You are on page 1of 11

‫ثمرات الورد القرآني‬

‫الحمد هلل رب العاملين‪ ،‬والصالة والسالم على النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬
‫وردا‪ ،‬أو جزءا أو‬ ‫لكي يكون املؤمن على صلة دائمة بكتاب هللا تعالى‪ ،‬ينبغي له أن يتخذ لنفسه ً‬
‫يوميا‪ ،‬حسب ما تيسر له‪ ،‬وهو من‬ ‫حزبا من القرآن الكريم‪ ،‬يقل أو يكثر يحافظ على قراءته ًّ‬ ‫ً‬
‫والرصيد اإليماني الذي من فقده‬ ‫ُ‬ ‫أفضل نوافل الطاعات للمؤمن‪ ،‬وهو الزاد الذي ال غنى له عنه‪،‬‬
‫خسر الكثير‪.‬‬
‫إ َ َ إ إ‬‫َ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قال ابن تيمية رحمه هللا ‪"َ :‬وأ َّما ُم َحافظة اإل إن َسان َعلى أ إو َر ٍاد ل ُه م إن َّ‬ ‫َ‬
‫الذك ِر‪،‬‬ ‫الصال ِة‪ ،‬أو ال ِقراء ِة‪ ،‬أو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّ َ َّ َّ ُ َ َ إ َ َ ََّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ َ ً إ َّ إ َ َ إ َ َ َ َ َ ُ َّ ُ‬ ‫َ إ ُّ َ‬
‫َّللا صلى َّللا علي ِه وسلم‪،‬‬ ‫أو الدع ِاء‪ ،‬طر ِفي النه ِار‪ ،‬وزلفا ِمن اللي ِل‪ ،‬وغي ِر ذ ِلك‪ ،‬فهذا سنة رسو ِل ِ‬
‫ً َ َ ً ‪1‬‬ ‫َ إ َ َّ َ‬ ‫َو َّ‬
‫َّللا ق ِديما‪ ،‬وح ِديثا‪".‬‬ ‫الص ِال ِحين ِمن ِعب ِاد ِ‬
‫ُ‬
‫والنصيب‬ ‫ُ‬
‫القدر‬ ‫والورد هو ما اعتاد املسلم فعله من ذكر أو صالة أو تالوة‪ ،‬والورد من القرآن هو‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫يتعود ُ‬ ‫ُ‬
‫يت التالوة اليومية للقرآن ِ"وردا "‪.‬‬ ‫املرء قراءته كل يوم أو كل ليلة‪ ،‬ومن ث َّم سم ِ‬ ‫الذي‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ورد‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{َ :‬وملا َو َر َد َم َاء َم إد َي َن} القصص ‪.23‬‬ ‫ومعنى الو إر ُد في اللغة هو‪ :‬املاء الذي ُي َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫إ‬ ‫َ ُ‬
‫لب من القرآن‪ .‬وهذه نكتة لطيفة‪.‬‬ ‫التالوة هو‪ :‬سقيا الق ِ‬ ‫فيكون على ذلك ِورد ِ‬
‫نام عن ِح إزِب ِه‪ ،‬إأو عن ش ٍيء منه‪،‬‬ ‫الورد حزبا فقال‪َ ":‬من َ‬ ‫وسمى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم َ‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َ إ‬ ‫ََ َُ‬
‫والحزب هو ما يواظب‬ ‫ُ‬ ‫‪2‬‬
‫الة الظ إه ِر‪ ،‬ك ِت َب له ك َّأنما ق َرأ ُه ِم َن الل إي ِل‪".‬‬ ‫َ‬
‫الة الفج ِر‪ ،‬وص ِ‬
‫إَ َ‬
‫فق َرأه ِفيما بين ص ِ‬
‫صالة أو غيرها‪.‬‬ ‫إ‬
‫اءة أو ٍ‬ ‫عليه العبد ِمن ِقر ٍ‬
‫ولتحفيز عموم الناس في أن يكون لهم ورد من القرآن‪ ،‬اختار املغاربة قراءة الحزب الراتب في‬
‫املساجد بعد صالتي الصبح واملغرب‪ ،‬وجرى العمل به ببلدنا كله‪ ،‬وقد كانت لهم في ذلك مقاصد‬
‫معتبرة منها‪:‬‬
‫‪ -‬تعاهد القرآن حتى ال ينفلت حفظه ملن يحفظه‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ -‬تسميع كتاب هللا ملن يريد سماعه من عوام املسلمين وتعلم قراءته من املصحف‪.‬‬
‫‪ -‬تحصيل أجر القراءة وثوابها‪.‬‬
‫ونظرا ملا تحدثه املواظبة على الورد القرآني من آثار طيبة على املؤمن فقد أوص ى رسول هللا صلى‬
‫إ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫إ‬
‫هللا عليه وسلم بكثرة تالوة القرآن ومصاحبته‪ ،‬فقال‪" :‬اق َر ُءوا ال ُق إر َآن ف ِإ َّن ُه َيأ ِتي َي إو َم ال ِق َي َام ِة‬
‫الدنيا َّ‬
‫فإن‬ ‫نت ترت ُل في ُّ‬ ‫اقرأ وار َق ورتل كما ُك َ‬ ‫لصاحب القرآن َ‬ ‫ص َحاب ِه"‪،3‬وقال‪ُ ":‬‬
‫يقال‬ ‫يعا َأل إ‬ ‫َشف ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪4‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫آية تقرؤها" ‪.‬‬ ‫آخر ٍ‬
‫منزلتك عند ِ‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬الفتاوى‪306 /22 ،‬‬
‫ض‪.‬‬ ‫ر‬
‫َِ َ‬‫م‬ ‫و‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫َام‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬
‫ِ َ َ‬‫‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫الل‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫َل‬ ‫ص‬
‫‪ -‬صحيح مسلم‪ ،‬بَاب َ ِ َ‬
‫ع‬ ‫امِ‬‫ج‬
‫‪2‬‬

‫ورةِ ْالبَقَ َرةِ‪.‬‬ ‫ض ِل ق َِرا َءةِ ْالق ْر ِ‬


‫‪3‬‬
‫آن‪َ ،‬وس َ‬ ‫‪ -‬صحيح مسلم‪ .‬بَاب فَ ْ‬
‫ب الت َّ ْرتِي ِل فِي ْالق َِرا َءةِ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ -‬صحيح سنن أبي داود‪َ .‬باب ا ْستِحْ َبا ِ‬
‫آي القرآن على قدر درج الجنة‪ ،‬يقال للقارئ إرق في الدرج‬ ‫َّ‬
‫قال الخطابي‪ ":‬جاء في األثر أن عدد ِ‬
‫آي القرآن‪ ،‬فمن استوفى قراءة جميع القرآن‪ ،‬استولى على أقص ى درج‬ ‫على قدر ما كنت تقرأ من ِ‬
‫الجنة‪ ،‬ومن قرأ جزءا منها كان رقيه في الدرج على قدر ذلك‪ ،‬فيكون منتهى الثواب عند منتهى‬
‫‪5‬‬
‫القراءة"‪.‬‬
‫ً‬
‫ويستوقفنا في الحديثين السابقين لفظ "صاحب القرآن" وكأن للمسلم صحبة مع القرآن الكريم‪،‬‬
‫ُإ‬ ‫ً‬
‫فة بين املسلم والقرآن؛ فهو كثير التردد‬ ‫وحين يقال‪" :‬صاحب القرآن" تشعر مباشرة بتلك األ ِ‬
‫ل‬
‫ٌ‬
‫عليه‪ ،‬وكثير الزيارة له‪ ،‬وكثير املشورة له؛ إن أصابه هم فزع إليه‪ ،‬أو ِلحقته شدة استعان به‪ ،‬أو‬
‫ٌ‬
‫غابت عنه فائدة استخرجها منه؛‬
‫قال الحافظ ابن حجر‪ ":‬واملراد بالصاحب الذي ألفه‪ ،‬قال عياض‪ :‬املؤالفة املصاحبة‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫كقوله‪ :‬أصحاب الجنة‪ ،‬وقوله ألفه أي ألف تالوته‪ ،‬وهو أعم من أن يألفها نظرا من املصحف أو‬
‫عن ظهر قلب‪ ،‬فإن الذي يداوم على ذلك َي ِذ ُّل له لسانه ويسهل عليه قراءته‪ ،‬فإذا هجره ثقلت‬
‫‪6‬‬
‫عليه القراءة وشقت عليه‪".‬‬
‫إنه من الضروري إن أردنا االنتفاع بالقرآن أن ننشغل بتالوته‪ ،‬وأال يمر علينا يوم دون أن نقرأ‬
‫منه شيئا مهما كانت الظروف‪ ،‬بل إننا نطمع أن نصل ملرحلة تالوته آناء الليل وأطراف النهار‪،‬‬
‫فتقوى عالقتنا به وتشتد‪ ،‬فال نشبع منه‪ ،‬كما كان حال الصحابة رضوان هللا عليهم‪ .‬قال عثمان‬
‫علي يوم‬ ‫قلوبنا َط ُه َر إت ما شبعنا من كالم ربنا‪ ،‬وإني َأل إك َر ُه أن َ‬
‫يأتي َّ‬ ‫بن عفان رض ي هللا عنه‪" :‬لو أن َ‬
‫ِ‬
‫وعدم طهارته َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال ُ‬
‫االنشغال‬
‫ِ‬ ‫سببا في‬ ‫أنظر في املصحف‪ 7".‬فقد جعل رض ي هللا عنه اتساخ القلب‬
‫املح ُّب من كالم محبوبه‪ ،‬وهو غاية مطلوب كل‬ ‫وعدم االستزادة منه‪ .‬وكيف يشبع ِ‬ ‫ِ‬ ‫عن القرآن‬
‫سائر إلى هللا‪.‬‬
‫قال ابن القيم رحمه هللا مبينا صفات القلب الذي يقبل على القرآن‪" :‬فالقلب الطاهر‪ ،‬لكمال‬
‫حياته ونوره وتخلصه من األدران والخبائث‪ ،‬ال يشبع من القرآن‪ ،‬وال يتغذى إال بحقائقه‪ ،‬وال‬
‫‪8‬‬
‫يتداوى إال بأدويته‪".‬‬
‫الحد األقص ى لختمه‪ ،‬ولقد‬ ‫أما عن املدة التي ينبغي فيها ختم القرآن‪ ،‬فال يوجد دليل صريح ُي َبي ُن َّ‬
‫ِ‬
‫ورد عنه صلى هللا عليه وسلم أنه ملا سأله عبد هللا بن عمرو بن العاص‪ :‬في كم يقرأ القرآن؟ أنه‬
‫َ إ َ إ ُ إ َ َ إَ َ َ إ ً َ‬
‫ا‪...‬ف إاق َرأ إال ُق إر َآن في ُكل َش إهر‪َ ،...‬ف إاق َر ُأه في ُكل ع إشر َ‬
‫ين‪،...‬‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫أجابه بقوله‪" :‬فاق ِرأ القرآن ِفي أرب ِعين يوم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ إ‬ ‫إ إ ُ َإ‬ ‫َ إَ ُ ُ َ إ‬ ‫َ إَ ُ ُ َ إ‬
‫س‪ ،....‬فاق َر ُأه ِفي ثال ٍث‪،َ ....‬وال ت ِز إد َعلى‬ ‫ش ٍر‪ ،...‬فاقر َأه ِفي ك ِل سب ٍع‪ ،....‬اخ ِتمه ِفي خم ٍ‬ ‫فاقرأه ِفي ك ِل ع‬
‫َ‬
‫إ َ إ إ ُ ‪9‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذ ِل َك‪ ،‬ف َّإن ُه َم إن ق َرأ ال ُق إر َآن ِفي أق َّل ِم إن ثال ٍث لم يفقهه‪".‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ -‬معالم السنن للخطابي‪.289/1 ،‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -‬فتح الباري البن حجر‪.79/9 ،‬‬
‫‪7‬‬
‫‪ -‬شعب اإليمان للبيهقي‪ ،237/5 ،‬حديث رقم (‪.)2149‬‬
‫‪8‬‬
‫‪ -‬إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان‪.55/1،‬‬
‫ض َّر َر ِب ِه أ َ ْو فَ َّوتَ ِب ِه َحقًّا‪.‬‬ ‫‪ -‬صحيح البخاري‪َ ،‬باب‪ :‬فِي َك ْم ي ْق َرأ الق ْرآن‪ .‬صحيح مسلم‪َ ،‬باب النَّ ْهي ِ َ‬
‫‪9‬‬
‫ص ْو ِم ال َّد ْه ِر ِل َم ْن ت َ َ‬
‫ع ْن َ‬
‫فهذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم املربي املشفق الحكيم يقدم إلى عبد هللا بن عمرو بن العاص‬
‫وهو الشاب املتبتل املجتهد في الصيام والقيام مقترحات في مدة ختم القرآن‪ ،‬ليخفف من تشديده‬
‫على نفسه حتى ال ينقطع سيره‪ ،‬وخوفا من أن يضيع حقوقا أخرى عليه‪ ،‬و كان عبد هللا بن عمرو‬
‫ََ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َإَ‬
‫يق أكث َر ِم إن ذ ِل َك‪َ ،‬د إع ِني أ إس َت إم ِت إع ِم إن ق َّو ِتي َوش َب ِابي"‪ ،‬فل َّما ك ُب َر ِس ُّن ُه‬ ‫في كل مرة يجيبه ‪ِ ":‬إ ِني أ ِط‬
‫َ‬
‫ُ إ َ ُ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َ َإَ‬ ‫َ َ َُ إ‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم"‪.‬‬ ‫وضعفت قواه‪ ،‬قال‪" :‬يا ليت ِني ق ِبلت ُرخصة َرسو ِل ِ‬
‫وليس في الحديث ما يدل على كراهة الختم في أكثر من أربعين‪ ،‬والعبارة ليست حاصرة حتى يكون‬
‫ما عداها ليس من سنته‪ .‬وفي صحيح البخاري ترجمة بعنوان‪ :‬باب في كم يقرأ القرآن‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ إ‬
‫{فاق َر ُءوا َما ت َي َّس َر ِم إن ُه} املزمل‪.20 :‬‬
‫ومما يؤكد ذلك فعل الصحابة رضوان هللا عليهم‪ ،‬فقد أخرج ابن أبي داود عن مكحول قال‪" :‬كان‬
‫أصحاب رسو ِل هللا صلى هللا عليه وسلم يقرءون القرآن في سبع‪ ،‬وبعضهم في شهر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أقوياء‬
‫ِ‬
‫‪10‬‬
‫وبعضهم في شهرين‪ ،‬وبعضهم في أكثر من ذلك‪".‬‬
‫وليس معنى ذلك الدعوة إلى التراخي في مدة ختم القرآن‪ ،‬بل املأمول في املسلم أن يكون الغالب في‬
‫أحواله ختمة في الشهر أو في أربعين يوما أو في شهرين‪ ،‬يحرص عليها برغبة وشوق من غير أن‬
‫يكون َه ُّم ُه السرعة في القراءة لختم القرآن في أقرب وقت‪ .‬قال عبد هللا بن مسعود رض ي هللا عنه‬
‫إُُ َ َ ُ ُ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫وب‪َ ،‬وال َيكون َه ُّم أ َح ِدك إم ِآخ َر السور ِة‪".‬‬
‫ُّ َ ‪11‬‬
‫‪َ ":‬و َح ِركوا ِب ِه القل‬
‫قال النووي‪" :‬واالختيار أن ذلك يختلف باألشخاص‪ ،‬فمن كان من أهل الفهم وتدقيق الفكر‪،‬‬
‫التدبر واستخراج املعاني‪ ،‬وكذا‬ ‫حب له أن يقتصر على القدر الذي ال يختل به املقصود من ُّ‬ ‫است َّ‬ ‫ُ‬
‫من كان له شغل بالعلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح املسلمين العامة‪ ،‬يستحب له أن‬
‫يخل بما هو فيه‪ ،‬ومن لم يكن كذلك‪ ،‬فاألولى له االستكثار ما‬ ‫يقتصر منه على القدر الذي ال ُّ‬
‫‪12‬‬
‫أمكنه‪ ،‬من غير خروج إلى امللل‪ ،‬وال يقرؤه هذرمة‪ ،‬وهللا أعلم‪".‬‬
‫قال ابن رجب‪" :‬قال أحد السلف‪ :‬كلما زاد حزبي من القرآن‪ ،‬زادت البركة في وقتي‪ .‬وقال إبر ُ‬
‫اهيم‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫الضياء املقدس ي ملا أراد الرحلة لطلب العلم‪" :‬أكثر من قراءة‬ ‫الواحد املقدس ي موصيا‬ ‫ِ‬ ‫عبد‬
‫بن ِ‬
‫القرآن وال تتركه؛ فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ‪ .‬قال الضياء‪ :‬فرأيت ذلك وجربته‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كثيرا‪ ،‬فكنت إذا قرأت كثيرا تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير‪ ،‬وإذا لم أقرأ لم يتيسر‬
‫‪13‬‬
‫لي‪".‬‬
‫في بعض األحيان ونحن نقرأ القرآن يقع لنا تأثر شديد بآية من آياته‪ ،‬نعيش معها‪ ،‬ونكررها مرات‬
‫عديدة كي نستفيد من املعاني التي تحملها… وهذا هو االنتفاع الحقيقي من تالوة القرآن‪ .‬فليست‬
‫العبرة بكثرة الختمات‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪ -‬اإلتقان في علوم القرآن للسيوطي‪.278/1،‬‬
‫‪ -‬ابن أبي شيبة في المصنف‪ ،‬فِي ق َِرا َءةِ ْالق ْر ِ‬
‫‪11‬‬
‫آن‪ ،‬رقم‪.8733 :‬‬
‫‪12‬‬
‫‪ -‬فتح الباري البن حجر‪.97/9،‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ -‬ذيل طبقات الحنابلة البن رجب (‪.)205 / 3‬‬
‫قال ابن القيم‪ ":‬فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم وأنفع للقلب‬
‫وأدعى إلى حصول اإليمان وذوق حالوة القرآن وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم اآلية إلى‬
‫‪14‬‬
‫الصباح‪".‬‬
‫َ َّ ُ َ َ إ َ َ َّ َ َ إ َ ً َ َ َ َ‬ ‫ودليل ذلك حديث أبي َذر رض ي هللا عنه‪َ ،‬ق َ َ َّ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫هللا صلى هللا علي ِه وسلم ليلة فقرأ‬ ‫ال‪" :‬صلى َرسول ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ص َب َح‪َ ،‬ي إر َك ُع ب َها َو َي إس ُج ُد ب َها {إ إن ُت َعذ إب ُه إم َفإ َّن ُه إم ع َب ُاد َك َوإ إن َت إغف إر َل ُه إم َفإ َّن َك َأ إن َت إال َعزيزُ‬ ‫ب َآي ٍة َح َّتى َأ إ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َب َح‪ُ ،‬ق إل ُت‪َ :‬يا َر ُسو َل هللا‪َ ،‬ما إزل َت َت إق َ ُرأ َهذه إاآل َي َة َح َّتى َأ إ‬
‫ص َب إح َت‪َ ،‬ت إر َكعُ‬ ‫يم} املائدة‪َ ،118 :‬ف َل َّما َأ إ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الح ِك‬
‫إ‬
‫ِِ‬ ‫ُ َِ ِ‬
‫إ‬ ‫َ‬ ‫إ َ َ ََ ٌ إ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الش َف َ‬ ‫َّ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫ب َها َو َت إس ُج ُد ب َها‪ ،‬ق َ‬
‫َ‬
‫هللا ِمل إن ال ُيش ِر ُك‬ ‫اعة ِأل َّم ِتي فأعطا ِنيها‪ ،‬و ِهي نا ِئلة ِإن شاء‬ ‫ال" ‪ِ :‬إ ِني َسأل ُت َرِبي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ إ ً ‪15‬‬
‫اهلل شيئا‪:.‬‬ ‫ِب ِ‬
‫إن الناظر في أحوال السلف في ختم القرآن يجد أن ختمهم على ثالثة أنواع‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬الختمة التعبدية‪:‬‬
‫وهي اإلكثار من تالوة القرآن بنية التعبد والتقرب إلى هللا‪ ،‬رجاء نيل الثواب واألجر وإن لم يفهم‬
‫أنك لن تتقرب إليه‬ ‫استطعت‪ ،‬واعلم َّ‬ ‫َ‬ ‫"تقرب إلى هللا ما‬ ‫املراد منه‪ ،‬قال خباب بن األرت لرجل‪َّ :‬‬
‫أحب إليه من كالمه‪.16 ".‬‬ ‫بش ٍيء هو ُّ‬
‫َ َ ٌَ َ َ ُ‬
‫الح َس َنة‬ ‫َّللا فل ُه ِب ِه حسنة‪ ،‬و‬
‫َّ َ َ‬ ‫وقد ورد في فضل قراءة القرآن حديث‪َ « :‬م إن َق َ َرأ َح إر ًفا م إن ك َ‬
‫اب ِ‬ ‫ت‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ٌ‬ ‫ف َح إر ٌف َوَال ٌم َح إر ٌف َو ِم ٌ‬ ‫َ إ ٌ ََ إ َ ٌ‬ ‫َ َُ‬ ‫إ َ َ‬
‫يم َح إرف»‪.17‬‬ ‫ِب َعش ِر أ إمث ِال َها‪ ،‬ال أقو ُل {الم} حرف‪ ،‬ول ِكن أ ِل‬
‫َ ً‬ ‫إ‬
‫وينبغي الحرص على ترتيل القرآن عند القراءة لقوله هللا تعالى‪َ { :‬و َرِت ِل ال ُق إر َآن ت إرِتيال }(‪)4‬املزمل‪.‬‬
‫وترتيل القرآن هو تجويد قراءته وإرساله من الفم بالسهولة والتمكث وحسن البيان‪ ،‬والغرض‬
‫من الترتيل التأني وعدم العجلة حتى يفهمه السامع والقارئ ويتمكن كل منهما من تدبره وفهمه‪،‬‬
‫ويصل تأثيره إلى القلب‪.‬‬
‫أنفع للقلب من قراءة‬ ‫وللعالمة ابن القيم رحمه هللا كالم نفيس في القراءة النافعة‪":‬فال ش ٌيء َ‬
‫القرآن بالتدبر؛ فإنه جامع ملنازل السائرين‪ ،‬وأحوال العاملين ومقامات العارفين وسائر األحوال‬
‫‪18‬‬
‫التي بها حياة القلب وكماله‪ ،‬ولو علم الناس ما في تدبره الشتغلوا به عن كل ما سواه"‪.‬‬
‫ولذلك أكد علماء التجويد والقراءات على ضرورة ترتيل القرآن وحسن أداءه‪ ،‬وذلك ال يتم إال‬
‫بتعلم قواعد التجويد‪ ،‬يقول ابن الجزري‪:‬‬
‫ُ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫األ إخ ُذ ب َّ‬ ‫َ َ‬
‫الت إج ِو ِيد َح إت ٌـم ال ِز ُم *** َم إن ل إم ُي َج إو ِد الق َـرآن آ ِثـ ُـم‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫و‬
‫َ َ َ َ إ ُ إَ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫إ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صـال‬ ‫اإللـ ُـه أنـ َـزال *** وهكـذا ِمنـه ِإلينا و‬ ‫ِ‬ ‫أل َّن ُه ِب ِه‬
‫إ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ً إَ ُ َ‬
‫َو ُه َو أ إيضا ِحلـية ال ِـتال َو ِة *** َو ِز َينـة األ َد ِاء َوال ِقـ َـر َاء ِة‬

‫‪14‬‬
‫‪ -‬مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة ‪.187/1،‬‬
‫‪15‬‬
‫‪ -‬مسند أحمد‪.149/5.‬شعب اإليمان‪ ،‬باب في إدمان تَلوة القرآن‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫‪ -‬جامع العلوم و الحكم‪ ،‬ابن رجب‪ ،‬ص‪.36 :‬‬
‫‪17‬‬
‫ي في "مشكاة المصابيح"‪ ،‬برقم (‪.)2137‬‬‫‪ -‬سنن الترمذي‪ ،‬أبواب فضائل القرآن‪ ،‬وصححه األلبان ُّ‬
‫‪18‬‬
‫‪ -‬مفتاح دار السعادة ومنشور والية العلم واإلرادة‪.187/1.‬‬
‫َ‬
‫"الواجب" املتداول في‬ ‫وهذا الواجب هو في اصطالح علماء القراءات والتجويد‪ ،‬وليس املقصود‬
‫اصطالح الفقهاء‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الختمة التدبرية‪:‬‬
‫وتدبر معاني اآليات التي يقرؤها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وإعمال الفكر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لحضور القلب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫القراءة املتأنية للقرآن أدعى‬
‫بغض النظر عن املدة التي يتم فيها ختم تدبره‪ ،‬فقد تطول وقد تقصر على حسب همة اإلنسان‪،‬‬
‫وهذا شيخ اإلسالم ابن تيمية وهو من هو في تفسير القرآن‪ 19‬وتدبره حتى قال‪" :‬إني أرجع في تفسير‬
‫‪20‬‬
‫أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن"‪.‬‬ ‫تضييع ِ‬ ‫ِ‬ ‫اآلية إلى مائة تفسير‪ ،‬يقول‪" :‬وقد ندمت على‬
‫وهي ختمة مفتوحة في الزمان قد تستغرق العمر كله‪ ،‬قال اإلمام أبو حامد الغزالي وهو يتحدث‬
‫عن ختماته للقرآن‪" :‬ولي ختمة للقرآن لم أتمها بعد‪".‬‬
‫َ إ َ إ َ ُّ َ َ إ َ ُ ً َ ُ إ َ ً‬ ‫َ َّ َ َ ُ‬
‫قال أبوبكر ابن العربي‪" :‬في قوله تعالى‪{ :‬وال ِذين ِإذا ذ ِك ُروا ِب ِ‬
‫آيات رِب ِهم لم ي ِخروا عليها صما وعميانا}‬
‫الفرقان‪ . 73:‬قال علماؤنا‪ :‬يعني الذين إذا قرأوا القرآن قرأوه بقلوبهم قراءة فهم وتثبت‪ ،‬ولم ينثروه‬
‫‪21‬‬
‫نثر الدقل‪ ،‬فإن املرور عليه بغير فهم وال تثبت صمم وعمى عن معاينة وعيده ووعده"‬
‫النوع الثالث‪ :‬الختمة التعليمية‪:‬‬
‫وهو ختم قراءة القرآن على شيخ متقن بقصد تعلم قراءة من القراءات‪ ،‬أو رواية من الروايات‪،‬‬
‫في ِج ُيز ُه فيها بعد أن يصبح متقنا لها متمكنا‬ ‫فيختم الطالب مثال‪ :‬رواية ورش أو قالون على شيخه ُ‬
‫منها‪ .‬وكم نحن في حاجة إلى ختمة تعليمية على شيخ نصحح فيها أخطاءنا في تالوة اآليات والكلمات‬
‫سواء ما تعلق منها بالرسم العثماني أو برواية ورش التي نقرأ بها في املغرب‪ .‬خذ على سبيل املثال‪:‬‬
‫التي‪ :‬اسم موصول مفرد للمؤنث‪.‬‬
‫والالتي‪ :‬اسم موصول جمع للمؤنث‪.‬لكنها في رسم املصاحف عندنا كتبت هكذا‪( :‬ال ِـتى)‪ ،‬فمن لم‬
‫يسمعها من قارئ يخطئ فيها قطعا‪ ،‬فيقرأها باملفرد‪ .‬وفي املصحف عشرة مواضع وردت فيها‬
‫(ال ِـتى) لجمع املؤنث وهي‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫إ َ إ إ إ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إَ‬
‫استش ِه ُدوا َعل إي ِه َّن﴾‪ 15‬النساء‬ ‫‪َ ﴿ ‬وال ِـتى َيا ِت َين الف ِاحشة ِمن ِنسا ِئكم ف‬
‫ورك إم﴾ ‪ 23‬النساء‬
‫ُ ُ ُ‬ ‫َ ُ َّ َ ُ َ ُ إ َ َ َ ُ ُ ُ‬
‫‪﴿ ‬وأمهات ِنسا ِئكم وربا ِئبكم ال ِـتى ِفي حج ِ‬
‫َإ‬ ‫ُ‬
‫﴿م إن ِن َسا ِئك ُم ال ِـتى َدخل ُت إم ِب ِه َّن﴾ ‪ 23‬النساء‬ ‫‪ِ ‬‬
‫ض َ‬ ‫الر َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض إع َنك إم َوأخ َو ُاتك إم ِم َن َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫﴿وأ َّم َه ُاتك ُم الـتى أ إ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪َ ‬‬
‫اع ِة﴾ ‪ 23‬النساء‬ ‫ِ ر‬
‫وه َّن﴾ ‪ 34‬النساء‬ ‫وز ُه َّن َفع ُظ ُ‬ ‫‪َ ﴿ ‬والـتى َت َخ ُافو َن ُن ُش َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ ُ ُ َ ُ َّ َ ُ َ َُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫النس ِاء ال ِـتى ال توتونهن ما ك ِتب لهن﴾ ‪ 127‬النساء‬ ‫﴿في يتامى ِ‬ ‫‪ِ ‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اسأل ُه َما َب ُ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪﴿ ‬ا إرجع ِالى َرب َك ف إ‬
‫الن إس َو ِة ال ِـتى قط إع َن أ إي ِد َي ُه َّن﴾ ‪ 50‬يوسف‬ ‫ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬

‫‪19‬‬
‫‪ -‬وطبع تفسيره في (‪ )7‬مجلدات تحت اسم (تفسير شيخ اإلسَلم ابن تيمية ) رحمه هللا‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫‪ -‬ذيل طبقات الحنابلة‪ ،‬ابن رجب‪.)402/2( ،‬‬
‫‪21‬‬
‫‪-‬أحكام القرآن البن العربي‪.455/3،‬‬
‫احا﴾ ‪ 60‬النور‬ ‫﴿و إال َق َواع ُد م َن الن َساء الـتى َال َي إر ُجو َن ن َك ً‬ ‫‪َ ‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫َََ َ َ َََ َ َ‬
‫اج إرن َم َع َك﴾‪ 50‬األحزاب‬ ‫ات خاال ِت َك ال ِـتى ه‬ ‫ات خ ِالك وبن ِ‬ ‫‪﴿ ‬وبن ِ‬
‫ور ُه َّن﴾ ‪ 50‬األحزاب‬
‫ُ‬
‫اج َك الـتى َآت إي َت أ ُج َ‬ ‫‪﴿ ‬إ َّنا َأ إحلل َنا ل َك أ إز َو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ولهذا الورد والتعاهد اليومي للقرآن ثمرات عديدة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬الزيادة في اإليمان وتذوق حالوته‪:‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫قال تعالى ‪َ {:‬و ِإذا ت ِل َي إت َعل إي ِه ُم َآيات ُه َز َاد إت ُه ُم ِإ َيمانا} األنفال‪ .‬بمعنى زادتهم قوة في التصديق‪ ،‬ورسوخا‬
‫في اليقين‪ ،‬ونشاطا في األعمال الصالحة‪.‬‬
‫قال الشيخ الطاهر بن عاشور‪" :‬وكيفية تأثير تالوة اآليات في زيادة اإليمان ‪:‬أن دقائق اإلعجاز التي‬
‫تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على األسماع سامعها يقينا بأنها من عند‬
‫هللا‪ ،‬فتزيده استدالال على ما في نفسه‪ ،‬وذلك يقوي اإليمان‪......‬ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في‬
‫َ‬
‫اإلقبال عليها ِبش َر ِاش ِر‪ 22‬القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي ‪ ،‬حتى يحصل كمال‬
‫التقوى ‪ .......‬ويجوز أن تفسر زيادة اإليمان عند تالوة اآليات بأنها زيادة إدراك للمعاني املؤمن بها‪،‬‬
‫‪23‬‬
‫‪.‬‬ ‫كما فسرت زيادة اإليمان بالنسبة إلى األعمال‪ ،‬التي تجب على املؤمن"‬
‫تحصيل ثواب القراءة املضاعف‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫‪-2‬‬
‫وهذا باب عظيم لتحصيل الحسنات وتكثيرها بأقل جهد وكلفة‪ ،‬ال ينبغي للمؤمن أن يغفل عنه‪،‬‬
‫أو يزهد فيه وهو دليل على تمتين العالقة وتقوية الصحبة بكتاب هللا تعالى‪ ،‬وما أجملها من صورة‬
‫حين ترى املؤمن يتلو ورده اليومي من مصحفه أو هاتفه املحمول في بيته أوفي مسجده أو هو‬
‫راكب في حافلة أو قطار‪ ،‬أو هو جالس في قاعة االنتظار لحين قضاء مصلحة في شأن من شؤونه‪،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ومن يريد أن يكو َن َ‬
‫أكثر درجة‪ ،‬وأعال منزلة يوم القيامة‪ ،‬فليكثر من تالوة القرآن وليداوم على‬
‫ورده‪.‬‬
‫َ َ ٌَ َ َ َ َُ َ إ َإَ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫َ إ َ ََ َ إ ً‬
‫َّللا فله ِب ِه حسنة‪ ،‬والحسنة ِبعش ِر أمث ِالها‪ ،‬ال‬ ‫اب ِ‬ ‫الحديث‪" :‬من قرأ حرفا ِمن ِكت ِ‬ ‫و قد سبق في‬
‫ٌ َ إ ٌ ‪24‬‬ ‫َ‬
‫ف َح إر ٌف‪َ ،‬وال ٌم َح إر ٌف َ‬ ‫َإ ٌ َ إ ٌ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫‪،‬؟و ِميم حرف‪".‬‬ ‫أقو ُل الم حرف‪ ،‬ول ِكن أ ِل‬
‫وال شك أن هذه القراءة هي مفتاح باب الدخول على القرآن وليست نهاية املطاف‪ ،‬بل هي بداية‬
‫ولوج باب عطاءات القرآن ومنحه وأنواره‪ ،‬والواجب التفكير فيما هو بعد ذلك‪ ،‬وهو األهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وكمال اإليمان واليقين‪ ،‬ال يحصالن إال‬ ‫يقول الشيخ رشيد رضا رحمه هللا‪ ":‬واعلم أن قوة الدين‬
‫‪25‬‬
‫بنية االهتداء به‪ ،‬والعمل بأمره ونهيه‪".‬‬ ‫بكثرة قراءة القرآن واستماعه‪ ،‬مع التدبر َّ‬

‫‪22‬‬
‫‪ -‬شراشر القلب أي جملة القلب والمقصود االقبال بمحبة وحرص‪.‬‬
‫‪.259/9‬‬ ‫‪ -23‬التحرير والتنوير‪،‬‬
‫‪ -‬سنن الترمذي‪ ،‬بَاب َما َجا َء فِي َم ْن قَ َرأ َ َح ْرفًا مِ نَ الق ْر ِ‬
‫آن َما َله مِ نَ األَجْ ِر‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫‪25‬‬
‫‪ -‬مختصر تفسير المنار‪.170/3،‬‬
‫ُّ‬ ‫وسلم ُي ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ويحب أن يسمعه ِمن‬ ‫حب القرآن‪،‬‬ ‫ويستحب سماع القرآن أيضا ‪،‬فقد كان صلى هللا عليه‬
‫َ‬ ‫َ َّ ُ ُ‬ ‫َ َإ‬ ‫غيره‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬وإ َذا ُقر َئ إال ُق إر ُآن َف إ‬
‫اس َت ِم ُعوا ل ُه َوأن ِص ُتوا ل َعلك إم ت إر َح ُمون} األعراف (‪ .)204‬قال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ نُ‬
‫َّ‬
‫االستماع‪ :‬سكو الجوارح‪ ،‬وغض البصر‪ ،‬واإلصغاء بالسمع‪ ،‬وحضور‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫وهب بن ُم ِنبه‪" :‬من أدب‬
‫‪26‬‬
‫والعزم على العمل‪".‬‬ ‫العقل‪ ،‬إ‬
‫إ إ َ‬ ‫ود رض ي هللا عنه َقا َل‪َ :‬ق َ‬ ‫َ َ إ َإ‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪":‬إق َرأ َعل َّي‪،‬‬ ‫ُ ُ‬
‫ال ِلي َرسول ِ‬ ‫هللا إب ِن َم إس ُع ٍ‬ ‫وعن عب ِد ِ‬
‫ُ ُّ َ إ َ إ َ َ ُ إ َ إ ي َ َ َ َ َ ُ َ َ إ ُ َ َ‬ ‫؟‪،‬ق َ‬ ‫ُ إ ُ َ إ َُ َ َ إ َ َ َ َ إ َ ُ إ َ َ‬
‫قلت‪ :‬أقرأ عليك وعليك أن ِزل‬
‫ورة‬ ‫ال‪ِ :‬إ ِني أ ِحب أن أسمعه ِمن غي ِر ‪ ،‬قال‪ :‬فقرات علي ِه س‬
‫يدا} ف َق َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف إ َذا ج إئ َنا م إن ُكل أ َّمة ب َشهيد َوج إئ َنا ب َك َعلى َه ُؤالء َشه ً‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ َ َ إ ُ َ َ إ َ‬ ‫َ‬
‫ال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫النس ِاء‪ ،‬حتى بلغت‪{ :‬فكي ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪27‬‬ ‫َ إ ُ َ إ َ َ إ َ َ ُّ َ إ َ َ َ إ َ ُ َ إ َ‬
‫حسبك اآلن‪ ،‬فالتفت ِإلي ِه‪ ،‬ف ِإذا عيناه تذ ِرف ِان‪".‬‬
‫إ َ‬ ‫إ َ َ َ إ إ َ َ‬
‫صغ ِاء ل َها‪َ ،‬وال ُبك ِاء ِع إن َد َها‬ ‫اإل‬ ‫الح ِد ِ إ إ َ ُ إ َ‬
‫يث ِاس ِتحباب ِاس ِتم ِاع ال ِقر َاء ِة و ِ‬
‫قال اإلمام النووي‪" :‬وفي َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ُّ َ َ إ إ َ ُ َ َ إ َ َ إ َ إ َ إ َ َ َ ُ َ ُ َ إ َ‬
‫وتدب ِرها‪ ،‬واس ِتحباب طل ِب ال ِقراء ِة ِمن غي ِر ِه ِليست ِمع له‪ ،‬وهو أبلغ ِفي التفه ِم والتدبر ِمن ِقراء ِت ِه‬
‫‪28‬‬
‫ِب َن إف ِس ِه‪".‬‬
‫‪ -3‬التخلق بأخالق القرآن‪:‬‬
‫اآلجري رحمه هللا‪« :‬فاملؤمن العاقل إذا تال القرآن استعرض القرآن‪ ،‬فكان كاملرآة يرى بها ما‬ ‫قال ِ‬
‫َّ‬ ‫حذره مواله َح َذره‪ ،‬وما َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫خوفه به من عقابه خافه‪ ،‬وما رغب فيه‬ ‫َح ُسن من ِفعله وما ق ُب َح فيه‪ ،‬فما‬
‫مواله َر ِغ َب فيه ورجاه»‪.29‬‬
‫إن املؤمن الذي يتلو كتاب هللا عليه أن يستشعر أن هللا يخاطبه‪ ،‬وأنه املقصود بكل خطاب فيه‪،‬‬
‫يسمع‬‫ُ‬ ‫فإذا استحضر هذه املخاطبة‪ ،‬قال بلسان الحال قبل املقال‪ :‬سمعت وأطعت‪ .‬فحين‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ ُ ُ ُ َّ ُ َ‬
‫َّللا ن إف َس ُه} فإنه يخاف‪ ،‬أو يسمع النهي عن "ال ِغ َيبة" فإنه يكف‪ ،‬أو ملا يرى بشاعة‬ ‫مثال‪{:‬ويح ِذركم‬
‫َ‬
‫َّللا َي ُقو ُل َ{يا أ ُّي َها َّالذ َ‬ ‫وصف "النميمة" فيرتعب‪ .‬قال ابن مسعود رض ي هللا عنه ‪" :‬إ َذا َسم إع َت َّ َ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َآم ُنوا} فأ إر ِع َها َس إمعك‪ ،‬ف ِإنه خ إي ٌر َيأ ُم ُر ِب ِه أ إو شر َين َهى َعنه)‪.30‬‬
‫ُ‬ ‫إ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬
‫وفي تمثل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للقرآن في حياته العامرة املباركة‪ ،‬ورد عن سعد بن‬
‫ََ َ َ َ َإ َ‬ ‫َ‬
‫استأذنت أنا وحكيم بن أفلح َعلى عائشة رض ي هللا عنها فأ ِذن إت ل َنا‪ ،‬ف َدخل َنا َعل إي َها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫هشام قال‪:‬‬
‫َ َ إ َ َ إ َ َ إ َُ‬ ‫َف ُق إل ُت‪َ :‬يا ُأ َّم املؤمنين‪ ،‬أنبئيني عن خلق َر ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬ ‫إ‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم؟ قالت‪ :‬ألست تقرأ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ َ إ ُ إ َ ‪31‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ ُ إ َ ُ إ ُ َ َ َ َ إ َ َّ ُ ُ‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم كان القرآن‪".‬‬ ‫القرآن؟‪ ،‬قلت‪ :‬بلى‪ ،‬قالت‪ :‬ف ِإن خلق رسو ِل ِ‬
‫َ َ َ إ َ َ َ ُ إ ُ َ َ إ ُ إ إ َ إ َ إ َ َ ُ ُّ َ إ َ َ َ َ‬ ‫إ‬ ‫َق َ‬
‫ال ُم َح َّم ُد إب ُن ال ُح َس إي ِن اآلجري‪" :‬أال ترون ر ِحمكم هللا ِإلى موالكم الك ِري ِم؛ كيف يحث خلقه على‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ إ َ َ َ َّ ُ َ َ ُ َ َ إ َ َ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َّ َّ َ َّ َ َ َّ َ َ َ َ َ َ إ َ‬
‫يم ُسلطا ِن ِه َوق إد َرِت ِه‪َ ،‬و َع َرف‬ ‫أن يتدبروا كالمه‪ ،‬ومن تدبر كالمه عرف الرب عز وجل‪ ،‬وعرف ع ِظ‬
‫َ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫ََإ‬ ‫ؤم ِن َين‪َ ،‬و َع َر َف َما َع َل إي ِه ِم إن َف إ‬ ‫َ َ َ َ ُّ ُ َ َ إ ُ‬
‫ض ِع َب َاد ِت ِه ‪ ،‬فأل َز َم ن إف َس ُه ال َو ِاج َب‪ ،‬ف َح ِذ َر ِم َّما‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ع ِظيم تفض ِله على امل‬

‫‪26‬‬
‫‪ -‬تفسير البحر المحيط‪231 /6 ،‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ -‬صحيح مسلم‪ ،‬باب فضل استماع القرآن‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫‪ -‬شرح النووي على مسلم‪.154/ 3 ،‬‬
‫‪29‬‬
‫‪ -‬أخَلق حملة القرآن‪ ،‬ص ‪.40 - 39‬‬
‫‪30‬‬
‫‪ -‬تفسير ابن كثير‪.374/1 ،‬‬
‫ص ََلةِ اللَّ ْي ِل‪َ ،‬و َم ْن ن َ‬
‫َام َع ْنه أ َ ْو َم ِر َ‬
‫‪31‬‬
‫ض‪.‬‬ ‫‪ -‬صحيح مسلم‪َ ،‬باب َجامِ عِ َ‬
‫َُُ إَ َ إ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ َ ُ َ إ ُ إ َ‬
‫الو ِت ِه ِلل ُق إر ِآن‪َ ،‬و ِع إن َد‬ ‫اله الك ِرإي ُم‪َ ،‬و َر ِغ َب ِف َيما َرغ َب ُه ِف ِيه‪َ .‬و َم إن كان إت َه ِذ ِه ِصفته ِعند ِت‬ ‫حذره مو‬
‫وح ُ‬ ‫َ‬
‫اس َت إغ َنى بال َمال‪َ ،‬و َع َّز بال َعش َيرة‪ ،‬وأن َ َ َ إ َ‬ ‫َ‬
‫ان ال ُق إر ُآن ل ُه ش َف ًاء‪َ ،‬ف إ‬ ‫إ‬ ‫است َماعه م إن َغ إيره‪َ ،‬ك َ‬ ‫إ‬
‫ش‬ ‫س ِبما يست ِ‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫إ ُ َ إ ُ ُ َ َ َ َ ُّ ُ إ َ َ ُّ َ َ إ َ َ َ َ َ َّ َ ُ َ َ إ ُ ُ َ ُ‬
‫وه؟‪َ ،‬ول إم َيك إن ُم َر ُاد ُه َم َّتى‬ ‫ِمنه غيره ‪ ،‬وكان همه ِعند ِتالو ِة السور ِة ِإذا افتتحها‪ :‬متى أ ِت ِعظ ِبما أتل‬
‫إ َ َ َ َّ َ إ َ ُ َ َّ إ َ ُ َّ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ور َة؟‪َ ،‬وإ َّن َما ُم َر ُاد ُه‪َ :‬م َّتى َأ إعق ُل َع إ‬ ‫َأ إخت ُ‬
‫الوت ُه‬ ‫هللا ال ِخطاب؟ متى أزد ِجر؟ متى أعت ِبر؟ ألن ِت‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫الس‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫َ ُ إ ُ َ ُ ‪32‬‬ ‫َ ٌَ َ إ َِ َُ َُ ُ َإَ‬ ‫إ‬
‫ِلل ُقر ِآن ِعبادة‪ ،‬وال ِعبادة ال تكون ِبغفل ٍة‪ ،‬وهللا املو ِفق‪".‬‬ ‫إ‬
‫‪ -4‬إصالح القلب وشفاؤه‪:‬‬
‫ٌ‬
‫الص ُدو ِر َو ُه ًدى َو َر إح َمة‬
‫َ‬
‫اس ق إد َج َاء إت ُك إم َم إو ِعظ ٌة م إن َرب ُك إم َوش َف ٌاء َملا في ُّ‬ ‫َ‬ ‫الن ُ‬‫قال تعالى‪{َ :‬ي َاأ ُّي َها َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إ إ‬
‫ِلل ُمؤ ِم ِن َين} (‪ )57‬سورة يونس‪ .‬أنفع عالج لقسوة القلوب وإيقاظها من غفلتها‪ ،‬بل وإحيائها بعد‬
‫موتتها‪ ،‬هو مداواتها بتدبر القرآن‪.‬‬
‫َ َ َ َ َّ إ ُ إ َ َ ُ ُّ ُ إ َ َ َ ُ إ َ َ َ ُ إ َ َّ َ ُ ُ إ َ ُ ُ ُ ُ إ َ َ َّ َ َ ُ إُ‬
‫قال قتادة‪"ِ :‬إن القرآن يدلكم على دا ِئكم ودوا ِئكم‪ ،‬أما داؤكم فذنوبكم‪ ،‬وأما دواؤكم‬
‫‪33‬‬ ‫َ إ إَ‬
‫االس ِتغفار"‬ ‫ف‬
‫وقال ابن قيم الجوزية‪ ":‬وأنفع األغذية غذاء اإليمان‪ ،‬وأنفع األدوية دواء القرآن وكل منهما فيه‬
‫‪34‬‬
‫الغذاء والدواء"‪.‬‬
‫وحجب غليظة‪ ،‬وفي الصدور طبقات متراكمة من‬ ‫ٌ‬ ‫ففي الصدور شهوات وشبهات وأمراض‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫نَ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ُ‬
‫كسبو }‪ ،‬وكل ذلك دواؤه كما قال تعالى‪{:‬قد جاءتكم‬ ‫لوب ِهم ما كانوا ي ِ‬ ‫األوساخ‪{ ،‬كال بل ران على ق ِ‬
‫فاء ملا في ُّ‬ ‫َ ُ َ ٌ‬ ‫َ ٌَ‬
‫الصدو ِر}‪ ،‬فإذا شفيت الصدور وجدت خفة نفس في الطاعات‪،‬‬ ‫وعظة ِمن رِبكم و ِش ِ ِ‬ ‫م ِ‬
‫وإذا شفيت الصدور انقادت للوحي بكل طواعية‪ ،‬وإذا شفيت الصدور تعلقت باآلخرة واستهانت‬
‫بحطام الدنيا‪ ،‬وأقبلت على هللا راغبة فيما عنده‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قال د‪ .‬فر يد األنصاري معلقا على قوله تعالى‪{َ :‬و َك َذل َك أ إو َح إي َنا إل إي َك ُر ً‬
‫وحا ِم إن أ إم ِرنا} سورة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حياة‬ ‫ُ‬ ‫روحا؛ ألنه ُ‬ ‫الشورى‪" .‬وإنما كان القرآن ً‬
‫وسبب ِ‬ ‫حياة هذه األمة‪ ،‬من حيث هي "أمة"‪،‬‬ ‫سبب ِ‬
‫لقلب خ ِل َي منها"‪. 35‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫آيات القرآن الكريم‪ ،‬وال حياة‬ ‫نبض ُه ُ‬ ‫خال َط إت َ‬ ‫ٌ َ‬
‫القلوب‪ ،‬فال يموت قلب‬
‫ٍ‬
‫‪ -5‬الحركة بالقرآن في الحياة‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬
‫القرآن كتاب للحياة واألحياء وليس كتابا لألموات يتبرك به { ِلــتن ِذ َر َمن كان َح ًّيا} ‪،‬فمن حقوق‬
‫ورا‬ ‫وإصالحا ونشرا في حياة الناس‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬و َج َع إل َنا َل ُه ُن ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫القرآن علينا السعي به حركة ودعوة‬
‫َ َ‬ ‫ي َ ُّ ُ َ َ ٌ َ إ َ ُ إ َ إ َ َّ إ‬ ‫َّ‬ ‫َإ‬
‫التن ِزي ِل‪ ...‬ف ِل َهذا‬ ‫ور الوح ِي و‬ ‫اس}‪ ،‬قال الفخر الراز ‪{:‬والنور ِعبارة عن ِإيص ِال ن ِ‬ ‫يم ِش ي ِب ِه ِفي الن ِ‬
‫إ ُ إ ُ ‪36‬‬
‫ور القرآن‪".‬‬ ‫ون‪ :‬إاملُ َر ُاد ب َه َذا ُّ‬
‫الن‬ ‫ال إاملُ َفس ُر َ‬ ‫الس َبب َق َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪32‬‬
‫‪ -‬أحَلق حملة القرآن‪ ،‬المقدمة‪ :‬ص‪.36:‬‬
‫ِي أ َ ْق َوم‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫ِي‬ ‫ت‬‫َّ‬ ‫ِل‬
‫ل‬ ‫ِي‬
‫د‬ ‫ه‬
‫ْ‬ ‫ي‬
‫ِ‬ ‫آنَ‬‫ر‬‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬
‫ال‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫إ‬
‫ِ‬ ‫‪:‬‬‫ى‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫قوله‬ ‫‪ -‬تفسير ابن أبي حاتم‪ .2319/7. ،‬في‬
‫‪33‬‬
‫‪34‬‬
‫‪ -‬إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان‪. 117/1.‬‬
‫‪35‬‬
‫‪ -‬بَلغ الرسالة القرآنية‪ ،‬ص‪.41:‬‬
‫‪36‬‬
‫‪ -‬مفاتيح الغيب‪.133/13 ،‬‬
‫وعن قوة تأثير القرآن الكريم في النفوس‪ ،‬يقول األستاذ محمد فريد وجدي‪ ":‬في القرآن طاقة‬
‫روحية هائلة ذات تأثير بالغ الشأن في نفس اإلنسان‪ ،‬فهو يهز وجدانه‪ ،‬ويرهف أحاسيسه‬
‫‪37‬‬
‫ومشاعره‪ ،‬ويصقل روحه‪ ،‬ويوقظ إدراكه وتفكيره‪".‬‬
‫قال الفضيل بن عياض‪" :‬حامل القرآن حامل راية اإلسالم ال ينبغي له أن يلغو مع من يلغو‪ ،‬وال‬
‫أن يلهو مع من يلهو‪ ،‬وال يسهو مع من يسهو‪ ،‬وينبغي لحامل القرآن أال يكون له إلى الخلق حاجة‬
‫‪38‬‬
‫ال إلى الخلفاء فمن دونهم‪ ،‬وينبغي أن يكون حوائج الخلق إليه‪" .‬‬
‫في القرآن تأهيل تربوي وإعداد إيماني لنفسية الداعية للتغلب على الصعوبات والعوائق التي‬
‫تواجهه في طريق دعوته؛ يستمد الداعية منه دعوته ومادتها‪ ،‬ولذلك كان من توجيه هللا تعالى‬
‫َّ َ ً‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ إُ‬
‫لرسوله الكريم في بداية بعثته هو ترتيل القرآن حيث قال تعالى‪{َ :‬يا أ ُّي َها امل َّز ِم ُل * ق ِم الل إي َل ِإال ق ِليال‬
‫إ‬ ‫َ ً‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َ ً َ‬ ‫ص َف ُه َأو ُ‬
‫ص ِم إن ُه ق ِليال * أ إو ِز إد َعل إي ِه َو َرِت ِل ال ُق إر َآن ت إرِتيال}‪ ،‬والسبب في ذلك هو ِ{إ َّنا َس ُنل ِقي‬‫انق إ‬
‫ِ‬
‫*ن إ‬
‫ِ‬
‫ََإ َ َ إ َ ً‬
‫عليك قوال ث ِقيال}‪ ،‬أي نوحي إليك هذا القرآن الثقيل‪ ،‬العظيم في معانيه‪ ،‬الجليل في أوصافه‪ ،‬وهو‬
‫بذلك حقيق أن يتهيأ له ويتفكر فيما يشتمل عليه‪ .‬ثم جاءه األمر بإعالن الدعوة إلى الناس في‬
‫ُ ََإ‬ ‫َ إُ‬
‫قوله تعالى‪َ { :‬ياأ ُّي َها امل َّد ِث ُر (‪ )1‬ق إم فأن ِذ إر (‪ })2‬فسار في قومه داعيا‪ ،‬فما عرف الراحة وال خلد إلى‬
‫النوم حتى انتقل إلى جوار ربه‪ ،‬وقد بلغ الرسالة وأدى األمانة ونصح لألمة‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‬
‫عليه وجزاه عنا بكل خير‪.‬‬
‫‪ -6‬العيش مع القرآن‪:‬‬
‫إ‬
‫حينما تفتح املصحف للقراءة إن َ‬
‫س الدنيا‪ ،‬وفرغ قلبك من املشاغل‪ ،‬وعش مع القرآن في تلك‬ ‫ِ‬
‫اللحظات‪ ،‬واستمتع بجلستك معه‪ ،‬فأطيب ما في الدنيا العيش مع كتاب هللا‪ ،‬روي عن عمر رض ي‬
‫هللا عنه أنه كان يأخذ املصحف كل غداة ويقبله‪ ،‬ويقول‪ :‬عهد ربي ومنشور ربي عز وجل‪ .‬وكان‬
‫عثمان رض ي هللا عنه يقبل املصحف ويمسحه على وجهه‪.‬‬
‫وعن ابن أبي مليكة أن عكرمة رض ي هللا عنه‪":‬كان إذا رأى املصحف يأخذه فيضعه على وجهه‪،‬‬
‫ويبكي‪ ،‬ويقول‪" :‬كتاب ربي‪ ،‬وكالم ربي"‪.39‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫"فلما كان ُ‬ ‫ويقول القرطبي رحمه هللا عن نفسه‪َّ :‬‬
‫الكفيل بجميع علوم الشرع‪ ،‬الذي‬ ‫كتاب هللا هو‬
‫أيت أن أشتغل به مدى ُعمري‪،‬‬ ‫السماء إلى أمين األ ض ُ‬ ‫والفرض‪ ،‬ونزل به أمين َّ‬ ‫إ‬ ‫استقل ُّ‬
‫بالسنة‬ ‫َّ‬
‫ر ر‬
‫وأستفرغ فيه ُمنيتي"‪.40‬‬
‫قال عن نفسه‪" :‬ال توجد آية في‬ ‫وعاش العالمة محمد األمين الشنقيطي رحمه هللا مع القرآن حتى َ‬
‫ً‬
‫القرآن إال ودرستها على ِح َدة‪ ".‬وعدد آيات القرآن الكريم )‪ ،(6236‬كل آية خصص لها وقتا يفردها‬
‫به بالدراسة والتدبر‪ ،‬وترك لنا تفسيرا عظيما سماه‪" :‬أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن‪".‬‬

‫‪37‬‬
‫‪ -‬دائرة معارف القرن العشرين‪.679/7 ،‬‬
‫‪38‬‬
‫‪ -‬أخَلق حملة القرآن لآلجري ص‪.43‬‬
‫‪39‬‬
‫‪ -‬صفة الصفوة‪.286/1،‬فصل عكرمة رصي هللا عنه‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫‪ -‬احكام القرآن ‪.23/1،‬‬
‫وأنت تقرأ آيات القرآن اجعل نفسك كأنك املخاطب بها‪ ،‬فإن كثيرا منا ال يستحضر في ذهنه هذه‬
‫األمر فيفوت على نفسه االنتفاع‪ ،‬وحاول العيش مع هذه اآليات بوجدانك‪ ،‬فإذا مررت بآية فيها‬
‫ً‬
‫ذكر الجنة استحضر نفسك كأنك تعيش فيها متلذذا بنعيمها‪ ،‬وإذا مررت بآية فيها ذكر النار‬
‫خشيت أن تكون من أهلها واستعذت باهلل منها‪ ،‬وإذا مررت بقصص السابقين نقلت فؤادك إلى‬
‫ذلك الزمان وكأنك تعيش تلك األحداث‪ ،‬وهكذا مع كل آية من اآليات‪.‬‬
‫َّ‬
‫صل إيت َم َع الن ِب ِي‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫هللا َع َل إيه َو َس َّل َم مع ما يقرأ‪ ،‬فيقول‪َ « :‬‬
‫َ‬ ‫ص َّلى ُ‬‫وهذا ُح َذ إي َف ُة يصف تفاعل رسول هللا َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ان إ َذا َم َّر ب َآي ٍة ف َيها َت إسب ٌ‬ ‫هللا َع َل إيه َو َس َّل َم َف َك َ‬
‫ص َّلى ُ‬
‫يح َس َّب َح‪َ ،‬و ِإذا َم َّر ِب ُسؤ ٍال َسأ َل‪َ ،‬و ِإذا َم َّر ِب َت َع ُّو ٍذ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ َ َّ َ ‪41‬‬
‫تعوذ»‬
‫ُ‬ ‫إ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُإ ُ إ‬ ‫يقول ابن القيم؛" َف َال َت َز ُ‬
‫ض ال َع إب َد ِإلى َرِب ِه ِبال َو إع ِد ال َج ِم ِيل‪َ ،‬وت َح ِذ ُر ُه‬ ‫ال َم َعا ِن ِيه "أي القرآن" تن ِه‬
‫َّ‬ ‫َ إ‬ ‫َ َ ُ ُّ ُ َ َ َّ َ ‪ُّ َ َّ َ 42‬‬ ‫َو ُت َخو ُف ُه ب َوعيده م َن إال َع َذ إ َ‬
‫ف ِل ِلق ِاء ال َي إو ِم الث ِقي ِل" ‪.43‬‬ ‫اب الو ِب ِيل‪ ،‬وتحثه على التض ُّم ِر والتخف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِِ ِ‬
‫فهم املعنى اإلجمالي من اآليات ‪:‬‬ ‫‪ُ -7‬‬
‫الفهم اإلجمالي للقرآن الكريم ال يختص بفئة معينة‪ ،‬فقد جاء القرآن ليستفيد منه الجميع‪.‬‬
‫ويتصور كثير من الناس عند قراءته للقرآن أنه يتوجب عليه لكي يفهم القرآن أن يراجع كتب‬
‫التفسير في كل آية وكل كلمة من كلمات القرآن‪ ،‬وهذه الفكرة تحول دون فهم القرآن حتى في‬
‫املعاني التي ال تحتاج إلى تفسير أو بيان‪..‬‬
‫والصحابة رضوان هللا عليهم لم يكونوا يقفون عند كل آية من القرآن الكريم حتى يعرفوا معناها‪،‬‬
‫بل كانوا يكتفون باملعنى العام لآلية إن لم يترتب على معرفة املفردات أحكام مهمة‪ ،‬وعلى هذا‬
‫النحو‪ ،‬فغالب القرآن إذا قرأه عموم الناس يستطيعون أن يفهموه في الجملة‪ ،‬ويبقى هناك آيات‬
‫منه ال يعلمها إال الراسخون في العلم‪ ،‬وهناك ما ال يعلم تأويله على الحقيقية إال هللا‪ ،‬وهذا األخير‬
‫هو أقل املساحات في كتاب هللا تعالى‪ .‬والقرآن بهذه الرؤية متسع لكل األمة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫الزركش ي رحمه هللا‪« :‬وبالجملة؛ فالقرآن كله لم ُينزله تعالى إال ِل ُي إف ِه َمه‪ُ ،‬وي إعل َم ُوي إف َه َم‪ ،‬ولذلك‬ ‫قال َّ‬
‫‪44‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫خاطب به أولي األلباب الذين يعقلون‪ ،‬والذين يعلمون‪ ،‬والذين يفقهون‪ ،‬والذين يتفكرون»‪.‬‬
‫واختر لنفسك تفسيرا ميسرا تطالعه بموازاة قراءة وردك اليومي‪ ،‬حتى تختمه فتكون لك ختمة‬
‫تفسيرية ربما خالل سنة أو أقل أو أكثر مع ختمة القراءة وسيظهر لك الفرق بين القراءة بدون‬
‫فهم املعنى والقراءة مع فهم املعنى اإلجمالي لآليات‪.‬‬
‫إن معرفة معاني اآليات على وجه اإلجمال يؤدي إلى االستمتاع بالقراءة والشغف بها‪ ،‬قال إمام‬
‫‪45‬‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ألعجب َم إ‬
‫ُ‬
‫من قرأ القرآن ولم يعلم تأويله‪ ،‬كيف يلتذ بقراءته؟"‬ ‫املفسرين ابن جرير الطبري‪"ِ :‬إني‬

‫‪41‬‬
‫‪ -‬األذكار للنووي‪ ،‬ص‪.51:‬‬
‫‪42‬‬
‫ف‪ .‬والمقصود‪ :‬التقلل من األثقال‪.‬‬
‫َ‬ ‫ع‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫َ‪،‬‬
‫ل‬ ‫ف‪ ،‬هَزَ‬
‫ض َم َر ِجسْمه‪ :‬نَح َ‬
‫‪َ -‬‬
‫‪43‬‬
‫‪ -‬مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين‪.452/1.‬‬
‫‪44‬‬
‫‪ -‬البرهان في علوم القرآن‪.145 /2 ،‬‬
‫‪45‬‬
‫‪ -‬جامع البيان في تأويل آي القرآن‪.10/1 ،‬‬
‫التدبروالتأمل بقصد االنتفاع بكالم هللا‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫‪-8‬‬
‫إ َ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قال تعالى‪{َ :‬ولق إد َي َّس إرنا ال ُق إر َآن ِل ِلذك ِر ف َه إل ِم إن ُم َّد ِك ٍر} سورة القمر‪ ،‬قال الطبري رحمه هللا في‬
‫تفسيرها‪" :‬ولقد سهلنا القرآن‪ ،‬بيناه وفصلناه للذكر ملن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ‪ ،‬وهوناه‪...‬‬
‫‪46‬‬
‫فهل من معتبر متعظ يتذكر بما فيه من العبر والذكر؟”‪.‬‬
‫ُُّ‬ ‫"تدبر القرآن هو‪ُّ :‬‬ ‫وعن حقيقة التدبر قال سليمان السنيدي‪ُّ :‬‬
‫تفهم معاني ألفاظه‪ ،‬والتفكر فيما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫عرج اللفظ‬ ‫تدل عليه آياته مطابقة‪ ،‬وما دخل في ضمنها‪ ،‬وما ال تتم تلك املعاني إال به‪ ،‬مما لم ي ِ‬
‫ُ‬ ‫إ‬
‫وخضوعه‬
‫ِ‬ ‫مواعظه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بخشوعه عند‬ ‫ِ‬ ‫وانتفاع القلب بذلك‪،‬‬ ‫والتنبيهات‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ات‬ ‫على ِذكره من اإلشار ِ‬
‫ألوامره‪ ،‬وأخذ العبرة منه"‪.47‬‬
‫ً‬
‫والتدبر اتعاظ باملعنى واعتبار به‪ ،‬وهو ال يوجد في كتب التفسير إال نادرا‪ .‬ألنه في الغالب عمل‬
‫قلبي شخص ي‪ ،‬ونظر نفس ي ال ينوب فيه أحد عن أحد‪ .‬وهل يستطيع أحد أن ينوب عن غيره في‬
‫الخوف والرجاء‪ ،‬أو في الكسل والنشاط‪ .‬بينما التفسير هو بيان وشرح للمعنى‪ ،‬ولذلك سمي بيان‬
‫ً‬
‫كتاب هللا تفسيرا؛ ألنه يكشف عن معانيه وأحكامه الشرعية‪ ،‬باستعمال قواعد التفسير‬
‫املعروفة عند أهله‪ .‬وهذا هو علم التفسير‪.‬‬
‫أما التدبر فهو مرحلة ما بعد التفسير‪ !...‬أي ما بعد الفهم لآلية‪ .‬ثم إن تدبر القرآن مطلوب من‬
‫كل أحد من البشر‪ ،‬ألنه الكتاب الذي أنزل إليهم لهدايتهم وإرشادهم إلى خير دنياهم وآخرتهم‪،‬‬
‫َ َّ ُ ُ‬ ‫ً َ ٌ َإ إ َ‬
‫اب أن َزل َن ُاه ِإل إي َك ُم َبا َر ٌك ِل َي َّد َّب ُروا َآيا ِت ِه َوِل َي َتذك َر أولو‬ ‫ولذلك حضهم ربهم سبحانه على ذلك قائال‪ِ { :‬كت‬
‫إَ‬
‫األ إل َ‬
‫اب (‪ })29‬سورة ص‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫قال اآلج ِري رحمه هللا‪" :‬القليل من الدرس للقرآن مع التفكر فيه وتدبره أحب إلي ِمن قراءة الكثير‬
‫والس َّنة وقول َّ‬ ‫يدل على ذلك‪ُّ ،‬‬ ‫تفكر فيه‪ ،‬وظاهر القرآن ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫من القرآن بغير ت ُّ‬
‫أئمة‬ ‫دبر وال‬
‫املسلمين"‪.48‬‬
‫وقال ابن القيم رحمه هللا‪" :‬فليس ش يء أنفع للعبد في معاشه ومعاده‪ ،‬وأقرب إلى نجاته من تدبر‬
‫القرآن‪ ،‬وإطالة التأمل‪ ،‬وجمع الفكر على معاني آياته‪ ،‬فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر‬
‫‪49‬‬
‫وتوطد أركانه"‪.‬‬ ‫وتشيد بنيانه ِ‬ ‫بحذافيرها ‪ ...‬وتثبت قواعد اإليمان في قلبه ِ‬
‫يغذي العقل والروح‬ ‫وأختم بعبارة جامعة لشيخ اإلسالم ابن تيمية يقول فيها‪" :‬ما رأيت شيئا ِ‬
‫ويحفظ الجسم ويضمن السعادة أكثر من إدامة النظر في كتاب هللا تعالى"‪.50‬‬
‫والحمد هلل رب العاملين‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫‪ -‬جامع البيان في تأويل القرآن ‪.584 /22‬‬
‫‪47‬‬
‫‪ -‬تدبر القرآن‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪48‬‬
‫‪ -‬أخَلق حملة القرآن‪ ،‬ص‪.169 :‬‬
‫‪49‬‬
‫‪ -‬مدارج السالكين‪.485/1 ،‬‬
‫‪50‬‬
‫‪ -‬مجموع الفتاوى‪.493/4 ،‬‬

You might also like