاديث السنة ‪ -‬حتى ما صح منها ‪-‬‬
‫ليست «نص ًا في ذاته‪ ،‬بل حالة تطبيقية فرعية وجزئية ال يصلح االعتماد عليها‪ ،‬الستنباط‬

‫((( محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.572‬‬


‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.26‬‬

‫‪281‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫حكم مجرد‪ ،‬صالح لإللزام المؤبد‪ ،‬وإن صحت اإلفادة منه في االستئناس الفقهي أو‬
‫التاريخي‪ ،‬ولكنها في مجموعها ال تمثل نص ًا كلي ًا من حيث هي ال تتمتع بخصائص‬
‫النص الكلي الموضوعية»(((‪.‬‬

‫ويصل التهور والمجازفة عند الرجل إلى االدعاء بأن السنة ‪ -‬كنص واجب‬
‫االتباع ‪ -‬لم يكن لها وجود أص ً‬
‫ال في الفكر اإلسالمي قبل الشافعي‪ ،‬حيث لم يوجد‬
‫حينئذ «نص سني‪ ،‬ألن السنة لم تكن نص ًا‪ ،‬ورغم محاوالت التأويل الدفاعية التي ال‬
‫تزال تقدمها مدرسة الرواية‪ ،‬والتي تقوم على إسناد الروايات بأثر رجعي إلى الرسول‬
‫ومن ثم إلى الوحي‪ ،‬نحن حيال فعل بشري اجتماعي وتاريخي‪ ،‬أوجد نص ًا لم يكن‬
‫موجود ًا»(((‪.‬‬

‫ومما يجدر ذكره هنا أن دعوى أولية الشافعي في التأسيس لمبدأ حجية السنة‬
‫داخل الفكر اإلسالمي قد تكررت بصورة الفتة للنظر عند العلمانيين والحداثيين‬
‫العرب‪ ،‬وهم في ذلك متابعون للمستشرقين الذين أشاعوا تلك الفرية أول مرة‪ ،‬وزعم‬
‫الس َّنة‪،‬‬ ‫نفر منهم أن جميع المدارس الفقهية القديمة‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أهل الكالم قد عارضت ُّ‬
‫وقاومتها كعنصر جديد‪ ،‬ودخيل في مجال فقههم‪ ،‬حتى جاء الشافعي‪ ،‬وناضل لهدم‬
‫تلك الفكرة(((‪.‬‬

‫وال أدري كيف تصور هؤالء العلمانيون ‪ -‬ممن يدعون العقالنية والموضوعية‬
‫والمنهجية ‪ -‬أن شخص ًا واحد ًا كالشافعي‪ ،‬توفي في أوائل القرن الثالث الهجري‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.26‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.26‬‬
‫((( ‪See:J.Schacht: The Origins Of Muhammadan Jurisprudence p.57. Oxford‬‬
‫‪ ،.1979‬وانظر‪ :‬مناقشة كالمه عند د‪ .‬ساسي سالم الحاج‪ :‬نقد الخطاب االستشراقي‪ :‬الظاهرة‬
‫االستشراقية وأثرها في الدراسات اإلسالمية ‪.431/1‬‬

‫‪282‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫(‪204‬ﻫ) أوتي سلطة عملية هائلة‪ ،‬جعلت كل المسلمين يذعنون لتقريراته غير‬
‫المسبوقة‪ ،‬ودفعتهم لإلقرار بحجية دليل كامل هو السنة‪ ،‬لم يكن له وجود من قبل‪،‬‬
‫ولم يقتصر األمر على أتباع الشافعي ومقلدي مذهبه‪ ،‬بل ترسخت الفكرة لدى مخالفيه‬
‫داخل اإلطار السني ‪ -‬من المالكية والحنفية ‪ -‬ولدى خصومه خارج اإلطار السني من‬
‫معتزلة وغيرهم‪ ،‬حتى صارت حجية السنة حقيقة مجمع ًا عليها بين طوائف األمة كافة؟‬
‫في ظني أن تلك األفكار من الضحالة والسذاجة‪ ،‬بحيث يكفي عرضها وتصويرها‬
‫للقارئ‪ ،‬لبيان تهافتها‪ ،‬دون أن يكلف المرء نفسه بكثير مناقشة‪ ،‬أو تفنيد لما اشتملت‬
‫عليه من خلل ومغالطات!‬

‫ومن المداخل األخرى الشائعة لدى العلمانيين للقول بوقتية األحكام الشرعية‬
‫وقابليتها للتغيير‪ :‬فكرة تغير الظروف واألحوال‪ ،‬والتي تؤدي بدورها إلى تغير األحكام‬
‫الشرعية المبنية عليها‪ ،‬انطالق ًا من أن الشريعة وأحكامها ذات طابع تاريخي نسبي‪،‬‬
‫مرتبط ارتباط ًا وثيق ًا بالبيئة التي ظهرت فيها‪.‬‬

‫وقد اعتمد عادل ضاهر ‪ -‬أحد المتبنين للعلمانية في صورتها الصلبة واألشد تطرف ًا‬
‫‪ -‬على هذا المدخل الخاطئ للتخلص من سائر أحكام الشريعة المرتبطة بالمعامالت‪،‬‬
‫وفق ًا لمعناها األعم‪ ،‬وهو يسميها بالجزء الحياتي من الشريعة‪ ،‬أي الجزء الذي يتضمن‬
‫القواعد التي تنظم المعامالت وتقرر العقوبات(((‪.‬‬

‫وهذا الجزء كله في رأيه ال يشتمل سوى على قواعد نسبية تاريخي ًا «ال تنبع من‬
‫ماهية اإلسالم الثابتة‪ ،‬أي من عقيدته‪ ،‬بل إنها ما أملته الظروف التي أحاطت بنشأة‬
‫اإلسالم‪ ،‬وبالبيئة التي نشأ فيها‪ ،‬وبحاجات أهل هذه البيئة‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬وبما أن‬
‫ظروف المسلمين اليوم هي غير ما كانت عليه‪ ،‬فالقواعد المطلوبة لتنظيم شؤون‬

‫((( انظر‪ :‬عادل ضاهر‪ :‬الالمعقول في الحركات اإلسالمية المعاصرة ص ‪.17 ،16‬‬

‫‪283‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫دنياهم‪ ،‬هي غير القواعد التي اقتضت تطبيقها الظروف السابقة»(((‪.‬‬

‫وال يستنكف عبد المجيد الشرفي من التصريح بعدم قبوله ألحكام شرعية مجمع‬
‫عليها بين علماء األمة كافة ‪ -‬وهي وجوب القصاص‪ ،‬أو دفع الدية في القتل العمد ‪-‬‬
‫بحجة أن هذه األحكام مرتبطة بظروفها التاريخية الخاصة‪ ،‬كما أن القيم المجتمعية التي‬
‫نزلت فيها هذه األحكام أول مرة قد تطورت‪ ،‬وهو ما يستلزم تطورها هي األخرى(((‪.‬‬

‫كذلك ذهب نصر أبو زيد إلى أن «األحكام والتشريعات جزء من بنية الواقع‬
‫االجتماعي في مرحلة اجتماعية تاريخية محددة‪ ،‬ويجب أن تقاس أحكام النصوص‬
‫الدينية وتشريعاتها‪ ،‬وتتحدد داللتها من ثم من واقع ما أضافته بالحذف والزيادة إلى‬
‫الواقع االجتماعي‪ ،‬الذي توجهت إليه بحركتها الداللية األولى»(((‪.‬‬

‫ونفهم من هذا الكالم أنه طالما أن األحكام والتشريعات مرتبطة بواقع اجتماعي‬
‫معين في مرحلة تاريخية محددة‪ ،‬فال بد من تغير تلك األحكام‪ ،‬إذا تغير هذا الواقع‬
‫بشتى مكوناته االجتماعية والسياسية والفكرية واالقتصادية‪.‬‬

‫ومن المداخل األخرى التي تكررت كثير ًا لدى العلمانيين‪ ،‬واتخذوها تكأة للقول‬
‫بتغير األحكام‪ :‬قضية التفرقة بين الشريعة اإلسالمية‪ ،‬والفقه اإلسالمي‪ ،‬فالشريعة عند‬
‫بعضهم إلهية‪ ،‬أما الفقه ففهم بشري من قبل علماء الدين عبر العصور‪.‬‬

‫ومع أن هذه التفرقة قد تقبل بعد تفصيل وتحرير لكال المصطلحين‪ ،‬لكن اإلشكال‬
‫الحقيقي أننا إذا حاولنا البحث عن الحدود الفاصلة بين األمرين‪ ،‬فسوف نجد تخليط ًا‬
‫شديد ًا‪ ،‬بحيث تكاد أحكام الدين كله تصير فقه ًا ناتج ًا عن آراء البشر وقاب ً‬
‫ال للتعديل‪ ،‬أما‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.17‬‬


‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪.29‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة ص ‪.136 ،135‬‬

‫‪284‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫الشريعة فليست سوى المبادئ العامة التي تشترك فيها كل األديان والقوانين البشرية‪،‬‬
‫مثل‪ :‬العدل والمساواة والحرية‪ ،‬وما أشبه ذلك‪.‬‬

‫وقد حاول محمد شحرور الترويج لتلك الفكرة‪ ،‬حيث ذهب إلى أن الشريعة‬
‫شيء والفقه شيء آخر تمام ًا‪ ،‬والفرق بين األمرين عنده أن «الشريعة اإلسالمية إلهية‪،‬‬
‫بينما الفقه اإلسالمي إنساني تاريخي»(((‪.‬‬

‫وال يكتفي شحرور بقاعدة تغير األحكام بتغير األزمان‪ ،‬بل يخترع قاعدة جديدة‪،‬‬
‫وهي تغير األحكام بتغير النظام المعرفي‪ ،‬فيقول‪« :‬إذا كان علماء األصول قد قرروا‬
‫نظري ًا مبدأ تغير األحكام بتغير األزمان‪ ،‬فإننا نقرر نظري ًا وعملي ًا ‪ -‬بعونه تعالى ‪ -‬أن‬
‫األحكام تتغير أيض ًا بتغير النظام المعرفي»(((‪.‬‬

‫وهذا التطور المزعوم ال يقف عند حد ما‪ ،‬فاإلسالم بمعناه العام قد تطور عبر‬
‫الرساالت المختلفة‪ ،‬وقد وصلت البشرية إلى مرحلة من النضج أصبحت فيها تعتمد‬
‫على نفسها في التشريع‪ ،‬بما يعني أنها لم تعد بحاجة إلى مصدر ديني يشرع لها(((‪.‬‬

‫ويدعو إبراهيم فوزي ‪ -‬مثل غيره من العلمانيين ‪ -‬إلى الفصل بين الفقه والشريعة‪،‬‬
‫واقتصار الشريعة على العبادات‪ ،‬وإخراج كل ما سواها من معامالت وحدود ونظام‬
‫حكم وغير ذلك من مفهوم الشريعة‪ ،‬كما أنه ال بد لفهم الشريعة «من تجريد نصوصها‬
‫من تلك االجتهادات‪ ،‬ونزع الصفة الدينية عنها‪ ،‬ووضعها في النطاق التاريخي‬
‫للعصر الذي ظهرت فيه‪ ،‬وتقويم أحكامها بالنسبة للمعطيات العلمية التي تقوم عليها‬
‫التشريعات الحديثة‪ ،‬وإفراز ما يصلح منها للتطبيق في عصرنا‪ ،‬وما يجب إسقاطه منها‬

‫((( محمد شحرور‪ :‬تجفيف منابع اإلرهاب ص ‪.43‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.43‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬نحو أصول جديدة للفقه ص ‪.144‬‬

‫‪285‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫بحكم التقدم العلمي والحضاري‪ ،‬الذي حققته البشرية في عصرنا في جميع مجاالت‬
‫الحياة»(((‪.‬‬

‫وبهذه الطريقة ينظر ألحكام الشريعة على أنها خاضعة للتطور والتغير‪ ،‬بتغير‬
‫المجتمع‪ ،‬وتبدل حاجات الناس االجتماعية‪ ،‬ومن الطبيعي أن «هذا التطور والتغير‬
‫في الهيئة االجتماعية من شأنه إحداث تغيرات في عالقات الناس مع بعضهم‬
‫داخل المجتمع‪ ،‬تستدعي تنظيمها بقواعد حقوقية جديدة‪ ،‬تحل محل القواعد‬
‫القديمة»(((‪.‬‬

‫وال يقتصر األمر عند هؤالء العلمانيين على الفصل بين الفقه والشريعة فحسب‪،‬‬
‫بل نجدهم يهاجمون بشدة الداعين لتطبيق الشريعة‪ ،‬واصفين إياهم باألصوليين‪ ،‬الذين‬
‫يستثيرون المشاعر الدينية لدى الجماهير من خالل إيهامهم أن الشريعة من الدين‬
‫اإلسالمي‪ ،‬أو أنها هي الدين اإلسالمي نفسه‪ ،‬وأن التخلي عنها‪ ،‬واألخذ بالتشريعات‬
‫الحديثة خرق للدين الحنيف‪ ،‬وابتعاد عنه(((‪.‬‬

‫وهكذا تتحول الدعوة إلى تطبيق شرع الله‪ ،‬وإقامة دينه وتطبيق أحكامه في األرض‬
‫عند هؤالء العلمانيين إلى أصولية وتشدد‪ ،‬ومحاولة الستثارة الجماهير‪ ،‬واللعب على‬
‫عواطفهم الدينية المتأججة والطامحة لتطبيق شرع الله‪.‬‬

‫ومثلما وظف العلمانيون أسباب النزول للتدليل على وقتية األحكام الشرعية‪،‬‬
‫فقد وظفوا أيض ًا مبحث ًا آخر من مباحث علوم القرآن‪ ،‬وهو النسخ إلثبات أن الشريعة‬
‫يمكن أن تتغير‪ ،‬وتتبدل أحكامها‪.‬‬

‫((( إبراهيم فوزي‪ :‬تدوين السنة ص ‪.12‬‬


‫((( إبراهيم فوزي‪ :‬تدوين السنة ص ‪.12‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.11‬‬

‫‪286‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫واإلشكال الحقيقي ‪ -‬كما أشرنا سابق ًا ‪ -‬ليس في مبدأ النسخ ذاته‪ ،‬فاألدلة على‬
‫ثبوته ووقوعه أشهر من أن نطيل بذكرها‪ ،‬وإنما موضع النزاع فيمن يحق له النسخ‪،‬‬
‫وهل ما زال ممكن ًا وباقي ًا‪ ،‬أم انتهى وأغلق بابه تمام ًا باكتمال التشريع‪ ،‬ولحوق النبي ‪#‬‬
‫بالرفيق األعلى‪.‬‬

‫فعلماء األمة قديم ًا وحديث ًا على أن النسخ مرده إلى الشرع‪ ،‬وليس إلى عقول الناس‬
‫أو اجتهاداتهم‪ ،‬ثم إن النسخ قد أوصد بابه تمام ًا بتمام الشريعة ووفاة المصطفى ‪،#‬‬
‫وال يحل ألحد أن يزيد في الشريعة أو ينقص منها شيئ ًا(((‪.‬‬

‫أما العلمانيون والحداثيون‪ ،‬فالكثير منهم يتخذ من النسخ تكأة إلثبات إمكانية‬
‫تغيير األحكام الشرعية‪ ،‬وتبديلها وتطويرها‪ ،‬انطالق ًا من أن النسخ ليس مقصور ًا على‬
‫مرحلة البعثة النبوية‪ ،‬بل هو مستمر‪ ،‬ويحمل داللة لألمة على تطوير األحكام بحسب‬
‫حاجاتها ومصالحها‪.‬‬

‫وثمة نماذج عدة على هذا المسلك العلماني‪ ،‬ومن ذلك ما قرره محمد شحرور‬
‫من أن «غياب الناسخ والمنسوخ من الشرائع السماوية قبل محمد ‪ ،#‬ألنها كانت‬
‫شرائع حدية عينية مؤقتة‪ ،‬وكان البديل عن النسخ بعث رسول جديد‪ ،‬أما في الرسالة‬
‫الخاتمة‪ ،‬فقد جعل الله سبحانه وتعالى الناسخ والمنسوخ تعليم ًا لنا‪ ،‬لنهتدي في تطوير‬
‫التشريع ضمن حدوده»(((‪.‬‬

‫وهذا الكالم غير صحيح بالمرة‪ ،‬وما زعمه من أن الشرائع السابقة لم يكن فيها‬
‫نسخ كالم باطل‪ ،‬ويكفي في بيان فساده قوله تعالى عن عيسى عليه السالم‪ُ ِ :‬‬
‫{لحِ َّل َل ُك ْم‬

‫((( انظر‪ :‬ابن حزم‪ :‬مراتب اإلجماع ص ‪ ،175 ،174‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم‬
‫ص ‪.522‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.476‬‬

‫‪287‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ض ا َّلذِ ي ُح ِّر َم َع َل ْي ُك ْم} [سورة آل عمران‪ .]50 :‬وقد استفاض علماء المسلمين في‬
‫َب ْع َ‬
‫بيان وقوع النسخ في الشرائع السابقة‪ ،‬وردوا على من زعم امتناع ذلك(((‪.‬‬
‫ويتخذ العشماوي من مبدأ النسخ دلي ً‬
‫ال على «وقتية بعض األحكام التي رأى‬
‫الشارع األعظم إلغاءها بعد أن استنفدت غايتها‪ ،‬أو تعدت وقتها»(((‪ .‬وداللة هذا‬
‫المبدأ عنده ال تقتصر على اآليات المنسوخة فحسب‪ ،‬بل هو في رأيه «دليل على حركة‬
‫المشرع اإلسالمي إلى األمام دوم ًا‪ ،‬وإلى المستقبل باستمرار‪ ،‬وهي الحركة التي يتعين‬
‫على المسلمين أن يتعلقوا بها‪ ،‬وأن يتمسكوا بأسلوبها»(((‪.‬‬
‫وعلى الشاكلة نفسها اعتبر خليل عبد الكريم النسخ دلي ً‬
‫ال ومسوغ ًا لتغيير األحكام‬
‫وتطويرها‪ ،‬بحجة أن النصوص نفسها أقرت مبدأ النسخ وطبقته مئات المرات‪ ،‬إبان‬
‫عقد واحد من السنين ‪ -‬العهد المدني ‪ -‬كما أيده ورسخه شيوخ اإلسالم وحججه‪،‬‬
‫وألفوا فيه عشرات الكتب‪ ،‬فكيف مع ذلك كله «يتسنى التمسك بحرفية النصوص‬
‫لمدة أربعة عشر قرن ًا‪ ،‬ودون التفات إلى أسباب وروده‪ ،‬والظروف الحافة بها‪ ،‬وكافة‬
‫األنساق المعيشية التي كان عليها أول من تلقاها شفاهة‪ ،‬أليس من صالح النصوص‬
‫ذاتها‪ ،‬والمخاطبين بها البحث والتمحيص والتدقيق في تلك األمور جميعها‪ ،‬وذلك‬
‫للنفاذ إلى المغزى المقصود منها‪ ،‬وتوظيفه على موجبات كل عصر‪ ،‬ألنه هو الجوهر‬
‫واللب والعصارة»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬الشهرستاني‪ :‬الملل والنحل ‪ ،16/2‬وابن حزم‪ :‬الفصل ‪ ،83/1‬والزرقاني‪ :‬مناهل العرفان‬
‫‪ ،186/2‬ود‪ .‬مصطفى زيد‪ :‬النسخ في القرآن الكريم ‪ ،36/1‬ود‪ .‬محمد شعبان إسماعيل‪ :‬نظرية‬
‫النسخ في الشرائع السماوية ص ‪.43 ،23‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.70‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.70‬‬
‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي ضمن األعمال الكاملة ص ‪.110‬‬

‫‪288‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ويقترح المنصف عبد الجليل إعادة دراسة قضية الناسخ والمنسوخ بمنهجية‬
‫جديدة تبين تحول التشريع وتغيره بتغيير أحوال المجتمع‪ ،‬ويتم ذلك من خالل‬
‫دراستها «دراسة سوسيولوجية‪ ،‬تبين تحول التشريع بتغيير أحوال المجتمع‪ ،‬وإذا تم‬
‫هذا علمنا أن عمل الفقيه وكذلك المشرع عمل مجتمعي باألساس‪ ،‬ألن المجتمع هو‬
‫الذي يلح على السلطة بأسئلته الحيوية»(((‪.‬‬

‫ومع أن جمال البنا من المنكرين بشدة لوجود النسخ في القرآن‪ ،‬فإنه يحاول تفسير‬
‫النسخ تفسير ًا ملتوي ًا‪ ،‬بحيث يصير دلي ً‬
‫ال على إثبات وقتية األحكام الشرعية وقابليتها‬
‫للتغير والتبديل‪ ،‬وأن تكون مح ً‬
‫ال لرغبات األمم والشعوب المختلفة‪ ،‬إقرار ًا أو إلغاء(((‪.‬‬

‫والنسخ عند إبراهيم فوزي تعبير من الشريعة اإلسالمية عن التغيرات التي تطرأ‬
‫عليها‪ ،‬وهو يستنكر بشدة ما أجمعت عليه األمة من امتناع النسخ بعد وفاة النبي ‪،#‬‬
‫داعي ًا إلى منع النسخ في العبادات‪ ،‬وإبقائه واستمراره في باب المعامالت‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫«رجال الفقه اإلسالمي قالوا بعدم جواز النسخ في الشريعة بعد وفاة النبي (‪ )#‬وانقطاع‬
‫الوحي‪ ،‬دون تمييز بين العبادات والمعامالت‪ ،‬وهذا القول يصح في العبادات‪ ،‬ألنها‬
‫من الدين وهي ثابتة ال يعتريها تغيير وال تبديل‪ ،‬مهما تغير الزمان والمكان‪ ،‬واختلفت‬
‫مصالح الناس‪ ،‬ولكن هذا القول ال يبدو صحيح ًا بالنسبة للمعامالت‪ ،‬التي هي بطبيعتها‬
‫متغيرة ومتبدلة‪ ،‬تبع ًا لتغير المجتمع‪ ،‬واختالف مصالح الناس وحاجاتهم االجتماعية‬
‫بين زمان وآخر‪ ،‬وهي ليست من الدين في شيء»(((‪.‬‬

‫((( المنصف عبد الجليل‪ :‬المنهج األنثروبولوجي في دراسة مصادر الفكر اإلسالمي ضمن موافقات‬
‫في قراءة النص الديني ص ‪.56‬‬
‫((( جمال البنا‪ :‬تثوير القرآن ص ‪.99‬‬
‫((( إبراهيم فوزي‪ :‬تدوين السنة ص ‪.13‬‬

‫‪289‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن المداخل التي وظفها العلمانيون وغلوا فيها أيض ًا‪ :‬قضية المصلحة‪ ،‬والتي‬
‫جعلوها قنطرة أو معبر ًا للتخلص من كل حكم ال يتفق مع أهوائهم‪ ،‬بحجة أنه يتعارض‬
‫مع المصلحة‪ ،‬وقد وصل الغلو ببعضهم إلى الدرجة التي ال يكتفي فيها بضرورة اعتبار‬
‫المصلحة وعدم تعارض النص معها‪ ،‬بل جعل المصلحة مصدر ًا فوقي ًا‪ ،‬يتقدم كل ما‬
‫سواه من المصادر‪.‬‬

‫ولحسن حنفي تقعيد خطير في هذا الباب‪ ،‬حيث جعل مصادر الشريعة كلها قائمة‬
‫ومؤسسة على المصلحة‪ ،‬فقال‪« :‬تقوم مصادر الشرع كلها‪ ،‬المتفق عليها أو المختلف‬
‫عليها‪ ،‬على مصدر واحد هو المصلحة‪ ،‬باعتبارها المصدر األول للتشريع»(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من غلو‪ ،‬وشطط‪ ،‬وتهور‪ ،‬وقلب لحقائق األمور المتفق‬
‫عليها بين األمة كلها‪ ،‬حيث أجمعت على أن القرآن هو مصدر الدين األول‪ ،‬وكلية الشريعة‪،‬‬
‫وعمدة الملة‪ ،‬وأنه ال طريق إلى الله سواه‪ ،‬وال نجاة بغيره‪ ،‬وال تمسك بشيء يخالفه(((‪.‬‬

‫وبناء على هذا التأصيل المنحرف لحقيقة المصلحة‪ ،‬انتهى حسن حنفي‪،‬‬
‫إلى تقديمها على الكتاب والسنة‪ ،‬فقال‪« :‬وإذا اتفق الكتاب والسنة واإلجماع على‬
‫المصلحة وجبت‪ ،‬وإن خالفاها وجب تقديم المصلحة عن طريق التخصيص‪ ،‬ألن‬
‫المصلحة أساس الكل‪ ،‬والجزء ال ينقض الكل»(((‪ ،‬ولم يتوقف الغلو والشطط في‬
‫تقدير المصلحة ومكانتها عند هذا الحد‪ ،‬بل صارت ال يطاولها دليل‪ ،‬وال يفوقها شيء‪،‬‬
‫وبنص كالم حسن حنفي‪ ،‬فإن «إنكار اإلجماع ممكن‪ ،‬ولكن إنكار المصلحة مستحيل‪،‬‬
‫وتتعارض النصوص‪ ،‬في حين أن رعاية المصلحة متفق عليها»(((‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬من النص إلى الواقع ‪.489/2‬‬


‫((( الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪.144/4‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬من النص إلى الواقع ‪.491/2‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.491/2‬‬

‫‪290‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫والمصلحة عند محمد أحمد خلف الله أصل‪ ،‬والنصوص بما فيها القرآن الكريم‬
‫فرع‪ ،‬والنتيجة الخطيرة المترتبة على ذلك التأصيل الباطل أن «النص القرآني إن لم‬
‫يكن قادر ًا على تحقيق المصلحة تركناه‪ ،‬ولجأنا إلى الفكر البشري‪ ،‬فإن مدار النصوص‬
‫على المصالح‪ ،‬فهي أصل والنصوص فرع»(((‪.‬‬

‫وانطالق ًا من أن مبدأ المصلحة يقف دائم ًا وراء كل تشريع‪ ،‬انتهى محمد النويهي لعدد‬
‫من النتائج الخطيرة التي تؤول إلى تغيير الشريعة وتبديلها تبع ًا لتلك المصالح المزعومة‪،‬‬
‫والتي تعني عنده أنه إذا تغير وجه المصلحة في أمر ما جاز لنا‪ ،‬بل وجب علينا أن ندخل‬
‫التغيير الالزم على التشريع‪ ،‬وحينئذ ليس علينا أن ننظر إال في شيء واحد فحسب وهو‬
‫«ما تقتضيه مصلحة األمة‪ ،‬وال يحق ألحد أن يعترض علينا بأي شيء في مصادر التشريع‬
‫اإلسالمي القديمة‪ ،‬ولو كان نص ًا قاطع ًا محكم ًا غير متشابه في القرآن نفسه»(((‪.‬‬

‫ويصل الغلو في قيمة المصلحة وأولويتها عند إبراهيم فوزي إلى سلب أي قيمة‬
‫ذاتية للشريعة أو القانون بعيد ًا عن المصلحة‪ ،‬فالمصلحة هي التي تعطي الشريعة‬
‫قيمتها‪ ،‬ومتى تغيرت تلك المصلحة فال بد من إيجاد تشريعات جديدة تتوافق معها‪،‬‬
‫وفي ذلك يقول‪« :‬ليس لهذه القواعد التي نسميها بالشريعة أو القانون قيمة في ذاتها‬
‫مستقلة عن مصلحة الناس الذين وضعت لهم‪ ،‬فقد خلقت لإلنسان ولم يخلق اإلنسان‬
‫لها‪ ،‬وهي تفقد قيمتها متى تغيرت المصلحة وحلت محلها مصلحة جديدة تستدعي‬
‫تنظيمها بقواعد حقوقية جديدة‪ ،‬فالعمل التشريعي والمجتمع طرفان في معادلة جبرية‪،‬‬
‫فعندما يتغير أحد جانبيها فإن الجانب اآلخر سيتبعه في التغير ال محالة»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬عبد السالم البسيوني‪ :‬اليسار اإلسالمي خنجر في ظهر اإلسالم ص ‪ ،34‬وامحمد رحماني‪:‬‬
‫قضية قراءة النص القرآني ص ‪.92‬‬
‫((( محمد النويهي‪ :‬نحو ثورة في الفكر الديني ص ‪.155 ،154‬‬
‫((( إبراهيم فوزي‪ :‬تدوين السنة ص ‪.13 ،12‬‬

‫‪291‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن المالحظ أن هناك محاوالت علمانية عدة إليجاد سوابق من تعامالت‬


‫المتقدمين تجاه األحكام الشرعية‪ ،‬تؤيد تلك الرؤية العلمانية والحداثية القائلة بوقتية‬
‫األحكام الشرعية‪ ،‬وفتح الباب لتغيرها بتغير الظروف‪ ،‬واألزمنة‪ ،‬واألمكنة‪.‬‬

‫ولعل اجتهادات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشهر النماذج‬
‫التي دأب العلمانيون على توظيفها‪ ،‬واالستشهاد المتكرر بها من أجل إضفاء المشروعية‬
‫على آرائهم(((‪.‬‬

‫ومن مسالكهم في التعامل مع االجتهادات العمرية الزعم بأنه رضي الله عنه ألغى‬
‫أو أوقف تطبيق األحكام الشرعية‪ ،‬ولكل من جاء بعده الحق أن يفعلوا مثله في إلغاء ما‬
‫يرونه غير صالح للتطبيق في عصرهم‪ ،‬وفي هذا المعنى يقول محمد النويهي‪« :‬حتى‬
‫تلك األحكام القرآنية التي كانت في عهد الرسول ملزمة جرؤ الخليفة الراشد عمر بن‬
‫الخطاب على أن يوقف تطبيق بعضها أو يلغيه إلغاء تام ًا‪ ،‬حين رأى أن تغير األحوال‬
‫في عصره ال يجعلها صالحة للتطبيق‪ ،‬وال يجعلها مؤدية إلى تحقيق الغايات السامية‬
‫التي نصبها القرآن‪ ،‬ولسنا نعتقد أن هذا الحق مقصور على عمر‪ ،‬أو سواه من الخلفاء‬
‫الراشدين والصحابة‪ ،‬بل نعتقد أنه مفتوح لنا أيض ًا‪ ،‬إذا اقتنعنا بضرورة تطبيقه في أي‬
‫مسألة من مسائلنا الدنيوية»(((‪.‬‬
‫ويشيد العشماوي بما فعله عمر رضي الله عنه‪ ،‬معتبر ًا إياه «فخر ًا لإلسالم‪ ،‬ودلي ً‬
‫ال‬
‫على أهمية االجتهاد‪ ،‬حتى ولو أدى إلى وقف حكم لم ينسخ قط»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪ ،394 ،393‬ود‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف‬
‫الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪ ،606‬ود‪ .‬سليمان الغصن‪ :‬إعادة قراءة النص‬
‫الشرعي واستهدافه في الفكر العربي المعاصر ص ‪.227‬‬
‫((( محمد النويهي‪ :‬نحو ثورة في الفكر الديني ص ‪.153‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬اإلسالم السياسي ص ‪.70‬‬

‫‪292‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫ولعل هذه الجملة األخيرة تفسر لنا علة ترحيبهم الشديد بفعل عمر رضي الله‬
‫عنه‪ ،‬وأنه ليس حب ًا في شخصه‪ ،‬أو نموذج الخالفة الراشدة عموم ًا‪ ،‬وإنما ألنه يمكن أن‬
‫يكون قنطرة يفسرونها بأسلوبهم الملتوي‪ ،‬إليقاف ما شاءوا من أحكام شرعية‪ ،‬بحجة‬
‫أنهم يفعلون مثلما فعل عمر رضي الله عنه‪.‬‬

‫أما محمد شحرور فقد انتهى إلى النتيجة نفسها‪ ،‬وإن اختلفت مقدماته للوصول‬
‫إليها‪ ،‬حيث جعل االجتهادات العمرية دلي ً‬
‫ال على صحة نظريته الشاذة والباطلة في التعامل‬
‫مع ما جاء في القرآن من حدود وعقوبات‪ ،‬زاعم ًا أن القرآن جاء بحد أعلى وحد أدنى لكل‬
‫عقوبة‪ ،‬ومن حق الناس في كل زمان أو مكان أن يختاروا ما شاءوا ضمن هذين الحدين‬
‫األعلى واألدنى(((‪ ،‬وبناء على هذا الفهم السقيم‪ ،‬ذهب إلى أن عمر رضي الله عنه لم يعطل‬
‫حد السرقة‪ ،‬وإنما أعرض عن العقوبة القصوى واختار الحد األدنى‪ ،‬ومن ثم فإن «اجتهاد‬
‫عمر بن الخطاب في عام الرمادة بعد قطع يد السارق ال يعني أنه عطل حد السرقة»(((‪.‬‬

‫وال شك أن تمحك العلمانيين في تصرفات عمر رضي الله عنه ليس بصحيح‬
‫مطلق ًا‪ ،‬وال حجة لهم فيه بحال(((‪ ،‬فأفعال الرسول ‪ #‬نفسه ليست بملزمة أو حجة‬
‫عندهم‪ ،‬فكيف بأفعال عمر رضي الله عنه‪ ،‬أو غيره من الخلفاء الراشدين‪.‬‬

‫ثم ال أدري‪ ،‬هل يقبلون أيض ًا بفتوحات عمر وغزواته‪ ،‬وعقابه لمن يطرحون‬
‫الشبهات كصبيغ بن عسل‪ ،‬أو شروطه التي ألزم بها أهل الذمة والمعروفة بالشروط‬

‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.452‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.474‬‬
‫((( انظر مناقشة مهمة حول هذا األمر عند‪ :‬د‪ .‬محمد بلتاجي‪ :‬منهج عمر بن الخطاب في التشريع ص‬
‫‪ ،186‬ود‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر ص ‪ ،232‬ود‪ .‬صالح‬
‫الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين ص ‪ ،606‬ود‪ .‬سليمان الغصن‪:‬‬
‫إعادة قراءة النص الشرعي واستهدافه في الفكر العربي المعاصر ص ‪.227‬‬

‫‪293‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫العمرية‪ ،‬وغير ذلك من أفعاله الجليلة رضي الله عنه‪ ،‬أم أن األمر ال يعدو انتقاء فج ًا‪،‬‬
‫ونوع ًا من العبث العلماني المعتاد في التعامل مع ما يوافق هواهم‪ ،‬ويروج لمذهبهم‪.‬‬

‫ويضاف لذلك أيض ًا أن ما ينادي به العلمانيون هو تنحية الحكم الشرعي تمام ًا‪،‬‬
‫وعدم كونه صالح ًا لعصرنا‪ ،‬أما عمر رضي الله عنه فلم يوقف حكم ًا شرعي ًا‪ ،‬ولم‬
‫يعطل حد ًا من حدود الله كحد السرقة في المجاعة مث ً‬
‫ال‪ ،‬وإنما رأى رضي الله عنه‬
‫أن مناط تطبيق الحكم‪ ،‬وشروط إيقاعه غير متوافرة في حال المخمصة الشديدة‪ ،‬ومن‬
‫ثم فال وجه لفعله‪ ،‬أما إذا توافرت الشروط فلم يكن يخطر ببال عمر وال غيره من‬
‫الصحابة رضي الله عنهم أن يتوانوا قط عن إنفاذ حكم الله‪ ،‬ولو بذلوا في ذلك دماءهم‬
‫وأرواحهم‪ ،‬إرضاء لله‪ ،‬وامتثا ً‬
‫ال ألمره‪ ،‬وإقامة لدينه وشرعه‪.‬‬

‫والمشكلة أن األمر عند العلمانيين لم يقتصر على اجتهادات عمر ‪ -‬رضي الله‬
‫عنه ‪ -‬بل وسع بعضهم الدائرة‪ ،‬ونسبوا هذا المسلك إلى الكثير من علماء المسلمين‪،‬‬
‫وقد ادعى طيب تيزيني أن «هذا ما فعله عظماؤنا في التاريخ العربي واإلسالمي»(((‪.‬‬
‫ومن ثم رأى أن «ما لم يعد من أحكام ذلك الماضي ‪ -‬ويقصد بذلك أحكام الشريعة‬
‫‪ -‬وقيمه وتقاليده وضوابطه قاب ً‬
‫ال للتطبيق مع مقتضيات العصر‪ ،‬فيتركه ذلك الوعي‬
‫باحترام وتقدير خارج دائرة هذه المقتضيات»(((‪.‬‬

‫ومن المهم أن نشير هنا إلى وجود نوع من التباين داخل الخطاب العلماني حول‬
‫نوعية األحكام القابلة للتغيير والتعديل‪ ،‬بحسب اختالف العصر وحاجات المجتمع‪،‬‬
‫فهناك من يرى اإلبقاء على العبادات كما هي‪ ،‬وعدم المساس بها وقصر التغيير على‬
‫مجال المعامالت فقط‪.‬‬

‫((( طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق ص ‪.85‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.85‬‬

‫‪294‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫وقد تبنى إبراهيم فوزي تلك الوجهة في كتابه «تدوين السنة» حيث ذهب إلى أن‬
‫الشريعة اإلسالمية تجمع ما بين العبادات والمعامالت‪ ،‬وقد حدث دمج بين هذين‬
‫البابين في شريعة واحدة‪ ،‬وهو األمر الذي ينتقده ألنه بحسب زعمه «أعطى للشريعة‬
‫اإلسالمية صفة دينية ثابتة‪ ،‬غير قابلة للتغيير والتبديل‪ ،‬مهما تغير المجتمع‪ ،‬وتبدلت‬
‫حياة الناس‪ ،‬واختلفت مصالحهم بين زمان وآخر»(((‪ ،‬والصواب في رأيه أن يفرق‬
‫بين العبادات والمعامالت‪ ،‬فالعبادات ثابتة وغير قابلة للتغيير والتبديل «وأما القواعد‬
‫واألحكام والتشريعات التي تنظم شؤون المجتمع وتفرض على الناس في عالقاتهم‬
‫مع بعضهم داخل المجتمع‪ ،‬فهي خاضعة بطبيعتها للتطور والتغير بتغير المجتمع‪،‬‬
‫وتبدل حاجات الناس االجتماعية»(((‪.‬‬

‫لكن هناك فريق ًا آخر من العلمانيين لم يتورع عن أن يوسع من مجال التغيير‬


‫والتبديل ألحكام الشريعة‪ ،‬حتى تشمل العبادات أيض ًا‪ ،‬إضافة للمعامالت بصورها‬
‫وأشكالها كافة‪.‬‬

‫وثمة نماذج عديدة في هذا الباب(((‪ ،‬منها تلك الدعوة الباطلة‪ ،‬والمصادمة للنص‬
‫واإلجماع والمعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬والتي تبناها عبد المجيد الشرفي‪ ،‬وشكك‬
‫من خاللها في وجوب الصلوات الخمس على كل مسلم‪ ،‬ودعا بد ً‬
‫ال من ذلك إلى‬
‫اعتبارها أمر ًا اختياري ًا متروك ًا لظروف كل شخص‪ ،‬متعل ً‬
‫ال بأن «ظروف المجتمعات‬

‫((( إبراهيم فوزي‪ :‬تدوين السنة ص ‪.12‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.12‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمود كالو‪ :‬القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير ص ‪،151‬‬
‫ود‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر ص ‪ ،286‬ود‪ .‬أحمد الطعان‪:‬‬
‫العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪ ،833‬ود‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من‬
‫محكمات الدين ص ‪ ،834‬ود‪ .‬سليمان بن صالح الغصن‪ :‬إعادة قراءة النص الشرعي واستهدافه‬
‫في الفكر العربي المعاصر ص ‪.410‬‬

‫‪295‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الحديثة لم تعد هي نفس الظروف التي كان يمكن تأدية الصلوات الخمس فيها‪ ،‬دون‬
‫أن يخل ذلك بالحياة االقتصادية‪ .‬في الماضي لم تكن الصناعية موجودة‪ ،‬أما اليوم‬
‫فالحياة الصناعية ال تتحمل االنقطاع في أوقات معينة للصالة‪ .‬كان يمكن للراعي أو‬
‫التاجر البسيط أو الحرفي أن يؤدي هذه الشعائر دون مشكلة‪ ،‬وليس األمر كذلك في‬
‫عصرنا‪ ،‬لقد تغيرت الظروف‪ ،‬لكن الموقف من أداء الصلوات الخمس لم يتغير إال في‬
‫الواقع‪ ،‬أما نظري ًا فبقي كما هو»(((‪.‬‬

‫كذلك نادى الشرفي بإعادة النظر في فرضية الصيام على عموم المسلمين‪،‬‬
‫وقد انتهى بعد خوض وخلط خاطئ في تفسير آيات الصيام‪ ،‬وربطها بأسباب نزولها‬
‫ووضعها التاريخي‪ ،‬إلى القول بأن المسلم مخير بين أن يصوم أو أن يطعم(((‪ ،‬وال‬
‫شك أن كل دارس مبتدئ للفقه اإلسالمي يعلم أن هذا الرأي باطل تمام ًا‪ ،‬ومخالف‬
‫إلجماع األمة‪ ،‬ولم يقل به أحد قط بالنسبة للصحيح المقيم الخالي من األعذار المبيحة‬
‫للفطر(((‪.‬‬

‫ومن النماذج األخرى دعوة كل من عبد المجيد الشرفي(((‪ ،‬وخليل عبد الكريم‬
‫(((‬

‫إللغاء فريضة الحجاب‪ ،‬بحجة الرجوع ألسباب النزول‪ ،‬والتعويل على وقتية األحكام‪.‬‬

‫وقد بنى الشرفي رأيه المنحرف هذا على كالم مضحك‪ ،‬وهو أشبه بالهزل منه‬
‫للجد‪ ،‬ولعل من المفيد أن نسوقه بحذافيره‪ ،‬ليظهر للقارئ أي مستوى من الخطاب‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪ ،82 ،81‬وانظر أيض ًا‪ :‬تحديث الفكر‬
‫اإلسالمي ص ‪.87‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪ ،182 - 165‬ومرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪،84‬‬
‫وتحديث الفكر اإلسالمي ص ‪.88‬‬
‫((( انظر‪ :‬بحثنا‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.111‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪.48‬‬
‫((( انظر‪ :‬خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي ضمن األعمال الكاملة ص ‪.110‬‬

‫‪296‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫الذي يتذرع به أولئك العلمانيون المتشدقون بالعقل والعقالنية‪ ،‬حيث يقول‪« :‬اإلسالم‬
‫األول‪ ،‬الذي نشأت فيه األحكام الفقهية قد ظهر في بيئة أو ً‬
‫ال يعز فيها الماء‪ ،‬وثاني ًا تكثر‬
‫فيها الحرارة والرياح التي تهب في الصحراء‪ ،‬ومن شأن هاتين الظاهرتين المناخيتين‬
‫أن تكونا عام ً‬
‫ال من عوامل التفاعل مع المناخ الصحراوي الجاف‪ ،‬ولذلك فالنساء‬
‫والرجال في الصحراء‪ ،‬وفي المناطق الحارة يغطون ويغطين رؤوسهم ورؤوسهن‪،‬‬
‫وما نالحظ اليوم هو أن الفكر اإلسالمي ال يعي وعي ًا كام ً‬
‫ال بهذه األبعاد التاريخية‬
‫واألنتربولوجية لظاهرة الخمار‪ ،‬وفي األدبيات الشائعة يكتفى بأن يفرض على المرأة‬
‫دون الرجل‪ ،‬وتتوهم المرأة أن ذلك حكم شرعي‪ ،‬بل حكم قرآني»(((‪.‬‬

‫أما خليل عبد الكريم فقد زعم أن الحجاب شرع للتمييز بين الحرائر واإلماء‪،‬‬
‫حتى ال يتعرض أحد للنسوة الحرائر‪ ،‬وطالما أن الرق قد ألغي‪ ،‬ولم يعد هناك انقسام‬
‫بين الحرائر واإلماء‪ ،‬كما لم يعد هناك إيذاء تتعرض له النساء بسبب الزي أو الملبس‬
‫الطبقي‪ ،‬فإن محصلة ذلك كله هي «أن التمسك بما يعرف بالحجاب هو التفات إلى‬
‫حرفية النصوص‪ ،‬وغفلة عن مغزاها‪ ،‬ومعناها‪ ،‬ومقصدها‪ ،‬والهدف الذي تبتغيه» (((‪.‬‬

‫وهكذا تعددت المداخل واآلليات التي حاول العلمانيون توظيفها إلثبات وقتية‬
‫األحكام الشرعية وقابليتها للتبديل والتغيير‪ ،‬ما بين أسباب النزول‪ ،‬ونزول القرآن‬
‫منجم ًا‪ ،‬والنسخ‪ ،‬والمصلحة‪ ،‬واجتهادات بعض الصحابة مثل عمر بن الخطاب رضي‬
‫الله عنه‪ ،‬ومقصدهم من ذلك كله االحتيال على المطالعين لكالمهم‪ ،‬واإليهام بأن لهذا‬
‫الكالم أسس ًا إسالمية‪ ،‬مبثوثة في علوم القرآن والفقه واألصول‪ ،‬وغيرها من العلوم‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪.48‬‬


‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي ضمن األعمال الكاملة ص ‪.110‬‬

‫‪297‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫لكن لماذا لم تنجح محاوالتهم لترسيخ تلك األفكار في المجتمع اإلسالمي؟‬


‫هنا يحيد العلمانيون عن الجواب الصحيح‪ ،‬وأن سبب ذلك بطالن تلك األفكار في‬
‫ذاتها‪ ،‬ومصادمتها لما استقر في عقائد المسلمين من تعظيم الشريعة‪ ،‬واعتقاد عموم‬
‫أحكامها وثباتها‪ ،‬وشمولها لسائر المكلفين‪.‬‬

‫حمل نفر من العلمانيين ما يصفونه بالعقل السلفي التدويني‪،‬‬ ‫وبد ً‬


‫ال من ذلك ّ‬
‫الذي أسس مسيرة العلوم اإلسالمية مسؤولية الحيلولة دون انتشار تلك األفكار‪ ،‬فهذا‬
‫العقل قد الحظ «ظاهرة االمتناع عن التشريع في القرآن المكي‪ ،‬والحظ ظاهرة النزول‬
‫المفرق للقرآن‪ ،‬وأقر بعالقة السببية التي تربط بين اآليات والحوادث‪ ،‬كما الحظ تغير‬
‫األحكام خالل مرحلة التنزيل‪ ،‬ووقف على الصياغة النيوية المتباينة في النص ما بين‬
‫العام والخاص‪ ،‬ومع ذلك لم يتسن لهذا العقل الوقوف على المعنى االجتماعي في‬
‫هذه الظواهر‪ ،‬ومن ثم التقاط العد النسبي لألحكام التشريعية‪ ،‬وارتباطها بظروفها‬
‫الجغرافية الزمنية‪ ،‬بل على العكس من ذلك مضى كما يجب أن نتوقع في االتجاه‬
‫المضاد‪ ،‬فألحق هذه األحكام بالمطلق الديني المؤبد‪ ،‬باعتبارها جزء ًا من بنية النص‬
‫التي صارت مقدسة في ذاتها»(((‪.‬‬

‫ويتهم عبد الجواد يس هذا العقل المزعوم بأنه قام بإجهاض كل تلك المداخل‬
‫التي عول عليها العلمانيون‪ ،‬حيث فرغ «ظاهرة التنجيم من مضمونها‪ ،‬عبر تبنيه لمقولة‬
‫النزول المجمل للقرآن من اللوح المحفوظ‪ ،‬وصادر على فاعلية أسباب النزول من‬
‫خالل الحيل األصولية التي ربطت السبب باآلية ال بالحكم الذي تحمله (العبرة بعموم‬
‫اللفظ ال بخصوص السبب) كما تجاهل الداللة الجدلية لتغير األحكام خالل فترة‬

‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.45‬‬

‫‪298‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬

‫التنزيل القصيرة‪ ،‬عبر التعاطي مع مفهوم النسخ كعملية نظرية تتعلق ببنية النص‪ ،‬وليس‬
‫كمسار واقعي لتاريخ الجماعة المسلمة األولى في إطاره اإلجمالي»(((‪.‬‬

‫وأخير ًا فال بد من التأكيد على أنه ال وجه للمشابهة مطلق ًا بين وصف الفقه‬
‫اإلسالمي بالمرونة والقدرة على مواكبة المتغيرات عبر الزمان؛ وما يدعو إليه هؤالء‬
‫العلمانيون من وقتية األحكام الشرعية‪ ،‬وقابليتها للتغيير والتبديل‪.‬‬

‫فسمة المرونة يقصد بها تأكيد صالحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان‪،‬‬
‫وقدرتها على حل ما يواجهه الناس من نوازل ومشكالت‪ ،‬أما تشكيكات العلمانيين‬
‫فتصب في هدف واحد‪ ،‬وهو القول بعدم صالحية الحكم الشرعي لكل زمان ومكان‪،‬‬
‫وكونه وقتي ًا محلي ًا جاء لزمان ووقت مضى وبيئة مختلفة‪ ،‬ولم يعد متالئم ًا مع الوضع‬
‫الحالي((( زمان ًا ومكان ًا‪ ،‬وهو ما يستلزم تغييره وتعديله‪.‬‬

‫ومن التناقض الفج أن هؤالء العلمانيين الذين يستكثرون أن يحكموا بمبادئ‬


‫الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ألنها تشمل نصوص ًا نزلت من مئات السنين‪ ،‬ال يستنكرون بحال‬
‫وجود عدد من النصوص الوضعية في البالد الغربية والعربية يعود بعضها إلى مائتي‬
‫سنة أو يزيد‪ ،‬مثل القانون المدني الفرنسي الذي صدر أيام حكم نابليون فرنسا‪ ،‬ومنها‬
‫سوابق تشريعية قضائية عرفتها بريطانيا مث ً‬
‫ال من مئات السنين‪ ،‬ومجموعات القوانين‬
‫التي صدرت في مصر سنة ‪ ،1883‬وبعضها ظل يعمل لسبعين سنة تقريب ًا‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫القانون المدني القديم اآلخذ من القانون المختلط الصادر في ‪ ،1875‬وهو اآلخذ‬
‫من القانون الفرنسي‪ ،‬وبعض هذه المصادر ظل يعمل عشرات السنين في مصر‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.46 ،45‬‬


‫((( انظر‪ :‬أمحمد رحماني‪ :‬قضية قراءة النص الديني ص ‪.101‬‬

‫‪299‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫القانون التجاري والقانون البحري‪ ،‬وعاصر كل ذلك ‪ -‬سواء في فرنسا وإيطاليا أو‬
‫في مصر ‪ -‬نظم ًا سياسية ودستورية واقتصادية ومستويات تطور في األساليب التقنية‬
‫ومذاهب فكرية وثقافية وعادات عيش ونظم عمل(((‪.‬‬

‫((( طارق البشري‪ :‬بحث‪ :‬النص بين التشريع واإلخبار ‪http://vb.tafsir.net/tafsir10444/#.‬‬


‫‪Vxtiwkco-w4‬‬

‫‪300‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫التناقضات واإلشكاالت المنهجية في‬
‫الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وحيتوي عىل مبحثني‪:‬‬

‫» »املبحث األول‪ :‬ظاهرة التناقض يف كتابات‬


‫العلامنيني‪.‬‬

‫» »املبحث الثاين‪ :‬نــاذج من التناقضات‬


‫واإلشكاالت املنهجية يف موقف العلامنيني‬
‫من أسباب النزول‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫المبحث األول‬

‫ظاهرة التناقض في كتابات العلمانيين‬

‫ال يمل العلمانيون‪ ،‬والحداثيون العرب من تكرار الكالم عن ضرورة إعالء قيم‬
‫العقالنية‪ ،‬والدقة‪ ،‬والمنهجية الصارمة‪ ،‬والدعوة إلى االلتزام بتلك القيم كمخرج من‬
‫حالة التدهور والتخلف التي تمر بها المجتمعات العربية واإلسالمية‪ ،‬كما أنهم ما‬
‫انفكوا يرمون خصومهم من اإلسالميين بالرجعية‪ ،‬والجمود والتسليم الساذج‪ ،‬وغياب‬
‫النقد‪ ،‬والتناسق المنهجي في بناء أفكارهم‪.‬‬

‫فإذا ما جئنا إلى الواقع الفعلي‪ ،‬وتتبعنا مؤلفات هؤالء العلمانيين‪ ،‬لنرى هل‬
‫توافقت أقوالهم مع واقعهم‪ ،‬وطبيعة اآلراء التي تبنوها أم ال؟ فسوف نالحظ بوضوح‬
‫أن سمة التناقض‪ ،‬وتضارب اآلراء تعتبر مسلك ًا ظاهر ًا ومطرد ًا‪ ،‬يمكن رصد العديد من‬
‫نماذجه الواضحة في جل إنتاجهم الفكري ‪ -‬كتب ًا وأبحاث ًا ومقاالت ‪ -‬سواء فيما يتصل‬
‫بالمنهج العام‪ ،‬واإلطار الفكري الحاكم لكتاباتهم‪ ،‬أو فيما يتعلق بالتطبيق الفعلي‬
‫لهذا المنهج‪ ،‬وال سيما في الجوانب المتعلقة بتعاملهم مع العلوم اإلسالمية‪ :‬منهج ًا‪،‬‬
‫ومسائل‪ ،‬وشخصيات‪.‬‬

‫وليس التناقض الذي نقصده هنا هو من ذلك النوع الراجع إلى التطور الفكري‬
‫للكاتب‪ ،‬أو انتقاله من مذهب فكري آلخر‪ ،‬أو مروره بسلسلة من التحوالت أو‬
‫المراجعات الفكرية؛ ألن ذلك كله يمكن معرفته من خالل تواريخ اإلنتاج الفكري‬
‫للشخص‪ ،‬ومسيرة حياته العلمية‪ ،‬أو تصريحه بالتراجع عما كان يتبناه سابق ًا من آراء‪،‬‬
‫وإنما هو تناقض في موقف الشخص الواحد من القضية نفسها‪ ،‬أو قضايا متشابهة ال‬

‫‪303‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫فرق مؤثر بينها‪ ،‬فيثبت شيئ ًا في موضع‪ ،‬ثم ينفيه في موضع آخر‪ ،‬أو يتبنى رأي ًا ويشيد به‬
‫في مكان‪ ،‬ثم يهاجم ويرفض ما يشابهه في مكان آخر‪.‬‬

‫وإضافة لهذه الصورة من التناقض لدى الشخص الواحد‪ ،‬فثمة أنواع أخرى من‬
‫التناقض داخل االتجاه الحداثي كلي ًا‪ ،‬حيث نجد تضارب ًا واختالف ًا في المسألة الواحدة‬
‫من أقصى اليمين إلى اليسار‪ ،‬حيث يتبنى بعضهم رأي ًا‪ ،‬ويتبنى آخرون رأي ًا مناقض ًا له‪ ،‬مع‬
‫أن المفترض فيهم جميع ًا أنهم يصدرون عن توجهات فكرية علمانية وحداثية واحدة‪.‬‬

‫وربما كانت كتابات حسن حنفي من أبرز النماذج التي تحتوي على كم كبير من‬
‫التناقضات‪ ،‬التي أثارت حفيظة نفر من العلمانيين أنفسهم‪ ،‬فأبدوا دهشتهم الشديدة‬
‫منها‪ ،‬واستنكارهم لها‪ ،‬بل ألف أحدهم ‪ -‬وهو جورج طرابيشي ‪ -‬كتاب ًا مستق ً‬
‫ال‬
‫لرصدها‪ ،‬وتتبع نماذجها العديدة (((‪.‬‬

‫وقد دفعت تلك التناقضات الكثيرة علماني ًا عتيد ًا‪ ،‬مثل فؤاد زكريا أن يتساءل‬
‫عما إذا كان في قدرة قارئ حسن حنفي «أن يظل محتفظ ًا بقواه العقلية سليمة‬
‫بعد أن يتراقص مع كاتبنا في حلقة المتناقضات الجنونية‪ ،‬التي تدور فيها معالجته‬
‫للموضوع»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه أشار صالح هاشم إلى هذا التناقض الظاهر في كتابات‬
‫حسن حنفي إلى درجة أنه «قال الشيء وضده عن كل شيء تقريب ًا‪ :‬عن الدين‬
‫والتاريخ‪ ،‬واإلسالم‪ ،‬واالستشراق‪ ،‬والوحي‪ ،‬والفقه‪ ،‬والشريعة‪ ،‬والحضارة األوربية‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬كتاب جورج طرابيشي‪ :‬ازدواجية العقل‪ ،‬دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي‪ ،‬دار بترا‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى ‪.2005‬‬
‫((( فؤاد زكريا‪ :‬مستقبل األصولية اإلسالمية‪ ،‬بحث نقدي في ضوء دراسة للدكتور حسن حنفي‪ ،‬مجلة‬
‫ال عن جورج طرابيشي‪ :‬ازدواجية العقل‪ ،‬دراسة تحليلية نفسية‬ ‫فكر‪ ،‬العدد ‪ 1984 ،4‬م ص ‪ ،17‬نق ً‬
‫لكتابات حسن حنفي ص ‪.9‬‬

‫‪304‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫إلخ‪ ..‬بإمكانك أن تجد عند حسن حنفي األطروحة ونقيضها في كل موضوع من‬
‫الموضوعات المطروقة‪ ،‬فهناك حسن حنفي الحداثي جد ًا‪ ،‬وهناك حسن حنفي التراثي‬
‫جد ًا‪ ،‬ولك الخيار‪ ،‬وإن كانت الغلبة للثاني بالطبع‪ ،‬فالمفكر المصري المعروف يدافع‬
‫أحيان ًا عن االنفتاح‪ ،‬ويدافع أحيان ًا أخرى عن السلفية واالنغالق‪ ،‬من دون أن يشعر بأنه‬
‫ارتكب خطيئة أو ذنب ًا‪ ،‬ويدافع أحيان ًا عن نظرية فويرباخ الخاصة بالدين‪ ،‬ثم سرعان‬
‫ما ينقضها‪ .‬ويدافع عن الفقهاء ثم سرعان ما يهجوهم‪ ،‬ويدافع عن العقيدة الغربية في‬
‫بعض النصوص ثم ُيسخفها ويقلل من أهميتها في نصوص أخرى عديدة‪ ،‬ويدافع عن‬
‫المنهج التاريخي للمستشرقين‪ ،‬ثم يرتد عليه الحق ًا‪ ،‬وهكذا دواليك»(((‪.‬‬

‫أما جورج طرابيشي‪ ،‬فيرى أن أكثر ما يلفت نظر القارئ لكتابات حسن حنفي‪:‬‬
‫قدرة كاتبها على مناقضة نفسه‪ ،‬بحيث ال يضع قضية إال لينفيها‪ ،‬وال يبدي رأي ًا إال‬
‫ليقول عكسه‪ ،‬وما من كاتب «أتقن رقصة المتناقضات كما أتقنها حسن حنفي‪ ،‬وهذا‬
‫ليس فقط بين مؤلف وآخر‪ ،‬أو بين طور سابق وطور الحق من أطوار التطور الفكري‪،‬‬
‫التي يكاد يكون من المحتم أن يمر بها كل كاتب في عصر التقدم والتقلب السريعين‬
‫لأليديولوجيات ولألنظمة المعرفية هذا‪ ،‬بل كذلك بين فصول الكتاب الواحد‪ ،‬دونما‬
‫أي اعتبار للفاصل الزمني‪ .‬ولعله ال يكفي أن نقول إن وحدة األضداد هي المناخ العام‬
‫الذي تسبح فيه كل كتابات حسن حنفي‪ ،‬بل ربما كان من الضروري أن نضيف أن‬
‫وحدة األضداد تلك هي التي تصنع وحدة شخصيته ككاتب ومفكر‪ ،‬فكما يفكر كتاب‬
‫آخرون بوساطة االستدالل أو الحدس أو الشطح أو المفارقة‪ ،‬يفكر حسن حنفي‬
‫بواسطة التناقض»(((‪.‬‬

‫((( هاشم صالح‪ :‬االنسداد التاريخي ص ‪.269 ،268‬‬


‫((( جورج طرابيشي‪ :‬ازدواجية العقل‪ ،‬دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي ص ‪.10‬‬

‫‪305‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وتناقضات حسن حنفي ‪ -‬في رأي طرابيشي ‪ -‬من الكثرة والتنوع بحيث يتعين‬
‫على من يريد حصرها أن يعيد كتابة جميع مؤلفاته تحلي ً‬
‫ال وتلخيص ًا ومقابلة‪ ،‬ويكفي أن‬
‫يشار هنا إلى أنها شملت أنواع ًا شتى‪ ،‬فهناك التناقض في الموقف المنهجي‪ ،‬والتناقض‬
‫في القضايا‪ ،‬والتناقض في الموقف من الوقائع‪ ،‬وفي الموقف من النصوص‪ ،‬وفي‬
‫الموقف من األشخاص(((‪ ،‬وتحت كل نوع من هذه األنواع أمثلة جزئية يطول األمر‬
‫بحصرها وتتبعها باستقصاء تام‪.‬‬

‫ونظر ًا لكثرة التناقضات العلمانية‪ ،‬وتنوع موضوعاتها‪ ،‬وطول المقام إذا رمنا‬
‫حصرها تفصي ً‬
‫ال‪ ،‬فسوف نشير فيما يلي إلى بعض نماذج منها‪ ،‬مع التنبيه إلى أن هذا‬
‫الموضوع يستحق أن يفرد ببحث مستقل‪.‬‬

‫‪ -1‬امتد التناقض واالختالف الحاد لدى العلمانيين إلى قضايا مهمة وأساسية‬
‫وثيقة الصلة بموضوع الدولة في اإلسالم وعالقتها بالدين‪ ،‬وهل أسس الرسول ‪#‬‬
‫دولة أم ال؟ وما طبيعة تلك الدولة على فرض تأسيسها‪.‬‬

‫وال يخفى أن تلك المسائل كلها تعتبر مرتكز ًا أساس ًا للفكر الحداثي العلماني‪،‬‬
‫ومميز ًا له عن غيره من االتجاهات الفكرية‪ ،‬وكان المتوقع أن نجد لهم موقف ًا واحد ًا‬
‫منها‪ ،‬أو على األقل موقف ًا متقارب ًا‪ ،‬وليس مختلف ًا اختالف ًا بين ًا‪.‬‬

‫والمتتبع لكتابات العلمانيين في موقفهم من دولة الرسول ‪ #‬يقف على إجابات‬


‫متعددة(((‪:‬‬

‫فهناك فريق أول يرى أن الرسول ‪ #‬أسس دولة في المدينة وإن اختلفوا في وصف‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.11‬‬


‫((( انظر تفصيل ذلك عند‪ :‬ماجد بن محمد األسمري‪ :‬العلمانيون والنبوة ص ‪.43 - 38‬‬

‫‪306‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫هذه الدولة‪ ،‬فمنهم((( من يرى أنها كانت دولة دينية‪ ،‬باعتبار أن مؤسسها كان يتلقى‬
‫الوحي‪ ،‬لكن ال يجوز لمثل هذه الدولة أن تستمر بعد وفاته ‪ ،#‬ومنهم((( من رأى أن‬
‫الرسول ‪ #‬أسس دولة لكنها كانت دولة ديمقراطية‪ ،‬ومنهم((( من رأى أنها كانت دولة‬
‫ذات طابع قبلي تحكم من منطق القبيلة ال الدين‪ ،‬ومنطق العادات واألعراف(((‪.‬‬

‫وهناك فريق ثان ذهب إلى أن الرسول ‪ #‬لم يكون دولة‪ ،‬وإنما كانت دعوته‬
‫وواليته على قومه والية روحية‪ ،‬وال يوجد في اإلسالم نظام سياسي(((‪ ،‬وأمر الدولة‬
‫خارج عن موضوع الدين‪ ،‬وليس من شؤونه بحال(((‪ ،‬كما مال واحد منهم ‪ -‬وهو عبد‬
‫المجيد الشرفي ‪ -‬إلى أن دولة اإلسالم لم تنشأ حقيقة في عهد الرسول ‪ ،#‬وإنما‬
‫نشأت بصورة تدريجية في عهد أبي بكر وبالخصوص في عهد عمر‪ ،‬والذين أسسوها‬
‫إنما أسسوها على غرار ما كان موجود ًا في القديم‪ ،‬وعلى غرار اإلمبراطوريتين‬
‫الساسانية والبيزنطية(((‪ ،‬وكل ما ارتآه المسلمون في الجانب السياسي‪ ،‬لم يكن الباعث‬
‫عليه إسالمي ًا‪ ،‬بقدر ما كان عملي ًا‪ ،‬تقترب مظاهره من مبادئ الرسالة المحمدية حين ًا‪،‬‬
‫وتبتعد حين ًا آخر(((‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪ ،141‬ونقد د‪ .‬محمد عمارة له في سقوط‬
‫الغلو العلماني ص ‪ ،187 - 169‬وخليل عبد الكريم‪ :‬اإلسالم بين الدولة الدينية والدولة المدنية‬
‫ص ‪.13‬‬
‫((( انظر‪ :‬جابر عصفور‪ :‬نحو ثقافة مغايرة ص ‪.192‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ :‬العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته ص ‪ ،140‬وفي نقد الحاجة‬
‫إلى اإلصالح ص ‪.88‬‬
‫((( انظر‪ :‬ماجد بن محمد األسمري‪ :‬العلمانيون والنبوة ص ‪.40 - 38‬‬
‫((( انظر‪ :‬علي عبد الرازق‪ :‬اإلسالم وأصول الحكم ص ‪ ،141‬وماجد بن محمد األسمري‪ :‬العلمانيون‬
‫والنبوة ص ‪.41‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد الشرفي‪ :‬اإلسالم والحرية‪ ،‬سوء الفهم التاريخي ص ‪.141‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪.7‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.111‬‬

‫‪307‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وهناك فريق ثالث مثل محمد عابد الجابري تذبذبت آراؤه‪ ،‬فتارة يذهب إلى أنه‬
‫لم يكن من مشروع النبي ‪ #‬منذ بداية دعوته إنشاء دولة‪ ،‬وتارة يقر بأن اإلسالم دين‬
‫ودولة‪ ،‬وفي موطن ثالث يصف هذه الدولة بأنها كانت ذات طابع قبلي(((‪.‬‬

‫‪ -2‬ومن أمثلة التناقضات المسلكية لدى العلمانيين أنهم يلحون ‪ -‬نظري ًا ‪ -‬على‬
‫إعالء قيم التسامح‪ ،‬وقبول اآلخر‪ ،‬واحترامه‪ ،‬وعدم حصر الصواب في قول واحد‪،‬‬
‫وضرورة نبذ مسالك اإلقصاء واألحادية في الرأي وتشويه المخالفين‪ ،‬لكن المسالك‬
‫العملية لجمهرتهم تناقض ذلك تمام ًا‪ ،‬حيث تشيع في كتاباتهم ومواقفهم عبارات‬
‫التجهيل والسب‪ ،‬واالتهامات المرسلة‪ ،‬والدعوة للنبذ واإلقصاء لمن يخالفهم من‬
‫العلماء‪ ،‬سواء كانوا من القدامى أو من المعاصرين‪.‬‬

‫فمحمد أركون يصف العلماء القدامى باالنتهازية‪ ،‬واالنبطاح‪ ،‬والسير وراء‬


‫المصالح واألهواء في تعاملهم مع قضية الناسخ والمنسوخ فيقول‪« :‬إن انتهازية‬
‫المشرعين تصبح أكثر وضوح ًا وجالء عندما ينتطحون لتعيين اآليات الناسخة‬
‫والمنسوخة‪ ،‬فهنا ينعتون بالمنسوخة تلك اآليات التي تتضمن أحكام ًا ال تناسب‬
‫مواقعهم ومصالحهم‪ ،‬وأما الناسخة فهي التي تمشى في خط اتجاههم»(((‪.‬‬

‫ويواصل أركون اتهاماته الظالمة للفقهاء‪ ،‬واصف ًا إياهم بالمشرعين من البشر‪ ،‬الذين‬
‫اتبعوا الهوى‪ ،‬وتالعبوا بآيات القرآن فيقول‪« :‬إن المشرعين من البشر ‪ -‬أي الفقهاء ‪-‬‬
‫قد سمحوا ألنفسهم بالتالعب باآليات القرآنية من أجل تشكيل علم للتوريث‪ ،‬يتناسب‬
‫مع اإلكراهات والقيود االجتماعية واالقتصادية الخاصة بالمجتمعات التي اشتغل فيها‬

‫((( انظر‪ :‬محمد عابد الجابري وحسن حنفي‪ :‬حوار المشرق والمغرب نحو إعادة بناء الفكر القومي‬
‫العربي ص ‪ ،102‬ومحمد عابد الجابري‪ :‬العقل السياسي العربي ص ‪ ،140‬وماجد بن محمد‬
‫األسمري‪ :‬العلمانيون والنبوة ص ‪.42 ،41‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.39 ،38‬‬

‫‪308‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫الفقهاء األوائل (أو باألحرى الخاصة بالفئات االجتماعية التي اشتغلوا داخلها لكي‬
‫نكون أكثر دقة) بكل مصالح هذه الفئات وعاداتها وتقاليدها‪ ،‬واألداة التي استخدموها‬
‫إلبطال اآليات‪ ..‬تتمثل بمبدأ الناسخ والمنسوخ‪ ،‬باإلضافة إلى التالعب النحوي‬
‫والمعنوي بالنسبة لآلية رقم ‪ 12‬من سورة النساء»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه سار هاشم صالح‪ ،‬فاتهم الفقهاء بأنهم «فسروا القرآن‬
‫بالطريقة التي تناسبهم‪ ،‬بل واحتالوا عليه من أجل المحافظة على نظام اإلرث‬
‫العربي الذي كان سائد ًا قبل ظهور اإلسالم‪ ،‬والذي حاول القرآن تغييره أو تعديله‬
‫بشكل جذري»(((‪ .‬كما اعتبر أن ما يعرف بنسخ الحكم دون نسخ التالوة يعد «أكبر‬
‫دليل على كيفية احتيال الفقهاء على اآليات القرآنية التي ال تتناسب مع مقاصدهم‪،‬‬
‫فيقومون بتحييدها»(((‪.‬‬

‫ويرمي محمد شحرور علماء أهل السنة والثقافة اإلسالمية بأسرها‪ ،‬منذ عصر‬
‫الخليفة العباسي المتوكل وحتى يومنا هذا‪ ،‬بأشنع التهم وأقسى األوصاف‪ ،‬زاعم ًا أنه‬
‫منذ عصر المتوكل «صار علماء السنة النبوية علماء السلطة‪ ،‬وأصبح الفقه والسلطة‬
‫توأمين ال يفترقان‪ ،‬وأصبح اإلرهاب ومصادرة العقل وتقويض اآلخر بالتكفير هو‬
‫األساس‪ ،‬وغدت شعارات الردة والزندقة والهرطقة والخروج على اإلجماع هي‬
‫معايير التعامل مع اآلخر حتى يومنا هذا‪ ،‬فتحولت الثقافة العربية اإلسالمية بالتدريج‬
‫منذ عهد المتوكل إلى ثقافة مسطحة ال محل فيها لبعد الصيرورة‪ ،‬وإلى ثقافة ضعيفة‬
‫هشة ال تستطيع الصمود أمام ثقافات ذات ثالثة أبعاد إال بالقوة والعنف»(((‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.67‬‬


‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.67‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.73‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬نحو أصول فقه جديد ص ‪.61‬‬

‫‪309‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال يكاد ينقضي تعجب القارئ لكالم هؤالء النفر من العلمانيين من دعاويهم‬
‫العريضة‪ ،‬وأحكامهم الفجة التي تفتقر ألبسط قواعد المنهجية العلمية وضوابطها‪ ،‬إذ‬
‫كيف تأتى له أن يحكم على ثقافة إسالمية وعلماء مسلمين على امتداد أكثر من اثني‬
‫عشر قرن ًا بهذا الحكم المجحف‪ ،‬والذي يحتاج الستقراء وتتبع لتراث هؤالء العلماء‪،‬‬
‫ومناهجهم‪ ،‬وطرائقهم في التأليف والتأصيل وتقعيد القواعد‪ ،‬وهي أمور ال علم يذكر‬
‫لجمهرة العلمانيين بها‪.‬‬

‫وتزداد المفارقة وضوح ًا‪ ،‬حينما نقارن هذا االستخفاف العلماني بإطالق‬
‫األحكام على عواهنها دون تتبع أو استقراء كافيين بالجهد العلمي الهائل الذي بذله‬
‫إمام كبير ومحدث فذ‪ ،‬وهو اإلمام البخاري‪ ،‬كي يستقرأ اعتقاد علماء زمانه‪ ،‬حيث‬
‫قال‪« :‬لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم‪ ،‬أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة‬
‫والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر‪ ،‬لقيتهم كرات‪ ،‬قرن ًا بعد قرن‪ ،‬ثم قرن ًا بعد قرن‪،‬‬
‫أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة‪ ،‬أهل الشام ومصر والجزيرة‬
‫مرتين‪ ،‬والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد بالحجاز ستة أعوام‪ ،‬وال أحصي كم‬
‫دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي أهل خراسان»(((‪.‬‬

‫وبعد أن ساق البخاري عدد ًا كبير ًا من أسماء المحدثين بشتى أقطار العالم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬قال‪« :‬واكتفينا بتسمية هؤالء كي يكون مختصر ًا‪ ،‬وأن ال يطول ذلك‪ ،‬فما‬
‫رأيت واحد ًا منهم يختلف في هذه األشياء‪ :‬أن الدين قول وعمل»(((‪ .‬ثم ساق بقية‬
‫أصول االعتقاد‪.‬‬

‫ومن األخطاء األخرى في كالم شحرور ومن احتذى على منواله‪ ،‬أنه لم يبين لنا ما‬

‫((( الاللكائي‪ :‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ‪.194/1‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.195/1‬‬

‫‪310‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫الجديد من األصول والقواعد التي ظهرت في البيئة العلمية اإلسالمية بعد عصر خالفة‬
‫المتوكل (‪232‬ﻫ‪247 -‬ﻫ) ولم تكن معروفة من قبل‪ ،‬مع أن األئمة الثالثة الفقهاء مث ً‬
‫ال‬
‫وهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ماتوا قبل عصر المتوكل‪ ،‬وحتى اإلمام أحمد الذي‬
‫عاصر المتوكل لم يمثل ذلك من حياته إال سنوات قليلة‪.‬‬

‫وأخير ًا فقد تناسى شحرور هنا ما قرره هو نفسه وقرره علمانيون آخرون من أن‬
‫الشافعي المتوفى ‪204‬ﻫ وقبل عصر المتوكل‪ ،‬هو الذي أسس لحجية السنة واإلجماع‬
‫وعروبة القرآن ومفهوم القياس واالجتهاد وما أشبه ذلك من أصول منهجية اعتبرها‬
‫العلمانيون سبب ًا لسجن العقل المسلم وتكبيله عن النظر واالجتهاد والتفكير‪ ،‬في‬
‫دعاوى هشة ليس عليها أثارة من برهان أو حجة‪.‬‬

‫وفي استمرار لنزعة الهجوم على فقهاء المسلمين‪ ،‬اتهم جمال البنا الفقهاء بأنهم‬
‫«هربوا من القرآن إلى األحاديث التي تتفق مع األوضاع القائمة‪ ،‬حتى لو كانت ضعيفة‪،‬‬
‫ثم لما طبقت المذاهب تركوا األحاديث إلى قول إمام المذاهب‪ ،‬ثم لما أغلقوا باب‬
‫االجتهاد وقضوا على الناس بالتقليد أي بالعمل دون سؤال ودون معرفة حكمة»(((‪.‬‬

‫ولم تتوقف تلك االتهامات الموتورة والظالمة عند الفقهاء فحسب بل امتدت ‪-‬‬
‫عند بعض العلمانيين ‪ -‬لتلمز الصحابة والتابعين‪ ،‬حيث اعتبر سعيد ناشيد أن الشريعة‬
‫ليست إال كالم الفقهاء وثمرة جهدهم «على مدى ألف عام أو يزيد‪ ،‬لغاية استنباط‬
‫أحكام وقوانين وتشريعات من النص القرآني والحديثي‪ ،‬وحتى الصحابي أو التابعي‬
‫في بعض األحيان‪ ،‬ولم يكن ذلك بريئ ًا‪ ،‬بل لم يكن لوجه الله‪ ،‬إنما هو في غالبيته ‪ -‬إن‬
‫لم يكن كله ‪ -‬لوجه السلطة والسلطان»(((‪.‬‬

‫((( جمال البنا‪ :‬تثوير القرآن ص ‪.116‬‬


‫((( سعيد ناشيد‪ :‬الحداثة والقرآن ص ‪.29‬‬

‫‪311‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫كذلك لم تقتصر تلك االتهامات العلمانية على العلماء القدامى‪ ،‬بل شملت‬
‫العلماء المعاصرين أيض ًا‪ ،‬حتى إن القارئ ألول فقرة من كتاب نصر أبو زيد «التفكير‬
‫في زمن التكفير» يجدها طافحة بكم كبير من التهم والشتائم الموزعة على عدد من‬
‫أساتذة كلية دار العلوم(((‪ ،‬حيث يقول‪« :‬حين تصدى عبد الصبور شاهين بهراوة‬
‫جهله الغليظة‪ ،‬مدبج ًا تقريره التكفيري المشبوه عن اإلنتاج العلمي للباحث‪ ،‬لم‬
‫يرقه أن يعترض المعترضون على تقريره الذي ال عالقة له بأبجديات التقرير العلمي‬
‫األكاديمي»(((‪.‬‬

‫ثم يضيف بأسلوب ساخر هامز‪ :‬إن «هذا الرجل ‪ -‬يقصد د‪ .‬عبد الصبور شاهين ‪-‬‬
‫الذي يشع نور ًا وتقوى‪ ،‬وتدمع عيناه وهو يصف سوء أحوال المسلمين وتخلفهم‬
‫الفكري والحضاري‪ ،‬ال يحتمل االختالف وال يقوى على مناهضة الفكر بالفكر‪ ،‬فيلجأ‬
‫إلى سالح العجزة من الجهال والصبية سالح التكفير‪ ،‬وألن شاهين ليس فرد ًا بل هو‬
‫مؤسسة‪ ،‬فقد تداعى إلى نداء التكفير كل صبيانه من عميد كليته محمد بلتاجي‪ ،‬إلى‬
‫آخر أتباعه إسماعيل سالم»(((‪.‬‬

‫وأخير ًا يمتد الهمز واللمز واإلساءة إلى مدرسة علمية عريقة بأسرها وهي دار‬
‫العلوم‪ ،‬حيث يقول نصر أبو زيد‪« :‬لكن كيف يرجى ممن دأبهم (اإلعادة) و(التكرار)‬
‫و(التلخيص) الذي هو قرين التشويه منذ زمن طويل أن يكونوا قادرين على االختالف‬
‫والنقاش الحر‪ .‬هذا دأب مدرسة (دار العلوم) منذ ثالثة أرباع قرن‪ ،‬كما وصفها طه‬
‫حسين‪ ،‬فأصبح ملعون ًا ملعون ًا‪ ،‬وامتدت اللعنة لتشمل كل مفكري قسم اللغة العربية‪،‬‬
‫((( وثمة نموذج آخر من سخرية نصر أبو زيد بأسلوب غير الئق تجاه الدكتور محمد عمارة‪ ،‬فانظر‪:‬‬
‫كتب نصر أبو زيد‪ :‬الخطاب والتأويل ص ‪.8‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬التفكير في زمن التكفير ص ‪.9‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.9‬‬

‫‪312‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وأعالم الثقافة العربية‪ ،‬ممن ينتسبون ‪ -‬منهجي ًا ‪ -‬إلى طه حسين‪ ،‬الذي أعلن يأسه من‬
‫هذه المدرسة أن تتغير منهجية الدرس فيها»(((‪.‬‬

‫وفي مقابل هذا الذم الشديد للمخالفين‪ ،‬يكثر هؤالء العلمانيون من مدح أنفسهم‬
‫وموافقيهم في التوجه الفكري‪ ،‬مسبغين عليهم ألقاب الثناء والتبجيل‪ ،‬وأنهم أهل العلم‬
‫والفهم والتجديد‪ ،‬وأن قراءتهم للتراث هي التي تمثل العلمية الحقيقية‪ ،‬وأنها التي‬
‫تقدم الحلول الجذرية لما تعانيه األمة من تخلف(((‪.‬‬

‫وحينما يتعرض أحدهم لمشكلة ما‪ ،‬أو يثير أحد كتبه ضجة فكرية‪ ،‬تنبري أقالم‬
‫شرذمة العلمانيين والحداثيين للوقوف معه‪ ،‬والدفاع عنه‪ ،‬وتدبيج الكتب أو المقاالت‬
‫في االشتباك مع خصومه‪ ،‬وتصويره بصورة شهيد الرأي وحرية الفكر(((‪.‬‬

‫ويضاف لذلك أيض ًا حرصهم على تصوير معاركهم ونضالهم بأنه امتداد لمسيرة‬
‫أساتذتهم‪ ،‬الذين سبقوهم في خوض المعركة ضد ما يصفونه بالعقل الغيبي‪ ،‬وقد أشار‬
‫نصر أبو زيد إلى أن فكره ومعاركه ليست سوى امتداد للمعركة التي ثارت حول كتاب‬
‫طه حسين «في الشعر الجاهلي» والتي لم تكن كما يرى أبو زيد «معركة الشعر‪ ،‬بل‬
‫كانت معركة قراءة النصوص الدينية طبق ًا آلليات العقل اإلنساني التاريخي‪ ،‬ال العقل‬
‫الغيبي الغارق في الخرافة واألسطورة‪ ،‬ولضراوة المعركة وشراسة القوى االجتماعية‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.12‬‬


‫((( سلطان العميري‪ :‬التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي ص ‪.26‬‬
‫((( ومن أمثلة ذلك الضجة التي ثارت حينما لم يرق نصر أبو زيد لدرجة األستاذية في جامعة القاهرة‪،‬‬
‫أو حينما حكمت المحكمة بالتفريق بينه وبين زوجته‪ ،‬حيث توالت مقاالتهم وكتاباتهم في الدفاع‬
‫عنه‪ ،‬وانظر على سبيل المثال‪ :‬كتاب جابر عصفور‪ :‬ضد التعصب‪ ،‬وكتاب نصر أبو زيد نفسه‪:‬‬
‫التفكير في زمن التكفير‪ ،‬وما كتبه حسن حنفي في حوار األجيال ص ‪ ،433‬وخليل عبد الكريم‪:‬‬
‫األسس الفكرية لليسار اإلسالمي ص ‪.148‬‬

‫‪313‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫صاحبة المصلحة في سيطرة الخرافة واألسطورة تم قمع الخطاب التنويري»(((‪.‬‬

‫ثم تكررت المعركة مرة ثانية على المستوى األكاديمي مع رسالة محمد أحمد‬
‫خلف الله «الفن القصصي في القرآن الكريم» والتي أثارت ضجة كبيرة‪ ،‬وتم رفضها‬
‫ومنع مشرفها أمين الخولي من اإلشراف على رسائل أخرى(((‪.‬‬

‫وأخير ًا جاءت معركة نصر أبو زيد وقضية ترقيته لدرجة األستاذية‪ ،‬وهو‬
‫يستخلص من ذلك كله أن «المعركة في حقيقتها إذن معركة قديمة في فكرنا‬
‫الحديث‪ ،‬وهى ليست مجرد معركة حول قراءة النصوص الدينية أو حول تأويلها‪ ،‬بل‬
‫هي معركة شاملة تدور على جميع المستويات االجتماعية واالقتصادية والسياسية‪،‬‬
‫معركة تخوضها قوى الخرافة واألسطورة باسم الدين‪ ،‬والتمسك بالمعاني الحرفية‬
‫للنصوص الدينية»(((‪.‬‬

‫‪ -3‬ويزداد التناقض فجاجة حينما نفاجأ أنهم في الوقت الذي ذموا فيه أصحاب‬
‫التوجهات المنهجية‪ ،‬والمعلية من شأن الدليل والبرهان‪ ،‬وعدم قبول حكم إال بحجة‪،‬‬
‫وضرورة االلتزام بقواعد اللغة وفهم النصوص من خاللها‪ ،‬نجدهم يمدحون أصحاب‬
‫النزعات اإللحادية‪ ،‬واآلراء الشاذة‪ ،‬وأصحاب التصوف الفلسفي‪ ،‬والقائلين بوحدة‬
‫الوجود والحلول واالتحاد‪ ،‬وكذا أصحاب النزعات الباطنية ممن نحوا العقل‪ ،‬وأعلوا‬
‫من شأن الذوق والوجد‪ ،‬أو ادعوا دالالت باطنة لأللفاظ‪ ،‬ال يمكن محاكمتها إلى‬
‫قواعد مستقرة أو قوانين معروفة‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن نسف كل قواعد التخاطب المعروفة بين‬
‫الناطقين بالعربية والمتحاكمين لدالالتها‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.62‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.63‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.63‬‬

‫‪314‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وهكذا ‪ -‬وعلى سبيل المثال ‪ -‬نجد أن نصر أبو زيد يدعو إلى التحرر من سلطة‬
‫النصوص التي قررها الشافعي ومن جاء بعده‪ ،‬بحيث «ظل العقل العربي اإلسالمي‬
‫يعتمد سلطة النصوص‪ ،‬بعد أن تمت صياغة الذاكرة في عصر التدوين ‪ -‬عصر الشافعي‬
‫‪ -‬طبق ًا آلليات االسترجاع والترديد‪ ....‬وقد آن أوان المراجعة واالنتقال إلى مرحلة‬
‫التحرر ‪ -‬ال من سلطة النصوص وحدها ‪ -‬بل من كل سلطة تعوق مسيرة اإلنسان في‬
‫عالمنا‪ .‬علينا أن نقوم بهذا اآلن وفور ًا قبل أن يجرفنا الطوفان»(((‪.‬‬

‫وعند هاشم صالح ال تتحقق الحداثة بنظامها المعرفي الحديث من خالل التحرر‬
‫من سلطة النصوص فحسب‪ ،‬بل ال بد أن يكون اإلنسان مستق ً‬
‫ال وسيد ًا لنفسه‪ ،‬وليس‬
‫خاضع ًا ألي قوة خارجة عليه ‪ -‬بما في ذلك مشيئة الله سبحانه ‪ -‬ومن ثم نجده يقارن‬
‫بين النظام المعرفي الحديث والقديم‪ ،‬مؤكد ًا على أهمية القطيعة الكبرى بين النظامين‪،‬‬
‫فيقول‪« :‬في النظام المعرفي الحديث (أي نظام الحداثة) يعتبر اإلنسان مستق ً‬
‫ال وسيد ًا‬
‫لنفسه‪ ،‬وليس خاضع ًا ألي قوة خارجية عليه‪ ،‬وأما في النظام المعرفي القديم (أي النظام‬
‫الالهوتي الديني) فيعتبر ذات ًا مخلوقة‪ ،‬وخاضعة لمشيئة الله‪ ،‬واالنتقال من الذات‬
‫المخلوقة إلى الذات الحرة المستقلة هو الذي يشكل القطيعة الكبرى للحداثة»(((‪.‬‬

‫وبموازاة هذه الدعوة للتحرر من سلطة الدين‪ ،‬والنصوص‪ ،‬واجتهادات العلماء‬


‫الكبار‪ ،‬المنضبطين بضوابط الدين واللغة‪ ،‬والمؤسسين لمنهجيات تحجر على كل‬
‫محاولة لالنفالت من قواعد الفهم واالستنباط من النصوص ‪ -‬نجد دعوة لالحتفاء‬
‫بالعرفان الصوفي‪ ،‬وباالتجاهات الباطنية والغنوصية‪ ،‬والمغرقة في التأويل والغموض‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي وتأسيس األيديولوجية الوسطية ص ‪.190‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر‬
‫للفكر اإلسالمي ص ‪ ،118‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪1999‬م‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن هذا المنطلق نجد العلمانيين يثنون على من يرونه موافق ًا لهم‪ ،‬أو يمكن أن‬
‫ينتفعوا بأفكاره ولو بتعسف‪ ،‬ومن ذلك مدحهم ألصحاب األفكار المنحرفة من أمثال ابن‬
‫الراوندي‪ ،‬ومحمد بن زكريا الرازي(((‪ ،‬والجعد بن درهم‪ ،‬والجهم بن صفوان‪ ،‬وغيرهم(((‪.‬‬

‫كذلك ُيستدعى فكر ابن عربي ومن يماثله من الصوفية‪ ،‬وتؤلف فيه الكتب‪،‬‬
‫ويشاد به إشادة كبيرة(((‪ ،‬بل يراه البعض ضرورة ملحة لمواجهة المؤسسة الدينية‬
‫والفكر السلفي‪ ،‬والثوابت اإلسالمية‪.‬‬

‫ويعتبر أدونيس من أبرز المهتمين بالمتصوفة الفالسفة وآرائهم وال سيما الجانب‬
‫الباطني منها‪ ،‬متخذ ًا من تلك األفكار منطلق ًا لتوجهاته الحداثية الباطنية(((‪.‬‬

‫وقد شاركه في هذا المسلك آخرون‪ ،‬مثل محمد أركون الذي امتدح مؤلفات‬
‫ابن عربي‪ ،‬ورأى إمكانية توظيفها في توسع احتماليات الخطاب القرآني‪ ،‬فقال‪« :‬إن‬
‫األعمال الهائلة البن عربي تمثل مدونة مستقلة بذاتها‪ ،‬وهي تبين لنا مدى إمكانيات‬
‫التوسع االحتمالية للخطاب القرآني‪ ،‬كما كان قد تلقاه خيال خالق كخيال ابن‬
‫عربي»(((‪ ،‬وال يقتصر األمر عند أركون على اإلشادة بكتب ابن عربي وحدها‪ ،‬بل يمتد‬
‫ليشمل الخطاب الصوفي عموم ًا‪ ،‬انطالق ًا من أن هذا الخطاب «يوسع من الجزء الرمزي‬
‫واألسطوري للخطاب الديني التأسيسي ثم يطوره ويستثمره»(((‪ .‬وهكذا يخلص إلى‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬علي مبروك‪ :‬النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ ص ‪.156‬‬
‫((( سلطان العميري‪ :‬التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي ص ‪.26‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر ص ‪ ،211‬ود‪ .‬سليمان بن‬
‫صالح الغصن‪ :‬إعادة قراءة النص الشرعي واستهدافه في الفكر العربي المعاصر ص ‪.42‬‬
‫((( انظر‪ :‬أدونيس‪ :‬الثابت والمتحول ‪ ،91/2‬ود‪ .‬سعيد بن ناصر الغامدي‪ :‬االنحراف العقدي في أدب‬
‫الحداثة ‪.953/2‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.33‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي نقد واجتهاد ص ‪.159 ،158‬‬

‫‪316‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫أننا «نجد بحوزتنا مؤلفات صوفية غنية جد ًا ومهمة‪ ،‬لمن يريد أن يدرس كيفية االنبثاق‬
‫المعنوي والرمزي داخل اللغة»(((‪.‬‬

‫كذلك تحسر هاشم صالح على ما القاه ابن عربي من قبل من يسميهم‬
‫باألرثوذكسية‪ ،‬فقال‪« :‬ولكن ابن عربي اتهم من قبل األرثوذكسية بأنه خارج عن‬
‫اإلسالم تقريب ًا‪ ،‬فاألرثوذكسية الفقهية الضيقة ال يمكن أن تفهم شخص ًا في حجم ابن‬
‫عربي‪ ،‬وشطحاته الصوفية الرائعة»(((‪.‬‬

‫أما نصر أبو زيد فقد رأى أن التجربة الصوفية بصفة عامة تمثل ثورة ضد المؤسسة‬
‫الدينية الرسمية‪ ،‬فقال‪« :‬تمثل التجربة الصوفية في التراث اإلسالمي ‪ -‬في جانب‬
‫منها على األقل ‪ -‬ثورة ضد المؤسسة الدينية‪ ،‬التي حولت الدين إلى مؤسسة سياسية‬
‫اجتماعية‪ ،‬مهمتها األساسية الحفاظ على األوضاع السائدة‪ ،‬ومساندتها من خالل‬
‫آليات إنتاج معرفية ثابتة‪ ،‬يقف على رأسها اإلجماع‪ ،‬ويليه القياس»(((‪.‬‬

‫ويمدح علي حرب العرفان الصوفي مدح ًا الفت ًا للنظر‪ ،‬فيقول‪« :‬ولما كان‬
‫الصوفية هم الذين اختصوا بالتأويل والغوص في الباطن أكثر من غيرهم من الفرق‪،‬‬
‫فإن العرفان الصوفي يمثل في نظرنا المنهج التأويلي بامتياز‪ ،‬فمع العرفان بما هو‬
‫تأويل يتقاطع البيان والبرهان والحدس واالستدالل والوحي والنظر‪ ......،‬ولذا فإننا‬
‫نرى أن العرفان ليس استقالة العقل كما قد يظن‪ ،‬وإنما هو في الحقيقة تأمالت الفكر‪،‬‬
‫وفتوحات العقل»(((‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.159‬‬


‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب محمد أركون الفكر األصولي واستحالة التأصيل هامش ص ‪.76‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬هكذا تحدث ابن عربي ص ‪.23‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬التأويل والحقيقة ص ‪ ،18‬وانظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمد يونس وماجد العلوي‪ :‬القراءة‬
‫الحداثية للنص عند علي حرب ص ‪.608‬‬

‫‪317‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫والبن عربي على وجه الخصوص منزلة متميزة داخل التجربة الصوفية‪ ،‬كما يرى‬
‫نصر أبو زيد‪ ،‬وال سيما مع دعوته لوحدة األديان‪ ،‬واعتبارها طرق ًا متعددة للوصول‬
‫للخالق سبحانه‪ ،‬وهي الفكرة التي يحتفي بها الحداثيون‪ ،‬ويكثرون من ترديدها‪ ،‬يقول‬
‫أبو زيد‪« :‬وكان السؤال الذي يتردد دائم ًا في ذهني‪ :‬هل ما زال ابن عربي قادر ًا على‬
‫المساهمة في مخاطبة قضايا عالمنا المعاصر؟ نعم كانت اإلجابة في داخلي»(((‪.‬‬

‫وإذا سألنا عن علة ذلك‪ ،‬فيأتينا الجواب وكلمة السر المتمثلة في دين الحب الذي‬
‫يتسع لكل العقائد‪ ،‬كما يقول أبو زيد‪« :‬كانت أبياته الشعرية عن دين الحب‪ ،‬الذي‬
‫يتسع لكل العقائد من الوثنية إلى اإلسالم‪ ،‬محتضن ًا اليهودية والمسيحية على وجه‬
‫الخصوص تتردد دائم ًا في سمعي‪:‬‬

‫لــقــد صـــار قــلــبــي قــابــ ً‬


‫ا كــل صــورة‬
‫فــمــرعــى لـــغـــزالن وديـــــر لــرهــبــان‬
‫وبـــيـــت ألوثــــــان وكــعــبــة طــائــف‬
‫وألــــــواح تـــــوراة ومــصــحــف قـــرآن‬
‫أديــــن بــديــن احلـــب أنـــى توجهت‬
‫ركـــائـــبـــه فـــاحلـــب ديـــنـــي وإيــــاين‬
‫وكم سعدت وأنا أستمع لهذه األبيات ملحنة مغناة على شرائط كاسيت و‪،CDS‬‬
‫وكم غمرني الفرح حين علمت بتأسيس جمعيات في بلدان غربية باسم ابن عربي‪،‬‬
‫هذا المشروع الذي صاغه ابن عربي صياغة شعرية باسم دين الحب‪ ،‬يجمع بين الدير‪،‬‬
‫والكعبة‪ ،‬وبيت األوثان‪ ،‬ومرعى الغزالن‪ ،‬فقلب العارف يتسع لكل هذه الصور من‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.14‬‬

‫‪318‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫العبادات والشعائر‪ ،‬ويؤمن بكل هذه المعتقدات‪ ،‬ألنه يعرف األصل الوجودي الذي‬
‫تستند إليه جميعها»(((‪.‬‬

‫وهكذا يصير استدعاء ابن عربي أمر ًا ملح ًا وضروري ًا‪ ،‬كي يتم توظيفه في مواجهة‬
‫الفكر السلفي واألصولي الذي يضيق به الغرب ذرع ًا‪ ،‬وكما يقول أبو زيد‪« :‬إن استدعاء‬
‫ابن عربي مع غيره من أعالم الروحانيات في كل الثقافات يمثل مطلب ًا ملح ًا في السنوات‬
‫الثالثين األخيرة من القرن العشرين»(((‪.‬‬

‫‪ -4‬ومن التناقضات لدى العلمانيين أيض ًا‪ ،‬أن ثمة ما يشبه االتفاق بينهم على ذم‬
‫كثير من علماء األمة وأعالمها الكبار‪ ،‬واتهامهم بمماألة الحكام ومداهنتهم‪ ،‬وتطويع‬
‫الفتاوى واألحكام لما يحقق مصالحهم‪ ،‬إضافة للسكوت عن مظالمهم وتولي‬
‫المناصب لهم‪.‬‬

‫والشواهد الدالة على ذلك من كتبهم كثيرة ومتنوعة‪ ،‬ومن ذلك اتهام محمد سعيد‬
‫العشماوي للفقهاء بأنهم ما كانوا يفسرون‪ ،‬أو يشرحون أو يستنبطون‪ ،‬إال «ويضعون‬
‫أعينهم في كل قول أو همس أو صمت على الخالفة الجائرة‪ ،‬فال يصدر عنهم إال ما‬
‫يوافق عليه الخليفة‪ ،‬وما يرتضيه السلطان»(((‪.‬‬

‫ولم تقتصر التهمة على الفقهاء فحسب عند عبد المجيد الشرفي‪ ،‬بل امتد التشكيك‬
‫في النوايا والمقاصد إلى العلماء كلهم‪ ،‬وال سيما الموالي منهم‪ ،‬حيث يزعم الشرفي‬
‫أنهم سعوا من خالل االشتغال بعلوم الدين إلى اكتساب سلطة معنوية‪ ،‬تعوضهم‬

‫ً‬
‫مفصال للدعوة إلى وحدة األديان وبيان‬ ‫((( نصر أبو زيد‪ :‬هكذا تحدث ابن عربي ص ‪ .14‬وانظر نقد ًا‬
‫مخالفتها القطعية لإلسالم‪ ،‬في‪ :‬كتاب د‪ .‬سعيد معلوي‪ :‬وحدة األديان في عقائد الصوفية‪ ،‬وبحث‬
‫د‪ .‬لطف الله خوجة‪ :‬وحدة األديان في تأصيالت التصوف وتقريرات المتصوفة‪ ،‬دراسة تحليلية‪.‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬هكذا تحدث ابن عربي ص ‪.26‬‬
‫((( د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني ص ‪.102‬‬

‫‪319‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫عن السلطة السياسة التي حرموا منها(((‪ ،‬حيث «وجدوا في االهتمام بالعلوم الدينية‬
‫مجا ً‬
‫ال لتحقيق ذاتهم‪ ،‬وإبراز مواهبهم‪ ،‬وهم الذين تم إقصاؤهم عن مراكز المسؤولية‬
‫السياسية التي استأثر بها العنصر العربي‪ ،‬سواء في مراكز الخالفة نفسها‪ ،‬أو في األقاليم‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فلم تسند إليهم إال الوظائف الثانوية‪ ،‬وظائف التنفيذ التي تتطلب خبرة فنية‬
‫خاصة في دواوين الدولة‪ ،‬ونظر ًا إلى ما كان للدين من منزلة في النفوس‪ ،‬فإنهم قد‬
‫سعوا عن طريق االشتغال بعلوم الدين إلى اكتساب سلطة معنوية تعوضهم عن السلطة‬
‫السياسة التي حرموا منها»(((‪.‬‬

‫أما نصر أبو زيد‪ ،‬فقد وسع من دائرة االتهام لتشمل الفكر اإلسالمي كله‪ ،‬والذي‬
‫تحول في رأيه «من أن يكون صياغة للواقع وترشيد ًا له‪ ،‬إلى أن يكون تبرير ًا لهذا الواقع‪،‬‬
‫يمنحه غطاء أيديولوجي ًا ومشروعية دينية‪ .‬هيمن نمط العارف المطيع في مجال الفكر‬
‫والثقافة واألدب في القرن الخامس تقريب ًا‪ ،‬وتزايد دوره في تحويل الفكر إلى غطاء‪،‬‬
‫يحجب عن الوعي آليات السلطة في السيطرة والهيمنة واالستغالل والعنف»(((‪.‬‬

‫وال يخفى أن تلك االتهامات غير صحيحة بالمرة‪ ،‬ولن نطيل هنا في مناقشتها‬
‫تفصي ً‬
‫ال‪ ،‬لكن يكفي أن نشير((( إلى أنه ال يتصور من منصف‪ ،‬يعرف قيمة العلم وقدره‪،‬‬
‫ويتسم بالدقة والموضوعية واإلنصاف‪ ،‬أن يحكم على فكر طويل عريض وممتد‪ ،‬مثل‬
‫الفكر اإلسالمي بهذا الحكم العام‪ ،‬غير المبني على تتبع وال استقراء دقيق‪ ،‬ويكفي في‬
‫نقضه بسهولة أن نشير إلى قائمة طويلة من العلماء الكبار الذين وقفوا في وجه الحكام‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.43‬‬


‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪.71‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ص ‪.168‬‬
‫((( انظر‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.45 ،44‬‬

‫‪320‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ولم ينصاعوا ألهوائهم‪ ،‬متحملين الحبس أو التعذيب‪ ،‬وربما القتل من أمثال‪ :‬سعيد‬
‫بن جبير‪ ،‬وأبي حنيفة‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬والعز بن عبد السالم‪ ،‬والنووي‪ ،‬وابن‬
‫تيمية‪ ،‬وغيرهم الكثير(((‪.‬‬

‫ومما يكشف التناقض العلماني في هذا الباب‪ ،‬أننا إذا ما تتبعنا واقع هؤالء‬
‫العلمانيين‪ ،‬ومواقفهم السياسية‪ ،‬فسوف نالحظ بوضوح أن الكثرة الكاثرة منهم‬
‫قد وقعت في أشد مما عابت عليه العلماء المتقدمين‪ ،‬فعالقتهم بالحكام واألنظمة‬
‫المستبدة جيدة ووثيقة‪ ،‬وقد تولوا الكثير من مراكز التوجيه للعقول في اإلعالم والتعليم‬
‫والجامعات‪ ،‬ومنهم من وصل لكرسي الوزارة‪ ،‬وأكثرهم حازوا جوائز مرموقة‪،‬‬
‫وفتحت لهم وسائل اإلعالم على مصراعيها‪ ،‬ولم يعرف عنهم مواقف صريحة في‬
‫مقاومة الظلم واالستبداد‪.‬‬

‫‪ -5‬ومن التناقضات المسلكية أيض ًا ما هو مالحظ لدى كثير من العلمانيين في‬


‫تناولهم لقضايا المرأة ‪ -‬مثل‪ :‬الحجاب واالختالط والتعدد وتولي المناصب الكبرى‬
‫والزواج والطالق وما أشبه ذلك ‪ -‬حيث يتكرر لديهم وصف مخالفيهم من اإلسالميين‬
‫بالجمود والتخلف‪ ،‬ثم يمتد األمر إلى وصفهم بالهوس الجنسي الناشئ ‪ -‬وفق ًا للرؤية‬
‫الفرويدية ‪ -‬عن الكبت‪ ،‬وتحريم كل أنواع العالقة بالمرأة خارج إطار الزواج‪.‬‬
‫وليس من همنا هنا أن نرد على تلك االتهامات تفصي ً‬
‫ال‪ ،‬وإنما نشير فقط إلى‬
‫أمرين‪:‬‬

‫((( انظر نماذج عديدة لذلك عند‪ :‬الغزالي‪ :‬إحياء علوم الدين ‪ ،343/2‬وعبد العزيز البدري‪ :‬اإلسالم‬
‫بين العلماء والحكام ص ‪ ،129‬ود‪ .‬سيد العفاني‪ :‬صالح األمة في علو األمة ‪ ،101/3‬ونبيل بن‬
‫محمد محمود‪ :‬العلماء بين المحن والشدائد‪ ،‬عرض لالبتالءات والمحن الكبرى التي تعرض لها‬
‫علماء األمة وكيف تحملوها وصبروا عليها‪ ،‬الدار العالمية للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثانية‪1432 ،‬ﻫ‬
‫‪2011 -‬م‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫األول‪ :‬أن بعض كتابات العلمانيين يشيع فيها اإلسراف المتجاوز لكل حد في‬
‫استخدام ألفاظ جنسية صارخة‪ ،‬وال سيما من كان منهم متأثرا بالمدرسة الفرويدية في‬
‫التحليل النفسي‪ ،‬وفي سياقات ال تدعو لذلك مطلق ًا‪.‬‬

‫ونضرب مثا ًال لذلك بما ذكره جورج طرابيشي في رده على دعوة حسن حنفي‬
‫إلقامة علم االستغراب‪ ،‬حيث استخدم ألفاظ ًا مغرقة في اإلسفاف دونما حاجة أو مبرر‪،‬‬
‫فقال‪« :‬إن تجنيس العالقات الحضارية على هذا النحو‪ ،‬وتأويل التلقي الحضاري على أنه‬
‫استقبال مهبلي وربما أيض ًا شرجي‪ ،‬ووضع كل ذلك في خانة التأنيث الشديد الجارحية‬
‫نرجسي ًا‪ ،‬ألنه مؤول بدوره على أنه خصاء‪ ،‬هو وراء محاولة حسن حنفي تأسيس علم‬
‫جديد يسميه علم االستغراب‪ ،‬فالغاية من هذا العلم نفسية قبل أن تكون علمية‪ ،‬وما ذلك‬
‫ألنه علم مضاد لالستشراق فحسب‪ ،‬بل في المقام األول ألنه يتيح للمستغرب أن ينتقل‬
‫من وضع المفعولية إلى وضع الفاعلية بتحويله المستشرق من دارس إلى مدروس»(((‪.‬‬

‫واألمر الثاني‪ :‬أن اهتمام الرجال بالنساء والولع بهن أمر فطري في أصله‪ ،‬وليس‬
‫موقوف ًا على شعب بعينه‪ ،‬بل األمر أشد بمراحل كثيرة في الدول الغربية ذات الحرية‬
‫الهائلة والعالقات المفتوحة على مصراعيها بين الرجال والنساء‪ ،‬وال بأس أن نستشهد‬
‫بما أورده كتاب «غربيون» من أن األبحاث تظهر «أن الرجال يميلون إلى إساءة فهم‬
‫االبتسامة البريئة أو اإلشارات الدالة على الصداقة ‪ -‬من النساء ‪ -‬وهذا نتيجة اهتمامهم‬
‫الشديد بالجنس‪ ،‬وهذا ألن معظم الرجال يرون العالم من منظور جنسي أكثر من النساء‬
‫بكثير‪ ،‬فما لدى الرجل من التوتسترون أكثر مما لدى النساء بحوالي ‪ 20 - 10‬مرة‪ ،‬مما‬
‫يجعلهم يرون العالم من منظور جنسي»(((‪.‬‬

‫((( جورج طرابيشي‪ :‬ازدواجية العقل‪ ،‬دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي ص ‪.115‬‬
‫((( آالن وبربارا بييز‪ :‬المرجع األكيد في لغة الجسد ص ‪ ،292‬مكتبة جرير‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وهم يقررون أيض ًا أن «كل الدراسات تقريب ًا التي أجريت حول التجاذب على‬
‫مدار الستين عام ًا األخيرة‪ ،‬قد توصلت لنفس االستنتاجات التي توصل إليها الرسامون‬
‫والشعراء والكتاب على مدار الستة آالف عام ًا الماضية‪ ،‬وهي أن المرأة وجسمها‪ ،‬وما‬
‫تستطيع أن تفعله به‪ ،‬كل هذا يعد أكثر جاذبية للرجال من ذكائها وقدراتها‪ ،‬حتى في‬
‫القرن الــ‪ 21‬الذي يتميز بلياقة الفكر‪ .‬إن رجل القرن الــ‪ 21‬يرغب في رؤية نفس‬
‫األشياء المباشرة في المرأة كما فعل أجداده من النظرة األولى»(((‪.‬‬

‫‪ -6‬ومن مسائل علوم القرآن المهمة واألساسية‪ ،‬التي تخبطت المواقف العلمانية‬
‫تجاهها ‪ -‬مثلما حدث في تعاملهم مع أسباب النزول ‪ -‬قضية الناسخ والمنسوخ‪ ،‬من‬
‫حيث المفهوم‪ ،‬والوقوع الفعلي‪ ،‬واألثر أو الفائدة المترتبة على وجوده‪.‬‬

‫ولعل أبرز مظاهر التناقض في هذا الباب‪ ،‬ما حدث من اختالف في إثبات ظاهرة‬
‫النسخ في الشريعة اإلسالمية ‪ -‬وخصوص ًا في القرآن الكريم ‪ -‬أو نفيها‪ ،‬فمن العلمانيين‬
‫من نفى وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن أص ً‬
‫ال‪ ،‬وشنع على القائلين به‪ ،‬واعتبر ذلك‬
‫من األخطاء الكبرى‪ ،‬التي وقعت في مسيرة الفكر اإلسالمي وتستوجب التصحيح‪،‬‬
‫وهدم األفكار التقليدية حولها(((‪.‬‬

‫ومن هذا الفريق محمد شحرور‪ ،‬الذي ابتدع فكرة ال دليل عليها مطلق ًا سوى‬
‫األوهام‪ ،‬وهي التفرقة بين الكتاب والقرآن ‪ -‬مع أنهما اسمان لكتاب الله وقرآنه‬
‫المجيد‪ ،‬يدالن على شيء واحد وهو ما بين دفتي المصحف ‪ -‬وبناء على هذه التفرقة‬
‫الباطلة‪ ،‬نفى شحرور وجود النسخ مطلق ًا في القرآن الكريم كما حذر من اعتقاد وقوعه‪،‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.307‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمود بن علي البعداني‪ :‬موقف المدرسة العقلية المعاصرة من علوم القرآن وأصول‬
‫التفسير ‪.657 ،609/2‬‬

‫‪323‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫بينما أقر وجوده في أم الكتاب(((‪ ،‬ومن أدلته المتهافتة على نفي النسخ في القرآن أنه‬
‫«ليس ثمة ما يبرر إبقاء آيات منسوخة تضل بسببها األمة وتقتتل وتتفرق شيع ًا وطوائف‪،‬‬
‫إذ كان بوسعه ‪ #‬ببساطة عدم إدراجها وهو يصوغ الكتاب الحكيم مرة أخرى‪ ،‬كما‬
‫كان بوسع الله سبحانه أن يجعل مكانها فارغ ًا»(((‪.‬‬

‫وال يجد شحرور أدنى غضاضة في رد كل األخبار الواردة في إثبات النسخ‪ ،‬زاعم ًا‬
‫أننا «ال نجد خبر ًا ثابت ًا يؤيد النسخ‪ ،‬اللهم إال بعض المتناثرات هنا وهناك‪ ،‬والتي ال‬
‫تليق بموضوع هام أساسي كالنسخ‪ ،‬مما يدل على انعدام المسئولية عند من قال به»(((‪،‬‬
‫وهكذا يصير الناسخ والمنسوخ اختراع ًا اخترعه العلماء المسلمون‪ ،‬ليحلوا إشكال‬
‫التضاد الظاهري‪ ،‬بين بعض اآليات التي عجزوا عن توجيهها‪ ،‬أو حسن فهمهما‪ ،‬فكان‬
‫المخرج من ذلك هو اللجوء للقول بالنسخ(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه ألف جمال البنا كتاب ًا عن النسخ في القرآن أنكر فيه تمام ًا‬
‫وجود النسخ‪ ،‬واعتبر ذلك من العقائد الراسخة التي يدين بها‪ ،‬فقال‪« :‬عقيدتنا التي ال‬
‫تتزعزع‪ ،‬والتي انتهينا إليها بعد البحث الدائب هي أن كل الروايات واألحاديث التي‬
‫تضمنت إجازة النسخ أو وقوع ًا له هي من االدعاءات المسمومة»(((‪.‬‬

‫وإلى جانب هذا اإلنكار الجازم للنسخ‪ ،‬شن جمال البنا حملة شعواء على القائلين‬
‫به‪ ،‬ورأى أن مقالة النسخ «من أكبر الكوارث الفكرية‪ ،‬التي انزلق إليها األسالف‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬تجفيف منابع اإلرهاب ص ‪ ،38‬والكتاب والقرآن ص ‪ ،160‬ونحو أصول‬
‫جديدة ص ‪ ،83‬ود‪ .‬أحمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن ص ‪.317‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬نحو أصول جديدة ص ‪.83‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬تجفيف منابع اإلرهاب ص ‪.39‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬تجفيف منابع اإلرهاب ص ‪.20‬‬
‫((( جمال البنا‪ :‬النسخ في القرآن ص ‪.12‬‬

‫‪324‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وانطلت عليهم فأجازوها جميع ًا»(((‪ .‬كما وصفها في كتاب آخر له بالجرم العظيم‪،‬‬
‫مشدد ًا النكير على المفسرين وعلماء األمة القائلين بالنسخ‪ ،‬حيث إنهم تحت دعوى‬
‫خدمة القرآن أعملوا «سكين النسخ‪ ،‬وبتروا مئات اآليات‪...‬ال أدري كيف وأتت هؤالء‬
‫المفسرين الجرأة على هذا الجرم العظيم»(((‪.‬‬

‫ويتعجب المرء من هذا الحكم الجائر على العلماء السابقين من المفسرين‬


‫وغيرهم‪ ،‬وكأنهم كانوا من قلة العلم وضعف التمييز‪ ،‬بحيث تغيب عنهم تلك الكارثة‬
‫الفكرية‪ ،‬والتي لم يتنبه لها إال شخص مثل جمال البنا‪ ،‬غير المتخصص أص ً‬
‫ال في علوم‬
‫الشرع‪ ،‬ولم يعرف عنه إسهام ذو شأن في فن من فنونه‪.‬‬

‫وفي تقليد واضح لفرية بعض المستشرقين أمثال شاخت((( اعتبر محمد أركون‬
‫النسخ إحدى الوسائل التي اخترعها األصوليون والفقهاء لحل معضلة اآليات المتناقضة‪،‬‬
‫والتي عجزوا عن وجود حل للتعارض الواقع بينها‪ ،‬زاعم ًا أن هؤالء األصوليين‬
‫«وجدوا أنفسهم في مواجهة نصوص متناقضة‪ ،‬وبالتالي فقد اضطروا الختيار النص‬
‫الذي يتناسب أكثر مع التوفيق‪ ،‬وتحقيق االنسجام بين األحكام الشرعية التي كانت قد‬
‫حظيت بتثبيت الفقهاء األوائل‪ ،‬وهكذا نشأ العلم المدعو بالناسخ والمنسوخ‪ ،‬وراح‬
‫ينمو ويتطور باتصال مباشر مع بلورة الشريعة‪ ،‬وذلك ضمن ظروف اجتماعية ثقافية‬
‫واقتصادية ال تزال تنتظر تحديد ًا لها من قبل المؤرخ الحديث أو إعادة تحديد»(((‪.‬‬

‫ويدعي أركون أن الفقهاء واألصوليين وقعوا في إشكال كبير تجاه التعامل مع‬
‫اآليات المنسوخة حكم ًا والباقية تالوة‪ ،‬والتي ما زالت موجودة في المصحف‪ ،‬حيث‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.12‬‬


‫((( جمال البنا‪ :‬تثوير القرآن ص ‪.89‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬أحمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن ص ‪.319‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.69‬‬

‫‪325‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫لم يعد بإمكانهم «حذف هذه اآليات‪ ،‬بعد أن أصبحت متضمنة في المصحف الرسمي‬
‫الذي ُش ِّكل أيام عثمان بن عفان‪ ،‬وبالتالي فقد راحوا يشجعون على تأسيس علم أسباب‬
‫النزول من أجل القول َّ‬
‫بأن اآلية المنسوخة قد نزلت قبل اآلية الناسخة‪ ،‬وبالتالي فمن‬
‫المشروع إبطال العمل بها‪ ،‬أي إبطال حكمها»(((‪.‬‬

‫وال شك أن كالم أركون مجرد دعاوى ال دليل عليها مطلق ًا‪ ،‬ويكشف عن جهل‬
‫فاضح بحقيقة المنهج الفقهي واألصولي فيما يتعلق بمفهوم النسخ وأنواعه‪ ،‬وكيفية‬
‫التعامل مع اآليات أو األحاديث المتعارضة في ظاهرها‪ ،‬ولعل أدنى مطالعة ألبواب‬
‫التعارض والترجيح في كتب األصول‪ ،‬وتطبيقات الفقهاء تثبت تهافت دعاوي أركون‪،‬‬
‫وتبين دقة المنهج األصولي والفقهي في دفع التعارض المتوهم ‪ -‬وليس الحقيقي ‪-‬‬
‫بين مدلوالت النصوص الشرعية‪.‬‬

‫فالتعارض الواقع بين النصوص هو من قبيل التعارض الظاهري‪ ،‬وليس التناقض‬


‫كما ادعى أركون‪ ،‬وبين التعارض والتناقض فرق شاسع‪ ،‬ثم إن النسخ هو آخر ما‬
‫يلجأ إليه الفقيه في دفع التعارض‪ ،‬وال يكون ذلك إال بعد تعذر الجمع بين النصين‪،‬‬
‫ولو كان النسخ من اختراع الفقهاء كمخرج لرفع التناقض للجأوا إليه مباشرة‪ ،‬ولم‬
‫يتعبوا أنفسهم بالجمع بين النصوص‪ ،‬من خالل طرق عديدة كالعموم والخصوص‪،‬‬
‫واإلطالق والتقييد‪ ،‬وما أشبه ذلك‪.‬‬

‫ويضاف لذلك أن النسخ ال يثبت إال بحجة على وجود نص متأخر زمن ًا رفع‬
‫حكم النص المتقدم‪ ،‬وأما اآليات المنسوخة حكم ًا والباقية تالوة‪ ،‬والتي يزعم أركون‬
‫أن الفقهاء وقعوا في إشكال كبير تجاه التعامل معها‪ ،‬فهذا من التهويل الذي اعتاده‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.74‬‬

‫‪326‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫العلمانيون‪ ،‬وليس في القرآن كله ما هو منسوخ حكم ًا وباقي تالوة إال آيات قليلة جد ًا‬
‫ال تتجاوز أصابع اليد الواحدة‪ ،‬وفي القرآن نفسه ما يدل على نسخها‪.‬‬

‫وأخير ًا فإن القول بالنسخ ليس اختراع ًا اخترعه الفقهاء واألصوليون في عصور‬
‫التدوين ونضج المذاهب الفقهية‪ ،‬ليحلوا مشكالت عرضت لهم‪ ،‬وحاروا في التعامل‬
‫معها‪ ،‬بل هو مسلك مطرد ومعروف في تطبيقات الصحابة والتابعين‪ ،‬والشواهد على‬
‫ذلك أكثر من أن تحصر(((‪.‬‬

‫ومن المنكرين للنسخ أيض ًا أبو القاسم حاج محمد‪ ،‬والذي هاجم القائلين بالنسخ‬
‫هجوم ًا شديد ًا‪ ،‬ورأى أن اإلقرار بوجوده يستلزم الطعن في القرآن‪ ،‬واإلقرار بوجود‬
‫تناقض بين آياته‪ ،‬ومن ثم راح يحكم على من ابتدع علم الناسخ والمنسوخ بأنه «كان‬
‫يحاول أن يحل مشكلته هو مع القرآن‪ ،‬حين لم يتفهم منهجيته الكلية الرابطة لآليات‬
‫التي بدت له متضاربة أو متشابهة أو حتى متناقضة مع بعضها أحيان ًا‪ ،‬فأوجد علم الناسخ‬
‫والمنسوخ الذي ال يعني سوى إقرار حالة التناقض في تركيب القرآن ومضمونه‪ ،‬فظن‬
‫بمجرد القول أن في القرآن ناسخ ًا ومنسوخ ًا أنه قد حل اإلشكال‪ ،‬وما أدرك بذلك أنه‬
‫قد طعن في الحق الذي أنزل القرآن»(((‪.‬‬
‫ويقترب ‪ -‬مآ ً‬
‫ال ونتيجة فعلية ‪ -‬من هذا االتجاه النافي لوجود النسخ‪ ،‬أولئك‬
‫النفر المشككون في الروايات الواردة في وقوع النسخ‪ ،‬والمحددة لآليات الناسخة‬
‫من اآليات المنسوخة‪ ،‬ومن هؤالء عبد المجيد الشرفي الذي رأى أن األخبار الواردة‬

‫((( ويمكن مراجعة طرف من النماذج المروية عن الصحابة والتابعين فيما صنف من كتب في الناسخ‬
‫والمنسوخ‪ ،‬وانظر أيض ًا‪ :‬د‪ .‬أحمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن ص ‪.319‬‬
‫((( محمد أبو القاسم حاج محمد‪ :‬منهجية القرآن المعرفية‪ ،‬أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية واإلنسانية‬
‫ص ‪.95‬‬

‫‪327‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫في النسخ ليست جديرة بثقة المؤرخ(((‪ ،‬وسيد القمني الذي يرى أن القسمة الثالثية‬
‫للنسخ‪ ،‬وهي‪ :‬ما نسخ حكمه وبقيت تالوته‪ ،‬وما نسخت تالوته وبقي حكمه‪ ،‬وما نسخ‬
‫حكمه وتالوته مع ًا‪ ،‬كل ذلك قد اخترع اختراع ًا(((‪.‬‬

‫والعلة في حكمنا على المشككين في أخبار النسخ بأن قولهم يؤول إلى إنكاره‬
‫فعلي ًا ‪ -‬أو على أحسن األحوال تفريغه من أي مضمون حقيقي ‪ -‬أن الطريق األساس‬
‫لعلمنا بالنسخ هو النقل عمن شهد زمن نزول التشريع وهم الصحابة‪ ،‬وإذا اهتزت الثقة‬
‫بهذا النقل لم يعد أمامنا من وسيلة لتحديد حصول النسخ سوى التخمين‪ ،‬وغلبة الظن‬
‫والنظر العقلي‪ ،‬وكلها أمور يصعب إقامة البرهان الصحيح عليها‪.‬‬
‫وعلى النقيض من الوجهة السابقة المنكرة لوجود النسخ ‪ -‬صراحة أو مآ ً‬
‫ال ‪ -‬أثبت‬
‫الكثير من العلمانيين وجود النسخ في القرآن‪ ،‬واعتبروه شاهد ًا مهم ًا إلثبات فكرتهم‬
‫حول تاريخية النص القرآني‪ ،‬ودلي ً‬
‫ال على أولوية الواقع على النص‪ ،‬كما اعتبروه مظهر ًا‬
‫من مظاهر التطور والمرونة الفائقة في التشريع يمكن البناء عليه‪ ،‬لتحقيق ما يريدون‬
‫تطويره أو تنحيته من أحكام الشريعة المجافية ‪ -‬بزعمهم ‪ -‬لثقافة العصر وظروف‬
‫أبنائه‪.‬‬

‫وفي تأثر واضح بالفكر الماركسي وموقفه من العالقة بين الفكر والواقع‪،‬‬
‫واستمرار ًا لنزعة األنسنة‪ ،‬قرر حسن حنفي القول بخلق القرآن‪ ،‬وانبثاقه من الواقع‬
‫وجدله معه‪ ،‬وبنص كالمه فالوحي «كالم الله بلغة اإلنسان‪ ،‬وبهذا المعنى يكون‬
‫مخلوق ًا‪ ،‬أي أنه أرسل إلى اإلنسان‪ ،‬هذا هو الخلق الطبيعي أو اإلنساني عندما يتحول‬

‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.159‬‬
‫((( انظر‪ :‬سيد القمني‪ :‬النسخ في الوحي ص ‪.13‬‬

‫‪328‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫كالم الله إلى اإلنسان وإلى الطبيعة»(((‪ ،‬وقد وظف باب الناسخ والمنسوخ‪ ،‬إلثبات‬
‫ذلك‪ ،‬والتأكيد على أن كالم الله «ليس مفروض ًا على الواقع‪ ،‬بل ظهر بناء على نداء‬
‫الواقع‪ ،‬واكتمل بناء على تطوره‪ ،‬وأعيدت صياغاته طبق ًا لقدراته وأهليته على ما هو‬
‫معروف في الناسخ والمنسوخ‪ .‬هي عملية جدلية بين الفكر والواقع‪ ،‬الواقع الذي‬
‫ينادي على الفكر ويطلبه‪ ،‬والفكر يأتي مطور ًا للواقع ويوجهه نحو كماله الطبيعي‪ ،‬ثم‬
‫يعود الواقع فينادي فكر ًا أدق وأحكم حتى يتحقق الفكر ذاته‪ ،‬ويصبح واقع ًا مثالي ًا يجد‬
‫فيه الواقع الطبيعي كماله»(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما ينطوي عليه هذا الطرح من خلل وبطالن‪ ،‬ومغالطات واضحة‪،‬‬
‫ومصادمات لثوابت المعتقد وأصول اإليمان‪ ،‬ولعل أخطر ما اشتمل عليه أنه ينفي‬
‫فكرة الوحي بمعناها الحقيقي‪ ،‬وأن القرآن كالم الله الذي أوحاه إلى رسوله ‪ #‬لهداية‬
‫الخلق وتعريفهم بالطريق الموصل إليه‪ ،‬وهذا الوحي متعال على الواقع ومهيمن عليه‪،‬‬
‫وصحيح أنه يراعيه ويقومه‪ ،‬لكنه ال يخضع له بحال‪ ،‬فهو يغير الواقع الفاسد‪ ،‬ويصحح‬
‫المعوج‪ ،‬ويقر الصحيح‪.‬‬

‫أما الوحي وفق ًا لهذا التصور المزعوم‪ ،‬فهو مجرد إفراز للواقع‪ ،‬وانبثاق منه‪،‬‬
‫وتجادل معه بصورة مستمرة‪ ،‬ولست أدري كيف يكون األمر كذلك‪ ،‬وقد جاء القرآن‬
‫بالتوحيد في واقع يعج بالشرك وعبادة األصنام‪ ،‬وجاء بتحريم الخمر في واقع يفخر بها‬
‫ويعتادها كما يعتاد شرب الماء‪ ،‬وهكذا الحال في أمثلة ال تحصى‪ ،‬وكلها تثبت فساد‬
‫القول بتلك العالقة المزعومة بين القرآن والواقع‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬من العقيدة إلى الثورة ‪ ،464/2‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.465/2‬‬

‫‪329‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ويظهر التأثر بالفكر الماركسي أيض ًا((( عند نصر أبو زيد‪ ،‬والذي اعتبر في مقدمة‬
‫المبحث الذي كتبه عن النسخ من كتابه «مفهوم النص دراسة في علوم القرآن» أن‬
‫«ظاهرة النسخ التي أقر العلماء بحدوثها في النص أكبر دليل على جدلية العالقة‬
‫بين الوحي والواقع‪ ،‬إذ النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه‪ ،‬سواء ارتبط اإللغاء بمحو‬
‫ال على الحكم‬‫النص الدال على الحكم ورفعه من التالوة‪ ،‬أو ظل النص موجود ًا دا ً‬
‫المنسوخ»(((‪.‬‬

‫وثمة ارتباط واضح عنده بين باب أسباب النزول وباب النسخ‪ ،‬من جهة أن كال‬
‫البابين يخدم توظيفه لما يصف بالعالقة الجدلية بين النص الواقع‪ ،‬وإثبات تاريخية‬
‫النصوص الشرعية‪ ،‬ومن ثم نجده يقول‪« :‬لقد رأينا الترابط بين قضايا الناسخ والمنسوخ‬
‫وبين قضايا أسباب النزول‪ ،‬بحيث يمكن أن نعدهما من منظور عالقة الترابط بين النص‬
‫والواقع قضية واحدة‪ ،‬أو نوع ًا واحد ًا من أنواع علوم القرآن»(((‪.‬‬

‫وتستمر محاوالت تلوين النسخ‪ ،‬وإسقاط المصطلحات الحديثة عليه عند عبد‬
‫الهادي عبد الرحمن‪ ،‬والذي يرى أن النسخ يجعل النص أكثر مرونة في المواجهة‬
‫والتغير والتطور‪ ،‬وقد جاء استجابة لما يصفه «بأزمة صعود المد اإلسالمي أيام‬
‫الرسول‪ ،‬رغم أن البعض اعتبره عبئ ًا على النص اإللهي‪ ،‬فحاول بكل الطرق أن يسلبه‬
‫جوهره بعملية التأويل‪ ،‬وثني ذراع اآليات واألحاديث والمواقف»(((‪ ،‬وهو يهاجم من‬
‫رفضوا النسخ بحجة أن إثباته يتعارض مع معاني تنزيه الذات اإللهية‪ ،‬وأنه ال تبديل‬
‫لكلمات الله‪ ،‬واصف ًا هذا الفريق بأنه «يحاول أن يجمد النص عند تأويل محدد‪ ،‬ال‬

‫((( وانظر مزيد تفصيل لهذا األمر في‪ :‬كتاب د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬التفسير الماركسي لإلسالم ص ‪.32‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.131‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.152‬‬
‫((( عبد الهادي عبد الرحمن‪ :‬سلطة النص قراءات في توظيف النص الديني ص ‪.149‬‬

‫‪330‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫يتعالى فقط على لحظته التاريخية‪ ،‬بل ويتعالى على فهم الرسول لذلك النص‪ ،‬لحظة‬
‫نزوله عليه وإن لم يقل هذا صراحة يقله ضمن ًا‪ ،‬ومن هنا يغلق الباب على شكل محدد‬
‫من المفاهيم»(((‪.‬‬

‫ويربط عبد الجواد يس بين النسخ‪ ،‬وإثبات تاريخية النص القرآني‪ ،‬معتبر ًا أن وجود‬
‫النسخ يكشف عن تلك الطبيعة التاريخية للنص‪ ،‬فيقول‪« :‬يكشف النسخ بشكل مباشر‬
‫من الطبيعة التاريخية للنص التشريعي‪ ،‬من حيث يشير إلى حقيقة التغير في األحكام‪،‬‬
‫وحقيقة االرتباط بين هذا التغير وتحوالت الواقع االجتماعي في مدى زمني قصير‬
‫نسبي ًا»(((‪ ،‬وهو ينتقد العلماء المتقدمين الذين لم يفهموا النسخ بهذه الصورة‪ ،‬مشير ًا‬
‫إلى أن «قضية النسخ لم تقرأ سلفي ًا على هذا النحو‪ ،‬فمع اإلقرار بحقيقة التغير‪ ،‬ليس‬
‫ثمة إقرار بأنه ناتج عن تحوالت الواقع‪ ،‬بل هو راجع إلى محض اإلرادة المطلقة لله‪،‬‬
‫من دون توقف للنظر في كون تحوالت الواقع نواميس طبيعية تعمل من داخل اإلرادة‬
‫اإللهية»(((‪.‬‬

‫ويصل الهوس بتوظيف النسخ إلثبات فكرة التاريخية وقابلية األحكام الشرعية‬
‫للتطوير والتبديل عند محمد سعيد العشماوي إلى درجة االفتراء على أهل العلم‬
‫المتقدمين‪ ،‬وأنهم لم يحصروا النسخ فيما دلت األدلة الشرعية على نسخه‪ ،‬بل تركوا‬
‫الباب مفتوح ًا على مصراعيه لنسخ أي حكم‪ ،‬ال يمكن تطبيقه في عصر ما‪ ،‬ومعنى‬
‫ذلك عنده «أن المسلمين األوائل لم يحصروا النسخ باألحكام التي نص الشارع على‬
‫نسخها‪ ،‬بل كان فهمهم لمبدأ النسخ يقوم على أساس أن أحكام الشريعة ليست مطلقة‬
‫دائمة‪ ،‬بل هي نسبية ومؤقتة‪ ،‬وقد دعاهم هذا إلى وقف العمل بأحكام لم تنسخ من‬
‫((( المرجع السابق ص ‪.149‬‬
‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.92‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.92‬‬

‫‪331‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫القرآن‪ ،‬لكن المسلمين األوائل أدركوا أن واقع الحياة ومنطق األحداث قد تجاوزها‪،‬‬
‫فلم يعد من الممكن تطبيقها بعد عصر معين أو بعد واقعات بذاتها»(((‪ .‬وقد مثل لذلك‬
‫بما فعله عمر رضي الله عنه بشأن المؤلفة قلوبهم‪ ،‬ووقف توزيع األراضي المفتوحة‬
‫على الغانمين‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من خلط وتخبط‪ ،‬وجهل واضح بحقيقة النسخ‪،‬‬
‫والتي تقوم على رفع حكم شرعي متقدم بحكم شرعي متأخر‪ ،‬على أن يدل الدليل‬
‫على ذلك‪ ،‬وفي هذه الحالة ال يبقى الحكم المتقدم‪ ،‬بل ينسخ ويرفع بالكلية‪ ،‬ويحل‬
‫محله الحكم الجديد‪.‬‬

‫أما عدم تطبيق حكم شرعي ما في واقعة بعينها‪ ،‬لعدم توافر الشروط‪ ،‬أو لوجود‬
‫موانع‪ ،‬أو لعدم التحقق من ثبوت مناط الحكم الجتهاد ما‪ ،‬فذلك باب مختلف تمام ًا‬
‫عن النسخ‪.‬‬

‫وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه فيما أثر عنه في قضية المؤلفة قلوبهم‪ ،‬ووقف‬
‫توزيع األراضي المفتوحة على الغانمين‪ ،‬وما أشبه تلك الوقائع‪ ،‬ولم يقل أحد إن‬
‫مصرف المؤلفة قلوبهم مث ً‬
‫ال قد نسخ‪ ،‬ولم يعد ضمن مصارف الزكاة المعروفة‪ ،‬وإنما‬
‫األمر موقوف على وجود المؤلفة قلوبهم بالفعل‪ ،‬واحتياج المسلمين لتأليف قلوبهم‪،‬‬
‫حيث يدور الحكم مع علته وجود ًا وعدم ًا‪.‬‬

‫وممن دافعوا بقوة عن وجود الناسخ والمنسوخ‪ ،‬خليل عبد الكريم والذي هاجم‬
‫نفاة النسخ‪ ،‬محتج ًا بأن النسخ أمر ثابت نص عليه القرآن‪ ،‬والنصوص نفسها تناسخت‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬مقال بعنوان أفكار من أجل تحديث اإلسالم‪ً ،‬‬
‫نقال عن د‪ .‬عدنان محمد‬
‫أمامة‪ :‬التجديد في الفكر اإلسالمي ص ‪.446‬‬

‫‪332‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫‪ -‬نسخ بعضها اآلخر ‪ -‬خالل عشرة أعوام أو يزيد قلي ً‬


‫ال‪ ،‬هي عمر التجربة اليثربية أو‬
‫تجربة المدينة‪ ،‬وقال به أعالم األئمة‪ ،‬وصنفوا فيه أمهات الكتب‪ ،‬وأقروا بوجوده في‬
‫عدة مئات من القضايا(((‪.‬‬

‫وإذا تساءلنا عن سر هذه الحماسة في إثبات الناسخ والمنسوخ فيأتينا الجواب‬


‫من خليل عبد الكريم وغيره واضح ًا صريح ًا‪ ،‬ويتلخص في أنه إذا كانت النصوص‬
‫نفسها تناسخت‪ ،‬فكيف تستسيغ العقول رفض مبدأ أو نظرية التاريخية((( «وعندما‬
‫تقر النصوص نفسها مبدأ النسخ وتطبقه مئات المرات‪ ،‬إبان عقد واحد من السنين‬
‫‪ -‬العهد المدني ‪ -‬ويرسخه ويؤيده شيوخ اإلسالم وحججه‪ ،‬ويؤلفون فيه عشرات‬
‫الكتب‪ ،‬ويوردون األدلة الدوامغ عليه‪ ،‬فكيف يتسنى التمسك بحرفية النصوص لمدة‬
‫أربعة عشر قرن ًا‪ ،‬ودون التفات إلى أسباب وروده والظروف الحافة بها‪ ،‬وكافة األنساق‬
‫المعيشية التي كان عليها أول من تلقاها شفاهة»(((‪.‬‬

‫وخالصة ما نخرج به من العرض المتقدم أن مواقف العلمانيين والحداثيين من‬


‫قضية النسخ قد تضاربت بشدة‪ ،‬ما بين مثبت وناف‪ ،‬ولعل سبب ذلك اختالف السياق‬
‫والغرض الذي يتناول كل واحد منهم من خالله قضية النسخ‪.‬‬

‫فإذا كان الكالم عن العلماء المتقدمين من المحدثين وروايتهم لألخبار‪ ،‬والفقهاء‬


‫وكيفية استنباطهم لألحكام‪ ،‬والمفسرين وتفسيرهم آليات القرآن‪ ،‬فالغالب هنا هو نفي‬
‫وجود النسخ‪ ،‬والطعن في هؤالء العلماء القدامى‪ ،‬واتهامهم بتوظيف النسخ لخدمة‬
‫آرائهم‪ ،‬وإزالة التضارب بين األحكام‪ ،‬والسير وراء هوى الملوك واألمراء‪.‬‬

‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي ضمن األعمال الكاملة ص ‪.109‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.109‬‬
‫((( المرجع السابق ص ‪.110‬‬

‫‪333‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أما إذا كان الكالم عن تاريخية النصوص‪ ،‬ووقتية األحكام‪ ،‬واختالفها‪ ،‬وتغيرها‬
‫بتغير الزمان والمكان‪ ،‬فهنا يكون النسخ أداة مهمة جد ًا إلثبات ذلك كله‪ ،‬وتسويغ‬
‫التفلت من األحكام الثابتة والدعوة لتطويرها‪ ،‬بحجة وجود ما يبرر ذلك وهو الناسخ‬
‫والمنسوخ‪.‬‬

‫‪ -7‬ونختم هذه النماذج الكاشفة عن شيء من مظاهر سمة التناقض لدى العلمانيين‬
‫بصفة عامة‪ ،‬باإلشارة إلى ذلك المسلك الشائع لدى الكثيرين منهم‪ ،‬وهو ميلهم في‬
‫قراءتهم للتراث اإلسالمي العتماد التفسير المادي‪ ،‬الذي يرجع أصول هذا الفكر‬
‫إلى أسباب مادية‪ ،‬سواء كانت سياسية أو غيرها‪ ،‬بينما تغيب تلك النظرة في قراءتهم‬
‫للفكر الغربي‪ ،‬حيث ينظرون إليه باعتباره فكر ًا عالمي ًا متجاوز ًا للقارات‪ ،‬ونسق ًا معرفي ًا‬
‫يستهدف الحقيقة والسعادة اإلنسانية(((‪.‬‬

‫ويتكرر مسلك مشابه لسابقه أيض ًا‪ ،‬وهو ميل هؤالء العلمانيين إلى تقديم‬
‫قراءة تاريخانية للتراث اإلسالمي‪ ،‬ترد فيه األفكار إلى خلفيات السياق االجتماعي‬
‫والسياسي‪ ،‬ومن ثم يفسرون علم الفقه بصراعات القوى‪ ،‬ويفسرون علم العقيدة‬
‫بمعارك المذاهب‪ ،‬وعلم الحديث بطلب السوق‪ ،‬وعلم التفسير بالموروث الثقافي‪.‬‬

‫فإذا ما انتقلوا للتعامل مع الفكر الغربي‪ ،‬ألفيناهم ال يقرؤونه بمنظور تاريخاني‬


‫ٍ‬
‫متعال‪،‬‬ ‫يكشف البعد الذاتي‪ ،‬بل تتم قراءته بنيوي ًا‪ ،‬باعتباره مجرد نسق ثقافي نقي‬
‫ومعزول عن الخلفيات والدوافع البشرية والسياسية والعنصرية‪ ،‬وال شك أن مقارنة‬
‫هذين المشهدين تشي بالتناقض المذهل في نظرية التفسير‪ ،‬فال يمكن تصور أن تكون‬
‫حضارة كاملة تقرأ تاريخاني ًا‪ ،‬وحضارة أخرى تقرأ بنيوي ًا‪ ،‬فتفاوت التقنية التأويلية‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬سلطان العميري‪ :‬التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي ص ‪.70‬‬

‫‪334‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫بهذا التناقض الحاد يكشف عن انحيازات نفسية عميقة‪ ،‬أكثر من كون الخطاب رؤية‬
‫معرفية(((‪.‬‬

‫وثمة نموذج تطبيقي لهذا المسلك نجده عند محمد عابد الجابري في تناوله‬
‫للموقف من اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان من جهة‪ ،‬والتشريعات اإلسالمية‬
‫المتعلقة بحقوق اإلنسان من جهة أخرى‪ ،‬حيث تعامل مع المنتج الغربي المتمثل في‬
‫اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان باعتباره عالمي ًا إنساني ًا‪ ،‬سالم ًا من التأثر بالظروف‬
‫االجتماعية الخاصة بالغرب بل كان ثورة عليها‪ ،‬وفي الوقت نفسه راح يزعم أن ما‬
‫جاءت به الشريعة في مجال حقوق اإلنسان ‪ -‬كالمواريث والزواج والشهادة وغيرها ‪-‬‬
‫كانت متأثرة بظروف المجتمع القبلي‪ ،‬متجاه ً‬
‫ال أن اإلسالم نفسه أتى ليبدل ويغير تلك‬
‫األوضاع السائدة في ذلك الزمان(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬إبراهيم السكران‪ :‬مآالت الخطاب المدني للسكران ص ‪.146 ،145‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬سلطان العميري‪ :‬فضاءات الحرية ص ‪.98‬‬

‫‪335‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫المبحث الثاني‬

‫نماذج من التناقضات واإلشكاالت المنهجية في موقف‬


‫العلمانيين من أسباب النزول‬

‫وإذا ما اكتفينا باألمثلة السابقة للتناقضات العلمانية بصفة عامة‪ ،‬وانتقلنا إلى‬
‫موضع اهتمامنا‪ ،‬وهو إبراز التناقضات واإلشكاالت المنهجية في الموقف الحداثي‬
‫من أسباب النزول‪ ،‬فيمكننا أن نلحظ نماذج عدة‪ ،‬منها ما يرجع إلى التناقض الحاصل‬
‫ما بين شخصية وأخرى داخل االتجاه الحداثي‪ ،‬ومنها ما يعتبر تناقض ًا داخل فكر‬
‫الشخصية الواحدة‪ ،‬إضافة إلى العديد من اإلشكاالت المنهجية التي تقف عقبة كأداء‬
‫أمام صحة التصورات الحداثية حول أسباب النزول‪ ،‬وفيما يلي رصد لعدد من الشواهد‬
‫في هذا الصدد‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬بإزاء الغلو الذي وجدناه لدى بعض العلمانيين في كم أسباب النزول‪،‬‬
‫واالدعاء بأن كل اآليات ارتبطت بسبب نزول خاص بها‪ ،‬فإن نفر ًا منهم مالوا إلى‬
‫التشكيك بالكلية في أسباب النزول الموجودة بين أيدينا‪ ،‬ورأوا أنها ال تصح من‬
‫األساس‪ ،‬بل تم اختالقها وتركيبها من قبل الفقهاء في مرحلة تاريخية الحقة‪ ،‬كي يثبتوا‬
‫صحة اآلراء الفقهية التي تبنوها‪.‬‬

‫وأول األمثلة التي تطالعنا في هذا الصدد موقف محمد شحرور‪ ،‬والذي عرف‬
‫بتفرقته المتهافتة بين القرآن والكتاب‪ ،‬وبناء على تلك التفرقة أنكر تمام ًا وجود أسباب‬
‫نزول للقرآن الكريم‪ ،‬بينما أقر بوجود أسباب نزول للكتاب‪ ،‬فقال‪« :‬أسباب النزول هي‬
‫لألحكام‪ ،‬ولتفصيل الكتاب‪ ،‬وليس للقرآن أسباب نزول»(((‪.‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.92‬‬

‫‪336‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وقد ساق شحرور على تفرقته تلك حجج ًا في غاية الهشاشة‪ ،‬ومنها أن للقرآن‬
‫وجود ًا مسبق ًا عن التنزيل‪ ،‬فكيف يكون له سبب نزول أص ً‬
‫ال‪ ،‬كما أن القرآن علم‬
‫بالحقيقة الموضوعية الموجودة خارج الوعي اإلنساني‪ ،‬وفيه قوانين الوجود وقوانين‬
‫التاريخ‪ ،‬وهو القوانين العامة الناظمة للوجود منذ االنفجار الكوني األول‪ ،‬وحتى‬
‫البعث والجنة والنار والحساب‪ ،‬وهذه كلها أمور ال تتوقف على أسباب النزول‪.‬‬

‫ومن حججه أيض ًا أن اآليات كانت ستنزل‪ ،‬سواء وجد السبب أم لم يوجد‪ ،‬وفي‬
‫ذلك يقول شحرور‪« :‬قد يقول الفقهاء إن للتنزيل في القرآن أسباب ًا‪ ،‬وأقول إن القرآن‬
‫ليس له عالقة بأسباب النزول‪ ،‬ألنه كان سيأتي سئل عنه أو لم يسأل‪ ،‬حيث إن معظم‬
‫األسئلة كانت في أم الكتاب أو تفصيل الكتاب‪ ،‬ومجال حديثنا هو القرآن‪ ،‬أما بالنسبة‬
‫للقصص فقد تم سؤال النبي ‪ #‬عن أهل الكهف وذي القرنين‪ ،‬ولكن السؤال هنا ليس‬
‫له معنى‪ ،‬ألن قصة أهل الكهف وذي القرنين كانت ستأتيه على كل حال‪ ،‬سئل أو لم‬
‫يسأل‪ ،‬ألن بقية القصص جاءت كلها دون سؤال»(((‪.‬‬

‫وعلى النقيض مما قرره علمانيون مثل نصر أبو زيد والعشماوي وحسن حنفي‬
‫من أن لكل آية سبب نزول‪ ،‬فإن شحرور يعتبر أن مثل هذا الرأي يعد سوء أدب مع الله‬
‫سبحانه ألن «قولنا بوجود أسباب لنزول اآليات يقتضي لزوم ًا عدم نزول آية إال بسبب‬
‫وجودها‪ ،‬وهذا في أحسن األحوال سوء أدب مع الله‪ ،‬ومع مقاصد تنزيل الرساالت‪،‬‬
‫التي تعتبر األسباب اإللهية األولى واألخيرة للتنزيل»(((‪.‬‬
‫وال يخفى أن هذا اللزوم الذي ادعاه شحرور ال وجه له أص ً‬
‫ال‪ ،‬وليس كل من قال‬
‫بأسباب النزول ادعى بأن لكل آية سبب نزول‪ ،‬ولم تظهر تلك الدعوى إال على أيدي‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.154‬‬


‫((( محمد شحرور‪ :‬نحو أصول جديدة ص ‪.84‬‬

‫‪337‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫هؤالء العلمانيين في العصر الحديث‪ ،‬كي يعضدوا بها موقفهم من أحكام الشريعة‬
‫وطريقتهم في التعامل معها‪.‬‬
‫ومن مزاعم شحرور أيض ًا أن ك ً‬
‫ال من أسباب النزول والناسخ والمنسوخ من‬
‫العلوم المستحدثة‪ ،‬التي كان وراء والدته أسباب عدة‪ ،‬وكلها تطعن في دين أهل العلم‬
‫المتقدمين وأمانتهم‪ ،‬ومن تلك األسباب «ترسيخ فكرة عدالة الصحابة وعصمتهم‪،‬‬
‫واعتبار ما نقل عنهم في أسباب النزول مقدس ًا ال يرقى إليه الشك‪ ،‬وأوجدوا له عنوان ًا في‬
‫كتب الحديث النبوي‪ ،‬فسموه المسند بالغ ًا ما بلغ المنقول عنهم من سخف وتفاهة»(((‪،‬‬
‫ومن األسباب األخرى التي دعت الختالق هذا العلم «االنتصار المذهبي والطائفي‪،‬‬
‫والزعم بفضل واحد من الصحابة بعينه‪ ،‬األمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام‬
‫الوضاعين والدساسين والمنتفعين‪ ،‬ينسبون ما شاؤوا للنبي وصحابته وتابعيه»(((‪.‬‬

‫وال شك أن دعوى اختراع الفقهاء ألسباب النزول ومثله الناسخ والمنسوخ دعوى‬
‫باطلة تمام ًا‪ ،‬واآلثار عن الصحابة والتابعين كثيرة جد ًا‪ ،‬وتبلغ مبلغ التواتر المعنوي‬
‫الدال قطع ًا على معرفتهم بهذين العلمين‪ ،‬واالعتماد عليهم في تفسير للقرآن‪ ،‬ويكفي‬
‫أن يطالع المنصف أي مصنف في أسباب النزول‪ ،‬ليعلم أن جل ما روي في هذا الباب‬
‫إنما هو من قبيل الرواية عن الصحابة والتابعين‪.‬‬

‫ومن منطلق تشكيكه في السنة عموم ًا‪ ،‬وفي صحيح البخاري على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬دعا زكريا أوزون في كتابه المتهافت اسم ًا ومضمون ًا «جناية البخاري» إلى‬
‫«ضرورة االبتعاد عن أسباب النزول هذه‪ ،‬ألنها تجعل من التنزيل الحكيم نص ًا تاريخي ًا‬
‫ماضي ًا‪ ،‬وإذا كنا نؤمن بصالحية القرآن الكريم لكل زمان ومكان‪ ،‬فإنه يتوجب علينا‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.88‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.91‬‬

‫‪338‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫محاولة إعادة فهمه بعيد ًا عن أسباب البخاري واعتماد ًا على أرضيتنا المعرفية الفكرية‬
‫والعلمية المعاصرة»(((‪.‬‬

‫ومن القائلين أيض ًا بقلة ما له سبب نزول من آيات القرآن‪ ،‬والمشككين في ثبوت‬
‫معظم ما روي منها جمال البنا‪ ،‬الذي رأى أن أسباب النزول ال أهمية لها وال جدوى‬
‫منها‪ ،‬كما أنها تقدم فهم ًا خاطئ ًا وتفسير ًا مغلوط ًا آليات القرآن الكريم(((‪ ،‬وأما عدد‬
‫اآليات القرآنية التي لها سبب نزول فهي ‪ -‬في رأيه ‪ -‬قليلة‪ ،‬وفي «القرآن آيات معدودة‬
‫يمكن التعرف صراحة على أسبابها أو شخوص من أنزلت فيهم‪ ...‬ولكن الحاالت التي‬
‫من هذا النوع محدودة في القرآن‪ ،‬واألغلب األعم أن ال يحدد القرآن أسماء أو تواريخ‬
‫أو أسباب ًا‪ ،‬وأن يذكر الواقعة لالتعاظ‪ ،‬واستلهام العبرة‪ ،‬أو استخالص النتيجة»(((‪.‬‬

‫وواضح من هذا النص أن جمال البنا يخلط ما بين أمرين مختلفين‪ :‬أحدهما‬
‫نزول اآلية على سبب‪ ،‬واآلخر ذكر تواريخ وأشخاص من نزلت اآلية متحدثة عنهم‪،‬‬
‫وال مالزمة بين األمرين‪ ،‬وقد يكون لآلية سبب نزول لكن ليس فيها ذكر ألشخاص‬
‫بأعيانهم‪ ،‬وتبقى اآلية عامة في صيغتها ومدلولها‪.‬‬

‫وقد شكك جمال البنا في ثبوت المرويات الواردة في أسباب النزول وصحتها‬
‫جازم ًا «بأن معظم ما جاء عن (أسباب النزول) منحول أو موضوع أو مروي بالمعنى‬
‫الذي ينال من مصداقيته‪ ،‬ولكن المفسرين تلقفوا هذه األحاديث ألنها حلت لهم‬
‫مشكلتهم‪ ،‬حتى وإن قالوا‪« :‬العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب»(((‪.‬‬

‫((( زكريا أوزون‪ :‬جناية البخاري‪ ،‬إنقاذ الدين من إمام المحدثين ص ‪.41‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل‪ :‬التوظيف الحداثي آليات المرأة وإشكالياته‪ ،‬جمال البنا نموذج ًا ص ‪،234‬‬
‫‪.237‬‬
‫((( جمال البنا‪ :‬نحو فقه جديد ص ‪.168 ،167‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.169 ،168‬‬

‫‪339‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وعلى المنوال نفسه المتقدم رفض عبد المجيد الشرفي تلك الدعوى القائلة بأن‬
‫كل آيات القرآن نزلت على سبب‪ ،‬وجزم ‪ -‬على خالف ذلك ‪ -‬بأن «تسعة أعشار‬
‫آيات المصحف ال تتوفر عنها أسباب معينة‪ ،‬وأن ثمانين في المائة من األسباب تتعلق‬
‫بآيات األخبار ال بآيات األحكام‪ ،‬بصرف النظر عن كونها أسباب ًا ذات صبغة تاريخية أو‬
‫أسطورية منحولة»(((‪.‬‬

‫وإذا غضضنا الطرف عن مسألة الكم‪ ،‬ومقدار نسبة اآليات النازلة على سبب‪،‬‬
‫فإن الشرفي يشكك أيض ًا في صحة أسباب النزول بصفة عامة من حيث نقلها‪ ،‬حيث‬
‫يشير إلى أن «األخبار التي دونت في هذا المضمار مروية عن التابعين أكثر مما كانت‬
‫مروية عن الصحابة‪ ،‬وكان للقصاص واإلخباريين دور بالغ األثر في تكييفها‪ ،‬وكان‬
‫القدماء واعين بما طرأ على هذا العلم من وضع اختلط بسببه الصحيح بالمنحول»(((‪،‬‬
‫ويضاف لذلك في رأيه أن أسباب النزول «لم تدون جزئي ًا فقط إال في فترة متأخرة‬
‫بعد جيلين أو ثالثة على أدنى تقدير‪ ،‬ومن الطبيعي إذن أن يدخلها الكثير من الوضع‬
‫واالضطراب»(((‪.‬‬

‫وهكذا يخلص الشرفي إلى أن أسباب النزول تم وضعها في مرحلة الحقة من قبل‬
‫الفقهاء إلسباغ المشروعية على آرائهم‪ ،‬والبحث عن «سلطة بها يشرعون لفهمهم ذاك‬
‫حتى يسود‪ ..‬وال أدل على ذلك من توظيفهم ألسباب النزول التي قررت لتركب فهم ًا‬
‫لآليات‪ ،‬والواقع أن أسباب النزول تأطير بعدي للنص القرآني‪ ،‬وال يخفى ما في هذه‬
‫البعدية من عمل للذاكرة الجمعية والضمير اإلسالمي»(((‪.‬‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬تقديمه لكتاب بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.9‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.8‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.48‬‬
‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.34‬‬

‫‪340‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وال يقتصر اإلشكال عند الشرفي على الشك في صحة مرويات أسباب النزول‪،‬‬
‫بل يمتد األمر إلى المضمون الذي يحويه ما نقل إلينا من تلك األسباب‪ ،‬فهي «عند‬
‫التمحيص الدقيق تعكس تارة متخي ً‬
‫ال إسالمي ًا‪ ،‬ال يرى حرج ًا في إلغاء قانون السببية‪،‬‬
‫سواء كان متعلق ًا بالعجيب والغريب كالكائنات الالمرئية من جن ومالئكة‪ ،‬أو بالعناصر‬
‫الطبيعية‪ ،‬وتعكس تارة أخرى مظاهر محدودة من التاريخ اإلسالمي األول»(((‪.‬‬

‫ومن المتبنين أيض ًا لتلك الوجهة المشككة في أسباب النزول بصورة أو بأخرى‬
‫محمد أركون والذي ادعى أن أسباب النزول من وضع الفقهاء واختالقهم‪ ،‬فقال‪« :‬إن‬
‫المناقشات المعقدة والمهلهلة التي دارت حول مسألة الناسخ والمنسوخ‪ ،‬كانت قد‬
‫أصبحت محتومة بعد تشكيل المصحف الذي يحتوي على كل اآليات المنسوخة‪،‬‬
‫وعندئذ راحت أدبيات أسباب النزول تزدهر وتنتشر‪ ،‬ضمن الظروف الثقافية والسياسية‬
‫الخاصة بالقرن األول للهجرة»(((‪.‬‬

‫ويدعي أركون أن أسباب النزول لم توضع على المحك التاريخي واألدبي الذي‬
‫ال بد منه لنقدها‪ ،‬فيقول‪« :‬يعتز التراث المنقول‪ ،‬ويفتخر بوجود أدبيات تدعى بأسباب‬
‫النزول‪ ،‬ولكن هذه القصص والروايات لم توضع حتى اآلن على محك النقد التاريخي‬
‫واألدبي‪ ،‬الذي ال مندوحة عنه»(((‪.‬‬

‫ومن المآخذ األخرى على أسباب النزول في رأي أركون أنها تنشر القصص‬
‫والخرافات واألساطير‪ ،‬وتعيد بث الخارق للطبيعة‪ ،‬والعجيب المدهش الخالب داخل‬
‫خطاب تشريعي مقطوع عن سياقه األسطوري األصلي‪ ،‬ومفصول عن مقصده األولى‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬تقديمه لكتاب بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.9‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.74‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.242‬‬

‫‪341‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫التاريخي والحيزي المكاني(((‪ ،‬وتركز على التفاصيل‪ ،‬وتسمي األشياء بأسمائها‪ ،‬مع‬
‫أن الخطاب القرآني يأنف من فعل ذلك‪ ،‬ويظل عمومي ًا متعالي ًا فال أسماء وال أحداث‬
‫وال وقائع إال في نادر األحيان(((‪.‬‬

‫وأخير ًا فإن أسباب النزول عند أركون نوع من المعارف التي كانت سائدة في‬
‫عصر العلماء القدامى‪ ،‬الذين قرأوا القرآن‪ ،‬وفسروه بطريقة معينة مستخدمين تلك‬
‫المعارف‪ ،‬وكلها «تتطلب اليوم مراجعة وإعادة قراءة على ضوء التاريخ النقدي‬
‫الحديث»(((‪.‬‬

‫ولسنا هنا بصدد المناقشة التفصيلية لتشكيكات هؤالء العلمانيين حول ثبوت‬
‫أسباب النزول ونشأتها‪ ،‬وإنما الذي يعنينا في المقام األول الكشف عن تضارب آرائهم‬
‫وتناقضها‪ ،‬ما بين قائل بأن كل آية نزلت على سبب ‪ -‬مثل‪ :‬حسن حنفي‪ ،‬ونصر أبو‬
‫زيد‪ ،‬ومحمد سعيد العشماوي ‪ -‬وما بين قائل بوضعها وانتحالها من قبل الفقهاء‬
‫المتأخرين؛ خدمة ألهدافهم السياسية واالجتماعية ‪ -‬مثل‪ :‬محمد شحرور‪ ،‬وجمال‬
‫البنا‪ ،‬وعبد المجيد الشرفي ‪ -‬وما بين قائل بأنها وضعت في القرن األول ‪ -‬مثل‪ :‬محمد‬
‫أركون ‪ -‬وحين يفتش المرء عن أدلة كل فريق على ذلك كله‪ ،‬ال يجد سوى دعا ٍو‬
‫عريضة‪ ،‬وأقوال مرسلة‪ ،‬دونما حجة أو برهان‪.‬‬

‫وتستمر هذه الحالة من التضارب في المواقف من ثبوت أسباب النزول لدى‬


‫العلمانيين‪ ،‬حيث نجد محمد عابد الجابري ال يشكك في أسباب النزول بالكلية‪،‬‬
‫أو يسمها باالختالق والوضع من قبل الفقهاء أو المفسرين ‪ -‬كما فعل هؤالء الذين‬

‫((( محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.81‬‬
‫((( انظر‪ :‬تعليق هاشم صالح على كتاب أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.74‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي ص ‪.68‬‬

‫‪342‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫تقدمت آراؤهم آنف ًا ‪ -‬بل أقر بأن آيات القرآن «مرتبطة في كثير من الحاالت بوقائع‬
‫منفصلة هي أسباب النزول»(((‪.‬‬

‫لكن الجابري مع إقراره بوجود أسباب النزول وكثرتها‪ ،‬فقد أثار اإلشكاالت‬
‫حول الثقة بالكثير من الرواة والمرويات الواردة في هذا الباب‪ ،‬معل ً‬
‫ال ذلك بأن «بعض‬
‫من خاضوا في هذا الموضوع من الرواة‪ ،‬وال سيما المهتمين منهم بأسباب النزول‬
‫قد بالغوا في البحث لكل آية عن سبب نزول‪ ،‬إلى الدرجة التي يتولد معها في ذهن‬
‫الباحث أن بعضهم كان مهتم ًا ليس فقط بالنازلة التي نزلت فيها هذه اآلية أو تلك‪،‬‬
‫بل أيض ًا بالبحث لكل آية عن نازلة يمكن ربطها بها‪ ،‬وال شك في أن مثل هذه النزعة‬
‫التجزيئية تمس بعمق مسألة الصدقية»(((‪.‬‬

‫وعلى الشاكلة نفسها أقر عبد الهادي عبد الرحمن بأهمية سبب النزول في فهم‬
‫اآليات القرآنية لكنه رأى «أن اإللحاح المستمر للبحث عن أسباب لنزول بعض‬
‫اآليات‪ ،‬أدى إلى وضع األسباب وانتحالها‪ ،‬حتى في آيات عامة جد ًا تتكرر كثير ًا‪ ،‬أو‬
‫جاءت األسباب المذكورة مناقضة لروح وعمق النص القرآني»(((‪ ،‬وهو ينتقد ما يسميه‬
‫بإلحاحية البحث عن سبب لنزول آية رغم عدم حتمية هذا األمر‪ ،‬والذي أدى بالفقهاء‬
‫إلى إجهاد «أنفسهم في البحث عن سبب للنزول‪ ،‬سواء عن طريق النقل المسند‪ ،‬أو عن‬
‫طريق النبش في النصوص‪ ،‬أو عن طريق الوضع»(((‪.‬‬

‫ويقلل محمد الطالبي من قيمة أسباب النزول‪ ،‬حيث يرى أنه نظر ًا للظهور المتأخر‬

‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬مدخل لدراسة القرآن ص ‪.243‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.254‬‬
‫((( عبد الهادي عبد الرحمن‪ :‬سلطة النص الديني قراءات في توظيف النص الديني ص ‪.103‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.104‬‬

‫‪343‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ألدبيات أسباب النزول‪ ،‬فإن هذا العلم بشكل عام مخيب لآلمال‪ ،‬على الرغم مما نهض‬
‫به قديم ًا من وظائف في إبانة دالالت النص الديني(((‪.‬‬

‫ويتناول علي حرب قضية أسباب النزول‪ ،‬وما أشبهها من مباحث علوم القرآن‬
‫الالزمة لفهم معانيه من منطلق فكرة تاريخية النص القرآني‪ ،‬ومن ثم تاريخية فهمه‬
‫وقراءته‪ ،‬زاعم ًا أن المفسرين القدامى قرأوا النص قراءة تاريخية من خالل أسباب‬
‫النزول وغيرها من معارف كانت متاحة في زمانهم‪ ،‬أما نحن فعلينا قراءته من خالل‬
‫ما تتيحه لنا إمكاناتنا المعرفية(((‪ ،‬وال شك أنه بهذه الطريقة سوف يتم التخلي بالكلية‬
‫عن أسباب النزول وما شابهها من مباحث علوم القرآن المعروفة‪ ،‬ألنها كانت صالحة‬
‫في زمان سابق‪ ،‬أما في عصرنا فعلينا استخدام المفاهيم التي تزودنا بها العلوم الحديثة‪،‬‬
‫وهي بالطبع مفاهيم متداولة في الحقل المعرفي الغربي‪.‬‬

‫وفي رسالته للدكتوراه ‪ -‬التي أشرف عليها وقدم لها عبد المجيد الشرفي ‪-‬‬
‫جزم بسام الجمل بأن «تسعة أعشار آيات المصحف ليست لها أسباب نزول»(((‪،‬‬
‫وحتى هذا العشر الباقي من آيات القرآن والذي نزل على سبب‪ ،‬فليس له ‪ -‬في‬
‫رأيه ‪ -‬قيمة معرفية صالحة فع ً‬
‫ال لتفهم نص المصحف‪ ،‬وتدبر مقاصد الرسالة‬
‫المحمدية‪ ،‬ومن ثم يقرر أن «قسم ًا كبير ًا من أخبار أسباب النزول غير جدير بثقة‬
‫الباحث المعاصر‪ ،‬الذي ينشد الحقيقة العلمية عارية من األحكام المسبقة أو‬
‫المسلمات المسطرة»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.31‬‬


‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.78‬‬
‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.443‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.444‬‬

‫‪344‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وفي ختام استعراضنا للنماذج السابقة المشككة في صحة أسباب النزول وثبوت‬
‫مروياتها‪ ،‬والزعم بأنها وضعت أو اختلقت في مرحلة الحقة‪ ،‬فال أظننا بحاجة لمناقشة‬
‫تلك الدعاوى تفصي ً‬
‫ال‪ ،‬ويكفي أن أصحابها ليس لهم معرفة تذكر بفنون مصطلح‬
‫الحديث‪ ،‬ونقد المرويات‪ ،‬والقدرة على فرزها وتمييزها بموضوعية وإنصاف‪ ،‬وإنما‬
‫هم انتقائيون وأصحاب نزعة توظيفية فجة للتراث‪.‬‬

‫فما وافق آراءهم أخذوا به ولو كان موضوع ًا‪ ،‬وما خالفها ردوه دون أدنى اعتبار‬
‫لصحة سنده ومتنه‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن موقفهم من المنهج النقلي في اإلسالم وطريقة نقل‬
‫السنة معروف ‪ -‬وسوف يرد معنا الكالم عنه الحق ًا ‪ -‬وإنما سقنا آراءهم هنا‪ ،‬لندلل‬
‫على التناقضات الموجودة داخل الصف العلماني‪ ،‬ما بين زاعم أن لكل آية سبب‬
‫نزول‪ ،‬وما بين مدع أنه لم يصح من تلك األسباب شيء يذكر‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬من التناقضات األساسية التي وقع فيها العلمانيون في تعاملهم مع أسباب‬
‫النزول‪ ،‬أن هذه األسباب جميعها قد وردت إلينا عن طريق النقل والرواية‪ ،‬وال مدخل‬
‫للعقل أو االجتهاد في إنشائها أو إثباتها ابتداء‪ ،‬ألنها عبارة عن روايات عن الصحابة‪،‬‬
‫تحكي أمور ًا حدثت زمن النبي ‪ ،#‬ومثلما ال تثبت األحاديث باالجتهاد‪ ،‬فكذلك‬
‫سبب النزول ال يثبت بغير الرواية والسماع‪ ،‬وال مجال لالجتهاد في ثبوته‪ ،‬اللهم إال ما‬
‫تعلق بدراسة سنده أو متنه (((‪.‬‬

‫وهكذا فإنه ال طريق أمامنا للعلم بأسباب النزول‪ ،‬أو الوقوف عليها إال من خالل‬
‫تلك المرويات المنقولة باألسانيد‪ ،‬والتي يتم التعامل معها وفق ًا للمنهج الحديثي‬
‫المنوط به تمييز المنقوالت‪ ،‬والحكم عليها‪ :‬صح ًا أو ضعف ًا‪ ،‬وقبو ً‬
‫ال أو رد ًا‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬عبد الله طاهر‪ :‬معرفة أسباب النزول ص ‪ ،19‬وعماد الدين الرشيد‪ :‬أسباب النزول وأثرها‬
‫في بيان النصوص ص ‪.36‬‬

‫‪345‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ويظهر التناقض العلماني في هذه المسألة‪ :‬أننا نجدهم يضخمون من شأن أسباب‬
‫النزول‪ ،‬ويدعي بعضهم أن لكل آية سبب ًا‪ ،‬ويوظفون تلك األسباب ألغراض وأهداف‬
‫شتى‪ ،‬مع أنهم ‪ -‬هم أنفسهم ‪ -‬ال يتوقفون عن التشكيك المتواصل في منهج النقل‪،‬‬
‫وطريقة رواية السنة عموم ًا‪ ،‬ويردون األحاديث ألدنى علة‪ ،‬بل ربما شكك بعضهم في‬
‫السنة كلها‪ ،‬ولم يرها حجة معتبرة‪ ،‬كما لم يثق في كل ما روي من أحاديثها‪.‬‬

‫وقد توالت نصوص أهل العلم المتقدمين((( في التأكيد على أن مدار أسباب النزول‬
‫على النقل‪ ،‬وأنه ال طريق للعلم بها إال الرواية‪ ،‬وأن معرفة سبب النزول من األمور‬
‫التي ال تقبل اجتهاد ًا‪ ،‬والعلة في ذلك أن ما ترتبط به هذه األسباب من مالبسات‪ ،‬ليس‬
‫مجرد افتراض عقلي يقوم على ضرب األمثال‪ ،‬بل هي أحداث ووقائع حدثت بالفعل‬
‫في أوقات محدودة‪ ،‬وفى ظروف معينة‪ ،‬ومالبسات معروفة‪ ،‬وفي مثل هذه األحوال‬
‫ال مجال للوقوف على معرفتها إال بنقل واضح عمن عاصر هذه األحداث بالفعل‪،‬‬
‫وشاهد تلك المالبسات(((‪ ،‬أو نقلها عمن شاهدها‪.‬‬

‫وقد نبه الواحدي في مقدمة كتابه أسباب النزول على عدم جواز القول في أسباب‬
‫النزول إال عن طريق الرواية والسماع‪ ،‬فقال‪« :‬وال يحل القول في أسباب نزول الكتاب‬
‫إال بالرواية والسماع‪ ،‬ممن شاهدوا التنزيل‪ ،‬ووقفوا على األسباب‪ ،‬وبحثوا عن علمها‪،‬‬
‫وجدوا في الطالب‪ ،‬وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في العلم بالنار»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه جزم الكافيجي بعدم جواز التكلم في سبب النزول بدون‬
‫السماع والمشاهدة‪ ،‬ألن «سبب النزول من األمور التي ال دليل عليها إال من جهة‬

‫((( انظر عدد ًا من هذه األقوال عند‪ :‬عماد الدين الرشيد‪ :‬أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص‬
‫ص ‪.34‬‬
‫((( الموسوعة القرآنية المتخصصة ص ‪.35‬‬
‫((( الواحدي‪ :‬أسباب النزول ص ‪ ،10‬وانظر‪ :‬ابن حجر‪ :‬العجاب في بيان األسباب ‪.200/1‬‬

‫‪346‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫الشرع‪ ،‬فإذا لم يجئ دليل من قبل الشرع على ذلك ال يجوز التكلم فيه‪ ،‬فيكون التكلم‬
‫فيه كالتكلم في المغيبات‪ ،‬التي ليس لها دليل أص ً‬
‫ال فيتوقف فيه‪ ،‬ولهذا لم يتكلم‬
‫المفسرون في سبب النزول بدون الدليل أص ً‬
‫ال‪ ...‬بل أجمعوا على أن التكلم فيه ال‬
‫يجوز بدون السماع والمشاهدة»(((‪.‬‬

‫وإذا انتقلنا إلى كتابات العلمانيين فسوف نجد اعتراف ًا وإقرار ًا منهم بأن أسباب‬
‫النزول وما أشبهها من مباحث علوم القرآن كالمكي والمدني‪ ،‬والقصص‪ ،‬والناسخ‬
‫والمنسوخ تعتبر علوم ًا نقلية‪ ،‬واألصل أنه ال مجال فيها لالجتهاد‪ ،‬وإن كانوا يعودون‬
‫في مجال التطبيق لتجاهل هذا اإلقرار‪ ،‬أو وضع تنظيرات تنسف هذا المعنى من‬
‫جذوره‪.‬‬

‫وممن أقر بهذه الحقيقة نصر أبو زيد‪ ،‬والذي ذكر أن الجوانب العامة الخارجية‬
‫للنص‪ ،‬مثل‪ :‬العلم بأسباب النزول‪ ،‬والقصص‪ ،‬والمكي والمدني‪ ،‬والناسخ والمنسوخ‬
‫«هي كلها علوم نقلية‪ ،‬تعتمد على الرواية عند القدماء‪ ،‬وال مجال فيها لالجتهاد‪ ،‬سوى‬
‫الترجيح بين الروايات أو محاولة الجمع بينها»(((‪.‬‬

‫وقد اعترف أيض ًا بأهمية المعرفة التاريخية الدقيقة بأسباب النزول‪ ،‬وبترتيب نزول‬
‫اآليات كوسيلة ال بد منها لتحديد الناسخ والمنسوخ‪ ،‬كما أقر بصعوبة ذلك‪ ،‬حيث‬
‫ذكر في سياق كالمه عن الناسخ والمنسوخ أن المهم في تحديده «هو ترتيب النزول‬
‫ال ترتيب التالوة في المصحف‪ ،‬ومعنى ذلك أن تحديد الناسخ من المنسوخ في آيات‬
‫القرآن يعتمد أساس ًا على معرفة تاريخية دقيقة بأسباب النزول وبترتيب نزول اآليات‪،‬‬
‫وهو أمر ليس سه ً‬
‫ال كما نتصور‪ ،‬وحين سأل محمد بن سيرين عكرمة لماذا لم يؤلف‬

‫((( الكافيجي‪ :‬التيسير في قواعد التفسير ص ‪.47‬‬


‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.263‬‬

‫‪347‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الصحابة القرآن كما أنزل األول فاألول؟ كان جوابه‪ :‬لو اجتمعت اإلنس والجن على‬
‫أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا»(((‪.‬‬

‫أما حسن حنفي فقد أشار إلى أن علوم القرآن بأسرها من قبيل العلوم النقلية‪ ،‬وأن‬
‫اعتمادها األساسي على األدلة النقلية دون العقلية‪ ،‬فقال‪« :‬تعتمد علوم القرآن على‬
‫األدلة النقلية بمفردها‪ ،‬دون األدلة العقلية‪ ،‬ألنها علوم نقلية خالصة‪ ،‬لذا كثرت اآليات‬
‫استدعاء من الذاكرة في غياب المعاجم المفهرسة أللفاظ القرآن‪ ،‬كما هو حادث هذه‬
‫األيام»(((‪.‬‬

‫وال يقتصر األمر على علوم القرآن وحدها عند حسن حنفي‪ ،‬بل العلوم األساسية‬
‫في اإلسالم‪ ،‬وهي القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه‪ ،‬هي في رأيه علوم نقلية‬
‫«تعتمد على الحفظ والنقل‪ ،‬فالعلماء هم الحفاظ‪ ،‬والعالم هو الحافظ»(((‪ ،‬ومقصد‬
‫حسن حنفي من هذا الوصف المتقدم ليس مجرد تقرير واقع تلك العلوم‪ ،‬وإنما‬
‫يهدف أيض ًا إلى نقدها‪ ،‬والدعوة لتطويرها‪ ،‬وتحويلها ‪ -‬من النقل إلى العقل كما هو‬
‫عنوان كتابه ‪ -‬وكل ذلك بسبب ما يعتبره غلبة للطابع النقلي عليها‪ ،‬حتى إنه يصفها‬
‫«بعلوم الرواية‪ ،‬وليست علوم الدراية‪ ،‬أقصى غايتها التوثيق والتضعيف‪ ،‬والتصحيح‬
‫والتجريح»(((‪.‬‬

‫ولعله ال يخفى ما في هذا الكالم من خلط‪ ،‬وعدم تحرير لمفهومي النقل والعقل‬
‫وطبيعة العالقة بينهما‪ ،‬حيث ال يتصور أن يوجد علم نقلي خالص ال مجال لعمل‬
‫العقل فيه فهم ًا واستنباط ًا‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.136 ،135‬‬


‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬من النقل إلى العقل‪ ،‬الجزء األول علوم القرآن من المحمول إلى الحامل ص ‪.18‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.17‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.18‬‬

‫‪348‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ومن العجيب حق ًا أن نجد المتكلمين القدامى‪ ،‬وكذا نفر من المعاصرين‬


‫(((‬

‫يرفضون وجود دليل نقلي محض‪ ،‬ويحذفونه من جملة األنواع الممكنة للدليل؛ ألن‬
‫كل مستخدم لنص من النصوص يتعامل معه بعقله‪ ،‬ويفهمه حسب إدراكاته ومعارفه‪،‬‬
‫والنص في ذاته كثير ًا ما ينطوي على مضامين عقلية إضافة لكونه خبر ًا‪ ،‬ثم إنه معتمد‬
‫على مقدمة عقلية سابقة أثبتت صحته‪ ،‬وعن طريقها ُعرف صدقه‪ ،‬وهكذا فإن الثنائية‬
‫الشهيرة وافتراض التعارض بين النقل والعقل ال بد من إعادة توصيفها من جديد ألنها‬
‫في الحقيقة ليست بين «نقل وعقل» وإنما بين «نقل ممزوج بعقل ‪-‬أو نقل مؤيد بعقل ‪-‬‬
‫وعقل مجرد»(((‪.‬‬

‫أما عن موقف العلمانيين من المنهج النقلي وروايات السنة‪ ،‬فيمكننا أن نالحظ‬


‫أن السمة الغالبة عليهم هي التشكيك في النقل والمرويات‪ ،‬وعدم الثقة بأحاديث السنة‬
‫في معظمها‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن الجهل الفاضح بالمنهج الحديثي في نقد المرويات‪ ،‬والحكم‬
‫عليها وعلى الرواة‪ :‬تصحيح ًا وتضعيف ًا‪ ،‬وتعدي ً‬
‫ال وتجريح ًا‪.‬‬

‫وقد حكم عبد المجيد الشرفي على منهج المحدثين‪ ،‬والمنهج النقلي عموم ًا بأنه‬
‫ٍ‬
‫مرض‪ ،‬ورتب على ذلك «أننا مدعوون إلى عدم الثقة في هذه األخبار كلها‪ ،‬وال‬ ‫غير‬
‫يمكن بحال تفضيل بعضها على البعض اآلخر»(((‪.‬‬

‫وأما حسن حنفي فقد ذهب إلى أن الدليل النقلي ال يثبت شيئ ًا‪ ،‬وال يفيد يقين ًا‪ ،‬وال‬
‫يعتبر حجة أص ً‬
‫ال‪ ،‬فقال‪« :‬العقل أساس النقل‪ ،‬والنقل بدون العقل يكون مجرد ظن‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬الرازي‪ :‬األربعين في أصول الدين ص‪ ،224 ،223‬واآلمدي‪ :‬اإلحكام في أصول األحكام‬
‫‪ ،12/1‬واإليجي‪ :‬المواقف ص‪ ،39‬وحسن حنفي‪ :‬من النقل إلى العقل‪ ،‬الجزء األول علوم القرآن‬
‫من المحمول إلى الحامل ص ‪.7‬‬
‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬الدليل النقلي بين الحجية والتوظيف ص ‪.28‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪.118‬‬

‫‪349‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال يرقى إلى مرتبة اليقين‪ ،‬فالنقل ال يتحدث بنفسه‪ ،‬وال يعرض نفسه إال من خالل‬
‫الذهن اإلنساني‪ ،‬النقل وحده ال يثبت شيئ ًا‪ ،‬وقال الله وقال الرسول ال يعتبر حجة»(((‪،‬‬
‫ويتكرر هذا المعنى نفسه في كتاب آخر له‪ ،‬معمم ًا الحكم على الخبر أي ًا كان نوعه‪،‬‬
‫ونافي ًا عنه أي نوع من الحجية واليقين «فالخبر وحده ليس حجة‪ ،‬وال يثبت شيئ ًا‪ ،‬على‬
‫عكس ما هو سائد في الحركة السلفية المعاصرة‪ ،‬من اعتمادها شبه المطلق على قال‬
‫الله وقال الرسول‪ ،‬واستشهادها بالحجج النقلية وحدها‪ ،‬دون إعمال للحس أو للعقل‪،‬‬
‫وكأن الخبر حجة‪ ،‬وكأن النقل برهان»(((‪.‬‬

‫ويصور محمد حمزة موقف الحداثيين العرب من الخبر بصفة عامة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫«لقد تصدعت منزلة الخبر في الفكر اإلسالمي الحديث‪ ،‬وتم توجيه نقد جذري إلى‬
‫مشروعية االعتماد على الخبر في التشريع‪ ،‬وفي سبل التفكير خصوص ًا‪ ،‬والخبر ديني ًا‬
‫كان أم ال‪ ،‬انبثق في التاريخ‪ ،‬وإلى التاريخ مرد قراءته وتدبره»(((‪.‬‬

‫وإذا ما تجاوزنا هذا الموقف العلماني المتطرف تجاه النقل عموم ًا إلى الموقف‬
‫من السنة النبوية على وجه الخصوص‪ ،‬فلن نجد الحال يختلف كثير ًا؛ ألن السنة ما‬
‫وصلت إلينا إال عن طريق النقل والرواية‪.‬‬

‫وقد اتخذ التشكيك العلماني في السنة مسالك عدة ومتنوعة‪ ،‬فتارة يتم الطعن‬
‫في حجية السنة ذاتها‪ ،‬واالدعاء بأنها ليست وحي ًا من الله‪ ،‬بل هي من قبيل العادات‬
‫والتقاليد الشائعة في البيئة العربية‪ ،‬وليس الرسول معصوم ًا‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أنها غير ملزمة‬
‫للمسلم المعاصر لتاريخيتها‪ ،‬واستحالة تطبيقها حالي ًا‪.‬‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬العقل والنقل ضمن موسوعة الحضارة اإلسالمية ‪.125/2‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬من العقيدة إلى الثورة ‪.368/1‬‬
‫((( محمد حمزة‪ :‬إسالم المجددين ص ‪.47‬‬

‫‪350‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وتارة أخرى يتم الطعن في كتب السنة‪ ،‬أو الصحابة‪ ،‬أو الرواة‪ ،‬أو منهج المحدثين‬
‫عموم ًا(((‪ ،‬مع ضرورة االنتباه إلى التشابه الكبير بين آراء العلمانيين وآراء المستشرقين‬
‫(((‬

‫في الموقف من السنة النبوية وعلومها‪.‬‬

‫وللعلمانيين محاوالت حثيثة لرفض المفهوم المستقر للسنة‪ ،‬والمتمثل في أنها‬


‫«ما نسب للرسول ‪ #‬من أقوال وأفعال وتقريرات» وأنها وحي واجب االتباع ال يحل‬
‫لمسلم تعمد مخالفته‪ ،‬واالستعاضة عن ذلك بمفاهيم جديدة‪ ،‬تفرغ السنة من كل قيمة‬
‫أو فائدة‪.‬‬

‫فمنهم من خطأ تعريف السنة المستقر عند أهل العلم‪ ،‬واتهمه بتحنيط اإلسالم‪،‬‬
‫ومنهم من وصف السنة بأنها كارثة أحاقت بالتشريع اإلسالمي‪ ،‬ومنهم من قصرها على‬
‫األقوال دون األفعال‪ ،‬ومنهم من اعتبر أن للسنة داللة سياسية أكثر من داللتها الشرعية‪،‬‬
‫ومنهم من قصر داللتها على زمن النبوة فقط(((‪.‬‬

‫ومن نماذج ذلك ادعاء نصر أبو زيد((( أن «السنة ليست مصدر ًا للتشريع‪ ،‬وليست‬
‫وحي ًا‪ ،‬بل هي تفسير وبيان لما أجمله الكتاب‪ ،‬وحتى مع التسليم بحجية الكتاب‪ ،‬فإنها‬
‫ال تستقل بالتشريع‪ ،‬وال تضيف إلى النص األصلي شيئ ًا ال يتضمنه على وجه اإلجمال‬
‫أو اإلشارة»(((‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬غازي الشمري‪ :‬االتجاه العلماني في دراسة السنة ص ‪.41 - 39‬‬
‫((( انظر في موقف المستشرقين من السنة‪ :‬د‪ .‬مصطفى السباعي‪ :‬السنة ومكانتها في التشريع اإلسالمي‬
‫ص ‪ ،211‬ود‪ .‬سعد المرصفي‪ :‬المستشرقون والسنة ‪ ،61 - 24‬ود‪ .‬عبد القهار العاني‪ :‬االستشراق‬
‫والدراسات اإلسالمية ص ‪ ،121‬ود‪ .‬ساسي سالم الحاج‪ :‬نقد الخطاب االستشراقي‪ ،‬الظاهرة‬
‫االستشراقية وأثرها في الدراسات اإلسالمية ‪.397/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬غازي الشمري‪ :‬االتجاه العلماني في دراسة السنة ص ‪.53‬‬
‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.102‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.119‬‬

‫‪351‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال شك أن السنة بهذا المفهوم الذي ال يضيف للنص األصلي ‪ -‬أي القرآن ‪-‬‬
‫شيئ ًا ال يتضمنه‪ ،‬تصير عديمة الجدوى‪ ،‬ويكفينا القرآن إذن‪ ،‬ألن السنة لن تقدم جديد ًا‪،‬‬
‫وحتى إذا قدمت شيئ ًا غير تفسير ما في القرآن ‪ -‬دون إضافة ‪ -‬فإنها بنص كالم أبي زيد‬
‫«أقوال وأفعال غير ملزمة للمسلم في العصور التالية»(((‪ ،‬وذلك ألنها تصف تقاليد‬
‫العصر الذي قيلت فيه‪ ،‬وهو عصر الرسول ‪« #‬ومن ثم فهي غير ملزمة خارج سياقها‬
‫االجتماعي التاريخي»(((‪ ،‬وبعبارة أخرى فهي «أقوال وأفعال غير ملزمة للمسلم في‬
‫العصور التالية»(((‪.‬‬

‫ويفسر حسن حنفي السنة تفسير ًا فلسفي ًا‪ ،‬متأثر ًا بالمنهج الظاهراتي‪ ،‬حيث يرى‬
‫أنها «مجموعة من المواقف اإلنسانية التي يعمل فيها شعور النبي‪ ،‬ويقوم بدور المشرع‬
‫للواقع‪ ،‬إما بناء على الوحي األول‪ ،‬أو بناء على وحي جديد‪ ،‬أو على الفهم التلقائي‬
‫للنبي لهذا الواقع»(((‪.‬‬

‫والنتيجة الخطيرة المترتبة على هذا المفهوم أن نصوص الوحي ‪ -‬سواء أكانت‬
‫قران ًا أم سنة ‪ -‬ليست عند حسن حنفي سوى «مجموعة من الحلول لبعض المشكالت‬
‫اليومية‪ ،‬التي تزخر بها حياة الفرد والمجتمع‪ ،‬وكثير من هذه الحلول قد تغيرت‪،‬‬
‫وتبدلت حسب التجربة على مقدار اإلنسان‪ ،‬وقدرته على التحمل»(((‪ .‬وبالطبع فإنه إذا‬
‫تغير الواقع وتجارب اإلنسان‪ ،‬فإن الحلول التي جاء بها الوحي لم تعد صالحة له‪ ،‬بما‬
‫يعني عدم اإللزام بما جاء في نصوص الوحيين‪.‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة الحقيقة ص ‪.17‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة ص ‪.201‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬التراث بين االستخدام النفعي والقراءة العلمية ص ‪ ،54‬مجلة (أدب ونقد) ‪ -‬القاهرة ‪-‬‬
‫العدد ‪ 79‬مارس ‪.1992‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.136‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.135‬‬

‫‪352‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ويرفض محمد شحرور تعريف السنة المعروف بحجة أن النبي ‪ #‬وأصحابه لم‬
‫يعرفوا السنة بهذا الشكل‪ ،‬زاعم ًا أن هذا التعريف كان سبب ًا في تحنيط اإلسالم(((‪ ،‬ثم‬
‫قدم ما زعم أنه تعريف معاصر للسنة‪ ،‬مفاده أنها «منهج في تطبيق أحكام أم الكتاب‬
‫بسهولة ويسر‪ ،‬دون الخروج عن حدود الله في أمر الحدود‪ ،‬أو وضع حدود عرفية‬
‫مرحلية في بقية األمور‪ ،‬مع األخذ بعين االعتبار عالم الحقيقة‪ :‬الزمان‪ ،‬والمكان‪،‬‬
‫والشروط الموضوعية التي تطبق فيها هذه األحكام»(((‪.‬‬

‫والخطير في كالم شحرور ‪ -‬إضافة لركاكته وهشاشته علمي ًا ‪ -‬أنه اعتبر السنة‬
‫اجتهاد ًا من النبي ‪ #‬في تطبيق الكتاب ‪ -‬أي القرآن ‪ -‬وفق ًا لظروف عصره‪ ،‬وهذا‬
‫االجتهاد ال يمنع المسلمين في العصور التالية من اجتهاد آخر‪ ،‬كما أنه ليس ملزم ًا لهم‪،‬‬
‫بل لهم الحق في البحث عن حلول مناسبة لزمانهم(((‪ ،‬وهو ما يعني تفريغ السنة من أي‬
‫حجية حقيقية‪ ،‬أو اعتبارها مصدر ًا شرعي ًا تستقى منها األحكام والتكاليف‪.‬‬

‫وال يكتفي شحرور باعتبار آرائه المنحرفة تلك رأي ًا رآه‪ ،‬وإنما يجازف أشد‬
‫المجازفة‪ ،‬فينسبه إلى النبي ‪ #‬وأصحابه‪ ،‬زاعم ًا أنهم لم يعتبروا في وقت من األوقات‬
‫أن األحاديث النبوية هي وحي‪ ،‬فالنبي ‪« #‬لم يأمر بجمعها كما فعل مع الوحي (الكتاب)‬
‫وكذلك األمر مع الخلفاء الراشدين‪ ،‬فقد فهموا أنها كانت نتيجة تعامل مع واقع معين في‬
‫ظروف معينة عاشها النبي ‪ ،#‬وجابه فيها عالم الحقيقة المكاني والزماني»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪ ،548‬وغازي الشمري‪ :‬االتجاه العلماني في دراسة‬
‫السنة ص ‪.54‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.549‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪ ،549‬والجيالني مفتاح‪ :‬الحداثيون العرب في العقود‬
‫الثالثة األخيرة ص ‪.86 ،85‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.546‬‬

‫‪353‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وإلى جانب هذا الخلط‪ ،‬وإثارة الشبهات حول مصطلح السنة المعروف‪ ،‬والمستقر‬
‫لدى األمة عبر القرون‪ ،‬ومحاولة اإلتيان بمصطلح جديد يفرغ السنة من أي قيمة أو فائدة‪،‬‬
‫فثمة مطاعن وتشكيكات في حجية السنة ذاتها‪ ،‬سواء من حيث وجوب العمل بما فيها‪،‬‬
‫وإلزامها لكل مسلم‪ ،‬أو من حيث الثقة بمروياتها‪ ،‬وطريقة نقلها عبر العصور‪.‬‬
‫وهناك نماذج عديدة من هذا القبيل يطول المقام بتتبعها تفصي ً‬
‫ال‪ ،‬ومن ثم نكتفي‬
‫ببعض أمثلة لها(((‪ ،‬ومن ذلك ادعاء محمد أركون أن القول بحجية السنة نتج عنه إسباغ‬
‫العصمة والتقديس على الرسول ‪ ،#‬ورفعه إلى ما فوق الظروف التاريخية والمباشرة‬
‫واآلنية‪ ،‬التي كان عليه أن يواجهها ويسيطر عليها‪ ،‬ومن ثم فإن «السنة التي خلع عليها‬
‫التعالي والتقديس بهذا الشكل تستطيع عندئذ أن تكون رديف ًا ومكم ً‬
‫ال للقرآن»(((‪.‬‬

‫ومن األفكار التي تكررت لدى العلمانيين إنكار وقوع إجماع األمة على حجية‬
‫السنة‪ ،‬واالدعاء بأن تلك الحجية لم تتقرر إال في فترة زمنية متأخرة‪ ،‬وممن تبنى ذلك‬
‫عبد المجيد الشرفي والذي زعم أنه «ال إجماع بين المسلمين على وجوب األخذ‬
‫بالسنة»(((‪ ،‬بحجة أن «األجيال اإلسالمية األولى قد شهدت إلى جانب القابلين للسنة‬
‫منكرين لها‪ ،‬وأن السنة لم تكتسب صبغة القداسة دفعة واحدة‪ ،‬بل كان ذلك تدريجي ًا‬
‫بمرور الزمن‪ ،‬وبعد أن نسيت مواقف المنكرين»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عبد الرزاق أسود‪ :‬االتجاهات المعاصرة في دراسة السنة ص ‪ ،586‬وغازي‬
‫الشمري‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة ص ‪ ،39‬ود‪ .‬محمد بن حجر‪ :‬موقف الفكر‬
‫الحداثي العربي من أصول االستدالل ص ‪ ،371‬ود‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد‬
‫العربية من محكمات الدين ص ‪ ،427‬ومصطفى باحو‪ :‬العلمانيون العرب وموقفهم من اإلسالم‬
‫ص ‪.203‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.80‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم والحداثة ص ‪.165‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪ ،154‬وانظر أيض ًا‪ :‬تحديث الفكر اإلسالمي ص ‪.57‬‬

‫‪354‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ويتردد المعنى نفسه عند حسين أحمد أمين والذي ذهب إلى أن حجية السنة‬
‫لم تقرر إال في مرحلة الحقة في أواخر القرن الثاني الهجري‪ ،‬حينما «بذلت‬
‫المحاوالت من أجل رفع أحكام السنة إلى مصافي األحكام القرآنية فيما يتصل‬
‫بالتشريع‪ ،‬وقيل إن النبي إنما استنها بأمر من الله تعالى‪ ،‬وأنها أنزلت عليه كما أنزلت‬
‫آيات الذكر»(((‪.‬‬

‫وفي رأي مشابه ذهب هشام جعيط إلى أن المسلمين في القرنين الثاني والثالث‬
‫الهجريين نسبوا إلى الرسول ‪ #‬األحاديث «واعتبروه مصدر التشريع والحكمة‬
‫واألخالق‪ ،‬وكلما تقدم الزمان كلما تضخم دور الحديث في التشريع‪ ،‬وبالتالي‬
‫مرجعية محمد»(((‪ .‬ويقرر جعيط قاعدة في غاية الخطورة‪ ،‬وهي عدم الثقة بجميع‬
‫المرويات‪ ،‬سواء في الحديث أو السيرة أو التاريخ أو الطبقات‪ ،‬فيقول‪« :‬ونحن ال‬
‫نعتمد على ما أكمل به اإلسالم فيما بعد ‪ -‬يقصد ما سوى القرآن ‪ -‬من سيرة وتاريخ‬
‫وطبقات وحديث‪ ،‬ألن القاعدة أن كل ما دون بعد مائة سنة من الحدث فاقد لثقة‬
‫المؤرخ»(((‪.‬‬

‫ويدعي الصادق نيهوم أن اعتماد السنة مصدر ًا للتشريع «فكرة غير شرعية‬
‫أص ً‬
‫ال»(((‪ .‬وليست سوى مؤامرة من األمويين لتثبيت دعائم ملكهم في وجه المعارضة‪،‬‬
‫بينما «لم يكن الرسول نفسه قد اعتمد الحديث مصدر ًا للتشريع‪ ،‬ولم يجمعه ولم ِ‬
‫يوص‬
‫بحفظه‪ ...‬ومن هذه الثغرة الطارئة تسلل إلى اإلسالم نص شرعي جديد منقول أيض ًا‬
‫عن رسول الله لكنه ليس هو القرآن‪ .‬علم الحديث أضاف إلى اإلسالم مصدر ًا جديد ًا‬

‫((( حسين أحمد أمين‪ :‬دليل المسلم الحزين ص ‪.91‬‬


‫((( هشام جعيط‪ :‬الوحي والقرآن والنبوة ص ‪.45‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.94‬‬
‫((( الصادق نيهوم‪ :‬محنة ثقافة مزورة ص ‪.95‬‬

‫‪355‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫للتشريع على أساس السنة‪ ،‬وهي فكرة ضمنت للخليفة األموي منفذ ًا فقهي ًا طارئ ًا كان‬
‫الخليفة في أشد الحاجة إليه»(((‪.‬‬

‫وأما نصر أبو زيد‪ ،‬فيتلخص موقفه من حجية السنة في أنها ليست وحي ًا بحال‪ ،‬كما‬
‫أنها ليست مصدر ًا تشريعي ًا مستق ً‬
‫ال موحى به من الله سبحانه‪ ،‬وإنما هي شارحة للقرآن‪،‬‬
‫أو من قبيل االجتهادات وشؤون الحياة التي يفعلها الرسول ‪ #‬وال عالقة لها بالتشريع‬
‫البتة(((‪ ،‬وأما الحديث النبوي فهو نص متحرك‪ ،‬قابل للتجدد‪ ،‬بناء على معايير اجتهادية‬
‫إنسانية‪ ،‬ومرتبط بظروف الزمان والمكان والواقع الذي ينشئه «فهو نص تكون وما زال‬
‫يتكون من خالل آليات العقل اإلنساني منذ اللحظات األولى للنطق به‪ ،‬والمسافة التي‬
‫تفصله عن المقدس مسافة شاسعة‪ ،‬يكاد معها يكون نص ًا إنساني ًا»(((‪.‬‬

‫ولمحمد سعيد العشماوي كتاب بعنوان «حقيقة الحجاب وحجية الحديث»‬


‫وقد خصص القسم الثاني منه للكالم عن حجية الحديث‪ ،‬وانتهى إلى أن الحديث‬
‫المتواتر فقط هو الذي يحتج به‪ ،‬مع أنه ال يوجد حديث قولي متواتر عنده إال حديث‬
‫واحد هو حديث «من كذب علي متعمد ًا»‪ ،‬أما بقية األحاديث القولية فآحاد ال يؤخذ‬
‫به في رأيه ال في األمور االعتقادية وال الشرعية «وال يقوم بحديث سنة اآلحاد فرض‬
‫ديني أو واجب ديني‪ ،‬وإنما يعمل بهذا الحديث في شئون الحياة الجارية على سبيل‬
‫االستئناس واالسترشاد»(((‪ .‬وبذلك ال يصير للسنة أي نوع من أنواع اإللزام‪ ،‬ال في‬
‫عقيدة أو شريعة‪ ،‬وإنما هي للبركة‪ ،‬واالستئناس‪ ،‬واالسترشاد‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.92‬‬


‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪ ،130‬وإبراهيم أبو هادي‪ :‬نصر أبو زيد ومنهجه في التعامل‬
‫مع التراث ص ‪.325‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.128‬‬
‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص ‪.104‬‬

‫‪356‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وإذا كان العشماوي يرى االحتجاج بالمتواتر ‪ -‬وإن كان المتواتر القولي عنده‬
‫حديث واحد فقط ‪ -‬فإن نصر أبو زيد يثير اإلشكاالت والشكوك حول حجية المتواتر‬
‫ووثوقيته‪ ،‬زاعم ًا أن هناك من العلماء المتقدمين من قلل من درجة حجية المتواترات(((‪.‬‬

‫كذلك صرح عبد المجيد الشرفي بعدم الثقة في التواتر‪ ،‬وعدم إفادته للقطع‪،‬‬
‫خالف ًا لما أطبق عليه أهل العلم‪ ،‬فقال‪« :‬نحن ال نثق في التواتر‪ ،‬ألن التواتر ال يفيد‬
‫القطع»(((‪ .‬وذلك ألنه «ال يعني سوى أن خبر ًا ما منتشر بين الناس في فترة معينة‪ ،‬لكن‬
‫انتشاره ال يعني صحته‪ ،‬أال ترى اإلشاعة الكاذبة تنتشر أحيان ًا وفي ظرف مهيأ‪ ،‬انتشار‬
‫النار في الهشيم‪ ،‬رغم أساسها الواهي»(((‪.‬‬

‫ومن الواضح ما في هذا الكالم من جهل بحقيقة التواتر‪ ،‬وشروطه عند علماء‬
‫الحديث ‪ -‬والتي ذكروها تفصي ً‬
‫ال في كتب المصطلح((( ‪ -‬والفارق الشاسع بينه وبين‬
‫اإلشاعات‪ ،‬فالتواتر ال بد لتحققه من وجود عدد كبير من الرواة في كل طبقات السند‪،‬‬
‫ويكون مستند نقلهم الحس ‪ -‬عبر الرؤية أو السماع ‪ -‬وتحيل العادة إمكان تواطؤ‬
‫مثلهم على الكذب‪ ،‬بخالف الشائعات واألخبار المكذوبة التي ال يعلم مصدرها‪ ،‬وال‬
‫تنبني على مشاهدة أو سماع‪ ،‬وال تحيل العادة تواطؤ رواتها على الكذب‪.‬‬

‫ومن األفكار األخرى التي أشرنا إليها من قبل‪ ،‬ذلك االجترار العلماني الغريب‬
‫لدعوى أن حجية السنة لم تكن أمر ًا معروف ًا وال مستقر ًا في المجتمع اإلسالمي‪ ،‬حتى‬
‫جاء اإلمام الشافعي رحمه الله وبذل جهد ًا مضني ًا لتقرير حجيتها‪ ،‬ثم قلده في ذلك كل‬

‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪.148 ،147‬‬


‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪.30‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ هامش ص ‪.160‬‬
‫((( انظر‪ :‬ابن الصالح‪ :‬مقدمة ابن الصالح ص ‪ ،267‬والسيوطي‪ :‬تدريب الراوي ‪ ،621/2‬والسخاوي‪:‬‬
‫فتح المغيث ‪ ،16 ،15/4‬والكتاني‪ :‬نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص ‪.9‬‬

‫‪357‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫من جاء بعده‪ ،‬وقد تكررت هذه الفكرة في مؤلفات كل من(((‪ :‬محمد أركون(((‪ ،‬وعبد‬
‫المجيد الشرفي(((‪ ،‬ومحمد شحرور(((‪ ،‬ونصر أبو زيد(((‪ ،‬وعلي مبروك(((‪ ،‬وعبد‬
‫الجواد يس(((‪ ،‬والصادق نيهوم(((‪ ،‬وغيرهم(((‪.‬‬

‫وال شك في بطالن هذا الزعم‪ ،‬والذي سبق إليه نفر من المستشرقين(‪ ((1‬ثم تلقفه‬
‫الحق ًا مجموعة من العلمانيين‪ ،‬وأكثروا من ترداده‪ ،‬مع أن كل مطالع لسيرة الصحابة‬
‫والتابعين وأتباع التابعين يعلم يقين ًا أن حجية السنة كانت من األمور المتفق عليها‬
‫قبل ظهور الشافعي رحمه الله‪ ،‬والذي لم يكن أول من قرر أو ثبت حجية السنة في‬
‫المجتمع اإلسالمي‪ ،‬ألن حجيتها في األصل أحد ثوابت اإلسالم‪ ،‬وقطعيات الشريعة‬
‫التي ال يسع أحد ًا التشكيك فيها(‪ ،((1‬وأدلة القرآن عليها من الوضوح والجالء‪ ،‬بحيث‬

‫((( انظر‪ :‬غازي الشمري‪ :‬االتجاه العلماني في دراسة السنة ص ‪ ،282 ،225‬ود‪ .‬الحارث فخري‪:‬‬
‫الحداثة وموقفها من السنة ص ‪ ،133‬وأحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي‬
‫ص ‪.92‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪ ،75‬والفكر اإلسالمي قراءة علمية ص‬
‫‪.22‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرقي‪ :‬لبنات ص ‪.154 - 150‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬نحو أصول جديدة للفقه اإلسالمي ص ‪.59‬‬
‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪ ،117 ،50‬والنص السلطة الحقيقة ص ‪.57 ،17‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬علي مبروك‪ :‬ما وراء تأسيس األصول ص ‪.91 ،90‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين‪ ،‬التشريع والنص واالجتماع ص ‪.24‬‬
‫((( انظر‪ :‬الصادق نيهوم‪ :‬محنة ثقافة مزورة ص ‪.93‬‬
‫((( انظر‪ :‬جورج طرابيشي‪ :‬من إسالم القرآن إلى إسالم الحديث ص ‪ ،183 ،177‬وزكريا أوزون‪:‬‬
‫جناية الشافعي ص ‪ ،35‬وحسين أحمد أمين‪ :‬دليل المسلم الحزين ص ‪ ،92‬وحمادي ذويب‪ :‬السنة‬
‫بين األصول والتاريخ ص ‪.46‬‬
‫(‪ ((1‬انظر‪ :‬د‪ .‬ساسي سالم الحاج‪ :‬الظاهرة االستشراقية ‪.431/1‬‬
‫(‪ ((1‬انظر‪ :‬السيوطي‪ :‬مفتاح الجنة في االحتجاج بالسنة ص ‪ ،5‬ود‪ .‬عبد الغني عبد الخالق‪ :‬حجية السنة‬
‫ص ‪.249 ،248‬‬

‫‪358‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ال تخفى على أحد‪ ،‬كما أن جيل الصحابة والتابعين ومن بعدهم مجمعون((( على‬
‫العمل بها‪ ،‬والرجوع إليها‪ ،‬واتباع نصوصها‪ ،‬وإنما خالفهم في ثبوت أو عدم ثبوت‬
‫بعض نصوصها‪ ،‬أو كيفية فهمها وضوابط ذلك كله‪.‬‬

‫وما تميز به الشافعي حق ًا هو دفاعه المتفرد والمتين عن السنة وحجيتها‪ ،‬وتأصيل‬


‫قواعد الفهم والتعامل معها‪ ،‬ومقاومة نزعات التشكيك في أخبارها والرد على‬
‫الشبهات المثارة حولها‪ ،‬مع مالحظة أن من ناظرهم الشافعي‪ ،‬وأطال في الرد عليهم‬
‫لم يكونوا منكرين لحجية السنة في ذاتها(((‪ ،‬بحيث يرفضونها مصدر ًا للتشريع‪ ،‬وإنما‬
‫كان إنكارهم‪ :‬إما لطريقة نقلها حيث ال يثقون في األخبار عموم ًا‪ ،‬أو في أخبار اآلحاد‬
‫على وجه الخصوص‪ ،‬وإما أنهم ينكرون أن تأتي السنة بحكم زائد على القرآن(((‪.‬‬

‫ومن المسالك األخرى التي اتبعها بعض العلمانيين للتشكيك في حجية السنة‪:‬‬
‫إثارة الشبهات حول عصمة الرسول ‪ #‬أو إنكارها صراحة(((‪ ،‬مع أن ذلك من األمور‬
‫المجمع عليها‪ ،‬وقد دل عليها قوله تعالى‪َ { :‬و َما َينطِ ُق َع ِن ا ْل َه َوى ‪ )#!٣!#‬إنْ ُه َو َّإل َو ْح ٌي‬
‫وحى} [النجم‪.]٤ ،٣ :‬‬
‫ُي َ‬
‫والنتيجة الخطيرة التي يريدها العلمانيون من ذلك أنه إذا كان الرسول غير معصوم‪،‬‬
‫فليس هناك ما يبرر وجوب اتباعه‪ ،‬إذ قد يخطئ‪ ،‬وال سيما في أمور التشريعات الدنيوية‬
‫غير العبادات‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬ابن حزم‪ :‬اإلحكام ‪ ،99/1‬وابن تيمية‪ :‬شرح العقيدة األصفهانية ص ‪ .106‬والشوكاني‪:‬‬
‫إرشاد الفحول ‪ ،96/1‬ود‪ .‬محمد أبو شهبة‪ :‬دفاع عن السنة ص ‪.13‬‬
‫((( انظر‪ :‬الشافعي‪ :‬جماع العلم ص ‪ ،4‬ومحمد أبو زهرة‪ :‬الشافعي ص ‪.78‬‬
‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪ ،91‬وغازي الشمري‪ :‬االتجاه‬
‫العلماني المعاصر في دراسة السنة ص ‪.230‬‬
‫((( انظر‪ :‬غازي الشمري‪ :‬االتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة ص ‪ ،302‬ود‪ .‬الحارث فخري‪:‬‬
‫الحداثة وموقفها من السنة ص ‪.127‬‬

‫‪359‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وقد زعم محمد سعيد العشماوي أن القرآن الكريم لم يعتبر النبي معصوم ًا‪ ،‬ولم‬
‫يكتف بذلك‪ ،‬بل ادعى أن فكرة عصمة األنبياء نفسها دخلت إلى الفكر اإلسالمي نق ً‬
‫ال‬
‫عن الفكر المسيحي‪ ،‬الذي يؤمن بأن المسيح أقنوم لله‪ ،‬وأنه لذلك ال يمكن أن يخطئ‬
‫ألنه معصوم بطبيعته من الوقوع في الخطأ(((‪.‬‬

‫وعلى غرار هذا القول ذهب حسين أحمد أمين إلى أن الرسول ‪ #‬لم يدع قط‬
‫أنه معصوم من الخطأ‪ ،‬ومع ذلك فقد «افترض أنصار االلتزام بالسنة أن العناية اإللهية‬
‫ال إلى قومه‬‫إنما كانت توجه كل عمل أتى به وكل كلمة صدرت عنه‪ ،‬مذ بعثه الله رسو ً‬
‫إلى أن مات‪ ،‬ومن ثم فقد رأوا أن أحكام السنة ملزمة في الحاالت التي لم يرد بصددها‬
‫حكم قرآني»(((‪.‬‬

‫وأما حسن حنفي فقد تنوعت تفسيراته لعصمة األنبياء ما بين ردها إلى الخالفات‬
‫العقائدية أو الظروف السياسية التي شهدها المجتمع المسلم‪ ،‬فتارة يرجعها إلى العامل‬
‫الفكري والعقائدي‪ ،‬فيقول‪« :‬والحقيقة أن القول بعصمة األنبياء هو رد فعل على القول‬
‫بعصمة األئمة‪ ،‬فإذا كانت هناك عصمة كتعبير عن التبجيل والتعظيم للقائد والزعيم‪،‬‬
‫فالنبي أولى بها من اإلمام»(((‪ .‬وتارة أخرى يرجعها إلى العامل السياسي فيقول‪:‬‬
‫«العصمة إذن سالح سياسي لزعزعة الثقة في القيادة المعارضة‪ ،‬أي النبوة أو الخالفة‪،‬‬
‫ولزرعها في قيادة جديدة هي اإلمامة‪ ،‬فكل زعيم يدعي قومه أنه أولى بالعصمة من‬
‫اآلخر‪ ،‬وبالتالي أولى بالطاعة ألمره واالنتصار له»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪ ،145‬ود‪ .‬محمد عمارة‪ :‬سقوط الغلو العلماني‬
‫ص ‪.39‬‬
‫((( حسين أحمد أمين‪ :‬دليل المسلم الحزين ص ‪91‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬من العقيدة إلى الثورة ‪.217/4‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.217/4‬‬

‫‪360‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ولعله ال يخفى ما في تناول هؤالء العلمانيين لقضية العصمة من أخطاء بينة‪ ،‬وجهل‬
‫بمقتضى األدلة الشرعية‪ ،‬وكالم أهل العلم في كتب العقائد والتفسير حينما عرضوا‬
‫تفصي ً‬
‫ال لقضية العصمة(((‪ ،‬ثم إنهم قد خلطوا بين العصمة في باب التبليغ والرسالة‪ ،‬وهو‬
‫أمر مجمع عليه بين األمة‪ ،‬وال تتم حجة الله على العباد إال به‪ ،‬وقد دل عليه قوله تعالى‪:‬‬
‫وحى} [النجم‪]٤ ،٣ :‬؛ والعصمة فيما سوى‬
‫{ َو َما َينطِ ُق َع ِن ا ْل َه َوى ‪ )#!٣!#‬إنْ ُه َو َّإل َو ْح ٌي ُي َ‬
‫ذلك‪ ،‬وقد جرى خالف في بعض تفاصيله كعصمة األنبياء عن الصغائر‪.‬‬

‫ومن مسالك العلمانيين للتشكيك في السنة‪ :‬الطعن في الصحابة رضوان الله‬


‫عليهم‪ ،‬وقد تعددت نماذج هذا المسلك لديهم(((‪ ،‬وبالطبع فقد حظي الصحابة‬
‫المكثرون من الرواية ‪ -‬مثل‪ :‬أبي هريرة وابن عباس ‪ -‬بنصيب وافر من اهتمامهم‪،‬‬
‫انطالق ًا من أن التشكيك في عدالتهم كفيل بطرح ما رووه من أحاديث وهو جم غفير‪.‬‬

‫ولعل أشد تلك الطعون فجاجة وغلو ًا‪ ،‬وتجاوز ًا لكل حدود األدب والعلم‬
‫والدين(((‪ :‬تلك التي نجدها عند سيد القمني في أكثر من كتاب له(((‪ ،‬وعند خليل عبد‬
‫الكريم في كتابيه «شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة»(((‪ ،‬وكتابه «مجتمع يثرب‪،‬‬
‫العالقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي»‪ ،‬الذي صور الصحابة‬
‫ومجتمعهم بصورة غاية في الشناعة‪ ،‬وكأنهم جماعة من الناس ال يفكرون وال يشغلهم‬
‫شيء إال شهوة النساء!!‬

‫((( انظر‪ :‬منصور بن راشد التميمي‪ :‬العصمة في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ،‬مكتبة الرشد‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪1435 ،‬ﻫ ‪2014 -‬م‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬الحارث فخري‪ :‬الحداثة وموقفها من السنة ص ‪.194‬‬
‫((( انظر‪ :‬مصطفى باحو‪ :‬العلمانيون العرب وموقفهم من اإلسالم ص ‪.295‬‬
‫((( انظر‪ :‬سيد القمني‪ :‬شكر ًا بن الدن ص ‪ ،157‬انتكاسة المسلمين إلى الوثنية ص ‪.210‬‬
‫((( وقد احتفى عبد المجيد الشرفي بكتاب خليل عبد الكريم هذا‪ ،‬وحرص على اإلحالة إليه‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.99‬‬

‫‪361‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وثمة طعون أخرى أقل فجاجة وحدة في األسلوب‪ ،‬لكنها تصب في الغاية‬
‫نفسها‪ ،‬وهي زعزعة الثقة بالصحابة رضوان الله عليهم‪ ،‬ومن هذا القبيل دعوة نصر‬
‫أبو زيد إلى مراجعة المفهوم الشائع للصحابي‪ ،‬حيث رأى أن هذا «التعريف الذي ساد‬
‫واشتهر في تاريخ الفقه‪ ،‬وهو تعريف في حاجة إلى مراجعة من منظور الرواية والنقل‬
‫والتحمل»(((‪ .‬كما انتقد فكرة تعديل الصحابة من قبل من يسميهم بالحفاظ ومتلقني‬
‫القواعد الذين «يتصورون أن الصحابة أشخاص مقدسون‪ ،‬وليسوا بشر ًا وفاعلين‬
‫اجتماعيين‪ ،‬متجاهلين في تصورهم هذا حقائق التاريخ‪ ،‬التي تذكر اختالفاتهم إلى حد‬
‫حمل السيوف‪ ،‬وقتل بعضهم بعض ًا»(((‪.‬‬

‫وثمة انتقاد مشابه عند محمد أركون لما يسميه بالنظرية التيولوجية المزعومة التي‬
‫«فرضت بالقوة فكرة أن كل الصحابة معصومون في شهاداتهم ورواياتهم»(((‪ .‬حتى‬
‫صار من المسلمات أن «الصحابة معصومون‪ ،‬وقد نقلوا بحرص وأمانة كلية النصوص‬
‫الصحيحة‪ ،‬والوقائع التاريخية المتعلقة ببعثة محمد»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه جزم عبد المجيد الشرفي بأن «ما أضفي عليهم ‪ -‬أي الصحابة ‪-‬‬
‫من صفات الكمال ال صلة له بالواقع التاريخي‪ ،‬وقد رسخته السلطة السياسية‪ ،‬ألنها‬
‫في حاجة إلى مرجعيتهم‪ ،‬كما رسخه علماء الدين للحاجة نفسها‪ ،‬وال فائدة من ضرب‬
‫األمثال على انغماسهم في الصراعات العنيفة والدموية‪ ،‬وعلى التنافس في تكديس‬
‫األموال وااللتذاذ بمباهج الدنيا»(((‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪.78‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.80‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ص ‪.174‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.174‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين التاريخ والرسالة ص ‪.99‬‬

‫‪362‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وقد أثار كل من عبد المجيد الشرفي(((‪ ،‬ونصر أبو زيد((( الشكوك حول عدالة‬
‫أبي هريرة رضي الله عنه‪ ،‬والثقة بمروياته‪ ،‬كما انتقد الشرفي(((‪ ،‬وبسام الجمل((( عبد‬
‫الله بن عباس رضي الله عنهما‪ ،‬وتكرر األمر نفسه عند نصر أبو زيد الذي هاجم إدراج‬
‫ابن عباس رضي الله عنهما ضمن الصحابة(((‪.‬‬

‫وأما األحاديث الدالة على عدالة الصحابة‪ ،‬مثل حديث «خير الناس قرني»‬
‫فأسهل شيء عند العلمانيين الزعم بأنه حديث وضع لتكريس التبعية‪ ،‬والتقليد لجيل‬
‫الصحابة(((‪.‬‬

‫والحق أن المرء يعجب من هذا اإلصرار العلماني على تجاهل الفرق بين أمرين‬
‫مختلفين ‪ -‬ال تالزم بينهما مطلق ًا في التعامل مع الصحابة ‪ -‬األمر األول‪ :‬هو مسألة‬
‫العدالة وعدم الكذب في الرواية بحال‪ ،‬واألمر الثاني‪ :‬هو العصمة‪ ،‬وعدم صدور‬
‫الذنوب صغيرها وكبيرها‪.‬‬

‫ولم يقل أحد من أهل السنة قط بعصمة أحد من الصحابة ‪ -‬بما فيهم الخلفاء‬
‫األربعة ‪ -‬وإن اتفقوا على عدالة الصحابة‪ ،‬وقبول ما يروونه عن رسول الله ‪ ،#‬كما‬
‫أنهم نبهوا على الفارق الجوهري بين إثبات العدالة‪ ،‬وإسباغ العصمة على الصحابة‪،‬‬

‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪ ،126‬وتحديث الفكر اإلسالمي ص‬
‫‪ ،21‬وانظر في الرد عليه‪ :‬سامي عامري‪ :‬نقض افتراءات عبد المجيد الشرفي على السنة النبوية ص‬
‫‪.71‬‬
‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪.64‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪ ،126‬وتحديث الفكر اإلسالمي‬
‫ص ‪.22‬‬
‫((( انظر‪ :‬بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.133‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪.79‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ :‬تحديث الفكر اإلسالمي ص ‪.42‬‬

‫‪363‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وأنه «ليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم‪ ،‬واستحالة المعصية منهم‪ ،‬وإنما المراد‬
‫قبول روايتهم من غير تكلف ببحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية‪ ،‬إال إن ثبت‬
‫ارتكاب قادح‪ ،‬ولم يثبت ذلك ولله الحمد‪ ،‬فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في‬
‫زمن رسول الله ‪ #‬حتى يثبت خالفه»(((‪.‬‬

‫وإلى جانب التشكيك في المنهج النقلي عموم ًا والسنة بأسرها فقد أثار نفر من‬
‫العلمانيين الشكوك حول نقل أسباب النزول بالكلية‪ ،‬كما خصوا الكثير من نماذجها‬
‫بالطعن وادعاء عدم صحتها‪.‬‬

‫ومن نماذج ذلك ما ذكره نصر أبو زيد من أن رواية أسباب النزول نشأت في‬
‫عصر تال لعصر الصحابة‪ ،‬وهو عصر التابعين وقد «صار معيار تحديد سبب النزول‬
‫الثقة بالرواة‪ ،‬وأدخلت مرويات أسباب النزول منطقة األحاديث النبوية‪ ،‬وذلك دون‬
‫إدراك لمعضالت النقل والرواية ودوافعها‪ ،‬وإذا أضفنا لذلك أن عصر التابعين كان‬
‫عصر الخالفات السياسية والفكرية‪ ،‬أدركنا أن تحديد أهل الثقة من الرواة تم على‬
‫أساس أيديولوجي‪ ،‬انتهى إلى إعطاء سلطة دينية مطلقة في مجال هذه الروايات لبعض‬
‫التابعين دون بعض»(((‪.‬‬

‫كذلك أثار عبد المجيد الشرفي الشكوك حول ما نزل على لسان الصحابة‪ ،‬وال‬
‫سيما عمر بن الخطاب رضي الله عنه‪ ،‬متسائ ً‬
‫ال عن «سبب إبراز دور عمر على حساب‬
‫علي بن أبي طالب بصفة خاصة‪ :‬أال تكون هذه األخبار من آثار الصراع السياسي الذي‬
‫دار حول الخالفة»(((‪.‬‬

‫((( السخاوي‪ :‬فتح المغيث ‪.101/4‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.125‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬في قراءة النص الديني ص ‪.26‬‬

‫‪364‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ومن خالل ما تقدم يظهر لنا التناقض العلماني الواضح في توظيفهم أسباب‬
‫النزول كيفما شاءوا‪ ،‬والتضخيم من أهميتها‪ ،‬مع أنها ال تثبت إال بالنقل والرواية‪ ،‬وهم‬
‫ما فتئوا يشككون في المنهج النقلي ونقل السنة بأسرها‪.‬‬

‫وإذا انهارت الثقة بالمنقول كله‪ ،‬ولم تكن السنة حجة‪ ،‬ولم يصح شيء من أسباب‬
‫النزول ‪ -‬كما زعم نفر من العلمانيين ‪ -‬فأي فائدة تبقى من أسباب النزول التي وظفوها‬
‫في إثبات كثير من آرائهم؟‬

‫ويبدو أن بعض العلمانيين قد أحس بطرف من هذا اإلشكال‪ ،‬حيث انتقد‬


‫الدعوات المنفلتة والمتتابعة في مهاجمة السنة ورواتها‪ ،‬مع أنه إذا هدمت السنة وكتب‬
‫الحديث والتراجم والتاريخ‪ ،‬فإن ما يعتمد عليه العلمانيون أنفسهم من مادة تراثية‪،‬‬
‫يستخدمونها في نصرة آرائهم سوف ينهدم هو اآلخر‪ ،‬ولهذا وجدنا علماني ًا مثل خليل‬
‫عبد الكريم ينبه إلى خطورة هذا المسلك‪ ،‬وضرره البالغ‪ ،‬فيقول‪« :‬الهجوم على السنة‬
‫ورموزها بقدر ما هو هدم لإلسالم‪ ،‬فإنه يضر أبلغ الضرر بما ندعو إليه وآخرون كثيرون‬
‫من ضرورة كتابة التاريخ العربي اإلسالمي كتابة علمية موضوعية محايدة؛ ألن السنة‬
‫والسيرة النبوية تمدان الباحثين والدارسين بكنز ثمين ال تقدر قيمته من المادة الالزمة‬
‫للتاريخ الصحيح لتلك الحقبة على وجه الخصوص‪ ،‬والذي في نظرنا أنه لم يكتب‬
‫لآلن بموضوعية»(((‪.‬‬

‫ولعل من المهم أن نشير إلى الطابع العام الذي ميز تعامل العلمانيين مع أحاديث‬
‫السنة عموم ًا‪ ،‬ومرويات أسباب النزول خصوص ًا‪ ،‬والمتمثل في االنتقائية‪ ،‬واتباع‬
‫الهوى‪ ،‬وغياب المعايير المنضبطة فيما يقبلونه أو يردونه‪ ،‬بحيث يصدق عليهم‬

‫((( خليل عبد الكريم‪ :‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي ‪ ،167‬وانظر‪ :‬د‪ .‬سامي عصاصة‪ :‬رد على‬
‫حاقد آخر على اإلسالم ص ‪.15- 13‬‬

‫‪365‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الوصف الذي أطلقه ابن تيمية على أهل األهواء قديم ًا بأنهم «لم يكن لهم قانون قويم‪،‬‬
‫وصراط مستقيم‪ ،‬في النصوص»(((‪.‬‬

‫فعلى الرغم من تشكيكهم المتواصل في ثبوت السنة‪ ،‬وإثارة الشبه والشكوك‬


‫حول حجيتها‪ ،‬فإنهم ال يجدون غضاضة من االحتجاج بأي رواية توافق هواهم‬
‫وتؤيد رأيهم‪ ،‬ومن نماذج ذلك استدالل طيب تيزيني بحديث الغرانيق المكذوب(((‪،‬‬
‫واستشهاد جمال البنا في سياق تقريره لرأيه في مسألة الحجاب بأحاديث واهية ال‬
‫ول ال َّل ِه ‪َ #‬و ِع ْندَ ُه َعائِ َش ُة ‪-‬‬
‫تصح(((‪ ،‬ومنها أن عيينة بن حصن دخل بغير إذن على َر ُس ِ‬
‫ول ال َّل ِه‪َ ،‬وال َّل ِه‬ ‫ول ال َّل ِه ‪َ « :#‬ف َأ ْي َن ِال ْستِ ْئ َذ ُان؟» َف َق َ‬
‫ال‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ال َل ُه َر ُس ُ‬‫َر ِض َي ال َّل ُه َع ْن َها ‪َ ،-‬ف َق َ‬
‫ال‪َ :‬م ْن َه ِذ ِه ا ْل ُح َم ْي َر ُاء إلى َج ْنبِ َك؟‬ ‫است َْأ َذن ُْت َع َلى َر ُجلٍ ِم ْن ُم َض َر ُم ْن ُذ َأ ْد َر ْك ُت‪ُ ،‬ث َّم َق َ‬ ‫َما ْ‬
‫ال‪َ :‬أ َف َل َأ ْن ِز ُل َل َك َع ْن َأ ْح َس ِن ا ْل َخ ْل ِق؟‬
‫ين»‪َ ،‬ق َ‬ ‫«ه ِذ ِه َعائِ َش ُة ُأ ُّم ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ول ال َّل ِه ‪َ :#‬‬ ‫ال َر ُس ُ‬ ‫َف َق َ‬
‫ال‪َ :‬ف َل َّما َخ َر َج َقا َل ْت َعائِ َش ُة‬
‫ار َك َو َت َعا َلى ‪َ -‬قدْ َح َّر َم َذلِ َك»‪َ .‬ق َ‬ ‫ال‪َ « :‬يا ُع َي ْين َُة‪ ،‬إِ َّن ال َّل َه ‪َ -‬ت َب َ‬‫َق َ‬
‫اع َوإِ َّن ُه َع َلى َما َت َر ْي َن َل َس ِّيدُ َق ْو ِم ِه»(((‪.‬‬ ‫ال‪َ :‬‬
‫«أ ْح َم ُق ُم َط ٌ‬ ‫‪َ -‬ر ْح َم ُة ال َّل ِه َع َل ْي َها ‪َ :-‬م ْن َه َذا؟ َق َ‬

‫ومن األحاديث التي طار بها العلمانيون كل مطار‪ ،‬ولم يترددوا قط في نسبتها‬
‫للنبي ‪ ،#‬وشهرها في وجوه خصومهم‪ ،‬حديث «أنتم أعلم بأمر دنياكم»(((‪ .‬حتى‬
‫إن نصر أبو زيد يصور لنا هذا الحديث ‪ -‬والذي ورد فحسب في واقعة تأبير النخل‬
‫المعروفة ‪ -‬كما لو كان دائم التكرار على لسان الرسول ‪ #‬في كل مناسبة(((‪ ،‬حيث‬

‫((( ابن تيمية‪ :‬درء التعارض ‪.240/5‬‬


‫((( انظر‪ :‬طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.292‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل‪ :‬التوظيف الحداثي آليات المرأة وإشكالياته‪ ،‬جمال البنا نموذج ًا ص ‪.384‬‬
‫«وفِ ِيه إِ ْس َح ُ‬
‫اق‬ ‫((( رواه البزار في مسنده (‪ )8761‬وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد ‪ 92/7‬حيث قال‪َ :‬‬
‫ْب ُن َع ْب ِد ال َّل ِه ْب ِن َأبِي َف ْر َو َة َو ُه َو َمت ُْر ٌ‬
‫وك»‪ .‬وانظر‪ :‬كشف األستار عن زوائد البزار ‪.66/3‬‬
‫((( رواه مسلم (‪.)2363‬‬
‫((( انظر‪ :‬مصطفى باحو‪ :‬العلمانيون العرب وموقفهم من اإلسالم ص ‪.203‬‬

‫‪366‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫يزعم أن بعض الصحابة قد خالفوا الرسول «في شئون الدنيا التي كرر عليه الصالة‬
‫والسالم في أكثر من مناسبة‪ :‬أننا أدرى بشئونها»(((‪.‬‬

‫وثمة نموذج واضح لتلك االنتقائية المعيبة في التعامل مع مرويات السنة نجده‬
‫عند محمد عابد الجابري في تعامله مع حديث بدء نزول الوحي على الرسول ‪،#‬‬
‫حيث تناول هذا الحديث في سياق محاوالته الحثيثة إلثبات أن الرسول ‪ #‬كان‬
‫يحسن القراءة والكتابة‪ ،‬وأن أميته التي وصف بها في القرآن كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫ال ِّم َّي} [األعراف‪ ]157 :‬ال تعني عدم المعرفة بالقراءة‬
‫ول ال َّنب َِّي ْ ُ‬
‫الر ُس َ‬ ‫{ا َّلذِ َ‬
‫ين َي َّت ِب ُعونَ َّ‬
‫والكتابة‪ ،‬وإنما تعني أنه من العرب الذين لم يكن لهم كتاب‪ ،‬كما هو حال أهل الكتاب‬
‫من اليهود والنصارى‪.‬‬

‫وقد ترك الجابري رواية البخاري التي هي الغاية في الصحة لحادثة بدء نزول‬
‫الوحي‪ ،‬وراح يستدل برواية ابن إسحاق في سيرته رغم ما في سندها من ضعف؛ ألن‬
‫بها ألفاظ ًا تخدم فكرته في إثبات إجادة النبي ‪ #‬للقراءة والكتابة(((‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬ومن نماذج التناقضات العلمانية‪ :‬موقفهم من التفسير بالمأثور قبو ً‬
‫ال أو‬
‫رفض ًا‪ ،‬مع ضرورة أن نضع في اعتبارنا اندراج أسباب النزول ضمن هذا التفسير‪،‬‬
‫واعتبارها جزء ًا أصي ً‬
‫ال منه‪.‬‬

‫وقد عرف الشيخ الزرقاني التفسير بالمأثور أنه «ما جاء في القرآن‪ ،‬أو السنة‪،‬‬
‫أو كالم الصحابة‪ ،‬بيان ًا لمراد الله تعالى من كتابه»(((‪ ،‬أما الدكتور الذهبي ففصل في‬
‫التعريف‪ ،‬وذكر أنه «ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته‪ ،‬وما ُنقل‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪.31‬‬


‫((( انظر‪ :‬محمد عابد الجابري‪ :‬مدخل إلى القرآن الكريم ص ‪.80 - 77‬‬
‫((( عبد العظيم الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪.12/2‬‬

‫‪367‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫عن الرسول ‪ ،#‬وما ُن ِقل عن الصحابة رضوان الله عليهم‪ ،‬وما ُن ِقل عن التابعين‪ ،‬من‬
‫كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم»(((‪.‬‬

‫وثمة خالف فيما ُر ِو َي عن التابعين‪ ،‬وهل هو من قبيل المأثور‪ ،‬أو من قبيل الرأي‪،‬‬
‫لكن المالحظ أن كتب التفسير المأثور‪ ،‬كتفسير ابن جرير وغيره‪ ،‬لم تقتصر على ما ِذ ْكر‬
‫ما ُر ِو َي عن النبي ‪ #‬وما ُر ِو َي عن أصحابه‪ ،‬بل ضمت إلى ذلك ما ُن ِقل عن التابعين‬
‫في التفسير(((‪.‬‬

‫وإذا كان التعريف المتقدم للتفسير بالمأثور هو الذي شاع واشتهر في جل كتب‬
‫علوم القرآن‪ ،‬فإن هناك مالحظة مهمة وتعقيب ًا جيد ًا على هذا التعريف أشار إليه بعض‬
‫العلماء المعاصرين‪ ،‬وخالصته أن هذا التعريف يرد عليه اعتراضان(((‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن تفسير القرآن بالقرآن ال يعد من قبيل النقل‪ ،‬بل يندرج ضمن تفسير من‬
‫المفسر هو الرسول ‪ ،#‬فهو من التفسير النبوي‪ ،‬وإن كان المفسر‬
‫ِّ‬ ‫فسر به‪ ،‬فإن كان‬
‫هو الصحابي‪ ،‬فهو من تفسير الصحابي‪ ،‬وإن كان المفسر هو التابعي‪ ،‬فهو من تفسير‬
‫التابعي‪ ،‬كما يالحظ أن تفسير الصحابي أو التابعي القرآن بالقرآن هو من قبيل التفسير‬
‫بالرأي‪ ،‬وذلك ألن طريق الوصول إلى تفسير هذه اآلية هو الرأي واالجتهاد‪ ،‬وال يلزم‬
‫أن كل من فسر آية بآية‪ ،‬أن تفسيره هذا يقبل‪ ،‬بل قد يكون مرجوح ًا وبناء عليه فحكمه‬
‫حكم تفسير الصحابي والتابعي‪ ،‬ولو كان يلزم َقبول قول كل من فسر آية بآية لما ُر َّد‬
‫شيء من هذه األقوال‪.‬‬

‫((( د‪ .‬محمد حسين الذهبي‪ :‬التفسير والمفسرون ‪.112/1‬‬


‫((( انظر‪ :‬عبد العظيم الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،13/2‬ود‪ .‬محمد حسين الذهبي‪ :‬التفسير والمفسرون‬
‫‪.112/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬سليمان الطيار‪ :‬فصول في أصول التفسير ص ‪ ،54 ،53‬ومقاالت في علوم القرآن وأصول‬
‫التفسير ص ‪ ،136‬ومفهوم التفسير والتأويل ص ‪.19‬‬

‫‪368‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫والثاني‪ :‬أنه لماذا اقتصر األمر على الصحابة التابعين ولم يذكر من بعدهم‪ ،‬مع أن‬
‫فيهم من األئمة في التفسير َم ْن فيهم‪ ،‬وأقوالهم مدونة ومحفوظة‪ ،‬والطريق إليهم هو‬
‫باألثر؛ كالتابعين‪.‬‬

‫وهكذا يمكن القول بأن التفسير بالمأثور يطلق على ثالثة أنواع‪ ،‬وهي(((‪:‬‬

‫األول‪ :‬ما روي عن رسول الله ‪ #‬من تفسيره القرآن‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬ما روي عن الصحابة مما له حكم المرفوع؛ كأسباب النزول والمغيبات‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬ما أجمع عليه الصحابة أو التابعون‪ ،‬وهذا يلحق بالمأثور‪ ،‬لوجوب األخذ‬
‫به؛ ألن اإلجماع حجة‪.‬‬

‫ومن خالل التعريف المتقدم يظهر لنا أن تفسير الصحابة إن كان مجمع ًا عليه‪ ،‬أو‬
‫كان سبب نزول‪ ،‬أو إخبار ًا عن أمر غيبي فهو في حكم المرفوع‪ ،‬وإن كان غير ذلك‪،‬‬
‫فهو من باب االجتهاد والرأي‪ ،‬سواء كان معتمده اللغة‪ ،‬أو غيرها من أدوات االجتهاد‬
‫في التفسير‪ ،‬وتفسير التابعي ُيلحق بالمأثور إذا كان مما أجمع عليه التابعون‪ ،‬وما عداه‬
‫فهو تفسير بالرأي(((‪.‬‬

‫وأما أهمية هذا النوع من التفسير‪ ،‬فال شك أنه يعد من أقوى طرق التفسير وأوالها‬
‫بالقبول واألخذ‪ ،‬فتفسير الرسول ‪ #‬للقرآن ‪ -‬إن صح سند ًا ‪ -‬ال يدانيه تفسير أحد‪،‬‬
‫إذ هو ‪ #‬أعلم الناس بالله وبكالمه(((‪ ،‬وهو من نزل عليه القرآن‪ ،‬وأمر بتبليغه وبيانه‬
‫اس َما ن ُِّز َل ِإ َل ْي ِه ْم َو َل َع َّل ُه ْم‬ ‫للناس‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ { :‬و َأن َْز ْل َنا ِإ َل ْي َك ِّ‬
‫الذ ْك َر ِل ُت َب ِّي َن لِل َّن ِ‬
‫َي َتف ََّك ُرونَ } [النحل‪ ،]44 :‬وبيانه ‪ #‬سنة‪ ،‬ووحي ال ينطق عن الهوى‪ ،‬وواجب االتباع‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬سليمان الطيار‪ :‬فصول في أصول التفسير ص ‪.54‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.55‬‬
‫((( وفي الحديث قال ‪« :#‬إن أعلمكم بالله أنا» رواه البخاري (‪.)20‬‬

‫‪369‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وأما الصحابة فقد اختصوا بما لم يشاركهم فيه أحد‪ ،‬حيث شهدوا التنزيل وعرفوا‬
‫أحواله‪ ،‬وهم أهل اللسان الذي نزل به القرآن‪ ،‬وقد عرفوا أحوال من نزل فيهم القرآن‬
‫من العرب وغيرهم‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن سالمة مقصدهم‪ ،‬وحسن فهمهم‪ ،‬وللتابعين أيض ًا ‪-‬‬
‫وإن لم تكن أقوال آحادهم حجة ‪ -‬ميزة ينفردون بها عمن جاء بعدهم‪ ،‬وهي تلقيهم‬
‫للتفسير عن الصحابة مباشرة‪ ،‬كما أن جلهم عاشوا في عصور االحتجاج اللغوي‪ ،‬ولم‬
‫تفسد العجمة ألسنتهم(((‪.‬‬

‫والذي يعنينا هنا أن االعتماد على أسباب النزول ركيزة أساسية من ركائز التفسير‬
‫بالمأثور‪ ،‬ألنها إما من قبيل األحاديث المرفوعة إلى رسول الله ‪ ،#‬وإما من قبيل‬
‫اآلثار المنقولة عن الصحابة الذين شهدوا التنزيل‪ ،‬وعاينوا الوقائع التي نزل القرآن‬
‫بشأنها‪ ،‬وقد يدخل فيها أيض ًا آثار التابعين الذين يحكون ما سمعوه من الصحابة أو‬
‫بلغهم من األخبار‪ ،‬سواء صرحوا بذكر اسم من رووا عنه أو لم يصرحوا‪ ،‬وكل هذه‬
‫الصور داخلة في عداد التفسير المأثور بمعناه الواسع‪.‬‬

‫وأما التناقض العلماني في الموقف من التفسير بالمأثور فيتجلى في جانبين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن التفسير بالمأثور ‪ -‬ومنه أسباب النزول ‪ -‬موقوف بأكمله على النقل‬
‫واألسانيد والروايات‪ ،‬وقد سبق أن أشرنا إلى التناقض العلماني في هذه المسألة بما ال‬
‫نحتاج معه لتكرار الكالم مرة أخرى‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أنه رغم مبالغة عدد من العلمانيين في الزعم بأن لكل آية سبب نزول‪ ،‬وأن‬
‫القرآن ال يفهم إال من خالل تلك األسباب‪ ،‬فإننا نجد الكثيرين منهم ينتقدون التفسير‬
‫بالمأثور‪ ،‬ويهاجمونه هجوم ًا شديد ًا‪ ،‬دون أن يدركوا أن أسباب النزول واالعتداد بها‬

‫((( انظر‪ :‬الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪ ،128/4‬وعبد العظيم الزرقاني‪ :‬مناهل العرفان ‪ ،13/2‬ود‪ .‬سليمان‬
‫الطيار‪ :‬فصول في أصول التفسير ص ‪ ،35 ،30‬ومقاالت في علوم القرآن وأصول التفسير ص ‪.153‬‬

‫‪370‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫جزء ال يتجزأ من التفسير بالمأثور‪ ،‬كما ذكرنا آنف ًا؛ ألنها عبارة عن أحاديث نبوية‪ ،‬أو‬
‫مرويات منقولة عن الصحابة أو التابعين‪.‬‬

‫وإذا هدم هذا التفسير المأثور‪ ،‬أو بطل ولم يعد له أدنى فائدة ‪ -‬كما يريد‬
‫العلمانيون ‪ -‬فقد هدم باب أسباب النزول جملة وتفصي ً‬
‫ال‪ ،‬ومن العبث األخذ بالقسم‬
‫الذي يوافق هوى العلماني من التفسير بالمأثور‪ ،‬وترك ما ال يناسب أغراضه وتوظيفه‬
‫وأيديولوجيته‪.‬‬

‫وثمة نماذج عديدة لمواقف العلمانيين المنتقدة للتفسير بالمأثور‪ ،‬وبيان ما يحيط‬
‫به من إشكاالت ومآخذ ‪ -‬من وجهة نظرهم ‪ -‬ومن ذلك ما قرره محمد أحمد خلف‬
‫الله من أن «ما عدا القرآن فكر بشري نتعامل معه بعقولنا‪ ،‬وتفسير رسول الله للقرآن‬
‫قول بشر»(((‪ .‬وإذا كان هذا هو الرأي تجاه تفسير الرسول ‪ #‬للقرآن‪ ،‬والذي يعد أصح‬
‫أنواع التفسير بالمأثور‪ ،‬فما بالنا بتفاسير الصحابة والتابعين؟‬

‫وثمة عدد من القواعد التي ذكرها محمد شحرور‪ ،‬وهي تنفي تمام ًا أي فائدة من‬
‫التفسير المأثور عن النبي ‪ #‬نفسه‪ ،‬أو عن السلف السابقين من صحابة أو تابعين‪ ،‬ومن‬
‫تلك القواعد أن التنزيل الحكيم كالم الله‪ ،‬ومن ثم «وجب بالضرورة أن يكون مكتفي ًا‬
‫ذاتي ًا‪ ،‬وهو كالوجود ال يحتاج إلى أي شيء من خارجه لفهمه‪ ..‬لذا فإن مفاتيح فهم‬
‫التنزيل الحكيم هي بالضرورة داخله‪ ،‬فلنبحث عنها داخل التنزيل الحكيم‪ ،‬وبدون صحاح‬
‫ومسانيد وبدون قول صحابي أو تابعي‪ ،‬ويمكن سماع كل األقوال واالستئناس بها‪ ،‬وعلينا‬
‫أن نتعامل مع التنزيل الحكيم مباشرة بدون خوف منه وال خوف عليه‪ ،‬فالله ال ينهزم»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬عبد السالم البسيوني‪ :‬اليسار اإلسالمي خنجر في ظهر اإلسالم ص ‪ ،40‬وامحمد رحماني‪:‬‬
‫قضية قراءة النص القرآني ص ‪.92‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬تجفيف منابع اإلرهاب ص ‪.28 ،27‬‬

‫‪371‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من خلل‪ ،‬واالدعاء بأن القرآن ال يحتاج لشيء من‬
‫خارجه لفهمه كالم باطل‪ ،‬إذ ال شك أن قارئ القرآن بحاجة لمعرفة اللغة التي نزل بها‪،‬‬
‫ومدلوالت األلفاظ‪ ،‬وفهم الواقعات التي نزل بشأنها‪ ،‬وكل ذلك بالطبع من خارج القرآن‪،‬‬
‫ثم إن في القرآن آيات مجملة أو عامة أو مطلقة جاءت السنة ببيانها أو تخصيصها أو‬
‫تقييدها‪ ،‬وقد أخبرنا الله في كتابه أن النبي ‪ #‬يقوم بمهمة تبيين كتاب الله للناس‪ ،‬فقال‬
‫اس َما ن ُِّز َل ِإ َل ْي ِه ْم َو َل َع َّل ُه ْم َي َتف ََّك ُرونَ } [النحل‪.]44 :‬‬ ‫سبحانه‪َ { :‬و َأن َْز ْل َنا ِإ َل ْي َك ِّ‬
‫الذ ْك َر ِل ُت َب ِّي َن لِل َّن ِ‬
‫ومن القواعد األخرى التي ذكرها شحرور‪ ،‬أنه ال يمكن ألحد أن يملك اإلدراك‬
‫الكلي للتنزيل الحكيم‪ ،‬حتى ولو كان نبي ًا ورسو ً‬
‫ال‪ ،‬ومن ثم فال يكون هذا الفهم حجة‬
‫قاطعة وملزمة‪ ،‬وبنص عبارته‪ ،‬فإنه إذا «كان الرسول يعلم كل التنزيل بكلياته وجزئياته‪،‬‬
‫واالحتماالت الكلية لتأويله واجتهاداته‪ ،‬فهذا يعني أنه شريك لله في المعرفة سبحان‬
‫الله عما يصفون‪ ،‬أو أنه هو المؤلف للتنزيل‪ ،‬وهو بريء من هذه التهم‪ ،‬التي تلصق به‬
‫بشكل غير مباشر من قبل العلماء األفاضل والمؤسسات الدينية»(((‪ .‬وأما النقل عن‬
‫السلف فهو أيض ًا ‪ -‬عند شحرور ‪ -‬لن يكون ذا جدوى ألنهم قرأوا القرآن وفهموه‬
‫ضمن مستوى معارفهم ومشاكلهم االجتماعية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬أما نحن‬
‫اآلن فلنا معارف ومشاكل مختلفة عنهم‪ ،‬مما سيحدث وال بد اختالف ًا في الفهم (((‪.‬‬

‫والغريب أن شحرور يفترض أمور ًا لم يقل بها أحد قط‪ ،‬ثم يهاجمها بشدة‪ ،‬ومن‬
‫ذلك دعوى االكتفاء «بالقراءة األولى للتنزيل الحكيم التي تمت في القرن السابع والثامن‬
‫الميالديين‪ ،‬واإلصرار على أن التفاسير مطلقة مقدسة تمثل عين المقاصد اإللهية»(((‪.‬‬

‫((( محمد شحرور‪ :‬نحو أصول فقه جديدة ص ‪ ،54‬وانظر المعنى نفسه في كتابه‪ :‬تجفيف منابع‬
‫اإلرهاب ص ‪.35 ،27‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬تجفيف منابع اإلرهاب ص ‪.36‬‬
‫((( محمد شحرور‪ :‬نحو أصول فقه جديدة ص ‪.96‬‬

‫‪372‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ومن الواضح ما في هذا الكالم من مغالطات ظاهرة‪ ،‬فإدراك المعنى والمقصود‬


‫بآيات القرآن شيء‪ ،‬بينما اإلدراك الكلي للتنزيل الحكيم في كلياته وجزئياته شيء آخر‪،‬‬
‫ونحن مث ً‬
‫ال بوسعنا أن نفهم المعنى اإلجمالي لآليات التي تخبر عن الجنة ونعيمها‪،‬‬
‫والنار وعذابها‪ ،‬والروح والموت وما أشبه ذلك‪ ،‬وإن كنا ال نحيط بالحقيقة التامة‬
‫لهذه األشياء‪ ،‬واألمر أعظم فيما يتعلق بصفات الله سبحانه‪ ،‬كحياته‪ ،‬وعلمه‪ ،‬وسمعه‪،‬‬
‫وبصره‪ ،‬ووجهه‪ ،‬ويداه‪ ،‬فإدراك المعنى شيء‪ ،‬وإدراك الكنه والكيفية شيء آخر‪.‬‬

‫وإذا كان هذا في حق آحاد العلماء محدودي المعرفة واإلدراك‪ ،‬فما بالنا بنبينا ‪#‬‬
‫الموحى إليه من ربه‪ ،‬والقائل ‪« :#‬إن أعلمكم بالله أنا»((( والذي خصه الله بمعارف‬
‫وعلوم ال يعلمها غيره‪ ،‬وفي الحديث أنه ‪ #‬قال‪« :‬أسألك بكل اسم هو لك‪ ،‬سميت به‬
‫نفسك‪ ،‬أو علمته أحد ًا من خلقك‪ ،‬أو استأثرت به في علم الغيب عندك»(((‪.‬‬

‫وألهل العلم كالم مهم في تفسيرهم لمعاني التأويل‪ ،‬وتفسير قوله تعالى‪َ { :‬و َما‬
‫َي ْع َل ُم ت َْأ ِوي َل ُه ِإ َّل ال َّل ُه َو َّ‬
‫الراسِ خُ ونَ فِي ا ْلعِ ْل ِم َيقُو ُلونَ آ َم َّنا ِب ِه ُك ٌّل م ِْن عِ ْندِ َر ِّب َنا َو َما َي َّذ َّك ُر ِإ َّل‬
‫اب} [آل عمران‪ ]7 :‬وفيه يفرقون بين التأويل بمعنى التفسير الذي يعرفه‬ ‫ُأو ُلو ْ َ‬
‫ال ْل َب ِ‬
‫الراسخون في العلم‪ ،‬والتأويل بمعنى حقيقة المعنى الذي يؤول اللفظ إليه‪ ،‬وهي‬
‫الحقيقة الموجودة في الخارج‪ ،‬وهذا التأويل ال يعلمه إال الله فيما يتعلق بصفاته‬
‫سبحانه وباألمور الغيبية‪ ،‬وممن فصل هذا األمر ابن القيم رحمه الله‪ ،‬حيث أشار إلى‬
‫أن التأويل في كتاب الله سبحانه وتعالى يراد به حقيقة المعنى الذي يؤول اللفظ إليه‪،‬‬
‫وهي الحقيقة الموجودة في الخارج‪ ،‬فتأويل الخبر هو الحقيقة‪ ،‬وتأويل الوعد والوعيد‬
‫هو نفس الموعود والمتوعد به‪ ،‬وتأويل ما أخبر الله به من صفاته وأفعاله نفس ما هو‬

‫((( رواه البخاري (‪)20‬‬


‫((( رواه أحمد (‪ )3788‬وابن حبان (‪)972‬‬

‫‪373‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫عليه سبحانه وما هو موصوف به من الصفات العلى‪ ،‬وتأويل األمر هو نفس األفعال‬
‫المأمور بها‪ ،‬وأما التأويل في اصطالح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث‪،‬‬
‫فمرادهم به معنى التفسير والبيان‪ ،‬وهذا التأويل يرجع إلى فهم المعنى وتحصيله في‬
‫الذهن‪ ،‬واألول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج(((‪.‬‬

‫ويتكرر عند نصر أبو زيد فكرة التقليل من مكانة فهم الرسول ‪ #‬للقرآن‪ ،‬ونفي‬
‫المطابقة بين هذا الفهم‪ ،‬وحقيقة المعنى‪ ،‬أو ما يسميه بالداللة الذاتية للقرآن‪ ،‬وهو‬
‫ما يعني أنه حتى فهم الرسول ‪ #‬ال يعدو أن يكون نوع ًا من تفاعل عقل النبي مع‬
‫النص‪ ،‬وال يلزم بالضرورة أن يكون هذا الفهم صحيح ًا وقاطع ًا‪ ،‬والعلة في ذلك عنده‬
‫أن «فهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري‪ ،‬وال‬
‫التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للداللة الذاتية للنص على فرض‬
‫وجود مثل هذه الداللة الذاتية‪ ،‬إن مثل هذا الزعم يؤدي إلى نوع من الشرك‪ ،‬من حيث‬
‫إنه يطابق بين المطلق والنسبي‪ ،‬وبين الثابت والمتغير‪ ،‬حين يطابق بين القصد اإللهي‬
‫والفهم اإلنساني لهذا القصد‪ ،‬ولو كان فهم الرسول‪ ،‬إنه زعم يؤدي إلى تأليه النبي‪ ،‬أو‬
‫إلى تقديسه بإخفاء حقيقة كونه بشر ًا‪ ،‬والتركيز على حقيقة كونه نبي ًا»(((‪.‬‬

‫وممن انتقدوا التفسير المأثور أيض ًا حسن حنفي‪ ،‬والذي أقر ابتداء ببعض ميزات‬
‫هذا النوع من التفسير‪ ،‬كااللتزام بالنص‪ ،‬إال أنه استفاض في بيان خطورته وعيوبه‪،‬‬
‫ومنها ما يصفه بالوقوع في التفسير الحرفي‪ ،‬واالضطرار إلى النقل‪ ،‬مع أن هذا النقل‬
‫نفسه ال يخلو من عمل عقلي «فالمنقول اختيار‪ ،‬وال يخلو من معقول»(((‪ .‬كما‬

‫((( انظر‪ :‬ابن القيم‪ :‬الصواعق المرسلة ‪.178 ،177/1‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.126‬‬
‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬من النقل إلى العقل الجزء األول علوم القرآن من المحمول إلى الحامل ص ‪.355‬‬

‫‪374‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫أن مصادر هذا التفسير المأثور ال تخلو من مخاطر‪ ،‬فالنقل عن النبي ‪ #‬يدخل فيه‬
‫الضعيف والموضوع خاصة في المغازي والمالحم والتفسير‪ ،‬واألخذ بقول الصحابي‬
‫يحيط به أيض ًا مخاطر النقل‪ ،‬وإذا كان منقو ً‬
‫ال عن التابعي تزداد هذه المخاطر‪ ،‬وقد‬
‫يضاف إليهم التابعون إلى ما ال نهاية حتى طبقات المفسرين‪ ،‬بالرغم من أخطار‬
‫النقل(((‪ ،‬وهكذا فإن هناك احتما ً‬
‫ال لوقوع الخطأ في منهج الرواية والنقل‪ ،‬ومن ثم‬
‫يكون التفسير كله خطأ‪ ،‬إضافة لعدم وجود مقياس آخر لصدق المعرفة‪ ،‬مثل العقل أو‬
‫الحس أو المشاهدة لصحة النقل‪ ،‬ودخول كثير من اإلسرائيليات نتيجة للنقل والرواية‪،‬‬
‫ومن ثم دخول كثير من أساطير األولين وقصص األنبياء وتفصيالت لم يذكرها القرآن‪،‬‬
‫وفي كثير من األحيان موضوعة من األدب الشعبي(((‪.‬‬

‫ومن العيوب األخرى التي ذكرها حسن حنفي للتفسير بالمأثور(((‪ :‬ربط القرآن‬
‫بظرف تاريخي واحد‪ ،‬ومن ثم تحويل الوحي إلى تاريخ حقبة معينة من الزمان لشعب‬
‫معين في منطقة جغرافية بعينها‪ ،‬وهذا إنكار لحقائق الوحي العامة‪ ،‬إضافة إلغفال‬
‫الواقع التاريخي الحالي‪ ،‬والذي ال يمكن للمفسر القديم أن يتنبأ به‪ ،‬فالتفسير هنا‬
‫يتعامل مع الماضي وليس مع الحاضر‪ ،‬ويتعامل مع التراث القديم وليس مع اإلبداع‬
‫الحالي‪ ،‬فكأن موضوع القدماء ال شأن للمحدثين به‪.‬‬

‫وفي إسقاط متكلف ينزل حسن حنفي المصطلحات الطبقية الحديثة على مناهج‬
‫التفسير المتنوعة ما بين مأثور ومعقول‪ ،‬جاع ً‬
‫ال التفسير بالمعقول يسار ًا‪ ،‬والتفسير‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.356‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬الدين والثورة في مصر ‪ ،1981 -1952‬الجزء السابع اليمين واليسار في‬
‫الفكر الديني ص ‪.83‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.84‬‬

‫‪375‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫بالمأثور يمين ًا(((‪ ،‬وبالطبع فإن الوصف باليسار ‪ -‬عنده ‪ -‬من قبيل المدح‪ ،‬ألنه مرتبط‬
‫بالتقدم والثورة والعدالة‪ ،‬بينما الوصف باليمين من قبيل الذم‪ ،‬ألنه مرتبط بالتخلف‪،‬‬
‫والرجعية‪ ،‬والجمود‪ ،‬وغياب العدالة االجتماعية‪.‬‬

‫وقد جرت عادة كثير من الكتاب المعاصرين ‪ -‬وال سيما اليساريين منهم والماركسيين‬
‫‪ -‬على إطالق مصطلح اليسار((( على الحركات السياسية والفكرية التي تدافع عن حقوق‬
‫الفقراء والمستضعفين المستغلين بصفة عامة‪ ،‬بينما يطلق اليمين على الحركات السياسية‬
‫والفكرية‪ ،‬التي تؤيد الحرية الفردية في مجال االقتصاد‪ ،‬وتقف ضد أي محاولة لتوزيع‬
‫الثروة أو لتقريب الفوارق بين الطبقات‪ ،‬وفي بعض األحيان يستخدم المصطلح محم ً‬
‫ال‬
‫بأحكام قيمية دالة على المدح والذم‪ ،‬فيطلق اليسار على كل نزوع نحو التقدم االجتماعي‬
‫والسياسي واالقتصادي‪ ،‬ونحو التحرر الفكري والثقافي‪ ،‬ونحو العقالنية أسلوب ًا في الحياة‬
‫ونمط ًا في التفكير‪ ،‬بينما يطلق اليمين على المحافظة‪ ،‬والتمسك بالتقاليد‪ ،‬والميل إلى‬
‫تثبيت الواقع‪ ،‬باعتبار أنه ليس في اإلمكان أفضل مما كان‪ ،‬أو مما هو كائن(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬اليسار اإلسالمي والوحدة الوطنية ص ‪.12‬‬
‫((( وقد برز مصطلح اليسار اإلسالمي بقوة لبعض الوقت‪ ،‬ثم عاد للخفوت مرة أخرى‪ ،‬ومن أبرز من‬
‫حاولوا التنظير له أو كتبوا عنه د‪ .‬حسن حنفي في عدد من كتبه‪ ،‬وقد ذهب نصر أبو زيد في كتابه‬
‫«نقد الخطاب الديني» ص ‪ 146‬إلى أن حسن حنفي هو «أهم ممثليه ال في مصر وحدها‪ ،‬بل في‬
‫العالم اإلسالمي عموم ًا‪ ،‬وفي العالم العربي على وجه الخصوص»‪ .‬ومن الشخصيات األخرى‬
‫التي تبنت هذا المصطلح أو درسته بصورة ما‪ :‬خليل عبد الكريم في كتابه األسس الفكرية لليسار‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وأحمد عباس صالح في كتابه‪ :‬اليمين واليسار في اإلسالم‪ ،‬ونصر أبو زيد في كتابه‬
‫اليسار اإلسالمي‪ ،‬ونقد الخطاب الديني‪ ،‬كما دار حوارات عدة حول هذا الموضوع على صفحات‬
‫مجلة المسلم المعاصر‪ .‬وفي المقابل فقد ألفت عدة كتب في نقد هذا االتجاه والرد عليه‪ ،‬ومن‬
‫ذلك كتاب عبد السالم البسيوني‪ :‬اليسار اإلسالمي خنجر في ظهر اإلسالم‪ ،‬وكتاب محسن الميلي‪:‬‬
‫ظاهرة اليسار اإلسالمي‪ ،‬دراسة تحليلية نقدية ألطروحات االستنارة والتقدمية‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬اليسار اإلسالمي‪ ،‬إطاللة عامة‪ ،‬ص ‪ ،10 ،9‬جامعة بيرزيت‪ ،‬الطبعة األولى‬
‫‪2004‬م‪ ،‬ونقد الخطاب الديني ص ‪.146‬‬

‫‪376‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وال يقتصر األمر في الوصف باليمين واليسار ‪ -‬عند حسن حنفي ‪ -‬على قضية‬
‫التفسير وأنواعه فحسب‪ ،‬بل تشمل قضايا واتجاهات أخرى كثيرة في مجال الفرق‬
‫والتاريخ والفكر اإلسالمي بعامة‪ ،‬فالمعتزلة يسار واألشاعرة يمين‪ ،‬وفلسفة ابن رشد‬
‫العقالنية الطبيعية يسار وفلسفة الفارابي وابن سينا اإلشراقية يمين‪ ،‬والقول بالمصلحة‬
‫المرسلة عند المالكية يسار‪ ،‬والفقه االفتراضي عند الحنفية يمين‪ ،‬وعلي رضي الله عنه‬
‫يسار ومعاوية رضي الله عنه يمين‪ ،‬والحسين رضي الله عنه يسار‪ ،‬ويزيد واألمويون‬
‫يمين(((‪.‬‬

‫ومن القضايا المهمة التي لها تعلق وثيق بموضوع بحثنا‪ ،‬والتي أدخلها حسن‬
‫حنفي ضمن التصنيف اليميني واليساري‪ ،‬الموقف من المنقول والمعقول‪ ،‬حيث اعتبر‬
‫أن االتجاه الذي يقدم النقل على العقل‪ ،‬ويجعل النقل بكل مخاطره أساس ًا للعقل هو‬
‫موقف اليمين‪ ،‬بينما االتجاه القائل بأن العقل هو األساس ويجعل للعقل األولوية على‬
‫النقل هو موقف اليسار(((‪.‬‬

‫وتعقيب ًا على كالم حسن حنفي المتقدم أقول‪ :‬إن مكمن الخطأ الرئيس فيه‪ :‬ظنه‬
‫أن التفسير بالمأثور يعني أن ينقل المفسر كل ما يجده أمامه من مرويات وآثار‪ ،‬دون‬
‫تمييز‪ ،‬ونقد‪ ،‬وفرز للصحيح من الضعيف‪ ،‬والمقبول من المردود‪.‬‬

‫وال شك أن تطبيق قواعد علم الحديث الصارمة كفيل بتالفي عيوب نقل الموضوع‬
‫والضعيف‪ ،‬ومع اإلقرار بأن بعض التفاسير تنقل مثل تلك المرويات المنكرة كتفسير‬
‫الثعالبي وما أشبهه‪ ،‬فإن هناك تفاسير أخرى أثرية لمحدثين كبار عنيت أشد عناية بنقد‬
‫الموضوع والواهي من المرويات‪ ،‬ومنها تفسير الحافظ ابن كثير‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬اليسار اإلسالمي والوحدة الوطنية ص ‪.13‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬اليمين واليسار في الفكر الديني ص ‪.18 ،17‬‬

‫‪377‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن المغالطات األخرى في كالم حسن حنفي المتقدم‪ :‬ادعاؤه بأن التفسير‬
‫بالمأثور يعني حصر معنى اآلية في األشخاص أو الوقائع أو الحوادث التاريخية‬
‫التي نزلت فيها‪ ،‬والحق أن ذلك غير صحيح بالمرة‪ ،‬والقاعدة المستقرة عند جماهير‬
‫المفسرين أن العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬وأن معاني القرآن تعم جميع‬
‫المكلفين إلى أن يرث الله األرض ومن عليها‪ ،‬وأن االعتماد على المأثور في فهم‬
‫اآليات ال يتنافى مع فتح باب الفهم واالستنباط لتلقي الهداية منها‪ ،‬وتنزيلها على واقع‬
‫المسلمين في كل زمان ومكان‪ ،‬وقد دعا النبي ‪ #‬البن عباس أن يعلمه الله الكتاب(((‪،‬‬
‫آن؟ َو َق َ‬
‫ال َم َّر ًة‪:‬‬ ‫س ِفي ا ْل ُق ْر ِ‬ ‫«ه ْل ِع ْندَ ُك ْم َش ْي ٌء َما َل ْي َ‬ ‫وأيض ًا لما سئل علي رضي الله عنه َ‬
‫آن‪،‬‬‫ال‪َ :‬وا َّل ِذي َف َلقَ ا ْل َح َّب َو َب َر َأ ال َّن َس َم َة‪َ ،‬ما ِع ْندَ َنا إِ َّل َما ِفي ا ْل ُق ْر ِ‬ ‫س ِع ْندَ ال َّن ِ‬
‫اس؟ َف َق َ‬ ‫َما َل ْي َ‬
‫ال‪ :‬ا ْل َع ْق ُل‪،‬‬‫الص ِحي َف ِة؟ َق َ‬‫الص ِحي َف ِة‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬و َما ِفي َّ‬ ‫إِ َّل َف ْهم ًا ُي ْع َطى َر ُج ٌل ِفي ِكتَابِ ِه‪َ ،‬و َما ِفي َّ‬
‫اف ٍر»(((‪.‬‬ ‫اك ْ َ‬
‫ال ِسي ِر‪َ ،‬و َأ ْن َل ُي ْقت ََل ُم ْس ِل ٌم بِ َك ِ‬ ‫َو َف َك ُ‬

‫ومن المغالطات الخطيرة أيض ًا االدعاء بأن األدلة النقلية والعقلية قسيمان متقابالن‪،‬‬
‫فالدليل إما نقلي وإما عقلي‪ ،‬وال يتصور اجتماع األمرين مع ًا‪ ،‬مع أن حقيقة األمر على‬
‫خالف ذلك‪ ،‬وقد توالت عبارات علماء كبار مثل‪ :‬ابن الوزير اليمني(((‪ ،‬وابن تيمية(((‪،‬‬
‫وابن القيم((( وغيرهم في التأكيد على اشتمال األدلة النقلية على دالالت عقلية‪ ،‬بحيث‬
‫تصير أدلة نقلية سمعية‪.‬‬

‫((( رواه البخاري (‪.)75‬‬


‫((( رواه البخاري (‪.)6903‬‬
‫((( انظر‪ :‬ابن الوزير اليمني‪ :‬ترجيح أساليب القرآن ص ‪.16 ،15‬‬
‫((( انظر‪ :‬ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪.297 ،296/3‬‬
‫((( انظر‪ :‬ابن القيم‪ :‬الصواعق المرسلة ‪.909 ،908/3‬‬

‫‪378‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ومن األخطاء التي وقع فيها طوائف من المتكلمين والمتفلسفة ‪ -‬كما ذكر ابن‬
‫تيمية ‪ -‬ظنهم «أن الشرع إنما يدل بطريق الخبر الصادق‪ ،‬فداللته موقوفة على العلم‬
‫بصدق المخبر‪ ،‬ويجعلون ما يبنى عليه صدق المخبر معقوالت محضة‪ ،‬وقد غلطوا‬
‫في ذلك غلط ًا عظيم ًا؛ بل ضلوا ضال ً‬
‫ال مبين ًا في ظنهم‪ :‬أن داللة الكتاب والسنة إنما هي‬
‫بطريق الخبر المجرد؛ بل األمر ما عليه سلف األمة وأئمتها ‪ -‬أهل العلم واإليمان ‪ -‬من‬
‫أن الله سبحانه وتعالى بين من األدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بذلك ما ال يقدر‬
‫أحد من هؤالء قدره‪ ،‬ونهاية ما يذكرونه جاء القرآن بخالصته على أحسن وجه»(((‪.‬‬

‫ومن األسباب الرئيسة لوقوع هذا الخطأ‪ :‬الغفلة عن تنوع دالالت القرآن والسنة‪،‬‬
‫وأن منها ما دل بمجرد الخبر‪ ،‬ومنها نوع آخر «دل بطريق التنبيه واإلرشاد على الدليل‬
‫العقلي‪ ،‬فهو عقلي سمعي‪ ،‬ومن هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد‪..‬‬
‫وإذا تدبرت القرآن رأيت هذا أغلب النوعين عليه‪ ،‬وهذا النوع يمتنع أن يقوم دليل‬
‫صحيح على معارضته‪ ،‬الستلزامه مدلوله وانتقال الذهن فيه من الدليل إلى المدلول‬
‫ضروري‪ ،‬وهو أصل للنوع الثاني الدال بمجرد الخبر»(((‪.‬‬

‫وإذا واصلنا تتبع مواقف العلمانيين المنتقدين للتفسير المأثور‪ ،‬فسوف نجد جمال‬
‫البنا يتناول هذا الموضوع في العديد من كتبه‪ ،‬مثل‪« :‬تثوير القرآن»‪ ،‬و «تفسير القرآن‬
‫بين القدامى والمحدثين» وغيرها‪ ،‬وقد نفى ابتداء أن يكون النبي ‪ #‬قد أخبر أصحابه‬
‫بتفسير آيات القرآن تفصي ً‬
‫ال‪ ،‬ولو كان فعل ذلك لوصل إلينا قطع ًا‪ ،‬وهو ما لم يحدث‪،‬‬
‫إذ كل ما وصل إلينا من التفسير المرفوع إلى النبي ال يتعدى ثالث عشرة صفحة على ما‬

‫((( ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪.296/3‬‬


‫((( ابن القيم‪ :‬الصواعق المرسلة ‪.909 ،908/3‬‬

‫‪379‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ذكره السيوطي في كتابه «اإلتقان في علوم القرآن»(((‪ ،‬وهكذا فإن التفسير المرفوع من‬
‫وجهة نظر ‪ -‬جمال البنا ‪ -‬قليل وال يعول عليه‪ ،‬وأما تفسير الصحابة والتابعين وسائر‬
‫السلف فال عبرة به‪ ،‬وهو ما يعني أن كل أنواع التفسير المأثور ال قيمة لها‪ ،‬وال يجب‬
‫«االلتزام بما رووه من أحاديث عن الرسول‪ ،‬ومن باب أولى عدم االلتزام بما جاء من‬
‫كالم الصحابة؛ ألن الصحابة ليسوا مشرعين‪ ،‬بل إن الرسول نفسه ليس مشرع ًا إال فيما‬
‫كلفه الله به صراحة دون تأويل‪ ،‬وحصيلة هذا هدم تفسير المأثور وهو أكبر مراجع‬
‫التفسير»(((‪.‬‬

‫وال يكتفى جمال البنا بما سبق‪ ،‬بل يلمز علماء السلف وعصرهم‪ ،‬مشير ًا إلى‬
‫أنهم «رغم نبوغهم وعكوفهم وتجردهم ليسوا معصومين وال كاملين‪ ،‬وأنهم كانوا أبناء‬
‫عصرهم المغلق‪ ،‬الذي تسود فيه الخرافة كما يسود االستبداد‪ ،‬وكانت وسائل المعرفة‬
‫محدودة وصعبة قبل ظهور المطبعة وتيسير وسائل االنتقال‪ ،‬ال بد أن نقول ونعيد ما‬
‫ال صحة ما انتهى إليه هؤالء األسالف‪ ،‬فنحن مطالبون بأن‬ ‫نقول‪ :‬إننا لو فرضنا جد ً‬
‫نعمل عقولنا‪ ،‬ونقدم إضافتنا‪ ،‬وال نقنع بما قدموا‪ ،‬ألن من المؤكد أن هناك جديد ًا على‬
‫ما قالوا‪ ،‬وإننا إذا لم نعمل عقولنا ونقدم إضافتنا فإن عقولنا ستصدأ‪ ،‬وملكات تفكيرنا‬
‫ستتبلد‪ ،‬وعندئذ سنكون ضحية للخرافة‪ ،‬ولن يكتب لنا أن نتقدم أبد ًا»(((‪.‬‬

‫ومن الالفت للنظر أن نفس آراء جمال البنا في الهجوم على آراء السلف‪،‬‬
‫والتنقص من فهمهم وعلمهم‪ ،‬واتهامهم باألمية؛ قد تكررت من قبل وتصدى لها أهل‬
‫العلم بالتفنيد والرد(((‪ ،‬ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية من أن بعض آراء المتكلمين ينتج‬

‫((( جمال البنا‪ :‬تثوير اإلسالم ص ‪.56‬‬


‫((( جمال البنا‪ :‬تفسير القرآن بين القدامى والمحدثين ص ‪.159‬‬
‫((( جمال البنا‪ :‬تثوير اإلسالم ص ‪.138 ،137‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد صالح المنجد‪ :‬بدعة إعادة فهم النص ص ‪.50‬‬

‫‪380‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫عنها «استجهال السابقين األولين‪ ،‬واستبالههم‪ ،‬واعتقاد أنهم كانوا قوم ًا أميين بمنزلة‬
‫الصالحين من العامة؛ لم يتبحروا في حقائق العلم بالله‪ ،‬ولم يتفطنوا لدقائق العلم‬
‫اإللهي‪ ،‬وأن الخلف الفضالء حازوا قصب السبق في هذا كله»(((‪.‬‬

‫وال يشك أحد في بطالن ذلك‪ ،‬وأنه ال يمكن أن يكون هؤالء المتكلمون المخالفون‬
‫للسلف «أعلم بالله وأسمائه وصفاته‪ ،‬وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين األولين‬
‫من المهاجرين واألنصار‪ ،‬والذين اتبعوهم بإحسان‪ ،‬من ورثة األنبياء‪ ،‬وخلفاء الرسل‪،‬‬
‫وأعالم الهدى‪ ،‬ومصابيح الدجى‪ ،‬الذين بهم قام الكتاب‪ ،‬وبه قاموا‪ ،‬وبهم نطق الكتاب‬
‫وبه نطقوا‪ ،‬الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع األنبياء‪،‬‬
‫فض ً‬
‫ال عن سائر األمم الذين ال كتاب لهم‪ ،‬وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن‬
‫الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها‪ ،‬الستحيا من يطلب المقابلة»(((‪.‬‬

‫ومنشأ هذا الخلل ‪ -‬كما أشار ابن أبي العز الحنفي ‪ -‬يرجع إلى أن هؤالء الخلف‬
‫المتأخرين «محجوبون عن معرفة مقادير السلف‪ ،‬وعمق علومهم‪ ،‬وقلة تكلفهم‪،‬‬
‫وكمال بصائرهم‪ .‬وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إال بالتكلف واالشتغال باألطراف‪،‬‬
‫التي كانت همة القوم مراعاة أصولها‪ ،‬وضبط قواعدها‪ ،‬وشد معاقدها‪ ،‬وهممهم‬
‫مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء‪ ،‬فالمتأخرون في شأن‪ ،‬والقوم في شأن آخر‪،‬‬
‫وقد جعل الله لكل شيء قدر ًا»(((‪.‬‬

‫وقد وصل جمال البنا إلى درجة متطرفة من الشطط والغلو‪ ،‬حيث دعا للتخلص‬
‫من تفاسير السابقين كلها ‪ -‬سواء أكانوا من السلف أي القرون الثالثة األولى‪ ،‬أو‬

‫((( مجموع الفتاوى ‪.10/5‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.12 ،11/5‬‬
‫((( ابن أبي العز الحنفي‪ :‬شرح العقيدة الطحاوية ‪.20 ،19/1‬‬

‫‪381‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫كانوا ممن جاء بعدهم ‪ -‬كوسيلة للتجديد‪ ،‬وما يسميه بتثوير القرآن والذي ال يمكن‬
‫أن يتحقق إال إذا تم أو ً‬
‫ال «استبعاد التفاسير التي اعتمدتها األجيال كأداة لفهم القرآن‪،‬‬
‫بينما كانت في الحقيقة حجاب ًا بينهم وبين االقتراب المباشر من القرآن‪ ،‬وبالتالي تذوقه‬
‫وتدبره والغوص في أعماقه وتفهم ثوريته‪ ،‬وهذه التفاسير التي تحمل أسماء مقدسة‪،‬‬
‫إن لم تكن موثنة‪ ،‬مثل ابن جرير الطبري وابن كثير والقرطبي والزمخشري‪ ،‬تعد قدس‬
‫األقداس‪ ،‬وهناك عشرات األلوف من الشباب السذج المتحمس‪ ،‬الذي يفضل الموت‬
‫الزؤام على المساس بها‪ ،‬ووراءهم األئمة األعالم الذين يشغلون أرقى المناصب‪ ،‬وال‬
‫يترددون في اإلفتاء بتكفير من يريد الخالص من هذه التفاسير‪ ،‬أو يرون في هذا مؤامرة‬
‫على اإلسالم»(((‪.‬‬

‫ولعله ال يخفى ما في هذا الكالم من مجازفات‪ ،‬وادعاءات باطلة ال دليل عليها‬


‫مطلق ًا‪ ،‬وإال فمن الذي زعم أن هذه التفاسير ‪ -‬بما فيها تفسير الزمخشري المعتزلي ‪-‬‬
‫قدس األقداس‪ ،‬وهل كان بوسع جمال البنا أن يأتي بفتوى واحدة ألي أحد من العلماء‬
‫المعتبرين‪ ،‬يحكم فيها بكفر من أراد الخالص من تلك التفاسير‪ ،‬والتي هي في النهاية‬
‫جهد مشكور لعلماء كبار‪ ،‬يصيبون ويخطئون وأداة ضرورية ال غنى عنها للتعرف إلى‬
‫معاني كتاب الله‪.‬‬

‫ولست أدري كيف يمكن لمسلم عامي‪ ،‬أو طالب علم مبتدئ‪ ،‬أو حتى عالم‬
‫مجتهد أن يطرح كل هذا الجهد الهائل وراء ظهره‪ ،‬ثم يبدأ من نقطة الصفر ليتفهم‬
‫معاني آيات كتاب الله؟‬

‫وأما انتقادات نصر أبو زيد للتفسير المأثور‪ ،‬فقد انطلقت من دعواته المستمرة‬
‫للتحرر من سلطة النص‪ ،‬ومن سلطة السلف القدماء‪ ،‬وفتح باب النص القرآني‬

‫((( جمال البنا‪ :‬تثوير اإلسالم ص ‪.136 ،135‬‬

‫‪382‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫لتأويالت جديدة‪ ،‬توظف األدوات والمعارف الحداثية الغربية‪ ،‬وقد امتأل كالمه عن‬
‫هذا النوع من التفسير بالكثير من المغالطات‪ ،‬ومن ذلك ادعاؤه أن «التفسير الصحيح‬
‫عند من يطلقون على أنفسهم اسم أهل السنة قديم ًا وحديث ًا‪ ،‬هو التفسير الذي يعتمد‬
‫على سلطة القدماء»(((‪.‬‬

‫ومن الواضح ما في استخدام لفظة «القدماء» من همز ولمز ماكرين من أبو زيد‪،‬‬
‫فالتفسير بالمأثور يشتمل على عدة أنواع‪ ،‬منها تفسير القرآن بالقرآن‪ ،‬وتفسير القرآن‬
‫بسنة الرسول ‪ ،#‬إضافة ألقوال الصحابة والتابعين‪ ،‬ووضع كل هذه األنواع في سلة‬
‫واحدة‪ ،‬ووسمها بسلطة القدماء يراد به التشنيع واإليحاء بظالل سيئة لدى القارئ‪ ،‬وال‬
‫سيما مع دعوة أبو زيد المتكررة للتحرر من سلطة القدماء تحرر ًا تام ًا‪.‬‬

‫وال يقال هنا إن الرجل يقصد بسلطة القدماء أقوال الصحابة والتابعين فقط‪ ،‬ألنه‬
‫ذكر صراحة في نفس هذا الموضع أن التفسير المأثور يدخل فيه أحاديث الرسول‬
‫‪ #‬فقال‪« :‬إن معيار التفسير الصحيح عند من يطلقون على أنفسهم اسم أهل السنة‪،‬‬
‫سواء في التراث‪ ،‬أو في الفكر الديني الرسمي المعاصر هو ما ورد عن الرسول أو عن‬
‫الصحابة الذين شهدوا نزول الوحي‪ ،‬وكانوا أقرب من ثم إلى فهم داللته»(((‪.‬‬

‫كذلك ادعى أبو زيد أن «التفسير عندهم ‪ -‬أي أهل السنة ‪ -‬ال بد أن يستند إلى النقل؛‬
‫ألن االستدالل يؤدي دائم ًا إلى الخطأ في زعمهم»(((‪ .‬وهذا الكالم غير صحيح بالمرة‪،‬‬
‫واالستدالل عند أهل السنة في باب التفسير مجاله واسع‪ ،‬ومن يطالع كتب التفسير‬
‫بالمأثور كتفسير الطبري وابن كثير‪ ،‬يجدها حافلة باستنباطات واستدالالت عدة(((‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.250‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.249 ،248‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.249‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬مساعد الطيار‪ :‬مقاالت في علوم القرآن ص ‪.215‬‬

‫‪383‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن انتقادات نصر أبو زيد للتفسير بالمأثور زعمه أن االعتماد على هذا اللون‬
‫من التفسير سيؤدي إلى تجميد داللة النص القرآني‪ ،‬وربطها بالمعارف والثقافات التي‬
‫كانت شائعة في الجيل األول‪ ،‬وهو ما يتنافى مع صالحية القرآن لكل زمان ومكان(((‪.‬‬

‫وال يكتفي أبو زيد بتناول المسألة في إطار قضية التفسير‪ ،‬بل يتخذها تكأة للطعن‬
‫في منهج أهل السنة المعرفي بصفة عامة‪ ،‬زاعم ًا أن الخطأ الجوهري في موقفهم قديم ًا‬
‫وحديث ًا هو «النظر إلى حركة التاريخ وتطور الزمن بوصفها حركة نحو األسوأ على‬
‫جميع المستويات‪ ،‬لذلك يحاولون ربط معنى النص وداللته بالعصر الذهبي عصر‬
‫النبوة والرسالة ونزول الوحي‪ ،‬متناسين أنهم في ذلك يؤكدون زمانية الوحي‪ ،‬ال من‬
‫حيث تكون النص وتشكله فقط‪ ،‬بل من حيث داللته ومغزاه كذلك‪ ،‬وليس هذا مجرد‬
‫خطأ مفهومي‪ ،‬ولكنه تعبير عن موقف أيديولوجي من الواقع‪ ،‬موقف يساند التخلف‬
‫ويقف ضد التقدم والحركة‪ ،‬ولذلك يرتبون أمهات مآخذ التفسير في أربعة‪ ،‬تبدأ باألخذ‬
‫عن الرسول‪ ..‬ثم األخذ بقول الصحابي‪ ،‬ثم الرجوع إلى أقوال التابعين‪ ،‬ثم يأتي في‬
‫الرتبة الرابعة واألخيرة التفسير اللغوي»(((‪.‬‬

‫وتعقيب ًا على هذا الكالم أقول‪ :‬إن نصر أبو زيد ‪ -‬مثله مثل سائر العلمانيين ‪-‬‬
‫ال يؤمن أص ً‬
‫ال بصالحية القرآن والشريعة لكل زمان ومكان‪ ،‬ويحارب خصيصة‬
‫الشمول والعموم هذه بكل ما أوتي من قوة‪ ،‬إال أنه يحاول استخدامها هنا إلثبات‬
‫تناقض القائلين بالتفسير المأثور‪ ،‬إذ كيف يعولون على فهم الجيل األول من جهة‪ ،‬ثم‬
‫هم يقولون بصالحية القرآن لكل زمان ومكان من جهة أخرى‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.251‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.252‬‬

‫‪384‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ولست أرى أي وجه للتناقض أو اإلشكال أص ً‬


‫ال بين األمرين‪ ،‬فتفسير القرآن‬
‫سواء بالمأثور أو المعقول ليس سوى كشف وإبانة عن المراد منه‪ ،‬والمقصود بمعنى‬
‫اآليات‪ ،‬وخصيصة الشمول والعموم هي للقرآن نفسه‪ ،‬وليست لتفسيرات المفسرين‪.‬‬

‫وعلى سبيل المثال فإن قوله تعالى‪َ { :‬و َأعِ ُّدوا َل ُه ْم َما ْاس َت َط ْع ُت ْم م ِْن ُق َّوة} [األنفال‪:‬‬
‫‪ ]60‬يعم كل زمان ومكان‪ ،‬وتكون القوة وأنواعها وسبل إعدادها في كل عصر بحسبه‪،‬‬
‫ثم إذا ورد حديث يفسر القوة هنا بالرمي(((‪ ،‬فليس في ذلك تضييق ًا للمعنى أو حصر ًا‬
‫له‪ ،‬ألن الرمي أيض ًا يتنوع بتنوع العصور واألزمان‪ ،‬واختالف وسائل القتال وأدواته‪،‬‬
‫كما أن التنصيص على نوع من أنواع القوة وهو الرمي‪ ،‬ال يعني بحال نفي غيرها من‬
‫األنواع‪ ،‬التي قد تستجد في أعصر الحقة‪.‬‬

‫ومن مغالطات أبو زيد األخرى عن التفسير بالمأثور‪ ،‬ادعاؤه أن االكتفاء به سوف يؤدي‬
‫إلى إحدى نتيجتين‪ :‬إما التخلي عن المنهج التجريبي في درس الظواهر الطبيعية واإلنسانية‪،‬‬
‫وإما أن يتحول العلم إلى دين‪ ،‬ويتحول الدين من ثم إلى خرافات وخزعبالت(((‪.‬‬

‫وأصل الخلل في كالم أبو زيد هذا‪ ،‬هو تصوره أن كل ما يروى في كتب التفاسير‬
‫يعد من التفسير المأثور‪ ،‬مع أن فيها الضعيف والموضوع واإلسرائيليات التي ال تصح‬
‫بحال‪ ،‬ثم افتراضه بناء على ذلك أن العلم والدين سيتعارضان‪ ،‬وإذا تمسكنا بالدين‬
‫فمعنى ذلك أننا سوف ننحي العلم التجريبي بالكلية‪ ،‬وكل هذه االفتراضات من أوهامه‬
‫هو‪ ،‬وليست بالزمة أص ً‬
‫ال‪ ،‬حتى لو فرض تبني بعض الناس لها‪ ،‬فالخلل حينئذ في‬
‫مسلكهم الخاطئ‪ ،‬وليس في الدين نفسه‪ ،‬أو في التفسير المأثور‪.‬‬

‫((( ونقصد بذلك ما رواه مسلم في صحيحه (‪ )1917‬عن ُع ْق َب َة ْب َن َع ِام ٍر رضي الله عنه قال‪َ :‬س ِم ْع ُت‬
‫الر ْم ُي‪َ ،‬أ َل إِ َّن‬
‫{و َأ ِع ُّدوا لَ ُه ْم َما ْاس َتط َْع ُت ْم ِم ْن ق َُّو ٍة}‪َ ،‬أ َل إِ َّن ا ْل ُق َّو َة َّ‬ ‫الله ‪َ #‬و ُه َو َع َلى ا ْل ِمنْ َب ِر َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬‬
‫ول ِ‬ ‫َر ُس َ‬
‫الر ْم ُي‪.‬‬ ‫الر ْم ُي‪َ ،‬أ َل إِ َّن ا ْل ُق َّو َة َّ‬
‫ا ْل ُق َّو َة َّ‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص دراسة في علوم القرآن ص ‪.251‬‬

‫‪385‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وفي ختام كالمنا عن موقف العلمانيين من التفسير بالمأثور‪ ،‬وإثبات تناقضه مع‬
‫موقفهم من أسباب النزول‪ ،‬يجدر بنا التنبيه إلى االنتقائية المعيبة التي تعاملوا بها مع هذا‬
‫النوع من التفسير‪ ،‬إذ رغم انتقادهم الشديد له‪ ،‬ودعوتهم للتخلص من سلطة القدماء‪،‬‬
‫فإننا وجدناهم يحتجون بهذا التفسير إذا وافق هواهم‪ ،‬أو جاء في سياق توظيفهم له‪،‬‬
‫إلثبات صحة قضية ما يريدون التدليل عليها‪.‬‬

‫وثمة نماذج عدة لهذا الصنيع المعيب(((‪ ،‬ومنها إعراض محمد شحرور عن‬
‫الحديث الصحيح الوارد في تفسير السبع المثاني المذكورة في قوله تعالى‪َ { :‬و َلق َْد آت َْي َن َ‬
‫اك‬
‫يم} [الحجر‪ ]87 :‬بأنها الفاتحة(((‪ ،‬واختياره معنى آخر‬
‫َس ْبع ًا م َِن ا ْل َم َثانِي َوا ْلق ُْرآنَ ا ْل َعظِ َ‬
‫بعيد كل البعد عن الداللة اللغوية والشرعية‪ ،‬وهو أن المقصود بالسبع المثاني الحروف‬
‫المقطعة المذكورة في أوائل بعض سور القرآن الكريم(((‪ ،‬ورغم الكم الكبير لألخطاء‬
‫لي ألعناق النصوص‪،‬‬
‫والمغالطات التي اشتمل عليها كالم شحرور‪ ،‬وما تضمنه من ٍّ‬
‫ودالالت اللغة لتتوافق مع رأيه هذا(((‪ ،‬فإن ما يعنينا هنا أنه أعرض عن الحديث الصحيح‬
‫ذي الداللة الواضحة في تفسير اآلية‪ ،‬وراح يستشهد((( بحديث آخر ال صلة له باآلية من‬
‫قريب وال بعيد‪ ،‬وهو حديث «أعطيت جوامع الكلم‪ ،‬واختصر لي الكالم اختصار ًا»(((‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬منى الشافعي‪ :‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن ص ‪.453‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الم َع َّلى‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬كن ُْت ُأ َص ِّلي في‬ ‫((( ونص الحديث الذي رواه البخاري (‪َ )4474‬ع ْن َأبِي َسعيد ْب ِن ُ‬
‫ول ال َّل ِه‪ ،‬إِنِّي ُكن ُْت ُأ َص ِّلي‪َ ،‬ف َق َال‪َ « :‬أ َل ْم َي ُق ِل‬ ‫ول ال َّل ِه ‪َ #‬ف َل ْم ُأ ِج ْب ُه‪َ ،‬ف ُق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫الم ْس ِج ِد‪َ ،‬فدَ َعانِي َر ُس ُ‬ ‫َ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ور ًة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫{اس َتج ُيبوا ل َّله َول َّلر ُسول إِ َذا َد َعا ُك ْم ل َما يُ ْحيِيك ُْم} [األنفال‪ .]24 :‬ث َّم قال لي‪« :‬ل َعل َمنَّك ُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال َّل ُه‪ْ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الم ْس ِجد»‪ُ .‬ث َّم َأ َخ َذ بِ َيدي‪َ ،‬ف َل َّما َأ َرا َد َأ ْن َي ْخ ُر َج‪ُ ،‬ق ْل ُت‬ ‫ِ‬ ‫آن‪َ ،‬ق ْب َل َأ ْن ت ْ‬ ‫ِ‬
‫ِهي َأ ْع َظم السو ِر في ال ُقر ِ‬
‫َخ ُر َج م َن َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُّ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ين} [الفاتحة‪:‬‬ ‫العالَ ِم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{الح ْم ُد ل َّله َر ِّب َ‬
‫َ‬ ‫ورة في ال ُق ْرآن»‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫ور ًة ه َي َأ ْع َظ ُم ُس َ‬ ‫َل ُه‪َ « :‬أ َل ْم َت ُق ْل َل َع ِّل َمن ََّك ُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم ا َّلذي ُأوتي ُت ُه»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الم َثانِي‪َ ،‬وال ُق ْر ُ‬ ‫ِ‬
‫آن ال َعظ ُ‬ ‫الس ْب ُع َ‬ ‫‪« ]2‬ه َي َّ‬
‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.99 - 96‬‬
‫((( انظر‪ :‬منى الشافعي‪ :‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن ص ‪.456‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد شحرور‪ :‬الكتاب والقرآن ص ‪.98‬‬
‫((( وأصل الحديث بدون زيادة «واختصر لي الكالم اختصار ًا» رواه البخاري (‪ )2977‬ومسلم (‪.)523‬‬

‫‪386‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ومن النماذج األخرى التي سلكت المسلك نفسه‪ ،‬استدالل نصر أبو زيد باألثر‬
‫المروي عن علي بن أبي طالب «القرآن حمال أوجه» رغم عدم صحته‪ ،‬إلثبات تعدد‬
‫معاني القرآن‪ ،‬واحتماله لكل المعاني الصحيحة والباطلة‪ ،‬وكذا استدالل محمد‬
‫شحرور على خلو الشريعة من أدلة تحريم الربا‪ ،‬بأثر عمر في الكاللة والربا(((‪.‬‬

‫وهكذا يبرز التناقض المنهجي في تعامل هؤالء العلمانيين مع التفسير بالمأثور‪،‬‬


‫ما بين انتقاده ورفضه تارة‪ ،‬وما بين التعويل عليه واالستشهاد به تارة أخرى‪ ،‬تبع ًا‬
‫ألهوائهم‪ ،‬وما يريدون إثباته من أفكار وتوجهات‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬ومن التناقضات العلمانية أيض ًا في الموقف من أسباب النزول‪ ،‬أن‬
‫الفائدة األساسية من المعرفة بهذا العلم تتمثل في فهم القرآن الكريم‪ ،‬والمراد من‬
‫آياته النازلة على سبب‪ ،‬وقد تقدم معنا قول ابن تيمية إن «العلم بالسبب يورث العلم‬
‫بالمسبب»(((‪.‬‬

‫وثمة نصوص عدة لنفر من العلمانيين يقررون فيها األهمية الكبيرة ألسباب‬
‫النزول في فهم النص‪ ،‬واستخراج داللته وفهم حكمة التشريع‪ ،‬ومن نماذج ذلك قول‬
‫نصر أبو زيد‪« :‬إن معرفة أسباب النزول ليست مجرد ولع برصد الحقائق التاريخية التي‬
‫أحاطت بتشكل النص‪ ،‬بل تستهدف هذه المعرفة فهم النص واستخراج داللته‪ ،‬فإن‬
‫العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب كما يقولون‪ ،‬هذا إلى جانب أن دراسة األسباب‬
‫والوقائع يؤدي إلى فهم حكمة التشريع خاصة في آيات الحكام»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬منى الشافعي‪ :‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن ص ‪ ،462‬وانظر أيض ًا‪ :‬عبد‬
‫المجيد الشرفي‪ :‬تحديث الفكر اإلسالمي ص ‪.13‬‬
‫((( ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ‪.339/13‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.116 ،115‬‬

‫‪387‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫كذلك نجد لدى بعضهم نقد ًا شديد ًا لمن يعرضون عن أسباب النزول‪ ،‬وال‬
‫يعتمدون عليها في فهم القرآن‪ ،‬مع أن «من يقرأ القرآن ألغراض تعليمية‪ ،‬أو ألسباب‬
‫تعبدية‪ ،‬قد يقف عند قراءة اآليات‪ ،‬وال يتعداها إلى العلم بأسباب النزول‪ ،‬ومن ثم فإنه‬
‫ال يدرك أنها تنزلت على أسباب‪ ،‬كما ال يستطيع أن يفهم حقيقتها‪ ،‬وما تقصد إليه ما‬
‫دام ال يعرف أسباب التنزيل»(((‪.‬‬

‫والمنهج السديد في تفسير القرآن ‪ -‬عند العشماوي ‪ -‬يقوم على ربط كل آية‬
‫بسبب نزولها‪ ،‬وتفسيرها على خلفية األحداث التي تنزلت عليها والوقائع التي‬
‫استدعت حكمها؛ ألن «القرآن عامة‪ ،‬وآيات المعامالت خاصة‪ ،‬لن تفهم الفهم السليم‬
‫الذي أراده التنزيل وتغياه الحق‪ ،‬إال بعد بيان أسباب تنزيل كل آية‪ ،‬وتفسيرها على‬
‫خلفية األحداث التي تنزلت عليها‪ ،‬والوقائع التي استدعت حكمها»(((‪.‬‬

‫أما المنهج الخاطئ في تفسير القرآن‪ ،‬فهو الذي «يعمد إلى انتزاع بعض آيات القرآن من‬
‫السياق الذي تنزلت فيه‪ ،‬وفصلها عن أسباب التنزيل فص ً‬
‫ال تام ًا‪ ،‬واستعمالها تبع ًا للتركيب‬
‫اللغوي وحده‪ ،‬أو وفق ًا للتكوين اللفظي دون سواه»(((‪ ،‬واتباع هذا المنهج الخاطئ والذي‬
‫ال يربط اآليات بأسباب نزولها سوف «يؤدي إلى تفسيرات غير صحيحة للقرآن‪ ،‬وتأويالت‬
‫عليلة آلياته‪ ،‬مما يؤدي ال محالة إلى تحريف مقاصد الله‪ ،‬وتزييف أهداف التنزيل «(((‪.‬‬

‫وبالطبع فإن مقصد العلمانيين من مثل هذا الكالم‪ ،‬أن اآلية مرتبطة بسبب نزولها‪،‬‬
‫وال يصح تعميم معناها‪ ،‬لكن ما يعنينا نحن من ذلك كله‪ ،‬إقرارهم أن أسباب النزول‬
‫أداة مهمة‪ ،‬وعامل ال غنى عنه في فهم القرآن الكريم‪.‬‬

‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬أصول الشريعة ص ‪.67‬‬


‫((( محمد سعيد العشماوي‪ :‬الربا والفائدة ص ‪.33‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.33‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.33‬‬

‫‪388‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ويبرز التناقض الحقيقي لدى العلمانيين من تقريرهم أنه ال يوجد معنى ثابت أو‬
‫محدد للنص القرآني‪ ،‬وأنه نص مفتوح قابل لتعدد االحتماالت والتأويالت والقراءات‪،‬‬
‫بغض النظر عن وجود أسباب النزول أو عدمها‪ ،‬ثم إن النص ‪ -‬أي نص ‪ -‬مستقل بذاته‪،‬‬
‫ومفصول عن قائله‪ ،‬وعن الواقع الخارجي‪ ،‬وال سلطة مطلق ًا على قارئه‪ ،‬كي يفهم منه‬
‫فهم ًا بذاته من جملة المعاني المحتملة‪.‬‬

‫والفكرة األساسية التي ينطلق منها كثير من هؤالء العلمانيين أن النص الديني نص‬
‫مفتوح غير خاضع لمعنى محدد‪ ،‬وهو محتمل لمعان وتأويالت متعددة‪ ،‬ولكل قارئ‬
‫تجربته الخاصة وله فهمه الخاص للنص(((‪ ،‬الذي ينبغي تحويله إلى كينونة داللية‬
‫مستقلة عن مصدره‪ ،‬ويترتب على هذه الفكرة جملة من اإلجراءات التحليلية‪ ،‬التي‬
‫تجعل النص ذا فسحة داللية متعددة الجوانب والمعارف(((‪.‬‬

‫وكل هذا يجعلنا نجزم بأن وجود أسباب النزول سوف يصير كعدمه عند‬
‫هؤالء النفر‪ ،‬ولن يكون له أي جدوى حقيقية في فهم النص الشرعي ‪ -‬قرآن ًا وسنة‬
‫‪ -‬ألن ما يريده هؤالء العلمانيون في الحقيقة ليس فهم النص على أحسن محامله‪،‬‬
‫وال البحث عن مراد قائله ‪ -‬وهو الله سبحانه‪ ،‬فيما يتعلق بالقرآن‪ ،‬والرسول ‪#‬‬
‫فيما يتعلق بالسنة ‪ -‬وإنما المراد هو التخلص من التكليف بهذا النص‪ ،‬أو بعبارتهم‬
‫هم‪ :‬التخلص من سلطة النص وسيطرته‪ ،‬وفتح الباب لقراءته وتأويله تأوي ً‬
‫ال حر ًا‬
‫ال‪ ،‬ال إلزام فيه‪ ،‬وال احتكار لحق أو صواب‪ ،‬وال ترجيح لرأي‬ ‫مفتوح ًا متغير ًا متبد ً‬
‫على آخر‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬عبد الله العجيري‪ :‬ينبوع الغواية الفكرية ص ‪ ،244‬ومحمد حمزة‪ :‬إسالم المجددين ص‬
‫‪.59 - 56‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمد يونس وماجد العلوي‪ :‬القراءة الحداثية للنص عند علي حرب ص ‪.609‬‬

‫‪389‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ولعل المجال يطول بإيراد نصوص وشواهد تدل على هذا التوجه العلماني‪ ،‬لكن‬
‫ال بأس أن نسوق عدد ًا من النماذج في هذا الصدد‪ ،‬ومنها ما ذهب إليه محمد أركون من‬
‫أن القرآن «نص مفتوح على جميع المعاني‪ ،‬وال يمكن ألي تفسير أو تأويل أن يغلقه‬
‫أو يستنفذه بشكل نهائي وأرثوذكسي»((( كما أنه «عبارة عن مجموعة من الدالالت‬
‫والمعاني االحتمالية المقترحة على كل البشر‪ ،‬فهي مؤهلة ألن تثير أو تنتج خطوط ًا‬
‫واتجاهات عقائدية متنوعة‪ ،‬بقدر تنوع األوضاع واألحوال التاريخية التي تحصل فيها‪،‬‬
‫أو تتولد فيها»(((‪.‬‬

‫وبناء على التصور السابق للنص القرآني والديني عموم ًا‪ ،‬فال بد من النظر إليه ‪-‬‬
‫عند أركون ‪-‬على أنه «مجموعة متراكمة‪ ،‬ومتالحقة من العصور والحقبات الزمنية‪ ،‬إن‬
‫هذه القرون متراتبة بعضها فوق بعضها اآلخر كطبقات األرض الجيولوجية‪ ،‬وال يمكن‬
‫أن نتوصل إلى فهم حقيقة عمق هذه الطبقات إلى القرون التأسيسية األولى مث ً‬
‫ال إال‬
‫باختراق الطبقات السطحية والوسطى‪ ،‬رجوع ًا في الزمن إلى الوراء‪ ،‬والتفكيك يمثل‬
‫آلية مهمة الختراق وتعرية طبقات النص‪ ،‬التي حاولت أن تختفي من وراء النظريات‬
‫المختلفة‪ ،‬والتشكيالت األيديولوجية المتنوعة‪ ،‬ألجل نزع البداهة ورداء القداسة على‬
‫النص»(((‪.‬‬

‫ويبدي علي حرب اتفاقه التام مع أركون في القول بأن القرآن نص مفتوح على‬
‫جميع المعاني وعلى كل البشر(((‪ ،‬كما أنه «يتسع للكل‪ :‬لكل األوجه‪ ،‬والمستويات‪،‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪.145‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.145‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد القادر بودومة‪ :‬النص وآليات القراءة‪ ،‬محمد أركون ‪ -‬نصر حامد أبو زيد‪ ،‬بحث منشور‬
‫على موقع ‪www.aljabriabed.net/n45_11bouduma.htm‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.87‬‬

‫‪390‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫والمجاالت‪ ،‬وبإمكان كل من يستنطقه أن يقرأ ذاته فيه»(((‪ ،‬وال يتوقف األمر عند هذا‬
‫الحد‪ ،‬بل يذهب علي حرب إلى أن جميع النصوص وجميع الحقائق قد اختلف عليها‬
‫الناس‪ ،‬سواء في زمان ومكان واحد أو متعدد‪ ،‬ويشهد تاريخ البشرية على ذلك‪ ،‬ومن‬
‫ثم فليس هناك حقيقة واحدة‪ ،‬بل حقائق متعددة‪ ،‬وليس هناك تفسير واحد‪ ،‬بل تأويالت‬
‫ال نهائية‪ ،‬وحينئذ فليس بمقدور أحد أن يزعم امتالكه الحقيقة‪ ،‬أو القبض عليها(((‪.‬‬

‫ويتكرر الحكم نفسه على النص القرآني عند طيب تيزيني‪ ،‬فهذا النص عنده نص‬
‫مفتوح(((‪ ،‬وقد «أتى في جله إجمالي ًا كلي ًا‪ ،‬وقائم ًا على إشكالية المحكم والمتشابه‪،‬‬
‫إضافة إلى تبنيه من موقع اإلقرار بتعدد احتماالت تأويله‪ ،‬ثم من منطلق اإلقرار بثنائية‬
‫الظاهر والباطن‪ ،‬ظاهره وباطنه‪ ،‬فإنه يكون قد أعلن ‪ -‬على نحو من األنحاء ‪ -‬بأنه نص‬
‫مفتوح أو ً‬
‫ال‪ ،‬وأنه يدعو بإفصاح إلى النظر إليه مفتوح ًا ثاني ًا»(((‪.‬‬

‫ويدعو تيزيني إلى تكوين حركة تأويلية معاصرة‪ ،‬وجعل االجتهاد في فهم النصوص‬
‫والتعامل معها وجه ًا من أوجه نشاط البشر عام ًا‪ ،‬وليس قاصر ًا على المتأهلين لذلك‬
‫والمتخصصين‪ ،‬فيقول‪« :‬ولذلك نرى ضرورة الدعوة إلى تكوين حركة تأويلية راهنة‪،‬‬
‫في ضوء الدعوة إلى تعميم الثقافة العلمانية‪ ،‬وإلى دمقرطة التعليم في كل أوساط األمة‪،‬‬
‫بحيث يغدو االجتهاد وجه ًا من أوجه نشاط البشر جميع ًا‪ ،‬وإن ظل األمر أكثر بروز ًا في‬
‫نطاق المجموعات من النخب المثقفة المفقهة‪ ،‬والمتفرغة نسبي ًا»(((‪.‬‬

‫((( علي حرب‪ :‬نقد الحقيقة ص ‪.45‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمد يونس وماجد العلوي‪ :‬القراءة الحداثية للنص عند علي حرب ص ‪،625‬‬
‫‪.626‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.106‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.355‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق ص ‪.93‬‬

‫‪391‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫والنص عند حسن حنفي أشبه ما يكون بوعاء فارغ‪ ،‬وقالب دون مضمون‪ ،‬وما‬
‫من نص إال ويمكن تأويله وملؤه بمضمون معاصر‪ ،‬ويستوي في هذا الحكم النصوص‬
‫الواضحة وغير الواضحة‪ ،‬وبنص كالمه فإن «النص بطبيعته مجرد صورة عامة‪ ،‬تحتاج‬
‫إلى مضمون يملؤها من حاجات العصر ومقتضياته‪ ،‬التي هي بناء الحياة اإلنسانية‪ ،‬التي‬
‫عبر فيها الوحي في المقاصد العامة»(((‪.‬‬

‫ويترتب على هذا التقعيد الخطير‪ :‬أنه ال يوجد تفسير معين للدين يمكن أن يقال‬
‫بأنه الدين في ذاته‪ ،‬وأن ما سواه تفسيرات غير شرعية‪ ،‬وفي ذلك يقول حسن حنفي‪:‬‬
‫«يخطئ من يظن أن تفسير ًا معين ًا للدين هو الدين في ذاته‪ ،‬فالتفسيرات متعددة‪ ،‬ولكن‬
‫الدين واحد‪ ،‬وكلها شرعية ألنها تعتمد على نصوص الدين‪ ،‬وال احتكار في التفسير‪،‬‬
‫وال تكفير ألحدها دون اآلخر»(((‪.‬‬

‫وسبب هذا التعدد في التفسيرات‪ ،‬وقابلية النصوص لها يعود في رأيه إلى‬
‫«أن قارئ النصوص الدينية ليس عق ً‬
‫ال مجرد ًا‪ ،‬بل هو إنسان يعيش في مجتمع‪،‬‬
‫وله مشاكله وظروفه ومصلحته‪ ،‬وال يمكن أن يقرأ النص إال من خالل هذا الوضع‬
‫النفسي االجتماعي‪ ،‬سواء في اختيار النص أو فهمه‪ ،‬ولما تعددت المواقف والظروف‬
‫والمصالح للمفسرين‪ ،‬تعددت أيض ًا تفسيراتهم‪ ،‬فليس الخالف حول معنى موضوعي‬
‫للنص المستقل‪ ،‬بل هو اختالف المواقف االجتماعية والمصالح الطبقية للمفسرين‪،‬‬
‫اختالف التفسيرات يرجع أساس ًا إلى اختالف المصالح‪ ،‬واختالف المصالح يرجع في‬
‫النهاية إلى التركيب الطبقي للمجتمع»(((‪.‬‬

‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬من العقيدة إلى الثورة ‪.375 ،374/1‬‬


‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬الدين والثورة في مصر ‪ ،1981 -1952‬الجزء السابع اليمين واليسار في الفكر‬
‫الديني ص ‪.117‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.117‬‬

‫‪392‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وهكذا تستحضر المصطلحات الماركسية‪ ،‬وفكرة صراع الطبقات في تفسير‬


‫االختالف حول معاني القرآن‪ ،‬ويصير انقسام الناس إلى فقراء وأغنياء سبب ًا في‬
‫اختالفهم في فهم النصوص وكأن أغنياء الصحابة والتابعين والفقهاء‪ ،‬وذوي الحسب‬
‫والنسب‪ ،‬مثل‪ :‬عثمان بن عفان‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وابن عباس‪ ،‬والليث بن سعد‬
‫مث ً‬
‫ال‪ ،‬لهم آراء مختلفة عن آراء الفقراء والزهاد‪ ،‬أمثال بالل‪ ،‬وأبي ذر الغفاري‪ ،‬وعمار‬
‫بن ياسر‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وهذا االختالف ليس سببه فهم النص‪ ،‬وإنما‬
‫االنتماء الطبقي‪.‬‬
‫ثم ماذا يا ترى موقف من كانوا فقراء أول األمر ثم اغتنوا‪ ،‬كأبي هريرة مث ً‬
‫ال‪ ،‬وهل‬
‫تغيرت آراؤهم بتغير طبقاتهم؟ الحق أن األمر كله أشبه بالعبث‪ ،‬والخرص الذي تكفي‬
‫حكايته لبيان بطالنه‪.‬‬

‫وإذا واصلنا تتبع مواقف العلمانيين من قضية معاني النصوص الشرعية‪ ،‬فسوف‬
‫نجد أن نصر أبو زيد ينفي وجود عناصر جوهرية ثابتة في النصوص‪ ،‬فيقول‪« :‬وليس‬
‫ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص‪ ،‬بل لكل قراءة بالمعنى التاريخي االجتماعي‬
‫جوهرها الذي تكشفه في النص»(((‪.‬‬

‫والنص الديني بصفة عامة عند سيد القمني «قابل لتعدد الفهم حوله‪ ،‬بتعدد‬
‫القراءات‪ ،‬واختالف الثقافات»(((‪ ،‬ويترتب على ذلك أن النص الواضح القاطع الذي‬
‫ال يحتمل إال معنى واحد ًا نادر في الوحي‪ ،‬بينما تظل سائر آيات القرآن قابلة لالجتهاد‬
‫والتأويل(((‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.118‬‬


‫((( سيد القمني‪ :‬رب الزمان ص ‪.235‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.230‬‬

‫‪393‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ويلخص محمد حمزة مواقف الحداثيين العرب من قضية المعنى‪ ،‬حيث رفضوا‬
‫ما يصفونه بالقراءة التقليدية‪ ،‬القائمة على اإليمان بواحدية المعنى وثباته‪ ،‬وتبنوا بدي ً‬
‫ال‬
‫عن ذلك قراءة أخرى‪ ،‬تقوم على نسبية الحقيقة ومرونتها‪ ،‬بحيث تتناسب مع وعي‬
‫اإلنسان‪ ،‬كما ترى أن معرفة العالم وإنتاج المعنى هما مسؤولية اإلنسان وحده‪ ،‬وليسا‬
‫معطى إلهي ًا فوقي ًا مقدس ًا‪ ،‬وبذلك تتحول قضية النص الديني وقراءته‪ ،‬إلى قضية النص‬
‫عموم ًا‪ ،‬من خالل إخضاع النص القرآني لما تخضع له سائر النصوص من سنن‪،‬‬
‫وقوانين(((‪.‬‬

‫وفي ظل هذه السيولة في المعاني والتأويالت‪ ،‬والنسبية واالحتمالية والفوضى‬


‫التي ال نهاية لها‪ ،‬لن نستغرب إذا ما فاجأنا علماني بأن اإللحاد هو جوهر اإليمان‪ ،‬وأن‬
‫اإليمان هو اإللحاد بعينه‪ ،‬في مصادمة فجة لما هو مستقر عق ً‬
‫ال‪ ،‬ولغة‪ ،‬وفطرة‪.‬‬

‫وهذا ما قرره بالفعل حسن حنفي‪ ،‬حيث قال‪« :‬إن مقولتي اإللحاد واإليمان‬
‫مقولتان نظريتان‪ ،‬ال تعبران عن شيء واقعي‪ ،‬ألن ما يظنه البعض على أنه إلحاد قد‬
‫يكون هو جوهر اإليمان‪ ،‬وما يظنه البعض اآلخر على أنه إيمان‪ ،‬قد يكون هو اإللحاد‬
‫بعينه»(((‪ ،‬وهو يواصل هذا الهذيان‪ ،‬معل ً‬
‫ال إياه بأن اإللحاد «هو المعنى األصلي‬
‫لإليمان‪ ،‬ال المعنى المضاد‪ ،‬واإليمان هو المعنى الذي توارده العرف‪ ،‬حتى أصبح‬
‫بعيد ًا للغاية عن المعنى األصلي‪ ،‬إن لم يكن فقد ًا له‪ ...‬وهكذا يكون اإليمان تغطية‬
‫وتعمية عن شيء آخر مخالف لمضمون اإليمان‪ ،‬ويكون اإللحاد هو كشف القناع‬
‫وفضح النفاق‪ ،‬وتعرية الواقع‪ ،‬وعود إلى المعنى األصلي‪ ،‬ورفض للتواطؤ‪ ،‬وقبول‬
‫للشهادة»(((‪.‬‬
‫((( محمد حمزة‪ :‬إسالم المجددين ص ‪.57 ،56‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.61‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.62‬‬

‫‪394‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ولعل من المهم‪ ،‬بعد أن نقلنا طرف ًا من تلك اآلراء العلمانية حول معاني النصوص‬
‫أن ننبه إلى بطالن آرائهم تلك‪ ،‬ألنها تتعارض تمام ًا مع طبيعة النص القرآني‪ ،‬فهذا النص‬
‫يحمل رسالة توحيد وهدى‪ ،‬ويقصد هداية الخلق ورشادهم‪ ،‬وكي يتحقق ذلك‪ ،‬فال‬
‫بد أو ً‬
‫ال من فهم هذه الرسالة فهم ًا يعين على العمل بما فيها‪ ،‬وااللتزام بما تضمنته من‬
‫أحكام وشرائع‪ ،‬ولن يتأتى ذلك إال بمراعاة طبيعة النص القرآني‪ ،‬والتعامل معه على‬
‫أنه وحي من الله‪ ،‬نزل بلغة عربية‪ ،‬ولن يفهم إال في ضوء قواعد تلك اللغة والقوانين‬
‫الضابطة لها‪ ،‬والقرآن ليس نص ًا عادي ًا‪ ،‬يحوي تأمالت ذاتية‪ ،‬أو فلسفة شخصية‪ ،‬تحتمل‬
‫وجهات النظر المختلفة(((‪ ،‬وتسمح بالنهائية المعنى‪ ،‬وانفتاحه على كل االحتماالت‪.‬‬

‫وإنما األمر على الضد من ذلك تمام ًا‪ ،‬ففكرة انفتاح النص على كل المعنى‬
‫سوف تؤول إلى فوضى عارمة من األقوال واألفكار‪ ،‬التي ال حد لها؛ َّ‬
‫ألن النصوص ال‬
‫يتحصل من معناها شيء يضبطه قانون حسب قولهم‪ ،‬وإذا كان القرآن كتاب ًا مفتوح ًا على‬
‫جميع المعاني كما يقولون؛ فما الفائدة من إنزاله ليكون منهاج ًا وسبي ً‬
‫ال للمؤمنين؟!‬
‫وبالمقابل هل يحق أليِ إنسان أن يفهم نصوص علم الطب والهندسة وغيرهما حسب‬
‫(((‬
‫عملي ًا في أرض الواقع إلى درجة التشرد والتسكع‬
‫ّ‬ ‫فهمه‪ ،‬وأن يمارس هذه األنشطة‬
‫في كل االتجاهات؟!(((‪.‬‬

‫المبدأ الذي تقوم عليه هذه المدرسة لو تم العمل به في قراءة‬ ‫َ‬ ‫وال شك أن هذا‬
‫ال ُّنصوص‪ ،‬النهدمت الحياة االجتماعية بأكملها؛ { َو َل ِو ات ََّب َع ا ْل َح ُّق َأ ْه َوا َء ُه ْم َلف ََس َد ِت‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمود كالو‪ :‬القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير ص ‪.258‬‬
‫((( وهو الوصف الذي وصف به محمد أركون القراءة التي يحلم بها‪ ،‬انظر‪ :‬الفكر األصولي واستحالة‬
‫التأصيل ص ‪.76‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد صالح المنجد‪ :‬بدعة إعادة فهم النص ص ‪ ،46‬وعبد الله العجيري‪ :‬ينبوع الغواية‬
‫الفكرية ص ‪.246 ،205‬‬

‫‪395‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫هِم ُم ْع ِر ُضونَ } [المؤمنون‪:‬‬


‫ِيه َّن َب ْل َأت َْي َنا ُه ْم بِذِ ْك ِره ِْم َف ُه ْم َع ْن ذ ِْك ِر ْ‬ ‫ات َو ْ َ‬
‫ال ْر ُض َو َم ْن ف ِ‬ ‫الس َم َو ُ‬
‫َّ‬
‫‪ ،]71‬وذلك ألن الحياة ال تقوم وال ينصلح شأنها إال من خالل انضباط ما تواضع عليه‬
‫الناس من دالالت لغوية يتم التفاهم بينهم وفق ًا لها‪ ،‬ولو انتفى ذلك وصار كل واحد‬
‫يفهم معاني النصوص بحسب تأويله الخاص الذي يقتضيه تكوينه الثقافي‪ ،‬فإن النتيجة‬
‫أن ال يدرك أحد مدلول خطاب اآلخر؛ فينعدم التواصل والتعاون؛ فض ً‬
‫ال عن التدين(((‪.‬‬

‫ومآل هذه اآلراء العلمانية الفجة أن تصير نصوص الوحي هالمية المعاني‪،‬‬
‫خالية من المقاصد‪ ،‬مفتوحة على كل المعاني‪ ،‬قابلة ألي قراءة‪ ،‬معرضة لسائر أنواع‬
‫التأويل((( غير الخاضع لضوابط اللغة أو الشرع‪ ،‬وعندئذ تضيع الغاية من نزول الشرع‪،‬‬
‫وتنتفي الهداية‪ ،‬ويستحيل على المكلف أن يكتسب هدى أو نور ًا أو حق ًا‪.‬‬

‫ومن التناقض الفج أن يطبق العلمانيون والحداثيون مبدأ النص المفتوح هذا على‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وال يقولون بتطبيقه مث ً‬
‫ال على نصوص القوانين والدساتير التي يرون‬
‫االستغناء بها عن أحكام الشريعة‪ ،‬وحينها يمكننا أن نتخيل كيف سيطبق رجال القانون‬
‫أحكامه‪ ،‬وكل منهم له قراءته الخاصة للقانون؟!‬

‫وكيف سيحاكم الناس بهذا القانون‪ ،‬ولكل واحد منهم قراءته الخاصة به؟ وكيف‬
‫سيعمل المتلقي لألوامر والنواهي من أي جهة من الجهات‪ ،‬والحال أنه قد يفهم األمر‬
‫الذاتي؟ وكيف سيتعلم المتعلمون مع أنهم قد يفهمون‬
‫ِ‬ ‫نهي ًا‪ ،‬والنهي أمر ًا بتأويله اللغوي‬
‫مما يتلقون ويقرؤون خالف ما قصد المعلم أو الكاتب تبليغه إليهم؟(((‪.‬‬

‫((( المصدر السابق ص ‪.46‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمد يونس وماجد العلوي‪ :‬القراءة الحداثية للنص عند علي حرب ص ‪.614‬‬
‫((( انظر‪ :‬محمد صالح المنجد‪ :‬بدعة إعادة فهم النص ص ‪ ،47‬وعبد الله العجيري‪ :‬ينبوع الغواية‬
‫الفكرية ص ‪.207‬‬

‫‪396‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ومن الواضح أن هذه القراءة الحداثية للنص الشرعي تتجاوز بمراحل بعيدة كل‬
‫اتجاهات التأويل القديمة ‪ -‬حتى الباطنية منها ‪ -‬ألن المؤولين القدامى على اختالف‬
‫مدارسهم‪ ،‬كانوا يرون أن اللفظ المعين له معنى آخر غير الظاهر‪ ،‬وال يمكن معرفته إال‬
‫بالتأويل الذي يكشف عن مراد المتكلم بالنص‪ ،‬بما يعني أن للفظ مرجعية ما‪ ،‬ودور ًا‬
‫في فهم المعنى‪ ،‬بخالف الحال مع هذا المسلك الحداثي التفكيكي الذي يقطع الصلة‬
‫تمام ًا بين اللفظ والمعنى‪ ،‬كما يقضي على الصلة بين النص وقائله‪ ،‬بحيث يصير النص‬
‫مستق ً‬
‫ال بالكلية‪.‬‬

‫وقد أشار علي حرب إلى الفرق بين كل من التأويل والتفكيك‪ ،‬فالتأويل يعني‬
‫صرف اللفظ إلى احتماالته‪ ،‬والمؤول يعترف بأهمية اللفظ؛ ألنه يحيل إلى مرجعه‪،‬‬
‫أما التفكيك فهو يقطع الصلة تمام ًا بالمؤلف‪ ،‬ويؤكد على استقاللية النص عن كل ما‬
‫يحيك به‪ ،‬ويتعدى المعنى واحتماالته‪ ،‬وعلى هذا النحو سيتعامل التفكيك مع النص‬
‫بوصفه واقعة مستقلة‪ ،‬تمتلك حقيقتها وتفرض نفسها(((‪.‬‬

‫ومن الفروق أيض ًا بين تلك التأويالت الحداثية‪ ،‬والتأويالت الباطنية الغنوصية‬
‫القديمة أن «التأويل الهيرمينوطيقي الوضعي((( قد ذهب إلى عكس االتجاه الباطني‬
‫في التأويل‪ ،‬فالتأويل الباطني يزعم أنه ينتقل بالنص من جسده إلى روحه‪ ،‬بينما‬
‫الهيرمينوطيقا الوضعية تنتقل بالنص من روحه إلى جسده‪ ،‬وبعبارة أدق تنتقل بالدين‬
‫من اإللهية إلى الطبيعة‪ ،‬ومن الميتافيزيقا إلى الفيزيقا‪ ،‬ومن الوحي إلى العقل والتجربة‬
‫الحسية»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمد يونس وماجد العلوي‪ :‬القراءة الحداثية للنص عند علي حرب ص ‪.635‬‬
‫((( ويبدو ذلك واضح ًا في كتابات حسن حنفي وال سيما في كتابيه‪ :‬التراث والتجديد‪ ،‬ومن العقيدة‬
‫إلى الثورة‪.‬‬
‫((( د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬قراءة النص الديني بين التأويل الغربي والتأويل اإلسالمي ص ‪.69‬‬

‫‪397‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫كذلك من المهم أن نشير أيض ًا إلى أن هناك فرق ًا شاسع ًا بين ما ذكر في روايات‬
‫بعض السلف من قابلية القرآن العظيم لتعدد األفهام‪ ،‬نظر ًا لغنى ألفاظه‪ ،‬وثراء مفرداته‪،‬‬
‫واتساع معانيه‪ ،‬وتجدد معينه الذي ال ينضب ‪ -‬وذلك التالعب العلماني‪ ،‬الذي يجعل‬
‫من تلك القابلية قنطرة لتضييع المعنى الثابت‪ ،‬وفتح الباب على مصراعيه ليصير النص‬
‫ال لما ال يحصى من المعاني المحتملة‪ ،‬ومن أهم الفروق بين األمرين ما‬ ‫سيا ً‬
‫ال قاب ً‬
‫يلي(((‪:‬‬

‫‪ -1‬في القرآن الكريم يوجد معنى ما يمكن الوصول إليه‪ ،‬وترمي إليه اآلية‪ ،‬وغاية‬
‫ما في األمر أنها تفيد أكثر من معنى‪ ،‬كلها متناسق‪ ،‬أما في التصور الحداثي العلماني فال‬
‫يمكن الجزم بمعنى محدد‪ ،‬كما أن المعاني المحتملة ال حصر لها وال قيد عليها‪ ،‬حتى‬
‫لو تضاربت أو تعارضت‪.‬‬

‫‪ -2‬جميع ما تفيده اآلية من معان يتفق وقواعد اللغة والعقل‪ ،‬خالف ًا لما يجري في‬
‫مقوالت ما بعد الحداثة‪ ،‬حيث التحرر مما يسمونه سجن اللغة‪ ،‬والقطيعة المعرفية مع‬
‫التراث‪ ،‬وانتفاء القصد‪.‬‬

‫‪ -3‬ليست آيات القرآن كلها وال حتى معظمها يحتمل أكثر من معنى‪ ،‬وبعضها‬
‫نصوص قاطعة في الداللة على المراد منها‪ ،‬وأما الحداثيون‪ ،‬فهم يريدون تطبيق تعدد‬
‫االحتماالت على جميع النصوص بال استثناء‪.‬‬

‫‪ -4‬في التعامل مع القرآن نجد أن النص القرآني هو الذي يعطينا المعاني‬


‫المتجددة‪ ،‬وكأننا أمام ينبوع ثر ال ينضب‪ ،‬بينما األمر مختلف عند الحداثيين‪ ،‬فالقارئ‬
‫وأفقه الثقافي والمعرفي هو الذي يأتي بالمعاني ويقحمها على النص‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عبد القادر محمد الحسين‪ :‬معايير القبول والرد ص ‪.120‬‬

‫‪398‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫‪ - 5‬ومن الفروق الجوهرية بين الوجهتين ‪ -‬اإلسالمية والعلمانية ‪ -‬أن تعدد‬


‫المعنى في الرؤية اإلسالمية يتأسس وينطلق من اإليمان الراسخ بالله وصفاته‪،‬‬
‫والنبوات‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وسائر ثوابت العقيدة‪ ،‬بينما ينطلق في الرؤية العلمانية من‬
‫النسبية المطلقة التي ال تقيد نفسها بمسلمات قبلية‪ ،‬وشتان بين الرؤيتين‪.‬‬

‫وثمة مداخل عدة سلكها العلمانيون في محاولتهم لنفي وجود معنى واحد‬
‫وثابت آليات القرآن‪ ،‬ومنها‪ :‬القطع بعدم إمكانية إدراك معاني تلك اآليات حتى في‬
‫حق الرسول ‪ #‬نفسه‪ ،‬بحجة أنه لو أمكن ذلك‪ ،‬لحصل خلل في توحيد الله وتوهم‬
‫البعض أن الرسول مشارك لله في علمه‪.‬‬

‫وقد نفى طيب تيزيني إمكانية المطابقة التامة بين فهم النبي محمد ‪ #‬للنص القرآني‬
‫من طرف‪ ،‬ومقاصده ودالالته اإللهية من طرف آخر‪ ،‬ذلك «ألن القول بمثل هذه المطابقة‬
‫يفضي إلى انتهاك تصور التوحيد اإلسالمي»((((‪ ،‬وعلى المنوال نفسه ‪ -‬وبتفصيل أكثر‪-‬‬
‫ادعى محمد شحرور أنه «ال يمكن ألحد‪ ،‬بل ال يجوز له‪ ،‬أن يملك اإلدراك الكلي للتنزيل‬
‫الحكيم في كلياته وجزئياته‪ ،‬حتى ولو كان نبي ًا ورسو ً‬
‫ال‪ ،‬ألنه يصبح بذلك شريك ًا لله في‬
‫علمه الكلي‪ ،‬وشريك ًا لله في كينونته بذاته‪ ،‬تعالى الله عما يصفون‪ ،‬فإذا كان الرسول‬
‫يعلم كل التنزيل بكلياته وجزئياته‪ ،‬واالحتماالت الكلية لتأويله واجتهاداته‪ ،‬فهذا يعني‬
‫أنه شريك لله في المعرفة‪ ،‬سبحان الله عما يصفون‪ ،‬أو أنه هو المؤلف للتنزيل»(((‪.‬‬

‫وال يخفى ما في هذا الكالم من أخطاء شتى‪ ،‬إذ كيف يوحى للرسول قرآن‬
‫ويؤمر بتبليغه‪ ،‬وهو ال يعرف معناه‪ ،‬وقد أخبر الله رسوله أن عليه جمع القرآن في‬

‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.16‬‬


‫((( محمد شحرور‪ :‬نحو أصول فقه جديدة ص ‪ ،54‬وانظر المعنى نفسه في كتابه‪ :‬تجفيف منابع‬
‫اإلرهاب ص ‪.35 ،27‬‬

‫‪399‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫صدره وبيانه‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬إنَّ َع َل ْي َنا َج ْم َع ُه َو ُق ْرآ َن ُه ‪َ )#^١٧^#‬فإ َذا َق َر ْأ َنا ُه َفا َّتب ِْع ُق ْرآ َن ُه ‪)#^١٨^#‬‬
‫ُث َّم إنَّ َع َل ْي َنا َب َيا َن ُه} [القيامة‪ ، ]٩١ - ٧١ :‬وأخبر أن من مقاصد البعثة تبيين ما نزل من‬
‫اس َما ن ُِّز َل ِإ َل ْي ِه ْم َو َل َع َّل ُه ْم َي َتف ََّك ُرونَ }‬ ‫القرآن فقال تعالى‪َ { :‬و َأن َْز ْل َنا ِإ َل ْي َك ِّ‬
‫الذ ْك َر ِل ُت َب ِّي َن لِل َّن ِ‬
‫[النحل‪.]44 :‬‬

‫ثم إن إدراك المعنى شيء‪ ،‬واإلحاطة التامة بكالم الله ومعرفة كيفية الغيبيات‬
‫شيء آخر‪ ،‬ولسنا مكلفين مطلق ًا بمعرفة كنه الذات اإللهية‪ ،‬أو معرفة حقائق الغيبيات‪،‬‬
‫وإنما أمرنا بتدبر القرآن‪ ،‬وتفهم معانيه‪ ،‬ومعرفة المراد منه‪.‬‬

‫ومن المسالك األخرى التي وظفها بعض العلمانيين إلثبات عدم وجود معنى‬
‫محدد‪ ،‬وثابت للنصوص الشرعية‪ :‬فكرة التفرقة بين القرآن المتلو أو الشفهي‪ ،‬والقرآن‬
‫المكتوب(((‪ ،‬والزعم بأن النص الشفهي مفتوح وقابل لكل تأويل‪ ،‬بينما النص المكتوب‬
‫كان سبب ًا في جمود الفكر اإلسالمي(((‪.‬‬

‫وبناء على هذا التأصيل العلماني المتهافت‪ ،‬الذي ينفي وجود معنى ثابت للنص‬
‫القرآني يمكن الوصول إليه‪ ،‬وجدت لدى عدد منهم بعض األفكار الخطيرة‪ ،‬ومنها‬
‫قابلية القرآن وآياته للتأويل المفتوح على مصراعيه‪ ،‬وعدم رفض أي تأويل أو ترجيح‬
‫واحد على آخر‪ ،‬إضافة إلمكانية التعامل مع القرآن بنفس المناهج النقدية واأللسنية‬
‫والتأويلية‪ ،‬التي يتعامل بها مع سائر النصوص البشرية‪ ،‬إذ كلها في النهاية نصوص قابلة‬
‫للتأويل‪ ،‬وال فرق بين نص وآخر(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪.30 ،29‬‬
‫((( انظر‪ :‬منصور أبو شافعي‪ :‬التنوير بالتزوير ص ‪ ،187 ،186‬والعلمانيون وأنسنة القرآن ص ‪.81‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬قراءة النص الديني ص ‪ ،14‬ود‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد‬
‫العربية من محكمات الدين ص ‪.449 ،343 ،333‬‬

‫‪400‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وقد تبنى محمد النويهي تلك الفكرة الخطيرة‪ ،‬ورأى أن النصوص الدينية بال‬
‫استثناء قابلة للتأويل‪ ،‬ويجوز لنا تجاوز حرفيتها‪ ،‬ما دمنا نستهدف ما تشتمل عليه من‬
‫مثل روحية «فكل النصوص الدينية بال استثناء يجوز لنا أن نتجاوز حرفها في كل ما‬
‫يتعلق بعلومنا‪ ،‬ومعارفنا الدنيوية‪ ،‬وأوضاعنا االقتصادية‪ ،‬ومعامالتنا الحيوية‪ ،‬وعالقاتنا‬
‫االجتماعية ما دمنا نستهدف المثل الروحية العليا التي نصبها الدين لنا»(((‪.‬‬

‫والقرآن بجملته وتفصيله عند علي حرب «كتاب ينص على التأويل‪ ،‬ويقبل‬
‫التأويل‪ ،‬وال يكتنه إال بالتأويل‪ ،‬فهو نص تأويلي‪ ،‬أو لنقل نص التأويل بامتياز»(((‪ .‬وال‬
‫يمكن لقراءة ما أن تغلق القول في القرآن‪ ،‬ألنه إمكان ال ينضب على التفسير والتأويل‬
‫«إنه نص ميزته تعدد معناه واحتماليته‪ ،‬أي اتساعه بحسب تعبير األقدمين‪ ،‬من هنا يتسع‬
‫ألكثر من تفسير‪ ،‬ويقرأ قراءات تختلف باختالف الميادين العلمية واالستراتيجيات‬
‫الفكرية»(((‪.‬‬

‫وهكذا يؤصل علي حرب لمجموعة من القواعد الخطيرة‪ ،‬والتي تكررت عند‬
‫غيره من العلمانيين‪ ،‬كاالدعاء بأنه ليس هناك قارئ يستطيع الوقوف على مراد النص‪،‬‬
‫ألن النص دائم ًا يتجاوز مقاصد المؤلف نفسه‪ ،‬وأنه ليس هناك قراءة تستطيع القبض‬
‫على حقيقة النص‪ ،‬ألن النص نفسه ليس بيان ًا للحقيقة بقدر ما هو ساحة للتباين‬
‫والتعارض‪ ،‬إضافة لإللحاح على أن كل نص خاضع للتأويل‪ ،‬وعرضة دائم ًا للتحويل‬
‫أو التحريف‪ ،‬أي الخروج عن الداللة‪ ،‬وانتهاك النص(((‪.‬‬

‫((( د‪ .‬محمد النويهي‪ :‬نحو ثورة في الفكر الديني ص ‪.162‬‬


‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.87‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.87‬‬
‫((( انظر‪ :‬علي حرب‪ :‬التأويل والحقيقة ص ‪ ،7‬ود‪ .‬محمد محمد يونس وماجد العلوي‪ :‬القراءة‬
‫الحداثية للنص عند علي حرب ص ‪.611‬‬

‫‪401‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫والنص القرآني عند عبد المجيد الشرفي «قابل نظري ًا لعدد غير محدود من‬
‫التأويالت»(((‪ .‬ويرجع ذلك لطبيعة هذا النص التي تستعمل اإلشارة واإليحاء والرمز‬
‫والمجاز مما يجعله «يحتمل نظري ًا عدد ًا غير محدود من وجوه التأويل‪ ،‬التي هي ثمرة‬
‫التفاعل الخصب بين النص وقرائه على اختالف نفسياتهم وثقافاتهم وظروفهم»(((‪.‬‬
‫لكن الذي حدث بالفعل هو أن ما يصفه الشرفي بالمؤسسة التي تحول إليها اإلسالم‪،‬‬
‫بعد موت الرسول ‪ #‬قد منعت من تعددية التأويل‪ ،‬وفرضت تسييج فهم النص‪،‬‬
‫وإحاطته بجملة من الضوابط التي تضمن وحدة الشعائر واألحكام والمعتقدات(((‪.‬‬

‫أما حسن حنفي‪ ،‬فقد جعل التأويل ضرورة للنص‪ ،‬كما أنه شامل لكل النصوص‬
‫جليها وخفيها‪ ،‬واألخطر من ذلك كله وضعه معنى جديد ًا للتأويل يختلف حتى مع‬
‫سائر االتجاهات التأويلية القديمة من فالسفة ومتكلمين‪ ،‬حيث يقول‪« :‬التأويل‬
‫ضرورة للنص وال يوجد نص إال ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به‪ .‬ال‬
‫يعني التأويل هنا بالضرورة إخراج النص من معنى حقيقي إلى معنى مجازي لقرينة‪،‬‬
‫بل هو وضع مضمون معاصر للنص‪ ،‬ألن النص قالب دون مضمون‪ .‬التأويل هنا‬
‫ضرورة اجتماعية من أجل تحويل الوحي إلى نظام بتغيير الواقع إلى واقع مثالي‪ .‬حتى‬
‫النصوص الجلية الواضحة التي ال تحتاج في فهمها إلى تأويل أو إلى سبب نزول بل‬
‫إلى مجرد الحدس البسيط‪ ،‬حتى هذه النصوص لفهمها حدس ًا تحتاج إلى مضمون‬
‫معاصر يكون أساس الحدس»(((‪.‬‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪ ،114‬وفي قراءة النص الديني ص ‪.12‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪141‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.141‬‬
‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬من العقيدة إلى الثورة ‪.375/1‬‬

‫‪402‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وطالما أن القرآن نص لغوي عند نصر أبو زيد‪ ،‬فض ً‬


‫ال عن أنه يمثل نص ًا محوري ًا‬
‫في تاريخ الثقافة العربية‪ ،‬فالنتيجة المترتبة على ذلك هي «أن النص حين يكون محور ًا‬
‫لحضارة أو ثقافة‪ ،‬ال بد أن تتعدد تفسيراته وتأويالته‪ ،‬ويخضع هذا التعدد التأويلي‬
‫لمتغيرات عديدة متنوعة»(((‪.‬‬

‫وبالطبع فإن تلك التأويالت والقراءات التي يدعو هؤالء العلمانيون لتطبيقها على‬
‫النص القرآني هي من قبيل التأويالت المنفلتة من كل ضابط أو قيد‪ ،‬والتي ربما فاقت‬
‫تأويالت الباطنية القدامى‪.‬‬

‫بل إن مصطلح التأويل نفسه قد تطور عن مفهومه القديم الذي شاع لدى المتكلمين‬
‫واألصوليين والفرق القديمة‪ ،‬حيث لم يعد مجرد أداة لبيان المعنى‪ ،‬وصرف األلفاظ‬
‫عن ظواهرها إلى معان أخرى لقرينة‪ ،‬بل تحول «من كونه مصطلح ًا متداو ً‬
‫ال في مباحث‬
‫النصوص الدينية‪ ،‬إلى علم يبحث في آليات الفهم‪ ،‬بعد أن تعدى مرحلة النصوص‬
‫الدينية‪ ،‬ليصبح علم ًا مستق ً‬
‫ال بذاته يبحث في كيفية الفهم‪ ،‬سواء في النصوص الدينية‪،‬‬
‫أو الحقول اإلنسانية كالتاريخ‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬والنقد األدبي‪ ،‬واإلنثربولوجي وغيرها»(((‪.‬‬

‫وهكذا لم نعد نستغرب‪ ،‬حينما نرى شيئ ًا من مواصفات تلك القراءة التي يحلم‬
‫بها العلمانيون‪ ،‬والتي تخلو من أية ضوابط أو قواعد علمية منهجية‪ ،‬وقد وصف أركون‬
‫القراءة التي يحلم بها‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫«إن القراء َة التي أحلم بها هي قراءة حرة إلى درجة التشرد‬
‫والتسكع في كل االتجاهات؛ إ َّنها قراءة تجد فيها كل ذات بشرية نفسها‪ ،‬سواء أكانت‬
‫مسلمة أم غير مسلمة‪ .‬أقصد قراءة تترك فيها الذات الحرية لنفسها ولديناميكيتها‬
‫الخاصة في الربط بين األفكار والتصورات‪ ،‬انطالق ًا من نصوص مختارة بحرية من‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.11‬‬
‫((( د‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر ص ‪.28‬‬

‫‪403‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫كتاب طالما عاب عليه الباحثون فوضاه‪ ،‬ولكنها الفوضى التي تحبذ الحرية المتشردة‬
‫من كل االتجاهات»(((‪.‬‬

‫ويتبنى نصر أبو زيد مقولة لوي آلتوسير بأنه «ال توجد ثمة قراءة بريئة»(((‪ .‬أما علي‬
‫حرب فيرى أن «القراءات المهمة للقرآن ليست هي التي تقول لنا ما أراد النص قوله‪،‬‬
‫وإنما تكشف عما يسكت عنه النص‪ ،‬أو يستبعده‪ ،‬أو يتناساه‪ ،‬أي هي ال تفسر المراد‪،‬‬
‫بقدر ما تكشف عن إرادة الحجب في الكالم»(((‪.‬‬

‫ومما سبق يتبين لنا بوضوح أن هذا التأويل العلماني المتطرف يتجاوز بمراحل‬
‫التأويل الباطني القديم‪ ،‬ويفترق عنه‪ ،‬ألن أصحاب التأويالت الباطنية القديمة كانوا‬
‫يؤكدون على سعيهم للوصول إلى حقيقة معنى النص‪ ،‬وحقيقة قصد الخطاب ‪ -‬وإن‬
‫انحرفوا بتأويالتهم الباطلة ‪ -‬لكنهم لم يكونوا يدعون بحال إلى القطيعة بين القارئ‬
‫المؤول‪ ،‬ومصدر النص وصاحبه‪ ،‬أما هذا التأويل الحداثي‪ ،‬فهو ال يقصد الوصول إلى‬
‫حقيقة مقاصد صاحب النص‪ ،‬وإنما إلى تحرير فهم القارئ تمام ًا‪ ،‬وإطالق العنان له‬
‫كي يفهم ما شاء دون اعتبار لقائل النص‪ ،‬وال تقيد بما يقصده أو يريده من كالمه(((‪.‬‬

‫ويؤيد ذلك إيثار علماني ‪ -‬مثل علي حرب ‪ -‬آللية التفكيك على آلية التأويل في‬
‫قراءة النص الديني وغيره‪ ،‬انطالق ًا من كون التأويل يعني صرف اللفظ إلى احتماالته‪،‬‬
‫والمؤول يعترف بأهمية اللفظ‪ ،‬ألنه يحيل على مرجعه‪ ،‬مع اإلقرار بأن هناك مرجع ًا‬
‫وراء هذا اللفظ‪ ،‬أما التفكيك فهو قائم على قطع الصلة بالمؤلف أو قائل النص تمام ًا‪،‬‬

‫((( محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل ص ‪.76‬‬


‫((( نصر أبو زيد‪ :‬إشكاليات القراءة وآليات التأويل ص ‪.228‬‬
‫((( علي حرب‪ :‬نقد النص ص ‪.21 ،20‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬قراءة النص الديني ص ‪.12 ،11‬‬

‫‪404‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫واستقاللية النص عن كل ما يحيط به‪ ،‬ومن ثم فلم يعد األمر بحث ًا عن المعنى المراد‬
‫واحتماالت قائله‪ ،‬بل هو سعي للتحرر من إمبريالية المعنى‪ ،‬وعدم اهتمام بما يطرحه‬
‫القول‪ ،‬بقدر ما يستبعده أو يتناساه‪ ،‬وعلى هذا النحو سيتعامل التفكيك مع النص‬
‫بوصفه واقعة مستقلة‪ ،‬تمتلك حقيقتها‪ ،‬وتفرض نفسها(((‪.‬‬

‫ومن النتائج األخرى التي ترتبت على عدم وجود معنى ثابت آليات القرآن‪،‬‬
‫وقابليتها للتأويل بمختلف أشكاله وألوانه‪ :‬تلك الفكرة التي شاعت لدى الكثير من‬
‫العلمانيين‪ ،‬والتي تزعم وجود إسالمات متعددة‪ ،‬وعدم وجود شيء واحد منضبط‬
‫ثابت المعالم‪ ،‬ومحدد القسمات‪ ،‬يسمى باإلسالم هكذا على سبيل اإلطالق‪ ،‬ويمكن‬
‫أن نقول إنه اإلسالم الصحيح والحقيقي‪ ،‬وال شك أن فكرة كهذه سوف تؤول بالضرورة‬
‫إلى تمييع حقيقة اإلسالم‪ ،‬وتفريغه من الثوابت‪ ،‬واعتباره مفهوم ًا سيا ً‬
‫ال قاب ً‬
‫ال للتشكل‬
‫بكل صورة‪ ،‬ومتغير ًا بحسب البلدان‪ ،‬واألزمان‪ ،‬والشعوب‪ ،‬واألعراق‪ ،‬والثقافات‬
‫المختلفة‪.‬‬

‫ويندهش المتابع لكتابات هؤالء العلمانيين من حالة التتابع‪ ،‬والتكرار‪ ،‬واإللحاح‬


‫على تلك الفكرة‪ ،‬ومحاولة ترسيخها بكل وسيلة ممكنة‪ ،‬وتأليف سالسل من الكتب‬
‫للتدليل على صحتها‪.‬‬

‫ومن نماذج ذلك(((‪ :‬جزم محمد أركون بأن هناك إسالمات بقدر ما هناك من‬
‫مجتمعات مختلفة وأعراق ذات لغات مختلفة‪ ،‬ومن ثم فإن اإلسالم «ليس موحد ًا وال‬
‫منسجم ًا‪ ،‬كما تدعى الخطابات اإليديولوجية من إسالمية وغير إسالمية‪ ،‬على العكس‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد محمد يونس وماجد العلوي‪ :‬القراءة الحداثية للنص عند علي حرب ص ‪.635‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد الولي الشلفي‪ :‬القراءات المعاصرة والفقه اإلسالمي ص ‪ ،295‬وأحمد قوشتي‪ :‬موقف‬
‫االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪ ،129‬ومنصور أبو شافعي‪ :‬التنوير بالتزوير ص ‪.25‬‬

‫‪405‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫إنه يتميز بالتنوع الشديد والتعقيد»(((‪ .‬ثم يضيف بأن من أهدافه وضع حد لتلك الفكرة‪،‬‬
‫ومن ثم يقول‪« :‬إني أريد أن أضع حد ًا لهذا التعميم األيديولوجي غير المقبول‪ ،‬فال‬
‫يمكن القول بأن اإلسالم األندونيسي هو ذاته اإلسالم العربي‪ ،‬أو إن اإلسالم العربي‬
‫هو ذاته اإلسالم الهندي‪ ..‬فاإلسالم عندما انزرع في كل بيئة اختلط بعاداتها وتقاليدها‬
‫السابقة على اإلسالم‪ ،‬وأثر عليها وتأثر بها»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه ذهب هاشم صالح إلى أن هناك «إسالمات بقدر ما هناك‬
‫من أوساط مختلفة»(((‪ .‬وجزم عبد المجيد الشرفي أنه ليس «هناك إسالم واحد ال‬
‫عبر الزمان وال عبر المكان‪ ،‬رغم ما يربط بين أتباعه من خصائص تميزهم عن أتباع‬
‫الديان األخرى وعن غير المؤمنين»(((‪ .‬وبناء على ذلك فال أحد «بإمكانه أن يدعي أن‬
‫إسالمه أفضل من إسالم غيره‪ ،‬اإلسالم دعوة إلى البشر‪ ،‬كي يحققوا منزلتهم اإلنسانية‬
‫على الوجه األفضل‪ ،‬وكل يستجيب لهذه الدعوة بحسب ما تسمح به ظروفه الخاصة‬
‫والعامة‪ ،‬وثقافته ومزاجه‪ ،‬وآفاقه الذهنية‪ ،‬ومصالحه المادية والمعنوية‪ ،‬والقضية كل‬
‫القضية هي في مدى استجابة التأويل الذي يرتضيه كل مسلم وكل مجموعة وكل جيل‬
‫لمقتضيات الحاضر»(((‪.‬‬

‫وما دام أنه ال يوجد إسالم واحد‪ ،‬فإن الشرفي ينكر بكل صراحة فكرة وجود‬
‫ثوابت في دين اإلسالم‪ ،‬اتفقت عليها األمة كلها‪ ،‬وال تقبل الخالف أو الشقاق‪ ،‬بل إنه‬

‫((( محمد أركون‪ :‬نزعة األنسنة ص ‪.9‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.9‬‬
‫((( هاشم صالح‪ :‬التعليق على كتاب محمد أركون‪ :‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر‬
‫للفكر اإلسالمي ص ‪.21‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.16‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪ ،16‬وانظر‪ :‬د‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر الحداثي العربي من‬
‫أصول االستدالل في اإلسالم ص ‪.42‬‬

‫‪406‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫يفرغ األديان جميع ًا من وجود الثوابت‪ ،‬فيقول‪« :‬في الواقع ال يوجد في تاريخ األديان‬
‫عموم ًا أمر واحد يمكن أن يعتبر من الثوابت‪ ،‬فالدين في األصل واحد‪ ،‬لكن التدين‬
‫أي طريقة تبني ذلك الدين واتباعه‪ ،‬وتأويل نصوصه وتطبيقها‪ ،‬يختلف وقد اختلف‬
‫بالفعل عبر التاريخ والجغرافيا‪ ،‬ولذلك فالحديث عن الثوابت هو حديث ال يرتقي إلى‬
‫مفهوم المعرفة الحديثة‪ ،‬هو مفهوم إيديولوجي‪ ،‬ومفهوم غير علمي ألن هذه الثوابت‬
‫وهمية»(((‪.‬‬

‫وفي اجترار آخر لهذه الفكرة‪ ،‬ذكر نصر أبو زيد أن «جوهر اإلسالم ليس معطى‬
‫ثابت ًا‪ ،‬بل هو جوهر قابل دائم ًا لالستنباط وإعادة االكتشاف‪ ،‬بحسب تطور الوعي‬
‫اإلنساني»(((‪ ،‬وأما القول بأن هناك إسالم ًا واحد ًا فهو ‪ -‬في رأيه ‪ -‬قول ينقضه تاريخ‬
‫اإلسالم ذاته‪ ،‬كما أنه يؤدي إلى الجمود‪ ،‬وسيطرة رجال الدين الذين يملكون هذا‬
‫المعنى الواحد الثابت لإلسالم‪ ،‬مما يؤكد أن الخطاب الديني ورجاله هم من أشاعوا‬
‫فكرة وجود إسالم واحد ثابت المعنى(((‪.‬‬

‫وما دام النص مفتوح ًا‪ ،‬وال يوجد إسالم واحد محدد القسمات عند هؤالء‬
‫العلمانيين‪ ،‬فإن مآل ذلك ‪ -‬كما نبه طيب تيزيني ‪ -‬أن تكون «كل النصوص والقراءات‬
‫‪ -‬دون استثناء ‪ -‬التي أنتجت عبر االنتماء المعلن والمضمر لإلسالم في تاريخ اإلسالم‪،‬‬
‫تمتلك شرعيتها النصية بقدر أو بآخر‪ ،‬وبداللة أو بأخرى‪ ،‬ذلك ألن النص المذكور بما‬
‫هو حمال أوجه يمثل إطار ًا مفتوح ًا‪ ،‬يسع الجميع ويحتملهم»(((‪.‬‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم السياسي ص ‪.88 ،87‬‬


‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬دوائر الخوف‪ ،‬قراءة في خطاب المرأة ص ‪.70‬‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬نقد الخطاب الديني ص ‪.79‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق ص ‪.122‬‬

‫‪407‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وثمة كتب ومؤلفات عدة كتبها مستشرقون وعرب تتبنى هذه الفكرة‪ ،‬وتتحدث‬
‫عن اإلسالم المتعدد بتعدد المضاف إليه‪ ،‬ومن تلك المؤلفات على سبيل المثال «في‬
‫اإلسالم اإليراني» لهنري كوربان‪ ،‬و«نحو إسالم أوربي» ألوليفيه روا‪ ،‬و«اإلسالم‬
‫األسيوي» آلمال قرامي‪ ،‬و«اإلسالم البدوي» لمحسن التليلي‪ ،‬و«إسالم األكراد‬
‫«لتهامي العبدولي‪ ،‬و«اإلسالم األسود» لمحمد شقرون‪ ،‬و«اإلسالم السني» لبسام‬
‫الجمل‪ ،‬و«اإلسالم العربي» لعبد الله خاليفي‪ ،‬و«إسالم المتصوفة» لمحمد بن الطيب‪،‬‬
‫و«إسالم الفالسفة» لمنجي لسود‪ ،‬و«إسالم المجددين» لمحمد حمزة‪ ،‬و«اإلسالم‬
‫المصري» لمحمد الباز‪ ،‬و«اإلسالم الشعبي» لزهية جوير‪.‬‬

‫ويلخص لنا صاحب أحد هذه الكتب موقف االتجاه العلماني الحداثي من فكرة‬
‫وجود إسالم واحد‪ ،‬وتتلخص في رفضهم «مقولة اإلسالم الواحد‪ ،‬والينابيع الصافية‬
‫للشريعة‪ ،‬ألنها رؤية إيديولوجية‪ ،‬ال يزال يقتات منها الفقهاء الذين فقدوا كل مصداقية‬
‫في فهم واقع الحياة الراهنة‪ ...‬في مقابل ذلك يجسد اإلسالم التجديدي دفاع ًا عن حق‬
‫الخلف في فهم اإلسالم‪ ،‬وممارسة التأويل واالجتهاد في فهم الشريعة‪ ،‬وفق وضعيته‬
‫التاريخية‪ ،‬ووفق أحالمه ورؤاه وانتكاساته وآالمه‪ .‬إنه إسالم الضمير الفردي‪ ،‬ال إسالم‬
‫الجماعة»(((‪.‬‬

‫وهكذا تكون المحصلة من هذه الحملة الماكرة‪ ،‬والمضللة‪ ،‬والممنهجة أن يصاب‬


‫المسلم بحالة من التوهان والتشتت‪ ،‬والشك في كل شيء‪ ،‬وتجويز كل احتمال‪ ،‬وعدم‬
‫القطع بعقيدة أو ثابت ما‪ ،‬وتحويل اإلسالم إلى ما يشبه الفلكلور الشعبي‪ ،‬الذي يتغير‬
‫بتغير البيئات والبلدان والعادات(((‪.‬‬

‫((( محمد حمزة‪ :‬إسالم المجددين ص ‪.43 ،42‬‬


‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.131‬‬

‫‪408‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ونختم الكالم عن هذا التناقض العلماني في تحويل النص القرآني إلى نص مفتوح‬
‫سيال‪ ،‬ليس له معنى محدد‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن قابليته لما ال يمكن حصره من التأويالت ‪-‬‬
‫بضرورة لفت االنتباه إلى أن هذا التأصيل‪ ،‬وإن تكرر لدى أكثرية العلمانيين فإنهم‬
‫‪ -‬وكما هي عادتهم المنهجية ‪ -‬سرعان ما كانوا يتعمدون تجاهله في سياق توظيفهم‬
‫للنصوص التي توافق هواهم‪ ،‬وتخدمهم مشاريعهم الفكرية‪.‬‬

‫ال لذلك بطريقة تعامل نصر أبو زيد مع اآليات القرآنية التي تقرر مبدأ‬ ‫ونضرب مثا ً‬
‫المساواة بين الرجل والمرأة‪ ،‬مثل قوله تعالى‪َ { :‬م ْن َعمِ َل َصالِح ًا م ِْن َذ َك ٍر َأ ْو ُأ ْن َثى َو ُه َو‬
‫ُمؤْ م ٌِن َف َل ُن ْحي َِي َّن ُه َح َيا ًة َط ِّي َب ًة َو َل َن ْج ِز َي َّن ُه ْم َأ ْج َر ُه ْم ب َِأ ْح َس ِن َما َكا ُنوا َي ْع َم ُلونَ } [النحل‪،]97 :‬‬
‫ات م ِْن َذ َك ٍر َأ ْو ُأ ْن َثى َو ُه َو ُمؤْ م ٌِن َف ُأو َلئ َِك َي ْدخُ ُلونَ ا ْل َج َّن َة‬ ‫وقوله تعالى‪َ { :‬و َم ْن َي ْع َم ْل م َِن َّ‬
‫الصال َِح ِ‬
‫اب َل ُه ْم َر ُّب ُه ْم َأنِّي َل ُأ ِض ُ‬
‫يع‬ ‫اس َت َج َ‬ ‫َو َل ُي ْظ َل ُمونَ َنقِيراً} [النساء‪ ،]124 :‬وقوله تعالى‪َ { :‬ف ْ‬
‫اج ُروا َو ُأخْ ِر ُجوا م ِْن ِد َيا ِر ْ‬
‫هِم‬ ‫ين َه َ‬ ‫ض َفا َّلذِ َ‬ ‫َع َم َل َعام ٍِل ِم ْن ُك ْم م ِْن َذ َك ٍر َأ ْو ُأ ْن َثى َب ْع ُض ُك ْم م ِْن َب ْع ٍ‬
‫ات ت َْج ِري م ِْن ت َْحت َِها‬ ‫َو ُأو ُذوا فِي َسبِيلِي َو َقا َت ُلوا َو ُق ِت ُلوا َ ُل َكف َِّرنَّ َع ْن ُه ْم َس ِّي َئات ِِه ْم َو َ ُل ْدخِ َل َّن ُه ْم َج َّن ٍ‬
‫اب} [آل عمران‪.]195 :‬‬ ‫َْ‬
‫الن َْها ُر َث َواب ًا م ِْن عِ ْندِ ال َّل ِه َوال َّل ُه عِ ْن َد ُه ُح ْس ُن الث ََّو ِ‬

‫فهذه اآليات في أصلها ‪ -‬وفق ًا للتوجه العلماني المنحرف‪ ،‬وآلراء نصر أبو زيد‬
‫نفسه ‪ -‬يفترض أن ينطبق عليها ما ينطبق على نصوص القرآن من كونها تاريخية‪ ،‬وقابلة‬
‫لتأويالت عديدة‪ ،‬ومفتوحة المعاني على مصراعيها‪.‬‬
‫لكن المدهش أن نصر أبو زيد أعرض عن ذلك كله‪ ،‬ورأى أنها ال تحتمل تأوي ً‬
‫ال‬
‫يتجاوز دالالتها المباشرة فقال‪« :‬بتتبع النصوص الدينية المتعلقة بقضايا المرأة في‬
‫القرآن الكريم خاصة‪ ،‬يمكن لنا القول إن المساواة بين الرجل والمرأة تمثل مقصد ًا‬
‫من مقاصد الخطاب القرآني‪ ،‬والنصوص الواردة بهذا الشأن ال تحتمل تأوي ً‬
‫ال‪ ،‬يتجاوز‬

‫‪409‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫دالالتها المباشرة»(((‪.‬‬

‫ومن األمثلة األخرى أن سيد القمني حينما عرض للكالم عن تاريخية القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬اختلق دعوى عريضة ال دليل عليها‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن مخالفتها للموقف العلماني‬
‫من قابلية النصوص القرآنية جميع ًا للتأويل‪ ،‬فقال عن تاريخية القرآن‪« :‬تلك التاريخية‬
‫التي أكدتها نصوص القرآن الكريم ذاتها بما ال يحتمل لبس ًا أو تأوي ً‬
‫ال»(((‪.‬‬

‫وهكذا تكون اآليات الموافقة للهوى العلماني نصوص ًا غير قابلة للتأويل‪ ،‬وأما‬
‫ما يخالف هواهم فهو نصوص تاريخية بشرية‪ ،‬متعددة األفهام‪ ،‬ومفتوحة المعاني‪ ،‬وال‬
‫يستطيع أحد أن يدعي أن لها معنى محدد ًا قاطع ًا‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬تتابعت دعوات العلمانيين والحداثيين للتخلص من المنظومة العلمية‪،‬‬


‫والمنهجية اإلسالمية التراثية بفروعها المختلفة‪ ،‬وال سيما في مجال علوم التأصيل‬
‫والتقعيد‪ ،‬كأصول الفقه‪ ،‬ومصطلح الحديث‪ ،‬وعلوم القرآن وما أشبه ذلك‪ ،‬باعتبار أن‬
‫هذه المنظومة كانت صالحة لزمانها‪ ،‬ومناسبة ألبناء عصرها‪ ،‬لكنها لم تعد صالحة في‬
‫زماننا هذا‪.‬‬

‫ووجه التناقض هنا‪ :‬هو حالة االنتقائية المعيبة في التعامل مع تلك المنظومة‪،‬‬
‫فرغم الدعوة الحثيثة للتخلص منها‪ ،‬فإن هؤالء العلمانيين يتمسكون بعدد من علومها‪،‬‬
‫ويعولون على ما يرونه مفيد ًا في تحقيق أهدافهم‪ ،‬ومن ذلك باب أسباب النزول‬
‫والذي يعتبر مبحث ًا أصي ً‬
‫ال‪ ،‬وباب ًا ال غنى عنه‪ ،‬يتصل بأكثر من علم من العلوم اإلسالمية‬
‫األصيلة‪ ،‬كعلوم القرآن‪ ،‬وأصول الفقه‪ ،‬ومصطلح الحديث‪.‬‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬دوائر الخوف ص ‪.207‬‬


‫((( سيد القمني‪ :‬رب الزمان ص ‪.228‬‬

‫‪410‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وثمة شواهد كثيرة من دعوات هؤالء الحداثيين للتخلص من المنظومة األصولية‬


‫والمنهجية عند المتقدمين‪ ،‬والدعوة إلى استبدالها بمنظومة أخرى‪ ،‬تحقق أهدافهم‬
‫المرجوة في ترسيخ قيم العلمنة والحداثة في المجتمعات العربية واإلسالمية‪ ،‬إدراك ًا‬
‫منهم بأن تطويع الشريعة اإلسالمية وأحكامها لتتالءم مع المفاهيم العصرية السائدة ال‬
‫يمكن أن يحظى بالقبول إال بعد هدم المنظومة األصيلة التي تقف عقبة في وجه التوجه‬
‫العلماني‪ ،‬ثم اإلتيان بقواعد وأصول جديدة‪ ،‬يرتكزون عليها لتمرير مشاريعهم(((‪.‬‬

‫ومن المالحظ أن دعوات التجديد الحداثي للمنظومة األصولية طالت ‪ -‬تقريب ًا‬
‫‪ -‬كل مسائل أصول الفقه األساسية‪ ،‬فحجية السنة صارت موضع شك وإشكال‪،‬‬
‫واإلجماع ليس مصدر ًا من مصادر التشريع‪ ،‬والقياس قلب رأس ًا على عقب‪ ،‬وتم‬
‫التحلل من شروطه وضوابطه المعروفة‪ ،‬ومجاالت االجتهاد صارت مطلقة السراح‪،‬‬
‫ويمكن أن تشمل كل مجال عقدي ًا كان أو فقهي ًا‪ ،‬ومن الجائز تقديم المصلحة على‬
‫النص‪ ،‬وتغليب مقاصد الشرع على النصوص الجزئية‪ ،‬وتخصيص عموم األدلة‬
‫بحجج شتى‪ ،‬كأسباب النزول والتاريخية وغير ذلك‪ ،‬بل إن األحكام التكليفية الخمسة‬
‫صار من الممكن إعادة النظر فيها‪ ،‬وكذلك إعادة ترتيب مصادر التشريع‪ ،‬فبد ً‬
‫ال من‬
‫البدء بالكتاب فالسنة فاإلجماع فالقياس‪ ،‬يصير البدء أو ً‬
‫ال بالعقل فالقياس فاإلجماع‬
‫فالسنة(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬عدنان أمامة‪ :‬التجديد في الفكر اإلسالمي ص ‪.431‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬من النص إلى الواقع ‪ ،103/2‬وعبد المجيد الشرفي‪ :‬مرجعيات اإلسالم‬
‫السياسي ص ‪ ،33‬وانظر في نقد ذلك‪ :‬د‪ .‬صالح الدميجي‪ :‬موقف الليبرالية في البالد العربية من‬
‫محكمات الدين ص ‪ ،587 ،557 ،524 ،506‬ود‪ .‬عدنان أمامة‪ :‬التجديد في الفكر اإلسالمي‬
‫ص ‪ ،458 ،444 ،440‬ود‪ .‬هزاع الغامدي‪ :‬محاوالت التجديد في أصول الفقه ‪ ،841/2‬وبحثنا‪:‬‬
‫موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.132‬‬

‫‪411‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ومن نماذج الدعوات العلمانية للتخلص من المنظومة األصولية القديمة‪ ،‬ما ذكره عبد‬
‫المجيد الشرفي من أن تلك المنظومة كانت «صالحة ما كانت الظروف التاريخية مشابهة‬
‫لظروفه‪ ،‬إال أن تغير هذه الظروف تغير ًا جذري ًا تحت وطأة الثورات الصناعية والتقنية‬
‫واإلعالمية‪ ،‬وما يشهده العالم من تحوالت في أنماط المعيشة‪ ،‬وفي القيم االجتماعية‪ ،‬وفي‬
‫الوسائل المعرفية‪ ،‬كل ذلك يحتم إعادة النظر في تلك المنظومة ونقدها»(((‪ ،‬ونتيجة لذلك‪،‬‬
‫فال بد من «إعادة النظر في المنظومة األصولية الموروثة عن الشافعي‪ ،‬ونزع القداسة المحيطة‬
‫بها‪ ،‬فهي ليست أو ًال وأخير ًا سوى منظومة بشرية يحق لنا نقدها‪ ،‬واإلتيان ببديل لها»(((‪.‬‬

‫وقد اعتبر حسن حنفي تجديد المنظومة األصولية واحد ًا من محاور مشروعه‬
‫الفكري «التراث والتجديد» داعي ًا إلعادة بناء علم أصول الفقه التقليدي تحت اسم‬
‫جديد «من النص إلى الواقع»(((‪ ،‬وهو االسم نفسه الذي اختاره حسن حنفي لكتاب‬
‫أصدره في مجلدين كبيرين‪ ،‬كذلك ألف محمد شحرور كتابه «نحو أصول جديدة‬
‫للفقه اإلسالمي» ومأله بآراء في غاية الغرابة والمخالفة لما استقرت عليه مدارس الفقه‬
‫اإلسالمي بشتى توجهاتها‪ ،‬كما أبان هذا الكتاب عن فقر مؤلفه الواضح في المعرفة‬
‫بعلم أصول الفقه‪ ،‬وكتب أعالمه المشاهير‪ ،‬والقضايا األساسية التي عالجها(((‪.‬‬

‫ورغم إعجاب العلمانيين بفكرة المقاصد‪ ،‬وإشادتهم المتواصلة بها‪ ،‬وتفضيلها‬


‫على منظومة أصول الفقه التي يصفونها بالتقليدية(((‪ ،‬لما تتيحه لهم من عدم التقيد‬

‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬لبنات ص ‪.143‬‬


‫((( المصدر السابق ص ‪.162‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.178‬‬
‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.60 ،59‬‬
‫((( انظر نماذج من ذلك عند‪ :‬محمد أركون‪ :‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي ص ‪ ،170‬ومحمد عابد‬
‫الجابري‪ :‬بنية العقل العربي ص ‪ ،538‬ونصر أبو زيد‪ :‬الخطاب والتأويل ص ‪ ،202 ،201‬ودوائر‬
‫الخوف قراءة في خطاب المرأة ص ‪.96‬‬

‫‪412‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫بالنصوص الجزئية‪ ،‬والتملص من األحكام الشرعية‪ ،‬بحجة تقديم المقاصد عليها ‪ -‬إال‬
‫أنهم مع هذا اإلعجاب كانوا يدركون أن فكرة المقاصد ليست كافية لتلبية حاجاتهم‪،‬‬
‫وال بد من تجاوزها لمرحلة أكثر تطور ًا‪ ،‬وقد أشار نصر أبو زيد لذلك صراحة‪ ،‬حيث‬
‫رأى أن مشروع اإلصالح الديني يجب أن يتجاوز الوقوف عند عقالنية التراث‪ ،‬وعند‬
‫المقاصد الكلية التي استنبطها اإلمام الشاطبي‪ ،‬وال بد من «تأسيس عقالنية متجاوزة‬
‫لتلك العقالنية التراثية من جهة‪ ،‬كما تستلزم تأسيس مقاصد على أساس قراءة اجتهادية‬
‫معاصرة للنصوص الدينية من جهة أخرى»(((‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه خلص عبد الجواد يس إلى أن «نظرية الشاطبي تظل في‬
‫النهاية نظرية تفسيرية‪ ،‬أعني تؤدي إلى تبرير الشريعة التفصيلية‪ ،‬كما هي عليه‪ ،‬وإن‬
‫بآليات فوق شافعية‪ ،‬ولكنها غير كافية لمواجهة شافية مع مشكل التطور»(((‪.‬‬

‫وال يقتصر الطعن على المنظومة األصولية وحدها‪ ،‬بل يتسع األمر ليشمل ‪-‬‬
‫تقريب ًا ‪ -‬سائر العلوم اإلسالمية األصيلة ‪ -‬التي وصلتنا عبر القرون‪ ،‬وطريقة العلماء‬
‫المتقدمين في التصنيف‪.‬‬

‫فمنهج المحدثين‪ ،‬والمنهج النقلي عموم ًا غير مرض عند عبد المجيد الشرفي(((‪،‬‬
‫وهو يطلق حكم ًا في غاية الخطورة بحق اإلسناد كوسيلة للتثبت من األخبار الماضية‬
‫فيقول‪« :‬ولن تجد اليوم مؤرخ ًا جدير ًا بهذا اللقب يثق في األسانيد مهما أسبغ على‬
‫رجالها من صفات الصدق والورع والكفاءة والنزاهة‪ ،‬أو يولي اإلسناد قيمة ما في‬
‫تلمسه لمجريات األمور الماضية‪ ،‬أو الراهنة»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬التقديم لمقال أحمد أمين في الثناء على االجتهاد ص ‪.100‬‬
‫((( عبد الجواد يس‪ :‬الدين والتدين ص ‪.331‬‬
‫((( انظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي وآخرون‪ :‬في قراءة النص الديني ص ‪.18‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي‪ :‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ص ‪.137‬‬

‫‪413‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أما حسن حنفي فموقفه من النقل أشد خطورة وفجاجة‪ ،‬حيث يقول حرفي ًا‪:‬‬
‫«النقل وحده ال يثبت شيئا‪ .‬وقال الله وقال الرسول ال يعتبر حجة»(((‪ .‬والنقل في كل‬
‫أحواله ال يؤدي إال إلى الظن «ولو تضافرت كل الحجج النقلية على شيء فإنه يظل‬
‫ظنين ًا‪ ،‬وال يتحول إلى يقين إال بحجة عقلية‪ ،‬فكل من بدأ يقول‪ :‬قال الله وقال الرسول‪،‬‬
‫فإنه ال يبغى مصلحة الناس‪ ،‬في حين أن كل من تحدث حديث العقل وأعطى إحصاء‬
‫للواقع فإنه يدافع عن مصلحة الناس»(((‪.‬‬

‫وينتقد الشرفي «طريقة التأليف والتصنيف عند القدماء‪ ،‬تلك الطريقة التي تؤدي‬
‫إلى اإلشباع النفسي على حساب اإلقناع العقلي بالحجج والبراهين‪ ،‬وحتى إذا‬
‫ما خطر للقارئ إشكال ناتج عن المادة المعروضة‪ ،‬فهو مدعو صراحة إلى التسليم‬
‫والتفويض»(((‪.‬‬

‫والعقل العربي اإلسالمي ‪ -‬في رأي نصر أبو زيد ‪ -‬ظل يعتمد سلطة النصوص‬
‫منذ أن تمت صياغة الذاكرة في عصر التدوين طبق ًا آلليات االسترجاع والترديد‪ ،‬وتم‬
‫تهميش االتجاهات العقلية‪ ،‬ولمواجهة ذلك كله يرى أبو زيد أنه «قد آن أوان المراجعة‬
‫واالنتقال إلى مرحلة التحرر ‪ -‬ال من سلطة النصوص وحدها ‪ -‬بل من كل سلطة تعوق‬
‫مسيرة اإلنسان في عالمنا‪ .‬علينا أن نقوم بهذا اآلن وفور ًا‪ ،‬قبل أن يجرفنا الطوفان»(((‪.‬‬

‫وتصل المبالغة الممجوجة‪ ،‬والمتجاوزة لكل حد معقول عند جمال البنا إلى االدعاء‬
‫بأن ثورة المعرفة جعلت كل ما قدمه السلف ساذج ًا وطفولي ًا ومتخلف ًا‪ ،‬ال يغني شيئ ًا أمام‬

‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬بحوث في علوم أصول الدين أصول الفقه العقل والنقل ضمن موسوعة الحضارة‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬المجلد الثاني ص ‪.125‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬اليمين واليسار في الفكر الديني ص ‪.18‬‬
‫((( عبد المجيد الشرفي وآخرون‪ :‬في قراءة النص الديني ص ‪.18‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي وتأسيس األيديولوجية الوسطية ص ‪.190‬‬

‫‪414‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫التقدم الحديث‪ ،‬وقد صار بوسعنا أن نقول إننا أعلم وأفضل من الشافعي وأحمد بن‬
‫حنبل!! ألن تقدم وسائل البحث ووصولها إلى درجة لم يكن يحلم بها األسالف‪ ،‬جعلنا‬
‫أقدر منهم على البحث والدرس «وقد كانوا يتحدوننا في القديم‪ :‬هل أنتم أفضل من‬
‫أحمد بن حنبل؟ هل أنتم أعلم من الشافعي‪ ،‬وكنا نسكت عليهم‪ ،‬وقد آن اآلوان لنقول‬
‫لهم بلى‪ ،‬إن لدينا علمهم ولدينا علم آخر‪ ،‬ووسائل ما كانوا ليحلمون بها»(((‪.‬‬

‫ويواصل جمال البنا دعاويه الفارغة بانتقاد منظومة العلوم اإلسالمية بصفة عامة‪،‬‬
‫زاعم ًا أنها ابتعدت عن قيم قرآنية وسوابق نبوية‪ ،‬وأفقدت النصوص القرآنية مضمونها‬
‫الثوري‪ ،‬خاصة أن المعالجة كانت أشبه بتقطيع أوصال اإلسالم‪ ،‬ومعالجة كل جزء‬
‫على حدة(((‪ ،‬وفيما يتعلق بعلوم القرآن على وجه الخصوص‪ ،‬فإن البنا يرى أن هذا‬
‫العلم دخيل على العلوم الشرعية‪ ،‬ألنه تكون من علوم أفرزتها حاجة من يسميهم‬
‫باألفواج الوافدة على اإلسالم‪ ،‬والذين لم تكن لهم معرفة بالعربية‪ ،‬وما زالوا يحملون‬
‫معهم بقايا معتقداتهم القديمة‪ ،‬مما فتح الباب أمام ما أطلق عليه علوم القرآن(((‪ ،‬وما‬
‫اشتمل عليه من قواعد تم االفتئات بها على القرآن‪ ،‬مثل النسخ‪ ،‬أو أسباب النزول‪،‬‬
‫وهي تكاد أن تكون لحمة التفسير وسداه(((‪ ،‬وفي نهاية المطاف يدعو الرجل للتخلص‬
‫من تفاسير السابقين كلها‪ ،‬كمقدمة لتحقيق ما يسميه بتثوير القرآن‪ ،‬والذي ال يمكن أن‬
‫ينجح إال إذا تم استبعاد سائر التفاسير التي اعتمدتها األجيال كأداة لفهم القرآن‪ ،‬بينما‬
‫كانت في الحقيقة حجاب ًا بينهم‪ ،‬وبين االقتراب المباشر من القرآن(((‪.‬‬

‫((( جمال البنا‪ :‬تجديد اإلسالم ص ‪.399‬‬


‫((( تثوير القرآن ص ‪.52‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل‪ :‬التوظيف الحداثي آليات المرأة وإشكالياته‪ ،‬جمال البنا نموذج ًا ص ‪.229‬‬
‫((( جمال البنا‪ :‬تفسير القرآن بين القدامى والمحدثين ص ‪ ،229‬وانظر‪ :‬قطب الريسوني‪ :‬النص القرآني‬
‫من تهافت القراءة إلى أفق التدبر ص ‪.137‬‬
‫((( جمال البنا‪ :‬تثوير اإلسالم ص ‪.136 ،135‬‬

‫‪415‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ولست أدري‪ :‬إذا تخلصنا من كتب التفاسير جميعها‪ ،‬وكتب علوم القرآن كلها‬
‫‪ -‬مثلما يدعو جمال البنا ‪ -‬فمن أين إذن تستقى أسباب النزول‪ ،‬التي بذل العلمانيون‬
‫كل تلك الجهود لتوظيفها‪ ،‬والتعويل عليها؟‬

‫وبطبيعة الحال‪ ،‬فقد امتدت دعوات التخلص من المنظومة القديمة‪ ،‬واللجوء‬


‫إلى منهجيات حديثة إلى مبحث أسباب النزول نفسها‪ ،‬حيث رحب أحد العلمانيين‬
‫وهو بسام الجمل بتلك المقاربات النقدية‪ ،‬التي قدمها دارسون معاصرون‪ ،‬وساعدت‬
‫«بشكل أو آخر على االنعتاق من سلطان القراءة التمجيدية‪ ،‬المكرسة لثبات المعرفة‪،‬‬
‫والمكتفية باجترار أقوال القدامى في أسباب النزول‪ ،‬لذلك فإن علم أسباب النزول‬
‫‪ -‬كما يقول كمال عمران ‪ -‬يستوجب دراسات خاضعة للعلوم اإلنسانية‪ ،‬كعلم‬
‫التاريخ‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬وعلم اإلناسة»(((‪.‬‬

‫وال يقتصر األمر على أسباب النزول فحسب‪ ،‬بل يشمل سائر مباحث علوم القرآن‪،‬‬
‫والتي تحتاج إلى مراجعة نقدية في ضوء المناهج الحديثة‪ ،‬وقد أشار الجمل إلى أن‬
‫رسالته كانت مساهمة في هذا األمر «وحافز ًا على مراجعة سائر علوم القرآن مراجعة‬
‫نقدية تفهمية‪ ،‬في ضوء مكاسب المناهج الحديثة‪ ،‬فلئن اكتفينا في هذا البحث بدراسة‬
‫أثر أسباب النزول في بعض تلك العلوم‪ ،‬فإننا ننشد إعادة قراءتها وفق رؤية جديدة»(((‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬اتسم تناول العلمانيين لباب أسباب النزول بسمات عدة‪ ،‬لعل من أبرزها‬
‫االنتقائية الواضحة‪ ،‬والتحكم بال دليل‪ ،‬واتباع الهوى‪ ،‬وعدم وجود منهجية علمية‬
‫محددة‪ ،‬سواء في الترجيح‪ ،‬أو االختيار‪ ،‬أو القبول والرد‪.‬‬

‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.35‬‬


‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.445‬‬

‫‪416‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ونعني بذلك أننا ال نجد معايير منضبطة فيما يقبله العلمانيون من أسباب النزول‪،‬‬
‫وفيما يردونه أو يعرضون عنه‪ ،‬والغالب أنهم يقبلون ما يوافق هواهم‪ ،‬ويخدم التوظيف‬
‫الذي يريدونه من آية بعينها‪ ،‬ثم هم يرفضون ما ال يخدم أهدافهم‪ ،‬وإن كان أصح‬
‫وأصرح مما قبلوه وعولوا عليه‪.‬‬

‫وقد وقع العلمانيون فيما اتهموا به العلماء المتقدمين من اتخاذ أسباب النزول‬
‫ذريعة لتبرير آرائهم‪ ،‬حتى لو وصل األمر لدرجة الوضع واالختالق‪ ،‬واالعتماد على‬
‫الموضوعات والضعاف من المرويات‪.‬‬
‫وإذا استعرضنا نماذج من هذا التعامل االنتقائي العلماني‪ ،‬فسوف نجد مث ً‬
‫ال أنهم‬
‫يعرضون عن أسباب نزول صحيحة وواضحة‪ ،‬إذا لم توافق هواهم‪ ،‬ومن أمثلة ذلك أنه‬
‫على الرغم من ورود سبب صريح لنزول أوائل سورة اقرأ وهو حديث مجيء جبريل‬
‫عليه السالم للنبي ‪ (((#‬في غار حراء‪ ،‬لكن نفر ًا من العلمانيين رفضوا هذا الحديث‪،‬‬
‫وطعنوا في صحته‪ ،‬ألنه يهدم عدد ًا من أصولهم‪ ،‬كفكرة الوحي النفسي‪ ،‬وأن ألفاظ‬
‫القرآن من عند الرسول ‪.#‬‬

‫ول‬ ‫((( وهو ما رواه البخاري (‪ )3‬ومسلم (‪ )160‬عن عائشة رضي الله عنها قالت‪َ « :‬أ َّو ُل َما ُب ِد َئ بِ ِه َر ُس ُ‬
‫ِ‬ ‫الصالِ َح ُة فِي الن َّْو ِم‪َ ،‬فك َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫َان َل َي َرى ُر ْؤ َيا إِ َّل َجا َء ْت م ْث َل َف َل ِق ُّ‬
‫الص ْب ِح‪ُ ،‬ث َّم ُح ِّب َ‬ ‫الر ْؤ َيا َّ‬ ‫الله ‪ #‬م َن ا ْل َو ْح ِي ُّ‬
‫ات ا ْل َعدَ ِد َق ْب َل َأ ْن َين ِْز َع إلى‬ ‫ار ِحر ٍاء‪َ ،‬فيتَحن َُّث فِ ِيه وهو ال َّتعبدُ ال َّليالِي َذو ِ‬ ‫إِ َل ْي ِه ا ْل َخ َل ُء‪َ ،‬وك َ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ ُ َ َ ُّ‬ ‫َ َ‬ ‫َان َي ْخ ُلو بِ َغ ِ َ‬
‫ار ِح َر ٍاء‪َ ،‬ف َجا َء ُه‬ ‫يج َة َف َيت ََز َّو ُد لِ ِم ْث ِل َها‪َ ،‬حتَّى َجا َء ُه ا ْل َح ُّق َو ُه َو فِي َغ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َأ ْهله‪َ ،‬و َيت ََز َّو ُد ل َذل َك‪ُ ،‬ث َّم َي ْر ِج ُع إلى َخد َ‬
‫ِِ‬
‫ار ٍئ‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َأ َخ َذنِي َف َغ َّطنِي َحتَّى َب َل َغ ِمنِّي ا ْل َج ْهدُ ‪ُ ،‬ث َّم َأ ْر َس َلنِي َف َق َال‪:‬‬ ‫ا ْل َم َل ُك َف َق َال‪ :‬ا ْق َر ْأ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ما َأنَا بِ َق ِ‬
‫ار ٍئ‪َ ،‬ف َأ َخ َذنِي َف َغ َّطنِي ال َّثانِ َي َة َحتَّى َب َل َغ ِمنِّي ا ْل َج ْهدُ ‪ُ ،‬ث َّم َأ ْر َس َلنِي َف َق َال‪ :‬ا ْق َر ْأ‪َ ،‬ف ُق ْل ُت‬ ‫ا ْق َر ْأ‪ُ ،‬ق ْل ُت َما َأنَا بِ َق ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ك ال َِّذي َخ َل َق ‪َ )#!١!#‬خ َل َق َ‬
‫اإلنسا َن‬ ‫َما َأنَا بِ َقارئ‪َ ،‬ف َأ َخ َذني َف َغ َّطني ال َّثال َث َة‪ُ ،‬ث َّم َأ ْر َس َلني َف َق َال‪{ :‬اقْر ْأ ِب ْ‬
‫اس ِم َر ِبّ َ‬
‫ف ُف َؤا ُد ُه‪َ ،‬فدَ َخ َل‬ ‫ول الله ‪َ #‬ي ْر ُج ُ‬ ‫ِ‬ ‫ك األَ ْك َر ُم} [العلق‪َ ]٣ - ١ :‬ف َر َج َع بِ َها َر ُس ُ‬ ‫ِم ْن َع َل ٍق ‪ )#!٢!#‬اق َْر ْأ َو َربُّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ْو ُع‪َ ،‬ف َق َال‬ ‫ب َعنْ ُه َّ‬ ‫يج َة بِنْت ُخ َو ْيلد َرض َي الل ُه َعن َْها َف َق َال‪َ :‬ز ِّم ُلوني َز ِّم ُلوني َف َز َّم ُلو ُه َحتَّى َذ َه َ‬ ‫َع َلى َخد َ‬
‫يك الل ُه َأ َبد ًا‪ ،‬إِن ََّك‬ ‫الله َما ُي ْخ ِز َ‬ ‫يت َع َلى َن ْف ِسي َف َقا َل ْت َخ ِديج ُة‪ :‬ك ََّل و ِ‬ ‫يج َة َو َأ ْخ َب َر َها ا ْل َخ َب َر‪َ :‬ل َقدْ َخ ِش ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َخد َ‬
‫ب ا ْل َح ِّق»‪.‬‬ ‫ف‪َ ،‬وت ُِعي ُن َع َلى ن ََو ِائ ِ‬ ‫ب ا ْل َم ْعدُ و َم‪َ ،‬و َت ْق ِري َّ‬
‫الض ْي َ‬ ‫ِ‬
‫َحم ُل ا ْلك ََّل‪َ ،‬و َتكْس ُ‬
‫َلت َِص ُل الر ِحم‪ ،‬وت ِ‬
‫َّ َ َ ْ‬

‫‪417‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫وإذا فتشنا عن سبب ردهم لحديث بدء الوحي‪ ،‬فلن نجد أي نقد علمي‪ ،‬حديثي‪،‬‬
‫أو تاريخي‪ ،‬أو عقدي‪ ،‬وإنما تخرصات وأهواء‪ ،‬خالية من أي حجة أو دليل‪.‬‬

‫ومن العلمانيين الذين ردوا قصة مجيء الوحي إلى النبي ‪ #‬في غار حراء(((‪:‬‬
‫هشام جعيط‪ ،‬والذي حكم عليها بأنها «اختالق بحت‪ ،‬لكنها ترمز بشكل مسرحي إلى‬
‫أمور جدية هامة‪ ،‬وتعكس آراء وتصورات ظهرت فيما بعد في الضمير اإلسالمي»(((‪.‬‬
‫وهذه القصة في رأيه أيض ًا «ليست مختلقة فقط‪ ،‬بل هي سخيفة لم تع شيئ ًا من األمور»(((‪.‬‬

‫وأما الصادق نيهوم‪ ،‬فقد وصفها «بالقصة المزروة»((( والتي كانت «مجرد محاولة‬
‫جاءت في وقت الحق‪ ،‬لتمرير الفكرة بأن الرسول محمد كان أمي ًا‪ ،‬بمعنى أنه لم يكن‬
‫يعرف القراءة»(((‪.‬‬

‫وفي الوقت ذاته الذي ترك فيه نفر من العلمانيين أسباب النزول الصحيحة‪ ،‬التي‬
‫ال توافق هواهم‪ ،‬فسوف نجد أن بعضهم لم يجد أدنى غضاضة من االحتجاج بما ال‬
‫يصح بحال‪ ،‬بل ال مانع ‪ -‬لخدمة هدفه ‪ -‬أن يحتج بالخرافات واألساطير والمخاريق‬
‫والمشعبذات‪ ،‬وقد صرح خليل عبد الكريم بتبنيه لهذا المنهج في مقدمة كتابه الغث‬
‫والمليء باألباطيل والمغالطات «فترة التكوين في حياة الصادق األمين»(((‪.‬‬

‫ومن نماذج األحاديث المنكرة قصة الغرانيق‪ ،‬والتي ورد في بعض الروايات أنها‬

‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬أحمد الفاضل‪ :‬االتجاه العلماني في علوم القرآن ص ‪ ،153‬ود‪ .‬الحارث فخري‪ :‬الحداثة‬
‫وموقفها من السنة ص ‪.132‬‬
‫((( هشام جعيط‪ :‬الوحي والقرآن والنبوة ص ‪.39‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.66‬‬
‫((( الصادق النيهوم‪ :‬إسالم ضد اإلسالم‪ ،‬شريعة من ورق ص ‪.22‬‬
‫((( المصدر السابق ص ‪.23‬‬
‫((( انظر‪ :‬خليل عبد الكريم‪ :‬فترة التكوين في حياة الصادق األمين ص ‪.22 - 19‬‬

‫‪418‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫ال ْخ َرى‪َ .‬أ َل ُك ُم‬ ‫(أ َف َر َأ ْي ُت ُم َّ‬


‫الل َت َوا ْل ُع َّزى‪َ .‬و َمنَا َة الثَّالِ َث َة ْ ُ‬ ‫كانت سبب نزول قوله تعالى‪َ :‬‬
‫الذ َكر َو َل ُه ْ ُ‬
‫ال ْن َثى) (النجم‪ .)21-19 :‬وقد احتج طيب تيزيني بتلك القصة التي ال تصح‬ ‫َّ ُ‬
‫سند ًا ومتن ًا((( على أن إبليس غدا الخصم المباشر العنيد للنبي ودعوته‪ ، ،‬زاعم ًا أنه لما‬
‫«كان محمد ‪ - (((# -‬بشر ًا ونبي ًا‪ ،‬فقد كان وارد ًا جد ًا أن يكون هدف ًا أساسي ًا إلغوائه‪،‬‬
‫ولمحاولة خلط الحق بالباطل أمامه‪ ،‬وأمام تابعيه وهذا ما حدث»(((‪.‬‬

‫وثمة وجه آخر من أوجه اإلشكاالت المنهجية والتناقضات التي وقع فيها‬
‫العلمانيون في تعاملهم التطبيقي مع أسباب النزول‪ ،‬يجدر بنا أن ننبه إليه‪ ،‬وهو أن آحاد‬
‫أسباب النزول وتفاصيلها ليست من األمور المقطوع بها أو المتفق عليها‪ ،‬بل هي مما‬
‫قد يختلف فيه من عدة جهات‪ ،‬فتارة يقع الخالف من جهة التصحيح أو التضعيف‬
‫لرواية ما‪ ،‬تفيد بأن حادثة معينة هي سبب نزول آية من اآليات‪ ،‬وتارة يقع الخالف من‬
‫جهة أن لآلية الواحدة أكثر من سبب‪ ،‬ويحتاج األمر للترجيح بينها بقواعد الترجيح‬
‫المختلفة‪.‬‬

‫وقد ذكر أهل العلم الكثير من القواعد والضوابط للترجيح بين الروايات الموهمة‬
‫للتعارض في باب أسباب النزول(((‪ ،‬وأظن أننا نستطيع القول بكل ثقة إن العلمانيين‬

‫((( انظر في النقد الحديثي لتلك القصة‪ :‬كتاب الشيخ األلباني‪ :‬نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق‪،‬‬
‫المكتب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ 1417‬هـ ‪1996 -‬م‪ ،‬وكتاب علي بن حسن الحلبي‪ :‬دالئل‬
‫التحقيق إلبطال قصة الغرانيق‪ ،‬رواية ودراية‪ ،‬مكتبة الصحابة‪ ،‬جدة‪ ،‬مكتبة التابعين‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1412‬هـ ‪1992 -‬م‪.‬‬
‫((( أضفت الصالة على النبي ‪ #‬لنص كالم تيزيني‪ ،‬وإال فإن العادة المطردة لجل هؤالء العلمانيين‬
‫أن يذكروا اسم النبي ‪ #‬مجرد ًا من وصف النبوة والرسالة‪ ،‬وخلوا من الصالة والسالم عليه بأبي‬
‫هو وأمي‪.‬‬
‫((( طيب تيزيني‪ :‬النص القرآني ص ‪.292‬‬
‫((( انظر‪ :‬المحرر في أسباب نزول القرآن ‪ ،160/1‬ود‪ .‬عماد الدين الرشيد‪ :‬أسباب النزول وأثرها في‬
‫بيان النصوص ص ‪.162‬‬

‫‪419‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫من أبعد الناس عن المعرفة بقواعد التصحيح والتضعيف‪ ،‬المبنية على علم الحديث‪،‬‬
‫وقواعد الترجيح بين المرويات المختلفة‪ ،‬ثم هم من أقل الناس موضوعية وإنصاف ًا‪،‬‬
‫واطراد ًا في المنهجية العلمية الواجب سلوكها في تلك المسائل‪.‬‬

‫ومما يدل على ذلك هروب حسن حنفي من قضية الترجيح بين الروايات‬
‫المتعارضة باللجوء إلى ما يصفه بالتعميم فوق الحدثين‪ ،‬حيث أشار إلى إحدى‬
‫صور أسباب النزول‪ ،‬وهي أن تكون حادثتان سبب ًا في آية واحدة‪ ،‬وهنا يكون الخالف‬
‫راجع ًا للرواية‪ ،‬وهذه الصورة في رأيه «هي في األصل حادثة واحدة‪ ،‬ولكن باختالف‬
‫أشخاصها‪ ،‬طبق ًا للمنافسة بين األشخاص‪ ،‬وأهميتها في تكوين الموقع الحدثي‪،‬‬
‫وإذا كان الخالف فعلي ًا جوهري ًا يتجاوز اختالف األشخاص‪ ،‬فإن الروايتين ال يمكن‬
‫الترجيح بينهما‪ ،‬نظر ًا ألن القدماء لم يستطيعوا ذلك‪ ،‬وهم أهل الرواية والحديث‪،‬‬
‫والتعارض والترجيح‪ ،‬وميزان الرجال»(((‪.‬‬

‫وإذا كان القدماء غير قادرين على الترجيح‪ ،‬فما الحل في رأي حسن حنفي؟‬
‫نالحظ أنه يطرح جواب ًا غير منضبط بحال‪ ،‬وال يقدم أي مخرج علمي‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫«أما نحن‪ ،‬فإن التعميم فوق الحدثين يعطينا الداللة المستقلة عن خصوصية الحدثين‪،‬‬
‫بحيث يمكن أن تصح في كلتا الحالتين‪ ،‬وأسباب النزول نفسها تسمح بهذه الحركة‬
‫بين العموم والخصوص‪ ،‬فأحيان ًا تكون معينة بأشخاصها‪ ،‬ومجموعاتها‪ ،‬وأسمائها‪،‬‬
‫ودياناتها‪ ،‬وأحيان ًا تكون عامة‪ ،‬بنفر أو مجموعة‪ ،‬أو شخص»(((‪.‬‬

‫طوح بقواعد الترجيح التي ذكرها أهل العلم المتقدمون‪،‬‬


‫وأما نصر أبو زيد فقد َّ‬
‫منتقد ًا إياها‪ ،‬وزاعم ًا أنه يمكن ابتكار قواعد جديدة للترجيح فقال‪« :‬إن منهج القدماء‬

‫((( حسن حنفي‪ :‬هموم الفكر والوطن ‪.21/1‬‬


‫((( المصدر السابق ‪.21/1‬‬

‫‪420‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫في الترجيح بين الروايات من الصعب أن يؤدي بنا إلى تحقيق سبب النزول على سبيل‬
‫القطع‪ ،‬وتظل معرفة أسباب النزول مسألة اجتهادية‪ ،‬وعلى ذلك ال بد أن يتمتع الباحث‬
‫المعاصر بحق االجتهاد‪ ،‬والترجيح بين الروايات المختلفة بطرائق أكثر أهمية‪ ،‬وذلك‬
‫استناد ًا إلى مجمل العناصر والدوال الخارجية‪ ،‬والداخلية المكونة للنص»(((‪.‬‬

‫وإذا كان منهج القدماء في الترجيح منهج ًا غير مجد في رأي نصر أبو زيد‪ ،‬فإن‬
‫منهجه المقترح ال يحتاج لعنصر خارجي من روايات ومنقوالت‪ ،‬وإنما يقوم على‬
‫تحليل السياق اللغوي الداخلي في حال اختالف الروايات‪ ،‬أو تعارضها في تحديد‬
‫سبب نزول نص بعينه(((‪ ،‬واألساس الذي يقوم عليه هذا المنهج هو أن أسباب النزول‬
‫يمكن الوصول إليها من خارج النص‪ ،‬كما يمكن الوصول إليها من داخل النص عبر‬
‫وسائل عدة؛ ألن «أسباب النزول ليست سوى السياق االجتماعي للنصوص‪ ،‬وهذه‬
‫األسباب كما يمكن الوصول إليها من خارج النص‪ ،‬يمكن كذلك الوصول إليها‬
‫من داخل النص‪ ،‬سواء في بنيته الخاصة‪ ،‬أو في عالقته باألجزاء األخرى من النص‬
‫العام»(((‪.‬‬

‫وقد انتقد أبو زيد منهج القدماء في الترجيح‪ ،‬زاعم ًا أنهم وقعوا في معضلة‬
‫حينما «لم يجدوا وسيلة للوصول ألسباب النزول إال االستناد إلى الواقع الخارجي‪،‬‬
‫والترجيح بين المرويات‪ ،‬ولم ينتبهوا إلى أن في النص دائم ًا دوال يمكن أن يكشف‬
‫تحليلها عما هو خارج النص‪ ،‬ومن ثم يمكن اكتشاف أسباب النزول من داخل النص‪،‬‬
‫كما يمكن اكتشاف داللة النص بمعرفة سياقه الخارجي‪ ....‬لقد كان منهج القدماء إما‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.126 ،125‬‬


‫((( انظر‪ :‬نصر أبو زيد‪ :‬النص السلطة الحقيقة ص ‪.130‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.126‬‬

‫‪421‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫إغفال الداخل تمام ًا‪ ،‬بالترجيح بين الروايات فقط‪ ،‬أو إغفال الخارج تمام ًا‪ ،‬باالعتماد‬
‫على تحليل شكلي للغة النص»(((‪.‬‬
‫وإذا بحثنا عن تطبيقات هذا المنهج الذي يقترحه أبو زيد بدي ً‬
‫ال عن منهج القدماء‪،‬‬
‫فلن نجد أي معالم حقيقية‪ ،‬وال تطبيقات عملية‪ ،‬وإنما مجرد تهويمات ودعاوى‬
‫مرسلة‪ ،‬ويؤيد ذلك أننا لم نر نماذج منضبطة الكتشاف أسباب النزول من داخل النص‬
‫بعيد ًا عن نقل الروايات‪.‬‬

‫ولعل من المضحك حق ًا أن يقع بعض العلمانيين ‪ -‬في سبيل تقرير قول مغلوط‬
‫له ‪ -‬في أخطاء فجة‪ ،‬تنم عن جهل فادح بما يمكن اعتباره من البدهيات المعروفة‬
‫لكل دارس للتفسير وعلوم القرآن‪ ،‬وهي قضية المكي والمدني من القرآن‪ ،‬والتي لها‬
‫ارتباط وثيق ال يخفى بأسباب النزول‪ ،‬كما أن العلمانيين كثير ًا ما دندنوا حول تلك‬
‫القضية‪ ،‬لتوظيفها في األغراض نفسها التي وظفوا فيها مبحث أسباب النزول والناسخ‬
‫والمنسوخ‪.‬‬
‫ونضرب مث ً‬
‫ال لذلك بما وقع من الجهل ‪ -‬وربما التجاهل المتعمد ‪ -‬من قبل‬
‫سيد القمني حول مدنية بعض سور القرآن‪ ،‬التي لم يختلف قط في مدنيتها مثل‪ :‬سور‬
‫البقرة‪ ،‬وآل عمران‪ ،‬والمائدة‪ ،‬وقد جاء ذلك في سياق تأسيسه لفكرة متهافتة باطلة‬
‫‪ -‬بل ال شك في الحكم بكفرها‪ ،‬ومصادمتها لثوابت الدين والملة ‪ -‬وهي أن رسالة‬
‫النبي ‪ #‬ودعوته ليست سوى سعي من الحزب الهاشمي ‪ -‬وعلى رأسه عبد المطلب‬
‫جد رسول الله ‪ - #‬إلقامة دولة لهم في جزيرة العرب‪ ،‬حيث «استطاع أن يقرأ الظروف‬
‫الموضوعية لمدينة مكة بوجه خاص‪ ،‬وأن يخرج من قراءته برؤية واضحة‪ ،‬هي إمكان‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.126‬‬

‫‪422‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة‪ ،‬تكون نواتها ومركزها مكة تحديد ًا‪ ،‬برغم واقع‬
‫الجزيرة المتشرذم آنذاك‪ ...‬لكن العجيب فع ً‬
‫ال أال يمضي من السنين غير قليل‪ ،‬حتى‬
‫تقوم في جزيرة العرب دولة واحدة‪ ،‬بل دولة قوية ومقتدرة‪ ،‬تطوي تحت جناحها وفي‬
‫زمن قياسي ممالك الروم والعجم‪ ،‬بعد أن أعلن حفيد عبد المطلب بن هاشم محمد‬
‫بن عبد الله ‪ #‬أنه النبي المنتظر»‪.‬‬

‫ولن نطيل هنا في رد هذه الفرية المنكرة‪ ،‬فقد تكفلت بطرف من ذلك بعض‬
‫الدراسات(((‪ ،‬لكن ما يعنينا هنا‪ ،‬أن هذا األفاك األثيم في سياق محاولة إثبات تدرج‬
‫الرسول ‪ #‬في استمالة أهل مكة‪ ،‬كي يستجيبوا لدعوته تلك لتأسيس الدولة الهاشمية‪،‬‬
‫قد حاول إغراءهم ببيان تسامحه مع أديانهم‪ ،‬ومعتقداتهم في مراحل دعوته األولى‪،‬‬
‫حتى إذا تبين له عنادهم صرح بكفرهم‪ ،‬وبطالن ما عليه من معتقدات‪.‬‬

‫ومن األدلة التي ساقها القمني((( على ذلك التسامح المزعوم‪ :‬قوله تعالى‪َ :‬‬
‫{ل‬
‫ين َها ُدوا َوال َّن َصا َرى‬ ‫ين آ َم ُنوا َوا َّلذِ َ‬ ‫ين} [البقرة‪ ،]256 :‬وقوله تعالى‪ِ { :‬إنَّ ا َّلذِ َ‬ ‫ِإ ْك َرا َه فِي ِّ‬
‫الد ِ‬
‫ِين َم ْن آ َم َن بِال َّل ِه َوا ْل َي ْو ِم ْالخِ ِر َو َعمِ َل َصالِح ًا َف َل ُه ْم َأ ْج ُر ُه ْم عِ ْن َد َر ِّب ِه ْم َو َل خَ ْو ٌف َع َل ْي ِه ْم‬
‫الصا ِبئ َ‬
‫َو َّ‬
‫َو َل ُه ْم َي ْح َزنُونَ } [البقرة‪ ،]62 :‬وقوله تعالى لعيسى ابن مريم‪َ { :‬و َجاعِ ُل ا َّلذِ َ‬
‫ين ات ََّب ُع َ‬
‫وك‬
‫ين َكف َُروا إلى َي ْو ِم ا ْلق َِيا َمةِ} [آل عمران‪ ،]55 :‬وقوله تعالى عن أهل الكتاب‪:‬‬ ‫َف ْو َق ا َّلذِ َ‬
‫ِيها ُح ْك ُم ال َّل ِه ُث َّم َي َت َو َّل ْونَ م ِْن َب ْعدِ َذل َِك َو َما ُأو َلئ َِك‬
‫{ َو َك ْي َف ُي َح ِّك ُمو َن َك َوعِ ْن َد ُه ُم ال َّت ْو َرا ُة ف َ‬
‫ِين} [المائدة‪.]43 :‬‬
‫بِا ْل ُمؤْ ِمن َ‬

‫((( انظر‪ :‬منصور أبو شافعي‪ :‬التنوير بالتزوير ص ‪.55‬‬


‫((( انظر‪ :‬سيد القمني‪ :‬مجلة مصرية العدد التاسع أكتوبر ‪ 1986‬ص ‪ً ،19 ،18‬‬
‫نقال عن منصور أبو‬
‫شافعي‪ :‬التنوير بالتزوير ص ‪ ،88‬ويبدو أن القمني قد انتبه‪ ،‬أو نبهه بعضهم لهذا الجهل الفادح‪،‬‬
‫فعدل عن االستشهاد بتلك اآليات في طبعة الكتاب الالحقة طبعة مكتبة مدبولي ص ‪ ،133‬وهي‬
‫الطبعة التي وقفت عليها‪ ،‬لكن بقي أصل الفكرة دون تغيير يذكر‪.‬‬

‫‪423‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫ولعله ال يخفى على أي طالب علم مبتدئ‪ ،‬أن تلك اآليات جميع ًا من سور مدنية‬
‫‪ -‬وهي البقرة وآل عمران والمائدة ‪ -‬نزلت بعد هجرته ‪ #‬من مكة إلى المدينة‪ ،‬لكن‬
‫هكذا يفعل الجهل والهوى وسوء النية بأصحابه‪ ،‬وقد واصل القمني هذيانه‪ ،‬فأشار‬
‫إلى أن النبي ‪ #‬نقل «توجهه االستراتيجي من دفع األمر لصالح الطبقة التاجرة إلى‬
‫وجهة أخرى مرحلية‪ ،‬تحول بموجبها نحو المستضعفين والمعدمين والعبيد‪ ،‬وبجانب‬
‫هذا انقلب على قاعدة حرية االعتقاد التي سنها المأل‪ ،‬لينزع عنهم صفة أنهم أهل الله‬
‫التي ترتبط بمصالحهم التجارية‪ ،‬فأخذ الحفيد ‪ -‬أي محمد ‪ - #‬ينادي أهل مكة { ُق ْل‬
‫َيا َأ ُّي َها ا ْل َكاف ُِرونَ } [الكافرون‪ .]1 :‬رغم تأكيده من قبل أنهم يؤمنون بالله‪ ،‬ويستشهد‬
‫ات َو ْ َ‬
‫ال ْر َض َو َس َّخ َر‬ ‫على إيمان أهل مكة بالله باآليات { َو َلئ ِْن َس َأ ْل َت ُه ْم َم ْن خَ َل َق َّ‬
‫الس َما َو ِ‬
‫ات‬‫الس َم َو ِ‬‫الش ْم َس َوا ْلق ََم َر َل َيقُو ُل َّن ال َّل ُه َف َأنَّى ُيؤْ َف ُكونَ } [العنكبوت ‪ ،]61‬و{ ُق ْل َمن َّر ُّب َّ‬ ‫َّ‬
‫يم ‪َ )#^٦٨^#‬س َيقُو ُلونَ ِل َّل ِه ُق ْل َأ َفال َت َّتقُونَ } [المؤمنون‪، ]٧٨ ،٦٨ :‬‬ ‫الس ْب ِع َو َر ُّب ا ْل َع ْر ِش ا ْل َعظِ ِ‬‫َّ‬
‫ِيم} [الزخرف‪،]9 :‬‬ ‫ات َو ْ َ‬
‫ال ْر َض َل َيقُو ُل َّن خَ َلق َُه َّن ا ْل َع ِز ُ‬
‫يز ا ْل َعل ُ‬ ‫و{ َو َلئ ِْن َس َأ ْل َت ُه ْم َم ْن خَ َل َق َّ‬
‫الس َما َو ِ‬
‫وبتكفيره للمكيين بعد اعترافه من قبل بإيمانهم‪ ،‬تحول الحفيد من الصبر الجميل إلى‬
‫الهجوم‪ ،‬خصوص ًا بعد تأكده من وقوف الحزب الهاشمي معه‪ ،‬ينصره وينتصر به» (((‪.‬‬

‫ويبدو أن هذا الرجل ال يدري حق ًا ما يخرج من رأسه‪ ،‬وال ما يسطره قلمه ‪ -‬أو‬
‫ربما يدري‪ ،‬ولكنه ال يبالي بأي قيم علمية أو منهجية ‪ -‬فهو يستشهد بقوله تعالى‪:‬‬
‫{ ُق ْل َيا َأ ُّي َها ا ْل َكاف ُِرونَ } [الكافرون‪ ]1 :‬على تغير استراتيجية الرسول في خطابه ألهل‬
‫مكة((( مع أنه هو نفسه وكذلك غيره من العلمانيين قد دأبوا على االستشهاد بآخر آية‬
‫في السورة نفسها وهي قوله تعالى‪ُ { :‬ق ْل َيا َأ ُّي َها ا ْل َكاف ُِرونَ } [الكافرون‪ ]1 :‬على حرية‬

‫((( سيد القمني‪ :‬الحزب الهاشمي ص ‪ ،89‬طبعة دار سينا للنشر‪ً ،‬‬
‫نقال عن منصور أبو شافعي‪ :‬التنوير‬
‫بالتزوير ص ‪.91‬‬
‫((( سيد القمني‪ :‬الحزب الهاشمي ص ‪ ،135‬طبعة مكتبة مدبولي‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1996‬م‪.‬‬

‫‪424‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫االعتقاد‪ ،‬وقبول اآلخر‪ ،‬والتعددية الدينية فكيف تكون سورة مكية واحدة نزلت في‬
‫وقت واحد‪ ،‬وأولها يكفر كفار قريش‪ ،‬وآخرها يقرهم على ما هم فيه‪ ،‬ويتسامح معهم؟‬

‫ثم أي حزب هاشمي هذا الذي تأكد الرسول ‪ #‬من وقوفه معه ينصره وينتصر‬
‫به(((‪ ،‬مع أن كبير بني هاشم وقتها وهو أبو طالب مات على دين قومه ‪ -‬وإن حمى‬
‫الرسول ودافع عنه ‪ -‬كما أن أبا لهب ‪ -‬عم الرسول‪ ،‬وابن عبد المطلب زعيم الحزب‬
‫الهاشمي المزعوم ‪ -‬كان من ألد أعداء رسول الله‪ ،‬وكذلك لم يؤمن عمه العباس بن‬
‫عبد المطلب بدعوة النبي ‪ #‬إال في فترة الحقة ومتأخرة‪ ،‬فأين إذن هذا التأييد الهاشمي‬
‫الذي اعتمد عليه الرسول لتغيير خطابه مع كفار قريش‪.‬‬

‫وخالصة األمر أن كالم القمني ‪ -‬بجملته وتفاصيله ‪ -‬ال يلتزم بأية معايير علمية‬
‫أو منهجية‪ ،‬ولست أراه سوى نفثات صدر يحمل حقد ًا دفين ًا على هذا الدين‪ ،‬ويسعى‬
‫سعي ًا محموم ًا للتشكيك فيه‪ ،‬من خالل الطعن في نبوة النبي ‪ #‬وصدق القرآن‪ ،‬وإن‬
‫حاول التعمية على هذا المقصد بدعاوي البحث العلمي أو التاريخي‪.‬‬

‫وثمة نوع آخر من االنتقائية العلمانية في التعامل مع باب أسباب النزول ومسائله‬
‫التفصيلية‪ ،‬وهو تبني ما يوافق أهواءهم ويؤيد فكرهم‪ ،‬ورفض واستبعاد ما ليس كذلك‪،‬‬
‫وقد تقدم معنا إلحاح الكثيرين منهم على أن لكل آية سبب نزول‪ ،‬بينما عارضوا القول‬
‫بعموم اللفظ ال خصوص السبب‪.‬‬

‫كذلك مال الكثير من العلمانيين لرفض القول بنزول بعض اآليات مرتين‪ ،‬أو‬
‫نزول عدة آيات في سبب واحد‪ ،‬ألن مثل هذا القول يهدم ما استماتوا في إثباته من‬
‫تشكل النص وانبثاقه من خالل الواقع‪ ،‬وتاريخيته(((‪ ،‬وقد أوضح نصر أبو زيد ذلك‪،‬‬

‫((( سيد القمني‪ :‬الحزب الهاشمي ص ‪ ،141‬طبعة مدبولي‪.‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬خالد السيف‪ :‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر ص ‪.199‬‬

‫‪425‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫فقال‪« :‬إن افتراض تعدد النصوص استجابة لواقعة واحدة ‪ -‬مثله مثل افتراض تكرار‬
‫نزول اآلية الواحدة أو اآليات عند أسباب ووقائع مختلفة ‪ -‬يؤدي إلى الفصل بين‬
‫النص وداللته‪ ،‬ومن ثم إلى القضاء على مفهوم النص ذاته»(((‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬ونختم كالمنا عن التناقضات واإلشكاالت المنهجية في الموقف العلماني‬


‫من أسباب النزول باإلشارة إلى أمر مهم‪ ،‬وهو أنه رغم إلحاح العلمانيين على قضية‬
‫أسباب النزول‪ ،‬وإعادة قراءة القرآن‪ ،‬والنصوص الدينية والتراثية بصفة عامة‪ ،‬فإن محصلة‬
‫جهودهم‪ ،‬وإنتاجهم العلمي ‪ -‬بل معرفتهم بتلك القضايا ‪ -‬يبدو هزي ً‬
‫ال ومتواضع ًا جد ًا‪.‬‬
‫فأما معرفتهم بالعلوم اإلسالمية أصو ً‬
‫ال وفروع ًا‪ ،‬فالمطالع لكتبهم ال يجد ما يدل‬
‫على معرفة دقيقة أو راسخة بتلك العلوم‪ ،‬وإنما يجد ‪ -‬في الغالب ‪ -‬اطالع ًا جيد ًا‬
‫على الفكر الغربي‪ :‬فلسفة‪ ،‬ونقد ًا‪ ،‬وعلوم ًا ألسنية‪ ،‬مقارنة بفقر واضح في االطالع على‬
‫العلوم اإلسالمية‪ ،‬بل يمكن القول إن جلهم «غرباء عن ميدان الدراسات الشرعية‪،‬‬
‫ومتى كان لغريب عن ميدان أن يسمى باحث ًا فيه»(((‪.‬‬

‫وقد واجه بعضهم ما وجه لهم من انتقادات حول عدم تخصصهم وال تأهلهم‬
‫أص ً‬
‫ال للخوض في دقائق العلوم اإلسالمية‪ :‬بالتشكيك في مبدأ التخصص في العلوم‬
‫الشرعية‪ ،‬وأنه نوع من احتكار المعرفة ال يقره اإلسالم‪ ،‬وكما يقول جمال البنا فإن‬
‫«اإلسالم ال يحتكر الحكمة‪ ،‬وأكبر وهم ابتدعه شيوخنا هذه األيام هو التخصص‪،‬‬
‫وكلما تكلم أحد في الدين يقولون إنه ليس متخصص ًا‪ ،‬فاإلسالم ليس مهنة يعكف‬
‫عليها المختصون‪ ،‬والتخصص يكون في بعض النواحي»(((‪.‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬مفهوم النص ص ‪.130‬‬
‫((( مقدمة د‪ .‬أبو لبابة حسين لكتاب القراءات المعاصرة للقرآن الكريم ص ‪.12‬‬
‫((( جريدة دنيا الوطن على شبكة اإلنترنت ‪http://www.alwatanvoice.com/arabic/‬‬
‫‪ .news/2008/11/23/133294.html‬وانظر‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل‪ :‬التوظيف الحداثي آليات المرأة‬
‫وإشكالياته ص ‪.172‬‬

‫‪426‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وال شك أن هذا الرد قد حاد عن أصل اإلشكال‪ ،‬وراح يغالط في أمور أخرى ال‬
‫عالقة لها بموضع االنتقاد‪ ،‬فاحتكار المعرفة واعتبارها سر ًا شيء‪ ،‬واحترام التخصص‬
‫وعدم خوض اإلنسان فيما ال يحسنه شيء آخر‪ ،‬وإذا كان اإلسالم ال يعرف قط طبقة‬
‫كهنوتية‪ ،‬تحتكر العلم‪ ،‬وتقصره على دائرة بعينها‪ ،‬فإن نصوصه واضحة في منع القول‬
‫على الله بغير علم‪ ،‬واعتباره من أشنع المحرمات‪.‬‬

‫ومن األدلة على ذلك قول الله تعالى‪ُ { :‬ق ْل ِإن ََّما َح َّر َم َر ِّب َي ا ْلف ََواحِ َش َما َظ َه َر ِم ْن َها‬
‫ِغَي ِر ا ْل َح ِّق َو َأنْ ت ُْش ِر ُكوا بِال َّل ِه َما َل ْم ُي َن ِّز ْل ِب ِه ُس ْل َطان ًا َو َأنْ َتقُو ُلوا َع َلى‬
‫َو َما َب َط َن َو ْال ْث َم َوا ْل َبغْ َي ب ْ‬
‫ِيما َل ُك ْم ِب ِه‬ ‫ال َّل ِه َما ال ت َْع َل ُمونَ } [األعراف‪ ،]33 :‬وقال تعالى‪َ { :‬ها َأ ْن ُت ْم َهؤُ الِء َح َ‬
‫اج ْج ُت ْم ف َ‬
‫ِيما َل ْي َس َل ُك ْم ِب ِه عِ ْل ٌم َوال َّل ُه َي ْع َل ُم َو َأ ْن ُت ْم ال ت َْع َل ُمونَ } [آل عمران‪،]66 :‬‬ ‫عِ ْل ٌم َفل َِم ت َُح ُّ‬
‫اجونَ ف َ‬
‫الس ْم َع َوا ْل َب َص َر َوا ْل ُفؤَ ا َد ُك ُّل ُأو َلئ َِك َكانَ َع ْن ُه‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬وال َتقْ ُف َما َل ْي َس َل َك ِب ِه عِ ْل ٌم ِإنَّ َّ‬
‫َم ْسؤُ و ًال} [اإلسراء‪ ،]36 :‬وقال تعالى‪َ { :‬و َما َل ُه ْم ِب ِه م ِْن عِ ْل ٍم ِإنْ َي َّت ِب ُعونَ ِإ َّل َّ‬
‫الظ َّن َو ِإنَّ َّ‬
‫الظ َّن‬
‫ال ُيغْ نِي م َِن ا ْل َح ِّق شَ ْيئا} [النجم‪ ،]28 :‬وقال النبي ‪« :#‬إن الله ال يقبض العلم انتزاع ًا‬
‫ينتزعه من العباد‪ ،‬ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم ًا اتخذ الناس‬
‫رؤوس ًا جها ً‬
‫ال‪ ،‬فسئلوا فأفتوا بغير علم‪ ،‬فضلوا وأضلوا»(((‪.‬‬

‫ومما يشهد لمدى الضعف البين في المعرفة بالعلوم اإلسالمية لدى هؤالء النفر‬
‫من العلمانيين‪ ،‬أنهم حينما يتصدون للكتابة عن قضايا من صميم تلك العلوم‪ ،‬فإن‬
‫كتبهم كثير ًا ما تنضح باألخطاء الفجة‪ ،‬التي ال يمكن أن يقع فيها متخصص حقيقي‪،‬‬
‫خبر تلك العلوم‪ ،‬وفهم أصولها ودقائقها‪.‬‬

‫ومن األمثلة على ذلك‪ ،‬تلك األخطاء العلمية والتاريخية التي حفل بها كتاب‬
‫نصر أبو زيد عن اإلمام الشافعي‪ ،‬حيث ادعى أنه كان «الفقيه الوحيد من فقهاء عصره‬

‫((( رواه البخاري (‪ )100‬ومسلم (‪.)2673‬‬

‫‪427‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الذي تعاون مع األمويين‪ ،‬مختار ًا راضي ًا‪ ،‬خاصة بعد وفاة أستاذه اإلمام مالك بن أنس‬
‫(‪179‬ﻫ) الذي كان له مع األمويين موقف مشهود‪ ،‬بسبب فتواه بفساد بيعة المكره‬
‫وطالقه‪ ،‬وموقف اإلمام أبي حنيفة (‪150‬هـ) الرافض ألدنى صور التعاون معهم‬
‫‪ -‬رغم سجنه وتعذيبه ‪ -‬تكشف إلى أي حد بلغ رفض الفقهاء لعصبية ذلك النظام‪،‬‬
‫ولممارساته القمعية ضد جماهير المسلمين‪ ،‬إال أن يكونوا من مؤيديه وأنصاره بشكل‬
‫مباشر»(((‪.‬‬

‫وهذا الكالم غير صحيح بالمرة‪ ،‬وفيه أخطاء علمية‪ ،‬وتاريخية فجة‪ ،‬تنبئ عن‬
‫هشاشة علمية واضحة‪ ،‬وتكشف عن حقيقة معرفة هؤالء الحداثيين بالعلوم اإلسالمية!‬
‫فالشافعي رحمه الله ولد عام ‪150‬ﻫ أي بعد سقوط الدولة األموية عام ‪132‬ﻫ بثمانية‬
‫ال‪ ،‬ولم يكن لهم وجود حين والدته فض ً‬
‫ال عن‬ ‫عشر عام ًا‪ ،‬فكيف يتعاون معهم أص ً‬
‫مرحلة شبابه وقدرته على العمل(((! وعلى فرض التسليم الجدلي بتعاون الشافعي مع‬
‫حكام عصره‪ ،‬فلم يكن الفقيه الوحيد من بين الفقهاء الذين تعاونوا مع حكام زمانهم‬
‫فيما يرونه جائز ًا‪ ،‬فقد سبقه لذلك كثيرون‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أنه لم يتول منصب ًا كبير ًا‪ ،‬مثل‬
‫منصب قاضي القضاة ‪ -‬وهو أرفع منصب حينذاك ‪ -‬مثلما فعل تلميذ أبي حنيفة الكبير‬
‫أبو يوسف‪ ،‬وكذا تلميذه اآلخر‪ ،‬وشيخ الشافعي في الوقت ذاته‪ :‬محمد بن الحسن‬
‫الشيباني(((‪.‬‬

‫ومن األخطاء األخرى التي اشتمل عليها كالم نصر أبو زيد المتقدم زعمه أن اإلمام‬
‫مالك ًا كان له مع األمويين موقف مشهود بسبب فتواه بفساد بيعة المكره وطالقه‪ ،‬وهذا‬
‫الكالم أيض ًا غير صحيح بحال‪ ،‬وفتوى مالك رحمه الله وما حدث له لم يكن في عصر‬
‫((( د‪ .‬نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪ ،16‬طبعة سينا للنشر‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬التفسير الماركسي لإلسالم ص ‪.81‬‬
‫((( انظر‪ :‬أحمد قوشتي‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.39‬‬

‫‪428‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫األمويين أص ً‬
‫ال‪ ،‬وإنما بعد انتهاء خالفتهم وفي زمن إمارة جعفر بن سليمان للمدينة‪،‬‬
‫وكان أمير ًا عليها من قبل العباسيين‪ ،‬وليس األمويين‪ ،‬حيث ولي إمارتها عام (‪146‬ﻫ)‬
‫أي بعد أربعة عشر عام ًا من انتهاء خالفة األمويين (‪132‬ﻫ)‪ ،‬وقد حدثت محنة مالك‬
‫في عهد المنصور‪ ،‬وتحديد ًا إبان ثورة النفس الزكية على المنصور ‪145‬ﻫ(((‪.‬‬

‫ومن النماذج األخرى أن حسن حنفي في أحد كتبه نسب البن تيمية رأي ًا خاطئ ًا‬
‫تمام ًا في قضية العالقة بين النقل والعقل حيث قال‪« :‬العقل أساس النقل عند ابن تيمية‪،‬‬
‫ومن يقدح في العقل يقدح في النقل»(((‪.‬‬

‫وليست المشكلة هنا في نسبة رأي لعالم على سبيل الخطأ‪ ،‬فذلك أمر كثير‬
‫الحصول‪ ،‬وقد وجدت له أمثلة كثيرة في شتى الفنون وعبر مختلف العصور‪ ،‬لكن‬
‫المشكلة هنا أن الخطأ واضح جد ًا‪ ،‬ومصادم لما يعرفه أي قارئ مبتدئ لفكر ابن تيمية‬
‫وال سيما كتابه المهم‪ :‬درء تعارض العقل والنقل‪ ،‬حيث ساق فيه ابن تيمية ردود ًا مطولة‬
‫على قانون التعارض الكالمي‪ ،‬ومن ضمن مبادئه االدعاء بأن العقل أصل النقل‪ ،‬وأن‬
‫القدح في العقل قدح في األصل الذي عرفنا به صحة النقل(((‪.‬‬

‫وأما إنتاج العلمانيين العلمي في باب التفسير وعلوم القرآن‪ ،‬فلسنا نجد في الغالب‬
‫سوى شذرات متفرقة‪ ،‬تدور في إطار التنظير لقراءاتهم الحداثية وأفكارهم العلمية مع‬
‫تطبيقات انتقائية متناثرة‪ ،‬ورغم كل تلك الضجة التي أثاروها حول إعادة قراءة القرآن‬

‫((( انظر‪ :‬الذهبي‪ :‬سير أعالم النبالء ‪ 239 ،80/8‬وممن نبه على هذا الخطأ د‪ .‬محمد عمارة‪ :‬التفسير‬
‫الماركسي ص ‪ ،81‬وجورج طرابيشي في كتابه‪ :‬من إسالم القرآن إلى إسالم الحديث ص ‪،263‬‬
‫وانظر‪ :‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.40‬‬
‫((( د‪ .‬حسن حنفي‪ :‬اليسار اإلسالمي والوحدة الوطنية ص ‪.68‬‬
‫((( انظر‪ :‬ابن تيمية‪ :‬درء تعارض العقل والنقل ‪ ،88 ،87/1‬وابن القيم الصواعق المرسلة‪،800/3 :‬‬
‫ود‪ .‬عبدالرحمن المحمود‪ :‬موقف ابن تيمية من األشاعرة ‪.828/2‬‬

‫‪429‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫الكريم وعلومه‪ ،‬فلم نجد لهم ما يستحق أن يوصف بأنه تفسير كامل أو شبه كامل للقرآن‬
‫الكريم(((‪ ،‬وإنما الموجود انتقاء آيات أو موضوعات بعينها‪ ،‬تخدم مشروعهم الفكري(((‪،‬‬
‫وربما كان تفسير تلك الظاهرة «أنه ال أحد من هؤالء يملك الكفاءة العلمية لمثل هذا‬
‫العمل العظيم‪ ،‬وألن عم ً‬
‫ال كهذا ال يخدم لهم وسيلة وال يحقق لهم غاية‪ ،‬بل قد يواجهون‬
‫ما ال يستطيعون تطويعه أو تأويله‪ ،‬ليوافق أفكارهم العلمانية فيكون شاهد ًا عليهم»(((‪.‬‬

‫كذلك يالحظ أنه رغم دعوتهم المستمرة لفتح أبواب االجتهاد على مصراعيه‪،‬‬
‫واإلنكار على تقييده بأي قيد‪ ،‬فإننا ال نكاد نجد أي واحد منهم له تخصص واضح‪ ،‬أو‬
‫إسهام بحثي معتبر في علوم الشريعة من فقه وأصول‪ ،‬أو إنجاز لمؤلفات في تلك الحقول‪،‬‬
‫وجل إنتاجهم إما في الفكر بصفة عامة‪ ،‬أو اللغة‪ ،‬أو القانون‪ ،‬أو النقد‪ ،‬أو الفلسفة (((‪.‬‬

‫وال ينقضي عجب المطالع لسيرة هؤالء الفكرية وتكوينهم العلمي من دعاويهم‬
‫العريضة من جهة‪ ،‬وهشاشة رصيدهم في العلوم اإلسالمية من جهة أخرى‪ ،‬حيث‬
‫ينقصهم الكثير من أدوات التخصص الشرعي‪ ،‬التي تؤهل أصحابها كي يدلوا بدلوهم‬
‫في مباحث العلم الشرعي‪ ،‬ولم يكن أحدهم في يوم من األيام من أهل الصنعة الفقهية‬
‫أو الحديثية أو أصحاب الباع في علوم القرآن‪ ،‬وإنما الغالب على أكثرهم ‪ -‬سوى‬
‫استثناءات قليلة ‪ -‬أن يكون ألحدهم قراءات متنوعة شأن عامة المثقفين‪ ،‬واطالع ًا عام ًا‬
‫على فنون العلم اإلسالمي(((‪.‬‬

‫((( يستثنى من ذلك كتاب محمد عابد الجابري‪ :‬فهم القرآن الحكيم‪ ،‬التفسير الواضح حسب ترتيب‬
‫النزول‪ ،‬مع أن عده تفسير ًا في رأيي أمر محل نظر‪ ،‬فض ً‬
‫ال عما به من إشكاالت منهجية وتفصيلية‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬سعيد النكر‪ :‬سؤال المعاصرة والشرعية في قراءة النص الديني ص ‪.43‬‬
‫((( منى الشافعي‪ :‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم ص ‪.626‬‬
‫((( انظر‪ :‬مصطفى باحو‪ :‬العلمانيون العرب وموقفهم من اإلسالم ص ‪ ،280‬وبحثنا‪ :‬موقف االتجاه‬
‫الحداثي من اإلمام الشافعي ص ‪.147‬‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل‪ :‬التوظيف الحداثي آليات المرأة وإشكالياته ص ‪.150‬‬

‫‪430‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية‬
‫في الموقف العلماني من أسباب النزول‬

‫وعلى الرغم من تلك الهشاشة العلمية‪ ،‬فإننا نفاجأ بحالة االنتفاخ المعرفي وتضخم‬
‫الذات عند بعضهم‪ ،‬والتي تتجلى في ادعاءات مثيرة لالستغراب واالستهجان‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك وصف حسن حنفي لنفسه بأنه مجدد لهذه األمة أمر دينها‪ ،‬وفقيه‬
‫من فقهائها الراعين لمصالحها(((‪ ،‬حيث قال بالحرف الواحد‪« :‬أنا فقيه من فقهاء‬
‫المسلمين‪ ،‬أجدد لهم دينهم‪ ،‬وأرعى مصالح الناس‪ ...‬وال نريد أن نضيف إلى مئات‬
‫األلقاب واحد ًا‪ ،‬إنما نحن أحد علماء األمة‪ ،‬وواحد من المجتهدين»(((‪ .‬كما عد نفسه‬
‫من ضمن سالسل التجديد‪ ،‬وريثة اإلصالح الديني القديم‪ ،‬والممتدة من جمال الدين‬
‫األفغاني إليه‪ ،‬فقال‪« :‬من األفغاني‪ ،‬إلى محمد عبده‪ ،‬إلى رشيد رضا‪ ،‬إلى سيد قطب‪،‬‬
‫ثم إلي»(((‪.‬‬

‫كذلك ادعى جمال البنا أنه أعلم من األئمة الكبار‪ ،‬ألنه يمتلك من وسائل التقنية‬
‫الحديثة‪ ،‬ووسائل البحث ما لم يكونوا يمتلكونه‪ ،‬فقال‪« :‬أنا على علم أكثر من الشافعي‬
‫ومالك وأبو حنيفة‪ ،‬نعم ألني أمتلك ما ال يمتلكونه‪ ،‬وهو التكنولوجيا والتقنية الحديثة‬
‫ممثلة في الكمبيوتر ووسائل البحث الحديثة األكثر تطور ًا‪ ،‬ولهذا أنا على علم وخبرة‬
‫أكثر منهم‪ ،‬ألني أمتلك فكرهم‪ ،‬وفكر الهنود واألمريكان‪ ،‬وكافة الحضارات»(((‪.‬‬

‫ويعلن الرجل تحديه الصريح للعلماء «أن يكتبوا عشر صفحات من كتاب ‪ -‬من‬
‫كتبه ‪ -‬مثل تثوير القرآن‪ ،‬أو نظرية العدل في الفكر األوربي والفكر اإلسالمي»(((‪ .‬ولم‬
‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬فهد القرشي‪ :‬منهج حسن حنفي دراسة تحليلية نقدية ص ‪.42 ،41‬‬
‫((( حسن حنفي‪ :‬من العقيدة إلى الثورة ‪.42 - 40/1‬‬
‫((( المصدر السابق هامش ‪.46/1‬‬
‫((( جريدة دنيا الوطن على شبكة اإلنترنت‪http://www.alwatanvoice.com/arabic/ :‬‬
‫‪ .news/2008/11/23/133294.html‬وانظر‪ :‬د‪ .‬كفاح كامل‪ :‬التوظيف الحداثي آليات المرأة ص‬
‫‪.170‬‬
‫((( المرجع السابق ص ‪.172‬‬

‫‪431‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫يقتصر األمر على تفوق الرجل نفسه على هؤالء األئمة فحسب‪ ،‬وإنما تنسحب تلك‬
‫األفضلية أيض ًا على أبناء العصر الحديث جميع ًا‪ ..‬عصر الكمبيوتر والتقنية المتطورة(((‪.‬‬

‫وال أظننا بحاجة للرد على أمثال تلك الترهات‪ ،‬والتي تكفي حكايتها وعرضها‬
‫لبيان فسادها‪ ،‬وتغني عن اإلطالة في إثبات بطالنها‪ ،‬وال أتصور بحال‪ :‬أن صاحب تلك‬
‫الدعوى العريضة ‪ -‬ومن يشبهه في المسلك ‪ -‬بقادر أص ً‬
‫ال على أن يفهم كتاب ًا من كتب‬
‫األئمة القدامى‪ ،‬فهم ًا صحيح ًا منضبط ًا‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن يؤلف مثله‪ :‬تحرير ًا‪ ،‬وتدقيق ًا‪،‬‬
‫وتأصي ً‬
‫ال‪ ،‬لكن هكذا تصنع النرجسية‪ ،‬واالنتفاخ المعرفي‪ ،‬وحب الظهور بأصحابها‪.‬‬

‫((( جمال البنا‪ :‬تجديد اإلسالم ص ‪.399‬‬

‫‪432‬‬
‫الخاتمة‬
‫الخاتمة‬

‫ولعل النتيجة الرئيسة‪ ،‬التي نريد التذكير بها في نهاية هذا البحث‪ :‬تتلخص في‬
‫أن االنحرافات العلمانية في التعامل مع أسباب النزول‪ ،‬ليست مجرد أخطاء عابرة‬
‫في تناول قضية علمية ما‪ ،‬وإنما هي انحراف جذري‪ ،‬وتطبيق لمنهج مغلوط‪ ،‬ورؤية‬
‫خاطئة منحرفة في التعامل مع المنهج اإلسالمي بجملته‪ ،‬بما في ذلك الموقف من‬
‫قضايا أساسية‪ ،‬ومحورية من أصول هذا الدين وثوابته‪ ،‬مثل‪ :‬التسليم بالوحي والنبوة‪،‬‬
‫واإليمان بأن القرآن كالم الله وليس كالم البشر‪ ،‬ووجوب تحكيم القرآن والسنة على‬
‫سائر المكلفين في كل زمان ومكان‪ ،‬واإلقرار بصحة منهج نقلهما‪ ،‬وقبول ما صح‬
‫من الحديث‪ ،‬والتسليم بحجية اإلجماع‪ ،‬والمنهجية األصولية في الفهم للنصوص‬
‫واالستنباط منها‪ ،‬وضرورة الرجوع إلى اللغة العربية وقوانينها‪ ،‬وطرائق الفهم لدى من‬
‫نزل عليهم القرآن‪.‬‬

‫وهدف العلمانيين من ذلك كله هو الوصول إلى ‪ -‬ما وصفه بعضهم ‪ -‬بمرحلة‬
‫التحرر الكامل من كل سلطة‪ ،‬بما في ذلك سلطة النصوص «وكل سلطة تعوق مسيرة‬
‫اإلنسان في عالمنا»(((‪ ،‬ويندرج في ذلك عندهم التحرر من «سلطة الماضي‪ ،‬وسلطة‬
‫الموروث‪ ،‬فال سلطان إال للعقل‪ ،‬وال سلطة إال لضرورة الواقع الذي نعيش فيه‪ ،‬وتحرير‬
‫وجداننا المعاصر من الخوف والرهبة‪ ،‬والطاعة للسلطة‪ ،‬سواء كانت الموروث‪ ،‬أو‬
‫سلطة المنقول‪ ،‬سواء كانت سلطة التقاليد‪ ،‬أم السلطة السياسية»(((‪.‬‬

‫وال يقتصر األمر على تلك الدعوة إلى التحرر من سلطة النصوص‪ ،‬وكل سلطة‬
‫تشابهها‪ ،‬والتخلي عن المنهجية اإلسالمية المنضبطة في فهم النصوص‪ ،‬بل بموازاة‬
‫ذلك‪ ،‬تتم الدعوة إلى إعادة النظر بالكلية في علومنا اإلسالمية‪ ،‬وكما يقول أحدهم فإننا‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬اإلمام الشافعي ص ‪.190‬‬


‫((( حسن حنفي‪ :‬التراث والتجديد ص ‪.52‬‬

‫‪435‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫«بحاجة ماسة إلى إعادة النظر بالثقافة الموروثة‪ ،‬وبما أن الفقه اإلسالمي‪ ،‬كما صاغه‬
‫لنا الفقهاء في القرنين الثاني والثالث الهجريين وكذلك علوم القرآن بحاجة ملحة إلى‬
‫إعادة النظر‪ ،‬وخاصة فيما يسمى بالثوابت واألصول‪ ،‬حيث نحن اليوم بحاجة ماسة إلى‬
‫إعادة تأصيل األصول نفسها»(((‪.‬‬

‫وبالطبع فإن إعادة النظر لن تقف عند حدود العلوم اإلسالمية فحسب‪ ،‬بل سوف‬
‫تمتد أيض ًا لثوابت الدين وعقائده وأحكامه‪ ،‬وفي ذلك يقول أركون‪« :‬فال بد أن نعيد‬
‫النظر في جميع العقائد‪ ،‬والسنن الدينية‪ ،‬عن طريق إعادة القراءة لما قدمه الخطاب‬
‫الديني عامة‪ ،‬والخطاب النبوي الخاص بأهل الكتاب من القصص»(((‪.‬‬

‫ومن المالحظ أيض ًا أن دعوة هؤالء العلمانيين إلى إعادة النظر في علومنا التليدة‬
‫قد صاحبها دعوة أخرى إلى استيراد بديل وافد‪ ،‬ومنهجية جديدة نفهم من خاللها‬
‫القرآن والسنة‪ ،‬ونعيد قراءة تراثنا بأسره‪.‬‬
‫وهكذا فإنه بد ً‬
‫ال من التعويل على فهم الصحابة والتابعين‪ ،‬وتأصيالت أئمة‬
‫الفقهاء والمحدثين والمفسرين واألصوليين واللغويين عبر تاريخ األمة الطويل‪ ،‬فإن‬
‫علماني ًا مثل نصر أبو زيد يبشرنا ببديل مستورد‪ ،‬وهو الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر‬
‫بعد تعديلها من خالل منظور ماركسي‪ ،‬لتكون نقطة بدء أصيلة في إعادة النظر في تراثنا‬
‫الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى اآلن(((‪.‬‬

‫وال تنحصر المسألة في الهرمنيوطيقا الجدلية وحدها عند نصر أبو زيد‪ ،‬بل تضاف‬
‫لها علوم أخرى‪ ،‬يجب على الباحثين المعاصرين األخذ بها إذا أرادوا فهم القرآن وتحليله‪،‬‬

‫((( محمد شحرور‪ :‬تجفيف منابع اإلرهاب ص ‪.304‬‬


‫((( محمد أركون‪ :‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص ‪.6‬‬
‫((( نصر أبو زيد‪ :‬إشكاليات القراءة وآليات التأويل ص ‪.49‬‬

‫‪436‬‬
‫الخاتمة‬

‫وبنص كالمه فإن «واجبنا كباحثين معاصرين أن نفيد من إنجازات المناهج الحديثة‬
‫المعاصرة في اللسانيات‪ ،‬وعلم تحليل الخطاب والسميولوجيا‪ ،‬وكل ما تقدمه من آليات‬
‫وإجراءات ناجزة لفهم القرآن وتحليله‪ .‬إن التخوف من هذه اإلنجازات‪ ،‬وتصور أنها‬
‫تمثل تهديد ًا لقداسة النص‪ ،‬إنما تعكس رقة في اإليمان‪ ،‬وضعف ًا في الثقة بالنفس»(((‪.‬‬

‫ويوسع محمد أركون هو اآلخر من دائرة العلوم الغربية الحديثة التي نحتاج‬
‫إليها لفهم النص الديني‪ ،‬لتشمل المنهجية التاريخية‪ ،‬والمنهجية السوسيولوجية‪،‬‬
‫والمنهجية األلسنية‪ ،‬والتي أدى غيابها إلى جهل ماليين المسلمين بحقيقة دينهم‪ ،‬ومن‬
‫ثم يذهب إلى أننا «بحاجة إلى استخدام المنهجية التاريخية‪ ،‬والمنهجية السوسيولوجية‬
‫(االجتماعية) والمنهجية األلسنية‪ ،‬وهي أشياء ال تزال مهملة من قبل المسلمين حتى‬
‫يومنا هذا‪ ،‬وبسبب هذا اإلهمال أو النقص المريع في الدراسات التاريخية للتراث‪ ،‬فإن‬
‫ماليين المسلمين يحملون صورة غير دقيقة‪ ،‬أو ذاتية جد ًا‪ ،‬أو تبجيلية عما حصل أي‬
‫عن المرحلة القرآنية والمراحل التي تلتها»(((‪.‬‬

‫وليست الحاجة لتلك العلوم المستوردة ‪ -‬عند أركون ‪ -‬ترف ًا يمكن تأجيله‪ ،‬وإنما‬
‫هي مهمة عاجلة ال بد من القيام بها‪ ،‬وتتمثل في «إعادة قراءة كل التراث اإلسالمي‬
‫على ضوء أحدث المناهج اللغوية‪ ،‬والتاريخية‪ ،‬والسوسيولوجية واألتربولوجية‪ ،‬أي‬
‫المقارنة مع بقية التراثات الدينية‪ ،‬وبخاصة ما حصل في الغرب المسيحي»(((‪.‬‬

‫وإذا كانت تلك الدعوات تصدق على شتى العلوم اإلسالمية‪ ،‬فإن موضوع بحثنا‬
‫هذا ‪ -‬وهو أسباب النزول ‪ -‬والذي هو بدوره فرع عن علوم القرآن‪ ،‬لم يخرج من هذا‬

‫((( نصر أبو زيد‪ :‬الخطاب والتأويل ص ‪.262‬‬


‫((( محمد أركون‪ :‬اإلسالم‪ ،‬أوربا‪ ،‬الغرب ص ‪.12‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬قضايا في نقد العقل الديني ص ‪.292‬‬

‫‪437‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫العموم‪ ،‬وقد أنهى أحد الحداثيين وهو بسام الجمل دراسته المطولة عن أسباب النزول‬
‫بتلك الدعوة التي ال يخفى مغزاها‪ ،‬حيث تمنى أن يكون بحثه حافز ًا لغيره‪ ،‬على مراجعة‬
‫سائر علوم القرآن مراجعة نقدية تفهمية في ضوء مكاسب المناهج الحديثة‪ ،‬وإعادة قراءتها‬
‫وفق رؤية جديدة أساسها تنسيب األحكام والموافق‪ ،‬واإلقرار بتاريخية المعرفة(((‪.‬‬

‫وخالصة األمر أن الفكر العلماني والحداثي قد أدرك أن أكبر العوائق لتبيئة‬


‫الحداثة والعلمانية الغربية في المجتمعات اإلسالمية‪ ،‬تكمن في األصول التي بها حفظ‬
‫اإلسالم شريعته‪ ،‬ومن ثم اتجه رأس ًا إليها‪ ،‬سعي ًا لتفكيك المنهجية المعرفية اإلسالمية‪،‬‬
‫وهدم بنائها‪ ،‬بمعول الفكر الغربي المعاصر‪ ،‬وذلك من خالل التأكيد على ظنية ثبوت‬
‫القرآن وحي ًا إلهي ًا‪ ،‬وما بني على هذا الوحي من أصول‪ ،‬إضافة لمحاولة إثبات تاريخية‬
‫تلك األصول‪ ،‬بمعنى أنه يستحيل أن تكون مطلقة متعالية عن تحكم الواقع المادي‬
‫التاريخي في تكوينها وإنتاجها(((‪.‬‬

‫وقد انطلق هؤالء العلمانيون من منطلقات فلسفية مادية وحداثية شتى‪ ،‬مثلت‬
‫األساس الفكري لرؤيتهم‪ ،‬وتعاملهم مع الدين بكل مشتمالته‪ ،‬لكنهم حاولوا قدر‬
‫اإلمكان أن يبحثوا عن مبررات ومسوغات وجسور‪ ،‬يعبرون من خاللها لتحقيق‬
‫أهدافهم‪ ،‬فجاء توظيفهم لعلوم ومفاهيم إسالمية‪ ،‬مثل‪ :‬أسباب النزول ‪ -‬التي تناولناها‬
‫بالتفصيل في دراستنا هذه ‪ -‬والناسخ والمنسوخ‪ ،‬والمكي والمدني‪ ،‬ومقاصد الشريعة‪،‬‬
‫وفكرة المصالح‪ ،‬وغيرها‪ ،‬ذر ًا للرماد في العيون‪ ،‬وتمويه ًا على أذهان القراء‪.‬‬

‫ومعنى ذلك بوضوح‪ ،‬أن الخطاب العلماني لم يكن يهدف من استخدامه‬


‫للمفاهيم اإلسالمية االنضواء تحت مبادئ اإلسالم وهدايته‪ ،‬وإنما كان مقصده التفلت‬

‫((( بسام الجمل‪ :‬أسباب النزول ص ‪.445‬‬


‫((( انظر‪ :‬د‪ .‬محمد بن حجر القرني‪ :‬موقف الفكر الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم ص ‪.6‬‬

‫‪438‬‬
‫الخاتمة‬

‫من المرجعية اإلسالمية‪ ،‬دون مجابهة صريحة لعقائد عموم المسلمين‪ ،‬من خالل‬
‫القيام «بتوظيف مفاهيم ذات أصول قرآنية‪ ،‬ولكن بعد تفريغها من مضامينها الحقيقية‪،‬‬
‫وحشوها بمضامين علمانية فكرانية حددت سلف ًا‪ ،‬وتؤدي هذه المفاهيم وظيفة‬
‫استئناسية للعقل اإلسالمي‪ ،‬ألنها مفاهيم مألوفة لديه‪ ،‬ومن داخل نسقه الألصولي‪،‬‬
‫وهو ما يبدد عن األفكار المستوردة التي ستسقط على القرآن الكريم باسمها كثير ًا من‬
‫غرابتها‪ ،‬وبذلك يكون الخطاب العلماني قد استدرج اإلسالميين لتقبل أطروحاته‪ ،‬أو‬
‫على األقل مهد األرضية الثقافية والفكرية لتقبلها في المستقبل»(((‪.‬‬

‫لكن يبقى سؤال أخير في غاية األهمية‪ ،‬وهو‪ :‬هل نجح العلمانيون في تحقيق‬
‫أهدافهم من وراء توظيف أسباب النزول‪ ،‬وغيرها من مسائل علوم القرآن‪ ،‬وهل‬
‫استطاعوا ترسيخ قيم العلمنة والحداثة في العالم اإلسالمي‪ ،‬بعد كل ما بذلوه من جهود‪.‬‬

‫والجواب ‪ -‬في رأيي ‪ -‬أنه على الرغم من اإلقرار بتأثر عدد من أبناء المسلمين‬
‫بتلك األفكار ‪ -‬وال سيما في دائرة النخب المثقفة ثقافة غربية ‪ -‬فإن المحصلة النهائية‬
‫هي عدم نجاح العلمانيين في تحقيق أهدافهم وآمالهم العريضة‪ ،‬وإخفاقهم البين في‬
‫تحصيل ثمرة توازي ما بذلوه من جهود حثيثة خالل عدة عقود‪.‬‬

‫ولعل عنوان كتاب هاشم صالح «االنسداد التاريخي‪ .‬لماذا فشل مشروع التنوير‬
‫في العالم العربي»((( يدل على ذلك بوضوح‪ ،‬كما أننا نجد رج ً‬
‫ال مثل محمد عابد‬
‫الجابري يخلص «من خالل معطيات عديدة ومتنوعة‪ ،‬أن الخطاب العربي الحديث‬
‫والمعاصر لم يسجل أي تقدم حقيقي في أي قضية من قضاياه‪ ،‬منذ أن ظهر كخطاب‬
‫يبشر بالنهضة ويدعو إليها‪ ،‬انطالق ًا من أواسط القرن الماضي‪ ،‬لقد بقي هذا الخطاب‬
‫((( د‪ .‬أحمد الطعان‪ :‬العلمانيون والقرآن الكريم ص ‪.595‬‬
‫((( انظر‪ :‬هاشم صالح‪ :‬االنسداد التاريخي‪ .‬لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي‪ ،‬دار الساقي‪،‬‬
‫بيروت‪2011 ،‬م‪.‬‬

‫‪439‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫طوال هذه الفترة‪ ،‬وما زال إلى اليوم‪ ،‬سجين بدائل‪ ،‬يدور في حلقة مفرغة‪ ،‬ال يتقدم إال‬
‫ليعود القهقرى»(((‪.‬‬

‫ومن الشواهد األخرى أيض ًا اعترافات مبثوثة في كتابات نفر من العلمانيين‪،‬‬


‫تشي بتلك الحسرة والمرارة التي القوها في أواخر حياتهم‪ ،‬ويكفي أن نضرب مثا ً‬
‫ال‬
‫لذلك بمحمد أركون‪ ،‬وهو رجل عاش في الغرب‪ ،‬وبذل كل جهد ممكن لنيل رضاه‪،‬‬
‫والظهور بمظهر المفكر العقالني الحداثي الناقد بقوة لإلسالم وثوابته‪ ،‬ومع ذلك‬
‫كله فقد فوجئ بعد نحو عشرة كتب‪ ،‬وربع قرن من النشاط التأليفي بفشله في المهمة‬
‫األساسية التي نذر نفسه لها‪ ،‬كوسيط بين الفكر اإلسالمي والفكر الغربي‪ ،‬بل إنه عجز‬
‫عن تغيير نظرة الغربيين إليه هو نفسه(((‪ ،‬فقال في اعتراف مهم‪« :‬في ردي على أحد‬
‫األسئلة‪ ،‬عبرت عن استيائي وإحباطي‪ ،‬بسبب الموقف السلبي الدائم الذي يقفه القراء‬
‫والسامعون األوربيون الذين أتيح لي أن أناقشهم من المسائل اإلسالمية وما أكثرهم‪،‬‬
‫فعلى الرغم من أني أحد الباحثين المسلمين‪ ،‬المعتنقين للمنهج العلمي والراديكالي‬
‫للظاهرة الدينية‪ ،‬إال أنهم يستمرون في النظر إلي‪ ،‬وكأني مسلم تقليدي»(((‪.‬‬

‫{ك َذل َِك َي ْض ِر ُب ال َّل ُه ا ْل َح َّق َوا ْل َباطِ َل َف َأ َّما َّ‬


‫الز َب ُد‬ ‫وصدق الله سبحانه‪ ،‬القائل في كتابه الكريم‪َ :‬‬
‫ال ْم َث َال} [الرعد‪.]17 :‬‬ ‫ال ْر ِض َك َذل َِك َي ْض ِر ُب ال َّل ُه ْ َ‬ ‫َف َي ْذ َه ُب ُجفَا ًء َو َأ َّما َما َي ْنف َُع ال َّن َ‬
‫اس َف َي ْم ُك ُث فِي ْ َ‬

‫وصلى الله على نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه وسلم تسليم ًا كثير ًا‪ ،‬والحمد لله‬
‫أو ً‬
‫ال وآخر ًا‪.‬‬

‫((( محمد عابد الجابري‪ :‬إشكاليات الفكر العربي المعاصر ص ‪.55‬‬


‫((( انظر‪ :‬محمد أركون‪ :‬اإلسالم‪ ،‬أوروبا‪ ،‬الغرب‪ ،‬رهانات المعنى وإرادات الهيمنة ص ‪ ،45‬وجورج‬
‫طرابيشي‪ :‬من النهضة إلى الردة تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة ص ‪.134‬‬
‫((( محمد أركون‪ :‬اإلسالم‪ ،‬أوروبا‪ ،‬الغرب‪ ،‬رهانات المعنى وإرادات الهيمنة ص ‪.45‬‬

‫‪440‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫د‪ .‬إبراهيم أبو هادي‬

‫‪ -‬نصر أبو زيد ومنهجه في التعامل مع التراث‪ ،‬دراسة تحليلية نقدية‪ ،‬رسالة‬
‫دكتوراه بجامعة أم القرى‪1433 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫إبراهيم بن عمر السكران‬

‫‪ -‬التأويل الحداثي للتراث‪ ،‬التقنيات واالستمداد‪ ،‬دار الحضارة للنشر والتوزيع‪،‬‬


‫الرياض‪ ،‬الطبعة األولى‪1435 ،‬ﻫ ‪2014 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬سلطة الثقافة الغالبة‪ ،‬دار الحضارة للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1435‬ﻫ ‪2014-‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مآالت الخطاب المدني‪ ،‬مركز الفكر المعاصر‪ ،‬الطبعة األولى‪1435 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫إبراهيم فوزي‬

‫‪ -‬تدوين السنة‪ ،‬رياض الريس للكتب والنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪1994 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬أحمد إدريس الطعان‬

‫‪ -‬العلمانيون والقرآن الكريم‪ ،‬تاريخية النص‪ ،‬مكتبة ودار ابن حزم‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪1428 ،‬ﻫ ‪2007 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬أحمد الطيب‬

‫‪ -‬التراث والتجديد‪ ،‬مناقشات وردود‪ ،‬بحث بحولية كلية الشريعة والقانون‬


‫والدراسات اإلسالمية‪ ،‬جامعة قطر‪ ،‬العدد الحادي عشر‪1414 ،‬ﻫ ‪1993 -‬م‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫أحمد عباس صالح‬

‫‪ -‬اليمين واليسار في اإلسالم‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫الطبعة الثانية‪1972 ،‬م‪.‬‬

‫أحمد قوشتي عبد الرحيم‬

‫‪ -‬الدليل النقلي في الفكر الكالمي بين الحجية والتوظيف‪ ،‬الجمعية العلمية‬


‫السعودية للدراسات الفكرية المعاصرة‪ ،‬الطبعة األولى‪1435 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫‪ -‬مناهج االستدالل على مسائل العقيدة اإلسالمية في العصر الحديث‪ ،‬مصر‬


‫نموذج ًا‪ ،‬مركز التأصيل للدراسات والبحوث‪ ،‬الطبعة األولى‪1433 ،‬ﻫ ‪2012 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مبدأ التقية بين أهل السنة والشيعة اإلمامية‪ ،‬مركز التأصيل للدراسات والبحوث‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪1435 ،‬ﻫ ‪2014 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬موقف االتجاه الحداثي من اإلمام الشافعي‪ ،‬عرض ونقد‪ ،‬مركز التأصيل‬


‫للدراسات والبحوث‪ ،‬الطبعة األولى‪1437 ،‬ﻫ ‪2016 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬أحمد محمد الفاضل‬

‫‪ -‬االتجاه العلماني المعاصر في علوم القرآن الكريم‪ ،‬دراسة ونقد‪ ،‬مركز الناقد‬
‫الثقافي‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬أحمد وطبان الجنابي‬

‫‪ -‬افتراءات العشماوي في كتابه الخالفة اإلسالمية‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫لبنان‪2007 ،‬م‪.‬‬

‫‪444‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫احميدة النيفرة‬

‫‪ -‬اإلنسان والقرآن وجه ًا لوجه‪ ،‬دار الفكر دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪1421 ،‬ﻫ‬
‫‪2000-‬م‪.‬‬

‫أدونيس‬

‫‪ -‬الثابت والمتحول‪ ،‬بحث في اإلبداع واالتباع عند العرب‪ ،‬الجزء األول‬


‫األصول‪ ،‬دار الساقي بيروت‪ ،‬الطبعة السابعة ‪1994‬م‪ ،‬والكتاب الثاني‪ ،‬دار العودة‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪1979 ،‬م‪ ،‬والثالث‪ :‬صدمة الحداثة‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪1978 ،‬م‪.‬‬

‫آالن وبربارا بييز‬

‫‪ -‬المرجع األكيد في لغة الجسد‪ ،‬مكتبة جرير‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫آالن تورين‬

‫‪ -‬نقد الحداثة‪ ،‬ترجمة أنور مغيث‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪1997 ،‬م‪.‬‬

‫بيتر بروكر‬

‫‪ -‬الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬ترجمة د‪ .‬عبد الوهاب علوب‪ ،‬منشورات المجمع‬
‫الثقافي‪ ،‬أبو ظبي‪ ،‬الطبعة األولى‪1995 ،‬م‪.‬‬

‫ابن تيمية‬

‫‪ -‬مقدمة في أصول التفسير‪ ،‬اعتنى به‪ ،‬فواز أحمد زمرلي‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪1414 ،‬ﻫ ‪1994 -‬م‪.‬‬

‫‪445‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫‪ -‬مجموع الفتاوى‪ ،‬مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف‪ ،‬المدينة‬


‫النبوية‪1416 ،‬هـ‪1995-‬م‪.‬‬

‫‪ -‬درء تعارض النقل والعقل‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محمد رشاد سالم‪ ،‬جامعة اإلمام محمد‬
‫بن سعود اإلسالمية‪ ،‬الطبعة الثانية‪1411 ،‬هـ ‪1991 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬منهاج السنة النبوية في نقض كالم الشيعة القدرية‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محمد رشاد سالم‪،‬‬
‫جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية‪ ،‬الطبعة األولى‪1406 ،‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الصفدية‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محمد رشاد سالم‪ ،‬مكتبة ابن تيمية‪ ،‬الطبعة الثانية‪1406 ،‬هـ‪.‬‬

‫جمال البنا‬

‫‪ -‬نظرية العدل في الفكر األوروبي والفكر اإلسالمي‪ ،‬دار الفكر اإلسالمي‪،‬‬


‫القاهرة‪1995 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬تثوير القرآن‪ ،‬كتب عربية‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫‪ -‬النسخ في القرآن‪ ،‬تفنيد دعوى النسخ في القرآن الكريم‪ ،‬كتب عربية‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫‪ -‬نحو فقه جديد‪ ،‬كتب عربية‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫‪ -‬تفسير القرآن بين القدامى والمحدثين‪ ،‬كتب عربية‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫‪ -‬تجديد اإلسالم‪ ،‬وإعادة تأسيس منظومة المعرفة اإلسالمية‪ ،‬كتب عربية‪ ،‬بدون‬
‫تاريخ‪.‬‬

‫جورج طرابيشي‬

‫‪ -‬ازدواجية العقل‪ ،‬دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي‪ ،‬دار بترا للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪.2005 ،‬‬

‫‪446‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ -‬من إسالم القرآن إلى إسالم الحديث‪ ،‬دار الساقي بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪2010 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬هرطقات‪ ،2‬دار الساقي‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬من النهضة إلى الردة تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة‪ ،‬دار الساقي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪2000 ،‬م‪.‬‬

‫الجيالني مفتاح‪.‬‬

‫‪ -‬الحداثيون العرب في العقود الثالثة األخيرة والقرآن الكريم دراسة نقدية‪ ،‬دار‬
‫النهضة للطباعة والنشر‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪1427 ،‬ﻫ ‪2006 -‬م‪.‬‬

‫ابن حجر العسقالني‬

‫‪ -‬العجاب في بيان األسباب‪ ،‬تحقيق عبد الحكيم محمد األنيس‪ ،‬دار ابن الجوزي‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪1418 ،‬ﻫ ‪1997 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬حسن األسمري‬

‫‪ -‬الفلسفة والنص‪ ،‬الوحي في دراسات الفلسفة العربية المعاصرة‪ ،‬مركز الفكر‬


‫المعاصر‪ ،‬الطبعة األولى‪1435 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫د‪ .‬حسن حنفي‬

‫‪ -‬حوار األجيال‪ ،‬دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع‪1998 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬التراث والتجديد‪ ،‬موقفنا من التراث القديم‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات‬


‫والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الرابعة‪1992 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬من العقيدة إلى الثورة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ودار التنوير للطباعة والنشر‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪1998 ،‬م‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫‪ -‬الدين والثورة في مصر‪ ،‬ج ‪ ،7‬اليمين واليسار في الفكر الديني‪ ،‬مكتبة مدبولي‪،‬‬
‫القاهرة‪1989 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الدين والثورة في مصر‪ ،‬ج ‪ ،8‬اليسار اإلسالمي والوحدة الوطنية‪ ،‬كتب عربية‪،‬‬
‫بدون تاريخ‪.‬‬

‫‪ -‬اليمين واليسار في الفكر الديني‪ ،‬منشورات دار عالء الدين‪ ،‬دمشق‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬من النقل إلى العقل‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬علوم القرآن من المحمول إلى الحامل‪،‬‬
‫الهيئة المصرية العامة للكتاب‪2014 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬خالد السيف‬

‫‪ -‬ظاهرة التأويل الحديثة في الفكر العربي المعاصر‪ ،‬دراسة نقدية إسالمية‪ ،‬مركز‬
‫التأصيل للدراسات والبحوث‪ ،‬الطبعة األولى‪1431 ،‬ﻫ ‪2010 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬خالد بن سليمان المزيني‬

‫‪ -‬المحرر في أسباب نزول القرآن من خالل الكتب التسعة‪ ،‬دراسة األسباب‪،‬‬


‫رواية ودراية‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬الطبعة األولى‪ 1427 ،‬هـ ‪2006 -‬م‪.‬‬

‫خليل عبد الكريم‬

‫‪ -‬فترة التكوين في حياة الصادق األمين‪ ،‬دار مصر المحروسة‪ ،‬القاهرة‪2004 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬األسس الفكرية لليسار اإلسالمي ضمن األعمال الكاملة‪ ،‬دار مصر المحروسة‪،‬‬
‫القاهرة‪2004 ،‬م‪.‬‬

‫خوجة كمال الدين‬

‫‪ -‬المثل األعلى في األنبياء‪ ،‬عربه أمين محمود الشريف‪ ،‬وقدم له اللورد هدلي‪،‬‬

‫‪448‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫دار الفكر المعاصر‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪1409 ،‬ﻫ ‪1989 -‬م‪.‬‬

‫الدسوقي السيد الدسوقي‬

‫‪ -‬استقالل الفقه اإلسالمي عن القانون الروماني‪ ،‬والرد على شبه المستشرقين‪،‬‬


‫مكتبة التوعية اإلسالمية‪ ،‬الطبعة األولى‪1410 ،‬ﻫ ‪1989 -‬م‪.‬‬

‫الدهلوي‬

‫‪ -‬الفوز الكبير في أصول التفسير‪ ،‬عربه من الفارسية‪ :‬سلمان الحسيني ال َّندوي‪،‬‬


‫دار الصحوة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1407 ،‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬

‫الذهبي‬

‫‪ -‬سير أعالم النبالء‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1405 ،‬هـ ‪1985 -‬م‪.‬‬

‫رايموند ويليامز‬

‫‪ -‬طرائق الحداثة‪ ،‬ضد المتوائمين الجدد‪ ،‬ترجمة فاروق عبد القادر‪ ،‬سلسلة عالم‬
‫المعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،246‬يونيو‪1999 ،‬م‪.‬‬

‫روجيه جارودي‬

‫‪ -‬األصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها‪ ،‬تعريب الدكتور خليل أحمد خليل‪،‬‬


‫دار عام ألفين‪ ،‬باريس‪2000 ،‬م‪.‬‬

‫الزركشي‬

‫‪ -‬البحر المحيط‪ ،‬دار الكتبي‪ ،‬الطبعة األولى‪1414 ،‬هـ ‪1994 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬البرهان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار‬
‫إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركائه‪1376 ،‬هـ ‪1957 -‬م‪.‬‬

‫‪449‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫زكريا أوزون‬

‫‪ -‬جناية الشافعي‪ ،‬تخليص األمة من فقه األئمة‪ ،‬رياض الريس للكتب والنشر‪2005 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬جناية البخاري‪ ،‬إنقاذ الدين من إمام المحدثين‪ ،‬رياض الريس للكتب والنشر‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪2004 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬ساسي سالم الحاج‬

‫‪ -‬نقد الخطاب االستشراقي‪ ،‬الظاهرة االستشراقية وأثرها في الدراسات‬


‫اإلسالمية‪ ،‬دار المدار اإلسالمي‪ ،‬الطبعة األولى‪2002 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الظاهرة االستشراقية وأثرها على الدراسات اإلسالمية‪ ،‬مركز دراسات العالم‬


‫اإلسالم‪1991 ،‬م‪.‬‬

‫سامر اإلسالمبولي‬

‫‪ -‬ظاهرة النص القرآني‪ ،‬تاريخ ومعاصرة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫د‪ .‬سامي عصاصة‬

‫‪ -‬رد على حاقد آخر على اإلسالم‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪2004 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬سعد بن بجاد العتيبي‬

‫‪ -‬موقف االتجاه العقالني اإلسالمي المعاصر من النص الشرعي‪ ،‬مركز الفكر‬


‫المعاصر‪ ،‬الطبعة الثانية‪1434 ،‬ﻫ ‪2013 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬سعد المرصفي‪:‬‬

‫‪ -‬المستشرقون والسنة‪ ،‬مكتبة المنارة اإلسالمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬ومؤسسة الريان‪،‬‬


‫بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫د‪ .‬سعيد النكر‬

‫‪ -‬سؤال المعاصرة والشرعية في قراءة النص الديني‪ ،‬دار السالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى ‪1434‬ﻫ ‪2013 -‬م‪.‬‬

‫سعيد ناشيد‬

‫‪ -‬الحداثة والقرآن‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪2015 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬قلق في العقيدة‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬ورابطة العقالنيين العرب‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪2011 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬سعيد بن ناصر الغامدي‬

‫‪ -‬االنحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها‪ ،‬دار األندلس الخضراء‪ ،‬جدة‪،‬‬


‫الطبعة األولى‪1424 ،‬ﻫ ‪2003 -‬م‪.‬‬

‫سلطان بن عبد الرحمن العميري‬

‫‪ -‬التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي‪ ،‬مركز التأصيل للدراسات‬


‫والبحوث‪ ،‬الطبعة األولى‪1431 ،‬ﻫ ‪2010 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬فضاءات الحرية‪ ،‬بحث في مفهوم الحرية في اإلسالم‪ ،‬وفلسفتها‪ ،‬وأبعادها‬


‫وحدودها‪ ،‬المركز العربي للدراسات اإلنسانية‪2013 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬سليمان بن صالح الغصن‬

‫إعادة قراءة النص الشرعي واستهدافه في الفكر العربي المعاصر‪ ،‬دار كنوز إشبيليا‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪1437 ،‬ﻫ ‪2016 -‬م‪.‬‬

‫‪451‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫د‪ .‬سليمان محمد الدقور‬

‫‪ -‬منهج التعامل مع النص القرآني حسب ترتيب النزول‪ ،‬قراءة في كتاب الجابري‬
‫«فهم القرآن الحكيم» ضمن مؤتمر التعامل مع النصوص الشرعية (الكتاب والسنة)‬
‫الذي أقامته كلية الشريعة بالجامعة األردنية من ‪2008/11/ 6- 4‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬السيد رزق الطويل‬

‫‪ -‬مدخل في علوم القراءات‪ ،‬المكتبة الفيصلية‪ ،‬الطبعة األولى‪1405 ،‬هـ ‪-‬‬


‫‪1985‬م‪.‬‬

‫سيد القمني‬

‫‪ -‬الحزب الهاشمي‪ ،‬طبعة مكتبة مدبولي‪ ،‬الطبعة الرابعة‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬شكر ًا بن الدن‪ ،‬دار مصر المحروسة‪ ،‬الطبعة األولى‪2004 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الفاشيون والوطن‪ ،‬المركز المصري لبحوث الحضارة‪ ،‬الطبعة األولى‪1999 ،‬م‪.‬‬

‫السيوطي‬

‫‪ -‬اإلتقان في علوم القرآن تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪1394 ،‬هـ ‪1974 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬لباب النقول في أسباب النزول‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬

‫شاكير أحمد السحمودي‬

‫‪ -‬مناهج الفكر العربي المعاصر في دراسة قضايا العقيدة والتراث‪ ،‬مركز التأصيل‬
‫للدراسات والبحوث‪ ،‬الطبعة األولى‪1431 ،‬ﻫ ‪2010 -‬م‪.‬‬

‫‪452‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫د‪ .‬شعبان محمد إسماعيل‬

‫‪ -‬القراءات أحكامها ومصدرها‪ ،‬سلسلة دعوة الحق‪ ،‬السنة الثانية‪1402 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫الشيخ بن جمعة سهل‬

‫‪ -‬أسباب النزول أسانيدها وأثرها في التفسير‪ ،‬رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى‪،‬‬


‫‪1403‬ﻫ ‪1982-‬م‪.‬‬

‫الصادق النيهوم‬

‫‪ -‬محنة ثقافة مزورة‪ ،‬صوت الناس أم صوت الفقهاء‪ ،‬رياض الريس للكتب‬
‫والنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬صالح الدميجي‬

‫‪ -‬موقف الليبرالية في البالد العربية من محكمات الدين‪ ،‬مجلة البيان‪ ،‬الرياض‪،‬‬


‫الطبعة األولى‪1433 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫د‪ .‬صبحي الصالح‬

‫‪ -‬مباحث في علوم القرآن‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬الطبعة الرابعة والعشرون‪،‬‬


‫‪2000‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬صوفي أبو طالب‬

‫‪ -‬بين الشريعة اإلسالمية والقانون الروماني‪ ،‬دراسة وتقديم د‪ .‬محمد عمارة‪،‬‬


‫هدية مجلة األزهر‪ ،‬في ذي القعدة ‪1434‬ﻫ‪.‬‬

‫الطاهر بن عاشور‬

‫‪ -‬التحرير والتنوير‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس‪1984 ،‬م‪.‬‬

‫‪453‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫د‪ .‬طه حسين‬

‫‪ -‬في الشعر الجاهلي‪ ،‬طبعة مجلة القاهرة‪ ،‬عدد أبريل ‪1995‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬طه عبد الرحمن‬

‫‪ -‬روح الحداثة‪ ،‬المدخل إلى تأسيس الحداثة اإلسالمية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪2006 ،‬م‪.‬‬

‫طيب تيزيني‬

‫‪ -‬النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة‪ ،‬دار الينابيع‪ ،‬دمشق‪1997 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬اإلسالم والعصر‪ ،‬تحديات وآفاق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الرابعة‪2010 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬عادل الشدي‬

‫‪ -‬االتجاهات المنحرفة في التفسير في العصر الحديث‪ ،‬مدار الوطن للنشر‪،‬‬


‫الطبعة األولى‪1431 ،‬ﻫ ‪2010 -‬م‪.‬‬

‫عادل ضاهر‬

‫‪ -‬األسس الفلسفية للعلمانية‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪1998 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الالمعقول في الحركات اإلسالمية المعاصرة‪ ،‬بدايات‪ ،‬سوريا‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬عادل مصطفى‬

‫‪ -‬فهم الفهم مدخل إلى الهرمنيوطيقا‪ ،‬نظرية التأويل من أفالطون إلى جادامر‪،‬‬
‫رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األولى‪2007 ،‬م‪.‬‬

‫‪454‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫عبد اإلله بلقزيز‬

‫‪ -‬العرب والحداثة ‪ ،3‬نقد التراث‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪2014‬م‪.‬‬

‫عبد الله بن حمد المنصور‬

‫‪ -‬مشكل القرآن الكريم‪ ،‬بحث حول استشكال المفسرين آيات القرآن الكريم‪،‬‬
‫أسبابه وأنواعه وطرق دفعه‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬الطبعة األولى‪1426 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫عبد الله طاهر محمود‬

‫‪ -‬معرفة أسباب النزول وأثرها في اختالف المفسرين والفقهاء‪ ،‬رسالة ماجستير‬


‫بجامعة النجاح الوطنية‪ ،‬نابلس‪ ،‬فلسطين‪1424 ،‬ﻫ ‪2003 -‬م‪.‬‬

‫عبد الله العجيري‬

‫‪ -‬ينبوع الغواية الفكرية‪ ،‬غلبة المزاج الليبرالي وأثره في تشكيل الفكر والتصورات‪،‬‬
‫مركز البيان للدراسات والبحوث‪ ،‬الطبعة األولى‪1434 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد الله القرني‬

‫‪ -‬األساس الفلسفي للتاريخية‪ ،‬وأثره على الموقف من ثبوت الوحي في الفكر‬


‫الحداثي العربي‪ ،‬بحث مقدم للندوة العلمية التي تقيمها الرابطة المحمدية بالمملكة‬
‫المغربية‪ 10 ،9 ،‬يونيو ‪2015‬م‪.‬‬

‫عبد الجواد يس‬

‫‪ -‬الدين والتدين‪ ،‬التشريع والنص واالجتماع‪ ،‬التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪،‬‬


‫لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪2012 ،‬م‪.‬‬

‫‪455‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫‪ -‬السلطة في اإلسالم‪ ،‬العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬الطبعة الثانية‪2000 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد الرحمن البدوي‬

‫‪ -‬من تاريخ اإللحاد في اإلسالم‪ ،‬سينا للنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪1993 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬موسوعة المستشرقين‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1984 ،‬م‪.‬‬

‫عبد السالم البسيوني‬

‫‪ -‬اليسار اإلسالمي‪ ،‬خنجر في ظهر اإلسالم‪ ،‬مكتبة األقصى‪ ،‬الدوحة‪ ،‬قطر‪،‬‬


‫الطبعة األولى‪1410 ،‬ﻫ ‪1990-‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد الصبور شاهين‬

‫‪ -‬تاريخ القرآن‪ ،‬نهضة مصر للطباعة والنشر‪ ،‬الطبعة الثالثة‪2007 ،‬م‪.‬‬

‫عبد العزيز البدري‬

‫‪ -‬اإلسالم بين العلماء والحكام‪ ،‬المكتبة العلمية‪ ،‬المدينة المنورة‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد العزيز بن عبد الرحمن الضامر‬

‫‪ -‬تنزيل اآليات على الواقع عند المفسرين دراسة وتطبيق‪ ،‬جائزة دبي الدولية‬
‫للقرآن الكريم‪ ،‬الطبعة األولى‪1428 ،‬ﻫ ‪2007 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد القهار العاني‬

‫‪ -‬االستشراق والدراسات اإلسالمية‪ ،‬دار الفرقان للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬


‫‪1421‬ﻫ ‪2001-‬م‪.‬‬

‫‪456‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫د‪ .‬عبد الكريم النملة‬

‫‪ -‬المهذب في علم أصول الفقه المقارن‪ ،‬مكتبة الرشد ‪ -‬الرياض‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1420‬هـ ‪1999 -‬م‪.‬‬

‫عبد المجيد الشرفي‬

‫‪ -‬لبنات‪ ،‬دار الجنوب للنشر‪ ،‬تونس‪1994 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬اإلسالم والحداثة‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪1991 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬في قراءة النص الديني‪ ،‬عبد المجيد الشرفي وآخرون‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪1990 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪2001 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مرجعيات اإلسالم السياسي‪ ،‬التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬


‫‪2014‬م‪.‬‬

‫‪ -‬تحديث الفكر اإلسالمي‪ ،‬دار المدار اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الثانية‪2009 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد المجيد النجار‬

‫‪ -‬القراءة الجديدة للنص الديني عرض ونقد‪ ،‬مجلة مجمع الفقه اإلسالمي‬
‫الدولي‪ ،‬الدورة السادسة عشرة‪ ،‬العدد السادس عشر‪1426 ،‬ﻫ ‪2005 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬عبد المنعم القيعي‬

‫‪ -‬األصالن في علوم القرآن‪ ،‬الطبعة الرابعة‪1417 ،‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬

‫‪457‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫عبد الهادي عبد الرحمن‪:‬‬

‫‪ -‬سلطة النص الديني قراءات في توظيف النص الديني‪ ،‬سينا للنشر ومؤسسة‬
‫االنتشار العربي‪ ،‬الطبعة األولى‪1998 ،‬م‪.‬‬

‫عبد الولي الشلفي‬

‫‪ -‬القراءات المعاصرة والفقه اإلسالمي‪ ،‬مقدمات في الخطاب والمنهج‪ ،‬مركز‬


‫نماء للبحوث والدراسات‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪2013 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬د‪ .‬عبد الوهاب المسيري‬

‫‪ -‬دراسات معرفية في الحداثة الغربية‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية‪ ،‬الطبعة األولى‬


‫‪1427‬ﻫ ‪2006 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬العلمانية الجزئية‪ ،‬العلمانية الشاملة‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة األولى‪1423 ،‬ﻫ ‪-‬‬
‫‪2002‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬عدنان أمامة‬

‫‪ -‬التجديد في الفكر اإلسالمي‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬الطبعة األولى‪1424 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫ابن عقيلة المكي‬

‫‪ -‬الزيادة واإلحسان في علوم القرآن‪ ،‬مركز البحوث والدراسات‪ ،‬جامعة الشارقة‪،‬‬


‫الطبعة األولى‪1427 ،‬ﻫ ‪2006 -‬م‪.‬‬

‫علي أومليل‬

‫‪ -‬في شرعية االختالف‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1993‬م‪.‬‬

‫‪458‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫علي حرب‬

‫‪ -‬نقد النص‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الطبعة الرابعة‪2005 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬نقد الحقيقة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الطبعة األولى‪1993 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬التأويل والحقيقة‪ ،‬قراءات تأويلية في الثقافة العربية‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫‪2007‬م‪.‬‬

‫‪ -‬هكذا أقرأ ما بعد التفكيك‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪2005‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬علي سامي النشار‬

‫‪ -‬مناهج البحث عند مفكري اإلسالم‪ ،‬دار النهضة العربية للطباعة والنشر‪،‬‬
‫بيروت‪1404 ،‬ﻫ ‪1984 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬علي عبد الفتاح‬

‫‪ -‬الحداثة وأثرها في تأويل النص القرآني في الثقافة العربية‪ ،‬رسالة دكتوراه بكلية‬
‫دار العلوم‪ ،‬جامعة القاهرة‪1435 ،‬ﻫ ‪2014 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬علي مبروك‬

‫‪ -‬النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ‪ ،‬محاولة في إعادة بناء العقائد‪ ،‬دار‬
‫التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1993 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬ما وراء تأسيس األصول‪ ،‬مساهمة في نزع أقنعة التقديس‪ ،‬رؤية للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪2007 ،‬م‪.‬‬

‫‪459‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫د‪ .‬عماد الدين الرشيد‬

‫‪ -‬أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص‪ ،‬دراسة مقارنة بين أصول التفسير‬
‫وأصول الفقه‪ ،‬دار الشهاب‪1420 ،‬ﻫ ‪1999-‬م‪.‬‬

‫غازي الشمري‬

‫‪ -‬االتجاه العلماني المعاصر في دراسة السنة النبوية‪ ،‬دراسة نقدية‪ ،‬دار النوادر‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪1432 ،‬ﻫ ‪2012 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬غانم القدوري‬

‫‪ -‬محاضرات في علوم القرآن‪ ،‬دار عمار للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪1423 ،‬ﻫ ‪2003 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬فضل حسن عباس‬

‫‪ -‬إتقان البرهان في علوم القرآن‪ ،‬دار الفرقان‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1997‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬فهد بن محمد القرشي‬

‫‪ -‬منهج حسن حنفي دراسة تحليلية نقدية‪ ،‬البيان‪ ،‬الطبعة األولى‪1434 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫‪ -‬القراءة التأويلية عند حسن حنفي‪ ،‬بحث بمجلة التأصيل‪ ،‬العدد الثالث‪،‬‬
‫‪1432‬ﻫ‪.‬‬

‫فهمي جدعان‬

‫‪ -‬الماضي في الحاضر‪ ،‬دراسات في تشكالت ومسالك التجربة الفكرية العربية‪،‬‬


‫المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬الطبعة األولى‪1997 ،‬م‪.‬‬

‫‪460‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ -‬أسس التقدم عند مفكري اإلسالم‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1988 ،‬م‪.‬‬

‫قاسم شعيب‬

‫‪ -‬فتنة الحداثة‪ ،‬صورة اإلسالم لدى الوضعيين العرب‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬
‫الطبعة األولى ‪2013‬م‪.‬‬

‫ابن قتيبة‬

‫‪ -‬تأويل مشكل القرآن‪ ،‬شرحه ونشره‪ ،‬السيد أحمد صقر‪ ،‬دار التراث‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪1393 ،‬ﻫ ‪1973 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬قطب الريسوني‬

‫‪ -‬النص القرآني من تهافت القراءة إلى أفق التدبر‪ ،‬منشورات وزارة األوقاف‬
‫والشؤون اإلسالمية‪ ،‬المملكة المغربية‪ ،‬الطبعة األولى‪1431 ،‬ﻫ ‪2010 -‬م‪.‬‬

‫الكندي‬

‫‪ -‬رسائل الكندي الفلسفية‪ ،‬تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة‪ ،‬دار الفكر العربي‪،‬‬
‫‪1369‬ﻫ ‪1950-‬م‪.‬‬

‫ماجد األسمري‬

‫‪ -‬العلمانيون والنبوة‪ ،‬أبعاد التحريف العلماني لمقامات النبوة‪ ،‬تكوين للدراسات‬


‫واألبحاث‪ ،‬الطبعة األولى‪1436 ،‬ﻫ ‪2015 -‬م‪.‬‬

‫محمد أبو القاسم حاج محمد‬

‫‪ -‬منهجية القرآن المعرفية‪ ،‬أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية واإلنسانية‪ ،‬دار الهادي‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1424 ،‬ﻫ ‪2003 -‬م‪.‬‬

‫‪461‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫محمد أحمد خلف الله‬

‫‪ -‬الفن القصصي في القرآن الكريم‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1965 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬القرآن نظرة عصرية جديدة‪ ،‬بيروت‪1972 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد أديب صالح‬

‫‪ -‬تفسير النصوص في الفقه اإلسالمي‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الرابعة‪،‬‬


‫‪1413‬ﻫ ‪1993 -‬م‪.‬‬

‫محمد أركون‬

‫‪ -‬تاريخية الفكر العربي اإلسالمي‪ ،‬ترجمة هاشم صالح‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الفكر األصولي واستحالة التأصيل‪ ،‬ترجمة هاشم صالح‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪1999 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الفكر اإلسالمي قراءة علمية ترجمة هاشم صالح‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪1996 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الفكر اإلسالمي‪ ،‬نقد واجتهاد‪ ،‬ترجمة هاشم صالح‪ ،‬المؤسسة الوطنية للكتاب‪،‬‬
‫الجزائر‪.‬‬

‫‪ -‬القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني‪ ،‬ترجمة هاشم صالح‪،‬‬
‫دار الطليعة بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪2005 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬من االجتهاد إلى نقد العقل اإلسالمي‪ ،‬ترجمة هاشم صالح‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪1991 ،‬م‪.‬‬

‫‪462‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ -‬نزعة األنسنة في الفكر العربي‪ ،‬ترجمة هاشم صالح‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1997‬م‪.‬‬

‫‪ -‬اإلسالم‪ ،‬أوروبا‪ ،‬الغرب‪ ،‬رهانات المعنى وإرادات الهيمنة‪ ،‬ترجمة وإسهام‬


‫هاشم صالح‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬الطبعة الثانية‪2001 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد بلتاجي‬

‫‪ -‬منهج عمر بن الخطاب في التشريع‪ ،‬دار الفكر العربي‪1970 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد بهاء الدين حسين‬

‫‪ -‬المستشرقون والقرآن الكريم‪ ،‬دار النفائس‪ ،‬األردن‪ ،‬الطبعة األولى‪1435 ،‬ﻫ‬


‫‪2014 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد بن حجر القرني‬

‫‪ -‬موقف الفكر الحداثي العربي من أصول االستدالل في اإلسالم‪ ،‬دراسة تحليلية‬


‫نقدية‪ ،‬مجلة البيان‪ ،‬الطبعة األولى‪1434 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد حسن جبل‬

‫‪ -‬الرد على المستشرق اليهودي جولد تسيهر في مطاعنه على القراءات القرآنية‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪1423 ،‬ﻫ ‪2002 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد حسن الصغير‬

‫‪ -‬المستشرقون والدراسات القرآنية‪ ،‬دار المؤرخ العربي‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬


‫‪1420‬ﻫ ‪1999 -‬م‪.‬‬

‫‪463‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫محمد حمزة‬

‫إسالم المجددين‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪2007‬م‪.‬‬

‫محمد رشيد رضا‬

‫‪ -‬تفسير المنار‪ ،‬دار المعرفة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد سالم أبو عاصي‬

‫أسباب النزول تحديد مفاهيم ورد شبهات‪ ،‬دار البصائر القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1423‬ﻫ ‪2002 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد سبيال‬

‫‪ -‬مدارات الحداثة‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪2009 ،‬م‪.‬‬

‫محمد سعيد العشماوي‬

‫‪ -‬اإلسالم السياسي‪ ،‬مكتبة مدبولي الصغير‪ ،‬الطبعة الرابعة‪1416 ،‬ﻫ ‪1996 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬حقيقة الحجاب وحجية الحديث‪ ،‬مكتبة مدبولي الصغير‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬


‫‪1415‬ﻫ ‪1995 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬أصول الشريعة‪ ،‬مكتبة مدبولي الصغير‪ ،‬الطبعة الرابعة‪1416 ،‬ﻫ ‪1996 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬جوهر اإلسالم‪ ،‬مكتبة مدبولي الصغير‪ ،‬الطبعة الرابعة‪1416 ،‬ﻫ ‪1996 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الربا والفائدة في اإلسالم‪ ،‬مكتبة مدبولي الصغير‪ ،‬الطبعة األولى‪1416 ،‬ﻫ ‪-‬‬
‫‪1996‬م‪.‬‬

‫‪464‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪ -‬الشريعة اإلسالمية والقانون المصري‪ ،‬الطبعة األولى‪1416 ،‬ﻫ ‪1996 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬حصاد العقل في اتجاهات المصير اإلنساني‪ ،‬مؤسسة االنتشار العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫لبنان‪ ،‬الطبعة الثالثة‪2004 ،‬م‪.‬‬

‫محمد شحرور‬

‫‪ -‬الكتاب والقرآن‪ ،‬األهالي للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪.‬‬

‫‪ -‬تجفيف منابع اإلرهاب‪ ،‬مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة‪ ،‬لبنان‪ ،‬واألهالي‬


‫للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬نحو أصول جديدة للفقه اإلسالمي‪ ،‬األهالي للتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪2000‬م‪.‬‬

‫محمد الشرفي‬

‫‪ -‬اإلسالم والحرية‪ ،‬سوء الفهم التاريخي‪ ،‬دار بترا للنشر والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬ورابطة‬
‫العقالنيين العرب‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫محمد شعيب الله المفتاحي‬

‫‪ -‬نفحات العبير في مهمات التفسير‪ ،‬دار الزمان للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1434‬ﻫ ‪2013 -‬م‪.‬‬

‫محمد صالح المنجد‬

‫‪ -‬بدعة إعادة فهم النص‪ ،‬منشور على موقع الكتيبات اإلسالمية ‪.WWW‬‬
‫‪COM.KTIBAT‬‬

‫‪465‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫د‪ .‬محمد عابد الجابري‬

‫‪ -‬تكوين العقل العربي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة العاشرة‪2009 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬بنية العقل العربي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة التاسعة‪2009 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مدخل إلى القرآن الكريم‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪2006‬م‪.‬‬

‫‪ -‬المثقفون في الحضارة العربية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد‪ ،‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة الثانية‪2000 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬فهم القرآن الحكيم‪ ،‬التفسير الواضح حسب ترتيب النزول‪ ،‬مطبعة دار النشر‬
‫المغربية‪ ،‬الدار البيضاء‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬المسألة الثقافية في الوطن العربي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1999‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الديمقراطية وحقوق اإلنسان‪ ،‬سلسلة كتاب في جريدة‪ ،‬عدد ‪ ،95‬يوليو‬


‫‪2006‬م‪.‬‬

‫‪ -‬في نقد الحاجة إلى اإلصالح‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪2005‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد عبد الله دراز‬

‫‪ -‬النبأ العظيم‪ ،‬نظرات جديدة في القرآن‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة السابعة‬
‫‪1413‬هـ ‪1993 -‬م‪.‬‬

‫‪466‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫محمد عبد الرحمن الطاسان‬

‫‪ -‬المصاحف المنسوبة للصحابة والرد على الشبهات المثارة حولها‪ ،‬عرض‬


‫ودراسة‪ ،‬دار التدمرية‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األولى‪1433 ،‬ﻫ ‪2012 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد عبد الرزاق أسود‪:‬‬

‫‪ -‬االتجاهات المعاصرة في دراسة السنة النبوية في مصر وبالد الشام‪ ،‬دار الكلم‬
‫الطيب‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪1429 ،‬ﻫ ‪2008 -‬م‪.‬‬

‫محمد عبد العزيز العلي‬

‫‪ -‬الحداثة في العالم العربي‪ ،‬دراسة عقدية‪ ،‬رسالة دكتوراه‪ ،‬كلية أصول الدين‪،‬‬
‫جامعة اإلمام محمد بن سعود‪1414 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫محمد عبد العظيم الزرقاني‬

‫‪ -‬مناهل العرفان في علوم القرآن‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬بدون‬
‫تاريخ‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد عمارة‬

‫‪ -‬شبهات حول اإلسالم‪ ،‬دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع‪2002 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬اإلسالم بين التنوير والتزوير‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة األولى‪1416 ،‬هـ ‪1995 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬التفسير الماركسي لإلسالم‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثانية‪1422 ،‬هـ ‪2002 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬سقوط الغلو العلماني‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثانية‪1422 ،‬هـ ‪2002 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬النص اإلسالمي بين التاريخية واالجتهاد والجمود‪ ،‬نهضة مصر‪ ،‬الطبعة‬


‫األولى‪2007 ،‬م‪.‬‬

‫‪467‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫‪ -‬قراءة النص الديني بين التأويل الغربي والتأويل اإلسالمي‪ ،‬مكتبة الشروق‬
‫الدولية‪ ،‬الطبعة األولى‪1427 ،‬هـ ‪2006 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬األصولية بين الغرب واإلسالم‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة األولى ‪1418‬ﻫ ‪-‬‬
‫‪1998‬م‪.‬‬

‫محمد الفاضل بن عاشور‬

‫‪ -‬التفسير ورجاله‪ ،‬مجمع البحوث اإلسالمية بمصر‪1390 ،‬ﻫ ‪1970 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد محمود سيد‬

‫أعداء الحداثة‪ ،‬مراجعات العقل الغربي في تأزم فكر الحداثة‪ ،‬مركز الفكر‬
‫المعاصر‪ ،‬الطبعة األولى‪1434 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد محمود كالو‬

‫‪ -‬القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير‪ ،‬دار اليمان للطباعة‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،‬الطبعة األولى‪1430 ،‬ﻫ ‪2009 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد النويهي‬

‫‪ -‬نحو ثورة في الفكر الديني‪ ،‬رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪2010 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬محمود بن علي البعداني‬

‫‪ -‬موقف المدرسة العقلية المعاصرة من علوم القرآن وأصول التفسير‪ ،‬مركز‬


‫تفسير للدراسات القرآنية‪ ،‬الطبعة األولى‪1436 ،‬ﻫ ‪2015 -‬م‪.‬‬

‫مرزوق العمري‬

‫‪ -‬إشكالية تاريخية النص الديني في الخطاب الحداثي العربي المعاصر‪ ،‬دار‬

‫‪468‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫األمان‪ ،‬ومنشورات ضفاف‪ ،‬ومنشورات االختالف‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة األولى‪1433 ،‬ﻫ‬


‫‪2012 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬التاريخية‪ ،‬المفهوم وتوظيفاته الحداثية‪ ،‬مجلة إسالمية المعرفة‪ ،‬العدد ‪،63‬‬


‫شتاء ‪1432‬ﻫ ‪2011-‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬مساعد الطيار‬

‫‪ -‬المحرر في علوم القرآن‪ ،‬مركز الدراسات والمعلومات القرآنية بمعهد اإلمام‬


‫الشاطبي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ 1429 ،‬هـ ‪2008 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬فصول في أصول التفسير‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬الطبعة الثانية‪1423 ،‬هـ‪.‬‬

‫‪ -‬شرح مقدمة في أصول التفسير البن تيمية‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1428‬هـ‪.‬‬

‫د‪ .‬مصطفى أبو زيد‬

‫‪ -‬النسخ في القرآن الكريم‪ ،‬دراسة تشريعية‪ ،‬تاريخية‪ ،‬نقدية‪ ،‬دار الوفاء للطباعة‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1408 ،‬ﻫ ‪1987 -‬م‪.‬‬

‫مصطفى باحو‬

‫‪ -‬العلمانيون العرب وموقفهم من اإلسالم‪ ،‬المكتبة اإلسالمية للنشر والتوزيع‪،‬‬


‫الطبعة األولى‪1433 ،‬ﻫ ‪2012 -‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬مصطفى حلمي‬

‫‪ -‬المنهج السلفي ال الحداثة طريق النهضة‪ ،‬دار العقيدة‪ ،‬الطبعة األولى‪1427 ،‬ﻫ‬
‫‪2006 -‬م‪.‬‬

‫‪469‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫د‪ .‬مصطفى السباعي‬

‫‪ -‬السنة ومكانتها في التشريع اإلسالمي‪ ،‬المكتب اإلسالمي‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬


‫‪1398‬هـ ‪1978 -‬م‪.‬‬

‫مصطفى عبد الرازق‬

‫‪ -‬تمهيد لتاريخ الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر‪،‬‬


‫‪1363‬ﻫ ‪1943 -‬م‪.‬‬

‫مناع القطان‬

‫‪ -‬مباحث في علوم القرآن‪ ،‬مكتبة المعارف للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬


‫‪1421‬هـ ‪2000 -‬م‪.‬‬

‫المنصف عبد الجليل‬

‫‪ -‬المنهج األنثروبولوجي في دراسة مصادر الفكر اإلسالمي ضمن كتاب‪ :‬في‬


‫قراءة النص الديني‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪1990 ،‬م‪.‬‬

‫منصور أبو شافعي‬

‫‪ -‬العلمانيون وأنسنة القرآن‪ ،‬الرد على الخليل عبد الكريم‪ ،‬مكتبة النافذة‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪2010 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬التنوير بالتزوير‪ ،‬مساهمة في نقد علمية الخطاب العلماني‪ ،‬الرد على سيد‬
‫القمني وخليل عبد الكريم‪ ،‬ورفعت السعيد‪ ،‬مكتبة النافذة‪ ،‬الطبعة األولى‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫منصور بن راشد التميمي‬

‫‪ -‬العصمة في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬

‫‪470‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫‪1435‬ﻫ ‪2014-‬م‪.‬‬

‫منى محمد الشافعي‬

‫‪ -‬التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم‪ ،‬عرض ونقد‪ ،‬دار‬
‫اليسر‪ ،‬الطبعة األولى‪1429 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫د‪ .‬ميجان الرويلي ود‪ .‬سعد البازعي‬

‫‪ -‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪2002 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬ناصر الحنيني‬

‫‪ -‬مآالت القول بخلق القرآن‪ ،‬دراسة عقيدية معاصرة‪ ،‬مركز الفكر المعاصر‪1432 ،‬ﻫ‪.‬‬

‫د‪ .‬نبيل بن محمد إبراهيم‬

‫‪ -‬علم القراءات‪ ،‬نشأته‪ ،‬أطواره‪ ،‬أثره في العلوم الشرعية‪ ،‬مكتبة التوبة‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪1421 ،‬ﻫ ‪2000 -‬م‪.‬‬

‫نبيل بن محمد محمود‬

‫‪ -‬العلماء بين المحن والشدائد‪ ،‬عرض لالبتالءات والمحن الكبرى التي تعرض‬
‫لها علماء األمة‪ ،‬وكيف تحملوها وصبروا عليها‪ ،‬الدار العالمية للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪1432 ،‬ﻫ ‪2011-‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬نصر حامد أبو زيد‬

‫‪ -‬اإلمام الشافعي وتأسيس األيديولوجية الوسطية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار‬


‫البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪2007 ،‬م‪.‬‬

‫‪471‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫‪ -‬فلسفة التأويل دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي‪ ،‬دار التنوير‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1983 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة‪2004 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬الخطاب والتأويل‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬


‫‪2008‬م‪.‬‬

‫‪ -‬مفهوم النص‪ :‬دراسة في علوم القرآن‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪1990 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬النص السلطة الحقيقة‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1995‬م‪.‬‬

‫‪ -‬إشكاليات القراءة وآليات التأويل‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة‬
‫السابعة‪2005 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬التراث بين االستخدام النفعي والقراءة العلمية‪ ،‬مجلة (أدب ونقد) ـ القاهرة ـ‬
‫العدد ‪ 79‬مارس ‪.1992‬‬

‫‪ -‬نقد الخطاب الديني‪ ،‬سينا للنشر‪ ،‬الطبعة الثانية‪1994 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬هكذا تكلم ابن عربي‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪2002 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬اليسار اإلسالمي‪ ،‬إطاللة عامة‪ ،‬جامعة بيرزيت‪ ،‬الطبعة األولى‪2004 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬التفكير في زمن التكفير‪ ،‬ضد الجهل والزيف والخرافة‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪1995 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬التجديد والتحريم والتأويل‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الطبعة األولى‪2010 ،‬م‪.‬‬

‫‪472‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫د‪ .‬نور الدين عتر‬

‫‪ -‬علوم القرآن الكريم‪ ،‬مطبعة الصباح‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة األولى‪1414 ،‬ﻫ ‪1993 -‬م‪.‬‬

‫هاشم صالح‬

‫‪ -‬من الحداثة إلى العولمة‪ ،‬رحلة في الفكر الغربي‪ ،‬وأثرها في الفكر العربي‪،‬‬
‫كتاب العربية‪ ،‬الطبعة األولى‪1431 ،‬ﻫ ‪2010 -‬م‪.‬‬

‫‪ -‬االنسداد التاريخي‪ .‬لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي‪ ،‬دار الساقي‪،‬‬
‫بيروت‪2011 ،‬م‪.‬‬

‫د‪ .‬هزاع بن عبد الله‬

‫‪ -‬محاوالت التجديد في أصول الفقه‪ ،‬جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية‪،‬‬


‫سلسلة الرسائل الجامعية‪1429 ،‬ﻫ ‪2008 -‬م‪.‬‬

‫هشام جعيط‬

‫‪ -‬تاريخية الدعوة المحمدية في مكة‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬


‫‪2007‬م‪.‬‬

‫‪ -‬في السيرة النبوية‪ ،1‬الوحي والقرآن والنبوة‪ ،‬دار الطليعة بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪1999‬م‪.‬‬

‫يحيى رمضان‬

‫‪ -‬المقاربة الهرمسية للوحي قراءة في الخطاب الالديني لنصر حامد أبو زيد‪،‬‬
‫بحث بمجلة إسالمية المعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،63‬شتاء ‪1432‬ﻫ ‪2011 -‬م‪.‬‬

‫‪473‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫د‪ .‬يحيى هاشم فرغل‬

‫‪ -‬األسس المنهجية لبناء العقيدة اإلسالمية‪ ،‬دار الفكر العربي‪1978 ،‬م‪.‬‬

‫‪ -‬حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب‪ ،‬سلسلة قضايا إسالمية معاصرة‪،‬‬


‫تصدرها األمانة العامة للجنة العليا للدعوة اإلسالمية‪ ،‬باألزهر الشريف‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬

‫‪474‬‬
‫الفهرس‬
‫الفهرس‬

‫فهرس المحتويات‬

‫الصفحة‬ ‫العنوان‬
‫‪٥‬‬ ‫المقدمة‬
‫‪37‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬موقف العلمانيين من أهم مسائل أسباب النزول‬
‫‪41‬‬ ‫املبحث األول‪ :‬مفهوم أسباب النزول عند العلامنيني‬
‫‪78‬‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬االدعاء بأن لكل آية سبب نزول‬
‫‪102‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬هل العربة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟‬
‫‪133‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مجاالت التوظيف العلماني ألسباب النزول‬
‫املبحث األول‪ :‬توظيف أسباب النزول إلثبات العالقة بني النص‬
‫‪153‬‬
‫والواقع‬
‫‪182‬‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬توظيف أسباب النزول إلثبات تارخيية القرآن الكريم‬
‫املبحث الثالث‪ :‬توظيف أسباب النزول إلثبات برشية القرآن‬
‫‪221‬‬
‫الكريم‪ ،‬وأنسنته‬
‫املبحث الرابع‪ :‬وظيف أسباب النزول‪ ،‬إلثبات وقتية األحكام‬
‫‪272‬‬
‫الرشعية‪ ،‬وقابليتها للتغيري‬
‫الفصل الثالث‪ :‬التناقضات واإلشكاالت المنهجية في‬
‫‪301‬‬
‫الموقف العلماني من أسباب النزول‬
‫‪303‬‬ ‫املبحث األول‪ :‬ظاهرة التناقض يف كتابات العلامنيني‬

‫‪477‬‬
‫التوظيف العلماني ألسباب النزول دراسة نقدية‬

‫املبحث الثاين‪ :‬نامذج من التناقضات واإلشكاالت املنهجية يف موقف‬


‫‪336‬‬
‫العلامنيني من أسباب النزول‬
‫‪433‬‬ ‫الخاتمة‬
‫‪441‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع‬
‫‪475‬‬ ‫الفهرس‬

‫‪478‬‬

You might also like