You are on page 1of 7

‫صفحات من أوراق جدي الصفراء ‪..

‬‬

‫املسؤول الذي صب القهوة للمراسل‬


‫نشر في جريدة أخبار الخليج بتاريخ ‪ 16‬أكتوبر ‪2022‬‬

‫بقلم‪ :‬الدكتور زكريا خنجي‬

‫عدت ذات يوم إلى أوراق جدي الصفراء‪ ،‬أعبث بها‪ ،‬وإذ تقع بين يدي هذه‬

‫الحكاية‪،،‬‬

‫يروى أنه ذات يوم تم تعيين مسؤول إداري جديد في منصب في‬

‫مؤسسة من المؤسسات المنتشرة في الدولة‪ .‬وفي اليوم األول من‬

‫تعيينه دخل هذا المسؤول المكتب مزهوًا بنفسه‪ ،‬ورائحة العطر والبخور‬

‫تنتشر في المكان‪ ،‬وباقة ورد كبيرة جدًا وضعت على جانب مكتبه‪،‬‬

‫مكتوب على بطاقتها "مبارك عليك المنصب ‪ ..‬أنت أهل لها ‪ ..‬التوقيع ‪..‬‬

‫زوجتك وأم أوالدك ‪ ..‬فالنة"‪.‬‬

‫وقف المسؤول الجديد بالقرب من المكتب ‪ ..‬وضع يده على الطاولة ‪ ..‬قام‬

‫بتحسسها وكأنه يحاول أن يستشعر إحساسها ومشاعرها ‪ ..‬لعله كان‬

‫يحاول أن يبثها فرحته بهذا المنصب الذي كان يحلم به من زمن‪ ،‬منذ أن‬

‫تخرج في الكلية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫جلس على الكرسي الدوار‪ ،‬وشم رائحة المكان‪ ،‬ووسعت عيناه المكتب كله‬

‫‪ ..‬مكتب كبير يليق به‪ ،‬هو فقط الذي يمكنه أن يمأل المكان‪ ،‬هذا المكان‬

‫وهذا المكتب ما صنع إال له وحده‪.‬‬

‫استدعى السكرتير ‪ ..‬وطلب منه أن يأتيه بالقهوة العربية ‪ ..‬شرب الفنجان‬

‫األول والثالث ‪ ..‬فغادر الجميع المكتب فجلس وحده لحظات ‪ ..‬ثم رفع‬

‫سماعة الهاتف ‪ ..‬وطلب من السكرتير أن يأتي إليه بالمراسالت إن كانت‬

‫موجودة‪.‬‬

‫ما هي إال لحظات حتى تكدست األوراق على مكتبه ‪ ..‬طلبات وأوامر‬

‫وإحاالت للعمل وأمور كثيرة‪ ،‬يفهم بعضها وال يعلم عن أمور كثيرة منها‬

‫‪ ..‬ضجر من الوضع فرمى األوراق وتركها فوق المكتب ‪ ..‬لحظات ‪ ..‬ثم خرج‬

‫من المكتب ‪ ..‬وراح يسير من غير هدى في طرقات المؤسسة ‪ ..‬بحجة أنه‬

‫يحاول أن يتعرف على المكان‪.‬‬

‫في منتصف النهار عاد إلى مكتبه ‪ ..‬وعندما دخل مكتب السكرتير وجد أن‬

‫هناك مجموعة من األشخاص يجلسون في مكتب الضيافة ‪ ..‬تساءل بينه‬

‫وبين نفسه "من هؤالء ؟ وماذا يريدون ؟"‪ ،‬إال أنه لم يكترث بهم وإنما‬

‫دخل مكتبه وأغلق على نفسه الباب‪ .‬وكلها لحظات حتى طُرق الباب ودخل‬

‫السكرتير وقال له‪ :‬إن هناك مجموعة من المراجعين يودون مناقشته في‬

‫بعض األمور المعلقة‪ ،‬فطلب منه أن يحولهم إلى الموظفين المختصين‬

‫‪2‬‬
‫في الموضوع‪ ،‬فهو ال يرغب في الجلوس مع المراجعين‪ ،‬إال أن السكرتير‬

‫قال له‪" :‬هؤالء يريدونك شخصيًّا‪ ،‬ألن الموضوع بيدك أنت فقط"‪.‬‬

‫فأسقط في يده‪ ،‬فما كان منه إال أن طلب من السكرتير إدخالهم‪ ،‬فدخلوا‬

‫وكانوا حوالي خمسة أفراد‪ ،‬فجلسوا‪ ،‬فطلب لهم القهوة والضيافة‪،‬‬

‫فتحدثوا وتحدثوا‪ ،‬فجلس هو صامت ينصت‪ ،‬وفي النهاية حاول أن‬

‫يتكلم إال أنه لم يتمكن من ذلك ‪ ..‬نظرًا إلى قلة خبرته في المكان‬

‫والموضوع محور الحوار وكذلك ضعف قدرته اإلدارية على إدارة الحوار‬

‫والحديث واإلقناع وكل ذلك‪ ،‬وبعد حوالي ساعة من الزمن غضب‪ ،‬وطلب‬

‫من السكرتير أن يطردهم من غير رجعة‪.‬‬

‫فخرجوا وهم في قمة الغضب‪ ،‬وبعدها بدقائق دخل المراسل وهو في‬

‫غاية االستغراب واالستنكار‪ ،‬فطلب أن يحادث المسؤول اإلداري وحدهما‬

‫من غير أن يكون هناك أي طرف ثالث‪ ،‬فوافق المسؤول اإلداري على‬

‫مضض‪ ،‬فقال المراسل وهو رجل كبير في السن نوعًا ما "ما هكذا تورد‬

‫اإلبل يا أبا فالن"‪.‬‬

‫فقال المسؤول‪" :‬ماذا تقصد ؟"‬

‫قال المراسل‪" :‬هؤالء ما جاءوك إال ألنهم وجدوا في وجهك الخير ‪ ..‬وكان‬

‫لديهم إيمان أنك أنت الذي يستطيع أن يحل مشكلتهم ‪ ..‬وتضمد‬

‫جراحهم ‪ ..‬فما يكون منك أن تطردهم"‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫فقال المسؤول‪" :‬ولكنهم أزعجوني بمطالبتهم وكذلك فهم ال يريدون أن‬

‫يسمعوا مني أي شيء‪ ،‬فكلما اقترحتُ عليهم أي أمر رفضوه‪ ،‬فماذا كان‬

‫يمكنني أن أفعل غير طردهم ؟"‪.‬‬

‫قال المراسل‪" :‬البشر هكذا‪ ،‬وهذه أطباعهم‪ ،‬ولكن أعتقد أنه كان من‬

‫المفروض أن تدعهم يتكلمون ويتكلمون ‪..‬حتى ينتهوا من كل كالمهم ‪..‬‬

‫ثم تسمع أنت من الحلول التي يطرحونها ويرغبون بها ‪ ..‬وبعد ذلك تعيد‬

‫دراسة موضوعهم والحلول المقترحة‪ ،‬وعندئذ إذن تقدم لهم الحلول التي‬

‫هم قدموها ولكن بطريقة غير مباشرة"‪.‬‬

‫أعجب المسؤول اإلداري من كالم المراسل‪ ،‬فقال‪" :‬ولكنهم ذهبوا اآلن ‪..‬‬

‫فكيف يمكن إرجاعهم ؟"‪.‬‬

‫قال المراسل‪" :‬ال تهتم الحل لدي"‪.‬‬

‫خرج المراسل من المكتب‪ ،‬وبعدها بحوالي خمس دقائق عاد ومعه‬

‫مجموعة المراجعين الذين تم طردهم سابقًا‪ ،‬فجلسوا مرة أخرى مع‬

‫المسؤول‪ ،‬وبعد ساعة من الزمن خرجوا واالبتسامة تعلو وجوههم‪.‬‬

‫جلس المسؤول اإلداري وحده لحظات‪ ،‬ثم طلب استدعاء القهوة والتمر‪،‬‬

‫وبعد ذلك طلب المراسل أن يقدم إلى مكتبه‪ ،‬وعندما دخل المراسل طلب‬

‫منه أن يجلس على كرسيه هو‪ ،‬كرسي المسؤول‪ ،‬إال أن المراسل رفض‪،‬‬

‫ولكن المسؤول أصر وهو يقول‪" :‬أنت أحق بهذا المكان مني"‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫وبعد إصرار المسؤول جلس المراسل على كرسي المسؤول‪ ،‬وقام‬

‫المسؤول بصب القهوة للمراسل‪ ،‬وبعدها جلسا يتحادثان‪ ،‬وشعر‬

‫المسؤول بعدها أن المسؤولية ليست مجرد كرسي يجلس عليه ويزهو‪،‬‬

‫وإنما هي القدرة على إدارة هذا الكرسي وهذا المكتب‪.‬‬

‫وربما تستطيع بضع كلمات صغيرة من إنسان بسيط أن تغير العديد‬

‫من المفاهيم اإلدارية التي ال يستطيع مسؤول كبير أن يستوعبها‪.‬‬

‫وفي ورقة أخرى كتب جدي‪..‬‬

‫جلس رجل كفيف على عتبة أحد المساجد واضعًا قطعة من القماش بين‬

‫قدميه ‪ ..‬بجانبه لوحة كُتب عليها "أنا كفيف ‪ ..‬ساعدوني"‪ ،‬فمر رجل‬

‫بالكفيف ووقف‪ ،‬فرأى أن قطعة القماش ال تحوي إال بضعة قروش قليلة‬

‫‪ ..‬فوضع هو بضعة قروش أخرى ‪ ..‬ثم قال للكفيف‪" :‬هل من الممكن أن‬

‫أكتب على اللوحة التي أمامك جملة أفضل ؟"‪ ،‬فقال الكفيف "افعل ما‬

‫تشاء يا بني"‪.‬‬

‫فقام الرجل فكتب بضع كلمات على اللوحة ثم أعادها إلى مكانها وغادر‪.‬‬

‫الحظ الكفيف أن المارة بدأوا يغدقون عليه المال‪ ،‬حتى امتألت قطعة‬

‫القماش بالنقود‪ ،‬فاستغرب‪ ،‬فأوقف أحد المارة وطلب منه أن يقرأ‬

‫المكتوب على اللوحة‪ ،‬إذ وجد أن مكتوب على اللوحة العبارة التالية‪" :‬نحن‬

‫في فصل الربيع ‪ ..‬ولكنني لألسف ال أستطيع االستمتاع برؤية المناظر‬

‫الجميلة"‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫العبارة األخيرة‪ ،‬على الرغم من أنها ال تختلف عن العبارة األولى إال أنها‬

‫أعطت مفعوالً سحريا للموقف‪.‬‬

‫في علم اإلدارة‪ ،‬نتعلم من كل الظروف ومن خالل كل األوضاع‪ ،‬فال يعتقد‬

‫المسؤول اإلداري أن جلوسه على كرسي المسؤول تعفيه من اإلصغاء‬

‫والتعلم من بقية البشر من حوله‪ ،‬فهو ما زال يتعلم‪ ،‬وهذا ليس نقصًا‬

‫فيه‪ ،‬وإنما على العكس فالمسؤول الذي يحاول أن يتعلم من المحيطين‬

‫به – حتى لو كانوا أقل شأنًا منه – فهو الذي يمتلك الذكاء اإلداري وهذا‬

‫يؤهله للبروز أكثر فأكثر‪ ،‬فال يوجد إنسان (سوبرمان) يستطيع أن يؤدي‬

‫األعمال كلها‪.‬‬

‫فقد وجدنا أن بعض المسؤولين هو من يقوم بجميع األعمال‪ ،‬صغيرها‬

‫وكبيرها‪ ،‬فهو ال يثق بأحد وال يعتقد أن بقية الموظفين أكفاء‬

‫يستطيعون أن يقوموا باألعمال المنوطة بهم‪ ،‬فهؤالء المسؤولون‬

‫يفتخرون أنهم يأتون العمل في تمام الساعة السادسة صباحًا وال‬

‫يخرجون من المكاتب إال في الثامنة ليالً لمجرد أن ينام في المنزل‪ ،‬وكذلك‬

‫يداوم أيام اإلجازات األسبوعية واإلجازات الرسمية‪ ،‬اعتقادًا منه أنه بذلك‬

‫يقوم بعمله‪ ،‬وربما هذا يشعره بالرضا وبأن المسؤولين الكبار سيرضون‬

‫عنه وأن العمل ال يمكن أن يستغني عنه‪.‬‬

‫كل هذه األفكار مجرد وهم‪ ،‬فالحقيقة تقول إن الجميع يعرف ماذا يفعل‪،‬‬

‫بل وربما أكثر من المسؤول نفسه‪ ،‬فكل الذي على المسؤول أن يعطي‬

‫‪6‬‬
‫الناس فرصة للتغيير وللعمل‪ ،‬مجرد كلمة أو تصرف تعيد ترتيب اإلدارة‬

‫كلها‪ ،‬أو حتى فكرة خاطئة يمكن أن يقوم بها مسؤول‪ ،‬فالكثير من األفكار‬

‫التي ولدت صغيرة‪ ،‬ربما كان مصدرها موظف صغير‪ ،‬أطلقها فوجدت‬

‫صداها عند أحد المسؤولين فقام وتبناها‪ ،‬فغدت مع الوقت فكرة مربحة‬

‫ورائجة‪.‬‬

‫المسؤولية – أيها السادة – ليست مجرد طاولة ومكتب من خشب جميل‬

‫نجلس عليه‪ ،‬فربما كان هناك العديد من البشر من كان لديه أجمل من‬

‫مكتبك‪ ،‬ولكن المسؤولية أن تقوم بقيادة هذا الفريق الذي يعمل معك‬

‫وليس لديك‪ ،‬فأنت جزء مهم في هذا الفريق الذي من المفروض أن يكون‬

‫متكامالً‪ ،‬وأنت جزء منهم مثلك مثل أي عضو في الفريق‪ ،‬ربما في الكثير‬

‫من األحيان بعض من أفراد فريقك يفوقنك ذكاء وقدرة على التفكير‬

‫اإلبداعي‪ ،‬وربما بعضهم يستطيع أن يخطط بصورة متفوقة عليك‪،‬‬

‫وبعضهم يمكنه أنه يضع الحلول الناجعة لكل مشكلة‪ ،‬فلماذا تقوم‬

‫بازدراء كل هؤالء البشر لمجرد أن أسهمك تفوقت على أسهمهم‬

‫وأصبحت أنت المسؤول‪ ،‬ولم يتمكنوا هم من ذلك‪.‬‬

‫لذلك فعندما تصل إلى هذه المرحلة وهذا المكتب‪ ،‬عليك أن تتحول من‬

‫مسؤول إداري إلى مسؤول إداري قائد حتى تتمكن وبكل جدارة من قيادة‬

‫هذا الفريق‪.‬‬

‫‪7‬‬

You might also like