الشعبة 2 :آداب و فلسفة السنة الدراس ّية22-23 :
انطباق الفكر مع الواقع
السؤال :هل األحكام المسبقة تعيق البحث العلمي ؟
المقدّ مة :يتش ّك ل الواقع الحسي بكل ما يحمله من حقائق جزئية مصدرا وحيدا للمعرفة ،يتخذ اإلستقراء سبيال أوحد للدراسة العلميّة و تقصّي الحقائق لكن هذه الدراسة تكون دوما مسبوقة ببعض األفكار أو المبادئ الّتي ينطلق منها العقل للحكم أو التفسير ،و هذا ما يسمّى باألحكام المسبقة ،حيث أنّ الفالسفة و المف ّكرين لم ي ّت فقوا حول موضوع هذه األحكام و دورها و عالقتها بالبحث العلمي و الدّراسة ال ّتجريبيّة ،و نتج عن ذلك موقفان متعارضان أحدهما يفترض أن يتطوّ ر البحث العلمي دون األخذ بها ،و على ال ّنقيض يؤ ّكد آخرون على ضرورة األخذ باألحكام المسبقة ألنّ البحث التجريبي ال يقوم من فراغ .و هذا ما يقودنا للتساؤل التالي :هل تش ّكل األحكام المسبقة عائقا أمام تطوّ ر البحث العلمي؟ أم أ ّنها تش ّكل سندا و حافزا له ؟ عرض القض ّية و حججها :األحكام المسبقة غير ضرورية ،يرى أنصار هذا الموقف ( فرنسيس بيكون ،ديكارت ،كانط )..أنّ األحكام المسبقة غير ضرورية في البحث العلمي كونها غير مثبتة تجريبيّا و تش ّكل عائقا أمام تطبيق خطوات المنهج التجريبي ،و األحكام المسبقة تعرف بأ ّنها مجموعة اآلراء و التصوّ رات الّتي يكوّ نها العقل حول األشياء و الحوادث على نحو قبلي دون سند من الخبرة و الموضوعية - : فهي نابعة من التفسير الميتافيزيقي و الغيبي و العرف و اإلنطباع و القناعات الشخصيّة ،فلقد آمن قدماء المصريّين بأنّ سبب فيضان نهر النيل هو غضب اآللهة ،و اعتقد اليونانيّون القدامى بأنّ سبب سقوط األمطار هو بكاء اآللهة – .اعتماد الباحث على األحكام المسبقة هو ّ اعتماد على الخيال ،و هو ما قد يبعده عن الحقيقةُ – .تبنى األحكام المسبقة على الذاتيّة و األهواء و الرغبات و المصلحة الشخصيّة المتأثرة بمعتقدات السلف ،و هذا يخالف الروح العلميّة ،يقول بيكون " :يجب أن نقذف بجميع نظريّات القرون الوسطى بعيدا ". النقد :ال ننكر أنّ لألحكام المسبقة أثر سلبي في إعاقة انطباق الفكر مع الواقع ،لكن هذه األحكام ليست كلّها عائقا معرفيا ،فالعقل ال يمكنه اإلنطالق من عدم ،بل يحتاج إلى مقدّمات يسلّم بها لبناء معارفه ،كما يجب أن نعلم أنّ هناك فرقا بين مفهوم األحكام المسبقة السلبيّة و مبادئ العقل اإليجابيّة الّتي ّ تؤطر المعرفة. عرض نقيض القض ّية و حججها :في المقابل يرى عدد آخر من المفكرين أمثال بوانكاريه ،أوغست كونت ،ج.س.مل ...أنّ األحكام المسبقة ضروريّة في المنهج العلمي كونها ّ تمث ل حافزا و سندا للعالم أثناء دراسته للظواهر ،و ال يمكن اإلستغناء عنها أل ّنها أوّ ليّات عقليّة من خاللها يمكن للفكر أن ينطبق مع نفسه و مع الواقع ،فالبحث العلمي ال يقوم من فراغ ،لذا يجب اإليمان بمبادئ و أحكام ضروريّة تسبق ال ّتجربة – .تساهم األحكام المسبقة في بناء نسق معرفي صحيح أل ّنها تعتمد على مبدأ السببيّة الّذي يعني أنّ لك ّل ظاهرة سبب يحدثها ،و مبدأ بالظواهر قبل حدوثها عن طريق معرفة أسبابها الفاعلة و استبعاد الصّدفة ما أدى إلى التطوّ ر العلمي ،و مبدأ الحتميّة الّذي يم ّكن من التنبؤ ّ ّ الظواهر أي انتظامها و الّذي يقوم على اإلعتقاد الجازم باال ّتصال بين الظواهر الطبيعية W،يقول عبد الرحمان بدوي " :في سلسلة اطراد ّ األحداث وجود ظاهرة ال ب ّد من أن يعني وجود ظاهرة أخرى " ،فك ّل معرفة سابقة هي حكم مسبق للمعرفة الجديدة و ال تقوم لها قائمة إالّ إذا انسجمت مع هذه المبادئ الثالث. النقد : إنّ ما ذهب إليه أنصار هذا الموقف صحيح إالّ أ ّنهم بالغوا فيه ،فمهما كانت أهميّتها فإ ّنها ال تؤخذ على أ ّنها أوليّات مطلقة و ذلك لتغير مفهوم السببية و الحتميّة و اللّتان أصبحتا ال تتالءمان مع الفيزياء المعاصرة ،دون أن ننسى أنّ سبب تخلّف البشريّة في القرون السابقة هو اعتمادهم على األحكام المسبقة و الجاهزة و الّتي قيّدت فكرهم. ال ّتركيب :إنّ التطوّ ر العلمي ال يستغني حتما عن اإلحتكام إلى مجموعة من المبادئ الّتي تش ّكل اإلطار الّذي يم ّكنها من تحقيق هدفها ،و ّ تخطيها ،و تلك الّتي هي مبادئ عقليّة يجب األخذ بها بعد تهذيبها ،ممّا يعني وجوب بال ّتالي التمييز بين األحكام المسبقة الّتي هي عوائق يجب الحذر في التعامل مع األحكام المسبقة و األخذ بما يناسب البحث العلمي. الخاتمة :نستنتج من التحليل السابق ،أ ّنه – و أيّا كانت نتيجة الجدل حول طبيعة األحكام المسبقة – فإنّ ال ّتأكيد على أهميتها في البحث العلمي أمر بالغ األهميّة ،على أ ّننا نرفض تلك األحكام المسبقة الّتي تأخذ صبغة األوهام و الخرافة لكونها معيقة ،و نأخذ بتلك الّتي تم ّكن من ال ّت فسير الموضوعي للواقع و الكشف عن علله و هي مبادئ العقل المتمثلة في السببية ،الحتمية و اطراد ّ الظواهر.