Professional Documents
Culture Documents
ملخص سيرة فرقة رابعة حديث
ملخص سيرة فرقة رابعة حديث
األصل اللغوي لكلمة الهجرة هو :المصارمة والقطع والمفارقة والترك والبعد ،يقال :هاجر القوم من دار إلى دا،
أي :تركوا األولى وفارقوها إلى الثانية .والهجر بهذا المعنى :منه ما يكون حسيا ،ومنه ما يكون معنويا ،ومنه ما يكون
بالبدن ،ومنه ما يكون باللسان ،ومنه ما يكون بالقلب.
وقد ذكر العالمة ابن فارس أن لكلمة الهجرة أصلين أولها ما ذكرناه ،وثانيها :بمعنى ربط شيء في شيء آخر،
حيث قال :الهجار ككتاب؛ حبل يسوى في طرفيه عروتان؛ تشد إحداهما في يد الفرس ،واألخرى في رجله؛ حتى يمشى
مثقالً متقارب الخطو ،فيقال فيه :فرس هجر؛ ككتف ،وهو الذي يمشى مثقالً ضعيفا إذا شده صاحبه بالهجار كالزمام
والعقال.
وهذا األصل الثاني الذي أضافه ابن فارس؛ ال يبعد عن األصل األول وما يندرج تحته من معان ،ألن الفحل إذا
شد بالهجار :كان ذلك سببا في هجرانه اإلبل ومفارقتها والبعد عنها .وكذلك السابقون األولون من الصحابة :لما ارتبطت
بعد مفارقتهم
بع َراه؛ هجروا المشركين وفارقوهم في األقوال واألفعال ،وإن لم تتيسر لهم ُ
قلوبهم باإليمان ،وتوثقت نفوسهم ُ
باألبدان واألوطان.
وقد ُس ّمى المهاجرون :مهاجرين؛ ألنهم تركوا ديارهم ومساكنهم التي نشأوا بها هلل ،ولحقوا بدار ليس لهم بها أهل
وال مال حتى هاجروا إلى المدينة ،فكان من فارق بلده من بدوي أو حضري أو سكن بلدا آخر فهو مهاجر.
ذكر موسى بن عقبة وابن إسحاق :أن أبا سلمة بن عبداألسد هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة قبل بيعة
ص َع ُب ْب ُن ُع َم ْي ٍر ،و ْاب ُن أ ِّ ِ
ُم َم ْكتُو ٍم وكانا العقبة بسنة .وفي صحيح البخاري ،عن البراء بن عازب قالَّ :أو ُل َمن َقد َم َعَل ْينا ُم ْ
النِب ِي ﷺ ،ثُ َّم َق ِدم َّ
النِب ُّي أصحا ِب َّ ين من ْ
اب ِفي ِع ْش ِر ِ
َ ط ِ الخ ّ ِ الناسَ ،فَق ِدم ِبالَل وسعٌد وعمار بن ِ
ياس ٍر ،ثُ َّم َقد َم ُع َم ُر ْب ُن َ َ ٌ َ ْ َّ ُ ُْ ئان ّ َُيْق ِر ِ
َ ّ
َّللاِ ﷺَ ،فما َق ِد َم َحتّى ول َّ ِ
اإلماء َيُقْل َنَ :قد َم َرُس ُ
ُ َّللاِ ﷺَ ،حتّى َج َع َل ول َّ أهل الم ِد َين ِة َف ِرحوا ِب َشي ٍء َفرحهم ِبرس ِ
ْ َ َ ُْ َ ُ ُ ﷺَ ،فما َرْأي ُت ْ َ َ
ص ِل. ِ ِ َق َأر ُ ِ
األعلى في ُس َوٍر م َن ُ
المَف َّ ِك ْ اس َم َرّب َ
ْتَ :سّب ِح ْ
حجز أموالهم ومنعهم من حملها ،وتارة بحجز زوجاتهم وأطفالهم ،وتارةاالحتيال إلعادتهم إلى مكة.
بيت أبي سلمة أول من هاجر إلى المدينة
وح َم َل ِ ِ ِ ِ قالت أم المؤمنين أم سلمة ﷺَ :لما أجمع أبو سَلم َة الخروج إلى ِ ِ
المد َينة َر َح َل لي َبع َيرهُ ثُ َّم َح َمَلني َعَل ْيهَ ،
َ ّ ْ َ َ ُ َ َ ُُ َ
ِ ِ ود ِبي َب ِع َيرهَ ،فَلما َأرْت ُه ِرجال َبِني الم ِغ َ ِ ِ ِ ِ
َّللا ْب ِن ُع َم َر ْب ِن
يرة ْب ِن َع ْبد َّ ُ ُ ُ ّ َمعي ْابني َسَل َم َة ْب َن أِبي َسَل َم َة في ِح ْج ِري ،ثُ َّم َخ َرَج ِبي َيُق ُ
الد؟ قاَل ْتَ :فَن َزُعوا م ْخ ُزو ٍم قاموا إَلي ِهَ ،فقالُوا ه ِذِه نْفسك َغَلبتنا عَليها ،أرأيت صا ِحبتَك ه ِذِه؟ عالم ن ْترُكك تَ ِسير ِبها ِفي الِب ِ
َ َ َُ َ ُ َ َ َ ََْ َ َ ُ َ ْ َْ ُ ْ َ
ط أِبي سَلم َةَ ،فقالُوا :ال َ َّ ِ
األس ِدَ ،رْه ُ ِ ِ ِ أخ ُذوِني ِمنه .قاَل ْتِ َ : ِِ
ك ْابَننا
وَّللا ،ال َن ْت ُر ُ َ َ وغض َب ع ْن َد َذل َك َب ُنو َع ْبد َ ُ ير ِمن َيدهَ ،ف َ الب ِع ِ
طام َ خ َ
ِ
ِ
صاحِبنا. ِع ْن َدها إ ْذ َن َزْعتُ ُموها ِمن
ثم أسلم عثمان بن أبي طلحة بعد صلح الحديبية في أول العام الثامن من الهجرة ،إذ توجه مهاج ار من مكة إلى
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في المدينة ،وقد التقى به في الطريق :خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ،فأسلموا جميعا،
ثم شهدوا فتح مكة ،وأعطى النبي ﷺ مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة؛ فلعل إشراق نور اإلسالم في قلبه بدأ منذ هذه الرحلة
مع المرأة المسلمة.
ولقد كان مصعب بن عمير أحد السابقين ،أسلم قديما والنبي ﷺ في دار األرقم وكتم إسالمه خوفا من أمه ،فعلم
بإسالمه عثمان بن طلحة فأخبر أهله بإسالمه فأوثقوه ،فلم يزل محبوسا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة في الهجرة
األولى ثم رجع إلى مكة ،وهاجر إلى المدينة ،وشهد بد ار وأحدا ،وكان معه لواء المسلمين يومئذ إلى أن استشهد بها.
هاجر عمر بن الخطاب س ار مستخفيا آخذا باألسباب وفق سنن هللا الجارية ،فيتفق مع غيره من المسلمين
المستضعفين (وكان عددهم عشرين نفرا) بمكة على موعد يجتمعون فيه محدد الزمان والمكان ،فإذا تأخر عنه أحدهم
اتع ْد ُّتَ ،ل ّما َأرْدنا
فليمض الباقون دون أن ينتظروه حتى ال يكشف أمرهم ،فعن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه قالَ :
أضاة َبِني ِغ ٍ ِ ناض َب ِمن
السه ِم ُّي التَّ ِ ٍِ الهجرة إلى ِ ِ
فارَ ،ف ْو َق وعّياش بن أبي ربيعة ،وهشام بن العاص ْب ِن وائل َّ ْ
المد َينة ،أنا َ
َ ِ ْ ََ
اش بن أِبي ربِيع َة ِع ْند التَّ ِ ِ صِب ْح ِع ْن َدها َفَق ْد ُحبس َفْل َي ْم ِ
ناضب، َ َ َ وعّي ُ ْ ُ
أص َب ْح ُت أنا َ
قالَ :ف ْ
ض صاحباهَُ . َس ِرف وُقْلنا :أيُّنا َل ْم ُي ْ
وحبس عنا هشام ،وُفتن فافتتن. ُ
وأما ما روي من إعالن عمر لهجرته وتهديده من يلحق به :بثكل أمه ،وتيتيم ولده ،وترميل زوجه ...فلم يصح.
والذي صح عن عمر رضي هللا عنه في استخفائه بهحرته هو الموافق للعقل والنقل ،فما كان عمر ليغتر بقوته وشجاعته
ِ ويفتح بذلك ثغرة يدخل منها األعداء لحرب أولياء هللا ،وقد ورد في الحديث المتفق عليه قول رسول َّ ِ
َّللا ﷺ« :ال تَتَ َمَّن ْوا ل َ
قاء َُ ُ
صبة ،قبل َمْق َدم رسول هللا ،وكان سالم بن معقل الع ُدِّو ....وقد استقر كثير من المهاجرين في قباء في مكان يسمىُ :
الع ْ َ
مولى أبي حذيفة يؤمهم في مسجد قباء ،لكونه أكثرهم قرآنا.
هجرة المصطفى إلى المدينة
ولما انقضى موسم الحج ذي الحجة من العام الثالث عشر للبعثة ،وبايع النبي ﷺ األنصار البيعة األخيرة عند
العقبة في أوسط أيام التشريق :اعتزم رسول هللا ﷺ أن يهاجر .وقد سبق أن علمنا :أن جهره بالدعوة ،واستخفاءه بها كان
من باب التلوين في الدعوة ،والتنوع في أساليبها ،وسلوك كل سبيل تؤدى إليها ،ومن ثم :تأخرت هجرة المصطفى ﷺ إلى
المدينة؛ حتى هاجر معظم القادرين على الهجرة من أصحابه الذين استجابوا لألمر بالهجرة ،كما هاجر ﷺ مستخفيا
ليضرب المثل للمستضعفين من المؤمنين.
يوم الهجرة
َّللاِ ﷺ ِ ِ
قال قائ ٌل ألِبي َب ْك ٍرَ :هذا َرُس ُ
ول َّ َّ ِ ِ ِ ِ
وس في َب ْيت أِبي َب ْك ٍر في َن ْح ِر الظ ِه َيرةَ ،
ِ
قاَل ْت عائ َشةَُ :ف َب ْي َنما َن ْح ُن َي ْو ًما ُجلُ ٌ
وَّللاِ ما جاء ِب ِه ِفي هِذِه الس ِ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ
أمٌر ،قاَل ْت:
اعة ّإال ْ ّ َ َ َ ُميَّ ، قال ُأبو َب ْك ٍر :ف ٌ
داء َل ُه أبي وأ ّ ساعة َل ْم َي ُك ْن َيأْتينا فيهاَ ،ف َ ُمتََقّن ًعا ،في َ
ِ ِ َفجاء رسول َّ ِ
قال ُأبو َب ْك ٍرَّ :إنما ُه ْم ْ
أهُل َك، ك»َ .ف َ النِب ُّي ﷺ ِألِبي َب ْك ٍرْ :
«أخ ِرْج َمن ع ْن َد َ قال َّ
فاستَ ْأ َذ َنَ ،فأُذ َن َل ُه َف َد َخ َلَ ،ف ََّللا ﷺ ْ َ َُ ُ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ول
قال َرُس ُ َّللا؟ َ ول َّ
حابةُ بأبي ْأن َت يا َرُس َ قال ُأبو َب ْك ٍرَّ :
الص َ الخ ُرو ِج» َف َ
قالَ « :ف ّإني َق ْد أُذ َن لي في ُ َّللاَ ، ول َِّبأِبي ْأن َت يا َرُس َ
َّللاِ ﷺِ« :بالثَّ َم ِن» .قاَل ْت ول َّ ِ
إحدى ارحَلتَ َّي هاتَْي ِنَ ،
قال َرُس ُ
َّللاِ ﷺ« :نعم» قال أبو ب ْك ٍرَ :فخ ْذ ِ -بأِبي أنت يا رسول َّ ِ
َّللا ْ - َْ َُ َ ُ َ ُ َ ََْ َّ
ط ْت ِب ِه طع ًة ِمن ِن ِ
طاقهاَ ،ف َرَب َ ِ
ماء ِب ْن ُت أِبي َب ْك ٍر ق ْ َ
أس ُط َع ْت ْ
هاز ،وص َن ْعنا َلهما سْفرًة ِفي ِجر ٍ
ابَ ،فَق َ ُ ُ َ َ أح َّث ال ِج ِناهما َ
ِ
عائ َشةَُ :ف َج َّه ْز ُ
ذات ِّ
النطا َق ْي ِن. ِ
ابَ ،فِب َذلِ َك ُس ّم َي ْت َ
َعلى َف ِم ال ِجر ِ
َّللاِ ْب ُن أِبي
يت ِع ْن َد ُهما َع ْب ُد َّ
يالَ ،يِب ُ
غار ِفي جب ِل ثَوٍرَ ،ف َكمنا ِف ِ
يه ثَالَ َث َل ٍ
َ ََ ْ َّللاِ ﷺ و ُأبو َب ْك ٍر ِب ٍ ول َّ ِ
ثُ َّم َلح َق َرُس ُ قاَل ْت:
تادان ِب ِه ّإال
أم ًراُ ،ي ْك ِ ٍِ ف َلِق ٌنَ ،ف ُي ْدلِ ُج ِمن ِع ْن ِد ِهما ِبس َح ٍرَ ،ف ُيصِب ُح مع ُق َرْي ٍ ِ َّ
ش ب َمك َة َكبائتَ ،فالَ َي ْس َم ُع ْ ََ ْ َ
ٌّ ِ
شاب ،ثَق ٌ وه َو ُغالَ ٌم َب ْك ٍرُ ،
نح ًة من َغَنمٍَ ،فُي ِر ُ
يحها ِ ِ ِ
وي ْرعى َعَل ْي ِهما عام ُر ْب ُن ُف َه ْي َرَةَ ،م ْولى أِبي َب ْك ٍر م َ
ِحين ي ْخَتلِ ُ َّ
ط الظالَ ُمَ ، َ َ وعاهَُ ،حتّى َيأِْت َي ُهما ِب َخ َب ِر َذلِ َك
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ الع ِ
ِ ساع ٌة ِم َن ِ
ورضيف ِهماَ ،حتّى َي ْنع َق ِبها عام ُر ْب ُن ُف َه ْي َرَة نحت ِهما َ يتان في ِرْس ٍلُ ،
وه َو َل َب ُن م َ شاءَ ،ف َيِب ِ ين تَ ْذ َه ُب َ َعَل ْي ِهما ح َ
وهَو ِمن َبِني ِ ِ الليالِي الثَّالَ ِث ،واستأْجر رسول َّ ِ س ،يْفعل َذلِك ِفي ُك ِل َليَل ٍة ِمن ِتْلك َّ
يلُ ، َّللا ﷺ و ُأبو َب ْك ٍر َر ُج ًال ِمن َبني ّ
الد ِ
ْ َ ََ َ ُ ُ َ ّ ْ ِب َغَل ٍ َ َ ُ َ
وهَو َعلى ِد ِ العاص ب ِن و ِائ ٍل َّ ِ الماهر ِبال ِهداي ِةَ ،ق ْد َغمس ِحْلًفا ِفي ِ
ِ ِ ِ ِ
َع ْبد ْب ِن َعد ٍّي ،هاديا ِخ ِّريتًا ،وال ِخ ِّر ُ
ين ُكّف ِار الس ْهم ِّيُ ، ِ ْ آل ََ َ ُ يت
طَلق معهما ِ ٍ ِ ٍ ِ ِ ِ ِ ِ ُقري ٍ ِ
عام ُر ْب ُن ص ْب َح ثَالَث ،و ْان َ َ َ َ ُغار ثَ ْوٍر َب ْع َد ثَالَث َليال ،ب ارحَلتَْيهما ُ
اعداهُ َشَ ،فأمناهُ َف َد َفعا إَل ْيه ارحَلتَْي ِهما ،وو َ َْ
السوا ِح ِل.
يق َّ أخ َذ ِب ِه ْم َ
ط ِر َ يلَ ،ف َ ُفهيرةَ ،و َّ ِ
الدل ُ َ َْ
فهذا الحديث يستفاد منه :أنه ﷺ كان يتردد على بيت أبي بكر كل يوم في الصباح وفى المساء ،ال يكاد يدع
ذلك ،ومن ثم ترجم له البخاري في كتاب األدب بقوله :باب :هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيا.
فلما أذن له ﷺ بالهجرة جاء إلى بيت أبي بكر في وقت الظهيرة على غير عادته وهو مستخف ،فأخبر أبا بكر
بذلك ،واختياره ﷺ وقت الظهيرة :ألن الناس تأوى إلى بيوتها للقيلولة ف ار ار من الحر ،وتقنعه ﷺ يفيد شعوره بالخطر من
حوله ،فقد اعتزمت قريش قتله ،وال بد أنها ستعمد إلى رصد تحركه.
ليلة الهجرة
كان رسول هللا ﷺ يعتصم بكالم ربه دائما ،وكثي ار ما يقرؤه ليستخفي به عن أعين المشركين ،واستخفاؤه عن أعين
ين ال َّ ِ
وب ْي َن الذ َ
آن َج َعْلنا َب ْيَن َك َ
ْت الُق ْر َأعدائه بقراءته للقرآن مخافة كيدهم له ثابت بصريح القرآن كقوله تعالى﴿ :وإذا َق َأر َ
ون إَليك وهم ال يب ِ ِ ِ
ون﴾ ص ُر َ ظ ُر َ ْ َ ُ ْ ُ ْ اه ْم َي ْن ُ
ور﴾ وقوله تعالى﴿ :وتَر ُ ون ِباآلخ َرِة ح ً
جابا َم ْستُ ًا ُي ْؤ ِم ُن َ
ِ ِ ِ ِ ٍ ِ
وه ْم َعلى باِبهّ :
إن ُم َح َّم ًدا َي ْزُع ُم اجتَ َم ُعوا َل ُه ،وِفي ِه ْم ُأبو َج ْهل ْب ُن هشامٍَ ،ف َ
قال ُ قالَ :ل ّما ْفع ْن ُم َح َّمد ْب ِن َك ْعب الُق َرظ ِّي َ َ
نان َك ِجن ِ ِ ِ ِ ِ
ان األ ُْرُد ِّن ،و ْ
إن َل ْم الع َجمِ ،ثُ َّم ُبع ْثتُ ْم من َب ْعد َم ْوِت ُك ْمَ ،ف ُجعَل ْت َل ُك ْم ِج ٌ ِ
الع َرب و َ وك َ أم ِِرهُ ،ك ْنتُ ْم ُملُ َ
تاب ْعتُ ُموهُ َعلى ْ َّأن ُك ْم ْ
إن َ
ون ِفيها. ِ ِ ِ ِ كان َل ُه ِف ُ
يك ْم َذ ْب ٌح ،ثُ َّم ُبع ْثتُ ْم من َب ْعد َم ْوِت ُك ْم ،ثُ َّم ُجعَل ْت َل ُك ْم ٌ
نار تُ ْح َرُق َ تَْف َعلُوا َ
َّللاُ تَعالى
أخ َذ َّ ِ ٍ ِ ِِ ِ قال :وخرج عَلي ِهم رسول َّ ِ
أح ُد ُه ْم .و َ
ول َذل َكْ ،أن َت َ
قال أنا أ ُق ُ
أخ َذ َحْف َن ًة من تُراب في َيده ،ثُ َّم َ
َّللا ﷺَ ،ف َ َ ََ َ َ ْ ْ َ ُ ُ
اآليات ِمن يس﴿ :يس والُق ْر ِ ِ وس ِهم وهو ي ْتلُو هؤ ِ ِ
آن الء اب َعلى ُرُء ِ ْ ُ َ َ َ ُ صارِه ْم َع ْن ُهَ ،فال َي َرْوَن ُهَ ،ف َج َع َل َي ْنثُُر َذل َك التُّر َ
َعلى ْأب ِ
أغ َشيناهم َفهم ال يب ِ ِ اط مستَ ِقيمٍ .تَْن ِزيل الع ِز ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ِ
ون﴾َ .حتّى ص ُر َ يز الرَّحي ِم﴾… إلى َق ْولِهَ ﴿ :ف ْ ْ ُ ْ ُ ْ ُ ْ َ َ الم ْرَسلي َنَ .على صر ُ ْ الحكيمَِّ .إن َك َلم َن ُ
َ
أن ِِ ِ ِ ِ غ رسول َّ ِ ِ
ف إلى َح ْي ُث أرَاد ْ ص َر َ وض َع َعلى َأرْسه تُرًابا ،ثُ َّم ْان َ نه ْم َر ُج ٌل ّإال وَق ْد َ
َّللا ﷺ من َه ُؤالء اآليات ،وَل ْم َي ْب َق م ُ َف َر َ َ ُ ُ
وَّللاِ َخ َرَج َعَل ْي ُك ْم ُم َح َّمٌد،
َّللاُ! َق ْد َ َّ
قالَ :خيََّب ُك ْم َّ ون ُ
هاهنا؟ قالُواُ :م َح َّم ًداَ ،
ِ
قال :ما تَْنتَظ ُر َ ٍ ِ
أتاه ْم آت م َّم ْن َل ْم َي ُك ْن َم َع ُه ْمَ ،ف َ
َي ْذ َه َبَ ،ف ُ
ٍ ِ طَلق لِ ِ ِ ِِ
نه ْم َي َدهُ
ض َع ُك ُّل َر ُجل م ُ قالَ :ف َو َحاجته ،أ َفما تَ َرْو َن ما ِب ُك ْم؟ َ َ وض َع َعلى َأرْسه تُرًابا ،و ْان َ َ ك ِم ُ
نك ْم َر ُج ًال ّإال وَق ْد َ ثُ َّم ما تَ َر َ
َّللاِ ﷺَ ،فيُقوُلونِ َّ َ : ِ ِ ِ ِِ
إن َهذا وَّللا ّ َ َ ول َّاش متَس ِجيا ِببرِد رس ِ ِ
ون َف َي َرْو َن َعليًّا َعلى الفر ُ َ ّ ً ُ ْ َ ُ طَّل ُع َ
اب ،ثُ َّم َج َعُلوا َيتَ ََعلى َأرْسهَ ،فإذا َعَل ْيه تُر ٌ
ص َدَقنا َّالِذي َح َّدثَنا. اش َفقالُواِ َّ َ : نائما ،عَلي ِه بردهَ .فَلم يبرحوا َك َذلِك حتّى أصبحوا َفقام علِ ٌّي عن ِ
الفر ِ ِ
كان َ
وَّللا َلَق ْد َ َْ َ َ ْ َُ َ َ َل ُم َح َّمٌد ً َ ْ ُ ْ ُ ُ ْ َ ْ َ ُ
وهكذا أخذ رسول هللا ﷺ باألسباب وفق سنن هللا الجارية .ومما يدل على أخذه ﷺ باألسباب :أنه كان دائما يبدأ
باإلمكانات المتاحة ،ويبذل قصارى جهده ما أمكنه ذلك ،فإنه ﷺ لم يختر عند هجرته مكانا تجاه المدينة في شمال مكة من
أعالها؛ بل اختار أقصى جبل جنوب مكة من أسفلها ،وحدد غا ار يكمن فيه ثالثة أيام حتى ينقطع طالبوه ،بل لقد تواعد
رسول هللا ﷺ مع أبي بكر الصديق أن يتقابال عند مكان يسمى :بئر ميمون في طريق منى ،ثم ركبا منه إلى الغار في
الجهة المقابلة جنوب مكة.
ماء ِب ْن ِت أِبي
أس َوقد حمل أبو بكر رضي هللا عنه في تلك الليلة ثروته ليضعها تحت تصرف رسول هللا ﷺ ،فعن ْ
آالف ِد ْرَه ٍم
وخرج أبو ب ْك ٍر معه ،احتَمل أبو ب ْك ٍر ماَله ُكَّله ،ومعه َخمس ُة ِ ب ْك ٍر رضي هللا عنها قاَلتَ :لما خرج رسول َّ ِ
ُ ُ ََ ُ ْ َ َّللا ﷺَ ُ َ َ ْ ُ َ َ َ ُ َ َ َ ، ْ ّ ََ َ َ ُ ُ َ
طَل َق ِبها َم َع ُه.
فان َ أو ِستَّةُ ٍ
آالفْ ، ْ
الخ ِم ِ ِ
يس ف َك َمَنا فيه ثالث ليال وكان خروج رسول هللا ﷺ بصحبة أبي بكر إلى غار ثور جنوب مكة في َس َح ِر َلْيَلة َ
بأيامها كاملة ،بدأت بليلة الجمعة وانتهت بآخر يوم األحد ،وقريش تطاردهما سحابة النهار ،وتبحث عنها ،وتقتفى آثارهما
...حتى انتهوا إلى باب الغار ووقفوا عليه؛ ولكن حال هللا بينهم وبين الوصول إلى الرسول ﷺ وصاحبه.
أما رسول هللا ﷺ فقد كان في معية هللا يرتل كالمه؛ ليستخفى به عن أعين المشركين .وأما الصديق فقد كان قلقا
النِب ِي
ال يقر له قرار من شدة خوفه على رسول هللا ﷺ السيما بعد رؤيته ألقدام المشركين عند باب الغار فيقولُ :ك ْن ُت َم َع َّ
ّ
«اس ُك ْت يا أبا
قالْ : ص َرهُ َرآناَ ، ط ْأ َ
طأ َب َ ض ُه ْم َ َّللاَِ ،ل ْو َّ
أن َب ْع َ الغارَ ،ف َرَف ْع ُت َأر ِْسي َفإذا أنا ِبأ ْقدا ِم الَق ْومَِ ،فُقْل ُت :يا َنِب َّي َّ
ﷺ ِفي ِ
َّللاُ ثالِثُ ُهما» َب ْك ٍر ،ا ْث ِ
نان َّ
مان َخَل ْو َن من ربيع األول في العام األول من الهجرة النبوية، تواترت األخبار بورود النبي ﷺ قباء يوم االثنين لِثَ ٍ
ِ
الموافق 18سبتمبر سنة ٦٢٢م وكانت بداية العام الهجري في ليلة الجمعة ُغرَّةُ َش ْه ِر هللا ُ
المحرَّم للعام األول من الهجرة
الموافق 1٤يوليو سنة ٦٢٢م ،وكان له ﷺ من العمر يوم هجرته ثالثة وخمسون عاما.
وبناء على ما سبق نسجل هنا :أن هالل شهر صفر كان في ذاك العام ليلة السبت ۱۲أغسطس ٦٢٢م ،وكان
خروجه ﷺ من مكة إلى الغار في ليلة الخميس العشرين من شهر صفر من العام نفسه ،الموافق أول سبتمبر ٦٢٢م ،ثم
كان خروجه من الغار في ليلة االثنين الرابع والعشرين من شهر صفر ،الموافق 5سبتمبر ٦٢٢م ،واستغرقت الرحلة من
الغار إلى قباء اثنى عشر يوما ،حيث كان وصوله ﷺ يوم السبت السادس من ربيع األول ،الموافق 1٦سبتمبر ٦٢٢م.
وقد مكث ﷺ بقباء خمسة أيام كاملة بلياليها أسس فيها مسجد قباء ،ثم استقر بالمدينة من ظهر يوم الجمعة
الثاني عشر من شهر ربيع األول ،الموافق ٢٢سبتمبر ٦٢٢م ،وهذا التأصيل التاريخي هو الموافق لوقفة عرفات في حجة
الوداع ٩من ذي الحجة في العام العاشر من الهجرة ،الموافق 5مارس ٦٣٢م وكان يوم الجمعة.
ولما كانت خالفة عمر ،وفي العام السابع عشر من الهجرة ،وفي شهر شعبان على التقريب :استشار الخليفة
الراشد عمر بن الخطاب أصحاب رسول هللا ﷺ :من أين يبدءون التاريخ؟ فوفقهم هللا وهداهم إلى بدئه من أول يوم دخل فيه
النبي ﷺ مع أصحابه المدينة.
وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة ،فقال :كانت القضايا التي اتفقت له ﷺ ويمكن أن يؤرخ بها أربعة:
مولده ،ومبعثه ،وهجرته ،ووفاته .فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ ألن المولد والمبعث ال يخلو واحد منها من النزاع في
تعيين السنة ،وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما يتوقع بذكره من األسف عليه ،فانحصر في الهجرة.
وذكروا في الباعث لعمر رضي هللا عنه على التاريخ من بدء الهجرة آثا ار عديدة ،منها :
وعلِ ٌّي.
مان َ
وع ْث ُ
الم َح َّرِم ُع َم ُر ُ أن َّال ِذي َ ِ ِ
اآلثار َّ فاستََف ْدنا ِمن َم ْج ُموِع َه ِذِه
أشار ب ُ ثم قال الحافظْ :
وبعد أن أقام رسول هللا ﷺ بقباء أياما قالئل خرج إلى المدينة ،وكان أهل المدينة حينما سمعوا بخروج رسول هللا
وقدومه عليهم كانوا يخرجون إلى الحرة -وهي أرض ذات حجارة سود ،كأنها أحرقت بالنار من شدة سوادها -ينتظرون
مقدم رسول هللا ﷺ عليهم ،فيظلون كذلك ،حتى يردهم حر الظهيرة ،يفعلون ذلك كل يوم ،فانقلبوا يوما بعد أن طال
انتظارهم ،فلما أووا إلى بيوتهم أطل رجل من اليهود من فوق حصن من حصونهم ،فأبصر رسول هللا ﷺ ومن معه من
بعيد ،فنادى بأعلى صوته :يا معاشر العرب! هذا ُّ
حظ ُكم الذي تنتظرون ،فأسرع إلى رسول هللا ﷺ وأشراف بني النجار في
المدينة ،فجاءوا متقلدين سيوفهم معلقيها على أكتافهم استعدادا للدفاع ورم از للنجدة ،وركب رسول هللا ﷺ ناقته القصواء،
وأردف أبا بكر خلفه عليها ،ومألُ بني النجار ووجهاؤهم حوله يحيطون بركبه تكريما وتشريفا.
وسار الركب حتى دخل المدينة ،وكل يريد أن يتشرف بنزول رسول هللا ﷺ في داره أو بجوارها ،يحاولون وقف
الناقة ،فيقول رسول هللا ﷺ« :دعوها فإنها مأمورة» حتى وصلوا إلى بيت أبي أيوب ،وفي فناء البيت بركت الناقة ،فأخذ
جبَّار بن صخر ينخسها برجله لتقوم يبغي أن تصل إلى داره ،ورآه أبو أيوب ،فقال :يا جبار! أعن منزلي تنخسها؟ أما
والذي بعثه بالحق لوال اإلسالم لضربتك بالسيف.
المسجد النبوي هو المسجد الثاني الذي بني في المدينة بعد مسجد قباء؛ وكالهما يصدق فيه قوله تعالى:
وَّللا ي ِح ُّب َّ ﴿َلمس ِجد أ ُِسس على التَّقوى ِمن َّأو ِل يو ٍم أح ُّق أن تُق ِ ِ ِ ِ
المط ِّه ِر َ
ين﴾ ُ ط َّه ُروا َّ ُ ُ
أن َيتَ َ جال ُي ِحُّب َ
ون ْ وم فيه فيه ِر ٌ
َ َ َ َ َ ٌ ّ َ َ
صِّلي
وفي صحيح البخاري أن رسول هللا ﷺ كان قد اعتزم بناء مسجد في المكان الذي بركت فيه ناقته ،وكان ُي َ
َّللاِ ِ ِ ٍ ِ ٍ ِ َّ ِ ِِ ِ ِ ِ ٍِ
ول َّقال َرُس ُ أس َع َد ْب ِن ُزرَارةََ ،ف َ يم ْي ِن في َح ْج ِر ْ
وس ْهل ُغالَ َم ْي ِن َيت َ
وكان م ْرَب ًدا للت ْم ِر ،ل ُس َهْيل َ
ينَ ، الم ْسلم َ
جال م َن ُ فيه َي ْو َمئذ ِر ٌ
الم ْرَب ِد ،لَِيتَّ ِخ َذهُ َم ْس ِج ًدا،
الغالَمي ِن َفساومهما ِب ِ نزل» .ثُ َّم دعا رسول َّ ِ ِ ِ ِ
َ َُ َّللا ﷺ ُ َ ْ َ َُ ُ الم ِ ُ َّللاُ َ
شاء َّ
إن َ «هذا ْ ين َب َرَك ْت ِبه ارحَلتُ ُهَ : ﷺحَ
ول َّللاِ أن يْقبَله ِمنهما ِهب ًة حتّى ابتاعه ِمنهما ،ثُ َّم بناه مس ِجدا ،و َ ِ َفقاالَ :الَ ،بل نهبه َلك يا رسول َّ ِ
طف َق َرُس ُ َ ُ َْ ً َ َ ْ َُ ُ ول َّ ْ َ َ ُ ُ َّللاَ ،فأبى َرُس ُ َ ْ ََُ ُ َ َ ُ َ
طهر ،ويُقولَّ : ِ ِ َّ ِِ َّ ِ َّ ِ
الل ُه َّم مال َخ ْيَب ْرَ ،هذا َأب ُّر َربَّنا وأ ْ َ ْ َ ُ مال الَ ح َ «هذا الح ُ وه َو َي ْنُق ُل اللِب َنَ :
ولُ ، َّللا ﷺ َي ْنُق ُل َم َع ُه ُم اللِب َن في ُب ْنيانه َ
ويُق ُ
ين َل ْم ُي َس َّم لِي. ِِ ٍ ِ َّ ِ ِ ِ ِ
المهاج َرْه» َفتَ َمث َل بش ْع ِر َر ُجل م َن ُ
الم ْسلم َ صار ،و ُ
األن َ
فار َح ِم ْ
أج ُر اآلخ َرْهْ ،
األج َر ْ
إن ْ َّ
َّللا ﷺ يعتزم بناء مسجد ،ووقع اختياره على أرض لبني النجار فيها نخل وفيها قبور
وفي رواية أن رسول َّ
المشركين ،وفيها آثار بناء محطم ،وبها حفر ،فقال :يا بني النجار ،ساوموني على هذه األرض ألشتريها فأقيم عليها
ثمنا إنما هي ََّّلل تعالى.
وَّللا ال نأخذ لها ً
مسجدا نصلي فيه .قالوا :الَّ ،
ً
ثم ب ني المسجد ،فصفوا النخل حائطا جهة القبلة ،جهة المسجد األقصى ببيت المقدس بطول مائة ذراع ،وبنيت
ِ َِّ
ط ًة نحوا من سبعة أذرع ،وجعل
وب ْس َ جدرانه باللب ِن فوق أساس من الحجارة ارتفاعه ثالثة أذرع ،وجعل ارتفاع الجدار َ
قام ًة َ
ضْل ٍع مائة ذراع ،فهو مربع الشكل ،وجعل للمسجد ثالثة أبواب :باب في مؤخرة المسجد من جهته الجنوبية ،وبابطول ُك ِل ِ
ُ ُ ّ
الرحمة جهة الغرب ،والباب الذي كان يدخل منه ﷺ من جهة الشرق ،وهو الذي عرف ُ
بعد باسم باب جبريل ،وجعل جانبي
كل باب من الحجارة ،وجعل ُع ُمد المسجد من جذوع النخل ،و َسْقُف ُه من الجريد.
تتابع المهاجرين إلى المصطفى ﷺ في مدينته
وبعد هجرة النبي ﷺ وأصحابه خلت مكة من المسلمين أو كادت ،وأغلقت بعض الدور نتيجة لذلك ،منها دار بنی جحش
...وكل ذلك حدث أو معظمه في فترة قصيرة بين موسم الحج وشهر ربيع األول ...األمر الذي أيقظ قريشا من غفلتها ..
ولعلها لم تهتم لألمر أوال ،ثم فكرت فوجدت فيه الخطر عليها حسب زعمها.
وبعد أن استقر النبي ﷺ في المدينة بأيام قالئل :وصل إليها علي بن أبي طالب مهاجرا .قال ابن إسحاق :
وتالحق المهاجرون إلى رسول هللا ﷺ فلم يبق بمكة منهم أحد ،إال مفتون أو محبوس.ومن جملة هؤالء :صهيب الرومي.
فذهب البال ُذري وتابعه ابن عبد البر وابن سيد الناس إلى أن النبي ﷺ آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة •
على الحق والمساواة
وذهب بعضهم مثل ابن تيمية وابن كثير وابن قيم إلى عدم وقوع المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي •
ﷺ لعلي ،ألسباب؛
.1ان المهاجرين كانوا مستغنين بأخوة اإلسالم وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخالف المهاجرين
مع األنصار
.٢أن المؤاخاة شرعت إلرفاق بعضهم بعضا ،ولتأبيف قلوب بعضهم على بعض ،فال معنى لمؤاخاة النبي ﷺ
ألحد منهم وال لمؤاخاة مهاجري لمهاجري
ض الم ِ ِ ِ ِ ِ ص ِب ِ
الق ِ وهذا َرٌّد لِ َّلن ّ ِ
كان
ين َ هاج ِر َ المؤاخاة أل َّن َب ْع َ ُ
فال َع ْن ح ْك َمة ُإغ ٌياس و ْ وتعقب الحافظ ابن حجر بقولهَ :
ِ األدنى لَِي ْرتَِف َق ْ الع ِش َ ِ ِ أ ْقوى ِمن َب ْع ٍ
األعلى
ين ْ وي ْستَع ُ األدنى ِب ْ
األعلى َ يرة والُقوى َفآخى َب ْي َن ْ
األعلى و ْ ض ِبالمال و َ
الب ْعثَ ِة. ِ ظهر مؤاخاتُه ﷺ لِعلِ ٍي ِألَّنه هو َّال ِذي كان يُقوم ِب ِه ِمن عه ِد ِ ِ
الصبا من َقْبل َ
ّ َْ َ َ ُ َ ّ ُ َُ ُ ِهذا تَ ْ َ ُ ُ ِب ْ
األدنى وب َ
ومما يرجح ما ذهب إليه ابن القيم وابن كثير أن كتب السيرة األولى المختصة لم تشر إلى وقوع المؤاخاة بمكة،
كما أن البالذري وهو المصدر الوحيد القديم الذي أشار إليها ساق الخبر بلفظ (قالوا) دون إسناد مما يضعف الرواية ،كما
أن البالذري نفسه صح النقاد .وعلى فرض صحة وقوع هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بني
المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث.
وأما وقوع المؤاخاة في المدينة :فقد أجمع عليها العلماء؛ وذلك دفعا للمشكالت المتعددة التي واجهها المهاجرون
في الجوانب االقتصادية واالجتماعية والصحية ،فمن المعروف أن المهاجرين تركوا أهليهم ومعظم ثرواتهم بمكة ،كما أن
مهاراتهم كانت في التجارة التي تمرست بها قريش ،ولم تكن لهم خبرة في الزراعة والصناعة ،وهما يشكالن أساسين مهمين
في اقتصاديات المدينة.
وكتَّاب السير على أن المؤاخاة قد وقعت في العام األول من الهجرة أثناء بناء المسجد أو
وقد أجمع المؤرخون ُ
بعده بقليل ،وكان إعالن هذا التشريع في دار أنس بن مالك ،وكانت المؤاخاة بين المهاجرين واألنصار؛ فآخى الرسول ﷺ
بين كل مهاجري وأنصاري اثنين اثنين ،وشملت خمسة وأربعين رجالً من المهاجرين وخمسة وأربعين رجالً من األنصار،
وذكر ابن سعد أنهم كانوا مائة؛ خمسين من المهاجرين وخمسين من األنصار.
وقد ترتب على المؤاخاة حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة المطلقة في كل أوجه العون على مواجهة أعباء
الحياة سواء كان عونا ماديا كالمعونة والرعاية ،أو معنويا كالنصيحة والتزاور؛ بل :ارتقت إلى ما هو أعلى وأعمق من أخوة
النسب والدم؛ فيتوارث المتآخون دون ذوي أرحامهم.
وقد بلغ كرم األنصار حدا عاليا عندما اقترحوا على الرسول ﷺ أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين ،ألن النخل
مصدر معيشة الكثيرين منهم ،على أن الرسول ﷺ طلب من األنصار أن يقوموا بإدارة بساتين النخيل ويحتفظوا بها
ألنفسهم على أن يشركوا المهاجرين في التمر .والظاهر :أن رسول هللا ﷺ لم يرد أن يشغل المهاجرين بالزراعة لقلة خبرتهم
في هذا المجال ،وذلك حتى ال يؤدى إلى خفض اإلنتاج وضعف االقتصاد ،كما أنه ﷺ يحتاج المهاجرين في مهام الدعوة
والجهاد في تأسيس الدولة الفتية.
وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة في نفوس المهاجرين فلهجت ألسنتهم بالثناء على األنصار والدعاء لهم لما بذلوه
اساة ِفي َقلِ ٍ ِ ِ س قال :قال المها ِجرون :يا رسول َّ ِ
يل ،وال َّللا ،ما َرْأينا م ْث َل َق ْو ٍم َقد ْمنا َعَل ْي ِه ْم ْ
أح َس َن ُمو ً َُ َ فع ْن َأن ٍ َ َ ُ ُ َ من جود وكرمَ ،
ِِ ِ ِ ِ أح َس َن َب ْذ ًال ِفي َكِث ٍ
قال« :ال ،ما أ ْثَن ْيتُ ْم أن َي ْذ َهُبوا ِب ْ
األج ِر ُكّله َ الم ْه َنأَ ،حتّى َلَق ْد َحس ْبنا ْأش َرُكونا في َ
ون َة ،و ْ
الم ُئ َ
يرَ ،لَق ْد َكَف ْونا َ ْ
َّللاَ َل ُه ْم». َعَل ْي ِه ْمَ ،
ود َع ْوتُ ُم َّ
ومن النماذج الفريدة لهذا اإليثار الذي يصور عمق التزام األنصار بنظام المؤاخاة وتفانيهم في تنفيذه ،ما روي
وب ْي َن َس ْع ِد ْب ِن َّ ِ ف َق ِدم ِ أن عبد الرَّحم ِن بن عو ٍ َع ْن َأن ٍ
قال َل ُه َس ْعٌد: األنصارِّ
ِيَ ،ف َ الربِي ِع ْ ول هللا ﷺ َب ْي َن ُه َالمد َين َةَ ،فآخى َرُس ُ
َ َ سْ َ َ ْ َ ْ َ ْ َ َّ ،
طّلَِقها،أع َج ُب إَل ْي َك َحتّى أُ َ
ُّهما ْظ ْر أي ُ ام َرأتا ِنْ ،
فان ُ ِ ِ
ط َر ماليَ ،ف ُخ ْذهُ ،وتَ ْحتي ْ ظ ْر َش ْ فان ُ
ماالْ ،الم ِد َين ِة ً
أهل َ
أي أ ِخي ،أنا أ ْكثَر ْ ِ
ُ ْ
الس ِ ُّ الس ِ ُّ ِ
أهل َك ومال َكُ ،دلوِني َعلى ُّ ِ ِ
جاء
ِحَ ،ف َ ورب َ فاشتَرى َ
وباع َ وقَ ،ف َذ َه َب ْ وقَ ،ف َدلوهُ َعلى ُّ ك هللاُ َل َك في ْ َّح َم ِنَ :
بار َ قال َع ْب ُد الر ْ
َف َ
ول ِ وعَل ْي ِه َرْدعُ َزْعَفر ٍ ِ ِب َشي ٍء ِمن ِأق ٍط َ ٍ
قال :يا َرُس َ «م ْهَي ْم» َف َ
ول هللا ﷺَ : قال َرُس ُ
انَ ،ف َ جاء َ
أن َيْل َب َثَ ،ف َ
شاء هللاُ ْ
وس ْمن ،ثُ َّم َلب َث ما َ ْ
ِ ٍ ِ ٍ ِ ٍ ِ
َّح َم ِنَ« :فَلَق ْد َرْأيتُني «أولِ ْم وَل ْو بشاة»َ ،
قال َع ْب ُد الر ْ قالْ :وزَن َنواة من َذ َهبَ ، قالْ : أص َدْقتَها؟» َ
قال« :ما ْ ام َرأةًَ ،ف َ
هللا تَ َزَّو ْج ُت ْ
يب َذ َهًبا ْأو ِف َّ
ض ًة» ِ
أن أُص َ
وَل ْو َرَف ْع ُت َح َج ًار َل َر َج ْو ُت ْ
ثم إن كرم األنصار وسخاءهم الكبير ،قابله عفة وكرم نفس من المهاجرين قلما نجد له نظيرا ،فهم لم يتركوا
أموالهم في مكة على أمل تعويضها من أموال إخوانهم األنصار ،وإنها تركوها في سبيل عقيدتهم ،وإذا ألجأتهم الحاجة في
هذه الفترة فقد كانوا يقتصرون على ما يقيم أ ََوَدهم .بل ثبت أن بعض المهاجرين قد استطاع أن يحمل ماله أو بعض ماله
فتكفل بنفقات نفسه وعياله دون أن يكلف أحدا من األنصار شيئا ،ومن هؤالء :عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق
وعثمان بن مظعون
ولما ألف المهاجرون جو المدينة وعرفوا مسالك الرزق فيها ،وأصابوا من غنائم بدر الكبرى ما كفاهم رجع
التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس الفروض المذكورة في كتاب هللا تعالى؛ فأبطل التوارث
بين المتآخين؛ ألنه كان قد شرع لمعالجة ظروف استثنائية تمر بها الدولة الناشئة ،وذكر ابن سعد أن ذلك اإللغاء كان بعد
ض﴾ .وذكر ابن عباس أن ما ألغي من نظام المؤاخاة هوض ُهم ْأولى ِب َب ْع ٍ
األرحا ِم َب ْع ُ ْ
غزوة بدر ،بنزول قوله تعالى﴿ :وأُوُلو ْ
اإلرث ،أما النصرة والرفادة والنصيحة :فباقية ،ويمكن أن يوصى ببعض الميراث بين المتآخيين.
وبهذه المعاهدة أصبحت المدينة المنورة دار إسالم ،وصار من فيها من اليهود أهل ذمة وعهد؛ لهم ما للمسلمين
وعليهم ما على المسلمين ،فيحرم إيذاؤهم أو االعتداء عليهم أو قتلهم ونحو ذلك؛ إال بحق ما داموا ملتزمين بالعهد
«من َقَت َل
مستمسكين بما فيه ،وعلى كل مسلم أن يرعى لهم ذلك ،ومن خالف فقد استحق الوعيد الوارد في قوله ﷺ َ :
عاما» .فأمثال هؤالء :لهم حق األخوة في المواطنة واألخوة
ين ً
ِ ِ ِ
وج ُد من َمس َيرِة ْأرَبع َ الجَّن ِة ،و َّ
إن ِر َ
يحها تُ َ
ِ
عاه ًدا َل ْم َي ِرْح رائ َح َة َ
ُم َ
في القوميات ؛ ألنهم جميعا يعيشون في وطن واحد تحت حكم اإلسالم وإن لم يؤمنوا به.
قدم المهاجرون إلى ا لمدينة المنورة ثم استمرت الهجرة ،وصار حقا على المسلمين الجدد في أرجاء الجزيرة أن
اليِت ِه ْم ِمن َشي ٍء َحتّى ُيها ِج ُروا﴾ وظل األمر كذلك حتى ِ ين آم ُنوا وَلم ُي ِ َّ ِ
ْ هاج ُروا ،ما َل ُك ْم من و َ ْ يهاجروا إليها قال تعالى﴿ :والذ َ َ
أوقفت الهجرة بفتح مكة ،عام ثمان من الهجرة ،وكذلك ال هجرة من أي بلد يفتحه المسلمون ،ويصير دار إسالم« :ال ِه ْج َرَة
والهجرة كانت وال تزال وستظل :دليالً على اإلخالص والتفاني في سبيل العقيدة ،حيث فارق المهاجرون وطنهم
الد ْنيا َّللاِ ِمن َب ْع ِد ما ُ
ظلِ ُموا َلنَُبِّوَئَّن ُه ْم ِفي ُّ هاج ُروا ِفي َّ
ين َ
َّ ِ
ومالهم وأهليهم ومعارفهم استجابة لنداء هللا ورسوله قال تعالى﴿ :والذ َ
َّ ِ حس َن ًة وَألجر ِ
وعلى َرِّب ِه ْم َيتََوَّكلُ َ
ون﴾ ص َب ُروا َ ون ( )٤1الذ َ
ين َ اآلخ َ ِرة أ ْك َب ُر َل ْو ُ
كانوا َي ْعَل ُم َ ُْ ََ
وهكذا فإن الهجرة اقترنت بظروف صعبة ،كانت تمحيصا إليمان المؤمنين ،واختبا ار لقوة عقيدتهم ،واستعالء
ِ ِ ِ إن رب َِّ ِ
جاه ُدوا
هاج ُروا من َب ْعد ما ُفتُنوا ثُ َّم َ
ين َ إيمانهم على األغراض والمصالح والعالئق الدنيوية قال تعالى﴿ :ثُ َّم َّ َ َ
َّك للذ َ
ِ ِ إن رب ِ
يم﴾ ومن هنا :كانت الهجرة أم ار هاما إلعالء شأن الدين ،ولحصول الحرية الكاملة ور َرح ٌ وص َب ُروا َّ َ َ
َّك من َب ْعدها َل َغُف ٌ َ
لطاعة هللا وعبادته لدى كل فرد من أفراد المؤمنين ،كما أن الهجرة ال تقع إال بسبب الحرب والمضايقة من أعداء هللا
ألوليائه.
وتأخر الرسول ﷺ في الهجرة وأخر معه أبا بكر ختى أذن هللا تعالى له بالهجرة ،وقد خرج االثنان إلى جبل ثور
حيث أ ََوَيا إلى غار فيه ،وخرج االثنان بعد ثالثة أيام في طريقهما إلى المدينة يقطعان السحراء ،ورسول هللا ﷺ قد بلغ
الثالثة والخمسين وأبو بكر بلغ الحادية والخمسين.
والهجرة شرع قديم ومستمر إلى أن يهاجر المسلمون في آخر الزمان إلى بالد الشام ،حيث منع القرآن المسلمين
يم ُك ْنتُ ْم قالُوا ِ ِِ ِِ ِ القادرين على الهجرة من اإلقامة مع المشركين ،قال تعالىِ َّ َّ :
المالئ َك ُة ظالمي ْأنُفسه ْم قالُوا ف َ
اه ُم َ
ين تَ َوّف ُ
﴿إن الذ َ
ير ( )٩٧إالَّ ص ًاُولئك م ْأواهم جهَّنم وساء ْت م ِِ ِ ِ ض قاُلوا أَلم تَ ُكن أرض َّ ِ ِ األر ِ ُكّنا مستَضع ِف ِ
َ َ َّللا واس َع ًة َفتُهاج ُروا فيها َفأ َ َ ُ ْ َ َ ُ ْ ْ ْ ُ ين في ْ ُْ ْ َ َ
يال (َ )٩8فأ ِ ِ
وكان
أن َي ْعُفَو َع ْن ُه ْم َ َّللاُ ْ
ُولئ َك َعسى َّ ون َسِب ً ون ِحيَل ًة وال َي ْهتَ ُد َ
يع َ الوْل ِ
دان ال َي ْستَط ُ
الن ِ
ساء و ِ جال و ِّ
الر ِين ِم َن ِّ المستَ ِ
ض َعف َ
ُْ ْ
ورا﴾ .وذلك ألن اإلقامة مع المشركين فيها:
َّللاُ َعُف ًّوا َغُف ً
َّ
.1تكثير سوادهم
.٢وانتفاعهم بالمسلمين في صناعتهم وزرعهم
.٣بل ربما اضطروهم للمشاركة معهم في حربهم ضد المسلمين كما وقع في غزوة بدر الكبرى
.٤باإلضافة إلى تعرضهم للفتنة من قبل الكفار لصرفهم عن دينهم
.5وال يخفى ما في بعدهم عن دولة اإلسالم من منع استفادة المسلمين منهم في سلمهم وحربهم ومصالحهم وتكثير
سوادهم.
وإلى هذا كله تشير خاتمة سورة األنفال حيث قسمت المجتمعات البشرية إلى أربعة أقسام :الكفار بكافة أصنافهم،
والمؤمنون الذين لم يهاجروا ،والمؤمنون الذين هاجروا وجاهدوا وآووا ونصروا ،والمؤمنون الذين جاءوا بعد ذلك مقتدين
ين َآوْوا ﴿إن َّال ِذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ِبأموالِ ِهم و ْأنُف ِس ِهم ِفي سِب ِ ِ َّ ِ بسلفهم في الهجرة والجهاد ،قال تعالىَّ :
يل هللا والذ َ َ ْ ْ ْ َُ َُ َ َُ
اليِت ِه ْم ِمن َشي ٍء َحتّى ُيها ِج ُروا و ِ ِ ُولئك بعضهم أولِياء بع ٍ َّ ِ ِ
وك ْم
ص ُر ُاستَْن َ
إن ْ ْ آم ُنوا وَل ْم ُيها ِج ُروا ما َل ُك ْم من و َ
ين َ ض والذ َ ص ُروا أ َ َ ْ ُ ُ ْ ْ ُ َ ْ ون َ
َ
وَّللا ِبما تَعمُل َ ِ ِ َّ ِ
ير﴾ ون َبص ٌ َْ يثاق َّ ُ
وب ْي َن ُه ْم م ٌ
ص ُر إال َعلى َق ْو ٍم َب ْي َن ُك ْم َ ين َف َعَل ْي ُكم َّ
الن ْ ُ ِفي ّ
الد ِ
لمحات حول بعض الغزوات
قد فصل القرآن الكريم أحداثا كثيرة في بعض الغزوات كغزوة بدر في سورة األنفال ،وغزوة أحد وما تبعها من
وقائع في سورة آل عمران ،وغزوة الخندق وإجالء يهود بني قريظة في سورة األحزاب ،وإخراج يهود بني النضير وخذالن
من عاونهم من إخوانهم المنافقين في سورة الحشر ،وما وقع مع يهود بني قينقاع ومن عاونهم من المنافقين في اآليات:
1٢و 1٣من سورة آل عمران ،واآليات 5٦ : 51من سورة المائدة.
وقعت أحداثها في يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في العام الثاني من الهجرة ،وقد سمى هللا يومها:
عان» من المؤمنين والمشركين ،ومن المالئكة والشياطين ،حيث كان التمحيص للمسلمين في الج ْم ِ «ي ْوم الُف ْر ِ
قان َي ْوَم التَقى َ َ َ
ِ أن َغير ِ
أن
َّللاُ ْ وي ِر ُ
يد َّ ون َل ُك ْم ُ ذات َّ
الش ْوَكة تَ ُك ُ ُّون َّ ْ َ ط ِائَفتَْي ِن َّأنها َل ُك ْم وتَ َود َ
إحدى ال ّ أبدانهم باختيار الجهاد لهم﴿ :وإ ْذ َي ِع ُد ُك ُم َّ
َّللاُ ْ
ِ الكاف ِرين ( )٧لِي ِح َّق الح َّق ِ طع داِبر ِ ِ ِِ ِ
ون﴾ وكذلك كان التمحيص في الم ْج ِرُم َ
وي ْبط َل الباط َل وَل ْو َك ِرَه ُ َ ُ ُ َ الح َّق ِب َكلماته َ
ويْق َ َ َ ُيح َّق َ
ونيد َنفوسهم وقلوبهم بالغنائم؛ وقبول حكم رسول هللا ﷺ فيها حين رغبوا في أخذ الفداء من األسرى ،قال سبحانه ﴿ :تُ ِر ُ
ِ يز ح ِكيم (َ )٦٧لوال ِكتاب ِمن َّ ِ
يم (َ )٦8ف ُكُلوا ذاب َعظ ٌ َّللا َسَب َق َل َم َّس ُك ْم ِفيما َ
أخ ْذتُ ْم َع ٌ ٌ َ ْ يد اآل ِخ َرَة َّ
وَّللاُ َع ِز ٌ َ ٌ وَّللاُ ُي ِر ُ ض ُّ
الد ْنيا َّ َع َر َ
يم﴾ ِ
ور َرح ٌ
َّللاَ َغُف ٌ
إن َّ طِّيًبا واتَُّقوا َّ
َّللاَ َّ الال َ ِم ّما َغِن ْمتُ ْم َح ً
فهذا أبو عبيدة بن الجراح؛ انظر ماذا صنع بأبيه المشرك لما حارب هللا ورسوله ،ففي المعجم الكبير للطبراني: •
ِ
ص ّدى البنه أِبي ُع َب ْي َد َة َي ْوَم َب ْد ٍرَ ،ف َج َع َل ُأبو ُعَب ْي َد َة َي ِح ُ
يد َع ْن ُهَ ،فَل ّما أ ْكثَ َر، أن والد أبي عبيدة بن الجراح كان َيتَ َ
ون ِباَّللِ واليو ِم ِ
اآلخ ِر﴾ ين َقَت َل أباهُ﴿ :ال تَ ِج ُد َق ْو ًما ُي ْؤ ِمُن َ ِ ِ ِ ِِ
َْ اآلي َة ح َ ص َدهُ ُأبو ُع َب ْي َد َة َفَقَتَل ُهَ ،ف ْأن َزَل هللاُ تعالى فيه َهذه َ
َق َ
اآلي ِة» ِ
[المجادلة ]٢٢إلى آخ ِر َ
وهذا أبو حذيفة ،تأمل موقفه من أبيه الذي قتل ودفن في قليب بدر! فعن عائشة قالت :لما ألقوا -يعني قتلى •
المشركين -يوم بدر ،وقف رسول هللا ﷺ عليهم وقال « :يا عتبة ،ويا شيبة ،ويا أمية بن خلف ،ويا أبا جهل -
يعدد كل من في القليب -هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؛ فقد وجدت ما وعدني ربي حقا؟ » ،وقال ابن إسحاق:
فبلغني أن رسول هللا ﷺ نظر عند مقالته هذه في وجه أبي حذيفة بن عتبة فرآه كثيبا قد تغير ،فقال رسول هللا ﷺ:
« لعلك دخلك من شأن أبيك شيء؟ » قال :ال ،وهللا ما شككت في أبي وال في مصرعه ،ولكنى كنت أعرف من
وذكرت ما مات عليه من
ُ أبي رأيا وحلما وفضالً ،فكنت أرجو أن يقربه ذلك إلى اإلسالم ،فلما رأيت ما أصابه
كنت أرجو له ،حزنني ذلك ،فدعا رسول هللا ﷺ ألبي حذيفة بخير ،وقال له خيرا. الكفر بعد الذي ُ
خطر النفاق واليهود على الدولة الناشئة
ذكر الزهري أن إجالء بني قينقاع وقع في السنة الثانية للهجرة ،وذكر الواقدي وابن سعد أنه كان يوم السبت
للنصف من شوال من السنة الثانية ،واتفق معظم من كتب في مغازي رسول هللا ﷺ وسيرته على أن ذلك وقع بعد معركة
بدر ،إذ لم يلتزم يهود بني قينقاع بالمعاهدة التي أبرمها الرسول ﷺ معهم ،ولم يوفوا بالتزاماتهم التي حددتها ،ووقفوا من
الرسول ﷺ والمسلمين مواقف عدائية ،فأظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون في بدر ،وجاهروا بعداوتهم
للمسلمين.
وقد جمعهم النبي ﷺ في سوقهم بالمدينة ونصحهم ،ودعاهم إلى اإلسالم ،وحذرهم أن يصيبهم ماأصاب قريشاً في
بدر ،غير أنهم واجهوا النبي ﷺ بالتحدي والتهديد رغم ما يفترض أن يلتزموا به من الطاعة والمتابعة لبنود المعاهدة التي
جعلتهم تحت رئاسته ،فقد جابهوه بقولهم :يا محمد اليغرنك من نفسك أنك قتلت نف اًر من قريش كانوا أغما اًر ال يعرفون
القتال ،إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ،وأنك لم تلق مثلنا للقتال ،فأنزل هللا سبحانه وتعالى فيهم قوله تعالىُ﴿ :ق ْل
َّللاِ ِ
قاتل ِفي سِب ِ ِ ِ ِ ِ َِّ ِ
يل َّ َ كان َل ُك ْم َآي ٌة في فَئتَْي ِن التََقتا فَئ ٌة تُ ُ ون إلى َج َهَّن َم وبِ ْئ َس الم ُ
هاد (َ )1٢ق ْد َ ون وتُ ْح َش ُر َ
ين َكَف ُروا َستُ ْغَل ُب َ
للذ َ
األب ِ وَّللا يؤيِد ِبنص ِِره من يشاء َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
صار﴾. إن في ذل َك َلع ْب َرةً ألُولِي ْ ْي َ ِ
الع ْين َّ ُ ُ َ ّ ُ َ ْ َ َ ُ ُخرى كاف َرةٌ َي َرْوَن ُه ْم م ْثَل ْيه ْم َأر َ
وأ ْ
ولما انتصر المسلمون في بدر وقال اللہ ﷺ لليهود ما قال ،أضمرت بنو قينقاع نقض العهد الذي بينهم وبين
المسلمين ،وأخذوا يتحينون الفرصة السانحة لمناوشة المسلمين ،حتى جاءتهم فرصتهم عندما جاءت امرأة من العرب بجلب
لها ،فباعته بسوق بني قينقاع ،وجلست إلى صائغ لها ،فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت ،فعمد الصائغ إلى طرف
ثوبها فعقده بشوكة إلى ظهرها ،فلما قامت انكشفت سوءتها ،فضحكوا بها ،فصاحت ،فوثب رجل من المسلمين على
الصائغ فقتله ،وكان يهودياً ،وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ،فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ،فغضب
المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
وحين علم رسول اللہ ﷺ بذلك سار إليهم على رأس جيش من المهاجرين واألنصار ،وذلك يوم السبت للنصف
من شوال من السنة الثانية للهجرة ،وكان الذي حمل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبدالمطلب رضي هللا عنه ،واستخلف
على المدينة أبا لبابة بن عبدالمنذر العمري واسمه بشير ،وحين سار إليهم رسول اللہ ﷺ نبذ إليهم العهد كما أمره هللا تعالى
ِِ ِ فانِب ْذ إَل ْي ِه ْم َعلى َسو ٍاء َّ ِ
ين﴾
َّللاَ ال ُيح ُّب الخائن َ
إن َّ إما تَخا َف َّن من َق ْو ٍم ِخ َ
يان ًة ْ في قوله ﴿ :و ّ
وحين علم اليهود بمقدمه ﷺ تحصنوا في حصونهم ،فحاصرهم النبي ﷺ خمس عشرة ليلة كما ذكر ابن هشام،
واستمر الحصار حتى قذف هللا في قلوبهم الرعب واضطروا للنزول على حكمه ﷺ ،فأمر بهم فربطوا ،فكانوا يكتفون أكتافاً،
واستعمل رسول هللا ﷺ على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي األوسي.
وحاول ابن سلول زعيم المنافقين أن يحل حلفاءه من وثاقهم ،فعندما مر عليهم قال :حلوهم :فقال المنذر :أتحلون
قوماً ربطهم رسول اللہ ﷺ؟ وهللا ال يحلهم رجل إال ضربت عنقه ،فاضطر عبدهللا بن أبي بن سلول أن يتراجع عن أمره
ويلجأ إلى استصدار األمر من النبي ﷺ بفك أسرهم ،فأتى رسول اللہ ﷺ فقال :يامحمد! أحسن في موالي –وكانوا حلفاء
الخزرج -قال :فأبطأ عليه رسول اللہ ﷺ ،فقال :يامحمدا أحسن في موالي ،قال :فأعرض عنه ،فأدخل ابن أَُبي يده في
جيب درع رسول اللہ ﷺ فقال له رسول اللہ ﷺ « :أرسلني » وغضب رسول هللا حتى أروا لوجهه ظلالً ،ثم قال « :ويحك
! أرسلني» ،قال :ال وهللا ،ال أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر ،وثالثة مائة دارع ،قد منعوني من األحمر
واألسود ،تحصدهم في غداة واحدة؟ إني وهللا امرؤ أخشى الدوائر :فقال رسول اللہ ﷺ « :هم لك ».
فخلى رسول اللہ ﷺ سبيلهم ثم أمر بإجالئهم ،وغنم رسول اللہ ﷺ والمسلمون ما كان لديهم من مال ،وقد تولى
جمع أموالهم وإحصاءها محمد بن مسلمة رضي هللا عنه وحاول ابن أبي بن سلول أن يحدث رسول اللہ ﷺ في يهود بني
قينقاع لكي يقرهم في ديارهم ،فوجد على باب رسول اللہ ﷺ عويم بن ساعدة األنصاري األوسي ،فرده عويم وقال :ال تدخل
حتى يأذن رسول اللہ ﷺ لك ،فدفعه ابن أبي ،فغلظ عليه عويم حتى جحش وجه ابن أَُبي الجدار فسال الدم.
ولما تقرر جالء بني قينقاع أمر رسول اللہ ﷺ عبادة بن الصامت أن يجليهم ،فجعلت قينقاع تقول :يا أبا الوليد
من بين األوس والخزرج –ونحن مواليك– فعلت هذا بنا؟ قال لهم عبادة :لما حاربتم جئت رسول اللہ ﷺ فقلت :يارسول هللا
إني أب أر إليك منهم ومن حلفهم ،وكان ابن أبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف ،فقال عبدهللا بن أبي:
تبرأت من حلف مواليك؟ ما هذا بيدهم عندك ،فذ ّكره مواطن قد أبَلوا فيها ،فقال عبادة :يا أبا الحباب ،تغيرت القلوب ،ومحا
اإلسالم العهود ،أما وهللا إنك لمعتصم بأمر سنرى غيَّه غداً ،فقالت قينقاع :يا محمد ،إن لنا دينا في الناس ،قال النبي ﷺ:
« تعجلوا وضعوا » وأخذهم عبادة بالرحيل واإلجالء ،وطلبوا التنفس ،فقال لهم :وال ساعة من نهار لكم ثالث ال أزيد عليها
هذا أمر رسول اللہ ﷺ ولو كنت أنا ما نفستكم ،فال مضت ثالث ،خرج في آثارهم حتى سلكوا إلى الشام ،ولحقوا بأذرعات.
وقعت في يوم السبت منتصف شهر شوال من العام الثالث للهجرة؛ حيث وصل إلى المدينة نحو ثالثة آالف من
المشركين بزعامة أبي سفيان يريدون محق النبي ﷺ وأصحابه انتقاما للسبعين الذين قتلوا منهم في بدر.
وقد كان على قيادة خيلهم :خالد بن الوليد؛ الذي اهتبل فرصة نزول الرماة عن الجبل لجمع الغنائم مخالفين
وصية رسول هللا ﷺ لهم :أن ال يبرحوا أماكنهم؛ سواء انتصر الجيش أو هزم ،فاستدار خالد بخيل المشركين ،وبغت
المسلمين وأربك صفوفهم؛ حتى قتل سبعون من المسلمين ،فضال عمن جرح وأصيب ،وأشيع أن رسول هللا ﷺ قد قتل،
ونزل في بيان ذلك نحو ستين آية من سورة آل عمران من اآلية 1٢1إلى اآلية 1٧٩منها قوله سبحانه﴿ :وال تَ ِهُنوا وال
َّللا ّ ِ ِ
الشاك ِر َ
ين﴾ ﴿وس َي ْجزِي َّ ُ إن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤ ِمن َ
ين﴾ إلى قوله تعالىَ : األعَل ْو َن ْ
تَ ْح َزُنوا و ْأنتُ ُم ْ
ثم أدب هللا المؤمنين الذين ما زال في قلوبهم حب الدنيا؛ حتى ال يعودوا لمخالفة أمر رسول هللا ﷺ مهما كان
أص ْبتُ ْم ِ
أصاب ْت ُك ْم ُمص َيبةٌ َق ْد َ
َ ﴿أوَل ّما
الثمن؛ بعد ان اتخذ من خيرتهم وصفوتهم سبعين شهيدا ،وذلك جلى في قوله تعالىَ :
َّللاِ ٍ ِ ِم ْثَل ْيها ُقْلتُ ْم ّأنى َهذا ُق ْل ُه َو ِمن ِعْن ِد ْأنُف ِس ُك ْم َّ
عان َفِبإ ْذ ِن َّ
الج ْم ِأصاب ُك ْم َي ْوَم التَقى َ َ ير ( )1٦5وما َّللاَ َعلى ُك ِّل َش ْيء َقد ٌ
إن َّ
َّللاِ ِأو ْاد َف ُعوا قالُوا َل ْو َن ْعَل ُم ِق ً
تاال التََّب ْع ُ
ناك ْم ُه ْم يل َّ َ
ولِيعَلم المؤ ِمِنين ( )1٦٦ولِيعَلم َّالِذين نا َفُقوا وِقيل َلهم تَعاَلوا ِ
قاتلُوا ِفي سِب ِ
ْ َ ُْ َ َْ َ َْ َ ُ ْ َ
يمان يُقولُون ِبأ ْفو ِ
اه ِه ْم ما َل ْي َس ِفي ُقلُوبِ ِه ْم َّ ِ ٍِ
أعَل ُم ِبما َي ْكتُ ُم َ
ون﴾ وَّللاُ ْ نه ْم لِ ْْل ِ َ َ ِ
لْل ُكْف ِر َي ْو َمئذ أ ْق َر ُب م ُ
من النماذج المشرقة في تلك الغزوة:
النِب ِي ﷺ
هاج ْرنا َم َع َّ ٍ
ّ قالَ : فع ْن َخّبابَ ،
استشهاد مصعب بن عمير الذي كان معه لواء المسلمين في غزوة أحدَ ، •
ِ َّللاَِ ،ف ِمّنا من مضى ،أو َذهبَ ،لم يأ ُ ِ ونحن نبت ِغي وجه َّ ِ
نه ْم
كان م ُأج ِِره َش ْيًئاَ ،
ْك ْل من ْ ْ ََ ْ َ َ َ أج ُرنا َعلى َّ
َّللاَ ،ف َو َج َب ْ َْ َ ْ ُ َْ َ
ْس ُه َخ َرَج ْت ِر ْجالَهُ ،وإذا ُغ ِّ
ط َي ِبها ِر ْجالَهُ َّ ِ ِ مصعب بن عمي ٍرُ ،قِتل يوم أ ٍ
ُحدَ ،فَل ْم َي ْت ُر ْك ّإال َنم َرًةُ ،كّنا إذا َغط ْينا بها َأر َ
َ َْ َ ُ ُ ْ َ ُ ْ ُ ُ َْ
اج َعلُوا َعلى ِر ْجَلْي ِه اإل ْذ ِخ َر» ....
ْس ُه ،و ْ النِب ُّي ﷺِ ُّ َ :
«غطوا بها َأر َ قال َلنا َّْس ُهَ ،ف َ
َخ َرَج َأر ُ
ما وقع من حنظلة غسيل المالئكة ،كان حديث عهد بالزواج ،فسمع الدعوة للجهاد ،فخرج مسرعا دون أن يغسل •
من الجنابة إلى غزوة أحد ،ثم استشهد بها ،فغسلته المالئكة.
وبعد ما أصاب المسلمين من ابتالء في أحد ،ظنت القبائل المتناثرة خارج المدينة في الجزيرة العربية أنها تستطيع
أن توقع بالمسلمين أمثالها ،فأخذوا يکيدون ويمكرون ،ويظهرون خالف ما يبطنون؛ فأبدت قبائل متعددة الرغبة في الدخول
في اإلسالم ،وطلبوا من رسول هللا ﷺ أن يمدهم بما يعينهم على تحقيق ذلك.
فكانت واقعة الرجيع وبئر معونة بعد أحد بنحو أربعة أشهر ،وبالتحديد :في شهر صفر من العام الرابع للهجرة،
اله َّدة ) ،كانت الوقعة عنده فسميت به .و( بئر معونة )
الهدأَة ) ويقالُ ( :
( الرجيع ) ماء لقبيلة هذيل قرب بمكان يسمى ( َ
هي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ،حيث غدر بالقراء :قبائل ِرعل -بكسر الراء -وذكوان وغيرهم ،وهذه تعرف بسرية
القراء الذين كان عددهم سبعين صحابيا ،و( الرجيع ) و( بئر معونة ) متقاربتان في الزمان والمكان؛ حتى إن بعض
مصنفي السير خلط بينها.
وكان في سرح القراء اثنان لم يشهدا هذه المأساة منهم عمرو بن أمية الضمري ولم يعرفا النبأ المحزن ،إال من
الم َع ْس َك ِر ُم َحِّومة حول الجثث الملقاة على الرمل األعفر ،طامعة مما تستطيع اختطافه
أفواج الطير المتوحشة ،تنطلق نحو ُ
بأظافرها ومناقرها ،قاال :وهللا إن لهذه الطير لشأنا .فأقبال لينظ ار فإذا القوم مضرجون في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم
واقفة! قال زميل عمرو له :ماذا ترى؟ قال عمرو :أرى أن نلحق برسول هللا ﷺ نقص عليه الخبر ،لكن زميله كره هذا الرأي
كنت ألرغب بنفسي عن وكان له بين من استشهدوا صديق حميم يدعى المنذر لذلك أجاب عمرو بن أمية قائال :ما ُ
موطن قتل فيه المنذر! وما كنت ألبقى حتى أقص خبره على الرجال! وهجم على األعراب يقاتلهم حتى ُقِتل وأ ِ
ُخذ عمرو
أسيرا ،فأعتقه عامر بن الطفيل كبير الغادرين عن رقبة زعم أنها على أمه! .ورجع عمرو إلى النبي ﷺ حامالً معه أنباء
المصاب الفادح ،مصرع سبعين من أفاضل المسلمين.
ضعار ِمن َب ْع ِ فاستَ َ أج َم ُعوا َق ْتَل ُهْ ، ير َحتّى ْ عام ٍر َي ْوَم َب ْد ٍرَ ،فَلِب َث ُخ َب ْي ٌب ِع ْن َد ُه ْم ِأس ًا
الحار َث بن ِ
ِ َْ وكان ُخ َب ْي ٌب ُه َو َقَت َل
َ
الموسى ِبَي ِدِه، ِِِ ِ ِ ِ
أعارْت ُهَ ،ف َد َرَج ُب َن ٌّي َلها وه َي غافَل ٌة َحتّى أتاهَُ ،ف َو َج َد ْت ُه ُم ْجل َس ُه َعلى َفخذه و ُ
ِ
وسى َي ْستَح ُّد ِبها َف َ
ِِ
الحارث ُم ً
ب ِ
نات َ
ط َخ ْي ًار ِمن ير َق ُّوَّللاِ ما َرْأي ُت ِأس ًا أن أْقتَُل ُه؟ ما ُك ْن ُت ِأل ْف َع َل َذلِ َك ،قاَل ْتَّ : قاَل ْتَ :فَف ِزْع ُت َف ْزَع ًة َع َرَفها ُخ َب ْي ٌبَ ،ف َ
قال :أتَ ْخ َش ْي َن ْ
ٍ َّ ِ طًفا ِمن ِعن ٍب ِفي ي ِدِه ،و َّإنه َلموثَق ِب ِ ِ ْك ُل ِق ْ خبي ٍبِ َّ ،
ولَّ :إن ُه َل ِرْز ٌقالحديد ،وما ِب َمك َة من ثَ َم َرة ،وكا َن ْت تَُق ُ ُ ُ ٌ َ َ َ وج ْدتُ ُه َي ْو ًما َيأ ُ
وَّللا َلَق ْد َ ُ َْ
ُصِّلي َرْك َعتَْي ِنَ ،فتَ َرُكوهُ َف َرَك َع َرْك َعتَ ْي ِن، ِ ِِ ِ ِ ِ ِ
قال َل ُه ْم ُخ َب ْي ٌبَ :د ُعوني أ َ الح َرِم ل َيْق ُتُلوهُ في الح ّلَ ، َّللاُ ُخ َب ْيًباَ ،فَل ّما َخ َر ُجوا ِبه م َن َ َرَزَق ُه َّ
ِ الله َّم ِ َّ أن تَ ْح ِس ُبوا َّ َفقالِ َّ :
أح ًدا.... ، نه ْم َ أحص ِه ْم َع َد ًدا ،وا ْقُتْل ُه ْم َب َد ًدا ،والَ تُْب ِق م ُ قالْ ُ : أن ما ِبي َج َزعٌ َل ِزْد ُت ،ثُ َّم َ وَّللا َل ْوالَ ْ َ
حاب ُه
أص َأخ َب َر ْ
الصالَ َة ،و ْص ْب ًار َّ ِ ِ ِ ِ
وكان ُخ َب ْي ٌب ُه َو َس َّن ل ُك ّل ُم ْسل ٍم ُقت َل َ
ِِ
الحارث َفَقَتَل ُهَ ، قام إَل ْي ِه ُأبو ِس ْرَو َع َة ُع ْق َب ُة ْب ُن
ثُ َّم َ
ٍ ِ ِ ِ ِ ٍ ِ ناس ِمن ُق َرْي ٍ ِ
وكان
فَ ، أن ُي ْؤتَ ْوا ِب َش ْيء م ُ
نه ُي ْع َر ُ ش إلى عاص ِم ْب ِن ثاِبت -ح َ
ين ُح ّدثُوا أَّن ُه ُقت َل ْ - وب َع َث ٌ َي ْوَم أُص ُيبوا َخ َب َرُه ْمَ ،
الدب ِرَ ،فحم ْته ِمن رسلِ ِهمَ ،فَلم يْق ِدروا أن يْق َ ِ َُّّ ِ ِ مائ ِهمَ ،فبع َث َّ ِ ِ ِ َقَتل رج ًال ع ِظيما ِمن ع َ ِ
نه
ط ُعوا م ُ ُُ ْ ْ َ ُ ْ َ ََ ُ َّللاُ لعاص ٍم م ْث َل الظلة م َن َّ ْ ظ ْ ََ ُ َ َُ َ ً
َش ْيًئا.اهـ.
وحمى هللا عاصما من أعدائه فلم ينتهك أحد منهم ُح ْرَمتَه ،ولم يقدروا على مس شيء منه حيث أرادت هذيل قطع
ُح ٍد ِ
الع َبدرِي َ
وكان عاصم َقَتَل ُهما َي ْوَم أ ُ طْل َح َة َ وج ٍ
الس ْابَن ْي َ ِ ِ
رأسه بعد قتله ليبيعوه المرأة يقال لهاُ :سال َفةُ ِب ْن ُت َس ْعد؛ ُمساف ٍع ُ
الد ْب ُر حتىالخ ْم َر ِفي َق ْحِف ِه ،فأرسل هللا على جسده مثل الظلة من َّ ْس ِ
عاص ٍم َلتَ ْش َرَب َّن َ وكان ْت َن َذ َر ْت َلِئ ْن َق َد َر ْت َعلى َأر ِ
َ
حابةُ ،كلما اقتربوا منه طارت في وجوههم تلدغهم ،فلما حالت بينه وبينهم الدبرة قالوا :دعوه ُيمسي ،فتذهب
كالس َ
صارت َّ
عنه فنأخذه ،فبعث هللا الوادي سيالً فاحتمل عاصما فذهب به ،وكان عمر يقول لما بلغه خبره « :يحفظ هللا العبد المؤمن
بعد وفاته كما حفظه في حياته » ،وذلك ألن عاصما رضي هللا عنه قد أعطى هللا عز وجل عهدا أن ال يمس مشركا وال
يمسه مشرك.
الزبير
النبي ﷺ أرسل المقداد و ّ الضحاك -أنقال الحافظ ابن حجر :وذكر أبو يوسف في كتاب «اللطائف» عن ّ
ّ
الزبير على فرسه ،وهو
في إنزال خبيب عن خشبته ،فوصال إلى التنعيم ،فوجدا حوله أربعين رجال نشاوى ،فأنزاله ،فحمله ّ
رطب لم يتغير منه شيء فنذر بهم المشركون ،فلما لحقوهم قذفه الزبير فابتلعته األرض فسمي بليع األرض.
.1أن لألسير أن يمتنع من قبول األمان ،وال ُي َم ِّكن من نفسه العدو ولو أدى ذلك إلى قتله حيا (حتى ال يجري عليه
حكم كافر ،وهذا إذا أراد األخذ بالعزيمة ،فإن رغب في الرخصة فله أن يقع في األسر).
.٢أن المؤمن يفي للمشركين بالعهد ،ويتورع عن قتل أوالدهم ،والدعاء عليهم بالتعميم ،وأنهم مع كفرهم :كانوا
يعظمون الحرم واألشهر الحرم.
.٣ما كان عليه ُحبيب من قوة اليقين والصالبة في الدين ،والثبات على المعتقد ،حيث صلى ركعتين قبل القتل.
.٤أن هللا عز وجل استجاب دعاء عاصم وأصحابه ،وأكرمهم في حياتهم وبعد استشهادهم ،وأظهر ذلك للعالمين.
وقعت غزوة األحزاب وهي الخندق سنة خمس من الهجرة .وذلك أن المسلمين بعد أن استقروا بالمدينة ،وأصبحت
لهم فيها دولة ،أيقن عدوهم أنهم لن يستطيعوا القضاء على اإلسالم إذا حاربته كل طائفة على حدة ،فأجمعوا أمرهم واتحدوا
على الرغم من اختالفهم ،فقرروا رمي المسلمين عن قوس واحدة؛ ليستأصلوا شأفتهم ويقضوا على اإلسالم قضاء محققا،
وقد برز ذلك جليا في عدد الجيش الذي جاءوا به من قريش وغطفان وغيرهما؛ حيث كان عدده نحو عشرة آالف مقاتل،
فكيف إذا انضم إلى ذلك :اليهود المتواطئون مع جحافل الشرك ،ثم المنافقون المطلعون على أسرار المسلمين في المدينة
وما حولها !!!
فأخذ النبي ﷺ وأصحابه يفكرون في دفع هذا العدوان ،ويعملون على درء ذلك الخطر الذي يتهددهم من الداخل
جاء ْت ُك ْم والخارج على السواء .وصدق هللا إذ يصور لنا بعض هذه المشاهد﴿ :يا أيُّها َّال ِذين آمنوا ا ْذ ُكروا ِنعم َة َّ ِ
َّللا َعَل ْي ُك ْم إ ْذ َ ُ َْ َ َُ
َّللا ِبما تَعمُل َ ِ
ض ُه ْم وِد َ
يارُه ْم ون َبص ًيرا﴾ ( )٩إلى قوله تعالى﴿ :و ْأوَرثَ ُك ْم ْأر َ َْ وكان َّ ُ
ودا َل ْم تَ َرْوها َ
وج ُن ً ود َف ْأرَسْلنا َعَل ْي ِه ْم ِر ً
يحا ُ ُج ُن ٌ
َّللاُ َعلى ُك ِّل َشي ٍء َقِد ًيرا﴾
وكان َّ
ط ُؤها َ ضا َل ْم تَ َ أمواَل ُه ْم وأ ْر ً
وْ
ْ
ون ِفيصار َي ْحِف ُر َ
األن ُ ون و ْالمها ِج ُر َ َّللاِ ﷺ إلى َ ِ
الخ ْن َدقَ ،فإذا ُ ول َّوعن أنس بن مالك رضي هللا عنه قالَ :خ َرَج َرُس ُ
ش ِ النص ِب والجوِع ،قالَّ " : ِِ ِ يد يعمُل َ ِ ِ داة ِ ٍَغ ٍ
اآلخ َرْه، ش َع ْي ُ الع ْي َ
إن َالل ُه َّم َّ َ ُ ون َذل َك َل ُه ْمَ ،فَل ّما َرأى ما به ْم م َن َّ َ بارَدةَ ،فَل ْم َي ُك ْن َل ُه ْم َعب ٌ َ ْ َ
هاجرهَ ،فقالُوا م ِجيِبين َله :نحن َّال ِذين بايعوا مح َّمدا … على ال ِج ِ
هاد ما َبِقينا َأبدا. فاغِف ْر لِ ْأل ْن ِ
َ َ َُ ُ َ ُ َ ُ َُْ الم ِ َ ْ
صار و ُ ْ
وفي أثناء تلك الشدائد يحدث رسول هللا ﷺ أصحابه بمستقبل هذه األمة وظهور ذلك الدين كما روي ذلك في
البراء بن عازب.
وهذه لمحة من الشدائد تعرض لها المسلمون في هذه الغزوة فيها تأديب وتعليم للخلف بعدم االجتراء بحضور تلك
َّللاِ مان :يا أبا عب ِد َّ ِ
الي ِ المشاهد ،ع ْن مح َّم ِد ب ِن َكع ٍب الُقر ِظ ِي قال :قال َفتًى ِمّنا ِمن أه ِل ُ ِ ِ
ول َّ
َّللاَ ،رْأيتُ ْم َرُس َ َْ الكوَفة ل ُح َذ ْيَف َة ْب ِن َ ْ َ ّ َ َ َ َُ ْ ْ
وَّللاِ َلَقد ُكنا نجهد ،قالِ َّ : ِ ِ
وَّللا َل ْو ْأد َرْكناهُ ما تََرْكناهُ قالَ ُ َ ْ َ ّ ْ َّ : ون؟ َ ص َن ُع َ
ف ُك ْنتُ ْم تَ ْ
قالَ :ف َك ْي َ
قالَ :ن َع ْم يا ْاب َن أخيَ ،
وصح ْبتُ ُموهُ؟ َ
ﷺ َ
ول َّ ِ وَّللاِ َلَق ْد رْأيتُنا مع رس ِ
قال ُح َذ ْيَفةُ :يا ْاب َن أ ِخيَّ ، ض ،وَلجعْلناه على ِ ِ
َّللا ﷺ ِب َ
الخ ْن َد ِق، ََ َُ َ قالَ :ف َأعناقناَ ، ْ ََ ُ َ األر ِ
َي ْمشي َعلى ْ
َّللاِ ﷺ َّأن ُه ول َّ
ط َل ُه َرُس ُ ظ َر َلنا ما َف َع َل الَق ْوُم َي ْش ُر ُوم َفَي ْن ُ
«من َر ُج ٌل َيُق ُ
قالَ :
وصّلى رسول َّ ِ ِ َّ ِ
َّللا ﷺ م َن اللْيل َه ِويًّا ،ثُ َّم التََف َت إَل ْينا َف َ َ َُ ُ
ِ َّ ِ َّللا الجَّن َة»َ ،فما قام رجل ،ثُ َّم صّلى رسول َّ ِ ِ
ظ َر
وم َفَي ْن ُ
«من َر ُج ٌل َيُق ُقالَ : َّللا ﷺ َه ِويًّا م َن اللْيل ،ثُ َّم التََف َت إَل ْينا َف َ َ َُ ُ َ ٌَُ َي ْرج ُع ْأد َخَل ُه َّ ُ َ
الجَّن ِة»، َّللا أن ي ُك َ ِ ِ
ون َرِفيقي في َ أل َّ َ ْ َ
أس ُ
َّج َع َةْ ،
ط َله رسول َّ ِ
َّللا ﷺ الر ْ ِ
َلنا ما َف َع َل الَق ْوُم ،ثُ َّم َي ْرج ُع َي ْش ِر ُ ُ َ ُ ُ