Professional Documents
Culture Documents
لعل من أقدم المحاوالت الرامية إلى ربط الفن عموما واألدب خصوصا بالمنحى
النفسي -ودون مغاالة -تمك المحاوالت المبثوثة في التراث الفمسفي والنقدي منذ العصر
اليوناني ،حيث يمكن أن " نجد في نظريات أفالطون عن أثر الشعراء عمى منظومات القيم
والحياة في مدينتو الفاضمة .بداية ليذا االلتفات العميق لمجانب النفسي في بحث فمسفة األدب،
ووظائفو ،كما يمكن أن نالحظ أن نظرية التطيير ذاتيا عند أرسطو إنما تربط اإلبداع األدبي
بوظائفو النفسية" ،وال يعدم المرء وجود مالمح لمتفكير النفسي في الحضارة العربية اإلسالمية،
كتمك اإلشارات حول الدوافع النفسية لإلبداع مثل الطمع والعشق ،...أو مدى تأثير الشعر عمى
نفس الممتقى مثل حديثيم عن أسباب ربط الشعراء لممقدمة بالنسيب؛ و ذلك الستمالة القموب
إ لييم كما يحدثنا ببعض ذلك ابن قتيبة وابن رشيق القيرواني وغيرىم.
كانت اإلرىاصات أو البدايات المبكرة لمتحميل النفسي لألدب في العصر الحديث قد
عد من بين األصوات
أخذت تموح في كتابات الناقد الفرنسي سانت بيف (ت ،)1869الذي ّ
األولى المنادية باصطناع عمم النفس لممؤلفين من خالل دعوتو إلى التركيز عمى" شخصية
األديب تركي از مطمقا ،إيمانا منو بأنو كما "تكون الشجرة يكون ثمارىا" ،و أن النص تعبير عن
مزاج فردي؛ لذلك كان ولوعا بالتقصي لحياة الكاتب الشخصية و العائمية ،" ...و يعد ىذا النقد
الس ِ
ِّيري من بين أىم اإلجراءات التي يعتمد عمييا المحممون النفسانيون؛ وذلك عن طريق
استثمار كل عناصر السيرة الذاتية التي تتيح " لممعالج أو الطبيب أن ُيِم َّم بأكبر المعمومات
التي تظاىره عمى معرفة خفايا المريض المعالج" ،غير أن األكيد في كل ىذا أن االتجاه النفسي
1
في دراسة الظواىر اإلبداعية لم يتبمور بشكل عممي منظم وممنيج إال مع أوائل القرن العشرين
بعد ظيور مدرسة التحميل النفسي عمى يد الطبيب "سيغموند فرويد".
يعد "فرويد" أول من صك مصطمح التحميل النفسي ،ليشير بو إلى أحد مناىج عمم
النفس العيادي ،ييدف إلى الكشف – باستخدام طرائق مختمفة -عن " ىواجس النفس وعمميا
الباطنة ،عبر إثارة الذكريات ،والرغبات الجسمية والصور المتواشجة تحت أنظمة من األفكار
الالوعية ،"...التي تظير آثارىا في سموك الشخص المصاب ،وغاية ىذا التحميل إيجاد عالج
ما يخفف وطأة األمراض النفسية التي تصيب اإلنسان؛ وذلك بالغوص في أعماقيا ،ومعرفة
حقيقتيا .وقد كان فرويد يزعم لمناس أن ىذه الحقيقة ما ىي إال " دوافع وغرائز تؤثر عمى أفعال
اإلنسان ،وأقوى ىذه الدوافع غريزة الجنس التي أطمق عمييا الميبيدو" ،وحاول فرويد في دراساتو
النفسية تممس آثارىا في الطفولة المبكرة عند المصاب ،وتأسس انطالقا من ىذه األبحاث
النفسانية إجراء نقدي ينصرف إلى دراسة الظواىر اإلبداعية والفنية اعتمادا عمى الحقائق
العممية التي توصل إلييا عمم النفس الكمينيكي.
وفي ضوء ىذه الرؤية َدلف فرويد إلى عالم الفن والفنانين ،وطبق آراءه في التحميل
النفسي عمى شخصيات فنية عالمية ،و ذلك من خالل ثالث دراسات:
ليوناردو دافنشي – دراسة نفسية جنسية لذكريات الطفولة -كشف فييا عن الشذوذ -1
- 2مقالة عن دوستيوفسكي وجريمة قتل األب من خالل روايتو "اإلخوة كرامازوف"َ :حسر
فييا عن الصدع اليستيري الذي كان يصيب دوستوفسكي ،ورغبتو األوديبية في موت أبيو،
دراسة لقصة ألمانية مغمورة عنوانيا "غراديفا" ومؤلفيا فميمم ينسن. -3
2
إال أن فرويد لم يقف عند حدود تحميل شخصية الفنان وعممو ،و بيان الصمة بينيما ،بل
لقد اىتم أيضا بتحميل شخصيات وأبطال األعمال الروائية والمسرحية كشخصية "ىممت" وبطمة
قصة "غراديفا".
قسم الدارسون مستويات التحميل النفسي لمفن عند "فرويد " إلى ثالثة مستويات:
لذا ّ
-1االىتمام بالشخصية المبدعة.
-2االىتمام باألثر اإلبداعي في ذاتو؛ حيث انطمق فرويد في تحميمو لمشخصية الروائية في
قصة "غراديفا" من بنية العمل الروائي نفسو.
-3االىتمام بالقارئ؛ ألنو شخص متواطئ مع الكاتب يستسيغ المعبة الخيالية التي تستيدف
المذة في العمل األدبي ،وتشبع لدية الرغبات الالشعورية مستخدمة المذة كمكافأة مغرية نابعة
من اإلدراك الحسي لمجمال الشكمي.
إن الفنان عند فرويد يمارس إبداعو نتيجة ضغط عقدة أوديب ،فالغريزة الجنسية ىي الباعث
األول عمى الفن عنده ،من ىنا افترض فرويد من خال تحميالتو النفسية أن الفنان أو المبدع
إنسان عصابي؛ أي مريض نفسيا إال أن مرضو يختمف ويتميز بقدرتو عمى تجنب عواقب ذلك
العصاب ،حتى يتجنب الجنون وتدمير الذات ،فيمجأ إلى الفن واإلبداع.
إن الفنان المبدع عند فرويد ىو إنسان محبط في الواقع؛ ألنو يريد الثروة والقوة والشرف
وحب النساء ،لكن تنقصو الوسائل لموصول إلى ىذه اإلشباعات ،ومن ثم فيو يمجأ لمتسامي
بيذه الرغبات وتحقيقيا خياليا .فالفن لدى فرويد ىو منطقة وسطية بين عالم الواقع الذي يحبط
الرغبات ،وعالم الخيال الذي يحققيا.
إذا كان فرويد قد رأى بأن الفن واإلبداع تعويض عن كبت جنسي يعاني منو المبدع،
وضربا من ضروب التنفيس في لحظات غياب األنا األعمى ،فإن تمميذه ألفرد أدلر (ت1937م)
كان يرى بأن مركب النقص أو القصور ىو الذي يصبح " قوة َو َّى َ
اج ًة لتحريك مشاعر الفنان،
3
وعامال فعاال لنشاطو اإلبداعي الناتج عن مبدأ قانون التعويض النفسي" ،فمركب النقص يدفع
الفنان إلى " إرادة التفوق في محاولة إثبات الذات وتأكيد الوجود"؛ لذلك رأى أدلر أن عقدة
الجنس بكل مظاىرىا ال تفمح في تفسير اإلبداع ،بقدر ما يبدو النقص عند المبدع ومحاولة
تعويضو بالفن ،مقترحا إعادة تفسير سموك ليوناردو دافنشي (ت1519م) انطالقا من "واقع عدم
إشباعو عاطفة األمومة ورغبة ىذا الفنان في التعويض عن إحساسو المفقود كونو ابنا غير
شرعي أوال و لتعويض حرمانو من حنان أمو التي تزوجت برجل ثانيا".
أما كارل غوستاف يونغ فيرى أن الفنان يعيد " تفصيل األساطير المستمدة من التجارب
الشعائرية عند اإلنسان البدائي ،أحيانا عن وعي ،وأحيانا من خالل عممية حممية" ،فالفنان يدرك
أم ار في الالشعور الجمعي بغير إرادة منو ،إدراكا فطريا وجدانيا مستمرا؛ مما يترتب عمى ذلك
ضغطا قويا يؤثر عمى حياتو النفسية ،ومع ذلك فإن يونغ يرفض وصف فرويد لمفنان بأنو
مريض أعصاب؛ إذ المبدع عنده أىم بكثير من المريض في أعصابو ،من ىنا جنحت
التفسيرات النفسية لمفن عند يونغ إلى تقصي مظاىر النماذج العميا البدائية في األدب والفن تمك
التي يعكسيا األدباء والفنانون في أعماليم ،مع محاولة ىذه الدراسات فيم تمك النماذج
وتفسيرىا.
وأخي ار تبقى دراسة العممية اإلبداعية وسيكولوجية الفنان أو المبدع وسماتو ودوافع إبداعو
ومرضو أو صحتو دراسة معقدة كظاىرة إنسانية وجدت منذ وجد اإلنسان ،وستظل ترافقو وال
تفنى مادامت الحياة ،وسيظل الفن واإلبداع ذا طبيعة خالفية مفتوحا كعممية لمدراسة والبحث،
فيو من حيث المكانة يمثّل أعمق وأوسع وأعقد نوع من أنواع التفكير البشري.
4
مراجع المحاضرة:
)1عبد القادر فيدوح :االتجاه النفسي في نقد الشعر العربي ،دار صفاء ،عمان ،األردن ،ط.2010 ،1
)2صالح ىويدي :النقد األدبي الحديث – قضاياه و منيجو ،-منشورات جامعة السابع أبريل ،ليبيا ،دط،
.2005
)3زين الدين المختاري :المدخل إلى نظرية النقد النفسي ،سيكولوجية الصورة الشعرية في نقد العقاد
(نموذجا) ،منشورات اتحاد الكتاب العرب ،دمشق ،سوريا.1998 ،
)4ستانمي ىايمن :النقد األدبي و مدارسو الحديثة ،تر (إحسان عباس و محمد يوسف نجم) ،دار الثقافة،
بيروت ،لبنان ،د ط ،1960 ،ج .1
)5أحمد كمال زكي :النقد األدبي الحديث – أصولو و اتجاىاتو ،-الشركة المصرية العممية لمنشر ،لونجان،
مصر ،ومكتبة لبنان ناشرون ،بيروت ،ط.1997 ،1
5