You are on page 1of 9

‫مقدمة‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬كما ينبغي لجالل وجهه وعظيم سلطانه‪ ،‬والصالة والسالم على سيدنا‬
‫محمد الرسول األمين‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪ ،‬ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فإن حفظ النفس البشرية من الكليات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها‪ ،‬والمتفق‬
‫عليها بين الشرائع السماوية()‪ ،‬والمكلف مأمور بحفظ نفسه‪ ،‬مسؤول عنها‪ ،‬محاسب على‬
‫التقصير فيها‪ ،‬قال هللا تعالى‪﴿ :‬ثم لتسألُن يومئذ عن النعيم﴾()‪ ،‬قال المفسرون‪ <:‬تسألون عن‬
‫العافية وصحة البدن()‪ ،‬وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ال تزول قدما عبد‪ ،‬حتى يسأل‬
‫عن عمره فيما أفناه‪ ،‬وعن علمه فيما فعل‪ ،‬وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه‪ ،‬وعن جسمه‬
‫أج ِّل طرق حفظ النفس وقايتها عما يضرها من األمراض‪ ،‬واألسقام‪،‬‬ ‫فيما أباله»()‪ ،‬ومن َ‬
‫واآلفات‪ ،‬سواء كان ذلك في الحال أو المآل‪.‬‬
‫إن الوقاية من الوباء يحقق لإلنسان مصلحة كبرى حيث يعيش سليما من األمراض والمشاغل‬
‫والمشكالت‪ ،‬ويعد األصل التشريعي المعروف بـ‪« :‬سد الذرائع»‪ ،‬قمة المنهج الوقائي في‬
‫اإلسالم الذي يمنع كل األفعال المباحة‪ ،‬إذا كان فعلها سيؤدي إلى مضرة أو مفسدة‪ ،‬قال ابن‬
‫عبد السالم‪« :‬والطب كالشرع‪ ،‬وضع لجلب مصالح السالمة والعافية‪ ،‬ولدرء مفاسد المعاطب‬
‫واألسقام»()‪.‬‬
‫عناصر البحث‪:‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مفهوم الوباء وعالقته بالطاعون‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬األحاديث في موضوع الوباء والطاعون وتوجيهات الحنابلة لها‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬حكم الدخول والخروج لبلد الوباء‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الحجر الصحي في زمن الوباء‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬جملة من األحكام الفقهية المتعلقة بالوباء‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مفهوم الوباء وعالقته بالطاعون‬
‫أوال‪ :‬الوباء لغة‪:‬‬
‫قال الجوهري‪« :‬الوبأ‪ ،‬يمد ويقصر‪ <:‬مرض عام‪ ،‬وجمع المقصور أوباء وجمع الممدود‬
‫أوبئة»()‪ ،‬وجاء في القاموس‪« :‬الوبأ‪ :‬الطاعون‪ ،‬أو كل مرض عام‪ ،‬جمع‪ :‬أوباء‪ ،‬ويمد‪ ،‬جمع‪:‬‬
‫أوبية»()‪ ،‬وقال الفيومي‪« <:‬الوباء بالهمز مرض عام يمد ويقصر‪ ،‬ويجمع الممدود على أوبئة‪،‬‬
‫مثل‪ :‬متاع وأمتعة»()‪<.‬‬
‫فالوباء في المعاجم اللغوية يدور حول معنى‪ :‬كل مرض عام‪ ،‬أو الطاعون‪ ،‬وهذا المعنى‬
‫اللغوي قريب جدا من المعنى االصطالحي الذي سيأتي بيانه‪ ،‬جاء في معجم اللغة العربية‪<:‬‬
‫مرض شديد العدوى‪ ،‬سريع االنتشار من مكان إلى مكان‪ ،‬يصيب اإلنسان‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫«الوباء‪ :‬كل‬
‫والحيوان‪ ،‬والنبات‪ ،‬وعادة ما يكون قاتال كالطاعون»()‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الوباء اصطالحا‪:‬‬
‫قال ابن النفيس‪« :‬الوباء‪ :‬ينشأ عن فساد يعرض لجوهر الهواء‪ ،‬بأسباب خبيثة سماوية‪ ،‬أو‬
‫أرضية»()‪ <.‬وقال ابن سينا‪« :‬الوباء فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده‪ ،‬ولذلك ال‬
‫يمكن حياة شيء من الحيوان بدون استنشاقه»()‪.‬‬
‫وعرفته الموسوعة الطبية المعاصرة‪« :‬هو‪ :‬كل مرض يصيب عددا كبيرا من الناس في منطقة‬
‫واحدة في مدة قصيرة من الزمن‪ ،‬فإن أصاب المرض عددا عظيما من الناس في منطقة‬
‫جغرافية شاسعة سمي وباء عالميا»()‪ .‬وهذا التعريف أكثر دقة وشمولية من التعريفات‬
‫السابقة؛ ألنه عمم مفهوم الوباء‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬عالقة الوباء بالطاعون‪:‬‬
‫تقدم تعريف الوباء لغة واصطالحا‪ ،‬أما الطاعون فقد عرف في اللغة بـ‪« :‬الموت‪ ،‬والجمع‪:‬‬
‫الطواعين‪ ،‬وطعن اإلنسان بالبناء للمفعول‪ ،‬أصابه الطاعون فهو مطعون»()‪ ،‬وجاء في‬
‫اللسان‪« :‬الطاعون لغة‪ :‬المرض العام‪ ،‬والوباء الذي يفسد له الهواء‪ ،‬فتفسد له األمزجة‬
‫واألبدان»()‪.‬‬
‫وفي االصطالح قال النووي‪« :‬الطاعون قروح تخرج في الجسد فتكون في اآلباط‪ ،‬أو‬
‫المرافق‪ ،‬أو األيدي‪ ،‬أو األصابع‪ ،‬وسائر البدن‪ ،‬ويكون معه ورم وألم شديد‪ ،‬وتخرج تلك‬
‫القروح مع لهيب ويسود ما حواليه‪ ،‬أو يخضر‪ ،‬أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة‪ ،‬ويحصل معه‬
‫خفقان القلب والقيء»()‪ <.‬قال ابن حجر‪« :‬تسمية الطاعون وباء ال يلزم منه أنَّ كل وباء‬
‫طاعون‪ ،‬بل يدل على عكسه‪ ،‬وهو أن كل طاعون وباء‪ ،‬لكن لما كان الوباء ينشأ عنه كثرة‬
‫الموت‪ ،‬وكان الطاعون أيضا كذلك‪ ،‬أطلق عليه اسمه»()‪.‬‬
‫والناظر في تعريف الوباء والطاعون يالحظ أن هناك اتجاهان في تعريفهما‪ :‬أحدهما‪ :‬يرى أن‬
‫الطاعون هو الوباء‪ ،‬وأنهما متطابقان‪ ،‬وهو ظاهر قول ابن سينا‪« :‬الطواعين< تكثر عند الوباء‪،‬‬
‫وفي البالد الوبية»()‪<.‬‬
‫والثاني‪ :‬أنهما متغايران‪ ،‬وبينهما عموم وخصوص‪ ،‬وهو الذي عليه المحققون من الفقهاء‪ ،‬قال‬
‫النووي‪« :‬وأما الوباء‪ :‬فقال الخليل وغيره‪ :‬هو الطاعون‪ .‬وقال آخرون‪ :‬هو كل مرض عام‪،‬‬
‫والصحيح الذي قاله المحققون‪ :‬أنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من األرض‪ ،‬دون سائر‬
‫الجهات‪ ،‬ويكون مخالفا للمعتاد من أمراض في الكثرة‪ ،‬وغيرها‪ ،‬ويكون مرضهم نوعا واحدا‪،‬‬
‫بخالف سائر األوقات؛ فإن أمراضهم فيها مختلفة‪ ،‬قالوا‪ :‬وكل طاعون وباء‪ ،‬وليس كل وباء‬
‫طاعونا»()‪.‬‬
‫إذن كل طاعون وباء‪ ،‬وليس كل وباء طاعونا‪ ،‬وكذلك األمراض العامة أعم من الطاعون‪ ،‬فإنه‬
‫واحد منها‪ ،‬وإليه ذهب عياض‪ ،‬وابن حجر‪ ،‬والسيوطي‪ ،‬وغيرهم()‪ ،‬وهذا هو الموافق لما‬
‫توصل إليه األطباء من أن الوباء أعم من الطاعون‪ ،‬فالوباء هو المرض المعدي يهاجم عددا‬
‫من الناس في منطقة معينة وفي زمن واحد‪ ،‬فإذا انتشر في أكثر من منطقة أو مجتمع سمي‪:‬‬
‫جائحة‪ ،‬فيقال وباء الكوليرا ‪ ،‬وباء أنفلونزا الطيور‪ ،‬وهلم جرا()‪.‬‬
‫ومن جعل الوباء هو الطاعون يحمل قوله على أنه فرد من أفراد الوباء‪ ،‬ال أن كل وباء‬
‫طاعونا()‪ ،‬أو أنه أطلق ذلك من باب المجاز؛ الشتراكهما في عموم المرض أو كثرة الموت()‪،‬‬
‫أو أن الطاعون يطلق بمعنى عام على جميع األوبئة‪ ،‬وبمعنى خاص على الداء المعروف‪<.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬األحاديث في موضوع الوباء والطاعون وتوجيهات الحنابلة لها‪.‬‬
‫أوال‪ :‬األحاديث الواردة في الوباء والطاعون‪:‬‬
‫‪1‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬الطاعون رجز أو عذاب أرسل على بنى إسرائيل‪ ،‬أو‬
‫على من كان قبلكم‪ ،‬فإذا سمعتم به بأرض فال تقدموا عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم بها‪ ،‬فال‬
‫تخرجوا فرارا منه)()‪<.‬‬
‫‪2‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬الطاعون آية الرجز‪ ،‬ابتلى هللا عز وجل به ناسا من‬
‫عباده‪ ،‬فإذا سمعتم به فال تدخلوا عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم بها فال تفروا منه)()‪.‬‬
‫ص َفر‪ ،‬وفر من‬ ‫‪3‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ال عدوى وال طيرة وال ها َمة وال َ‬
‫المجذوم كما تفر من األسد)()‪<.‬‬
‫‪4‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ما أنزل هللا داء إال أنزل له شفاء)()‪.‬‬
‫‪5‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا‬
‫محتسبا‪ ،‬يعلم أنه ال يصيبه إال ما كتب هَّللا له‪ ،‬إال كان له مثل أجر شهيد)()‪.‬‬
‫‪6‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬فر من المجذوم‪ ،‬كفرارك من األسد»()‪.‬‬
‫‪7‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ال يورد الممرض على المصح»()‪<.‬‬
‫‪8‬ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬فليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا‬
‫محتسبا‪ ،‬يعلم أنه ال يصيبه إال ما قد كتبه هللا له إال كان له مثل أجر شهيد)()‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬توجيهات الحنابلة لهذه األحاديث‬
‫ذهب جمهور الحنابلة إلى إمكان الجمع بين هذه األحاديث‪ ،‬ولكنهم اختلفوا في طريقة الجمع‬
‫بينها على ضربين‪<:‬‬
‫أوال‪ :‬إثبات العدوى‪ ،‬والمراد بأن العدوى التي نفاها الرسول صلى هللا عليه وسلم إنما هي‬
‫العدوى التي يعتقدها أهل الجاهلية‪ ،‬فأبطل النبي صلى هللا عليه وسلم اعتقادهم ودعواهم بأكله‬
‫مع المجذوم‪ ،‬ليبيّن أنه لو فرض أنه حصل له عدوى‪ ،‬فإن هذه العدوى حصلت بإذن هللا‪،‬‬
‫وليست كما يعتقدونه‪ ،‬من أنها تعدي بنفسها()‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إن األحاديث الواردة لحالتين مختلفتين‪ ،‬فحديث‪( :‬ال عدوى) مخاطب به قوي اإليمان‬
‫واليقين‪ ،‬صحيح التوكل الذي يستطيع دفع اعتقاد تأثير العدوى عن نفسه‪ ،‬وعليه يحمل أكله‬
‫صلى هللا عليه وسلم مع المجذوم‪ ،‬وحديث ‪( :‬فر من المجذوم)‪ ،‬وسائر ما ورد من جنسه‬
‫مخاطب به ضعيف اإليمان والتوكل؛ لس ِّد باب اعتقاد العدوى عنه؛ ألنه ال يتمكن من دفع‬
‫اعتقاد تأثير العدوى عن نفسه‪ ،‬قال ابن مفلح‪« :‬وهذا اختيار بعض أصحابنا»()‪.‬‬
‫ولعل القول األول هو صحيح لما فيه من التوفيق بين األحاديث الواردة‪ ،‬قال النووي‪ :‬قال‬
‫جمهور العلماء‪ :‬يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان‪ ،‬وطريق الجمع أن حديث‪ :‬ال‬
‫عدوى المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها ال‬
‫بفعل هللا تعالى‪ ،‬وأما حديث‪ :‬ال يورد ممرض على مصح فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل‬
‫الضرر عنده في العادة بفعل هللا تعالى وقدره‪ ،‬فنفى في الحديث األول العدوى بطبعها‪ ،‬ولم‬
‫ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر هللا تعالى وفعله‪ ،‬وأرشد في الثاني إلى االحتراز مما‬
‫يحصل عنده الضرر بفعل هللا وإرادته وقدره»()‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬حكم الدخول والخروج لبلد الوباء‪.‬‬
‫إذا كان الوباء ينتقل عن طريق التنفس والمجاورة كالطاعون؛ فقد نهى النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم من الدخول إليه أو من كان في البلد المصاب من الخروج منه‪ ،‬وكذا كل وباء معد يشق‬
‫التحرز منه بمنع المريض من مجالسة الصحيح حتى ال ينتقل المرض إليه‪ ،‬واألدلة وإن كانت‬
‫مخصوصة بمرضي الجذام والطاعون إال أن غيرهما من األمراض التي تشبهها في طريقة‬
‫االنتقال واالنتشار‪ ،‬وصعوبة التحرز منها تأخذ الحكم نفسه من وجوب منع دخول بلد الوباء أو‬
‫الخروج منها()‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪« :‬يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة‪ ،‬وتسكين هيجان األخالط‪ ،‬وال يمكن‬
‫الخروج … والسفر إال بحركة شديدة وهي مضرة جدا‪ ،‬هذا كالم أفضل األطباء»()‪ ،‬وهذا هو‬
‫قول الجمهور لقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬الطاعون رجس أرسل على طائفة من‬
‫بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فال تقدموا عليه ‪ ،‬وإذا وقع بأرض‬
‫وأنتم بها فال تخرجوا فراراً منه)() ولما روي أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه خرج إلى‬
‫الشام‪ ،‬فلما بلغه أن الوباء قد وقع بالشام‪ ،‬فتوقفت عمر في دخول البلد‪ ،‬فأخبره عبدالرحمن بن‬
‫عوف رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ‪«:‬إذا سمعتم به بأرض فال تقدموا‬
‫عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم بها فال تخرجوا فرارا منه»()‪.‬‬
‫جاء في التراتيب اإلدارية‪« :‬في نهيه صلى هللا عليه وسلم عن الدخول لألرض التي حلها‬
‫الطاعون‪ ،‬فائدتان‪ :‬أحداهما‪ :‬لئال يستنشقوا الهواء الذي قد عفا وفسد فيمرضون‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬لئال يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك‪ ،‬فتتضاعف عليهم البلية‪ ،‬وقد روي عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪( :‬من القرف التلف)()‪ <.‬وفسر بأنه مالبسة الداء ومداناة‬
‫المرضى»()‪<.‬‬
‫وقد ذكر الحنابلة مجموعة من األسباب للنهي عن الدخول إلى البلد المصاب بالطاعون أو‬
‫فقال‪﴿:‬والَ ُت ْلقُو ْا‬
‫َ‬ ‫الخروج منه‪ ،‬من ذلك‪ :‬عدم إلقاء النفس في التهلكة‪ ،‬وقد نهى هللا عن ذلك‬
‫ِبَأ ْيدِي ُك ْم ِإ َلى ال َّت ْهلُ َكةِ﴾()‪ <،‬وفي القدوم تعريض النفس ألسباب التلف؛ ذلك أن مجاورة المرضى‬
‫سبب من أسباب انتقال المرض‪ ،‬واألخذ بالعافية مادة المعاش والمعاد()‪.‬‬
‫ويجب حمل النفس على الثقة باهلل والتوكل عليه‪ ،‬والرضا بقضائه والصبر عليه()‪ ،‬فإذا خرج‬
‫إلى بلد آخر فقد ينقل المرض إلى غيره ممن لم تحصل له مناعة فينتشر المرض في البلد الذي‬
‫قدم إليه()‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الحجر الصحي في زمن الوباء‪.‬‬
‫إن الحجر الصحي يعتبر من أهم وسائل مقاومة انتشار األمراض الوبائية‪ ،‬ويظهر بجالء أن‬
‫األحاديث النبوية الشريفة قد حددت مبادئ الحجر الصحي كأوضح ما يكون التحديد‪ ،‬فهي تمنع‬
‫الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون‪ ،‬كما أنها تمنع أهل تلك البلدة من الخروج‬
‫منها()‪.‬‬
‫جاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد رضي هللا عنهما قال‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا‬
‫بأرض‬
‫ٍ‬ ‫بأرض فال تقدموا عليه‪ ،‬وإذا وقع‬
‫ٍ‬ ‫عليه وسلم يقول ‪( :‬الطاعون رجس… فإذا سمعتم به‬
‫وأنتم بها فال تخرجوا فرارا منه)()‪ ،‬فدل الحديث على النهي عن القدوم إلى البلد المصاب‬
‫بالوباء المعدي‪ ،‬أو خروج من كان فيها وقت العدوى منها‪ ،‬والنهي في الحديث عند أكثر أهل‬
‫العلم للتحريم‪.‬‬
‫لقد أثبت العلم بوجود أمراض خطيرة تنتقل من شخص إلى آخر‪ ،‬و ُتعدي بقدرة هللا ومشيئته‬
‫بسبب أحد طرق العدوى العديدة‪ ،‬وهي‪ :‬إما بواسطة التنفس كما في أمراض الجهاز التنفسي‬
‫كالكورونا والسل الرئوي‪ ،‬أو عن طريق المالمسة كالجدري والجذام‪ ،‬أو عن طريق المعاشرة‬
‫الجنسية كما األمراض التناسلية كاإليدز والزهري والسيالن‪ ،‬غيرها من األمراض التي قد‬
‫تنتقل عير وسائل االنتقال المختلفة‪ ،‬مما يستدعي منع اختالط المرضى أو حاملي المرض‬
‫باألصحاء؛ حيث يمنع كل مريض عما كان وسيلة النتقال مرضه()‪ ،‬وهو ما يسمى اليوم‬
‫بالحجر الصحي‪.‬‬
‫أوال‪ :‬الحجر لغة‪:‬‬
‫قال ابن فارس‪« :‬الحاء والجيم والراء أصل واحد‪ ،‬وهو المنع‪ ،‬واإلحاطة على الشيء»()‪<.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الحجر اصطالحا‬
‫اختلف الحنابلة في تعريف الحجر فيما بينهم‪ ،‬إال أنهم متفقون على أنه المنع من التصرف<‬
‫سواء كان التصرف فعال أو قوال‪ ،‬في المال أو غيره‪ ،‬وكالمهم متجه إلى الحجر في المعامالت‬
‫المالية‪ ،‬قال ابن قدامة‪« :‬وهو في الشريعة منع اإلنسان من التصرف في ماله»()‪.‬‬
‫وقد شرع الحجر حماية للفرد والمجتمع من تصرفات تصدر من المحجور عليه ‪ ،‬قد تضره‪،‬‬
‫أو تضر غيره‪ ،‬وقد يكون الحجر لحماية المحجور عليه‪ ،‬وحماية غيره في الوقت نفسه‪،‬‬
‫كالحجر الصحي‪ ،‬يكون على المحجور عليه سوا ًء كان مريضا‪ ،‬فيحجر عليه حتى يشفى من‬
‫مرضه‪ ،‬أو صحيحا حتى ال يصاب بالمرض‪ ،‬وفي الوقت ذاته فيه حماية للمجتمع من انتشار‬
‫المرض المعدي فيه()‪.‬ولهذا< فالمعنى االصطالحي ال يخرج عن المعنى اللغوي‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬تعريف الحجر الصحي‪:‬‬
‫هو‪« :‬تدبير احترازي يقتضي منع اختالط مرضى األمراض المعدية بجمهور األصحاء»()‪،‬‬
‫ذهبت الحنابلة إلى أنه ال يحل لمجذوم مخالطة صحيح إال بإذنه()‪ ،‬قال البهوتي‪« <:‬وعلى والة‬
‫األمور منعهم من مخالطة األصحاء بأن يسكنوا في مكان مفرد لهم ونحو ذلك‪ ،‬وإذا امتنع ولي‬
‫األمر من ذلك أو المجذوم أثم‪ ،‬وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق»()‪.‬‬
‫والحجر الصحي يتناول بمفهومه جانبين أساسيين هما‪:‬‬
‫الجانب األول‪ :‬الحجر على األصحاء الذين اختلطوا بمن أصيب بالمرض الساري المعدي‬
‫خالل فترة قابلية المرض لإلعداء‪ ،‬كمن كان في بلد انتشر فيها الطاعون أو الحمى القالعية‬
‫لكن لم تظهر عليه آثار المرض؛ ألن بعض األمراض تكون في فترة من فترات المرض شديدة‬
‫العدوى بعكس فترات أخرى ‪ ،‬فكل مرض له فترة عدوى خاصة به‪ ،‬قد يكون معديا في‬
‫األسابيع الثالثة األولى من بدء المرض‪ ،‬ثم تقل نسبة اإلعداء ؛ لقلة إفرازته للجراثيم المعدية‬
‫بعد تلك المدة()‪<.‬‬
‫الجانب الثاني‪ :‬الحجر على المريض المصاب بالمرض المعدي()‪ ،‬وذلك لمنع تفشي المرض‬
‫وانتشاره في المجتمع‪ ،‬وعالج المصاب بالمرض إذا أمكن‪ ،‬وتوفير العناية الطبية له‪ ،‬وهذا‬
‫النوع من الحجر يختلف باختالف المرض المعدي ذاته‪ ،‬ولذلك أقر أهل الطب طريقة الحجر‬
‫على المصابين باألمراض المعدية‪ ،‬وتحديد تحركاتهم‪ ،‬أو عزلهم في أماكن مستقلة‪ ،‬أو في‬
‫المستشفيات‪ ،‬ووضعوا قوانين صارمة تجبر المصاب بالمرض بالعزل في المستشفى‪ ،‬أو في‬
‫أماكن مستقلة تسمى دور النقاهة‪ ،‬وتسمى هذه الفئة من األمراض باألمراض ال ِمحْ َج ِريَّة التي‬
‫يجب فيها حجر المصاب أو المشتبه بإصابته بالمرض()‪.‬‬
‫والحجر الصحي ليس مقصورا على األشخاص فقط بل إنه يطبق أيضا على الحيوانات‪،‬‬
‫ووسائل النقل المختلفة لمنع انتقال مرض‪ ،‬أو مستودعه‪ ،‬أو نواقل المرض‪ ،‬ويجب توفير‬
‫العناصر الطبية المتخصصة‪ ،‬كما أن الطبيب ملتزم بمعالجة المصابين بأمراض معدية‪ ،‬و‬
‫يحرم عليه الفرار من المنطقة الموبوءة من باب أولى‪ ،‬أو حتى مجرد االمتناع عن عالج‬
‫المصابين‪ ،‬ذلك أنه بفراره أو امتناعه يسهم بصورة كبيرة في انتشار المرض وتفشيه‪ ،‬وهو‬
‫األعرف بوسائل الوقاية منه‪ ،‬وطرق مكافحته‪ ،‬والحد من انتشاره‪ ،‬وفي الوقت نفسه فهو قاد ٌر‬
‫بإذن هللا أن يحمي نفسه من اإلصابة‪ ،‬ويساعد غيره أيضا()‪<.‬‬
‫وهذا ما قرره الطب الحديث بعد أن عرف الكثير من طبائع األمراض المعدية‪ ،‬وتوصل إلى‬
‫أن الحجر الصحي من أهم أسباب مكافحة األمراض المعدية والقضاء عليها()‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬جملة من األحكام الفقهية المتعلقة بالوباء‬
‫أوال‪ :‬حضور المريض بمرض مع ٍد الجمعة والجماعات‪:‬‬
‫اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬يمنع المريض بمرض مُعْ ٍد من المسجد وحضور الجمعة والجماعات‪ ،‬وهذا هو‬
‫قول جمهور الفقهاء من الشافعية()‪ ،‬والحنابلة()‪ ،‬وبعض المالكية()‪ ،‬وقد استدل أصحاب هذا‬
‫القول بعدة أدلة منها‪ :‬حديث‪( :‬فر من المجذوم كما تفر من األسد)()‪.‬‬
‫فقد نهى النبي صلى هللا عليه وسلم عن مخالطة المريض بمرض معد لألصحاء‪ ،‬لئال يكون‬
‫قدر هللا على المختلط به مثل دائه‪ ،‬وحضور المريض ألداء صلوات الجماعة مظنة لهذا‬
‫ُعذر في ترك الجمعة والجماعة المريض بال نزاع‪ ،‬ويُع َذر أيضا‬ ‫االختالط‪ ،‬قال المرداوي‪« <:‬وي َ‬
‫في تركهما لخوف حدوث المرض»()‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬ال يمنع المريض بمرض معد من المسجد وحضور الجمعة والجماعات كصالة‬
‫العيد‪ ،‬وأداء الحج والعمرة‪ ،‬وهو قول عند المالكية()‪ ،‬واستدلوا‪ :‬باألثر الذي رواه مالك في‬
‫الموطأ‪ :‬عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه أنه مرَّ بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال‬
‫لها‪ :‬يا أمة هللا‪ ،‬ال تؤذي الناس لو جلست في بيتك فجلست‪ ،‬فمر بها رجل بعد ذلك قال لها‪ :‬إن‬
‫الذي كان نهاك قد مات فاخرجي‪ ،‬فقالت‪ :‬ما كنت ألطيعه حيا وأعصيه ميتا»()‪ .‬بمعنى أن‬
‫عمر رضي هللا عنه لم يعزم عليها بالنهي عن الطواف ودخول البيت‪ ،‬وإنما خاطبها على سبيل‬
‫الرفق‪ ،‬قال ابن رشد‪« :‬دليل على أنه أراد بقوله لها‪ :‬لو جلست في بيتك‪ ،‬األمر لها بذلك‬
‫والقضاء عليها به‪ ،‬لكنه رفق بها في األمر رحمة بها وحنانا عليها‪ ،‬وتوسم فيها أنها تكتفي‬
‫بذلك وتنتهي فلم تخب فراسته فيها وأطاعته حيا وميتا»()‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬القنوت لصرف الطاعون‬
‫ذهب الحنابلة إلى عدم مشروعية القنوت لرفع الطاعون؛ قال البهوتي‪« <:‬ألنه لم يثبت القنوت‬
‫في طاعون عمواس وال في غيره وألنه شهادة لألخيار فال يسأل رفعه»()‪ ،‬فإن نزل بالمسلمين‬
‫نازلة سوى الطاعون فيسن أن يقنت إمام الوقت خاصة‪ ،‬وهو اإلمام األعظم‪ ،‬واختار المرداوي‬
‫أو نائبه في جميع الصلوات سوى الجمعة‪ ،‬فيكفي الدعاء في آخر الخطبة‪ ،‬ويجهر بالقنوت في‬
‫صالة جهرية()‪ ،‬وأما الطاعون فال يقنت لنزوله‪ ،‬ألنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس وال‬
‫غيره‪ ،‬وألنه شهادة فال يسأل رفعه()‪ ،‬لقول النبي صلى هَّللا عليه وسلم‪( :‬الطاعون شهادة لكل‬
‫مسلم)()‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬أن القنوت إذا نزل الطاعون بين المسلمين مشروع‪ ،‬واستدلوا بأن الطاعون من‬
‫جملة النوازل التي تنزل بالمسلمين فيشرع له الدعاء والقنوت واالبتهال إلى هللا بأن يرفعه كما‬
‫يشرع في باقي النوازل والشدائد التي تنزل بالمسلمين‪ ،‬هو قول الجمهور قال النووي‪:‬‬
‫«والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور إن نزلت بالمسلمين نازلة كخوف‪ ،‬أو قحط‪ ،‬أو‬
‫وباء‪ ،‬أو جراد‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬قنتوا في جميعها‪ ،‬وإال فال)()‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬غسل الموتى في الوباء‬
‫لقد كرم اإلسالم المؤمن وحفظ له كرامته بعد مماته‪ ،‬كما حفظها له في حياته؛ إذ جاءت‬
‫الشريعة بجملة من األحكام والتفصيالت< الخاصة بالميت مما يدل على عنايتها به عناية تكريم‬
‫واحترام‪ ،‬ومن تلك األحكام‪ :‬تجهيز الميت وتغسيله وتكفينه‪ ،‬ثم الدعاء له والترحم عليه‪ ،‬قال‬
‫المرداوي‪« :‬غسل الميت وتكفينه والصالة عليه ودفنه فرض كفاية ‪ ،‬بال نزاع ‪ ،‬فلو ُدفن قبل‬
‫الغسل من أمكن غسله لزم نبشه على الصحيح من المذهب»()‪.‬‬
‫وكما جاءت الشريعة بتلك األحكام تكريما لألموات فإنها جاءت بوجوب حفظ النفس‪ ،‬ونفي‬
‫الضرر عن األحياء‪ ،‬حينما يكون الميت مصابا بممرض معد يُخشى من تعدي ضرره إلى من‬
‫يقوم بتجهيزه وتغسيله ودفنه‪ ،‬فإن للشريعة حينئذ تدابير وقائية تمع انتقال العدوى من جسد‬
‫الميت لألحياء‪ ،‬قال البهوتي‪« :‬ومن تعذر غسله لعدم ماء أو عذر غيره كالحرق والجذام‬
‫والتبضيع يمم؛ ألن غسل الميت طهارة على البدن فقام التيمم عند العجز عنه مقامه‬
‫كالجنابة»()‪.‬‬
‫وكذلك إذا كان توقع لحوق ضرر بمن يغسله‪ ،‬كما هو الحال في األمراض المعدية إذا لم يمكن‬
‫تغسيل أصحابها بطريقة يسلم بها المغسل من العدوى؛ ففي هذه األحوال كلها استثنى العلماء‬
‫هؤالء من األصل وقالوا‪ :‬إنهم ال يُغسلون‪ ،‬وإنما ُي َيمَّمون()‪<.‬‬
‫رابعا‪ :‬احتكار السلع وقت الوباء‬
‫اتفق الحنابلة على حرمة االحتكار؛ لما فيه من تضييق على الناس() مستدلين بقول النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪(« :‬ال يحتكر إال خاطئ)()‪ ،‬و بما روي عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين‪ ،‬فهو‬
‫خاطئ)()‪ ،‬وقوله صلى هللا عليه‪( :‬من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد بريء من هللا تعالى‪،‬‬
‫وبرىء هللا تعالى منه)()‪.‬‬
‫والمحتكر‪ :‬هو الذي يتلقى القافلة‪ ،‬فيشتري الطعام منهم يريد إغالءه على الناس‪ ،‬وهو ظالم‬
‫لعموم الناس‪ ،‬خاطئ‪ ،‬والخاطئ‪ :‬المذنب العاصي‪ ،‬والحكمة في تحريم االحتكار‪ :‬دفع الضرر‬
‫عن عامة الناس‪ ،‬كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند شخص طعام‪ ،‬واضطر الناس إليه‪،‬‬
‫أجبر على بيعه‪ ،‬ولهذا كان لولي األمر أن يُكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند‬
‫الضرورة إليه‪ ،‬مثل من عنده طعام ال يحتاج إليه‪ ،‬والناس في مخمصة()‪.‬‬

You might also like