Professional Documents
Culture Documents
1
2
طبعة جديدة
وصححها وع ّلق عليها حفيد املؤلف
ّ راجعها
3
ح دار المنارة للنشر والتوزيع1442 ،ه
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الطنطاوي ،علي مصطفى
تعريف عام بدين اإلسالم /علي مصطفى الطنطاوي
218ص ؛ 15×21سم ط - 22جدة١٤٤2 ،هـ
-١اإلسالم-مبادئ عامة أ .العنوان
١٤٤2/10514 ديوي 211
ردمك ٩٧٨ -٦٠٣-8312-15-5 رقم اإليداع١٤٤2/10514 :
4
قصة هذا الكتاب
5
أسلوبي الدراسة .وكان العلماء
َ فكنت أول من جمع في دمشق بين
يومئذ بين >شيخ< ال يعرف من علوم الدنيا الحديثة شيئ ًا و>أفندي< ال
ال ال يغني وال يجزي. يفقه من علوم الدين شيئ ًا ،إال شيئ ًا قلي ً
______________________
= ومنهم من حضرت دروسه ،ومنهم من جلست إليه واستفدت منه،
في الشام ومصر والعراق.
من هؤالء الشيخ بدر الدين الحسني المحدث األكبر ،وقرينه السيد
الكتاني صاحب >الرسالة المستطرفة< ،والشيخان محمد بن جعفر ّ
المعمران :الشيخ عبد المحسن األسطواني والشيخ سليمان ّ
الجوخدار ،ومفتي الشام الشيخ عطا الكَ ْسم ،وخلَفه المفتي الشيخ
َ
محمد شكري األسطواني ،وخلَفه المفتي الطبيب الشيخ أبو اليسر
عابدين ،والسيد محمد الخضر حسين شيخ الجامع األزهر ،والشيخ
عبد المجيد سليم شيخ الجامع األزهر ،والشيخ مصطفى عبد الرازق
شيخ الجامع األزهر ،والشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع األزهر،
محب الدين الخطيب ،والشيخ أبو الخير الميداني،ّ وخالي األستاذ
والشيخ صالح التونسي ،والشيخ محمد بهجة البيطار ،والشيخ
توفيق األيوبي ،والشيخ أحمد النويالتي ،والشيخ عبد اهلل العلمي،
والشيخ هاشم الخطيب ،واألستاذ سليم الجندي ،والشيخ عبد
القادر المبارك ،واألستاذ محمد كرد علي منشئ المجمع العلمي
في دمشق ،والشيخ المصنف األديب الشيخ عبد القادر المغربي،
واألديب الراوية األستاذ عز الدين التنوخي ،واألستاذ معروف
األرناؤوط ،واألستاذ شاكر الحنبلي ،واألستاذ سعيد محاسني،
والشيخ عبد القادر بدران الحنبلي ،والشيخ محمد الكافي المالكي،
والشيخ نجيب كيوان الحنفي ،والشيخ أمين سويد ،والشيخ زين
العابدين التونسي ،والشيخ أمجد الزهاوي ،والحاج حمدي األعظمي
العراقي ،والشيخ قاسم القيسي ،والشيخ زاهد الكوثري ،والشيخ=
6
فتنبهت مبكراً إلى ضرورة عرض اإلسالم بأسلوب عصري،
وكتبت في ذلك مقاالت ونشرت رسائل ذكرت فيها -من نحو
خمسين سنة -بعض اآلراء التي أُوردها اليوم في هذا الكتاب(.)1
7
نصه« :هل يمكن لإلنسان أن الكالم على ضرورة التدين ،قلت ما ّ
يعيش بال دين؟ الجواب قطع ًا هو :ال ،إال أن يعيش بالمادة وحدها
نفسه التي بين جنبيه ،وحبه الذي يجيش
وينبذ كل ما وراءها ،حتى َ
به صدره ،وشعوره بالطبيعة وجمالها والطيور وتغريدها والمقبرة
ووحشتها».
يدعي أن هذا الكون ُوجد الرد على َمن ّ ّ وكتبت في
أربع كرات بِيض وواحدة نصه :إذا وضعنا في كيس َ بالمصادفة ما ّ
حمراء وسحبنا واحدة منها كان احتمال خروج الحمراء واحداً
من خمسة ،وإذا وضعنا تسع ًا بِيض ًا وواحدة حمراء كان واحداً من
عشرة ،فلو وضعنا ما النهاية له (∞) من البِيض كان االحتمال
واحداً من النهاية ،وال يقول عاقل أن الحمراء تخرج حتم ًا من
السحب مرة أو مرتين أو مئة مرة .وهذه الكواكب التي ال نهاية
لها ليس لها إال حالة واحدة تجعلها تسير بهذا النظام ويمتنع بينها
الصدام ،فكيف نقول أن هذه الحالة حصلت بالمصادفة من غير
مسير حكيم عليم؟
ِّ
هذا ما قلته من أكثر من خمسين سنة في كتاب لي مطبوع موجود.
* * *
8
ثم َص َّح العزم مني على إصدار كتاب في هذا الموضوع،
وأعلنت عنه،
ُ وأعددت فصوله
ُ وجعلت عنوانه> :لماذا أنا مسلم؟<
ُ
ونشرت مقدمته في رسائل >سيف اإلسالم< التي كنت أصدرها ُ
تعذ َر الطبع وضاعت األصول
ولكن ّ
ْ سنة 1349ﻫ (1930م) ،
()1
______________________
نشرت هذه الرسالة في كتاب >البواكير< ،ص( 135مجاهد).
ُ ()1
9
مدرس ًا لألدب العربي
ولما ذهبت إلى العراق سنة ّ 1936
وكلِّفت حين ًا بتدريس الدين جعل في الثانوية المركزية في بغداد ُ
الطالب يسألونني عن كتاب واحد يفهمون منه اإلسالم ،ال
يريدون كتاب تجويد وال كتاب توحيد وال كتاب تفسير وال فقه
وال أصول وال حديث وال مصطلح ،بل كتاب ًا في اإلسالم يعرضه
كما كان رسول اهلل ’ يعرضه على َمن َي ِف ُد إليه من العرب (أو
األعراب) فيفهمونه في يوم واحد أو في بعض يوم.
فلم أكن أجد مثل هذا الكتاب ،فكتبت في >الرسالة< (وكنت
كتابها عشرين سنة كاملة ،من سنة تأسيسها إلى سنة احتجابها)من ّ
وأعدت
ُ كتبت مقاالت أدعو فيها العلماء إلى تأليف هذا الكتاب،
ُ
الدعوة ،فما استجاب لها أحد إال شيخنا الشيخ محمد بهجة
البيطار ،وإذا رجعتم إلى >الرسالة< وجدتم فيها ما ُكتب(.)1
* * *
10
وجاءت سنة 1387ﻫ فنشرت مقالة في مجلة >رابطة العالم
تنبه لها صديقنا
ّ
()1
اإلسالمي< عنوانها >تعريف عام بدين اإلسالم<
معالي الشيخ محمد عمر توفيق ،وزير الحج واألوقاف يومئذ،
وتنبه لها
فكتب للرابطة لتكليفي بتأليف كتاب في هذا الموضوعّ ،
صديقنا الشيخ مصطفى العطار فكتب لمعالي وزير المعارف الشيخ
حسن بن عبد اهلل آل الشيخ ،ووجدت منه ومن معالي الشيخ
عبد الوهاب عبد الواسع (وكان يومئذ وكيل وزارة المعارف) كلَّ
التشجيع.
كنت
الصيف كله والسن َة الجامعية بعده ،لكني ُ
َ وعملت
لدي ثالثة ظروف
وتجمعت ّ
ّ أدافع الكسل وأشتغل على ملل،
كبار ،فيها فصول كامالت وفيها قصاصات ومذكرات ،تحتاج إلى
تصنيف وترتيب وعمل كثير.
عمان ،ومن خوفي وجاء الصيف الجديد وذهبت إلى ّ
على هذه الظروف حملتها بيدي ،وأذكر أنني خرجت من المطار
وشغلت ودخلت السيارة لتحملني إلى دار زوج بنتي وهي معيُ .
بمتاعب االنتقال ومباهج االستقبال ولقاء األصحاب واآلل فلم
ونفضت الدار
ُ فبحثت عنها فلم أجدها،
ُ أذكرها إال بعد أسبوعين،
وراجعت كل مخفر شرطة فلم أصل
ُ نفض ًا وسألت كل سائق سيارة
إلى شيء .وبقيت أيام ًا وأنا ذاهل متألم ،ال أهنأ بطعام وال أستغرق
في منام ،حتى إذا هدأت نفسي ورجع لي عقلي قررت أن أستعين
اهلل وأبدأ من جديد.
______________________
( )1في العدد السابع من السنة الخامسة الذي صدر في رمضان من تلك
السنة (( )1967/12مجاهد).
11
عمان ،مكتبتي في دمشق وكنت أنزل في ضاحية من ّ ُ
استقر في ذهني
ّ وأوراقي في مكة ،وما عندي إال المصحف وما
مما قرأت وما سمعت من العلماء في أكثر من خمسين سنة ما كان
لي فيها من عمل إال النظر في الكتب ومجالسة أهل العلم ،فقلت:
لعل هذا هو الخير ،فما أؤلف هذا الكتاب للفقهاء والعلماء ،بل
أعرفهم فيه ما اإلسالم ،وكلما أقللت النقل عن الكتب للشبان ّ
ّ
وجئت بشيء جديد كان خيراً لهم.
وأنجزت هذا الجزء األول ،وهو جزء ُ وباشرت العمل
ُ
وحملت مخطوطته معي إلى مكة، ُ العقيدة ،في عشرة أيام،
ال في صحيفة >المدينة< ،والفضل في طبعه هلل ثم لألستاذ فطُبع أو ً
عثمان حافظ( .)1ثم نشرته وزارة المعارف األردنية في عدد خاص
اثني عشر ألف نسخة من مجلتها >رسالة المعلم< ،وطبعت منه َ
وزعتها على جميع المعلمين والمعلمات في المملكة األردنية. ّ
وكان الفضل في ذلك هلل ثم لمعالي الدكتور إسحاق الفرحان
(وكان يومئذ مدير دائرة الكتب والمناهج في الوزارة ،ثم صار هو
الوزير) ولألخ الدكتور الشيخ إبراهيم زيد الكيالني واألخ األستاذ
سليم الرشدان .ثم نشرته وزارة الدفاع األردنية ،وكان الفضل في
ذلك للصديق اللواء معن أبي ّنوار سفير المملكة اآلن في لندن،
وللصديق العقيد أحمد العبيدات (أبي أنور) ،وقرأه أفراد الجيش
األردني ،ثم طُبع و ُنشر مرات في دور نشر مختلفة قبل أن تتولى
نشره دار المنارة التي تنشر سائر كتبي.
َ
______________________
(ُ )1نشر الكتاب في جريدة >المدينة< في حلقات يومية صدرت أوالها
في التاسع والعشرين من رجب ( )1968/10/22( 1388مجاهد).
12
أما الجزء الثاني والثالث اللذان أرجو أن أتكلم فيهما عن
اإلسالم وعن اإلحسان (أي السلوك اإلسالمي) فأنا واهلل في خجل
من القراء ،وعذري أن القلوب بيد اهلل ،واهلل هو باعث الهمم
ومنشئ العزائم ،وقد -واهلل -ضعفت همتي ووهن العزم مني.
كنت في شبابي في تو ّثب دائم ،أكتب وألتمس الناشر ،على ولقد ُ
قلة البضاعة وضحالة التفكير ،واآلن حين نضج الفكر واختمرت
أله َم
فإن َ
المعلومات وكثر الناشرون لم أعد أقوى على العملْ .
يسهل اهلل علي كتابة
اهلل واحداً من القراء ودعا لي بظهر الغيب أن ّ
ّ
كتبت األول في عشرة أيام.
ُ كتبتهما بتوفيق اهلل وعونه كما
الجزأين ُ
* * *
هذا ،وأنا أرجو أن ينفع اهلل بهذا الكتاب وأن يكون زاداً لي
يوم ال زاد إال التقوى وصالح األعمال( .)1ولقد ذكرت في مقدمة
الطبعة السابقة أني أكتب من ستين سنة ،من سنة 1347ﻫ ،وأن
كتبت يزيد على ثالثة عشر ألف صفحة ،وأن لي أكثر ُ المطبوع مما
من خمسين كتاب ًا ما بين رسالة صغيرة وكتاب كبير ،وأني أحاضر
______________________
( )1بارك اهلل في هذا الكتاب وكتب له ال َقبول ،فطُبع بالعربية عشرات
الطبعات ،و ُترجم وطُبع باللغات الفارسية واألندونيسية والفلبينية
والتركية والبوسنية واأللبانية والفرنسية واأللمانية واإلسبانية والبرتغالية
والدنمركية واليونانية والروسية والرومانية .وقد نشرت دار المنارة
مقدمة الكتاب منفردة في رسالة صغيرة باسم >تعريف موجز بدين
اإلسالم< ،و ُترجمت هذه الرسالة إلى األلمانية واألرومية (وهي اللغة
التي يتحدث بها نحو خمسة وثالثين مليون ًا في الصومال والقرن
اإلفريقي) (مجاهد).
13
في النوادي من سنة 1345ﻫ وأتحدث في اإلذاعات بال انقطاع من
يوم أنشئت محطة الشرق األدنى في يافا قبل الحرب الثانية ،وأن
لدي اآلن أصول أحد عشر كتاب ًا ال تحتاج إال إلى عمل قليل لِ ُت َّ
قدم ّ
للمطبعة .وأنا أرضى أن أنزل عن هذا كله ويوفق اهلل إلى إكمال
هذا الكتاب وإكمال كتاب >ذكريات نصف قرن<( )1الذي أروي فيه
ومن وتحول األحوال َ ّ تبدل الدولخبر ما رأيت وما سمعت من ّ
لقيت من الرجال ،فلقد شهدت في الشام حكم العثمانيين وحكم
الشريف فيصل وحكم الفرنسيين وعهد االستقالل وما بعده من
العهود ،وعشت حين ًا من عمري في مصر وفي العراق وفي لبنان
يبق بيني وبين وفي السعودية ،ورحلت ألقصى المشرق حتى لم َ
ورحلت إلى فولندامُ سيدني في أستراليا إال مرحلة ساعتين بالطيارة
في أقصى الشمال من هولندا ،ورأيت حلواً ورأيت ُم ّراً ،وذقت
الفقر وذقت الغنى ،ووجدت الوفاء ووجدت الغدر ،وتركت من
التالميذ في سوريا والعراق ولبنان والسعودية آالف ًا وآالف ًا ،منهم
من صار رئيس جمهورية ومنهم من بلغ رياسة الوزراء ،ومن كان
وزيراً أو قاضي ًا كبيراً أو موظف ًا أو سفيراً أو أستاذاً في الجامعة أو
مقدم ًا في عالم المال واألعمال. َّ
ال
ولقد كنت في عمري كله بعيداً عن غمرة المجتمع معتز ً
وقفت
ُ الناس ،لكني كنت أرى وأسمع كل شيء ،ولطالما
مواقف كانت حديث الناس وكانت حادثة الساعة ،وكنت فيها
______________________
( )1وقد صدر منه ثمانية أجزاء بعنوان >ذكريات< جمعت فيها ما نشرته
في مجلة >المسلمون< ثم في جريدة >الشرق األوسط< ونشرتها دار
المنارة في جدة.
14
ملء األسماع واألبصار وكان اسمي فيها على كل لسان .ولكن
ذلك كله مضى ،وسيمضي العمر ويذهب الجاه والمال كما ذهب
الشباب وينسى الناس كل ما عملت وعمل غيري وال يبقى إال
الذي يحمله معه العبد إلى آخرته ،هذا وحده الذي يبقى وكل ما
سواه إلى زوال.
رب ال تجعل عملي يذهب ُسدى واكتب لي بفضلك فيا ّ
اللهم اجعل ما كتبت وما خطبتّ ورحمتك بعض الثواب عليه.
من العلم النافع الذي ال ينقطع بانقطاع العمر .اللهم إني أستغفرك
وأتوب إليك ،وأسألك حسن الخاتمة والوفاة على اإليمان.
جدة (الزهراء)
25ذو القعدة 1408
علي الطنطاوي
15
16
بين يدي الكتاب
إذا كنت مسافراً وحدك فرأيت أمامك مفرق طريقين :طريق ًا
ال منحدراً إلى السهل ،األول صعب ًا صاعداً في الجبل وطريق ًا سه ً
فيه وعورة وحجارة منثورة وأشواك وحفر ،يصعب تس ّلقه ويتعسر
السير فيه ،ولكن أمامه لوحة نصبتها الحكومة فيها« :إن هذا
أوله وصعوبة سلوكه -هو الطريق الصحيح الطريق -على وعورة ّ
معبدالذي يوصل إلى المدينة الكبيرة والغاية المقصودة» ،والثاني ّ
()1
تظلله األشجار ذوات األزهار والثمار وعلى جانبيه المقاهي
ويشنف( )2األذن، ّ ويسر العين
ّ والمالهي ،فيها كل ما يلذ القلب
ولكن عليه لوحة فيها« :إنه طريق خطير ُمهلك ،آخره ُه َّوة فيها
فأي الطريقين تسلك؟
الموت المحقق والهالك األكيد»َّ .
ال شك أن النفس تميل إلى السهل دون الصعب واللذيذ
دون المؤلم وتحب االنطالق وتكره القيود ،هذه فطرة فطرها اهلل
نفسه وهواها وانقاد لها سلك الطريق اإلنسان َ
ُ عليها ،ولو ترك
ولكن العقل يتدخل؛ يوازن بين اللذة القصيرة الحاضرة
ّ الثاني،
______________________
( )1أقهى :داوم على شرب القهوة.
الش ْنف :ال ُقرط (الحلق) والتعبير هنا على المجاز.
(َّ )2
17
يعقبها ألم طويل واأللم العارض المؤقت تكون بعده لذة باقية،
ُفي ْؤثِر األول.
هذا هو مثال طريق الجنة وطريق النار.
طريق النار فيه كل ما هو لذيذ ممتع تميل إليه النفس ويدفع
إليه الهوى ،فيه النظر إلى الجمال ومفاتنه ،فيه االستجابة للشهوة
ولذاتها ،فيه أخذ المال من كل طريق ،والمال محبوب مرغوب ّ
فيه ،وفيه االنطالق والتحرر ،والنفوس تحب الحرية واالنطالق
وتكره القيود.
وطريق الجنة فيه المشقات والصعاب ،فيه القيود والحدود،
فيه مخالفة النفس ومجانبة الهوى .ولكن عاقبة هذه المشقة المؤقتة
في هذا الطريق اللذة الدائمة في اآلخرة ،وثمرة اللذة العارضة في
طريق النار األلم المستمر في جهنم .كالتلميذ ليالي االمتحان:
يتألم حين يترك أهله عاكفين على الرائي( )1يشاهدون ما يسر
ويمتع وينفرد هو بكتبه ودفاتره ،فيجد بعد هذا األلم لذة النجاح،
الحمية عن أطايب الطعام فينالوكالمريض يصبر أيام ًا على ألم ِ
بعدها سعادة الصحة.
نفرق بها بينهما،
وضع اهلل الطريقين أمامنا ووضع فينا َملَكة ّ
نعرف بها الخير من الشر ،سواء في ذلك العالم والجاهل والكبير
كل منهم يستريح ضميره إذا عمل الخير وينزعج إذا والصغيرٌّ ،
______________________
( )1كلمة وضعتها للتلفزيون ،وهي >اسم فاعل< بمعنى >اسم المفعول<
على المجاز العقلي ،كقوله تعالى{ :فهو في عيشة راضية} أي :في
رضية.
عيشة َم ّ
18
أتى الشر .بل إن هذه الملكة موجودة حتى في الحيوان :القط إذا
ال مطمئن ًا ،وإذا خطفها
ألقيت إليه بقطعة اللحم أكلها أمامك متمه ً
ذهب بعيداً فأكلها على عجل وعينه عليك ،يخاف أن تلحق به
فتنزعها منه .أفليس معنى هذا أنه أدرك أن اللقمة األولى حق له
والثانية عدوان منه؟ أليس هذا تفريق ًا بين الحق والباطل وبين
تمسح بصاحبه كأنه الحالل والحرام؟ والكلب إذا عمل حسن ًا ّ
يطلب منه المكافأة ،وإذا أذنب ذنب ًا نأى فوقف بعيداً ،يبصبص
بذ َنبه كأنه يبدي المعذرة أو يتوقع العقاب.
وهذا تأويل قوله تعالى{ :وهديناه ال َّن ْج َدين}.
وأقام اهلل على طريق الجنة دعا ًة يدعون إليه ويدلّون عليه،
ويرغبون
ّ هم األنبياء ،كما قام على طريق النار دعا ٌة يدعون إليه
فيه ،هم الشياطين ،وجعل العلماء ورثة األنبياء ،ما ورثوا منهم
ال وال عقاراً ولكن ورثوا هذه الدعوة ،فمن قام بها حق قيامها ما ً
استحق شرف الميراث.
وهذه الدعوة صعبة ألن النفس البشرية طبعت على الميل
قيدها ،وعلى االنطالق وراء اللذة والدين
إلى الحرية والدين ُي ّ
فمن يدعو إلى الفسوق والعصيان يوافق طبيعتها فتمشيُيمسكهاَ ،
اصعد إلى خزان الماء في رأسْ معه َم ْش َي الماء في المنحدر.
الجبل فاثقبه بضربة معول ينزل الماء وأنت واقف حتى يستقر
في قرارة الوادي ،فإذا أردت أن تعيده لم َي ُعد إال بمضخات
ومشقات ونفقات بالغات .والصخرة الراسية في الذروة ال تحتاج
إلاّ إلى زحزحتها وإمالتها حتى تتدحرج وتهوي ،تنزل بال مشقة
وال تعب ،فإذا أردت أن ترجعها وجدت المتاعب والمشقات.
19
وهذا هو مثال اإلنسان.
الرفيق الشرير يقول لك :ها هنا امرأة جميلة ترقص عارية،
فتميل إليها نفسك ويدفعك إليها هواك ويسوقك إليها ألف
شيطان ،فال تشعر إال وأنت على بابها ،فإذا جاء الواعظ ليصرفك
عنها َص ُع َب عليك االستجابة إليه ومقاومة ميل نفسك وهوى
قلبك .فدعاة الشر ال يتعبون وال يبذلون جهداً ،ولكن التعب
وبذل الجهد على دعاة الخير وعلى الوعاظ .داعي الشر عنده كل
ما تميل إليه النفس ،من العورات المكشوفة والهوى المحرم وكل
ما فيه متعة العين واألذن ولذة القلب والجسد ،أما داعي الخير
فما عنده إال المنع.
ترى البنت المتكشفة فتميل إلى اجتالء محاسنها ،فيقول
ض بصرك عنها وال تنظر إليها .ويجد التاجر الربح السهل لكُ :غ َّ
كد وال تعب والنفس تميل إليه ،فيقول له :دعه من الربا يناله بال ّ
تمد يدك إليه .ويبصر الموظف رفيقه يأخذ من وانصرف عنه وال ّ
الرشوة في دقيقة واحدة ما يعادل مرتبه عن ستة أشهر ،ويتصور
ما يكون له بها من سعة وما يقضي بها من حاجات ،فيقول له :ال
تأخذها وال تستمتع بها.
يقول لهم :اتركوا هذه اللذات الحاضرة المؤكدة لتنالوا
المغيبة ،دعوا ما ترون وما تبصرون إلى ما ال ترون
ّ اللذات اآلتية
اآلن وال تبصرون ،قاوموا َم ْيل نفوسكم وهوى قلوبكم .وذلك
كله ثقيل على النفس .وال تنكروا وصفي الدين بأن ثقيل ،فإن
ال}.
ال ثقي ً
سنلقي عليك قو ًاهلل سماه بذلك في القرآن فقال{ :إ ّنا ُ
ك التلميذ الرائي (التلفزيون)
وكل المعالي ثقيالت على النفس :تر ُ
20
مجلس التسلية واالشتغالُ
َ ك العالم
واإلقبال على الدرس ثقيل ،وتر ُ
فراشه والنهوض إلى صالة َ ك النائم
بالقراءة واإلقراء ثقيل ،وتر ُ
ومشيه إلى الجهاد ثقيل.زوجه وولده َ وهجر الرجل َ
ُ الفجر ثقيل،
لذلك تجد الطالحين أكثر من الصالحين والغافلين السادرين
في الغي أكثر من الذاكرين السالكين سبيل الرشاد ،ولذلك كان
ّ
ضل فاعله في أكثر األحيان: اتباع الكثرة بال بصر وال دليل ُي ّ ّ
أكثر َمن في األرض ُيض ّلوك عن سبيل اهلل} .ولوال َ طع ت {وإن
ْ ُ
()1
األلماس
ُ السمو والرفعة ما كان
ّ أن القلة والندرة من صفات
والفحم كثيراً موفوراً ،وال كان العباقرة والنابغون واألبطال
ُ نادراً
المتميزون ق ّلة في الناس.
* * *
21
لم يستطع العلم أن يضيء جوانبها .كلنا يقول :قلت لنفسي وقال
لي عقلي ،فما أنت وما نفسك؟ وما نفسك وما عقلك؟ لم يتضح
ذلك لنا بعد( ،)1فلست أكشف هذا المجهول ،ولكن أُ ّ
ذكر بمثال
______________________
( )1إذا قلت >أنا< فإن جسدي جزء من >األنا< ،ولكن ليس كل >األنا<
ألن المرء قد ُتبتر يداه ورجاله وال تنقص >األنا< بالنسبة إليه .ونفسي
(أي ميولي وعواطفي ولذاتي وآالمي) جزء من األنا وليس كل األنا،
المشاهد أن اإلنسان يبدل عواطفه وميوله ،وأن ما يلذني اليومَ ألن
(وأنا على عتبة السبعين) ما كان يلذني وأنا شاب ،وما كان يؤلمني
وأنا شاب لم يعد يؤلمني اليوم.
فالجسد إذن يتبدل حتى ال تبقى فيه خلية مما كان فيه قبل سنين،
فتحب ما كانت تكره وتكره ما كانت ّ والنفس تتبدل آمالها وآالمها،
تحب .فما الشيء الذي ال يتبدل في والذي هو >أنا< على التحقيق؟
ّ
هو الروح .وما الروح؟
أطلعنا اهلل على كثير من وظائف أعضاء الجسم وأسرارها وأمراضه
وعالجها وعلى كثير من أحوال النفس وعوارضها ،وقال لنا أن من
واللوامة والمطمئنة (وهي نفس واحدة ،ولكن ّ األمارة بالسوء
النفوس ّ
هذه أحوال تعرض فتصبغها بصبغتها) وأن النفس ذائقة الموت،
ولكنه لم يطلعنا على شيء من أحوال الروح ألنها من أمر ربي.
الروح ال تخضع لقيود الزمان والمكان ،فقد ينام النائم ربع ساعة
أمامك فيرى أنه سافر إلى أميركا أو الهند وعاش عشرين أو ثالثين
سنة وأحس بأقصى السرور أو بمنتهى األلم ،فكيف دخلت عشرون
سنة في عشرين دقيقة؟ كيف تداخل المكانان؟ هذا مثال لعذاب القبر
ونعيمه .الروح ال يؤثر فيها المرض وال الصحة ،الروح هي التي
كانت موجودة قبل ارتباطها بهذا الجسد وبهذه النفس وستبقى بعد
تحلل الجسد وفناء النفس ،فـ>أنا< إذن الروح .وقد بدت لي هذه
أعد الكتاب للطبعة الخامسة.
المعاني وأنا ّ
22
مشاهد معلوم :تكون نائم ًا في ليالي الشتاء متمتع ًا بدفء الفراش
فتحس صوت ًا
ّ ولذة المنام فتسمع قرع المنبة يدعوك إلى الصالة،
من داخلك يقول لك« :قم إلى الصالة» .فإذا جئت تقوم سمعت
ال» .فيعود الصوت األول يقول: صوت ًا آخر يقول لك« :نم قلي ً
«الصالة خير من النوم» .فيقول الثاني« :النوم لذيذ والوقت متسع،
فتأخر دقائق» .وال يزال الصوتان يتعاقبان َتعا ُق َب د ّقات الساعة:
()1
َن ْمُ ،ق ْمَ ،ن ْمُ ،قم...
هذا هو العقل وهذه هي النفس.
وهذا مثال يتكرر آالف المرات في آالف الصور كلما عرض
للمرء مثل هذا الموقف فوقف أمام لذة محرمة تدعوه نفسه إلى
غشيانها وكان في قلبه إيمان يدفع عقله إلى منعه منها ،وعلى
مقدار ما يكون من انتصار العقل تكون قوة هذا اإليمان .وليس
معنى هذا أن ينتصر العقل دائم ًا وأن ال يقارب المسلم المعاصي
أبداً ،فاإلسالم دين الفطرة ،دين الواقع ،والواقع أن اهلل خلق
خلق ًا للطاعة الخالصة ولمحض العبادة هم المالئكة ،ولم يجعلنا
اهلل مالئكة ،وخلق خلق ًا شأنهم المعصية والكفر هم الشياطين،
ال ولكنولم يجعلنا كالشياطين ،وخلق خلق ًا لم يعطهم عقو ً
غرائز ،فال ُيكلَّفون وال ُيس َألون ،وهم البهائم والوحوش ،ولم
يجعلنا اهلل وحوش ًا وال بهائم.
______________________
ويحس مثل ذلك من يريد القفز من فوق حفرة أو سا ِق َية وهو يرجو
ّ ()1
الوصول ويخشى السقوط ،ويسمع من نفسه صوتين متعاقبين «ثِ ْب،
ارجع ،ثِ ْب ،ارجع »...فإن وثب عند قول >ثِ ْب< ولم يتردد نجح،
مجرب.
وإن تردد حتى جاء قول >ارجع< ووثب سقط ،وهذا َّ
23
فما نحن إذن؟ ما اإلنسان؟
اإلنسان مخلوق متميز ،فيه شيء من المالئكة وشيء من
الشياطين وشيء من البهائم والوحوش ،فإذا استغرق في العبادة
قلبه إلى اهلل عند المناجاة وذاق حالوة اإليمان في لحظات
وص َفا ُ
َ
التجلي غلبت عليه في هذه الحال الصفة الملكية ،فأشبه المالئكة
ؤمرون.
الذين ال يعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما ُي َ
فإذا جحد خالقه وأنكر ربه ،فكفر به أو أشرك معه في عبادة
غيره ،غلبت عليه في هذه الحالة الصفة الشيطانية.
وشد
ّ وإذا عصف به الغضب فأوتر أعصابه وألهب دمه
فيعضه بأسنانه
ّ عضالته ،فلم يعد له أمنية إال أن يتمكن من خصمه
وينشب فيه أظافره ويطبق على عنقه بأصابعه فيخنقه خنق ًا ثم
يدعسه دعس ًا( ،)1غلبت عليه في هذه الحالة الصفة الوحشية فلم
كبير فرق.
يبق بينه وبين النمر والفهد ُ
َ
وبرح به العطش وانحصرت آماله في عضه الجوع ّ وإذا ّ
رغيف يمأل معدته وكأس تبل صداه ،أو تملكته الشهوة وسيطرت
على نفسه الرغبة الجنسية ،فغال بها دمه واشتعلت بها عروقه
وامتأل ذهنه بخياالت الشبق وأمانيه ،غلبت عليه في هذه الحالة
الصفة البهيمية ،فكان كالفحل أو الحصان أو ما شئت من أصناف
الحيوان.
هذه حقيقة اإلنسان :فيه االستعداد للخير واالستعداد للشر،
______________________
(> )1دعس< عربية فصيحة ،أما >دهس< فخطأ.
24
أعطاه اهلل األمرين ومنحه العقل الذي يميز به بينهما واإلرادة التي
فإن أحسن استعمال عقله في يستطيع بها أن يحقق أحدهماْ ،
ونمى استعداده للخيرالتمييز وأحسن استعمال إرادته في التنفيذ ّ
حتى تخلق به وأنجزه كان في اآلخرة من السعداء ،وإن كانت
األخرى كان من المعذَّ بين.
* * *
25
هذا الذي يذكرونه بالسوء وأفضل ،والسرقة لذيذة ألن فيها امتالك
كد وال نصب ،والزنا لذيذ ألن فيه إعطاء النفس هواهاالمال بال ّ
وإنالتها مشتهاها ،والغش في االمتحان لذيذ ألنه يوصل إلى
النجاح بال جهد ،والهرب من الواجب -مهما كان -لذيذ على
النفس ألن فيه الراحة والكسل.
ولكن اإلنسان حين يفكر ويستعمل عقله يجد أن هذه الحرية
المؤقتة ال تساوي ما بعدها من سجن في جهنم طويل ،وهذه اللذة
المحرمة ال تعدل ما بعدها من العذاب.
َمن يرضى أن نجعل بيننا وبينه عهداً ،اتفاقية عند الكاتب
العدل مدتها سنة ،نعطيه خاللها كل ما يطلب من مال و ُنسكنه
في القصر الذي يريد في البلد الذي يختار ،ونزوجه بمن شاء من
النساء ،مثنى وثالث ورباع ،ولو طلق كل عشية واحدة وتزوج
ولكنا إذا انقضت
ّ كل صباح أخرى ،وال نمنع عنه شيئ ًا يريده،
السنة ع ّلقناه من عنقه على المشنقة حتى يموت؟ أال يقول :تعس ًا
وبعداً للذة سنة بعدها الموت؟ أال يتصور نفسه ساعة يعلَّق علىُ
المشنقة فيرى أنه لم يبق في يده شيء منها؟ مع أن ألم الشنق
بعض دقيقة وعذاب اآلخرة دهر طويل.
ليس منا أحد لم يقارف في عمره معصية ولم يجد لهذه
المعصية لذة ،أقلها أنه آثر متعة الفراش مرة على القيام لصالة
الفجر ،فماذا بقي في أيدينا اآلن من هذه اللذة التي أحسسنا بها
قبل عشر سنين؟ وليس منا أحد لم ُيكره نفسه على أداء طاعة ولم
يحمل لهذه الطاعة ألم ًا ،أقله الجوع والعطش في رمضان ،فماذا
بقي في نفوسنا اآلن من ألم الجوع في رمضان الذي جاء من عشر
26
سنين؟ ال شيء .ذهبت لذات المعاصي وبقي عقابها ،وذهبت
آالم الطاعات وبقي ثوابها .وساعة الموت ،ما الذي يبقى لنا -تلك
الساعة -من جميع اللذائذ التي ذقناها واآلالم التي حملناها؟
يؤجل
إن كل مؤمن يريد أن يتوب ويرجع إلى اهلل ،ولكنه ّ
تبت وأنبت ،ثم رأيت أني
حججت ُ
ُ ويسوف .أنا كنت أقول :إذ
ّ
تبت وأنبت،
حججت وما تبت .وكنت أقول :إذا بلغت األربعين ُ
فبلغتها وما تبت ،وجاوزت الستين وما تبت ،وشبت وما تبت.
ليس معنى هذا أني مقيم على المحرمات مرتكب للفواحش ،ال
وبحمد اهلل ،ولكن معناه أن اإلنسان يرجو لنفسه الصالح ولكنه
يسوف ،يظن أن في األجل فسحة ،يحسب أن العمر طويل فيرى ّ
الموت قد طرقه فجأة .وقد رأيت أنا الموت مرتين وعرفت ما
شعور الميت« ،مرة لما غرقت في البحر ونجوت في آخر ثانية،
مت أو أشرفت، ومرة لما أجمع أطباء مستشفى دمشق على أني ّ
سرها األطباء»(،)1
ثم عدت إلى الحياة بمعجزة إلهية لم يعرف َّ
______________________
( )1ما بين األقواس إضافة لم تظهر في طبعات الكتاب السابقة ،وقد
ال في حلقات في جريدة >المدينة< ظهرت في أصله الذي ُنشر أو ً
فاستحسنت إثباتها في موضعها هنا لتمام المعنى .وحادثة مرضه
كانت سنة 1957وأشار إليها في الحلقة 232من >الذكريات< فقال:
المرة الماضية (سنة
«وكان إخواننا يخافون أن يقع لي ما وقع في ّ
المجتهِد ،وهو أكبر مستشفيات وزارة الصحة )1957في مستشفى ُ
في دمشق في تلك األيام ،حين جاء طبيب داخلي يتدرب فيه ،وكان
سمى بالعربية
شيوعي ًا خبيث ًا ،فأدخل في دمي جرثومة نادرة هي التي ُت ّ
>الع َص ّيات الزرقاء< ،فكان من أثر ذلك أن بقيت في هذا المستشفى=ُ
27
وبقيت على هذا الشعور شهوراً صرت فيها صالح ًا ،ثم انغمست
مرة ثانية في غمرة الحياة ونسيت ،نسيت الموت.
كلنا ننسى الموت ،نرى األموات يمرون بنا كل يوم ولكن
ال نتصور أننا سنموت ،نقف في صالة الجنازة ونحن نفكر في
الدنيا ،يظن كل واحد منا أن الموت ُكتب على الناس كلهم إال
عليهم ،مع أن اإلنسان يعلم أن الدنيا مولية عنه وأنه ُم َولٍّ هو عنها.
مهما عاش اإلنسان فهو ميت .ليعش ستين سنة ،ليعش
سبعين ،ليعش مئة سنة ،أال تنقضي؟ أال تعرفون من عاش مئة
سنة ثم مات؟ نوح لبث يدعو قومه تسعمئة وخمسين سنة ،فأين
نوح اآلن؟ هل بقيت له الدنيا؟ هل سلم من الموت؟ فلماذا ال
نفكر في الموت ونستعد له إن كان ال بد منه؟
َمن كانت أمامه سفرة ال يعرف موعدها أال يتهيأ لها حتى
الصيف الماضي
َ يكون جاهزاً ،فإذا ُدعي أجاب؟ رأيت (وكنت
في عمان) المعلمين األردنيين الذين تعاقدوا مع المملكة العربية
خبروهم أن الطيارات تنقلهم تباع ًا
السعودية للعمل فيها وقد ّ
وودع أهلهفليستعدوا .فمن أنجز جواز سفره وأكمل حزم متاعه ّ
ووضع إلى جنبه ثيابه فإنه يلبي في أي ساعة يدعى فيها ،فيلبس
______________________
= ثم في مستشفى كلية الطب حين انتقلت إليه أربعة عشر شهراً» .أما
لج البحر< المنشورة في كتاب قصة الغرق فإنها مبسوطة في مقالة >في ّ
>من حديث النفس< ،قال في أولها« :مات علي الطنطاوي! وليس
عجيب ًا أن يموت ،فالموت غاية كل حي ،ولكن العجيب أن يرجع
بعدما مات ليصف للقراء الموت الذي رآه» (مجاهد).
28
وأجل حتى إذا ُدعي قال لهم
ثيابه ويمضي إلى المطار .ومن أهمل ّ
«أمهلوني حتى أنزل إلى السوق فأشتري متاعي وأذهب إلى القرية
فأودع أهلي وأراجع الحكومة الستخراج جوازي» لم يمهلوه ،بل ّ
ذهبوا وتركوه .ولكن ملَك الموت إذا جاء ال يتركه ويذهب ،بل
يأخذه ُكره ًا ،يأخذه ولو كان آبي ًا ،ال يمهله ساعة ،وال دقيقة،
وال لمحة ،وال يملك أن يمهله ،وال يعرف أحد منا متى يأتي
ليأخذه ملك الموت.
* * *
29
هذا هو الموت ،إنه والدة جديدة ،خروج إلى مرحلة أطول
وأرحب من مراحل الحياة .وما هذه الدنيا إال طريق ،حياتنا فيها
كحياة المهاجر إلى أميركا ،إنه يحسن اختيار غرفته في الباخرة
ويحرص على راحته فيها ويهتم بها ،ولكن هل ينفق ماله كله
على تجديد فرشها ونقض جدرانها حتى ال يبقى معه شيء فيصل
إلى أميركا مفلس ًا خالي الوفاض ،أم يقول« :إن مدة بقائي في هذه
وأمشي فيه الحال وأدخر
ّ الغرفة أسبوع ًا ،فأنا أرضى فيه بما تيسر
المال إلعداد الدار التي سأسكنها في أميركا ألن فيها المقام»؟
أتعرفون ما مثال الدنيا واآلخرة؟
أعلنت أميركا مرة عن تجربة ذرية تجريها في جزيرة صغيرة
من جزر البحر الهادي ،وكان ذلك من خمس عشرة سنة أو
نحوها ،وكان في الجزيرة بضع مئات من السكان من صيادي
األسماك ،فطلبت إليهم إخالء مساكنهم ،على أن تعوضهم عنها
وعما فيها ببيوت مفروشة في أي بلد يريدون من البلدان ،علىّ
أن يعلنوا استعدادهم إلخالئها وإحصاءهم لما فيها قبل موعد كذا
(وحددت لهم موعداً) ثم تأتي الطيارات فتحملهم من الجزيرة.
فمنهم من أعلن االستعداد لإلخالء وقدم اإلحصاء قبل
وأجل حتى قرب الموعد ،ومنهم من الموعد ،ومنهم من أهمل ّ
قال« :هذا كله كذب ،ما في الوجود مكان اسمه أميركا وما الدنيا
إال هذه الجزيرة ،ولسنا نتركها وال نرضى أن نفارقها» ،ونسي أن
ستنسف كلها فتكون أثراً بعد أن كانت عين ًا.
الجزيرة ُ
هذا مثل الدنيا ،واألول مثل المؤمن الذي يفكر في آخرته
30
ويستعد بالتوبة والطاعة دائم ًا للقاء ربه ،والثاني مثل المؤمن
المقصر العاصي ،والثالث مثل المادي الكافر الذي يقول :إنما
هي حياتنا الدنيا ،ال حياة بعدها ،وإن الموت نوم طويل وراحة
دائمة وفناء محقق.
وليس معنى هذا أن اإلسالم يطلب من المسلم أن يزهد في
الدنيا مرة واحدة وينفض أصابعه منها ،وال أن يسكن المساجد
فال يخرج منها ،وال أن يأوي إلى مغارة يمضي حياته فيها .ال،
الخيرة
بل إن اإلسالم يطلب من المسلمين أن يكونوا في الحضارة ّ
سادة المتحضرين ،وفي المال أغنى األغنياء ،وفي العلم ،العلم
كله ،أعلم العلماء .وأن يعرف كل مسلم حق جسده عليه بالغذاء
والرياضة ،وحق نفسه بالتسلية واإلجمام والمتعة بغير الحرام،
وحق أهله بالرعاية وحسن الصحبة ،وحق ولده بالتربية والتوجيه
والعطف ،وحق المجتمع بالعمل على كل ما يصلحه ،كما يعرف
حق اهلل بالتوحيد والطاعة.
يجمع المال ولكن مع الحالل ،ويستمتع بالطيبات المباحة،
ويكون في الدنيا على أحسن ما يكون عليها أهلها ،بشرط أن يبقى
صحيح التوحيد ،ال يداخل إيمانه شرك ظاهر أو خفي ،صحيح
ّ
اإلسالم ،يدع المحرمات ويأتي الفرائض ،وأن يكون المال في
يده ال في قلبه ،ال يكون اعتماده عليه بل يكون اعتماده على ربه،
وأن يكون رضا اهلل هو مقصده ومبتغاه.
* * *
31
32
()1
دين اإلسالم
قلت مرة لطالبي :لو جاءكم رجل أجنبي فقال لكم أن لديه
ساعة من الزمن يريد أن يفهم فيها ما اإلسالم ،فكيف ُتفهمونه
اإلسالم في ساعة؟
قالوا :هذا مستحيل ،وال بد له أن يدرس التوحيد والتجويد
والتفسير والحديث والفقه واألصول ،ويدخل في مشكالت
ومسائل ال يخرج منها في خمس سنين.
قلت :سبحان اهلل! أما كان األعرابي يقدم على رسول اهلل
’ فيلبث عنده يوم ًا أو بعض يوم فيعرف اإلسالم ،ثم يحمله إلى
قومه فيكون لهم مرشداً ومعلم ًا ويكون لإلسالم داعي ًا ومبلغ ًا؟
وأبلغ من هذا :أما شرح الرسول الدين كله (في حديث سؤال
جبريل) بثالث جمل تكلم فيها عن اإليمان واإلسالم واإلحسان؟
فلماذا ال نشرحه اليوم في ساعة؟
______________________
( )1أصل هذا الفصل هو المقالة التي نشرها المؤلف في مجلة >رابطة
العالم اإلسالمي< في رمضان 1387بعنوان >تعريف عام بدين
اإلسالم< .انظر ص 11في هذا الكتاب (مجاهد).
33
فما اإلسالم؟ وكيف يكون الدخول فيه؟
كل نِحلة من ال ِّن َحل الصحيحة والباطلة ،وكل جمعية من
الخيرة
ّ الجمعيات النافعة والضارة ،وكل حزب من األحزاب
والشريرة ،لكل ذلك مبادئ وأسس فكرية ومسائل عقائدية(،)1
تحدد غايته وتوجه سيره وتكون كالدستور ألعضائه وأتباعه.
ال إلى هذهومن أراد أن ينتسب إلى واحد منها نظر أو ً
المبادئ ،فإن ارتضاها واعتقد صحتها وقبل بها بفكره الواعي
يبق عنده شك فيها طلب االنتساب إلى وبعقله الباطن ولم َ
الجمعية ،فانتظم في سلك أعضائها ومتبعيها ووجب عليه أن
يقوم باألعمال التي ُيلزمه بها دستورها ويدفع رسم االشتراك
الذي يحدده نظامها ،وكان عليه بعد ذلك أن يدل بسلوكه على
إخالصه لمبادئها ،فيتذكر هذه المبادئ دائم ًا فال يأتي من األعمال
ال حسن ًا عليها وداعية
ما يخالفها ،بل يكون بأخالقه وسلوكه مثا ً
فعلي ًا لها.
فالعضوية في الجمعية هي >علم< بنظامها ،و>اعتقاد<
بمبادئها ،و>إطاعة< ألحكامها ،و>سلوك< في الحياة موافق لها.
هذا وضع عام ينطبق على اإلسالم ،فمن أراد أن يدخل
ال أن يقبل أسسه العقلية وأن يصدق بها
في دين اإلسالم عليه أو ً
______________________
( )1تجوز النسبة إلى الجمع إذا جرى مجرى العلم ،فنقول> :حقوق
دولية< و>قوانين عمالية< و>مظاهرات طالبية< و>مسائل عقائدية<،
كما قالوا كذلك> :عالم أصولي< و>رجل أنصاري< و>مائدة ملوكية<
و>رسائل إخوانية<.
34
تصديق ًا جازم ًا حتى تكون له عقيدة .وهذه األسس تتلخص في أن
يعتقد أن هذا العالم المادي ليس كل شيء وأن هذه الحياة الدنيا
ليست هي الحياة كلها .فاإلنسان كان موجوداً قبل أن يولد وسيظل
وجد نفسه بل ُوجد قبل أن يعرف موجوداً بعد أن يموت ،وأنه لم ُي ِ
نفسه ،ولم توجده هذه الجمادات من حوله ألنه عاقل وال عقل
لها ،بل أوجده وأوجد هذه العوالم كلها من العدم إله واحد ،هو
وحده الذي يحيي ويميت ،وهو الذي خلق كل شيء ،وإن شاء
أفناه وذهب به .وهذا اإلله ال يشبه شيئ ًا مما في العوالم ،قديم ال
أول له ،باق ال آخر له ،قادر ال حدود لقدرته ،عالم ال يخفى
شيء عن علمه ،عادل ولكن ال تقاس عدالته المطلقة بمقاييس
العدالة البشرية .هو الذي وضع نواميس الكون التي نسميها >قوانين
وحدد من األزل جزئياته
ّ الطبيعة< ،وجعل كل شيء فيها بمقدار،
وأنواعه وما يطرأ عليه على األحياء وعلى الجمادات من حركة
ال يحكم وتحول وفعل وترك ،ومنح اإلنسان عق ً ّ وسكون وثبات
ال
به على كثير من األمور التي جعلها خاضعة لتصرفه ،وأعطاه عق ً
يختار به ما يريد ،وإرادة يحقق بها ما يختار ،وجعل بعد هذه
الحياة المؤقتة حياة دائمة في اآلخرة فيها ُيكا َفأ المحسن في الجنة
ويعا َقب المسيء في جهنم.
ُ
وهذا اإلله واحد أحد ،ال شريك له ُيعبد معه وال وسيط
يقرب إليه ويشفع عنده بال إذنه ،فالعبادة له وحده خالصة ،بكل
ّ
مظاهرها.
درك بالحواس ،ومخلوقات له مخلوقات مادية ظاهرة لنا ُت َ
مغيبة عنا ،بعضها جماد وبعضها حي مكلَّف ،ومن األحياء ما هو
َّ
ّ
35
خالص للخير المحض ،وهم المالئكة ،ومنها ما هو مخصوص
بالشر المحض ،وهم الشياطين (وهم من الجن) ،وما هو مختلط،
الخير والشرير والصالح والطالح ،وهم اإلنس والجن.
منه ّ
الملَك بالشرع اإللهي
وأنه يختار ناس ًا من البشر ينزل عليهم َ
ليب ّلغوه البشر ،وهؤالء هم الرسل .وأن هذه الشرائع تتضمنها
كتب وصحائف أُنزلت من السماء ،ينسخ المتأخر منها ما ّ
تقدمه
أو يعدله ،وأن آخر هذه الكتب هو القرآن ،وقد ُح ِّرفت الكتب
والصحف قبله أو ضاعت و ُنسيت وبقي هو سالم ًا من التحريف
والضياع .وأن آخر هؤالء الرسل واألنبياء هو محمد بن عبد اهلل
نبي
العربي القرشيُ ،ختمت به الرساالت وبدينه األديان ،فال َّ
بعده.
* * *
ال في دولةفإذا نطق بهما صار مسلم ًا ،أي >مواطن ًا< أصي ً
اإلسالم ،وتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلم ،و َقبِل
بالقيام بجميع األعمال التي يكلفه بها اإلسالم .وهذه األعمال (أي
العبادات) قليلة سهلة ،ليس فيها مشقة بليغة وليس فيها حرج.
36
أولها :أن يركع في الصباح ركعتين يناجي فيهما ربه ،يسأله
من خيره ويعوذ به من عقابه ،وأن يتوضأ قبلهما ،أي يغسل
أطرافه ،أو يغسل جسده كله (إن كانت به جنابة) .وأن يركع في
وسطه أربع ًا ،ثم أربع ًا ،وأن يركع بعد غياب الشمس ثالث ًا ،وفي
الليل أربع ًا .هذه هي الصلوات المفروضة ،ال يستغرق أداؤها كلها
تؤدى إال فيه وال
نصف ساعة في اليوم ،ال ُيشترط لها مكان ال َّ
تصح إال معه ،وال واسطة فيها
ّ شخص معين (أي رجل دين) ال
(وال في العبادات كلها) بين المسلم وربه.
أن في السنة شهراً معين ًا يقدم فيه المسلم فطورهالثانيّ :
ال من أن يكون في أول النهار ،ويؤخر فيجعله في آخر الليل بد ً
غداءه إلى ما بعد غروب الشمس ،ويمتنع في النهار عن الطعام
والشراب ومعاشرة النساء ،فيكون من ذلك شهر صفاء لنفسه
لخل ُقه وصحة لجسده ،ويكون هذا الشهر وراحة لمعدته وتهذيب ُ
مظهراً من مظاهر االجتماع على الخير والتساوي في العيش.
الثالث :أنه إذا فضل عن نفقات نفسه ونفقات عياله مقدار
من المال محدود ،بقي سنة كاملة ال يحتاج إليه ألنه في غنى عنه،
ُكلِّف أن ُيخرج منه بعد انقضاء السنة مبلغ اثنين ونصف في المئة
للفقراء والمحتاجين ،ال يحس هو بثقلها ويكون فيها عون بالغ
للمحتاج ،وركن وطيد للتضامن االجتماعي ،وشفاء من داء الفقر
الذي هو شر األدواء.
الرابع :إن اإلسالم رتب للمجتمع اإلسالمي اجتماعات
دورية :اجتماع بمثابة مجالس الحارات ُيع َقد خمس مرات في
اليوم ،مثل حصص المدرسة ،هو صالة الجماعة ،يوثق كل
37
عضو فيه عبوديته هلل بالقيام بين يديه ،ويكون من ثماره أن يعين
األقوياء الضعيف ويع ّلم العلماء الجاهل ويسعف األغنياء الفقير،
ال عن عمله وال تاجراً عن
ومدة انعقاده ربع ساعة ،فال يعطل عام ً
تجارته ،وإذا تم االجتماع وتخلف عنه مسلم فص ّلى في بيته لم
ُيعا َقب على تخلفه ولكن فاته ثواب حضوره .واجتماع لمجالس
األحياء ُيعقد مرة في األسبوع هو صالة الجمعة ،ومدة انعقاده أقل
من ساعة وحضوره واجب على الرجال .واجتماع هو كالمؤتمر
الشعبي العامُ ،يعقد كل سنة في مكان معين ،هو في الحقيقة دورة
توجيهية ورياضية وفكرية ،يكلف المسلم بأن يحضره مرة واحدة
في العمر (إذا قدر على حضوره) وهو الحج.
* * *
38
عنه ،وإن لم يتب فإنه يبقى مسلم ًا معدوداً في المسلمين ولكنه
يكون >عاصي ًا< يستحق العقاب في اآلخرة ،ولكن عقابه مؤقت ال
يدوم دوام عقاب الكافر.
شك فيها
أما إذا أنكر بعض المبادئ (أي العقائد األصلية) أو ّ
جمع ًا على حرمته أوجمع ًا على وجوبه أو حرام ًا ُم َ
أو جحد واجب ًا ُم َ
أنكر ولو كلمة واحدة من القرآن فإنه يخرج من الدين ويعتبر مرتداً
( ُتنزع عنه الجنسية اإلسالمية) .والردة أكبر جريمة في اإلسالم،
فهي كالخيانة العظمى في القوانين الحديثة ،جزاؤها -إن لم يرجع
عنها ويتنصل منها -الموت .وقد يترك المسلم بعض الواجبات أو
يأتي بعض الممنوعات وهو معترف بالوجوب والحرمة ،فيبقى
ال
مسلم ًا ولكنه يكون عاصي ًا ،أما اإليمان فال يتجزأ ،فلو آمن مث ً
بتسع وتسعين عقيدة وكفر بواحدة فقط كان كافراً.
وقد يكون المسلم غير مؤمن ،كمن انتسب إلى حزب أو
جمعية وحضر اجتماعاتها ودفع اشتراكاتها وقام بواجب العضو
فيها ،ولكنه لم يقبل بمبادئها ولم يقتنع بصحتها ،بل دخل فيها
للتجسس عليها أو إفساد أمرها .وهذا هو المنافق( )1الذي ينطق
بالشهادتين ويؤدي العبادات ظاهراً ولكنه غير مؤمن بالحقيقة وال
معتبراً من المسلمين ،ألن
َ ناج عند اهلل ،وإن كان عند الناسٍ
______________________
( )1النفاق هو إظهار اإليمان وإبطال الكفر ،وليس منه قوله ’> :آية
المنافق ثالث <...فمن أخلف الوعد وكذب القول أو خان األمانة ال
يعتبر بهذا وحده كافراً ،وإنما هو نفاق اجتماعي غير النفاق األصلي،
نفاق العقيدة الذي ذكرناه.
39
الناس لهم الظواهر واهلل وحده يطّلع على السرائر والقلوب.
فإذا آمن اإلنسان باألسس الفكرية لإلسالم ،وهي التصديق
المطلق باهلل وتنزيهه عن الشريك والوسيط وبالمالئكة وبالرسل
وبالكتب وبالحياة اآلخرة وبالقدر ،ونطق الشهادتين وصلى
الفرائض وصام رمضان وأدى زكاة ماله (إن وجبت عليه الزكاة)
المجمع
َ وحج مرة في العمر (إن استطاع) وامتنع عن المحرمات
على حرمتها فهو مسلم مؤمن ،ولكن ثمرة اإليمان ال تظهر منه
ال حتى يسلك في حياته حس بحالوته وال يكون مسلم ًا كام ً
وال ُي ّ
مسلك المسلم المؤمن.
ولقد لخص رسول اهلل ’ منهاج هذا السلوك بجملة واحدة،
كلمة من جوامع الكلم ومن أبلغ ما نطق به بشر ،كلمة تجمع
الخير كله ،خير الدنيا وما في َع ِقبه من خير اآلخرة ،هي أن
وجده وهزله
ّ يتذكر المسلم في قيامه وقعوده وخلوته وجلوته
وفي حاالتها كلها أن اهلل مطّلع عليه وناظر إليه ،فال يعصيه وهو
يذكر أنه يراه ،وال يخاف أو ييأس وهو يعلم أنه معه ،وال يشعر
بالوحشة وهو يناجيه ،ال يحس بالحاجة إلى أحد وهو يطلب منه
ويدعوه ،فإن عصى (ومن طبيعته أن يعصي) رجع وتاب فتاب
اهلل عليه.
كل ذلك من قوله ’ في تعريف اإلحسان> :أن تعبد اهلل
كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك<.
* * *
40
هذا هو دين اإلسالم بالقول المجمل ،وتفصيله يأتي:
>العقيدة< في هذا الجزء ،و>اإلسالم< و>اإلحسان< في األجزاء
()1
التالية إن شاء اهلل.
* * *
______________________
( )1عندما كتب جدي هذا الكتاب كان في ذهنه أن ينشر بعده جزأين
تعريف اإلسالم :عقيد ًة وعباد ًة وسلوك ًا .وبقي
ُ كمل بهما
آخ َرين َي ُ
َ
لما أقمت معه في أواخر ال ،وأدركته ّهذا الخاطر في ذهنه سنين طوا ً
السبعينيات فكنت أعاونه في ترتيب كتبه وأوراقه وأحثه على إكمال
نشر حتى ذلك الوقت ،ولكنه كان وي َ
ونشر ما لم يكمل من الكتب ُ
يؤجل العمل ويدافعه (على عادته رحمه اهلل) حتى ضعفت الهمة
غير هذا
وتصرم الوقت ،وشاء اهلل أن يمضي إلى لقاء ربه ولم يصدر ُ ّ
الجزء الوحيد الذي بارك اهلل فيه وكتب له االنتشار وال َقبول (مجاهد).
41
42
تعريفات
43
الوجود هو ما يسمونه >الظن< .فأنت تقول« :أظن أن في الطائف
ال >نعم< وأربعون >ال<.
اآلن مطراً» ،فالظن ستون في المئة مث ً
واسود وتراكب وخرج
ّ فإن رأيت الغمام قد ازداد وتراكم
البرق يلمع من خالله ازداد ظنك بنزول المطر في الطائف ،فصار
لـ>نعم< سبعون أو خمس وسبعون في المئة ،وكان هذا ما يسميه
علماؤنا >غلبة الظن< ،فأنت تقول لسائلك :يغلب على ظني أن
في الطائف اآلن مطراً .فإن أنت ذهبت إلى الطائف فرأيت المطر
بعينك وأحسست به على وجهك أيقنت بنزوله ،وعلماؤنا يسمون
هذا اليقين >علم ًا<.
ٍ
معان> :العلم< المطلق الذي يقابل فصار لكلمة العلم
الجهل .و>العلم< الذي يقابل الفن والفلسفة ،فالكيمياء علم،
أما الرسم فهو فن والشعر فن ،والعلم بهذا المعنى هو الذي
تكون غايته الحقيقة ،وأداته العقل ،ووسيلته المحاكمة والتجربة
واالستقراء ،والفن هو الذي تكون غايته الجمال ،وأداته الشعور
ووسيلته الذوق .و>العلم< الذي يجيء بمعنى اليقين ،ويقابل
الشك والظن ،وهو الذي نقصده في هذا البحث(.)1
______________________
( )1أما العلم بالمعنى الخاص ،كقولنا >علم النحو< و>علم الكيمياء<،
فلعلمائنا فيه تعريفات كثيرة ،ولكن أوضح تعريف وأبعده عن التعقيد
عرفه به سارتون بقوله« :العلم هو مجموعة معارف محققة هو ما ّ
ومنظمة» .فبقوله >معارف< خرجت المشاعر والخياالت ،وبقوله
>محققة< خرجت النظريات والفروض ،وبقوله >منظمة< خرجت
المعارف المبعثرة المتفرقة.
44
العلم الضروري والعلم النظري
العلم الذي يحصل بالحس والمشاهدة ال يحتاج إلى دليل.
الجبل الذي تراه أمامك ال تحتاج إلى إقامة الدليل على وجوده،
إنك تعلم -ضرور ًة -بأنه موجود ،وكل من يراه (من العقالء)
يعلم أنه موجود .وهذا ما يسمى >العلم الضروري<.
أما العلم بأن مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوي
مرب َعي الضلعين القائمين فيحتاج إلى دليل عقلي ،فالعالم
مجموع ّ
أو طالب العلم الذي يصل إلى الدليل يعلم هذه الحقيقة ،أما
العامي الجاهل فال يعلمها وال يصدق بها ما دام لم يطّلع على
هذا الدليل ،ولو رأى المثلث أمامه ،ولو أقيم على كل ضلع منه
مربع له .وهذا ما يسمى بالعلم النظري ،وهو الذي ال يحصل إال
بالدليل العقلي.
البديهية والعقيدة
ومن العلم النظري ما يحتاج في األصل إلى دليل وال
يعم ويشتهر حتى يدركه
درك بمجرد الحس والمشاهدة ،ولكنه ّ ُي َ
العالم والجاهل والكبير والصغير ،وحتى يصير أقرب إلى >العلم
الضروري< .مثاله :العلم بأن >الجزء أصغر من الكل< .الرغيف
الناقص أصغر من الرغيف الكامل ،هذه حقيقة هي في األصل من
العلم النظري الذي يحتاج إلى دليل ،ولكنك ال تجد من يشك
فيها ويطلب الدليل عليها ،فالطفل إذا أخذت منه كف الشكالطة
الكامل وأعطيته كف ًا ناقص ًا ال يقبله ،وإذا حاولت إقناعه بأن هذا
أكبر لم يقنع ألن كون الجزء أصغر من الكل بديهية .و>مقولة
45
الهو ِّية< (أي كون الشي هو نفسه) بديهية ،ولو قال لك قائل «أثبت
ُ
لي أن هذا القلم الذي تحمله بيدك ليس ملعقة شاي» تقول له :هذه
بديهية ال تحتاج إلى إثبات ألن القلم قلم.
فالبديهيات( )1هي الحقائق العقلية التي يقبلها الناس جميع ًا
ال ،فإذا دخلت البديهية العقل الباطن وال يطلب أحد عليها دلي ً
واستقرت فيه وأثرت في الحدس والشعور ووجهت اإلنسان في
وسمي االعتقاد
تفكيره (عقله الواعي) وفي أعماله ُس ِّم َيت >عقيدة< ُ
بها >إيمان ًا<.
ولكنا نعرف أن اإلنسان يعتقد الحق أحيان ًا ويعتقد الباطل
حين ًا ،ونشاهد في هذه األيام من أتباع المذاهب المنحرفة والمبادئ
الباطلة من امتزج بها قلب ًا وقالب ًا وتمسك بها ظاهراً وباطن ًا وبذل
ماله ونفسه في نصرتها وحمايتها ،فهل نسمي هؤالء مؤمنين؟ أما
إطالق ًا فال ،ولكن يمكن أن نطلق عليه اسم اإليمان مضاف ًا إلى
الباطل الذي يؤمنون به ،على نحو قوله تعالى{ :ألم َت َر إلى الذين
بالجب ِ
ت والطاغوت}. أو ُتوا نصيب ًا من الكتاب ُيؤمنون ِ ْ
مقيداً بالوصف ،نحو قوله ويمكن إطالق اسم اإليمان َّ
أكثرهم باهلل إال وهم مشركون} .أما اإليمان
تعالى{ :وما ُيؤمن ُ
بالمعنى الخاص الذي ال ينصرف إذا أُطلق إال إليه وال يدل إال
______________________
( )1القياس أن نقول في النسبة إلى البديهية بدهي ،لكن علماءنا استعملوا
من القديم كلمة >بديهي< و>طبيعي< كما يستعملها جمهور الناس
اليوم .وأنا أؤثر أن أستعمل العامي الفصيح تنبيه ًا على فصاحته ،وقد
نبهت في حواشي كتبي إلى عشرات وعشرات من هذه الكلمات.
46
عليه ،المعنى الذي يراد كلما ورد ذكر اإليمان ومشتقاته في
الكتاب والسنة وعلى ألسنة العلماء ،فهو« :االعتقاد باهلل رب ًا
شرك واحداً .ومالك ًا مختاراً متصرف ًا .وإله ًا مفرداً بالعبادة ،ال ُي َ
غيره في كل ما هو من جنس العبادة .واالعتقاد بكل ما أَ ْوحى معه ُ
به إلى نبيه ،من خبر المالئكة والرسل واليوم اآلخرة والقدر خيره
وشره».
وصاحب هذا االعتقاد هو المؤمن ،فإن نقص( )1شيئ ًا منه أو
رده ،أو تردد في تصديقه أو شك فيه ف َق َد صفة اإليمان ولم َي ُعد ّ
ُي َع ُّد مع المؤمنين.
* * *
______________________
( )1نقص شيئ ًا منه بمعنى أنقص.
47
48
()1
قواعد العقائد
القاعدة األولى
ما أدركه بحواسي ال أشك في أنه موجود.
المشاهد أني أمشي في
َ هذه بديهية عقلية مسلَّمة ،ولكن
الصحراء ساعة الظهيرة فأرى بركة ماء تلوح ظاهرة للعين ،فإذا
جئتها لم أجد إال التراب ألن الذي رأيته سراب .وأضع القلم
______________________
( )1أستأذن قارئ كتابي بأن أمهد لذكر هذه القواعد بكلمة ليست من
موضوع هذا الكتاب ،ولكنها تبين قصتها وكيف وصلت إليها.
أدرس األدب العربي في بغداد قبل الحرب وتفصيل ذلك :أنني كنت ّ
أدرس معه الدين. الثانية ،فكُ ّلفت في النصف الثاني من العام أن ّ
شرح ،فقبلت ودخلت، فسر و ُت َ
وكان منهج الدين سوراً من القرآن ُت َّ
فإذا الفصل في هرج ومرج ،وكان عهدي به في درس األدب هادئ ًا
ساكن ًا ،وإذا الطالب يتخذون من درس الدين مسالة ومضيعة للوقت.
وأدركت أن سبب ذلك ضعف اإليمان في نفوسهم ،فقلت لهم:
ارفعوا المصاحف واسمعوا ...وألهمني اهلل إلهام ًا مفاجئ ًا بال إعداد
سابق بحث ًا جديداً في اإليمان ،وضعت فيه بعض هذه القواعد
ونشرت خالصته في مجلة >الرسالة< سنة ،1937وهو في كتابي=
49
المستقيم في كأس الماء فأراه منكسراً ،وهو لم ينكسر .ويكون
الحديث فيها عن الجن والعفاريت ثم يذهب إلى
ُ المرء في سهر ٍة
داره ،فإن كان الطريق خالي ًا مظلم ًا وكان مخلوع القلب واسع
الخيال رأى أمامه جني ًا أو عفريت ًا ،فشاهده وأحس بوجوده وما
ثمة شيء مما رأى .والسحرة والمشعوذون يعرضون غرائب تراها
وال حقيقة لها.
فالحواس إذن تخطئ وتخدع وتتوهم ،أو يتوهم صاحبها،
فهل أشك -لهذا -في وجود ما أحس به؟ ال ،ألني إن شككت
لدي الحقائق والخياالت
ّ فيما أرى وأسمع وأحس تداخلت
وصرت أنا والمجنون سواء.
ولكن أضيف شرط ًا آخر لحصول العلم (أي اليقين) بوجود
ْ
ما أحسه ،هو أن يحكم العقل بالتجربة السابقة أن الذي أحس
خدع أول مرة فيحسب خداع حواس .والعقل ُي َ
َ ليس وهم ًا أو
السراب ماء ،فإذا رآه مرة أخرى أدرك أنه سراب .والعقل يحكم
______________________
= > ِفكَ ر ومباحث< .ولما ُك ّلفت وضع مناهج مدارس األوقاف في سوريا
وطبقت كما وضعتها) أدخلت أيام الوحدة (ووضعتها كلها وحدي ِّ
هذه القواعد في المنهج ودللت على ما كتبته ليكون مرجع ًا ،فأخذه
وادعاه لنفسه ووضعه في كتابه ،ولكن لم
أحد المؤلفين في العقائد ّ
َي ِ
هتد إلى ما أريده منه ،فمشى في أول الطريق وضاع في آخره .فلما
أُحلت على المعاش (وكنت مستشار محكمة النقض) وذهبت إلى
أدرس في كلية التربية فيها سنة 1384ﻫ رجعتالرياض ثم إلى مكة ّ
إلى هذه القواعد ،وزدت فيها حتى بلغت ثماني قواعد هي التي
أذكرها هنا.
50
بعد أن رأى القلم منكسراً ألول مرة أنه ال يزال مستقيم ًا كما
كان وإن بدا للعين منكسراً .واألمور التي تخطئ فيها الحواس أو
ُتخدع أمور محدودة معدودة معروفة ال ُتبطل القاعدة وال تؤثر
فيها ،ومنها عمل سحرة فرعون وما يعمله سحرة >السيرك< في
هذه األيام.
القاعدة الثانية
إن اليقين كما يحصل بالحس والمشاهدة يحصل بالخبر الذي
نعتقد صدق صاحبه.
هناك أشياء ما شاهدناها وال أحسسنا بها ولكن نوقن بوجودها
كما نوقن بوجود ما نشاهده ونحس به .نوقن بوجود الهند والبرازيل
ولم َن ُز ْرهما ولم َن َرهما ،ونوقن بأن اإلسكندر المقدوني فتح بالد
فارس والوليد بن عبد الملك بنى الجامع األموي ،ولم نحضر
حروب اإلسكندر وال شهدنا بناء الجامع األموي .ولو نظر كل
واحد منا في نفسه لرأى أن ما يوقن بوجوده من األشياء التي لم
أكثر من األشياء التي رآها من الممالك والبلدان ومن حوادث
َيرها ُ
التاريخ الذي كان ومما يقع اآلن.
فكيف أيقن بوجود هذه األشياء وهو لم يدركها بحواسه؟
تصور إمكان اتفاقهم
أيقن به حين نقله جماعات عن جماعات ال ُي َّ
في العادة على اختراع هذه األخبار ونقلها كذب ًا.
القاعدة الثالثة
ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس؟ وهل تستطيع أن تصل
إلى إدراك كل موجود؟
51
إن َم َثل النفس والحواس مع الموجودات كمثل رجل سجنه
وسد عليه األبواب والنوافذ ولم يترك له
ّ الحاكم في برج القلعة
إال شقوق ًا في جدار البرج ،ش ّق ًا يطل منه على النهر الذي يجري
في الشرق ،وش ّق ًا على الجبل الذي يقوم في الغرب ،وش ّق ًا على
القصر الذي يجثم في الشمال ،وشق ًا على الملعب الذي يقع في
الجنوب.
السجين هو النفس والقلعة الجسد ،وهذه الشقوق هي
وحس السمع
ّ حس النظر ُيشرف منه على عالم األلوان،
الحواسّ :
وحس
ّ وحس الذوق على عالم الطعوم،ّ على عالم األصوات،
وحس اللمس على عالم األجسام.
ّ الشم على عالم الروائح،
-1والسؤال اآلن :هل أدرك بكل حاسة من هذه الحواس
كل ما في العالم الذي تشرف عليه؟ السجين عندما ينظر من شق
النهر ال يرى النهر كله ولكن جزءاً منه ،وكذلك العين حين تشرف
على عالم األلوان ،ال تراه كله بل ترى بعضه.
أنا ال أرى نملة تمشي على بعد ثالثة أميال مع أن النملة
والح َوينات( )1في كأس الماء الصافي
موجودة ،وال أرى الجراثيم ُ
()2
مع أن في الكأس الماليين من هذه الجراثيم ،وال أرى الكهارب
التي تدور وسط الذرة دوران الكواكب في فضاء األفالك.
وإن لهذه النملة صوت ًا ولكني ال أسمعه ألن أذني تلتقط
______________________
(ُ )1ح َو ْين تصغير حيوان ،وهذا ما يسمى في علم الصرف >تصغير
الترخيم< ويكون بعد حذف الزوائد من االسم.
( )2يريد اإللكترونات (مجاهد).
52
الهزات من خمس إلى عشرين ألف ًا ،فما نقص ال تسمعه ،وما زاد
ثقب طبلة األذن فبطل بذلك السمع .وأنا ال أشم للسكّ ر رائحة،
مع أن النملة والذباب يشمه ويسرع إليه .فالحواس إذن ال تدرك
من العوالم التي ُسلطت عليها إال جزءاً منها.
-2ثم أال يمكن أن يكون بين عالم األلوان الذي تشرف
عليه العين وعالم األصوات الذي تطل عليه األذن عالم آخر ال
ال ألنه ليس عندي الحاسة إلدراكه؟ أال يمكن أن يكون أدركه أص ً
بين النهر وبين الجبل -بالنسبة لسجين البرج -بستان عظيم ،لم
يره ولم يعلم به ألنه ال يجد شق ًا يطل منه عليه؟ فهل يحق له أن
ينكره ألنه ال يراه؟
األك َمه (الذي ُولد أعمى) قد يستطيع بالسماع معرفة أنْ
البحر أزرق والمرج أخضر ،ولكنه ال يستطيع أن يدرك ما هي
الزرقة وما هي الخضرة .واألصم قد يعرف بالتعلم أن في األنغام
البيات والرصد والسيكا ،ولكنه ال يستطيع أن يدرك حقيقة النغم.
فهل يحق لألعمى أن ينكر وجود الخضرة ولألصم أن يجحد
حقيقة النغم ألنه ال يدركها؟
جوها)
إن الغرفة التي تبدو لك ساكنة سكون ًا عميق ًا فيها (في ّ
جميع األغاني واألصوات التي تذاع اآلن من جميع اإلذاعات.
أنت ال تحس بها ألنها ليست لون ًا تراه بعينك وال صوت ًا تسمعه
بأذنك ،إنها اهتزازات من نوع آخر ،فيها صوت ولكن ال تدركه
يردها عليك سمعتها .والضغط بالراد الذي ّ
()1
ّ األذن ،فإذا جئت
______________________
( )1الراد :اسم فاعل من َر ّد وضعتها للراديو ،ألنه يرد الصوت الذي
يرسله المذياع.
53
الجوي ال تحس باختالفه القليل ألنه ليس لديك حاسة تدركه بها،
فإذا جئت بالبارومتر أدركته به ،والهزات الخفيفة ال تدركها ولكن
الرادار يدركها.
ففي الوجود أشياء كثيرة ال تدخل في نطاق الحواس ألنها
ليست لون ًا ُيرى وال صوت ًا ُيسمع وال جماداً ُيلمس وال رائحة ُت َش ّم
وال طعم ًا ُيذاق ،فهل يحق لي أن أنكرها ألن حواسي المحدودة
ال تدركها؟
-3والحواس :هل هي كاملة؟ كان األقدمون يحصرونها
في خمس حواس فقط وال يتصورون إمكان الزيادة عليها ،ولكن
حواس أخرى أودعها اهلل فيه ،وما يقبل
ُّ ُكشفت في اإلنسان اآلن
الزياد َة يوصف بالنقصان.
أنا أغمض عيني وأبسط يدي أو أقبضها فأحس بأنها مبسوطة
أو مقبوضة ،لم ألمسها ولم أرها ،فبأي حاسة أحسست بها؟ بما
والو ْني وبالغثيان وباالنبساط
الحس العضلي .وأحس بالتعب َّ يسمى
أو االنقباض ،وما أحسست بذلك بواحدة من الحواس الخمس بل
بالحس الداخلي .وأمشي فال أميل مع أن الطفل أول مشيه يميل،
وراكب الدراجة والعبو السيرك الذين يأتون بالعجائب ،بأي حاسة
ضبطوا توازنهم؟ إن هناك حاسة ثامنة هي حاسة التوازن ،وأذكر
أنهم كشفوا موضعها الذي وضعها اهلل فيه .في األذن الداخلية مادة
سائلة قليلة بها يكون التوازن ،وأذكر أنهم في تجاربهم استخرجوها
من أرنب فصارت تمشي األرنب متر ّنحة كأنها سكرى.
فالقاعدة الثالثة هي أنه ال يحق لنا أن ننكر وجود أشياء
لمجرد أننا ال ندركها بحواسنا.
54
القاعدة الرابعة
قلنا أن الحواس محدودة المدى ،فأنا ال أستطيع أن أرى
تم بها
ببصري كل مرئي ،وهذا صحيح ،ولكن اهلل أعطانا َملَكة ُن ّ
نقص الحواس هي >الخيال< .أنا إن لم أستطع أن أرى داري في
أتخيلها فكأنني أراها ،فالخيال ّ دمشق وأنا في مكة أستطيع أن
يكمل الحواس .فهل للخيال حدود أم أنه مطلق غير محدود؟ هل
أستطيع أن أتخيل شيئ ًا لم أدركه بالحواس؟
رجع< ،كتخيليالخيال عند علماء النفس خياالن> :خيال ُم ِ
الدار في دمشق وأنا في مكة ،و>خيال ُمبدع< ،هو خيال الشعراء
والقصاصين والرسامين وسائر أهل الفنون ،فانظروا إلى خياالت
هؤالء الفنانين :هل جاؤوا بشيء غير ما في الواقع؟ الذي نحت
تمثال فينوس جاء بصورة لم َنر من يماثلها تمام ًا ،ولكن هل كانت
أجزاء من الواقع فألّف بينها؟ أخذ أجمل أنف رآه
ً جديدة أم أخذ
وأجمل فم وأجمل جسم ،فجمع هذا إلى ذاك فجاء بجديد،
ولكن هذا الجديد مؤلَّف من أجزاء قديمة.
وتمثال الثور المجنح األشوري في متحف باريس ،ما فيه إال
ناح َته أخذ رأس رجل فوضعه على جسد ثور ووضع له أجنحة أن ِ
طائر .صورة جديدة ،ولكنها مؤلفة من أجزاء قديمة .وكذلك
الحيوان العجيب الذي تخيله القزويني .وخياالت الشعراء مهما
أوغلت في باب االستعارة والتشبيه والكناية والمبالغات العجيبة،
ال تخرج عن كونها جمع ًا بين أجزاء متفرقة في الواقع.
بل إننا إذا أوغلنا في اإلغراب في جمع هذه األجزاء نجد
55
ال جزءاً
الخيال نفسه قد عجز عن اإللمام بهذا الجمع ،خذوا مث ً
من عالم الرائحة وجزءاً من عالم الصوت فقولوا «إن فالن ًا المغني
قد غنى نغمة معطّرة بعطر الورد» أو «إن العطر الفالني له رائحة
لونها أحمر» واعرضوا هذه الصورة على خيالكم تجدوا أنكم لم
تستطيعوا أن تتخيلوها ،مع أنها جميع ًا ما خرجت عن عالم الواقع.
فنحن ال نستطيع أن نتخيل نغمة عطرة وال رائحة حمراء،
وال نتصور إال األبعاد الثالثة (الطول والعرض واالرتفاع) ،ال
نستطيع أن نتصور بعداً رابع ًا( )1وال دائرة ليس لها محيط وال
مثلث ًا ليس له زوايا ،فكيف إذن نتخيل اآلخرة وما فيها وهي عالم
يختلف عن عالمنا؟ إن اآلخرة بالنسبة لهذه الدنيا كالدنيا بالنسبة
لبطن الجنين ،لو أمكن أن نتصل بالجنين ونسأله وأمكن أن يجيب
وقلنا ما :ما الكون؟ لقال :إن الكون هو هذه األغشية التي تغشاني
وهذه الظلمات التي تحيط بي .ولو قلنا له أن ها هنا كون ًا آخر فيه
وبر وبحر وسهل وجبل وصحارى قاحلة شمس وقمر وليل ونهار ّ
وجنات عارشات لما فهم معنى هذا الكالم ،ولو فهمه لما استطاع
تخيل حقيقته.
ّ
مما في اآلخرة إال
ومن هنا قال ابن عباس> :ما في الدنيا ّ
األسماء< .فال خمر اآلخرة كخمرة الدنيا ،وال حورها كنسائها،
وال نار جهنم كنارها ،وال الصراط الممدود على جهنم كالجسور
الممدودة على األودية واألنهار.
______________________
( )1المقصود البعدي الحقيقي ،أما ما ذهب إليه آينشتاين من اعتبار
الزمان بعداً رابع ًا فهو شيء اعتباري ال حقيقي.
56
فالقاعدة الرابعة :أن الخيال البشري ال يستطيع أن ُيلِ ّم إال بما
أدركته الحواس.
القاعدة الخامسة
لما أبصرت العين العود المستقيم أعوج وهو في كأس الماء لم
ينخدع العقل بما رأت العين ،بل عرف أنه لم يزل مستقيم ًا ،ولما
رأت التراب ماء في الصحراء عرف العقل أنه سراب وأنه ليس ماء
ولكنه تراب .ولما أبصرنا ساحر السيرك ُيخرج من فمه مئة منديل
كمه عشرين أرنب ًا أدرك العقل أنها خدعة .فالعقل أصبح َحكَ م ًا
ومن ّ
وحكمه أبعد مدى ،ولكن هل يحكم على كل شيء ويمتد مداه إلى
غير ما نهاية؟
إن العقل ال يستطيع أن يدرك شيئ ًا حتى يحصره بين اثنين:
الزمان والمكان ،فما لم ينحصر بينهما لم يدركه العقل بنفسه .فلو
قال لك مدرس التاريخ« :إن حرب ًا وقعت بين العرب والفرس،
ولكنها لم تقع قبل اإلسالم وال بعده ،ولم تقع في زمن من األزمان
ال» لم تدرك ذلك ولم تصدقه ولم تقبله .ولو قالولكنها وقعت فع ً
لك مدرس الجغرافية« :إن بلدة ليست في سهل وال جبل وال في ّبر
وال بحر وال في أرض وال سماء وال في مكان من األمكنة ،ولكنها
موجودة» لم تدرك ذلك ولم تصدقه ولم تقبله.
فالعقل ال يحكم إال في حدود الزمان والمكان ،فما كان خارج ًا
عنهما من مسائل الروح وأمور القدر وصفات اهلل فال حكم للعقل عليه.
ثم إن العقل محدود ،ال يحكم على غير المحدود وال يستطيع
تصور خلود المؤمنين في الجنة .إن عقل المؤمن موقن
أن يحيط بهّ .
57
بأنه حقيقة وقد جاءه هذا اليقين من الخبر الصادق ،ولكن انظر :هل
يحيط عقلك بالخلود؟ ركز فكرك فيه تجد أنك تتصور بقاءهم في
الجنة قرن ًا وقرنين ،ومئة قرن ،ومليون ،وألف مليون ...ثم تجد
عقلك يقف عاجزاً ويسأل :وبعد؟ إنه يريد أن يضع لذلك نهاية .إنه
ال يدرك الـ>النهاية< ،وإذا افترض الوصول إليها وقع في التناقض
الذي يقول ببطالنه.
ال
من أقرب أدلتهم هذا الدليل ،وهو أن ُتخرج من نقطة >م< مث ً
(في الشكل) شعاعين ،أي خطين مستقيمين متباعدين ،وتفرض
مد كل خط إلى ما ال نهاية له (∞) وتصل بين الخطين على أبعادّ
متساوية خطوط ًا> :ب ج< و>ب1ج <1و>ب2ج ،<2وهكذا حتى تصل
إلى الخط >∞ ∞< .هل هذا الخط محدود أم هو غير محدود؟
ب2
ب1
∞
ب
م
ج
ج1
ج2 ∞
58
إذا قلت أنه محدود ُي َر ّد عليك أنه بين النهايتين ،فكيف يكون
محدوداً؟ وإن قلت أنه غير محدود ُر ّد عليك بأنه بين نقطتين،
غير محدود؟ فهو محدود وغير محدود ،وهذا تناقض! فكيف يكون َ
فثبت أن العقل يختل ميزانه إن حاول الحكم على غير المحدود
ويقع في التناقض المستحيل إذا بحث فيما ال ينتهي.
59
القاعدة السادسة
إن الناس جميع ًا ،المؤمن منهم والكافر والناشئ في صوامع
ألمت بهم ُم ِل ّمة ضاقوا بها
العبادة والمتربي في مخادع الفسوق ،إذا ّ
ذرع ًا ولم يجدوا لها دفع ًا لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات،
وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات ،قوة ال يرونها ولكنه يشعرون
بأرواحهم وقلوبهم وكل عصب من أعصابهم بوجودها وبعظمتها
وجاللها .يقع هذا لكثير من الطالب أيام االمتحان ولكثير من
المرضى عند اشتداد األلم وعجز الطبيب ،كلهم يعودون إلى ربهم
ويقبلون على عبادته ،فهل سألتم أنفسكم :ما السبب في هذا وأمثاله؟ ُ
لماذا نجد كل من وقع في شدة يرجع إلى اهلل؟ نذكر جميع ًا أيام
()1
الحرب الماضية والتي قبلها ،كيف كان الناس ُيقبلون على الدين
ويلجؤون إلى اهلل ،الرؤساء وال ُق ّواد َي ُؤ ّمون المعابد ويدعون الجنود
إلى الصالة.
______________________
( )1أعني الكهول والشيوخ الذي أدركوا الحرب األخيرة سنة 1939ومن
قبلها الحرب األولى سنة ،1914وقد أدركتهما وقلت ما قلت عنهما
عن مشاهدة وعيان.
60
ولكنه لما هبط أول مرة ورأى نفسه ساقط ًا في الفضاء قبل أن تنفتح
المظلة جعل يقول «يا اهلل ،يا رب» ويدعو من قلبه ،وهو يتعجب
من أين جاءه هذا األيمان؟ وبنت ستالين نشرت من عهد قريب
مذكراتها ،فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين وقد نشأت في غمرة
اإللحاد ،و َت ْعجب هي نفسها من هذا المعاد.
______________________
( )1ظهرت من سنوات قصة غنائية مصورة زعموا أنها تمثل حياة رابعة
العدوية ،مع أنها ال تمثل إال ما في نفوس مؤلفها من خياالت
وتهاويل ،وما فيها من حقائق التاريخ إال القليل.
61
في الصحراء وزلّت قدمك فسقطت في بئر لم تستطع الخروج منها،
فماذا تصنع؟ قال :أنادي« :يا اهلل» .قالت :وذاك هو الدليل.
62
لماذا؟ ألن اإليمان غريزة ،وأصدق تعريف لإلنسان أنه >حيوان
متدين<.
______________________
( )1كلمة العبادة في اللغة الفرنسية > <adorerفهو يقول لها > <J’aimeأي
أنا أحبك و> <Je t’adoreأي :أعبدك.
63
ضيق األلفاظ
القاعدة السابعة
هي أن اإلنسان يدرك بالحدس أن هذا العالم المادي ليس
ال يدرك منه لمحات تدلكل شيء وأن وراءه عالم ًا روحي ًا مجهو ً
عليه.
ذلك أن اإلنسان يرى اللذات المادية محدودة ،إذا هي
بلغت غايتها ووصلت إلى حدها لم تعد اللذة لذة ولكن صارت
64
عادة ،فذهب طعمها وبطل سحرها ،وصارت كالنكتة المحفوظة
والحديث المعاد.
يبصر الفقير سيارة الغني تمر به وعمارة الغني يمر بها
فيحسب أنه يحوز الدنيا إن حاز مثلها ،فإن صارت له لم يعد
يشعر بالمتعة بها .ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيبة ،يظن أن
متع الدنيا كله بحبها واألماني كلها في قربها ،فإذا تزوج التي يحب
ومر على الزواج سنتان اضمح ّلت تلك األماني وماتت تلك المتع ّ
ولم يبق له منها إال ذكرها .ويمرض المريض ويتألم فيتصور اللذة
كلها في ذهاب األلم والشفاء من المرض ،فإذا عاودته الصحة
ونسي أيام المرض لم يعد يرى في الصحة شيئ ًا من تلك اللذات.
ويتمنى الشاب الشهرة ويفرح إن أذاعت اإلذاعة اسمه ونشرت
اشتهر وصار اسمه ملء السمع وشخصه الصحف رسمه ،فإذا هو ُ
ملء البصر صارت له الشهرة أمراً معتاداً.
ثم يجد المرء أنه يسمع األغنية الحالمة في الليلة الساجية
حبة القلب
مغن عاشق فهزت من سامعها ّ قد خرجت من قلب ٍّ
وأط ّلت به على عالم الروح .ويقرأ القصة العبقرية لألديب البارع
فيحس كأنها تمشي به في مسارب عالم مسحور فيه مع السحر
شعر وعطر ،فإذا انتهت القصة رأى كأنه في حلم َلذ ًّ ّفتان وصحا
منه ،فهو يحاول عبث ًا أن يعود إلى لذته وفتونه.
ويعيش في لحظات التجلي ،حين تصفو النفوس بالتأمل
فتتخفف من أثقال المادة ،فتعلو بجناحين من الصفاء والتجرد
حتى تصل إلى حيث ترى األرض وما عليها أصغر من أن ينظر
إليها ،لما تجد من لذة الروح التي ال تعدلها لذة الطعام للجائع
65
وال لذة الوصال للمحروم وال لذائذ المال والجاه للفقير المغمور.
وإذا بالنفس تتشوق أبداً إلى هذا العالم الروحي العلوي،
العالم المجهول الذي ال تعرف منه إال هذه اللمحات التي ال
تهب حتىتكاد تبدو لها حتى تختفي وهذه النفحات التي ال ّ
تسكن ،فيعلم أن اللذات المادية محدودة ،وأن اللذات الروحية
ويوقن (بالحدس النفسي، أكبر منها كبراً وأعمق في النفس أثراًُ ،
ال بالدليل العقلي) أن هذه الحياة المادية ليست كل شيء ،وأن
تحن
ُّ العالم المجهول المختبئ وراء عالم المادة حقيقة قائمة،
إليها األرواح وتحاول أن تطير إليها ،ولكن هذا الجسد الكثيف
يحجبها عنها ويمسكها عن أن تنطلق وراءها ،وهذا هو الدليل
النفسي على وجود العالم اآلخر.
القاعدة الثامنة
االعتقاد بوجود الحياة اآلخرة نتيج ٌة الزمة لالعتقاد بوجود اهلل.
66
حساب
َ ويسدد
ّ القصة؟ ذلك ألنهم ينتظرون من المؤلف أن ُيتِ ّم القصة
يصدق عاقلٌ أن قصة الحياة تنتهي أبطالها .هذا والمؤلف بشر ،فكيف ّ
بعد الحساب وال اكتملت الرواية؟ سدد ُ
بالموت؟ كيف ولم ُي َّ
فأيقن العقل من هنا أن لهذا الكون رب ًا وأن بعد الدنيا آخرة،
الروح ومضة من نوره في
ُ وأن ذاك العالم المجهول الذي لمحت
األغنية الحالمة والقصة البارعة واستروحت نفحة من عطره في ساعة
ال صاغه أفالطون( ،)1ولكنه التجلي ليس عالم المثل الذي كان خيا ً
عالم اآلخرة الذي هو حقيقة أبدعها خالق أفالطون.
ورأى اإلنسان أن أكبر لذائذ الدنيا ،لذة الوصال ،ال تدوم إال
ال من لذات اآلخرة ،إنها لقمة نصف دقيقة ،فعلم أنها ليست إال مثا ً
من الطعام تذوقها ،فإن أعجبتك اشتريت منه فأكلت حتى شبعت،
إنها نموذج تجاري( )2تراه ،فإن ارتضيته طلبت البضاعة ،وأن هذه
للذات العالم اآلخر اللذة التي ال تدوم إال نصف دقيقة مثال مصغر ّ
حد لها تقف عنده ،والتي تبقى لذة دائم ًاالتي تدوم أبداً ،والتي ال َّ
وال تصير عادة كما تصير اللذات في الدنيا عادات .
()3
* * *
______________________
( )1المثل العليا :نظرية ألفالطون معروفة ،Idealismومنها جاء قولهم
>شيء مثالي< وهو .Ideal
(> )2النموذج التجاري< هو تعريب لالصطالح الفرنسي .Echantillon
( )3انظر مقالة >هل تهدي الفطرة إلى الدين؟< ومقالة >هذا هو الدليل<
في كتاب >نور وهداية< ،وفيهما تقاطع مع ما جاء في القواعد الثالث
األخيرة في هذا الفصل (مجاهد).
67
68
اإليمان باهلل
69
ال من العلم ،فخسر بذلك الفطرة المؤمنة ولم يصل إلى العلمقلي ً
الذي يدعو إلى اإليمان فوقع في الكفر.
70
فالعقل الباطن يؤمن بوجوده بالحدس ،والعقل الواعي يؤمن
بوجوده بالدليل.
نفسه الدليل على
فكيف لَعمري يجحد اهلل الجاحد وهو ُ
ويدعي أنه لم يأخذه ولم يلمسه،
وجوده؟ إنه كمن يحمل مالَك بيده ّ
ومن يلبس ثيابه مبتلة يقطر منها الماء ويدعي أنه لم يقرب الماء!
َ
هذه حقيقة الحقائق ،ولكن لماذا نجد أكثر الناس ال ينتبهون
إليها؟ الجواب :ألنهم ال يفكرون في أنفسهمَ { ،ن ُسوا اهلل فأنساهم
يفرون منها ،يخافون االنفراد بها ،ال يستطيع أنفسهم} .إنهم ّ
َ
أحدهم أن يبقى وحيداً خالي ًا بنفسه بال عمل ،لذلك يشتغل عنها
ويصرم فيه عمره،
ّ بحديث فارغ أو كتاب تافه ،أو عمل يشغل نفسه
كأن نفسه عدو له يكرهه وينفر منه ،وكأن عمره (وهو رأس ماله)
حمل على عاتقه يرمي به ليتخلص منه!
انظر إلى أكثر الناس تجدهم يأكلون ويشربون وينامون
ويستيقظون ،يحرصون على اللذة ويبتعدون عن األلم ،يبتغون الخير
في الدنيا ألنفسهم وأهلهم ومن يحبون ،يصبح الواحد منهم فينظف
جسده ويرتدي ثيابه ويتناول طعامه ويغدو إلى عمله ،يعمل لجمع
المال ويستزيد من الربح ،ثم يعود إلى داره فيتغدى ويستريح ،ثم
عما يمأل به الفراغ
يعود إلى العمل أو يعمد إلى التسلية ،يفتش ّ
ويضيع به الوقت ويقطع به العمر ،حتى يعاوده الجوع فيأكل أو
يدركه النعاس فينام .ثم يستقبل يوم ًا جديداً فيعيد فيه >برنامج< اليوم
الذي مضى .يذكر ماضيه ،وما ماضيه إال األيام التي أحس أنه عاشها
يقدر
في هذه الدنيا ،ويفكر في مستقبله ،وما مستقبله إال األيام التي ّ
أنه يعيشها في هذه الدنيا.
71
أما المسلم فال يكتفي من الحياة بأن يأكل ويشرب ويعمل
ويتسلى ،بل يسأل نفسه :من أين جئت؟ وإلى أين أسير؟ وما
المبدأ؟ وما المصير؟ ينظر فيجد أن حياته لم تبدأ بالوالدة حتى
تنتهي بالموت ،يرى أنه كان جنين ًا في بطن أمه قبل أن يولد ،وكان
ُح َوين ًا منوي ًا في ظهر أبيه قبل أن َي ْس َت ِج ّن( ،)1وكان قبل ذلك دم ًا
يجري في عروق هذا األب ،وهذا الدم جاء مما تناول من الغذاء،
وهذا الغذاء كان نبات ًا من األرض أو حيوان ًا تغذى من النبات ...أطوار
مر بها قبل الوالدة ال يعرف عنها شيئ ًا ،سلسلة طويلة فيها حلقات ّ
قليلة واضحة وباقيها يحجبه عن عيوننا الظالم ،فكيف يوجد نفسه
بعقله وإرادته وقد كان موجوداً قبل أن يكون له عقل وإرادة؟
إن الواحد منا ال يعرف نفسه قبل بلوغه الرابعة من عمره .ال
لما كان في بطن أحد منا مولده ،من يذكر مولده؟ من يذكر ّ
يذكر ٌ
()2
أمه؟ فإذا كان موجوداً قبل أن يعلم بوجوده فهل يمكن أن يقال أنه
هو الذي أوجد نفسه؟ سل هذا الكافر الملحد إن لقيته وقل له :هل
َخلقت أنت نفسك بإرادتك وعقلك؟ هل أنت الذي أدخلت نفسك
في بطن أمك؟ وهل أنت الذي اختار هذه المرأة لتكون أم ًا؟ وهل
أنت الذي ذهب بعد ذلك فجاء بالقابلة لتخرجك من هذا البطن؟
فهل ُخلق من العدم بال فاعل وال خالق؟ هذا مستحيل.
______________________
( )1أي قبل أن يكون جنين ًا (مجاهد).
كسر همزة >إن< بعد فعل القول (أي قال يقول) إذا جئت ( )2فائدةُ :ت َ
فتحتها .فجملة «قل :إني ذاهب» بكسر
َ بنص القول ،فإن حكيته
الهمزة ،وجملة «قال أنه ذاهب» بفتحها.
72
وشك في
ّ ()1
لما جرب مذهب الشك الذي اشتهر به ديكارت ّ
كل شيء وصل إلى نفسه ،فهل يستطيع أن يشك فيها ألنه هو الذي
شاك؟ لذلك قال كلمته المشهورة >أنايشك وال بد في الشك من ّ
فمن أوجده؟ هل شك في وجودهَ ،أفكر فأنا موجود<( ،)2موجود ال َّ
أوجدته هذه الكائنات المادية التي كانت من قبله :الجبال والبحار
والشمس والكواكب؟ إنها جمادات ال عقل لها وهو عاقل ،فهل
فاقده؟
الشيء ُ
َ العقل من ليس بعاقل؟ هل يعطي
َ يمنح
73
يبق إال
لقت من غير شيء ،فلم َ اإلله ،أنا ما خلقت نفسي وال ُخ ُ
احتمال واحد هو الصحيح ،هو الحق وما عداه الباطل :هو أن وراء
هذه الجمادات كلها آله ًا قادراً عظيم ًا هو الذي أوجدها وأوجدني
وأوجد كل شيء(.)1
______________________
تعليم للناس.
ٌ ( )1وما شك إبراهيم في اهلل ،ولكنه
( )2وكانت كلمة >المنورين< في تلك األيام مثل كلمة >التقدميين< اآلن.
ولكل زمان ألفاظ يضحكون بها علينا ،كما كانوا يضحكون على
ال منها
الهنود الحمر في أميركا بالخرز والثياب الملونة ليأخذوا بد ً
بالدهم.
74
قلنا :هل تعرفون ما مثال هذا الكالم؟ مثاله اثنان ضاعا في
فم ّرا على قصر كبير عامر فيه الجدران المزخرفة المنقوشة
الصحراء َ
ال بنىوالسجاد الثمين والساعات والثريات .قال األول :إن رج ً
هذا القصر وفرشه .فرد عليه الثاني وقال :أنت رجعي متأخر،
هذا كله من عمل الطبيعة! قال :كيف كان بعمل الطبيعة؟ قال:
كان هنا حجارة فجاءها السيل والريح والعوامل الجوية فتراكمت،
وبمرور القرون ،بالمصادفة ،صارت جداراً! قال :والسجاد؟ قال:
أغنام تطايرت أصوافها وامتزجت وجاءتها معادن ملونة ،فانصبغت
وتداخلت فصارت سجاداً! قال :والساعات؟ قال :حديد تآكل بتأثير
دوائر وتداخل ،وبمرور القرون صار علىَ العوامل الجوية وتقطع
()1
هذه الصورة!
أال تقولون أن هذا مجنون؟ هل المصادفات هي التي جعلت
الخلية من خاليا الكبد التي ال ُترى إال بالمجهر تقوم بأعمال كيميائية
تحتاج إلى آالت تمأل بهواً كبيراً ثم ال تستطيع أن تقوم إال بجزء
حول السكر الزائد في الدم إلى مولّد السكر منها؟ هذه الخلية ُت ّ
العنب (كليكوجين) لنستعمله عند الحاجة بعد إعادته إلى كليكوز،
الكريات
ّ وتعدل الكوليسترول في الدم ،وتصنع ّ وتفرز الصفراء،
بعد أعمال أخرى. الحمر ،ولها ُ
والمصادفات جعلت في اللسان تسعة آالف عقدة صغيرة كلها
تصلح للتذوق ،وفي كل أذن مئة ألف خلية للسمع ،وفي كل عين
مئة وثالثين مليون خلية كلها تصلح الستقبال الضوء؟!
______________________
( )1راجع مقالة >هذا هو الدليل< في كتاب >نور وهداية< ،وفيها توسع
واستطراد في هذا الفكرة (مجاهد).
75
واألرض بما فيها من العجائب واألسرار ،والهواء الذي يحيط
درك ،واألشكال العجيبة لذرة بها وما يحمله من أحياء ال ُترى وال ُت َ
ودع فيها هذا الجمال الذيالثلج التي تسقطُ ،خلقت بهذه الدقة وأُ ِ
لم نره إال من عهد قريب؟ انظر إلى هذه األرض وما فيها من معادن
وما أُودع فيها من أسرار ،وإلى أنواع حيوانها ونباتها ،وما فيها
من الصحارى الشاسعة والبحار الواسعة والجبال السامقة واألودية
العميقة ،ثم وازنها بالشمس َت َرها صغيرة ضئيلة إلى جنب الشمس
وعظمها .والشمس التي تكبر األرض بمليون مرة هي بالنسبة لكوكب
من هذه الكواكب حبة رمل في الصحراء الكبرى.
والشمس التي تبعد عنا بأكثر من مئة مليون كيل (كيلومتر) إذا
قدرنا بعدها بالزمن الضوئي (وسرعة الضوء ثالثمئة ألف كيلومتر في ّ
الثانية الواحدة) يبلغ بعدها عنا ثماني دقائق .فماذا يكون ُبعد النجوم
ضوءها إلينا في مليون سنة ضوئية؟ السنة الضوئية تعدل ُ التي يصل
عشرة آالف مليار كيلومتر( ،)1فكم كيلومتراً في مليون سنة؟
______________________
( )1أذكر في معرض هذا الحديث أن >أبولّو <9التي وصلت إلى القمر
قطعت في الذهاب واإلياب أربعمئة ألف كيل (كيلومتر) ،أي مدة
ثانية وثلث فقط بالزمن الضوئي.
مالحظة :متوسط ُبعد القمر عن األرض هو 384ألف كيلومتر.
76
اصطدام؟ قرأت ألحد علماء الفلك أن احتمال اصطدامها كاحتمال
اصطدام ست نحالت لو أطلقت في الفضاء المحيط باألرض .إن
سعة فضاء األرض بالنسبة لست نحالت كذلك الفضاء بالنسبة لهذه
النجوم التي ال ُت َع ّد وال تحصى!
ومن أعجب العجب ومن أظهر األدلّة على اهلل أن هذا الفضاء
بكل ما فيه موجود بصورة مصغرة بحيث ال يدرك العقل دقتها
______________________
( )1هذا الذي قلته عن السماء شيء فهمته من آيات الكتاب وسنن اهلل في
الفلك التي كشفها العلماء ،ولم أجد من قال به ،وقد فصلت القول
فيه في غير هذا الكتاب.
( )2انظر للتوسع في هذا الرأي مقالة >ما هي السماء؟< وهي منشورة في
كتاب >فصول في الثقافة واألدب< (مجاهد).
77
وصغرها (كما أنه ال يدرك سعة الفضاء ورحبه) ،موجود في الذرة.
78
من العدم ووضع لها هذه النواميس العجيبة التي لم نكشف إلى اآلن
في الكيمياء والفيزياء والطب والفلك إال األقل األقل منها{ :وما
ال} ،وهو وحده الذي يعلم دقيقها وجليلها، أُوتيتم من العلم إال قلي ً
كم ورقة في كل شجرة وشكل كل ورقة ووضعها ،وكم جرثومة في
الدنيا وطولها وعرضها وأجزاءها التي ركبها منها ،وما في كل ذرة
من الكهارب الثابتة والمتحركة وعددها وما يطرأ على كل منها من
وتحول ،كل ذلك
ّ وتطور
ّ عوارض وما تتصف به من حركة وسكون
مسجل عنده في كتاب(.)1 ّ
هذه العوالم كلها هو ربها ،هو الذي أوجدها ،وهو يحفظها،
وهو الذي يحولها من حال إلى حال ،وهو الذي جعل في كل ذرة
منها ما يدل العاقل عليه ويرشده إليه.
______________________
فرطنا في الكتاب من شيء} .وليس المراد بالكتاب هنا القرآن، ({ )1ما ّ
بل كتاب القدر الذي ال يطّلع عليه بشر.
79
( )3اهلل مالِك الكون
والقضية الثالثة :أن اهلل هو مالك الكون يتصرف فيه تصرف
ويميت ،هل تقدر أن تدفع عن نفسك المالك الحر بملكه .يحيي ُ
الموت وتمنحها في الدنيا الخلود؟ يمرض ويشفي ،هل تقدر
أن تشفي َمن حرمه اهلل الشفاء؟ يمنح المال ويبتلي بالفقر ،يبعث
السيول ويصيب بالجفاف .كان في السنة الماضية فيضانات في
شمالي إيطاليا جرفت المدن ودمرت العمران ،وكان في ذلك
الوقت في الهند جفاف يبس معه الزرع وهلكت الماشية وصار
توزيع الماء بالبطاقات .فمن زاد الماء على هؤالء حتى َشكَ وا
منه وحرمه أولئك حتى تم َّنوه؟ من يعطي هذا بنات وهذا بنين
ويجعل من يشاء من الناس عقيم ًا؟ هل يستطيع من ُرزق البنات أن
يحولهن إلى بنين ،ومن كان عقيم ًا أن ينجب الولد؟
هو يكتب الموت على ناس وهم أطفال ويمد في عمر ناس
حتى يصيروا شيوخ ًا ،يبعث موجة البرد والصقيع على بلد ويبعث
مشاهدة ال يملك اإلنسان لها دفع ًا
َ موجة الحر على بلد ...أمور
وال منع ًا.
( )4اإلله المعبود
الملك المتصرف ِ
لذلك ُيق ّر أكثر الناس بأنه هو مالك ُ
بالكون ،ولكن هل يكفي هذا ليكون مؤمن ًا؟
ال ،بل ال بد من القضية الرابعة ،وهي أنه وحده اإلله
المعبود .إذا اعترفت بأن اهلل موجود وأنه رب العالمين وأنه مالك
الملك فال تعبد معه غيره وال تقابل غيره بأي صورة من صور
80
العبادة .وقد أراني اهلل معنى لسورة الناس فيه رد على من يقر
يوحده توحيد األلوهية ،معنى
بوجود اهلل وبربويته وملكه ولكنه ال ّ
لم أجد من المفسرين من ذكره وأرجو أن يكون صواب ًا.
ك الناس، برب الناسَ ،م ِل ِ
أعوذ ّ
ُ عز وجلُ { :ق ْليقول اهلل َّ
ال من
إله الناس} .فلماذا كرر لفظ >الناس< وعمد إلى اإلظهار بد ً
ال :رب الناس وملكهم وإلههم؟ الذي ظهر اإلضمار ،فلم يقل مث ً
لي :كأن ربنا (واهلل أعلم) يقول لهم :هذه ثالث قضايا متماثلة
>رب
متكاملة ،كل قضية مستقلة بنفسها مع ارتباطها بأختها ،فهو ّ
الناس< أي خالقهم وحافظهم ،وهو >ملك الناس< أي مالكهم
المتصرف فيهم ،وهو >إله الناس< أي المستحق وحده لعبادتهم
وال يجوز أن يكون له شريك فيها .ومقتضى ذلك أن تصدقوا
تصدقون
بالقضايا الثالث أو أن تنكروا القضايا الثالث ،فما بالُكم ّ
تفرقون بين المتماثالت باألولى والثانية وترفضون الثالثة؟ كيف ّ
فتقبلون بعض ًا وتأبَون بعض ًا ،والثالث سواء في الثبوت ال سبيل
إلى التفريق بينها في الحكم؟
* * *
81
82
توحيد األلوهية
83
فالعبادة يتسع معناها حتى يشمل كل أعمال اإلنسان النافعة
ويحيط بها كلها ،ولعل هذا هو المعنى المقصود بقوله تعالى
واإلنس إال لِ َيعبدون}.
َ الجن
َّ خلقت
ُ {وما
روح العبادة
والعبادة لها روح ولها جسد ،فروحها العقيدة التي دفعت
إليها والغاية التي ُعملت من أجلها ،وجسدها عمل الجوارح ،من
ال حركات وألفاظ ،قيام
لفظ اللسان وحركات الجسم .الصالة مث ً
وقعود وركوع وسجود وتالوة وذكر وتسبيح ،لكن هذا كله جسد
الصالة ،فإن لم يكن الدافع إليه توحيداً صحيح ًا وعقيدة سليمة
ولم يكن المقصود به امتثال أمر اهلل وطلب رضاه كانت الصالة
جسداً ميت ًا ال روح فيه.
األساس في توحيد األلوهية
األساس أن نعتقد أن اهلل وحده هو النافع وهو الضار ،وال
بد لهذا من شيء من البيان :اهلل خالق كل شيء ،أوجد العوالم
وبث فيها من كل شيء ،وأعطانا العقول وقال لنا :فكروا بعقولكم
في هذه األشياء التي خلقتها وانظروا ماذا في السماوات واألرض.
( )1فنظرنا فوجدنا أن اهلل الذي خلق هذه األشياء قد سلط
بعضها على بعض ،فالنار إذا مست الشجرة اليابسة أحرقتها،
والماء إذا ُص َّب على النار أطفأها ،والبعوضة( )1إذا لدغت اإلنسان
أصابته بالبرداء (المالريا) ،والمادة التي في قشور شجرة الكينا إذا
______________________
( )1أعني النوع المعروف منها.
84
دخلت جسد المريض شفته من البرداء.
( )2وأنه جعل بين هذه األشياء روابط ،وجعل اجتماعها
عينها ينتج عنه أشياء جديدة.
قدرها وامتزاجها بنسب ّ بمقادير ّ
فالكلور (وهو مادة مؤذية) والصوديوم (وهو مادة مؤذية) إذا
اجتمعا كان منهما مادة نافعة ال بد لإلنسان منها وال يستغني عنها،
وهي ملح الطعام.
( )3ووجدنا أن الروابط والعالقات تتبع كلها قواعد ثابتة
وأساليب معينة ال تتبدل وال تتغير ،هي سنن اهلل في الكون التي
اصطلحنا على تسميتها >قوانين الطبيعة<.
( )4وأن هذه الروابط بين األشياء (التي سميناها قوانين
الطبيعة) ليست كلها كالعالقة الظاهرة بين النار والخشب الذي
()1
نحرقه والنار والماء الذي يطفئها ،ليست كلها بهذه البساطة
وهذا الظهور ،بل إن أكثرها أدق وأعمق.
اهلل وضع في هذا الكون دواء لكل داء ،ولكنه لم يضع
الدواء في مكان باد للعين ولم يجعله >جاهزاً< ُم َعداً لالستعمال،
بل جعله -تعالت حكمته -مخبوءاً في أوضاع عجيبة وفي أماكن
ال ُيظَ ن أنه موجود فيها .فالبنسلين الشافي وضعه ربنا في العفن
سم مميت ،كما وضع أجمل العطور ذات األخضر الذي يبدو أنه ّ
الروائح العبقة وأبدع األصبغة ذوات األلوان الزاهية في أقبح
ال ،المادة السوداء القبيحة التي اسمها مادة ريح ًا وأبشعها شك ً
______________________
( )1البساطة في اللغة السعة ،ولكني قصدت بها المعنى العامي.
85
ستخرج العطور واأللوان!
َ >القطران< ،ومنها ُت
ولم توضع وضع ًا قريب ًا ،بل إن العنصر المؤثر المطلوب
ال معها ،يحتاج استخالصه جعله ربنا ممزوج ًا بمواد أخرى متداخ ً
منها إلى عمليات وتجارب وجهود .ومن قرأ كتاب >التلميذة
الخالدة<( )1علم كيف احتاج استخراج غرام الراديوم إلى تصفية
ركام هائل كالتل الصغير من مواد مختلفة ،وإجراء العمليات
المتعاقبة عليها التي استمر إجراؤها سنين.
( )5ولم نكتشف إلى اآلن من هذه النواميس الكونية التي
وضعها خالق الكون إال قطرة من بحر ،رأينا فيها العجب العجاب،
وصنفنا هذا القليل الذي كشفناه في زمر وأصناف سميناها علوم ًا،
فكان منها علم الحياة وعلم الكيمياء وعلم الفيزياء وعلم الجسم
(الفسيولوجيا) وعلوم الطب وسائر العلوم ،وانقطع إلى كل علم
منا تفرغوا لفهم قوانين اهلل فيه وكشف المزيد منها، منها ناس ّ
فكان منهم علماء الحياة وعلماء الكيمياء وسائر العلماء.
تضرنا وأشياء تنفعنا،
( )6ووجدنا أن في هذا الكون أشياء ّ
وأن النفع والضرر على نوعين ،منه ما يكون بسبب ظاهر تطبيق ًا
لقانون من قوانين الطبيعة التي كشفناها وأدخلناها في نطاق
علومنا ،كمن يقف قلبه بتناول مادة سامة عرفناها وعلمنا بالتجربة
تأثيرها في القلب ،ومنه ما يكون بغير سبب ظاهر وال يستند إلى
______________________
( )1قصة مدام كوري وزوجها ،وأرجو أن يقرأ الطالب هذا الكتاب ليروا
كيف يكون الصبر على تحصيل العلم .وفي ِس َير علمائنا األولين مئات
ِ
والج ّد فيه. األمثلة على مثل هذا الصبر وعلى اإلخالص للعلم
86
قانون معروف ،كمن يكون قوي الجسد صحيح الجسم فيقف
قلبه فجأة بسكتة قلبية ال نعرف سببها .وكال النوعين من اهلل ،فاهلل
وحده هو النافع وهو الضار.
( )7واهلل قد فطر اإلنسان على جلب النفع ،فهو يتخذ لجلبه
كل وسيلة ،وفطره على ُكره الضرر ،فهو يستعمل لدفعه عنه كل
حيلة ويستعين على ذلك بكل طاقة ممكنة .وهذه االستعانة منها
يجوزه الدين ومنها ما يمنعه ويراه منافي ًا لإليمان ،فما هي
ما ّ
االستعانة المشروعة وما هي االستعانة الممنوعة؟
إذا مرض ولدك فدعوت الطبيب ففحص عن المرض
ووصف له الدواء كانت هذه استعانة مشروعة ،ألنك استعنت
على الشفاء بالقانون الطبيعي الذي وضعه خالق الكون وبالرجل
ال أو ساحراً ليعملدجا ً
العالم بهذا القانون ،ولكن إن دعوت ّ
على شفائه بال علم وال قانون ،بل بقوى غيبية يزعم االتصال
بها لم يثبت وجودها بالعلم الحسي وال بالدليل السمعي( )1كانت
استعانة ممنوعة .وإن جئت قبر الطبيب بعد موته فدعوته وهو ال
يقدر أن يفحص المريض وأن يصف الدواء كانت استعانة ممنوعة.
وإن عجز العلم ولم ينفع الدواء فتوسلت إلى الشفاء بالدعاء أو
بالصدقة أو طلبت من رجل صالح أن يدعو لك كانت هذه استعانة
مشروعة ،وإن وقفت على قبر الرجل الصالح فاستعنت به وهو ال
يملك تحريك لسانه بالدعاء لك وال يقدر من عند نفسه على شفاء
______________________
( )1الدليل السمعي هو آية من كتاب اهلل أو حديث ثابت من أحاديث
رسول اهلل ’.
87
مريضك كانت هذه استعانة ممنوعة.
وتوسلك إلى الشفاء بسقي المريض الدواء الذي وصفه له
الطبيب مشروع ،ولكن إن أخذت الوصفة فجعلتها حجاب ًا علقته
بعنق المريض أو نقعتها وسقيته ماءها واعتقدت أن ذلك يشفيه
فذلك ممنوع .وطلبك النفع بأشياء لم يجعلها اهلل سبب ًا ظاهراً
له ممنوع ،فالمرأة العاقر التي تشتهي الولد إذا استعانت بطب
المستخرجة وفق قوانين العلم
َ األطباء وباألدوية التي أنزلها اهلل
تأت أمراً ممنوع ًا ولم تخالف الدين ،ولكن إذا اعتقدت (كما لم ِ
كان يعتقد عجائز الشام)( )1أن قرع حلقة جامع الحنابلة في جبل
توسلت إلى قاسيون أول جمعة من رجب يسبب لها الحبل أو ّ
شباك أحد القبور تكون قد ارتكبت ممنوع ًا ذلك بربط خرقة على ّ
وخالفت عقيدة التوحيد.
فتبين من هذا أن االستعانة بقوانين الطبيعة والرجوع إلى
الرجل العالم بها واتخاذ األسباب المعتادة لحصول النفع ،كل
ذلك جائز مشروع ،على أن نذكر أن النافع في الحقيقة هو اهلل
تعالى وحده دون سواه ،وأن االستعانة بقوة غيبية مزعومة لم
يؤيدها العلم التجريبي ولم يثبتها الدليل السمعي إنما هي استعانة
ممنوعة منافية لعقيدة التوحيد.
______________________
( )1وكما تعتقد نساء إيطاليا أن من تتطاول بكلتا يديها إلى نافذة ضريح
أحد القديسين يزول عقمها إذا كانت عقيم ًا! ولنساء أوربا وأميركا
اعتقادات أغرب من هذا.
88
التحليل والتحريم هلل وحده
وهذه المنافع التي نصل إليها بتطبيق قوانين الطبيعة منافع
دنيوية ،ألن اهلل سلط عقولنا على كشف هذه القوانين ولم يسلطها
على كشف ما وراء المادة وال على جلب المنافع األخروية ،فنحن
نعمل على جلب النفع ودفع الضرر في حدود المادة وفي هذه
الدنيا ،وال نملك ألنفسنا في العالم اآلخر نفع ًا وال ضرراً.
ولما كان اهلل قد جعل للنفع األخروي سبب ًا ،وهذا السبب
هو عمل الواجب ،وجعل للضرر األخروي سبب ًا ،وهذا السبب
هو فعل الحرام ،كان التحريم والتحليل الذي يترتب عليه الثواب
والعقاب هلل وحده ،وليس ألحد أن يقول برأيه >هذا حالل وهذا
يحرم أمراً لم
حرام< ،وليس ألحد أن يوجب أمراً لم يوجبه اهلل أو ّ
يحرمه اهلل .ومن أعطى حق التحليل والتحريم لغير اهلل يكون قد
عبده من دونه أو شاركه معه في عبادته(.)1
حب اهلل وخشية اهلل
اإلنسان يحب ويكره؛ يحب الطعام اللذيذ ،ويحب المنظر
الجميل ،ويحب الرجل المرأة ،وقد يبالغ في هذا الحب (أي
قدمنا -بعض مظاهر العبادة ،ولكنه
العشق) فيفيض عليه -كما ّ
______________________
وآخر
حرمتها معترف بذنبه ََ معتقد
ٌ ( )1ولو أن مسلم ًا شرب الخمر وهو
حرم الحالل بال ال حرام لكان ذنب من ّ ّادعى أن شراب الليمون مث ً
دليل أكبر من ذنب من ارتكب الحرام بال إنكار لحرمته ،ولقد ُقرن
ذلك في القرآن بالشرك{ :وقال الذين أشركوا لو شاء اهلل ما عبدنا
حرمنا من دونه من شيء}. من دونه من شيء نحن وال آباؤنا وال ّ
89
مقيداً محدوداً ككل حب بشري.
يبقى مع ذلك ّ
فنحن نحب المنفعة التي ننالها من الشيء الذي نحبه أو اللذة
التي نحس بها بقرب الشخص الذي نعشقه ،فإذا أصيب المحبوب
مشوه تتساقط منه الجوارح ويذهب معه الجمال أو فسد ِّ بمرض
الطعام وركبه العفن أو تبّدل المنظر وذهب منه الجمال انتهى هذا
تحول إلى ُكره .أما حب اهلل الذي يحسه المؤمن الحب ،بل ربما ّ
فهو حب غير مقيد وال محدود ،بل إن ما نحبه في الدنيا إنما
وسخره لنا وأقدرنا على
ّ نحب فيه الخالق الذي خلقه وأوجده
التلذذ بمرآه أو ملمسه.
االنتفاع به أو ّ
واإلنسان يخشى الكثير من المخلوقات؛ يخشى النار
والسم المميت والظالم القوي،
ّ المشتعلة والوحش المفترس
ولكنها خشية محدودة مقيدة ،هي البعد عن الضرر الكامن
في المخاوف أو الناشئ عنه ،فإذا أمن الضرر ذهب من نفسه
الخوف ،أما خوف اهلل فمطلق غير مقيد وال محدود.
وحب اهلل والخشية منه هما من أسس التوحيد وهما روح
العبادة .وال بد من التنبيه على أن حب اهلل ليس معناه نظم قصائد
الغزل باهلل كما فعل ابن الفارض ،وال تسميته بالعشق اإللهي كما
المؤدي إلى
ّ نسبوا إلى رابعة العدوية ،وخوف اهلل ليس معناه الفزع
الكُ ره وال الجزع الموصل إلى االختالل .بل إن حب اهلل بطاعته
وإيثار مرضاته على شهوات النفس ووساوس الشيطان ،واتباع
حبون اهلل فا ّتبعوني}،
إن كنتم ُت ّ
رسوله ’ فيما جاء بهُ { :ق ْل ْ
فاالتباع هو مقياس الحب .وخوفه باجتناب محرماته وإيثار لذة
الثواب في اآلخرة على المعصية في الدنيا.
90
ثم إن الطاعة هلل ليست كالطاعة لمخلوقاته ،فنحن نطيع
ال ألمر اهلل كطاعة الرسول ،أو استجابة بعض البشر إما امتثا ً
لدواعي الطبع ،أو خوف ًا من الخطر .فالشعب يطيع الحاكم والولد
يطيع الوالد والمرأة تطيع الزوج واإلنسان يطيع من أحسن إليه
يضره ،وقد ُيكْ َره أحدنا على الطاعة فيطيع خوف ًا
ّ إذا أمره بما ال
من األذى ،ولكن هذه كلها (عدا طاعة الرسول ،فهي من طاعة
حد لها،اهلل) كلها طاعة محدودة وليست الطاعة المطلقة التي ال ّ
ألن الطاعة المطلقة هلل ،الطاعة في كل شيء ،الطاعة فيما يسرنا
ويسوؤنا ،فيما نفهم حكمته وما ال نفهم حكمته .وهذه الطاعة هي
ثمرة حب اهلل وهي الدليل عليه.
آيات الصفات
لقد اجتنبت في هذا الكتاب الخوض في المسائل الكالمية
وأعرضت عن سرد اختالفات المتكلمين ،ولكن مسألة آيات
الصفات قد طال فيها المقال وكثر الجدال ،وال بد من بعض
البسط للكالم فيها.
لقد وصف ربنا نفسه في القرآن بألفاظ موضوعة في األصل
ٍ
معان أرضية ومقاصد بشرية ،مع أن اهلل ليس كمثله للداللة على
يشبه المخلوقين .وال
شئ ،وهو الرب الخالق ،تعالى عن أن َّ
فهم هذه األلفاظ حين إطالقها على اهلل بالمعنى نفسه
يمكن أن ُت َ
الذي تفهم به حين إطالقها على المخلوق.
فنحن نقول «فالن عليم» و»فالن بصير» ونقول أن اهلل عليم
بصير ،ولكن الكيفية التي َيعلم بها العبد ويبصر ليست هي التي
91
يعلم بها ربنا ويبصر ،وعلم العبد وبصره ليس كعلم اهلل وبصره.
كذلك نقول «استوى المعلم على منبر الفصل» ونقول «استوى اهلل
على العرش» .نحن نعرف معنى االستواء >القاموسي< ونطبقه على
المعلم ،ولكن هذا المعنى ال يمكن أن يكون هو ذاته المقصود
{الرحمن على العرش استوى}.
ُ حين نقرأ
مقرون بأن آيات
هذا كله مت َفق عليه بين العلماء ،فهم جميع ًا ّ
الصفات هي كالم اهلل ،فإذا قال اهلل{ :ثم استوى على العرش} لم
يستطع أحد أن يقول :ما استوى .وهم جميع ًا معترفون بأن المعنى
القاموسي البشري لكلمة استوى ليس هو المراد من قوله {استوى
على العرش} .ولكنهم مع ذلك اختلفوا اختالف ًا كبيراً في المراد
المقصود بعد اتفاقهم على ترك التعطيل والتشبيه ،فتساءلوا :هل
تؤول؟
ؤول أم ال َّ هذه اآليات حقيقة أم مجاز؟ وهل ُت َّ
أولوا فقالوا بأن الحقيقة هي >استعمال اللفظ أما الذين ّ
بالمعنى الذي ُوضع له< .هذا هو تعريف الحقيقة عند عامة علماء
البالغة ،وال شك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن ُوضعت
ٍ
لمعان أرضية مادية، فيه هذه األلفاظ قبل نزول القرآن ،ووضعت
حتى إنها لتعجز عن التعبير عن العواطف والمشاعر البشرية
ال عن التعبير عن صفات اهلل خالق البشر ،فإن مظاهر الجمال فض ً
حد لها وما عندنا لها كلها إال كلمة جميل .وأين جمال
وأشكاله ال ّ
المنظر الطبيعي من جمال القصيدة الشعرية من جمال العمارة
المزخرفة من جمال الغادة الحسناء؟ وفي النساء ألف لون من
ألوان الجمال وما عندنا لها كلها إال هذا اللفظ الواحد ،فاللغات
تعجز عن وصف الشعور بالجمال .وكذلك القول في الحب ،في
92
تعداد أنواعه واختالف مشاعره وضيق ألفاظ اللغة عن وصف هذه
األنواع ونعت هذه المشاعر ،فكيف تحيط بصفات اهلل وتشرح
()1
كيفياتها؟
وإذا كانت الحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له،
وكانت ألفاظ> :استوى< و>جاء< و>خادع< و>يمكر< و> َن ِس َيهم<
إنما وضعت للمعاني األرضية البشرية المادية ،وكان استعمالها
في القرآن في قوله {ثم استوى على العرش} {وجاء ربك}
{وهو خادعهم} {ويمكر اهلل} وقوله {فنسيهم} في غير هذا
المعنى المادي األرضي البشري الذي ُوضعت له ،لم تكن إذن
حقيقة بمقتضى تعريفهم هذا للحقيقة.
يعرف >الحقيقة< ومن ينكر أنها مجاز (ومنهم ابن تيمية) ّ
تعريف ًا آخر خاص ًا به غير التعريف الذي جرى عليه البالغيون،
ويقول ما معناه :إن تأويل هذه األلفاظ (أي تفسيرها تفسيراً مجازي ًا
والجزم بأنه هو المراد) مردود ،ألن المعاني المجازية هي أيض ًا
َم ٍ
عان بشرية.
ولقد نظرت فوجدت أن هذه اآليات على ثالثة أشكال:
-1آيات وردت على سبيل اإلخبار من اهلل ،كقوله{ :الرحمن
على العرش استوى} .فنحن ال نقول أنه ما استوى ،فنكون قد
نفينا ما أثبته اهلل ،وال نقول أنه استوى على العرش كما يستوي
شبهنا الخالق بالمخلوق ،ولكن القاعد على الكرسي ،فنكون قد ّ
______________________
( )1راجع الكالم عن >ضيق األلفاظ< ،وقد مضى في هذا الكتاب في
القاعدة السادسة من >قواعد العقائد< ،ص( 64مجاهد).
93
نؤمن بأن هذا هو كالم اهلل وأن هلل مراداً منه لم نفهم حقيقته
ال ،وألن العقل البشري -كما يبين لنا مفص ً
وتفصيله ألنه لم َّ
قدمنا -يعجز عن الوصول إلى ذلك بنفسه.
-2آيات وردت على األسلوب المعروف عند علماء البالغة
بالمشاكلة .و>المشاكلة< هي كقول القائل:
قالوا اقترح شيئ ًا ُن ِج ْد لك طبخه
قلت اطبخوا لي ُج ّب ًة وقميص ًا
يرد على المنجمين الذين
عموريةّ ،
وقول أبي تمام في وقعة ّ
زعموا أن النصر ال يجيء إال عند نضج التين والعنب:
تسعون ألف ًا كآساد الشرى نضجت
جلودهم قبل نضج التين والعنب
ُ
واآليات الواردة على هذا األسلوب كثيرة ،كقوله تعالى
{ َن ُسوا اهلل َف َن ِس َيهم} .فكلمة >نسوا< جاءت على المعنى القاموسي
للنسيان ،وهو غياب المعلومات عن الذاكرة ،ولكن كلمة
>فنسيهم< جاءت مشاكلة لها وال يراد منها ذلك المعنى ،ألن اهلل
ال ينسى{ :وما كان َر ُّبك َن ِس ّي ًا} .ونقول بعبارة أخرى :إن كلمة
استعملت بالمعنى الذي ُوضعت له ،وكلمة >فنسيهم< >نسوا< ُ
استعملت بغير هذا المعنى.
ومثلها قوله {وهو معكم أينما كنتم} .اتفق الجميع على أنها
معية ذات ،ألن صدر اآلية ينص على أن اهلل استوى معية علم ال ّ
ّ
فرغ لكم أيها ال َّث َقالن} ،وقوله
َ ُ{سن قوله ومثلها العرش. على
94
{ومكروا ومكر اهلل} ،وقوله {يخادعون اهلل وهو خادعهم} .كل
المادي ،بل بمعنى
ّ هذه اآليات ال يجوز فهمها بالمعنى القاموسي
جل وعال.
يليق به ّ
آيات أخرى ،كقوله تعالى: -3آيات دلت على المراد منها ٌ
اليهود َي ُد اهلل َمغلول ٌةُ ،غلَّت أيديهم و ُلعنوا بما قالوا ،بل
ُ {وقالت
نفق كيف يشاء} .تدل على المراد منها آية {وال يداه مبسوطتان ُي ُ
ويفهم
كل البسط}ُ ، تبسطْ ها ّ
تجعل يدكَ مغلولة إلى عنقك وال ُ
منها أن بسط اليد يراد به الكرم والجود ،وال يستلزم ذلك (بل
يستحيل) أن يكون هلل تعالى يدان كأيدي الناس والحيوان ،تعالى
يدي رحمته} و{بين اهلل عن ذلك .وقد جاء في القرآن قوله {بين َ
يدي عذاب شديد} والقرآن {ال يأتيه الباطل من بين يديه}، َ
وليس للرحمة وال للعذاب وال للقرآن يدان حقيقتان.
المحكم والمتشابه
آيات محكمات واضحة المعنى ٍ ّبين اهلل في القرآن أن فيه
ِ ()1
صريحة اللفظ ،وآيات وردت متشابهات ،وهي التي ال َيض ُح
المعنى المراد منها تمام ًا ،بل تكثر أفهام الناس لها وتتشابه
تفسيراتها حتى يتعسر أو يتعذر معرفة المراد منها ،وآيات الصفات
منها .وأن على المؤمن أن ال يطيل الغوص في معناها ،وال يتتبعها
فيجمعها ليفتن الناس بالبحث فيها(.)2
______________________
(> )1يضح< هو الفعل المضارع من الفعل الماضي وضح ،ومثلها وعظ
يعظ.
( )2ومن جمعها كلها وألقاها على التالميذ فقد جانب طريقة السلف=،
95
موقف المسلمين منها وكيف فهموها
المسلمون األولون ،وهم سلف هذه األمة وخيرها
وأفضلها ،لم يتكلموا فيها ،ولم يقولوا أنها حقيقة ولم يقولوا أنها
مجاز ،ولم يخوضوا في شرحها ،بل آمنوا بها كما جاءت من عند
اهلل على مراد اهلل.
فلما انتشر علم الكالم وأُورِدت ُّ
الش َبه على عقائد اإلسالم
وظهرت طبقة جديدة من العلماء انبرت لرد هذه الشبه تكلم
هؤالء العلماء في آيات الصفات ،وفهموها على طريقة العرب
في مجاوزة المعنى األصلي للكلمة (إذا لم يمكن فهمها به) إلى
معنى آخر ،وهذا ما يسمى >المجاز< أو >التأويل<(.)1
وهو موضع نزاع بين العلماء طويل .والحق أن هذه اآليات
وأن َمن عطّلها تمام ًا
نزلت من عند اهلل ،من أنكر شيئ ًا منها كفرّ ،
وطبقه
فجعلها لفظ ًا بال معنى كفر ،ومن فهمها بالمعنى البشري ّ
______________________
أحاديث اآلحاد المروية في مثلها والتي ال
َ = وال سيما إذا َض َّم إليها
ال قطعي ًا في أمور العقائد عند جمهور العلماء .وليس معنى عتبر دلي ً
ُت َ
ردها ،بل هناك خالف فيمن ينازع مخير في قبولها أو ّ هذا أن المرء َّ
في داللتها ومن يحملها على المجاز.
وأوله إليه (على وزن
(> )1التأويل< من آلَ األمر إلى كذا ،أي صارّ .
صيره .ولفظ التأويل جاء في القرآن بمعنيين :تأويل لفظي، فعل) أي ّ ّ
أي بيان ما ينتهي إليه معنى اللفظ{ :ذلك تأويل ما لم تستطع عليه
صبراً} ،وتأويل عملي ،أي بيان ما تنتهي إليه الحال{ :يوم يأتي
فرق المتأخرون بين التأويل والتفسير ،فالتأويل تأويله} .ومن هنا ّ
ما ّبينا ،والتفسير كشف المعنى ،من َف َسر (مثل سفر) أي انكشف.
96
على اهلل فجعل الخالق كالمخلوق كفر .والمسلك خطر والمفازة
مهلكة ،والنجاة منها باجتناب الخوض فيها واتباع سنن السلف
والوقوف عند حد النص ،وهذا ما أدين اهلل به وما أعتقده.
مظاهر العبادة
القلب الذي يؤمن بأن النفع والضرر كله من اهلل وأن التحليل
والتحريم هلل وأن الحب المطلق والخوف المطلق والطاعة المطلقة
هلل يمتلئ بتعظيم اهلل ،ويستشعر معنى >اهلل أكبر< فيصغر معه كل
شيء في جنب اهلل.
ولما كان في أعمال اإلنسان ما يدل على التعظيم المطلق،
كالدعاء والصالة والركوع والسجود والنذر والذبح والتسبيح
والتهليل ،فإن المؤمن ال يصنعها إال هلل ،فال يصلي لسواه وال
يركع وال يسجد إال له ،وال يقول ألحد غيره >سبحانك< ،وال
يطلب غفران الذنوب إال منه ،ألن هذه كلها من مظاهر التعظيم
سر العبادة.
المطلق الذي هو ّ
ومن أعظم مظاهر العبادة الدعاء ،وهو في اللغة النداء،
حي ًا يسمع صوتكوالشرع ال يمنع أن تدعو (أي تنادي) إنسان ًا ّ
ليعينك بعلمه أو قوته على جلب النفع لك ،وليس هذا هو الدعاء
مخ العبادة
الذي نتكلم عنه ،بل الدعاء الذي نقصده هنا والذي هو ّ
هو طلب جلب النفع ودفع الضرر بال سبب مادي ظاهر ،وهذا
يوجه إال هلل وحده ،رأس ًا بال واسطة ،فال ُيطلب الشفاء
الذي ال َّ
نفسه من الطبيب ولو كان حي ًا ،ألن الطبيب يصف الدواء والشفاء
فأولى ألاّ يطلبه أو يطلب ما يشابهه من ميت أو من جماد،
من اهللْ .
97
النفع بال سبب ظاهر إال اهلل.
َ ألنه ال يمنح
المسبب من اهلل ،وما ال
َّ فالمؤمن يتخذ األسباب ثم يطلب
يعرف الناس له سبب ًا يطلبه من اهلل وحده ،يدعوه ويقول> :يا اهلل<،
ويعتقد أن بابه مفتوح وأن إجابته حاصلة ،وال يدعو غيره بدله،
وال يدعو غيره معه ،وال يتخذ غيره وسيط ًا في الدعاء بينه وبينه.
مخ العبادة.
هذا هو الدعاء الذي هو ّ
غاية العبادة
قلت أن للعبادة جسداً هو األلفاظ التي ينطق بها اللسان
واألعمال التي تقوم بها األعضاء ،ولها روح ،وروحها العقيدة
التي دفعت إليها والغاية التي ُعملت من أجلها ،أي النتائج التي
قصدها من عملها .وقد شرحت جانب ًا من هذه العقيدة ،وس ُألِ ُّم
اآلن بطرف من هذه المقاصد.
المقصد الصحيح للعبادة :أن يكون الباعث عليها والمقصود
بها رضا اهلل ،فال نعملها للمال وال للجاه وال لنيل إعجاب الناس،
وال نتخذها سلم ًا إلى متع الدنيا وال نريد بها الشهرة بالصالح.
وهذا المقصد الصحيح يسمى >اإلخالص< ،وما يداخله من
المقاصد األخرى يدعى >الرياء< ،والذي يحدد المقصد من
العمل هو النية .واهلل ال يسألنا يوم القيامة عن األعمال فقط ،بل
يسألنا :لماذا عملناها؟ وقد يكون العمل صالح ًا في ذاته ،ولكن
يصح المقصد منه ولم َت ْسلم النية ولم تكن خالصة هلل ،فيتحول
ّ لم
وحسنه إلى قبح. صالحه إلى فساد ُ
ال عمل صالح ،ولكن إذا كانت نية المصلي أن
الصالة مث ً
98
يراه الناس فيعتقدوا صالحه فيعطوه األموال ويهدوا إليه الهدايا
ال
ال ألمر اهلل وطلب ًا لرضاه كانت صالته هذه عم ً
ولم ُي َصلِّ امتثا ً
سيئ ًا ،وإن كانت الصالة في األصل من األعمال الحسنة.
والسيئ،
ّ لذلك تفاوتت هجرة المهاجرين فكان منها الحسن
وإن كان ظاهرها واحداً وكانوا جميع ًا قد اشتركوا في السفر
واالرتحال ومشوا في وقت واحد في طريق واحد ،فمن كان
يقصد الفرار بدينه ورضا ربه كانت سفرته هجرة هلل ُيثاب عليها
ثواب المهاجرين ،ومن كان خاطب ًا امرأة في المدينة يريد زواجها،
فلما رأى المهاجرين قال في نفسه« :إني أصحبهم ألتزوج بهذه
المرأة» ،أو كانت له تجارة فصحبهم ليعمل في تجارته ،وكان
وحده هو مقصده من السفر ،كانت سفرته للدنيا ولم تكن هلل.
َ هذا
99
رضا اهلل ونوى بها نية صالحة كانت له عبادة ،ومن هنا قلنا :إن
جميع أعمال اإلنسان النافعة تكون له بالنية عبادة ،فتشمل العبادة
الحياة كلها ،ويكون المرء متعبداً في طعامه وشرابه وقيامه وقعوده
وكسبه وزواجه ،ومن هنا يكون الفهم الصحيح لقوله تعالى{ :وما
واإلنس إال لِ َيعبدون}.
َ الجن
َّ خلقت
ُ
فتكون العبادة بهذا المعنى الشامل هي غاية الخلق.
الخالصة
فتلخص من ذلك أن توحيد األلوهية (وهو القسم الرابع ّ
والقسم األخص من اإليمان باهلل) هو أن تعتقد أن النفع والضرر
كله من اهلل وحده ،فال تطلب النفع إال منه ،إما عن طريق السنن
التي وضعها لهذا الكون المسماة بقوانين الطبيعة ،وإما منه رأس ًا
بالدعاء .تدعوه وحده ،ال تدعو غيره وال تدعوه مع غيره ،وال
تتخذ إليه وسيط ًا ،وال تستعين إال به باألسباب التي جعلها طريق ًا
تخصه بالحب للنفع ،مع مالحظة أنه هو النافع ال مجرد السبب .وأن ّ
المطلق الدافع إلى الطاعة المطلقة والخشية الدافعة إلى اجتناب
المحرمات ،وأن تخصه بالتعظيم المطلق وبكل ما يدل عليه من قول
وعمل ،وأن تقصد رضاه وحده ،ال تقصد بعبادتك الدنيا وأهلها.
البحث العلمي
ولما كان اهلل قد أعطانا العقول وأمرنا بالنظر في أسرار
الوجود وفي سننه العجيبة وقوانينه التي أوجدها فيه ،وكان علينا
امتثال أمر اهلل ،كان درس العلوم الطبيعية واكتشاف أسرار الوجود
عبادة ،بشرط ألاّ تقف عند معرفة القانون بل تفكر في اإلله العظيم
100
الذي أوجده ،فتزداد بهذا الفكر إيمان ًا باهلل وإخالص ًا في عبادته.
شبهة وردها
يسأل كثيرون :ما بال الكافر يعمل على ما ينفع الناس ،يوزع
الصدقات ويبني المالجئ والمستشفيات ويفتح المدارس ،ثم ال
يكون له عندكم ثواب الدنيا اآلخرة؟ والرد :إن اهلل ال يضيع عمل
عامل من ذكر أو أنثى وال يحرم محسن ًا ثمرة إحسانه ،بل يعطيه ما
يطلبه .أليس الجزاء األعظم أن تعطي المحسن ما يطلبه؟
101
ووجه الحق في هذه المسائل هو رفض البحث فيها والجدال
ال<.
عليها ،فهي (إذا استعرنا لغة المحاكم) >دعوى مردودة شك ً
ال :ألن السلف (وهم أفضل المسلمين وخيار هذه األمة، أو ً
من الصحابة والتابعين الكبار) ما عرفوها وال بحثوا فيها ،وكان
دينهم أسلم وإيمانهم أصح ،وهم قدوتنا في ديننا.
ثاني ًا :ألن من يدقق في أقوال ال ِف َرق المختلفة يجدها كلها
مبنية على أساس واحد ،هو قياس الخالق على المخلوقين وتطبيق
منطق العقل البشري وأحوال النفس اإلنسانية على اهلل .وذلك
باطل ألن الخالق ال يشبه المخلوق وألن اهلل ليس كمثله شيء.
ثالث ًا :ألن هذه األمور كلها مما وراء المادة ،أي من عالم
الغيب ،وقد تقدم (في القاعدة الخامسة من قواعد اإليمان) أن
العقل قاصر حكمه على عالم المادة ،ال يستطيع أن يحكم على
ما وراء المادة وال يستطيع أن يدركه.
وجه الحق فيها
وأنا أدعو إلى شيء جديد ،شيء هو أقرب إلى الحق وهو
أنفع لنا ،هو أن ننقل الموضوع من جدال في صفات اهلل إلى
ال من أن نبحث بحث ًا غير سلوك في الحياة يوصل إلى رضاه .فبد ً
منتج في القرآن :هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ نقول :إن القرآن
أنزله اهلل لنعمل به ،فلنعمل به ولنأتمر بأمره ولنقف عند نهيه.
ال من البحث في علم اهلل وهل هو بذاته أم بصفة زائدة على وبد ً
سرنا وجهرنا الذات؟ نقول :إذا كان اهلل يعلم عنا كل شيء ،من ّ
وانفرادنا واجتماعنا ،فيجب أن نسلك في الحياة سلوك ًا موافق ًا
102
لشرع ربنا حتى يعلم عنا ما يرضيه علينا.
هذا هو الحق ،وما مثل من يصنع هذا ومثل من يجادل في
صفات اهلل إال كمثل طالب المدرسة الذين يقال لهم :إنها ستأتي
لجة عليا من الوزارة تتولى هي امتحانكم .فالعاقل منهم يقول :إذا
كانت هذه اللجنة ستتولى االمتحان فينبغي أن أستعد وأدرس وال
أدع من المنهج المقرر شيئ ًا ال أحفظه .واألحمق يجادل في هذه
اللجنة :كيف يكون امتحانها؟ هل تتواله كلها أم أفراد منها؟ وهل
عددها شفع أم وتر؟ وهل تجيء بالسيارة أم بالطيارة؟ ...وال يزال
في هذه وشبهه حتى يأتي يوم االمتحان وهو لم ُي ِع ّد له شيئ ًا.
إن اهلل ال يسألنا يوم القيامة عن شيء مما بنى عليه المتكلمون
جدالهم وأقاموا عليه مختلف مذاهبهم وملؤوا به كتبهم ،ولو
كان ذلك من شروط اإليمان لبحث فيه رسول اهلل ’ وأصحابه.
فلنتركه كله ،فإنه أثر من آثار الفلسفة اليونانية القديمة التي دالت
دولتها وبطلت أكثر نظرياتها ووهت أدلتها ،وحل محلها في
تقل عنها
مسائل الميتافيزيك (ما وراء المادة) فلسفة جديدة ال ّ
وتخبط ًا في مها ِم ِه الظنون.
ّ ال
ضال ً
فلنجعل كتاب اهلل إمامنا وليكن عليه اعتمادنا ،وما كان فيه
آمنا بما ظهر فيه
مغيبة لم يعرض إال إلى جزء منها ّ من ذكر ألمور َّ
عنا إلى من أنزله علينا(.)1
وفوضنا ما خفي ّ
لناّ ،
* * *
______________________
مقالتي >علم التوحيد< و>علم التوحيد=
َ ( )1للتوسع في هذه الفكرة راجع
103
______________________
= وكتاب المودودي< في كتاب >فصول إسالمية< ،وانظر الحلقة 231
من >الذكريات< (في الجزء الثامن) وعنوانها >تفسير بعض اآليات<
(مجاهد).
104
مظاهر اإليمان
التلميذ الذي يؤمن بأن االمتحان قريب ،لم يبق دونه إال
أسبوع ،ثم ال يستعد له وال يهتم به بل يشتغل عنه باللهو والعب ال
يكون كامل اإليمان بقرب االمتحان .والتائه الذي ترشده إلى الطريق
ال من
الموصل فيصدقك ويؤمن بكالمك ثم يمشي إلى الشمال بد ً
اليمين ال يكون تام اإليمان بصدق المرشد ،فاإليمان الكامل تبدو
آثاره في أعمال المؤمن وفي سلوكه.
اإليمان والعمل
105
أنه يهرب ثم يخاف.
ولذلك قرن اهلل اإليمان بالعمل الصالح{ :إ ّنما المؤمنون الذين
قلوبهم ،وإذا ُت ِل َيت عليهم آيا ُته زادتهم إيمان ًا،
إذا ُذ ِك َر اهلل َو ِجلَت ُ
ومما رزقناهم ُينفقون. ربهم يتوكلون .الذين ُيقيمون الصالة ّ وعلى ّ
أفلح المؤمنون ،الذين هم في َ أولئك ُه ُم المؤمنون حق ًا}{ .قد
صالتهم خاشعون ،والذين هم عن اللَّغو ُم ْعرضون ،والذين هم
للزكاة فاعلون ،والذين هم لفروجهم حافظون ،إلاّ على أزواجهم أو
غير َملومين ،فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك َ
ما َملَكت أيْما ُنهم فإنهم ُ
وعهدهم راعون ،والذين ُه ْم على الع ُادون ،والذين هم ألماناتهم َ هم َ ُ
ِ
جوهكم ق َب َل المشرق صلواتهم يحافظون}{ .ليس الب َِّر أن ُت َولّوا ُو َ
اآلخر والمالئكة والكتاب ولكن البر َمن آمن باهلل واليوم ِ والمغرب،
ّ َّ
المال على ُح ِّبه ذوي ال ُقربى واليتامى والمساكين َ والنبيين ،وآتى
ّ
وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ،وأقام الصالة وآتى الزكاة،
والضراء
ّ والصابرين في البأساء ّ والمو ُفون بعهدهم إذا عاهدوا، ُ
وحين البأس}.
اإليمان يزيد
من العلماء من نظر إلى اإليمان باعتباره عقيدة ال تقبل
التجزئة ،فال يكون المرء إال واحداً من اثنين :مؤمن ًا أو كافراً ،وال
توسط بينهما ،فذهبوا إلى أن اإليمان ال يزيد وال ينقص .ولكن
الجمهور نظر إليه مقرون ًا بالعمل الصالح فرأوه يزيد بازدياده ،وهذا
هو الحق الذي وردت به النصوص القاطعة؛ قال تعالى{ :وإذا ُت ِل َيت
فزادتهم إيمان ًا}،
عليهم آيا ُته زادتهم إيمان ًا}{ ،فأما الذين آمنوا َ
زادهم إال إيمان ًا وتسليم ًا}.
{وما َ
106
ترك العمل ال يك ّفر
المحرم
َّ والعلماء من أهل السنة متفقون على أن مجرد ارتكاب
من غير إنكار لحرمته ،وترك الواجب من غير إنكار لوجوبه وال
يعرض صاحبه لعذاب اآلخرة ،لكنه ال يك ّفر صاحبه
استخفاف بهّ ،
وال يخلده في النار.
وما ورد في الحديث من أن الزاني ال يزني حين يزني وهو
مؤمن معناه أنه ال يكون ساع َة الزنا ذاكراً أن اهلل مطّلع عليه ،ولو ذكر
وه َّم فرأى
أعد ُع ّدة الزنا َ
ذلك لمنعه منه حياؤه من اهلل .ولو أن فاسق ًا َّ
أباه يطل عليه ويراه ،هل يستطيع أن يمضي فيه أم يمنعه منه الحياء
من أبيه؟ فكيف ال يمنعه الحياء من اهلل وهو ذاكر أنه يراه؟
ثمرات اإليمان
الذكر
وأول هذه الثمرات الذكر .ولقد قرأت عن أحد الصالحين
()1
أن ابتداء أمره أنه كان له خالٌ متعبد ،وكان يالزمه ،فقال :يا خالي،
ماذا أعمل ألكون مثلك؟ فقال له خاله :قل كل يوم ثالث مرات:
______________________
( )1هو سهل بن عبد اهلل التستري.
107
ناظر إلي ،إن اهلل مط ّل ٌع علي» .فقالها واستمر عليها أسبوع ًا، «إن اهلل
ّ ٌ ّ
فأمره أن يقولها ثالث مرات في عقب كل صالة ،فقالها .وتركه
فتعود
ّ ال من أن يحرك بها لسانه، أسبوع ًا ثم أمره أن يقولها بقلبه بد ً
بذلك على أن يكون دائم ًا ذاكراً مراقب ًا.
وما أمر اهلل بشيء في القرآن ما أمر بالذكر وال أثنى على أحد
ما أثنى على الذاكرين .والذكر في لسان العرب الذي نزل به القرآن
ذكران :ذكر القلب وذكر اللسان ،وكالهما ورد في القرآن .فمن ذكر
أن
الشيطان ْ
ُ الحوت ،وما أَن ْ ُ
سانيه إال َ سيت
القلب قوله تعالى{ :إ ّني َن ُ
{اذك ْر نعمتي عليك
ُ أذك َره} أي أن أتذكره ويخطر على بالي .ومنه:
ُ
وعلى والديك} و{يا ّأيها الذين آمنوا اذكروا نعم َة اهلل عليكم}.
ومن ذكر اللسان قوله{ :واذكر في الكتاب إبراهيم}{ ،واذكر في
{اذك ْرني عند ربك}{ ،واذكروا اسم اهلل عليه}. ُ الكتاب مريم}،
______________________
( )1ليس المراد القلب المادي الذي يضخ الدم ألنحاء الجسم ،بل
المراد مكان الفكر والمشاعر من اإلنسان .وقد بسطت الكالم في هذا
الراد والرائي (أي في اإلذاعة
ّ الموضوع في كتبي وفي أحاديثي في
والتلفزيون).
108
تذكرت فتب
من الجنة ويباعدك عن النار ،وإن نسيت فأذنبت ذنب ًا ثم ّ
طائف من الشيطان
ٌ مس َهم
{إن الذين ا ّت َقوا إذا ّ
منه واطلب العفو عنهّ :
تذكروا فإذا هم ُمبصرون}.
ّ
واذكر بلسانك ،فإن أفضل الذكر ذكر اللسان مع حضور
القلب ،فإن كان الفكر غائب ًا ال يعي ما يقول اللسان كان ذكره كالم ًا
بال معنى ،كذكر ّبياع الكعك في الشام ينادي> :اهلل كريم< ،ال يقصد
الخس ينادي> :اهلل الدايم<!
ّ ذكر اهلل ولكن بيع الكعك ،وذكر بياع
______________________
( )1الجزء الثالث ،صفحة 307من الطبعة األميرية.
109
بين الخوف والرجاء
110
الخوف واألمل بالعفو على توقي العقاب.
على أن المسلم إذا أتى الفرائض (ولو ترك المندوبات) واجتنب
المحرمات (ولو لم يجتنب المكروهات) يكون من الخائفين المتقين
لكنه يخسر الدرجات العالية في الجنة( ،)1فهو كالتلميذ الذي يحصل
على أقل درجات النجاح ،ال يرسب في فصله ولكن ال ينال تقديراً
وال مكافأة ،ويكون نجاحه وسط ًا ال جيداً وال ممتازاً.
التوكل
{إن كنتم آمنتم باهلل فعليه توكلوا} ،وقال:
قال اهلل تعالىْ :
حب المتوكلين} .فما هو التوكل؟ وما حقيقته؟
{إن اهلل ُي ّ
ّ
لقد تقدم القول بأن اهلل جعل فيما خلق من األشياء النافع
والضار ،وجعل من سنن الكون ما هو سبب للنفع وما هو سبب
للضرر ،فهل التوكل على اهلل ترك األسباب؟
المتصوفة من يرى التوكل في ترك السبب ،ال
ّ لقد كان في
يعمل لتحصيل الرزق وينتظر أن يصل إليه رزقه بال عمل ،ويدع
مريضه بال تطبيب ويرجو أن يناله الشفاء بال دواء ،ويسلك الصحراء
بال زاد ويأمل أن يجيئه زاده من غير تعب ،ويدع طلب العلم ويعتقد
______________________
فاختل المعنى
ّ ( )1ما بين األقواس سقط من كل طبعات الكتاب السابقة
ال ّبين ًا ،فقد جاءت الجملة« :المسلم إذا أتى الفرائض واجتنب
اختال ً
المحرمات يكون من الخائفين المتقين لكنه يخسر الدرجات العالية
في الجنة» ،وهو معنى ال يستقيم .وقد أخذت النقص من أصل
المقاالت التي ُنشرت في جريدة >المدينة< سنة 1388قبل جمعها
في الكتاب (مجاهد).
111
أن العلم يأتيه بال طلب( ،)1وهذا مخالف للشرع ،فالشرع يقول:
{فانتشروا في األرض وابتغوا من فضل اهلل} ويقول> :يا عباد اهلل
تداووا< ويقول> :طلب العلم فريضة< ،فمن ترك طلب العلم وزعم
أنه يأتيه فقد خالف الشرع والطبع.
______________________
واحتجوا خطأ بقوله تعالى {واتقوا اهلل ويع ّلمكم اهلل} ،مع أنها جملة ّ ()1
من آية ،من قرأها كلها أدرك أنها ال تؤدي هذا المعنى .ولو فرض أنه
يحتج بهذه الجملة وحدها وأن العلم يكون بالتقوى بال تعلم فإنه ُي َر ّد
عليهم بأن التقوى إنما تكون بفعل المأمور به شرع ًا ،ومن المأمور به
طلب العلم ،فمن لم يعمل بهذا األمر ال يكون تقي ًا.
112
اهلل في حفظها ،واقرأ دروسك كلها وتوكل على اهلل واسأله النجاح
في االمتحان .هذا هو التوكل الحقيقي ،ليس التوكل في إهمال
األسباب وتعطيل سنن اهلل في الكون ،وال في نسيان أن اهلل هو
النافع الضار وابتغاء النفع حقيقة من سواه.
األسباب ال بد منها ،وفي اتخاذها إطاعة ألمر الشرع
واتباع لسنن اهلل في الوجود ،ولكن األسباب وحدها ال تكفي
ألن النتائج بيد اهلل .فالمتوكل على اهلل حق ًا هو من يبذل للوصول
إلى المطلوب كل جهد ويتخذ إليه كل وسيلة مشروعة ويعتقد أن
الموصل هو اهلل ،فيتوكل عليه ويطلب منه ما يريد.
الشكر
ويكون بعد ذلك راضي ًا عن اهلل مهما منعه أو أعطاه ،فيتحقق
{وسيجزي اهلل
َ يشكر لنفسه}
ُ شكر فإ ّنما
َ {ومن
َ بصفة الشكر:
الشاكرين}.
والشكر من ثمرات اإليمان ،فإذا أحسن إليك عبد من
عباد اهلل فلم تشكره كنت مقصراً عنه مسيئ ًا إليه ،مع أنه واسطة
والمحسن الحقيقي هو اهلل ،فكيف ال تشكر اهلل واهلل هو الذي
وسخر لك ما
ّ أنعم عليك بنعمة السمع والبصر والصحة واألمن،
عده وال إحصاءه؟ إن في األرض وأعطاك من النعم ما ال تستطيع ّ
إن وجعه ضرسه اإلنسان ال يعرف قيمة النعمة إال عند فقدها؛ ْ
رأى أعظم النعم في زوال األلم ،فإن زال عنه نسي هذه النعمة.
فإن هو
وإن احتاج يوم ًا إلى دينار ولم يجده عرف نعمة الغنىْ ،
استغنى نسيها .وإن انقطع التيار الكهربائي وشمل الدار الظالم
113
عرف نعمة النور ،فإن وجده لم يعد يدرك َق ْدره.
فإذا كنت ال تستطيع أن تحصي نعم اهلل عليك ،أفال تشكره
عليها؟ تشكر اهلل بلسانك بحمده والثناء عليه فتقول> :الحمد هلل،
رب لك الحمد< ،وتشكر اهلل بعملك فتفيض من هذه النعم على ّ
من ُحرِم منها ،وشكر الغني أن يعطي الفقير ،وشكر القوي أن
يساعد الضعيف ،وشكر صاحب السلطان أن يقيم الحق ويسير
بالعدل ،فإن كنت من ذوي اليسار وكان على مائدتك خمسة
ألوان وكان جارك َج ْوعان فلم تعطه شيئ ًا لم تكن من الشاكرين،
>الحمد هلل< .وتشكر اهلل بقلبك فتكون
ُ ولو قلت بلسانك ألف مرة
تستقل النعم وال
ّ راضي ًا عنه قانع ًا بما قسم لك ،ال تسخط وال
تحسد أحداً على ما أعطاه اهلل.
فمن جمع شكر القلب بالرضا عن اهلل ،وشكر العمل بأن
يفيض على المحرومين من فضل النعم ،وشكر اللسان بأن يكثر
من حمد اهلل ،كان من الشاكرين حق ًا.
الصبر
والمسلم بين نعمتين ،إن أصابه خير فشكر كان له أجر،
وإن َم َّسه ضر فصبر كان له أجر ،فال يعدل أجر الغني الشاكر أو
أجرهم
يزيد عليه إال أجر الفقير الصابر{ :ول ََنجز َِي ّن الذين صبروا َ
بأحسن ما كانوا يعملون}
ِ
وهذه الحياة الدنيا ليست دار نعيم وليست تخلو من
المكدرات ،من انحراف الصحة أو ضياع المال أو َف ْقد الحبيب
ّ
أو غدر الصديق أو ذهاب األمن ،هذه طبيعتها التي ال تتغير.
114
ُجبِل َْت على َ
كدر وأنت تريدها
َص ْفواً مـن األقـذا ِر واألكدار
ضد طبـاعها
ِّف األيـام َّ
ومكل ُ
ِّب في المـاء َجذو َة نـار
متطل ٌ
بلو َّنكم بشيء من الخوف والجوع و َن ْقص قال تعالى{ :ول ََن ُ
وبشر الصابرين} ألنهم مع األيام
من األموال واألن ُفس وال ّثمراتِّ ،
ينسون المصاب ويجدون الثواب ،وغيرهم يحمل األلم وال ينال
شيئ ًا .مصاعب ومصائب ال بد منها ،فإما أن تداويها بالصبر فتنال
األجر ،وإما أن تثور عليها فتزيد ثورتك من عذابك وال تدفع عنك
ما بك .هذا هو النوع األول من الصبر ،الصبر على المصائب.
والنوع الثاني هو الصبر عن المعاصي ،صبر الشاب الذي
يرى العورات البادية ونفسه تميل إليها فيغض بصره من خوف اهلل
عنها ،ويعرف سبيل اللذات المحرمة فيمنع نفسه عن سلوكها على
رغبته فيها .صبر الموظف الذي ُتعرض عليه الرشوة تعدل راتبه
فيكف يده عنها على حاجته إليها .صبر التلميذ في
ّ عن ستة أشهر،
االمتحان إذ يتمكن من سرقة الجواب من الكتاب ،فال يقدم عليها
وإن كان نجاحه َمنوط ًا بها .المعاصي لذيذة للنفس ،فإن امتنع عنها
مع تمكنه منها كان مع الصابرين.
والثالث :الصبر على الطاعات .على القيام لصالة الفجر
وترك لذة المنام ودفء الفراش في الغداة الباردة ،على احتمال
الجوع والعطش في شهر الصيام في الصيف الملتهب ،على إكراه
الم ِح ّبة للمال على إخراج الزكاة وبذل الصدقة .الصبر على
النفس ُ
التمسك بالدين في هذا الزمان الفاسد الذي عاد فيه الدين غريب ًا
115
كما بدأ غريب ًا ،وصار القابض على دينه كالقابض على الجمر،
معرض ًا لسخرية الناس وإيذاء الحكام ونقص وصار المتدين فيه َّ
المر َّتب واإلخراج من الديار ،فمن احتمل ذلك وحده قاصداً
ربهم يتوكلون ،أولئك َي ْؤ َتون
ثوابه كان من {الذين صبروا وعلى ّ
أجرهم مر َتين بما صبروا}{ ،وما ُيل ّقاها إال الذين صبروا ،وما
َ
ُي َل ّقاها إال ذو حظ عظيم}.
االنقياد لحكم الشرع
قلنا بأن اإليمان عمل من أعمال القلبِ ،س ٌّر من األسرار
ميزنا
التي ال يعلم بها إال اهلل ،وإنما للناس الظواهر ،لذلك ّ
المؤمن من غير المؤمن بمقاله وأعماله .فاإلسالم هو مظهر
اإليمان ،واإلسالم في اللغة هو التسليم> :أسلم< و>س ّلم< بمعنى
واحد .فالولد يستسلم ألبيه ثق ًة به ،والمحب يستسلم لمحبوبه
ال إليه ،والمهزوم يستسلم لمن هزمه خوف ًا منه .أما المؤمنمي ً
فيستسلم لحكم ربه استسالم ًا مطلق ًا ،يطيع له كل أمر ولو لم
يعرف الحكمة منه ووجه المنفعة فيه ،ويدع كل ما ينهى عنه ولو
لم يدرك سر نهيه عنه .وهذا االستسالم له جانبان :جانب عملي
هو االمتثال بالقول والعمل ،وسيأتي الكالم عنه إن شاء اهلل في
الجزء المخصص لإلسالم من هذا الكتاب( ،)1وجانب نفسي هو
______________________
( )1الذي لم يصدر قط .وهذا المعنى شائع متكرر في كتابات علي
الطنطاوي وأحاديثه؛ انظر -على سبيل المثال -مقالة >مشكلة< في
كتاب >فصول في الدعوة واإلصالح< ومقالة >من هو المسلم؟< في
كتاب >فصول إسالمية< (مجاهد).
116
الذي نبحث عنه اآلن ونحن نتكلم عن اإليمان.
هذا الجانب هو الرضا القلبي بحكم الشرع واطمئنان النفس
إليه ،وأن نعمل الواجب أو نترك الحرام عن اقتناع ،ليس في
تبرم به وال سخط عليه ،قال تعالى{ :فال وربك ال يؤمنون قلوبنا ّ
حتى ُي َحكّ موكَ فيما َش َجر بينهم} ،وهذا هو الجانب العملي{ .ثم
وي َس ّلموا تسليم ًا} ،وهذا
قضيت ُ
َ حرج ًا مما
ال يجدوا في أنفسهم َ
هو الجانب النفسي.
فال يكفي مجرد االحتكام إلى الرسول إذا لم يكن في قلوبنا
اعتقاد صحة هذا الحكم والرضا به واالطمئنان إليه{ :إ ّنما كان
حكم بينهم أن يقولوا ِ
قولَ المؤمنين إذا ُدعوا إلى اهلل ورسوله ل َي َ
المفلحون} أي يقولوها بألسنتهم سمعنا وأطعنا ،وأولئك هم ُ
مقرين معترفين بقلوبهم.ّ
ومن الناس من يسأل دائم ًا عن حكمة الشرع في كل أمر
ونهي كأنهم ال يطيعون إال إذا عرفوا الحكمة .وللشرع حكمة ال
شك فيها ،ولكنها قد تبدو لنا بالنص أو باالستنباط وقد تخفى
علينا ،أفنعصي ربنا إذا لم تظهر حكمة شرعه لنا؟
تصور أنك كلما أمرت ولدك بأمر لم ينفذه حتى تبين لي
مقصدك منه وحكمتك فيه ،ولو كان الموقف ضيق ًا ال يتسع للبيان
سر ال يجوز معه اإلعالن! أال تعد هذا الولد ولو كان في األمر ّ
أوال تنتظر منه أن يطيعك على أي حال ألنه ولدك عاصي ًا لك؟ َ
وألنك أبوه؟ ولو أن ضابط ًا تلقى أمر القيادة فأبى أن ينفذه حتى
تشرح له خطتها التي أوحت به وغايتها من إصداره ،أال يستحق
العقاب؟
117
إن حق اهلل على العبد ال يقاس بحق الوالد على الولد
وال بحق القائد على الجند ،ومن حقه تعالى علينا أن نطيع في
نتمحل
ّ المنشط والمكره والموافق لنا والمخالف لرغبتنا ،ال أن
ال في الفقه يرضي أهواءنا ،وال أن
ونتعسف النظر لنجد قو ً
ّ األدلة
نجعل من الحضارة األجنبية وأعرافها التي أخذنا بها حجة على
يؤول من النصوص ونتنكب الطريق المستقيم فنؤول ما ال َّ
الشرعِّ ،
في البحث لنقول أن ديننا ال ينافي هذه األعراف ،ثم إذا تبدلت
أعراف( )1المجتمع أو تحول مورد هذه الحضارة األجنبية من
بدلنا بحثنا وجئنا بتأويل جديد.
الغرب إلى الشرق ّ
ال ،بل االحتكام إلى الشرع والعمل بحكمه والرضا به
المصدقين حق ًا بصحة
ِّ واالطمئنان إليه ،هذا هو شأن المؤمنين
هذا الدين.
شدة ولين
ومن مظاهر اإليمان ودالئله أن يكون الحب في اهلل والبغض
في اهلل ،نحب المطيع التقي ولو لم يكن لنا منه نفع ونبغض الكافر
الفاجر ولو لم ينلنا منه ضرر ،بل إننا نبغضه ونهجره ولو كان
______________________
( )1من هذا التبدل أن نقول يوم ًا >ديمقراطية اإلسالم< ونقول في يوم آخر
>اشتراكية اإلسالم< ،وبذلك ندور كلما دارت األيام ونساير هوى
الحكام .والديمقراطية عندهم هي حكم الشعب .ولو أجمع الشعب
كله ،بل شعوب األرض مجتمعة ،على إحالل حرام أو إلغاء واجب
لم يكن لهذا اإلجماع وزن ،بل يبقى الحرام حرام ًا والواجب واجب ًا.
فالديمقراطية مقبولة على ألاّ تجاوز حكم اهلل وال تتعدى حدوده.
118
أخوة الدين
مفيداً لنا ولو كانت تربطنا به أوثق الروابط ،ذلك ألن ّ
أخوة الدم وصلة العقيدة أوثق من صلة أقوى عند المؤمن من ّ
النسب .ولقد ّبين اهلل لنوح أن ابنه الكافر ليس من أهله ألنه عمل
غير صالح ،ونفى أن تكون بين المؤمنين وبين المعاندين الذين
الصالت بين
سلمي مهما كانت قوة ِّ مودة وتعايش
يحاربون الدين ّ
ّ
وادون تجد قوم ًا يؤمنون باهلل واليوم ِ
اآلخر ُي ّ الفريقين ،فقال{ :ال ُ
حاد اهلل ورسوله} .ال ُيكرههم على اإلسالم إكراه ًا ،بل يمنعهم
َمن َّ
أن يعترضوا سبيله ويحاربوا دعوته ،فإن اطمأنوا لدعوتنا ودخلوا
في ديننا صاروا منا ،لهم ما لنا وعليهم ما علينا ،وإن سالموا
دعوتنا سالمناهم وحفظنا لهم حقوقهم وإن ب ُقوا على دينهم.
فالمؤمن يحب إذا أحب للدين ويبغض إذا أبغض للدين،
يذلّ ألخيه وال يرى ذلك ذلاّ ً ويؤثره على نفسه بالشيء ولو كانت
به حاجة إليه ،وإذا أبغض ظهر منه الغضب هلل والشدة في الدفاع
عن دينه والبأس في قتال أعدائه .فهو يجمع بين اللين والشدة،
{محمد رسولٌ والرقة والغلظة على أعداء الدين أنصار الشيطان:
ماء بينهم}{ ،أذ ّل ٍة على
أشد ُاء على الكفار ُر َح ُ
اهلل والذين معه ّ
المؤمنين ِ
أع َّز ٍة على الكافرين ،يجاهدون في سبيل اهلل وال يخافون
لوم َة الئم}.
هذه حال المؤمنين لما كانوا من المجاهدين ،فلما تركنا
وليننا أمام
شدتنا على أنفسنا ُ
الجهاد وخالفنا الشرع وصارت ّ
أعدائنا س ّلط اهلل علينا بذنوبنا من ال يخافه وال يرحمنا ،فملك
بالدنا وتحكّ م فينا.
119
التوبة واالستغفار
خلق اهلل اإلنسان وغرز في نفسه حب العاجلة وطول األمل
والرغبة في جمع المال ،والشهوة لمقاربة النساء والغضب والميل
يزين له الفواحش
إلى البطش واالنتقام ،وس ّلط عليه الشيطان ّ
متشهية
ِّ ويحبب إليه المعاصي ،ووضع فيه نفس ًا ّأمارة بالسوءّ
للحرام تعين عليه الشيطان ،فكان من نتائج ذلك أنه يأتي المعاصي
ويرتكب الذنوب ،فماذا يصنع لينجو من عقاب المعصية وتبعات
الذنب؟
إن اهلل -من رحمته به -فتح له باب التوبة؛ قال له :إنك
تستطيع أن تمحو من صحيفتك كل ذنب عملته فكأنه ما كان،
لت لك حسن ًة مكان السيئة التي كانت عليك ،كدفتر سج ُبل ربما ّ
مقيداً فيه أن له عليك مئة دينار ،فال يكتفي بأنالتاجر يكون َّ
الدينيسامحك بها ويمحوها لك ،بل ينقل قيدها من صفحة َّ
الدين الذي لك .قال تعالى{ :إال َمن الذي عليك إلى صفحة َّ
سيئاتهم حسنات ،وكان اهلل وع ِم َل صالح ًا ،فأولئك ُي ّ
بدل اهلل ّ تاب ََ
غفوراً رحيم ًا}.
فإن تاب
وباب التوبة مفتوح ما دام المرء صحيح ًا معافىْ ،
التوبة الصادقة ُقبلت توبته ،وال ُيغلق إال ساعة االحتضار ،الساعة
التي تصير فيها الروح في الحلقوم ،الساعة التي يواجه فيها اإلنسان
الحقيقة ويرى عيان ًا ما جاءه به الرسول خبراً ،فتكون توبته حينئذ
من قبيل تحصيل الحاصل ،ألن التوبة هي الرجوع االختياري إلى
اهلل وهو قد أُرجع كره ًا وجبراً ،فلم يعد ينفعه اإلقرار بعد أن فقد
االختيار ،قال تعالى{ :إ ّنما التوب ُة على اهلل للذين يعملون السوء
120
بجهالة ثم يتوبون من قريب ،فأولئك يتوب اهلل عليهم وكان اهلل َ
حضر
َ عليم ًا حكيم ًا .وليست التوب ُة للذين َيعملون السيئات حتى إذا
بت اآلن وال الذين يموتون وهم ك ّفار}. الموت قال إ ّني ُت ُ
ُ أحد ُه ُم
َ
وأول شروط التوبة االنقطاع عن اإلساءة والعزم على أن ال
يعود إليها .فلو كنت ماشي ًا في الطريق ففتح رجل نافذته وألقى
ُمته وشتمته اعتذر إليك وهو مستمر عليك ماء ِ
وسخ ًا ،فلما ل َ
بصب الماء عليك ،أو امتنع عنه ولكنه أوعدك بالعودة إلى مثله
ّ
غداً ،فهل تقبل اعتذاره؟
إن للتوبة روح ًا وجسداً ،فروحها استشعار قبح المعصية
وجسدها االمتناع عنها .كم يمشي على طريق فيرى لوحة تدله
على أنه غير طريقه المقصود .إنه يشعر بخطئه ،وهذا الشعور
هو األصل ،إذ لوال معرفة الخطأ ما كانت الهداية إلى الصواب،
ولكنه إذا اقتصر على المعرفة ولم يعمل بمقتضاها واستمر ماشي ًا
في الطريق المنحرف لم ينفعه علمه بانحرافه ،بل إنه يكون أكبر
ذنب ًا وأعظم تبعة ،ألن الذي ينحرف وهو ال يعرف له بعض العذر،
ولكن الذي يعرف الطريق وينحرف عنه عمداً ال عذر له(.)1
واإلصالح
َ اإلحسان بدل اإلساءة
َ والشرط الثاني :أن يجعل
مكان اإلفساد .أي أن يحقق التوبة بتبديل العمل وتعديل السلوك:
بجهالة
{كتب ربكم على نفسه الرحم َة أنه من عمل منكم سوءاً َ
{فمن تاب من بعد
غفور رحيم}َ ،ٌ ثم تاب من بعده وأصلح فأنه
______________________
( )1األول ضالّ ولكن الثاني مغضوب عليه ،واليهود من المغضوب عليهم
ألنهم عرفوا الحق وخالفوه{ :فلما جاءهم ما َع َرفوا كفروا به}.
121
فإن اهلل يتوب عليه}{ ،إال الذين تابوا من بعد ذلك
ظلمه وأصلح ّ
أتوب
ُ وب ّينوا ،فأولئك
وأصلحوا}{ ،إال الذين تابوا وأصلحوا َ
عليهم}.
ومن اإلصالح أن يكون تركك الذنب حقيقي ًا وأن تعزم عزم ًا
صادق ًا على ألاّ تعود إليه ،فإن عقدت على ذلك العزم الصادق
بت ُقبلت دت إليه ثم ُت َ
فع َ
ثم غلبتك النفس أو حملتك الظروف ُ
عزمك توبتك ،ولو تكررت العودة وتعددت التوبة .أما إن خالط َ
تردد من األصل وقلت في نفسك «إذا اشتدت رغبتي رجعت ثم ّ
تبت» ال تكون توبتك صادقة وال مقبولة.
هذا في التوبة من حقوق اهلل ،إنه يكفي فيها أن تترك الذنب
نادم ًا على فعله عازم ًا عزم الصدق على عدم العودة إليه .أما
أكلت ماله ،أو آذيته في َ ظلمت أحداً ،أو
َ كنت
حقوق الناس :إن َ
شهدت عليه زوراً ،أو اغتبته أو َو َش ْي َت
َ جسده أو في عرضه ،أو
أشعت عنه قا َل َة السوء ...فال بد في ذلك وأمثاله من أنَ به ،أو
تؤدي إليه حقه ،أو ينزل لك عنه ويسامحك به ،أو يرحمك اهلل
فيرضيه عنك ،وإال لم ُتقبل توبتك وأخذ المظلوم يوم القيامة من ّ
حسناتك أو حمل عليك من سيئاته.
وباب التوبة مفتوح مهما كثرت الذنوب ،فال ييأس أحد من
عفو اهلل فإن اليأس من عفو اهلل أكبر من كل ذنب{ :قل يا عبادي
الذين أسرفوا على أنفسهم ال تقنطوا من رحمة اهلل ،إن اهلل يغفر
الذنوب جميع ًا}.
َ
ورجوع إلى الحسن ،أما االستغفار
ٌ للسيئ
ّ فالتوبة هي تركٌ
122
وحث عليه{ :هو ّ فهو طلب الغفران من اهلل ،وقد أمر الشرع به
أنشأكم من األرض واستعمركم فيها ،فاستغفروه ثم توبوا إليه}،
رحيم َودود}{ ،ويا قو ِم
ٌ إن ربي
{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ّ
ربكم ثم توبوا إليه} .وجاء مثل ذلك على لسان كل استغفروا َّ
رسول ،ينصح به قومه ويدلهم به على طريق العفو من اهلل والنجاة
من عذابه.
والمذنبون على درجات :أما الذين ماتوا على كفرهم فال
شركَ به} .والمشركون {إن اهلل ال يغفر أن ُي َ
أمل لهم في المغفرةّ :
في األصل أشد كفراً من أهل الكتاب ولكن الجميع في حكم هذه
اآلية سواء ،فال يقال لمن مات كافراً >رحمه اهلل< وال >غفر اهلل له<
وال يقال له >المرحوم< أو >المغفور له فالن<.
وأما العصاة من المسلمين الذين ماتوا بال توبة فأمرهم إلى
{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ،وإنُ اهلل ،إن شاء غفر لهم:
شاء عذبهم بالنار ،لكنهم ال يخلدون فيها .وال يستهن أحد بعذاب
النار وال ِ
يسخ ّفه ،فإن نار الدنيا (وهي نعمة) ال يطيق أحد احتمالها
نعرض أنفسنا لعذاب جهنم دهوراً؟ دقائق ،فكيف ّ
بمنه وكرمه .هذا الذي يتوبوأما التائبون فيتوب اهلل عليهم ّ
من بعد الذنب ،أما الذي يتوب منه ويتنبه لنفسه ويدركه خوف
ربه قبل إتمام الذنب ويتركه هلل مع شدة الرغبة فيه وعظم الميل إليه
فله أعظم الثواب ،كمن يستزله الشيطان فيدفعه إلى الزنا ،حتى
هم فذكر اهلل أعرض عنه وشهوته وشرع به أو َّ
َ إذا تمت له أسبابه
يمده
متعلقة به ونفسه راغبة فيه .وأين َمن يقدر على ذلك إال أن ّ
أحد فإنه يكون كمن يتناول
يجر ْب هذه التجرب َة ٌ
اهلل بقوة منه؟ فال ّ
123
جراثيم المرض الخطير ،إن نجا منه اكتسب مناعة تجعله أقوى
ممن لم َي ْد ُن منه المرض ،ولكن احتمال حصول المناعة من ّ
المرض واحد في المئة واحتمال الهالك به تسعة وتسعون .هذا
الكف عن الذنب فإنه ال ُيكسبه مناعة من
ّ في مرض الجسد ،أما
العودة إليه.
فمن أراد السالمة من الشر فليبتعد عنه وليقطع أسبابه،
يرغبه فيه ويدعوه إليه،
وليسد الطريق إليه ويهجر من الناس من ّ
ّ
فإن الصاحب ساحب والمرء على مذهب خليله ،وقديم ًا قالوا:
«قل لي من ترافق أقل لك من تكون» .فلينتبه لذلك الناشئون
ويطلبوا من اهلل العون.
* * *
124
اإليمان باليوم ِ
اآلخر
نحن والموت
نحن والموت على أصناف أربعة ،صنف يهتف مع الشاعر
األحمق:
غيب
والمؤم ُل ٌ
َّ فات
ما مضى َ
ولك الساع ُة التي أنت فيها!
يعد لمقبل ،يظن األمس( )1قد فني
ماض وال ٍّ ال يفكر في
والغد ال يأتي ،يقول« :ما مضى فات» ،وال واهلل ما فات ،ولكن
ُقيِّد علينا َح َس ُنه وسيئه في كتاب ال يترك صغيرة وال كبيرة إال
و»المؤمل غيب» ،ولكنه غيب عن الحس حاضر في َّ أحصاها.
آت ال شك فيه .وهذا الصنف شر الثالثة،النفس موجود عند اهلل ٍ
وهو الذي ال يذكر الموت وال يفكر فيه.
وصنف يذكر الموت ،ولكن كذكر الشاعر الفارسي عمر
الخيام الذي فتن بباطله الناس ،يقول :إذا كان الموت حق ًا ال
______________________
( )1أمس إذا أتت دون تعريف تكون مبنية على الكسر ،فإذا ُع ّرفت بأل
أعربت.
125
شك فيه وكانت الحياة قصيرة ال بقاء لها فلنمألها بالعشق والهيام،
وإذا كانت قد ُجبلت على المكاره واآلالم فلنهرب منها إلى كأس
المدام ،فنمضي العمر في شعر وسكر وعهر. ُ
وصنف يذكر الموت ولكن كذكر أبي العتاهية ،مأل بذكر
ال ما بعد
الموت بيانه وشغل به لسانه ،ولكنه ال يذكر إال قلي ً
الموت .فكأنه يقول مع القائل« :رأيت الموت غاية كل حي»،
ال».
الرجام( )1نوم ًا طوي ً
والقائل اآلخر« :إن تحت ِّ
وأهل الحق الذين عرفوا أنه ليس غاية ولكنه البداية وما
هو بنوم ولكنه يقظة من النوم> :الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا}،
وعرفوا أن وراء الموت حياة أطول ،حياة ال تكاد تنتهي ،إما أن
يكون فيها النعيم المقيم وإما أن يكون فيها العذاب األليم .وهذا
هو الصنف الرابع ،صنف المؤمنين المهتدين.
الحياة األخرى
هذه هي الحياة الحقيقية ،من أصيب بقصر النظر لم يرها،
ابتلي بضعف العقل لم يصدق الخبر عنها ،ومن كان له بصر ومن ُ
يرى وعقل يدرك رأى أن حياة اإلنسان مراحل ،فلقد كان يوم ًا
مكوم ًا في بطن أمه يعيش بين أحشائها ،ولو كان
منطوي ًا على نفسه ّ
يفكر يومئذ لظن أن هذه هي الحياة ،فهو يتمسك بها وال يخرج
منها إال مرغم ًا .ولو كان ينطق لحسب هذا الخروج موت ًا ودفن ًا في
______________________
( )1جمع ُرجمة ،وهي الحجارة التي ُتنصب على القبر أو هي القبر نفسه
(مجاهد).
126
األعماق ،مع أنه والدة وانتقال إلى عالم أرحب هو هذه الدنيا.
والذي نراه نحن موت ًا وخروج ًا من هذه الدنيا هو في الحقيقة والدة
وانتقال إلى عالم أرحب ،إلى عالم البرزخ ،البرزخ بين الدنيا
المادية الفانية والحياة األخرى الباقية.
االستعداد للموت
اإلنسان مغروز فيه طول األمل ،فهو غريزة في نفسه ،لذلك
كان الموت أقرب شيء في حواسنا منا وأبعد شيء في أفكارنا
عنا .نرى مواكب األموات تمر بنا كل يوم ونحس أننا باقون،
ونمشي في الجنائز ونحن نفكر في الدنيا أو نتحدث عنها ،ونرى
القبور تمأل رحاب األرض وال نفكر أننا سنكون يوم ًا من ساكنيها.
أستغفر اهلل ،بل تسكنها أجسادنا.
وما األجساد؟ إن الرجل يتوسخ قميصه فيخلعه ويرميه،
والطفل يولد فيدع مشيمته ويخرج منها ،والرجل يموت فيفارق
جسده ويتخلى عنه ،وما الجسد إال قميص ُيلبس ويخلع ،وما
يوضع في التراب إال الجسد.
اإلنسان ينسى الموت ،ولكن المؤمن يذكره دائم ًا ويكون
أبداً على استعداد الستقباله ،يستعد بالتوبة واالستغفار ورد
الحقوق .كلما أصبح وكلما أمسى حاسب نفسه ،فشكر اهلل على
ما وفقه إليه من خير واستغفره مما وقع منه من شر .يذكر اآلخرة
ويخاف يوم ًا تتقلب فيه الوجوه واألبصار ،يخشى ما بعد الموت
من العذاب ويرجو ما بعده من المكافأة ،ويستعين على ذلك
ابتغاء رضا اهلل واحتساب ًا لما عنده.
َ بالصبر والصالة وفعل الخير
127
ساعة الموت من أدلة اإليمان
{الحلْقوم}، ُ تأمل قوله تعالى{ :فلوال إذا بل ََغت} أي الروح
وجاءت ساعة الموت التي ال مهرب منها{ ،وأنتم حينئذ} تح ّفون
بالمحتضر الحبيب إليكم العزيز عليكم {تنظرون} ،تظهرون
العاطفة ،تستنجدون الطب ،تبذلون الجهد ،تعانقونه وتحدبون
عليه {ونحن أقرب إليه منكم ولكن ال ُتبصرون} ألن حواسكم
ال تدرك إال عالم المادة ،وقد أوشك بأن يدخل عالم ما وراءها
غير َمدينين} كما تزعمون وغير خاضعين لرب إن كنتم َ {فلوال ْ
الكون ومالكه وكان لكم شيء من األمر { َترجعونها إن كنتم
تسخرون تردون الروح إلى الجسد بعدما خرجت منهّ ، صادقين} ّ
لذلك عقولكم وعلومكم وأموالكم .فإن لم تستطيعوا ف ِل َم ال
رب ًا مالك ًا لكم هو أحياكم وهو يميتكم وهو تقرون بأن لهذا الكون ّ
ّ
بعد ذلك يحييكم؟
شبهة تافهة
ال يسألون فيه ساخرين ،يقولون:
قرأت لبعض الملحدين فص ً
إذا كان يموت في لحظة واحدة ميت في أميركا وميت في الصين
روحيهما؟
فكيف يقبض َملَك الموت َ
الملَك بالنسبة ألرضنا كمثل أحدنا لو
ال :إن مثل َ
الجواب :أو ً
انحنى على ِق ْربة فيها آالف النمل أو كأس فيها ماليين الجراثيم،
بل إن الملك من المالئكة أكبر من ذلك بالنسبة إلينا ،وما كرتنا
األرضية في ك ّفه إال كحبة قمح في كف واحد من البشر ،هذه
واحدة.
128
لملَك الموت أعوان ًا في قبض الروح ،قال تعالى: والثانية :إن َ
الموت َت َو َّفته ُر ُسلُنا وهم ال ُي َف ّرطون}.
ُ أحدكم
{حتى إذا جاء َ
يوم القيامة
اإليمان باليوم اآلخر (يوم القيامة) هو الركن الثاني من
قرن
ذكر اإليمان باهلل في القرآن حتى ُي َ
يكاد ُي َ
ُ أركان العقائد ،وال
به اإليمان باليوم اآلخر.
والمؤمن يذكره دائم ًا ،فيكثر من الخير ابتغاء ثوابه ويبتعد
محرم لذيذ ذكر
عن الشر -ما استطاع -خوف عذابه .إذا عرض له َّ
وإن
وزهدها في لذتهْ ، ألم اآلخرة على ارتكابه فصرف نفسه عنه ّ
واجه واجب ًا صعب ًا ذكر ثواب اآلخرة على فعله فحمل نفسه عليه
ورغبها فيه :تتجافى جنوبهم عن المضاجع ،ينفقون في السراء ّ
والضراء ،يؤثرون على أنفسهم بالخير ولو كانوا أحوج إليه،
قلوبهم ،ثم
يفكّ رون في شدة عقاب اهلل َفت ْو َجل من سماع اسمه ُ
يتذكرون رحمته فتلين قلوبهم به وتستريح إلى ذكره.
موعد الساعة
لقد صرح القرآن بأنه ال يعلم موعدها أحد من الخلق ،ال
علمها عند
يعلمه إال اهلل وحده{ :يسألونك عن الساعة ،قل إنما ُ
ربي ال ُي َج ّليها لوقتها إال هو} ،وأنها ال تأتي إال بغت ًة ،وأن أمرها
ّ
{كلمح البصر أو هو أقرب}.
ولكن ورد في القرآن أنه يسبقها أحداث غريبة تقع في هذا
الكون ،منها :أنه يخرج من األرض دابة تكلم الناس ،وهذا خبر
129
حق من الغيب الذي ال ُيدرك بالعقل البشري وال نعلم عنه إال
ما أعلمنا اهلل به ،واهلل لم يبين لنا ما هي هذه الدابة وما صفتها،
فوجب اإليمان بها وترك الكالم فيها بال دليل سمعي ثابت.
دك سد يأجوج ومأجوج وخروجهم منه .واهلل ومن ذلكّ :
وأي األمم هم وما بلدهم وأين
لم يبين من هم يأجوج ومأجوج ّ
يقع السد ،فإن استطعنا تحديد ذلك بالبحث واالستقراء ووصلنا
إلى نتيجة ال تخالف خبر القرآن قلنا بها ،وإال صدقنا بخبر القرآن
الحق
ُّ الوعد
ُ {واقترب
َ ال ووقفنا عند حدوده ،قال تعالى: مجم ً
أبصار الذين كفروا}.
ُ فإذا هي شاخص ٌة
وأمور أخرى ورد بها الحديث الصحيح( )1ولم يصرح
ويشرب الخمربذكرها القرآن ،منها أنه ُيرفع العلم ويظهر الجهلُ ،
ويقل الرجال ويكثر النساء ،وتندر األمانة وتضطرب
ّ ويظهر الزنا،
موازين المجتمع فيرتفع المنخفض وينزل العالي .ثم يكون ظهور
الدجال ونزول عيسى ناصراً لشريعة خاتم الرسل محمد صلى اهلل
عليه وعلى إخوانه المرسلين.
ابتداء الساعة
الذي يظهر من آيات الساعة في القرآن الكريم أن ابتداءها
______________________
واحد عن واحد ال نستطيع أن نجزم بأن
ٌ ( )1األحاديث التي يرويها
الرسول قد نطق بها كما نجزم بصحة نص القرآن ،لذلك نحكم بكفر
يكذب شيئ ًا من القرآن وال نحكم بكفر من ينكر شيئ ًا من هذه
من ّ
األحاديث.
130
يكون بزلزال هائل ال يشبه ما عرف الناس من الزالزل( ،)1يقع
-واهلل أعلم -والحياة البشرية ال تزال مستمرة على األرض والناس
ال يزالون أحياء في الدنيا ،فيصاب المجتمع البشري بفزع عام
ورعب شامل ،يبلغ من شدته أن األم تذهل عن رضيعها (على
والم ْيل إليه) والحوامل يسقطن
الحنو عليه َ
ّ ما ُر ّكب في طبعها من
-من الرعب -ما في بطونهن ،والناس يكادون يفقدون عقولهم
ولكن عذاب
ّ كارى
بس َ
الواعية فيغدون كأنهم سكارى {وما هم ُ
اهلل شديد}.
يرجح القول بأن هذا الزلزال قبل القيامة قوله تعالى:
ومما ّ
األرض أثقالها ،وقال
ُ األرض زلزالها ،وأخرجت ُ {إذا ُزل ِزلَت
باق في األرض يشهد الزلزال ويسأل اإلنسان ما لها؟} فاإلنسان ٍ
ُ
عن أمره ويبحث أسبابه(.)2
حوادث فلكية
يوم القيامة وما يكون فيه وما يأتي بعده هو -كما تقدم القول-
من األمور الغيبية ،ليس للحواس إحاطة به كما تحيط بالمخلوقات
المادية ،وال للعقل البشري حكم عليه كما يحكم على الحوادث
______________________
( )1في الفصول األولى من الكتاب جعلت الكالم عام ًا للمسلم وغير
أكثر من أدلّة النقل ،فلما
المسلم واعتمدت فيه على أدلّة العقل َ
وصلت إلى شعب اإليمان وصار الكالم موجه ًا على الغالب للمؤمن
جعلت االعتماد على األدلة السمعية وأكثرت االستشهاد باآليات.
( )2وقال قوم في ذلك :بل هو البعث ،لقوله تعالى{ :وأخرجت األرض
محتمالن ،وال أجزم بل أقول :اهلل أعلم.
َ أثقالها} .والقوالن
131
الدنيوية ،وعمله كله في فهم النصوص وإدراك معناها.
وفي القرآن نصوص صريحة تدل على أن كثيراً من السنن
سميناها اصطالح ًا >قوانين الطبيعة<) تطرأ عليها
الكونية (التي ّ
تبديالت وتعديالت ،فكأن استمرارها َمنوط باستمرار هذه الحياة
الدنيا ،فإن انتهت مدتها انتهى أمد هذه القوانين .وكأن العالم
الذي تشاهده بأرضه وكواكبه -على ما فيه من اإلتقان العجيب-
بناء مؤقت أُقيم لغرض محدود ولمدة محدودة.
تفتت من هذه الحوادث أن الجبال تصيبها رجفة أرضية هائلة ّ
صخورها حتى تصير كالقطن المنفوش ،ويغدو الجبل العظيم تلاّ ً
ال ،ثم تنسف نسف ًا فتسير كما تسير كثبان رملية، متداعي ًا وكثيب ًا مهي ً
ثم تغدو سراب ًا وتصير األرض كلها قاع ًا مستوي ًا.
وخبر أن البحار تنفجر مياهها ثم
ّ خبر به القرآن،
كل هذا ّ
تتبخر ،والكواكب ينثر عقدها ويتبدل مسيرها ،والقمر ُيجمع مع
الشمس ،والسماء ُتكشط وتنشق وتنفطر ،ثم ُتطوى كما تطوى
بدل
الرسائل في السجل الكبير ،ثم تكون النتيجة أن األرض ُت َّ
تبدل فكأنها غير السماء .وكل
فكأنها غير األرض ،وأن السماء ّ
هذا خبر به القرآن.
النفخ في الصور
ال نعرف ما هو الصور على حقيقته وال كيفية النفخ فيه،
وكل ما يقال في وصفه وتفصيل أمره ما لم يكن مستنداً إلى دليل
يعول عليه .والذي جاء في القرآن أنه ُينفخ فيه
سمعي صحيح ال َّ
صعق من
وينفخ فيه ُفي َ فيفزع من في السماوات ومن في األرضُ ،
132
في السماوات ومن في األرض .والظاهر من القول أنهما نفختان،
وربما كانت (وهذا أرجح) نفخة الفزع هي نفخة الصعق ،فال يبقى
أحد إال مات {إال من شاء اهلل} ،وتمضي بعد ذلك من األحياء ٌ
مد ٌة اهلل أعلم بمداها ،لم يخبرنا اهلل عنها ،ثم ُينفخ نفخة البعث
ويبعثون من قبورهم {ينظرون} {إلى فتعود الحياة لكل ميت ُ
ربهم ينسلون}.
البعث والحشر
ُيبعث كل ميت على الحالة النفسية التي مات عليها ،يظن
أنه لم يمر عليه إال ساعة أو ساعات ،كالذي تصدمه سيارة وهو
يشتري أو يبيع أو يتحدث ،فيغمى عليه ويغيب عن وعيه ثالثة
تم حديثه أو يكمل بيعه وشراءه ،ال يدريأيام ،فإذا صحا عاد ُي ّ
أنها مرت عليه أيام ثالثة .وكذلك يكون الناس يوم البعث ،لذلك
ع ّلمنا الدين أن نسأل اهلل حسن الخاتمة.
مر
وقد أقام اهلل للناس أمثلة على ذلك في الدنيا ،منها الذي ّ
بعد موتها؟
هلل َ
على القرية الخالية الخاوية فقال{ :أ َّنى ُيحيي هذه ا ُ
لبثت يوم ًا أو بعض
لبثت؟ قال ُفأماته اهلل مئة عام ثم بعثه ،قال كم َ
يوم ،قال بل لبِ ْث َت مئة عام} .وأهل الكهف الذين ناموا ثالثمئة
وبعثوا يشترونوتسع سنين ،ثم قاموا يظنون أنهم ناموا ساعاتَ ،
بنقودهم التي أُلغي التعامل بها وهم ال يدرون.
ال
هذه حال الناس عند البعث ،يظن كل منهم أنه نام قلي ً
غير واستيقظ ،يتناقشون فيما بينهمِ ُ :
{يقس ُم المجرمون ما لبثوا َ
العلم واإليمان لقد لبثتم في كتاب
َ ساعة}{ ،وقال الذين أوتوا
133
يوم البعث ولكنكم كنتم ال تعلمون}.
اهلل إلى يوم البعث ،فهذا ُ
يظنون أنهم ال يزالون في الدنيا ،ولكن هول الموقف يقطع
أنساب بينهم يومئذ} .يرى المرء صديقه
َ كل رابطة بينهم{ :فال
الحميم فال يسأل عنه وال يهتم به ،ال يهتم أحد إال بنفسه ،يهرب
ويقدمهم
يضحي بهم ّّ من أخيه وأمه وأبيه ومن زوجته وبنيه ،بل إنه
فدية له لو كان ُيقبل منه الفداء.
ويتركون أمداً اهلل أعلم بمدته يموج بعضهم في بعض ،ثم ُ
ُيجمعون ُفيساقون إلى الحشرُ ،يساقون جميع ًا .البشر كلهم ،من
آدم إلى آخر واحد من ذريته ،من مات منهم على فراشه ،ومن
غرق في البحر ،ومن أكله السبع ،ومن سقط من الطيارة ،ومن
رماده في الهواء ،يعيدهم الذي أوجدهم من
ُ أُحرق بالنار ُ
وذري
العدم أول مرة ويجمعهم جميع ًا ،ويساقون إلى أرض المحشر،
اع يقول
الد ِ
{مهطعين إلى َّ هم والجن والشياطين والوحوشُ :
يوم َع ِسر}.
الكافرون هذا ٌ
ثم يأمر ربنا بجهنم فتبرز للناس من بعيد ،ويقول لهم{ :ألم
أعه ْد إليكم يا بنى آدم أن ال تعبدوا الشيطان ،إنه لكم عدو ُمبين،َ
أض ّل منكم ِجبلاّ ً كثيراً،
صراط مستقيم ،ولقد َ ٌ اعبدوني هذا
وأن ُ
توعدون} .ويأمر ربنا جهن ُم التي كنتم َ
أفلم تكونوا تعقلون؟ هذه ّ
عرفون ،فيتمنى كل منهم أنه لم يكن فرز المجرمون ويمتازون ُفي َ
ُفي َ
كنت تراب ًا}.ليتني ُ
بشراً ويقول{ :يا َ
ثم يجمع اهلل الكافرين في جهنم مع الذين كانوا يعبدونهم
من دون اهلل ويظنونهم آلهة من الجن والشياطين ،وما اخترعوا
134
من أسماء ما لها حقائق وما أنزل اهلل بها من سلطان ،زعموها
سموه زيوس وأفروديت ،والرومان: آلهة كما فعل اليونان بما َّ
جوبيتر وفينوس ،والفرس :هرمز وأهرمان ،والمصريون :حابي،
والعزى عند العرب ...زعموهم شركاء
ّ والفينيقيون :بعل ،والالت
فدعوهم فلم
شركائي الذين زعمتمَ ،
َ هلل ،فيقول لهم{ :نادوا
ناصرون؟}.
يستجيبوا لهم} ،فقال لهم ربنا{ :ما لكم ال َت َ
وينظر الضعفاء إلى المستكبرين الذين جعلوا أنفسهم في
الدنيا زعماء فقادوا قومهم إلى الشرك وإلى الكفر ،فاستنصروهم
عنا من عذاب اهلل منغنون ّ
فقالوا{ :إ ّنا كنا لكم َتب َع ًا فهل أنتم ُم َ
شيء} فأجابوهم بالبراءة منهم وأقروا بعجزهم عن أن ُيغنوا عنهم
وال عن أنفسهم شيئ ًا ،ووقف الجميع خاضعين خانعين ،قد ذلوا
ومحيت جميع ًا أمام رب العالمين ،وذهبت األلوهيات المزعومة ُ
الزعامات الباطلة المكذوبة ،وانفصمت ُعرى الحلف الشيطاني
بين الكفار وما كانوا يعبدون من مخلوقات ،وتبرأ كل معبود
بالباطل ممن كان يعبده.
{لما ُق ِض َي
حتى الشيطان يعترف لمن تبعه بكذبه فيقولّ :
فأخلفتكم} .ويتملصُ إن اهلل وعدكم وعد الحق ووعدتكم األمر ّ
ُ
مقراً بضعفه وعجزه في الدنيا وأنه
ّ عليهم، كلها ويلقيها التبعة من
لم يكن يملك إال الوسوسة والتضليل ،ما كان له من حول وال
ضر ويقول{ :وما كان لي عليكم طول وال كان يقدر على نفع وال ّ
فاستجبتم لي( )1فال تلوموني ولوموا
ُ من سلطان إال أن دعوتكم
______________________
( )1وفي هذا دليل على بطالن الدجالين الذين يزعمون أنهم يستخدمون=
135
كيد الشيطان كان ضعيف ًا}.
{إن َ
أنفسكم}ّ ،
الحساب
وال بد من الوقوف للحساب ،فيقام ميزان العدل المطلق
الذي ال يضيع مثقال حبة من خردل وال ذرة من غبار ،وال واحدة
من الكهارب (اإللكترونات) التي تسبح في فضاء الذرة وال أصغر
قدر ظروفه كلها، من ذلكُ ،تحصى على المرء أعماله كلها و ُت َّ
ال له في جانب الخيرة وإخالصه القلبي فتكون ثق ً ّ وتبرز نياته
الحسنات من الميزان ،وما كان في قلبه من نفاق أو رياء فيكون
ال عليه في جانب السيئات من الميزان(.)1
ثق ً
قدمه
اإلنسان إال عملُه الذي ّ
َ محاكمة عادلة ،ال ينفع فيها
يؤملها ،ال يسعفه ما كان له
وعفو ربه الذي يرجوه ورحمته التي ّ ُ
من مال إال ما أنفق منه هلل وفي سبيل اهلل ،وال يعينه ما كان له من
جاه إال إن استعمله في طاعة اهلل .وال يستطيع أحد أن ينفع أحداً
أبداً ،وال تملك نفس لنفس شيئ ًا ،وال يجد أحدهم شفيع ًا يشفع
له إال من بعد إذن ربه.
وشفاعة اآلخرة ليست كشفاعة الدنيا ،فالشفيع في الدنيا
يدخل على الحاكم يدلّ عليه بمودته له أو جاهه عنده ،يلزمه
الشفاعة ولو كان في قرارة نفسه ال يريدها ،فيحابي بها موظف ًا
______________________
فيضرون بهم من يريدون وينفعون من يشاؤون، ّ = الجن والشياطين
وأنهم يستخرجونهم من أجسام المصابين بداء الصرع.
( )1كل ما قالوا في وصف الميزان وشكله ال دليل عليه.
136
أو يبرئ بها متهم ًا .أما الشفاعة في اآلخرة فتكون عندما يريد ربنا
برحمته العفو عن أحد ويريد بكرمه تشريف أحد ،يجعله سبب ًا
ظاهراً لهذا العفو فيأذن له بالشفاعة له ،فيشفع بإذنه وأمره.
الشهود والبينات
محاكم الدنيا التي يتوالها حكام من العباد لها عدالة بشرية
محدودة ووسائل لإلثبات ظاهرة معدودة ،ولكن محاكمات
حد لها،
اآلخرة قاضيها رب األرباب وعدالتها مطلقة ال ّ
وبيناتها شهادات األنبياء والمالئكة الذين كانوا يحصون األعمال
ّ
ويدونون الحسنات والسيئات ،والصحف التي ُد ّونت فيها هذه ّ
اإلحصاءات ،واعترافات المذنبين وشهادات األعضاء.
شهادة الرسل
{وو ِضع
ُ إذا كان يوم الحساب أُحضر النبيون كما قال تعالى:
بالنبيين} .وكانت محاكمة كل أمة وفق شريعتها ّ وجيء
َ الكتاب
ُ
دعى إلى كتابها}،كل أمة ُت َ
بحضور نبيها{ :وترى كلَّ ّأمة جاثيةّ ،
ٍ
بشهيد وجئنا بك على هؤالء شهيداً}. {فكيف إذا جئنا من كل ّأم ٍة
الكتب والصحف
تسجل فيها أعمالنا كلها في الدنيا تكون
هذه الصحف التي َّ
خفية ،سراً ال يدري به الخلق ،فإن تاب العبد من ذنوبهمطوية َم ّ
المدونة فيها التوب َة الصادقة ُمحيت منها ،وإال بقيت فيها ،فإذا
َّ
ُ
حل يوم الحساب ُنشرت وأعلنت ،كنتائج االمتحانات تكون سراً
عند الفاحصين فال يعلم برسوب الراسب سواهم ،فإذا جاء وقت
137
إعالنها عرف بذلك الناس وافتضح الراسب في أهله وبين إخوانه.
ولكن الفضيحة هنا على رؤوس الخالئق جميع ًا ،وهي الفضيحة
الكبرى ،والراسب هنا يسقط في جهنم ويخسر -إن كان كافراً-
سعادة األبد ويلقى العذاب الدائم.
ُتنشر الصحف وتو َّزعَ ،فيلقى كل إنسان كتابه منشوراً ويقال
فمن كانت اليوم عليك َحسيب ًا}َ .
َ كتاب َك كفى بنفسك له{ :اقرأ َ
دونها ملَك اليمين أكثر ناوله كتابه بيمينه بشار ًة حسناته التي َّ
{يحاس ُب حساب ًا يسيراً} ،فإذا رأى ما فيه فرح َ له بأنه سوف
واستبشر ،كما يفرح التلميذ الذي يأخذ نتيجة االمتحان فيرى
أنه ناجح ويحب أن يطلع على نجاحه اإلخوان واألقران ،يقول:
القظننت} أي أيقنت في الدنيا {أني ُم ٍُ {هاؤ ُم اقرؤوه كتاب َِي ْه .إني
ُ
ّ
دونها ملك الشمال أكثر ناوله حساب َِي ْه} .ومن كانت سيئاته التي َّ
كتابه بشماله ،فيبكي على نفسه ويوقن بهالكه ويقول{ :يا ليتني
أوت كتاب َِي ْه ،ولم أد ِر ما حساب َِي ْه ،يا ليتها كانت القاضية ،ما
لم َ
لطاني ْه}{ ،وأما من أوتِ َي َ
كتاب ُه وراء مالي ْه ،هلك عني ُس َ عني َ
أغنى ّ
ظهره فسوف يدعو ُثبوراً ويصلى َسعيراً}.
مدون ًا فيها
ويقرأ المجرمون كتبهم فيرون كل عمل عملوه َّ
ويلتنا! ما لهذا
{أحصاه اهلل ونسوه} ،فيقولون متعجبين{ :يا َ
الكتاب ال يغادر صغير ًة وال كبيرة إال أحصاها؟ ووجدوا ما عملوا
ربك أحداً}، حاضراً} .وأيقنوا أنهم ظلموا أنفسهم{ :وال يظلم ُّ
وندموا على ما فرطوا حين اتبعوا وسوسة الشيطان وهوى النفس
قت
ون :ل ََم ُ
ناد َ
{ي َ األمارة بالسوء ،فمقتوا لذلك أنفسهم ،وإذا همُ :
ّ
دعون إلى اإليمان فتكفرون}. أنفسكم إذ ُت َ
أكبر من مقتكم َاهلل ُ
138
الدفاع ثم اإلقرار
ثم إذا وقف الكفار للحساب لجؤوا إلى اإلنكار وحلفوا كذب ًا
ممن لهم الظواهر، على براءتهم ،يظنون أنهم أمام حاكم من البشر ّ
ونسوا أنهم أمام رب العالمين الذي يطّلع على ما في النفوس ويعلم
فون لكم} ،يقولون: ِ ِ
ما ُتك ّن الضمائر{ :فيحلفون له كما يحل ُ
كنا مشركين} .فيمسك اهلل بألسنتهم ويمنعهم من {واهللِ ِّ
ربنا ما ّ
أن ينطقوا ،ويأمر أعضاءهم التي مارست الحرام فت ّقر بما صنعت،
والرجل بما مشيت إليهوتنطق اليد معترفة بما اجترحت من حرام ِّ
{اليوم َنختِ ُم على أفواههم ،وتك ّلمنا أيديهم وتشهد
َ من حرام:
أرجلهم بما كانوا يكسبون}.
فإذا أُخذوا بإقرارهم وثبت الذنب عليهم عاتبوا أعضاءهم:
{وقالوا لجلودهم :لِ َم شهدتم علينا؟ قالوا :أنطقنا ا ُ
هلل الذي أنطق
كل شيء} .كانوا يختبئون في الدنيا ليأتوا الفواحش ،مع أن
المتحدث اليوم في الرائي (التلفزيون) يكون في غرفة لها أبواب
سمع كالمه
وي َمغلقة وجدران مطبقة ،ثم يراه من ورائها الماليين ُ
فإن كان هذا مما ُو ِّفق إليه البشر في الدنيا فكيفويشهد عليهْ ، ُ
بعلم اهلل وحسابه في اآلخرة؟ لذلك يؤنبهم ربهم ويقول لهم:
يشهد عليكم سمعكم وال أبصاركم وال َ {وما كنتم َتستترون أن
جلودكم} .وكيف يفر المرء من جلده وبصره وسمعه وهو معه
أن اهلل ال يعلم كثيراً مما تعملون ،وذلكمقائم به؟ {ولكن ظننتم ّ
فأصبحتم من الخاسرين}.ُ أرداكم
ُ ظنكم الذي ظننتم بربكم،
ُ
وهذه عاقبة كل كافر باهلل منكر ليوم الحساب ال يمتد بصره
إلى أبعد من هذه الدنيا ،يجحد اآلخرة وهي آتية ال ريب فيها،
139
لع عليه وأعضاؤه التي يمارس بها
ويختفي بذنبه من اهلل واهلل مطّ ٌ
الذنوب ستشهد عليه ،فكيف يتوارى من شاهد هو معه ال يستطيع
أن يفارقه؟
عفوك وغفرانك ،واستر علينا في اآلخرة كما سترتاللهم َ
الستار.
علينا في الدنيا وأنت الغ ّفار ّ
اعتراض تافه
وقد كان فريق من الناس يقولون لنا ساخرين ونحن صغار:
«كيف تنطق اليد والرجل وما لهما لسان وما تقدران على بيان؟»
فاخترعت آالت التسجيل والسينما الناطقة ،وصارت ُتقام في ُ
تصور باألشعة التي ال ّ مداخل المصارف آالت تصوير خفية
ُترى( )1تتحرك لمجرد اجتياز الشخص من أمامها ،فإذا سرق
السارق وأنكر عرضوا عليه الفلم ،يعيد حركاته وسكناته وهمسه
حجة على المخترعات َّ لنفسه وكالمه مع رفيقه ...فكانت هذه
أولئك المتعالين الجهالء ،كأنها تقول لهم :ويحكم! الذي أنطق
وسجل الحركات والكلمات تعلن كالم السارق ّ الشريط في الدنيا
الذي أخفاه وتثبت عليه فعله الذي أنكره ،الذي َو َّفق إلى هذا في
والرجل في اآلخرة؟
الدنيا أال ُينطق اليد ِّ
الحساب ونتائجه
الحساب أنواع ،منه الحساب اليسير كحساب الذين أُعطوا
كتابهم بأيمانهم ،ومنه الحساب الشديد كحساب القرية التي
______________________
( )1األشعة التي يسمونها >تحت الحمراء<.
140
عتت عن أمر ربها .ويخرج الناس بنتيجة الحساب وهم أصناف:
المشأمة.
السابقون المقربون ،وأصحاب الميمنة ،وأصحاب َ
وأما
يحان وجن ُة نعيمّ .
ور ٌ فر ْو ٌح َ
المقربين َ
َّ {فأما إن كان من
ّ
وأما
فسالم لك من أصحاب اليمينّ . ٌ إن كان من أصحاب اليمين ْ
إن
المكذبين الضالّين ُفن ُزل ٌ من حميم و َت ْصلي ُة جحيمّ .
ّ إن كان من
فسبح باسم ربك العظيم}. حق اليقينِّ ،
هذا ل َُه َو ُّ
ورود جهنم
الجنة وجهنم
141
وأنهاراً من خمر وأنهاراً من عسل ،وأن فيها الغلمان والحور
العين ...كل ذلك جاء على وجه التقريب إلى األفهام ،ألن اللغات
البشرية موضوعة في األصل للتعبير عن األشياء األرضية ،ومن
المح َّقق أن أنهار الجنة ليست كأنهار الدنيا ،وال لبنها وعسلها
وخمرها كخمر الدنيا وعسلها ولبنها ،وال حورها كنساء األرض
وال غلمانها كغلمانها ...ولو رجعنا إلى المقدمات التي قدمناها
في أول الكتاب (وهي قواعد العقائد) لذكرنا أن الخيال البشري
يعجز عن اإلحاطة بها أو تم ّثل حقيقتها.
فصلوا في وصفها من المفسرين لم يستندوا في ذلكوالذين ّ
إلى دليل ،وكان منتهى جهدهم أن قاسوا اآلخرة على الدنيا كما
قاس المتكلمون عدالة اهلل وصفاته على ما عرفوا من الصفات
البشرية والعدالة البشرية ،فتخبطوا في متاهات وضالالت كان
ينجيهم منها ويبعدهم عنها ،أن يقفوا عند حدود النصوص وأن
يسلكوا مسلك السلف ،وأن يقروا بعجز العقل عن إدراكها
والخيال عن تمثيلها.
ومن هذه المباحث السقيمة والمجادالت العقيمة ما قالوه
عن الحور العين وهل االستمتاع بهن كاالستمتاع بنساء الدنيا،
ونسوا أن هذه المتعة على شكلها المعروف غايتها الحمل وبقاء
النسل( )1وال داعي لذلك في اآلخرة ،فكان الحق أن نؤمن بكل ما
ورد في القرآن ،ثم نشتغل بالعمل الصالح الذي يوصلنا إلى الجنة
______________________
( )1ولو فكر العاقل الستقبحها ،ولكن اهلل وضع الشهوة لمنع هذا التفكير،
المخدر) ليمنع الشعور بألم العملية الجراحية.
ِّ كما ُوضع البنج (أي
142
ال من المناقشة في تفصيل أمرها والخالف على وصف حقيقة بد ً
ما فيها مما لم يذكره القرآن لنا.
دخول الجنة
والتشهي ،ولكن باإليمان
ّ وليس دخول الجنة بالتمني
يعمل ُسوءاً
ْ أماني أهل الكتابَ ،من
ِّ بأمانيكم وال
ِّ والطاعة{ :ليس
علم اهلل الذين
ولما َي ِ
حسبتم أن تدخلوا الجن َة ّ
ُ ُي ْج َز به}{ ،أم
ويعلم الصابرين}.
َ جاهدوا منكم
ال للخير داعي ًا
فالمؤمن الذي يدخل الجنة إما أن يكون فاع ً
ال على ذلك بنفسه ال الجهد في سبيل إعالء كلمته عام ً
إلى اهلل باذ ً
وماله ولسانه ،فيكون من الذين جاهدوا ،فإن لم يستطع فعليه
بالشر وال متبع ًا لدعوته ،وأن
ّ ال
-على األقل -أن ال يكون منفع ً
َيسلم بنفسه وأهله ،وأن يصبر على ما يلقى في سبيل تمسكه
بدينه ،فيكون من الصابرين.
فإذا انتهى الحساب واجتاز المؤمن الصراط تحققت النجاة:
ربهم إلى الجنة ُز َمراً ،حتى إذا جاؤوها {وسيق الذين ا ّت َقوا َّ
َ
سالم عليكم ِط ُبتم فادخلوها
ٌ و ُفتحت أبوابها وقال لهم َخ َز ُنتها
()1
نتب َّوأ
وع َده وأورثنا األرض َ
صد َقنا ْ
خالدين ،وقالوا الحمد هلل الذي َ
أجر العاملين}. ِ
من الجنة حيث نشاء ،فن ْع َم ُ
______________________
( )1في آية جهنم قال {حتى إذا جاؤوها ُفتحت أبوابها} ألنها كسجن
مغلوق األبواب فال ُتفتح إال الستقبال داخل أو خروج خارج ،أما
هنا فقال {و ُفتحت أبوابها} ألنها مفتحة دائم ًا ،وإن كان ال يدخلها
أحد إال بإذن ربها خالقها.
143
وصف الجنة
ّأما سعتها فإن عرضها عرض السماوات واألرض .وال
تعجبوا من هذا فإن اآلخرة بالنسبة لهذه الدنيا بالنسبة لبطن األم.
دار واحدة من دور
أوليست ٌ أما يرى الجنين بطن األم دنياه كلها؟ َ
أوسع من دنيا الجنين باآلف المرات؟
َ الدنيا
هذه الجنة أُ ِع ّدت للمتقين .ومن هم المتقون الذين أُ ِع ّدت
لهم؟ وماذا كانوا يصنعون لعلنا نصنع مثلهم فنكون معهم؟ لقد ّبين
والضراء ،والكاظمين
ّ السراء
ّ أن المتقين هم{ :الذين ُينفقون في
الغيظ ،والعافين عن الناس ،والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا َ
أنفسهم ذكروا اهلل فاستغفروا لذنوبهم} .هذه بعض صفات
المتقين ،فمن ا ّتصف بها -بعد تصحيح العقيدة وصدق التوحيد-
أعدها لهم.
أدخله اهلل بكرمه وم ِّنه هذه الجنة التي ّ
والجنة درجات ،ففيها >جنة النعيم< ،وهي أبعد من أن ينالها
دخ َل جنة نعيم؟} .وفيها
كل امرئ منهم أن ُي َ كل واحد{ :أيطمع ُّ
الجنة التي سماها اهلل >الغرفة< ووعد بها عباد الرحمن ،الذين
وصفهم في سورة الفرقان بأنهم الذين يجمعون صحة االعتقاد
وعلو األخالق ،فدل ذلك على أن ّ واستقامة السلوك وكثرة العبادة
ص بها هؤالء الذين جمعوا صفات الغرفة درجة عالية في الجنة ُخ َّ
الكمال وصبروا على مشقة القيام بها وصرف النفس عن رغبتها
في التم ّلص منها.
{جنات معروشات وغير معروشات} ّ وبين ربنا أن في الجنة
ّ
وأن فيها مكان ًا اسمه >جنة المأوى< ومكان ًا اسمه >جنات عدن<،
144
وأن لمن خاف مقام ربه جنتين ال جنة واحدة ،وأن فيها ما دعاه
بع ّل ّيين ،فدلَّ ذلك على أن نعيمها درجات وأهلها منازل.
أهل الجنة وأحوالهم
{ادخلوا الجنة أنتم
ُ يجتمع أهل الجنة بإخوانهم وأهلهم:
حبرون}{ ،هم وأزواجهم في ظالل على األرائك وأزواجكم ت ُ َ
متكئون}{ ،والذين آمنوا واتبعتهم ُذ ّر ُيتهم بإيمان ألحقنا بهم
ود وصفاء{ :ونزعنا ما في صدورهم ُذ ّر َيتهم} .يجتمعون على ٍّ
األس ّرة واألرائك فتكون مجالسهم عليها: ف لهم ِ ل}ُ ،ت َص ّ من ِغ ٍّ
{متكئين على ُس ُر ٍر مصفوفة} يقعدون عليها {إخوان ًا على
ُس ُر ٍر متقابلين} ،عليها فرش بطائنها من شيء نفيس سماه ُّربنا
>اإلستبرق< وحولهم جنتان ملتفتان ثمارهما قريبة من أيديهم دانية
منهم ،يخدمهم فيها خدم صغار{ :ويطوف عليهم غلمان لهم
{يطاف {يدعون فيها بكل فاكهة آمنين} ُ لؤلؤ مكنون} َ ٌ كأنهم
ول وال بيضاء ل َّذ ٍة للشاربين ،ال فيها َغ ٌ
َ عليهم بكأس من َمعين،
هم عنها ُي َنزفون}.
حاف من ذهب} ،أما شرابهم بص ٍ والطعام يطاف به {عليهم ِ
وأباريق وكأس من َمعين} .يؤتى إليهم َ ُفيحمل إليهم {بأكواب
يتخيرون ،ولحم طير مما ٍ
بكل ما يريدون من طعام{ :وفاكهة مما ّ
وظل ممدود، ّ سد ٍر مخضود ،وطلح منضود، يشتهون} {في ْ
وماء مسكوب ،وفاكهة كثيرة ،ال مقطوعة وال ممنوعة ،و ُف ُرش
مرفوعة} {ال يرون فيها شمس ًا وال َز ْم َهريراً ،وداني ًة عليهم ظال ُلها
ال} {تعرف في وجوهم َنضر َة النعيم} وذ ِّللَت ُقطو ُفها تذلي ً
ُ
فوجوههم {ناعم ٌة ،لسعيها راضية}.
145
يقصدون من أركان الجنة حيث شاؤوا ،يتقابلون فيها
{وه ُدوا إلى
ُ سالم} .ال يقولون إال خيراً
ٌ {تحيت ُهم فيها
ُ ويتحدثون
الط َّّيب من القول}{ ،وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ،قالوا
{فم َّن اهلل
قبل في أهلنا مشفقين} خائفين من دخول النار َ إنا كنا ُ
الس ُموم} .وهذا من ثمرة الدعاء واالستغفار: عذاب َّ
َ علينا ووقانا
الب ُّر الرحيم}.
قبل ندعوه ،إنه هو َ {إ ّنا كنا ِمن ُ
فإذا تحدثوا تذكروا في أحاديثهم أيام الدنيا وأحوال أهلها،
قائلوما كان من أمرهم فيها وما انتهوا إليه في اآلخرة{ :قال ٌ
منهم :إنه كان لي َقرين ،يقول} ساخراً معانداً {أئ َّنك ل َِم َن
لمدينون؟} قال (أي ِ
الم َص ِّدقين؟ أئذا متنا وكنا تراب ًا وعظام ًا أئنا َ
ُ
المؤمن في الجنة إلخوانه فيها){ :هل أنتم مط َّ ِل ُعون} على أهل
النار لتروه فيها؟ ودل ذلك على أنهم يستطيعون االطالع عليهم.
فرآه في سواء الجحيم} ،قال له (وهذا وما يأتي بعده لع ُ {فاطّ َ
إن يدل على أن أهل الجنة وأهل النار يتبادلون الحوار){ :تاهلل ْ
ويم ّن حضرين}ُ . الم َ لكنت من ُ ُ دين ،ولوال نعم ُة ربي كدت لَتُ ْر ِ
َ
{وزوجناهم بحور عين َّ يزوجهم بهن: عليهم ربهم بالحور العين ّ
كأمثال اللؤلؤ المكنون} ،أنشأهن إنشاء فجعلهن {أبكاراًُ ،ع ُرب ًا
إنس قبلهم طمثهن ٌ
ّ أتراب ًا} قاصرات الطرف (من الحياء) {لم َي
جان}.وال ّ
وتحيتهم فيها
ُ عواهم فيها سبحانك اللهم {د ُ وأهل الجنة َ
دعواهم أن الحمد هلل رب العالمين} .يقولون ُ سالمِ ،
وآخ ُر
أن هدانا اهلل ،لقد
لنهتدي لوال ْ
َ {الحمد هلل الذي هدانا لهذا وما كنا
ُ
لكم الجن ُة أورثتموها بما ِ
{ونودوا أن ت ُ
ُ ربنا بالحق}
جاءت ُر ُسل ّ
146
خرجين}بم َ
كنتم تعملون} {ال َي َم ُّسهم فيها َن َص ٌب وما هم منها ُ
الموت َة األولى} {والمالئكة يدخلون الموت إال َ
َ {ال يذوقون فيها
{سالم عليكم
ٌ كل باب} يحيونهم ويهنئونهم ،يقولون: عليهم من ّ
الفوز العظيم ،لمثل
ُ بما صبرتم فنِ ْع َم ُعقبى الدار}ّ .
{إن هذا ل َُه َو
المتنافسون}.
ْيعم ِل العاملون} {وفي ذلك َفلْيتنافس ُ هذا َفل َ
اللهم برحمتك التي وسعت كل شيء وعفوك ومغفرتك،
العفو الغفور ،أعذنا من عذاب النار وأدخلنا الجنة بسالم.
ّ وأنت
جهنم
المتبادر إلى األذهان أن جهنم كالنار التي نعرفها في الدنيا،
وإن ما َثلَتها فيلكنها أشد منها ،حتى إنها ال تقاس من شدتها بها ْ
نوعها .ولكن الذي يبدو لمن ينعم النظر في وصف القرآن لها أنها
من نوع آخر ،إذ لو كانت ناراً من نار الدنيا ألحرقت كل شيء
ظل ،وإن فتركته فحم ًا ،مع أن جهنم فيها شجر وفيها ماء وفيها ّ
كان ظلها وماؤها وشجرها للتعذيب ال للنعيم .ونار الدنيا تحرق
من يدخل فيها فيموت فيستريح من ألمها ،وجهنم (نعوذ باهلل
ف عنهم قضى عليهم فيموتوا وال ُي َخ َّف ُ
منها) ألم دائم ألهلها{ :ال ُي َ
من عذابها} ،ال تحرق الجلود ُفتذهبها ولكن تنضجها ،وكلما
بدلهم اهلل جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ،وأهلها نضجت جلودهم ّ
يعيشون ويفكرون ويتذكرون ويختصمون.
خر ُج
الز ُّقوم التي { َت ُ
وفي جهنم شجرة ،ولكنها شجرة َّ
من أصل الجحيم ،طَ ل ُْعها كأنه رؤوس الشياطين} .وفي جهنم
طعام وأهلها يأكلون ،ولكنهم آكلون من ثمر هذه الشجرة
147
الز ّقوم طعام األثيم،
{إن شجرة َّ
البطون} ّالخبيثة {فمالئون منها ُ
كغل ِْي الحميم} .وفي {يغلي في البطون َ
كالم ْه ِل} عكر الزيت َ ُ
جهنم شراب ،فيها ماء ولكنه ماء صديدُ ،يسقى منه الكافر فهو
سيغه} .فإذا أكلوا من هذه الشجرة وشربوا يكاد ُي ُ
ُ {يتجر ُع ُه وال
َّ
بعدها من الحميم ،من هذا الماء الذي وصفه القرآن ،وهم من
شدة عطشهم يشربون منه ُش ْر َب الهيم ،شرب اإلبل الهائمة
{ي ْص َه ُر به
العطشى ،ثم ُي َص ُّب من فوق رؤوسهم من هذا الحميم ُ
ما في بطونهم والجلود}.
وفي جهنم ثياب ،ولكنها من نار{ :فالذين كفروا ُقط ِّعت
َل ،ولكنها من نار: ظل وظُ ل ٌ
ثياب من نار} .وفي جهنم ّ ٌ لهم
َل} ،إنه {ظل من َل من ال َّنار ومن تحتهم ظُ ل ٌ
{لهم من فوقهم ظُ ل ٌ
َيحموم ،ال بارد وال كريم}.
وأصر على الكفر وأنكر ّ هذه عاقبة من آثر الدنيا وترفها
صرون على ترفين ،وكانوا ُي ُّ البعث{ :إنهم كانوا قبل ذلك ُم َ
نث العظيم ،وكانوا يقولون :أئذا ِمتنا وكنا تراب ًا وعظام ًا أئنا ِ
الح ِ
زفير وشهيق ،خالدين فيها ما دامت ل ََمبعوثون؟}{ ،لهم فيها ٌ
ال لما يريد}. إن ربك َف ّع ٌ
السماوات واألرض إال ما شاء ربكّ ،
دخول النار
إذا انتهى الحساب وحقت كلمة العذاب على الكفار ُيساقون
نفسها من كفرهم وإصرارهم إلى جهنم ُز َمراً ،فتغتاظ جهنم ُ
وخ َزنة جهنم ال ينقضي عجبهم من وإعراضهم عن رسل ربهمَ ،
حماقتهم وعنادهم فهو يعودون إلى سؤالهم{ :تكاد َت َم ّي ُز من
148
الغيظ ،ك ّلما أُلقي فيها فوج سألهم َخ َز ُنتها :ألم يأتِكم نذير؟} فلم
فكذ ْبنا و ُقلنا ما
يسعهم إال االعتراف {قالوا :بلى ،قد جاءنا نذير ّ
ّنزلَ اهلل من شيء}.
{إن أنتم إال في ضالل كبير}، ْ فقالت لهم المالئكة:
فأقروا بأنهم كانوا ُص ّم ًا ال يسمعون وكانوا قد عطلوا عقولهم فال
يفكرون ،وأنهم لو كانوا سمعوا المواعظ وفكروا في أنفسهم وفي
الكون من حولهم الستدلوا بذلك على اهلل فآمنوا به واتبعوا رسله
سمع أو َنع ِق ُل ما كنا في
وما وصلوا إلى جهنم{ :وقالوا لو كنا َن ُ
السعير}.
فسحق ًا ألصحاب َّ السعير ،فاعترفوا بذنبهم ُ
أصحاب ّ
جهنم سجن
باب
{لكل ٍ
ّ جهنم {لها سبع ُة أبواب} يو َّزع أهلها عليهم
بمزاليج ضخمة كأنها األعمدة: جزء مقسوم} .وهي مغلقة َ منهم ٌ
{إنها عليهم ُم ْو َص َد ٌة في َع َم ٍد َّ
ممدد ٍة} ،وهم ُيل َقون فيها في
{م َق َّرنين} مربوط ًا بعضهم ببعض وقد أعد اهلل لهم مكان ضيق ُ
ال وسعيراً}. {سالسل وأغال ً
َ
محاوالت للخروج
ال يختار به ما
اإلنسان في الدنيا دهراً وأعطاه فيها عق ً
َ عمر اهلل
ّ
يريد وإراد ًة ينفذ بها ما يختار ،فاختار بعض الناس سلوك طريق
جهنم وعملوا ما يوصلهم إليها ،فلما بلغوها راحوا يحاولون
الخروج منها وي ِعدون أنهم إن أُعيدوا إلى الدنيا آمنوا وأصلحوا!
فمن رسب في دورة استدرك يحسبون األمر كامتحانات الدنياَ ،
النجاح في أخرى ،ال يدرون أن من خرج من الدنيا ال يعود إليها
149
عز
ومن دخل النار من الكفار ال يخرج منها ،فحق عليهم قول اهلل َّ
دى ورحم ًة لقوم فصلناه على علم ُه ً وجل{ :ولقد جئناهم بكتاب ّ ّ
وه
يوم يأتي تأوي ُله يقول الذين َن ُس ُ
يؤمنون .هل َينظرون إال تأويلَه؟ َ
قبل :قد جاءت ُر ُسل ربنا بالحق ،فهل لنا من ُش َفعاء فيشفعوا من ُ
غير الذي كنا نعمل؟} {وهم يصطرخون فيها: فنعمل َ
َ لنا أو ُن َر ُّد
غير الذي كنا نعمل}. نعمل صالح ًا َ
ْ ربنا أخرجنا َّ
يتذك ُر فيه
ّ عم ْركم ما
{أول َْم ُن ِّ
َ فيكون الجواب الحاسم:
تذكر ،وجاءكم النذير؟ فذوقوا فما للظالمين من نصير}. َمن ّ
َفيلجؤون( )1إلى َخ َزنة جهنم ،كما يلجأ السجين إلى ُح ّراس
ضراً ،يقولونالسجن ،يظن أنهم يملكون له نفع ًا أو يدفعون عنه ّ
ادعوا ربكم يخ ِّف ْف عنا يوم ًا من العذاب .قالوا:
جهنمُ :{لخ َزنة ّ
َ
بالب ِّينات؟} ثم قالوا لهم ساخرين منهم:ك تأتيكم ُر ُسلكم َ
أول َْم َت ُ
َ
{فادعوا ،وما ُدعاء الكافرين إال في ضالل}
فإذا يئسوا منهم عمدوا إلى مالك ،رئيس حرس جهنم
ربك} ،فأجابهم الجواب الصارم ض علينا ُّ {ونادوا :يا مالِ ُك لِ َي ْق ِ
َ
الحاسم ،قال{ :إنكم ماكثون} .فيفكرون في أن يفتدوا أنفسهم
أن للذين
كما كانوا يفتدون في الدنيا بالمال ،ولكن هيهات{ :ول َْو ّ
الفتدوا به من سوء العذاب
َ ظلموا ما في األرض جميع ًا ومثلَه معه
يوم القيامة .وبدا لهم من اهلل ما لم يكونوا يحتسبون ،وبدا لهم
______________________
( )1من الناس من يضع همزة هذه الكلمة على األلف >فيلجأون< ،وهو
غلط ،ومنهم من يضعها على مدة >يلجئون< فيرسمون الهمزة على
كرسي بعد الجيم ،والصواب -فيما أرى -هو ما رسمتها عليه.
150
سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}.
ِّ
فال تفيدهم هذه المحاوالت شيئ ًا ،ويبقون في جهنم {ولهم
ِ
مقام ُع من حديد ،ك ّلما أرادوا أن يخرجوا منها من َغ ٍّم أُعيدوا
{ذوقوا عذاب الحريق}. فيها} وقيل لهمُ :
أحاديثهم واختالفهم
{كلما دخلت أم ٌة لعنت أختها ،حتى إذا َّاداراكوا فيها جميع ًا
هم عذاب ًا ِضعف ًا من ِ
ربنا هؤالء أض ّلونا فآت ْ
والهم َّ
أل ُ خراهم ُ
قالت أُ ُ
ألخراهم ضعف ،ولكن ال تعلمون .وقالت أُوالهم ُ ٌ النار .قال لكلٍّ
فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}،
قتحم معكم ال مرحب ًا بهم ،إنهم صالُوا النار .قالوا: فوج ُم ٌ{هذا ٌ
ربناقدمتموه لنا فبئس القرار .قالواَّ : بل أنتم ال مرحب ًا بكم ،أنتم ّ
َمن قدم لنا هذا فز ِْده عذاب ًا ِض ْعف ًا في النار .وقالوا :ما لنا ال نرى
خري ًا أم زاغت عنهم ال كنا نعدهم من األشرار؟ أ ّت َخذناهم ِس ّ رجا ً
خاص ُم أهل النار}{ ،وقال الذين كفروا: األبصار؟ إن ذلك ل ََح ٌّق َت ُ
نجعلْهما تحت أقدامنا ربنا أرِنا اللذين أضلاّ نا من الجن واإلنس َ َّ
ليكونا من األسفلين}.
151
يتنادون ويتحدثون: َ أهل النار ،وفي القرآن أن هؤالء وهؤالء
ربناوع َدنا ُّ
وج ْدنا ما َ أن قد َ
أصحاب النار ْ
َ أصحاب الجنة
ُ {ونادى
مؤذ ٌنحق ًا ،فهل وجدتم ما وعد ربكم حق ًا؟ قالوا :نعم .فأذَّ َن ّ
أصحاب
َ أصحاب النار
ُ أن لعن ُة اهلل على الظالمين .ونادى
بينهم ْ
الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اهلل .قالوا :إن اهلل
وغرتهم حرمهما على الكافرين ،الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعب ًا َّ َّ
الحياة الدنيا}.
األعراف
فهم من اآليات أن >األعراف< مكان بين الجنة والنار، الذي ُي َ
يقوم فيه مدة من الزمان من قصرت به حسناته عن دخول الجنة
ولم تبلغ سيئاته إدخاله النار ،يرون منه الجنة ويأملون في دخولها
ويخاطبون أهلها ،ويرون النار ويعوذون باهلل منها ويكلمون
أصحابها ،وبينهما (أي بين أهل الجنة وأهل النار) حجاب:
ونادوا أصحاببسيماهمَ .
ُ {وعلى األعراف رجال ٌ يعرفون كلاّ ً
سالم عليكم ،لم يدخلوها} أي أهل األعراف {وهم ٌ أن
الجنة ْ
أبصارهم تِ َ
لقاء أصحاب النار ُ يطمعون} في دخولها {وإذا ُصرفت
{ربنا ال تجعلنا مع القوم الظالمين}.
قالوا} أي قال أهل األعراف َّ
ورأوا في جهنم ناس ًا يعرفونهم كانوا في األرض من
الجبارين ،يعتزون بجموعهم وأتباعهم وجماهير العامة التي
تؤيدهم فيتكبرون بذلك ويطغون ،فنادوهم وقالوا لهم{ :ما أغنى
جمعكم وما كنتم تستكبرون} .وسيرون يومئذ أنه ما أغنى ُ عنكم
ال ،وأنهم قدعنهم شيئ ًا وال خفف عنهم من عذابهم كثيراً وال قلي ً
خ ّلفوه كله وراءهم وتركوه خلف ظهورهم.
152
إنه ال ينزل مع الميت إذا مات صديق وال رفيق وال حليف
وال أليف وال جند وال أعوان ،كلهم يتركه وينصرف عنه فينزل
بعث من القبر وحده ،ويقف للحساب وحده. وي َالقبر وحدهُ ،
مشاهدة في الدنيا ،ولكن َع ِميت األبصار عن رؤيتها
َ هذه حقيقة
وعميت البصائر عن إدراكها.
رب افتح أبصارنا حتى نرى الحقائق الدالّة عليك ،و َن ِّو ْر
فيا ِّ
وجنبنا الفتن ما ظهر بصائرنا حتى نبصر الطريق الموصل إليكّ ،
منها وما بطن ،وارزقنا رضاك والجنة ،وأعذنا من غضبك والنار،
يا ع ّفو يا غ ّفار.
* * *
153
154
اإليمان بال َق َدر
155
وأنا أوضح الفرق بين القدر والقضاء بمثال (وهلل المثل
األعلى) :العمارات التي تقام تعلَّق عليها لوحة فيها« :إن التصميم
للمهندس الفالني والتنفيذ للمقاول الفالني» .فالمهندس يرسم
الخريطة ويعين علو البناء وسمك الجدران وما يوضع فيها من
الحديد واإلسمنت والحجر ونسبة كل منها وما يكون فيها من
أبواب ونوافذ ،يقدر ذلك ويحدده ،هذا مثال القدر .والمقاول
ينفذ ما قدره المهندس ،وهذا مثال القضاء .وكالهما هلل وحده.
يبدل -إذا أراد -في بعض تفصيالت وكما يمكن للمهندس أن ّ
التصميم فاهلل -من رحمته -جعل الدعاء والصدقة سبب ًا في رفع
قدرها وحده ورفعها بالدعاء وحده(.)1 مقدراًّ ،
بعض ما كان َّ
الثواب والعقاب
هذا معنى القدر بوجه عام ،وهو يشمل كل موجود أوجده
اهلل ،قدر اهلل مقاديره وأحواله وعلم ما سيكون له وما يكون منه.
ومن جملة مخلوقات اهلل اإلنسان ،وهنا تعترض مشكلة طالما
خاض فيها الخائضون وطالما كثر فيها الجدال ،هي أمر الثواب
والعقاب .إذا كان كل ما يقع في الكون مرسوم ًا ومعلوم ًا عند اهلل
من قبل وكانت سنن اهلل ال تبديل لها وال تغيير ،فكيف يكون
______________________
يعدل
يبدل وال ِّ
جبراً عليه من األزل ،ال َّ( )1ولو كان كل ما َيفعل العبد ُم َ
يبق من فائدة لبعثة األنبياء وجهاد الكفار وال
وليس له اختيار فيه ،لم َ
للدعاء .وقد دعا األنبياء والخلفاء الراشدون وصلحاء كل أمة طالبين
دفع الشر وجلب الخير .وقد رأيت عند وجيه الحجاز ،الشيخ الجليل
محمد نصيف رحمه اهلل ،رسالة مخطوطة للشوكاني في هذا المضمار
لم ُيكتب في موضوعها مثلها.
156
الثواب والعقاب؟
اإلنسان مخير
157
واإلنسان مجبر
لقد استطعت أن أحرك يدي بإرادتي ألن اهلل جعل عضالتها
خاضعة لي ،ولكني ال أستطيع التحكم في عضالت قلبي
ومعدتي .وهذا التلميذ قد يكون ذكي ًا يدرس الدرس مرة فيحفظه
ثم يلهو ويتس ّلى ،وقد يكون غبي ًا يدرس الليل والنهار فال يفهم
وال يحفظ .وقد يكون بيته هادئ ًا وأبوه عالم ًا ييسر له أمر الدرس،
ال مشاكس ًا فال يستطيع أن يدرس.وقد يكون بيته صاخب ًا وأبوه جاه ً
فهو ال يملك منح نفسه الذكاء ،وال يملك اختيار أبويه ،وال
انتخاب الزمان الصالح ليوجد فيه وال البيئة الصالحة ُليمضي فيها
طفولته ...هذه كلها أمور ال يملكها اإلنسان ،كما ال يملك أن
يجعل أنفه أجمل وقامته أطول ،فهو من هذه الناحية مجبر.
مخير في حدود الطاقة البشرية
حر َّ
مخير في حدود الطاقة البشرية ،وكونه مجبراً
فاإلنسان حر َّ
في بعض الحاالت ال ينفي عنه صفة الحرية ،كالسيارة والصخرة،
محركها ومدى
ولكن في حدود قوة ّْ ال ينكر أحد أن السيارة تمشي
احتمالها ،فإن ُصنعت سيارة شحن ال يمكن أن تمشي بسرعة
مسيرها
َ فإن عاق
سيارة السباق ،وإن ُصنعت لتمشي على األرض ْ
عائق لم تفقد صفة القدرة على السير ،وال تكون كالصخرة.
وكذلك اإلنسان :تعترضه في الحياة عوارض تعطل إرادته،
وعوائق تحول وجهته ،وتؤثر فيه أمور ال يملك دفعها وال إبدالها،
ولكن ذلك ال ينفي أنه حر .فهو إنسان حر يتصرف ضمن الحدود
اإلنسانية وليس إله ًا ليصنع ما يشاء.
158
الثواب والعقاب َمنوط بالحرية
كره على فعل الشر ال الم َ
فإن لم تكن حري ٌة فال عقابُ .
يعا َقب عليه ،واهلل إنما يؤاخذنا على ما نملك الخيار في فعله أو
تركه .لإلنسان ما كسب وعليه ما اكتسب ،ال يكلف اهلل نفس ًا إال
وسعها ،واهلل ال يضيع مثقال ذرة .وإذا كانت المحاكم البشرية
-بعدالتها النسبية -تقدر ظروف المتهم ودوافعه وبيئته واستعداده
وترى تقدير ذلك من العدل ،فهل ُيترك ذلك في محكمة رب
العالمين التي فيها العدالة المطلقة؟ وهل يعا َقب المذنب الناشئ
مشردة
ّ من والدين فاسقين وبيئة فاسدة والذي عاش طفولة مهملة
كمن أذنب الذنب نفسه وهو ناشئ في أفضل البيئات مولود من َ
خير اآلباء؟
مقاييس العدالة
على أن أكثر علماء الكالم قد أخطؤوا أكبر الخطأ حين
طبقوا على اهلل مقاييس العدالة البشرية .تنبهت إلى هذه الحقيقة
بواقعة وقعت لي ،أسردها اآلن فيها عبرة وإن لم يكن موضع
سردها هذا الكتاب.
أدرس في مدرسة ابتدائية في الشام،
كنت سنة ِّ 1931
وكنت في فورة الشباب وعنفوانه وفي رأسي خواطر وفي نفسي
غرور وعلى لساني بيان واندفاع ،فعرضت لي شكوك في مسألة
القدر كنت أسأل عنها العلماء فال أجد عندهم الجواب الشافي
لها ،فيدفعني الغرور إلى جدالهم وإزعاجهم .حتى جاء يوم كنت
فيه في المدرسة وكنت أؤدب تلميذاً بالضرب (وكان الضرب من
159
وسائل التأديب في تلك األيام) ففجر الولد وتو ّقح وجعل يصرخ
ويقول :هذا ظلم ،أنت ظالم!
ثقوا -يا أيها القراء -أني لما سمعت ذلك سقطت العصا
من يدي ونسيت الولد والمدرسة ،ورأيت كأني كنت في ظُ لمة
فأضيء لي مصباح منير ،فقلت لنفسي :إن التلميذ يرى ضربي إياه
ال ،والعمل واحد ،وإذا ذهب يشكو إلى أهله ظلم ًا وأنا أراه عد ً
قالوا له :ال ،ما هذا ظلم ،هذا عدل ،إنه يضربك لمصلحتك.
160
بل إن صاحب السيارة لو عرف هذه الحقيقة لمزق جلد
مقعدها بنفسه ألنه يفضل أن تبقى السيارة له ومقعدها ممزق عن
أن تذهب كلها وهي سليمة؟ أليس هذا صحيح ًا؟ هذه هي قصة
ال نفهم
لما ركبا في السفينة وخرقها ،ضربها اهلل مث ً
الخضر وموسى ّ
منه ألاّ نسرع إلى إصدار األحكام قبل اإلحاطة بالوقائع.
مع النصوص
ال بد لي قبل الكالم على النصوص من التذكير بهذه القواعد:
-1إن عمل العقل منحصر بفهم النصوص وال يستطيع أن
القدر بالتفصيل ،ألنه -كما قدمنا -عاجز
يدرك من نفسه حقيقة َ
عن الخوض فيما وراء المادة ،لذلك ينبغي اجتناب المباحث التي
يوضحها النص.
لم ِّ
-2أن نعرف أن األصل هو القرآن ،فإن تعارضت آية منه
وحديث من أحاديث اآلحاد ولم يمكن التوفيق بينهما على شكلٌ
مقبول أخذنا باآلية(.)1
-3أنه ال يمكن أن يكون في القرآن أو صحيح الحديث
نص صريح ينكر وجود أمر واقع مشاهد ملموس ،ألن الذي أنزل
ربنا ما أوجده.
القرآن هو الذي أوجد الواقع ،وال ينفي ُّ
______________________
( )1من القواعد المعروفة عند أهل المصطلح أن الرسول ’ ال يقول
فإن ُروي حديث
المشاهدْ ،
َ ما يناقض القرآن وال ما يخالف الواقع
مناقض للقرآن أو يخالف الواقع المشاهد نحكم أن الرسول لم يقله،
ولو ُروي بسند صحيح.
161
ونفي
ُ -4إن كثيراً من النصوص التي ُيفهم منها اإلجبار
االختيار عن اإلنسان ،كقوله تعالى{ :هو الذي ُي َص ّوركم في
األرحام كيف يشاء} فال يملك الوليد الذي ُص ِّور بنت ًا أن يجعل
يصير لونه أبيض .ومثلها قوله نفسه صبي ًا وال األسود اللون أن ِّ
تعالى{ :وربك يخل ُُق ما يشاء ويختار ،ما كان لهم ِ
الخ َي َرة} ،وما
يشير إلى األحداث الكونية التي هي فوق طاقة اإلنسان كقوله:
{أفرأيتم ما تحرثون ،أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ لو نشاء
كاشف له
َ بض ٍّر فال
يمس ْسك اهلل ُ
{وإن َ
ْ ل ََجعلناه ُحطام ًا} ،ومثلها:
إال هو} ،وما يدل على الظروف المؤدية إلى الصالح أو الفساد
سواها ،فألهمها ٍ
{ونفس وما ّ وليست من صنع اإلنسان ،كقوله:
ُفجورها وتقواها} ،ومن اآليات التي جاءت فيها كلمة الهداية
النجدين} وقوله:َ بمعنى الداللة واإلرشاد ،كقوله{ :وهديناه
وإما َكفوراً} ...الذي ظهر لي أن {إنا هديناه السبيلّ ،إما شاكراً ّ
أكثر هذه النصوص تشير إلى األمور التي تؤثر في صالح اإلنسان
وفساده بعض التأثير وليست من صنعه ،وقد قدمت القول بأن اهلل
ال يؤاخذ العبد عليها ،وال يمكن أن يجبر اهلل عبده على أمر بحيث
ال يستطيع تركه ثم يعاقب عليه.
هذه هي النصوص التي وقف عندها أصحاب الفرق المنحرفة
فأساؤوا فهمها وأخطؤوا في تطبيقها ،وكان عليهم:
-1التفريق بين آيات اإلخبار عن مشيئة اهلل وقدرته وتصرفه
في ملكه ،واآليات المتعلقة بالثواب والعقاب.
-2اعتبار مجموع النصوص ال الوقوف عند أفرادها،
تتب َع مجموع النصوص رأى أن القرآن يثبت لإلنسان الحرية
ومن ّ
َ
162
واإلرادة اللتين يترتب عليهما الثواب والعقاب.
{ي ِض ّل به كثيراً ويهدي به
فمن يقرأ قوله تعالى عن القرآنُ :
قدرهمقرر ّ
والضالل أمر َّ
ّ كثيراً} يفهم منه بادي الرأي( )1أن الهدى
اهلل على العباد ،فجعل هؤالء ضالين وهؤالء مهتدين .ولكن إذا
للم ّتقين} وقوله {وما ُي ِض ّل به إال
دى ُ {ه ً
انتبه إلى قوله تعالى ُ
الفاسقين} علم أن الهدى والضالل ليس إلزام ًا من اهلل ولكنه تبع
متقي ًا كان القرآن هدى له ،وإن كان فاسق ًا
لحالة المرء ،فإن كان ّ
ال.
كان له ضال ً
وتبقى مع ذلك الشبهة قائمة ،فيقول القائل :وما يدريني إذا
كان اهلل قد جعلني مع المتقين أو جعلني مع الفاسقين؟ فإذا انتبه
ويقيمون الصالة {للم ّتقين الذي ُيؤمنون بالغيب ُ
ُ إلى قوله تعالى
ومما رزقناهم ُينفقون} وقوله {إال الفاسقين الذين ينقضون عهد
ويفسدون في وصل ُاهلل من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اهلل به أن ُي َ
األرض} علم أن المسألة ليس فيها إجبار ،وأن مردها إلى صفات
وأعمال داخلة في نطاق حرية اإلنسان وطاقته.
فأنت تستطيع أن تؤمن بالغيب وتقيم الصالة وتنفق في سبيل
اهلل وتستطيع أن تنقض العهد وتقطع الموصول وتفسد في األرض،
فإن عملت الثالث
أمور في طاقتك عملها وفي إمكانك تركهاْ ،
األولى كنت بذلك من المتقين فاستحققت الهداية ،وإن عملت
الثالث األخرى كنت بذلك من الفاسقين فاستحققت الضالل.
______________________
( )1في قولك >بادي الرأي< و>بادئ الرأي< أي من النظرة األولى ومن
أول وهلة.
163
بحث عقيم
وهنا يرد قولهم :هل عملت السوء بمشيئة اهلل أم ال؟ هل
كنت أستطيع ألاّ أعمله؟ وهل خلقت أنا عملي؟ وأمثال هذه
األمور التي مأل بحثها كتب علم الكالم.
وذلك كله بحث عقيم ألن الخالق ال يقاس على المخلوقين
عما يفعل وإنما
والعقل ال يحكم على اهلل وصفاته ،واهلل ال ُيسأل ّ
َيسألنا عن أفعالنا ،واهلل عادل ال شك في عدله ،وخير لنا أن
ننظر إلى أنفسنا وأن نحسن استعمال عقولنا ونعمل على توجيه
إرادتنا إلى الخير ،وندع المباحث المتعلقة باهلل التي لم يتكلم فيها
السلف وال شغلوا أنفسهم بها.
االحتجاج بالقدر
ومن العصاة من يحتج لعصيانه بالقدر؛ تقول للزاني :لِ َم
زنيت؟ فيقول :ألنه ُق ِّدر علي! وهي حجة واهية مردودة من
ّ
وجهين:
-1ألن الحساب والعقاب يكون على العمل وعلى الدوافع
إليه والبواعث عليه ،وهذا الزاني لم يطّلع على اللوح المحفوظ
وير أن الزنا مكتوب عليه كما يزعم ثم يذهب ليزني تنفيذاً لحكم
َ
القدر ،وإنما تبع الشهوة وطلب اللذة العاجلة واستجاب لنداء
الشيطان .وقد احتج المشركون بمثل هذه الحجة فقالوا{ :لو شاء
فرد اهلل عليهم بقولهُ { :ق ْل هل عندكم من علم
اهلل ما أشركنا}ّ ،
مقدر
فتخرجوه لنا؟} أي :من أين عرفتم قبل أن تشركوا أن الشرك َّ
عليكم؟ وهل جربتم اإليمان فوجدتم أنه ممتنع عليكم؟
164
المحتج بالقدر لو كان صادق ًا لرضي بكل ما
ّ -2وألن هذا
يقدر اهلل عليه ،من فقر ومرض وجوع و َف ْقد حبيب وذهاب مال،
مقدر عليه ،وال يسكن إليه،
والمشاهد أنه ال يرضى بذلك ،وهو َّ
َ
بل هو يعمل لجمع المال ودفع المرض وإذهاب الجوع ،ويألم
سخر قواه ك ّلها واستعمل
لفقد الحبيب وذهاب المال .فلماذا َّ
يسخر عقله لقمع
عواطفه لجلب لذة الدنيا ودرء األلم فيها ،ولم ِّ
الشهوة ومنع النفس من الحرام الذي ترغب فيه وهو يعلم ما في
عقبه من العذاب.
165
يحملوا الحسد لمن نال من إخوانهم أكثر مما نالوا ،ولم ُيبطرهم
الغنى ولم يؤلمهم الفقر.
وسمعنا أن األجل محتوم فاتخذنا ذلك سبب ًا إلهمال التو ِّقي
واالحتياط وإضاعة المسؤوليات ،والخلط بين الجريمة المتعمدة
وبين القدر الذي وقع بال ُجرم( .)1وسمع ذلك أجدادنا فقالوا :إذا
كان األجل محتوم ًا ال يموت أحد قبل موعده ولو خاض اللهب
وتلقى بصدره الرماح وال يتأخر عن موعده ولو اعتصم في حصن
له سبعة أسوار فلنعمل لما يرضي اهلل :نجاهد بأنفسنا في سبيل
اهلل ،ال نخشى الموت ألن الموت محتوم له موعد ال يسبقه وال
يتأخر عنه ،ولنجاهد بألسنتنا في إنكار المنكر ومواجهة الطاغي
الظالم بكلمة الحق .فأقبلوا ال يخشون في الحق أحداً وال يخافون
إال اهلل شيئ ًا.
مقدر وأهملنا دراسة سنن اهلل في الكون
وفهمنا أن كل شيء َّ
وقوانين الطبيعة التي جعلها ربنا سبب ًا للنفع والضرر ،وكان سلفنا
هم علماءها وهم الذين يعرفونها ويستفيدون منها ،فكان من نتيجة
ذلك أن هبطنا من الذروة إلى الحضيض ونزلنا من األعالي إلى
األسفل .وكانوا باإليمان سادة الدنيا وقادتها وأساتذتها ،فصرنا
المقودين ،وفتحوا بسيف الحق ثلث العالم المتحضر المسودين َ َ
وفتح عدونا بسيف الباطل قلب بالدنا.
______________________
( )1يسرع السائق حتى إذا اصطدم قال :إنه القدر! ويهمل التلميذ ،فإذا
رسب احتج بالقدر!
166
تقديس األموات
ولما رأينا (أي رأى بعضنا) أن حياتنا كلها قد فسدت وأن
تحول يأسنا
عز األجداد وصالحهم ّ األحياء منا قد ذلّوا وذكرنا ّ
وصغار أحيائنا إلى تعظيم أمواتنا،من الحاضر إلى أمل بالماضي َ
فنشأت من هنا مظاهر تقديس األموات واالعتماد عليهم وانتظار
المدد منهم .نظن أن نجاحهم وخيبتنا تمكنهم من إمدادنا ،فصرنا
نقيم األضرحة الفخمة والقباب العالية عليها ،ونبدي من التقديس
لها ما رجع بنا إلى قريب من عقائد الجاهلية ،وصرنا ننذر لهذه
القبور ونتوسل بها التوسل الممنوع ،وربما طلبنا من أصحابها
النفع والضرر بال أسباب ظاهرة وال واسطة ملموسة ،وكل ذلك
رد فعل لسوء حاضرنا وجالل ماضينا.
167
الواقع ،وخلطوا تبع ًا لذلك في أمر الثواب والعقاب ،ونسوا أن اهلل
ال يحاسب اإلنسان إال في حدود حريته وقدرته وال يؤاخذه على
ما أُكره عليه ،وتخبطّوا في البحث عن عدالة اهلل ونسوا الحقيقة
األولى ،وهي أن عدالة اهلل ال تقاس بمقياس العدالة البشرية.
وطريق السالمة في عقيدة القدر وفي سائر العقائد أن نعودُ
فيها إلى المنبع األصلي :القرآن ،وأن نتبع فيها ما كان عليه السلف
من الصحابة والتابعين ،وأن ندع هذه البحوث العقيمة التي أثارتها
الدراسة الناقصة للفلسفة اليونانية البدائية السطحية.
* * *
168
اإليمان بالغيب
عالم الغيب
169
وهذا ما يمتاز به المتقون ،ولذلك جعل اهلل أول صفة وصف
بها المتقين في أول سورة البقرة أنهم {الذين ُيؤمنون بالغيب}.
كيف نؤمن بالغيب ولم يعطنا اهلل الحواس التي ندركه بها؟ إننا
لو ُتركنا لحواسنا نعتمد عليها وحدها ولعقولنا نحكم بها على ما جاء
من طريق الحواس فقط لبقينا على جهلنا بما وراء المادة ،فكان من
حكمة اهلل ومن رحمته بنا أنه لم يترك العقل في عجزه عن إدراكه،
بل أخبره بما يحتاج إليه من خبرها.
فهذه ثالثة طرق ليس لها رابع{ :وما كان لبش ٍر أن ُيك ّلمه اهلل
170
ال ُفيوحي بإذنه ما
إال وحي ًا ،أو من وراء حجاب ،أو يرسل رسو ً
يشاء}.
الغيب الذي يجب اإليمان به
171
جلَّه (إن لم نقل ك ّله) آحاد عن آحاد ،ولقد بذل علماء الحديث
في تمحيص روايته والفحص عن رجاله أقصى ما تصل إليه الطاقة
البشرية ،ولكنا ال نقطع -مع ذلك -بأن الحديث الذي رواه البخاري
ومسلم وأصحاب السنن قد قاله ’ وأنه ُنقل بلفظه كما نقطع بأن ما
في المصحف هو القرآن المنزل.
وردها
شبهة ّ
الماديون الذي ال يؤمنون إال بما يحسون به نرد عليهم بالقاعدة
شترط من عدم الوجدان الثالثة من قواعد العقائد التي تبين أنه ال ُي َ
عدم الوجود ،وأنه ال يحق لنا أن ننكر أشياء لمجرد أننا ال نحس
بوجودها ،وبالقاعدة التي ّبينا فيها أن الخبر الصادق يفيد اليقين كما
172
يفيده الحس ،وما دام قد ثبت صدق محمد ’ في إخباره عن اهلل
-معشر
َ وثبت نقل هذا الخبر إلينا فقد حصل من هنا اليقين لدينا
المغيبات.
ِّ المؤمنين -بوجود هذه
أقسام الغيب
عالم الغيب على أقسام ،كل قسم منها يسمى غيب ًا:
ال أن
-2وقسم لم يدركه البشر ،وإن كان من الممكن عق ً
قدم اهلل موعد إيجادهم ،كالحوادث التي كانت في يدركوه لو ّ
األرض من قبلهم وأخبار المخلوقات التي كانت تسكنها ،ولكنهم
لم يعرفوا عنها في الواقع وعن أخبار خلق أبيهم آدم وبداية الحياة
البشرية إال ما جاءهم من طريق الوحي.
وردها
شبهة ّ
قد يقول قائل :إن من أمور الغيب التي استأثر اهلل بها إنزال
173
جو
الغيث والعلم بما في األرحام ،فكيف تخبر النشرة الجوية عن ّ
عما في بطن الحامل :هل
أصحو أم ماطر؟ ويكشف العلم ّ
ٌ الغد،
هو ذكر أم أنثى؟
والجواب:
-1إن الذي أنزل القرآن هو اهلل وإن الذي خلق الكون وما
يقع فيه هو اهلل ،فال يمكن أن يأتي في القرآن نص صريح قاطع
مشاهد ملموس ،فإذا وجدنا نص ًا يظهر أنه مخالف
َ بإنكار أمر قائم
للواقع ند ّقق النظر فيه فنرى أن المعنى المقصود منه غير ما بدا
لنا(.)1
-2النشرة الجوية إنما ُتخبر عن المطر بعد رؤية أسبابه
وبيان ذلك أن المطر الذي ينزل في سواحل الشامُ وتمام خلقه،
تبين من العلم بسنن اهلل في الكون أن سببه الهواء الذي يجيء
ال ّ
مث ً
من البحر األطلسي ،فيمر بمضيق جبل طارق ،فيصطدم بكتلة
هوائية راكدة ،فتتشكل السحب من اختالف درجة حرارة الهواء
القادم والهواء الراكد .فإذا رأوه علموا -استناداً إلى معرفة سنن
اهلل -أنه سيتوجه إلى ساحل الشام بعد كذا.
وقدر متى يصل إلى
كمن شاهد مو ِّزع البريد من نافذته ّ
فهو َ
______________________
( )1وهذا إذا كان النص آية من القرآن .وليس في القرآن آية تدل داللة
قطعية على نفي أمر حكم العقل بوجوده حكم ًا قطعي ًا ،وأما إن كان
النص حديث آحاد (أي نقله واحد عن واحد) فإننا نجزم أن الرسول
لم يقله ،ألن الرسول صلوات اهلل عليه ال يقول ما يخالف القرآن وال
الواقع المحسوس.
174
داره ،فقال ألهله :سيأتي موزع البريد بعد خمس دقائق .وكمن
يحمل منظاراً يضعه على عينيه فيرى السيارة القادمة فيخبر بها قبل
ولكن رأى الواقع
ْ ظهورها للعيان ،ما علم في الحقيقة الغيب،
قبل أن يراه غيره .ومثله من يخبر عن نوع الجنين بعد تشكيله.
وأما إنشاء السحاب وإنزالُ المطر في أرض كتب اهلل عليها
وم ْن ُعه عن أرض أنزله اهلل عليها ،ومعرفة جنس الجنين الجفاف َ
وهو ال يزال ُح َو ْين ًا منوي ًا أو حوين ًا صادف بويضة ،فهذا هو المراد
من اآلية واهلل أعلم.
* * *
175
176
ِ
والج ّن اإليمان بالمالئكة
177
الذي ُتبنى عليه فإن األخالق إذا لم ُت ْب َن على أساس من العقيدة كان
بناؤها على كثيب من الرمل ،ألن اإلنسان مفطور على حب نفسه
ال ال يكون له فيه
وجلب النفع لها ودرء األذى عنها ،فال يعمل عم ً
لذة أو كسب(.)1
______________________
( )1انظر كتاب الحكم Maximesلمؤلفه الروش فوكلد Laroche Faucold
178
وردها
شبهة ّ
يقول ناس :لماذا لم يهد اهلل الناس كلهم إلى طريق الجنة؟
ولماذا وضع في نفوسهم الشهوة ثم عاقبهم على الزنا ،وغرز فيهم
حب المال وحاسبهم على جمعه من غير الحالل؟
ال :إن اهلل ال يقال له >لماذا؟< ألنه ال ُيسأل
والجواب :أو ً
عما يفعل وألنه الحاكم المطلق ،له األمر وله الحكم .ثم إن هذا
القول كقول طالب المدرسة :لماذا ال يعطوننا أسئلة االمتحان من
أول السنة ،ولِ َم أخفوها عنا وك ّلفونا االستعداد لها؟ إنهم أخفوها
ليجد الطالب ويقرأ المقرر كله ،ولو أعطيناه أسئلة االمتحان من ّ
اآلن لما بقي معنى لالمتحان.
والدنيا دار ابتالء .واالبتالء في لغة العرب االختبار
(االمتحان) ،ليتميز الطائع من العاصي والمستقيم من المنحرف،
ولوال حواجز السباق( )1لما بان الخائر الضعيف من الفارس المغوار.
ولو شاء اهلل لجعل الناس أمة واحدة ،ولو أراد لخلقهم
راد
للطاعة الخالصة كما خلق المالئكة ،ولكن هكذا شاء ،وال ّ
لما يشاء وال ُيسأل عما يفعل ،ونواصينا بين يديه ،ونحن ملك
عذبنا وإن
له راجعون إليه ،ما لنا رب غيره وال إله سواه ،إن شاء ّ
شاء عفا عنا ،ونحن نسأل اهلل عفوه ورحمته ونعوذ به من عذابه،
ألننا ال نستطيع أن نتخلص من عذابه إال بعفوه وال نستطيع أن ننال
العفو إال منه وحده.
______________________
( )1أي سباق الخيل.
179
المالئكة
وجود المالئكة ثابت وارد في القرآن ،فمن أنكر شيئ ًا مما
ورد في القرآن من خبرهم كفر ،والذي ورد من خبرهم وصفتهم
في القرآن هو:
{جاعل
ٌ ربنا أنه
وخبرهم ّ
ّ -1أنهم ُخلقوا قبل البشر،
ويسفك
في األرض خليف ًة ،قالوا :أتجعلُ فيها من ُيفسد فيها َ
الدماء؟}.
سبح بحمدك -2أنهم ُخلقوا للطاعة الخالصة{ :ونحن ُن ّ
قدس لك} ،فهم {ال َيعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما ُي ْؤ َمرون}
و ُن ِّ
ويؤمنون به}. سبحون بحمد ربهم ُ {ي ّ
سبحو َنه وله يسجدون} ُ
{وي ّ
ُ
أتم خلق آدم ع ّلمه األسماء( )1وامتحنهم
لما ّ
-3وأن اهلل ّ
فلما بان فضله
آدم بهاّ ،
أعلمهم ُ
بالسؤال عنها ،فلم يعرفوها حتى َ
بذلك عليهم أمرهم بالسجود له ،سجود تحية ال سجود عبادة.
-4أنهم يتشكلون بأشكال مادية أحيان ًا ويظهرون بصورة
وحنا فتم َّثل لها بشراً
بني آدم ،ففي قصة مريم {فأرسلنا إليها ُر َ
وي ًا} .وضيوف إبراهيم كانوا مالئكة جاؤوا على صورة البشر، َس ّ
أيديهم ال
فقدم إليهم عشاءهم من لحم عجل سمين{ :فلما رأى َ
تخف ،إ ّنا أُرسلنا
ْ وأوجس منهم خيفة .قالوا :ال
َ تصل إليه َن ِك َرهم
إلى قوم لوط}.
______________________
( )1لم يبين اهلل ما في هذه األسماء ،لكن الظاهر أنها أسماء المالئكة أو
أسماء األشياء الموجودة يومئذ ،ولم يبين اللغة التي ع ّلمه األسماء بها.
180
-5وأن مقرهم السماء ينزلون منها إلى األرض( )1بأمر اهلل:
ربك}.
{وما َن َت ّنزلُ إال بأمر ِّ
-6وأنهم درجات وأصناف في أصل الخلقة وفي مقام
ورباع،
الث ُ
ال أولي أجنحة َم ْث َنى و ُث َ
العبودية ،جعلهم اهلل {رس ً
مقام معلوم}. منا إال له ٌ
َيزيد في الخلق ما يشاء} {وما ّ
عد ّواً
فمنهم من ينزل بالوحي ،وهو جبريلُ { :قل َمن كان ُ
لجبريل فإنه َّنزله على قلبك بإذن اهلل} {وإنه لتنزيل رب العالمين،
المنذرين} .ومنهم لتكون من ُ َ الروح األمين على قلبك
ُ نزل به
ِ
الموت ملك الموت( )2الموكل بقبض األرواحُ { :ق ْل يتو ّفاكم َملَك
الذي ُو ِّكل بكم} .ومنهم الذي ينفخ في الصور ،ومنهم ميكال
(ميكائيل) ،ومنهم حملة العرش{ :والذين يحملون العرش}
عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} .ومنهم الموكلون َ {ويحمل
سالم
ٌ بتنعيم أهل الجنة{ :والمالئك ُة يدخلون عليهم من كل باب،
عليكم بما صبرتم} ،ومنهم المكلفون بتعذيب أهل النار{ :عليها
ظ شداد} ،ومنهم من يسجل على اإلنسان أعماله: مالئكةٌ ِغال ٌ
{وإن عليكم لَحافظين، ّ عتيد}
رقيب ٌ
ٌ {ما يلفظ من قول إال لديه
كرام ًا كاتبين} ،ومنهم من يسوق اإلنسان للحساب يوم القيامة
______________________
( )1إذا كان في النجوم ما يحتاج الوصول إليه إلى مليار سنة ضوئية،
والسماء أبعد من النجوم كلها قطع ًا ،فبأي سرعة كانوا ينزلون؟ إن
العقل يعجز عن تصور هذه السرعة!
( )2لم أجد -على كثرة ما بحثت -نص ًا من كتاب أو سنة ثابتة أن اسمه
عزرائيل.
181
سائق وشهيد}.
ٌ نفس معها
كل ٍِ
ومن يشهد عليه{ :وجاءت ّ
182
يوصفون بذكورة وال أنوثة.
السنة
هذا ُج ّل ما جاء في القرآن من خبر المالئكة ،وفي ُّ
الصحيحة كثير من أخبارهم جاءت في أحاديث آحاد ،لكن صحت
روايتها وثبت سندها.
وكل
ازدياد الشعور بعظمة اهلل واستشعار رحمته ،إذ ّ
المالئكة بالدعاء للمؤمنين واالستغفار لهم والتحرز عما أمكن
يسجلون عليه كل ما يقوله
ّ من المعاصي ،حين يتذكر أنهم
ويفعله ،واإلقدام والشجاعة في الجهاد حين يتصور أنهم
يؤيدون المجاهدين بأمر رب العالمين ،والعمل للجنة ليكون
ممن يس ّلمون عليه ،والبعد عن أسباب دخول النار لئال يكون
يوبخونه .ومن ثمراته اإلجمالية التشبه بهم في لزوم الطاعة
ممن ّ
واجتناب العصيان وتقوية الجانب المالئكي في اإلنسان.
الجن
خبر اهلل في القرآن بأنه خلق خلق ًا آخر تعجز عيوننا عن
ّ
رؤيتهم على صورهم األصلية (كما تعجز عن رؤية المالئكة،
ورؤية األشعة التي هي فوق البنفسجية وتحت الحمراء ،ورؤية
183
الموجات الصوتية ،ورؤية التيار الكهربائي وهو يمشي في سلك
النحاس) وهذا الخلق هو الجن .والذي يجب اإليمان به ويكفر
يخصصه اهلل
ّ منكره هو ما جاء من أخبارهم في القرآن ،وإن لم
بالذكر ويجعله من أركان اإليمان صراحة كاإليمان بالمالئكة.
الجن في القرآن
{والجان خلقناه
َّ وخبر أنهم ُخلقوا قبل خلق اإلنسان:
ّ -2
السموم}.
قبل من نار َّ
من ُ
184
(والعياذ باهلل منها) تمتلئ بالجن واإلنس مع ًا ،قال تعالى{ :وما
رب َك ألمألَن
واإلنس إال ليعبدون} {وتمت كلمة ِّ
َ الجن
َّ خلقت
ُ
جهنم من ِ
الج َّنة والناس أجمعين}.
-5وأن رسالة محمد ’ َبلَغتهم كما بلغتهم من قبلها رسالة
موسى{ :قالوا :يا قومنا إنا سمعنا كتاب ًا أُنزل من بعد موسى
الحق وإلى طريق مستقيم}.
ِّ مصدق ًا لما بين يديه يهدي إلى
ِّ
-6وأنه كان منهم الصالحون والعاصون ،وأنهم كالبشر
طرائق ِق َدداً...
َ أصناف{ :وأ ّنا منا الصالحون و ِم ّنا دون ذلكّ ،
كنا
وأ ّنا ِم ّنا المسلمون ومنا القاسطون}.
-7وأن اهلل سخرهم لسليمان{ :يعملون له ما يشاء من
كالجواب وقدور راسيات}.
وجفان َمحاريب وتماثيل(ِ )1
______________________
محرمة
َّ ( )1التماثيل بالمعنى المعروف ،وهي الصور المجسمة ،وهي
قطع ًا في ديننا.
185
-10وأنهم كانوا يتحسسون أخبار السماء من المالئكة،
ور ُموا بالشهب{ :وأ ّنا كنا نقعد فلما جاء اإلسالم ُمنعوا من ذلك ُ
يستمع اآلن َي ِج ْد له شهاب ًا َر َصداً}.
ِ فمن
للسمعَ ،
مقاعد َّ
َ منها
الشياطين
وهم كفار الجن ،أبوهم إبليس .وقد قال قوم أن إبليس من
ال ألن اهلل صرح بذلك
المالئكة ،ولكن الصحيح أنه من الجن .أو ً
ففسق عن
َ الجن
ِّ إبليس كان من
َ في القرآن فقال{ :فسجدوا إال
ربه} .ثاني ًا :ألن إبليس عصى ربه ،والمالئكة ال يعصون اهلل أمر ّ
خير
صرح بأنه ُخلق من النار{ :قال أنا ٌ
ما أمرهم .ثالث ًا :ألن القرآن ّ
وخلقته من طين}.
َ منه خلقتني من نار
الشياطين في القرآن:
وبخهم اهلل على فعلهم وعلى هذه الحماقة منهم ،إذ وقد ّ
يستجيبون لعدوهم الذي يريد العذاب لهم وال يستجيبون لربهم
أولياء من
َ ري َته
وذ ّ
{أفتتخذونه ُ
ّ الذي يدعوهم ليغفر لهم ويرحمهم:
ال}.
دوني وهم لكم عدو؟ بئس للظالمين َب َد ً
-2دلت هذه اآلية على أن الشياطين يتناسلون وتكون لهم
ذرية وأنهم جميع ًا ذرية إبليس.
186
-3سلط اهلل الشيطان على الناس ،ولكنه لم يعطه القدرة
على النفع والضرر ولم يمنحه القوة التي ال ُتدفع ،بل أعطاه
بضارهم شيئ ًا إال
ِّ كيد الشيطان كان ضعيف ًا} {وليس
{إن َ
الكيدّ :
بإذن اهلل} {وما كان له عليهم من ُسلطان}.
عملُه الوسواس واإلغراء بالشر والدعوة إلى القبائح: َ -4
يعدهم ويم ِّنيهم ،وما ُ{ي ِع ُدهم ُ
{يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} َ
الشيطان إال ُغروراً} .يحملهم على الخمر والميسر وأمثالها،
{رجس من عمل الشيطان} .برنامجه كله ينحصر في ٌ وأمثالُها
الشر والفحش والخالف ،وأول مادة في هذا البرنامج وأول ما
والتعري ولبس القصير من الثياب: ّ التكشف
ّ فتن به آدم وحواء
أبو ْي ُكم من الج َّنة، ِ
كم الشيطان كما أخرج َ {يا بني آدم ال يفت َن ّن ُ
ريهما َس ْوءاتهما} .فكان نزع الثياب وإبداء لباسهما لِ ُي َ ينز ُِع عنهما َ
العوارت أول مادة في هذا القانون الشيطاني.
يحسن في عيون أتباعه السيئ حتى يروه ومن شأن إبليس أن ّ
الشيطان
ُ {وزي َن لهم
َّ ويجمل لهم القبيح فال يبصروه قبيح ًا:
ّ حسن ًا
الش َبه
ما كانوا يعملون} .ومن شأنه أن يدفع أولياءه إلى إثارة ُّ
وشغلهم عن دعوتهم ،دعوة الحق ،بالجدال في وجوه المؤمنين َ
{وإن الشياطين لَيوحون ّ والمراء .وقد نبهنا اهلل إلى ذلك وقال لنا:
إلى أوليائهم ليجادلوكم} فال تستجيبوا لهم وال تسقطوا في شركهم
أطعتموهم إنكم لَمشركون} .ومن شأنه أن يشغل المؤمن ُ {وإنْ
عن ذكر ربه حتى ينساه ُفي ْقدم على المعاصي ،فالعاصون {استحوذ
مسهم ُ ِ
قوا إذا َّ
فأنساهم ذ ْك َر اهلل} .ولكن {الذين ا ّت َ الشيطان
ُ عليهم
طائف من الشيطان} فأنساهم ربهم {تذكروا فإذا هم مبصرون}. ٌ
187
-5لكن الشيطان رغم دأبه على اإلفساد وثباته على عداوة
بني آدم ،وأنه يأتيهم عن أَيمانهم وعن شمائلهم ومن أمامهم ومن
ويجلبيستفزهم بصوته َ
ّ خلفهم ،وأنه يقعد لهم كل مرصد ،وأنه
عليهم بخيله ورجله وأنه يشاركهم في األموال واألوالد ...إنه على
هذا كله ال يملك إال الوسواس واإلغراء بالشر ،ال يقدر على نفع
لهم وال ضر ،وحين يتجادل الكفار والشياطين في اآلخرة يقول
فاستجبتم
ُ لهم{ :وما كان لي عليكم من سلطان إال أن دعوتكم
لي ،فال َتلوموني ولوموا أنفسكم}.
رب بما ولما دعا إبليس ربه أن يؤجل موته وأجابه{ :قال ِّ ّ
أغويتني لأَ ُ ّ
زي َن َن لهم في األرض ولأَ ُغو َِي َّنهم أجمعين ،إال عبادك َ
علي مستقيم، ط َّعز وجل{ :هذا صرا ٌ المخلَصين} قال اهلل ّ منهم ُ
ُ
سلطان إال من ا َّتبَعك من الغاوين ،إنه
ٌ عليهم لك ليس عبادي إن
ّ
يتوكلون ،إ ّنما سلطا ُنه
ربهم ّسلطان على الذين آمنوا وعلى ِّ
ٌ ليس له
على الذين يتولَّونه والذين هم به ُمشركون}.
______________________
( )1أي يوم بدر للمشركين من أهل مكة.
188
شياطين اإلنس
هذا بعض ما ورد في القرآن الكريم من صفات الشيطان،
إنه يعمل على نشر الكفر وإذاعة الفاحشة وكشف العورات،
ويحسنه لهم حتى يقيموا عليه
ّ يزين للناس ما هم عليه من القبيحّ
الش َبه ويجادل بالباطل ويوقع العداوة بين
ُّ يثير عنه، ّوا
ل يتحو وال
ويفرق جمعهم ،حتى إذا استجابوا له واتبعوه واحتاجواالمسلمين ّ
يوم ًا إلى نصره ومعونته فاستعانوا به واستنصروه تخلى عنهم وتبرأ
منهم.
وكل من تخلق بهذه األخالق من الناس كان حكمه حكم
ك الناس ،إله الناس ،من برب الناسَ ،م ِل ِ
أعوذ ِّ
ُ الشيطان{ :قل
الخناس الذي ُيوسوس في ُصدور الناس ،من ِ
الج َّنة شر الوسواس ّ
ّ
والناس}.
وزينها للناس ،بالصور العارية أو
رغب بالفاحشة ّ فمن ّ
القصص الداعرة أو األدب المكشوف ،فهو من شياطين اإلنس.
ومن دعا إلى عصبية جاهلية ،من الجاهلية األولى أو الجاهلية
تفرق ًا ،فهو من
الجديدة ،تجعل أمة محمد أمم ًا وتحيل وحدتهم ّ
شياطين اإلنس .ومن صرف الناس عن طريق الجنة إلى طريق النار
رب
وأنساهم ذكر اهلل واليوم اآلخر فهو من شياطين اإلنس{ :وقل ِّ
حضرون}. رب أن َي ُ
أعوذ بك من َه َمزات الشياطين ،وأعوذ بك ِّ
ُ
* * *
189
190
بالر ُسل
اإليمان ُّ
لق
وأول ما يقرره القرآن أن المالئكة والجن والرسل َخ ٌ
من خلق اهلل ،كلهم عباده ،وهو أوجدهم وهو المتصرف فيهم،
ال عن غيرهم) نفع ًا وال ضراً إال
وأنهم ال يملكون ألنفسهم (فض ً
بإذن اهلل.
الرسل جميع ًا بشر ،يولدون كما يولَد البشر ويموتون كما
ويصحون( ،)1ال يختلفون عنهم في ّ يموتون ويمرضون مثلهم
تكوين أجسادهم وال في تصوير أعضائهم وال في َج َريان دمائهم
وحركات قلوبهم ،يأكلون ويشربون كما يأكل الناس ويشربون.
ليس فيهم شيء من األلوهية ألن األلوهية هلل وحده ،ولكنهم
يوحى إليهم .وقد عجبت األمم األولى من الوحي فقال لهم بشر َ
للناس
مبين ًا أنه ال مكان لعجبهم{ :أكان ّ راداً عليهم ِّ
عز وجل ّ اهلل ّ
وبش ِر الذين آمنوا؟}
اس ِّ رجل منهم أن أ ْن ِذ ِر ّ
الن َ أوح ْينا إلى ُ
َع َجب ًا أن َ
______________________
( )1الرسل جميع ًا بشر ،يشبهون البشر في كل شيء إال ما كان من ذلك
المشوهة المنفرة أو المانعة
ِّ منافي ًا الصطفائهم للرسالة ،كاألمراض
من القيام بالدعوة.
191
وعجبوا أن يكون الرسول من البشر ومنعهم من اإليمان {أن
فرد اهلل عليهم بأن الرسول إنما ال؟} ّ قالواَ :أب َع َث اهلل بشراً رسو ً
يكون من جنس َمن أُرسل إليهم ،فالبشر ُيرسل إليهم رسول من
البشر{ :لو كان في األرض مالئك ٌة َيمشون ُمطْ مئِ ّنين َّ
لنزلنا عليهم
ال}.
من السماء َملَك ًا رسو ً
بشر مثلنا ...قالت لهم
وناقشوا رسلهم{ :قالوا إن أنتم إال ٌ
بشر مثلكم ،ولكن اهلل َي ُم ُّن على من يشاء من
إن نحن إال ٌ ُر ُسلهم ْ
عباده} ،وقد َم َّن علينا فأوحى إلينا الشريعة وأمرنا بتبليغها.
الطعام ويمشي في األسواق؟ َ يأكل
{وقالوا :ما لهذا الرسول ُ
فرد اهلل عليهم مخاطب ًا
َك فيكون معه نذيرا}ّ ، لوال أُنزل إليه َمل ٌ
المرسلين إال إنهم
َ رسوله محمداً ’{ :وما أرسلنا قبلك من
الطعام ويمشون في األسواق} .وقال لهم رداً عليهم: َ ل ََيأكلون
األمر ثم
ُ ملك ،ولو أنزلنا ملك ًا ل ُقضي
ٌ {وقالوا لوال أُنزل عليه
َبسنا عليهم ما
ال و َلل ْ
()1
لجعلناه رج ً
ُ ال ُينظَ رون .ولو جعلناه َملَك ًا
َيلبِسون}.
حقيقة الرسول
الرسول بشر يمتاز بالوحي ،وقد قال تعالى لمحمد ’:
بشري َته باستعمال
ّ يوحى إلي} .وقد أكد
بشر مثلُكم َ{قل إ ّنما أنا ٌ
ّ
>إنما< ،وهي تفيد الحصر والقصر وتنفي عنه ما ينافي البشرية،
ثم أكدها مرة ثانية بقوله >مثلكم<.
______________________
( )1أي على هيئة رجل.
192
هو مثلنا في تكوين جسده وطبيعة خلقه ،ولكنا لسنا جميع ًا
مثله في ُخلُقه وال في مزاياه وال في عظمته ،ولو لم يكن محمد
أعظم العظماء وبطل األبطال.
َ خاتم األنبياء لكان -بال جدال-
فإذا كان بشراً مثلنا يجوز عليه ما يجوز علينا ،فهل يخطئ
كما نخطئ؟ والجواب:
-1إن الخطأ إما أن يكون في مجال التبليغ عن اهلل وفي بيان
الشريعة ،وهذا النوع من الخطأ يستحيل وقوعه من الرسل جميع ًا
ألن الرسول {ال ينطق} إذا ب ّلغ عن اهلل أو ّبين شريعته {عن
الناس قد
ُ وحى} ،واهلل يقول{ :يا ّأيها
إن هو إال َو ْح ٌي ُي َ
الهوىْ ،
جاءكم الرسول بالحق من ربكم}.
ويستحيل أن تقع من الرسول -بعد رسالته -معصية أو
يأتي ما يجرح العدالة أو ُي ِخ ّل بالمروءة أو ينافي الكمال ،ألن
يتأسوا به وأن يتبعوه في فعله:
اهلل جعله قدوة وأمر المسلمين أن ّ
{لقد كان لكم في رسول اهلل أُ ْسو ٌة حسن ٌة} ،وهذه األسوة ثابتة
للرسل جميع ًا{ :لقد كان لكم فيهم أُسو ٌة حسن ٌة} ،وذلك يقتضي
العصمة من ارتكاب المعاصي وإتيان النقائص.
-2وإما أن يكون الخطأ في أمر شرعي اجتهد فيه الرسول
ممكن
ٌ ولم ينزل عليه فيه شيء من ربه .وهذا النوع من الخطأ
يبين لهم
يقرهم على الخطأ بل ّ وقوعه من الرسل ،ولكن اهلل ال ُّ
وجه الصواب فيه ،كما وقع من الرسول في قصة األعمى وفي
فبي َن اهلل له أنه لم ُي ِص ْب في اجتهاده.
قصة أسرى بدر ،اجتهد ّ
وقد فكرت في موقف الرسول ’ يوم جاءه األعمى وقلت
193
وعرض لنفسي :لو لم ينزل اهلل هذه اآليات من سورى >عبس< ُ
موقفه على عقالء الدنيا وساستها وعلمائها ،هل كان فيهم أحد
يقول بأن في موقف الرسول ’ ما ُينت َقد أم يقرر الجميع أن الذي
فعله هو عين الصواب؟ رجال من كبار القوم يتألّفهم ويحاول أن
يكسبهم لنصرة الدعوة ،فيأتي واحد من أتباعه يسأله عن مسألة
مستعجلة وال ينشأ عن تأخيرها ضرر وهو يستطيع أن يسأل
َ ليست
عنها في كل وقتُ ،فيرجئ جوابه حتى ينتهي مما هو فيه .هل
غير هذا؟ هل في الدنيا من ال يقول بأن عملأحد من الناس َ
يفعل ٌ
الرسول هو الذي يرونه الصواب؟
لما نزل
ولكن ّ
ْ إنه هو الصواب في مقياس المنطق البشري،
تبي َن أن ميزان اهلل أقوم من موازين الناس وأن
الوحي بمقياس آخر ّ
أصح من حكم العقل ،بل هو الحكم القويم ّ حكم من َخلَق العقل
المعوج المنحرف.
ّ وحكم العقل هنا هو
194
خبرهم بأنه ليس لديه فيه أمر من اهلل وأنه رأي شخصي عرضوا
فإن ّ
ردها.
عليه آراءهم فأخذ بها أو ّ
كما وقع في حادثة اختيار المعسكر يوم بدر ،إذ قالوا له :يا
رسول اهلل ،أهذا منزل أنزلَكَ ه اهلل ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر،
أم هو الرأي والمكيدة؟ فلما بين لهم أنه رأيه الشخصي عرضوا
عليه رأي ًا غيره ،فأخذ به وعدل عن رأيه .ووقع مثل ذلك في حفر
الخندق وفي حادثة الصلح مع غطفان في تلك المعركة.
______________________
( )1ولعل الحديث الوارد في الذباب إذا سقط في اإلناء من هذا القبيل،
جناحي
َ أن غمس والدليل على ذلك أنه لم يقل أحد من العلماء ّ
الذبابة واجب وأن مخالفة هذا األمر وعدم غمسه حرام.
195
الرسول ال يعلم الغيب
196
ويفهِمهم{ :وما أسلنا من رسول إال بلسان قو ِمه ُلي َب ِّين ليك ّلمهم ُ
لهم} ،وختم هذه الرساالت برسالة محمد ’ وجعلها عامة
وحي ينزل َ نبي بعده وال
للناس جميع ًا وجعله خاتم النبيين ،فال َّ
من السماء بعد أن انقطع بموته ،وكان بها كمال الدين وإتمام
ورضيت
ُ وأتممت عليكم نعمتي
ُ أكملت لكم دينكم
ُ {اليوم
َ النعمة:
اإلسالم دين ًا}.
َ لكم
سؤال وجوابه
قد يسأل سائل :كيف كانت رسالة محمد للناس كلهم
وكانت رسالة كل رسول إلى قومه ،وكيف بقيت إلى يوم القيامة
وع ّدلت؟
عدل وقد ُنسخت الشرائع من قبلها ُ
نسخ وال ُت َّ
ال ُت َ
والجواب واهلل أعلم :إن شريعة اإلسالم جاءت مرنة تصلح
لكل زمان ومكان .وبيان ذلك أن العقائد والعبادات في اإلسالم
مفصلة ال تقبل التعديل وال التبديل ،ألن
جاءت بها نصوص قطعية ّ
العقائد والعبادات ال تتبدل بتبدل األزمان وال تختلف باختالف
األعراف.
واألوضاع الدستورية والمعامالت المالية واألحوال اإلدارية
التي يؤثر فيها تبدل الزمان واختالف العرف جاءت فيها نصوص
عامة هي كاألساس والدعائم في البناء ،و ُترك لنا أن نضع لكل
زمان ما يصلح له بشرط المحافظة على هذه القواعد .وأم ّثل على
ذلك بأمثلة أعرضها عرض ًا موجزاً:
منتخب ًا برأي
من األمثلة أن اإلسالم أوجب أن يكون الحاكم َ
األمة وأن يكون فيه من الصفات ما يمكّ نه من القيام بأعباء الحكم،
197
وأن يلتزم بالدستور اإلسالمي الذي هو القرآن ،وأن يستشير أهل
الحل والعقد .وترك لنا تحديد أسلوب االنتخاب (أي البيعة)
وألزمنا
َ وطريقة تعيين أهل الحل والعقد وكيفية االستشارة ،إلخ.
أن نحكم بين الناس بالعدل ،ولكنه ترك لنا رسم الطريق الموصل
إلى العدل وأن نحدد أسلوب تعيين القضاة وأصول المرافعات.
ووضع للعقود قواعد عامة تضمن أهلية المتعاقدين
وحريتهما وصحة صيغة العقد وتعبيرها عن إرادتهما ومحل
العقد ،ومنع أنواع ًا من العقود فيها مضرة عامة أو فيها تغرير بأحد
الطرفين ،وترك لنا تنظيم األوضاع التفصيلية للعقود بأنواعها.
وجعل األعمال الفردية والمعامالت المالية جائزة مباحة ،ال تحرم
محرم.
إال إن ورد بنص تحريمها أو دخلت تحت أصل َّ
وفتح لنا باب االستصالح ،فكل أمر فيه مصلحة للمجتمع
وليس في الشرع ما يوجبه أو ينهى عنه إذا أمر به الحاكم المسلم
صار واجب ًا ديني ًا ،كالقوانين المالية وقانون أصول المحاكمات
واألنظمة اإلدارية ،كنظام السير ونظام البلديات وأمثالها.
فاإلسالم فيه من المرونة ما يجعله صالح ًا لكل زمان
يضيقون
ومكان ،ولكن بعض الفقهاء المتأخرين (لضيق أذهانهم) ّ
وسعه الشرع حتى َيضطروهم (كما قال ابن القيم على الناس ما ّ
في كتاب >الطرق الحكمية<) إلى ابتغاء التوسعة في غير ما جاء
به اإلسالم.
وسبب آخر :هو أن األمم كانت على عهود الرسل األولين
تقارب بينها وال اتصال إال على الدواب
َ تعيش في عزلة ،ال
198
والجمال ،فتعارفت األمم بعد رسالة محمد ’ ،ودنا البعيد
وطُويت للمسافر األرض ،حتى وصلنا إلى زمان ُتلقى فيه
الخطبة في أميركا فيسمعها من في الصين قبل من كان قاعداً
أمام الخطيب( ،)1وصارت الدنيا كأنها بلد واحد واألمم كلها
أمة واحدة ،ولو أن المسلمين قاموا بما يجب عليهم من الدعوة
األرض كلها.
َ لدينهم وتبليغ رسالة اإلسالم ل ََع َّمت هذه الدعو ُة
اإلسالم ال يفرق بين الرسل
يدعون االنتساب إلى واحد (ممن ّ
وإذا كان في أتباع األنبياء ّ
منهم) من يطعن على غير نبيه فإن اإلسالم أوجب على المسلم
تعظيم األنبياء والرسل جميع ًا ،فإذا أساء القولَ في واحد منهم أو
{آم َن الرسول بما أُنزل إليه من طعن عليه خالف طريق اإلسالمَ :
فر ُق
آم َن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله ،ال ُن ّ كل َ
ربه والمؤمنونٌّ ،ّ
ربنا وإليك ِ ِ ٍ
بين أحد من ُر ُسله ،وقالوا سمعنا وأطَ عنا ُغفرا َنك َّ
المصير}.
وغيرهما كما يحب محمداً،
َ فالمسلم يحب موسى وعيسى
ويج ّلهم ويكبرهم كإكباره محمداً وإجالله .واليهودي الذي دخل
لما جاء بها المسيح لم يخسر موسى ولكنه ربح معه النصرانية ّ
عيسى ،والنصراني الذي يدخل اليوم في اإلسالم ال يخسر عيسى
وموسى ولكن يربح معهما محمداً ،صلى اهلل على محمد وعلى
جميع األنبياء والمرسلين.
______________________
( )1هذه حقيقة ،ألن انتقالها عن طريق الموجات اإلذاعية أسرع من
انتقالها عن طريق االهتزازات الهوائية.
199
الرسل في القرآن
200
بعضهم على بعض ،منهم
فضلنا َ
الر ُسل َّ
يجب اإليمان به{ :تلك ُّ
بعض ُهم درجات}.
ور َفع َ
من َكل ََّم اهلل َ
المعجزات
لما أُسري برسول اهلل ’ من مكة إلى القدس فذهب وعاد ّ
ال
وعدته مستحي ً
في ليلة واحدة لم تستطع قريش أن تصدق ذلك ّ
ألنه ال يمكن تحقيقه بوسائلها المعروفة وهي اإلبل والدواب،
عجب منه
ولكن هذا المستحيل صار اليوم أمراً ممكن ًا مألوف ًا ال ُي َ
وال ينكره أحد.
201
العادة فقد رأينا كيف أن العلم (علم العبد بقوانين الطبيعة)
()1
صيره ممكن ًا ،فهل يعجز الخالق الذي أوجد هذه القوانين أن ّ
يصيره ُممكن ًا؟ ال شك في قدرته على ذلك ،فوقوع المستحيل فيّ
صح الخبر به تح ّققنا من وقوعه
العادة ممكن هلل عز وجل ،فإذا ّ
وأي ّقنا به.
الكرامات
وقد جاء في القرآن ذكر ثالثة أنواع فيها وقوع المستحيل
في العادة:
تحدتهم أقوامهم ،إثبات ًا
ّ لما
نوع وقع على يد الرسل ّ
لرسالتهم وتأكيداً لصدقهم ،ويسمى >المعجزة< .فإبراهيم أُلقي في
فبدل اهلل طبيعة النار المحرقة وجعلها برداً وسالم ًا ،وموسى
النار ّ
حية وضرب بها الصخر فانبجس منه الماء ألقى عصاه فانقلبت ّ
والبحر فانحسر حتى مشى فيه الناس ،وعيسى أحيا الموتى بإذن
اهلل ،وكذلك كل ما جاء في القرآن من المعجزات.
ونوع وقع على يد ولي هلل صالح ،كوجود الطعام عند مريم
ّ
عرش بلقيس
َ في المحراب ،وإحضار الذي عنده علم من الكتاب
من اليمن إلى فلسطين في أقل من لمح البصر ،وتسمى >الكرامة<.
______________________
( )1أي سنن اهلل في الكون.
202
ال) بأن األنواع الثالثة ممكنة الوقوع ألنها
ويجب اإليمان (أو ً
وردت في القرآن ،ويجب اإليمان (ثاني ًا) على وجه التفصيل بكل
ما ورد من ذلك في القرآن.
أما ما يرويه الناس من الكرامات ينسبونه إلى بعض من
يسمونهم أولياء فهو خبر يحتمل الصدق والكذب ،فإن كان واقع ًا
وصدقت به لم يكن عليك من اهلل ّ من ولي( )1ولم تكن فيه معصية
ّ
تصدق به لم يكن عليك من اهللّ فلم عندك يصح
ّ لم وإن شيء،
شيء .أما إن كانت الكرامة المزعومة تشتمل على معصية( )2أو
تقي فليست كرامة.
كانت واقعة من غير مؤمن أو من غير ٍّ
المعجزة والسحر
لما كانت المباراة بين موسى وسحرة فرعون أل َق ْوا حبالهم
وع ِص َّيهم فرآها الناس حيات وثعابين ،وألقى موسى عصاه َ
فصارت حية وأكلت تلك الحيات والثعابين ،فهل األمران سواء؟
هل عمل موسى من جنس عمل سحرة فرعون؟
إذا كان من جنسه فلماذا آمن السحرة؟ لقد كان عمل السحرة
خداع ًا للبصر وإيهام ًا للناسَ ،أر ْوهم حيات وثعابين مع أن الحبال
ال وعصي ًا ،أما عصا موسى فقد
والعصي ال تزال على حالها ،حبا ً
ّ
ال إلى حية ،ولو كان ثمة آلة التصوير والتقطت صورتها تحولت ً
فع ّ
______________________
خوف عليهم وال هم
ٌ أولياء اهلل ال
َ إن
( )1والولي هو المؤمن التقي{ :أال ّ
يحزنون ،الذين آمنوا وكانوا ّيتقون}.
الشعراني في >الطبقات<. ( )2كبعض ما يروي ّ
203
لظهرت في الصورة حية حقيقية ،على حين تظهر حيات السحرة
ال وعصي ًا.
حبا ً
لذلك آمن السحرة هذا اإليمان السريع .إنهم رأوا شيئ ًا ليس
هز قلوبهم حتى من السحر وال من التخييل وال من التهويل ،شيئ ًا َّ
يتحدون
َّ اضطَ ّرها إلى اإليمان ،وبلغ منهم اإليمان مبلغ ًا جعلهم
فرعون وال يبالون به .إنهم تصوروا عظمة اهلل الذي آمنوا به فهانت
عليهم عظمة فرعون الزائفة وربوبيته المكذوبة ،لقد صغرت
الدنيا في عيونهم فلم يحفلوا بتهديد فرعون إياهم بالصلب وقطع
األعضاء.
إن فرعون ال يملك إال تعذيبهم في الدنيا ،وما الدنيا في
جنب اآلخرة؟ وما عذابها المؤقت عند نعيم اآلخرة الدائم؟ لذلك
ٍ
قاض، أنت ِ
{فاقض ما َ صرخوا في وجهه مستهينين بقضائه:
إ ّنما َتقضي هذه الحيا َة الدنيا} .إني أتمنى واهلل ،وأنا المولود
في اإلسالم الذي تسلسل في آبائه اإلسالم ،أن يكون لي مثل
هذا اإليمان الذي كان لسحرة فرعون بعد دقائق معدودات من
إسالمهم(.)1
______________________
( )1اإلسالم له معنى عام ومعنى خاص ومعنى أخص ،فالمسلم بالمعنى
ال وقت رسالته ،والمسلم بالمعنى الخاص:
العام :كل من اتبع رسو ً
من اتبع رسالة محمد ’ ،وبالمعنى األخص :ما ورد في حديث
جبريل الذي شرح معنى اإليمان واإلسالم واإلحسان .وإطالق
اإلسالم هنا بالمعنى العام.
204
معجزات محمد عليه الصالة والسالم
المعجزتان الكبريان :القرآن ،وهذه المزايا المفردة التي
ال لحمل رسالة اإلسالم.
جعله اهلل بها أه ً
ترجمة حياته ’ كانت في ذاتها معجزة .كان بشراً وأمره اهلل
أن يقرر هذه الحقيقة ويعلنها للناس لئال يتخذوه إله ًا أو يمنحوه
بشر
جل وعالُ { :قل إنما أنا ٌ من صفات األلوهية ،قال له ربه ّ
المقومات العامة للصفة البشرية، ِّ وحى إلي} .بشر مثلكم في ُي َ
ّ
ولكن ليس في البشر (على التحقيق) َمن هو مثله في عظمته ،ولم
ال واحداً اسمه يخلق اهلل من هذا الطراز من أبناء آدم جميع ًا إال رج ً
محمد بن عبد اهلل ،صلى اهلل عليه وعلى أبيه إبراهيم وعلى موسى
وعيسى وجميع األنبياء.
وأنا أعجب لماذا حاول المتأخرون من مؤلفي السيرة
االستكثار من المعجزات والتوسع فيها وإضافة معجزات لم
تكن .وما حاجتهم إليها وكل موقف من سيرة الرسول ’ وكل
جانب من شخصيته هو معجزة من أكبر المعجزات .وما المعجزة؟
أليست األمر الذي َيعجز الناس عن مثله؟
إن صدقه وأمانته معجزة ،ولن أسرد عليكم أمثلة كثيرة
مررت بها في مطالعاتي مئات
ُ ال واحداً ،حادثة
ولكن أعرض مثا ً
تنبهت إليها يوم ًا
المرات فكنت أقرؤها على أنها خبر عادي ،ثم ّ
فجأة فإذا هي أعجوبة ،وكم في السيرة من أمثال هذه األخبار!
علي ًا
كلكم تعرفون أنه لما هاجر الرسول إلى المدينة ترك ّ
مكانه ليرد الودائع التي كانت عنده لقريش ،فهل فكرتم يوم ًا :ما
205
يبق أحد من
قصة هذه الودائع؟ يردها لقريش ال للمسلمين ،إذ لم َ
المسلمين في مكة لما هاجر الرسول ألنه كان آخر من هاجر ،بقي
كما يبقى الربان في السفينة الجانحة ،ال يتركها حتى ينزل الركاب
جميع ًا ويصلوا إلى قوارب النجاة ،وهذه َم ْنقبة ذكرتها عرض ًا.
قصة الودائع هي أن قريش ًا كانت (على كل ما كان بينها وبين
الرسول) ال تجد من تأتمنه على ذخائرها إال محمداً .فتصوروا
حزبين مختلفين ،الحرب قائمة بينهما ،حرب اللسان واليد
والمبدأ والعقيدة ،ثم يأتمن أفراد الحزب على أموالهم وأوراقهم
ال من الحزب اآلخر! هل سمعتم بمثل هذه الحادثة؟ وكيف رج ً
إن لم يكن في أخالقه وأمانته معجزة من الخصم ْ
َ يستودعونها هذا
أحد المستحيالت؟ هكذا كان محمد ’ (.)1 والشك فيه َ
ُّ المعجزات
كانت سيرة حياته كلها معجزة عجز عظماء العالم جميع ًا عن
أن يتركوا لهم سيرة مثلها ،في كل ناحية منها عزة وعظمة :في
قوة جسده وتكوينه الرياضي ،في روحه الرياضية وأنه ال يستخفه
النصر حتى يبطره وال تزلزله الهزيمة حتى تثير غضبه أو تذهب
بعزمه ،في ثباته في المعامع الحمر حتى كان أبطال الصحابة
يحتمون به ،وفي شجاعته التي تضعضع أمامها صناديد الرجال،
وفي تواضعه للمسكين والفقير ووقوفه لألرملة وللعجوز.
وفي بيانه وفصاحته وأنه كان أبلغ من نطق وأبان .وفي إقراره
بالحق ،وفي صدق التبليغ عن اهلل حتى إنه ب ّلغ اآليات التي نزلت
في تخطئته وفي عتابه ،وفي احترامه العهود وحفاظه على كلمته
______________________
( )1انظر مقالة >خبر من السيرة< في كتاب >مقاالت في كلمات< (مجاهد).
206
ونصب ،سواء عنده في ذلك
مهما كلفه الحفاظ عليها من مشقة َ
معامالته الشخصية وشؤون الدولة.
وحسه المرهف ،وأنه هو الذي َس ّن آداب الطعام ّ وفي ذوقه
وقرر قواعد النظافة في وضعه مع أصحابه إذ يعلمهم ويعمل
معهم ،ويعيش مثلما يعيشون ويستشيرهم ويسمع منهم ،ويجلس
حيث يجد المكان الفارغ في آخر المجلس حتى كان القادم عليه
ال يراه ،ينظر في وجوه القوم فيقول :أيكم محمد؟ ألن محمداً
لم يكن يمتاز عليهم في جلوسه وال في ثيابه ،كان مثلهم في كل
المهذب العفيف مع النساء ،وفي سيرته في بيته ّ شيء ،في سلوكه
محبب ًا إلى كل
ومع أهله ،ومزحه الصادق وانطالق نفسه وأنه كان َّ
قلب .في تواضعه ورفضه أن ُي َع ّد ملك ًا ونهي أصحابه عن القيام له،
وأنه كان يقوم بحاجة أهله ويخصف بيده نعله ،وأنه عاش حياة
الفقر زهداً في الغنى ال عجزاً عنه ،ولو شاء لكان قصره أفخم من
إيوان كسرى ودارة قيصر ،ولكنه اختار اآلخرة فكانت دور نسائه
جميع ًا ،نسائه التسع ،ال يتجاوز طولها كلهاخمسة وعشرين متراً.
كل ذلك فيه اإلعجاز وفيه الدليل على أن اهلل ما اختاره
ألسمى الرساالت وما جعله خاتم األنبياء حتى أعده لذلك إعداداً
جعله واحداً في بنى آدم ليس له في شمائله نظير ’ ،و{اهلل أعلم
حيث يجعل رسالته}(.)1
* * *
______________________
( )1للتوسع في مناقب النبي وشخصيته ’ انظر فصل >شخصية الرسول
’< في كتاب >سيد رجال التاريخ< (مجاهد).
207
208
اإليمان بالكُ ُتب
القرآن
القرآن هو معجزة محمد ’ .والذين زعموا أن القرآن من
تأليف محمد أنكروا عليه أنه نبي ولكنهم وصفهم بأنه إله ،ونحن
نشهد >أن ال إله إال اهلل وأنه عبد اهلل ورسوله< .ذلك أن القرآن ال
فمن
يستطيع أن يأتي به بشر وال يمكن أن يأتي إال من عند اهللَ ،
قال إن محمداً ألّفه فقد منح محمداً صفة األلوهية!
أمي ًا ال يقرأ وال يكتب كما كان
ال كان ّ
وإال فأروني رج ً
محمد ،ولم يدخل في عمره مدرسة ،بل لم يكن في بلده
مدرسة ،بل هو لم يكن في بلدة كبيرة من بلدان الحضارة بل
كان في قرية متوارية بين الجبال السود وراء رمال الصحراء ،لم
تد ِر بها روما وال القسطنطينية وال مدائن كسرى ولم يدر أحد
فيها بفلسفة اليونان والرومان ولم يسمع واحد منهم بأدب الهند
وإيران ،قرية ليس فيها عالم وال باحث وال مثقف ثقاف َة صغا ِر
المفكرين في ذلك الزمان ،وهو لم يخرج منها إال إلى قرية مثلها
ال منها ،هي ُبصرى الشام من أرض حوران ،ولم ُيقم أو أكبر قلي ً
فيها إال يوم ًا أو أيام ًا قليالت معدودات ...هل يمكن لمثل هذا
209
الرجل أن يأتي بمثل القرآن؟
هذه تواريخ العباقرة والنابغين بين أيديكم ،تواريخ األمم
كلها في العصور كلها ،فهل فيها حادث مثل هذا الحادث؟ لقد
ألف موزارت قطعة موسيقية وهو دون العاشرة ،ونظم بشار الشعر
وهو في مثل هذه السن ،ونبغت مؤلفة >جين إير< وأختها كاتبة
>أعالي وذرنغ< نبوغ ًا مفاجئ ًا( ،)1وترك شكسبير هذه الثروة األدبية
ولم يكن من أكابر أدباء عصره ومثقفيه ...كل هذا ممكن ،ويمكن
أن يؤلِّف شاب مغمور كتاب ًا يأتي فيه بقصة رائعة أو نظرية علمية
جديدة ألنه عبقري ،فالعبقرية ليست وقف ًا على المتعلمين وال على
خريجي الجامعات ،وقد تظهر العبقرية حيث ال ُيتوقع ظهورها، ّ
ولكن َمن عرفهم التاريخ من عباقرة العلم واألدب والفن إنما ّ
ال ،زادوا على أقرانهم خمسين في المئة أو سبقوا زمانهم بقرن مث ً
مئة في المئة .إن لسبقهم حدوداً ،إنه سبق معقول.
وليس في التاريخ كله رجل كانت له ظروف محمد ’،
يأتي بكتاب هو في األسلوب األدبي في أبهى صور الجمال،
وهو في مجال التشريع قانون في ذروة الكمال ،وهو في اإللهيات
المغيبات يأتي بما ال يعرفه أحد من البشر وال يمكن
َّ واإلخبار عن
______________________
( )1مؤلفة >جين إير< هي شارلوت برونتي ،وأختها مؤلفة >أعالي وذرنغ<
هي إميلي برونتي ،ولهما أخت ثالثة روائية مثلهما اسمها آن ،وهي
أقل شهرة منهما .ومن رواية >أعالي وذرنغ< استوحى جدي قصته
الطويلة >على ثلوج حزرين< التي نشرها في >الرسالة< سنة 1947
في خمس حلقات ،وهي في كتاب >قصص من الحياة< (مجاهد).
210
العقل البشري ،وهو في الطبيعة يشير إلى قوانين
ُ أن يدركه بنفسه
وظواهر لم يكن يعرفها أحد في عصره وال في العصر الذي تال
عصره وال في العصور العشرة التي جاءت بعد ذلك ،فيه إشارات
إلى قوانين لم ُتكشف إال بعده بألف وثالثمئة سنة وقوانين لم
ُتكشف لآلن.
يتحدى به الناس جميع ًا ،فتحدى اإلنس
ّ كتاب أمره اهلل أن
والجن أن يأتوا بعشر سور من أمثال سوره ،بل أن يأتوا بسورة
واحدة ،فعجزوا! وهذا التحدي قائم إلى اآلن والعجز مستمر إلى
اآلن.
إعجاز ثابت ،ولكن ال تبحثوا (كما بحث علماء البالغة)
عن مواطن اإلعجاز ،فإن موطن اإلعجاز ليس في ألفاظه وحدها
المغيبات فقط وال في أمر واحد من األمور التي
َّ وال في أخباره عن
ّاد َعوا أن اإلعجاز فيها ،بل فيه كله مجتمع ًا .كالمرأة الجميلة،
ليس جمالها في لون بشرتها وحده وال في عينيها وحدهما وال في
أي عضو من أعضائها ،بل جمالها فيها كله .وإن كان كل ناظر في
القرآن يلمح اإلعجاز من الجهة التي ينظر فيها.
تعرفون قصة رئيس قسم تحقيق الشخصية الذي أسلم لما
سمع قوله تعالى{ :بلى قادرين على أن ُن َس ِّو َي بنا َنه} .فكّ َر :لماذا
خص البنان بالذكر؟ ماذا فيه؟ فيه بصمات األصابع .هذه المعجزة ّ
اإللهية العجيبة ،كم ظهر على األرض من ناس؟ إنه ليس فيهم
اثنان تتفق بصمة أحدهما وبصمة اآلخر .إنها ظاهرة عجيبة لكنها
ُعرفت من قريب ،لم يكن يعرفها أحد على عهد محمد وال في
القرون العشرة التي تلت عهد محمد .فال بد إذن أن يكون محمد
211
’ قد تلقاها من عند اهلل وال بد أن يكون القرآن كالم اهلل.
وفي القرآن مئات من أمثال هذه اإلشارة ال نزال نجد كل
دارس بدت لهٌ القرآن
َ يوم من ينتبه إلى واحدة منها ،كلما درس
فنى عجائبه. من إعجازه جوانب لم يدركها األولون ،ألنه ال َت َ
يفسر القرآن في كل زمان تفسيراً جديداً :يفسره لذلك يجب أن َّ
األديب ،ويفسره الحقوقي ،ويفسره الفلكي ،ويفسره عالم النفس
ال لعلمهوعالم االجتماع والمؤرخ ...كل واحد منهم يجد فيه مجا ً
ال من اختصاصه وعلمه على أن القرآن كالم اهلل. واختصاصه ودلي ً
إن معجزات الرسل األولين وقعت مرة وانقضت ،ولكن
معجزة محمد قائمة تتكرر كل يوم .ومعجزات الرسل دليل من
غير جنس الرسالة على صحة الرسالة ،ومعجزة رسالة محمد
هي رسالته نفسها ،صلى اهلل وس ّلم عليه وعلى إخوانه األنبياء
والمرسلين.
اإليمان بالكتب
خبرنا عنها القرآن،
المنزلة التي ّ
َّ نحن نؤمن بالقرآن وبالكتب
وهذه الكتب هي :صحف إبراهيم ،وصحف موسى (وهي التوراة)
وزبور داود وإنجيل عيسى.
َ
والقرآن هو الحاكم عليها والميزان الذي ُيعرف به صحيحها
بالحق
ّ الكتاب
َ إليك
من الذي ُح ِّرف منها ،قال تعالى{ :وأنزلنا َ
أخبرنا اهلل
َ وم َه ْي ِمن ًا عليه} .فما
ُم َص ِّدق ًا لما بين يديه من الكتاب ُ
في القرآن أنه من هذه الكتب ّآمنا به وقلنا بكفر من أنكره ،وما
وافق القرآن من أخبار هذه الكتب اعتقدنا أنه باق على صحته
212
وأن التحريف لم يصل إليه ،وما جاء من أخبارها مخالف ًا لما رواه
محرف عن أصله.
القرآن عنها اعتقدنا أنه َّ
صحف إبراهيم
خبرنا اهلل أن مما جاء في صحف إبراهيم وتكرر في صحف ّ
وأن ليس لإلنسان إال ما
ْ أخرى، ر ز ِ
و
ٌ ْ َ ة وازر ِر
َ َ ز ت لاّ أ { موسى
وأن إلى
الجزاء األوفىّ ،
َ سعيه سوف ُيرى ،ثم ُيجزاه وأن َ سعىّ ،
تزكى ،وذكر
الم َنتهى} .وأن من ذلك قوله{ :قد أفلح َمن ّ ربك ُ
إن
خير وأبقىّ . ِ
فص ّلى .بل ُت ْؤثرون الحيا َة الدنيا ،واآلخر ُة ٌ اسم ربه َ َ
ِ
الص ُحف األولىُ ،ص ُحف إبراهيم وموسى}. ِ هذا لَفي ُّ
التوراة
منزلة من عند اهلل ،فيها هدى للناس وفيها حكم اهلل؛ التوراة ّ
قال تعالى{ :وكيف ُيحكِّ مونك وعندهم التورا ُة فيها ُح ُ
كم اهلل}
{إ ّنا أنزلنا التورا َة فيها ُهدى ونور}.
خبرنا به عن أحكام التوراة قوله{ :وكتبنا عليهم فيها ومما ّ
أل ُذ َن با ُ
ألذن واألنف باألنف وا ُ
َ والعين بالعين
َ فس بالنفسالن َ
أن ّ ّ
والجروح ِقصاص}(.)1 بالسن ُوالسن ِّ
ِّ
وخبرنا أن فيها بشارة بمحمد ’ ،قال{ :الذين ّيتبعون
ّ
التوراة} .وأن فيها وصف
النبي الذي يجدونه مكتوب ًا عندهم في ّ
َّ
أشد ُاء على الكفار
{محم ٌد رسولُ اهلل ،والذين معه ّ
ّ المؤمنين:
______________________
( )1لبعض العلماء بحث فيه هذه األحكام :هل ُكلِّفنا نحن المسلمين بها
أم ال؟ راجع تفسير المنار.
213
ال من اهلل ورضوان ًا،
ماء بينهم ،تراهم ُر َّكع ًا ُس ّجداً يبتغون فض ً
ُر َح ُ
السجود ،ذلك مثله في التوراة}. سيماهم في وجوههم من أثر ّ
ال َّزبور
وخبرنا أن مما ُكتب فيداود َز ُبوراً}ّ ،َ قال تعالى{ :وآتينا
األرض ،قال تعالى{ :ولقد كتبنا في َ الزبور وراثة الصالحين
األرض ير ُثها عبا ِد َي الصالحون} .ولعل
َ أن
الزبور من بعد الذِّ ك ِر ّ
َّ
المراد باألرض الجنة ،لقوله تعالى حكاية عن المؤمنين الذين
األرض
َ وعد ُه وأورثنا
الحمد هلل الذي صد َقنا َُ يدخلونها{ :وقالوا
نتبوأ من الج َّن ِة حيث نشاء}.
ّ
اإلنجيل
صدق ًا لما بين
وم ِّ ونور ُ
ٌ اإلنجيل فيه هدى
َ قال تعالى{ :وآتيناه
المنزل يشتمل على أحكام َّ وبين أن اإلنجيل يديه من التوراة}ّ .
اإلنجيل بما أنزلَ اهلل فيه} ،وفيه تعديل ِ أهل
{ول َْي ْحكُ ْم ُ
تشريعيةَ :
التورا ِة ولأِ ُ ِحلَّ لكم
يدي ِم َن ّ
صدق ًا لما بين َّ
{وم ِّ
ُ لشريعة التوراة:
بعض الذي ُح ِّر َم عليكم} .وفيه كالتوراة بشارة بمحمد ووصف َ
للمؤمنين به.
ونحن نؤمن بكل ما أنزل اهلل من صحف وتوراة وزبور
وإنجيل ،ونحترم األنبياء كلهم وفيهم إبراهيم وموسى وداود
وعيسى ،صلى اهلل عليهم جميع ًا.
* * *
214
خاتمة
215
وإن كانتوانظروا في فهرسه تروا هذه الجوانب كلها فيه(ْ .)1
العبادات في الديانات األخرى صالة فقط فالعبادة عندنا ليست
إن كل عمل ينفع الناس -إن قصد به فاعله
صالة وصيام ًا فقط ،بل ّ
وجه اهلل -كان له عبادة.
وإذا فصلوا بين الدين (الذي هو عبادة فقط) والعلم فاإلسالم
دين العلم .أول كلمة نزلت من كتابه كانت >اقرأ< ،لم تكن قاتل
وال اجمع المال وال ازهد في الدنيا> .اقرأ< هذه أول كلمة أُنزلت
من القرآن وجاء بعدها ذكر العلم ،ما َم َّن اهلل على اإلنسان بما
أعطاه من مال وال قوة وال جاه ،بل بأنه ع ّلمه ما لم َي ْعلم.
فرض
َ وكل عمل يحتاج إليه مجتمع إسالمي يكون تع ّلمه
كفاية على القادرين عليه ،فهل في الوجود دين إال اإلسالم يجعل
تعلم الكيمياء والطب والطيران من الفروض الدينية؟
واإلسالم دين الغنى .اهلل سمى المال في القرآن خيراً فقال:
{إن ترك خيراً
َشديد} وقال في آية الوصيةْ :
ٌ {وإ ّنه لِ ُح ِّب الخير ل
ال .فينبغي أن يكون المسلمون أغنياء ،ولكن بشرط }...أي :ما ً
أن يجمعوا المال من الحالل وأن يكون المال في أيديهم ال في
مسخر لإلنسان ،واإلنسانَّ قلوبهم .والمال وكل ما في الكون
سيد لِما في الكون من أشياء،
حس أنه عبد اهلل ،ولكنه ٌ المسلم ُي ّ
يتصرف فيه تصرف السيد ،يستجلب النفع الذي أودعه اهلل فيه،
______________________
اليوم من المقررات المعلومة التي ال تحتاج إلى بيان ،ولم
َ ( )1صار هذا
لما كنت أكتبه وأحاضر به في أواخر العشرينيات وأوائل يكن كذلك ّ
الثالثينيات ،وكتاباتي فيه كانت بحمد اهلل سابقة رائدة.
216
فإن عظّ مه لذاته صار
فهو يرغب في النافع ولكن ال يعظّ مه لذاتهْ ،
عبداً له وكان بذلك قد أشركه في العبادة مع اهلل.
أنت ّادخرته وخبأته ولم
فإن َ
والمال جعله اهلل لجلب النفعْ ،
تنتفع منه صرت خادم ًا له وعبداً ،وقد قال الرسول ’َ > :ت ِعس
عبد الدرهم< .والثياب ُجعلت لدفع البرد وستر الجسد ،فإن
عظّ متها لذاتها فحفظتها ورعيتها ولم تنتفع بها صرت عبداً لها،
وقد >تعس عبد الخميصة<.
واإلسالم دين القوة ،ولكن بال ظلم .واإلسالم للدنيا واآلخرة:
{ربنا آتِنا في الدنيا حسنة ،وفي اآلخرة حسنة}.
َّ
وهو يريد من المسلمين أن َي ْصدقوا اإليمان وأن يتبعوا
الشرع ،وأن يكونوا -مع هذا -أرقى األمم وأقوى األمم وأعلم
األمم وأغنى األمم ليجمعوا حسنة الدنيا وحسنة اآلخرة ،وأن يعلم
كل مسلم -بعد هذا -أن عليه واجب ًا آخر ،هو التعريف باإلسالم
والدعوة إلى اهلل بالحكمة والموعظة الحسنة ،فال ُيكره الناس
الدين} بل يعرض عليهم محاسنه إكراه في ّ
َ على اإلسالم {ال
حتى يرغبوا فيه ،وال يدعو بلسان مقاله فقط ،بل بلسان حاله،
مجسمة لمبادئ اإلسالم ،ال َّ بأن يكون المجتمع اإلسالمي صورة
بأن يكون صورة مشوهة لها تنفر منها وتبعد عنها كما هي الحال
قوي العقل ليقيم الحجة ،عالم ًا باإلسالم
اآلن .بأن يكون الداعي َّ
ليحسن العرض ،مث ّقف ًا بثقافة العصر ليك ّلم الناس بلغة العصر،
وأن يكون لطيف المدخل خفيف الظل ،ال فظّ ًا وال غليظ ًا وال
جافي ًا عاتي ًا ،وأن يعلم أن اإلسالم ال يفزع من المناظرة وال يهرب
منها ،وأن كل شيء فيه بالدليل وبالحجة والبرهان ،وأنه يطالب
217
بالدليل حتى ممن يدعي ما يخالف اإلسالمُ { :قل هاتوا ُبرهانكم
آخر ال ُبرهان له به} لو
{وم ْن َي ْد ُع مع اهلل إله ًا َ
َ إن كنتم صادقين}
ْ
كان له برهان ،ولكن يستحيل إقامة الدليل على خالف التوحيد.
لو ُوجد هؤالء الدعاة إلى اهلل لدخلت الدنيا كلها في دين
اهلل.
واهلل أنزل هذا الدين وهو قد تعهد بحفظه{ :إ ّنا نحن ّنزلنا
باق ال يزول ،والعاقبة له، كر وإ ّنا له لَحافظون} .فاإلسالم ٍ
الذِّ َ
ولكن إما أن نعود -نحن المسلمين -إلى ديننا فيكون لنا شرف
النصر في الدنيا وثواب اهلل في اآلخرة ،أو يستبدل اهلل بنا قوم ًا
غيرنا يدخلون في اإلسالم ويتولَّون الدعوة إليه والدفاع عنه.
يردنا إلى ديننا وأن
نعوذ باهلل من أن يستبدل بنا ،ونسأله أن ّ
يكتب النصر له على أيدينا ،وأن يغفر لنا ويرحمنا .وآخر دعوانا
أن الحمد هلل رب العالمين.
* * *
218
�ﻟﻘﺮ�� �ﻟﻜﺮ��
�ﻟﻰ ّ
ﺑﺬﻟﺖ ﻓﻲ ﺗﺼﺤﻴﺢ ﻫﺬ� �ﻟﻜﺘﺎ� ﻏﺎﻳ َﺔ ﻣﺎ �ﺳﺘﻄﻌﺖُ ﻟﻘﺪ
ﺳﻬﻮ�
ُ ﻟﻜﻨﻲ ﻻ َ�ﻣ ُﻦ �� ﻳﻜﻮ� ﻓﻴﻪ ﺧﻄﺄ
ﻣﻦ �ﻟﺠﻬﺪّ ،
ﻋﻨﻪ ،ﻷ� �ﻟﻜﻤﺎ� ﻟﻴﺲ ﻷﺣﺪ ﻣﻦ �ﻟﺒﺸﺮ� ،ﻧﻤﺎ ﻫﻮ
ﻣﻦ ﺻﻔﺎ� ﺧﺎﻟﻖ �ﻟﺒﺸﺮ .ﻓﺄ�ﺟﻮ �� َﻳ ُﻤ ّﻦ ﻋﻠﻲ ﻗﺎ�ﺋﻪ
ّ
ﺤﺘﻬﺎ ��ﻋﺪ� ﺻﺤ ُ ﺟﺪ� �ﻟﺘﻲ ّ )�ﻗﺎ�� ﺳﺎﺋﺮ ﻛﺘﺐ ّ
ﻓﻴﻨﺒﻬﻨﻲ �ﻟﻰ �� ﺧﻄﺄ ﺳﻬﻮ� �ﺧﺮ�ﺟﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺐ( ّ
ﻋﻨﻪ ﻟﻜﻲ �ﺗﺪ��ﻛﻪ ﻓﻲ �ﻟﻄﺒﻌﺎ� �ﻵﺗﻴﺎ��� ،ﻧﺎ �ﺷﻜﺮ�
�ﷲ ﺑﺄ� ﻳﺠﺰ� ﻟﻪ �ﻷﺟﺮ ��ﻟﺜﻮ��. ���ﻋﻮ ﻟﻪ َ
ﻣﺠﺎﻫﺪ ﻣﺄﻣﻮ� �ﻳﺮ�ﻧﻴﺔ
mujahed@al-ajyal.com
219
٤١٤
220
المحتويات
221
222
من آثار المؤلف
223
1960 ِف َكر ومباحث ()18
1960 مع الناس ()19
1960 بغداد :مشاهدات وذكريات ()20
1970 تعريف عام بدين اإلسالم ()21
1985 فتاوى علي الطنطاوي ()22
1985ـ 1989 ذكريات علي الطنطاوي (1ـ )8 ()23
2001 فتاوى علي الطنطاوي (الجزء الثاني) ()24
2002 فصول اجتماعية ()25
2002 سيد رجال التاريخ (محمد ’) ّ ()26
2006 نور وهداية ()27
2007 فصول في الثقافة واألدب ()28
2008 فصول في الدعوة واإلصالح ()29
2009 البواكير ()30
2011 والص َور
ُّ الذكريات :الفهارس ()31
2016 كلمات صغيرة ()32
2019 أعالم من التاريخ ()33
224