You are on page 1of 225

1

1
2
‫طبعة جديدة‬
‫وصححها وع ّلق عليها حفيد املؤلف‬
‫ّ‬ ‫راجعها‬

‫‪3‬‬
‫ح دار المنارة للنشر والتوزيع‪1442 ،‬ه‬
‫فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر‬
‫الطنطاوي‪ ،‬علي مصطفى‬
‫تعريف عام بدين اإلسالم‪ /‬علي مصطفى الطنطاوي‬
‫‪218‬ص ؛ ‪15×21‬سم‬ ‫ط‪ - 22‬جدة‪١٤٤2 ،‬هـ‬
‫‪-١‬اإلسالم‪-‬مبادئ عامة أ‪ .‬العنوان‬
‫‪١٤٤2/10514‬‬ ‫ديوي ‪ 211‬‬
‫ردمك ‪٩٧٨ -٦٠٣-8312-15-5‬‬ ‫رقم اإليداع‪١٤٤2/10514 :‬‬

‫حقوق الطبع حمفوظة‬

‫ُيم َنع نقل أو ختزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب‬


‫بأي شكل أو بأية وسيلة‪ :‬تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية‬
‫أو غري ذلك إال بإذن خطي مسبق من الناشر‬

‫الطبعة الثانية والعشرون‬


‫‪2021‬‬

‫أسسها الشيخ نادر حتاحت رمحه اهلل عام ‪1984‬‬

‫ص ب ‪ 1250‬جدة ‪ 21431‬اململكة العربية السعودية‬


‫هاتف ‪ 6603652‬فاكس ‪6603238‬‬

‫‪4‬‬
‫قصة هذا الكتاب‬

‫في صدر الطبعات السابقة فصل عنوانه >قصة هذا الكتاب<‪،‬‬


‫أعدت النظر فيه اليوم فوجدت أني لم أسرد فيه القصة من أولها‪.‬‬

‫ولعل أول القصة كان أيام الحرب األولى‪ ،‬حرب سنة‬


‫سن التمييز وأدركت ما يحيط‬‫بلغت فيها ّ‬
‫ُ‬ ‫‪ ،1914‬وهي األيام التي‬
‫بي‪ ،‬فوجدت في بيت أبي دروس ًا يلقيها على تالميذه بعد الفجر‬
‫وقبل العشاء‪ .‬وكانت دروس ًا تختلف عن دروس المدرسة التي كنت‬
‫أذهب إليها‪ ،‬وكان التالميذ فيها مشايخ بعمائم ولحى‪ ،‬لم يكونوا‬
‫صغاراً كتالميذ المدرسة‪ ،‬فكنت أستمع إليها ولو لم أفهمها كما‬
‫أفهم دروس المدرسة‪.‬‬

‫فكانت دراستي بذلك مزدوجة‪ :‬درست في المدارس إلى‬


‫نهاية الجامعة‪ ،‬وكنت مع ذلك أتلقى العلم عن العلماء‪ ،‬عن أبي‬
‫ال‪ ،‬وكان من صدور الفقهاء في الشام‬‫الشيخ مصطفى الطنطاوي أو ً‬
‫وكان أمين الفتوى عند المفتي الشيخ أبي الخير عابدين‪ ،‬فلما توفي‬
‫‪-‬رحمه اهلل‪ -‬في شعبان سنة ‪1343‬ﻫ قرأت على غيره من العلماء(‪،)1‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬ثم اتصلت بعدد ال أحصيه اآلن من العلماء‪ ،‬منهم من قرأت عليه =‬

‫‪5‬‬
‫أسلوبي الدراسة‪ .‬وكان العلماء‬
‫َ‬ ‫فكنت أول من جمع في دمشق بين‬
‫يومئذ بين >شيخ< ال يعرف من علوم الدنيا الحديثة شيئ ًا و>أفندي< ال‬
‫ال ال يغني وال يجزي‪.‬‬ ‫يفقه من علوم الدين شيئ ًا‪ ،‬إال شيئ ًا قلي ً‬
‫______________________‬
‫= ومنهم من حضرت دروسه‪ ،‬ومنهم من جلست إليه واستفدت منه‪،‬‬
‫في الشام ومصر والعراق‪.‬‬
‫من هؤالء الشيخ بدر الدين الحسني المحدث األكبر‪ ،‬وقرينه السيد‬
‫الكتاني صاحب >الرسالة المستطرفة<‪ ،‬والشيخان‬ ‫محمد بن جعفر ّ‬
‫المعمران‪ :‬الشيخ عبد المحسن األسطواني والشيخ سليمان‬ ‫ّ‬
‫الجوخدار‪ ،‬ومفتي الشام الشيخ عطا الكَ ْسم‪ ،‬وخلَفه المفتي الشيخ‬
‫َ‬
‫محمد شكري األسطواني‪ ،‬وخلَفه المفتي الطبيب الشيخ أبو اليسر‬
‫عابدين‪ ،‬والسيد محمد الخضر حسين شيخ الجامع األزهر‪ ،‬والشيخ‬
‫عبد المجيد سليم شيخ الجامع األزهر‪ ،‬والشيخ مصطفى عبد الرازق‬
‫شيخ الجامع األزهر‪ ،‬والشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع األزهر‪،‬‬
‫محب الدين الخطيب‪ ،‬والشيخ أبو الخير الميداني‪،‬‬‫ّ‬ ‫وخالي األستاذ‬
‫والشيخ صالح التونسي‪ ،‬والشيخ محمد بهجة البيطار‪ ،‬والشيخ‬
‫توفيق األيوبي‪ ،‬والشيخ أحمد النويالتي‪ ،‬والشيخ عبد اهلل العلمي‪،‬‬
‫والشيخ هاشم الخطيب‪ ،‬واألستاذ سليم الجندي‪ ،‬والشيخ عبد‬
‫القادر المبارك‪ ،‬واألستاذ محمد كرد علي منشئ المجمع العلمي‬
‫في دمشق‪ ،‬والشيخ المصنف األديب الشيخ عبد القادر المغربي‪،‬‬
‫واألديب الراوية األستاذ عز الدين التنوخي‪ ،‬واألستاذ معروف‬
‫األرناؤوط‪ ،‬واألستاذ شاكر الحنبلي‪ ،‬واألستاذ سعيد محاسني‪،‬‬
‫والشيخ عبد القادر بدران الحنبلي‪ ،‬والشيخ محمد الكافي المالكي‪،‬‬
‫والشيخ نجيب كيوان الحنفي‪ ،‬والشيخ أمين سويد‪ ،‬والشيخ زين‬
‫العابدين التونسي‪ ،‬والشيخ أمجد الزهاوي‪ ،‬والحاج حمدي األعظمي‬
‫العراقي‪ ،‬والشيخ قاسم القيسي‪ ،‬والشيخ زاهد الكوثري‪ ،‬والشيخ=‬

‫‪6‬‬
‫فتنبهت مبكراً إلى ضرورة عرض اإلسالم بأسلوب عصري‪،‬‬
‫وكتبت في ذلك مقاالت ونشرت رسائل ذكرت فيها ‪-‬من نحو‬
‫خمسين سنة‪ -‬بعض اآلراء التي أُوردها اليوم في هذا الكتاب(‪.)1‬‬

‫ففي كتابي >اإلصالح الديني<(‪ )2‬في الصفحة ‪ 11‬منه‪ ،‬عند‬


‫______________________‬
‫= البشير اإلبراهيمي الجزائري‪ ،‬والشيخ كامل القصاب‪ ،‬والشيخ عيد‬
‫وجودت القرآن على شيخ قراء الشام الشيخ محمد‬ ‫ّ‬ ‫السفرجالني‪.‬‬
‫الحلواني‪ ،‬والشيخ عبد الرحيم دبس وزيت‪ ،‬وولده شيخنا وتلميذ‬
‫المنجد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والدي الفقيه الحنفي الشيخ عبد الوهاب‪ ،‬والشيخ عبد اهلل‬
‫وخلق غيرهم كثير‪ .‬أسأل اهلل لهم الرحمة والغفران‪ ،‬من ذكرت منهم‬
‫اسمه عن ذاكرتي‪ ،‬وأظن أني لو عددتهم ألربى‬ ‫هنا ومن غاب اآلن ُ‬
‫عددهم على المئة‪ ،‬جزاهم اهلل خيراً‪.‬‬
‫ضياء يكشف لي‬ ‫ً‬ ‫(‪ )1‬ولكن ذلك لم يكن إال بارقة برقت لي‪ ،‬لم تكن‬
‫الطريق أو يرسم لي خطة لتأليف هذا الكتاب‪ ،‬بل لم أكن أدري ما‬
‫تأليف الكتب وال يخطر على بالي أني سأكون من المؤلفين‪ .‬كانت‬
‫بذرة صغيرة جمع اهلل لها شروط اإلنبات‪ ،‬فكان منها شجرة ثابتة‬
‫ريح أو ذهب بها‬ ‫األصل ممتدة الفروع تعيش دهراً‪ ،‬وربما طارت بها ٌ‬
‫يأت منها شيء‪،‬‬ ‫سيل أو عبث بها صبي أو نقرها طائر فذهبت ولما ِ‬
‫ّ‬
‫هينة ال تعيش إال شهراً‪ ،‬وذلك من أسرار‬ ‫وربما خرجت منها بقلة ّ‬
‫خلق اهلل‪ :‬إذ ُيخرج المختلف من المؤتلف والمتعدد من الواحد‪.‬‬
‫األشياء كلها من الذرة‪ ،‬واألحياء من الخلية‪ ،‬والذرة والخلية َخ ْل ُقهما‬
‫في الجميع واحد‪.‬‬
‫(‪ )2‬المطبوع في دمشق سنة ‪1348‬ﻫ‪ ،‬وهو الجزء األول من >رسائل‬
‫اإلصالح< التي كان لصدورها أصداء وأُ ِّل َفت في الكالم عنها كتب‪،‬‬
‫منها كتاب >اإلفصاح عن رسائل اإلصالح< للشيخ أحمد الصابوني‬
‫الحلبي رحمه اهلل‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫نصه‪« :‬هل يمكن لإلنسان أن‬ ‫الكالم على ضرورة التدين‪ ،‬قلت ما ّ‬
‫يعيش بال دين؟ الجواب قطع ًا هو‪ :‬ال‪ ،‬إال أن يعيش بالمادة وحدها‬
‫نفسه التي بين جنبيه‪ ،‬وحبه الذي يجيش‬
‫وينبذ كل ما وراءها‪ ،‬حتى َ‬
‫به صدره‪ ،‬وشعوره بالطبيعة وجمالها والطيور وتغريدها والمقبرة‬
‫ووحشتها»‪.‬‬

‫الم ُثل األفالطونية‪ ،‬واستشهدت بأقوال‬


‫ثم تحدثت عن عالم ُ‬
‫كانط و أوغست كونت وباستور ونيوتن وباسكال ومالبرانش‬
‫حديث العهد بدراسة‬
‫َ‬ ‫وهارفي وغوليه وهوكسلي‪ ،‬ذلك ألني كنت‬
‫الفلسفة‪ ،‬وكان مكتوب ًا على غالف الكتاب‪> :‬بقلم علي الطنطاوي‪،‬‬
‫بكالوريوس في اآلداب وفي الفلسفة<‪.‬‬

‫يدعي أن هذا الكون ُوجد‬ ‫الرد على َمن ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكتبت في‬
‫أربع كرات بِيض وواحدة‬ ‫نصه‪ :‬إذا وضعنا في كيس َ‬ ‫بالمصادفة ما ّ‬
‫حمراء وسحبنا واحدة منها كان احتمال خروج الحمراء واحداً‬
‫من خمسة‪ ،‬وإذا وضعنا تسع ًا بِيض ًا وواحدة حمراء كان واحداً من‬
‫عشرة‪ ،‬فلو وضعنا ما النهاية له (∞) من البِيض كان االحتمال‬
‫واحداً من النهاية‪ ،‬وال يقول عاقل أن الحمراء تخرج حتم ًا من‬
‫السحب مرة أو مرتين أو مئة مرة‪ .‬وهذه الكواكب التي ال نهاية‬
‫لها ليس لها إال حالة واحدة تجعلها تسير بهذا النظام ويمتنع بينها‬
‫الصدام‪ ،‬فكيف نقول أن هذه الحالة حصلت بالمصادفة من غير‬
‫مسير حكيم عليم؟‬
‫ِّ‬
‫هذا ما قلته من أكثر من خمسين سنة في كتاب لي مطبوع موجود‪.‬‬

‫* * *‬

‫‪8‬‬
‫ثم َص َّح العزم مني على إصدار كتاب في هذا الموضوع‪،‬‬
‫وأعلنت عنه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وأعددت فصوله‬
‫ُ‬ ‫وجعلت عنوانه‪> :‬لماذا أنا مسلم؟<‬
‫ُ‬
‫ونشرت مقدمته في رسائل >سيف اإلسالم< التي كنت أصدرها‬ ‫ُ‬
‫تعذ َر الطبع وضاعت األصول‬
‫ولكن ّ‬
‫ْ‬ ‫سنة ‪1349‬ﻫ (‪1930‬م) ‪،‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ولم يصدر الكتاب‪.‬‬

‫______________________‬
‫نشرت هذه الرسالة في كتاب >البواكير<‪ ،‬ص‪( 135‬مجاهد)‪.‬‬
‫ُ‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪9‬‬
‫مدرس ًا لألدب العربي‬
‫ولما ذهبت إلى العراق سنة ‪ّ 1936‬‬
‫وكلِّفت حين ًا بتدريس الدين جعل‬ ‫في الثانوية المركزية في بغداد ُ‬
‫الطالب يسألونني عن كتاب واحد يفهمون منه اإلسالم‪ ،‬ال‬
‫يريدون كتاب تجويد وال كتاب توحيد وال كتاب تفسير وال فقه‬
‫وال أصول وال حديث وال مصطلح‪ ،‬بل كتاب ًا في اإلسالم يعرضه‬
‫كما كان رسول اهلل ’ يعرضه على َمن َي ِف ُد إليه من العرب (أو‬
‫األعراب) فيفهمونه في يوم واحد أو في بعض يوم‪.‬‬
‫فلم أكن أجد مثل هذا الكتاب‪ ،‬فكتبت في >الرسالة< (وكنت‬
‫كتابها عشرين سنة كاملة‪ ،‬من سنة تأسيسها إلى سنة احتجابها)‬‫من ّ‬
‫وأعدت‬
‫ُ‬ ‫كتبت مقاالت أدعو فيها العلماء إلى تأليف هذا الكتاب‪،‬‬
‫ُ‬
‫الدعوة‪ ،‬فما استجاب لها أحد إال شيخنا الشيخ محمد بهجة‬
‫البيطار‪ ،‬وإذا رجعتم إلى >الرسالة< وجدتم فيها ما ُكتب(‪.)1‬‬
‫* * *‬

‫كنت أسلكه وحدي أو‬ ‫ومرت األيام‪ ،‬ورأيت الطريق الذي ُ‬


‫مع نفر من أمثالي منذ خمسين سنة‪ ،‬طريق الجمع بين اإللمام‬
‫بعلوم الدين واإللمام بعلوم الدنيا‪ ،‬وقد كثر ‪-‬بحمد اهلل‪ -‬سالكوه‬
‫وصاروا عشرات‪ ،‬ثم صاروا ‪-‬بحمد اهلل مرة ثانية‪ -‬مئات‪ ،‬ونشأ‬
‫فيهم من هو أكثر مني علم ًا وأفصح لسان ًا وأكثر إيمان ًا وأفضل في‬
‫كل شيء‪ ،‬وألّفوا عشرات من الكتب اإلسالمية الجيدة‪ ،‬ولكن‬
‫هذا الكتاب لم يؤلَّف‪.‬‬
‫______________________‬
‫مقالتي >كتاب في الدين اإلسالمي< و>كتاب الدين اإلسالمي<‬
‫َ‬ ‫(‪ )1‬راجع‬
‫في كتاب >فصول إسالمية< (مجاهد)‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وجاءت سنة ‪1387‬ﻫ فنشرت مقالة في مجلة >رابطة العالم‬
‫تنبه لها صديقنا‬
‫ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫اإلسالمي< عنوانها >تعريف عام بدين اإلسالم<‬
‫معالي الشيخ محمد عمر توفيق‪ ،‬وزير الحج واألوقاف يومئذ‪،‬‬
‫وتنبه لها‬
‫فكتب للرابطة لتكليفي بتأليف كتاب في هذا الموضوع‪ّ ،‬‬
‫صديقنا الشيخ مصطفى العطار فكتب لمعالي وزير المعارف الشيخ‬
‫حسن بن عبد اهلل آل الشيخ‪ ،‬ووجدت منه ومن معالي الشيخ‬
‫عبد الوهاب عبد الواسع (وكان يومئذ وكيل وزارة المعارف) كلَّ‬
‫التشجيع‪.‬‬
‫كنت‬
‫الصيف كله والسن َة الجامعية بعده‪ ،‬لكني ُ‬
‫َ‬ ‫وعملت‬
‫لدي ثالثة ظروف‬
‫وتجمعت ّ‬
‫ّ‬ ‫أدافع الكسل وأشتغل على ملل‪،‬‬
‫كبار‪ ،‬فيها فصول كامالت وفيها قصاصات ومذكرات‪ ،‬تحتاج إلى‬
‫تصنيف وترتيب وعمل كثير‪.‬‬
‫عمان‪ ،‬ومن خوفي‬ ‫وجاء الصيف الجديد وذهبت إلى ّ‬
‫على هذه الظروف حملتها بيدي‪ ،‬وأذكر أنني خرجت من المطار‬
‫وشغلت‬ ‫ودخلت السيارة لتحملني إلى دار زوج بنتي وهي معي‪ُ .‬‬
‫بمتاعب االنتقال ومباهج االستقبال ولقاء األصحاب واآلل فلم‬
‫ونفضت الدار‬
‫ُ‬ ‫فبحثت عنها فلم أجدها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أذكرها إال بعد أسبوعين‪،‬‬
‫وراجعت كل مخفر شرطة فلم أصل‬
‫ُ‬ ‫نفض ًا وسألت كل سائق سيارة‬
‫إلى شيء‪ .‬وبقيت أيام ًا وأنا ذاهل متألم‪ ،‬ال أهنأ بطعام وال أستغرق‬
‫في منام‪ ،‬حتى إذا هدأت نفسي ورجع لي عقلي قررت أن أستعين‬
‫اهلل وأبدأ من جديد‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬في العدد السابع من السنة الخامسة الذي صدر في رمضان من تلك‬
‫السنة (‪( )1967/12‬مجاهد)‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫عمان‪ ،‬مكتبتي في دمشق‬ ‫وكنت أنزل في ضاحية من ّ‬ ‫ُ‬
‫استقر في ذهني‬
‫ّ‬ ‫وأوراقي في مكة‪ ،‬وما عندي إال المصحف وما‬
‫مما قرأت وما سمعت من العلماء في أكثر من خمسين سنة ما كان‬
‫لي فيها من عمل إال النظر في الكتب ومجالسة أهل العلم‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫لعل هذا هو الخير‪ ،‬فما أؤلف هذا الكتاب للفقهاء والعلماء‪ ،‬بل‬
‫أعرفهم فيه ما اإلسالم‪ ،‬وكلما أقللت النقل عن الكتب‬ ‫للشبان ّ‬
‫ّ‬
‫وجئت بشيء جديد كان خيراً لهم‪.‬‬
‫وأنجزت هذا الجزء األول‪ ،‬وهو جزء‬ ‫ُ‬ ‫وباشرت العمل‬
‫ُ‬
‫وحملت مخطوطته معي إلى مكة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫العقيدة‪ ،‬في عشرة أيام‪،‬‬
‫ال في صحيفة >المدينة<‪ ،‬والفضل في طبعه هلل ثم لألستاذ‬ ‫فطُبع أو ً‬
‫عثمان حافظ(‪ .)1‬ثم نشرته وزارة المعارف األردنية في عدد خاص‬
‫اثني عشر ألف نسخة‬ ‫من مجلتها >رسالة المعلم<‪ ،‬وطبعت منه َ‬
‫وزعتها على جميع المعلمين والمعلمات في المملكة األردنية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وكان الفضل في ذلك هلل ثم لمعالي الدكتور إسحاق الفرحان‬
‫(وكان يومئذ مدير دائرة الكتب والمناهج في الوزارة‪ ،‬ثم صار هو‬
‫الوزير) ولألخ الدكتور الشيخ إبراهيم زيد الكيالني واألخ األستاذ‬
‫سليم الرشدان‪ .‬ثم نشرته وزارة الدفاع األردنية‪ ،‬وكان الفضل في‬
‫ذلك للصديق اللواء معن أبي ّنوار سفير المملكة اآلن في لندن‪،‬‬
‫وللصديق العقيد أحمد العبيدات (أبي أنور)‪ ،‬وقرأه أفراد الجيش‬
‫األردني‪ ،‬ثم طُبع و ُنشر مرات في دور نشر مختلفة قبل أن تتولى‬
‫نشره دار المنارة التي تنشر سائر كتبي‪.‬‬
‫َ‬
‫______________________‬
‫(‪ُ )1‬نشر الكتاب في جريدة >المدينة< في حلقات يومية صدرت أوالها‬
‫في التاسع والعشرين من رجب ‪( )1968/10/22( 1388‬مجاهد)‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫أما الجزء الثاني والثالث اللذان أرجو أن أتكلم فيهما عن‬
‫اإلسالم وعن اإلحسان (أي السلوك اإلسالمي) فأنا واهلل في خجل‬
‫من القراء‪ ،‬وعذري أن القلوب بيد اهلل‪ ،‬واهلل هو باعث الهمم‬
‫ومنشئ العزائم‪ ،‬وقد ‪-‬واهلل‪ -‬ضعفت همتي ووهن العزم مني‪.‬‬
‫كنت في شبابي في تو ّثب دائم‪ ،‬أكتب وألتمس الناشر‪ ،‬على‬ ‫ولقد ُ‬
‫قلة البضاعة وضحالة التفكير‪ ،‬واآلن حين نضج الفكر واختمرت‬
‫أله َم‬
‫فإن َ‬
‫المعلومات وكثر الناشرون لم أعد أقوى على العمل‪ْ .‬‬
‫يسهل اهلل علي كتابة‬
‫اهلل واحداً من القراء ودعا لي بظهر الغيب أن ّ‬
‫ّ‬
‫كتبت األول في عشرة أيام‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كتبتهما بتوفيق اهلل وعونه كما‬
‫الجزأين ُ‬
‫* * *‬
‫هذا‪ ،‬وأنا أرجو أن ينفع اهلل بهذا الكتاب وأن يكون زاداً لي‬
‫يوم ال زاد إال التقوى وصالح األعمال(‪ .)1‬ولقد ذكرت في مقدمة‬
‫الطبعة السابقة أني أكتب من ستين سنة‪ ،‬من سنة ‪1347‬ﻫ‪ ،‬وأن‬
‫كتبت يزيد على ثالثة عشر ألف صفحة‪ ،‬وأن لي أكثر‬ ‫ُ‬ ‫المطبوع مما‬
‫من خمسين كتاب ًا ما بين رسالة صغيرة وكتاب كبير‪ ،‬وأني أحاضر‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬بارك اهلل في هذا الكتاب وكتب له ال َقبول‪ ،‬فطُبع بالعربية عشرات‬
‫الطبعات‪ ،‬و ُترجم وطُبع باللغات الفارسية واألندونيسية والفلبينية‬
‫والتركية والبوسنية واأللبانية والفرنسية واأللمانية واإلسبانية والبرتغالية‬
‫والدنمركية واليونانية والروسية والرومانية‪ .‬وقد نشرت دار المنارة‬
‫مقدمة الكتاب منفردة في رسالة صغيرة باسم >تعريف موجز بدين‬
‫اإلسالم<‪ ،‬و ُترجمت هذه الرسالة إلى األلمانية واألرومية (وهي اللغة‬
‫التي يتحدث بها نحو خمسة وثالثين مليون ًا في الصومال والقرن‬
‫اإلفريقي) (مجاهد)‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫في النوادي من سنة ‪1345‬ﻫ وأتحدث في اإلذاعات بال انقطاع من‬
‫يوم أنشئت محطة الشرق األدنى في يافا قبل الحرب الثانية‪ ،‬وأن‬
‫لدي اآلن أصول أحد عشر كتاب ًا ال تحتاج إال إلى عمل قليل لِ ُت َّ‬
‫قدم‬ ‫ّ‬
‫للمطبعة‪ .‬وأنا أرضى أن أنزل عن هذا كله ويوفق اهلل إلى إكمال‬
‫هذا الكتاب وإكمال كتاب >ذكريات نصف قرن<(‪ )1‬الذي أروي فيه‬
‫ومن‬ ‫وتحول األحوال َ‬ ‫ّ‬ ‫تبدل الدول‬‫خبر ما رأيت وما سمعت من ّ‬
‫لقيت من الرجال‪ ،‬فلقد شهدت في الشام حكم العثمانيين وحكم‬
‫الشريف فيصل وحكم الفرنسيين وعهد االستقالل وما بعده من‬
‫العهود‪ ،‬وعشت حين ًا من عمري في مصر وفي العراق وفي لبنان‬
‫يبق بيني وبين‬ ‫وفي السعودية‪ ،‬ورحلت ألقصى المشرق حتى لم َ‬
‫ورحلت إلى فولندام‬‫ُ‬ ‫سيدني في أستراليا إال مرحلة ساعتين بالطيارة‬
‫في أقصى الشمال من هولندا‪ ،‬ورأيت حلواً ورأيت ُم ّراً‪ ،‬وذقت‬
‫الفقر وذقت الغنى‪ ،‬ووجدت الوفاء ووجدت الغدر‪ ،‬وتركت من‬
‫التالميذ في سوريا والعراق ولبنان والسعودية آالف ًا وآالف ًا‪ ،‬منهم‬
‫من صار رئيس جمهورية ومنهم من بلغ رياسة الوزراء‪ ،‬ومن كان‬
‫وزيراً أو قاضي ًا كبيراً أو موظف ًا أو سفيراً أو أستاذاً في الجامعة أو‬
‫مقدم ًا في عالم المال واألعمال‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ال‬
‫ولقد كنت في عمري كله بعيداً عن غمرة المجتمع معتز ً‬
‫وقفت‬
‫ُ‬ ‫الناس‪ ،‬لكني كنت أرى وأسمع كل شيء‪ ،‬ولطالما‬
‫مواقف كانت حديث الناس وكانت حادثة الساعة‪ ،‬وكنت فيها‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬وقد صدر منه ثمانية أجزاء بعنوان >ذكريات< جمعت فيها ما نشرته‬
‫في مجلة >المسلمون< ثم في جريدة >الشرق األوسط< ونشرتها دار‬
‫المنارة في جدة‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ملء األسماع واألبصار وكان اسمي فيها على كل لسان‪ .‬ولكن‬
‫ذلك كله مضى‪ ،‬وسيمضي العمر ويذهب الجاه والمال كما ذهب‬
‫الشباب وينسى الناس كل ما عملت وعمل غيري وال يبقى إال‬
‫الذي يحمله معه العبد إلى آخرته‪ ،‬هذا وحده الذي يبقى وكل ما‬
‫سواه إلى زوال‪.‬‬
‫رب ال تجعل عملي يذهب ُسدى واكتب لي بفضلك‬ ‫فيا ّ‬
‫اللهم اجعل ما كتبت وما خطبت‬‫ّ‬ ‫ورحمتك بعض الثواب عليه‪.‬‬
‫من العلم النافع الذي ال ينقطع بانقطاع العمر‪ .‬اللهم إني أستغفرك‬
‫وأتوب إليك‪ ،‬وأسألك حسن الخاتمة والوفاة على اإليمان‪.‬‬
‫جدة (الزهراء)‬
‫‪ 25‬ذو القعدة ‪1408‬‬
‫علي الطنطاوي‬ ‫ ‬

‫‪15‬‬
16
‫بين يدي الكتاب‬

‫إذا كنت مسافراً وحدك فرأيت أمامك مفرق طريقين‪ :‬طريق ًا‬
‫ال منحدراً إلى السهل‪ ،‬األول‬ ‫صعب ًا صاعداً في الجبل وطريق ًا سه ً‬
‫فيه وعورة وحجارة منثورة وأشواك وحفر‪ ،‬يصعب تس ّلقه ويتعسر‬
‫السير فيه‪ ،‬ولكن أمامه لوحة نصبتها الحكومة فيها‪« :‬إن هذا‬
‫أوله وصعوبة سلوكه‪ -‬هو الطريق الصحيح‬ ‫الطريق ‪-‬على وعورة ّ‬
‫معبد‬‫الذي يوصل إلى المدينة الكبيرة والغاية المقصودة»‪ ،‬والثاني ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫تظلله األشجار ذوات األزهار والثمار وعلى جانبيه المقاهي‬
‫ويشنف(‪ )2‬األذن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويسر العين‬
‫ّ‬ ‫والمالهي‪ ،‬فيها كل ما يلذ القلب‬
‫ولكن عليه لوحة فيها‪« :‬إنه طريق خطير ُمهلك‪ ،‬آخره ُه َّوة فيها‬
‫فأي الطريقين تسلك؟‬
‫الموت المحقق والهالك األكيد»‪َّ .‬‬
‫ال شك أن النفس تميل إلى السهل دون الصعب واللذيذ‬
‫دون المؤلم وتحب االنطالق وتكره القيود‪ ،‬هذه فطرة فطرها اهلل‬
‫نفسه وهواها وانقاد لها سلك الطريق‬ ‫اإلنسان َ‬
‫ُ‬ ‫عليها‪ ،‬ولو ترك‬
‫ولكن العقل يتدخل؛ يوازن بين اللذة القصيرة الحاضرة‬
‫ّ‬ ‫الثاني‪،‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أقهى‪ :‬داوم على شرب القهوة‪.‬‬
‫الش ْنف‪ :‬ال ُقرط (الحلق) والتعبير هنا على المجاز‪.‬‬
‫(‪َّ )2‬‬

‫‪17‬‬
‫يعقبها ألم طويل واأللم العارض المؤقت تكون بعده لذة باقية‪،‬‬
‫ُفي ْؤثِر األول‪.‬‬
‫هذا هو مثال طريق الجنة وطريق النار‪.‬‬
‫طريق النار فيه كل ما هو لذيذ ممتع تميل إليه النفس ويدفع‬
‫إليه الهوى‪ ،‬فيه النظر إلى الجمال ومفاتنه‪ ،‬فيه االستجابة للشهوة‬
‫ولذاتها‪ ،‬فيه أخذ المال من كل طريق‪ ،‬والمال محبوب مرغوب‬ ‫ّ‬
‫فيه‪ ،‬وفيه االنطالق والتحرر‪ ،‬والنفوس تحب الحرية واالنطالق‬
‫وتكره القيود‪.‬‬
‫وطريق الجنة فيه المشقات والصعاب‪ ،‬فيه القيود والحدود‪،‬‬
‫فيه مخالفة النفس ومجانبة الهوى‪ .‬ولكن عاقبة هذه المشقة المؤقتة‬
‫في هذا الطريق اللذة الدائمة في اآلخرة‪ ،‬وثمرة اللذة العارضة في‬
‫طريق النار األلم المستمر في جهنم‪ .‬كالتلميذ ليالي االمتحان‪:‬‬
‫يتألم حين يترك أهله عاكفين على الرائي(‪ )1‬يشاهدون ما يسر‬
‫ويمتع وينفرد هو بكتبه ودفاتره‪ ،‬فيجد بعد هذا األلم لذة النجاح‪،‬‬
‫الحمية عن أطايب الطعام فينال‬‫وكالمريض يصبر أيام ًا على ألم ِ‬
‫بعدها سعادة الصحة‪.‬‬
‫نفرق بها بينهما‪،‬‬
‫وضع اهلل الطريقين أمامنا ووضع فينا َملَكة ّ‬
‫نعرف بها الخير من الشر‪ ،‬سواء في ذلك العالم والجاهل والكبير‬
‫كل منهم يستريح ضميره إذا عمل الخير وينزعج إذا‬ ‫والصغير‪ٌّ ،‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬كلمة وضعتها للتلفزيون‪ ،‬وهي >اسم فاعل< بمعنى >اسم المفعول<‬
‫على المجاز العقلي‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬فهو في عيشة راضية} أي‪ :‬في‬
‫رضية‪.‬‬
‫عيشة َم ّ‬

‫‪18‬‬
‫أتى الشر‪ .‬بل إن هذه الملكة موجودة حتى في الحيوان‪ :‬القط إذا‬
‫ال مطمئن ًا‪ ،‬وإذا خطفها‬
‫ألقيت إليه بقطعة اللحم أكلها أمامك متمه ً‬
‫ذهب بعيداً فأكلها على عجل وعينه عليك‪ ،‬يخاف أن تلحق به‬
‫فتنزعها منه‪ .‬أفليس معنى هذا أنه أدرك أن اللقمة األولى حق له‬
‫والثانية عدوان منه؟ أليس هذا تفريق ًا بين الحق والباطل وبين‬
‫تمسح بصاحبه كأنه‬ ‫الحالل والحرام؟ والكلب إذا عمل حسن ًا ّ‬
‫يطلب منه المكافأة‪ ،‬وإذا أذنب ذنب ًا نأى فوقف بعيداً‪ ،‬يبصبص‬
‫بذ َنبه كأنه يبدي المعذرة أو يتوقع العقاب‪.‬‬
‫وهذا تأويل قوله تعالى‪{ :‬وهديناه ال َّن ْج َدين}‪.‬‬
‫وأقام اهلل على طريق الجنة دعا ًة يدعون إليه ويدلّون عليه‪،‬‬
‫ويرغبون‬
‫ّ‬ ‫هم األنبياء‪ ،‬كما قام على طريق النار دعا ٌة يدعون إليه‬
‫فيه‪ ،‬هم الشياطين‪ ،‬وجعل العلماء ورثة األنبياء‪ ،‬ما ورثوا منهم‬
‫ال وال عقاراً ولكن ورثوا هذه الدعوة‪ ،‬فمن قام بها حق قيامها‬ ‫ما ً‬
‫استحق شرف الميراث‪.‬‬
‫وهذه الدعوة صعبة ألن النفس البشرية طبعت على الميل‬
‫قيدها‪ ،‬وعلى االنطالق وراء اللذة والدين‬
‫إلى الحرية والدين ُي ّ‬
‫فمن يدعو إلى الفسوق والعصيان يوافق طبيعتها فتمشي‬‫ُيمسكها‪َ ،‬‬
‫اصعد إلى خزان الماء في رأس‬‫ْ‬ ‫معه َم ْش َي الماء في المنحدر‪.‬‬
‫الجبل فاثقبه بضربة معول ينزل الماء وأنت واقف حتى يستقر‬
‫في قرارة الوادي‪ ،‬فإذا أردت أن تعيده لم َي ُعد إال بمضخات‬
‫ومشقات ونفقات بالغات‪ .‬والصخرة الراسية في الذروة ال تحتاج‬
‫إلاّ إلى زحزحتها وإمالتها حتى تتدحرج وتهوي‪ ،‬تنزل بال مشقة‬
‫وال تعب‪ ،‬فإذا أردت أن ترجعها وجدت المتاعب والمشقات‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وهذا هو مثال اإلنسان‪.‬‬
‫الرفيق الشرير يقول لك‪ :‬ها هنا امرأة جميلة ترقص عارية‪،‬‬
‫فتميل إليها نفسك ويدفعك إليها هواك ويسوقك إليها ألف‬
‫شيطان‪ ،‬فال تشعر إال وأنت على بابها‪ ،‬فإذا جاء الواعظ ليصرفك‬
‫عنها َص ُع َب عليك االستجابة إليه ومقاومة ميل نفسك وهوى‬
‫قلبك‪ .‬فدعاة الشر ال يتعبون وال يبذلون جهداً‪ ،‬ولكن التعب‬
‫وبذل الجهد على دعاة الخير وعلى الوعاظ‪ .‬داعي الشر عنده كل‬
‫ما تميل إليه النفس‪ ،‬من العورات المكشوفة والهوى المحرم وكل‬
‫ما فيه متعة العين واألذن ولذة القلب والجسد‪ ،‬أما داعي الخير‬
‫فما عنده إال المنع‪.‬‬
‫ترى البنت المتكشفة فتميل إلى اجتالء محاسنها‪ ،‬فيقول‬
‫ض بصرك عنها وال تنظر إليها‪ .‬ويجد التاجر الربح السهل‬ ‫لك‪ُ :‬غ َّ‬
‫كد وال تعب والنفس تميل إليه‪ ،‬فيقول له‪ :‬دعه‬ ‫من الربا يناله بال ّ‬
‫تمد يدك إليه‪ .‬ويبصر الموظف رفيقه يأخذ من‬ ‫وانصرف عنه وال ّ‬
‫الرشوة في دقيقة واحدة ما يعادل مرتبه عن ستة أشهر‪ ،‬ويتصور‬
‫ما يكون له بها من سعة وما يقضي بها من حاجات‪ ،‬فيقول له‪ :‬ال‬
‫تأخذها وال تستمتع بها‪.‬‬
‫يقول لهم‪ :‬اتركوا هذه اللذات الحاضرة المؤكدة لتنالوا‬
‫المغيبة‪ ،‬دعوا ما ترون وما تبصرون إلى ما ال ترون‬
‫ّ‬ ‫اللذات اآلتية‬
‫اآلن وال تبصرون‪ ،‬قاوموا َم ْيل نفوسكم وهوى قلوبكم‪ .‬وذلك‬
‫كله ثقيل على النفس‪ .‬وال تنكروا وصفي الدين بأن ثقيل‪ ،‬فإن‬
‫ال}‪.‬‬
‫ال ثقي ً‬
‫سنلقي عليك قو ً‬‫اهلل سماه بذلك في القرآن فقال‪{ :‬إ ّنا ُ‬
‫ك التلميذ الرائي (التلفزيون)‬
‫وكل المعالي ثقيالت على النفس‪ :‬تر ُ‬

‫‪20‬‬
‫مجلس التسلية واالشتغالُ‬
‫َ‬ ‫ك العالم‬
‫واإلقبال على الدرس ثقيل‪ ،‬وتر ُ‬
‫فراشه والنهوض إلى صالة‬ ‫َ‬ ‫ك النائم‬
‫بالقراءة واإلقراء ثقيل‪ ،‬وتر ُ‬
‫ومشيه إلى الجهاد ثقيل‪.‬‬‫زوجه وولده َ‬ ‫وهجر الرجل َ‬
‫ُ‬ ‫الفجر ثقيل‪،‬‬
‫لذلك تجد الطالحين أكثر من الصالحين والغافلين السادرين‬
‫في الغي أكثر من الذاكرين السالكين سبيل الرشاد‪ ،‬ولذلك كان‬
‫ّ‬
‫ضل فاعله في أكثر األحيان‪:‬‬ ‫اتباع الكثرة بال بصر وال دليل ُي ّ‬ ‫ّ‬
‫أكثر َمن في األرض ُيض ّلوك عن سبيل اهلل}‪ .‬ولوال‬ ‫َ‬ ‫طع‬ ‫ت‬ ‫{وإن‬
‫ْ ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫األلماس‬
‫ُ‬ ‫السمو والرفعة ما كان‬
‫ّ‬ ‫أن القلة والندرة من صفات‬
‫والفحم كثيراً موفوراً‪ ،‬وال كان العباقرة والنابغون واألبطال‬
‫ُ‬ ‫نادراً‬
‫المتميزون ق ّلة في الناس‪.‬‬
‫* * *‬

‫إن األنبياء وورثتهم من صالحي العلماء هم الدعاة إلى طريق‬


‫الجنة‪ ،‬والشياطين وأعوانهم من الفاسدين المفسدين من الناس‬
‫هم الدعاة إلى طريق النار‪ .‬وقد جعل اهلل فينا‪ ،‬في داخلنا‪ ،‬أنصاراً‬
‫لهؤالء وأنصاراً لهؤالء‪ .‬في داخلنا حزب هو مع األنبياء‪ ،‬وحزب‬
‫هو حزب الشياطين في النفس األمارة بالسوء‪.‬‬
‫تقولون‪ :‬ما العقل وما النفس؟‬
‫وأميزها‬
‫ّ‬ ‫ولست ّأدعي أني أضع لكل منهما حدوداً ظاهرة‬
‫تمييزاً واضح ًا‪ ،‬فإن هذه األمور ال تزال في ظلمات َج ْهلنا بها‪،‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬الذي جاء في أكثر كتب اللغة أن المها أصلية‪ ،‬وذلك خالف ًا لما في‬
‫>القاموس المحيط< للفيروزابادي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫لم يستطع العلم أن يضيء جوانبها‪ .‬كلنا يقول‪ :‬قلت لنفسي وقال‬
‫لي عقلي‪ ،‬فما أنت وما نفسك؟ وما نفسك وما عقلك؟ لم يتضح‬
‫ذلك لنا بعد(‪ ،)1‬فلست أكشف هذا المجهول‪ ،‬ولكن أُ ّ‬
‫ذكر بمثال‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬إذا قلت >أنا< فإن جسدي جزء من >األنا<‪ ،‬ولكن ليس كل >األنا<‬
‫ألن المرء قد ُتبتر يداه ورجاله وال تنقص >األنا< بالنسبة إليه‪ .‬ونفسي‬
‫(أي ميولي وعواطفي ولذاتي وآالمي) جزء من األنا وليس كل األنا‪،‬‬
‫المشاهد أن اإلنسان يبدل عواطفه وميوله‪ ،‬وأن ما يلذني اليوم‬‫َ‬ ‫ألن‬
‫(وأنا على عتبة السبعين) ما كان يلذني وأنا شاب‪ ،‬وما كان يؤلمني‬
‫وأنا شاب لم يعد يؤلمني اليوم‪.‬‬
‫فالجسد إذن يتبدل حتى ال تبقى فيه خلية مما كان فيه قبل سنين‪،‬‬
‫فتحب ما كانت تكره وتكره ما كانت‬ ‫ّ‬ ‫والنفس تتبدل آمالها وآالمها‪،‬‬
‫تحب‪ .‬فما الشيء الذي ال يتبدل في والذي هو >أنا< على التحقيق؟‬
‫ّ‬
‫هو الروح‪ .‬وما الروح؟‬
‫أطلعنا اهلل على كثير من وظائف أعضاء الجسم وأسرارها وأمراضه‬
‫وعالجها وعلى كثير من أحوال النفس وعوارضها‪ ،‬وقال لنا أن من‬
‫واللوامة والمطمئنة (وهي نفس واحدة‪ ،‬ولكن‬ ‫ّ‬ ‫األمارة بالسوء‬
‫النفوس ّ‬
‫هذه أحوال تعرض فتصبغها بصبغتها) وأن النفس ذائقة الموت‪،‬‬
‫ولكنه لم يطلعنا على شيء من أحوال الروح ألنها من أمر ربي‪.‬‬
‫الروح ال تخضع لقيود الزمان والمكان‪ ،‬فقد ينام النائم ربع ساعة‬
‫أمامك فيرى أنه سافر إلى أميركا أو الهند وعاش عشرين أو ثالثين‬
‫سنة وأحس بأقصى السرور أو بمنتهى األلم‪ ،‬فكيف دخلت عشرون‬
‫سنة في عشرين دقيقة؟ كيف تداخل المكانان؟ هذا مثال لعذاب القبر‬
‫ونعيمه‪ .‬الروح ال يؤثر فيها المرض وال الصحة‪ ،‬الروح هي التي‬
‫كانت موجودة قبل ارتباطها بهذا الجسد وبهذه النفس وستبقى بعد‬
‫تحلل الجسد وفناء النفس‪ ،‬فـ>أنا< إذن الروح‪ .‬وقد بدت لي هذه‬
‫أعد الكتاب للطبعة الخامسة‪.‬‬
‫المعاني وأنا ّ‬

‫‪22‬‬
‫مشاهد معلوم‪ :‬تكون نائم ًا في ليالي الشتاء متمتع ًا بدفء الفراش‬
‫فتحس صوت ًا‬
‫ّ‬ ‫ولذة المنام فتسمع قرع المنبة يدعوك إلى الصالة‪،‬‬
‫من داخلك يقول لك‪« :‬قم إلى الصالة»‪ .‬فإذا جئت تقوم سمعت‬
‫ال»‪ .‬فيعود الصوت األول يقول‪:‬‬ ‫صوت ًا آخر يقول لك‪« :‬نم قلي ً‬
‫«الصالة خير من النوم»‪ .‬فيقول الثاني‪« :‬النوم لذيذ والوقت متسع‪،‬‬
‫فتأخر دقائق»‪ .‬وال يزال الصوتان يتعاقبان َتعا ُق َب د ّقات الساعة‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫َن ْم‪ُ ،‬ق ْم‪َ ،‬ن ْم‪ُ ،‬قم‪...‬‬
‫هذا هو العقل وهذه هي النفس‪.‬‬
‫وهذا مثال يتكرر آالف المرات في آالف الصور كلما عرض‬
‫للمرء مثل هذا الموقف فوقف أمام لذة محرمة تدعوه نفسه إلى‬
‫غشيانها وكان في قلبه إيمان يدفع عقله إلى منعه منها‪ ،‬وعلى‬
‫مقدار ما يكون من انتصار العقل تكون قوة هذا اإليمان‪ .‬وليس‬
‫معنى هذا أن ينتصر العقل دائم ًا وأن ال يقارب المسلم المعاصي‬
‫أبداً‪ ،‬فاإلسالم دين الفطرة‪ ،‬دين الواقع‪ ،‬والواقع أن اهلل خلق‬
‫خلق ًا للطاعة الخالصة ولمحض العبادة هم المالئكة‪ ،‬ولم يجعلنا‬
‫اهلل مالئكة‪ ،‬وخلق خلق ًا شأنهم المعصية والكفر هم الشياطين‪،‬‬
‫ال ولكن‬‫ولم يجعلنا كالشياطين‪ ،‬وخلق خلق ًا لم يعطهم عقو ً‬
‫غرائز‪ ،‬فال ُيكلَّفون وال ُيس َألون‪ ،‬وهم البهائم والوحوش‪ ،‬ولم‬
‫يجعلنا اهلل وحوش ًا وال بهائم‪.‬‬
‫______________________‬
‫ويحس مثل ذلك من يريد القفز من فوق حفرة أو سا ِق َية وهو يرجو‬
‫ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫الوصول ويخشى السقوط‪ ،‬ويسمع من نفسه صوتين متعاقبين «ثِ ْب‪،‬‬
‫ارجع‪ ،‬ثِ ْب‪ ،‬ارجع‪ »...‬فإن وثب عند قول >ثِ ْب< ولم يتردد نجح‪،‬‬
‫مجرب‪.‬‬
‫وإن تردد حتى جاء قول >ارجع< ووثب سقط‪ ،‬وهذا َّ‬

‫‪23‬‬
‫فما نحن إذن؟ ما اإلنسان؟‬
‫اإلنسان مخلوق متميز‪ ،‬فيه شيء من المالئكة وشيء من‬
‫الشياطين وشيء من البهائم والوحوش‪ ،‬فإذا استغرق في العبادة‬
‫قلبه إلى اهلل عند المناجاة وذاق حالوة اإليمان في لحظات‬
‫وص َفا ُ‬
‫َ‬
‫التجلي غلبت عليه في هذه الحال الصفة الملكية‪ ،‬فأشبه المالئكة‬
‫ؤمرون‪.‬‬
‫الذين ال يعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما ُي َ‬
‫فإذا جحد خالقه وأنكر ربه‪ ،‬فكفر به أو أشرك معه في عبادة‬
‫غيره‪ ،‬غلبت عليه في هذه الحالة الصفة الشيطانية‪.‬‬
‫وشد‬
‫ّ‬ ‫وإذا عصف به الغضب فأوتر أعصابه وألهب دمه‬
‫فيعضه بأسنانه‬
‫ّ‬ ‫عضالته‪ ،‬فلم يعد له أمنية إال أن يتمكن من خصمه‬
‫وينشب فيه أظافره ويطبق على عنقه بأصابعه فيخنقه خنق ًا ثم‬
‫يدعسه دعس ًا(‪ ،)1‬غلبت عليه في هذه الحالة الصفة الوحشية فلم‬
‫كبير فرق‪.‬‬
‫يبق بينه وبين النمر والفهد ُ‬
‫َ‬
‫وبرح به العطش وانحصرت آماله في‬ ‫عضه الجوع ّ‬ ‫وإذا ّ‬
‫رغيف يمأل معدته وكأس تبل صداه‪ ،‬أو تملكته الشهوة وسيطرت‬
‫على نفسه الرغبة الجنسية‪ ،‬فغال بها دمه واشتعلت بها عروقه‬
‫وامتأل ذهنه بخياالت الشبق وأمانيه‪ ،‬غلبت عليه في هذه الحالة‬
‫الصفة البهيمية‪ ،‬فكان كالفحل أو الحصان أو ما شئت من أصناف‬
‫الحيوان‪.‬‬
‫هذه حقيقة اإلنسان‪ :‬فيه االستعداد للخير واالستعداد للشر‪،‬‬
‫______________________‬
‫(‪> )1‬دعس< عربية فصيحة‪ ،‬أما >دهس< فخطأ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫أعطاه اهلل األمرين ومنحه العقل الذي يميز به بينهما واإلرادة التي‬
‫فإن أحسن استعمال عقله في‬ ‫يستطيع بها أن يحقق أحدهما‪ْ ،‬‬
‫ونمى استعداده للخير‬‫التمييز وأحسن استعمال إرادته في التنفيذ ّ‬
‫حتى تخلق به وأنجزه كان في اآلخرة من السعداء‪ ،‬وإن كانت‬
‫األخرى كان من المعذَّ بين‪.‬‬
‫* * *‬

‫صحيح أن النفس مطبوعة على الحرية والدين قيد‪ ،‬ولكن‬


‫بد من هذا القيد‪ ،‬ولو تركناها تأتي الفواحش كما تشاء انطالق ًا‬ ‫ال ّ‬
‫من طبع الحرية فيها لصار المجتمع مارستان ًا كبيراً‪ ،‬ألن الحرية‬
‫المطلقة للمجانين‪ .‬المجنون يفعل كل ما يخطر على باله‪ ،‬يمشي‬
‫في الطريق عاري ًا‪ ،‬ويركب على كتفي سائق السيارة العامة‪،‬‬
‫ويستحسن ثوبك فيأخذه من فوق كتفيك‪ ،‬وتعجبه ابنتك فيطلبها‬
‫منك بحق الغرام ال بشرعة اإلسالم‪ ...‬المجنون هو الحر الحري َة‬
‫المطلقة‪ ،‬وأما العاقل فإن عقله يقيد حريته‪.‬‬
‫اشت َّق‬
‫وما العقل؟ إنه قيد‪ .‬إن لفظه مشتق من األصل الذي ُ‬
‫يقيد به الجمل‪ .‬والحكمة قريبة‬
‫منه >العقال<‪ ،‬أي الحبل الذي َّ‬
‫>حكَ مة< الدابة وهي كذلك قيد‪ .‬والحضارة قيد‪،‬‬‫المعنى‪ ،‬من َ‬
‫ألنها ال تدعك تفعل ما تريد بل توجب عليك مراعاة حقوق الناس‬
‫وأعراف المجتمع‪ .‬والعدالة قيد‪ ،‬ألنها تضع نهاية لحريتك حيث‬
‫تبدأ حرية جارك‪.‬‬
‫ثم إن المعاصي لذيذة ألنها توافق طبيعة النفس‪ .‬إنك تجد‬
‫خير من‬
‫لذة في سماع الغيبة والمشاركة فيها ألنها ُتشعرك بأنك ٌ‬

‫‪25‬‬
‫هذا الذي يذكرونه بالسوء وأفضل‪ ،‬والسرقة لذيذة ألن فيها امتالك‬
‫كد وال نصب‪ ،‬والزنا لذيذ ألن فيه إعطاء النفس هواها‬‫المال بال ّ‬
‫وإنالتها مشتهاها‪ ،‬والغش في االمتحان لذيذ ألنه يوصل إلى‬
‫النجاح بال جهد‪ ،‬والهرب من الواجب ‪-‬مهما كان‪ -‬لذيذ على‬
‫النفس ألن فيه الراحة والكسل‪.‬‬
‫ولكن اإلنسان حين يفكر ويستعمل عقله يجد أن هذه الحرية‬
‫المؤقتة ال تساوي ما بعدها من سجن في جهنم طويل‪ ،‬وهذه اللذة‬
‫المحرمة ال تعدل ما بعدها من العذاب‪.‬‬
‫َمن يرضى أن نجعل بيننا وبينه عهداً‪ ،‬اتفاقية عند الكاتب‬
‫العدل مدتها سنة‪ ،‬نعطيه خاللها كل ما يطلب من مال و ُنسكنه‬
‫في القصر الذي يريد في البلد الذي يختار‪ ،‬ونزوجه بمن شاء من‬
‫النساء‪ ،‬مثنى وثالث ورباع‪ ،‬ولو طلق كل عشية واحدة وتزوج‬
‫ولكنا إذا انقضت‬
‫ّ‬ ‫كل صباح أخرى‪ ،‬وال نمنع عنه شيئ ًا يريده‪،‬‬
‫السنة ع ّلقناه من عنقه على المشنقة حتى يموت؟ أال يقول‪ :‬تعس ًا‬
‫وبعداً للذة سنة بعدها الموت؟ أال يتصور نفسه ساعة يعلَّق على‬‫ُ‬
‫المشنقة فيرى أنه لم يبق في يده شيء منها؟ مع أن ألم الشنق‬
‫بعض دقيقة وعذاب اآلخرة دهر طويل‪.‬‬
‫ليس منا أحد لم يقارف في عمره معصية ولم يجد لهذه‬
‫المعصية لذة‪ ،‬أقلها أنه آثر متعة الفراش مرة على القيام لصالة‬
‫الفجر‪ ،‬فماذا بقي في أيدينا اآلن من هذه اللذة التي أحسسنا بها‬
‫قبل عشر سنين؟ وليس منا أحد لم ُيكره نفسه على أداء طاعة ولم‬
‫يحمل لهذه الطاعة ألم ًا‪ ،‬أقله الجوع والعطش في رمضان‪ ،‬فماذا‬
‫بقي في نفوسنا اآلن من ألم الجوع في رمضان الذي جاء من عشر‬

‫‪26‬‬
‫سنين؟ ال شيء‪ .‬ذهبت لذات المعاصي وبقي عقابها‪ ،‬وذهبت‬
‫آالم الطاعات وبقي ثوابها‪ .‬وساعة الموت‪ ،‬ما الذي يبقى لنا ‪-‬تلك‬
‫الساعة‪ -‬من جميع اللذائذ التي ذقناها واآلالم التي حملناها؟‬
‫يؤجل‬
‫إن كل مؤمن يريد أن يتوب ويرجع إلى اهلل‪ ،‬ولكنه ّ‬
‫تبت وأنبت‪ ،‬ثم رأيت أني‬
‫حججت ُ‬
‫ُ‬ ‫ويسوف‪ .‬أنا كنت أقول‪ :‬إذ‬
‫ّ‬
‫تبت وأنبت‪،‬‬
‫حججت وما تبت‪ .‬وكنت أقول‪ :‬إذا بلغت األربعين ُ‬
‫فبلغتها وما تبت‪ ،‬وجاوزت الستين وما تبت‪ ،‬وشبت وما تبت‪.‬‬
‫ليس معنى هذا أني مقيم على المحرمات مرتكب للفواحش‪ ،‬ال‬
‫وبحمد اهلل‪ ،‬ولكن معناه أن اإلنسان يرجو لنفسه الصالح ولكنه‬
‫يسوف‪ ،‬يظن أن في األجل فسحة‪ ،‬يحسب أن العمر طويل فيرى‬ ‫ّ‬
‫الموت قد طرقه فجأة‪ .‬وقد رأيت أنا الموت مرتين وعرفت ما‬
‫شعور الميت‪« ،‬مرة لما غرقت في البحر ونجوت في آخر ثانية‪،‬‬
‫مت أو أشرفت‪،‬‬ ‫ومرة لما أجمع أطباء مستشفى دمشق على أني ّ‬
‫سرها األطباء»(‪،)1‬‬
‫ثم عدت إلى الحياة بمعجزة إلهية لم يعرف َّ‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬ما بين األقواس إضافة لم تظهر في طبعات الكتاب السابقة‪ ،‬وقد‬
‫ال في حلقات في جريدة >المدينة<‬ ‫ظهرت في أصله الذي ُنشر أو ً‬
‫فاستحسنت إثباتها في موضعها هنا لتمام المعنى‪ .‬وحادثة مرضه‬
‫كانت سنة ‪ 1957‬وأشار إليها في الحلقة ‪ 232‬من >الذكريات< فقال‪:‬‬
‫المرة الماضية (سنة‬
‫«وكان إخواننا يخافون أن يقع لي ما وقع في ّ‬
‫المجتهِد‪ ،‬وهو أكبر مستشفيات وزارة الصحة‬ ‫‪ )1957‬في مستشفى ُ‬
‫في دمشق في تلك األيام‪ ،‬حين جاء طبيب داخلي يتدرب فيه‪ ،‬وكان‬
‫سمى بالعربية‬
‫شيوعي ًا خبيث ًا‪ ،‬فأدخل في دمي جرثومة نادرة هي التي ُت ّ‬
‫>الع َص ّيات الزرقاء<‪ ،‬فكان من أثر ذلك أن بقيت في هذا المستشفى=‬‫ُ‬

‫‪27‬‬
‫وبقيت على هذا الشعور شهوراً صرت فيها صالح ًا‪ ،‬ثم انغمست‬
‫مرة ثانية في غمرة الحياة ونسيت‪ ،‬نسيت الموت‪.‬‬
‫كلنا ننسى الموت‪ ،‬نرى األموات يمرون بنا كل يوم ولكن‬
‫ال نتصور أننا سنموت‪ ،‬نقف في صالة الجنازة ونحن نفكر في‬
‫الدنيا‪ ،‬يظن كل واحد منا أن الموت ُكتب على الناس كلهم إال‬
‫عليهم‪ ،‬مع أن اإلنسان يعلم أن الدنيا مولية عنه وأنه ُم َولٍّ هو عنها‪.‬‬
‫مهما عاش اإلنسان فهو ميت‪ .‬ليعش ستين سنة‪ ،‬ليعش‬
‫سبعين‪ ،‬ليعش مئة سنة‪ ،‬أال تنقضي؟ أال تعرفون من عاش مئة‬
‫سنة ثم مات؟ نوح لبث يدعو قومه تسعمئة وخمسين سنة‪ ،‬فأين‬
‫نوح اآلن؟ هل بقيت له الدنيا؟ هل سلم من الموت؟ فلماذا ال‬
‫نفكر في الموت ونستعد له إن كان ال بد منه؟‬
‫َمن كانت أمامه سفرة ال يعرف موعدها أال يتهيأ لها حتى‬
‫الصيف الماضي‬
‫َ‬ ‫يكون جاهزاً‪ ،‬فإذا ُدعي أجاب؟ رأيت (وكنت‬
‫في عمان) المعلمين األردنيين الذين تعاقدوا مع المملكة العربية‬
‫خبروهم أن الطيارات تنقلهم تباع ًا‬
‫السعودية للعمل فيها وقد ّ‬
‫وودع أهله‬‫فليستعدوا‪ .‬فمن أنجز جواز سفره وأكمل حزم متاعه ّ‬
‫ووضع إلى جنبه ثيابه فإنه يلبي في أي ساعة يدعى فيها‪ ،‬فيلبس‬
‫______________________‬
‫= ثم في مستشفى كلية الطب حين انتقلت إليه أربعة عشر شهراً»‪ .‬أما‬
‫لج البحر< المنشورة في كتاب‬ ‫قصة الغرق فإنها مبسوطة في مقالة >في ّ‬
‫>من حديث النفس<‪ ،‬قال في أولها‪« :‬مات علي الطنطاوي! وليس‬
‫عجيب ًا أن يموت‪ ،‬فالموت غاية كل حي‪ ،‬ولكن العجيب أن يرجع‬
‫بعدما مات ليصف للقراء الموت الذي رآه» (مجاهد)‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫وأجل حتى إذا ُدعي قال لهم‬
‫ثيابه ويمضي إلى المطار‪ .‬ومن أهمل ّ‬
‫«أمهلوني حتى أنزل إلى السوق فأشتري متاعي وأذهب إلى القرية‬
‫فأودع أهلي وأراجع الحكومة الستخراج جوازي» لم يمهلوه‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬
‫ذهبوا وتركوه‪ .‬ولكن ملَك الموت إذا جاء ال يتركه ويذهب‪ ،‬بل‬
‫يأخذه ُكره ًا‪ ،‬يأخذه ولو كان آبي ًا‪ ،‬ال يمهله ساعة‪ ،‬وال دقيقة‪،‬‬
‫وال لمحة‪ ،‬وال يملك أن يمهله‪ ،‬وال يعرف أحد منا متى يأتي‬
‫ليأخذه ملك الموت‪.‬‬
‫* * *‬

‫وما الموت؟ ما حقيقته؟ إن لحياة اإلنسان مراحل‪ ،‬فمرحل ٌة‬


‫وهو جنين في بطن أمه‪ ،‬ومرحلة وهو في هذه الدنيا‪ ،‬ومرحلة‬
‫وهو في البرزخ بين الدنيا واآلخرة‪ ،‬من يوم موته إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫والمرحلة الدائمة‪ ،‬وهي الحياة الحقيقية‪ ،‬مرحلة اآلخرة‪ .‬ونسبة‬
‫كل مرحلة لما قبلها كنسبة ما بعدها إليها‪.‬‬
‫إن سعة هذه الدنيا بالنسبة لضيق بطن األم كسعة البزرخ‬
‫بالنسبة لهذه الدنيا وسعة اآلخرة بالنسبة للبرزخ‪ .‬إن الجنين يحسب‬
‫دنياه هذا البطن‪ ،‬ولو عقل وفكر وسئل وأجاب لقال بأن خروجه‬
‫فولد أحدهما قبل‬
‫منه موت محقق‪ .‬ولو كان في البطن توأمان ُ‬
‫ودفن‬
‫اآلخر ورآه نزل قبله ففارقه وقد كان معه لقال بأنه مات ُ‬
‫في األعماق‪ ،‬ولو رأى المشيمة التي كانت من جسده ملقاة مع‬
‫القمامة لظن بأنها هي أخوه وبكى عليها كما تبكي األم حين ترى‬
‫مس الغبار قد أودع التراب‪،‬‬
‫جسد ولدها الذي كانت تخشى عليه ّ‬
‫ال تدري أن هذا الجسد كالمشيمة‪ ،‬قميص توسخ وألقي‪ ،‬ثوب‬
‫انتهى وقته وانقضت الحاجة إليه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫هذا هو الموت‪ ،‬إنه والدة جديدة‪ ،‬خروج إلى مرحلة أطول‬
‫وأرحب من مراحل الحياة‪ .‬وما هذه الدنيا إال طريق‪ ،‬حياتنا فيها‬
‫كحياة المهاجر إلى أميركا‪ ،‬إنه يحسن اختيار غرفته في الباخرة‬
‫ويحرص على راحته فيها ويهتم بها‪ ،‬ولكن هل ينفق ماله كله‬
‫على تجديد فرشها ونقض جدرانها حتى ال يبقى معه شيء فيصل‬
‫إلى أميركا مفلس ًا خالي الوفاض‪ ،‬أم يقول‪« :‬إن مدة بقائي في هذه‬
‫وأمشي فيه الحال وأدخر‬
‫ّ‬ ‫الغرفة أسبوع ًا‪ ،‬فأنا أرضى فيه بما تيسر‬
‫المال إلعداد الدار التي سأسكنها في أميركا ألن فيها المقام»؟‬
‫أتعرفون ما مثال الدنيا واآلخرة؟‬
‫أعلنت أميركا مرة عن تجربة ذرية تجريها في جزيرة صغيرة‬
‫من جزر البحر الهادي‪ ،‬وكان ذلك من خمس عشرة سنة أو‬
‫نحوها‪ ،‬وكان في الجزيرة بضع مئات من السكان من صيادي‬
‫األسماك‪ ،‬فطلبت إليهم إخالء مساكنهم‪ ،‬على أن تعوضهم عنها‬
‫وعما فيها ببيوت مفروشة في أي بلد يريدون من البلدان‪ ،‬على‬‫ّ‬
‫أن يعلنوا استعدادهم إلخالئها وإحصاءهم لما فيها قبل موعد كذا‬
‫(وحددت لهم موعداً) ثم تأتي الطيارات فتحملهم من الجزيرة‪.‬‬
‫فمنهم من أعلن االستعداد لإلخالء وقدم اإلحصاء قبل‬
‫وأجل حتى قرب الموعد‪ ،‬ومنهم من‬ ‫الموعد‪ ،‬ومنهم من أهمل ّ‬
‫قال‪« :‬هذا كله كذب‪ ،‬ما في الوجود مكان اسمه أميركا وما الدنيا‬
‫إال هذه الجزيرة‪ ،‬ولسنا نتركها وال نرضى أن نفارقها»‪ ،‬ونسي أن‬
‫ستنسف كلها فتكون أثراً بعد أن كانت عين ًا‪.‬‬
‫الجزيرة ُ‬
‫هذا مثل الدنيا‪ ،‬واألول مثل المؤمن الذي يفكر في آخرته‬

‫‪30‬‬
‫ويستعد بالتوبة والطاعة دائم ًا للقاء ربه‪ ،‬والثاني مثل المؤمن‬
‫المقصر العاصي‪ ،‬والثالث مثل المادي الكافر الذي يقول‪ :‬إنما‬
‫هي حياتنا الدنيا‪ ،‬ال حياة بعدها‪ ،‬وإن الموت نوم طويل وراحة‬
‫دائمة وفناء محقق‪.‬‬
‫وليس معنى هذا أن اإلسالم يطلب من المسلم أن يزهد في‬
‫الدنيا مرة واحدة وينفض أصابعه منها‪ ،‬وال أن يسكن المساجد‬
‫فال يخرج منها‪ ،‬وال أن يأوي إلى مغارة يمضي حياته فيها‪ .‬ال‪،‬‬
‫الخيرة‬
‫بل إن اإلسالم يطلب من المسلمين أن يكونوا في الحضارة ّ‬
‫سادة المتحضرين‪ ،‬وفي المال أغنى األغنياء‪ ،‬وفي العلم‪ ،‬العلم‬
‫كله‪ ،‬أعلم العلماء‪ .‬وأن يعرف كل مسلم حق جسده عليه بالغذاء‬
‫والرياضة‪ ،‬وحق نفسه بالتسلية واإلجمام والمتعة بغير الحرام‪،‬‬
‫وحق أهله بالرعاية وحسن الصحبة‪ ،‬وحق ولده بالتربية والتوجيه‬
‫والعطف‪ ،‬وحق المجتمع بالعمل على كل ما يصلحه‪ ،‬كما يعرف‬
‫حق اهلل بالتوحيد والطاعة‪.‬‬
‫يجمع المال ولكن مع الحالل‪ ،‬ويستمتع بالطيبات المباحة‪،‬‬
‫ويكون في الدنيا على أحسن ما يكون عليها أهلها‪ ،‬بشرط أن يبقى‬
‫صحيح التوحيد‪ ،‬ال يداخل إيمانه شرك ظاهر أو خفي‪ ،‬صحيح‬
‫ّ‬
‫اإلسالم‪ ،‬يدع المحرمات ويأتي الفرائض‪ ،‬وأن يكون المال في‬
‫يده ال في قلبه‪ ،‬ال يكون اعتماده عليه بل يكون اعتماده على ربه‪،‬‬
‫وأن يكون رضا اهلل هو مقصده ومبتغاه‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪31‬‬
32
‫(‪)1‬‬
‫دين اإلسالم‬

‫قلت مرة لطالبي‪ :‬لو جاءكم رجل أجنبي فقال لكم أن لديه‬
‫ساعة من الزمن يريد أن يفهم فيها ما اإلسالم‪ ،‬فكيف ُتفهمونه‬
‫اإلسالم في ساعة؟‬
‫قالوا‪ :‬هذا مستحيل‪ ،‬وال بد له أن يدرس التوحيد والتجويد‬
‫والتفسير والحديث والفقه واألصول‪ ،‬ويدخل في مشكالت‬
‫ومسائل ال يخرج منها في خمس سنين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سبحان اهلل! أما كان األعرابي يقدم على رسول اهلل‬
‫’ فيلبث عنده يوم ًا أو بعض يوم فيعرف اإلسالم‪ ،‬ثم يحمله إلى‬
‫قومه فيكون لهم مرشداً ومعلم ًا ويكون لإلسالم داعي ًا ومبلغ ًا؟‬
‫وأبلغ من هذا‪ :‬أما شرح الرسول الدين كله (في حديث سؤال‬
‫جبريل) بثالث جمل تكلم فيها عن اإليمان واإلسالم واإلحسان؟‬
‫فلماذا ال نشرحه اليوم في ساعة؟‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أصل هذا الفصل هو المقالة التي نشرها المؤلف في مجلة >رابطة‬
‫العالم اإلسالمي< في رمضان ‪ 1387‬بعنوان >تعريف عام بدين‬
‫اإلسالم<‪ .‬انظر ص‪ 11‬في هذا الكتاب (مجاهد)‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫فما اإلسالم؟ وكيف يكون الدخول فيه؟‬
‫كل نِحلة من ال ِّن َحل الصحيحة والباطلة‪ ،‬وكل جمعية من‬
‫الخيرة‬
‫ّ‬ ‫الجمعيات النافعة والضارة‪ ،‬وكل حزب من األحزاب‬
‫والشريرة‪ ،‬لكل ذلك مبادئ وأسس فكرية ومسائل عقائدية(‪،)1‬‬
‫تحدد غايته وتوجه سيره وتكون كالدستور ألعضائه وأتباعه‪.‬‬
‫ال إلى هذه‬‫ومن أراد أن ينتسب إلى واحد منها نظر أو ً‬
‫المبادئ‪ ،‬فإن ارتضاها واعتقد صحتها وقبل بها بفكره الواعي‬
‫يبق عنده شك فيها طلب االنتساب إلى‬ ‫وبعقله الباطن ولم َ‬
‫الجمعية‪ ،‬فانتظم في سلك أعضائها ومتبعيها ووجب عليه أن‬
‫يقوم باألعمال التي ُيلزمه بها دستورها ويدفع رسم االشتراك‬
‫الذي يحدده نظامها‪ ،‬وكان عليه بعد ذلك أن يدل بسلوكه على‬
‫إخالصه لمبادئها‪ ،‬فيتذكر هذه المبادئ دائم ًا فال يأتي من األعمال‬
‫ال حسن ًا عليها وداعية‬
‫ما يخالفها‪ ،‬بل يكون بأخالقه وسلوكه مثا ً‬
‫فعلي ًا لها‪.‬‬
‫فالعضوية في الجمعية هي >علم< بنظامها‪ ،‬و>اعتقاد<‬
‫بمبادئها‪ ،‬و>إطاعة< ألحكامها‪ ،‬و>سلوك< في الحياة موافق لها‪.‬‬
‫هذا وضع عام ينطبق على اإلسالم‪ ،‬فمن أراد أن يدخل‬
‫ال أن يقبل أسسه العقلية وأن يصدق بها‬
‫في دين اإلسالم عليه أو ً‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬تجوز النسبة إلى الجمع إذا جرى مجرى العلم‪ ،‬فنقول‪> :‬حقوق‬
‫دولية< و>قوانين عمالية< و>مظاهرات طالبية< و>مسائل عقائدية<‪،‬‬
‫كما قالوا كذلك‪> :‬عالم أصولي< و>رجل أنصاري< و>مائدة ملوكية<‬
‫و>رسائل إخوانية<‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫تصديق ًا جازم ًا حتى تكون له عقيدة‪ .‬وهذه األسس تتلخص في أن‬
‫يعتقد أن هذا العالم المادي ليس كل شيء وأن هذه الحياة الدنيا‬
‫ليست هي الحياة كلها‪ .‬فاإلنسان كان موجوداً قبل أن يولد وسيظل‬
‫وجد نفسه بل ُوجد قبل أن يعرف‬ ‫موجوداً بعد أن يموت‪ ،‬وأنه لم ُي ِ‬
‫نفسه‪ ،‬ولم توجده هذه الجمادات من حوله ألنه عاقل وال عقل‬
‫لها‪ ،‬بل أوجده وأوجد هذه العوالم كلها من العدم إله واحد‪ ،‬هو‬
‫وحده الذي يحيي ويميت‪ ،‬وهو الذي خلق كل شيء‪ ،‬وإن شاء‬
‫أفناه وذهب به‪ .‬وهذا اإلله ال يشبه شيئ ًا مما في العوالم‪ ،‬قديم ال‬
‫أول له‪ ،‬باق ال آخر له‪ ،‬قادر ال حدود لقدرته‪ ،‬عالم ال يخفى‬
‫شيء عن علمه‪ ،‬عادل ولكن ال تقاس عدالته المطلقة بمقاييس‬
‫العدالة البشرية‪ .‬هو الذي وضع نواميس الكون التي نسميها >قوانين‬
‫وحدد من األزل جزئياته‬
‫ّ‬ ‫الطبيعة<‪ ،‬وجعل كل شيء فيها بمقدار‪،‬‬
‫وأنواعه وما يطرأ عليه على األحياء وعلى الجمادات من حركة‬
‫ال يحكم‬ ‫وتحول وفعل وترك‪ ،‬ومنح اإلنسان عق ً‬ ‫ّ‬ ‫وسكون وثبات‬
‫ال‬
‫به على كثير من األمور التي جعلها خاضعة لتصرفه‪ ،‬وأعطاه عق ً‬
‫يختار به ما يريد‪ ،‬وإرادة يحقق بها ما يختار‪ ،‬وجعل بعد هذه‬
‫الحياة المؤقتة حياة دائمة في اآلخرة فيها ُيكا َفأ المحسن في الجنة‬
‫ويعا َقب المسيء في جهنم‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهذا اإلله واحد أحد‪ ،‬ال شريك له ُيعبد معه وال وسيط‬
‫يقرب إليه ويشفع عنده بال إذنه‪ ،‬فالعبادة له وحده خالصة‪ ،‬بكل‬
‫ّ‬
‫مظاهرها‪.‬‬
‫درك بالحواس‪ ،‬ومخلوقات‬ ‫له مخلوقات مادية ظاهرة لنا ُت َ‬
‫مغيبة عنا‪ ،‬بعضها جماد وبعضها حي مكلَّف‪ ،‬ومن األحياء ما هو‬
‫َّ‬
‫ّ‬

‫‪35‬‬
‫خالص للخير المحض‪ ،‬وهم المالئكة‪ ،‬ومنها ما هو مخصوص‬
‫بالشر المحض‪ ،‬وهم الشياطين (وهم من الجن)‪ ،‬وما هو مختلط‪،‬‬
‫الخير والشرير والصالح والطالح‪ ،‬وهم اإلنس والجن‪.‬‬
‫منه ّ‬
‫الملَك بالشرع اإللهي‬
‫وأنه يختار ناس ًا من البشر ينزل عليهم َ‬
‫ليب ّلغوه البشر‪ ،‬وهؤالء هم الرسل‪ .‬وأن هذه الشرائع تتضمنها‬
‫كتب وصحائف أُنزلت من السماء‪ ،‬ينسخ المتأخر منها ما ّ‬
‫تقدمه‬
‫أو يعدله‪ ،‬وأن آخر هذه الكتب هو القرآن‪ ،‬وقد ُح ِّرفت الكتب‬
‫والصحف قبله أو ضاعت و ُنسيت وبقي هو سالم ًا من التحريف‬
‫والضياع‪ .‬وأن آخر هؤالء الرسل واألنبياء هو محمد بن عبد اهلل‬
‫نبي‬
‫العربي القرشي‪ُ ،‬ختمت به الرساالت وبدينه األديان‪ ،‬فال َّ‬
‫بعده‪.‬‬
‫* * *‬

‫فالقرآن هو دستور اإلسالم‪ ،‬فمن صدق بأنه من عند اهلل‬


‫ال ُس ّمي مؤمن ًا‪ ،‬واإليمان بهذا المعنى ال‬
‫وآمن به جمل ًة وتفصي ً‬
‫يطّلع عليه إال اهلل‪ ،‬ألن البشر ال يش ّقون قلوب الناس وال يعلمون‬
‫عده المسلمون واحداً منهم‪ -‬أن‬ ‫‪-‬لي ّ‬
‫ما فيها‪ ،‬لذلك وجب عليه َ‬
‫يعلن هذا اإليمان بالنطق بلسانه بالشهادتين‪ ،‬وهما‪> :‬أشهد أن ال‬
‫إله إال اهلل‪ ،‬وأشهد أن محمداً رسول اهلل<‪.‬‬

‫ال في دولة‬‫فإذا نطق بهما صار مسلم ًا‪ ،‬أي >مواطن ًا< أصي ً‬
‫اإلسالم‪ ،‬وتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلم‪ ،‬و َقبِل‬
‫بالقيام بجميع األعمال التي يكلفه بها اإلسالم‪ .‬وهذه األعمال (أي‬
‫العبادات) قليلة سهلة‪ ،‬ليس فيها مشقة بليغة وليس فيها حرج‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫أولها‪ :‬أن يركع في الصباح ركعتين يناجي فيهما ربه‪ ،‬يسأله‬
‫من خيره ويعوذ به من عقابه‪ ،‬وأن يتوضأ قبلهما‪ ،‬أي يغسل‬
‫أطرافه‪ ،‬أو يغسل جسده كله (إن كانت به جنابة)‪ .‬وأن يركع في‬
‫وسطه أربع ًا‪ ،‬ثم أربع ًا‪ ،‬وأن يركع بعد غياب الشمس ثالث ًا‪ ،‬وفي‬
‫الليل أربع ًا‪ .‬هذه هي الصلوات المفروضة‪ ،‬ال يستغرق أداؤها كلها‬
‫تؤدى إال فيه وال‬
‫نصف ساعة في اليوم‪ ،‬ال ُيشترط لها مكان ال َّ‬
‫تصح إال معه‪ ،‬وال واسطة فيها‬
‫ّ‬ ‫شخص معين (أي رجل دين) ال‬
‫(وال في العبادات كلها) بين المسلم وربه‪.‬‬
‫أن في السنة شهراً معين ًا يقدم فيه المسلم فطوره‬‫الثاني‪ّ :‬‬
‫ال من أن يكون في أول النهار‪ ،‬ويؤخر‬ ‫فيجعله في آخر الليل بد ً‬
‫غداءه إلى ما بعد غروب الشمس‪ ،‬ويمتنع في النهار عن الطعام‬
‫والشراب ومعاشرة النساء‪ ،‬فيكون من ذلك شهر صفاء لنفسه‬
‫لخل ُقه وصحة لجسده‪ ،‬ويكون هذا الشهر‬ ‫وراحة لمعدته وتهذيب ُ‬
‫مظهراً من مظاهر االجتماع على الخير والتساوي في العيش‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه إذا فضل عن نفقات نفسه ونفقات عياله مقدار‬
‫من المال محدود‪ ،‬بقي سنة كاملة ال يحتاج إليه ألنه في غنى عنه‪،‬‬
‫ُكلِّف أن ُيخرج منه بعد انقضاء السنة مبلغ اثنين ونصف في المئة‬
‫للفقراء والمحتاجين‪ ،‬ال يحس هو بثقلها ويكون فيها عون بالغ‬
‫للمحتاج‪ ،‬وركن وطيد للتضامن االجتماعي‪ ،‬وشفاء من داء الفقر‬
‫الذي هو شر األدواء‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إن اإلسالم رتب للمجتمع اإلسالمي اجتماعات‬
‫دورية‪ :‬اجتماع بمثابة مجالس الحارات ُيع َقد خمس مرات في‬
‫اليوم‪ ،‬مثل حصص المدرسة‪ ،‬هو صالة الجماعة‪ ،‬يوثق كل‬

‫‪37‬‬
‫عضو فيه عبوديته هلل بالقيام بين يديه‪ ،‬ويكون من ثماره أن يعين‬
‫األقوياء الضعيف ويع ّلم العلماء الجاهل ويسعف األغنياء الفقير‪،‬‬
‫ال عن عمله وال تاجراً عن‬
‫ومدة انعقاده ربع ساعة‪ ،‬فال يعطل عام ً‬
‫تجارته‪ ،‬وإذا تم االجتماع وتخلف عنه مسلم فص ّلى في بيته لم‬
‫ُيعا َقب على تخلفه ولكن فاته ثواب حضوره‪ .‬واجتماع لمجالس‬
‫األحياء ُيعقد مرة في األسبوع هو صالة الجمعة‪ ،‬ومدة انعقاده أقل‬
‫من ساعة وحضوره واجب على الرجال‪ .‬واجتماع هو كالمؤتمر‬
‫الشعبي العام‪ُ ،‬يعقد كل سنة في مكان معين‪ ،‬هو في الحقيقة دورة‬
‫توجيهية ورياضية وفكرية‪ ،‬يكلف المسلم بأن يحضره مرة واحدة‬
‫في العمر (إذا قدر على حضوره) وهو الحج‪.‬‬
‫* * *‬

‫هذه هي >العبادات< األصلية التي ُيكلَّف بها‪.‬‬


‫ومن العبادات أن يمتنع عن أفعال معينة‪ ،‬أفعال ُيجمع‬
‫عقالء الدنيا على أنها شر وأن الواجب االمتناع عنها‪ ،‬كالقتل‬
‫والم ْسكر الذي‬
‫والتعدي على الناس‪ ،‬والظلم بأنواعه‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بال حق‪،‬‬
‫يغيب العقل‪ ،‬والزنا الذي يذهب األعراض ويخلط األنساب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والربا والكذب والغش والغدر‪ ،‬والفرار من الخدمة العسكرية التي‬
‫يراد منها إعالء كلمة اهلل‪ .‬ومنها (بل من أشدها) عقوق الوالدين‬
‫والحلف كاذب ًا وشهادة الزور‪ ،‬وأمثال ذلك من األعمال القبيحة‬
‫الشريرة التي تجتمع العقول على إدراك قبحها وشرها‪.‬‬
‫وإذا قصر المسلم في القيام ببعض الواجبات أو ارتكب‬
‫بعض الممنوعات ثم رجع وتاب وطلب العفو من اهلل فإن اهلل يعفو‬

‫‪38‬‬
‫عنه‪ ،‬وإن لم يتب فإنه يبقى مسلم ًا معدوداً في المسلمين ولكنه‬
‫يكون >عاصي ًا< يستحق العقاب في اآلخرة‪ ،‬ولكن عقابه مؤقت ال‬
‫يدوم دوام عقاب الكافر‪.‬‬
‫شك فيها‬
‫أما إذا أنكر بعض المبادئ (أي العقائد األصلية) أو ّ‬
‫جمع ًا على حرمته أو‬‫جمع ًا على وجوبه أو حرام ًا ُم َ‬
‫أو جحد واجب ًا ُم َ‬
‫أنكر ولو كلمة واحدة من القرآن فإنه يخرج من الدين ويعتبر مرتداً‬
‫( ُتنزع عنه الجنسية اإلسالمية)‪ .‬والردة أكبر جريمة في اإلسالم‪،‬‬
‫فهي كالخيانة العظمى في القوانين الحديثة‪ ،‬جزاؤها ‪-‬إن لم يرجع‬
‫عنها ويتنصل منها‪ -‬الموت‪ .‬وقد يترك المسلم بعض الواجبات أو‬
‫يأتي بعض الممنوعات وهو معترف بالوجوب والحرمة‪ ،‬فيبقى‬
‫ال‬
‫مسلم ًا ولكنه يكون عاصي ًا‪ ،‬أما اإليمان فال يتجزأ‪ ،‬فلو آمن مث ً‬
‫بتسع وتسعين عقيدة وكفر بواحدة فقط كان كافراً‪.‬‬
‫وقد يكون المسلم غير مؤمن‪ ،‬كمن انتسب إلى حزب أو‬
‫جمعية وحضر اجتماعاتها ودفع اشتراكاتها وقام بواجب العضو‬
‫فيها‪ ،‬ولكنه لم يقبل بمبادئها ولم يقتنع بصحتها‪ ،‬بل دخل فيها‬
‫للتجسس عليها أو إفساد أمرها‪ .‬وهذا هو المنافق(‪ )1‬الذي ينطق‬
‫بالشهادتين ويؤدي العبادات ظاهراً ولكنه غير مؤمن بالحقيقة وال‬
‫معتبراً من المسلمين‪ ،‬ألن‬
‫َ‬ ‫ناج عند اهلل‪ ،‬وإن كان عند الناس‬‫ٍ‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬النفاق هو إظهار اإليمان وإبطال الكفر‪ ،‬وليس منه قوله ’‪> :‬آية‬
‫المنافق ثالث‪ <...‬فمن أخلف الوعد وكذب القول أو خان األمانة ال‬
‫يعتبر بهذا وحده كافراً‪ ،‬وإنما هو نفاق اجتماعي غير النفاق األصلي‪،‬‬
‫نفاق العقيدة الذي ذكرناه‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫الناس لهم الظواهر واهلل وحده يطّلع على السرائر والقلوب‪.‬‬
‫فإذا آمن اإلنسان باألسس الفكرية لإلسالم‪ ،‬وهي التصديق‬
‫المطلق باهلل وتنزيهه عن الشريك والوسيط وبالمالئكة وبالرسل‬
‫وبالكتب وبالحياة اآلخرة وبالقدر‪ ،‬ونطق الشهادتين وصلى‬
‫الفرائض وصام رمضان وأدى زكاة ماله (إن وجبت عليه الزكاة)‬
‫المجمع‬
‫َ‬ ‫وحج مرة في العمر (إن استطاع) وامتنع عن المحرمات‬
‫على حرمتها فهو مسلم مؤمن‪ ،‬ولكن ثمرة اإليمان ال تظهر منه‬
‫ال حتى يسلك في حياته‬ ‫حس بحالوته وال يكون مسلم ًا كام ً‬
‫وال ُي ّ‬
‫مسلك المسلم المؤمن‪.‬‬
‫ولقد لخص رسول اهلل ’ منهاج هذا السلوك بجملة واحدة‪،‬‬
‫كلمة من جوامع الكلم ومن أبلغ ما نطق به بشر‪ ،‬كلمة تجمع‬
‫الخير كله‪ ،‬خير الدنيا وما في َع ِقبه من خير اآلخرة‪ ،‬هي أن‬
‫وجده وهزله‬
‫ّ‬ ‫يتذكر المسلم في قيامه وقعوده وخلوته وجلوته‬
‫وفي حاالتها كلها أن اهلل مطّلع عليه وناظر إليه‪ ،‬فال يعصيه وهو‬
‫يذكر أنه يراه‪ ،‬وال يخاف أو ييأس وهو يعلم أنه معه‪ ،‬وال يشعر‬
‫بالوحشة وهو يناجيه‪ ،‬ال يحس بالحاجة إلى أحد وهو يطلب منه‬
‫ويدعوه‪ ،‬فإن عصى (ومن طبيعته أن يعصي) رجع وتاب فتاب‬
‫اهلل عليه‪.‬‬
‫كل ذلك من قوله ’ في تعريف اإلحسان‪> :‬أن تعبد اهلل‬
‫كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك<‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪40‬‬
‫هذا هو دين اإلسالم بالقول المجمل‪ ،‬وتفصيله يأتي‪:‬‬
‫>العقيدة< في هذا الجزء‪ ،‬و>اإلسالم< و>اإلحسان< في األجزاء‬
‫(‪)1‬‬
‫التالية إن شاء اهلل‪.‬‬
‫* * *‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬عندما كتب جدي هذا الكتاب كان في ذهنه أن ينشر بعده جزأين‬
‫تعريف اإلسالم‪ :‬عقيد ًة وعباد ًة وسلوك ًا‪ .‬وبقي‬
‫ُ‬ ‫كمل بهما‬
‫آخ َرين َي ُ‬
‫َ‬
‫لما أقمت معه في أواخر‬ ‫ال‪ ،‬وأدركته ّ‬‫هذا الخاطر في ذهنه سنين طوا ً‬
‫السبعينيات فكنت أعاونه في ترتيب كتبه وأوراقه وأحثه على إكمال‬
‫نشر حتى ذلك الوقت‪ ،‬ولكنه كان‬ ‫وي َ‬
‫ونشر ما لم يكمل من الكتب ُ‬
‫يؤجل العمل ويدافعه (على عادته رحمه اهلل) حتى ضعفت الهمة‬
‫غير هذا‬
‫وتصرم الوقت‪ ،‬وشاء اهلل أن يمضي إلى لقاء ربه ولم يصدر ُ‬ ‫ّ‬
‫الجزء الوحيد الذي بارك اهلل فيه وكتب له االنتشار وال َقبول (مجاهد)‪.‬‬

‫‪41‬‬
42
‫تعريفات‬

‫أعرف فيه العقيدة‪ -‬من أن‬


‫ال بد لي ‪-‬في هذا الفصل الذي ّ‬
‫أعرض إلى توضيح بعض المصطلحات التي يكثر دورانها على‬
‫ألسنة العلماء وورودها في كتب العقائد‪ ،‬وهي >الشك< و>الظن<‬
‫و>العلم<‪ ،‬ألصل منها إلى تعريف >العقيدة<‪.‬‬
‫ديكارت في منهجه المشهور ومن قبله الغزالي في >المنقذ‬
‫شك ديكارت‬ ‫من الضالل< بدآ بالشك ليصال منه إلى اليقين‪ّ .‬‬
‫ال للتحقق‪ ،‬فما هو الشك؟‬‫ليتخذ من الشك سبي ً‬
‫ال وسألك سائل‪ :‬هل في الطائف اآلن‬ ‫إذا كنت في مكة مث ً‬
‫مطر؟ ال تستطيع أن تقول‪> :‬نعم< وال تستطيع أن تقول >ال<‪،‬‬
‫ألن من الممكن أن يكون في الطائف في تلك الساعة مطر ومن‬
‫الممكن أن يكون الجو فيها صحواً ال مطر فيه‪ .‬إمكان وجود المطر‬
‫ال وإمكان عدمه خمسون‪ ،‬تساوي الطرفان‬ ‫خمسون في المئة مث ً‬
‫يرجح العدم‪ .‬وهذا هو >الشك<‪.‬‬
‫يرجح الوجود وال دليل ّ‬ ‫فال دليل ّ‬
‫فإن نظرت وأبصرت في جهة الشرق (والطائف شرقي مكة)‬
‫غيوم ًا تلوح على حواشي األفق من بعيد رجح عندك رجحان ًا‬
‫خفيف ًا أن في الطائف مطراً‪ ،‬وهذا الرجحان الخفيف إلمكان‬

‫‪43‬‬
‫الوجود هو ما يسمونه >الظن<‪ .‬فأنت تقول‪« :‬أظن أن في الطائف‬
‫ال >نعم< وأربعون >ال<‪.‬‬
‫اآلن مطراً»‪ ،‬فالظن ستون في المئة مث ً‬
‫واسود وتراكب وخرج‬
‫ّ‬ ‫فإن رأيت الغمام قد ازداد وتراكم‬
‫البرق يلمع من خالله ازداد ظنك بنزول المطر في الطائف‪ ،‬فصار‬
‫لـ>نعم< سبعون أو خمس وسبعون في المئة‪ ،‬وكان هذا ما يسميه‬
‫علماؤنا >غلبة الظن<‪ ،‬فأنت تقول لسائلك‪ :‬يغلب على ظني أن‬
‫في الطائف اآلن مطراً‪ .‬فإن أنت ذهبت إلى الطائف فرأيت المطر‬
‫بعينك وأحسست به على وجهك أيقنت بنزوله‪ ،‬وعلماؤنا يسمون‬
‫هذا اليقين >علم ًا<‪.‬‬
‫ٍ‬
‫معان‪> :‬العلم< المطلق الذي يقابل‬ ‫فصار لكلمة العلم‬
‫الجهل‪ .‬و>العلم< الذي يقابل الفن والفلسفة‪ ،‬فالكيمياء علم‪،‬‬
‫أما الرسم فهو فن والشعر فن‪ ،‬والعلم بهذا المعنى هو الذي‬
‫تكون غايته الحقيقة‪ ،‬وأداته العقل‪ ،‬ووسيلته المحاكمة والتجربة‬
‫واالستقراء‪ ،‬والفن هو الذي تكون غايته الجمال‪ ،‬وأداته الشعور‬
‫ووسيلته الذوق‪ .‬و>العلم< الذي يجيء بمعنى اليقين‪ ،‬ويقابل‬
‫الشك والظن‪ ،‬وهو الذي نقصده في هذا البحث(‪.)1‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬أما العلم بالمعنى الخاص‪ ،‬كقولنا >علم النحو< و>علم الكيمياء<‪،‬‬
‫فلعلمائنا فيه تعريفات كثيرة‪ ،‬ولكن أوضح تعريف وأبعده عن التعقيد‬
‫عرفه به سارتون بقوله‪« :‬العلم هو مجموعة معارف محققة‬ ‫هو ما ّ‬
‫ومنظمة»‪ .‬فبقوله >معارف< خرجت المشاعر والخياالت‪ ،‬وبقوله‬
‫>محققة< خرجت النظريات والفروض‪ ،‬وبقوله >منظمة< خرجت‬
‫المعارف المبعثرة المتفرقة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫العلم الضروري والعلم النظري‬
‫العلم الذي يحصل بالحس والمشاهدة ال يحتاج إلى دليل‪.‬‬
‫الجبل الذي تراه أمامك ال تحتاج إلى إقامة الدليل على وجوده‪،‬‬
‫إنك تعلم ‪-‬ضرور ًة‪ -‬بأنه موجود‪ ،‬وكل من يراه (من العقالء)‬
‫يعلم أنه موجود‪ .‬وهذا ما يسمى >العلم الضروري<‪.‬‬
‫أما العلم بأن مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوي‬
‫مرب َعي الضلعين القائمين فيحتاج إلى دليل عقلي‪ ،‬فالعالم‬
‫مجموع ّ‬
‫أو طالب العلم الذي يصل إلى الدليل يعلم هذه الحقيقة‪ ،‬أما‬
‫العامي الجاهل فال يعلمها وال يصدق بها ما دام لم يطّلع على‬
‫هذا الدليل‪ ،‬ولو رأى المثلث أمامه‪ ،‬ولو أقيم على كل ضلع منه‬
‫مربع له‪ .‬وهذا ما يسمى بالعلم النظري‪ ،‬وهو الذي ال يحصل إال‬
‫بالدليل العقلي‪.‬‬

‫البديهية والعقيدة‬
‫ومن العلم النظري ما يحتاج في األصل إلى دليل وال‬
‫يعم ويشتهر حتى يدركه‬
‫درك بمجرد الحس والمشاهدة‪ ،‬ولكنه ّ‬ ‫ُي َ‬
‫العالم والجاهل والكبير والصغير‪ ،‬وحتى يصير أقرب إلى >العلم‬
‫الضروري<‪ .‬مثاله‪ :‬العلم بأن >الجزء أصغر من الكل<‪ .‬الرغيف‬
‫الناقص أصغر من الرغيف الكامل‪ ،‬هذه حقيقة هي في األصل من‬
‫العلم النظري الذي يحتاج إلى دليل‪ ،‬ولكنك ال تجد من يشك‬
‫فيها ويطلب الدليل عليها‪ ،‬فالطفل إذا أخذت منه كف الشكالطة‬
‫الكامل وأعطيته كف ًا ناقص ًا ال يقبله‪ ،‬وإذا حاولت إقناعه بأن هذا‬
‫أكبر لم يقنع ألن كون الجزء أصغر من الكل بديهية‪ .‬و>مقولة‬

‫‪45‬‬
‫الهو ِّية< (أي كون الشي هو نفسه) بديهية‪ ،‬ولو قال لك قائل «أثبت‬
‫ُ‬
‫لي أن هذا القلم الذي تحمله بيدك ليس ملعقة شاي» تقول له‪ :‬هذه‬
‫بديهية ال تحتاج إلى إثبات ألن القلم قلم‪.‬‬
‫فالبديهيات(‪ )1‬هي الحقائق العقلية التي يقبلها الناس جميع ًا‬
‫ال‪ ،‬فإذا دخلت البديهية العقل الباطن‬ ‫وال يطلب أحد عليها دلي ً‬
‫واستقرت فيه وأثرت في الحدس والشعور ووجهت اإلنسان في‬
‫وسمي االعتقاد‬
‫تفكيره (عقله الواعي) وفي أعماله ُس ِّم َيت >عقيدة< ُ‬
‫بها >إيمان ًا<‪.‬‬
‫ولكنا نعرف أن اإلنسان يعتقد الحق أحيان ًا ويعتقد الباطل‬
‫حين ًا‪ ،‬ونشاهد في هذه األيام من أتباع المذاهب المنحرفة والمبادئ‬
‫الباطلة من امتزج بها قلب ًا وقالب ًا وتمسك بها ظاهراً وباطن ًا وبذل‬
‫ماله ونفسه في نصرتها وحمايتها‪ ،‬فهل نسمي هؤالء مؤمنين؟ أما‬
‫إطالق ًا فال‪ ،‬ولكن يمكن أن نطلق عليه اسم اإليمان مضاف ًا إلى‬
‫الباطل الذي يؤمنون به‪ ،‬على نحو قوله تعالى‪{ :‬ألم َت َر إلى الذين‬
‫بالجب ِ‬
‫ت والطاغوت}‪.‬‬ ‫أو ُتوا نصيب ًا من الكتاب ُيؤمنون ِ ْ‬
‫مقيداً بالوصف‪ ،‬نحو قوله‬ ‫ويمكن إطالق اسم اإليمان َّ‬
‫أكثرهم باهلل إال وهم مشركون}‪ .‬أما اإليمان‬
‫تعالى‪{ :‬وما ُيؤمن ُ‬
‫بالمعنى الخاص الذي ال ينصرف إذا أُطلق إال إليه وال يدل إال‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬القياس أن نقول في النسبة إلى البديهية بدهي‪ ،‬لكن علماءنا استعملوا‬
‫من القديم كلمة >بديهي< و>طبيعي< كما يستعملها جمهور الناس‬
‫اليوم‪ .‬وأنا أؤثر أن أستعمل العامي الفصيح تنبيه ًا على فصاحته‪ ،‬وقد‬
‫نبهت في حواشي كتبي إلى عشرات وعشرات من هذه الكلمات‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫عليه‪ ،‬المعنى الذي يراد كلما ورد ذكر اإليمان ومشتقاته في‬
‫الكتاب والسنة وعلى ألسنة العلماء‪ ،‬فهو‪« :‬االعتقاد باهلل رب ًا‬
‫شرك‬ ‫واحداً‪ .‬ومالك ًا مختاراً متصرف ًا‪ .‬وإله ًا مفرداً بالعبادة‪ ،‬ال ُي َ‬
‫غيره في كل ما هو من جنس العبادة‪ .‬واالعتقاد بكل ما أَ ْوحى‬ ‫معه ُ‬
‫به إلى نبيه‪ ،‬من خبر المالئكة والرسل واليوم اآلخرة والقدر خيره‬
‫وشره»‪.‬‬
‫وصاحب هذا االعتقاد هو المؤمن‪ ،‬فإن نقص(‪ )1‬شيئ ًا منه أو‬
‫رده‪ ،‬أو تردد في تصديقه أو شك فيه ف َق َد صفة اإليمان ولم َي ُعد‬ ‫ّ‬
‫ُي َع ُّد مع المؤمنين‪.‬‬
‫* * *‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬نقص شيئ ًا منه بمعنى أنقص‪.‬‬

‫‪47‬‬
48
‫(‪)1‬‬
‫قواعد العقائد‬

‫القاعدة األولى‬
‫ما أدركه بحواسي ال أشك في أنه موجود‪.‬‬
‫المشاهد أني أمشي في‬
‫َ‬ ‫هذه بديهية عقلية مسلَّمة‪ ،‬ولكن‬
‫الصحراء ساعة الظهيرة فأرى بركة ماء تلوح ظاهرة للعين‪ ،‬فإذا‬
‫جئتها لم أجد إال التراب ألن الذي رأيته سراب‪ .‬وأضع القلم‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أستأذن قارئ كتابي بأن أمهد لذكر هذه القواعد بكلمة ليست من‬
‫موضوع هذا الكتاب‪ ،‬ولكنها تبين قصتها وكيف وصلت إليها‪.‬‬
‫أدرس األدب العربي في بغداد قبل الحرب‬ ‫وتفصيل ذلك‪ :‬أنني كنت ّ‬
‫أدرس معه الدين‪.‬‬ ‫الثانية‪ ،‬فكُ ّلفت في النصف الثاني من العام أن ّ‬
‫شرح‪ ،‬فقبلت ودخلت‪،‬‬ ‫فسر و ُت َ‬
‫وكان منهج الدين سوراً من القرآن ُت َّ‬
‫فإذا الفصل في هرج ومرج‪ ،‬وكان عهدي به في درس األدب هادئ ًا‬
‫ساكن ًا‪ ،‬وإذا الطالب يتخذون من درس الدين مسالة ومضيعة للوقت‪.‬‬
‫وأدركت أن سبب ذلك ضعف اإليمان في نفوسهم‪ ،‬فقلت لهم‪:‬‬
‫ارفعوا المصاحف واسمعوا‪ ...‬وألهمني اهلل إلهام ًا مفاجئ ًا بال إعداد‬
‫سابق بحث ًا جديداً في اإليمان‪ ،‬وضعت فيه بعض هذه القواعد‬
‫ونشرت خالصته في مجلة >الرسالة< سنة ‪ ،1937‬وهو في كتابي=‬

‫‪49‬‬
‫المستقيم في كأس الماء فأراه منكسراً‪ ،‬وهو لم ينكسر‪ .‬ويكون‬
‫الحديث فيها عن الجن والعفاريت ثم يذهب إلى‬
‫ُ‬ ‫المرء في سهر ٍة‬
‫داره‪ ،‬فإن كان الطريق خالي ًا مظلم ًا وكان مخلوع القلب واسع‬
‫الخيال رأى أمامه جني ًا أو عفريت ًا‪ ،‬فشاهده وأحس بوجوده وما‬
‫ثمة شيء مما رأى‪ .‬والسحرة والمشعوذون يعرضون غرائب تراها‬
‫وال حقيقة لها‪.‬‬
‫فالحواس إذن تخطئ وتخدع وتتوهم‪ ،‬أو يتوهم صاحبها‪،‬‬
‫فهل أشك ‪-‬لهذا‪ -‬في وجود ما أحس به؟ ال‪ ،‬ألني إن شككت‬
‫لدي الحقائق والخياالت‬
‫ّ‬ ‫فيما أرى وأسمع وأحس تداخلت‬
‫وصرت أنا والمجنون سواء‪.‬‬
‫ولكن أضيف شرط ًا آخر لحصول العلم (أي اليقين) بوجود‬
‫ْ‬
‫ما أحسه‪ ،‬هو أن يحكم العقل بالتجربة السابقة أن الذي أحس‬
‫خدع أول مرة فيحسب‬ ‫خداع حواس‪ .‬والعقل ُي َ‬
‫َ‬ ‫ليس وهم ًا أو‬
‫السراب ماء‪ ،‬فإذا رآه مرة أخرى أدرك أنه سراب‪ .‬والعقل يحكم‬
‫______________________‬
‫= > ِفكَ ر ومباحث<‪ .‬ولما ُك ّلفت وضع مناهج مدارس األوقاف في سوريا‬
‫وطبقت كما وضعتها) أدخلت‬ ‫أيام الوحدة (ووضعتها كلها وحدي ِّ‬
‫هذه القواعد في المنهج ودللت على ما كتبته ليكون مرجع ًا‪ ،‬فأخذه‬
‫وادعاه لنفسه ووضعه في كتابه‪ ،‬ولكن لم‬
‫أحد المؤلفين في العقائد ّ‬
‫َي ِ‬
‫هتد إلى ما أريده منه‪ ،‬فمشى في أول الطريق وضاع في آخره‪ .‬فلما‬
‫أُحلت على المعاش (وكنت مستشار محكمة النقض) وذهبت إلى‬
‫أدرس في كلية التربية فيها سنة ‪1384‬ﻫ رجعت‬‫الرياض ثم إلى مكة ّ‬
‫إلى هذه القواعد‪ ،‬وزدت فيها حتى بلغت ثماني قواعد هي التي‬
‫أذكرها هنا‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫بعد أن رأى القلم منكسراً ألول مرة أنه ال يزال مستقيم ًا كما‬
‫كان وإن بدا للعين منكسراً‪ .‬واألمور التي تخطئ فيها الحواس أو‬
‫ُتخدع أمور محدودة معدودة معروفة ال ُتبطل القاعدة وال تؤثر‬
‫فيها‪ ،‬ومنها عمل سحرة فرعون وما يعمله سحرة >السيرك< في‬
‫هذه األيام‪.‬‬
‫القاعدة الثانية‬
‫إن اليقين كما يحصل بالحس والمشاهدة يحصل بالخبر الذي‬
‫نعتقد صدق صاحبه‪.‬‬
‫هناك أشياء ما شاهدناها وال أحسسنا بها ولكن نوقن بوجودها‬
‫كما نوقن بوجود ما نشاهده ونحس به‪ .‬نوقن بوجود الهند والبرازيل‬
‫ولم َن ُز ْرهما ولم َن َرهما‪ ،‬ونوقن بأن اإلسكندر المقدوني فتح بالد‬
‫فارس والوليد بن عبد الملك بنى الجامع األموي‪ ،‬ولم نحضر‬
‫حروب اإلسكندر وال شهدنا بناء الجامع األموي‪ .‬ولو نظر كل‬
‫واحد منا في نفسه لرأى أن ما يوقن بوجوده من األشياء التي لم‬
‫أكثر من األشياء التي رآها من الممالك والبلدان ومن حوادث‬
‫َيرها ُ‬
‫التاريخ الذي كان ومما يقع اآلن‪.‬‬
‫فكيف أيقن بوجود هذه األشياء وهو لم يدركها بحواسه؟‬
‫تصور إمكان اتفاقهم‬
‫أيقن به حين نقله جماعات عن جماعات ال ُي َّ‬
‫في العادة على اختراع هذه األخبار ونقلها كذب ًا‪.‬‬
‫القاعدة الثالثة‬
‫ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس؟ وهل تستطيع أن تصل‬
‫إلى إدراك كل موجود؟‬

‫‪51‬‬
‫إن َم َثل النفس والحواس مع الموجودات كمثل رجل سجنه‬
‫وسد عليه األبواب والنوافذ ولم يترك له‬
‫ّ‬ ‫الحاكم في برج القلعة‬
‫إال شقوق ًا في جدار البرج‪ ،‬ش ّق ًا يطل منه على النهر الذي يجري‬
‫في الشرق‪ ،‬وش ّق ًا على الجبل الذي يقوم في الغرب‪ ،‬وش ّق ًا على‬
‫القصر الذي يجثم في الشمال‪ ،‬وشق ًا على الملعب الذي يقع في‬
‫الجنوب‪.‬‬
‫السجين هو النفس والقلعة الجسد‪ ،‬وهذه الشقوق هي‬
‫وحس السمع‬
‫ّ‬ ‫حس النظر ُيشرف منه على عالم األلوان‪،‬‬
‫الحواس‪ّ :‬‬
‫وحس‬
‫ّ‬ ‫وحس الذوق على عالم الطعوم‪،‬‬‫ّ‬ ‫على عالم األصوات‪،‬‬
‫وحس اللمس على عالم األجسام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشم على عالم الروائح‪،‬‬
‫‪ -1‬والسؤال اآلن‪ :‬هل أدرك بكل حاسة من هذه الحواس‬
‫كل ما في العالم الذي تشرف عليه؟ السجين عندما ينظر من شق‬
‫النهر ال يرى النهر كله ولكن جزءاً منه‪ ،‬وكذلك العين حين تشرف‬
‫على عالم األلوان‪ ،‬ال تراه كله بل ترى بعضه‪.‬‬
‫أنا ال أرى نملة تمشي على بعد ثالثة أميال مع أن النملة‬
‫والح َوينات(‪ )1‬في كأس الماء الصافي‬
‫موجودة‪ ،‬وال أرى الجراثيم ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫مع أن في الكأس الماليين من هذه الجراثيم‪ ،‬وال أرى الكهارب‬
‫التي تدور وسط الذرة دوران الكواكب في فضاء األفالك‪.‬‬
‫وإن لهذه النملة صوت ًا ولكني ال أسمعه ألن أذني تلتقط‬
‫______________________‬
‫(‪ُ )1‬ح َو ْين تصغير حيوان‪ ،‬وهذا ما يسمى في علم الصرف >تصغير‬
‫الترخيم< ويكون بعد حذف الزوائد من االسم‪.‬‬
‫(‪ )2‬يريد اإللكترونات (مجاهد)‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الهزات من خمس إلى عشرين ألف ًا‪ ،‬فما نقص ال تسمعه‪ ،‬وما زاد‬
‫ثقب طبلة األذن فبطل بذلك السمع‪ .‬وأنا ال أشم للسكّ ر رائحة‪،‬‬
‫مع أن النملة والذباب يشمه ويسرع إليه‪ .‬فالحواس إذن ال تدرك‬
‫من العوالم التي ُسلطت عليها إال جزءاً منها‪.‬‬
‫‪ -2‬ثم أال يمكن أن يكون بين عالم األلوان الذي تشرف‬
‫عليه العين وعالم األصوات الذي تطل عليه األذن عالم آخر ال‬
‫ال ألنه ليس عندي الحاسة إلدراكه؟ أال يمكن أن يكون‬ ‫أدركه أص ً‬
‫بين النهر وبين الجبل ‪-‬بالنسبة لسجين البرج‪ -‬بستان عظيم‪ ،‬لم‬
‫يره ولم يعلم به ألنه ال يجد شق ًا يطل منه عليه؟ فهل يحق له أن‬
‫ينكره ألنه ال يراه؟‬
‫األك َمه (الذي ُولد أعمى) قد يستطيع بالسماع معرفة أن‬‫ْ‬
‫البحر أزرق والمرج أخضر‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يدرك ما هي‬
‫الزرقة وما هي الخضرة‪ .‬واألصم قد يعرف بالتعلم أن في األنغام‬
‫البيات والرصد والسيكا‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يدرك حقيقة النغم‪.‬‬
‫فهل يحق لألعمى أن ينكر وجود الخضرة ولألصم أن يجحد‬
‫حقيقة النغم ألنه ال يدركها؟‬
‫جوها)‬
‫إن الغرفة التي تبدو لك ساكنة سكون ًا عميق ًا فيها (في ّ‬
‫جميع األغاني واألصوات التي تذاع اآلن من جميع اإلذاعات‪.‬‬
‫أنت ال تحس بها ألنها ليست لون ًا تراه بعينك وال صوت ًا تسمعه‬
‫بأذنك‪ ،‬إنها اهتزازات من نوع آخر‪ ،‬فيها صوت ولكن ال تدركه‬
‫يردها عليك سمعتها‪ .‬والضغط‬ ‫بالراد الذي ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫ّ‬ ‫األذن‪ ،‬فإذا جئت‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬الراد‪ :‬اسم فاعل من َر ّد وضعتها للراديو‪ ،‬ألنه يرد الصوت الذي‬
‫يرسله المذياع‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الجوي ال تحس باختالفه القليل ألنه ليس لديك حاسة تدركه بها‪،‬‬
‫فإذا جئت بالبارومتر أدركته به‪ ،‬والهزات الخفيفة ال تدركها ولكن‬
‫الرادار يدركها‪.‬‬
‫ففي الوجود أشياء كثيرة ال تدخل في نطاق الحواس ألنها‬
‫ليست لون ًا ُيرى وال صوت ًا ُيسمع وال جماداً ُيلمس وال رائحة ُت َش ّم‬
‫وال طعم ًا ُيذاق‪ ،‬فهل يحق لي أن أنكرها ألن حواسي المحدودة‬
‫ال تدركها؟‬
‫‪ -3‬والحواس‪ :‬هل هي كاملة؟ كان األقدمون يحصرونها‬
‫في خمس حواس فقط وال يتصورون إمكان الزيادة عليها‪ ،‬ولكن‬
‫حواس أخرى أودعها اهلل فيه‪ ،‬وما يقبل‬
‫ُّ‬ ‫ُكشفت في اإلنسان اآلن‬
‫الزياد َة يوصف بالنقصان‪.‬‬
‫أنا أغمض عيني وأبسط يدي أو أقبضها فأحس بأنها مبسوطة‬
‫أو مقبوضة‪ ،‬لم ألمسها ولم أرها‪ ،‬فبأي حاسة أحسست بها؟ بما‬
‫والو ْني وبالغثيان وباالنبساط‬
‫الحس العضلي‪ .‬وأحس بالتعب َ‬‫ّ‬ ‫يسمى‬
‫أو االنقباض‪ ،‬وما أحسست بذلك بواحدة من الحواس الخمس بل‬
‫بالحس الداخلي‪ .‬وأمشي فال أميل مع أن الطفل أول مشيه يميل‪،‬‬
‫وراكب الدراجة والعبو السيرك الذين يأتون بالعجائب‪ ،‬بأي حاسة‬
‫ضبطوا توازنهم؟ إن هناك حاسة ثامنة هي حاسة التوازن‪ ،‬وأذكر‬
‫أنهم كشفوا موضعها الذي وضعها اهلل فيه‪ .‬في األذن الداخلية مادة‬
‫سائلة قليلة بها يكون التوازن‪ ،‬وأذكر أنهم في تجاربهم استخرجوها‬
‫من أرنب فصارت تمشي األرنب متر ّنحة كأنها سكرى‪.‬‬
‫فالقاعدة الثالثة هي أنه ال يحق لنا أن ننكر وجود أشياء‬
‫لمجرد أننا ال ندركها بحواسنا‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫القاعدة الرابعة‬
‫قلنا أن الحواس محدودة المدى‪ ،‬فأنا ال أستطيع أن أرى‬
‫تم بها‬
‫ببصري كل مرئي‪ ،‬وهذا صحيح‪ ،‬ولكن اهلل أعطانا َملَكة ُن ّ‬
‫نقص الحواس هي >الخيال<‪ .‬أنا إن لم أستطع أن أرى داري في‬
‫أتخيلها فكأنني أراها‪ ،‬فالخيال‬ ‫ّ‬ ‫دمشق وأنا في مكة أستطيع أن‬
‫يكمل الحواس‪ .‬فهل للخيال حدود أم أنه مطلق غير محدود؟ هل‬
‫أستطيع أن أتخيل شيئ ًا لم أدركه بالحواس؟‬
‫رجع<‪ ،‬كتخيلي‬‫الخيال عند علماء النفس خياالن‪> :‬خيال ُم ِ‬
‫الدار في دمشق وأنا في مكة‪ ،‬و>خيال ُمبدع<‪ ،‬هو خيال الشعراء‬
‫والقصاصين والرسامين وسائر أهل الفنون‪ ،‬فانظروا إلى خياالت‬
‫هؤالء الفنانين‪ :‬هل جاؤوا بشيء غير ما في الواقع؟ الذي نحت‬
‫تمثال فينوس جاء بصورة لم َنر من يماثلها تمام ًا‪ ،‬ولكن هل كانت‬
‫أجزاء من الواقع فألّف بينها؟ أخذ أجمل أنف رآه‬
‫ً‬ ‫جديدة أم أخذ‬
‫وأجمل فم وأجمل جسم‪ ،‬فجمع هذا إلى ذاك فجاء بجديد‪،‬‬
‫ولكن هذا الجديد مؤلَّف من أجزاء قديمة‪.‬‬
‫وتمثال الثور المجنح األشوري في متحف باريس‪ ،‬ما فيه إال‬
‫ناح َته أخذ رأس رجل فوضعه على جسد ثور ووضع له أجنحة‬ ‫أن ِ‬
‫طائر‪ .‬صورة جديدة‪ ،‬ولكنها مؤلفة من أجزاء قديمة‪ .‬وكذلك‬
‫الحيوان العجيب الذي تخيله القزويني‪ .‬وخياالت الشعراء مهما‬
‫أوغلت في باب االستعارة والتشبيه والكناية والمبالغات العجيبة‪،‬‬
‫ال تخرج عن كونها جمع ًا بين أجزاء متفرقة في الواقع‪.‬‬
‫بل إننا إذا أوغلنا في اإلغراب في جمع هذه األجزاء نجد‬

‫‪55‬‬
‫ال جزءاً‬
‫الخيال نفسه قد عجز عن اإللمام بهذا الجمع‪ ،‬خذوا مث ً‬
‫من عالم الرائحة وجزءاً من عالم الصوت فقولوا «إن فالن ًا المغني‬
‫قد غنى نغمة معطّرة بعطر الورد» أو «إن العطر الفالني له رائحة‬
‫لونها أحمر» واعرضوا هذه الصورة على خيالكم تجدوا أنكم لم‬
‫تستطيعوا أن تتخيلوها‪ ،‬مع أنها جميع ًا ما خرجت عن عالم الواقع‪.‬‬
‫فنحن ال نستطيع أن نتخيل نغمة عطرة وال رائحة حمراء‪،‬‬
‫وال نتصور إال األبعاد الثالثة (الطول والعرض واالرتفاع)‪ ،‬ال‬
‫نستطيع أن نتصور بعداً رابع ًا(‪ )1‬وال دائرة ليس لها محيط وال‬
‫مثلث ًا ليس له زوايا‪ ،‬فكيف إذن نتخيل اآلخرة وما فيها وهي عالم‬
‫يختلف عن عالمنا؟ إن اآلخرة بالنسبة لهذه الدنيا كالدنيا بالنسبة‬
‫لبطن الجنين‪ ،‬لو أمكن أن نتصل بالجنين ونسأله وأمكن أن يجيب‬
‫وقلنا ما‪ :‬ما الكون؟ لقال‪ :‬إن الكون هو هذه األغشية التي تغشاني‬
‫وهذه الظلمات التي تحيط بي‪ .‬ولو قلنا له أن ها هنا كون ًا آخر فيه‬
‫وبر وبحر وسهل وجبل وصحارى قاحلة‬ ‫شمس وقمر وليل ونهار ّ‬
‫وجنات عارشات لما فهم معنى هذا الكالم‪ ،‬ولو فهمه لما استطاع‬
‫تخيل حقيقته‪.‬‬
‫ّ‬
‫مما في اآلخرة إال‬
‫ومن هنا قال ابن عباس‪> :‬ما في الدنيا ّ‬
‫األسماء<‪ .‬فال خمر اآلخرة كخمرة الدنيا‪ ،‬وال حورها كنسائها‪،‬‬
‫وال نار جهنم كنارها‪ ،‬وال الصراط الممدود على جهنم كالجسور‬
‫الممدودة على األودية واألنهار‪.‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬المقصود البعدي الحقيقي‪ ،‬أما ما ذهب إليه آينشتاين من اعتبار‬
‫الزمان بعداً رابع ًا فهو شيء اعتباري ال حقيقي‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫فالقاعدة الرابعة‪ :‬أن الخيال البشري ال يستطيع أن ُيلِ ّم إال بما‬
‫أدركته الحواس‪.‬‬

‫القاعدة الخامسة‬
‫لما أبصرت العين العود المستقيم أعوج وهو في كأس الماء لم‬
‫ينخدع العقل بما رأت العين‪ ،‬بل عرف أنه لم يزل مستقيم ًا‪ ،‬ولما‬
‫رأت التراب ماء في الصحراء عرف العقل أنه سراب وأنه ليس ماء‬
‫ولكنه تراب‪ .‬ولما أبصرنا ساحر السيرك ُيخرج من فمه مئة منديل‬
‫كمه عشرين أرنب ًا أدرك العقل أنها خدعة‪ .‬فالعقل أصبح َحكَ م ًا‬
‫ومن ّ‬
‫وحكمه أبعد مدى‪ ،‬ولكن هل يحكم على كل شيء ويمتد مداه إلى‬
‫غير ما نهاية؟‬
‫إن العقل ال يستطيع أن يدرك شيئ ًا حتى يحصره بين اثنين‪:‬‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬فما لم ينحصر بينهما لم يدركه العقل بنفسه‪ .‬فلو‬
‫قال لك مدرس التاريخ‪« :‬إن حرب ًا وقعت بين العرب والفرس‪،‬‬
‫ولكنها لم تقع قبل اإلسالم وال بعده‪ ،‬ولم تقع في زمن من األزمان‬
‫ال» لم تدرك ذلك ولم تصدقه ولم تقبله‪ .‬ولو قال‬‫ولكنها وقعت فع ً‬
‫لك مدرس الجغرافية‪« :‬إن بلدة ليست في سهل وال جبل وال في ّبر‬
‫وال بحر وال في أرض وال سماء وال في مكان من األمكنة‪ ،‬ولكنها‬
‫موجودة» لم تدرك ذلك ولم تصدقه ولم تقبله‪.‬‬

‫فالعقل ال يحكم إال في حدود الزمان والمكان‪ ،‬فما كان خارج ًا‬
‫عنهما من مسائل الروح وأمور القدر وصفات اهلل فال حكم للعقل عليه‪.‬‬

‫ثم إن العقل محدود‪ ،‬ال يحكم على غير المحدود وال يستطيع‬
‫تصور خلود المؤمنين في الجنة‪ .‬إن عقل المؤمن موقن‬
‫أن يحيط به‪ّ .‬‬

‫‪57‬‬
‫بأنه حقيقة وقد جاءه هذا اليقين من الخبر الصادق‪ ،‬ولكن انظر‪ :‬هل‬
‫يحيط عقلك بالخلود؟ ركز فكرك فيه تجد أنك تتصور بقاءهم في‬
‫الجنة قرن ًا وقرنين‪ ،‬ومئة قرن‪ ،‬ومليون‪ ،‬وألف مليون‪ ...‬ثم تجد‬
‫عقلك يقف عاجزاً ويسأل‪ :‬وبعد؟ إنه يريد أن يضع لذلك نهاية‪ .‬إنه‬
‫ال يدرك الـ>النهاية<‪ ،‬وإذا افترض الوصول إليها وقع في التناقض‬
‫الذي يقول ببطالنه‪.‬‬

‫إن للفيلسوف األلماني كا ْنط كتاب ًا مشهوراً في إثبات أن العقل‬


‫ال يستطيع أن يحكم إال على عالم المادة وحده‪ ،‬ولكن ما قال‬
‫ورددوه وأثبتوه حتى صار كالبديهية‬ ‫به كانط قاله علماؤنا من قبل ّ‬
‫المس ّلمة وصار الكالم فيه كالحديث المعاد‪ ،‬حتى >متناقضات‬
‫>الد ْور‬
‫وبينوا باألدلة الرياضية أن َّ‬
‫كانط< المشهورة سبق إليها علماؤنا ّ‬
‫والتسلسل< باطل‪.‬‬

‫ال‬
‫من أقرب أدلتهم هذا الدليل‪ ،‬وهو أن ُتخرج من نقطة >م< مث ً‬
‫(في الشكل) شعاعين‪ ،‬أي خطين مستقيمين متباعدين‪ ،‬وتفرض‬
‫مد كل خط إلى ما ال نهاية له (∞) وتصل بين الخطين على أبعاد‬‫ّ‬
‫متساوية خطوط ًا‪> :‬ب ج< و>ب‪1‬ج‪ <1‬و>ب‪2‬ج‪ ،<2‬وهكذا حتى تصل‬
‫إلى الخط >∞ ∞<‪ .‬هل هذا الخط محدود أم هو غير محدود؟‬

‫ب‪2‬‬
‫ب‪1‬‬
‫∞‬
‫ب‬
‫م‬
‫ج‬
‫ج‪1‬‬
‫ج‪2‬‬ ‫∞‬

‫‪58‬‬
‫إذا قلت أنه محدود ُي َر ّد عليك أنه بين النهايتين‪ ،‬فكيف يكون‬
‫محدوداً؟ وإن قلت أنه غير محدود ُر ّد عليك بأنه بين نقطتين‪،‬‬
‫غير محدود؟ فهو محدود وغير محدود‪ ،‬وهذا تناقض!‬ ‫فكيف يكون َ‬
‫فثبت أن العقل يختل ميزانه إن حاول الحكم على غير المحدود‬
‫ويقع في التناقض المستحيل إذا بحث فيما ال ينتهي‪.‬‬

‫فالعقل إذن ال يستطيع أن يحكم وال يصح حكمه إال في‬


‫األمور المادية المحدودة‪ ،‬أما ما وراء المادة (أي عالم الغيب‬
‫>الميتافيزيك<) فال حكم للعقل عليه‪ ،‬وهو الذي أثبته كانط في كتابه‬
‫وقال علماؤنا من قبل‪ ،‬وهو موجود في كتاب >شرح المواقف<‬
‫للسيد ورسالة >المقصد األسنى< للغزالي(‪ )1‬وسائر كتب علم الكالم‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬بقيت هذه الرسالة >المقصد األسنى في شرح أسماء اهلل الحسنى<‬
‫في مكتبتي أكثر من ثالثين سنة‪ ،‬لم أجد دافع ًا إلى قراءتها‪ ،‬ثم‬
‫أخذتها فوجدت فيها شيئ ًا عجيب ًا من عبقرية الغزالي‪ ،‬فهو يتكلم‬
‫عن االسم والمسمى والصلة بينهما ويربط بين أسماء اهلل وسلوك‬
‫المسلم بأسلوب جديد وطريقة مبتكرة‪ .‬وهذا شأن الغزالي في كل‬
‫موضوع يكتب فيه‪ ،‬وإن كان في كتابه العظيم >اإلحياء< كثير من‬
‫الصوفيات المخالفة للسنة وفيه كثير من األحاديث التي ال أصل لها‪،‬‬
‫وكان أثره في نفس قرائه العزلة والخمول والبعد عن روح المغامرة‬
‫والجهاد‪ ،‬مع أنه أُلّف في عهد الحروب الصليبية التي وجب فيها‬
‫إخراج الكافر من‬
‫ُ‬ ‫الجهاد على الرجال والنساء‪ ،‬كما هو واحب اآلن‬
‫أرض المسلمين التي يحتلها‪.‬‬
‫وأنا أقول بأن الغزالي أعظم مفكر إسالمي‪ ،‬ولكنه ليس بمعصوم‪،‬‬
‫ال‬
‫واإلنصاف العلمي يستوجب ذكر عيوبه المعدودة‪ ،‬وكفى المرء نب ً‬
‫أن ُت َع ّد معايبه‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫القاعدة السادسة‬
‫إن الناس جميع ًا‪ ،‬المؤمن منهم والكافر والناشئ في صوامع‬
‫ألمت بهم ُم ِل ّمة ضاقوا بها‬
‫العبادة والمتربي في مخادع الفسوق‪ ،‬إذا ّ‬
‫ذرع ًا ولم يجدوا لها دفع ًا لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات‪،‬‬
‫وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات‪ ،‬قوة ال يرونها ولكنه يشعرون‬
‫بأرواحهم وقلوبهم وكل عصب من أعصابهم بوجودها وبعظمتها‬
‫وجاللها‪ .‬يقع هذا لكثير من الطالب أيام االمتحان ولكثير من‬
‫المرضى عند اشتداد األلم وعجز الطبيب‪ ،‬كلهم يعودون إلى ربهم‬
‫ويقبلون على عبادته‪ ،‬فهل سألتم أنفسكم‪ :‬ما السبب في هذا وأمثاله؟‬ ‫ُ‬
‫لماذا نجد كل من وقع في شدة يرجع إلى اهلل؟ نذكر جميع ًا أيام‬
‫(‪)1‬‬

‫الحرب الماضية والتي قبلها‪ ،‬كيف كان الناس ُيقبلون على الدين‬
‫ويلجؤون إلى اهلل‪ ،‬الرؤساء وال ُق ّواد َي ُؤ ّمون المعابد ويدعون الجنود‬
‫إلى الصالة‪.‬‬

‫ولقد قرأت في مجلة >المختار< المترجمة عن مجلة >ريدرز‬


‫دايجست< مقالة ُنشرت أيام الحرب لشاب من جنود المظالت (يوم‬
‫كانت المظالت والهبوط بها شيئ ًا جديداً) يروي قصته فيقول أنه نشأ‬
‫في بيت ليس فيه من يذكر اهلل أو يصلي‪ ،‬ودرس في مدارس ليس‬
‫مدرس متدين‪ .‬نشأ نشأة علمانية مادية‪ ،‬أي‬ ‫فيها دروس للدين وال ّ‬
‫مثل نشأة الحيوانات التي ال تعرف إال األكل والشرب والنكاح‪،‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬أعني الكهول والشيوخ الذي أدركوا الحرب األخيرة سنة ‪ 1939‬ومن‬
‫قبلها الحرب األولى سنة ‪ ،1914‬وقد أدركتهما وقلت ما قلت عنهما‬
‫عن مشاهدة وعيان‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫ولكنه لما هبط أول مرة ورأى نفسه ساقط ًا في الفضاء قبل أن تنفتح‬
‫المظلة جعل يقول «يا اهلل‪ ،‬يا رب» ويدعو من قلبه‪ ،‬وهو يتعجب‬
‫من أين جاءه هذا األيمان؟ وبنت ستالين نشرت من عهد قريب‬
‫مذكراتها‪ ،‬فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين وقد نشأت في غمرة‬
‫اإللحاد‪ ،‬و َت ْعجب هي نفسها من هذا المعاد‪.‬‬

‫وما في ذلك عجب‪ ،‬فاإليمان بوجود إله شيء كامن في‬


‫كل نفس‪ ،‬إنه فطرة (غريزة) من ال ِفطَ ر البشرية األصلية‪ ،‬كغريزة‬
‫الجنس‪ ،‬فاإلنسان >حيوان ذو دين<‪ .‬ولكن هذه الفطرة قد تغطيها‬
‫الشهوات والرغبات والمطامع والمطالب الحيوية المادية‪ ،‬فإذا هزتها‬
‫المخاوف واألخطار والشدائد ألقت عنها غطاءها فظهرت‪ ،‬ولذلك‬
‫ُس ّمي غير المؤمن >كافراً<‪ ،‬ومعنى الكافر في لسان العرب >الساتر<‪.‬‬

‫ومن العجيب أني وجدت تأييد هذه الفكرة في كلمتين‬


‫متباعدتين في الزمان والمكان والظرف والقصد‪ ،‬ولكنهما متقاربتان‬
‫في المعنى‪ .‬كلمة لعابدة مسلمة تقية معروفة هي رابعة العدوية(‪،)1‬‬
‫وكلمة لكاتب فرنسي ملحد معروف هو أناتول فرانس‪ .‬أناتول فرانس‬
‫يقول في معرض كفره وإلحاده‪ :‬إن المرء يؤمن إذا ظهر بنتيجة فحص‬
‫البول أنه مصاب بداء السكري (يوم لم يكن قد ُعرف األنسولين)‪.‬‬
‫ورابعة قيل لها‪ :‬إن فالن ًا أقام ألف دليل على وجود اهلل‪ .‬فضحكت‬
‫وقالت‪ :‬دليل واحد يكفي‪ .‬قيل‪ :‬ما هو؟ قالت‪ :‬لو كنت ماشي ًا وحدك‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬ظهرت من سنوات قصة غنائية مصورة زعموا أنها تمثل حياة رابعة‬
‫العدوية‪ ،‬مع أنها ال تمثل إال ما في نفوس مؤلفها من خياالت‬
‫وتهاويل‪ ،‬وما فيها من حقائق التاريخ إال القليل‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫في الصحراء وزلّت قدمك فسقطت في بئر لم تستطع الخروج منها‪،‬‬
‫فماذا تصنع؟ قال‪ :‬أنادي‪« :‬يا اهلل»‪ .‬قالت‪ :‬وذاك هو الدليل‪.‬‬

‫في قرارة نفس كل إنسان اإليمان بإله‪ ،‬هذه حقيقة نعرفها‬


‫خبرنا أن اإليمان فطرة فطر الناس عليها‪،‬‬ ‫نحن المسلمين ألن اهلل ّ‬
‫وقد عرفها اإلفرنج من جديد‪ .‬دوركايم‪ ،‬أستاذ االجتماع الفرنسي‬
‫المشهور(‪ ،)1‬له كتاب في أن اإليمان بوجود إله بديهية‪ .‬ال يمكن أن‬
‫يعيش اإلنسان ويموت من غير أن يفكر في وجود إله لهذا الكون‪،‬‬
‫هتد إلى المعبود بحق فعبد من دونه‬ ‫ولكن ربما قصر عقله فلم َي ِ‬
‫توهم أنها هي اهلل أو أنها تقرب إلى اهلل‪ .‬فإذا َج ّد‬
‫أشياء‪ ،‬عبدها على ّ‬
‫الج ّد وكانت ساعة الخطر رجع إلى اهلل وحده ونبذ هذه المعبودات‪.‬‬ ‫ِ‬

‫والعزى‪ ،‬وهي‬‫ّ‬ ‫مشركو قريش كانوا يعبدون ُهبل والالت‬


‫حجارة وأصنام‪ُ ،‬ه َبل صنم من العقيق جاء به عمرو بن لحي من‬
‫ّ‬
‫الحمة(‪ ،)2‬قالوا له‪ :‬إنه إله عظيم قادر‪ ،‬فحمله على جمل‬
‫ّ‬ ‫عندنا‪ ،‬من‬
‫وجاء به‪ ،‬فسقط على الطريق فانكسرت يده فعملوا له يداً من ذهب‪.‬‬
‫إله تنكسر يده! وكانوا مع ذلك يعبدونه! يعبدونه في ساعات األمن‪،‬‬
‫فإذا ركبوا البحر وهاجت األمواج والح شبح الغرق لم يقولوا‪ :‬يا‬
‫ُه َبل‪ ،‬بل قالوا‪ :‬يا اهلل‪.‬‬

‫مشاهد إلى اليوم‪ ،‬عندما تغرق السفن أو تشب النيران أو‬


‫َ‬ ‫وهذا‬
‫يكون الخطر أو يشتد المرض تجد الملحدين يرجعون إلى الدين‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬دوركايم يهودي مثل فرويد الذي أفسد عقول الناس حين ًا من الدهر‪.‬‬
‫الحمة ذات الينابيع المعدنية التي أخذها اليهود من سوريا بعد حرب‬
‫ّ‬ ‫(‪)2‬‬
‫األيام الستة سنة ‪.1967‬‬

‫‪62‬‬
‫لماذا؟ ألن اإليمان غريزة‪ ،‬وأصدق تعريف لإلنسان أنه >حيوان‬
‫متدين<‪.‬‬

‫وانظروا إلى هؤالء الملحدين الماديين عندما يأتيهم الموت‪،‬‬


‫هل تظنون أن ماركس أو لينين لما أيقن بالموت دعا وسائل اإلنتاج‬
‫التي يؤلّهها‪ ،‬أم دعا اهلل؟ ثقوا أنهما لم يموتا حتى َد َعوا اهلل‪ ،‬ولكن‬
‫حين ال ينفع الدعاء‪ .‬وفرعون تكبر وتجبر وقال أنا ربكم األعلى‪،‬‬
‫فلما أدركه الغرق قال‪> :‬آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل<‪.‬‬

‫المحبون دليل على أن‬


‫ّ‬ ‫وفي عاطفة الحب التي يحس بها‬
‫اإليمان فطرة في النفوس‪ ،‬فالحب صورة مصغرة لإليمان ونوع من‬
‫أنواع العبادة‪ .‬والفرنسيون لما غلب عليهم ترك الدين استعملوا كلمة‬
‫العبادة في الحب(‪ .)1‬وقلدهم في ذلك بعض المتفرنجين منا فصاروا‬
‫يقولون في قصصهم >يحبها< و>يعبدها< و>أحبها حتى العبادة<‪ ...‬ما‬
‫ذلك إال ألن العبادة هي المظهر الفطري لالعتقاد باإلله وألن في‬
‫الحب شبه ًا من اإليمان‪.‬‬

‫المحب يطيع محبوبه وين ّفذ كل رغبة له‪ ،‬وكذلك يكون‬


‫المؤمن مع اهلل‪ .‬والمحب ال يبالي أن يسخط عليه الناس كلهم إن‬
‫رضي المحبوب‪ ،‬وكذلك يكون المؤمن مع اهلل‪ .‬والمحب يخاف‬
‫المحبوب ويخشى غضبه ويرضى بكل ما يكون منه‪ ،‬وكذلك المؤمن‬
‫مع اهلل‪ .‬فالحب (أي العشق) دليل على أن اإليمان فطرة في النفوس‪.‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬كلمة العبادة في اللغة الفرنسية >‪ <adorer‬فهو يقول لها >‪ <J’aime‬أي‬
‫أنا أحبك و>‪ <Je t’adore‬أي‪ :‬أعبدك‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ضيق األلفاظ‬

‫وليس معنى هذا أن حب اهلل من جنس حب المعشوق‪ ،‬ال‪،‬‬


‫فالعاشق يطيع معشوقه ويخشاه ويرضى بكل ما يجيء منه ويؤثر‬
‫رضاه على رضى الناس لِل َّذته به‪ ،‬فهو يحب فيه نفسه‪ ،‬ولو أن ليلى‬
‫فشوه وجهها وأكل أنفها وعينها لما دنا منها قيس‬ ‫أصابها الجذام ّ‬
‫لفر منها ونأى عنها‪ .‬هذا هو فرق ما بين حب‬ ‫ولما مال عليها‪ ،‬بل ّ‬
‫المخلوق وحب الخالق‪.‬‬

‫إنهما نوعان مختلفان‪ ،‬ولكن اللغات البشرية ‪-‬لضيقها على‬


‫استيعاب المعاني الروحية‪ -‬تستعمل اللفظ الواحد في معان كثيرة‪،‬‬
‫فنحن نقول‪ :‬فالن يحب مناظر الجبال‪ ،‬وفالن يحب علم التاريخ‪،‬‬
‫وفالن يحب الرز باللحم‪ ،‬والوالد يحب ولده‪ ،‬والمجنون يحب‬
‫ليلى‪ ،‬والمؤمن يحب اهلل‪ ...‬وكل حب منها يختلف عن اآلخر‪ .‬ومثل‬
‫أصم‬
‫ّ‬ ‫ذلك قولنا‪« :‬اهلل سميع بصير» و»فالن سميع بصير»‪ ،‬أي‪ :‬ليس‬
‫وال أعمى‪ ،‬ولكن سمع اهلل وبصره ال يشبه سمع العبد وال بصره ألن‬
‫اهلل ال يماثل شيئ ًا من المخلوقات وال يماثله شيء‪ ،‬وجميع آيات‬
‫الصفات جاءت من هذا الباب‪.‬‬

‫القاعدة السابعة‬
‫هي أن اإلنسان يدرك بالحدس أن هذا العالم المادي ليس‬
‫ال يدرك منه لمحات تدل‬‫كل شيء وأن وراءه عالم ًا روحي ًا مجهو ً‬
‫عليه‪.‬‬
‫ذلك أن اإلنسان يرى اللذات المادية محدودة‪ ،‬إذا هي‬
‫بلغت غايتها ووصلت إلى حدها لم تعد اللذة لذة ولكن صارت‬

‫‪64‬‬
‫عادة‪ ،‬فذهب طعمها وبطل سحرها‪ ،‬وصارت كالنكتة المحفوظة‬
‫والحديث المعاد‪.‬‬
‫يبصر الفقير سيارة الغني تمر به وعمارة الغني يمر بها‬
‫فيحسب أنه يحوز الدنيا إن حاز مثلها‪ ،‬فإن صارت له لم يعد‬
‫يشعر بالمتعة بها‪ .‬ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيبة‪ ،‬يظن أن‬
‫متع الدنيا كله بحبها واألماني كلها في قربها‪ ،‬فإذا تزوج التي يحب‬
‫ومر على الزواج سنتان اضمح ّلت تلك األماني وماتت تلك المتع‬ ‫ّ‬
‫ولم يبق له منها إال ذكرها‪ .‬ويمرض المريض ويتألم فيتصور اللذة‬
‫كلها في ذهاب األلم والشفاء من المرض‪ ،‬فإذا عاودته الصحة‬
‫ونسي أيام المرض لم يعد يرى في الصحة شيئ ًا من تلك اللذات‪.‬‬
‫ويتمنى الشاب الشهرة ويفرح إن أذاعت اإلذاعة اسمه ونشرت‬
‫اشتهر وصار اسمه ملء السمع وشخصه‬ ‫الصحف رسمه‪ ،‬فإذا هو ُ‬
‫ملء البصر صارت له الشهرة أمراً معتاداً‪.‬‬
‫ثم يجد المرء أنه يسمع األغنية الحالمة في الليلة الساجية‬
‫حبة القلب‬
‫مغن عاشق فهزت من سامعها ّ‬ ‫قد خرجت من قلب ٍّ‬
‫وأط ّلت به على عالم الروح‪ .‬ويقرأ القصة العبقرية لألديب البارع‬
‫فيحس كأنها تمشي به في مسارب عالم مسحور فيه مع السحر‬
‫شعر وعطر‪ ،‬فإذا انتهت القصة رأى كأنه في حلم َلذ ًّ ّفتان وصحا‬
‫منه‪ ،‬فهو يحاول عبث ًا أن يعود إلى لذته وفتونه‪.‬‬
‫ويعيش في لحظات التجلي‪ ،‬حين تصفو النفوس بالتأمل‬
‫فتتخفف من أثقال المادة‪ ،‬فتعلو بجناحين من الصفاء والتجرد‬
‫حتى تصل إلى حيث ترى األرض وما عليها أصغر من أن ينظر‬
‫إليها‪ ،‬لما تجد من لذة الروح التي ال تعدلها لذة الطعام للجائع‬

‫‪65‬‬
‫وال لذة الوصال للمحروم وال لذائذ المال والجاه للفقير المغمور‪.‬‬
‫وإذا بالنفس تتشوق أبداً إلى هذا العالم الروحي العلوي‪،‬‬
‫العالم المجهول الذي ال تعرف منه إال هذه اللمحات التي ال‬
‫تهب حتى‬‫تكاد تبدو لها حتى تختفي وهذه النفحات التي ال ّ‬
‫تسكن‪ ،‬فيعلم أن اللذات المادية محدودة‪ ،‬وأن اللذات الروحية‬
‫ويوقن (بالحدس النفسي‪،‬‬ ‫أكبر منها كبراً وأعمق في النفس أثراً‪ُ ،‬‬
‫ال بالدليل العقلي) أن هذه الحياة المادية ليست كل شيء‪ ،‬وأن‬
‫تحن‬
‫ُّ‬ ‫العالم المجهول المختبئ وراء عالم المادة حقيقة قائمة‪،‬‬
‫إليها األرواح وتحاول أن تطير إليها‪ ،‬ولكن هذا الجسد الكثيف‬
‫يحجبها عنها ويمسكها عن أن تنطلق وراءها‪ ،‬وهذا هو الدليل‬
‫النفسي على وجود العالم اآلخر‪.‬‬
‫القاعدة الثامنة‬
‫االعتقاد بوجود الحياة اآلخرة نتيج ٌة الزمة لالعتقاد بوجود اهلل‪.‬‬

‫يقر الظلم وال يدع الظالم بغير عقاب‬‫وبيان ذلك أن اإلله ال ّ‬


‫وال يترك المظلوم من غير إنصاف‪ .‬ونحن نرى أن في هذه الحياة‬
‫َمن يعيش ظالم ًا ويموت ظالم ًا لم ُيعا َقب‪ ،‬ومن يعيش مظلوم ًا‬
‫نصف‪ ،‬فما معنى هذا؟ وكيف يتم هذا ما دام‬ ‫ويموت مظلوم ًا لم ُي َ‬
‫ال؟‬
‫اهلل موجوداً‪ ،‬وما دام اهلل ال يكون إال عاد ً‬
‫ويعا َقب‬
‫معناه أنه ال بد من حياة أخرى ُيكا َفأ فيها المحسن ُ‬
‫المسيء‪ ،‬وأن >الرواية< ال تنتهي بانتهاء هذه الدنيا‪ .‬ولو أنه ُعرض‬
‫ِفلْم في الرائي (التلفزيون) ف ُقطع من وسطه وقيل >انتهى< لما ّ‬
‫صد َق‬
‫أحد من المشاهدين أنه انتهى‪ ،‬ولنادوا‪ :‬ماذا جرى للبطل؟ وأين تتمة‬
‫ٌ‬

‫‪66‬‬
‫حساب‬
‫َ‬ ‫ويسدد‬
‫ّ‬ ‫القصة؟ ذلك ألنهم ينتظرون من المؤلف أن ُيتِ ّم القصة‬
‫يصدق عاقلٌ أن قصة الحياة تنتهي‬ ‫أبطالها‪ .‬هذا والمؤلف بشر‪ ،‬فكيف ّ‬
‫بعد الحساب وال اكتملت الرواية؟‬ ‫سدد ُ‬
‫بالموت؟ كيف ولم ُي َّ‬
‫فأيقن العقل من هنا أن لهذا الكون رب ًا وأن بعد الدنيا آخرة‪،‬‬
‫الروح ومضة من نوره في‬
‫ُ‬ ‫وأن ذاك العالم المجهول الذي لمحت‬
‫األغنية الحالمة والقصة البارعة واستروحت نفحة من عطره في ساعة‬
‫ال صاغه أفالطون(‪ ،)1‬ولكنه‬ ‫التجلي ليس عالم المثل الذي كان خيا ً‬
‫عالم اآلخرة الذي هو حقيقة أبدعها خالق أفالطون‪.‬‬

‫ورأى اإلنسان أن أكبر لذائذ الدنيا‪ ،‬لذة الوصال‪ ،‬ال تدوم إال‬
‫ال من لذات اآلخرة‪ ،‬إنها لقمة‬ ‫نصف دقيقة‪ ،‬فعلم أنها ليست إال مثا ً‬
‫من الطعام تذوقها‪ ،‬فإن أعجبتك اشتريت منه فأكلت حتى شبعت‪،‬‬
‫إنها نموذج تجاري(‪ )2‬تراه‪ ،‬فإن ارتضيته طلبت البضاعة‪ ،‬وأن هذه‬
‫للذات العالم اآلخر‬ ‫اللذة التي ال تدوم إال نصف دقيقة مثال مصغر ّ‬
‫حد لها تقف عنده‪ ،‬والتي تبقى لذة دائم ًا‬‫التي تدوم أبداً‪ ،‬والتي ال َّ‬
‫وال تصير عادة كما تصير اللذات في الدنيا عادات ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫* * *‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬المثل العليا‪ :‬نظرية ألفالطون معروفة ‪ ،Idealism‬ومنها جاء قولهم‬
‫>شيء مثالي< وهو ‪.Ideal‬‬
‫(‪> )2‬النموذج التجاري< هو تعريب لالصطالح الفرنسي ‪.Echantillon‬‬
‫(‪ )3‬انظر مقالة >هل تهدي الفطرة إلى الدين؟< ومقالة >هذا هو الدليل<‬
‫في كتاب >نور وهداية<‪ ،‬وفيهما تقاطع مع ما جاء في القواعد الثالث‬
‫األخيرة في هذا الفصل (مجاهد)‪.‬‬

‫‪67‬‬
68
‫اإليمان باهلل‬

‫اإليمان باهلل يتضمن أربع قضايا‪ ،‬هي أن اهلل موجود بال‬


‫موجد‪ ،‬وأنه رب العالمين‪ ،‬وأنه مالك الكون المتصرف فيه‪ ،‬وأنه‬‫ِ‬
‫عبد معه غيره‪.‬‬
‫اإلله المعبود وحده ال ُي َ‬
‫(‪ )1‬وجود اهلل‬

‫قلنا في القاعدة السادسة‪ :‬إن االعتقاد بوجود اهلل من األمور‬


‫البديهية التي ُتدرك بالحدس النفسي قبل أن ُتقبل بالدليل العقلي‪،‬‬
‫فهي ال تحتاج إلى دليل‪ ،‬وإن كانت األدلة على صحتها ماثلة في كل‬
‫شيء‪ .‬ولست أعرض هذه األدلة فهي أكثر من أن ُتستقصى‪ ،‬والعالم‬
‫الدمشقي الشيخ جمال الدين القاسمي ذكر منها الكثير الكثير في‬
‫كتابه >دالئل التوحيد<‪ ،‬مع أنه أُلِّف من أكثر من نصف قرن ومع أنه‬
‫جدت اليوم أدلة أظهرها العلم الحديث الذي لم يكن معروف ًا قبل‬ ‫قد ّ‬
‫خمسين سنة‪ ،‬ومن نظر في كتاب >اهلل يتجلى في عصر العلم< (وقد‬
‫ممن انتهت إليهم الرياسة‬ ‫كتبه ثالثون من علماء الطبيعة والفلك ّ‬
‫في هذه العلوم) ومثله كتاب >العلم يدعو لإليمان< يجد أن العالم‬
‫الحقيقي ال يكون إال مؤمن ًا والعامي ال يكون إال مؤمن ًا‪ ،‬وأن اإللحاد‬
‫والكفر إنما يبدوان من أنصاف العلماء وأرباع العلماء‪ ،‬ممن تعلم‬

‫‪69‬‬
‫ال من العلم‪ ،‬فخسر بذلك الفطرة المؤمنة ولم يصل إلى العلم‬‫قلي ً‬
‫الذي يدعو إلى اإليمان فوقع في الكفر‪.‬‬

‫في هذين الكتابين مقاالت هي ثمرة ما وصل إليه تفكير هؤالء‬


‫العلماء‪ ،‬من أمثال فرانك ألن الذي أثبت أن القول بقدم العالم‬
‫(كما كان يقول فالسفة اليونان) مستحيل وأن العلم كشف أن لكل‬
‫شيء عمراً‪ ،‬أي أن له بداية تنفي كونه قديم ًا‪ .‬وفرانك ألن هذا‬
‫من أكبر علماء الحياة (البيولوجيا)‪ .‬وأمثال روبرت موريس بدج‬
‫مكتشف الرادار‪ ،‬وعالم الكيمياء جون كليفالند كوثران‪ ،‬وجون‬
‫هربرت بلوند أستاذ الفيزياء‪ ...‬وأنا أرجو أن تقرؤوا هذين الكتابين‬
‫وأمثالهما‪ ،‬وأمثالهما كثير‪.‬‬

‫أنا ال أحب أن أعيد سرد األدلة القديمة على وجود اهلل‪،‬‬


‫أدلة علماء الكالم‪ ،‬وال األدلة الحديثة التي جاء بها هؤالء العلماء‪،‬‬
‫ولكن أشير إلى دليل واحد من األدلة القرآنية‪ .‬وأدلة القرآن واضحة‬
‫صريحة حاسمة‪ ،‬تأتي بالحجة الضخمة في العبارة القصيرة التي‬
‫يفهمها العامي‪ ،‬وتمتلئ نفس العالم الذي يدرك مغزاها إعجاب ًا منها‬
‫وعجب ًا من قوتها ودقتها ووضوحها‪ .‬وكالهما‪ ،‬العامي والعالم‪ ،‬ال‬
‫يملك إال أن يقول‪ :‬صحيح!‬

‫نبهنا اهلل في القرآن بكلمة واحدة على أن الدليل فينا وفي‬


‫أنفسنا‪ ،‬فكيف ننكر قضية قد ُسطّر على جباهنا ما يشعر بصدقها؟‬
‫أنفسكم أفال ُتبصرون؟} فنحن نشعر من أعماق‬ ‫قال تعالى‪{ :‬وفي ِ‬
‫والملمات بفطرتنا المؤمنة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قلوبنا بأنه موجود‪ ،‬نلجأ إليه في الشدائد‬
‫بغريزة التدين فينا‪ ،‬ونرى األدلة عليه فينا وفي العالم من حولنا‪،‬‬

‫‪70‬‬
‫فالعقل الباطن يؤمن بوجوده بالحدس‪ ،‬والعقل الواعي يؤمن‬
‫بوجوده بالدليل‪.‬‬
‫نفسه الدليل على‬
‫فكيف لَعمري يجحد اهلل الجاحد وهو ُ‬
‫ويدعي أنه لم يأخذه ولم يلمسه‪،‬‬
‫وجوده؟ إنه كمن يحمل مالَك بيده ّ‬
‫ومن يلبس ثيابه مبتلة يقطر منها الماء ويدعي أنه لم يقرب الماء!‬
‫َ‬
‫هذه حقيقة الحقائق‪ ،‬ولكن لماذا نجد أكثر الناس ال ينتبهون‬
‫إليها؟ الجواب‪ :‬ألنهم ال يفكرون في أنفسهم‪َ { ،‬ن ُسوا اهلل فأنساهم‬
‫يفرون منها‪ ،‬يخافون االنفراد بها‪ ،‬ال يستطيع‬ ‫أنفسهم}‪ .‬إنهم ّ‬
‫َ‬
‫أحدهم أن يبقى وحيداً خالي ًا بنفسه بال عمل‪ ،‬لذلك يشتغل عنها‬
‫ويصرم فيه عمره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بحديث فارغ أو كتاب تافه‪ ،‬أو عمل يشغل نفسه‬
‫كأن نفسه عدو له يكرهه وينفر منه‪ ،‬وكأن عمره (وهو رأس ماله)‬
‫حمل على عاتقه يرمي به ليتخلص منه!‬
‫انظر إلى أكثر الناس تجدهم يأكلون ويشربون وينامون‬
‫ويستيقظون‪ ،‬يحرصون على اللذة ويبتعدون عن األلم‪ ،‬يبتغون الخير‬
‫في الدنيا ألنفسهم وأهلهم ومن يحبون‪ ،‬يصبح الواحد منهم فينظف‬
‫جسده ويرتدي ثيابه ويتناول طعامه ويغدو إلى عمله‪ ،‬يعمل لجمع‬
‫المال ويستزيد من الربح‪ ،‬ثم يعود إلى داره فيتغدى ويستريح‪ ،‬ثم‬
‫عما يمأل به الفراغ‬
‫يعود إلى العمل أو يعمد إلى التسلية‪ ،‬يفتش ّ‬
‫ويضيع به الوقت ويقطع به العمر‪ ،‬حتى يعاوده الجوع فيأكل أو‬
‫يدركه النعاس فينام‪ .‬ثم يستقبل يوم ًا جديداً فيعيد فيه >برنامج< اليوم‬
‫الذي مضى‪ .‬يذكر ماضيه‪ ،‬وما ماضيه إال األيام التي أحس أنه عاشها‬
‫يقدر‬
‫في هذه الدنيا‪ ،‬ويفكر في مستقبله‪ ،‬وما مستقبله إال األيام التي ّ‬
‫أنه يعيشها في هذه الدنيا‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫أما المسلم فال يكتفي من الحياة بأن يأكل ويشرب ويعمل‬
‫ويتسلى‪ ،‬بل يسأل نفسه‪ :‬من أين جئت؟ وإلى أين أسير؟ وما‬
‫المبدأ؟ وما المصير؟ ينظر فيجد أن حياته لم تبدأ بالوالدة حتى‬
‫تنتهي بالموت‪ ،‬يرى أنه كان جنين ًا في بطن أمه قبل أن يولد‪ ،‬وكان‬
‫ُح َوين ًا منوي ًا في ظهر أبيه قبل أن َي ْس َت ِج ّن(‪ ،)1‬وكان قبل ذلك دم ًا‬
‫يجري في عروق هذا األب‪ ،‬وهذا الدم جاء مما تناول من الغذاء‪،‬‬
‫وهذا الغذاء كان نبات ًا من األرض أو حيوان ًا تغذى من النبات‪ ...‬أطوار‬
‫مر بها قبل الوالدة ال يعرف عنها شيئ ًا‪ ،‬سلسلة طويلة فيها حلقات‬ ‫ّ‬
‫قليلة واضحة وباقيها يحجبه عن عيوننا الظالم‪ ،‬فكيف يوجد نفسه‬
‫بعقله وإرادته وقد كان موجوداً قبل أن يكون له عقل وإرادة؟‬

‫إن الواحد منا ال يعرف نفسه قبل بلوغه الرابعة من عمره‪ .‬ال‬
‫لما كان في بطن‬ ‫أحد منا مولده‪ ،‬من يذكر مولده؟ من يذكر ّ‬
‫يذكر ٌ‬
‫(‪)2‬‬
‫أمه؟ فإذا كان موجوداً قبل أن يعلم بوجوده فهل يمكن أن يقال أنه‬
‫هو الذي أوجد نفسه؟ سل هذا الكافر الملحد إن لقيته وقل له‪ :‬هل‬
‫َخلقت أنت نفسك بإرادتك وعقلك؟ هل أنت الذي أدخلت نفسك‬
‫في بطن أمك؟ وهل أنت الذي اختار هذه المرأة لتكون أم ًا؟ وهل‬
‫أنت الذي ذهب بعد ذلك فجاء بالقابلة لتخرجك من هذا البطن؟‬
‫فهل ُخلق من العدم بال فاعل وال خالق؟ هذا مستحيل‪.‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬أي قبل أن يكون جنين ًا (مجاهد)‪.‬‬
‫كسر همزة >إن< بعد فعل القول (أي قال يقول) إذا جئت‬ ‫(‪ )2‬فائدة‪ُ :‬ت َ‬
‫فتحتها‪ .‬فجملة «قل‪ :‬إني ذاهب» بكسر‬
‫َ‬ ‫بنص القول‪ ،‬فإن حكيته‬
‫الهمزة‪ ،‬وجملة «قال أنه ذاهب» بفتحها‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫وشك في‬
‫ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫لما جرب مذهب الشك الذي اشتهر به‬ ‫ديكارت ّ‬
‫كل شيء وصل إلى نفسه‪ ،‬فهل يستطيع أن يشك فيها ألنه هو الذي‬
‫شاك؟ لذلك قال كلمته المشهورة >أنا‬‫يشك وال بد في الشك من ّ‬
‫فمن أوجده؟ هل‬ ‫شك في وجوده‪َ ،‬‬‫أفكر فأنا موجود<(‪ ،)2‬موجود ال َّ‬
‫أوجدته هذه الكائنات المادية التي كانت من قبله‪ :‬الجبال والبحار‬
‫والشمس والكواكب؟ إنها جمادات ال عقل لها وهو عاقل‪ ،‬فهل‬
‫فاقده؟‬
‫الشيء ُ‬
‫َ‬ ‫العقل من ليس بعاقل؟ هل يعطي‬
‫َ‬ ‫يمنح‬

‫وهذا هو موقف إبراهيم أبي األنبياء عليه السالم‪ ،‬لما رأى‬


‫ال) ينحت األصنام بإزميله‪ ،‬يعمل من الحجر صورة‬ ‫أباه (وكان َم ّثا ً‬
‫فيتخذها هو وقومه آلهة‪ ،‬حجر تصنعه يد اإلنسان ثم تعبده! إله‬
‫أخلقه وأطلب منه أن يخلق لي ما أريد! هذا أمر ال يقبله العقل‪،‬‬
‫فأين هو اإلله الحق إذن؟ وذهب يبحث ويفكر‪ ،‬وأدركه الليل‪،‬‬
‫وطلع عليه النجم ّبراق ًا المع ًا عالي ًا‪ ،‬لم يخرج من األرض كالصخرة‬
‫صنع منها التماثيل‪ ،‬لم يعمله اإلنسان بيده ثم يعبده‪ ،‬فقال بأنه‬ ‫التي ُت َ‬
‫وجد اإلله الذي يبحث عنه‪ .‬وإذا بالقمر يطلع فيختفي النجم‪ ،‬ويرى‬
‫القمر أكبر في النظر وأكثر ضوءاً فيقول بأن القمر هو اإلله‪ ،‬ويرقبه‬ ‫َ‬
‫الليل كله‪ ،‬فإذا بالشمس تطلع فتطفئ شعلة القمر وتفيض النور على‬
‫األرض‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا هو اإلله‪ .‬ولكن الشمس تأفل‪ ،‬تذهب وتدع‬
‫األرض في الظالم‪ ،‬فما هذا اإلله الذي يمضي ويتخلى عن ملكه؟‬
‫كال‪ ،‬ليست الشمس إله ًا خلقني وال هذه الموجودات آلهة وال أنا‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬مذهب ديكارت في الشك لم يكن جديداً‪ ،‬فهو مسبوق إليه‪ .‬راجع‬
‫>المنقذ من الضالل< للغزالي‪.‬‬
‫(‪Je pense donc Je suis )2‬‬

‫‪73‬‬
‫يبق إال‬
‫لقت من غير شيء‪ ،‬فلم َ‬ ‫اإلله‪ ،‬أنا ما خلقت نفسي وال ُخ ُ‬
‫احتمال واحد هو الصحيح‪ ،‬هو الحق وما عداه الباطل‪ :‬هو أن وراء‬
‫هذه الجمادات كلها آله ًا قادراً عظيم ًا هو الذي أوجدها وأوجدني‬
‫وأوجد كل شيء(‪.)1‬‬

‫هذا الدليل هو الذي عرض له القرآن في جملة واحدة هي‬


‫معجزة من معجزات البيان الرباني‪ ،‬ضربة قاضية على من يخضع‬
‫للعقل ويحترم التفكير من الملحدين‪ :‬هي قوله تعالى‪{ :‬أم ُخ ِلقوا‬
‫من غير شيء‪ ،‬أم ُه ُم الخالقون؟}‪.‬‬

‫كان السخفاء من الملحدين من أرباع المتعلمين يقولون‪:‬‬


‫الطبيعة‪ ،‬الطبيعة أوجدت اإلنسان‪ ،‬الطبيعة وهبت العقل لإلنسان‪.‬‬
‫وكان من المع ّلمين من يقول لنا هذا ونحن صغار في أيام الحرب‬
‫األولى وفي أعقابها‪ ،‬من المعلمين الذين شموا رائحة التمدن‬
‫ال وباريس ثاني ًا‪ ،‬فحسبوا أنهم صاروا‬‫الجديد‪ ،‬من إسطنبول أو ً‬
‫المنورين ‪ .‬وكبرنا بعد وسألنا‪ :‬ما الطبيعة؟ إن‬
‫(‪)2‬‬
‫َّ‬ ‫ُي َع ّدون بذلك من‬
‫كلمة الطبيعة في اللغة على وزن > َفعيلة<‪ ،‬وهي بمعنى >مفعولة<‪،‬‬
‫فإن كانت مطبوعة فمن طبعها؟‬

‫قالوا‪ :‬الطبيعة هي المصادفة‪ ،‬قانون االحتماالت‪.‬‬

‫______________________‬
‫تعليم للناس‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬وما شك إبراهيم في اهلل‪ ،‬ولكنه‬
‫(‪ )2‬وكانت كلمة >المنورين< في تلك األيام مثل كلمة >التقدميين< اآلن‪.‬‬
‫ولكل زمان ألفاظ يضحكون بها علينا‪ ،‬كما كانوا يضحكون على‬
‫ال منها‬
‫الهنود الحمر في أميركا بالخرز والثياب الملونة ليأخذوا بد ً‬
‫بالدهم‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫قلنا‪ :‬هل تعرفون ما مثال هذا الكالم؟ مثاله اثنان ضاعا في‬
‫فم ّرا على قصر كبير عامر فيه الجدران المزخرفة المنقوشة‬
‫الصحراء َ‬
‫ال بنى‬‫والسجاد الثمين والساعات والثريات‪ .‬قال األول‪ :‬إن رج ً‬
‫هذا القصر وفرشه‪ .‬فرد عليه الثاني وقال‪ :‬أنت رجعي متأخر‪،‬‬
‫هذا كله من عمل الطبيعة! قال‪ :‬كيف كان بعمل الطبيعة؟ قال‪:‬‬
‫كان هنا حجارة فجاءها السيل والريح والعوامل الجوية فتراكمت‪،‬‬
‫وبمرور القرون‪ ،‬بالمصادفة‪ ،‬صارت جداراً! قال‪ :‬والسجاد؟ قال‪:‬‬
‫أغنام تطايرت أصوافها وامتزجت وجاءتها معادن ملونة‪ ،‬فانصبغت‬
‫وتداخلت فصارت سجاداً! قال‪ :‬والساعات؟ قال‪ :‬حديد تآكل بتأثير‬
‫دوائر وتداخل‪ ،‬وبمرور القرون صار على‬‫َ‬ ‫العوامل الجوية وتقطع‬
‫(‪)1‬‬
‫هذه الصورة!‬
‫أال تقولون أن هذا مجنون؟ هل المصادفات هي التي جعلت‬
‫الخلية من خاليا الكبد التي ال ُترى إال بالمجهر تقوم بأعمال كيميائية‬
‫تحتاج إلى آالت تمأل بهواً كبيراً ثم ال تستطيع أن تقوم إال بجزء‬
‫حول السكر الزائد في الدم إلى مولّد السكر‬ ‫منها؟ هذه الخلية ُت ّ‬
‫العنب (كليكوجين) لنستعمله عند الحاجة بعد إعادته إلى كليكوز‪،‬‬
‫الكريات‬
‫ّ‬ ‫وتعدل الكوليسترول في الدم‪ ،‬وتصنع‬ ‫ّ‬ ‫وتفرز الصفراء‪،‬‬
‫بعد أعمال أخرى‪.‬‬ ‫الحمر‪ ،‬ولها ُ‬
‫والمصادفات جعلت في اللسان تسعة آالف عقدة صغيرة كلها‬
‫تصلح للتذوق‪ ،‬وفي كل أذن مئة ألف خلية للسمع‪ ،‬وفي كل عين‬
‫مئة وثالثين مليون خلية كلها تصلح الستقبال الضوء؟!‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬راجع مقالة >هذا هو الدليل< في كتاب >نور وهداية<‪ ،‬وفيها توسع‬
‫واستطراد في هذا الفكرة (مجاهد)‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫واألرض بما فيها من العجائب واألسرار‪ ،‬والهواء الذي يحيط‬
‫درك‪ ،‬واألشكال العجيبة لذرة‬ ‫بها وما يحمله من أحياء ال ُترى وال ُت َ‬
‫ودع فيها هذا الجمال الذي‬‫الثلج التي تسقط‪ُ ،‬خلقت بهذه الدقة وأُ ِ‬
‫لم نره إال من عهد قريب؟ انظر إلى هذه األرض وما فيها من معادن‬
‫وما أُودع فيها من أسرار‪ ،‬وإلى أنواع حيوانها ونباتها‪ ،‬وما فيها‬
‫من الصحارى الشاسعة والبحار الواسعة والجبال السامقة واألودية‬
‫العميقة‪ ،‬ثم وازنها بالشمس َت َرها صغيرة ضئيلة إلى جنب الشمس‬
‫وعظمها‪ .‬والشمس التي تكبر األرض بمليون مرة هي بالنسبة لكوكب‬
‫من هذه الكواكب حبة رمل في الصحراء الكبرى‪.‬‬

‫والشمس التي تبعد عنا بأكثر من مئة مليون كيل (كيلومتر) إذا‬
‫قدرنا بعدها بالزمن الضوئي (وسرعة الضوء ثالثمئة ألف كيلومتر في‬ ‫ّ‬
‫الثانية الواحدة) يبلغ بعدها عنا ثماني دقائق‪ .‬فماذا يكون ُبعد النجوم‬
‫ضوءها إلينا في مليون سنة ضوئية؟ السنة الضوئية تعدل‬ ‫ُ‬ ‫التي يصل‬
‫عشرة آالف مليار كيلومتر(‪ ،)1‬فكم كيلومتراً في مليون سنة؟‬

‫وهذه النجوم‪ ،‬ومنها نجوم المجرة (التي ال يعرف علم الفلك‬


‫أكثر من أنها بقعة مضيئة فيها من النجوم ما ال يعلمه إال اهلل)‬
‫عنها َ‬
‫هذه النجوم على ضخامتها التي يعجز العقل عن تصورها تسير‬
‫بسرعة هائلة‪ ،‬سرعة تتخطى حدود األرقام‪ ،‬فكيف ال يقع فيما بينها‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬أذكر في معرض هذا الحديث أن >أبولّو ‪ <9‬التي وصلت إلى القمر‬
‫قطعت في الذهاب واإلياب أربعمئة ألف كيل (كيلومتر)‪ ،‬أي مدة‬
‫ثانية وثلث فقط بالزمن الضوئي‪.‬‬
‫مالحظة‪ :‬متوسط ُبعد القمر عن األرض هو ‪ 384‬ألف كيلومتر‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫اصطدام؟ قرأت ألحد علماء الفلك أن احتمال اصطدامها كاحتمال‬
‫اصطدام ست نحالت لو أطلقت في الفضاء المحيط باألرض‪ .‬إن‬
‫سعة فضاء األرض بالنسبة لست نحالت كذلك الفضاء بالنسبة لهذه‬
‫النجوم التي ال ُت َع ّد وال تحصى!‬

‫وهذا الفضاء كله وسط كرة هائلة هي السماء الدنيا‪ ،‬كرة‬


‫من جرم حقيقي ليست هواء وال فضاء(‪ )1‬وال خط ًا وهمي ًا هو مدار‬
‫الكواكب كما تصور بعض المفسرين‪ ،‬كرة محيطة بهذا الفضاء وما‬
‫فيه‪ ،‬مغلقة عليه وهو في داخلها‪ ،‬كرة محفوظة لها أبواب تفتح‬
‫وتغلق‪ ،‬جعلها اهلل سقف ًا محفوظ ًا لهذا الفضاء‪ ،‬وجعل هذه الكواكب‬
‫تزين السقف‪ ،‬لها سمك وبعدها فضاء اهلل أعلم‬ ‫فيها كالمصابيح التي ّ‬
‫بسعته‪ ،‬ربما كان كهذا الفضاء أو أكبر منه‪ ،‬تحيط به كرة أخرى أكبر‬
‫وأضخم‪ ،‬ثم فضاء ثالث‪ ،‬ثم كرة ثالثة‪ ،‬ثم فضاء رابع‪ ،‬ثم كرة‬
‫رابعة‪ ،‬ثم فضاء خامس‪ ،‬ثم كرة خامسة‪ ،‬ثم فضاء سادس‪ ،‬ثم كرة‬
‫سادسة‪ ،‬ثم فضاء سابع‪ ،‬ثم كرة سابعة‪ ،‬ثم تأتي أجسام في غاية الكبر‬
‫والعظم هي العرش والكرسي وما أخبر اهلل عنه من هاتيك العوالم(‪.)2‬‬

‫ومن أعجب العجب ومن أظهر األدلّة على اهلل أن هذا الفضاء‬
‫بكل ما فيه موجود بصورة مصغرة بحيث ال يدرك العقل دقتها‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬هذا الذي قلته عن السماء شيء فهمته من آيات الكتاب وسنن اهلل في‬
‫الفلك التي كشفها العلماء‪ ،‬ولم أجد من قال به‪ ،‬وقد فصلت القول‬
‫فيه في غير هذا الكتاب‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر للتوسع في هذا الرأي مقالة >ما هي السماء؟< وهي منشورة في‬
‫كتاب >فصول في الثقافة واألدب< (مجاهد)‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫وصغرها (كما أنه ال يدرك سعة الفضاء ورحبه)‪ ،‬موجود في الذرة‪.‬‬

‫الذرة التي ال ُترى وال بالمجهر اإللكتروني‪ ،‬الذرة التي كان‬


‫يسميها العلماء والفالسفة األقدمون >الجوهر الفرد< (أي الجزء‬
‫ف أربعون مليون ًا‬‫الذي ال يتجزأ)‪ ،‬الذرة التي قال العلماء أنه لو ُص َّ‬
‫منها جنب ًا إلى جنب كان طولها (أي طول األربعين مليون ًا) معشاراً‬
‫واحداً (سنتيمتر) وسط هذه الذرة فضاء فيه نواة تدور حولها أجسام‬
‫صغيرة(‪ )1‬كدوران الكواكب في الفضاء‪ ،‬ونسبة النواة للذرة كنسبة‬
‫حبة القمح للقصر العظيم‪ ،‬والنواة يزيد وزنها وحدها عن وزن‬
‫‪ 1800‬من هذه الكهارب‪ ،‬فهل هذا كله من عمل المصادفات(‪)2‬؟‬

‫وإن الذي يثلج صدر المؤمن أن هذه المقاالت التافهة (كالطبيعة‬


‫والمصادفات وأمثالها) قد انقطع ورودها على ألسنة العلماء ولم يبق‬
‫يدعون العلم وليسوا من العلماء‪.‬‬ ‫من قائل بها إال أشباه العوام ممن ّ‬
‫(‪ )2‬اهلل رب العالمين‬
‫هذه هي القضية الثانية من قضايا اإليمان باهلل‪ :‬وهي أن تعتقد‬
‫أن اهلل وحده هو الذي أوجد هذه العوالم كلها‪ ،‬عالم الحيوان وعالم‬
‫والمغيبة عنا‪ ،‬أوجدها‬
‫َّ‬ ‫النبات وعالم األفالك‪ ،‬العوالم الظاهرة لنا‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬هذه األجسام الصغيرة يسمونها >الكهارب< (اإللكترونات)‪.‬‬
‫(‪ )2‬كتبت هذا الجزء ‪-‬كما قلت في المقدمة‪ -‬وما تحت يدي كتاب أرجع‬
‫إليه‪ ،‬فكنت أكتب ما خطر على بالي وأمدتني به ذاكرتي مما قرأت‬
‫وسمعت من العلماء‪ ،‬وأنا من سبعين سنة إلى اآلن أقرأ كل يوم أكثر‬
‫من عشر ساعات‪ ،‬فكانت هذه األمثلة‪ ،‬ومن أراد أمثلة أدق وأحق‬
‫وجدها في كتاب صدر قريب ًا اسمه >الطب محراب اإليمان<‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫من العدم ووضع لها هذه النواميس العجيبة التي لم نكشف إلى اآلن‬
‫في الكيمياء والفيزياء والطب والفلك إال األقل األقل منها‪{ :‬وما‬
‫ال}‪ ،‬وهو وحده الذي يعلم دقيقها وجليلها‪،‬‬ ‫أُوتيتم من العلم إال قلي ً‬
‫كم ورقة في كل شجرة وشكل كل ورقة ووضعها‪ ،‬وكم جرثومة في‬
‫الدنيا وطولها وعرضها وأجزاءها التي ركبها منها‪ ،‬وما في كل ذرة‬
‫من الكهارب الثابتة والمتحركة وعددها وما يطرأ على كل منها من‬
‫وتحول‪ ،‬كل ذلك‬
‫ّ‬ ‫وتطور‬
‫ّ‬ ‫عوارض وما تتصف به من حركة وسكون‬
‫مسجل عنده في كتاب(‪.)1‬‬ ‫ّ‬
‫هذه العوالم كلها هو ربها‪ ،‬هو الذي أوجدها‪ ،‬وهو يحفظها‪،‬‬
‫وهو الذي يحولها من حال إلى حال‪ ،‬وهو الذي جعل في كل ذرة‬
‫منها ما يدل العاقل عليه ويرشده إليه‪.‬‬

‫هذه هي القضية الثانية من قضايا اإليمان باهلل‪ ،‬قضية ال بد‬


‫منها‪ ،‬ولكن هل يكفي اإليمان بها ليكون اإلنسان مؤمن ًا؟ إذا جاءك‬
‫وحده من‬
‫َ‬ ‫من يقر بأن اهلل هو الخالق وهو الرب‪ ،‬فهل تعتبره بهذا‬
‫المؤمنين؟ ال‪ ،‬إن ذلك وحده ال يكفي‪ ،‬ألن أكثر األمم القديمة‬
‫كانت تقول به‪ ،‬كفار قريش الذين ُبعث محمد ’ إلنكار شركهم‬
‫وكلِّف بحربهم كانوا إذا سئلوا عنه اعترفوا به ولم‬
‫وتسفيه عقائدهم ُ‬
‫ينكروه‪ .‬بل إن إبليس (وهو شر الخلق) ما أنكر أن اهلل ربه‪ ،‬تنبهت‬
‫{رب ف َأ ْن ِظرني}‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أغويتني} وقوله‪:‬‬
‫َ‬ ‫{رب بما‬
‫ِّ‬ ‫إلى هذا من قوله‬
‫فهو مقر بأن اهلل ربه!‬

‫______________________‬
‫فرطنا في الكتاب من شيء}‪ .‬وليس المراد بالكتاب هنا القرآن‪،‬‬ ‫(‪{ )1‬ما ّ‬
‫بل كتاب القدر الذي ال يطّلع عليه بشر‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫(‪ )3‬اهلل مالِك الكون‬
‫والقضية الثالثة‪ :‬أن اهلل هو مالك الكون يتصرف فيه تصرف‬
‫ويميت‪ ،‬هل تقدر أن تدفع عن نفسك‬ ‫المالك الحر بملكه‪ .‬يحيي ُ‬
‫الموت وتمنحها في الدنيا الخلود؟ يمرض ويشفي‪ ،‬هل تقدر‬
‫أن تشفي َمن حرمه اهلل الشفاء؟ يمنح المال ويبتلي بالفقر‪ ،‬يبعث‬
‫السيول ويصيب بالجفاف‪ .‬كان في السنة الماضية فيضانات في‬
‫شمالي إيطاليا جرفت المدن ودمرت العمران‪ ،‬وكان في ذلك‬
‫الوقت في الهند جفاف يبس معه الزرع وهلكت الماشية وصار‬
‫توزيع الماء بالبطاقات‪ .‬فمن زاد الماء على هؤالء حتى َشكَ وا‬
‫منه وحرمه أولئك حتى تم َّنوه؟ من يعطي هذا بنات وهذا بنين‬
‫ويجعل من يشاء من الناس عقيم ًا؟ هل يستطيع من ُرزق البنات أن‬
‫يحولهن إلى بنين‪ ،‬ومن كان عقيم ًا أن ينجب الولد؟‬
‫هو يكتب الموت على ناس وهم أطفال ويمد في عمر ناس‬
‫حتى يصيروا شيوخ ًا‪ ،‬يبعث موجة البرد والصقيع على بلد ويبعث‬
‫مشاهدة ال يملك اإلنسان لها دفع ًا‬
‫َ‬ ‫موجة الحر على بلد‪ ...‬أمور‬
‫وال منع ًا‪.‬‬
‫(‪ )4‬اإلله المعبود‬
‫الملك المتصرف‬ ‫ِ‬
‫لذلك ُيق ّر أكثر الناس بأنه هو مالك ُ‬
‫بالكون‪ ،‬ولكن هل يكفي هذا ليكون مؤمن ًا؟‬
‫ال‪ ،‬بل ال بد من القضية الرابعة‪ ،‬وهي أنه وحده اإلله‬
‫المعبود‪ .‬إذا اعترفت بأن اهلل موجود وأنه رب العالمين وأنه مالك‬
‫الملك فال تعبد معه غيره وال تقابل غيره بأي صورة من صور‬

‫‪80‬‬
‫العبادة‪ .‬وقد أراني اهلل معنى لسورة الناس فيه رد على من يقر‬
‫يوحده توحيد األلوهية‪ ،‬معنى‬
‫بوجود اهلل وبربويته وملكه ولكنه ال ّ‬
‫لم أجد من المفسرين من ذكره وأرجو أن يكون صواب ًا‪.‬‬
‫ك الناس‪،‬‬ ‫برب الناس‪َ ،‬م ِل ِ‬
‫أعوذ ّ‬
‫ُ‬ ‫عز وجل‪ُ { :‬ق ْل‬‫يقول اهلل َّ‬
‫ال من‬
‫إله الناس}‪ .‬فلماذا كرر لفظ >الناس< وعمد إلى اإلظهار بد ً‬
‫ال‪ :‬رب الناس وملكهم وإلههم؟ الذي ظهر‬ ‫اإلضمار‪ ،‬فلم يقل مث ً‬
‫لي‪ :‬كأن ربنا (واهلل أعلم) يقول لهم‪ :‬هذه ثالث قضايا متماثلة‬
‫>رب‬
‫متكاملة‪ ،‬كل قضية مستقلة بنفسها مع ارتباطها بأختها‪ ،‬فهو ّ‬
‫الناس< أي خالقهم وحافظهم‪ ،‬وهو >ملك الناس< أي مالكهم‬
‫المتصرف فيهم‪ ،‬وهو >إله الناس< أي المستحق وحده لعبادتهم‬
‫وال يجوز أن يكون له شريك فيها‪ .‬ومقتضى ذلك أن تصدقوا‬
‫تصدقون‬
‫بالقضايا الثالث أو أن تنكروا القضايا الثالث‪ ،‬فما بالُكم ّ‬
‫تفرقون بين المتماثالت‬ ‫باألولى والثانية وترفضون الثالثة؟ كيف ّ‬
‫فتقبلون بعض ًا وتأبَون بعض ًا‪ ،‬والثالث سواء في الثبوت ال سبيل‬
‫إلى التفريق بينها في الحكم؟‬
‫* * *‬

‫‪81‬‬
82
‫توحيد األلوهية‬

‫اإليمان بأن اهلل رب العالمين وأنه مالك الكون عمل من‬


‫أعمال القلب‪ ،‬عقيدة يعتقدها اإلنسان‪ ،‬أما اإليمان بأنه اإلله فال‬
‫يقتصر على االعتقاد‪ ،‬بل يتعداه إلى السلوك والعمل وإلى القيام‬
‫بالعبادة وإفراد اهلل بها‪ ،‬فإن استنكف عن عبادته أو عبد معه غيره‬
‫صدق واعتقد أن اهلل هو رب العالمين ومالك‬ ‫لم يكن مؤمن ًا ولو ّ‬
‫الكون‪.‬‬
‫فما هي العبادة؟ أول ما يبدر إلى الذهن أن العبادة هي الذكر‬
‫يقرب إلى اهلل‪،‬‬
‫والصالة والصيام وتالوة القرآن وأمثال ذلك مما ّ‬
‫وهذا حق‪ ،‬ولكن العبادة ال تقتصر على هذا‪ ،‬بل إن كل عمل نافع‬
‫لم يمنعه الشرع يعمله المؤمن ابتغاء ثواب اهلل يكون عبادة‪ .‬يأكل‬
‫ليعف‬
‫ّ‬ ‫ليتقوى على الطاعة فيكون أكله بهذا القصد عبادة‪ ،‬وينكح‬
‫نفسه وأهله فيكون نكاحه عبادة‪ ،‬وبمثل هذا القصد يكون كسبه‬
‫المالَ عبادة‪ ،‬وإنفاقه على أهله عبادة‪ ،‬وتحصيله العلم والشهادات‬
‫عبادة‪ ،‬وشغل المرأة بأعمال بيتها وخدمة زوجها ورعاية أوالدها‬
‫إن َقصد فاعله قصداً فيه رضا اهلل كان‬ ‫عبادة‪ ،‬وكل عمل مباح ْ‬
‫عبادة‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫فالعبادة يتسع معناها حتى يشمل كل أعمال اإلنسان النافعة‬
‫ويحيط بها كلها‪ ،‬ولعل هذا هو المعنى المقصود بقوله تعالى‬
‫واإلنس إال لِ َيعبدون}‪.‬‬
‫َ‬ ‫الجن‬
‫َّ‬ ‫خلقت‬
‫ُ‬ ‫{وما‬
‫روح العبادة‬
‫والعبادة لها روح ولها جسد‪ ،‬فروحها العقيدة التي دفعت‬
‫إليها والغاية التي ُعملت من أجلها‪ ،‬وجسدها عمل الجوارح‪ ،‬من‬
‫ال حركات وألفاظ‪ ،‬قيام‬
‫لفظ اللسان وحركات الجسم‪ .‬الصالة مث ً‬
‫وقعود وركوع وسجود وتالوة وذكر وتسبيح‪ ،‬لكن هذا كله جسد‬
‫الصالة‪ ،‬فإن لم يكن الدافع إليه توحيداً صحيح ًا وعقيدة سليمة‬
‫ولم يكن المقصود به امتثال أمر اهلل وطلب رضاه كانت الصالة‬
‫جسداً ميت ًا ال روح فيه‪.‬‬
‫األساس في توحيد األلوهية‬
‫األساس أن نعتقد أن اهلل وحده هو النافع وهو الضار‪ ،‬وال‬
‫بد لهذا من شيء من البيان‪ :‬اهلل خالق كل شيء‪ ،‬أوجد العوالم‬
‫وبث فيها من كل شيء‪ ،‬وأعطانا العقول وقال لنا‪ :‬فكروا بعقولكم‬
‫في هذه األشياء التي خلقتها وانظروا ماذا في السماوات واألرض‪.‬‬
‫(‪ )1‬فنظرنا فوجدنا أن اهلل الذي خلق هذه األشياء قد سلط‬
‫بعضها على بعض‪ ،‬فالنار إذا مست الشجرة اليابسة أحرقتها‪،‬‬
‫والماء إذا ُص َّب على النار أطفأها‪ ،‬والبعوضة(‪ )1‬إذا لدغت اإلنسان‬
‫أصابته بالبرداء (المالريا)‪ ،‬والمادة التي في قشور شجرة الكينا إذا‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أعني النوع المعروف منها‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫دخلت جسد المريض شفته من البرداء‪.‬‬
‫(‪ )2‬وأنه جعل بين هذه األشياء روابط‪ ،‬وجعل اجتماعها‬
‫عينها ينتج عنه أشياء جديدة‪.‬‬
‫قدرها وامتزاجها بنسب ّ‬ ‫بمقادير ّ‬
‫فالكلور (وهو مادة مؤذية) والصوديوم (وهو مادة مؤذية) إذا‬
‫اجتمعا كان منهما مادة نافعة ال بد لإلنسان منها وال يستغني عنها‪،‬‬
‫وهي ملح الطعام‪.‬‬
‫(‪ )3‬ووجدنا أن الروابط والعالقات تتبع كلها قواعد ثابتة‬
‫وأساليب معينة ال تتبدل وال تتغير‪ ،‬هي سنن اهلل في الكون التي‬
‫اصطلحنا على تسميتها >قوانين الطبيعة<‪.‬‬
‫(‪ )4‬وأن هذه الروابط بين األشياء (التي سميناها قوانين‬
‫الطبيعة) ليست كلها كالعالقة الظاهرة بين النار والخشب الذي‬
‫(‪)1‬‬
‫نحرقه والنار والماء الذي يطفئها‪ ،‬ليست كلها بهذه البساطة‬
‫وهذا الظهور‪ ،‬بل إن أكثرها أدق وأعمق‪.‬‬
‫اهلل وضع في هذا الكون دواء لكل داء‪ ،‬ولكنه لم يضع‬
‫الدواء في مكان باد للعين ولم يجعله >جاهزاً< ُم َعداً لالستعمال‪،‬‬
‫بل جعله ‪-‬تعالت حكمته‪ -‬مخبوءاً في أوضاع عجيبة وفي أماكن‬
‫ال ُيظَ ن أنه موجود فيها‪ .‬فالبنسلين الشافي وضعه ربنا في العفن‬
‫سم مميت‪ ،‬كما وضع أجمل العطور ذات‬ ‫األخضر الذي يبدو أنه ّ‬
‫الروائح العبقة وأبدع األصبغة ذوات األلوان الزاهية في أقبح‬
‫ال‪ ،‬المادة السوداء القبيحة التي اسمها‬ ‫مادة ريح ًا وأبشعها شك ً‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬البساطة في اللغة السعة‪ ،‬ولكني قصدت بها المعنى العامي‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫ستخرج العطور واأللوان!‬
‫َ‬ ‫>القطران<‪ ،‬ومنها ُت‬
‫ولم توضع وضع ًا قريب ًا‪ ،‬بل إن العنصر المؤثر المطلوب‬
‫ال معها‪ ،‬يحتاج استخالصه‬ ‫جعله ربنا ممزوج ًا بمواد أخرى متداخ ً‬
‫منها إلى عمليات وتجارب وجهود‪ .‬ومن قرأ كتاب >التلميذة‬
‫الخالدة<(‪ )1‬علم كيف احتاج استخراج غرام الراديوم إلى تصفية‬
‫ركام هائل كالتل الصغير من مواد مختلفة‪ ،‬وإجراء العمليات‬
‫المتعاقبة عليها التي استمر إجراؤها سنين‪.‬‬
‫(‪ )5‬ولم نكتشف إلى اآلن من هذه النواميس الكونية التي‬
‫وضعها خالق الكون إال قطرة من بحر‪ ،‬رأينا فيها العجب العجاب‪،‬‬
‫وصنفنا هذا القليل الذي كشفناه في زمر وأصناف سميناها علوم ًا‪،‬‬
‫فكان منها علم الحياة وعلم الكيمياء وعلم الفيزياء وعلم الجسم‬
‫(الفسيولوجيا) وعلوم الطب وسائر العلوم‪ ،‬وانقطع إلى كل علم‬
‫منا تفرغوا لفهم قوانين اهلل فيه وكشف المزيد منها‪،‬‬ ‫منها ناس ّ‬
‫فكان منهم علماء الحياة وعلماء الكيمياء وسائر العلماء‪.‬‬
‫تضرنا وأشياء تنفعنا‪،‬‬
‫(‪ )6‬ووجدنا أن في هذا الكون أشياء ّ‬
‫وأن النفع والضرر على نوعين‪ ،‬منه ما يكون بسبب ظاهر تطبيق ًا‬
‫لقانون من قوانين الطبيعة التي كشفناها وأدخلناها في نطاق‬
‫علومنا‪ ،‬كمن يقف قلبه بتناول مادة سامة عرفناها وعلمنا بالتجربة‬
‫تأثيرها في القلب‪ ،‬ومنه ما يكون بغير سبب ظاهر وال يستند إلى‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬قصة مدام كوري وزوجها‪ ،‬وأرجو أن يقرأ الطالب هذا الكتاب ليروا‬
‫كيف يكون الصبر على تحصيل العلم‪ .‬وفي ِس َير علمائنا األولين مئات‬
‫ِ‬
‫والج ّد فيه‪.‬‬ ‫األمثلة على مثل هذا الصبر وعلى اإلخالص للعلم‬

‫‪86‬‬
‫قانون معروف‪ ،‬كمن يكون قوي الجسد صحيح الجسم فيقف‬
‫قلبه فجأة بسكتة قلبية ال نعرف سببها‪ .‬وكال النوعين من اهلل‪ ،‬فاهلل‬
‫وحده هو النافع وهو الضار‪.‬‬
‫(‪ )7‬واهلل قد فطر اإلنسان على جلب النفع‪ ،‬فهو يتخذ لجلبه‬
‫كل وسيلة‪ ،‬وفطره على ُكره الضرر‪ ،‬فهو يستعمل لدفعه عنه كل‬
‫حيلة ويستعين على ذلك بكل طاقة ممكنة‪ .‬وهذه االستعانة منها‬
‫يجوزه الدين ومنها ما يمنعه ويراه منافي ًا لإليمان‪ ،‬فما هي‬
‫ما ّ‬
‫االستعانة المشروعة وما هي االستعانة الممنوعة؟‬
‫إذا مرض ولدك فدعوت الطبيب ففحص عن المرض‬
‫ووصف له الدواء كانت هذه استعانة مشروعة‪ ،‬ألنك استعنت‬
‫على الشفاء بالقانون الطبيعي الذي وضعه خالق الكون وبالرجل‬
‫ال أو ساحراً ليعمل‬‫دجا ً‬
‫العالم بهذا القانون‪ ،‬ولكن إن دعوت ّ‬
‫على شفائه بال علم وال قانون‪ ،‬بل بقوى غيبية يزعم االتصال‬
‫بها لم يثبت وجودها بالعلم الحسي وال بالدليل السمعي(‪ )1‬كانت‬
‫استعانة ممنوعة‪ .‬وإن جئت قبر الطبيب بعد موته فدعوته وهو ال‬
‫يقدر أن يفحص المريض وأن يصف الدواء كانت استعانة ممنوعة‪.‬‬
‫وإن عجز العلم ولم ينفع الدواء فتوسلت إلى الشفاء بالدعاء أو‬
‫بالصدقة أو طلبت من رجل صالح أن يدعو لك كانت هذه استعانة‬
‫مشروعة‪ ،‬وإن وقفت على قبر الرجل الصالح فاستعنت به وهو ال‬
‫يملك تحريك لسانه بالدعاء لك وال يقدر من عند نفسه على شفاء‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬الدليل السمعي هو آية من كتاب اهلل أو حديث ثابت من أحاديث‬
‫رسول اهلل ’‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫مريضك كانت هذه استعانة ممنوعة‪.‬‬
‫وتوسلك إلى الشفاء بسقي المريض الدواء الذي وصفه له‬
‫الطبيب مشروع‪ ،‬ولكن إن أخذت الوصفة فجعلتها حجاب ًا علقته‬
‫بعنق المريض أو نقعتها وسقيته ماءها واعتقدت أن ذلك يشفيه‬
‫فذلك ممنوع‪ .‬وطلبك النفع بأشياء لم يجعلها اهلل سبب ًا ظاهراً‬
‫له ممنوع‪ ،‬فالمرأة العاقر التي تشتهي الولد إذا استعانت بطب‬
‫المستخرجة وفق قوانين العلم‬
‫َ‬ ‫األطباء وباألدوية التي أنزلها اهلل‬
‫تأت أمراً ممنوع ًا ولم تخالف الدين‪ ،‬ولكن إذا اعتقدت (كما‬ ‫لم ِ‬
‫كان يعتقد عجائز الشام)(‪ )1‬أن قرع حلقة جامع الحنابلة في جبل‬
‫توسلت إلى‬ ‫قاسيون أول جمعة من رجب يسبب لها الحبل أو ّ‬
‫شباك أحد القبور تكون قد ارتكبت ممنوع ًا‬ ‫ذلك بربط خرقة على ّ‬
‫وخالفت عقيدة التوحيد‪.‬‬
‫فتبين من هذا أن االستعانة بقوانين الطبيعة والرجوع إلى‬
‫الرجل العالم بها واتخاذ األسباب المعتادة لحصول النفع‪ ،‬كل‬
‫ذلك جائز مشروع‪ ،‬على أن نذكر أن النافع في الحقيقة هو اهلل‬
‫تعالى وحده دون سواه‪ ،‬وأن االستعانة بقوة غيبية مزعومة لم‬
‫يؤيدها العلم التجريبي ولم يثبتها الدليل السمعي إنما هي استعانة‬
‫ممنوعة منافية لعقيدة التوحيد‪.‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬وكما تعتقد نساء إيطاليا أن من تتطاول بكلتا يديها إلى نافذة ضريح‬
‫أحد القديسين يزول عقمها إذا كانت عقيم ًا! ولنساء أوربا وأميركا‬
‫اعتقادات أغرب من هذا‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫التحليل والتحريم هلل وحده‬
‫وهذه المنافع التي نصل إليها بتطبيق قوانين الطبيعة منافع‬
‫دنيوية‪ ،‬ألن اهلل سلط عقولنا على كشف هذه القوانين ولم يسلطها‬
‫على كشف ما وراء المادة وال على جلب المنافع األخروية‪ ،‬فنحن‬
‫نعمل على جلب النفع ودفع الضرر في حدود المادة وفي هذه‬
‫الدنيا‪ ،‬وال نملك ألنفسنا في العالم اآلخر نفع ًا وال ضرراً‪.‬‬
‫ولما كان اهلل قد جعل للنفع األخروي سبب ًا‪ ،‬وهذا السبب‬
‫هو عمل الواجب‪ ،‬وجعل للضرر األخروي سبب ًا‪ ،‬وهذا السبب‬
‫هو فعل الحرام‪ ،‬كان التحريم والتحليل الذي يترتب عليه الثواب‬
‫والعقاب هلل وحده‪ ،‬وليس ألحد أن يقول برأيه >هذا حالل وهذا‬
‫يحرم أمراً لم‬
‫حرام<‪ ،‬وليس ألحد أن يوجب أمراً لم يوجبه اهلل أو ّ‬
‫يحرمه اهلل‪ .‬ومن أعطى حق التحليل والتحريم لغير اهلل يكون قد‬
‫عبده من دونه أو شاركه معه في عبادته(‪.)1‬‬
‫حب اهلل وخشية اهلل‬
‫اإلنسان يحب ويكره؛ يحب الطعام اللذيذ‪ ،‬ويحب المنظر‬
‫الجميل‪ ،‬ويحب الرجل المرأة‪ ،‬وقد يبالغ في هذا الحب (أي‬
‫قدمنا‪ -‬بعض مظاهر العبادة‪ ،‬ولكنه‬
‫العشق) فيفيض عليه ‪-‬كما ّ‬
‫______________________‬
‫وآخر‬
‫حرمتها معترف بذنبه َ‬‫َ‬ ‫معتقد‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬ولو أن مسلم ًا شرب الخمر وهو‬
‫حرم الحالل بال‬ ‫ال حرام لكان ذنب من ّ‬ ‫ّادعى أن شراب الليمون مث ً‬
‫دليل أكبر من ذنب من ارتكب الحرام بال إنكار لحرمته‪ ،‬ولقد ُقرن‬
‫ذلك في القرآن بالشرك‪{ :‬وقال الذين أشركوا لو شاء اهلل ما عبدنا‬
‫حرمنا من دونه من شيء}‪.‬‬ ‫من دونه من شيء نحن وال آباؤنا وال ّ‬

‫‪89‬‬
‫مقيداً محدوداً ككل حب بشري‪.‬‬
‫يبقى مع ذلك ّ‬
‫فنحن نحب المنفعة التي ننالها من الشيء الذي نحبه أو اللذة‬
‫التي نحس بها بقرب الشخص الذي نعشقه‪ ،‬فإذا أصيب المحبوب‬
‫مشوه تتساقط منه الجوارح ويذهب معه الجمال أو فسد‬ ‫ِّ‬ ‫بمرض‬
‫الطعام وركبه العفن أو تبّدل المنظر وذهب منه الجمال انتهى هذا‬
‫تحول إلى ُكره‪ .‬أما حب اهلل الذي يحسه المؤمن‬ ‫الحب‪ ،‬بل ربما ّ‬
‫فهو حب غير مقيد وال محدود‪ ،‬بل إن ما نحبه في الدنيا إنما‬
‫وسخره لنا وأقدرنا على‬
‫ّ‬ ‫نحب فيه الخالق الذي خلقه وأوجده‬
‫التلذذ بمرآه أو ملمسه‪.‬‬
‫االنتفاع به أو ّ‬
‫واإلنسان يخشى الكثير من المخلوقات؛ يخشى النار‬
‫والسم المميت والظالم القوي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المشتعلة والوحش المفترس‬
‫ولكنها خشية محدودة مقيدة‪ ،‬هي البعد عن الضرر الكامن‬
‫في المخاوف أو الناشئ عنه‪ ،‬فإذا أمن الضرر ذهب من نفسه‬
‫الخوف‪ ،‬أما خوف اهلل فمطلق غير مقيد وال محدود‪.‬‬
‫وحب اهلل والخشية منه هما من أسس التوحيد وهما روح‬
‫العبادة‪ .‬وال بد من التنبيه على أن حب اهلل ليس معناه نظم قصائد‬
‫الغزل باهلل كما فعل ابن الفارض‪ ،‬وال تسميته بالعشق اإللهي كما‬
‫المؤدي إلى‬
‫ّ‬ ‫نسبوا إلى رابعة العدوية‪ ،‬وخوف اهلل ليس معناه الفزع‬
‫الكُ ره وال الجزع الموصل إلى االختالل‪ .‬بل إن حب اهلل بطاعته‬
‫وإيثار مرضاته على شهوات النفس ووساوس الشيطان‪ ،‬واتباع‬
‫حبون اهلل فا ّتبعوني}‪،‬‬
‫إن كنتم ُت ّ‬
‫رسوله ’ فيما جاء به‪ُ { :‬ق ْل ْ‬
‫فاالتباع هو مقياس الحب‪ .‬وخوفه باجتناب محرماته وإيثار لذة‬
‫الثواب في اآلخرة على المعصية في الدنيا‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫ثم إن الطاعة هلل ليست كالطاعة لمخلوقاته‪ ،‬فنحن نطيع‬
‫ال ألمر اهلل كطاعة الرسول‪ ،‬أو استجابة‬ ‫بعض البشر إما امتثا ً‬
‫لدواعي الطبع‪ ،‬أو خوف ًا من الخطر‪ .‬فالشعب يطيع الحاكم والولد‬
‫يطيع الوالد والمرأة تطيع الزوج واإلنسان يطيع من أحسن إليه‬
‫يضره‪ ،‬وقد ُيكْ َره أحدنا على الطاعة فيطيع خوف ًا‬
‫ّ‬ ‫إذا أمره بما ال‬
‫من األذى‪ ،‬ولكن هذه كلها (عدا طاعة الرسول‪ ،‬فهي من طاعة‬
‫حد لها‪،‬‬‫اهلل) كلها طاعة محدودة وليست الطاعة المطلقة التي ال ّ‬
‫ألن الطاعة المطلقة هلل‪ ،‬الطاعة في كل شيء‪ ،‬الطاعة فيما يسرنا‬
‫ويسوؤنا‪ ،‬فيما نفهم حكمته وما ال نفهم حكمته‪ .‬وهذه الطاعة هي‬
‫ثمرة حب اهلل وهي الدليل عليه‪.‬‬

‫آيات الصفات‬
‫لقد اجتنبت في هذا الكتاب الخوض في المسائل الكالمية‬
‫وأعرضت عن سرد اختالفات المتكلمين‪ ،‬ولكن مسألة آيات‬
‫الصفات قد طال فيها المقال وكثر الجدال‪ ،‬وال بد من بعض‬
‫البسط للكالم فيها‪.‬‬
‫لقد وصف ربنا نفسه في القرآن بألفاظ موضوعة في األصل‬
‫ٍ‬
‫معان أرضية ومقاصد بشرية‪ ،‬مع أن اهلل ليس كمثله‬ ‫للداللة على‬
‫يشبه المخلوقين‪ .‬وال‬
‫شئ‪ ،‬وهو الرب الخالق‪ ،‬تعالى عن أن َّ‬
‫فهم هذه األلفاظ حين إطالقها على اهلل بالمعنى نفسه‬
‫يمكن أن ُت َ‬
‫الذي تفهم به حين إطالقها على المخلوق‪.‬‬
‫فنحن نقول «فالن عليم» و»فالن بصير» ونقول أن اهلل عليم‬
‫بصير‪ ،‬ولكن الكيفية التي َيعلم بها العبد ويبصر ليست هي التي‬

‫‪91‬‬
‫يعلم بها ربنا ويبصر‪ ،‬وعلم العبد وبصره ليس كعلم اهلل وبصره‪.‬‬
‫كذلك نقول «استوى المعلم على منبر الفصل» ونقول «استوى اهلل‬
‫على العرش»‪ .‬نحن نعرف معنى االستواء >القاموسي< ونطبقه على‬
‫المعلم‪ ،‬ولكن هذا المعنى ال يمكن أن يكون هو ذاته المقصود‬
‫{الرحمن على العرش استوى}‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حين نقرأ‬
‫مقرون بأن آيات‬
‫هذا كله مت َفق عليه بين العلماء‪ ،‬فهم جميع ًا ّ‬
‫الصفات هي كالم اهلل‪ ،‬فإذا قال اهلل‪{ :‬ثم استوى على العرش} لم‬
‫يستطع أحد أن يقول‪ :‬ما استوى‪ .‬وهم جميع ًا معترفون بأن المعنى‬
‫القاموسي البشري لكلمة استوى ليس هو المراد من قوله {استوى‬
‫على العرش}‪ .‬ولكنهم مع ذلك اختلفوا اختالف ًا كبيراً في المراد‬
‫المقصود بعد اتفاقهم على ترك التعطيل والتشبيه‪ ،‬فتساءلوا‪ :‬هل‬
‫تؤول؟‬
‫ؤول أم ال َّ‬ ‫هذه اآليات حقيقة أم مجاز؟ وهل ُت َّ‬
‫أولوا فقالوا بأن الحقيقة هي >استعمال اللفظ‬ ‫أما الذين ّ‬
‫بالمعنى الذي ُوضع له<‪ .‬هذا هو تعريف الحقيقة عند عامة علماء‬
‫البالغة‪ ،‬وال شك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن ُوضعت‬
‫ٍ‬
‫لمعان أرضية مادية‪،‬‬ ‫فيه هذه األلفاظ قبل نزول القرآن‪ ،‬ووضعت‬
‫حتى إنها لتعجز عن التعبير عن العواطف والمشاعر البشرية‬
‫ال عن التعبير عن صفات اهلل خالق البشر‪ ،‬فإن مظاهر الجمال‬ ‫فض ً‬
‫حد لها وما عندنا لها كلها إال كلمة جميل‪ .‬وأين جمال‬
‫وأشكاله ال ّ‬
‫المنظر الطبيعي من جمال القصيدة الشعرية من جمال العمارة‬
‫المزخرفة من جمال الغادة الحسناء؟ وفي النساء ألف لون من‬
‫ألوان الجمال وما عندنا لها كلها إال هذا اللفظ الواحد‪ ،‬فاللغات‬
‫تعجز عن وصف الشعور بالجمال‪ .‬وكذلك القول في الحب‪ ،‬في‬

‫‪92‬‬
‫تعداد أنواعه واختالف مشاعره وضيق ألفاظ اللغة عن وصف هذه‬
‫األنواع ونعت هذه المشاعر‪ ،‬فكيف تحيط بصفات اهلل وتشرح‬
‫(‪)1‬‬
‫كيفياتها؟‬
‫وإذا كانت الحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له‪،‬‬
‫وكانت ألفاظ‪> :‬استوى< و>جاء< و>خادع< و>يمكر< و> َن ِس َيهم<‬
‫إنما وضعت للمعاني األرضية البشرية المادية‪ ،‬وكان استعمالها‬
‫في القرآن في قوله {ثم استوى على العرش} {وجاء ربك}‬
‫{وهو خادعهم} {ويمكر اهلل} وقوله {فنسيهم} في غير هذا‬
‫المعنى المادي األرضي البشري الذي ُوضعت له‪ ،‬لم تكن إذن‬
‫حقيقة بمقتضى تعريفهم هذا للحقيقة‪.‬‬
‫يعرف >الحقيقة<‬ ‫ومن ينكر أنها مجاز (ومنهم ابن تيمية) ّ‬
‫تعريف ًا آخر خاص ًا به غير التعريف الذي جرى عليه البالغيون‪،‬‬
‫ويقول ما معناه‪ :‬إن تأويل هذه األلفاظ (أي تفسيرها تفسيراً مجازي ًا‬
‫والجزم بأنه هو المراد) مردود‪ ،‬ألن المعاني المجازية هي أيض ًا‬
‫َم ٍ‬
‫عان بشرية‪.‬‬
‫ولقد نظرت فوجدت أن هذه اآليات على ثالثة أشكال‪:‬‬
‫‪ -1‬آيات وردت على سبيل اإلخبار من اهلل‪ ،‬كقوله‪{ :‬الرحمن‬
‫على العرش استوى}‪ .‬فنحن ال نقول أنه ما استوى‪ ،‬فنكون قد‬
‫نفينا ما أثبته اهلل‪ ،‬وال نقول أنه استوى على العرش كما يستوي‬
‫شبهنا الخالق بالمخلوق‪ ،‬ولكن‬ ‫القاعد على الكرسي‪ ،‬فنكون قد ّ‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬راجع الكالم عن >ضيق األلفاظ<‪ ،‬وقد مضى في هذا الكتاب في‬
‫القاعدة السادسة من >قواعد العقائد<‪ ،‬ص‪( 64‬مجاهد)‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫نؤمن بأن هذا هو كالم اهلل وأن هلل مراداً منه لم نفهم حقيقته‬
‫ال‪ ،‬وألن العقل البشري ‪-‬كما‬ ‫يبين لنا مفص ً‬
‫وتفصيله ألنه لم َّ‬
‫قدمنا‪ -‬يعجز عن الوصول إلى ذلك بنفسه‪.‬‬
‫‪ -2‬آيات وردت على األسلوب المعروف عند علماء البالغة‬
‫بالمشاكلة‪ .‬و>المشاكلة< هي كقول القائل‪:‬‬
‫قالوا اقترح شيئ ًا ُن ِج ْد لك طبخه‬
‫قلت اطبخوا لي ُج ّب ًة وقميص ًا‬
‫يرد على المنجمين الذين‬
‫عمورية‪ّ ،‬‬
‫وقول أبي تمام في وقعة ّ‬
‫زعموا أن النصر ال يجيء إال عند نضج التين والعنب‪:‬‬
‫تسعون ألف ًا كآساد الشرى نضجت‬
‫جلودهم قبل نضج التين والعنب‬
‫ُ‬
‫واآليات الواردة على هذا األسلوب كثيرة‪ ،‬كقوله تعالى‬
‫{ َن ُسوا اهلل َف َن ِس َيهم}‪ .‬فكلمة >نسوا< جاءت على المعنى القاموسي‬
‫للنسيان‪ ،‬وهو غياب المعلومات عن الذاكرة‪ ،‬ولكن كلمة‬
‫>فنسيهم< جاءت مشاكلة لها وال يراد منها ذلك المعنى‪ ،‬ألن اهلل‬
‫ال ينسى‪{ :‬وما كان َر ُّبك َن ِس ّي ًا}‪ .‬ونقول بعبارة أخرى‪ :‬إن كلمة‬
‫استعملت بالمعنى الذي ُوضعت له‪ ،‬وكلمة >فنسيهم<‬ ‫>نسوا< ُ‬
‫استعملت بغير هذا المعنى‪.‬‬
‫ومثلها قوله {وهو معكم أينما كنتم}‪ .‬اتفق الجميع على أنها‬
‫معية ذات‪ ،‬ألن صدر اآلية ينص على أن اهلل استوى‬ ‫معية علم ال ّ‬
‫ّ‬
‫فرغ لكم أيها ال َّث َقالن}‪ ،‬وقوله‬
‫َ ُ‬‫{سن‬ ‫قوله‬ ‫ومثلها‬ ‫العرش‪.‬‬ ‫على‬

‫‪94‬‬
‫{ومكروا ومكر اهلل}‪ ،‬وقوله {يخادعون اهلل وهو خادعهم}‪ .‬كل‬
‫المادي‪ ،‬بل بمعنى‬
‫ّ‬ ‫هذه اآليات ال يجوز فهمها بالمعنى القاموسي‬
‫جل وعال‪.‬‬
‫يليق به ّ‬
‫آيات أخرى‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬ ‫‪ -3‬آيات دلت على المراد منها ٌ‬
‫اليهود َي ُد اهلل َمغلول ٌة‪ُ ،‬غلَّت أيديهم و ُلعنوا بما قالوا‪ ،‬بل‬
‫ُ‬ ‫{وقالت‬
‫نفق كيف يشاء}‪ .‬تدل على المراد منها آية {وال‬ ‫يداه مبسوطتان ُي ُ‬
‫ويفهم‬
‫كل البسط}‪ُ ،‬‬ ‫تبسطْ ها ّ‬
‫تجعل يدكَ مغلولة إلى عنقك وال ُ‬
‫منها أن بسط اليد يراد به الكرم والجود‪ ،‬وال يستلزم ذلك (بل‬
‫يستحيل) أن يكون هلل تعالى يدان كأيدي الناس والحيوان‪ ،‬تعالى‬
‫يدي رحمته} و{بين‬ ‫اهلل عن ذلك‪ .‬وقد جاء في القرآن قوله {بين َ‬
‫يدي عذاب شديد} والقرآن {ال يأتيه الباطل من بين يديه}‪،‬‬ ‫َ‬
‫وليس للرحمة وال للعذاب وال للقرآن يدان حقيقتان‪.‬‬
‫المحكم والمتشابه‬
‫آيات محكمات واضحة المعنى‬ ‫ٍ‬ ‫ّبين اهلل في القرآن أن فيه‬
‫ِ (‪)1‬‬
‫صريحة اللفظ‪ ،‬وآيات وردت متشابهات‪ ،‬وهي التي ال َيض ُح‬
‫المعنى المراد منها تمام ًا‪ ،‬بل تكثر أفهام الناس لها وتتشابه‬
‫تفسيراتها حتى يتعسر أو يتعذر معرفة المراد منها‪ ،‬وآيات الصفات‬
‫منها‪ .‬وأن على المؤمن أن ال يطيل الغوص في معناها‪ ،‬وال يتتبعها‬
‫فيجمعها ليفتن الناس بالبحث فيها(‪.)2‬‬
‫______________________‬
‫(‪> )1‬يضح< هو الفعل المضارع من الفعل الماضي وضح‪ ،‬ومثلها وعظ‬
‫يعظ‪.‬‬
‫(‪ )2‬ومن جمعها كلها وألقاها على التالميذ فقد جانب طريقة السلف‪=،‬‬

‫‪95‬‬
‫موقف المسلمين منها وكيف فهموها‬
‫المسلمون األولون‪ ،‬وهم سلف هذه األمة وخيرها‬
‫وأفضلها‪ ،‬لم يتكلموا فيها‪ ،‬ولم يقولوا أنها حقيقة ولم يقولوا أنها‬
‫مجاز‪ ،‬ولم يخوضوا في شرحها‪ ،‬بل آمنوا بها كما جاءت من عند‬
‫اهلل على مراد اهلل‪.‬‬
‫فلما انتشر علم الكالم وأُورِدت ُّ‬
‫الش َبه على عقائد اإلسالم‬
‫وظهرت طبقة جديدة من العلماء انبرت لرد هذه الشبه تكلم‬
‫هؤالء العلماء في آيات الصفات‪ ،‬وفهموها على طريقة العرب‬
‫في مجاوزة المعنى األصلي للكلمة (إذا لم يمكن فهمها به) إلى‬
‫معنى آخر‪ ،‬وهذا ما يسمى >المجاز< أو >التأويل<(‪.)1‬‬
‫وهو موضع نزاع بين العلماء طويل‪ .‬والحق أن هذه اآليات‬
‫وأن َمن عطّلها تمام ًا‬
‫نزلت من عند اهلل‪ ،‬من أنكر شيئ ًا منها كفر‪ّ ،‬‬
‫وطبقه‬
‫فجعلها لفظ ًا بال معنى كفر‪ ،‬ومن فهمها بالمعنى البشري ّ‬
‫______________________‬
‫أحاديث اآلحاد المروية في مثلها والتي ال‬
‫َ‬ ‫= وال سيما إذا َض َّم إليها‬
‫ال قطعي ًا في أمور العقائد عند جمهور العلماء‪ .‬وليس معنى‬ ‫عتبر دلي ً‬
‫ُت َ‬
‫ردها‪ ،‬بل هناك خالف فيمن ينازع‬ ‫مخير في قبولها أو ّ‬ ‫هذا أن المرء َّ‬
‫في داللتها ومن يحملها على المجاز‪.‬‬
‫وأوله إليه (على وزن‬
‫(‪> )1‬التأويل< من آلَ األمر إلى كذا‪ ،‬أي صار‪ّ .‬‬
‫صيره‪ .‬ولفظ التأويل جاء في القرآن بمعنيين‪ :‬تأويل لفظي‪،‬‬ ‫فعل) أي ّ‬ ‫ّ‬
‫أي بيان ما ينتهي إليه معنى اللفظ‪{ :‬ذلك تأويل ما لم تستطع عليه‬
‫صبراً}‪ ،‬وتأويل عملي‪ ،‬أي بيان ما تنتهي إليه الحال‪{ :‬يوم يأتي‬
‫فرق المتأخرون بين التأويل والتفسير‪ ،‬فالتأويل‬ ‫تأويله}‪ .‬ومن هنا ّ‬
‫ما ّبينا‪ ،‬والتفسير كشف المعنى‪ ،‬من َف َسر (مثل سفر) أي انكشف‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫على اهلل فجعل الخالق كالمخلوق كفر‪ .‬والمسلك خطر والمفازة‬
‫مهلكة‪ ،‬والنجاة منها باجتناب الخوض فيها واتباع سنن السلف‬
‫والوقوف عند حد النص‪ ،‬وهذا ما أدين اهلل به وما أعتقده‪.‬‬
‫مظاهر العبادة‬
‫القلب الذي يؤمن بأن النفع والضرر كله من اهلل وأن التحليل‬
‫والتحريم هلل وأن الحب المطلق والخوف المطلق والطاعة المطلقة‬
‫هلل يمتلئ بتعظيم اهلل‪ ،‬ويستشعر معنى >اهلل أكبر< فيصغر معه كل‬
‫شيء في جنب اهلل‪.‬‬
‫ولما كان في أعمال اإلنسان ما يدل على التعظيم المطلق‪،‬‬
‫كالدعاء والصالة والركوع والسجود والنذر والذبح والتسبيح‬
‫والتهليل‪ ،‬فإن المؤمن ال يصنعها إال هلل‪ ،‬فال يصلي لسواه وال‬
‫يركع وال يسجد إال له‪ ،‬وال يقول ألحد غيره >سبحانك<‪ ،‬وال‬
‫يطلب غفران الذنوب إال منه‪ ،‬ألن هذه كلها من مظاهر التعظيم‬
‫سر العبادة‪.‬‬
‫المطلق الذي هو ّ‬
‫ومن أعظم مظاهر العبادة الدعاء‪ ،‬وهو في اللغة النداء‪،‬‬
‫حي ًا يسمع صوتك‬‫والشرع ال يمنع أن تدعو (أي تنادي) إنسان ًا ّ‬
‫ليعينك بعلمه أو قوته على جلب النفع لك‪ ،‬وليس هذا هو الدعاء‬
‫مخ العبادة‬
‫الذي نتكلم عنه‪ ،‬بل الدعاء الذي نقصده هنا والذي هو ّ‬
‫هو طلب جلب النفع ودفع الضرر بال سبب مادي ظاهر‪ ،‬وهذا‬
‫يوجه إال هلل وحده‪ ،‬رأس ًا بال واسطة‪ ،‬فال ُيطلب الشفاء‬
‫الذي ال َّ‬
‫نفسه من الطبيب ولو كان حي ًا‪ ،‬ألن الطبيب يصف الدواء والشفاء‬
‫فأولى ألاّ يطلبه أو يطلب ما يشابهه من ميت أو من جماد‪،‬‬
‫من اهلل‪ْ .‬‬

‫‪97‬‬
‫النفع بال سبب ظاهر إال اهلل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ألنه ال يمنح‬
‫المسبب من اهلل‪ ،‬وما ال‬
‫َّ‬ ‫فالمؤمن يتخذ األسباب ثم يطلب‬
‫يعرف الناس له سبب ًا يطلبه من اهلل وحده‪ ،‬يدعوه ويقول‪> :‬يا اهلل<‪،‬‬
‫ويعتقد أن بابه مفتوح وأن إجابته حاصلة‪ ،‬وال يدعو غيره بدله‪،‬‬
‫وال يدعو غيره معه‪ ،‬وال يتخذ غيره وسيط ًا في الدعاء بينه وبينه‪.‬‬
‫مخ العبادة‪.‬‬
‫هذا هو الدعاء الذي هو ّ‬
‫غاية العبادة‬
‫قلت أن للعبادة جسداً هو األلفاظ التي ينطق بها اللسان‬
‫واألعمال التي تقوم بها األعضاء‪ ،‬ولها روح‪ ،‬وروحها العقيدة‬
‫التي دفعت إليها والغاية التي ُعملت من أجلها‪ ،‬أي النتائج التي‬
‫قصدها من عملها‪ .‬وقد شرحت جانب ًا من هذه العقيدة‪ ،‬وس ُألِ ُّم‬
‫اآلن بطرف من هذه المقاصد‪.‬‬
‫المقصد الصحيح للعبادة‪ :‬أن يكون الباعث عليها والمقصود‬
‫بها رضا اهلل‪ ،‬فال نعملها للمال وال للجاه وال لنيل إعجاب الناس‪،‬‬
‫وال نتخذها سلم ًا إلى متع الدنيا وال نريد بها الشهرة بالصالح‪.‬‬
‫وهذا المقصد الصحيح يسمى >اإلخالص<‪ ،‬وما يداخله من‬
‫المقاصد األخرى يدعى >الرياء<‪ ،‬والذي يحدد المقصد من‬
‫العمل هو النية‪ .‬واهلل ال يسألنا يوم القيامة عن األعمال فقط‪ ،‬بل‬
‫يسألنا‪ :‬لماذا عملناها؟ وقد يكون العمل صالح ًا في ذاته‪ ،‬ولكن‬
‫يصح المقصد منه ولم َت ْسلم النية ولم تكن خالصة هلل‪ ،‬فيتحول‬
‫ّ‬ ‫لم‬
‫وحسنه إلى قبح‪.‬‬ ‫صالحه إلى فساد ُ‬
‫ال عمل صالح‪ ،‬ولكن إذا كانت نية المصلي أن‬
‫الصالة مث ً‬

‫‪98‬‬
‫يراه الناس فيعتقدوا صالحه فيعطوه األموال ويهدوا إليه الهدايا‬
‫ال‬
‫ال ألمر اهلل وطلب ًا لرضاه كانت صالته هذه عم ً‬
‫ولم ُي َصلِّ امتثا ً‬
‫سيئ ًا‪ ،‬وإن كانت الصالة في األصل من األعمال الحسنة‪.‬‬
‫والسيئ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لذلك تفاوتت هجرة المهاجرين فكان منها الحسن‬
‫وإن كان ظاهرها واحداً وكانوا جميع ًا قد اشتركوا في السفر‬
‫واالرتحال ومشوا في وقت واحد في طريق واحد‪ ،‬فمن كان‬
‫يقصد الفرار بدينه ورضا ربه كانت سفرته هجرة هلل ُيثاب عليها‬
‫ثواب المهاجرين‪ ،‬ومن كان خاطب ًا امرأة في المدينة يريد زواجها‪،‬‬
‫فلما رأى المهاجرين قال في نفسه‪« :‬إني أصحبهم ألتزوج بهذه‬
‫المرأة»‪ ،‬أو كانت له تجارة فصحبهم ليعمل في تجارته‪ ،‬وكان‬
‫وحده هو مقصده من السفر‪ ،‬كانت سفرته للدنيا ولم تكن هلل‪.‬‬
‫َ‬ ‫هذا‬

‫والنيات هي التي تفرق بين العادة والعبادة‪ .‬فمن أفاق متأخراً‬


‫وشغل عن طعامه وشرابه فلم ُيدخل‬ ‫ال ُ‬‫ومضى إلى عمله مستعج ً‬
‫جو َفه شيئ ًا إلى الغروب يكون قد قام بكل ما يطلب من الصائم‪،‬‬
‫ولكن لم ينل ثواب الصائمين ألنها ما نوى الصيام وال قصده(‪.)1‬‬
‫واألعمال العادية‪ ،‬المباحة غير الممنوعة‪ ،‬إذا قصد بها صاحبها‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬وهذا ال يعارض ما ذهب إليه الحنفية من صحة الوضوء بال ّنية لمن‬
‫غسل أعضاء الوضوء كلها‪ ،‬ألن الوضوء عندهم ليس عبادة مستقلة‪،‬‬
‫ولكنه شرط لهذه العبادة‪ ،‬كما يشترط لها طهارة الثوب والمكان‬
‫وستر العورة‪ ،‬وذلك كله يصح ولو بال نية‪ .‬وجمهور الفقهاء من غير‬
‫الحنفية اشترطوا له النية ألن الفارق بين العادة والعبادة هو النية‪،‬‬
‫وتعريف النية هو أن تتصور العمل قبل أن تعمله وأن تعرف لماذا‬
‫تعمله‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫رضا اهلل ونوى بها نية صالحة كانت له عبادة‪ ،‬ومن هنا قلنا‪ :‬إن‬
‫جميع أعمال اإلنسان النافعة تكون له بالنية عبادة‪ ،‬فتشمل العبادة‬
‫الحياة كلها‪ ،‬ويكون المرء متعبداً في طعامه وشرابه وقيامه وقعوده‬
‫وكسبه وزواجه‪ ،‬ومن هنا يكون الفهم الصحيح لقوله تعالى‪{ :‬وما‬
‫واإلنس إال لِ َيعبدون}‪.‬‬
‫َ‬ ‫الجن‬
‫َّ‬ ‫خلقت‬
‫ُ‬
‫فتكون العبادة بهذا المعنى الشامل هي غاية الخلق‪.‬‬
‫الخالصة‬
‫فتلخص من ذلك أن توحيد األلوهية (وهو القسم الرابع‬ ‫ّ‬
‫والقسم األخص من اإليمان باهلل) هو أن تعتقد أن النفع والضرر‬
‫كله من اهلل وحده‪ ،‬فال تطلب النفع إال منه‪ ،‬إما عن طريق السنن‬
‫التي وضعها لهذا الكون المسماة بقوانين الطبيعة‪ ،‬وإما منه رأس ًا‬
‫بالدعاء‪ .‬تدعوه وحده‪ ،‬ال تدعو غيره وال تدعوه مع غيره‪ ،‬وال‬
‫تتخذ إليه وسيط ًا‪ ،‬وال تستعين إال به باألسباب التي جعلها طريق ًا‬
‫تخصه بالحب‬ ‫للنفع‪ ،‬مع مالحظة أنه هو النافع ال مجرد السبب‪ .‬وأن ّ‬
‫المطلق الدافع إلى الطاعة المطلقة والخشية الدافعة إلى اجتناب‬
‫المحرمات‪ ،‬وأن تخصه بالتعظيم المطلق وبكل ما يدل عليه من قول‬
‫وعمل‪ ،‬وأن تقصد رضاه وحده‪ ،‬ال تقصد بعبادتك الدنيا وأهلها‪.‬‬
‫البحث العلمي‬
‫ولما كان اهلل قد أعطانا العقول وأمرنا بالنظر في أسرار‬
‫الوجود وفي سننه العجيبة وقوانينه التي أوجدها فيه‪ ،‬وكان علينا‬
‫امتثال أمر اهلل‪ ،‬كان درس العلوم الطبيعية واكتشاف أسرار الوجود‬
‫عبادة‪ ،‬بشرط ألاّ تقف عند معرفة القانون بل تفكر في اإلله العظيم‬

‫‪100‬‬
‫الذي أوجده‪ ،‬فتزداد بهذا الفكر إيمان ًا باهلل وإخالص ًا في عبادته‪.‬‬

‫وشرط آخر‪ :‬هو أن تستعمل هذه األسرار فيما ينفع الناس‬


‫ويرضي اهلل‪ ،‬ال فيما يضرهم ويؤذيهم ويسبب في األرض الفساد‪.‬‬

‫شبهة وردها‬

‫يسأل كثيرون‪ :‬ما بال الكافر يعمل على ما ينفع الناس‪ ،‬يوزع‬
‫الصدقات ويبني المالجئ والمستشفيات ويفتح المدارس‪ ،‬ثم ال‬
‫يكون له عندكم ثواب الدنيا اآلخرة؟ والرد‪ :‬إن اهلل ال يضيع عمل‬
‫عامل من ذكر أو أنثى وال يحرم محسن ًا ثمرة إحسانه‪ ،‬بل يعطيه ما‬
‫يطلبه‪ .‬أليس الجزاء األعظم أن تعطي المحسن ما يطلبه؟‬

‫فإن كان المحسن مؤمن ًا مصدق ًا باآلخرة وطلب ثوابها أعطاه‬


‫اهلل ثواب اآلخرة‪ ،‬وإن كان هو نفسه ال يريد إال الدنيا والشهرة‬
‫والذكر الحسن وأن تكتب الجرائد عنه ويسجل التاريخ اسمه‬
‫أعطاه ما يطلبه‪ .‬هو ال يريد اآلخرة‪ ،‬فلماذا تحزن أنت وتعترض‬
‫إذا لم ُيمنح ثوابها؟‬

‫جدال في غير طائل‬

‫امتألت كتب علم الكالم بالجدال في >الصفات< و>الذات<‪:‬‬


‫ال‪ -‬بذاته أم بصفة العلم فيه؟ وبالتفريق‬ ‫هل علم اهلل تعالى ‪-‬مث ً‬
‫بين صفات الدين (كالعلم والقدرة) وصفات األفعال (كالخلق‬
‫جر إلى فتنة كبيرة ما كان لها‬
‫والرزق)‪ ،‬والجدل في كالم اهلل الذي ّ‬
‫الحسن والقبح‬‫داع هي فتنة االمتحان بالقول بخلق القرآن‪ .‬وفي ُ‬‫من ٍ‬
‫والصالح واألصلح‪ ،‬وفي القضاء والقدر وإرادة اإلنسان‪ ،‬وأمثالها‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ووجه الحق في هذه المسائل هو رفض البحث فيها والجدال‬
‫ال<‪.‬‬
‫عليها‪ ،‬فهي (إذا استعرنا لغة المحاكم) >دعوى مردودة شك ً‬
‫ال‪ :‬ألن السلف (وهم أفضل المسلمين وخيار هذه األمة‪،‬‬ ‫أو ً‬
‫من الصحابة والتابعين الكبار) ما عرفوها وال بحثوا فيها‪ ،‬وكان‬
‫دينهم أسلم وإيمانهم أصح‪ ،‬وهم قدوتنا في ديننا‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬ألن من يدقق في أقوال ال ِف َرق المختلفة يجدها كلها‬
‫مبنية على أساس واحد‪ ،‬هو قياس الخالق على المخلوقين وتطبيق‬
‫منطق العقل البشري وأحوال النفس اإلنسانية على اهلل‪ .‬وذلك‬
‫باطل ألن الخالق ال يشبه المخلوق وألن اهلل ليس كمثله شيء‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬ألن هذه األمور كلها مما وراء المادة‪ ،‬أي من عالم‬
‫الغيب‪ ،‬وقد تقدم (في القاعدة الخامسة من قواعد اإليمان) أن‬
‫العقل قاصر حكمه على عالم المادة‪ ،‬ال يستطيع أن يحكم على‬
‫ما وراء المادة وال يستطيع أن يدركه‪.‬‬
‫وجه الحق فيها‬
‫وأنا أدعو إلى شيء جديد‪ ،‬شيء هو أقرب إلى الحق وهو‬
‫أنفع لنا‪ ،‬هو أن ننقل الموضوع من جدال في صفات اهلل إلى‬
‫ال من أن نبحث بحث ًا غير‬ ‫سلوك في الحياة يوصل إلى رضاه‪ .‬فبد ً‬
‫منتج في القرآن‪ :‬هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ نقول‪ :‬إن القرآن‬
‫أنزله اهلل لنعمل به‪ ،‬فلنعمل به ولنأتمر بأمره ولنقف عند نهيه‪.‬‬
‫ال من البحث في علم اهلل وهل هو بذاته أم بصفة زائدة على‬ ‫وبد ً‬
‫سرنا وجهرنا‬ ‫الذات؟ نقول‪ :‬إذا كان اهلل يعلم عنا كل شيء‪ ،‬من ّ‬
‫وانفرادنا واجتماعنا‪ ،‬فيجب أن نسلك في الحياة سلوك ًا موافق ًا‬

‫‪102‬‬
‫لشرع ربنا حتى يعلم عنا ما يرضيه علينا‪.‬‬
‫هذا هو الحق‪ ،‬وما مثل من يصنع هذا ومثل من يجادل في‬
‫صفات اهلل إال كمثل طالب المدرسة الذين يقال لهم‪ :‬إنها ستأتي‬
‫لجة عليا من الوزارة تتولى هي امتحانكم‪ .‬فالعاقل منهم يقول‪ :‬إذا‬
‫كانت هذه اللجنة ستتولى االمتحان فينبغي أن أستعد وأدرس وال‬
‫أدع من المنهج المقرر شيئ ًا ال أحفظه‪ .‬واألحمق يجادل في هذه‬
‫اللجنة‪ :‬كيف يكون امتحانها؟ هل تتواله كلها أم أفراد منها؟ وهل‬
‫عددها شفع أم وتر؟ وهل تجيء بالسيارة أم بالطيارة؟ ‪ ...‬وال يزال‬
‫في هذه وشبهه حتى يأتي يوم االمتحان وهو لم ُي ِع ّد له شيئ ًا‪.‬‬
‫إن اهلل ال يسألنا يوم القيامة عن شيء مما بنى عليه المتكلمون‬
‫جدالهم وأقاموا عليه مختلف مذاهبهم وملؤوا به كتبهم‪ ،‬ولو‬
‫كان ذلك من شروط اإليمان لبحث فيه رسول اهلل ’ وأصحابه‪.‬‬
‫فلنتركه كله‪ ،‬فإنه أثر من آثار الفلسفة اليونانية القديمة التي دالت‬
‫دولتها وبطلت أكثر نظرياتها ووهت أدلتها‪ ،‬وحل محلها في‬
‫تقل عنها‬
‫مسائل الميتافيزيك (ما وراء المادة) فلسفة جديدة ال ّ‬
‫وتخبط ًا في مها ِم ِه الظنون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫ضال ً‬
‫فلنجعل كتاب اهلل إمامنا وليكن عليه اعتمادنا‪ ،‬وما كان فيه‬
‫آمنا بما ظهر فيه‬
‫مغيبة لم يعرض إال إلى جزء منها ّ‬ ‫من ذكر ألمور َّ‬
‫عنا إلى من أنزله علينا(‪.)1‬‬
‫وفوضنا ما خفي ّ‬
‫لنا‪ّ ،‬‬
‫* * *‬
‫______________________‬
‫مقالتي >علم التوحيد< و>علم التوحيد=‬
‫َ‬ ‫(‪ )1‬للتوسع في هذه الفكرة راجع‬

‫‪103‬‬
‫______________________‬
‫= وكتاب المودودي< في كتاب >فصول إسالمية<‪ ،‬وانظر الحلقة ‪231‬‬
‫من >الذكريات< (في الجزء الثامن) وعنوانها >تفسير بعض اآليات<‬
‫(مجاهد)‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫مظاهر اإليمان‬

‫التلميذ الذي يؤمن بأن االمتحان قريب‪ ،‬لم يبق دونه إال‬
‫أسبوع‪ ،‬ثم ال يستعد له وال يهتم به بل يشتغل عنه باللهو والعب ال‬
‫يكون كامل اإليمان بقرب االمتحان‪ .‬والتائه الذي ترشده إلى الطريق‬
‫ال من‬
‫الموصل فيصدقك ويؤمن بكالمك ثم يمشي إلى الشمال بد ً‬
‫اليمين ال يكون تام اإليمان بصدق المرشد‪ ،‬فاإليمان الكامل تبدو‬
‫آثاره في أعمال المؤمن وفي سلوكه‪.‬‬

‫اإليمان والعمل‬

‫فاإليمان الينفك عن العمل ألن العمل نتيجة له وثمرة من‬


‫ثمراته‪ ،‬وهو مظهره الذي يظهر به للناس‪ .‬والذي يقول أن اإليمان‬
‫يدعي أنه‬ ‫بالقلب وال يؤدي الفرائض وال يدع المحرمات كالذي ّ‬
‫المتيم‪ ،‬ثم يدخل عليه المحبوب فال يتبدل نبضه وال يسرع‬ ‫ّ‬ ‫العاشق‬
‫أو يبطئ في عروقه دمه‪ ،‬أو يقول أنه خائف مذعور ثم ال ينعكس‬
‫(‪)1‬‬
‫خوفه فراراً وال هجوم ًا‪ ،‬فهذا ال يكون عاشق ًا وال خائف ًا‪ ،‬ألن األثر‬
‫هو الدليل على ما في القلب‪ ،‬حتى إن وليم جيمس(‪ )2‬يبالغ فيقول‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أي رد الفعل ‪reflexe‬‬
‫(‪ )2‬وهو من علماء النفس السلوكيين‪ ،‬أي البراغماتيست‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫أنه يهرب ثم يخاف‪.‬‬
‫ولذلك قرن اهلل اإليمان بالعمل الصالح‪{ :‬إ ّنما المؤمنون الذين‬
‫قلوبهم‪ ،‬وإذا ُت ِل َيت عليهم آيا ُته زادتهم إيمان ًا‪،‬‬
‫إذا ُذ ِك َر اهلل َو ِجلَت ُ‬
‫ومما رزقناهم ُينفقون‪.‬‬ ‫ربهم يتوكلون‪ .‬الذين ُيقيمون الصالة ّ‬ ‫وعلى ّ‬
‫أفلح المؤمنون‪ ،‬الذين هم في‬ ‫َ‬ ‫أولئك ُه ُم المؤمنون حق ًا}‪{ .‬قد‬
‫صالتهم خاشعون‪ ،‬والذين هم عن اللَّغو ُم ْعرضون‪ ،‬والذين هم‬
‫للزكاة فاعلون‪ ،‬والذين هم لفروجهم حافظون‪ ،‬إلاّ على أزواجهم أو‬
‫غير َملومين‪ ،‬فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك‬ ‫َ‬
‫ما َملَكت أيْما ُنهم فإنهم ُ‬
‫وعهدهم راعون‪ ،‬والذين ُه ْم على‬ ‫الع ُادون‪ ،‬والذين هم ألماناتهم َ‬ ‫هم َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫جوهكم ق َب َل المشرق‬ ‫صلواتهم يحافظون}‪{ .‬ليس الب َِّر أن ُت َولّوا ُو َ‬
‫اآلخر والمالئكة والكتاب‬ ‫ولكن البر َمن آمن باهلل واليوم ِ‬ ‫والمغرب‪،‬‬
‫ّ َّ‬
‫المال على ُح ِّبه ذوي ال ُقربى واليتامى والمساكين‬ ‫َ‬ ‫والنبيين‪ ،‬وآتى‬
‫ّ‬
‫وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب‪ ،‬وأقام الصالة وآتى الزكاة‪،‬‬
‫والضراء‬
‫ّ‬ ‫والصابرين في البأساء‬ ‫ّ‬ ‫والمو ُفون بعهدهم إذا عاهدوا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وحين البأس}‪.‬‬
‫اإليمان يزيد‬
‫من العلماء من نظر إلى اإليمان باعتباره عقيدة ال تقبل‬
‫التجزئة‪ ،‬فال يكون المرء إال واحداً من اثنين‪ :‬مؤمن ًا أو كافراً‪ ،‬وال‬
‫توسط بينهما‪ ،‬فذهبوا إلى أن اإليمان ال يزيد وال ينقص‪ .‬ولكن‬
‫الجمهور نظر إليه مقرون ًا بالعمل الصالح فرأوه يزيد بازدياده‪ ،‬وهذا‬
‫هو الحق الذي وردت به النصوص القاطعة؛ قال تعالى‪{ :‬وإذا ُت ِل َيت‬
‫فزادتهم إيمان ًا}‪،‬‬
‫عليهم آيا ُته زادتهم إيمان ًا}‪{ ،‬فأما الذين آمنوا َ‬
‫زادهم إال إيمان ًا وتسليم ًا}‪.‬‬
‫{وما َ‬

‫‪106‬‬
‫ترك العمل ال يك ّفر‬

‫المحرم‬
‫َّ‬ ‫والعلماء من أهل السنة متفقون على أن مجرد ارتكاب‬
‫من غير إنكار لحرمته‪ ،‬وترك الواجب من غير إنكار لوجوبه وال‬
‫يعرض صاحبه لعذاب اآلخرة‪ ،‬لكنه ال يك ّفر صاحبه‬
‫استخفاف به‪ّ ،‬‬
‫وال يخلده في النار‪.‬‬
‫وما ورد في الحديث من أن الزاني ال يزني حين يزني وهو‬
‫مؤمن معناه أنه ال يكون ساع َة الزنا ذاكراً أن اهلل مطّلع عليه‪ ،‬ولو ذكر‬
‫وه َّم فرأى‬
‫أعد ُع ّدة الزنا َ‬
‫ذلك لمنعه منه حياؤه من اهلل‪ .‬ولو أن فاسق ًا َّ‬
‫أباه يطل عليه ويراه‪ ،‬هل يستطيع أن يمضي فيه أم يمنعه منه الحياء‬
‫من أبيه؟ فكيف ال يمنعه الحياء من اهلل وهو ذاكر أنه يراه؟‬

‫ثمرات اإليمان‬

‫وثمراته هي هذه األعمال القلبية التي لخصها رسول اهلل ’ في‬


‫عد من جوامع‬‫الحديث الصحيح بهذه الكلمة الجامعة المانعة التي ُت ّ‬
‫الكلم ومن دالئل البيان النبوي الذي ال يدانيه وال يقاربه بيان بشري‪،‬‬
‫هي قوله في تعريف اإلحسان‪> :‬أن تعبد اهلل كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن‬
‫تراه فإنه يراك<‪.‬‬

‫الذكر‬
‫وأول هذه الثمرات الذكر‪ .‬ولقد قرأت عن أحد الصالحين‬
‫(‪)1‬‬

‫أن ابتداء أمره أنه كان له خالٌ متعبد‪ ،‬وكان يالزمه‪ ،‬فقال‪ :‬يا خالي‪،‬‬
‫ماذا أعمل ألكون مثلك؟ فقال له خاله‪ :‬قل كل يوم ثالث مرات‪:‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬هو سهل بن عبد اهلل التستري‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫ناظر إلي‪ ،‬إن اهلل مط ّل ٌع علي»‪ .‬فقالها واستمر عليها أسبوع ًا‪،‬‬ ‫«إن اهلل‬
‫ّ‬ ‫ٌ ّ‬
‫فأمره أن يقولها ثالث مرات في عقب كل صالة‪ ،‬فقالها‪ .‬وتركه‬
‫فتعود‬
‫ّ‬ ‫ال من أن يحرك بها لسانه‪،‬‬ ‫أسبوع ًا ثم أمره أن يقولها بقلبه بد ً‬
‫بذلك على أن يكون دائم ًا ذاكراً مراقب ًا‪.‬‬

‫وما أمر اهلل بشيء في القرآن ما أمر بالذكر وال أثنى على أحد‬
‫ما أثنى على الذاكرين‪ .‬والذكر في لسان العرب الذي نزل به القرآن‬
‫ذكران‪ :‬ذكر القلب وذكر اللسان‪ ،‬وكالهما ورد في القرآن‪ .‬فمن ذكر‬
‫أن‬
‫الشيطان ْ‬
‫ُ‬ ‫الحوت‪ ،‬وما أَن ْ ُ‬
‫سانيه إال‬ ‫َ‬ ‫سيت‬
‫القلب قوله تعالى‪{ :‬إ ّني َن ُ‬
‫{اذك ْر نعمتي عليك‬
‫ُ‬ ‫أذك َره} أي أن أتذكره ويخطر على بالي‪ .‬ومنه‪:‬‬
‫ُ‬
‫وعلى والديك} و{يا ّأيها الذين آمنوا اذكروا نعم َة اهلل عليكم}‪.‬‬
‫ومن ذكر اللسان قوله‪{ :‬واذكر في الكتاب إبراهيم}‪{ ،‬واذكر في‬
‫{اذك ْرني عند ربك}‪{ ،‬واذكروا اسم اهلل عليه}‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الكتاب مريم}‪،‬‬

‫فإذا أردت أن تتحقق لك صفة الذكر فتذكر بقلبك(‪( )1‬أي‬


‫بعقلك) وأنت وحدك وأنت في المأل وأنت في السوق وأنت في‬
‫الطريق‪ ،‬وتذكر في كل وقت وعلى كل حال أن اهلل يراك‪ ،‬فال‬
‫ال ألمره‪،‬‬‫تعمل إال ما يرضيه‪ .‬فإن ّأديت واجب ًا فاذكر أنك تؤديه امتثا ً‬
‫وإن تركت محرم ًا فاتباع ًا لنهيه‪ ،‬وإن عملت مباح ًا فاقصد به وجه ًا‬
‫تستحق به الثواب‪ ،‬وإن عرض لك طريقان فاختر منهما ما يدنيك‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬ليس المراد القلب المادي الذي يضخ الدم ألنحاء الجسم‪ ،‬بل‬
‫المراد مكان الفكر والمشاعر من اإلنسان‪ .‬وقد بسطت الكالم في هذا‬
‫الراد والرائي (أي في اإلذاعة‬
‫ّ‬ ‫الموضوع في كتبي وفي أحاديثي في‬
‫والتلفزيون)‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫تذكرت فتب‬
‫من الجنة ويباعدك عن النار‪ ،‬وإن نسيت فأذنبت ذنب ًا ثم ّ‬
‫طائف من الشيطان‬
‫ٌ‬ ‫مس َهم‬
‫{إن الذين ا ّت َقوا إذا ّ‬
‫منه واطلب العفو عنه‪ّ :‬‬
‫تذكروا فإذا هم ُمبصرون}‪.‬‬
‫ّ‬
‫واذكر بلسانك‪ ،‬فإن أفضل الذكر ذكر اللسان مع حضور‬
‫القلب‪ ،‬فإن كان الفكر غائب ًا ال يعي ما يقول اللسان كان ذكره كالم ًا‬
‫بال معنى‪ ،‬كذكر ّبياع الكعك في الشام ينادي‪> :‬اهلل كريم<‪ ،‬ال يقصد‬
‫الخس ينادي‪> :‬اهلل الدايم<!‬
‫ّ‬ ‫ذكر اهلل ولكن بيع الكعك‪ ،‬وذكر بياع‬

‫يسمي اهلل على شرب‬‫وربما كان ذكر اللسان معصية‪ ،‬كمن ّ‬


‫الخمر ومن يذكر اهلل في أغاني الفسوق التي تغنيها المغنيات‪ .‬فإن‬
‫قصد بذلك الهزء أو دلت عليه داللة ظاهرة كان ذكره هذا كفراً‪.‬‬
‫عين لها الشارع‬
‫وأفضل الذكر تالوة القرآن‪ ،‬إال في المواضع التي ّ‬
‫ال‪ ،‬والذكر المأثور‬
‫ذكراً خاص ًا‪ ،‬كالتسبيح في الركوع والسجود مث ً‬
‫عن رسول اهلل ’‪.‬‬

‫وأما ما يسمى في أيامنا بحفالت الذكر (وكان يعرف عند‬


‫علمائنا بالرقص لما فيه من القيام والركوع واالنحناء واالستواء‬
‫بحركات موزونة ونغمات معروفة) وال ُينطق فيه بتهليل وال تحميد‬
‫(‪)1‬‬
‫بل بأصوات مبهمة مثل >آه< و>أح<‪ ،‬ففي حاشية ابن عابدين‬
‫(وهي عمدة المذهب الحنفي) أنه حرام‪ ،‬إال إذا فعله مغلوب ًا على‬
‫أمره غائب ًا عن حسه‪ ،‬لم يتعمده ولكن حملته عليه سيطرة العاطفة‬
‫الو ْجد‪ ،‬فإن استح ّله فقد ُيحكَ م بكفره‪.‬‬
‫وفرط َ‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬الجزء الثالث‪ ،‬صفحة ‪ 307‬من الطبعة األميرية‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫بين الخوف والرجاء‬

‫وأن يكون المؤمن بين الخوف من عقاب اهلل والرجاء لعفوه‪،‬‬


‫يذكر أن اهلل سريع الحساب وأنه شديد العقاب فيغلب عليه الخوف‪،‬‬
‫ويذكر أنه َع ُف ٌّو رحيم وأنه أرحم الراحمين فيغلب عليه الرجاء‪ .‬فإن‬
‫الخوف وحده يكون قد يئس من رحمة اهلل‪{ :‬إنه ال َي ْيأس‬
‫ُ‬ ‫قلبه‬
‫مأل َ‬
‫القوم الكافرون}‪ .‬وإن مأل قلبه الرجاء وحده يكون‬‫ُ‬ ‫من َر ْو ِح اهلل إال‬
‫القوم الخاسرون}‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مكر اهلل إال‬
‫يأم ُن َ‬
‫قد أمن مكر اهلل‪{ :‬فال َ‬
‫وقد قدمنا الكالم بأن الخالق ال يشبه المخلوق وأن الخوف‬
‫منه ليس كالخوف من مخلوقاته‪ ،‬فأنت تخاف من األسد الذي‬
‫الجو بزئيره وأنت وحدك أمامه أعزل‬‫َّ‬ ‫يواجهك كاشراً عن أنيابه مالئ ًا‬
‫بال سالح‪ ،‬ولكن خوف اهلل ليس كخوف األسد‪ ،‬ألن األسد يمكن‬
‫درء خطره عنك ولو أرادك به‪ ،‬واهلل رب األسد وخالقه‪ ،‬ال يمكن‬
‫دفع قضائه إذا كتبه عليك‪ .‬وأنت تخاف السيل الهدار‪ ،‬يكاد يصل‬
‫إليك وأنت في مجراه ال قوة لك على دفعه‪ ،‬ولكنه ليس كخوف‬
‫ويرده إذا أراد‪ .‬والسيل‬
‫ّ‬ ‫اهلل الذي أجراه والذي يوقفه ويجففه إذا شاء‬
‫يمكن الفرار منه واالبتعاد عنه‪ ،‬وعذاب اهلل إذا وقع ما منه مفر‪.‬‬
‫وأنت تخاف األمراض واآلفات وفقد األحباب وذهاب المال‪،‬‬
‫ولكن ذلك ليس كخوف اهلل الذي بيده األمر كله‪ ،‬إن شاء ابتالك به‬
‫مما يبتليك به اهلل‪.‬‬
‫وإن شاء عافاك منه‪ ،‬وما في الوجود شيء يعافيك ّ‬
‫فالمؤمن ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء‪ ،‬إذا وقف في‬
‫الرحيم< استشعر الرجاء‪ ،‬وإن قال >مالك‬ ‫>الرحمن ّ‬
‫الصالة فقال ّ‬
‫أحس الخوف‪ .‬وأكثر المسلمين اليوم غ ّلبوا الرجاء على‬
‫ّ‬ ‫الدين}‬
‫يوم ّ‬

‫‪110‬‬
‫الخوف واألمل بالعفو على توقي العقاب‪.‬‬
‫على أن المسلم إذا أتى الفرائض (ولو ترك المندوبات) واجتنب‬
‫المحرمات (ولو لم يجتنب المكروهات) يكون من الخائفين المتقين‬
‫لكنه يخسر الدرجات العالية في الجنة(‪ ،)1‬فهو كالتلميذ الذي يحصل‬
‫على أقل درجات النجاح‪ ،‬ال يرسب في فصله ولكن ال ينال تقديراً‬
‫وال مكافأة‪ ،‬ويكون نجاحه وسط ًا ال جيداً وال ممتازاً‪.‬‬
‫التوكل‬
‫{إن كنتم آمنتم باهلل فعليه توكلوا}‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫قال اهلل تعالى‪ْ :‬‬
‫حب المتوكلين}‪ .‬فما هو التوكل؟ وما حقيقته؟‬
‫{إن اهلل ُي ّ‬
‫ّ‬
‫لقد تقدم القول بأن اهلل جعل فيما خلق من األشياء النافع‬
‫والضار‪ ،‬وجعل من سنن الكون ما هو سبب للنفع وما هو سبب‬
‫للضرر‪ ،‬فهل التوكل على اهلل ترك األسباب؟‬
‫المتصوفة من يرى التوكل في ترك السبب‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫لقد كان في‬
‫يعمل لتحصيل الرزق وينتظر أن يصل إليه رزقه بال عمل‪ ،‬ويدع‬
‫مريضه بال تطبيب ويرجو أن يناله الشفاء بال دواء‪ ،‬ويسلك الصحراء‬
‫بال زاد ويأمل أن يجيئه زاده من غير تعب‪ ،‬ويدع طلب العلم ويعتقد‬
‫______________________‬
‫فاختل المعنى‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬ما بين األقواس سقط من كل طبعات الكتاب السابقة‬
‫ال ّبين ًا‪ ،‬فقد جاءت الجملة‪« :‬المسلم إذا أتى الفرائض واجتنب‬
‫اختال ً‬
‫المحرمات يكون من الخائفين المتقين لكنه يخسر الدرجات العالية‬
‫في الجنة»‪ ،‬وهو معنى ال يستقيم‪ .‬وقد أخذت النقص من أصل‬
‫المقاالت التي ُنشرت في جريدة >المدينة< سنة ‪ 1388‬قبل جمعها‬
‫في الكتاب (مجاهد)‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫أن العلم يأتيه بال طلب(‪ ،)1‬وهذا مخالف للشرع‪ ،‬فالشرع يقول‪:‬‬
‫{فانتشروا في األرض وابتغوا من فضل اهلل} ويقول‪> :‬يا عباد اهلل‬
‫تداووا< ويقول‪> :‬طلب العلم فريضة<‪ ،‬فمن ترك طلب العلم وزعم‬
‫أنه يأتيه فقد خالف الشرع والطبع‪.‬‬

‫ومن األجانب الذين يعيشون بالمادة وحدها وللمادة وحدها‬


‫المسببات وأن الدواء يشفي‬
‫َّ‬ ‫َمن يعتقد أن األسباب هي التي تصنع‬
‫بذاته والسعي هو الذي يوصل وحده إلى النجاح‪ ،‬وهذا مخالف‬
‫المسبب‪ ،‬قد يحصل‬‫َّ‬ ‫للواقع‪ ،‬فإنه قد يوجد السبب وال يوجد‬
‫التداوي وال يكون الشفاء‪ ،‬وقد يكون في المستشفى مريضان في‬
‫غرفة واحدة‪ ،‬المرض لديهما واحد والطبيب واحد والدواء واحد‪،‬‬
‫فيموت األول ويبرأ الثاني‪ .‬وقد يحرث الفالح األرض بأحدث‬
‫اآلالت ويلقي فيها بأحسن البذور ويضع لها أغلى السماد‪ ،‬فيأتي‬
‫البرد الشديد أو الحر الشديد أو الجفاف المحرق أو السيل الجارف‪،‬‬
‫فتذهب هذه األسباب كلها هدراً‪.‬‬

‫المسبب حتم ًا وال إهمالها يحوز‬


‫َّ‬ ‫فال األسباب وحدها توجد‬
‫ال‪ ،‬بل الذي يدعو إليه العقل ويأمر به الشرع هو أن يتخذ المرء‬ ‫عق ً‬
‫وتوكل على‬
‫ّ‬ ‫األسباب كلها ثم يسأل اهلل تحقيق النتائج‪ .‬قيِّد الناقة‬

‫______________________‬
‫واحتجوا خطأ بقوله تعالى {واتقوا اهلل ويع ّلمكم اهلل}‪ ،‬مع أنها جملة‬ ‫ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫من آية‪ ،‬من قرأها كلها أدرك أنها ال تؤدي هذا المعنى‪ .‬ولو فرض أنه‬
‫يحتج بهذه الجملة وحدها وأن العلم يكون بالتقوى بال تعلم فإنه ُي َر ّد‬
‫عليهم بأن التقوى إنما تكون بفعل المأمور به شرع ًا‪ ،‬ومن المأمور به‬
‫طلب العلم‪ ،‬فمن لم يعمل بهذا األمر ال يكون تقي ًا‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫اهلل في حفظها‪ ،‬واقرأ دروسك كلها وتوكل على اهلل واسأله النجاح‬
‫في االمتحان‪ .‬هذا هو التوكل الحقيقي‪ ،‬ليس التوكل في إهمال‬
‫األسباب وتعطيل سنن اهلل في الكون‪ ،‬وال في نسيان أن اهلل هو‬
‫النافع الضار وابتغاء النفع حقيقة من سواه‪.‬‬
‫األسباب ال بد منها‪ ،‬وفي اتخاذها إطاعة ألمر الشرع‬
‫واتباع لسنن اهلل في الوجود‪ ،‬ولكن األسباب وحدها ال تكفي‬
‫ألن النتائج بيد اهلل‪ .‬فالمتوكل على اهلل حق ًا هو من يبذل للوصول‬
‫إلى المطلوب كل جهد ويتخذ إليه كل وسيلة مشروعة ويعتقد أن‬
‫الموصل هو اهلل‪ ،‬فيتوكل عليه ويطلب منه ما يريد‪.‬‬
‫الشكر‬
‫ويكون بعد ذلك راضي ًا عن اهلل مهما منعه أو أعطاه‪ ،‬فيتحقق‬
‫{وسيجزي اهلل‬
‫َ‬ ‫يشكر لنفسه}‬
‫ُ‬ ‫شكر فإ ّنما‬
‫َ‬ ‫{ومن‬
‫َ‬ ‫بصفة الشكر‪:‬‬
‫الشاكرين}‪.‬‬
‫والشكر من ثمرات اإليمان‪ ،‬فإذا أحسن إليك عبد من‬
‫عباد اهلل فلم تشكره كنت مقصراً عنه مسيئ ًا إليه‪ ،‬مع أنه واسطة‬
‫والمحسن الحقيقي هو اهلل‪ ،‬فكيف ال تشكر اهلل واهلل هو الذي‬
‫وسخر لك ما‬
‫ّ‬ ‫أنعم عليك بنعمة السمع والبصر والصحة واألمن‪،‬‬
‫عده وال إحصاءه؟ إن‬ ‫في األرض وأعطاك من النعم ما ال تستطيع ّ‬
‫إن وجعه ضرسه‬ ‫اإلنسان ال يعرف قيمة النعمة إال عند فقدها؛ ْ‬
‫رأى أعظم النعم في زوال األلم‪ ،‬فإن زال عنه نسي هذه النعمة‪.‬‬
‫فإن هو‬
‫وإن احتاج يوم ًا إلى دينار ولم يجده عرف نعمة الغنى‪ْ ،‬‬
‫استغنى نسيها‪ .‬وإن انقطع التيار الكهربائي وشمل الدار الظالم‬

‫‪113‬‬
‫عرف نعمة النور‪ ،‬فإن وجده لم يعد يدرك َق ْدره‪.‬‬
‫فإذا كنت ال تستطيع أن تحصي نعم اهلل عليك‪ ،‬أفال تشكره‬
‫عليها؟ تشكر اهلل بلسانك بحمده والثناء عليه فتقول‪> :‬الحمد هلل‪،‬‬
‫رب لك الحمد<‪ ،‬وتشكر اهلل بعملك فتفيض من هذه النعم على‬ ‫ّ‬
‫من ُحرِم منها‪ ،‬وشكر الغني أن يعطي الفقير‪ ،‬وشكر القوي أن‬
‫يساعد الضعيف‪ ،‬وشكر صاحب السلطان أن يقيم الحق ويسير‬
‫بالعدل‪ ،‬فإن كنت من ذوي اليسار وكان على مائدتك خمسة‬
‫ألوان وكان جارك َج ْوعان فلم تعطه شيئ ًا لم تكن من الشاكرين‪،‬‬
‫>الحمد هلل<‪ .‬وتشكر اهلل بقلبك فتكون‬
‫ُ‬ ‫ولو قلت بلسانك ألف مرة‬
‫تستقل النعم وال‬
‫ّ‬ ‫راضي ًا عنه قانع ًا بما قسم لك‪ ،‬ال تسخط وال‬
‫تحسد أحداً على ما أعطاه اهلل‪.‬‬
‫فمن جمع شكر القلب بالرضا عن اهلل‪ ،‬وشكر العمل بأن‬
‫يفيض على المحرومين من فضل النعم‪ ،‬وشكر اللسان بأن يكثر‬
‫من حمد اهلل‪ ،‬كان من الشاكرين حق ًا‪.‬‬
‫الصبر‬
‫والمسلم بين نعمتين‪ ،‬إن أصابه خير فشكر كان له أجر‪،‬‬
‫وإن َم َّسه ضر فصبر كان له أجر‪ ،‬فال يعدل أجر الغني الشاكر أو‬
‫أجرهم‬
‫يزيد عليه إال أجر الفقير الصابر‪{ :‬ول ََنجز َِي ّن الذين صبروا َ‬
‫بأحسن ما كانوا يعملون}‬
‫ِ‬
‫وهذه الحياة الدنيا ليست دار نعيم وليست تخلو من‬
‫المكدرات‪ ،‬من انحراف الصحة أو ضياع المال أو َف ْقد الحبيب‬
‫ّ‬
‫أو غدر الصديق أو ذهاب األمن‪ ،‬هذه طبيعتها التي ال تتغير‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫ُجبِل َْت على َ‬
‫كدر وأنت تريدها‬
‫َص ْفواً مـن األقـذا ِر واألكدار‬
‫ضد طبـاعها‬
‫ِّف األيـام َّ‬
‫ومكل ُ‬
‫ِّب في المـاء َجذو َة نـار‬
‫متطل ٌ‬
‫بلو َّنكم بشيء من الخوف والجوع و َن ْقص‬ ‫قال تعالى‪{ :‬ول ََن ُ‬
‫وبشر الصابرين} ألنهم مع األيام‬
‫من األموال واألن ُفس وال ّثمرات‪ِّ ،‬‬
‫ينسون المصاب ويجدون الثواب‪ ،‬وغيرهم يحمل األلم وال ينال‬
‫شيئ ًا‪ .‬مصاعب ومصائب ال بد منها‪ ،‬فإما أن تداويها بالصبر فتنال‬
‫األجر‪ ،‬وإما أن تثور عليها فتزيد ثورتك من عذابك وال تدفع عنك‬
‫ما بك‪ .‬هذا هو النوع األول من الصبر‪ ،‬الصبر على المصائب‪.‬‬
‫والنوع الثاني هو الصبر عن المعاصي‪ ،‬صبر الشاب الذي‬
‫يرى العورات البادية ونفسه تميل إليها فيغض بصره من خوف اهلل‬
‫عنها‪ ،‬ويعرف سبيل اللذات المحرمة فيمنع نفسه عن سلوكها على‬
‫رغبته فيها‪ .‬صبر الموظف الذي ُتعرض عليه الرشوة تعدل راتبه‬
‫فيكف يده عنها على حاجته إليها‪ .‬صبر التلميذ في‬
‫ّ‬ ‫عن ستة أشهر‪،‬‬
‫االمتحان إذ يتمكن من سرقة الجواب من الكتاب‪ ،‬فال يقدم عليها‬
‫وإن كان نجاحه َمنوط ًا بها‪ .‬المعاصي لذيذة للنفس‪ ،‬فإن امتنع عنها‬
‫مع تمكنه منها كان مع الصابرين‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬الصبر على الطاعات‪ .‬على القيام لصالة الفجر‬
‫وترك لذة المنام ودفء الفراش في الغداة الباردة‪ ،‬على احتمال‬
‫الجوع والعطش في شهر الصيام في الصيف الملتهب‪ ،‬على إكراه‬
‫الم ِح ّبة للمال على إخراج الزكاة وبذل الصدقة‪ .‬الصبر على‬
‫النفس ُ‬
‫التمسك بالدين في هذا الزمان الفاسد الذي عاد فيه الدين غريب ًا‬

‫‪115‬‬
‫كما بدأ غريب ًا‪ ،‬وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر‪،‬‬
‫معرض ًا لسخرية الناس وإيذاء الحكام ونقص‬ ‫وصار المتدين فيه َّ‬
‫المر َّتب واإلخراج من الديار‪ ،‬فمن احتمل ذلك وحده قاصداً‬
‫ربهم يتوكلون‪ ،‬أولئك َي ْؤ َتون‬
‫ثوابه كان من {الذين صبروا وعلى ّ‬
‫أجرهم مر َتين بما صبروا}‪{ ،‬وما ُيل ّقاها إال الذين صبروا‪ ،‬وما‬
‫َ‬
‫ُي َل ّقاها إال ذو حظ عظيم}‪.‬‬
‫االنقياد لحكم الشرع‬
‫قلنا بأن اإليمان عمل من أعمال القلب‪ِ ،‬س ٌّر من األسرار‬
‫ميزنا‬
‫التي ال يعلم بها إال اهلل‪ ،‬وإنما للناس الظواهر‪ ،‬لذلك ّ‬
‫المؤمن من غير المؤمن بمقاله وأعماله‪ .‬فاإلسالم هو مظهر‬
‫اإليمان‪ ،‬واإلسالم في اللغة هو التسليم‪> :‬أسلم< و>س ّلم< بمعنى‬
‫واحد‪ .‬فالولد يستسلم ألبيه ثق ًة به‪ ،‬والمحب يستسلم لمحبوبه‬
‫ال إليه‪ ،‬والمهزوم يستسلم لمن هزمه خوف ًا منه‪ .‬أما المؤمن‬‫مي ً‬
‫فيستسلم لحكم ربه استسالم ًا مطلق ًا‪ ،‬يطيع له كل أمر ولو لم‬
‫يعرف الحكمة منه ووجه المنفعة فيه‪ ،‬ويدع كل ما ينهى عنه ولو‬
‫لم يدرك سر نهيه عنه‪ .‬وهذا االستسالم له جانبان‪ :‬جانب عملي‬
‫هو االمتثال بالقول والعمل‪ ،‬وسيأتي الكالم عنه إن شاء اهلل في‬
‫الجزء المخصص لإلسالم من هذا الكتاب(‪ ،)1‬وجانب نفسي هو‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬الذي لم يصدر قط‪ .‬وهذا المعنى شائع متكرر في كتابات علي‬
‫الطنطاوي وأحاديثه؛ انظر ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬مقالة >مشكلة< في‬
‫كتاب >فصول في الدعوة واإلصالح< ومقالة >من هو المسلم؟< في‬
‫كتاب >فصول إسالمية< (مجاهد)‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫الذي نبحث عنه اآلن ونحن نتكلم عن اإليمان‪.‬‬
‫هذا الجانب هو الرضا القلبي بحكم الشرع واطمئنان النفس‬
‫إليه‪ ،‬وأن نعمل الواجب أو نترك الحرام عن اقتناع‪ ،‬ليس في‬
‫تبرم به وال سخط عليه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فال وربك ال يؤمنون‬ ‫قلوبنا ّ‬
‫حتى ُي َحكّ موكَ فيما َش َجر بينهم}‪ ،‬وهذا هو الجانب العملي‪{ .‬ثم‬
‫وي َس ّلموا تسليم ًا}‪ ،‬وهذا‬
‫قضيت ُ‬
‫َ‬ ‫حرج ًا مما‬
‫ال يجدوا في أنفسهم َ‬
‫هو الجانب النفسي‪.‬‬
‫فال يكفي مجرد االحتكام إلى الرسول إذا لم يكن في قلوبنا‬
‫اعتقاد صحة هذا الحكم والرضا به واالطمئنان إليه‪{ :‬إ ّنما كان‬
‫حكم بينهم أن يقولوا‬ ‫ِ‬
‫قولَ المؤمنين إذا ُدعوا إلى اهلل ورسوله ل َي َ‬
‫المفلحون} أي يقولوها بألسنتهم‬ ‫سمعنا وأطعنا‪ ،‬وأولئك هم ُ‬
‫مقرين معترفين بقلوبهم‪.‬‬‫ّ‬
‫ومن الناس من يسأل دائم ًا عن حكمة الشرع في كل أمر‬
‫ونهي كأنهم ال يطيعون إال إذا عرفوا الحكمة‪ .‬وللشرع حكمة ال‬
‫شك فيها‪ ،‬ولكنها قد تبدو لنا بالنص أو باالستنباط وقد تخفى‬
‫علينا‪ ،‬أفنعصي ربنا إذا لم تظهر حكمة شرعه لنا؟‬
‫تصور أنك كلما أمرت ولدك بأمر لم ينفذه حتى تبين لي‬
‫مقصدك منه وحكمتك فيه‪ ،‬ولو كان الموقف ضيق ًا ال يتسع للبيان‬
‫سر ال يجوز معه اإلعالن! أال تعد هذا الولد‬ ‫ولو كان في األمر ّ‬
‫أوال تنتظر منه أن يطيعك على أي حال ألنه ولدك‬ ‫عاصي ًا لك؟ َ‬
‫وألنك أبوه؟ ولو أن ضابط ًا تلقى أمر القيادة فأبى أن ينفذه حتى‬
‫تشرح له خطتها التي أوحت به وغايتها من إصداره‪ ،‬أال يستحق‬
‫العقاب؟‬

‫‪117‬‬
‫إن حق اهلل على العبد ال يقاس بحق الوالد على الولد‬
‫وال بحق القائد على الجند‪ ،‬ومن حقه تعالى علينا أن نطيع في‬
‫نتمحل‬
‫ّ‬ ‫المنشط والمكره والموافق لنا والمخالف لرغبتنا‪ ،‬ال أن‬
‫ال في الفقه يرضي أهواءنا‪ ،‬وال أن‬
‫ونتعسف النظر لنجد قو ً‬
‫ّ‬ ‫األدلة‬
‫نجعل من الحضارة األجنبية وأعرافها التي أخذنا بها حجة على‬
‫يؤول من النصوص ونتنكب الطريق المستقيم‬ ‫فنؤول ما ال َّ‬
‫الشرع‪ِّ ،‬‬
‫في البحث لنقول أن ديننا ال ينافي هذه األعراف‪ ،‬ثم إذا تبدلت‬
‫أعراف(‪ )1‬المجتمع أو تحول مورد هذه الحضارة األجنبية من‬
‫بدلنا بحثنا وجئنا بتأويل جديد‪.‬‬
‫الغرب إلى الشرق ّ‬
‫ال‪ ،‬بل االحتكام إلى الشرع والعمل بحكمه والرضا به‬
‫المصدقين حق ًا بصحة‬
‫ِّ‬ ‫واالطمئنان إليه‪ ،‬هذا هو شأن المؤمنين‬
‫هذا الدين‪.‬‬
‫شدة ولين‬
‫ومن مظاهر اإليمان ودالئله أن يكون الحب في اهلل والبغض‬
‫في اهلل‪ ،‬نحب المطيع التقي ولو لم يكن لنا منه نفع ونبغض الكافر‬
‫الفاجر ولو لم ينلنا منه ضرر‪ ،‬بل إننا نبغضه ونهجره ولو كان‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬من هذا التبدل أن نقول يوم ًا >ديمقراطية اإلسالم< ونقول في يوم آخر‬
‫>اشتراكية اإلسالم<‪ ،‬وبذلك ندور كلما دارت األيام ونساير هوى‬
‫الحكام‪ .‬والديمقراطية عندهم هي حكم الشعب‪ .‬ولو أجمع الشعب‬
‫كله‪ ،‬بل شعوب األرض مجتمعة‪ ،‬على إحالل حرام أو إلغاء واجب‬
‫لم يكن لهذا اإلجماع وزن‪ ،‬بل يبقى الحرام حرام ًا والواجب واجب ًا‪.‬‬
‫فالديمقراطية مقبولة على ألاّ تجاوز حكم اهلل وال تتعدى حدوده‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫أخوة الدين‬
‫مفيداً لنا ولو كانت تربطنا به أوثق الروابط‪ ،‬ذلك ألن ّ‬
‫أخوة الدم وصلة العقيدة أوثق من صلة‬ ‫أقوى عند المؤمن من ّ‬
‫النسب‪ .‬ولقد ّبين اهلل لنوح أن ابنه الكافر ليس من أهله ألنه عمل‬
‫غير صالح‪ ،‬ونفى أن تكون بين المؤمنين وبين المعاندين الذين‬
‫الصالت بين‬
‫سلمي مهما كانت قوة ِّ‬ ‫مودة وتعايش‬
‫يحاربون الدين ّ‬
‫ّ‬
‫وادون‬ ‫تجد قوم ًا يؤمنون باهلل واليوم ِ‬
‫اآلخر ُي ّ‬ ‫الفريقين‪ ،‬فقال‪{ :‬ال ُ‬
‫حاد اهلل ورسوله}‪ .‬ال ُيكرههم على اإلسالم إكراه ًا‪ ،‬بل يمنعهم‬
‫َمن َّ‬
‫أن يعترضوا سبيله ويحاربوا دعوته‪ ،‬فإن اطمأنوا لدعوتنا ودخلوا‬
‫في ديننا صاروا منا‪ ،‬لهم ما لنا وعليهم ما علينا‪ ،‬وإن سالموا‬
‫دعوتنا سالمناهم وحفظنا لهم حقوقهم وإن ب ُقوا على دينهم‪.‬‬
‫فالمؤمن يحب إذا أحب للدين ويبغض إذا أبغض للدين‪،‬‬
‫يذلّ ألخيه وال يرى ذلك ذلاّ ً ويؤثره على نفسه بالشيء ولو كانت‬
‫به حاجة إليه‪ ،‬وإذا أبغض ظهر منه الغضب هلل والشدة في الدفاع‬
‫عن دينه والبأس في قتال أعدائه‪ .‬فهو يجمع بين اللين والشدة‪،‬‬
‫{محمد رسول‬‫ٌ‬ ‫والرقة والغلظة على أعداء الدين أنصار الشيطان‪:‬‬
‫ماء بينهم}‪{ ،‬أذ ّل ٍة على‬
‫أشد ُاء على الكفار ُر َح ُ‬
‫اهلل والذين معه ّ‬
‫المؤمنين ِ‬
‫أع َّز ٍة على الكافرين‪ ،‬يجاهدون في سبيل اهلل وال يخافون‬
‫لوم َة الئم}‪.‬‬
‫هذه حال المؤمنين لما كانوا من المجاهدين‪ ،‬فلما تركنا‬
‫وليننا أمام‬
‫شدتنا على أنفسنا ُ‬
‫الجهاد وخالفنا الشرع وصارت ّ‬
‫أعدائنا س ّلط اهلل علينا بذنوبنا من ال يخافه وال يرحمنا‪ ،‬فملك‬
‫بالدنا وتحكّ م فينا‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫التوبة واالستغفار‬
‫خلق اهلل اإلنسان وغرز في نفسه حب العاجلة وطول األمل‬
‫والرغبة في جمع المال‪ ،‬والشهوة لمقاربة النساء والغضب والميل‬
‫يزين له الفواحش‬
‫إلى البطش واالنتقام‪ ،‬وس ّلط عليه الشيطان ّ‬
‫متشهية‬
‫ِّ‬ ‫ويحبب إليه المعاصي‪ ،‬ووضع فيه نفس ًا ّأمارة بالسوء‬‫ّ‬
‫للحرام تعين عليه الشيطان‪ ،‬فكان من نتائج ذلك أنه يأتي المعاصي‬
‫ويرتكب الذنوب‪ ،‬فماذا يصنع لينجو من عقاب المعصية وتبعات‬
‫الذنب؟‬
‫إن اهلل ‪-‬من رحمته به‪ -‬فتح له باب التوبة؛ قال له‪ :‬إنك‬
‫تستطيع أن تمحو من صحيفتك كل ذنب عملته فكأنه ما كان‪،‬‬
‫لت لك حسن ًة مكان السيئة التي كانت عليك‪ ،‬كدفتر‬ ‫سج ُ‬‫بل ربما ّ‬
‫مقيداً فيه أن له عليك مئة دينار‪ ،‬فال يكتفي بأن‬‫التاجر يكون َّ‬
‫الدين‬‫يسامحك بها ويمحوها لك‪ ،‬بل ينقل قيدها من صفحة َّ‬
‫الدين الذي لك‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إال َمن‬ ‫الذي عليك إلى صفحة َّ‬
‫سيئاتهم حسنات‪ ،‬وكان اهلل‬ ‫وع ِم َل صالح ًا‪ ،‬فأولئك ُي ّ‬
‫بدل اهلل ّ‬ ‫تاب َ‬‫َ‬
‫غفوراً رحيم ًا}‪.‬‬
‫فإن تاب‬
‫وباب التوبة مفتوح ما دام المرء صحيح ًا معافى‪ْ ،‬‬
‫التوبة الصادقة ُقبلت توبته‪ ،‬وال ُيغلق إال ساعة االحتضار‪ ،‬الساعة‬
‫التي تصير فيها الروح في الحلقوم‪ ،‬الساعة التي يواجه فيها اإلنسان‬
‫الحقيقة ويرى عيان ًا ما جاءه به الرسول خبراً‪ ،‬فتكون توبته حينئذ‬
‫من قبيل تحصيل الحاصل‪ ،‬ألن التوبة هي الرجوع االختياري إلى‬
‫اهلل وهو قد أُرجع كره ًا وجبراً‪ ،‬فلم يعد ينفعه اإلقرار بعد أن فقد‬
‫االختيار‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إ ّنما التوب ُة على اهلل للذين يعملون السوء‬

‫‪120‬‬
‫بجهالة ثم يتوبون من قريب‪ ،‬فأولئك يتوب اهلل عليهم وكان اهلل‬ ‫َ‬
‫حضر‬
‫َ‬ ‫عليم ًا حكيم ًا‪ .‬وليست التوب ُة للذين َيعملون السيئات حتى إذا‬
‫بت اآلن وال الذين يموتون وهم ك ّفار}‪.‬‬ ‫الموت قال إ ّني ُت ُ‬
‫ُ‬ ‫أحد ُه ُم‬
‫َ‬
‫وأول شروط التوبة االنقطاع عن اإلساءة والعزم على أن ال‬
‫يعود إليها‪ .‬فلو كنت ماشي ًا في الطريق ففتح رجل نافذته وألقى‬
‫ُمته وشتمته اعتذر إليك وهو مستمر‬ ‫عليك ماء ِ‬
‫وسخ ًا‪ ،‬فلما ل َ‬
‫بصب الماء عليك‪ ،‬أو امتنع عنه ولكنه أوعدك بالعودة إلى مثله‬
‫ّ‬
‫غداً‪ ،‬فهل تقبل اعتذاره؟‬
‫إن للتوبة روح ًا وجسداً‪ ،‬فروحها استشعار قبح المعصية‬
‫وجسدها االمتناع عنها‪ .‬كم يمشي على طريق فيرى لوحة تدله‬
‫على أنه غير طريقه المقصود‪ .‬إنه يشعر بخطئه‪ ،‬وهذا الشعور‬
‫هو األصل‪ ،‬إذ لوال معرفة الخطأ ما كانت الهداية إلى الصواب‪،‬‬
‫ولكنه إذا اقتصر على المعرفة ولم يعمل بمقتضاها واستمر ماشي ًا‬
‫في الطريق المنحرف لم ينفعه علمه بانحرافه‪ ،‬بل إنه يكون أكبر‬
‫ذنب ًا وأعظم تبعة‪ ،‬ألن الذي ينحرف وهو ال يعرف له بعض العذر‪،‬‬
‫ولكن الذي يعرف الطريق وينحرف عنه عمداً ال عذر له(‪.)1‬‬
‫واإلصالح‬
‫َ‬ ‫اإلحسان بدل اإلساءة‬
‫َ‬ ‫والشرط الثاني‪ :‬أن يجعل‬
‫مكان اإلفساد‪ .‬أي أن يحقق التوبة بتبديل العمل وتعديل السلوك‪:‬‬
‫بجهالة‬
‫{كتب ربكم على نفسه الرحم َة أنه من عمل منكم سوءاً َ‬
‫{فمن تاب من بعد‬
‫غفور رحيم}‪َ ،‬‬‫ٌ‬ ‫ثم تاب من بعده وأصلح فأنه‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬األول ضالّ ولكن الثاني مغضوب عليه‪ ،‬واليهود من المغضوب عليهم‬
‫ألنهم عرفوا الحق وخالفوه‪{ :‬فلما جاءهم ما َع َرفوا كفروا به}‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫فإن اهلل يتوب عليه}‪{ ،‬إال الذين تابوا من بعد ذلك‬
‫ظلمه وأصلح ّ‬
‫أتوب‬
‫ُ‬ ‫وب ّينوا‪ ،‬فأولئك‬
‫وأصلحوا}‪{ ،‬إال الذين تابوا وأصلحوا َ‬
‫عليهم}‪.‬‬
‫ومن اإلصالح أن يكون تركك الذنب حقيقي ًا وأن تعزم عزم ًا‬
‫صادق ًا على ألاّ تعود إليه‪ ،‬فإن عقدت على ذلك العزم الصادق‬
‫بت ُقبلت‬ ‫دت إليه ثم ُت َ‬
‫فع َ‬
‫ثم غلبتك النفس أو حملتك الظروف ُ‬
‫عزمك‬ ‫توبتك‪ ،‬ولو تكررت العودة وتعددت التوبة‪ .‬أما إن خالط َ‬
‫تردد من األصل وقلت في نفسك «إذا اشتدت رغبتي رجعت ثم‬ ‫ّ‬
‫تبت» ال تكون توبتك صادقة وال مقبولة‪.‬‬
‫هذا في التوبة من حقوق اهلل‪ ،‬إنه يكفي فيها أن تترك الذنب‬
‫نادم ًا على فعله عازم ًا عزم الصدق على عدم العودة إليه‪ .‬أما‬
‫أكلت ماله‪ ،‬أو آذيته في‬ ‫َ‬ ‫ظلمت أحداً‪ ،‬أو‬
‫َ‬ ‫كنت‬
‫حقوق الناس‪ :‬إن َ‬
‫شهدت عليه زوراً‪ ،‬أو اغتبته أو َو َش ْي َت‬
‫َ‬ ‫جسده أو في عرضه‪ ،‬أو‬
‫أشعت عنه قا َل َة السوء‪ ...‬فال بد في ذلك وأمثاله من أن‬‫َ‬ ‫به‪ ،‬أو‬
‫تؤدي إليه حقه‪ ،‬أو ينزل لك عنه ويسامحك به‪ ،‬أو يرحمك اهلل‬
‫فيرضيه عنك‪ ،‬وإال لم ُتقبل توبتك وأخذ المظلوم يوم القيامة من‬ ‫ّ‬
‫حسناتك أو حمل عليك من سيئاته‪.‬‬
‫وباب التوبة مفتوح مهما كثرت الذنوب‪ ،‬فال ييأس أحد من‬
‫عفو اهلل فإن اليأس من عفو اهلل أكبر من كل ذنب‪{ :‬قل يا عبادي‬
‫الذين أسرفوا على أنفسهم ال تقنطوا من رحمة اهلل‪ ،‬إن اهلل يغفر‬
‫الذنوب جميع ًا}‪.‬‬
‫َ‬
‫ورجوع إلى الحسن‪ ،‬أما االستغفار‬
‫ٌ‬ ‫للسيئ‬
‫ّ‬ ‫فالتوبة هي تركٌ‬

‫‪122‬‬
‫وحث عليه‪{ :‬هو‬ ‫ّ‬ ‫فهو طلب الغفران من اهلل‪ ،‬وقد أمر الشرع به‬
‫أنشأكم من األرض واستعمركم فيها‪ ،‬فاستغفروه ثم توبوا إليه}‪،‬‬
‫رحيم َودود}‪{ ،‬ويا قو ِم‬
‫ٌ‬ ‫إن ربي‬
‫{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ّ‬
‫ربكم ثم توبوا إليه}‪ .‬وجاء مثل ذلك على لسان كل‬ ‫استغفروا َّ‬
‫رسول‪ ،‬ينصح به قومه ويدلهم به على طريق العفو من اهلل والنجاة‬
‫من عذابه‪.‬‬
‫والمذنبون على درجات‪ :‬أما الذين ماتوا على كفرهم فال‬
‫شركَ به}‪ .‬والمشركون‬ ‫{إن اهلل ال يغفر أن ُي َ‬
‫أمل لهم في المغفرة‪ّ :‬‬
‫في األصل أشد كفراً من أهل الكتاب ولكن الجميع في حكم هذه‬
‫اآلية سواء‪ ،‬فال يقال لمن مات كافراً >رحمه اهلل< وال >غفر اهلل له<‬
‫وال يقال له >المرحوم< أو >المغفور له فالن<‪.‬‬
‫وأما العصاة من المسلمين الذين ماتوا بال توبة فأمرهم إلى‬
‫{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}‪ ،‬وإن‬‫ُ‬ ‫اهلل‪ ،‬إن شاء غفر لهم‪:‬‬
‫شاء عذبهم بالنار‪ ،‬لكنهم ال يخلدون فيها‪ .‬وال يستهن أحد بعذاب‬
‫النار وال ِ‬
‫يسخ ّفه‪ ،‬فإن نار الدنيا (وهي نعمة) ال يطيق أحد احتمالها‬
‫نعرض أنفسنا لعذاب جهنم دهوراً؟‬ ‫دقائق‪ ،‬فكيف ّ‬
‫بمنه وكرمه‪ .‬هذا الذي يتوب‬‫وأما التائبون فيتوب اهلل عليهم ّ‬
‫من بعد الذنب‪ ،‬أما الذي يتوب منه ويتنبه لنفسه ويدركه خوف‬
‫ربه قبل إتمام الذنب ويتركه هلل مع شدة الرغبة فيه وعظم الميل إليه‬
‫فله أعظم الثواب‪ ،‬كمن يستزله الشيطان فيدفعه إلى الزنا‪ ،‬حتى‬
‫هم فذكر اهلل أعرض عنه وشهوته‬ ‫وشرع به أو َّ‬
‫َ‬ ‫إذا تمت له أسبابه‬
‫يمده‬
‫متعلقة به ونفسه راغبة فيه‪ .‬وأين َمن يقدر على ذلك إال أن ّ‬
‫أحد فإنه يكون كمن يتناول‬
‫يجر ْب هذه التجرب َة ٌ‬
‫اهلل بقوة منه؟ فال ّ‬

‫‪123‬‬
‫جراثيم المرض الخطير‪ ،‬إن نجا منه اكتسب مناعة تجعله أقوى‬
‫ممن لم َي ْد ُن منه المرض‪ ،‬ولكن احتمال حصول المناعة من‬ ‫ّ‬
‫المرض واحد في المئة واحتمال الهالك به تسعة وتسعون‪ .‬هذا‬
‫الكف عن الذنب فإنه ال ُيكسبه مناعة من‬
‫ّ‬ ‫في مرض الجسد‪ ،‬أما‬
‫العودة إليه‪.‬‬
‫فمن أراد السالمة من الشر فليبتعد عنه وليقطع أسبابه‪،‬‬
‫يرغبه فيه ويدعوه إليه‪،‬‬
‫وليسد الطريق إليه ويهجر من الناس من ّ‬
‫ّ‬
‫فإن الصاحب ساحب والمرء على مذهب خليله‪ ،‬وقديم ًا قالوا‪:‬‬
‫«قل لي من ترافق أقل لك من تكون»‪ .‬فلينتبه لذلك الناشئون‬
‫ويطلبوا من اهلل العون‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪124‬‬
‫اإليمان باليوم ِ‬
‫اآلخر‬

‫نحن والموت‬
‫نحن والموت على أصناف أربعة‪ ،‬صنف يهتف مع الشاعر‬
‫األحمق‪:‬‬
‫غيب‬
‫والمؤم ُل ٌ‬
‫َّ‬ ‫فات‬
‫ما مضى َ‬
‫ولك الساع ُة التي أنت فيها!‬
‫يعد لمقبل‪ ،‬يظن األمس(‪ )1‬قد فني‬
‫ماض وال ّ‬‫ٍ‬ ‫ال يفكر في‬
‫والغد ال يأتي‪ ،‬يقول‪« :‬ما مضى فات»‪ ،‬وال واهلل ما فات‪ ،‬ولكن‬
‫ُقيِّد علينا َح َس ُنه وسيئه في كتاب ال يترك صغيرة وال كبيرة إال‬
‫و»المؤمل غيب»‪ ،‬ولكنه غيب عن الحس حاضر في‬ ‫َّ‬ ‫أحصاها‪.‬‬
‫آت ال شك فيه‪ .‬وهذا الصنف شر الثالثة‪،‬‬‫النفس موجود عند اهلل ٍ‬
‫وهو الذي ال يذكر الموت وال يفكر فيه‪.‬‬
‫وصنف يذكر الموت‪ ،‬ولكن كذكر الشاعر الفارسي عمر‬
‫الخيام الذي فتن بباطله الناس‪ ،‬يقول‪ :‬إذا كان الموت حق ًا ال‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أمس إذا أتت دون تعريف تكون مبنية على الكسر‪ ،‬فإذا ُع ّرفت بأل‬
‫أعربت‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫شك فيه وكانت الحياة قصيرة ال بقاء لها فلنمألها بالعشق والهيام‪،‬‬
‫وإذا كانت قد ُجبلت على المكاره واآلالم فلنهرب منها إلى كأس‬
‫المدام‪ ،‬فنمضي العمر في شعر وسكر وعهر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وصنف يذكر الموت ولكن كذكر أبي العتاهية‪ ،‬مأل بذكر‬
‫ال ما بعد‬
‫الموت بيانه وشغل به لسانه‪ ،‬ولكنه ال يذكر إال قلي ً‬
‫الموت‪ .‬فكأنه يقول مع القائل‪« :‬رأيت الموت غاية كل حي»‪،‬‬
‫ال»‪.‬‬
‫الرجام(‪ )1‬نوم ًا طوي ً‬
‫والقائل اآلخر‪« :‬إن تحت ِّ‬
‫وأهل الحق الذين عرفوا أنه ليس غاية ولكنه البداية وما‬
‫هو بنوم ولكنه يقظة من النوم‪> :‬الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا}‪،‬‬
‫وعرفوا أن وراء الموت حياة أطول‪ ،‬حياة ال تكاد تنتهي‪ ،‬إما أن‬
‫يكون فيها النعيم المقيم وإما أن يكون فيها العذاب األليم‪ .‬وهذا‬
‫هو الصنف الرابع‪ ،‬صنف المؤمنين المهتدين‪.‬‬
‫الحياة األخرى‬
‫هذه هي الحياة الحقيقية‪ ،‬من أصيب بقصر النظر لم يرها‪،‬‬
‫ابتلي بضعف العقل لم يصدق الخبر عنها‪ ،‬ومن كان له بصر‬ ‫ومن ُ‬
‫يرى وعقل يدرك رأى أن حياة اإلنسان مراحل‪ ،‬فلقد كان يوم ًا‬
‫مكوم ًا في بطن أمه يعيش بين أحشائها‪ ،‬ولو كان‬
‫منطوي ًا على نفسه ّ‬
‫يفكر يومئذ لظن أن هذه هي الحياة‪ ،‬فهو يتمسك بها وال يخرج‬
‫منها إال مرغم ًا‪ .‬ولو كان ينطق لحسب هذا الخروج موت ًا ودفن ًا في‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬جمع ُرجمة‪ ،‬وهي الحجارة التي ُتنصب على القبر أو هي القبر نفسه‬
‫(مجاهد)‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫األعماق‪ ،‬مع أنه والدة وانتقال إلى عالم أرحب هو هذه الدنيا‪.‬‬
‫والذي نراه نحن موت ًا وخروج ًا من هذه الدنيا هو في الحقيقة والدة‬
‫وانتقال إلى عالم أرحب‪ ،‬إلى عالم البرزخ‪ ،‬البرزخ بين الدنيا‬
‫المادية الفانية والحياة األخرى الباقية‪.‬‬
‫االستعداد للموت‬
‫اإلنسان مغروز فيه طول األمل‪ ،‬فهو غريزة في نفسه‪ ،‬لذلك‬
‫كان الموت أقرب شيء في حواسنا منا وأبعد شيء في أفكارنا‬
‫عنا‪ .‬نرى مواكب األموات تمر بنا كل يوم ونحس أننا باقون‪،‬‬
‫ونمشي في الجنائز ونحن نفكر في الدنيا أو نتحدث عنها‪ ،‬ونرى‬
‫القبور تمأل رحاب األرض وال نفكر أننا سنكون يوم ًا من ساكنيها‪.‬‬
‫أستغفر اهلل‪ ،‬بل تسكنها أجسادنا‪.‬‬
‫وما األجساد؟ إن الرجل يتوسخ قميصه فيخلعه ويرميه‪،‬‬
‫والطفل يولد فيدع مشيمته ويخرج منها‪ ،‬والرجل يموت فيفارق‬
‫جسده ويتخلى عنه‪ ،‬وما الجسد إال قميص ُيلبس ويخلع‪ ،‬وما‬
‫يوضع في التراب إال الجسد‪.‬‬
‫اإلنسان ينسى الموت‪ ،‬ولكن المؤمن يذكره دائم ًا ويكون‬
‫أبداً على استعداد الستقباله‪ ،‬يستعد بالتوبة واالستغفار ورد‬
‫الحقوق‪ .‬كلما أصبح وكلما أمسى حاسب نفسه‪ ،‬فشكر اهلل على‬
‫ما وفقه إليه من خير واستغفره مما وقع منه من شر‪ .‬يذكر اآلخرة‬
‫ويخاف يوم ًا تتقلب فيه الوجوه واألبصار‪ ،‬يخشى ما بعد الموت‬
‫من العذاب ويرجو ما بعده من المكافأة‪ ،‬ويستعين على ذلك‬
‫ابتغاء رضا اهلل واحتساب ًا لما عنده‪.‬‬
‫َ‬ ‫بالصبر والصالة وفعل الخير‬

‫‪127‬‬
‫ساعة الموت من أدلة اإليمان‬
‫{الحلْقوم}‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تأمل قوله تعالى‪{ :‬فلوال إذا بل ََغت} أي الروح‬
‫وجاءت ساعة الموت التي ال مهرب منها‪{ ،‬وأنتم حينئذ} تح ّفون‬
‫بالمحتضر الحبيب إليكم العزيز عليكم {تنظرون}‪ ،‬تظهرون‬
‫العاطفة‪ ،‬تستنجدون الطب‪ ،‬تبذلون الجهد‪ ،‬تعانقونه وتحدبون‬
‫عليه {ونحن أقرب إليه منكم ولكن ال ُتبصرون} ألن حواسكم‬
‫ال تدرك إال عالم المادة‪ ،‬وقد أوشك بأن يدخل عالم ما وراءها‬
‫غير َمدينين} كما تزعمون وغير خاضعين لرب‬ ‫إن كنتم َ‬ ‫{فلوال ْ‬
‫الكون ومالكه وكان لكم شيء من األمر { َترجعونها إن كنتم‬
‫تسخرون‬ ‫تردون الروح إلى الجسد بعدما خرجت منه‪ّ ،‬‬ ‫صادقين} ّ‬
‫لذلك عقولكم وعلومكم وأموالكم‪ .‬فإن لم تستطيعوا ف ِل َم ال‬
‫رب ًا مالك ًا لكم هو أحياكم وهو يميتكم وهو‬ ‫تقرون بأن لهذا الكون ّ‬
‫ّ‬
‫بعد ذلك يحييكم؟‬
‫شبهة تافهة‬
‫ال يسألون فيه ساخرين‪ ،‬يقولون‪:‬‬
‫قرأت لبعض الملحدين فص ً‬
‫إذا كان يموت في لحظة واحدة ميت في أميركا وميت في الصين‬
‫روحيهما؟‬
‫فكيف يقبض َملَك الموت َ‬
‫الملَك بالنسبة ألرضنا كمثل أحدنا لو‬
‫ال‪ :‬إن مثل َ‬
‫الجواب‪ :‬أو ً‬
‫انحنى على ِق ْربة فيها آالف النمل أو كأس فيها ماليين الجراثيم‪،‬‬
‫بل إن الملك من المالئكة أكبر من ذلك بالنسبة إلينا‪ ،‬وما كرتنا‬
‫األرضية في ك ّفه إال كحبة قمح في كف واحد من البشر‪ ،‬هذه‬
‫واحدة‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫لملَك الموت أعوان ًا في قبض الروح‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫والثانية‪ :‬إن َ‬
‫الموت َت َو َّفته ُر ُسلُنا وهم ال ُي َف ّرطون}‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أحدكم‬
‫{حتى إذا جاء َ‬
‫يوم القيامة‬
‫اإليمان باليوم اآلخر (يوم القيامة) هو الركن الثاني من‬
‫قرن‬
‫ذكر اإليمان باهلل في القرآن حتى ُي َ‬
‫يكاد ُي َ‬
‫ُ‬ ‫أركان العقائد‪ ،‬وال‬
‫به اإليمان باليوم اآلخر‪.‬‬
‫والمؤمن يذكره دائم ًا‪ ،‬فيكثر من الخير ابتغاء ثوابه ويبتعد‬
‫محرم لذيذ ذكر‬
‫عن الشر ‪-‬ما استطاع‪ -‬خوف عذابه‪ .‬إذا عرض له َّ‬
‫وإن‬
‫وزهدها في لذته‪ْ ،‬‬ ‫ألم اآلخرة على ارتكابه فصرف نفسه عنه ّ‬
‫واجه واجب ًا صعب ًا ذكر ثواب اآلخرة على فعله فحمل نفسه عليه‬
‫ورغبها فيه‪ :‬تتجافى جنوبهم عن المضاجع‪ ،‬ينفقون في السراء‬ ‫ّ‬
‫والضراء‪ ،‬يؤثرون على أنفسهم بالخير ولو كانوا أحوج إليه‪،‬‬
‫قلوبهم‪ ،‬ثم‬
‫يفكّ رون في شدة عقاب اهلل َفت ْو َجل من سماع اسمه ُ‬
‫يتذكرون رحمته فتلين قلوبهم به وتستريح إلى ذكره‪.‬‬
‫موعد الساعة‬
‫لقد صرح القرآن بأنه ال يعلم موعدها أحد من الخلق‪ ،‬ال‬
‫علمها عند‬
‫يعلمه إال اهلل وحده‪{ :‬يسألونك عن الساعة‪ ،‬قل إنما ُ‬
‫ربي ال ُي َج ّليها لوقتها إال هو}‪ ،‬وأنها ال تأتي إال بغت ًة‪ ،‬وأن أمرها‬
‫ّ‬
‫{كلمح البصر أو هو أقرب}‪.‬‬
‫ولكن ورد في القرآن أنه يسبقها أحداث غريبة تقع في هذا‬
‫الكون‪ ،‬منها‪ :‬أنه يخرج من األرض دابة تكلم الناس‪ ،‬وهذا خبر‬

‫‪129‬‬
‫حق من الغيب الذي ال ُيدرك بالعقل البشري وال نعلم عنه إال‬
‫ما أعلمنا اهلل به‪ ،‬واهلل لم يبين لنا ما هي هذه الدابة وما صفتها‪،‬‬
‫فوجب اإليمان بها وترك الكالم فيها بال دليل سمعي ثابت‪.‬‬
‫دك سد يأجوج ومأجوج وخروجهم منه‪ .‬واهلل‬ ‫ومن ذلك‪ّ :‬‬
‫وأي األمم هم وما بلدهم وأين‬
‫لم يبين من هم يأجوج ومأجوج ّ‬
‫يقع السد‪ ،‬فإن استطعنا تحديد ذلك بالبحث واالستقراء ووصلنا‬
‫إلى نتيجة ال تخالف خبر القرآن قلنا بها‪ ،‬وإال صدقنا بخبر القرآن‬
‫الحق‬
‫ُّ‬ ‫الوعد‬
‫ُ‬ ‫{واقترب‬
‫َ‬ ‫ال ووقفنا عند حدوده‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫مجم ً‬
‫أبصار الذين كفروا}‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فإذا هي شاخص ٌة‬
‫وأمور أخرى ورد بها الحديث الصحيح(‪ )1‬ولم يصرح‬
‫ويشرب الخمر‬‫بذكرها القرآن‪ ،‬منها أنه ُيرفع العلم ويظهر الجهل‪ُ ،‬‬
‫ويقل الرجال ويكثر النساء‪ ،‬وتندر األمانة وتضطرب‬
‫ّ‬ ‫ويظهر الزنا‪،‬‬
‫موازين المجتمع فيرتفع المنخفض وينزل العالي‪ .‬ثم يكون ظهور‬
‫الدجال ونزول عيسى ناصراً لشريعة خاتم الرسل محمد صلى اهلل‬
‫عليه وعلى إخوانه المرسلين‪.‬‬
‫ابتداء الساعة‬
‫الذي يظهر من آيات الساعة في القرآن الكريم أن ابتداءها‬

‫______________________‬
‫واحد عن واحد ال نستطيع أن نجزم بأن‬
‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬األحاديث التي يرويها‬
‫الرسول قد نطق بها كما نجزم بصحة نص القرآن‪ ،‬لذلك نحكم بكفر‬
‫يكذب شيئ ًا من القرآن وال نحكم بكفر من ينكر شيئ ًا من هذه‬
‫من ّ‬
‫األحاديث‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫يكون بزلزال هائل ال يشبه ما عرف الناس من الزالزل(‪ ،)1‬يقع‬
‫‪-‬واهلل أعلم‪ -‬والحياة البشرية ال تزال مستمرة على األرض والناس‬
‫ال يزالون أحياء في الدنيا‪ ،‬فيصاب المجتمع البشري بفزع عام‬
‫ورعب شامل‪ ،‬يبلغ من شدته أن األم تذهل عن رضيعها (على‬
‫والم ْيل إليه) والحوامل يسقطن‬
‫الحنو عليه َ‬
‫ّ‬ ‫ما ُر ّكب في طبعها من‬
‫‪-‬من الرعب‪ -‬ما في بطونهن‪ ،‬والناس يكادون يفقدون عقولهم‬
‫ولكن عذاب‬
‫ّ‬ ‫كارى‬
‫بس َ‬
‫الواعية فيغدون كأنهم سكارى {وما هم ُ‬
‫اهلل شديد}‪.‬‬
‫يرجح القول بأن هذا الزلزال قبل القيامة قوله تعالى‪:‬‬
‫ومما ّ‬
‫األرض أثقالها‪ ،‬وقال‬
‫ُ‬ ‫األرض زلزالها‪ ،‬وأخرجت‬ ‫ُ‬ ‫{إذا ُزل ِزلَت‬
‫باق في األرض يشهد الزلزال ويسأل‬ ‫اإلنسان ما لها؟} فاإلنسان ٍ‬
‫ُ‬
‫عن أمره ويبحث أسبابه(‪.)2‬‬
‫حوادث فلكية‬
‫يوم القيامة وما يكون فيه وما يأتي بعده هو ‪-‬كما تقدم القول‪-‬‬
‫من األمور الغيبية‪ ،‬ليس للحواس إحاطة به كما تحيط بالمخلوقات‬
‫المادية‪ ،‬وال للعقل البشري حكم عليه كما يحكم على الحوادث‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬في الفصول األولى من الكتاب جعلت الكالم عام ًا للمسلم وغير‬
‫أكثر من أدلّة النقل‪ ،‬فلما‬
‫المسلم واعتمدت فيه على أدلّة العقل َ‬
‫وصلت إلى شعب اإليمان وصار الكالم موجه ًا على الغالب للمؤمن‬
‫جعلت االعتماد على األدلة السمعية وأكثرت االستشهاد باآليات‪.‬‬
‫(‪ )2‬وقال قوم في ذلك‪ :‬بل هو البعث‪ ،‬لقوله تعالى‪{ :‬وأخرجت األرض‬
‫محتمالن‪ ،‬وال أجزم بل أقول‪ :‬اهلل أعلم‪.‬‬
‫َ‬ ‫أثقالها}‪ .‬والقوالن‬

‫‪131‬‬
‫الدنيوية‪ ،‬وعمله كله في فهم النصوص وإدراك معناها‪.‬‬
‫وفي القرآن نصوص صريحة تدل على أن كثيراً من السنن‬
‫سميناها اصطالح ًا >قوانين الطبيعة<) تطرأ عليها‬
‫الكونية (التي ّ‬
‫تبديالت وتعديالت‪ ،‬فكأن استمرارها َمنوط باستمرار هذه الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬فإن انتهت مدتها انتهى أمد هذه القوانين‪ .‬وكأن العالم‬
‫الذي تشاهده بأرضه وكواكبه ‪-‬على ما فيه من اإلتقان العجيب‪-‬‬
‫بناء مؤقت أُقيم لغرض محدود ولمدة محدودة‪.‬‬
‫تفتت‬ ‫من هذه الحوادث أن الجبال تصيبها رجفة أرضية هائلة ّ‬
‫صخورها حتى تصير كالقطن المنفوش‪ ،‬ويغدو الجبل العظيم تلاّ ً‬
‫ال‪ ،‬ثم تنسف نسف ًا فتسير كما تسير كثبان رملية‪،‬‬ ‫متداعي ًا وكثيب ًا مهي ً‬
‫ثم تغدو سراب ًا وتصير األرض كلها قاع ًا مستوي ًا‪.‬‬
‫وخبر أن البحار تنفجر مياهها ثم‬
‫ّ‬ ‫خبر به القرآن‪،‬‬
‫كل هذا ّ‬
‫تتبخر‪ ،‬والكواكب ينثر عقدها ويتبدل مسيرها‪ ،‬والقمر ُيجمع مع‬
‫الشمس‪ ،‬والسماء ُتكشط وتنشق وتنفطر‪ ،‬ثم ُتطوى كما تطوى‬
‫بدل‬
‫الرسائل في السجل الكبير‪ ،‬ثم تكون النتيجة أن األرض ُت َّ‬
‫تبدل فكأنها غير السماء‪ .‬وكل‬
‫فكأنها غير األرض‪ ،‬وأن السماء ّ‬
‫هذا خبر به القرآن‪.‬‬
‫النفخ في الصور‬
‫ال نعرف ما هو الصور على حقيقته وال كيفية النفخ فيه‪،‬‬
‫وكل ما يقال في وصفه وتفصيل أمره ما لم يكن مستنداً إلى دليل‬
‫يعول عليه‪ .‬والذي جاء في القرآن أنه ُينفخ فيه‬
‫سمعي صحيح ال َّ‬
‫صعق من‬
‫وينفخ فيه ُفي َ‬ ‫فيفزع من في السماوات ومن في األرض‪ُ ،‬‬

‫‪132‬‬
‫في السماوات ومن في األرض‪ .‬والظاهر من القول أنهما نفختان‪،‬‬
‫وربما كانت (وهذا أرجح) نفخة الفزع هي نفخة الصعق‪ ،‬فال يبقى‬
‫أحد إال مات {إال من شاء اهلل}‪ ،‬وتمضي‬ ‫بعد ذلك من األحياء ٌ‬
‫مد ٌة اهلل أعلم بمداها‪ ،‬لم يخبرنا اهلل عنها‪ ،‬ثم ُينفخ نفخة البعث‬
‫ويبعثون من قبورهم {ينظرون} {إلى‬ ‫فتعود الحياة لكل ميت ُ‬
‫ربهم ينسلون}‪.‬‬
‫البعث والحشر‬
‫ُيبعث كل ميت على الحالة النفسية التي مات عليها‪ ،‬يظن‬
‫أنه لم يمر عليه إال ساعة أو ساعات‪ ،‬كالذي تصدمه سيارة وهو‬
‫يشتري أو يبيع أو يتحدث‪ ،‬فيغمى عليه ويغيب عن وعيه ثالثة‬
‫تم حديثه أو يكمل بيعه وشراءه‪ ،‬ال يدري‬‫أيام‪ ،‬فإذا صحا عاد ُي ّ‬
‫أنها مرت عليه أيام ثالثة‪ .‬وكذلك يكون الناس يوم البعث‪ ،‬لذلك‬
‫ع ّلمنا الدين أن نسأل اهلل حسن الخاتمة‪.‬‬
‫مر‬
‫وقد أقام اهلل للناس أمثلة على ذلك في الدنيا‪ ،‬منها الذي ّ‬
‫بعد موتها؟‬
‫هلل َ‬
‫على القرية الخالية الخاوية فقال‪{ :‬أ َّنى ُيحيي هذه ا ُ‬
‫لبثت يوم ًا أو بعض‬
‫لبثت؟ قال ُ‬‫فأماته اهلل مئة عام ثم بعثه‪ ،‬قال كم َ‬
‫يوم‪ ،‬قال بل لبِ ْث َت مئة عام}‪ .‬وأهل الكهف الذين ناموا ثالثمئة‬
‫وبعثوا يشترون‬‫وتسع سنين‪ ،‬ثم قاموا يظنون أنهم ناموا ساعات‪َ ،‬‬
‫بنقودهم التي أُلغي التعامل بها وهم ال يدرون‪.‬‬
‫ال‬
‫هذه حال الناس عند البعث‪ ،‬يظن كل منهم أنه نام قلي ً‬
‫غير‬ ‫واستيقظ‪ ،‬يتناقشون فيما بينهم‪ِ ُ :‬‬
‫{يقس ُم المجرمون ما لبثوا َ‬
‫العلم واإليمان لقد لبثتم في كتاب‬
‫َ‬ ‫ساعة}‪{ ،‬وقال الذين أوتوا‬

‫‪133‬‬
‫يوم البعث ولكنكم كنتم ال تعلمون}‪.‬‬
‫اهلل إلى يوم البعث‪ ،‬فهذا ُ‬
‫يظنون أنهم ال يزالون في الدنيا‪ ،‬ولكن هول الموقف يقطع‬
‫أنساب بينهم يومئذ}‪ .‬يرى المرء صديقه‬
‫َ‬ ‫كل رابطة بينهم‪{ :‬فال‬
‫الحميم فال يسأل عنه وال يهتم به‪ ،‬ال يهتم أحد إال بنفسه‪ ،‬يهرب‬
‫ويقدمهم‬
‫يضحي بهم ّ‬‫ّ‬ ‫من أخيه وأمه وأبيه ومن زوجته وبنيه‪ ،‬بل إنه‬
‫فدية له لو كان ُيقبل منه الفداء‪.‬‬
‫ويتركون أمداً اهلل أعلم بمدته يموج بعضهم في بعض‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬
‫ُيجمعون ُفيساقون إلى الحشر‪ُ ،‬يساقون جميع ًا‪ .‬البشر كلهم‪ ،‬من‬
‫آدم إلى آخر واحد من ذريته‪ ،‬من مات منهم على فراشه‪ ،‬ومن‬
‫غرق في البحر‪ ،‬ومن أكله السبع‪ ،‬ومن سقط من الطيارة‪ ،‬ومن‬
‫رماده في الهواء‪ ،‬يعيدهم الذي أوجدهم من‬
‫ُ‬ ‫أُحرق بالنار ُ‬
‫وذري‬
‫العدم أول مرة ويجمعهم جميع ًا‪ ،‬ويساقون إلى أرض المحشر‪،‬‬
‫اع يقول‬
‫الد ِ‬
‫{مهطعين إلى َّ‬ ‫هم والجن والشياطين والوحوش‪ُ :‬‬
‫يوم َع ِسر}‪.‬‬
‫الكافرون هذا ٌ‬
‫ثم يأمر ربنا بجهنم فتبرز للناس من بعيد‪ ،‬ويقول لهم‪{ :‬ألم‬
‫أعه ْد إليكم يا بنى آدم أن ال تعبدوا الشيطان‪ ،‬إنه لكم عدو ُمبين‪،‬‬‫َ‬
‫أض ّل منكم ِجبلاّ ً كثيراً‪،‬‬
‫صراط مستقيم‪ ،‬ولقد َ‬ ‫ٌ‬ ‫اعبدوني هذا‬
‫وأن ُ‬
‫توعدون}‪ .‬ويأمر ربنا‬ ‫جهن ُم التي كنتم َ‬
‫أفلم تكونوا تعقلون؟ هذه ّ‬
‫عرفون‪ ،‬فيتمنى كل منهم أنه لم يكن‬ ‫فرز المجرمون ويمتازون ُفي َ‬
‫ُفي َ‬
‫كنت تراب ًا}‪.‬‬‫ليتني ُ‬
‫بشراً ويقول‪{ :‬يا َ‬
‫ثم يجمع اهلل الكافرين في جهنم مع الذين كانوا يعبدونهم‬
‫من دون اهلل ويظنونهم آلهة من الجن والشياطين‪ ،‬وما اخترعوا‬

‫‪134‬‬
‫من أسماء ما لها حقائق وما أنزل اهلل بها من سلطان‪ ،‬زعموها‬
‫سموه زيوس وأفروديت‪ ،‬والرومان‪:‬‬ ‫آلهة كما فعل اليونان بما َّ‬
‫جوبيتر وفينوس‪ ،‬والفرس‪ :‬هرمز وأهرمان‪ ،‬والمصريون‪ :‬حابي‪،‬‬
‫والعزى عند العرب‪ ...‬زعموهم شركاء‬
‫ّ‬ ‫والفينيقيون‪ :‬بعل‪ ،‬والالت‬
‫فدعوهم فلم‬
‫شركائي الذين زعمتم‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫هلل‪ ،‬فيقول لهم‪{ :‬نادوا‬
‫ناصرون؟}‪.‬‬
‫يستجيبوا لهم}‪ ،‬فقال لهم ربنا‪{ :‬ما لكم ال َت َ‬
‫وينظر الضعفاء إلى المستكبرين الذين جعلوا أنفسهم في‬
‫الدنيا زعماء فقادوا قومهم إلى الشرك وإلى الكفر‪ ،‬فاستنصروهم‬
‫عنا من عذاب اهلل من‬‫غنون ّ‬
‫فقالوا‪{ :‬إ ّنا كنا لكم َتب َع ًا فهل أنتم ُم َ‬
‫شيء} فأجابوهم بالبراءة منهم وأقروا بعجزهم عن أن ُيغنوا عنهم‬
‫وال عن أنفسهم شيئ ًا‪ ،‬ووقف الجميع خاضعين خانعين‪ ،‬قد ذلوا‬
‫ومحيت‬ ‫جميع ًا أمام رب العالمين‪ ،‬وذهبت األلوهيات المزعومة ُ‬
‫الزعامات الباطلة المكذوبة‪ ،‬وانفصمت ُعرى الحلف الشيطاني‬
‫بين الكفار وما كانوا يعبدون من مخلوقات‪ ،‬وتبرأ كل معبود‬
‫بالباطل ممن كان يعبده‪.‬‬
‫{لما ُق ِض َي‬
‫حتى الشيطان يعترف لمن تبعه بكذبه فيقول‪ّ :‬‬
‫فأخلفتكم}‪ .‬ويتملص‬‫ُ‬ ‫إن اهلل وعدكم وعد الحق ووعدتكم‬ ‫األمر ّ‬
‫ُ‬
‫مقراً بضعفه وعجزه في الدنيا وأنه‬
‫ّ‬ ‫عليهم‪،‬‬ ‫كلها‬ ‫ويلقيها‬ ‫التبعة‬ ‫من‬
‫لم يكن يملك إال الوسوسة والتضليل‪ ،‬ما كان له من حول وال‬
‫ضر ويقول‪{ :‬وما كان لي عليكم‬ ‫طول وال كان يقدر على نفع وال ّ‬
‫فاستجبتم لي(‪ )1‬فال تلوموني ولوموا‬
‫ُ‬ ‫من سلطان إال أن دعوتكم‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬وفي هذا دليل على بطالن الدجالين الذين يزعمون أنهم يستخدمون=‬

‫‪135‬‬
‫كيد الشيطان كان ضعيف ًا}‪.‬‬
‫{إن َ‬
‫أنفسكم}‪ّ ،‬‬
‫الحساب‬
‫وال بد من الوقوف للحساب‪ ،‬فيقام ميزان العدل المطلق‬
‫الذي ال يضيع مثقال حبة من خردل وال ذرة من غبار‪ ،‬وال واحدة‬
‫من الكهارب (اإللكترونات) التي تسبح في فضاء الذرة وال أصغر‬
‫قدر ظروفه كلها‪،‬‬ ‫من ذلك‪ُ ،‬تحصى على المرء أعماله كلها و ُت َّ‬
‫ال له في جانب‬ ‫الخيرة وإخالصه القلبي فتكون ثق ً‬ ‫ّ‬ ‫وتبرز نياته‬
‫الحسنات من الميزان‪ ،‬وما كان في قلبه من نفاق أو رياء فيكون‬
‫ال عليه في جانب السيئات من الميزان(‪.)1‬‬
‫ثق ً‬
‫قدمه‬
‫اإلنسان إال عملُه الذي ّ‬
‫َ‬ ‫محاكمة عادلة‪ ،‬ال ينفع فيها‬
‫يؤملها‪ ،‬ال يسعفه ما كان له‬
‫وعفو ربه الذي يرجوه ورحمته التي ّ‬ ‫ُ‬
‫من مال إال ما أنفق منه هلل وفي سبيل اهلل‪ ،‬وال يعينه ما كان له من‬
‫جاه إال إن استعمله في طاعة اهلل‪ .‬وال يستطيع أحد أن ينفع أحداً‬
‫أبداً‪ ،‬وال تملك نفس لنفس شيئ ًا‪ ،‬وال يجد أحدهم شفيع ًا يشفع‬
‫له إال من بعد إذن ربه‪.‬‬
‫وشفاعة اآلخرة ليست كشفاعة الدنيا‪ ،‬فالشفيع في الدنيا‬
‫يدخل على الحاكم يدلّ عليه بمودته له أو جاهه عنده‪ ،‬يلزمه‬
‫الشفاعة ولو كان في قرارة نفسه ال يريدها‪ ،‬فيحابي بها موظف ًا‬

‫______________________‬
‫فيضرون بهم من يريدون وينفعون من يشاؤون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫= الجن والشياطين‬
‫وأنهم يستخرجونهم من أجسام المصابين بداء الصرع‪.‬‬
‫(‪ )1‬كل ما قالوا في وصف الميزان وشكله ال دليل عليه‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫أو يبرئ بها متهم ًا‪ .‬أما الشفاعة في اآلخرة فتكون عندما يريد ربنا‬
‫برحمته العفو عن أحد ويريد بكرمه تشريف أحد‪ ،‬يجعله سبب ًا‬
‫ظاهراً لهذا العفو فيأذن له بالشفاعة له‪ ،‬فيشفع بإذنه وأمره‪.‬‬
‫الشهود والبينات‬
‫محاكم الدنيا التي يتوالها حكام من العباد لها عدالة بشرية‬
‫محدودة ووسائل لإلثبات ظاهرة معدودة‪ ،‬ولكن محاكمات‬
‫حد لها‪،‬‬
‫اآلخرة قاضيها رب األرباب وعدالتها مطلقة ال ّ‬
‫وبيناتها شهادات األنبياء والمالئكة الذين كانوا يحصون األعمال‬
‫ّ‬
‫ويدونون الحسنات والسيئات‪ ،‬والصحف التي ُد ّونت فيها هذه‬ ‫ّ‬
‫اإلحصاءات‪ ،‬واعترافات المذنبين وشهادات األعضاء‪.‬‬
‫شهادة الرسل‬
‫{وو ِضع‬
‫ُ‬ ‫إذا كان يوم الحساب أُحضر النبيون كما قال تعالى‪:‬‬
‫بالنبيين}‪ .‬وكانت محاكمة كل أمة وفق شريعتها‬ ‫ّ‬ ‫وجيء‬
‫َ‬ ‫الكتاب‬
‫ُ‬
‫دعى إلى كتابها}‪،‬‬‫كل أمة ُت َ‬
‫بحضور نبيها‪{ :‬وترى كلَّ ّأمة جاثية‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بشهيد وجئنا بك على هؤالء شهيداً}‪.‬‬ ‫{فكيف إذا جئنا من كل ّأم ٍة‬
‫الكتب والصحف‬
‫تسجل فيها أعمالنا كلها في الدنيا تكون‬
‫هذه الصحف التي َّ‬
‫خفية‪ ،‬سراً ال يدري به الخلق‪ ،‬فإن تاب العبد من ذنوبه‬‫مطوية َم ّ‬
‫المدونة فيها التوب َة الصادقة ُمحيت منها‪ ،‬وإال بقيت فيها‪ ،‬فإذا‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫حل يوم الحساب ُنشرت وأعلنت‪ ،‬كنتائج االمتحانات تكون سراً‬
‫عند الفاحصين فال يعلم برسوب الراسب سواهم‪ ،‬فإذا جاء وقت‬

‫‪137‬‬
‫إعالنها عرف بذلك الناس وافتضح الراسب في أهله وبين إخوانه‪.‬‬
‫ولكن الفضيحة هنا على رؤوس الخالئق جميع ًا‪ ،‬وهي الفضيحة‬
‫الكبرى‪ ،‬والراسب هنا يسقط في جهنم ويخسر ‪-‬إن كان كافراً‪-‬‬
‫سعادة األبد ويلقى العذاب الدائم‪.‬‬
‫ُتنشر الصحف وتو َّزع‪َ ،‬فيلقى كل إنسان كتابه منشوراً ويقال‬
‫فمن كانت‬ ‫اليوم عليك َحسيب ًا}‪َ .‬‬
‫َ‬ ‫كتاب َك كفى بنفسك‬ ‫له‪{ :‬اقرأ َ‬
‫دونها ملَك اليمين أكثر ناوله كتابه بيمينه بشار ًة‬ ‫حسناته التي َّ‬
‫{يحاس ُب حساب ًا يسيراً}‪ ،‬فإذا رأى ما فيه فرح‬ ‫َ‬ ‫له بأنه سوف‬
‫واستبشر‪ ،‬كما يفرح التلميذ الذي يأخذ نتيجة االمتحان فيرى‬
‫أنه ناجح ويحب أن يطلع على نجاحه اإلخوان واألقران‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫الق‬‫ظننت} أي أيقنت في الدنيا {أني ُم ٍ‬‫ُ‬ ‫{هاؤ ُم اقرؤوه كتاب َِي ْه‪ .‬إني‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫دونها ملك الشمال أكثر ناوله‬ ‫حساب َِي ْه}‪ .‬ومن كانت سيئاته التي َّ‬
‫كتابه بشماله‪ ،‬فيبكي على نفسه ويوقن بهالكه ويقول‪{ :‬يا ليتني‬
‫أوت كتاب َِي ْه‪ ،‬ولم أد ِر ما حساب َِي ْه‪ ،‬يا ليتها كانت القاضية‪ ،‬ما‬
‫لم َ‬
‫لطاني ْه}‪{ ،‬وأما من أوتِ َي َ‬
‫كتاب ُه وراء‬ ‫مالي ْه‪ ،‬هلك عني ُس َ‬ ‫عني َ‬
‫أغنى ّ‬
‫ظهره فسوف يدعو ُثبوراً ويصلى َسعيراً}‪.‬‬
‫مدون ًا فيها‬
‫ويقرأ المجرمون كتبهم فيرون كل عمل عملوه َّ‬
‫ويلتنا! ما لهذا‬
‫{أحصاه اهلل ونسوه}‪ ،‬فيقولون متعجبين‪{ :‬يا َ‬
‫الكتاب ال يغادر صغير ًة وال كبيرة إال أحصاها؟ ووجدوا ما عملوا‬
‫ربك أحداً}‪،‬‬ ‫حاضراً}‪ .‬وأيقنوا أنهم ظلموا أنفسهم‪{ :‬وال يظلم ُّ‬
‫وندموا على ما فرطوا حين اتبعوا وسوسة الشيطان وهوى النفس‬
‫قت‬
‫ون‪ :‬ل ََم ُ‬
‫ناد َ‬
‫{ي َ‬ ‫األمارة بالسوء‪ ،‬فمقتوا لذلك أنفسهم‪ ،‬وإذا هم‪ُ :‬‬
‫ّ‬
‫دعون إلى اإليمان فتكفرون}‪.‬‬ ‫أنفسكم إذ ُت َ‬
‫أكبر من مقتكم َ‬‫اهلل ُ‬

‫‪138‬‬
‫الدفاع ثم اإلقرار‬
‫ثم إذا وقف الكفار للحساب لجؤوا إلى اإلنكار وحلفوا كذب ًا‬
‫ممن لهم الظواهر‪،‬‬ ‫على براءتهم‪ ،‬يظنون أنهم أمام حاكم من البشر ّ‬
‫ونسوا أنهم أمام رب العالمين الذي يطّلع على ما في النفوس ويعلم‬
‫فون لكم}‪ ،‬يقولون‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ما ُتك ّن الضمائر‪{ :‬فيحلفون له كما يحل ُ‬
‫كنا مشركين}‪ .‬فيمسك اهلل بألسنتهم ويمنعهم من‬ ‫{واهللِ ِّ‬
‫ربنا ما ّ‬
‫أن ينطقوا‪ ،‬ويأمر أعضاءهم التي مارست الحرام فت ّقر بما صنعت‪،‬‬
‫والرجل بما مشيت إليه‬‫وتنطق اليد معترفة بما اجترحت من حرام ِّ‬
‫{اليوم َنختِ ُم على أفواههم‪ ،‬وتك ّلمنا أيديهم وتشهد‬
‫َ‬ ‫من حرام‪:‬‬
‫أرجلهم بما كانوا يكسبون}‪.‬‬
‫فإذا أُخذوا بإقرارهم وثبت الذنب عليهم عاتبوا أعضاءهم‪:‬‬
‫{وقالوا لجلودهم‪ :‬لِ َم شهدتم علينا؟ قالوا‪ :‬أنطقنا ا ُ‬
‫هلل الذي أنطق‬
‫كل شيء}‪ .‬كانوا يختبئون في الدنيا ليأتوا الفواحش‪ ،‬مع أن‬
‫المتحدث اليوم في الرائي (التلفزيون) يكون في غرفة لها أبواب‬
‫سمع كالمه‬
‫وي َ‬‫مغلقة وجدران مطبقة‪ ،‬ثم يراه من ورائها الماليين ُ‬
‫فإن كان هذا مما ُو ِّفق إليه البشر في الدنيا فكيف‬‫ويشهد عليه‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬
‫بعلم اهلل وحسابه في اآلخرة؟ لذلك يؤنبهم ربهم ويقول لهم‪:‬‬
‫يشهد عليكم سمعكم وال أبصاركم وال‬ ‫َ‬ ‫{وما كنتم َتستترون أن‬
‫جلودكم}‪ .‬وكيف يفر المرء من جلده وبصره وسمعه وهو معه‬
‫أن اهلل ال يعلم كثيراً مما تعملون‪ ،‬وذلكم‬‫قائم به؟ {ولكن ظننتم ّ‬
‫فأصبحتم من الخاسرين}‪.‬‬‫ُ‬ ‫أرداكم‬
‫ُ‬ ‫ظنكم الذي ظننتم بربكم‪،‬‬
‫ُ‬
‫وهذه عاقبة كل كافر باهلل منكر ليوم الحساب ال يمتد بصره‬
‫إلى أبعد من هذه الدنيا‪ ،‬يجحد اآلخرة وهي آتية ال ريب فيها‪،‬‬

‫‪139‬‬
‫لع عليه وأعضاؤه التي يمارس بها‬
‫ويختفي بذنبه من اهلل واهلل مطّ ٌ‬
‫الذنوب ستشهد عليه‪ ،‬فكيف يتوارى من شاهد هو معه ال يستطيع‬
‫أن يفارقه؟‬
‫عفوك وغفرانك‪ ،‬واستر علينا في اآلخرة كما سترت‬‫اللهم َ‬
‫الستار‪.‬‬
‫علينا في الدنيا وأنت الغ ّفار ّ‬
‫اعتراض تافه‬
‫وقد كان فريق من الناس يقولون لنا ساخرين ونحن صغار‪:‬‬
‫«كيف تنطق اليد والرجل وما لهما لسان وما تقدران على بيان؟»‬
‫فاخترعت آالت التسجيل والسينما الناطقة‪ ،‬وصارت ُتقام في‬ ‫ُ‬
‫تصور باألشعة التي ال‬ ‫ّ‬ ‫مداخل المصارف آالت تصوير خفية‬
‫ُترى(‪ )1‬تتحرك لمجرد اجتياز الشخص من أمامها‪ ،‬فإذا سرق‬
‫السارق وأنكر عرضوا عليه الفلم‪ ،‬يعيد حركاته وسكناته وهمسه‬
‫حجة على‬ ‫المخترعات ّ‬‫َ‬ ‫لنفسه وكالمه مع رفيقه‪ ...‬فكانت هذه‬
‫أولئك المتعالين الجهالء‪ ،‬كأنها تقول لهم‪ :‬ويحكم! الذي أنطق‬
‫وسجل الحركات والكلمات تعلن كالم السارق‬ ‫ّ‬ ‫الشريط في الدنيا‬
‫الذي أخفاه وتثبت عليه فعله الذي أنكره‪ ،‬الذي َو َّفق إلى هذا في‬
‫والرجل في اآلخرة؟‬
‫الدنيا أال ُينطق اليد ِّ‬
‫الحساب ونتائجه‬
‫الحساب أنواع‪ ،‬منه الحساب اليسير كحساب الذين أُعطوا‬
‫كتابهم بأيمانهم‪ ،‬ومنه الحساب الشديد كحساب القرية التي‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬األشعة التي يسمونها >تحت الحمراء<‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫عتت عن أمر ربها‪ .‬ويخرج الناس بنتيجة الحساب وهم أصناف‪:‬‬
‫المشأمة‪.‬‬
‫السابقون المقربون‪ ،‬وأصحاب الميمنة‪ ،‬وأصحاب َ‬
‫وأما‬
‫يحان وجن ُة نعيم‪ّ .‬‬
‫ور ٌ‬ ‫فر ْو ٌح َ‬
‫المقربين َ‬
‫َّ‬ ‫{فأما إن كان من‬
‫ّ‬
‫وأما‬
‫فسالم لك من أصحاب اليمين‪ّ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫إن كان من أصحاب اليمين‬ ‫ْ‬
‫إن‬
‫المكذبين الضالّين ُفن ُزل ٌ من حميم و َت ْصلي ُة جحيم‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫إن كان من‬
‫فسبح باسم ربك العظيم}‪.‬‬ ‫حق اليقين‪ِّ ،‬‬
‫هذا ل َُه َو ُّ‬
‫ورود جهنم‬

‫ويمرون جميع ًا على صراط من فوق جهنم‪ ،‬يسرعون‬


‫باجتيازه بمقدار قربهم من اهلل واستكثارهم من الحسنات‪ ،‬فينجو‬
‫{وإن منكم إال‬ ‫ْ‬ ‫منها المتقون ويسقط فيها الظالمون‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫ربك حتم ًا َم ِ‬
‫قضي ًا‪ ،‬ثم ُن َن ّجي الذين ا َّت َقوا و َنذَ ُر‬ ‫وار ُِدها‪ ،‬كان على ّ‬
‫الظالمين فيها ِجثِ ّي ًا}‪ .‬وفي سورة التكاثر قوله تعالى‪{ :‬ل ََت َر ُو َّن‬
‫عين اليقين}‪.‬‬‫الجحيم‪ ،‬ثم ل ََت َر ُو َّنها َ‬
‫أما الرؤية األولى فهي ‪-‬واهلل أعلم‪ -‬ورود المتقين عليها‬
‫الذي يكون معه النجاة منها‪ ،‬وأما الرؤية الثانية فهي ورود الظالمين‬
‫عليها وسقوطهم فيها‪ .‬وربما كانت الرؤية األولى قبل الحساب‪،‬‬
‫حين تبرز الجحيم فيراها الناس كما قدمنا‪.‬‬

‫الجنة وجهنم‬

‫أوصاف الجنة التي وردت في القرآن‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬


‫{ َتجري من تحتها األنهار}‪ ،‬وأن أهلها ُي َحلَّون فيها من أساور‬
‫من ذهب ولؤلؤاً وأن لباسهم فيها حرير‪ ،‬وأن فيها أنهاراً من لبن‬

‫‪141‬‬
‫وأنهاراً من خمر وأنهاراً من عسل‪ ،‬وأن فيها الغلمان والحور‬
‫العين‪ ...‬كل ذلك جاء على وجه التقريب إلى األفهام‪ ،‬ألن اللغات‬
‫البشرية موضوعة في األصل للتعبير عن األشياء األرضية‪ ،‬ومن‬
‫المح َّقق أن أنهار الجنة ليست كأنهار الدنيا‪ ،‬وال لبنها وعسلها‬
‫وخمرها كخمر الدنيا وعسلها ولبنها‪ ،‬وال حورها كنساء األرض‬
‫وال غلمانها كغلمانها‪ ...‬ولو رجعنا إلى المقدمات التي قدمناها‬
‫في أول الكتاب (وهي قواعد العقائد) لذكرنا أن الخيال البشري‬
‫يعجز عن اإلحاطة بها أو تم ّثل حقيقتها‪.‬‬
‫فصلوا في وصفها من المفسرين لم يستندوا في ذلك‬‫والذين ّ‬
‫إلى دليل‪ ،‬وكان منتهى جهدهم أن قاسوا اآلخرة على الدنيا كما‬
‫قاس المتكلمون عدالة اهلل وصفاته على ما عرفوا من الصفات‬
‫البشرية والعدالة البشرية‪ ،‬فتخبطوا في متاهات وضالالت كان‬
‫ينجيهم منها ويبعدهم عنها‪ ،‬أن يقفوا عند حدود النصوص وأن‬
‫يسلكوا مسلك السلف‪ ،‬وأن يقروا بعجز العقل عن إدراكها‬
‫والخيال عن تمثيلها‪.‬‬
‫ومن هذه المباحث السقيمة والمجادالت العقيمة ما قالوه‬
‫عن الحور العين وهل االستمتاع بهن كاالستمتاع بنساء الدنيا‪،‬‬
‫ونسوا أن هذه المتعة على شكلها المعروف غايتها الحمل وبقاء‬
‫النسل(‪ )1‬وال داعي لذلك في اآلخرة‪ ،‬فكان الحق أن نؤمن بكل ما‬
‫ورد في القرآن‪ ،‬ثم نشتغل بالعمل الصالح الذي يوصلنا إلى الجنة‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬ولو فكر العاقل الستقبحها‪ ،‬ولكن اهلل وضع الشهوة لمنع هذا التفكير‪،‬‬
‫المخدر) ليمنع الشعور بألم العملية الجراحية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كما ُوضع البنج (أي‬

‫‪142‬‬
‫ال من المناقشة في تفصيل أمرها والخالف على وصف حقيقة‬ ‫بد ً‬
‫ما فيها مما لم يذكره القرآن لنا‪.‬‬
‫دخول الجنة‬
‫والتشهي‪ ،‬ولكن باإليمان‬
‫ّ‬ ‫وليس دخول الجنة بالتمني‬
‫يعمل ُسوءاً‬
‫ْ‬ ‫أماني أهل الكتاب‪َ ،‬من‬
‫ِّ‬ ‫بأمانيكم وال‬
‫ِّ‬ ‫والطاعة‪{ :‬ليس‬
‫علم اهلل الذين‬
‫ولما َي ِ‬
‫حسبتم أن تدخلوا الجن َة ّ‬
‫ُ‬ ‫ُي ْج َز به}‪{ ،‬أم‬
‫ويعلم الصابرين}‪.‬‬
‫َ‬ ‫جاهدوا منكم‬
‫ال للخير داعي ًا‬
‫فالمؤمن الذي يدخل الجنة إما أن يكون فاع ً‬
‫ال على ذلك بنفسه‬ ‫ال الجهد في سبيل إعالء كلمته عام ً‬
‫إلى اهلل باذ ً‬
‫وماله ولسانه‪ ،‬فيكون من الذين جاهدوا‪ ،‬فإن لم يستطع فعليه‬
‫بالشر وال متبع ًا لدعوته‪ ،‬وأن‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫‪-‬على األقل‪ -‬أن ال يكون منفع ً‬
‫َيسلم بنفسه وأهله‪ ،‬وأن يصبر على ما يلقى في سبيل تمسكه‬
‫بدينه‪ ،‬فيكون من الصابرين‪.‬‬
‫فإذا انتهى الحساب واجتاز المؤمن الصراط تحققت النجاة‪:‬‬
‫ربهم إلى الجنة ُز َمراً‪ ،‬حتى إذا جاؤوها‬ ‫{وسيق الذين ا ّت َقوا َّ‬
‫َ‬
‫سالم عليكم ِط ُبتم فادخلوها‬
‫ٌ‬ ‫و ُفتحت أبوابها وقال لهم َخ َز ُنتها‬
‫(‪)1‬‬

‫نتب َّوأ‬
‫وع َده وأورثنا األرض َ‬
‫صد َقنا ْ‬
‫خالدين‪ ،‬وقالوا الحمد هلل الذي َ‬
‫أجر العاملين}‪.‬‬ ‫ِ‬
‫من الجنة حيث نشاء‪ ،‬فن ْع َم ُ‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬في آية جهنم قال {حتى إذا جاؤوها ُفتحت أبوابها} ألنها كسجن‬
‫مغلوق األبواب فال ُتفتح إال الستقبال داخل أو خروج خارج‪ ،‬أما‬
‫هنا فقال {و ُفتحت أبوابها} ألنها مفتحة دائم ًا‪ ،‬وإن كان ال يدخلها‬
‫أحد إال بإذن ربها خالقها‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫وصف الجنة‬
‫ّأما سعتها فإن عرضها عرض السماوات واألرض‪ .‬وال‬
‫تعجبوا من هذا فإن اآلخرة بالنسبة لهذه الدنيا بالنسبة لبطن األم‪.‬‬
‫دار واحدة من دور‬
‫أوليست ٌ‬ ‫أما يرى الجنين بطن األم دنياه كلها؟ َ‬
‫أوسع من دنيا الجنين باآلف المرات؟‬
‫َ‬ ‫الدنيا‬
‫هذه الجنة أُ ِع ّدت للمتقين‪ .‬ومن هم المتقون الذين أُ ِع ّدت‬
‫لهم؟ وماذا كانوا يصنعون لعلنا نصنع مثلهم فنكون معهم؟ لقد ّبين‬
‫والضراء‪ ،‬والكاظمين‬
‫ّ‬ ‫السراء‬
‫ّ‬ ‫أن المتقين هم‪{ :‬الذين ُينفقون في‬
‫الغيظ‪ ،‬والعافين عن الناس‪ ،‬والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا‬ ‫َ‬
‫أنفسهم ذكروا اهلل فاستغفروا لذنوبهم}‪ .‬هذه بعض صفات‬
‫المتقين‪ ،‬فمن ا ّتصف بها ‪-‬بعد تصحيح العقيدة وصدق التوحيد‪-‬‬
‫أعدها لهم‪.‬‬
‫أدخله اهلل بكرمه وم ِّنه هذه الجنة التي ّ‬
‫والجنة درجات‪ ،‬ففيها >جنة النعيم<‪ ،‬وهي أبعد من أن ينالها‬
‫دخ َل جنة نعيم؟}‪ .‬وفيها‬
‫كل امرئ منهم أن ُي َ‬ ‫كل واحد‪{ :‬أيطمع ُّ‬
‫الجنة التي سماها اهلل >الغرفة< ووعد بها عباد الرحمن‪ ،‬الذين‬
‫وصفهم في سورة الفرقان بأنهم الذين يجمعون صحة االعتقاد‬
‫وعلو األخالق‪ ،‬فدل ذلك على أن‬ ‫ّ‬ ‫واستقامة السلوك وكثرة العبادة‬
‫ص بها هؤالء الذين جمعوا صفات‬ ‫الغرفة درجة عالية في الجنة ُخ َّ‬
‫الكمال وصبروا على مشقة القيام بها وصرف النفس عن رغبتها‬
‫في التم ّلص منها‪.‬‬
‫{جنات معروشات وغير معروشات}‬ ‫ّ‬ ‫وبين ربنا أن في الجنة‬
‫ّ‬
‫وأن فيها مكان ًا اسمه >جنة المأوى< ومكان ًا اسمه >جنات عدن<‪،‬‬

‫‪144‬‬
‫وأن لمن خاف مقام ربه جنتين ال جنة واحدة‪ ،‬وأن فيها ما دعاه‬
‫بع ّل ّيين‪ ،‬فدلَّ ذلك على أن نعيمها درجات وأهلها منازل‪.‬‬
‫أهل الجنة وأحوالهم‬
‫{ادخلوا الجنة أنتم‬
‫ُ‬ ‫يجتمع أهل الجنة بإخوانهم وأهلهم‪:‬‬
‫حبرون}‪{ ،‬هم وأزواجهم في ظالل على األرائك‬ ‫وأزواجكم ت ُ َ‬
‫متكئون}‪{ ،‬والذين آمنوا واتبعتهم ُذ ّر ُيتهم بإيمان ألحقنا بهم‬
‫ود وصفاء‪{ :‬ونزعنا ما في صدورهم‬ ‫ُذ ّر َيتهم}‪ .‬يجتمعون على ٍّ‬
‫األس ّرة واألرائك فتكون مجالسهم عليها‪:‬‬ ‫ف لهم ِ‬ ‫ل}‪ُ ،‬ت َص ّ‬ ‫من ِغ ٍّ‬
‫{متكئين على ُس ُر ٍر مصفوفة} يقعدون عليها {إخوان ًا على‬
‫ُس ُر ٍر متقابلين}‪ ،‬عليها فرش بطائنها من شيء نفيس سماه ُّربنا‬
‫>اإلستبرق< وحولهم جنتان ملتفتان ثمارهما قريبة من أيديهم دانية‬
‫منهم‪ ،‬يخدمهم فيها خدم صغار‪{ :‬ويطوف عليهم غلمان لهم‬
‫{يطاف‬ ‫{يدعون فيها بكل فاكهة آمنين} ُ‬ ‫لؤلؤ مكنون} َ‬ ‫ٌ‬ ‫كأنهم‬
‫ول وال‬ ‫بيضاء ل َّذ ٍة للشاربين‪ ،‬ال فيها َغ ٌ‬
‫َ‬ ‫عليهم بكأس من َمعين‪،‬‬
‫هم عنها ُي َنزفون}‪.‬‬
‫حاف من ذهب}‪ ،‬أما شرابهم‬ ‫بص ٍ‬ ‫والطعام يطاف به {عليهم ِ‬
‫وأباريق وكأس من َمعين}‪ .‬يؤتى إليهم‬ ‫َ‬ ‫ُفيحمل إليهم {بأكواب‬
‫يتخيرون‪ ،‬ولحم طير مما‬ ‫ٍ‬
‫بكل ما يريدون من طعام‪{ :‬وفاكهة مما ّ‬
‫وظل ممدود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سد ٍر مخضود‪ ،‬وطلح منضود‪،‬‬ ‫يشتهون} {في ْ‬
‫وماء مسكوب‪ ،‬وفاكهة كثيرة‪ ،‬ال مقطوعة وال ممنوعة‪ ،‬و ُف ُرش‬
‫مرفوعة} {ال يرون فيها شمس ًا وال َز ْم َهريراً‪ ،‬وداني ًة عليهم ظال ُلها‬
‫ال} {تعرف في وجوهم َنضر َة النعيم}‬ ‫وذ ِّللَت ُقطو ُفها تذلي ً‬
‫ُ‬
‫فوجوههم {ناعم ٌة‪ ،‬لسعيها راضية}‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫يقصدون من أركان الجنة حيث شاؤوا‪ ،‬يتقابلون فيها‬
‫{وه ُدوا إلى‬
‫ُ‬ ‫سالم}‪ .‬ال يقولون إال خيراً‬
‫ٌ‬ ‫{تحيت ُهم فيها‬
‫ُ‬ ‫ويتحدثون‬
‫الط َّّيب من القول}‪{ ،‬وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‪ ،‬قالوا‬
‫{فم َّن اهلل‬
‫قبل في أهلنا مشفقين} خائفين من دخول النار َ‬ ‫إنا كنا ُ‬
‫الس ُموم}‪ .‬وهذا من ثمرة الدعاء واالستغفار‪:‬‬ ‫عذاب َّ‬
‫َ‬ ‫علينا ووقانا‬
‫الب ُّر الرحيم}‪.‬‬
‫قبل ندعوه‪ ،‬إنه هو َ‬ ‫{إ ّنا كنا ِمن ُ‬
‫فإذا تحدثوا تذكروا في أحاديثهم أيام الدنيا وأحوال أهلها‪،‬‬
‫قائل‬‫وما كان من أمرهم فيها وما انتهوا إليه في اآلخرة‪{ :‬قال ٌ‬
‫منهم‪ :‬إنه كان لي َقرين‪ ،‬يقول} ساخراً معانداً {أئ َّنك ل َِم َن‬
‫لمدينون؟} قال (أي‬ ‫ِ‬
‫الم َص ِّدقين؟ أئذا متنا وكنا تراب ًا وعظام ًا أئنا َ‬
‫ُ‬
‫المؤمن في الجنة إلخوانه فيها)‪{ :‬هل أنتم مط َّ ِل ُعون} على أهل‬
‫النار لتروه فيها؟ ودل ذلك على أنهم يستطيعون االطالع عليهم‪.‬‬
‫فرآه في سواء الجحيم}‪ ،‬قال له (وهذا وما يأتي بعده‬ ‫لع ُ‬ ‫{فاطّ َ‬
‫إن‬ ‫يدل على أن أهل الجنة وأهل النار يتبادلون الحوار)‪{ :‬تاهلل ْ‬
‫ويم ّن‬ ‫حضرين}‪ُ .‬‬ ‫الم َ‬ ‫لكنت من ُ‬ ‫ُ‬ ‫دين‪ ،‬ولوال نعم ُة ربي‬ ‫كدت لَتُ ْر ِ‬
‫َ‬
‫{وزوجناهم بحور عين‬ ‫َّ‬ ‫يزوجهم بهن‪:‬‬ ‫عليهم ربهم بالحور العين ّ‬
‫كأمثال اللؤلؤ المكنون}‪ ،‬أنشأهن إنشاء فجعلهن {أبكاراً‪ُ ،‬ع ُرب ًا‬
‫إنس قبلهم‬ ‫طمثهن ٌ‬
‫ّ‬ ‫أتراب ًا} قاصرات الطرف (من الحياء) {لم َي‬
‫جان}‪.‬‬‫وال ّ‬
‫وتحيتهم فيها‬
‫ُ‬ ‫عواهم فيها سبحانك اللهم‬ ‫{د ُ‬ ‫وأهل الجنة َ‬
‫دعواهم أن الحمد هلل رب العالمين}‪ .‬يقولون‬ ‫ُ‬ ‫سالم‪ِ ،‬‬
‫وآخ ُر‬
‫أن هدانا اهلل‪ ،‬لقد‬
‫لنهتدي لوال ْ‬
‫َ‬ ‫{الحمد هلل الذي هدانا لهذا وما كنا‬
‫ُ‬
‫لكم الجن ُة أورثتموها بما‬ ‫ِ‬
‫{ونودوا أن ت ُ‬
‫ُ‬ ‫ربنا بالحق}‬
‫جاءت ُر ُسل ّ‬

‫‪146‬‬
‫خرجين}‬‫بم َ‬
‫كنتم تعملون} {ال َي َم ُّسهم فيها َن َص ٌب وما هم منها ُ‬
‫الموت َة األولى} {والمالئكة يدخلون‬ ‫الموت إال َ‬
‫َ‬ ‫{ال يذوقون فيها‬
‫{سالم عليكم‬
‫ٌ‬ ‫كل باب} يحيونهم ويهنئونهم‪ ،‬يقولون‪:‬‬ ‫عليهم من ّ‬
‫الفوز العظيم‪ ،‬لمثل‬
‫ُ‬ ‫بما صبرتم فنِ ْع َم ُعقبى الدار}‪ّ .‬‬
‫{إن هذا ل َُه َو‬
‫المتنافسون}‪.‬‬
‫ْيعم ِل العاملون} {وفي ذلك َفلْيتنافس ُ‬ ‫هذا َفل َ‬
‫اللهم برحمتك التي وسعت كل شيء وعفوك ومغفرتك‪،‬‬
‫العفو الغفور‪ ،‬أعذنا من عذاب النار وأدخلنا الجنة بسالم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأنت‬
‫جهنم‬
‫المتبادر إلى األذهان أن جهنم كالنار التي نعرفها في الدنيا‪،‬‬
‫وإن ما َثلَتها في‬‫لكنها أشد منها‪ ،‬حتى إنها ال تقاس من شدتها بها ْ‬
‫نوعها‪ .‬ولكن الذي يبدو لمن ينعم النظر في وصف القرآن لها أنها‬
‫من نوع آخر‪ ،‬إذ لو كانت ناراً من نار الدنيا ألحرقت كل شيء‬
‫ظل‪ ،‬وإن‬ ‫فتركته فحم ًا‪ ،‬مع أن جهنم فيها شجر وفيها ماء وفيها ّ‬
‫كان ظلها وماؤها وشجرها للتعذيب ال للنعيم‪ .‬ونار الدنيا تحرق‬
‫من يدخل فيها فيموت فيستريح من ألمها‪ ،‬وجهنم (نعوذ باهلل‬
‫ف عنهم‬ ‫قضى عليهم فيموتوا وال ُي َخ َّف ُ‬
‫منها) ألم دائم ألهلها‪{ :‬ال ُي َ‬
‫من عذابها}‪ ،‬ال تحرق الجلود ُفتذهبها ولكن تنضجها‪ ،‬وكلما‬
‫بدلهم اهلل جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب‪ ،‬وأهلها‬ ‫نضجت جلودهم ّ‬
‫يعيشون ويفكرون ويتذكرون ويختصمون‪.‬‬
‫خر ُج‬
‫الز ُّقوم التي { َت ُ‬
‫وفي جهنم شجرة‪ ،‬ولكنها شجرة َّ‬
‫من أصل الجحيم‪ ،‬طَ ل ُْعها كأنه رؤوس الشياطين}‪ .‬وفي جهنم‬
‫طعام وأهلها يأكلون‪ ،‬ولكنهم آكلون من ثمر هذه الشجرة‬

‫‪147‬‬
‫الز ّقوم طعام األثيم‪،‬‬
‫{إن شجرة َّ‬
‫البطون} ّ‬‫الخبيثة {فمالئون منها ُ‬
‫كغل ِْي الحميم}‪ .‬وفي‬ ‫{يغلي في البطون َ‬
‫كالم ْه ِل} عكر الزيت َ‬ ‫ُ‬
‫جهنم شراب‪ ،‬فيها ماء ولكنه ماء صديد‪ُ ،‬يسقى منه الكافر فهو‬
‫سيغه}‪ .‬فإذا أكلوا من هذه الشجرة وشربوا‬ ‫يكاد ُي ُ‬
‫ُ‬ ‫{يتجر ُع ُه وال‬
‫َّ‬
‫بعدها من الحميم‪ ،‬من هذا الماء الذي وصفه القرآن‪ ،‬وهم من‬
‫شدة عطشهم يشربون منه ُش ْر َب الهيم‪ ،‬شرب اإلبل الهائمة‬
‫{ي ْص َه ُر به‬
‫العطشى‪ ،‬ثم ُي َص ُّب من فوق رؤوسهم من هذا الحميم ُ‬
‫ما في بطونهم والجلود}‪.‬‬
‫وفي جهنم ثياب‪ ،‬ولكنها من نار‪{ :‬فالذين كفروا ُقط ِّعت‬
‫َل‪ ،‬ولكنها من نار‪:‬‬ ‫ظل وظُ ل ٌ‬
‫ثياب من نار}‪ .‬وفي جهنم ّ‬ ‫ٌ‬ ‫لهم‬
‫َل}‪ ،‬إنه {ظل من‬ ‫َل من ال َّنار ومن تحتهم ظُ ل ٌ‬
‫{لهم من فوقهم ظُ ل ٌ‬
‫َيحموم‪ ،‬ال بارد وال كريم}‪.‬‬
‫وأصر على الكفر وأنكر‬ ‫ّ‬ ‫هذه عاقبة من آثر الدنيا وترفها‬
‫صرون على‬ ‫ترفين‪ ،‬وكانوا ُي ُّ‬ ‫البعث‪{ :‬إنهم كانوا قبل ذلك ُم َ‬
‫نث العظيم‪ ،‬وكانوا يقولون‪ :‬أئذا ِمتنا وكنا تراب ًا وعظام ًا أئنا‬ ‫ِ‬
‫الح ِ‬
‫زفير وشهيق‪ ،‬خالدين فيها ما دامت‬ ‫ل ََمبعوثون؟}‪{ ،‬لهم فيها ٌ‬
‫ال لما يريد}‪.‬‬ ‫إن ربك َف ّع ٌ‬
‫السماوات واألرض إال ما شاء ربك‪ّ ،‬‬
‫دخول النار‬
‫إذا انتهى الحساب وحقت كلمة العذاب على الكفار ُيساقون‬
‫نفسها من كفرهم وإصرارهم‬ ‫إلى جهنم ُز َمراً‪ ،‬فتغتاظ جهنم ُ‬
‫وخ َزنة جهنم ال ينقضي عجبهم من‬ ‫وإعراضهم عن رسل ربهم‪َ ،‬‬
‫حماقتهم وعنادهم فهو يعودون إلى سؤالهم‪{ :‬تكاد َت َم ّي ُز من‬

‫‪148‬‬
‫الغيظ‪ ،‬ك ّلما أُلقي فيها فوج سألهم َخ َز ُنتها‪ :‬ألم يأتِكم نذير؟} فلم‬
‫فكذ ْبنا و ُقلنا ما‬
‫يسعهم إال االعتراف {قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قد جاءنا نذير ّ‬
‫ّنزلَ اهلل من شيء}‪.‬‬
‫{إن أنتم إال في ضالل كبير}‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فقالت لهم المالئكة‪:‬‬
‫فأقروا بأنهم كانوا ُص ّم ًا ال يسمعون وكانوا قد عطلوا عقولهم فال‬
‫يفكرون‪ ،‬وأنهم لو كانوا سمعوا المواعظ وفكروا في أنفسهم وفي‬
‫الكون من حولهم الستدلوا بذلك على اهلل فآمنوا به واتبعوا رسله‬
‫سمع أو َنع ِق ُل ما كنا في‬
‫وما وصلوا إلى جهنم‪{ :‬وقالوا لو كنا َن ُ‬
‫السعير}‪.‬‬
‫فسحق ًا ألصحاب َّ‬ ‫السعير‪ ،‬فاعترفوا بذنبهم ُ‬
‫أصحاب ّ‬
‫جهنم سجن‬
‫باب‬
‫{لكل ٍ‬
‫ّ‬ ‫جهنم {لها سبع ُة أبواب} يو َّزع أهلها عليهم‬
‫بمزاليج ضخمة كأنها األعمدة‪:‬‬ ‫جزء مقسوم}‪ .‬وهي مغلقة َ‬ ‫منهم ٌ‬
‫{إنها عليهم ُم ْو َص َد ٌة في َع َم ٍد َّ‬
‫ممدد ٍة}‪ ،‬وهم ُيل َقون فيها في‬
‫{م َق َّرنين} مربوط ًا بعضهم ببعض وقد أعد اهلل لهم‬ ‫مكان ضيق ُ‬
‫ال وسعيراً}‪.‬‬ ‫{سالسل وأغال ً‬
‫َ‬
‫محاوالت للخروج‬
‫ال يختار به ما‬
‫اإلنسان في الدنيا دهراً وأعطاه فيها عق ً‬
‫َ‬ ‫عمر اهلل‬
‫ّ‬
‫يريد وإراد ًة ينفذ بها ما يختار‪ ،‬فاختار بعض الناس سلوك طريق‬
‫جهنم وعملوا ما يوصلهم إليها‪ ،‬فلما بلغوها راحوا يحاولون‬
‫الخروج منها وي ِعدون أنهم إن أُعيدوا إلى الدنيا آمنوا وأصلحوا!‬
‫فمن رسب في دورة استدرك‬ ‫يحسبون األمر كامتحانات الدنيا‪َ ،‬‬
‫النجاح في أخرى‪ ،‬ال يدرون أن من خرج من الدنيا ال يعود إليها‬

‫‪149‬‬
‫عز‬
‫ومن دخل النار من الكفار ال يخرج منها‪ ،‬فحق عليهم قول اهلل َّ‬
‫دى ورحم ًة لقوم‬ ‫فصلناه على علم ُه ً‬ ‫وجل‪{ :‬ولقد جئناهم بكتاب ّ‬ ‫ّ‬
‫وه‬
‫يوم يأتي تأوي ُله يقول الذين َن ُس ُ‬
‫يؤمنون‪ .‬هل َينظرون إال تأويلَه؟ َ‬
‫قبل‪ :‬قد جاءت ُر ُسل ربنا بالحق‪ ،‬فهل لنا من ُش َفعاء فيشفعوا‬ ‫من ُ‬
‫غير الذي كنا نعمل؟} {وهم يصطرخون فيها‪:‬‬ ‫فنعمل َ‬
‫َ‬ ‫لنا أو ُن َر ُّد‬
‫غير الذي كنا نعمل}‪.‬‬ ‫نعمل صالح ًا َ‬
‫ْ‬ ‫ربنا أخرجنا‬ ‫َّ‬
‫يتذك ُر فيه‬
‫ّ‬ ‫عم ْركم ما‬
‫{أول َْم ُن ِّ‬
‫َ‬ ‫فيكون الجواب الحاسم‪:‬‬
‫تذكر‪ ،‬وجاءكم النذير؟ فذوقوا فما للظالمين من نصير}‪.‬‬ ‫َمن ّ‬
‫َفيلجؤون(‪ )1‬إلى َخ َزنة جهنم‪ ،‬كما يلجأ السجين إلى ُح ّراس‬
‫ضراً‪ ،‬يقولون‬‫السجن‪ ،‬يظن أنهم يملكون له نفع ًا أو يدفعون عنه ّ‬
‫ادعوا ربكم يخ ِّف ْف عنا يوم ًا من العذاب‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫جهنم‪ُ :‬‬‫{لخ َزنة ّ‬
‫َ‬
‫بالب ِّينات؟} ثم قالوا لهم ساخرين منهم‪:‬‬‫ك تأتيكم ُر ُسلكم َ‬
‫أول َْم َت ُ‬
‫َ‬
‫{فادعوا‪ ،‬وما ُدعاء الكافرين إال في ضالل}‬
‫فإذا يئسوا منهم عمدوا إلى مالك‪ ،‬رئيس حرس جهنم‬
‫ربك}‪ ،‬فأجابهم الجواب الصارم‬ ‫ض علينا ُّ‬ ‫{ونادوا‪ :‬يا مالِ ُك لِ َي ْق ِ‬
‫َ‬
‫الحاسم‪ ،‬قال‪{ :‬إنكم ماكثون}‪ .‬فيفكرون في أن يفتدوا أنفسهم‬
‫أن للذين‬
‫كما كانوا يفتدون في الدنيا بالمال‪ ،‬ولكن هيهات‪{ :‬ول َْو ّ‬
‫الفتدوا به من سوء العذاب‬
‫َ‬ ‫ظلموا ما في األرض جميع ًا ومثلَه معه‬
‫يوم القيامة‪ .‬وبدا لهم من اهلل ما لم يكونوا يحتسبون‪ ،‬وبدا لهم‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬من الناس من يضع همزة هذه الكلمة على األلف >فيلجأون<‪ ،‬وهو‬
‫غلط‪ ،‬ومنهم من يضعها على مدة >يلجئون< فيرسمون الهمزة على‬
‫كرسي بعد الجيم‪ ،‬والصواب ‪-‬فيما أرى‪ -‬هو ما رسمتها عليه‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}‪.‬‬
‫ِّ‬
‫فال تفيدهم هذه المحاوالت شيئ ًا‪ ،‬ويبقون في جهنم {ولهم‬
‫ِ‬
‫مقام ُع من حديد‪ ،‬ك ّلما أرادوا أن يخرجوا منها من َغ ٍّم أُعيدوا‬
‫{ذوقوا عذاب الحريق}‪.‬‬ ‫فيها} وقيل لهم‪ُ :‬‬
‫أحاديثهم واختالفهم‬

‫أهل الجنة إخوان على سرر متقابلين‪ ،‬قد ُنزع ما في‬


‫الطيب من القول فما في أحاديثهم‬ ‫صدورهم من ِغ ّل ُ‬
‫وهدوا إلى ّ‬
‫لغو وال كذب وال إثم‪ ،‬وأهل جهنم في نزاع وجدال‪:‬‬

‫{كلما دخلت أم ٌة لعنت أختها‪ ،‬حتى إذا َّاداراكوا فيها جميع ًا‬
‫هم عذاب ًا ِضعف ًا من‬ ‫ِ‬
‫ربنا هؤالء أض ّلونا فآت ْ‬
‫والهم َّ‬
‫أل ُ‬ ‫خراهم ُ‬
‫قالت أُ ُ‬
‫ألخراهم‬ ‫ضعف‪ ،‬ولكن ال تعلمون‪ .‬وقالت أُوالهم ُ‬ ‫ٌ‬ ‫النار‪ .‬قال لكلٍّ‬
‫فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}‪،‬‬
‫قتحم معكم ال مرحب ًا بهم‪ ،‬إنهم صالُوا النار‪ .‬قالوا‪:‬‬ ‫فوج ُم ٌ‬‫{هذا ٌ‬
‫ربنا‬‫قدمتموه لنا فبئس القرار‪ .‬قالوا‪َّ :‬‬ ‫بل أنتم ال مرحب ًا بكم‪ ،‬أنتم ّ‬
‫َمن قدم لنا هذا فز ِْده عذاب ًا ِض ْعف ًا في النار‪ .‬وقالوا‪ :‬ما لنا ال نرى‬
‫خري ًا أم زاغت عنهم‬ ‫ال كنا نعدهم من األشرار؟ أ ّت َخذناهم ِس ّ‬ ‫رجا ً‬
‫خاص ُم أهل النار}‪{ ،‬وقال الذين كفروا‪:‬‬ ‫األبصار؟ إن ذلك ل ََح ٌّق َت ُ‬
‫نجعلْهما تحت أقدامنا‬ ‫ربنا أرِنا اللذين أضلاّ نا من الجن واإلنس َ‬ ‫َّ‬
‫ليكونا من األسفلين}‪.‬‬

‫حوار بين أهل الجنة وأهل النار‬

‫سبق ما يشير إلى أن أهل الجنة يستطيعون أن يطّلعوا على‬

‫‪151‬‬
‫يتنادون ويتحدثون‪:‬‬ ‫َ‬ ‫أهل النار‪ ،‬وفي القرآن أن هؤالء وهؤالء‬
‫ربنا‬‫وع َدنا ُّ‬
‫وج ْدنا ما َ‬ ‫أن قد َ‬
‫أصحاب النار ْ‬
‫َ‬ ‫أصحاب الجنة‬
‫ُ‬ ‫{ونادى‬
‫مؤذ ٌن‬‫حق ًا‪ ،‬فهل وجدتم ما وعد ربكم حق ًا؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬فأذَّ َن ّ‬
‫أصحاب‬
‫َ‬ ‫أصحاب النار‬
‫ُ‬ ‫أن لعن ُة اهلل على الظالمين‪ .‬ونادى‬
‫بينهم ْ‬
‫الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اهلل‪ .‬قالوا‪ :‬إن اهلل‬
‫وغرتهم‬ ‫حرمهما على الكافرين‪ ،‬الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعب ًا َّ‬ ‫َّ‬
‫الحياة الدنيا}‪.‬‬
‫األعراف‬
‫فهم من اآليات أن >األعراف< مكان بين الجنة والنار‪،‬‬ ‫الذي ُي َ‬
‫يقوم فيه مدة من الزمان من قصرت به حسناته عن دخول الجنة‬
‫ولم تبلغ سيئاته إدخاله النار‪ ،‬يرون منه الجنة ويأملون في دخولها‬
‫ويخاطبون أهلها‪ ،‬ويرون النار ويعوذون باهلل منها ويكلمون‬
‫أصحابها‪ ،‬وبينهما (أي بين أهل الجنة وأهل النار) حجاب‪:‬‬
‫ونادوا أصحاب‬‫بسيماهم‪َ .‬‬
‫ُ‬ ‫{وعلى األعراف رجال ٌ يعرفون كلاّ ً‬
‫سالم عليكم‪ ،‬لم يدخلوها} أي أهل األعراف {وهم‬ ‫ٌ‬ ‫أن‬
‫الجنة ْ‬
‫أبصارهم تِ َ‬
‫لقاء أصحاب النار‬ ‫ُ‬ ‫يطمعون} في دخولها {وإذا ُصرفت‬
‫{ربنا ال تجعلنا مع القوم الظالمين}‪.‬‬
‫قالوا} أي قال أهل األعراف َّ‬
‫ورأوا في جهنم ناس ًا يعرفونهم كانوا في األرض من‬
‫الجبارين‪ ،‬يعتزون بجموعهم وأتباعهم وجماهير العامة التي‬
‫تؤيدهم فيتكبرون بذلك ويطغون‪ ،‬فنادوهم وقالوا لهم‪{ :‬ما أغنى‬
‫جمعكم وما كنتم تستكبرون}‪ .‬وسيرون يومئذ أنه ما أغنى‬ ‫ُ‬ ‫عنكم‬
‫ال‪ ،‬وأنهم قد‬‫عنهم شيئ ًا وال خفف عنهم من عذابهم كثيراً وال قلي ً‬
‫خ ّلفوه كله وراءهم وتركوه خلف ظهورهم‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫إنه ال ينزل مع الميت إذا مات صديق وال رفيق وال حليف‬
‫وال أليف وال جند وال أعوان‪ ،‬كلهم يتركه وينصرف عنه فينزل‬
‫بعث من القبر وحده‪ ،‬ويقف للحساب وحده‪.‬‬ ‫وي َ‬‫القبر وحده‪ُ ،‬‬
‫مشاهدة في الدنيا‪ ،‬ولكن َع ِميت األبصار عن رؤيتها‬
‫َ‬ ‫هذه حقيقة‬
‫وعميت البصائر عن إدراكها‪.‬‬
‫رب افتح أبصارنا حتى نرى الحقائق الدالّة عليك‪ ،‬و َن ِّو ْر‬
‫فيا ِّ‬
‫وجنبنا الفتن ما ظهر‬ ‫بصائرنا حتى نبصر الطريق الموصل إليك‪ّ ،‬‬
‫منها وما بطن‪ ،‬وارزقنا رضاك والجنة‪ ،‬وأعذنا من غضبك والنار‪،‬‬
‫يا ع ّفو يا غ ّفار‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪153‬‬
154
‫اإليمان بال َق َدر‬

‫معنى القدر والقضاء‬


‫الذي ُيفهم من اآليات التي ذكرت القدر‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫{وإن ِم ْن شيء إال عندنا خزائنه‪ ،‬وما ُن َن ِّزلُه إال ب َق َدر معلوم}‪،‬‬ ‫ْ‬
‫خلقناه ب َق َدر}‪ ،‬وقوله عن األرض‪{ :‬وبارك‬ ‫ُ‬ ‫وقوله‪{ :‬إ ّنا كلَّ شيء‬
‫قدرناه‬
‫وقدر فيها أقوا َتها}‪ ،‬وقوله عن القمر‪{ :‬والقمر َّ‬ ‫فيها َّ‬
‫وكل شيء‬ ‫ُّ‬ ‫فقدره تقديراً‪،‬‬ ‫منازل}‪ ،‬وقوله‪{ :‬وخلق كلَّ شيء َّ‬
‫سنها‬
‫عنده بمقدار}‪ ...‬الذي ُيفهم منها أن القدر هو السنن التي ّ‬
‫اهلل لهذا الكون والنظام الذي سلكه به(‪ )1‬والقوانين الطبيعية التي‬
‫وأن كل ما فيه قد ُخلق بمقادير معينة ونِ َسب محددة‪،‬‬ ‫سي َره عليها‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫مقداره وعدد ذراته وكمية‬
‫ُ‬ ‫إيجاده‬ ‫قبل‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫ق‬
‫ُ ِّ‬ ‫و‬ ‫إال‬ ‫موجود‬ ‫من‬ ‫فما‬
‫العناصر التي يتألف منها ونوعها وما يعرض له من امتزاج بغيره‬
‫وانفصال عنه وما يناله من حركة وسكون‪ ،‬كل ذلك محدد منذ‬
‫األزل‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬النظام هو الخيط الذي تنظم به حبات العقد والسبحة‪ ،‬والسلك الذي‬
‫ُتسلك به‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫وأنا أوضح الفرق بين القدر والقضاء بمثال (وهلل المثل‬
‫األعلى)‪ :‬العمارات التي تقام تعلَّق عليها لوحة فيها‪« :‬إن التصميم‬
‫للمهندس الفالني والتنفيذ للمقاول الفالني»‪ .‬فالمهندس يرسم‬
‫الخريطة ويعين علو البناء وسمك الجدران وما يوضع فيها من‬
‫الحديد واإلسمنت والحجر ونسبة كل منها وما يكون فيها من‬
‫أبواب ونوافذ‪ ،‬يقدر ذلك ويحدده‪ ،‬هذا مثال القدر‪ .‬والمقاول‬
‫ينفذ ما قدره المهندس‪ ،‬وهذا مثال القضاء‪ .‬وكالهما هلل وحده‪.‬‬
‫يبدل ‪-‬إذا أراد‪ -‬في بعض تفصيالت‬ ‫وكما يمكن للمهندس أن ّ‬
‫التصميم فاهلل ‪-‬من رحمته‪ -‬جعل الدعاء والصدقة سبب ًا في رفع‬
‫قدرها وحده ورفعها بالدعاء وحده(‪.)1‬‬ ‫مقدراً‪ّ ،‬‬
‫بعض ما كان َّ‬
‫الثواب والعقاب‬
‫هذا معنى القدر بوجه عام‪ ،‬وهو يشمل كل موجود أوجده‬
‫اهلل‪ ،‬قدر اهلل مقاديره وأحواله وعلم ما سيكون له وما يكون منه‪.‬‬
‫ومن جملة مخلوقات اهلل اإلنسان‪ ،‬وهنا تعترض مشكلة طالما‬
‫خاض فيها الخائضون وطالما كثر فيها الجدال‪ ،‬هي أمر الثواب‬
‫والعقاب‪ .‬إذا كان كل ما يقع في الكون مرسوم ًا ومعلوم ًا عند اهلل‬
‫من قبل وكانت سنن اهلل ال تبديل لها وال تغيير‪ ،‬فكيف يكون‬
‫______________________‬
‫يعدل‬
‫يبدل وال ِّ‬
‫جبراً عليه من األزل‪ ،‬ال َّ‬‫(‪ )1‬ولو كان كل ما َيفعل العبد ُم َ‬
‫يبق من فائدة لبعثة األنبياء وجهاد الكفار وال‬
‫وليس له اختيار فيه‪ ،‬لم َ‬
‫للدعاء‪ .‬وقد دعا األنبياء والخلفاء الراشدون وصلحاء كل أمة طالبين‬
‫دفع الشر وجلب الخير‪ .‬وقد رأيت عند وجيه الحجاز‪ ،‬الشيخ الجليل‬
‫محمد نصيف رحمه اهلل‪ ،‬رسالة مخطوطة للشوكاني في هذا المضمار‬
‫لم ُيكتب في موضوعها مثلها‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫الثواب والعقاب؟‬

‫والجواب اإلجمالي أنه ال بد من التفريق بين وضع اإلنسان‬


‫مغيبة ال‬
‫المشاهد الملموس وبين صفات اهلل وأعماله‪ ،‬وهي َّ‬ ‫َ‬
‫يستطيع العقل أن يحكم عليها وال يصل إلى إدراكها وال يعرف‬
‫عنها إال ما جاء بطريق الوحي‪.‬‬

‫اإلنسان مخير‬

‫وأنا أتكلم اآلن عن الوضع القائم المشاهد‪ ،‬وسأتكلم‬


‫بعد ذلك عن النصوص‪ .‬والواقع أن اإلنسان له حرية‪ ،‬له عقل‬
‫ويميز به بين الخير والشر‬
‫يستطيع أن يحكم به على األمور المادية ّ‬
‫والصالح والفساد‪ ،‬وله إرادة يستطيع أن يعمل بها الخير أو أن‬
‫يعمل الشر‪.‬‬
‫كل إنسان عاقل يدرك أن الصالة خير وأن الزنا شر‪ ،‬ويقدر‬
‫‪-‬إذا خرج من داره‪ -‬أن يمشي من جهة اليمين إلى المسجد فيصلي‬
‫أو يمشي من جهة الشمال إلى الماخور فيزني‪ .‬هل يشك أحد في‬
‫هذا؟ وإذا كانت يدي سليمة ما بها مرض أو شلل فأنا أستطيع أن‬
‫يدعي أنني ال أستطيع رفع يدي؟ وإذا‬ ‫أرفعها‪ ،‬فهل في الناس من َّ‬
‫كنت قادراً على رفع يدي رفعتها ألعطي فقيراً ديناراً أو رفعتها‬
‫ألضرب بريئ ًا بالعصا‪ ،‬فهل هذا كذاك؟ أليس إعطاء الفقير حسنة‬
‫تستحق الثواب وضرب البريء سيئة تستوجب العقاب؟ والتلميذ‬
‫يستطيع أن ُيمضي ليالي االمتحان باللهو واللعب ويستطيع أن‬
‫أحد أن‬
‫يدعي ٌ‬ ‫يشغلها بالجد والدرس‪ ،‬أليس هذا صحيح ًا؟ فهل ّ‬
‫الم ِج ّد كان محاباة؟‬
‫سقوط الالعب كان ظلم ًا أو أن نجاح ُ‬

‫‪157‬‬
‫واإلنسان مجبر‬
‫لقد استطعت أن أحرك يدي بإرادتي ألن اهلل جعل عضالتها‬
‫خاضعة لي‪ ،‬ولكني ال أستطيع التحكم في عضالت قلبي‬
‫ومعدتي‪ .‬وهذا التلميذ قد يكون ذكي ًا يدرس الدرس مرة فيحفظه‬
‫ثم يلهو ويتس ّلى‪ ،‬وقد يكون غبي ًا يدرس الليل والنهار فال يفهم‬
‫وال يحفظ‪ .‬وقد يكون بيته هادئ ًا وأبوه عالم ًا ييسر له أمر الدرس‪،‬‬
‫ال مشاكس ًا فال يستطيع أن يدرس‪.‬‬‫وقد يكون بيته صاخب ًا وأبوه جاه ً‬
‫فهو ال يملك منح نفسه الذكاء‪ ،‬وال يملك اختيار أبويه‪ ،‬وال‬
‫انتخاب الزمان الصالح ليوجد فيه وال البيئة الصالحة ُليمضي فيها‬
‫طفولته‪ ...‬هذه كلها أمور ال يملكها اإلنسان‪ ،‬كما ال يملك أن‬
‫يجعل أنفه أجمل وقامته أطول‪ ،‬فهو من هذه الناحية مجبر‪.‬‬
‫مخير في حدود الطاقة البشرية‬
‫حر َّ‬
‫مخير في حدود الطاقة البشرية‪ ،‬وكونه مجبراً‬
‫فاإلنسان حر َّ‬
‫في بعض الحاالت ال ينفي عنه صفة الحرية‪ ،‬كالسيارة والصخرة‪،‬‬
‫محركها ومدى‬
‫ولكن في حدود قوة ّ‬‫ْ‬ ‫ال ينكر أحد أن السيارة تمشي‬
‫احتمالها‪ ،‬فإن ُصنعت سيارة شحن ال يمكن أن تمشي بسرعة‬
‫مسيرها‬
‫َ‬ ‫فإن عاق‬
‫سيارة السباق‪ ،‬وإن ُصنعت لتمشي على األرض ْ‬
‫عائق لم تفقد صفة القدرة على السير‪ ،‬وال تكون كالصخرة‪.‬‬
‫وكذلك اإلنسان‪ :‬تعترضه في الحياة عوارض تعطل إرادته‪،‬‬
‫وعوائق تحول وجهته‪ ،‬وتؤثر فيه أمور ال يملك دفعها وال إبدالها‪،‬‬
‫ولكن ذلك ال ينفي أنه حر‪ .‬فهو إنسان حر يتصرف ضمن الحدود‬
‫اإلنسانية وليس إله ًا ليصنع ما يشاء‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الثواب والعقاب َمنوط بالحرية‬
‫كره على فعل الشر ال‬ ‫الم َ‬
‫فإن لم تكن حري ٌة فال عقاب‪ُ .‬‬
‫يعا َقب عليه‪ ،‬واهلل إنما يؤاخذنا على ما نملك الخيار في فعله أو‬
‫تركه‪ .‬لإلنسان ما كسب وعليه ما اكتسب‪ ،‬ال يكلف اهلل نفس ًا إال‬
‫وسعها‪ ،‬واهلل ال يضيع مثقال ذرة‪ .‬وإذا كانت المحاكم البشرية‬
‫‪-‬بعدالتها النسبية‪ -‬تقدر ظروف المتهم ودوافعه وبيئته واستعداده‬
‫وترى تقدير ذلك من العدل‪ ،‬فهل ُيترك ذلك في محكمة رب‬
‫العالمين التي فيها العدالة المطلقة؟ وهل يعا َقب المذنب الناشئ‬
‫مشردة‬
‫ّ‬ ‫من والدين فاسقين وبيئة فاسدة والذي عاش طفولة مهملة‬
‫كمن أذنب الذنب نفسه وهو ناشئ في أفضل البيئات مولود من‬ ‫َ‬
‫خير اآلباء؟‬
‫مقاييس العدالة‬
‫على أن أكثر علماء الكالم قد أخطؤوا أكبر الخطأ حين‬
‫طبقوا على اهلل مقاييس العدالة البشرية‪ .‬تنبهت إلى هذه الحقيقة‬
‫بواقعة وقعت لي‪ ،‬أسردها اآلن فيها عبرة وإن لم يكن موضع‬
‫سردها هذا الكتاب‪.‬‬
‫أدرس في مدرسة ابتدائية في الشام‪،‬‬
‫كنت سنة ‪ِّ 1931‬‬
‫وكنت في فورة الشباب وعنفوانه وفي رأسي خواطر وفي نفسي‬
‫غرور وعلى لساني بيان واندفاع‪ ،‬فعرضت لي شكوك في مسألة‬
‫القدر كنت أسأل عنها العلماء فال أجد عندهم الجواب الشافي‬
‫لها‪ ،‬فيدفعني الغرور إلى جدالهم وإزعاجهم‪ .‬حتى جاء يوم كنت‬
‫فيه في المدرسة وكنت أؤدب تلميذاً بالضرب (وكان الضرب من‬

‫‪159‬‬
‫وسائل التأديب في تلك األيام) ففجر الولد وتو ّقح وجعل يصرخ‬
‫ويقول‪ :‬هذا ظلم‪ ،‬أنت ظالم!‬

‫ثقوا ‪-‬يا أيها القراء‪ -‬أني لما سمعت ذلك سقطت العصا‬
‫من يدي ونسيت الولد والمدرسة‪ ،‬ورأيت كأني كنت في ظُ لمة‬
‫فأضيء لي مصباح منير‪ ،‬فقلت لنفسي‪ :‬إن التلميذ يرى ضربي إياه‬
‫ال‪ ،‬والعمل واحد‪ ،‬وإذا ذهب يشكو إلى أهله‬ ‫ظلم ًا وأنا أراه عد ً‬
‫قالوا له‪ :‬ال‪ ،‬ما هذا ظلم‪ ،‬هذا عدل‪ ،‬إنه يضربك لمصلحتك‪.‬‬

‫فإذا كان التلميذ ال يحق له أن يطبق مقاييسه الناقصة على‬


‫عدالة المعلم فكيف أطبق أنا مقاييسي البشرية للعدالة على اهلل؟‬
‫أال يمكن أن يكون الفعل الذي أراه ظلم ًا هو عين العدل؟ الولد‬
‫المريض يرى اإلبرة التي يدخلها الطبيب تحت جلده ظلم ًا وهي‬
‫في رأي أبيه عدل كل العدل‪ ،‬ألن الولد نظر إلى ألمها واألب‬
‫أبصر أثرها في شفاء الولد‪.‬‬

‫إن القاضي ال يستطيع أن يحكم في دعوى حتى يطّلع على‬


‫مراحلها كلها ووقائعها جميع ًا‪ ،‬ونحن إنما نطلع غالب ًا على طرف‬
‫من الواقع ونصدر أحكام ًا خاطئة بعد دراسات ناقصة‪ .‬لو تهت‬
‫فمرت سيارة فخمة دعاكما صاحبها‬ ‫أنت ورفيقك في الصحراء‪ّ ،‬‬
‫وأركبكما فيها‪ ،‬فأخرج صديقك سكينة فمزق جلد المقعد‪ ،‬أال‬
‫ترى عمله ظلم ًا؟ إنه ظلم بال شك‪ ،‬ولكن إذا علمت أن أمامك‬
‫عصابة من قطاع الطريق ك ّلما رأوا سيارة سليمة أخذوها وإن كانت‬
‫ممزقة المقعدة تركوها‪ ،‬أال يتحول هذا الفعل في نظرك من ظلم‬
‫إلى عدل؟‬

‫‪160‬‬
‫بل إن صاحب السيارة لو عرف هذه الحقيقة لمزق جلد‬
‫مقعدها بنفسه ألنه يفضل أن تبقى السيارة له ومقعدها ممزق عن‬
‫أن تذهب كلها وهي سليمة؟ أليس هذا صحيح ًا؟ هذه هي قصة‬
‫ال نفهم‬
‫لما ركبا في السفينة وخرقها‪ ،‬ضربها اهلل مث ً‬
‫الخضر وموسى ّ‬
‫منه ألاّ نسرع إلى إصدار األحكام قبل اإلحاطة بالوقائع‪.‬‬
‫مع النصوص‬
‫ال بد لي قبل الكالم على النصوص من التذكير بهذه القواعد‪:‬‬
‫‪ -1‬إن عمل العقل منحصر بفهم النصوص وال يستطيع أن‬
‫القدر بالتفصيل‪ ،‬ألنه ‪-‬كما قدمنا‪ -‬عاجز‬
‫يدرك من نفسه حقيقة َ‬
‫عن الخوض فيما وراء المادة‪ ،‬لذلك ينبغي اجتناب المباحث التي‬
‫يوضحها النص‪.‬‬
‫لم ِّ‬
‫‪ -2‬أن نعرف أن األصل هو القرآن‪ ،‬فإن تعارضت آية منه‬
‫وحديث من أحاديث اآلحاد ولم يمكن التوفيق بينهما على شكل‬‫ٌ‬
‫مقبول أخذنا باآلية(‪.)1‬‬
‫‪ -3‬أنه ال يمكن أن يكون في القرآن أو صحيح الحديث‬
‫نص صريح ينكر وجود أمر واقع مشاهد ملموس‪ ،‬ألن الذي أنزل‬
‫ربنا ما أوجده‪.‬‬
‫القرآن هو الذي أوجد الواقع‪ ،‬وال ينفي ُّ‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬من القواعد المعروفة عند أهل المصطلح أن الرسول ’ ال يقول‬
‫فإن ُروي حديث‬
‫المشاهد‪ْ ،‬‬
‫َ‬ ‫ما يناقض القرآن وال ما يخالف الواقع‬
‫مناقض للقرآن أو يخالف الواقع المشاهد نحكم أن الرسول لم يقله‪،‬‬
‫ولو ُروي بسند صحيح‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫ونفي‬
‫ُ‬ ‫‪ -4‬إن كثيراً من النصوص التي ُيفهم منها اإلجبار‬
‫االختيار عن اإلنسان‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬هو الذي ُي َص ّوركم في‬
‫األرحام كيف يشاء} فال يملك الوليد الذي ُص ِّور بنت ًا أن يجعل‬
‫يصير لونه أبيض‪ .‬ومثلها قوله‬ ‫نفسه صبي ًا وال األسود اللون أن ِّ‬
‫تعالى‪{ :‬وربك يخل ُُق ما يشاء ويختار‪ ،‬ما كان لهم ِ‬
‫الخ َي َرة}‪ ،‬وما‬
‫يشير إلى األحداث الكونية التي هي فوق طاقة اإلنسان كقوله‪:‬‬
‫{أفرأيتم ما تحرثون‪ ،‬أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ لو نشاء‬
‫كاشف له‬
‫َ‬ ‫بض ٍّر فال‬
‫يمس ْسك اهلل ُ‬
‫{وإن َ‬
‫ْ‬ ‫ل ََجعلناه ُحطام ًا}‪ ،‬ومثلها‪:‬‬
‫إال هو}‪ ،‬وما يدل على الظروف المؤدية إلى الصالح أو الفساد‬
‫سواها‪ ،‬فألهمها‬ ‫ٍ‬
‫{ونفس وما ّ‬ ‫وليست من صنع اإلنسان‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫ُفجورها وتقواها}‪ ،‬ومن اآليات التي جاءت فيها كلمة الهداية‬
‫النجدين} وقوله‪:‬‬‫َ‬ ‫بمعنى الداللة واإلرشاد‪ ،‬كقوله‪{ :‬وهديناه‬
‫وإما َكفوراً}‪ ...‬الذي ظهر لي أن‬ ‫{إنا هديناه السبيل‪ّ ،‬إما شاكراً ّ‬
‫أكثر هذه النصوص تشير إلى األمور التي تؤثر في صالح اإلنسان‬
‫وفساده بعض التأثير وليست من صنعه‪ ،‬وقد قدمت القول بأن اهلل‬
‫ال يؤاخذ العبد عليها‪ ،‬وال يمكن أن يجبر اهلل عبده على أمر بحيث‬
‫ال يستطيع تركه ثم يعاقب عليه‪.‬‬
‫هذه هي النصوص التي وقف عندها أصحاب الفرق المنحرفة‬
‫فأساؤوا فهمها وأخطؤوا في تطبيقها‪ ،‬وكان عليهم‪:‬‬
‫‪ -1‬التفريق بين آيات اإلخبار عن مشيئة اهلل وقدرته وتصرفه‬
‫في ملكه‪ ،‬واآليات المتعلقة بالثواب والعقاب‪.‬‬
‫‪ -2‬اعتبار مجموع النصوص ال الوقوف عند أفرادها‪،‬‬
‫تتب َع مجموع النصوص رأى أن القرآن يثبت لإلنسان الحرية‬
‫ومن ّ‬
‫َ‬

‫‪162‬‬
‫واإلرادة اللتين يترتب عليهما الثواب والعقاب‪.‬‬
‫{ي ِض ّل به كثيراً ويهدي به‬
‫فمن يقرأ قوله تعالى عن القرآن‪ُ :‬‬
‫قدره‬‫مقرر ّ‬
‫والضالل أمر َّ‬
‫ّ‬ ‫كثيراً} يفهم منه بادي الرأي(‪ )1‬أن الهدى‬
‫اهلل على العباد‪ ،‬فجعل هؤالء ضالين وهؤالء مهتدين‪ .‬ولكن إذا‬
‫للم ّتقين} وقوله {وما ُي ِض ّل به إال‬
‫دى ُ‬ ‫{ه ً‬
‫انتبه إلى قوله تعالى ُ‬
‫الفاسقين} علم أن الهدى والضالل ليس إلزام ًا من اهلل ولكنه تبع‬
‫متقي ًا كان القرآن هدى له‪ ،‬وإن كان فاسق ًا‬
‫لحالة المرء‪ ،‬فإن كان ّ‬
‫ال‪.‬‬
‫كان له ضال ً‬
‫وتبقى مع ذلك الشبهة قائمة‪ ،‬فيقول القائل‪ :‬وما يدريني إذا‬
‫كان اهلل قد جعلني مع المتقين أو جعلني مع الفاسقين؟ فإذا انتبه‬
‫ويقيمون الصالة‬ ‫{للم ّتقين الذي ُيؤمنون بالغيب ُ‬
‫ُ‬ ‫إلى قوله تعالى‬
‫ومما رزقناهم ُينفقون} وقوله {إال الفاسقين الذين ينقضون عهد‬
‫ويفسدون في‬ ‫وصل ُ‬‫اهلل من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اهلل به أن ُي َ‬
‫األرض} علم أن المسألة ليس فيها إجبار‪ ،‬وأن مردها إلى صفات‬
‫وأعمال داخلة في نطاق حرية اإلنسان وطاقته‪.‬‬
‫فأنت تستطيع أن تؤمن بالغيب وتقيم الصالة وتنفق في سبيل‬
‫اهلل وتستطيع أن تنقض العهد وتقطع الموصول وتفسد في األرض‪،‬‬
‫فإن عملت الثالث‬
‫أمور في طاقتك عملها وفي إمكانك تركها‪ْ ،‬‬
‫األولى كنت بذلك من المتقين فاستحققت الهداية‪ ،‬وإن عملت‬
‫الثالث األخرى كنت بذلك من الفاسقين فاستحققت الضالل‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬في قولك >بادي الرأي< و>بادئ الرأي< أي من النظرة األولى ومن‬
‫أول وهلة‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫بحث عقيم‬
‫وهنا يرد قولهم‪ :‬هل عملت السوء بمشيئة اهلل أم ال؟ هل‬
‫كنت أستطيع ألاّ أعمله؟ وهل خلقت أنا عملي؟ وأمثال هذه‬
‫األمور التي مأل بحثها كتب علم الكالم‪.‬‬
‫وذلك كله بحث عقيم ألن الخالق ال يقاس على المخلوقين‬
‫عما يفعل وإنما‬
‫والعقل ال يحكم على اهلل وصفاته‪ ،‬واهلل ال ُيسأل ّ‬
‫َيسألنا عن أفعالنا‪ ،‬واهلل عادل ال شك في عدله‪ ،‬وخير لنا أن‬
‫ننظر إلى أنفسنا وأن نحسن استعمال عقولنا ونعمل على توجيه‬
‫إرادتنا إلى الخير‪ ،‬وندع المباحث المتعلقة باهلل التي لم يتكلم فيها‬
‫السلف وال شغلوا أنفسهم بها‪.‬‬
‫االحتجاج بالقدر‬
‫ومن العصاة من يحتج لعصيانه بالقدر؛ تقول للزاني‪ :‬لِ َم‬
‫زنيت؟ فيقول‪ :‬ألنه ُق ِّدر علي! وهي حجة واهية مردودة من‬
‫ّ‬
‫وجهين‪:‬‬
‫‪ -1‬ألن الحساب والعقاب يكون على العمل وعلى الدوافع‬
‫إليه والبواعث عليه‪ ،‬وهذا الزاني لم يطّلع على اللوح المحفوظ‬
‫وير أن الزنا مكتوب عليه كما يزعم ثم يذهب ليزني تنفيذاً لحكم‬
‫َ‬
‫القدر‪ ،‬وإنما تبع الشهوة وطلب اللذة العاجلة واستجاب لنداء‬
‫الشيطان‪ .‬وقد احتج المشركون بمثل هذه الحجة فقالوا‪{ :‬لو شاء‬
‫فرد اهلل عليهم بقوله‪ُ { :‬ق ْل هل عندكم من علم‬
‫اهلل ما أشركنا}‪ّ ،‬‬
‫مقدر‬
‫فتخرجوه لنا؟} أي‪ :‬من أين عرفتم قبل أن تشركوا أن الشرك َّ‬
‫عليكم؟ وهل جربتم اإليمان فوجدتم أنه ممتنع عليكم؟‬

‫‪164‬‬
‫المحتج بالقدر لو كان صادق ًا لرضي بكل ما‬
‫ّ‬ ‫‪ -2‬وألن هذا‬
‫يقدر اهلل عليه‪ ،‬من فقر ومرض وجوع و َف ْقد حبيب وذهاب مال‪،‬‬
‫مقدر عليه‪ ،‬وال يسكن إليه‪،‬‬
‫والمشاهد أنه ال يرضى بذلك‪ ،‬وهو َّ‬
‫َ‬
‫بل هو يعمل لجمع المال ودفع المرض وإذهاب الجوع‪ ،‬ويألم‬
‫سخر قواه ك ّلها واستعمل‬
‫لفقد الحبيب وذهاب المال‪ .‬فلماذا َّ‬
‫يسخر عقله لقمع‬
‫عواطفه لجلب لذة الدنيا ودرء األلم فيها‪ ،‬ولم ِّ‬
‫الشهوة ومنع النفس من الحرام الذي ترغب فيه وهو يعلم ما في‬
‫عقبه من العذاب‪.‬‬

‫نحن والسلف أمام عقيدة القدر‬

‫خصوم اإلسالم يتهمون المسلمين اليوم بالتواكل والتكاسل‬


‫ألنهم يؤمنون بالقدر‪ ،‬وإن كان في هذه التهمة بعض الحق كان‬
‫السبب فيها سوء فهم كثير من المتأخرين لعقيدة القدر‪ .‬لقد‬
‫اتخذها كثير من المسلمين الجاهلين حجة الرتكاب المعاصي‬
‫وسبب ًا للكسل والخمول‪ ،‬مع أن سلفنا قد اتخذوا منها دافع ًا إلى‬
‫العمل والجهاد‪.‬‬

‫قرأنا أن الرزق مقسوم‪> :‬ما كان لك سوف يأتيك على‬


‫بقوتك< فظن قوم أن مقتضى‬ ‫ضعفك وما كان لغيرك لن تناله ّ‬
‫ذلك ترك الكسب وإهمال السعي‪ ،‬وأن نقعد بال عمل وننتظر أن‬
‫تمطرنا السماء ذهب ًا وفضة‪ ،‬وأن نسافر بال مال وال استعداد‪ .‬وقرأ‬
‫ذلك السلف ففهموا منه أن عليهم أن يعملوا كل ما في وسعهم‬
‫وأن يبذلوا لجمع المال من الحالل كل ما في طاقاتهم‪ ،‬ثم إذا‬
‫استفرغوا الجهد رضوا بما جاءهم‪ ،‬فلم يسخطوا على ربهم ولم‬

‫‪165‬‬
‫يحملوا الحسد لمن نال من إخوانهم أكثر مما نالوا‪ ،‬ولم ُيبطرهم‬
‫الغنى ولم يؤلمهم الفقر‪.‬‬
‫وسمعنا أن األجل محتوم فاتخذنا ذلك سبب ًا إلهمال التو ِّقي‬
‫واالحتياط وإضاعة المسؤوليات‪ ،‬والخلط بين الجريمة المتعمدة‬
‫وبين القدر الذي وقع بال ُجرم(‪ .)1‬وسمع ذلك أجدادنا فقالوا‪ :‬إذا‬
‫كان األجل محتوم ًا ال يموت أحد قبل موعده ولو خاض اللهب‬
‫وتلقى بصدره الرماح وال يتأخر عن موعده ولو اعتصم في حصن‬
‫له سبعة أسوار فلنعمل لما يرضي اهلل‪ :‬نجاهد بأنفسنا في سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬ال نخشى الموت ألن الموت محتوم له موعد ال يسبقه وال‬
‫يتأخر عنه‪ ،‬ولنجاهد بألسنتنا في إنكار المنكر ومواجهة الطاغي‬
‫الظالم بكلمة الحق‪ .‬فأقبلوا ال يخشون في الحق أحداً وال يخافون‬
‫إال اهلل شيئ ًا‪.‬‬
‫مقدر وأهملنا دراسة سنن اهلل في الكون‬
‫وفهمنا أن كل شيء َّ‬
‫وقوانين الطبيعة التي جعلها ربنا سبب ًا للنفع والضرر‪ ،‬وكان سلفنا‬
‫هم علماءها وهم الذين يعرفونها ويستفيدون منها‪ ،‬فكان من نتيجة‬
‫ذلك أن هبطنا من الذروة إلى الحضيض ونزلنا من األعالي إلى‬
‫األسفل‪ .‬وكانوا باإليمان سادة الدنيا وقادتها وأساتذتها‪ ،‬فصرنا‬
‫المقودين‪ ،‬وفتحوا بسيف الحق ثلث العالم المتحضر‬ ‫المسودين َ‬ ‫َ‬
‫وفتح عدونا بسيف الباطل قلب بالدنا‪.‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬يسرع السائق حتى إذا اصطدم قال‪ :‬إنه القدر! ويهمل التلميذ‪ ،‬فإذا‬
‫رسب احتج بالقدر!‬

‫‪166‬‬
‫تقديس األموات‬
‫ولما رأينا (أي رأى بعضنا) أن حياتنا كلها قد فسدت وأن‬
‫تحول يأسنا‬
‫عز األجداد وصالحهم ّ‬ ‫األحياء منا قد ذلّوا وذكرنا ّ‬
‫وصغار أحيائنا إلى تعظيم أمواتنا‪،‬‬‫من الحاضر إلى أمل بالماضي َ‬
‫فنشأت من هنا مظاهر تقديس األموات واالعتماد عليهم وانتظار‬
‫المدد منهم‪ .‬نظن أن نجاحهم وخيبتنا تمكنهم من إمدادنا‪ ،‬فصرنا‬
‫نقيم األضرحة الفخمة والقباب العالية عليها‪ ،‬ونبدي من التقديس‬
‫لها ما رجع بنا إلى قريب من عقائد الجاهلية‪ ،‬وصرنا ننذر لهذه‬
‫القبور ونتوسل بها التوسل الممنوع‪ ،‬وربما طلبنا من أصحابها‬
‫النفع والضرر بال أسباب ظاهرة وال واسطة ملموسة‪ ،‬وكل ذلك‬
‫رد فعل لسوء حاضرنا وجالل ماضينا‪.‬‬

‫خلط ال مبرر له‬


‫وكل ذلك جر إليه الفهم الخاطئ منا لعقيدة القدر‪ ،‬هذا‬
‫الفهم الذي جعل فينا من يخلط بين النصوص الواردة في األمور‬
‫اإلرادية التي نملك التصرف فيها‪ ،‬واألمور التي جعلها اهلل فوق‬
‫إرادتنا وأعلى من أن تصل إليها طاقاتنا‪ .‬ونشأ هذا الخلط العجيب‬
‫مسير ال إرادة له‪،‬‬
‫مد ٍع أن اإلنسان َّ‬
‫في المذاهب الكالمية‪ ،‬فمن َّ‬
‫ال‪ -‬وال عمل له في‬‫ألنه ال يستطيع أن يتحكم في عضلة قلبه ‪-‬مث ً‬
‫اختيار أبويه وانتخاب بيئته األولى‪ ،‬ونسوا أن اهلل أعطاه عضالت‬
‫ال يستطيع به أن يصحح (على قدر اإلمكان)‬‫يتحكم فيها وأعطاه عق ً‬
‫أخطاء بيئته وآثار تربيته‪.‬‬
‫وتوسع آخرون فأعطوا إرادة اإلنسان أكثر مما لها في‬

‫‪167‬‬
‫الواقع‪ ،‬وخلطوا تبع ًا لذلك في أمر الثواب والعقاب‪ ،‬ونسوا أن اهلل‬
‫ال يحاسب اإلنسان إال في حدود حريته وقدرته وال يؤاخذه على‬
‫ما أُكره عليه‪ ،‬وتخبطّوا في البحث عن عدالة اهلل ونسوا الحقيقة‬
‫األولى‪ ،‬وهي أن عدالة اهلل ال تقاس بمقياس العدالة البشرية‪.‬‬
‫وطريق السالمة في عقيدة القدر وفي سائر العقائد أن نعود‬‫ُ‬
‫فيها إلى المنبع األصلي‪ :‬القرآن‪ ،‬وأن نتبع فيها ما كان عليه السلف‬
‫من الصحابة والتابعين‪ ،‬وأن ندع هذه البحوث العقيمة التي أثارتها‬
‫الدراسة الناقصة للفلسفة اليونانية البدائية السطحية‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪168‬‬
‫اإليمان بالغيب‬

‫عالم الغيب‬

‫قدمنا في قواعد العقائد أن الحواس ال تصل إلى إدراك كل‬


‫موجود وأن في الوجود عوالم حقيقية ال ندركها بحواسنا‪ ،‬أقربها‬
‫إلينا الروح التي يحيا بها كل واحد منا‪َ .‬من ينكر وجود الروح؟ ال‬
‫المشاهد هو‬
‫َ‬ ‫ماهية الروح؟ ال أحد‪ .‬فالعالَم المدرك‬
‫أحد‪َ .‬من أدرك ّ‬
‫المغيب عن حواسنا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الذي سماه القرآن >عالم الشهادة<‪ ،‬والعالم‬
‫عالم ما وراء المادة(‪ )1‬هو >عالم الغيب<‪.‬‬

‫أما عالم الشهادة فيستوي في اإليمان به والتصديق بوجوده‬


‫وجوده‪ ،‬فال‬
‫َ‬ ‫الناس جميع ًا ‪ ،‬حتى الحيوان األعجم يدرك ّ‬
‫بحسه‬ ‫(‪)2‬‬

‫فضل في اإليمان به ألحد على أحد ألن ذلك من العلم الضروري‪،‬‬


‫ويصدق‬
‫ّ‬ ‫ولكن الفضل في اإليمان بالغيب‪ ،‬في من يؤمن بما ال يراه‬
‫ّ‬
‫بوجوده اعتماداً على صدق الخبر به‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪metaphysique )1‬‬
‫(‪ )2‬وإن كان منه ما ال يدركه البشر‪ ،‬كاألجرام السماوية البعيدة التي‬
‫تفصلنا عنها ماليين السنين الضوئية‪ ،‬والضوء يقطع ثالثمئة ألف كيل‬
‫في الثانية‪ ،‬فقد يوجد جرم ويفنى قبل أن يصل ضوؤه إلينا‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫وهذا ما يمتاز به المتقون‪ ،‬ولذلك جعل اهلل أول صفة وصف‬
‫بها المتقين في أول سورة البقرة أنهم {الذين ُيؤمنون بالغيب}‪.‬‬

‫كيف نؤمن بالغيب؟‬

‫كيف نؤمن بالغيب ولم يعطنا اهلل الحواس التي ندركه بها؟ إننا‬
‫لو ُتركنا لحواسنا نعتمد عليها وحدها ولعقولنا نحكم بها على ما جاء‬
‫من طريق الحواس فقط لبقينا على جهلنا بما وراء المادة‪ ،‬فكان من‬
‫حكمة اهلل ومن رحمته بنا أنه لم يترك العقل في عجزه عن إدراكه‪،‬‬
‫بل أخبره بما يحتاج إليه من خبرها‪.‬‬

‫وهذا اإلخبار ال يأتي من داخل النفس‪ ،‬بل من خارجها‪،‬‬


‫وليس من قبيل الحدس النفسي وال اإللهام الروحي وال الوميض‬
‫الذهني وال االستنتاج العقلي‪ .‬ليس صادراً عن الطاقة اإلنسانية‪،‬‬
‫ولكنه ٍ‬
‫آت من خارجها بطريق من الطرق الثالثة‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن يضع اهلل هذه األخبار في اإلنسان بإلهام أو بمنام‪،‬‬


‫أو بنوع من الت ّلقي الذي ال عمل فيه لإلنسان وال يستطيع الوصول‬
‫إليه باجتهاد‪ ،‬فيحس بها ويعبر عنها‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬بأن يسمعها من غير أن يرى قائلها الحقيقي‪ ،‬فتصل إلى‬


‫أذنه ويدركها ويعيها‪.‬‬

‫الثالث (وهو األعم األكثر)‪ :‬أن يرسل اهلل واحداً من مخلوقاته‬


‫المغيبة عنا‪ ،‬التي تسمى المالئكة‪ ،‬إلى واحد من‬ ‫َّ‬ ‫الخيرة المطيعة‬
‫ِّ‬
‫البشر يختاره اهلل ويصطفيه‪ ،‬فيبلغه رسالة اهلل ويأمره أن يبلغها الناس‪.‬‬

‫فهذه ثالثة طرق ليس لها رابع‪{ :‬وما كان لبش ٍر أن ُيك ّلمه اهلل‬

‫‪170‬‬
‫ال ُفيوحي بإذنه ما‬
‫إال وحي ًا‪ ،‬أو من وراء حجاب‪ ،‬أو يرسل رسو ً‬
‫يشاء}‪.‬‬
‫الغيب الذي يجب اإليمان به‬

‫والغيب الذي هو ركن اإليمان والذي يكفر ُمنكره ويخرج من‬


‫م ّلة اإلسالم هو ما جاء في القرآن‪ ،‬أما الغيب الذي ورد في السنة‬
‫الصحيحة فال يكفر منكره ويخرج من الملة‪ ،‬بل يفسق‪.‬‬

‫وهذا الفرق بين الكتاب والسنة يحتاج إلى شيء من البيان‪،‬‬


‫ذلك أن ما أبلغه الرسول ’ من الوحي وما نطق به من الحديث‬
‫الحجية(‪ .)1‬فالقرآن وحي من اهلل‬
‫ّ‬ ‫هما في األصل في درجة واحدة من‬
‫بلفظه ومعناه‪ ،‬والحديث وحي من اهلل بالمعنى واللفظ لفظ الرسول‪،‬‬
‫وحى}‪.‬‬ ‫حي ُي َ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬وما ِ‬
‫إن هو إلاّ َو ٌ‬
‫ينط ُق عن الهوى‪ْ ،‬‬
‫والصحابة الذين سمعوا من الرسول ’ اآلية يبلغها والحديث ينطق‬
‫يفرقون بينهما في وجوب العمل وفي الحجية‪.‬‬
‫به لم يكونوا ِّ‬
‫ال متواتراً‬
‫ولكن الفرق نشأ من الرواية والنقل‪ ،‬فالقرآن ُنقل نق ً‬
‫بحيث نجزم بأن النص الذي في المصحف هو الذي نزل به جبريل‬
‫أصحابه‪ ،‬ما نقص منه‬‫َ‬ ‫محمد‬
‫ٌ‬ ‫على محمد ’ وهو الذي ب ّلغه‬
‫شيء(‪ )2‬وال زيد فيه شيء وال أبدل منه شيء‪ .‬أما الحديث فنقل‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أي من قوة االحتجاج بهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬ومن اعتقد ‪-‬من أتباع الفرق المنسوبة إلى اإلسالم‪ -‬أن الذي في‬
‫المصاحف ليس القرآن كله وأن من القرآن ما ليس في المصاحف التي‬
‫يتداولها المسلمون كفر وخرج من م ّلة اإلسالم‪ ،‬إال ما كان من اآليات‬
‫التي قال قوم إنها منسوخة التالوة‪ ،‬ولم يثبت ذلك بخبر متواتر‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫جلَّه (إن لم نقل ك ّله) آحاد عن آحاد‪ ،‬ولقد بذل علماء الحديث‬
‫في تمحيص روايته والفحص عن رجاله أقصى ما تصل إليه الطاقة‬
‫البشرية‪ ،‬ولكنا ال نقطع ‪-‬مع ذلك‪ -‬بأن الحديث الذي رواه البخاري‬
‫ومسلم وأصحاب السنن قد قاله ’ وأنه ُنقل بلفظه كما نقطع بأن ما‬
‫في المصحف هو القرآن المنزل‪.‬‬

‫ولما كانت العقيدة أساس الدين ويترتب على اإلخالل بها‬


‫الكفر والردة‪ ،‬وكان ال ُيحكم على مسلم بالردة ما دام في األمر‬
‫احتمال ألاّ يكون كفر‪ ،‬لذلك قلنا‪ :‬إن من أنكر عقيدة جاءت بصريح‬
‫القرآن يكفر ومن أنكر عقيدة وردت في صحيح السنة يفسق وال‬
‫ردها عناداً وخالف ًا‪ ،‬أما إذا كان من أهل الحديث‬‫إن ّ‬
‫يكفر‪ .‬هذا ْ‬
‫ورد الحديث لع ّلة في سنده أو متنه فال شيء عليه‪.‬‬
‫العارفين بعلله ّ‬
‫المغيبات‬
‫َّ‬
‫المغيبات التي أخبر بها الشرع ويجب بها اإليمان ويترتب على‬
‫ّ‬
‫إنكارها الكفر هي المالئكة والجن‪ ،‬والكتب والرسل‪ ،‬واليوم اآلخر‬
‫والقدر‪ ،‬وما‬
‫َ‬ ‫وما فيه من الحساب وما بعده من الثواب والعقاب‪،‬‬
‫جاء في القرآن عن خلق السماوات واألرض وخلق اإلنسان‪ ،‬وكل‬
‫ما أخبر به القرآن‪.‬‬

‫وردها‬
‫شبهة ّ‬
‫الماديون الذي ال يؤمنون إال بما يحسون به نرد عليهم بالقاعدة‬
‫شترط من عدم الوجدان‬ ‫الثالثة من قواعد العقائد التي تبين أنه ال ُي َ‬
‫عدم الوجود‪ ،‬وأنه ال يحق لنا أن ننكر أشياء لمجرد أننا ال نحس‬
‫بوجودها‪ ،‬وبالقاعدة التي ّبينا فيها أن الخبر الصادق يفيد اليقين كما‬

‫‪172‬‬
‫يفيده الحس‪ ،‬وما دام قد ثبت صدق محمد ’ في إخباره عن اهلل‬
‫‪-‬معشر‬
‫َ‬ ‫وثبت نقل هذا الخبر إلينا فقد حصل من هنا اليقين لدينا‬
‫المغيبات‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫المؤمنين‪ -‬بوجود هذه‬

‫أقسام الغيب‬

‫عالم الغيب على أقسام‪ ،‬كل قسم منها يسمى غيب ًا‪:‬‬

‫غيرنا من البشر‪ ،‬كقصة‬


‫‪ -1‬قسم لم ندركه نحن ولكن أدركه ُ‬
‫سماها اهلل غيب ًا ألن محمداً ’ وقومه لم يدركوها‬
‫ال‪ّ ،‬‬‫يوسف مث ً‬
‫بحواسهم‪ ،‬لم َي َروها ولم يسمعوا بها‪ ،‬ولكن بني إسرائيل (أعني‬
‫أوالد يعقوب‪ :‬يوسف وإخوته) أدركوها وعاشوها وكانت هي وقائع‬
‫حياتهم‪.‬‬

‫ال أن‬
‫‪ -2‬وقسم لم يدركه البشر‪ ،‬وإن كان من الممكن عق ً‬
‫قدم اهلل موعد إيجادهم‪ ،‬كالحوادث التي كانت في‬ ‫يدركوه لو ّ‬
‫األرض من قبلهم وأخبار المخلوقات التي كانت تسكنها‪ ،‬ولكنهم‬
‫لم يعرفوا عنها في الواقع وعن أخبار خلق أبيهم آدم وبداية الحياة‬
‫البشرية إال ما جاءهم من طريق الوحي‪.‬‬

‫وقسم ال يمكن إدراكه بالحواس وال الحكم عليه بالعقل‬


‫ٌ‬ ‫‪-3‬‬
‫غيبه عنا من‬‫وال اإلحاطة بحقيقته بالخيال‪ ،‬كصفات اهلل وما ّ‬
‫مخلوقاته‪ ،‬كالمالئكة والجن والشياطين وأحوال يوم القيامة وما‬
‫بعده من الحساب والثواب والعقاب‪.‬‬

‫وردها‬
‫شبهة ّ‬
‫قد يقول قائل‪ :‬إن من أمور الغيب التي استأثر اهلل بها إنزال‬

‫‪173‬‬
‫جو‬
‫الغيث والعلم بما في األرحام‪ ،‬فكيف تخبر النشرة الجوية عن ّ‬
‫عما في بطن الحامل‪ :‬هل‬
‫أصحو أم ماطر؟ ويكشف العلم ّ‬
‫ٌ‬ ‫الغد‪،‬‬
‫هو ذكر أم أنثى؟‬

‫والجواب‪:‬‬

‫‪ -1‬إن الذي أنزل القرآن هو اهلل وإن الذي خلق الكون وما‬
‫يقع فيه هو اهلل‪ ،‬فال يمكن أن يأتي في القرآن نص صريح قاطع‬
‫مشاهد ملموس‪ ،‬فإذا وجدنا نص ًا يظهر أنه مخالف‬
‫َ‬ ‫بإنكار أمر قائم‬
‫للواقع ند ّقق النظر فيه فنرى أن المعنى المقصود منه غير ما بدا‬
‫لنا(‪.)1‬‬
‫‪ -2‬النشرة الجوية إنما ُتخبر عن المطر بعد رؤية أسبابه‬
‫وبيان ذلك أن المطر الذي ينزل في سواحل الشام‬‫ُ‬ ‫وتمام خلقه‪،‬‬
‫تبين من العلم بسنن اهلل في الكون أن سببه الهواء الذي يجيء‬
‫ال ّ‬
‫مث ً‬
‫من البحر األطلسي‪ ،‬فيمر بمضيق جبل طارق‪ ،‬فيصطدم بكتلة‬
‫هوائية راكدة‪ ،‬فتتشكل السحب من اختالف درجة حرارة الهواء‬
‫القادم والهواء الراكد‪ .‬فإذا رأوه علموا ‪-‬استناداً إلى معرفة سنن‬
‫اهلل‪ -‬أنه سيتوجه إلى ساحل الشام بعد كذا‪.‬‬
‫وقدر متى يصل إلى‬
‫كمن شاهد مو ِّزع البريد من نافذته ّ‬
‫فهو َ‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬وهذا إذا كان النص آية من القرآن‪ .‬وليس في القرآن آية تدل داللة‬
‫قطعية على نفي أمر حكم العقل بوجوده حكم ًا قطعي ًا‪ ،‬وأما إن كان‬
‫النص حديث آحاد (أي نقله واحد عن واحد) فإننا نجزم أن الرسول‬
‫لم يقله‪ ،‬ألن الرسول صلوات اهلل عليه ال يقول ما يخالف القرآن وال‬
‫الواقع المحسوس‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫داره‪ ،‬فقال ألهله‪ :‬سيأتي موزع البريد بعد خمس دقائق‪ .‬وكمن‬
‫يحمل منظاراً يضعه على عينيه فيرى السيارة القادمة فيخبر بها قبل‬
‫ولكن رأى الواقع‬
‫ْ‬ ‫ظهورها للعيان‪ ،‬ما علم في الحقيقة الغيب‪،‬‬
‫قبل أن يراه غيره‪ .‬ومثله من يخبر عن نوع الجنين بعد تشكيله‪.‬‬
‫وأما إنشاء السحاب وإنزالُ المطر في أرض كتب اهلل عليها‬
‫وم ْن ُعه عن أرض أنزله اهلل عليها‪ ،‬ومعرفة جنس الجنين‬ ‫الجفاف َ‬
‫وهو ال يزال ُح َو ْين ًا منوي ًا أو حوين ًا صادف بويضة‪ ،‬فهذا هو المراد‬
‫من اآلية واهلل أعلم‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪175‬‬
176
‫ِ‬
‫والج ّن‬ ‫اإليمان بالمالئكة‬

‫اإليمان بالمالئكة والرسل والكتب من أسس العقائد التي‬


‫ال يكون اإلنسان مؤمن ًا إال بها‪ .‬والمالئكة رسل اهلل إلى األنبياء‪،‬‬
‫واألنبياء رسل اهلل إلى الناس‪ ،‬والكتب هي الرسالة التي حملها‬
‫الملك إلى الرسول ونقلها الرسول إلى الناس‪.‬‬ ‫َ‬
‫الوحي وإمكانه ولزومه‬

‫ال‪ ،‬ألن اهلل قادر على خلق المالئكة واصطفاء‬‫الوحي ممكن عق ً‬


‫الرسل وشرع األحكام‪ ،‬ال يمنع العقل ذلك بعد أن آمن بوجود اهلل‬
‫ال ألن الخبر الصادق ورد به‪ ،‬وقد‬ ‫وقدرته وإرادته‪ .‬وهو واقع فع ً‬
‫قدمنا أن الخبر الصادق طريق من طرق العلم (بمعنى اليقين) وأننا‬ ‫ّ‬
‫نوقن بما نصدق الخبر به كما نوقن بما نراه ونسمعه‪ .‬وهو الزم‪،‬‬
‫إذ لواله القتصر البشر على عالم المادة ولجهلوا ما وراءه‪ ،‬ولكانوا‬
‫كاألنعام والمواشي‪ ،‬يعيشون لدنياهم وحدها‪ ،‬ال يعرفون إال الطعام‬
‫والنكاح واللذائذ الجسدية‪ ،‬ال يتصلون بربهم وال يعملون آلخرتهم‪،‬‬
‫السمو الخلقي والرفعة اإلنسانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ولواله لفقدوا‬

‫ومهما أوردوا من نظريات في علم األخالق(‪ )1‬وفي األساس‬


‫______________________‬
‫(‪La morale )1‬‬

‫‪177‬‬
‫الذي ُتبنى عليه فإن األخالق إذا لم ُت ْب َن على أساس من العقيدة كان‬
‫بناؤها على كثيب من الرمل‪ ،‬ألن اإلنسان مفطور على حب نفسه‬
‫ال ال يكون له فيه‬
‫وجلب النفع لها ودرء األذى عنها‪ ،‬فال يعمل عم ً‬
‫لذة أو كسب(‪.)1‬‬

‫يدخره لعشائه ورأى صندوق ًا‬ ‫ال ال يملك إال ديناراً ّ‬


‫ولو أن رج ً‬
‫لمساعدة األيتام‪ ،‬هل يضع الدينار في الصندوق إذا كان ال يؤمن باهلل‬
‫واليوم اآلخر ويبيت طاوي ًا وال يخبر بذلك أحداً يراه؟ أما المؤمن فإنه‬
‫يضعه في الصندوق ألنه يعلم أن اهلل يراه ويعطيه بدله سبعمئة دينار‬
‫يوم القيامة‪ ،‬المؤمن وحده هو الذي يعمل الخير رآه الناس أم لم‬
‫وعوضوه عنه أم لم يثيبوه ولم‬ ‫َي َروه‪ ،‬شكروه أم لم يشكروه‪ ،‬أثابوه ّ‬
‫يعوضوه‪ .‬المؤمن وحده هو الذي يدع فعل الشر سواء أكان وحده‬ ‫ِّ‬
‫أم كان مع الناس‪ .‬أما الذي يعمل الخير للثناء أو للعطاء فال يعمله‬
‫إال إذا وجد من يثني عليه ويعطيه‪ ،‬والذي يدع الشر خوف الفضيحة‬
‫إن أمن أن يبصره الشرطي أو يراه الناس‪.‬‬ ‫أو خشية العقاب ال يدعه ْ‬
‫ولو حاسب اهلل الناس في اآلخرة على ذنوبهم ولم يرسل‬
‫{ربنا لوال‬
‫َّ‬ ‫الحتجوا وقالوا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يعرفونهم شرع ربهم‬ ‫ال ّ‬
‫إليهم رس ً‬
‫والد َعوا أنهم لو ُبلِّغوا الرسالة‬
‫بع آياتك}‪ّ ،‬‬ ‫ال َفنت َّ َ‬
‫أرسلت إلينا رسو ً‬
‫َ‬
‫لعملوا بها ولو عرفوا الشريعة ال ّتبعوها‪ ،‬فكانت الرساالت {لئال‬
‫الر ُسل}‪.‬‬
‫بعد ّ‬
‫يكون للناس على اهلل ُح ّج ٌة َ‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬انظر كتاب الحكم ‪ Maximes‬لمؤلفه الروش فوكلد ‪Laroche Faucold‬‬

‫‪178‬‬
‫وردها‬
‫شبهة ّ‬
‫يقول ناس‪ :‬لماذا لم يهد اهلل الناس كلهم إلى طريق الجنة؟‬
‫ولماذا وضع في نفوسهم الشهوة ثم عاقبهم على الزنا‪ ،‬وغرز فيهم‬
‫حب المال وحاسبهم على جمعه من غير الحالل؟‬
‫ال‪ :‬إن اهلل ال يقال له >لماذا؟< ألنه ال ُيسأل‬
‫والجواب‪ :‬أو ً‬
‫عما يفعل وألنه الحاكم المطلق‪ ،‬له األمر وله الحكم‪ .‬ثم إن هذا‬
‫القول كقول طالب المدرسة‪ :‬لماذا ال يعطوننا أسئلة االمتحان من‬
‫أول السنة‪ ،‬ولِ َم أخفوها عنا وك ّلفونا االستعداد لها؟ إنهم أخفوها‬
‫ليجد الطالب ويقرأ المقرر كله‪ ،‬ولو أعطيناه أسئلة االمتحان من‬ ‫ّ‬
‫اآلن لما بقي معنى لالمتحان‪.‬‬
‫والدنيا دار ابتالء‪ .‬واالبتالء في لغة العرب االختبار‬
‫(االمتحان)‪ ،‬ليتميز الطائع من العاصي والمستقيم من المنحرف‪،‬‬
‫ولوال حواجز السباق(‪ )1‬لما بان الخائر الضعيف من الفارس المغوار‪.‬‬
‫ولو شاء اهلل لجعل الناس أمة واحدة‪ ،‬ولو أراد لخلقهم‬
‫راد‬
‫للطاعة الخالصة كما خلق المالئكة‪ ،‬ولكن هكذا شاء‪ ،‬وال ّ‬
‫لما يشاء وال ُيسأل عما يفعل‪ ،‬ونواصينا بين يديه‪ ،‬ونحن ملك‬
‫عذبنا وإن‬
‫له راجعون إليه‪ ،‬ما لنا رب غيره وال إله سواه‪ ،‬إن شاء ّ‬
‫شاء عفا عنا‪ ،‬ونحن نسأل اهلل عفوه ورحمته ونعوذ به من عذابه‪،‬‬
‫ألننا ال نستطيع أن نتخلص من عذابه إال بعفوه وال نستطيع أن ننال‬
‫العفو إال منه وحده‪.‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬أي سباق الخيل‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫المالئكة‬
‫وجود المالئكة ثابت وارد في القرآن‪ ،‬فمن أنكر شيئ ًا مما‬
‫ورد في القرآن من خبرهم كفر‪ ،‬والذي ورد من خبرهم وصفتهم‬
‫في القرآن هو‪:‬‬
‫{جاعل‬
‫ٌ‬ ‫ربنا أنه‬
‫وخبرهم ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ -1‬أنهم ُخلقوا قبل البشر‪،‬‬
‫ويسفك‬
‫في األرض خليف ًة‪ ،‬قالوا‪ :‬أتجعلُ فيها من ُيفسد فيها َ‬
‫الدماء؟}‪.‬‬
‫سبح بحمدك‬ ‫‪ -2‬أنهم ُخلقوا للطاعة الخالصة‪{ :‬ونحن ُن ّ‬
‫قدس لك}‪ ،‬فهم {ال َيعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما ُي ْؤ َمرون}‬
‫و ُن ِّ‬
‫ويؤمنون به}‪.‬‬ ‫سبحون بحمد ربهم ُ‬ ‫{ي ّ‬
‫سبحو َنه وله يسجدون} ُ‬
‫{وي ّ‬
‫ُ‬
‫أتم خلق آدم ع ّلمه األسماء(‪ )1‬وامتحنهم‬
‫لما ّ‬
‫‪ -3‬وأن اهلل ّ‬
‫فلما بان فضله‬
‫آدم بها‪ّ ،‬‬
‫أعلمهم ُ‬
‫بالسؤال عنها‪ ،‬فلم يعرفوها حتى َ‬
‫بذلك عليهم أمرهم بالسجود له‪ ،‬سجود تحية ال سجود عبادة‪.‬‬
‫‪ -4‬أنهم يتشكلون بأشكال مادية أحيان ًا ويظهرون بصورة‬
‫وحنا فتم َّثل لها بشراً‬
‫بني آدم‪ ،‬ففي قصة مريم {فأرسلنا إليها ُر َ‬
‫وي ًا}‪ .‬وضيوف إبراهيم كانوا مالئكة جاؤوا على صورة البشر‪،‬‬ ‫َس ّ‬
‫أيديهم ال‬
‫فقدم إليهم عشاءهم من لحم عجل سمين‪{ :‬فلما رأى َ‬
‫تخف‪ ،‬إ ّنا أُرسلنا‬
‫ْ‬ ‫وأوجس منهم خيفة‪ .‬قالوا‪ :‬ال‬
‫َ‬ ‫تصل إليه َن ِك َرهم‬
‫إلى قوم لوط}‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬لم يبين اهلل ما في هذه األسماء‪ ،‬لكن الظاهر أنها أسماء المالئكة أو‬
‫أسماء األشياء الموجودة يومئذ‪ ،‬ولم يبين اللغة التي ع ّلمه األسماء بها‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫‪ -5‬وأن مقرهم السماء ينزلون منها إلى األرض(‪ )1‬بأمر اهلل‪:‬‬
‫ربك}‪.‬‬
‫{وما َن َت ّنزلُ إال بأمر ِّ‬
‫‪ -6‬وأنهم درجات وأصناف في أصل الخلقة وفي مقام‬
‫ورباع‪،‬‬
‫الث ُ‬
‫ال أولي أجنحة َم ْث َنى و ُث َ‬
‫العبودية‪ ،‬جعلهم اهلل {رس ً‬
‫مقام معلوم}‪.‬‬ ‫منا إال له ٌ‬
‫َيزيد في الخلق ما يشاء} {وما ّ‬
‫عد ّواً‬
‫فمنهم من ينزل بالوحي‪ ،‬وهو جبريل‪ُ { :‬قل َمن كان ُ‬
‫لجبريل فإنه َّنزله على قلبك بإذن اهلل} {وإنه لتنزيل رب العالمين‪،‬‬
‫المنذرين}‪ .‬ومنهم‬ ‫لتكون من ُ‬ ‫َ‬ ‫الروح األمين على قلبك‬
‫ُ‬ ‫نزل به‬
‫ِ‬
‫الموت‬ ‫ملك الموت(‪ )2‬الموكل بقبض األرواح‪ُ { :‬ق ْل يتو ّفاكم َملَك‬
‫الذي ُو ِّكل بكم}‪ .‬ومنهم الذي ينفخ في الصور‪ ،‬ومنهم ميكال‬
‫(ميكائيل)‪ ،‬ومنهم حملة العرش‪{ :‬والذين يحملون العرش}‬
‫عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}‪ .‬ومنهم الموكلون‬ ‫َ‬ ‫{ويحمل‬
‫سالم‬
‫ٌ‬ ‫بتنعيم أهل الجنة‪{ :‬والمالئك ُة يدخلون عليهم من كل باب‪،‬‬
‫عليكم بما صبرتم}‪ ،‬ومنهم المكلفون بتعذيب أهل النار‪{ :‬عليها‬
‫ظ شداد}‪ ،‬ومنهم من يسجل على اإلنسان أعماله‪:‬‬ ‫مالئكةٌ ِغال ٌ‬
‫{وإن عليكم لَحافظين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عتيد}‬
‫رقيب ٌ‬
‫ٌ‬ ‫{ما يلفظ من قول إال لديه‬
‫كرام ًا كاتبين}‪ ،‬ومنهم من يسوق اإلنسان للحساب يوم القيامة‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬إذا كان في النجوم ما يحتاج الوصول إليه إلى مليار سنة ضوئية‪،‬‬
‫والسماء أبعد من النجوم كلها قطع ًا‪ ،‬فبأي سرعة كانوا ينزلون؟ إن‬
‫العقل يعجز عن تصور هذه السرعة!‬
‫(‪ )2‬لم أجد ‪-‬على كثرة ما بحثت‪ -‬نص ًا من كتاب أو سنة ثابتة أن اسمه‬
‫عزرائيل‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫سائق وشهيد}‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫نفس معها‬
‫كل ٍِ‬
‫ومن يشهد عليه‪{ :‬وجاءت ّ‬

‫يثبتون المؤمنين‬‫خبر القرآن عنها أنهم ّ‬


‫‪ -7‬ومن أعمالهم التي ّ‬
‫فثب ُتوا الذين‬
‫ربك إلى المالئكة أ ّني معكم ِّ‬
‫في المعارك‪{ :‬إذ ُيوحي ُّ‬
‫آمنوا}‪ .‬وأنهم يدعون لهم ويص ّلون عليهم ويستغفرون لهم‪{ :‬هو‬
‫الذي يص ّلي عليكم ومالئكته} {ويستغفرون للذين آمنوا‪ ،‬ربنا‬
‫وسعت كلَّ شيء رحمة وعلم ًا فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك‬
‫جنات َع ْدن التي وعدتهم‬‫ِ‬ ‫و ِقه ِْم عذاب الجحيم‪ ،‬ربنا وأدخلهم‬
‫وذرياتهم‪ ،‬إنك أنت العزيز‬ ‫ومن َصلَح من آبائهم وأزواجهم ّ‬
‫ئذ فقد رحمته}‪.‬‬ ‫يوم ٍ‬
‫وم ْن َتقِ السيئات َ‬‫الحكيم‪ .‬و ِقه ُِم السيئات‪َ ،‬‬
‫وأنهم يشهدون صالة الفجر مع المؤمنين‪{ :‬إن قرآن الفجر‬
‫كان مشهوداً}‪ .‬ويبشرون المؤمنين عند الموت ويؤ ّنبون العاصين‪:‬‬
‫تتنزل عليهم المالئكة ألاّ‬ ‫ربنا اهلل ثم استقاموا ّ‬ ‫{إن الذين قالوا ُّ‬
‫اه ُم المالئكة ظالمي‬ ‫تخافوا وال تحزنوا وأبشروا} {إن الذين َت َو ّف ُ‬
‫فيم كنتم‪{ }...‬ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا‬ ‫أنفسهم قالوا َ‬
‫بعد إلى‬‫وأدبارهم}‪ ،‬ويسوقونهم من ُ‬ ‫َ‬ ‫وجوههم‬
‫َ‬ ‫المالئك ُة يضربون‬
‫{وسيق الذين كفروا إلى جهنم ُز َمراً‪ .‬حتى إذا‬ ‫َ‬ ‫ويوبخونهم‪:‬‬
‫ّ‬ ‫النار‬
‫سل منكم‬ ‫جاؤوها ُفتحت أبوابُها وقال لهم َخ َز َنتُها‪ :‬ألم يأتِكم ُر ٌ‬
‫وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا‪:‬‬ ‫آيات ربكم ُ‬ ‫ِ‬ ‫َيتلون عليكم‬
‫بلى‪ ،‬ولكن ح َّقت كلم ُة العذاب على الكافرين‪ .‬قيل ادخلوا أبواب‬
‫تكبرين}‪ .‬ويستقبلون أهل‬ ‫الم ّ‬
‫جهنم خالدين فيها‪ ،‬فبئس مثوى ُ‬
‫الجنة ُز َمراً‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ربهم إلى‬ ‫{وسيق الذين ا ّت َقوا ّ‬
‫َ‬ ‫الجنة ويرحبون بهم‪:‬‬
‫سالم عليكم‬ ‫ٌ‬ ‫أبوابها وقال لهم َخ َز ُنتها‬ ‫ُ‬ ‫حتى إذا جاؤوها و ُفتحت‬
‫فادخلوها خالدين}‪ .‬وأنهم ال يتناكحون وال يتناسلون وال‬ ‫ُ‬ ‫ِط ُبتم‬

‫‪182‬‬
‫يوصفون بذكورة وال أنوثة‪.‬‬

‫السنة‬
‫هذا ُج ّل ما جاء في القرآن من خبر المالئكة‪ ،‬وفي ُّ‬
‫الصحيحة كثير من أخبارهم جاءت في أحاديث آحاد‪ ،‬لكن صحت‬
‫روايتها وثبت سندها‪.‬‬

‫ومن أنكر شيئ ًا مما ورد في القرآن عن المالئكة أو غيرهم‬


‫{آم َن‬
‫كفر‪ ،‬فاإليمان بالمالئكة أحد أركان العقائد اإلسالمية‪َ :‬‬
‫كل آمن باهلل ومالئكته‬ ‫الرسول بما أُنزِل إليه من ّ‬
‫ربه والمؤمنون ٌّ‬
‫ورس ِله}‪.‬‬
‫وكتبه ُ‬
‫ُ‬
‫ثمرة اإليمان بالمالئكة‬

‫وكل‬
‫ازدياد الشعور بعظمة اهلل واستشعار رحمته‪ ،‬إذ ّ‬
‫المالئكة بالدعاء للمؤمنين واالستغفار لهم والتحرز عما أمكن‬
‫يسجلون عليه كل ما يقوله‬
‫ّ‬ ‫من المعاصي‪ ،‬حين يتذكر أنهم‬
‫ويفعله‪ ،‬واإلقدام والشجاعة في الجهاد حين يتصور أنهم‬
‫يؤيدون المجاهدين بأمر رب العالمين‪ ،‬والعمل للجنة ليكون‬
‫ممن يس ّلمون عليه‪ ،‬والبعد عن أسباب دخول النار لئال يكون‬
‫يوبخونه‪ .‬ومن ثمراته اإلجمالية التشبه بهم في لزوم الطاعة‬
‫ممن ّ‬
‫واجتناب العصيان وتقوية الجانب المالئكي في اإلنسان‪.‬‬

‫الجن‬

‫خبر اهلل في القرآن بأنه خلق خلق ًا آخر تعجز عيوننا عن‬
‫ّ‬
‫رؤيتهم على صورهم األصلية (كما تعجز عن رؤية المالئكة‪،‬‬
‫ورؤية األشعة التي هي فوق البنفسجية وتحت الحمراء‪ ،‬ورؤية‬

‫‪183‬‬
‫الموجات الصوتية‪ ،‬ورؤية التيار الكهربائي وهو يمشي في سلك‬
‫النحاس) وهذا الخلق هو الجن‪ .‬والذي يجب اإليمان به ويكفر‬
‫يخصصه اهلل‬
‫ّ‬ ‫منكره هو ما جاء من أخبارهم في القرآن‪ ،‬وإن لم‬
‫بالذكر ويجعله من أركان اإليمان صراحة كاإليمان بالمالئكة‪.‬‬

‫الجن في القرآن‬

‫خبر القرآن أن الجن ُخلقوا من النار‪ .‬وال يلزم من هذا‬


‫‪ّ -1‬‬
‫حولهم‬‫تمسه‪ ،‬وال يمنع أن يكون اهلل قد ّ‬
‫أن يكونوا ناراً تحرق ما ّ‬
‫يبق‬
‫فيما بعد إلى طبيعة أخرى‪ ،‬فاإلنسان ُخلق من طين ولكنه لم َ‬
‫طين ًا بل أنشأه اهلل خلق ًا آخر‪ ،‬فجعله مركب ًا من عظام ودم وأعصاب‬
‫يحول المخلوقات من حال إلى حال‪،‬‬ ‫على سنة اهلل في الكون‪ ،‬إذ ّ‬
‫فيجعل من الخلية أحياء مختلفي الصفات والهيئات والطبائع‪،‬‬
‫ويجعل من البذرة اليابسة شجرة خضراء األوراق ملونة األزهار‪.‬‬

‫{والجان خلقناه‬
‫َّ‬ ‫وخبر أنهم ُخلقوا قبل خلق اإلنسان‪:‬‬
‫‪ّ -2‬‬
‫السموم}‪.‬‬
‫قبل من نار َّ‬
‫من ُ‬

‫‪ -3‬وأنهم يروننا وال نراهم‪ .‬وليس في هذا عجب‪ ،‬فمن‬


‫كان بيده المنظار رأى الشخص البعيد وذلك الشخص ال يراه‪،‬‬
‫ونحن في الدنيا ُوفقنا إلى صنع آالت كالرائي (التلفزيون) والهاتف‬
‫المرئي‪ ،‬نرى منها المتحدث وهو ال يرانا‪ .‬قال‪{ :‬إنه يراكم هو‬
‫ترونهم}‪.‬‬
‫حيث ال َ‬‫ُ‬ ‫و َقبيلُه من‬

‫‪ -4‬وأنهم مكلَّفون مثلنا‪ ،‬يحاسبون على أعمالهم كما‬


‫ويعاقبون كما نثاب نحن ونعاقب‪ ،‬وأن جهنم‬‫ويثابون ُ‬
‫نحاسب ُ‬
‫َ‬

‫‪184‬‬
‫(والعياذ باهلل منها) تمتلئ بالجن واإلنس مع ًا‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وما‬
‫رب َك ألمألَن‬
‫واإلنس إال ليعبدون} {وتمت كلمة ِّ‬
‫َ‬ ‫الجن‬
‫َّ‬ ‫خلقت‬
‫ُ‬
‫جهنم من ِ‬
‫الج َّنة والناس أجمعين}‪.‬‬
‫‪ -5‬وأن رسالة محمد ’ َبلَغتهم كما بلغتهم من قبلها رسالة‬
‫موسى‪{ :‬قالوا‪ :‬يا قومنا إنا سمعنا كتاب ًا أُنزل من بعد موسى‬
‫الحق وإلى طريق مستقيم}‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫مصدق ًا لما بين يديه يهدي إلى‬
‫ِّ‬
‫‪ -6‬وأنه كان منهم الصالحون والعاصون‪ ،‬وأنهم كالبشر‬
‫طرائق ِق َدداً‪...‬‬
‫َ‬ ‫أصناف‪{ :‬وأ ّنا منا الصالحون و ِم ّنا دون ذلك‪ّ ،‬‬
‫كنا‬
‫وأ ّنا ِم ّنا المسلمون ومنا القاسطون}‪.‬‬
‫‪ -7‬وأن اهلل سخرهم لسليمان‪{ :‬يعملون له ما يشاء من‬
‫كالجواب وقدور راسيات}‪.‬‬
‫وجفان َ‬‫محاريب وتماثيل(‪ِ )1‬‬

‫‪ -8‬وأنهم ال يعلمون الغيب‪ ،‬لذلك لبثوا يعملون لسليمان‬


‫داب ُة األرض تأكل ِمنسأ َت ُه‪،‬‬
‫بعدما مات‪{ :‬ما دلَّهم على موته إال ّ‬
‫الغيب ما لبثوا في العذاب‬
‫َ‬ ‫الجن أن لو كانوا يعلمون‬
‫ُّ‬ ‫تبي َنت‬
‫فلما َخ َّر َّ‬
‫المهين}‪.‬‬
‫‪ -9‬وأن اهلل تحداهم (كما تحدى البشر) أن يأتوا بمثل‬
‫اإلنس ِ‬
‫والج ُّن على أن يأتوا بمثل هذا‬ ‫ُ‬ ‫القرآن‪{ :‬قل‪ :‬لئن اجتمعت‬
‫يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظ َهيراً}‪.‬‬
‫َ‬ ‫القرآن ال‬

‫______________________‬
‫محرمة‬
‫َّ‬ ‫(‪ )1‬التماثيل بالمعنى المعروف‪ ،‬وهي الصور المجسمة‪ ،‬وهي‬
‫قطع ًا في ديننا‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫‪ -10‬وأنهم كانوا يتحسسون أخبار السماء من المالئكة‪،‬‬
‫ور ُموا بالشهب‪{ :‬وأ ّنا كنا نقعد‬ ‫فلما جاء اإلسالم ُمنعوا من ذلك ُ‬
‫يستمع اآلن َي ِج ْد له شهاب ًا َر َصداً}‪.‬‬
‫ِ‬ ‫فمن‬
‫للسمع‪َ ،‬‬
‫مقاعد َّ‬
‫َ‬ ‫منها‬

‫الشياطين‬

‫وهم كفار الجن‪ ،‬أبوهم إبليس‪ .‬وقد قال قوم أن إبليس من‬
‫ال ألن اهلل صرح بذلك‬
‫المالئكة‪ ،‬ولكن الصحيح أنه من الجن‪ .‬أو ً‬
‫ففسق عن‬
‫َ‬ ‫الجن‬
‫ِّ‬ ‫إبليس كان من‬
‫َ‬ ‫في القرآن فقال‪{ :‬فسجدوا إال‬
‫ربه}‪ .‬ثاني ًا‪ :‬ألن إبليس عصى ربه‪ ،‬والمالئكة ال يعصون اهلل‬ ‫أمر ّ‬
‫خير‬
‫صرح بأنه ُخلق من النار‪{ :‬قال أنا ٌ‬
‫ما أمرهم‪ .‬ثالث ًا‪ :‬ألن القرآن ّ‬
‫وخلقته من طين}‪.‬‬
‫َ‬ ‫منه خلقتني من نار‬

‫الشياطين في القرآن‪:‬‬

‫‪ -1‬الشيطان هو العدو األول للبشر‪ ،‬أخرج أباهم من الجنة‪،‬‬


‫وهو يعمل على منعهم من دخولها ويبعدهم عن طريقها ويغريهم‬
‫ويدعون شرع اهلل إلى‬
‫بسلوك طريق النار‪ ،‬وهم ‪-‬مع ذلك‪ -‬يتبعونه َ‬
‫وهدي األنبياء إلى ضالله‪.‬‬
‫َ‬ ‫وسواسه‬

‫وبخهم اهلل على فعلهم وعلى هذه الحماقة منهم‪ ،‬إذ‬ ‫وقد ّ‬
‫يستجيبون لعدوهم الذي يريد العذاب لهم وال يستجيبون لربهم‬
‫أولياء من‬
‫َ‬ ‫ري َته‬
‫وذ ّ‬
‫{أفتتخذونه ُ‬
‫ّ‬ ‫الذي يدعوهم ليغفر لهم ويرحمهم‪:‬‬
‫ال}‪.‬‬
‫دوني وهم لكم عدو؟ بئس للظالمين َب َد ً‬
‫‪ -2‬دلت هذه اآلية على أن الشياطين يتناسلون وتكون لهم‬
‫ذرية وأنهم جميع ًا ذرية إبليس‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫‪ -3‬سلط اهلل الشيطان على الناس‪ ،‬ولكنه لم يعطه القدرة‬
‫على النفع والضرر ولم يمنحه القوة التي ال ُتدفع‪ ،‬بل أعطاه‬
‫بضارهم شيئ ًا إال‬
‫ِّ‬ ‫كيد الشيطان كان ضعيف ًا} {وليس‬
‫{إن َ‬
‫الكيد‪ّ :‬‬
‫بإذن اهلل} {وما كان له عليهم من ُسلطان}‪.‬‬
‫عملُه الوسواس واإلغراء بالشر والدعوة إلى القبائح‪:‬‬ ‫‪َ -4‬‬
‫يعدهم‬ ‫ويم ِّنيهم‪ ،‬وما ُ‬‫{ي ِع ُدهم ُ‬
‫{يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} َ‬
‫الشيطان إال ُغروراً}‪ .‬يحملهم على الخمر والميسر وأمثالها‪،‬‬
‫{رجس من عمل الشيطان}‪ .‬برنامجه كله ينحصر في‬ ‫ٌ‬ ‫وأمثالُها‬
‫الشر والفحش والخالف‪ ،‬وأول مادة في هذا البرنامج وأول ما‬
‫والتعري ولبس القصير من الثياب‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫التكشف‬
‫ّ‬ ‫فتن به آدم وحواء‬
‫أبو ْي ُكم من الج َّنة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كم الشيطان كما أخرج َ‬ ‫{يا بني آدم ال يفت َن ّن ُ‬
‫ريهما َس ْوءاتهما}‪ .‬فكان نزع الثياب وإبداء‬ ‫لباسهما لِ ُي َ‬ ‫ينز ُِع عنهما َ‬
‫العوارت أول مادة في هذا القانون الشيطاني‪.‬‬
‫يحسن في عيون أتباعه السيئ حتى يروه‬ ‫ومن شأن إبليس أن ّ‬
‫الشيطان‬
‫ُ‬ ‫{وزي َن لهم‬
‫َّ‬ ‫ويجمل لهم القبيح فال يبصروه قبيح ًا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫حسن ًا‬
‫الش َبه‬
‫ما كانوا يعملون}‪ .‬ومن شأنه أن يدفع أولياءه إلى إثارة ُّ‬
‫وشغلهم عن دعوتهم‪ ،‬دعوة الحق‪ ،‬بالجدال‬ ‫في وجوه المؤمنين َ‬
‫{وإن الشياطين لَيوحون‬ ‫ّ‬ ‫والمراء‪ .‬وقد نبهنا اهلل إلى ذلك وقال لنا‪:‬‬
‫إلى أوليائهم ليجادلوكم} فال تستجيبوا لهم وال تسقطوا في شركهم‬
‫أطعتموهم إنكم لَمشركون}‪ .‬ومن شأنه أن يشغل المؤمن‬ ‫ُ‬ ‫{وإن‬‫ْ‬
‫عن ذكر ربه حتى ينساه ُفي ْقدم على المعاصي‪ ،‬فالعاصون {استحوذ‬
‫مسهم‬ ‫ُ ِ‬
‫قوا إذا َّ‬
‫فأنساهم ذ ْك َر اهلل}‪ .‬ولكن {الذين ا ّت َ‬ ‫الشيطان‬
‫ُ‬ ‫عليهم‬
‫طائف من الشيطان} فأنساهم ربهم {تذكروا فإذا هم مبصرون}‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫‪187‬‬
‫‪ -5‬لكن الشيطان رغم دأبه على اإلفساد وثباته على عداوة‬
‫بني آدم‪ ،‬وأنه يأتيهم عن أَيمانهم وعن شمائلهم ومن أمامهم ومن‬
‫ويجلب‬‫يستفزهم بصوته َ‬
‫ّ‬ ‫خلفهم‪ ،‬وأنه يقعد لهم كل مرصد‪ ،‬وأنه‬
‫عليهم بخيله ورجله وأنه يشاركهم في األموال واألوالد‪ ...‬إنه على‬
‫هذا كله ال يملك إال الوسواس واإلغراء بالشر‪ ،‬ال يقدر على نفع‬
‫لهم وال ضر‪ ،‬وحين يتجادل الكفار والشياطين في اآلخرة يقول‬
‫فاستجبتم‬
‫ُ‬ ‫لهم‪{ :‬وما كان لي عليكم من سلطان إال أن دعوتكم‬
‫لي‪ ،‬فال َتلوموني ولوموا أنفسكم}‪.‬‬

‫رب بما‬ ‫ولما دعا إبليس ربه أن يؤجل موته وأجابه‪{ :‬قال ِّ‬ ‫ّ‬
‫أغويتني لأَ ُ ّ‬
‫زي َن َن لهم في األرض ولأَ ُغو َِي َّنهم أجمعين‪ ،‬إال عبادك‬ ‫َ‬
‫علي مستقيم‪،‬‬ ‫ط َّ‬‫عز وجل‪{ :‬هذا صرا ٌ‬ ‫المخلَصين} قال اهلل ّ‬ ‫منهم ُ‬
‫ُ‬
‫سلطان إال من ا َّتبَعك من الغاوين‪ ،‬إنه‬
‫ٌ‬ ‫عليهم‬ ‫لك‬ ‫ليس‬ ‫عبادي‬ ‫إن‬
‫ّ‬
‫يتوكلون‪ ،‬إ ّنما سلطا ُنه‬
‫ربهم ّ‬‫سلطان على الذين آمنوا وعلى ِّ‬
‫ٌ‬ ‫ليس له‬
‫على الذين يتولَّونه والذين هم به ُمشركون}‪.‬‬

‫‪ -6‬وهو َيخذل أتباعه ويتخلى في ساعة العسرة عنهم ويخون‬


‫غالب لكم‬
‫َ‬ ‫الشيطان أعمالهم وقال(‪ )1‬ال‬
‫ُ‬ ‫عهدهم‪{ :‬وإذ َز َّي َن لهم‬
‫نكص على‬‫َ‬ ‫جار لكم‪ ،‬فلما تراءت الفئتان‬
‫اليوم من الناس وإني ٌ‬
‫برئ منكم‪ ،‬إني أرى ما ال ترون}‪ ،‬يعني المالئكة‬‫عقبيه وقال إني ٌ‬
‫التي نزلت يومئذ لتأييد المؤمنين‪{ .‬كمثل الشيطان إذ قال لإلنسان‬
‫ئ منك‪ ،‬إني أخاف اهلل}‪.‬‬ ‫كفر قال إني بر ٌ‬ ‫اك ُفر‪ ،‬فلما َ‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬أي يوم بدر للمشركين من أهل مكة‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫شياطين اإلنس‬
‫هذا بعض ما ورد في القرآن الكريم من صفات الشيطان‪،‬‬
‫إنه يعمل على نشر الكفر وإذاعة الفاحشة وكشف العورات‪،‬‬
‫ويحسنه لهم حتى يقيموا عليه‬
‫ّ‬ ‫يزين للناس ما هم عليه من القبيح‬‫ّ‬
‫الش َبه ويجادل بالباطل ويوقع العداوة بين‬
‫ُّ‬ ‫يثير‬ ‫عنه‪،‬‬ ‫ّوا‬
‫ل‬ ‫يتحو‬ ‫وال‬
‫ويفرق جمعهم‪ ،‬حتى إذا استجابوا له واتبعوه واحتاجوا‬‫المسلمين ّ‬
‫يوم ًا إلى نصره ومعونته فاستعانوا به واستنصروه تخلى عنهم وتبرأ‬
‫منهم‪.‬‬
‫وكل من تخلق بهذه األخالق من الناس كان حكمه حكم‬
‫ك الناس‪ ،‬إله الناس‪ ،‬من‬ ‫برب الناس‪َ ،‬م ِل ِ‬
‫أعوذ ِّ‬
‫ُ‬ ‫الشيطان‪{ :‬قل‬
‫الخناس الذي ُيوسوس في ُصدور الناس‪ ،‬من ِ‬
‫الج َّنة‬ ‫شر الوسواس ّ‬
‫ّ‬
‫والناس}‪.‬‬
‫وزينها للناس‪ ،‬بالصور العارية أو‬
‫رغب بالفاحشة ّ‬ ‫فمن ّ‬
‫القصص الداعرة أو األدب المكشوف‪ ،‬فهو من شياطين اإلنس‪.‬‬
‫ومن دعا إلى عصبية جاهلية‪ ،‬من الجاهلية األولى أو الجاهلية‬
‫تفرق ًا‪ ،‬فهو من‬
‫الجديدة‪ ،‬تجعل أمة محمد أمم ًا وتحيل وحدتهم ّ‬
‫شياطين اإلنس‪ .‬ومن صرف الناس عن طريق الجنة إلى طريق النار‬
‫رب‬
‫وأنساهم ذكر اهلل واليوم اآلخر فهو من شياطين اإلنس‪{ :‬وقل ِّ‬
‫حضرون}‪.‬‬ ‫رب أن َي ُ‬
‫أعوذ بك من َه َمزات الشياطين‪ ،‬وأعوذ بك ِّ‬
‫ُ‬
‫* * *‬

‫‪189‬‬
190
‫بالر ُسل‬
‫اإليمان ُّ‬

‫لق‬
‫وأول ما يقرره القرآن أن المالئكة والجن والرسل َخ ٌ‬
‫من خلق اهلل‪ ،‬كلهم عباده‪ ،‬وهو أوجدهم وهو المتصرف فيهم‪،‬‬
‫ال عن غيرهم) نفع ًا وال ضراً إال‬
‫وأنهم ال يملكون ألنفسهم (فض ً‬
‫بإذن اهلل‪.‬‬
‫الرسل جميع ًا بشر‪ ،‬يولدون كما يولَد البشر ويموتون كما‬
‫ويصحون(‪ ،)1‬ال يختلفون عنهم في‬ ‫ّ‬ ‫يموتون ويمرضون مثلهم‬
‫تكوين أجسادهم وال في تصوير أعضائهم وال في َج َريان دمائهم‬
‫وحركات قلوبهم‪ ،‬يأكلون ويشربون كما يأكل الناس ويشربون‪.‬‬
‫ليس فيهم شيء من األلوهية ألن األلوهية هلل وحده‪ ،‬ولكنهم‬
‫يوحى إليهم‪ .‬وقد عجبت األمم األولى من الوحي فقال لهم‬ ‫بشر َ‬
‫للناس‬
‫مبين ًا أنه ال مكان لعجبهم‪{ :‬أكان ّ‬ ‫راداً عليهم ِّ‬
‫عز وجل ّ‬ ‫اهلل ّ‬
‫وبش ِر الذين آمنوا؟}‬
‫اس ِّ‬ ‫رجل منهم أن أ ْن ِذ ِر ّ‬
‫الن َ‬ ‫أوح ْينا إلى ُ‬
‫َع َجب ًا أن َ‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬الرسل جميع ًا بشر‪ ،‬يشبهون البشر في كل شيء إال ما كان من ذلك‬
‫المشوهة المنفرة أو المانعة‬
‫ِّ‬ ‫منافي ًا الصطفائهم للرسالة‪ ،‬كاألمراض‬
‫من القيام بالدعوة‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫وعجبوا أن يكون الرسول من البشر ومنعهم من اإليمان {أن‬
‫فرد اهلل عليهم بأن الرسول إنما‬ ‫ال؟} ّ‬ ‫قالوا‪َ :‬أب َع َث اهلل بشراً رسو ً‬
‫يكون من جنس َمن أُرسل إليهم‪ ،‬فالبشر ُيرسل إليهم رسول من‬
‫البشر‪{ :‬لو كان في األرض مالئك ٌة َيمشون ُمطْ مئِ ّنين َّ‬
‫لنزلنا عليهم‬
‫ال}‪.‬‬
‫من السماء َملَك ًا رسو ً‬
‫بشر مثلنا‪ ...‬قالت لهم‬
‫وناقشوا رسلهم‪{ :‬قالوا إن أنتم إال ٌ‬
‫بشر مثلكم‪ ،‬ولكن اهلل َي ُم ُّن على من يشاء من‬
‫إن نحن إال ٌ‬ ‫ُر ُسلهم ْ‬
‫عباده}‪ ،‬وقد َم َّن علينا فأوحى إلينا الشريعة وأمرنا بتبليغها‪.‬‬
‫الطعام ويمشي في األسواق؟‬ ‫َ‬ ‫يأكل‬
‫{وقالوا‪ :‬ما لهذا الرسول ُ‬
‫فرد اهلل عليهم مخاطب ًا‬
‫َك فيكون معه نذيرا}‪ّ ،‬‬ ‫لوال أُنزل إليه َمل ٌ‬
‫المرسلين إال إنهم‬
‫َ‬ ‫رسوله محمداً ’‪{ :‬وما أرسلنا قبلك من‬
‫الطعام ويمشون في األسواق}‪ .‬وقال لهم رداً عليهم‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ل ََيأكلون‬
‫األمر ثم‬
‫ُ‬ ‫ملك‪ ،‬ولو أنزلنا ملك ًا ل ُقضي‬
‫ٌ‬ ‫{وقالوا لوال أُنزل عليه‬
‫َبسنا عليهم ما‬
‫ال و َلل ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫لجعلناه رج ً‬
‫ُ‬ ‫ال ُينظَ رون‪ .‬ولو جعلناه َملَك ًا‬
‫َيلبِسون}‪.‬‬
‫حقيقة الرسول‬
‫الرسول بشر يمتاز بالوحي‪ ،‬وقد قال تعالى لمحمد ’‪:‬‬
‫بشري َته باستعمال‬
‫ّ‬ ‫يوحى إلي}‪ .‬وقد أكد‬
‫بشر مثلُكم َ‬‫{قل إ ّنما أنا ٌ‬
‫ّ‬
‫>إنما<‪ ،‬وهي تفيد الحصر والقصر وتنفي عنه ما ينافي البشرية‪،‬‬
‫ثم أكدها مرة ثانية بقوله >مثلكم<‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أي على هيئة رجل‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫هو مثلنا في تكوين جسده وطبيعة خلقه‪ ،‬ولكنا لسنا جميع ًا‬
‫مثله في ُخلُقه وال في مزاياه وال في عظمته‪ ،‬ولو لم يكن محمد‬
‫أعظم العظماء وبطل األبطال‪.‬‬
‫َ‬ ‫خاتم األنبياء لكان ‪-‬بال جدال‪-‬‬
‫فإذا كان بشراً مثلنا يجوز عليه ما يجوز علينا‪ ،‬فهل يخطئ‬
‫كما نخطئ؟ والجواب‪:‬‬
‫‪ -1‬إن الخطأ إما أن يكون في مجال التبليغ عن اهلل وفي بيان‬
‫الشريعة‪ ،‬وهذا النوع من الخطأ يستحيل وقوعه من الرسل جميع ًا‬
‫ألن الرسول {ال ينطق} إذا ب ّلغ عن اهلل أو ّبين شريعته {عن‬
‫الناس قد‬
‫ُ‬ ‫وحى}‪ ،‬واهلل يقول‪{ :‬يا ّأيها‬
‫إن هو إال َو ْح ٌي ُي َ‬
‫الهوى‪ْ ،‬‬
‫جاءكم الرسول بالحق من ربكم}‪.‬‬
‫ويستحيل أن تقع من الرسول ‪-‬بعد رسالته‪ -‬معصية أو‬
‫يأتي ما يجرح العدالة أو ُي ِخ ّل بالمروءة أو ينافي الكمال‪ ،‬ألن‬
‫يتأسوا به وأن يتبعوه في فعله‪:‬‬
‫اهلل جعله قدوة وأمر المسلمين أن ّ‬
‫{لقد كان لكم في رسول اهلل أُ ْسو ٌة حسن ٌة}‪ ،‬وهذه األسوة ثابتة‬
‫للرسل جميع ًا‪{ :‬لقد كان لكم فيهم أُسو ٌة حسن ٌة}‪ ،‬وذلك يقتضي‬
‫العصمة من ارتكاب المعاصي وإتيان النقائص‪.‬‬
‫‪ -2‬وإما أن يكون الخطأ في أمر شرعي اجتهد فيه الرسول‬
‫ممكن‬
‫ٌ‬ ‫ولم ينزل عليه فيه شيء من ربه‪ .‬وهذا النوع من الخطأ‬
‫يبين لهم‬
‫يقرهم على الخطأ بل ّ‬ ‫وقوعه من الرسل‪ ،‬ولكن اهلل ال ّ‬‫ُ‬
‫وجه الصواب فيه‪ ،‬كما وقع من الرسول في قصة األعمى وفي‬
‫فبي َن اهلل له أنه لم ُي ِص ْب في اجتهاده‪.‬‬
‫قصة أسرى بدر‪ ،‬اجتهد ّ‬
‫وقد فكرت في موقف الرسول ’ يوم جاءه األعمى وقلت‬

‫‪193‬‬
‫وعرض‬ ‫لنفسي‪ :‬لو لم ينزل اهلل هذه اآليات من سورى >عبس< ُ‬
‫موقفه على عقالء الدنيا وساستها وعلمائها‪ ،‬هل كان فيهم أحد‬
‫يقول بأن في موقف الرسول ’ ما ُينت َقد أم يقرر الجميع أن الذي‬
‫فعله هو عين الصواب؟ رجال من كبار القوم يتألّفهم ويحاول أن‬
‫يكسبهم لنصرة الدعوة‪ ،‬فيأتي واحد من أتباعه يسأله عن مسألة‬
‫مستعجلة وال ينشأ عن تأخيرها ضرر وهو يستطيع أن يسأل‬
‫َ‬ ‫ليست‬
‫عنها في كل وقت‪ُ ،‬فيرجئ جوابه حتى ينتهي مما هو فيه‪ .‬هل‬
‫غير هذا؟ هل في الدنيا من ال يقول بأن عمل‬‫أحد من الناس َ‬
‫يفعل ٌ‬
‫الرسول هو الذي يرونه الصواب؟‬

‫لما نزل‬
‫ولكن ّ‬
‫ْ‬ ‫إنه هو الصواب في مقياس المنطق البشري‪،‬‬
‫تبي َن أن ميزان اهلل أقوم من موازين الناس وأن‬
‫الوحي بمقياس آخر ّ‬
‫أصح من حكم العقل‪ ،‬بل هو الحكم القويم‬ ‫ّ‬ ‫حكم من َخلَق العقل‬
‫المعوج المنحرف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وحكم العقل هنا هو‬

‫ومثل هذا يقال في موقفه ’ يوم أسرى بدر‪ ،‬أي أن ما‬


‫وقع منه ’ إنما كان خطأ بالنسبة لحكم اهلل‪ ،‬ولو لم ينزل الوحي‬
‫بتخطئته لكان عند أعقل الناس صواب ًا‪ .‬فليس في ذلك خطأ بالمعنى‬
‫المعروف وقع من محمد بوصفه عظيم ًا من عظماء البشر‪ ،‬بل إن‬
‫فيه الدليل على أن وحي السماء فوق حكمة األرض‪.‬‬

‫‪ -3‬وإما أن يكون الخطأ في أمر من األمور اإلدارية‬


‫وقوعه ألن الرسول بشر يفكر في‬‫ُ‬ ‫ممكن‬
‫ٌ‬ ‫والحربية‪ ،‬وهذا أيض ًا‬
‫هذه األمور تفكيراً بشري ًا‪ ،‬وقد كان الصحابة يسألونه في مثل هذه‬
‫األحوال‪ :‬هل القرار الذي قرره بأمر من اهلل ووحي أو باجتهاد منه؟‬

‫‪194‬‬
‫خبرهم بأنه ليس لديه فيه أمر من اهلل وأنه رأي شخصي عرضوا‬
‫فإن ّ‬
‫ردها‪.‬‬
‫عليه آراءهم فأخذ بها أو ّ‬
‫كما وقع في حادثة اختيار المعسكر يوم بدر‪ ،‬إذ قالوا له‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬أهذا منزل أنزلَكَ ه اهلل ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر‪،‬‬
‫أم هو الرأي والمكيدة؟ فلما بين لهم أنه رأيه الشخصي عرضوا‬
‫عليه رأي ًا غيره‪ ،‬فأخذ به وعدل عن رأيه‪ .‬ووقع مثل ذلك في حفر‬
‫الخندق وفي حادثة الصلح مع غطفان في تلك المعركة‪.‬‬

‫‪ -4‬أما األمور الدنيوية الخالصة فكان الرسول يتكلم فيها‬


‫والطبية‬
‫ّ‬ ‫برأيه الشخصي‪ ،‬وقد يخطئ في األمور الصناعية والزراعية‬
‫التي ال يعرفها في العادة إال أهلها‪ ،‬كما أخطأ في مسألة تأبير (أي‬
‫تلقيح) النخل‪ .‬وليس في هذا عيب أو نقص‪ ،‬ألنه ال ُيطلَب من‬
‫العظيم (ولو كان عالم ًا‪ ،‬ولو كان أكبر علماء الدنيا) أن يعرف‬
‫كل الذي يعرفه أرباب الصناعات ورجال الزراعة والتجارة وسائر‬
‫المهن‪.‬‬
‫ومسألة تلقيح النخل مسألة زراعية فرعية أبدى فيها ’ رأيا‬
‫عارض ًا‪ ،‬لم ُيلزمهم به ولم يحملهم عليه ولم يقل لهم أنه من‬
‫الدين وأن اهلل أوحى به‪ ،‬فلما تبين له خطؤه قال‪> :‬أنتم أعرف‬
‫بأمور دنياكم<(‪.)1‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬ولعل الحديث الوارد في الذباب إذا سقط في اإلناء من هذا القبيل‪،‬‬
‫جناحي‬
‫َ‬ ‫أن غمس‬ ‫والدليل على ذلك أنه لم يقل أحد من العلماء ّ‬
‫الذبابة واجب وأن مخالفة هذا األمر وعدم غمسه حرام‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫الرسول ال يعلم الغيب‬

‫صرح بأن الرسول ال يعلم الغيب وأمر اهلل الرسولَ‬‫القرآن قد ّ‬


‫في القرآن أن يخبر الناس بأنه ال يعلم الغيب‪ُ { :‬قل‪ :‬ال أقول لكم‬
‫بع‬
‫َك‪ ،‬إن أ َّت ُ‬
‫أعلم الغيب وال أقول إني َمل ٌ‬
‫ُ‬ ‫عندي خزائن اهلل وال‬
‫وحى إلي} { ُقل‪ :‬ال أملك لنفسي نفع ًا وال ضراً إال ما‬ ‫إال ما ُي َ‬
‫ّ‬
‫ني‬ ‫مس َ‬‫الستكثرت من الخير وما ّ‬
‫ُ‬ ‫أعلم الغيب‬
‫ُ‬ ‫شاء اهلل‪ ،‬ولو كنت‬
‫وبشير لقوم ُيؤمنون}‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫نذير‬
‫إن أنا إال ٌ‬ ‫وء‪ْ ،‬‬
‫الس ُ‬
‫ُّ‬
‫فخبر الناس بذلك وتال عليهم هذه اآليات‪ ،‬وبقيت قرآن ًا‬
‫ّ‬
‫ويقرأ به في الصوات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫المساجد‬ ‫ُيتلى في‬
‫الرسل كثيرون وأصول الرساالت واحدة‬
‫ال أرسله اهلل‬ ‫ّبين اهلل في القرآن أن لكل أمة من األمم رسو ً‬
‫نذير} {ولكل ّأم ٍة رسول}‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ْ ِ‬
‫{وإن م ْن أُ ّمة إال خال فيها ٌ‬ ‫إليها‪:‬‬
‫ولكن اهلل لم يذكرهم جميع ًا في القرآن‪ ،‬بل ذكر بعض ًا منهم‪:‬‬
‫ال لم َن ْق ُص ْصهم‬
‫ناهم عليك من قبلُ ورس ً‬‫ال قد َق َص ْص ُ‬‫{ور ُس ً‬
‫ُ‬
‫عليك}‪.‬‬
‫ولكنهم جميع ًا ُبعثوا بتوحيد اهلل والتصديق باليوم اآلخر‬
‫واتباع ما شرع اهلل‪ ،‬فأصول اإلسالم هي نفسها أصول الديانات‬
‫السابقة التي ُبعث بها الرسل األولون‪{ :‬شرع لكم من الدين ما‬
‫وص ْينا به إبراهيم وموسى‬
‫وصى به نوح ًا والذي أوحينا إليك وما َّ‬
‫ّ‬
‫تتفرقوا فيه}‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وال‬ ‫الدين‬
‫َ‬ ‫أقيموا‬ ‫أن‬ ‫وعيسى‪،‬‬
‫أرسل كل رسول إلى قومه وجعل رسالته إليهم بلسانهم‬

‫‪196‬‬
‫ويفهِمهم‪{ :‬وما أسلنا من رسول إال بلسان قو ِمه ُلي َب ِّين‬ ‫ليك ّلمهم ُ‬
‫لهم}‪ ،‬وختم هذه الرساالت برسالة محمد ’ وجعلها عامة‬
‫وحي ينزل‬ ‫َ‬ ‫نبي بعده وال‬
‫للناس جميع ًا وجعله خاتم النبيين‪ ،‬فال َّ‬
‫من السماء بعد أن انقطع بموته‪ ،‬وكان بها كمال الدين وإتمام‬
‫ورضيت‬
‫ُ‬ ‫وأتممت عليكم نعمتي‬
‫ُ‬ ‫أكملت لكم دينكم‬
‫ُ‬ ‫{اليوم‬
‫َ‬ ‫النعمة‪:‬‬
‫اإلسالم دين ًا}‪.‬‬
‫َ‬ ‫لكم‬
‫سؤال وجوابه‬
‫قد يسأل سائل‪ :‬كيف كانت رسالة محمد للناس كلهم‬
‫وكانت رسالة كل رسول إلى قومه‪ ،‬وكيف بقيت إلى يوم القيامة‬
‫وع ّدلت؟‬
‫عدل وقد ُنسخت الشرائع من قبلها ُ‬
‫نسخ وال ُت َّ‬
‫ال ُت َ‬
‫والجواب واهلل أعلم‪ :‬إن شريعة اإلسالم جاءت مرنة تصلح‬
‫لكل زمان ومكان‪ .‬وبيان ذلك أن العقائد والعبادات في اإلسالم‬
‫مفصلة ال تقبل التعديل وال التبديل‪ ،‬ألن‬
‫جاءت بها نصوص قطعية ّ‬
‫العقائد والعبادات ال تتبدل بتبدل األزمان وال تختلف باختالف‬
‫األعراف‪.‬‬
‫واألوضاع الدستورية والمعامالت المالية واألحوال اإلدارية‬
‫التي يؤثر فيها تبدل الزمان واختالف العرف جاءت فيها نصوص‬
‫عامة هي كاألساس والدعائم في البناء‪ ،‬و ُترك لنا أن نضع لكل‬
‫زمان ما يصلح له بشرط المحافظة على هذه القواعد‪ .‬وأم ّثل على‬
‫ذلك بأمثلة أعرضها عرض ًا موجزاً‪:‬‬
‫منتخب ًا برأي‬
‫من األمثلة أن اإلسالم أوجب أن يكون الحاكم َ‬
‫األمة وأن يكون فيه من الصفات ما يمكّ نه من القيام بأعباء الحكم‪،‬‬

‫‪197‬‬
‫وأن يلتزم بالدستور اإلسالمي الذي هو القرآن‪ ،‬وأن يستشير أهل‬
‫الحل والعقد‪ .‬وترك لنا تحديد أسلوب االنتخاب (أي البيعة)‬
‫وألزمنا‬
‫َ‬ ‫وطريقة تعيين أهل الحل والعقد وكيفية االستشارة‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫أن نحكم بين الناس بالعدل‪ ،‬ولكنه ترك لنا رسم الطريق الموصل‬
‫إلى العدل وأن نحدد أسلوب تعيين القضاة وأصول المرافعات‪.‬‬
‫ووضع للعقود قواعد عامة تضمن أهلية المتعاقدين‬
‫وحريتهما وصحة صيغة العقد وتعبيرها عن إرادتهما ومحل‬
‫العقد‪ ،‬ومنع أنواع ًا من العقود فيها مضرة عامة أو فيها تغرير بأحد‬
‫الطرفين‪ ،‬وترك لنا تنظيم األوضاع التفصيلية للعقود بأنواعها‪.‬‬
‫وجعل األعمال الفردية والمعامالت المالية جائزة مباحة‪ ،‬ال تحرم‬
‫محرم‪.‬‬
‫إال إن ورد بنص تحريمها أو دخلت تحت أصل َّ‬
‫وفتح لنا باب االستصالح‪ ،‬فكل أمر فيه مصلحة للمجتمع‬
‫وليس في الشرع ما يوجبه أو ينهى عنه إذا أمر به الحاكم المسلم‬
‫صار واجب ًا ديني ًا‪ ،‬كالقوانين المالية وقانون أصول المحاكمات‬
‫واألنظمة اإلدارية‪ ،‬كنظام السير ونظام البلديات وأمثالها‪.‬‬
‫فاإلسالم فيه من المرونة ما يجعله صالح ًا لكل زمان‬
‫يضيقون‬
‫ومكان‪ ،‬ولكن بعض الفقهاء المتأخرين (لضيق أذهانهم) ّ‬
‫وسعه الشرع حتى َيضطروهم (كما قال ابن القيم‬ ‫على الناس ما ّ‬
‫في كتاب >الطرق الحكمية<) إلى ابتغاء التوسعة في غير ما جاء‬
‫به اإلسالم‪.‬‬
‫وسبب آخر‪ :‬هو أن األمم كانت على عهود الرسل األولين‬
‫تقارب بينها وال اتصال إال على الدواب‬
‫َ‬ ‫تعيش في عزلة‪ ،‬ال‬

‫‪198‬‬
‫والجمال‪ ،‬فتعارفت األمم بعد رسالة محمد ’‪ ،‬ودنا البعيد‬
‫وطُويت للمسافر األرض‪ ،‬حتى وصلنا إلى زمان ُتلقى فيه‬
‫الخطبة في أميركا فيسمعها من في الصين قبل من كان قاعداً‬
‫أمام الخطيب(‪ ،)1‬وصارت الدنيا كأنها بلد واحد واألمم كلها‬
‫أمة واحدة‪ ،‬ولو أن المسلمين قاموا بما يجب عليهم من الدعوة‬
‫األرض كلها‪.‬‬
‫َ‬ ‫لدينهم وتبليغ رسالة اإلسالم ل ََع َّمت هذه الدعو ُة‬
‫اإلسالم ال يفرق بين الرسل‬
‫يدعون االنتساب إلى واحد‬ ‫(ممن ّ‬
‫وإذا كان في أتباع األنبياء ّ‬
‫منهم) من يطعن على غير نبيه فإن اإلسالم أوجب على المسلم‬
‫تعظيم األنبياء والرسل جميع ًا‪ ،‬فإذا أساء القولَ في واحد منهم أو‬
‫{آم َن الرسول بما أُنزل إليه من‬ ‫طعن عليه خالف طريق اإلسالم‪َ :‬‬
‫فر ُق‬
‫آم َن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله‪ ،‬ال ُن ّ‬ ‫كل َ‬
‫ربه والمؤمنون‪ٌّ ،‬‬‫ّ‬
‫ربنا وإليك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بين أحد من ُر ُسله‪ ،‬وقالوا سمعنا وأطَ عنا ُغفرا َنك َّ‬
‫المصير}‪.‬‬
‫وغيرهما كما يحب محمداً‪،‬‬
‫َ‬ ‫فالمسلم يحب موسى وعيسى‬
‫ويج ّلهم ويكبرهم كإكباره محمداً وإجالله‪ .‬واليهودي الذي دخل‬
‫لما جاء بها المسيح لم يخسر موسى ولكنه ربح معه‬ ‫النصرانية ّ‬
‫عيسى‪ ،‬والنصراني الذي يدخل اليوم في اإلسالم ال يخسر عيسى‬
‫وموسى ولكن يربح معهما محمداً‪ ،‬صلى اهلل على محمد وعلى‬
‫جميع األنبياء والمرسلين‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬هذه حقيقة‪ ،‬ألن انتقالها عن طريق الموجات اإلذاعية أسرع من‬
‫انتقالها عن طريق االهتزازات الهوائية‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫الرسل في القرآن‬

‫المسلم يعتقد أن القرآن كالم اهلل‪ ،‬نزل به جبريل على محمد‬


‫وب ّلغه محمد كما سمعه من جبريل‪ ،‬وأن ما بين د ّف َتي المصحف‬
‫شك فيه‬
‫هو القرآن كله كما نزل به جبريل‪ ،‬فمن أنكر شيئ ًا منه أو ّ‬
‫خرج من اإلسالم‪.‬‬

‫وقد ورد في القرآن ذكر خمسة وعشرين نبي ًا ُجمعت‬


‫أسماؤهم في خمس آيات‪ ،‬هي قوله تعالى‪{ :‬وتلك ُح ّجتنا آتيناها‬
‫عليم‪.‬‬ ‫حكيم‬ ‫إن ربك‬ ‫ٍ‬
‫درجات َمن نشاء‪ّ ،‬‬ ‫نرفع‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫إبراهيم على قومه‪ُ ،‬‬‫َ‬
‫ويعقوب ُكلاّ ً هدينا‪ ،‬ونوح ًا هدينا من قبل‪،‬‬
‫َ‬ ‫إسحاق‬
‫َ‬ ‫ووهبنا له‬
‫وهارون‪،‬‬
‫َ‬ ‫ويوسف وموسى‬‫َ‬ ‫وأيوب‬
‫َ‬ ‫وسليمان‬
‫َ‬ ‫داود‬
‫َ‬ ‫ومن ذريته‬
‫كل‬
‫وكذلك نجزي المحسنين‪ .‬وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس‪ٌّ ،‬‬
‫فضلْنا‬ ‫وكلاّ ً ّ‬
‫والي َسع ويونس ولوط ًا‪ُ ،‬‬ ‫من الصالحين‪ .‬وإسماعيل َ‬
‫إدريس إ ّنه‬
‫َ‬ ‫على العالمين}‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬واذكر في الكتاب‬
‫نبي ًا‪ ،‬ورفعناه مكان ًا َع ِل ًّيا}‪ .‬وقوله‪{ :‬وإلى عاد أخوهم‬ ‫ِ‬
‫كان ص ّديق ًا ّ‬
‫دي َن أخاهم شعيب ًا}‬ ‫هوداً} {وإلى ثمود أخاهم صالح ًا} {وإلى َم َ‬
‫الصابرين}‪ .‬وذكر آدم‬ ‫ل من ّ‬‫{وإسماعيل وإدريس وذا الكفل ُك ٌّ‬
‫ال‪ ،‬ولكن قد تدل اآليات التي ُذكر فيها‬ ‫يصرح بأنه كان رسو ً‬‫ولم ّ‬
‫على ترجيح القول برسالته‪.‬‬

‫خمسة وعشرون‪ ،‬منهم من اقتصر على ذكر اسمه كإدريس‬


‫وذي الكفل‪ ،‬ومنهم من أورد قصته موجزة كإسماعيل وإسحاق‬
‫مفصلة كإبراهيم وموسى ويوسف‬
‫ويونس‪ ،‬ومنهم من أورد قصته َّ‬
‫وعيسى‪ .‬وكل ما جاء به في القرآن من قصص األنبياء حق وصدق‬

‫‪200‬‬
‫بعضهم على بعض‪ ،‬منهم‬
‫فضلنا َ‬
‫الر ُسل َّ‬
‫يجب اإليمان به‪{ :‬تلك ُّ‬
‫بعض ُهم درجات}‪.‬‬
‫ور َفع َ‬
‫من َكل ََّم اهلل َ‬
‫المعجزات‬

‫لما أُسري برسول اهلل ’ من مكة إلى القدس فذهب وعاد‬ ‫ّ‬
‫ال‬
‫وعدته مستحي ً‬
‫في ليلة واحدة لم تستطع قريش أن تصدق ذلك ّ‬
‫ألنه ال يمكن تحقيقه بوسائلها المعروفة وهي اإلبل والدواب‪،‬‬
‫عجب منه‬
‫ولكن هذا المستحيل صار اليوم أمراً ممكن ًا مألوف ًا ال ُي َ‬
‫وال ينكره أحد‪.‬‬

‫ولو قيل ألكبر علماء الطبيعة قبل قرن أو قرنين من الزمان‪:‬‬


‫إن الناس سيركبون متن الريح بمراكب من الحديد والفوالذ‬
‫المحدث وخطبة‬
‫ّ‬ ‫ويخترقون نطاق الهواء‪ ،‬ويسجلون حديث‬
‫الخطيب ُفيسمعونها َمن شاؤوا متى شاؤوا‪ ،‬ولو مات المحدث‬
‫والخطيب‪ ،‬لقال أن ذلك مستحيل! مع أنه وقع اليوم وصار‬
‫معروف ًا‪.‬‬

‫فكيف تحقق المستحيل؟ الجواب‪:‬‬

‫إن المستحيل قسمان‪ :‬مستحيل في العادة‪ ،‬كاألمور التي‬


‫ذكرتها‪ ،‬ومستحيل في العقل‪ ،‬كاجتماع النقيضين‪ ،‬الوجود‬
‫ال‪ ،‬فال يكون الرجل نفسه موجوداً في هذا الوقت في‬ ‫والعدم مث ً‬
‫وكتبدل هوية الشيء‪ ،‬فال يكون‬‫ُّ‬ ‫هذا المكان وهو غير موجود فيه‪.‬‬
‫الكتاب ملعقة في الوقت الذي يكون فيه كتاب ًا‪.‬‬

‫تصور وقوعه‪ ،‬أما المستحيل في‬


‫المستحيل في العقل ال ُي َّ‬

‫‪201‬‬
‫العادة فقد رأينا كيف أن العلم (علم العبد بقوانين الطبيعة)‬
‫(‪)1‬‬

‫صيره ممكن ًا‪ ،‬فهل يعجز الخالق الذي أوجد هذه القوانين أن‬ ‫ّ‬
‫يصيره ُممكن ًا؟ ال شك في قدرته على ذلك‪ ،‬فوقوع المستحيل في‬‫ّ‬
‫صح الخبر به تح ّققنا من وقوعه‬
‫العادة ممكن هلل عز وجل‪ ،‬فإذا ّ‬
‫وأي ّقنا به‪.‬‬
‫الكرامات‬
‫وقد جاء في القرآن ذكر ثالثة أنواع فيها وقوع المستحيل‬
‫في العادة‪:‬‬
‫تحدتهم أقوامهم‪ ،‬إثبات ًا‬
‫ّ‬ ‫لما‬
‫نوع وقع على يد الرسل ّ‬
‫لرسالتهم وتأكيداً لصدقهم‪ ،‬ويسمى >المعجزة<‪ .‬فإبراهيم أُلقي في‬
‫فبدل اهلل طبيعة النار المحرقة وجعلها برداً وسالم ًا‪ ،‬وموسى‬
‫النار ّ‬
‫حية وضرب بها الصخر فانبجس منه الماء‬ ‫ألقى عصاه فانقلبت ّ‬
‫والبحر فانحسر حتى مشى فيه الناس‪ ،‬وعيسى أحيا الموتى بإذن‬
‫اهلل‪ ،‬وكذلك كل ما جاء في القرآن من المعجزات‪.‬‬
‫ونوع وقع على يد ولي هلل صالح‪ ،‬كوجود الطعام عند مريم‬
‫ّ‬
‫عرش بلقيس‬
‫َ‬ ‫في المحراب‪ ،‬وإحضار الذي عنده علم من الكتاب‬
‫من اليمن إلى فلسطين في أقل من لمح البصر‪ ،‬وتسمى >الكرامة<‪.‬‬

‫ونوع وقع على يد كافر‪ ،‬كما صنع السا ِم ّ‬


‫ري لبني إسرائيل‬
‫الح ِل ّي عج ً‬
‫ال له خوار‪ ،‬وتسمى >استدراج ًا<‪.‬‬ ‫من ُ‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬أي سنن اهلل في الكون‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫ال) بأن األنواع الثالثة ممكنة الوقوع ألنها‬
‫ويجب اإليمان (أو ً‬
‫وردت في القرآن‪ ،‬ويجب اإليمان (ثاني ًا) على وجه التفصيل بكل‬
‫ما ورد من ذلك في القرآن‪.‬‬
‫أما ما يرويه الناس من الكرامات ينسبونه إلى بعض من‬
‫يسمونهم أولياء فهو خبر يحتمل الصدق والكذب‪ ،‬فإن كان واقع ًا‬
‫وصدقت به لم يكن عليك من اهلل‬ ‫ّ‬ ‫من ولي(‪ )1‬ولم تكن فيه معصية‬
‫ّ‬
‫تصدق به لم يكن عليك من اهلل‬‫ّ‬ ‫فلم‬ ‫عندك‬ ‫يصح‬
‫ّ‬ ‫لم‬ ‫وإن‬ ‫شيء‪،‬‬
‫شيء‪ .‬أما إن كانت الكرامة المزعومة تشتمل على معصية(‪ )2‬أو‬
‫تقي فليست كرامة‪.‬‬
‫كانت واقعة من غير مؤمن أو من غير ٍّ‬
‫المعجزة والسحر‬
‫لما كانت المباراة بين موسى وسحرة فرعون أل َق ْوا حبالهم‬
‫وع ِص َّيهم فرآها الناس حيات وثعابين‪ ،‬وألقى موسى عصاه‬ ‫َ‬
‫فصارت حية وأكلت تلك الحيات والثعابين‪ ،‬فهل األمران سواء؟‬
‫هل عمل موسى من جنس عمل سحرة فرعون؟‬
‫إذا كان من جنسه فلماذا آمن السحرة؟ لقد كان عمل السحرة‬
‫خداع ًا للبصر وإيهام ًا للناس‪َ ،‬أر ْوهم حيات وثعابين مع أن الحبال‬
‫ال وعصي ًا‪ ،‬أما عصا موسى فقد‬
‫والعصي ال تزال على حالها‪ ،‬حبا ً‬
‫ّ‬
‫ال إلى حية‪ ،‬ولو كان ثمة آلة التصوير والتقطت صورتها‬ ‫تحولت ً‬
‫فع‬ ‫ّ‬
‫______________________‬
‫خوف عليهم وال هم‬
‫ٌ‬ ‫أولياء اهلل ال‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫(‪ )1‬والولي هو المؤمن التقي‪{ :‬أال ّ‬
‫يحزنون‪ ،‬الذين آمنوا وكانوا ّيتقون}‪.‬‬
‫الشعراني في >الطبقات<‪.‬‬ ‫(‪ )2‬كبعض ما يروي ّ‬

‫‪203‬‬
‫لظهرت في الصورة حية حقيقية‪ ،‬على حين تظهر حيات السحرة‬
‫ال وعصي ًا‪.‬‬
‫حبا ً‬
‫لذلك آمن السحرة هذا اإليمان السريع‪ .‬إنهم رأوا شيئ ًا ليس‬
‫هز قلوبهم حتى‬ ‫من السحر وال من التخييل وال من التهويل‪ ،‬شيئ ًا َّ‬
‫يتحدون‬
‫َّ‬ ‫اضطَ ّرها إلى اإليمان‪ ،‬وبلغ منهم اإليمان مبلغ ًا جعلهم‬
‫فرعون وال يبالون به‪ .‬إنهم تصوروا عظمة اهلل الذي آمنوا به فهانت‬
‫عليهم عظمة فرعون الزائفة وربوبيته المكذوبة‪ ،‬لقد صغرت‬
‫الدنيا في عيونهم فلم يحفلوا بتهديد فرعون إياهم بالصلب وقطع‬
‫األعضاء‪.‬‬
‫إن فرعون ال يملك إال تعذيبهم في الدنيا‪ ،‬وما الدنيا في‬
‫جنب اآلخرة؟ وما عذابها المؤقت عند نعيم اآلخرة الدائم؟ لذلك‬
‫ٍ‬
‫قاض‪،‬‬ ‫أنت‬ ‫ِ‬
‫{فاقض ما َ‬ ‫صرخوا في وجهه مستهينين بقضائه‪:‬‬
‫إ ّنما َتقضي هذه الحيا َة الدنيا}‪ .‬إني أتمنى واهلل‪ ،‬وأنا المولود‬
‫في اإلسالم الذي تسلسل في آبائه اإلسالم‪ ،‬أن يكون لي مثل‬
‫هذا اإليمان الذي كان لسحرة فرعون بعد دقائق معدودات من‬
‫إسالمهم(‪.)1‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬اإلسالم له معنى عام ومعنى خاص ومعنى أخص‪ ،‬فالمسلم بالمعنى‬
‫ال وقت رسالته‪ ،‬والمسلم بالمعنى الخاص‪:‬‬
‫العام‪ :‬كل من اتبع رسو ً‬
‫من اتبع رسالة محمد ’‪ ،‬وبالمعنى األخص‪ :‬ما ورد في حديث‬
‫جبريل الذي شرح معنى اإليمان واإلسالم واإلحسان‪ .‬وإطالق‬
‫اإلسالم هنا بالمعنى العام‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫معجزات محمد عليه الصالة والسالم‬
‫المعجزتان الكبريان‪ :‬القرآن‪ ،‬وهذه المزايا المفردة التي‬
‫ال لحمل رسالة اإلسالم‪.‬‬
‫جعله اهلل بها أه ً‬
‫ترجمة حياته ’ كانت في ذاتها معجزة‪ .‬كان بشراً وأمره اهلل‬
‫أن يقرر هذه الحقيقة ويعلنها للناس لئال يتخذوه إله ًا أو يمنحوه‬
‫بشر‬
‫جل وعال‪ُ { :‬قل إنما أنا ٌ‬ ‫من صفات األلوهية‪ ،‬قال له ربه ّ‬
‫المقومات العامة للصفة البشرية‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وحى إلي}‪ .‬بشر مثلكم في‬ ‫ُي َ‬
‫ّ‬
‫ولكن ليس في البشر (على التحقيق) َمن هو مثله في عظمته‪ ،‬ولم‬
‫ال واحداً اسمه‬ ‫يخلق اهلل من هذا الطراز من أبناء آدم جميع ًا إال رج ً‬
‫محمد بن عبد اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليه وعلى أبيه إبراهيم وعلى موسى‬
‫وعيسى وجميع األنبياء‪.‬‬
‫وأنا أعجب لماذا حاول المتأخرون من مؤلفي السيرة‬
‫االستكثار من المعجزات والتوسع فيها وإضافة معجزات لم‬
‫تكن‪ .‬وما حاجتهم إليها وكل موقف من سيرة الرسول ’ وكل‬
‫جانب من شخصيته هو معجزة من أكبر المعجزات‪ .‬وما المعجزة؟‬
‫أليست األمر الذي َيعجز الناس عن مثله؟‬
‫إن صدقه وأمانته معجزة‪ ،‬ولن أسرد عليكم أمثلة كثيرة‬
‫مررت بها في مطالعاتي مئات‬
‫ُ‬ ‫ال واحداً‪ ،‬حادثة‬
‫ولكن أعرض مثا ً‬
‫تنبهت إليها يوم ًا‬
‫المرات فكنت أقرؤها على أنها خبر عادي‪ ،‬ثم ّ‬
‫فجأة فإذا هي أعجوبة‪ ،‬وكم في السيرة من أمثال هذه األخبار!‬
‫علي ًا‬
‫كلكم تعرفون أنه لما هاجر الرسول إلى المدينة ترك ّ‬
‫مكانه ليرد الودائع التي كانت عنده لقريش‪ ،‬فهل فكرتم يوم ًا‪ :‬ما‬

‫‪205‬‬
‫يبق أحد من‬
‫قصة هذه الودائع؟ يردها لقريش ال للمسلمين‪ ،‬إذ لم َ‬
‫المسلمين في مكة لما هاجر الرسول ألنه كان آخر من هاجر‪ ،‬بقي‬
‫كما يبقى الربان في السفينة الجانحة‪ ،‬ال يتركها حتى ينزل الركاب‬
‫جميع ًا ويصلوا إلى قوارب النجاة‪ ،‬وهذه َم ْنقبة ذكرتها عرض ًا‪.‬‬
‫قصة الودائع هي أن قريش ًا كانت (على كل ما كان بينها وبين‬
‫الرسول) ال تجد من تأتمنه على ذخائرها إال محمداً‪ .‬فتصوروا‬
‫حزبين مختلفين‪ ،‬الحرب قائمة بينهما‪ ،‬حرب اللسان واليد‬
‫والمبدأ والعقيدة‪ ،‬ثم يأتمن أفراد الحزب على أموالهم وأوراقهم‬
‫ال من الحزب اآلخر! هل سمعتم بمثل هذه الحادثة؟ وكيف‬ ‫رج ً‬
‫إن لم يكن في أخالقه وأمانته معجزة من‬ ‫الخصم ْ‬
‫َ‬ ‫يستودعونها هذا‬
‫أحد المستحيالت؟ هكذا كان محمد ’ (‪.)1‬‬ ‫والشك فيه َ‬
‫ُّ‬ ‫المعجزات‬
‫كانت سيرة حياته كلها معجزة عجز عظماء العالم جميع ًا عن‬
‫أن يتركوا لهم سيرة مثلها‪ ،‬في كل ناحية منها عزة وعظمة‪ :‬في‬
‫قوة جسده وتكوينه الرياضي‪ ،‬في روحه الرياضية وأنه ال يستخفه‬
‫النصر حتى يبطره وال تزلزله الهزيمة حتى تثير غضبه أو تذهب‬
‫بعزمه‪ ،‬في ثباته في المعامع الحمر حتى كان أبطال الصحابة‬
‫يحتمون به‪ ،‬وفي شجاعته التي تضعضع أمامها صناديد الرجال‪،‬‬
‫وفي تواضعه للمسكين والفقير ووقوفه لألرملة وللعجوز‪.‬‬
‫وفي بيانه وفصاحته وأنه كان أبلغ من نطق وأبان‪ .‬وفي إقراره‬
‫بالحق‪ ،‬وفي صدق التبليغ عن اهلل حتى إنه ب ّلغ اآليات التي نزلت‬
‫في تخطئته وفي عتابه‪ ،‬وفي احترامه العهود وحفاظه على كلمته‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬انظر مقالة >خبر من السيرة< في كتاب >مقاالت في كلمات< (مجاهد)‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫ونصب‪ ،‬سواء عنده في ذلك‬
‫مهما كلفه الحفاظ عليها من مشقة َ‬
‫معامالته الشخصية وشؤون الدولة‪.‬‬
‫وحسه المرهف‪ ،‬وأنه هو الذي َس ّن آداب الطعام‬ ‫ّ‬ ‫وفي ذوقه‬
‫وقرر قواعد النظافة في وضعه مع أصحابه إذ يعلمهم ويعمل‬
‫معهم‪ ،‬ويعيش مثلما يعيشون ويستشيرهم ويسمع منهم‪ ،‬ويجلس‬
‫حيث يجد المكان الفارغ في آخر المجلس حتى كان القادم عليه‬
‫ال يراه‪ ،‬ينظر في وجوه القوم فيقول‪ :‬أيكم محمد؟ ألن محمداً‬
‫لم يكن يمتاز عليهم في جلوسه وال في ثيابه‪ ،‬كان مثلهم في كل‬
‫المهذب العفيف مع النساء‪ ،‬وفي سيرته في بيته‬ ‫ّ‬ ‫شيء‪ ،‬في سلوكه‬
‫محبب ًا إلى كل‬
‫ومع أهله‪ ،‬ومزحه الصادق وانطالق نفسه وأنه كان َّ‬
‫قلب‪ .‬في تواضعه ورفضه أن ُي َع ّد ملك ًا ونهي أصحابه عن القيام له‪،‬‬
‫وأنه كان يقوم بحاجة أهله ويخصف بيده نعله‪ ،‬وأنه عاش حياة‬
‫الفقر زهداً في الغنى ال عجزاً عنه‪ ،‬ولو شاء لكان قصره أفخم من‬
‫إيوان كسرى ودارة قيصر‪ ،‬ولكنه اختار اآلخرة فكانت دور نسائه‬
‫جميع ًا‪ ،‬نسائه التسع‪ ،‬ال يتجاوز طولها كلهاخمسة وعشرين متراً‪.‬‬
‫كل ذلك فيه اإلعجاز وفيه الدليل على أن اهلل ما اختاره‬
‫ألسمى الرساالت وما جعله خاتم األنبياء حتى أعده لذلك إعداداً‬
‫جعله واحداً في بنى آدم ليس له في شمائله نظير ’‪ ،‬و{اهلل أعلم‬
‫حيث يجعل رسالته}(‪.)1‬‬
‫* * *‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬للتوسع في مناقب النبي وشخصيته ’ انظر فصل >شخصية الرسول‬
‫’< في كتاب >سيد رجال التاريخ< (مجاهد)‪.‬‬

‫‪207‬‬
208
‫اإليمان بالكُ ُتب‬

‫القرآن‬
‫القرآن هو معجزة محمد ’‪ .‬والذين زعموا أن القرآن من‬
‫تأليف محمد أنكروا عليه أنه نبي ولكنهم وصفهم بأنه إله‪ ،‬ونحن‬
‫نشهد >أن ال إله إال اهلل وأنه عبد اهلل ورسوله<‪ .‬ذلك أن القرآن ال‬
‫فمن‬
‫يستطيع أن يأتي به بشر وال يمكن أن يأتي إال من عند اهلل‪َ ،‬‬
‫قال إن محمداً ألّفه فقد منح محمداً صفة األلوهية!‬
‫أمي ًا ال يقرأ وال يكتب كما كان‬
‫ال كان ّ‬
‫وإال فأروني رج ً‬
‫محمد‪ ،‬ولم يدخل في عمره مدرسة‪ ،‬بل لم يكن في بلده‬
‫مدرسة‪ ،‬بل هو لم يكن في بلدة كبيرة من بلدان الحضارة بل‬
‫كان في قرية متوارية بين الجبال السود وراء رمال الصحراء‪ ،‬لم‬
‫تد ِر بها روما وال القسطنطينية وال مدائن كسرى ولم يدر أحد‬
‫فيها بفلسفة اليونان والرومان ولم يسمع واحد منهم بأدب الهند‬
‫وإيران‪ ،‬قرية ليس فيها عالم وال باحث وال مثقف ثقاف َة صغا ِر‬
‫المفكرين في ذلك الزمان‪ ،‬وهو لم يخرج منها إال إلى قرية مثلها‬
‫ال منها‪ ،‬هي ُبصرى الشام من أرض حوران‪ ،‬ولم ُيقم‬ ‫أو أكبر قلي ً‬
‫فيها إال يوم ًا أو أيام ًا قليالت معدودات‪ ...‬هل يمكن لمثل هذا‬

‫‪209‬‬
‫الرجل أن يأتي بمثل القرآن؟‬
‫هذه تواريخ العباقرة والنابغين بين أيديكم‪ ،‬تواريخ األمم‬
‫كلها في العصور كلها‪ ،‬فهل فيها حادث مثل هذا الحادث؟ لقد‬
‫ألف موزارت قطعة موسيقية وهو دون العاشرة‪ ،‬ونظم بشار الشعر‬
‫وهو في مثل هذه السن‪ ،‬ونبغت مؤلفة >جين إير< وأختها كاتبة‬
‫>أعالي وذرنغ< نبوغ ًا مفاجئ ًا(‪ ،)1‬وترك شكسبير هذه الثروة األدبية‬
‫ولم يكن من أكابر أدباء عصره ومثقفيه‪ ...‬كل هذا ممكن‪ ،‬ويمكن‬
‫أن يؤلِّف شاب مغمور كتاب ًا يأتي فيه بقصة رائعة أو نظرية علمية‬
‫جديدة ألنه عبقري‪ ،‬فالعبقرية ليست وقف ًا على المتعلمين وال على‬
‫خريجي الجامعات‪ ،‬وقد تظهر العبقرية حيث ال ُيتوقع ظهورها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ولكن َمن عرفهم التاريخ من عباقرة العلم واألدب والفن إنما‬ ‫ّ‬
‫ال‪ ،‬زادوا على أقرانهم خمسين في المئة أو‬ ‫سبقوا زمانهم بقرن مث ً‬
‫مئة في المئة‪ .‬إن لسبقهم حدوداً‪ ،‬إنه سبق معقول‪.‬‬
‫وليس في التاريخ كله رجل كانت له ظروف محمد ’‪،‬‬
‫يأتي بكتاب هو في األسلوب األدبي في أبهى صور الجمال‪،‬‬
‫وهو في مجال التشريع قانون في ذروة الكمال‪ ،‬وهو في اإللهيات‬
‫المغيبات يأتي بما ال يعرفه أحد من البشر وال يمكن‬
‫َّ‬ ‫واإلخبار عن‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬مؤلفة >جين إير< هي شارلوت برونتي‪ ،‬وأختها مؤلفة >أعالي وذرنغ<‬
‫هي إميلي برونتي‪ ،‬ولهما أخت ثالثة روائية مثلهما اسمها آن‪ ،‬وهي‬
‫أقل شهرة منهما‪ .‬ومن رواية >أعالي وذرنغ< استوحى جدي قصته‬
‫الطويلة >على ثلوج حزرين< التي نشرها في >الرسالة< سنة ‪1947‬‬
‫في خمس حلقات‪ ،‬وهي في كتاب >قصص من الحياة< (مجاهد)‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫العقل البشري‪ ،‬وهو في الطبيعة يشير إلى قوانين‬
‫ُ‬ ‫أن يدركه بنفسه‬
‫وظواهر لم يكن يعرفها أحد في عصره وال في العصر الذي تال‬
‫عصره وال في العصور العشرة التي جاءت بعد ذلك‪ ،‬فيه إشارات‬
‫إلى قوانين لم ُتكشف إال بعده بألف وثالثمئة سنة وقوانين لم‬
‫ُتكشف لآلن‪.‬‬
‫يتحدى به الناس جميع ًا‪ ،‬فتحدى اإلنس‬
‫ّ‬ ‫كتاب أمره اهلل أن‬
‫والجن أن يأتوا بعشر سور من أمثال سوره‪ ،‬بل أن يأتوا بسورة‬
‫واحدة‪ ،‬فعجزوا! وهذا التحدي قائم إلى اآلن والعجز مستمر إلى‬
‫اآلن‪.‬‬
‫إعجاز ثابت‪ ،‬ولكن ال تبحثوا (كما بحث علماء البالغة)‬
‫عن مواطن اإلعجاز‪ ،‬فإن موطن اإلعجاز ليس في ألفاظه وحدها‬
‫المغيبات فقط وال في أمر واحد من األمور التي‬
‫َّ‬ ‫وال في أخباره عن‬
‫ّاد َعوا أن اإلعجاز فيها‪ ،‬بل فيه كله مجتمع ًا‪ .‬كالمرأة الجميلة‪،‬‬
‫ليس جمالها في لون بشرتها وحده وال في عينيها وحدهما وال في‬
‫أي عضو من أعضائها‪ ،‬بل جمالها فيها كله‪ .‬وإن كان كل ناظر في‬
‫القرآن يلمح اإلعجاز من الجهة التي ينظر فيها‪.‬‬
‫تعرفون قصة رئيس قسم تحقيق الشخصية الذي أسلم لما‬
‫سمع قوله تعالى‪{ :‬بلى قادرين على أن ُن َس ِّو َي بنا َنه}‪ .‬فكّ َر‪ :‬لماذا‬
‫خص البنان بالذكر؟ ماذا فيه؟ فيه بصمات األصابع‪ .‬هذه المعجزة‬ ‫ّ‬
‫اإللهية العجيبة‪ ،‬كم ظهر على األرض من ناس؟ إنه ليس فيهم‬
‫اثنان تتفق بصمة أحدهما وبصمة اآلخر‪ .‬إنها ظاهرة عجيبة لكنها‬
‫ُعرفت من قريب‪ ،‬لم يكن يعرفها أحد على عهد محمد وال في‬
‫القرون العشرة التي تلت عهد محمد‪ .‬فال بد إذن أن يكون محمد‬

‫‪211‬‬
‫’ قد تلقاها من عند اهلل وال بد أن يكون القرآن كالم اهلل‪.‬‬
‫وفي القرآن مئات من أمثال هذه اإلشارة ال نزال نجد كل‬
‫دارس بدت له‬‫ٌ‬ ‫القرآن‬
‫َ‬ ‫يوم من ينتبه إلى واحدة منها‪ ،‬كلما درس‬
‫فنى عجائبه‪.‬‬ ‫من إعجازه جوانب لم يدركها األولون‪ ،‬ألنه ال َت َ‬
‫يفسر القرآن في كل زمان تفسيراً جديداً‪ :‬يفسره‬ ‫لذلك يجب أن َّ‬
‫األديب‪ ،‬ويفسره الحقوقي‪ ،‬ويفسره الفلكي‪ ،‬ويفسره عالم النفس‬
‫ال لعلمه‬‫وعالم االجتماع والمؤرخ‪ ...‬كل واحد منهم يجد فيه مجا ً‬
‫ال من اختصاصه وعلمه على أن القرآن كالم اهلل‪.‬‬ ‫واختصاصه ودلي ً‬
‫إن معجزات الرسل األولين وقعت مرة وانقضت‪ ،‬ولكن‬
‫معجزة محمد قائمة تتكرر كل يوم‪ .‬ومعجزات الرسل دليل من‬
‫غير جنس الرسالة على صحة الرسالة‪ ،‬ومعجزة رسالة محمد‬
‫هي رسالته نفسها‪ ،‬صلى اهلل وس ّلم عليه وعلى إخوانه األنبياء‬
‫والمرسلين‪.‬‬
‫اإليمان بالكتب‬
‫خبرنا عنها القرآن‪،‬‬
‫المنزلة التي ّ‬
‫َّ‬ ‫نحن نؤمن بالقرآن وبالكتب‬
‫وهذه الكتب هي‪ :‬صحف إبراهيم‪ ،‬وصحف موسى (وهي التوراة)‬
‫وزبور داود وإنجيل عيسى‪.‬‬
‫َ‬
‫والقرآن هو الحاكم عليها والميزان الذي ُيعرف به صحيحها‬
‫بالحق‬
‫ّ‬ ‫الكتاب‬
‫َ‬ ‫إليك‬
‫من الذي ُح ِّرف منها‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬وأنزلنا َ‬
‫أخبرنا اهلل‬
‫َ‬ ‫وم َه ْي ِمن ًا عليه}‪ .‬فما‬
‫ُم َص ِّدق ًا لما بين يديه من الكتاب ُ‬
‫في القرآن أنه من هذه الكتب ّآمنا به وقلنا بكفر من أنكره‪ ،‬وما‬
‫وافق القرآن من أخبار هذه الكتب اعتقدنا أنه باق على صحته‬

‫‪212‬‬
‫وأن التحريف لم يصل إليه‪ ،‬وما جاء من أخبارها مخالف ًا لما رواه‬
‫محرف عن أصله‪.‬‬
‫القرآن عنها اعتقدنا أنه َّ‬
‫صحف إبراهيم‬
‫خبرنا اهلل أن مما جاء في صحف إبراهيم وتكرر في صحف‬ ‫ّ‬
‫وأن ليس لإلنسان إال ما‬
‫ْ‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫ر‬ ‫ز‬ ‫ِ‬
‫و‬
‫ٌ ْ َ‬ ‫ة‬ ‫وازر‬ ‫ِر‬
‫َ َ‬ ‫ز‬ ‫ت‬ ‫لاّ‬ ‫أ‬ ‫{‬ ‫موسى‬
‫وأن إلى‬
‫الجزاء األوفى‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫سعيه سوف ُيرى‪ ،‬ثم ُيجزاه‬ ‫وأن َ‬ ‫سعى‪ّ ،‬‬
‫تزكى‪ ،‬وذكر‬
‫الم َنتهى}‪ .‬وأن من ذلك قوله‪{ :‬قد أفلح َمن ّ‬ ‫ربك ُ‬
‫إن‬
‫خير وأبقى‪ّ .‬‬ ‫ِ‬
‫فص ّلى‪ .‬بل ُت ْؤثرون الحيا َة الدنيا‪ ،‬واآلخر ُة ٌ‬ ‫اسم ربه َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الص ُحف األولى‪ُ ،‬ص ُحف إبراهيم وموسى}‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هذا لَفي ُّ‬
‫التوراة‬
‫منزلة من عند اهلل‪ ،‬فيها هدى للناس وفيها حكم اهلل؛‬ ‫التوراة ّ‬
‫قال تعالى‪{ :‬وكيف ُيحكِّ مونك وعندهم التورا ُة فيها ُح ُ‬
‫كم اهلل}‬
‫{إ ّنا أنزلنا التورا َة فيها ُهدى ونور}‪.‬‬
‫خبرنا به عن أحكام التوراة قوله‪{ :‬وكتبنا عليهم فيها‬ ‫ومما ّ‬
‫أل ُذ َن با ُ‬
‫ألذن‬ ‫واألنف باألنف وا ُ‬
‫َ‬ ‫والعين بالعين‬
‫َ‬ ‫فس بالنفس‬‫الن َ‬
‫أن ّ‬ ‫ّ‬
‫والجروح ِقصاص}(‪.)1‬‬ ‫بالسن ُ‬‫والسن ِّ‬
‫ِّ‬
‫وخبرنا أن فيها بشارة بمحمد ’‪ ،‬قال‪{ :‬الذين ّيتبعون‬
‫ّ‬
‫التوراة}‪ .‬وأن فيها وصف‬
‫النبي الذي يجدونه مكتوب ًا عندهم في ّ‬
‫َّ‬
‫أشد ُاء على الكفار‬
‫{محم ٌد رسولُ اهلل‪ ،‬والذين معه ّ‬
‫ّ‬ ‫المؤمنين‪:‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬لبعض العلماء بحث فيه هذه األحكام‪ :‬هل ُكلِّفنا نحن المسلمين بها‬
‫أم ال؟ راجع تفسير المنار‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫ال من اهلل ورضوان ًا‪،‬‬
‫ماء بينهم‪ ،‬تراهم ُر َّكع ًا ُس ّجداً يبتغون فض ً‬
‫ُر َح ُ‬
‫السجود‪ ،‬ذلك مثله في التوراة}‪.‬‬ ‫سيماهم في وجوههم من أثر ّ‬
‫ال َّزبور‬
‫وخبرنا أن مما ُكتب في‬‫داود َز ُبوراً}‪ّ ،‬‬‫َ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬وآتينا‬
‫األرض‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ولقد كتبنا في‬ ‫َ‬ ‫الزبور وراثة الصالحين‬
‫األرض ير ُثها عبا ِد َي الصالحون}‪ .‬ولعل‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫الزبور من بعد الذِّ ك ِر ّ‬
‫َّ‬
‫المراد باألرض الجنة‪ ،‬لقوله تعالى حكاية عن المؤمنين الذين‬
‫األرض‬
‫َ‬ ‫وعد ُه وأورثنا‬
‫الحمد هلل الذي صد َقنا َ‬‫ُ‬ ‫يدخلونها‪{ :‬وقالوا‬
‫نتبوأ من الج َّن ِة حيث نشاء}‪.‬‬
‫ّ‬
‫اإلنجيل‬
‫صدق ًا لما بين‬
‫وم ِّ‬ ‫ونور ُ‬
‫ٌ‬ ‫اإلنجيل فيه هدى‬
‫َ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬وآتيناه‬
‫المنزل يشتمل على أحكام‬ ‫َّ‬ ‫وبين أن اإلنجيل‬ ‫يديه من التوراة}‪ّ .‬‬
‫اإلنجيل بما أنزلَ اهلل فيه}‪ ،‬وفيه تعديل‬ ‫ِ‬ ‫أهل‬
‫{ول َْي ْحكُ ْم ُ‬
‫تشريعية‪َ :‬‬
‫التورا ِة ولأِ ُ ِحلَّ لكم‬
‫يدي ِم َن ّ‬
‫صدق ًا لما بين َّ‬
‫{وم ِّ‬
‫ُ‬ ‫لشريعة التوراة‪:‬‬
‫بعض الذي ُح ِّر َم عليكم}‪ .‬وفيه كالتوراة بشارة بمحمد ووصف‬ ‫َ‬
‫للمؤمنين به‪.‬‬
‫ونحن نؤمن بكل ما أنزل اهلل من صحف وتوراة وزبور‬
‫وإنجيل‪ ،‬ونحترم األنبياء كلهم وفيهم إبراهيم وموسى وداود‬
‫وعيسى‪ ،‬صلى اهلل عليهم جميع ًا‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪214‬‬
‫خاتمة‬

‫هذه هي العقائد اإلسالمية‪ ،‬من اعتقدها واعتقد بكل ما أخبر‬


‫به القرآن من خلق السماوات واألرض واإلنسان وظهرت آثار هذا‬
‫االعتقاد في عمله فهو المسلم الكامل‪ ،‬يعمل بالقرآن الذي اعتقد‬
‫صحته‪ ،‬ال يكتفي بتالوته بال فهم وال بتلحينه والتطريب به بال‬
‫ويحرم حرامه‪ ،‬يعمل‬
‫ّ‬ ‫يحل حالله‬
‫علم‪ ،‬بل يتخذه دستوراً لحياته‪ّ ،‬‬
‫ما أوجبه ويترك ما نهى عنه‪.‬‬
‫إن كانت ديانات الناس للمعابد وحدها فاإلسالم ليس‬
‫للمسجد وحده‪ ،‬ولكن للمسجد وللدار وللسوق ولقصر الحكم‬
‫يبين له ما ُيباح له‬
‫وللحرب وللسلم‪ .‬اإلسالم يالزم المسلم دائم ًا‪ّ ،‬‬
‫إن خال بنفسه ومعه إن انفرد بأهله‪ ،‬وهو‬ ‫وما يحرم عليه‪ .‬هو معه ْ‬
‫معه في تجارته وفي عمله‪ ،‬فكل عمل من أعمال المسلم له حكم‬
‫من األحكام الخمسة‪ ،‬ومنها اإلباحة األصلية‪.‬‬
‫وإن كانت الديانات األخرى عبادات فقط‪ ،‬ال عالقة لها‬ ‫ْ‬
‫بالسياسة وال بالعلم‪ ،‬فاإلسالم عبادة وقانون مدني وقانون جزائي‬
‫وقانون دولي‪ ،‬ونظام إداري ومذهب خلقي‪ ،‬وهو علم وهو‬
‫أي كتاب من كتب الفقه‬‫سياسة وهو عمل وهو جهاد‪ .‬افتحوا ّ‬

‫‪215‬‬
‫وإن كانت‬‫وانظروا في فهرسه تروا هذه الجوانب كلها فيه(‪ْ .)1‬‬
‫العبادات في الديانات األخرى صالة فقط فالعبادة عندنا ليست‬
‫إن كل عمل ينفع الناس ‪-‬إن قصد به فاعله‬
‫صالة وصيام ًا فقط‪ ،‬بل ّ‬
‫وجه اهلل‪ -‬كان له عبادة‪.‬‬
‫وإذا فصلوا بين الدين (الذي هو عبادة فقط) والعلم فاإلسالم‬
‫دين العلم‪ .‬أول كلمة نزلت من كتابه كانت >اقرأ<‪ ،‬لم تكن قاتل‬
‫وال اجمع المال وال ازهد في الدنيا‪> .‬اقرأ< هذه أول كلمة أُنزلت‬
‫من القرآن وجاء بعدها ذكر العلم‪ ،‬ما َم َّن اهلل على اإلنسان بما‬
‫أعطاه من مال وال قوة وال جاه‪ ،‬بل بأنه ع ّلمه ما لم َي ْعلم‪.‬‬
‫فرض‬
‫َ‬ ‫وكل عمل يحتاج إليه مجتمع إسالمي يكون تع ّلمه‬
‫كفاية على القادرين عليه‪ ،‬فهل في الوجود دين إال اإلسالم يجعل‬
‫تعلم الكيمياء والطب والطيران من الفروض الدينية؟‬
‫واإلسالم دين الغنى‪ .‬اهلل سمى المال في القرآن خيراً فقال‪:‬‬
‫{إن ترك خيراً‬
‫َشديد} وقال في آية الوصية‪ْ :‬‬
‫ٌ‬ ‫{وإ ّنه لِ ُح ِّب الخير ل‬
‫ال‪ .‬فينبغي أن يكون المسلمون أغنياء‪ ،‬ولكن بشرط‬ ‫‪ }...‬أي‪ :‬ما ً‬
‫أن يجمعوا المال من الحالل وأن يكون المال في أيديهم ال في‬
‫مسخر لإلنسان‪ ،‬واإلنسان‬‫َّ‬ ‫قلوبهم‪ .‬والمال وكل ما في الكون‬
‫سيد لِما في الكون من أشياء‪،‬‬
‫حس أنه عبد اهلل‪ ،‬ولكنه ٌ‬ ‫المسلم ُي ّ‬
‫يتصرف فيه تصرف السيد‪ ،‬يستجلب النفع الذي أودعه اهلل فيه‪،‬‬
‫______________________‬
‫اليوم من المقررات المعلومة التي ال تحتاج إلى بيان‪ ،‬ولم‬
‫َ‬ ‫(‪ )1‬صار هذا‬
‫لما كنت أكتبه وأحاضر به في أواخر العشرينيات وأوائل‬ ‫يكن كذلك ّ‬
‫الثالثينيات‪ ،‬وكتاباتي فيه كانت بحمد اهلل سابقة رائدة‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫فإن عظّ مه لذاته صار‬
‫فهو يرغب في النافع ولكن ال يعظّ مه لذاته‪ْ ،‬‬
‫عبداً له وكان بذلك قد أشركه في العبادة مع اهلل‪.‬‬
‫أنت ّادخرته وخبأته ولم‬
‫فإن َ‬
‫والمال جعله اهلل لجلب النفع‪ْ ،‬‬
‫تنتفع منه صرت خادم ًا له وعبداً‪ ،‬وقد قال الرسول ’‪َ > :‬ت ِعس‬
‫عبد الدرهم<‪ .‬والثياب ُجعلت لدفع البرد وستر الجسد‪ ،‬فإن‬
‫عظّ متها لذاتها فحفظتها ورعيتها ولم تنتفع بها صرت عبداً لها‪،‬‬
‫وقد >تعس عبد الخميصة<‪.‬‬
‫واإلسالم دين القوة‪ ،‬ولكن بال ظلم‪ .‬واإلسالم للدنيا واآلخرة‪:‬‬
‫{ربنا آتِنا في الدنيا حسنة‪ ،‬وفي اآلخرة حسنة}‪.‬‬
‫َّ‬
‫وهو يريد من المسلمين أن َي ْصدقوا اإليمان وأن يتبعوا‬
‫الشرع‪ ،‬وأن يكونوا ‪-‬مع هذا‪ -‬أرقى األمم وأقوى األمم وأعلم‬
‫األمم وأغنى األمم ليجمعوا حسنة الدنيا وحسنة اآلخرة‪ ،‬وأن يعلم‬
‫كل مسلم ‪-‬بعد هذا‪ -‬أن عليه واجب ًا آخر‪ ،‬هو التعريف باإلسالم‬
‫والدعوة إلى اهلل بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬فال ُيكره الناس‬
‫الدين} بل يعرض عليهم محاسنه‬ ‫إكراه في ّ‬
‫َ‬ ‫على اإلسالم {ال‬
‫حتى يرغبوا فيه‪ ،‬وال يدعو بلسان مقاله فقط‪ ،‬بل بلسان حاله‪،‬‬
‫مجسمة لمبادئ اإلسالم‪ ،‬ال‬ ‫َّ‬ ‫بأن يكون المجتمع اإلسالمي صورة‬
‫بأن يكون صورة مشوهة لها تنفر منها وتبعد عنها كما هي الحال‬
‫قوي العقل ليقيم الحجة‪ ،‬عالم ًا باإلسالم‬
‫اآلن‪ .‬بأن يكون الداعي َّ‬
‫ليحسن العرض‪ ،‬مث ّقف ًا بثقافة العصر ليك ّلم الناس بلغة العصر‪،‬‬
‫وأن يكون لطيف المدخل خفيف الظل‪ ،‬ال فظّ ًا وال غليظ ًا وال‬
‫جافي ًا عاتي ًا‪ ،‬وأن يعلم أن اإلسالم ال يفزع من المناظرة وال يهرب‬
‫منها‪ ،‬وأن كل شيء فيه بالدليل وبالحجة والبرهان‪ ،‬وأنه يطالب‬

‫‪217‬‬
‫بالدليل حتى ممن يدعي ما يخالف اإلسالم‪ُ { :‬قل هاتوا ُبرهانكم‬
‫آخر ال ُبرهان له به} لو‬
‫{وم ْن َي ْد ُع مع اهلل إله ًا َ‬
‫َ‬ ‫إن كنتم صادقين}‬
‫ْ‬
‫كان له برهان‪ ،‬ولكن يستحيل إقامة الدليل على خالف التوحيد‪.‬‬
‫لو ُوجد هؤالء الدعاة إلى اهلل لدخلت الدنيا كلها في دين‬
‫اهلل‪.‬‬
‫واهلل أنزل هذا الدين وهو قد تعهد بحفظه‪{ :‬إ ّنا نحن ّنزلنا‬
‫باق ال يزول‪ ،‬والعاقبة له‪،‬‬ ‫كر وإ ّنا له لَحافظون}‪ .‬فاإلسالم ٍ‬
‫الذِّ َ‬
‫ولكن إما أن نعود ‪-‬نحن المسلمين‪ -‬إلى ديننا فيكون لنا شرف‬
‫النصر في الدنيا وثواب اهلل في اآلخرة‪ ،‬أو يستبدل اهلل بنا قوم ًا‬
‫غيرنا يدخلون في اإلسالم ويتولَّون الدعوة إليه والدفاع عنه‪.‬‬
‫يردنا إلى ديننا وأن‬
‫نعوذ باهلل من أن يستبدل بنا‪ ،‬ونسأله أن ّ‬
‫يكتب النصر له على أيدينا‪ ،‬وأن يغفر لنا ويرحمنا‪ .‬وآخر دعوانا‬
‫أن الحمد هلل رب العالمين‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪218‬‬
‫�ﻟﻘﺮ�� �ﻟﻜﺮ��‬
‫�ﻟﻰ ّ‬
‫ﺑﺬﻟﺖ ﻓﻲ ﺗﺼﺤﻴﺢ ﻫﺬ� �ﻟﻜﺘﺎ� ﻏﺎﻳ َﺔ ﻣﺎ �ﺳﺘﻄﻌﺖ‬‫ُ‬ ‫ﻟﻘﺪ‬
‫ﺳﻬﻮ�‬
‫ُ‬ ‫ﻟﻜﻨﻲ ﻻ َ�ﻣ ُﻦ �� ﻳﻜﻮ� ﻓﻴﻪ ﺧﻄﺄ‬
‫ﻣﻦ �ﻟﺠﻬﺪ‪ّ ،‬‬
‫ﻋﻨﻪ‪ ،‬ﻷ� �ﻟﻜﻤﺎ� ﻟﻴﺲ ﻷﺣﺪ ﻣﻦ �ﻟﺒﺸﺮ‪� ،‬ﻧﻤﺎ ﻫﻮ‬
‫ﻣﻦ ﺻﻔﺎ� ﺧﺎﻟﻖ �ﻟﺒﺸﺮ‪ .‬ﻓﺄ�ﺟﻮ �� َﻳ ُﻤ ّﻦ ﻋﻠﻲ ﻗﺎ�ﺋﻪ‬
‫ّ‬
‫ﺤﺘﻬﺎ ��ﻋﺪ�‬ ‫ﺻﺤ ُ‬ ‫ﺟﺪ� �ﻟﺘﻲ ّ‬ ‫)�ﻗﺎ�� ﺳﺎﺋﺮ ﻛﺘﺐ ّ‬
‫ﻓﻴﻨﺒﻬﻨﻲ �ﻟﻰ �� ﺧﻄﺄ ﺳﻬﻮ�‬ ‫�ﺧﺮ�ﺟﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺐ( ّ‬
‫ﻋﻨﻪ ﻟﻜﻲ �ﺗﺪ��ﻛﻪ ﻓﻲ �ﻟﻄﺒﻌﺎ� �ﻵﺗﻴﺎ�‪�� ،‬ﻧﺎ �ﺷﻜﺮ�‬
‫�ﷲ ﺑﺄ� ﻳﺠﺰ� ﻟﻪ �ﻷﺟﺮ ��ﻟﺜﻮ��‪.‬‬ ‫���ﻋﻮ ﻟﻪ َ‬
‫ﻣﺠﺎﻫﺪ ﻣﺄﻣﻮ� �ﻳﺮ�ﻧﻴﺔ‬
‫‪mujahed@al-ajyal.com‬‬

‫‪219‬‬
‫‪٤١٤‬‬
220
‫المحتويات‬

‫قصة هذا الكتاب ‪5 ................................................‬‬


‫يدي الكتاب ‪17 . .............................................‬‬
‫بين َ‬
‫دين اإلسالم ‪33 . ..................................................‬‬
‫تعريفات ‪43 . ......................................................‬‬
‫قواعد العقائد ‪49 . ................................................‬‬
‫اإليمان باهلل ‪69 . ..................................................‬‬
‫توحيد األلوهية ‪83 . ...............................................‬‬
‫مظاهر اإليمان ‪105 ................................................‬‬
‫اإليمان باليوم ِ‬
‫اآلخر ‪125 .........................................‬‬
‫بالقدر ‪155 ................................................‬‬
‫َ‬ ‫اإليمان‬
‫اإليمان بالغيب ‪169 ...............................................‬‬
‫والجن ‪177 ....................................‬‬
‫ّ‬ ‫اإليمان بالمالئكة‬
‫بالر ُسل ‪191 ...............................................‬‬
‫اإليمان ُّ‬
‫بالكتب ‪209 ...............................................‬‬
‫ُ‬ ‫اإليمان‬
‫خاتمة ‪215 ........................................................‬‬

‫‪221‬‬
222
‫من آثار المؤلف‬

‫‪1935‬‬ ‫(‪ )1‬أبو بكر الصديق ‬


‫‪1957‬‬ ‫(‪ )2‬قصص من التاريخ ‬
‫‪1958‬‬ ‫(‪ )3‬رجال من التاريخ ‬
‫‪1958‬‬ ‫(‪ )4‬صور وخواطر ‬
‫‪1959‬‬ ‫(‪ )5‬قصص من الحياة ‬
‫‪1959‬‬ ‫(‪ )6‬في سبيل اإلصالح ‬
‫‪1959‬‬ ‫(‪ )7‬دمشق ‬
‫‪1959‬‬ ‫(‪ )8‬أخبار عمر ‬
‫‪1959‬‬ ‫(‪ )9‬مقاالت في كلمات ‬
‫‪1960‬‬ ‫(‪ )10‬من نفحات الحرم ‬
‫‪1960‬‬ ‫(‪ )11‬حكايات من التاريخ (‪ 1‬ـ ‪ )7‬‬
‫‪1960‬‬ ‫(‪ )12‬هتاف المجد ‬
‫‪1960‬‬ ‫(‪ )13‬من حديث النفس ‬
‫‪1960‬‬ ‫(‪ )14‬الجامع األموي ‬
‫‪1960‬‬ ‫(‪ )15‬في أندونيسيا ‬
‫‪1960‬‬ ‫(‪ )16‬فصول إسالمية ‬
‫(‪ )17‬صيد الخاطر البن الجوزي (تحقيق وتعليق) ‪1960‬‬

‫‪223‬‬
‫‪1960‬‬ ‫ِف َكر ومباحث ‬ ‫(‪)18‬‬
‫‪1960‬‬ ‫مع الناس ‬ ‫(‪)19‬‬
‫‪1960‬‬ ‫بغداد‪ :‬مشاهدات وذكريات ‬ ‫(‪)20‬‬
‫‪1970‬‬ ‫تعريف عام بدين اإلسالم ‬ ‫(‪)21‬‬
‫‪1985‬‬ ‫فتاوى علي الطنطاوي ‬ ‫(‪)22‬‬
‫‪1985‬ـ ‪1989‬‬ ‫ذكريات علي الطنطاوي (‪1‬ـ ‪ )8‬‬ ‫(‪)23‬‬
‫‪2001‬‬ ‫فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) ‬ ‫(‪)24‬‬
‫‪2002‬‬ ‫فصول اجتماعية ‬ ‫(‪)25‬‬
‫‪2002‬‬ ‫سيد رجال التاريخ (محمد ’) ‬ ‫ّ‬ ‫(‪)26‬‬
‫‪2006‬‬ ‫نور وهداية ‬ ‫(‪)27‬‬
‫‪2007‬‬ ‫فصول في الثقافة واألدب ‬ ‫(‪)28‬‬
‫‪2008‬‬ ‫فصول في الدعوة واإلصالح ‬ ‫(‪)29‬‬
‫‪2009‬‬ ‫البواكير ‬ ‫(‪)30‬‬
‫‪2011‬‬ ‫والص َور ‬
‫ُّ‬ ‫الذكريات‪ :‬الفهارس‬ ‫(‪)31‬‬
‫‪2016‬‬ ‫كلمات صغيرة ‬ ‫(‪)32‬‬
‫‪2019‬‬ ‫أعالم من التاريخ ‬ ‫(‪)33‬‬

‫‪224‬‬

You might also like