You are on page 1of 7

‫صفحات من أوراق جدي الصفراء ‪ ..

‬األصمعي وسارق الرمان‬


‫نشر في جريدة أخبار الخليج بتاريخ ‪ 16‬إبريل ‪2023‬‬

‫بقلم‪ :‬الدكتور زكريا الخنجي‬

‫في صندوق جدي المعدني هناك كثير من األوراق الصفراء‪ ،‬وكثير منها‬

‫مكتوب فيها قصص ظريفة ومفيدة‪ ،‬ومن تلك الحكايات قصة‬

‫األصمعي وسارق الرمان‪ ،‬ترى ماذا تقول الحكاية ؟ ولكن قبل ذلك من هو‬

‫األصمعي ؟‬

‫األصمعي هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي‬

‫البصري‪ ،‬يقدر أنه من مواليد البصرة في حوالي عام ‪ 123‬هجرية (‪741‬‬

‫ميالدية) وتوفى في حوالي ‪ 216‬هجرية (‪ 831‬ميالدية)‪ ،‬وهو من راوية‬

‫العرب‪ ،‬وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان‪ .‬وهو من مواليد البصرة‬

‫وتوفى فيها‪ ،‬وكان كثير التطواف في البوادي‪ ،‬يقتبس علومها ويتلقى‬

‫أخبارها‪ ،‬ويتحف بها الخلفاء‪ ،‬فيكافأ عليها بالعطايا الوافرة‪ .‬أخباره كثيرة‬

‫جدًا‪ ،‬ويقال إن الرشيد كان يطلق عليه (شيطان الشعر)‪ .‬قال األخفش‪" :‬ما‬

‫رأينا أحدًا أعلم بالشعر من األصمعي"‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلك فقد كان‬

‫األصمعي رائدًا في العلوم الطبيعية وعلم الحيوان‪ ،‬وخاصة تصنيف‬

‫الحيوان وتشريحها‪ ،‬وذلك بسبب معرفته بالمفردات العربية والبحث عن‬

‫المصطلحات األصلية التي يستخدمها العرب للحيوانات‪.‬‬

‫واآلن لنعود إلى أوراق جدي الصفراء وحكاية األصمعي وسارق الرمان‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫تقول الحكاية أن األصمعي شاهد ذات يوم وهو يسير في شوارع البصرة‬

‫جارية تحمل رمانًا فوق رأسها في وعاء‪ .‬فتسلل اليها رجل فأخذ رمانة‬

‫منها خلسة‪ ،‬وهي ال تشعر‪ ،‬فقام األصمعي فتبعه حتى مر الرجل‬

‫بمسكين فأعطاه الرمانة‪.‬‬

‫فتعجب األصمعي من فعل الرجل‪ ،‬فمسكه وقال له‪ :‬عجبًا لك سرقتها‪،‬‬

‫فظننتك جائعًا‪ ،‬أما أن تسرقها وتتصدق بها على مسكين‪ ،‬فهذا أعجب‪.‬‬

‫فقال السارق‪ :‬ال يا هذا‪ ،‬أنا أتاجر مع ربي‪.‬‬

‫فرد األصمعي مستنكرًا‪ :‬تتاجر مع ربك‪ ،‬كيف ذلك ؟‬

‫فقال الرجل‪ :‬سرقتها فكتبت عليّ سيئة واحدة‪ ،‬وتصدقت بها فكتبت لي‬

‫عشر حسنات‪ ،‬فبقي لي عند ربي تسع حسنات‪ ،‬فإذن أنا أتاجر مع ربي‪.‬‬

‫فقال له االصمعي‪ :‬سرقتها فكتبت عليك سيئة‪ ،‬وتصدقت بها‪ ،‬فلن‬

‫يقبلها اهلل منك‪ ،‬ألن اهلل طيب ال يقبل إال طيبًا‪ ،‬فأنت كمن يغسل الثوب‬

‫النجس بالبول‪.‬‬

‫ثم وجدت هذه المالحظة في نهاية الحكاية‪ ،‬تقول المالحظة‪:‬‬

‫"سبحان اهلل كم في زماننا من أمثال هذا الرجل‪ ،‬يسرق ويكذب ويغش‬

‫ثم يفتي لنفسه أو لغيره دون علم‪ ،‬ويجادل بالباطل‪ ،‬وهو يظن أنه على‬

‫الحق‪ ،‬ويبرر‪ ،‬ويدافع ليحلل لنفسه الحرام أو يوهمها أنه على صواب من‬

‫أمره"‪.‬‬

‫فذهبت أفكر في تلك المالحظة األخيرة كثيرًا‪ ،‬هل فعالً نحن نعيش‬

‫ويعيش حولنا الكثير من البشر ممن يجادلون بالباطل ليحوله إلى الحق ؟‬

‫‪2‬‬
‫أو الذين يحللون المواقف لتتوافق مع رغباتهم ومتطلباتهم ؟ دعونا‬

‫نتصفح األحاديث واألحداث اليومية التي نسمعها ونشاهدها‪.‬‬

‫تفسير الدين بما يريد‪ :‬وجدنا أن كثيرًا من الناس يقوم بكل ما يخطر على‬

‫نفسه‪ ،‬ومن ثم يحاول أن يبحث عن بعض اآليات أو يستقطع جزئيات‬

‫من آيات أو أحادث نبوية لتبرير ما يفعل‪ ،‬وكأنه من تلك الفئة التي‬

‫تستقطع جزءًا من اآلية التي يقول فيها عز وجل (يا أيها الذين آمنوا ال‬

‫تقربوا الصالة)‪ ،‬فيتجاهل كل ما يلحق بها من تكملة‪ .‬والغريب في‬

‫الموضوع إن البعض من هؤالء ال يعرف في الدين أي شيء‪ ،‬وإنما هي‬

‫جزئيات من بعض اآليات واألحاديث التي تعضد ما يريد أن يفعل‪،‬‬

‫فيفسر سلوكياته وحياته وفقًا لذلك‪.‬‬

‫والبعض من هؤالء يجادل في اآليات واألحاديث النبوية الشريفة‬

‫بطريقته الخاصة‪ ،‬ويجادل الناس بحسب ما يرتاح إليه هو‪ ،‬فمثالً‪ :‬ذات‬

‫مرة أثيرت قضية الصالة في جماعة بين وسط مجموعة من الشباب‪،‬‬

‫فقام أحدهم وأنكر ذلك وأتى بقصة حصلت أيام رسول اهلل صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪ ،‬ولكنه تجاهل أن الموضوع يختلف تمامًا عن الموضوع الذي‬

‫يتحدث فيه‪.‬‬

‫في الجمعيات األهلية والتآمر على الناس‪ :‬عندما تبدأ فئة من الناس في‬

‫إنشاء جمعية أهلية‪ ،‬فإنهم يتسارعون‪ ،‬إلنشائها ويعطونها من‬

‫وقتهم الكثير‪ ،‬وبعد أن تستقر الجمعية – نوعًا ما – يأتي من الصفوف‬

‫الخلفية بعض األفراد ليحاولوا أن يطيحوا باألفراد الموجودين في‬

‫‪3‬‬
‫الصفوف األمامية‪ ،‬مبررين ذلك أن األفراد في الصفوف األمامية غير‬

‫جديرين بالمسؤولية‪ ،‬فتبدأ المؤامرات وتحاك‪ ،‬وكل ذلك يبرر من أجل‬

‫تطوير الجمعية وتحديثها وما إلى ذلك من أمور‪ ،‬ربما تكون بعيدة عن‬

‫أرض الواقع‪ ،‬ولن ترتاح تلك المجموعة إال بالتخلص من الرئيس أو نائبة‬

‫أو غير ذلك‪ ،‬المهم أنهم يتآمرون على موضوع غير جدي‪.‬‬

‫الجدال اإللكتروني‪ :‬كثرت في اآلونة األخيرة القروبات والمجموعات‬

‫الموجودة على الواتساب‪ ،‬وغيرها من وسائل التواصل االجتماعي‪،‬‬

‫والعديد من تلك المجموعات هدفها الرئيسي الجدل والنقاش‪،‬‬

‫فيتناقشون في كل القضايا التي يعرفونها والتي ال يعرفونها‪ ،‬فتارة‬

‫يتحدثون في األدوية واألوبئة‪ ،‬وتارة يتحدثون في السياسة‬

‫والتشريعات‪ ،‬وتارة يتحدثون في الدين والتشريع‪ ،‬وهكذا فيهم‬

‫يتجادلون ليس للبحث عن الحقيقة وإنما للتحدث من أجل التحدث‬

‫والتحلطم‪ ،‬فما أن يطرح موضوع حتى تجد األفراد يطرحون أفكارهم‪،‬‬

‫فهذا يقول "أني أعتقد" وذلك يقول "ال‪ ،‬أعتقد أن األمر هكذا"‪ ،‬ثم يتطور‬

‫النقاش إلى أن يصل إلى أن يتمسك كل فرد بوجهة نظرة ويضع كل‬

‫المبررات من أجل أن يؤكد أن وجهة نظره هي الصحيحة‪ ،‬وأن بقية األفراد‬

‫كلهم على خطأ‪ ،‬والغريب في الموضوع إن كل الذي يتحدثون به مجرد‬

‫وجهات نظر ليس لها عالقة بالحقيقة أو الواقع ألن أحاديثهم مبنية على‬

‫وجهات نظر فحسب‪.‬‬

‫والغريب في هذا الموضوع كله‪ ،‬إن هناك بعض القروبات ما زالت تناقش‬

‫كروية األرض‪ ،‬وهل فعالً ذهب اإلنسان إلى الفضاء‪ ،‬وعجبي‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫الدين والتسليف‪ :‬يأتيك شخص تعرفه‪ ،‬ويطلب منك مبلغًا من المال‬

‫على سبيل الدين‪ ،‬وأنت تشعر بحاجته وخاصة في ظل الظروف الراهنة‪،‬‬

‫فتعطيه مبلغًا من المال على اتفاق أنه يرجعه بين فترة من الزمن‪،‬‬

‫وينقضي الوقت وأنت تنتظر أن يأتيك بمالك‪ ،‬إال أنه يتصدد عنك‬

‫ويتجاهلك وكأنه ال يعرفك‪ ،‬تذهب أنت يمينًا فيذهب هو يسارًا‪ ،‬وهكذا‬

‫حتى ال تلتقيان‪ ،‬وتمر األشهر وتنقضي فترة فوق الفترة المقرر‪ ،‬وتحاول‬

‫أن تجد له منفذًا إال أنه يتهرب منك‪ ،‬ولكنك تتصل به بالهاتف‪ ،‬فتجده‬

‫أنه قد غير رقم هاتفه‪ ،‬فتحتار‪ ،‬ولكنك تصر‪ ،‬وفي لحظة ما تجده أمامك‬

‫ال مفر من التحدث إليك‪ ،‬فتعاتبه ألنه أخلف موعده‪ ،‬فيماطلك ويبرر أنه‬

‫ال يملك المبلغ اآلن‪ ،‬فيطلب مدة أطول‪ ،‬فيماطل ويماطل‪ ،‬فتوسط‬

‫صديق من أجل التحدث إليه فيرد ببساطة "أنا ال أملك شيئًا‪ ،‬وهو يملك‬

‫فلماذا يطالبني بالدين ؟"‪ ،‬وهل هذا مبرر حتى تسرق مال اآلخرين‪.‬‬

‫وكذلك‪ ،‬محطات تلفزيونية تبرر‪ :‬غدت األعمال التلفزيونية من سوء في‬

‫المستوى لدرجة أن الناس سنويًا‪ ،‬نعم سنويًا‪ ،‬يتذمرون من مسلسالتها‬

‫وأعمال البذيئة التي تحط من قدرة اإلنسان العاقل عن المتابعة أو حتى‬

‫المشاهدة ولو لمرة واحدة‪.‬‬

‫سنويًا المشاهد العربي يتعرض لضغوط ولغسيل المخ بسبب كل هذا‬

‫الكم الكبير من األعمال التي تقدم على الشاشات العربية‪ ،‬وسنويًا يتذمر‬

‫المشاهد العربي من كل تلك األعمال‪ ،‬سواء الدرامية التي ال تمس الواقع‬

‫أو الحقيقة بشيء‪ ،‬أو األعمال المنوعة التي ال يطيق مشاهدتها أحد‪ ،‬وفي‬

‫نهاية الموسم تخرج إدارة التلفزيون بإحصائيات وأرقام بأن عدد‬

‫‪5‬‬
‫المشاهدين الذي قاموا بمتابعة برامجها عدد فاق التوقعات‪ ،‬ومن يدري‬

‫أين الحقيقة ؟‬

‫وحتى تضفي إدارة التلفزيون أهمية لبرامجها الخالية من القيم والمبادئ‬

‫تضع مسابقة ألفضل فنان‪ ،‬وأفضل فنانة‪ ،‬وأفضل برنامج تلفزيوني‪،‬‬

‫وما إلى ذلك من كالم‪ ،‬وتقوم هي بوضع األرقام والقياسات والمؤشرات‬

‫وفي النهاية تظهر النتائج وتنشرها عبر وسائل اإلعالم التقليدية‬

‫والحديثة‪ ،‬بأنها هي األفضل‪.‬‬

‫ونحن نعلم أن كل تلك مبررات لتسويق منتجاتها الهابطة الخالية من‬

‫كل القيم والمبادئ‪ ،‬ولكنها ستعاود مسيرتها في رمضان القادم‪ ،‬وكأن‬

‫شيء لم يحدث‪.‬‬

‫واليوم‪ ،‬كلنا سارق الرمان‬

‫ويستمر سارق التفاح في تبرير أفعاله حتى وإن كانت غير مبررة‪،‬‬

‫والغريب في الموضوع أن الناس الذين يعيشون معه يعلمون أنه سارق‬

‫وكذاب ومخادع‪ ،‬وأنه ما يقوم به أو يقوله أو يفعله ما هو إال تبرير لما‬

‫يقوم به‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك فهو يعيش تلك الكذبة معتقدًا أن الجميع‬

‫أغبياء وأنهم يصدقونه‪.‬‬

‫كم من سارق التفاح يعيش بيننا اليوم‪ ،‬وال نبرأ أنفسنا‪ ،‬فحتى نحن نكون‬

‫مثل سارق التفاح في بعض األحيان‪ ،‬فكر في األحداث التي تمر عليك‬

‫يوميًا‪ ،‬فأنت تعمل في عمل‪ ،‬ولكنك في بعض األحيان تتقاعس وتضع‬

‫مبررًا أن الراتب ال يكفي وتقول "أنا أعمل بحجم الراتب"‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫نذهب إلى البقالة أو السوبرماركت فنذهب إلى قسم المكسرات لنشتري‬

‫بعض المكسرات‪ ،‬فنتذوق من هذا ومن ذلك ونستمتع ببعض األغذية‪،‬‬

‫حتى وإن كانت الكمية صغيرة وفي النهاية نحن نعلم أنه لم تكن لدينا‬

‫الرغبة الشراء من البداية‪ ،‬وإنما نبرر أننا نتذوق فقط‪.‬‬

‫نضرب األطفال ألنهم يكذبون‪ ،‬أو ننهرهم ألنهم يريدون شراء‬

‫المشروبات الغازية‪ ،‬ولكننا نشرب أمامهم تلك النوعية من المشروبات‪.‬‬

‫ننهر األطفال‪ ،‬ألننا ال نريد أن يستمروا في اللعب بالهاتف‪ ،‬ولكننا عندما‬

‫نجلس معهم ال تكف أيدينا بالعبث بالهاتف‪ ،‬وكأننا نرسل لهم رسالة‬

‫مبطنة أنه يمكننا نحن الذين نستطيع أن نبرر أفعالنا أن نفعل ما نريد‪،‬‬

‫ولكن أنتم ال تستطيعون‪.‬‬

‫لنعيد النظر في حياتنا وحياة من حولنا‪ ،‬هل بيننا سارق رمان ؟ تأمل‪.‬‬

‫‪7‬‬

You might also like