Professional Documents
Culture Documents
مقدمة
الشيخ محب الدين الخطيب
احلمد هلل رب العاملني ،وصلى اهلل على نبينا حممد وعلى آله
كثريا.
تسليما ً
وصحبه ومن سار على سنته من أئمة اهلدى ،وسلم ً
وبعد فإين اقتنيت – 1وأنا مبكة سنة 1337هـ -نسخة من
مسند إمامنا حممد بن إدريس الشافعي املطليب – رمحه اهلل ورضي
اهلل عنه ،-مطبوعة باملطبع اخلليلي يف اهلند ،وبأوهلا رحلة اإلمام يف
طلب العلم رواها عنه تلميذه الربيع بن سليمان اجليزي ،وهي –
كثريا من
من اخلطأ والتحريف – حبيث ال يكاد القارئ يفهم ً
مواضعها ،وقد اعتذر عن ذلك حممد عبد العزيز البانكرموي1
التالكرامي فقال:
«اعلموا يا أيها اخلالن ،من أويل النهى واأليقان ،أن يف هذه
الرسالة املسماة برحلة الشافعي كم من مقام عجزت عن درك
مطالبها عند كتابتها وصحتها من كثرة أغالطها فرتكتها على حاهلا
كما وجدهتا من املنقول 1عنه .فاصفحوا عين وال تنسوين عن
دعائكم باخلري» اهـ.
ومنذ اقتنيت هذه الرحلة وأنا يف شوق شديد إىل نشرها يف
أيدي القراء صحيحة ساملة من التشويه ،وكنت أريد – لذلك –
أن أقف على نسخ منها خمطوطة أحل هبا طالسم تلك األخطاء.
وملا يئست من العثور على بغييت رجعت إىل نسخة حممد عبد العزيز
رد الكلمات احملرفة
البانكرموي 1فأعدت النظر فيها واجتهدت يف َّ
6 رحلة اإلمام الشافعي
***
رحلة اإلمام الشافعي 7
فقال يل جميبًا :عدل اهلل شوقك ،أال ترى إىل البعري األورق؟
قيادا ،وأسهلها مشيًا ،وحنن
فقلت :أجل .قال :هو أحسن مجالنا ً
مثانية نفر ،ذلك مما حسن الصحبة حىت تصل إىل مالك.
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :-فقلت :مىت ظعنكم؟
فقالوا :يف وقتنا هذا.
فما كان غري بعيد حىت قطروا بعضها إىل بعض وأركبوين البعري
الذي كانوا وعدوين بركوبه .قال الشافعي – رمحه اهلل عليه :-
فعلوت على ظهره وأخذ القوم يف السري وأخذت أنا يف الدرس
فختمت من مكة إىل املدينة 1ست عشرة ختمة :ختمة بالليل وختمة
ودخلت املدينة 1يف اليوم 1الثامن بعد صالة العصر ،فأتيت1
ُ بالنهار.
فسلمت على رسول اهلل ،
ُ مسجد رسول اهلل ودنوت من القرب
متشحا بأخرى
ً مؤتزرا بربدة
فرأيت مالك بن أنس ً ُ ولذت بقربه،
ُ
وهو يقول :حدثين نافع عن ابن عمر عن صاحب هذا القرب –
ويضرب بيده على قرب رسول اهلل - قال الشافعي – رضي اهلل
عنه :-فلما رأيت ذلك هبته اهليبة 1العظيمة ،وجلست حيث انتهى
مالك
عودا من األرض فجعلت كلما أملى ٌ يب اجمللس ،فأخذت ً
حديثًا كتبته بريقي على يدي ومالك ينظر إيل من حيث ال أعلم –
حىت انقضى اجمللس ،وجلس مالك ينتظر العشاء املغرب ومل ير أين
انصرفت فيمن انصرف فأشار إيل بيده ،فدنوت منه فنظر إيل ساعة
مث قال يل:
مي أنت؟
أحَر ٌّ
َ -
10 رحلة اإلمام الشافعي
قلت :وقرشي.
فقال :كملت صفاتك ،فلم رأيتك سيئ األدب.
فقلت :وما الذي رأيت من سوء أديب؟
فقال :رأيتك وأنا أملي األلفاظ لرسول اهلل وأنت تلعب
بريقك على يدك.
فقلت :عدم الورق ،وكنت أكتب ما تقول.
فجذب مالك يدي فقال :ما يل ال أرى عليها شيًئا؟
وعيت مجيع ما
ُ1 فقلت :إن الريق ال يثبت على اليد ،ولكن قد
حدثت به منذ وقت جلست إىل حني قطعت.
واحدا.
فعجب مالك من ذلك وقال :أع ْد علي ولو حديثًا ً
قال الشافعي – رمحه اهلل – فقلت :حدثنا مالك عن نافع عن
ابن عمر – وأشرت بيدي إىل القرب كإشارته – عن النيب حىت
حد ث هبا من وقت جلس إىل أعدت عليه مخسة وعشرين حديثًا َّ
وقت قطع اجمللس .وسقط القرص وصلى مالك املغرب فأقبل على
عبده فقال:
-خذ بيد سيدك إليك.
فقمت
ُ وسألين النهوض 1معه .قال الشافعي – رضي اهلل عنه :-
أتيت الدار أدخلين الغالم 1إىل
غري ممتنع إىل ما دعا من كرامة .فلما ُ
خمدع وقال يل:
رحلة اإلمام الشافعي 11
-القبلة من البيت هكذا ،وهذا إناء فيه ماء ،وهذا اخلالء من
الدار (وأشار إليه).
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :-فما لبث مالك غري بعيد حىت
حامل طب ًقا فوضعه من يده .وسلَّم َّ
علي مالك مث قال أقبل والغالم ٌ
للعبد:
-اغسل علينا.
علي أوالً ،فصاح عليه
فوثب الغالم إىل اإلناء وأراد أن يغسل َّ
مالك وقال:
-يف أول الطعام لرب البيت 1،ويف آخر الطعام للضيف.
فاستحسنت ذلك من مالك،
ُ قال الشافعي – رضي اهلل عنه :-
وسألته 1عن ذلك فقال:
-إنه يدعو الناس إىل طعامه فحكمهُ أن يبتدئ بالغسل ،ويف
آخر الطعام ينتظر من يدخل ليأكل معه.
قال الشافعي – رمحه اهلل :-وكشف مالك الطبق وكان فيه
صحفتان يف إحدامها لنب ويف األخرى متر ،فسمى ومسيت.
قال الشافعي :فأتيت 1أنا ومالك على مجيع الطعام ،وعلم مالك
أنا مل نأخذ من الطعام الكفاية 1فقال يل:
-يا أبا عبد اهلل هذا جه ٌد من ُم ِق ًّل ،إين فقريٌ ُمعدم.
فقلت :ال عذر على من أحسن ،إمنا العذر على من أساء.
12 رحلة اإلمام الشافعي
قال الشافعي :فأقبل مالك يسألين عن أهل مكة حىت دنا العشاء
اآلخرة مث قال:
-حكم املسافر أن حيمل نفسه باالضطجاع.
قال الشافعي :فنمت ليليت .فلما كان يف الثلث األخري من الليل
عند انفجار الصبح قرع مالك علي الباب ،فأقرعت فقال يل:
-الصالة يرمحك اهلل!
فرأيته حامالً إناء فيه ماء ليُسبغ علي ذلك ،فقال يل:
-ال يرعاك ما رأيت مين ،فخدمة الضيف فرض.
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :-فتجهزت للصالة ،وصليت
الفجر مع مالك بن أنس يف مسجد رسول اهلل ،والناس ال يعرف
بعضا من الغَلَس ،وجلس كل واحد منا يف مصاله 1نسبح بعضهم ً
اهلل إىل أن طلعت الشمس على رؤوس اجلبال كالعمائم على رؤوس
الرجال ،فصلى كل امرئ منا ما قسم له مث جلس يف جملسه باألمس
وناولين املوطأ أمليه وأقرأه على الناس وهم يكتبون .قال الشافعي –
رضي اهلل عنه :-فأتيت 1على حفظه من أوله إىل آخره من القراءة
وأقمت ضيف مالك مثانية أشهر ،فما علم أح ٌد من األنس الذي
كان بيننا أينا الضيف .مث قدم على مالك املصريون بعد قضاء
وتسمعوا املوطأ ،قال الشافعي – رضي اهلل
حجهم زائرين لنبيهم ََّّ
عنه :-فأمليته عليهم :حفظًا ،منهم عبد اهلل بن عبد احلكم
وأشهب 1وابن القاسم – قال الربيع :وأحسب أ،ه ذكر الليث بن
سعد – مث قدم بعد ذلك أهل العراق زائرين لنبيهم ،قال الشافعي
رحلة اإلمام الشافعي 13
– رضي اهلل عنه :-فرأيت بني القرب واملنرب فىت مجيل الوجه نظيف
خريا ،فسألته عن امسه فأخربين،
الثوب حسن الصالة ،فتومست فيه ً
سألته عن بلده فقال :يف العراق.
أي العراق؟
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :-فقلتُّ :
قال :الكوفة1.
فقلتِ :م َن العامل فيها واملتكلم يف نص كتاب اهلل واملفيت بأخبار
رسول اهلل ؟
فقال :حممد بن احلسن وأبو يوسف صاحبا أيب حنيفة – رضي
اهلل عنه :-
فقال الشافعي – رضي اهلل عنه – فقلت :ومىت عزمتم
تظعنون؟
فقال :يف غداة ٍ
غد عند انفجار الفجر.
فعدت إىل مالك فقلت له :قد خرجت من مكة يف طلب العلم
بغري استئذان العجوز فأعود إليها أو أرحل؟ ويف طلب العلم فائدة
يرجع منها إىل عائدة.
رضا مبا
فقال :أمل تعلم بأن املالئكة تضع أجنحتها لطالب العلم ً
يصنع؟
قال الشافعي رضي اهلل عنه :فلما أزمعت السفر زودين مالك
بصاع من أقط وصاع من شعري وصاع من متر وسقاء فيه ماء؛ فلما
كان يف السحر وانفجر الفجر محل بعض اإلداوة وسار معي إىل
14 رحلة اإلمام الشافعي
حممدا بن احلسن وأبا يوسف بباب املسجد ،فاستخربمها وال علم يل
ً
هبما ،فقال:
-هل علمتما يف صاليت من عيب؟
فقاال :اللهم ال.
قال :ففي مسجدنا من قد عاب على صاليت.
فقاال :اذهب إليه فقل له :مب تدخل يف الصالة؟
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :فأتاين فقال يل:
-يا من عاب علي صاليت ،مب تَدخل يف الصالة؟
وسنة.
فقلت :بفرضني ُ
فعاد إليهما وأعلمهما باجلواب ،فعلما أنه جواب من قد نظر يف
العلم ،فقاال له:
-اذهب فقل :ما الفرضان وما السنة؟
فقلت :أما الفرضان؛ األول النية 1والثاين تكبرية 1اإلحرام ،والسنة
رفع اليدين.
إيل
فعاد إليهما وأعلمهما بذلك ،فدخال املسجد؛ فلما نظرا َّ
أظنهما ازدرياين فجلسا ناحية وقاال له:
-اذهب وقل له :أجب الشيخني.
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :فلما جاءين علمت أين مسؤول
عن شيء من العلم ،فقلت:
16 رحلة اإلمام الشافعي
-من ُحكم العلم أن يؤتى إليه وال يأيت ،وما علمت يل إليهما
من حاجة ،فإن كان هلما إيل حاجة فليأتياين.
إيل؛ فلما
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :فقاما من جملسهما َّ
علي قمت إليهما وأجلست كل واحد منهما يف جملسهسلَّما َّ
وأظهرت البشاشة هلما وجلست بني أيديهما؛ فأقبل علي حممد بن
احلسن وقال يل:
أحرمي أنت؟ قلت :نعم.
ٌّ -
عريب أم موىل؟ قلت :عريب.
قالٌ :
فقال :من أي العرب؟ فقلت :من َولَد املطلب.
قال :من ولد من؟ قلت :من ولد شافع.
قال :رأيت مال ًكا؟ قلت :من عنده أتيت1.
قال يل :نظرت يف املوطأ؟ فقلت :أتيت 1على حفظه.
فعظم عليه ذلك ،ودعا بدواة وبياض ،وكتب مسألة يف
الطهارة ومسألة يف الصالة 1ومسألة يف الصالة 1ومسألة يف الزكاة
ومسألة يف البيوع ومسألة يف الفرائض ومسألة يف الرهن واحلج
واإليالء 1،ومن كل باب يف الفقه مسألة ،وجعل بني كل مسألتني
بياضا ودفع إيل الدرج وقال يل:
ً
-أجب عن هذه املسائل من املوطأ1.
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :فأجبت بنص كتاب اهلل ومن
سنة الرسول وإمجاع املسلمني حىت أجبت على املسائل كلها ،مث
رحلة اإلمام الشافعي 17
يف ليليت أحتفظه ،فما أصبحت إال وقد حفظته ،وحممد بن احلسن ال
يعلم بشيء من ذلك ،وكان املشهور بالكوفة بالفتوى واجمليب يف
النوازل؛ فبينما أنا ذات يوم قاعد عن ميينه إذ ُسئل عن مسألة
تقليدا وقال:
أجاب عنها ً
هكذا قال أبو حنيفة – رضي اهلل عنه« :ووهم عليه يف
اجلواب».
فقلت له :اجلواب غري هذا؛ فلوال أن قلت فيه بالتقليد
ألحسنت أدب اجملالسة؛ ولكنك ومهت ،واجلواب من قول الرجل
يف هذه كذا وكذا ،وحتتها املسألة 1الفالنية 1وفوقها املسألة 1الفالنية 1يف
الكتاب الفالين.
فأمر حممد بن احلسن بالكتاب فأحضر ،فتصفحه ونظر فيه
فأصاب القول ما قلت ،فرجع عن جوابه إىل ما قلت ،ومل خيرج
إيل كتابًا بعدها ،وقال :لقد أمعنت 1النظر.
َّ
علي منه
قلت :أتيت على حفظ الكتاب وما علمت أنه سقط َّ
حرف وال سنة وال ألف.
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :فاستأذنته يف الرحيل ،فقال :ما
كنت آلذن لضيف يرحل عين وال ...له مشاطرة نعميت (.)1
فقلت :ما هلذا قصدت ،وال له أردت ،وال رغبة يل إال السفر.
قال :فأمر غالمه أن يأيت بكل ما يف خزائنه من بيضاء ومحراء
1
(?) يف األصل تصحيف مل نتبني صوابه.
رحلة اإلمام الشافعي 19
وأقبلت
ُ ومن الورق فدفع إيل ما كان فيها؛ وهو ثالثة آالف درهم
أطوف العراق وأرض فارس وبالد األعاجم وألقى الرجال حىت
كنت ابن إحدى وعشرين سنة ،ودخلت العراق يف أول خالفة
الرشيد؛ فعند دخويل بغداد وتقدم رجلي للمشي انطلق يف أثري
غالم فالطفين وقال :ما امسك؟
قلت :حممد.
فقال :ابن من؟
فقلت :ابن إدريس.
قالَ :م ْن تكون؟
قلت :شافعي.
ُ
قال يل :مطَّ ٌّ
ليب؟ قلت :أجل.
فكتب ذلك يف ألواح كانت يف كمه وخلَّى سبيلي.
فدخلت إىل بعض املساجد أفكر يف عاقبة ما فعل ،حىت إذا
ذهب من الليل النصف ُكبس املسجد ،فأرعب من كان فيه،
إيل ،فقلت هلم :ال بأس
وأقبلوا يتأملون 1وجه رجل رجل حىت أتوا َّ
عليكم ،هذه احلاجة والغاية 1املطلوبة.
مث أقبلوا إيل وقالوا :أجب أمري املؤمنني.
قال الشافعي – رضي اهلل عنه :فقمت غري ممتنع ،فلما أبصرت
أمري املؤمنني سلَّ ُ
مت عليه السالم السنَّة ،فاستحسن األلفاظ والسياق
علي اجلواب ،مث قال يل:
ورد َّ
وميَّز ذهنه بني اخلطأ والصواب َّ
20 رحلة اإلمام الشافعي
قال له :إىل جانيب غالم شاب يقول يل :قل اجلواب كذا وكذا.
فكنت أقول ما يقول.
فالتفت مالك والتفت 1الناس بأعناقهم اللتفات مالك ،قال:
فكسرت احللقة عليه .فقال للجاهل:
وم ْر صاحبك بالدخول علينا.
-قمُ ،
فدخلت عليه ،فإذا أنا من مالك باملوضع الذي كان فيه اجلاهل
جالسا بني يديه ،فتأملين ساعة فقال يل:
ً
-أنت الشافعي؟ فقلت :نعم.
فضمين إىل صدره ونزل عن كرسيه وقال:
-اقعد فأمِتَّ هذا الباب الذي حنن فيه حىت أنصرف إىل املنزل
وأثوب إليك.
قال الشافعي :فألقيت 1أربع مائة مسألة يف خراج العلم ،فما
أجابين أحد جبواب ،فاحتجت أن آيت بأربع مائة جواب وقلت:
األول كذا وكذا ،والثاين كذا وكذا ،وسقط القرص ( )1وصلينا
العشاء املغرب ،فضرب مالك بيده إيل؛ فلما وصلت املنزل رأيت
بناءً غري البناء األول فبكيت ،فقال يل:
مم بكاؤك؟ كأنك خفت يا أبا عبد اهلل – مما ترى – أين َّ -
قد بعت اآلخرة بالدنيا.
قلت :هو – واهلل – ذاك.
1
(?) أي غابت الشمس.
رحلة اإلمام الشافعي 27