Professional Documents
Culture Documents
مقدمة
مقدمة
الحمد هلل رب العالمين ،كما ينبغي لجالل وجهه وعظيم سلطانه ،والصالة والسالم على سيدنا
محمد الرسول األمين ،وعلى آله وصحبه أجمعين ،ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ،فإن حفظ النفس البشرية من الكليات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها ،والمتفق
عليها بين الشرائع السماوية() ،والمكلف مأمور بحفظ نفسه ،مسؤول عنها ،محاسب على
التقصير فيها ،قال هللا تعالى﴿ :ثم لتسألُن يومئذ عن النعيم﴾() ،قال المفسرون <:تسألون عن
العافية وصحة البدن() ،وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم« :ال تزول قدما عبد ،حتى يسأل
عن عمره فيما أفناه ،وعن علمه فيما فعل ،وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ،وعن جسمه
أج ِّل طرق حفظ النفس وقايتها عما يضرها من األمراض ،واألسقام، فيما أباله»() ،ومن َ
واآلفات ،سواء كان ذلك في الحال أو المآل.
إن الوقاية من الوباء يحقق لإلنسان مصلحة كبرى حيث يعيش سليما من األمراض والمشاغل
والمشكالت ،ويعد األصل التشريعي المعروف بـ« :سد الذرائع» ،قمة المنهج الوقائي في
اإلسالم الذي يمنع كل األفعال المباحة ،إذا كان فعلها سيؤدي إلى مضرة أو مفسدة ،قال ابن
عبد السالم« :والطب كالشرع ،وضع لجلب مصالح السالمة والعافية ،ولدرء مفاسد المعاطب
واألسقام»().
عناصر البحث:
المبحث األول :مفهوم الوباء وعالقته بالطاعون.
المبحث الثاني :األحاديث في موضوع الوباء والطاعون وتوجيهات الحنابلة لها.
المبحث الثالث :حكم الدخول والخروج لبلد الوباء.
المبحث الرابع :الحجر الصحي في زمن الوباء.
المبحث الخامس :جملة من األحكام الفقهية المتعلقة بالوباء.
المبحث األول :مفهوم الوباء وعالقته بالطاعون
أوال :الوباء لغة:
قال الجوهري« :الوبأ ،يمد ويقصر <:مرض عام ،وجمع المقصور أوباء وجمع الممدود
أوبئة»() ،وجاء في القاموس« :الوبأ :الطاعون ،أو كل مرض عام ،جمع :أوباء ،ويمد ،جمع:
أوبية»() ،وقال الفيومي« <:الوباء بالهمز مرض عام يمد ويقصر ،ويجمع الممدود على أوبئة،
مثل :متاع وأمتعة»()<.
فالوباء في المعاجم اللغوية يدور حول معنى :كل مرض عام ،أو الطاعون ،وهذا المعنى
اللغوي قريب جدا من المعنى االصطالحي الذي سيأتي بيانه ،جاء في معجم اللغة العربية<:
مرض شديد العدوى ،سريع االنتشار من مكان إلى مكان ،يصيب اإلنسان، ٍ «الوباء :كل
والحيوان ،والنبات ،وعادة ما يكون قاتال كالطاعون»().
ثانيا :الوباء اصطالحا:
قال ابن النفيس« :الوباء :ينشأ عن فساد يعرض لجوهر الهواء ،بأسباب خبيثة سماوية ،أو
أرضية»() <.وقال ابن سينا« :الوباء فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده ،ولذلك ال
يمكن حياة شيء من الحيوان بدون استنشاقه»().
وعرفته الموسوعة الطبية المعاصرة« :هو :كل مرض يصيب عددا كبيرا من الناس في منطقة
واحدة في مدة قصيرة من الزمن ،فإن أصاب المرض عددا عظيما من الناس في منطقة
جغرافية شاسعة سمي وباء عالميا»() .وهذا التعريف أكثر دقة وشمولية من التعريفات
السابقة؛ ألنه عمم مفهوم الوباء.
ثالثا :عالقة الوباء بالطاعون:
تقدم تعريف الوباء لغة واصطالحا ،أما الطاعون فقد عرف في اللغة بـ« :الموت ،والجمع:
الطواعين ،وطعن اإلنسان بالبناء للمفعول ،أصابه الطاعون فهو مطعون»() ،وجاء في
اللسان« :الطاعون لغة :المرض العام ،والوباء الذي يفسد له الهواء ،فتفسد له األمزجة
واألبدان»().
وفي االصطالح قال النووي« :الطاعون قروح تخرج في الجسد فتكون في اآلباط ،أو
المرافق ،أو األيدي ،أو األصابع ،وسائر البدن ،ويكون معه ورم وألم شديد ،وتخرج تلك
القروح مع لهيب ويسود ما حواليه ،أو يخضر ،أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة ،ويحصل معه
خفقان القلب والقيء»() <.قال ابن حجر« :تسمية الطاعون وباء ال يلزم منه أنَّ كل وباء
طاعون ،بل يدل على عكسه ،وهو أن كل طاعون وباء ،لكن لما كان الوباء ينشأ عنه كثرة
الموت ،وكان الطاعون أيضا كذلك ،أطلق عليه اسمه»().
والناظر في تعريف الوباء والطاعون يالحظ أن هناك اتجاهان في تعريفهما :أحدهما :يرى أن
الطاعون هو الوباء ،وأنهما متطابقان ،وهو ظاهر قول ابن سينا« :الطواعين< تكثر عند الوباء،
وفي البالد الوبية»()<.
والثاني :أنهما متغايران ،وبينهما عموم وخصوص ،وهو الذي عليه المحققون من الفقهاء ،قال
النووي« :وأما الوباء :فقال الخليل وغيره :هو الطاعون .وقال آخرون :هو كل مرض عام،
والصحيح الذي قاله المحققون :أنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من األرض ،دون سائر
الجهات ،ويكون مخالفا للمعتاد من أمراض في الكثرة ،وغيرها ،ويكون مرضهم نوعا واحدا،
بخالف سائر األوقات؛ فإن أمراضهم فيها مختلفة ،قالوا :وكل طاعون وباء ،وليس كل وباء
طاعونا»().
إذن كل طاعون وباء ،وليس كل وباء طاعونا ،وكذلك األمراض العامة أعم من الطاعون ،فإنه
واحد منها ،وإليه ذهب عياض ،وابن حجر ،والسيوطي ،وغيرهم() ،وهذا هو الموافق لما
توصل إليه األطباء من أن الوباء أعم من الطاعون ،فالوباء هو المرض المعدي يهاجم عددا
من الناس في منطقة معينة وفي زمن واحد ،فإذا انتشر في أكثر من منطقة أو مجتمع سمي:
جائحة ،فيقال وباء الكوليرا ،وباء أنفلونزا الطيور ،وهلم جرا().
ومن جعل الوباء هو الطاعون يحمل قوله على أنه فرد من أفراد الوباء ،ال أن كل وباء
طاعونا() ،أو أنه أطلق ذلك من باب المجاز؛ الشتراكهما في عموم المرض أو كثرة الموت()،
أو أن الطاعون يطلق بمعنى عام على جميع األوبئة ،وبمعنى خاص على الداء المعروف<.
المبحث الثاني :األحاديث في موضوع الوباء والطاعون وتوجيهات الحنابلة لها.
أوال :األحاديث الواردة في الوباء والطاعون:
1ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :الطاعون رجز أو عذاب أرسل على بنى إسرائيل ،أو
على من كان قبلكم ،فإذا سمعتم به بأرض فال تقدموا عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها ،فال
تخرجوا فرارا منه)()<.
2ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :الطاعون آية الرجز ،ابتلى هللا عز وجل به ناسا من
عباده ،فإذا سمعتم به فال تدخلوا عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها فال تفروا منه)().
ص َفر ،وفر من 3ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :ال عدوى وال طيرة وال ها َمة وال َ
المجذوم كما تفر من األسد)()<.
4ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :ما أنزل هللا داء إال أنزل له شفاء)().
5ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا
محتسبا ،يعلم أنه ال يصيبه إال ما كتب هَّللا له ،إال كان له مثل أجر شهيد)().
6ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم« :فر من المجذوم ،كفرارك من األسد»().
7ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم« :ال يورد الممرض على المصح»()<.
8ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :فليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا
محتسبا ،يعلم أنه ال يصيبه إال ما قد كتبه هللا له إال كان له مثل أجر شهيد)().
ثانيا :توجيهات الحنابلة لهذه األحاديث
ذهب جمهور الحنابلة إلى إمكان الجمع بين هذه األحاديث ،ولكنهم اختلفوا في طريقة الجمع
بينها على ضربين<:
أوال :إثبات العدوى ،والمراد بأن العدوى التي نفاها الرسول صلى هللا عليه وسلم إنما هي
العدوى التي يعتقدها أهل الجاهلية ،فأبطل النبي صلى هللا عليه وسلم اعتقادهم ودعواهم بأكله
مع المجذوم ،ليبيّن أنه لو فرض أنه حصل له عدوى ،فإن هذه العدوى حصلت بإذن هللا،
وليست كما يعتقدونه ،من أنها تعدي بنفسها().
ثانيا :إن األحاديث الواردة لحالتين مختلفتين ،فحديث( :ال عدوى) مخاطب به قوي اإليمان
واليقين ،صحيح التوكل الذي يستطيع دفع اعتقاد تأثير العدوى عن نفسه ،وعليه يحمل أكله
صلى هللا عليه وسلم مع المجذوم ،وحديث ( :فر من المجذوم) ،وسائر ما ورد من جنسه
مخاطب به ضعيف اإليمان والتوكل؛ لس ِّد باب اعتقاد العدوى عنه؛ ألنه ال يتمكن من دفع
اعتقاد تأثير العدوى عن نفسه ،قال ابن مفلح« :وهذا اختيار بعض أصحابنا»().
ولعل القول األول هو صحيح لما فيه من التوفيق بين األحاديث الواردة ،قال النووي :قال
جمهور العلماء :يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان ،وطريق الجمع أن حديث :ال
عدوى المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها ال
بفعل هللا تعالى ،وأما حديث :ال يورد ممرض على مصح فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل
الضرر عنده في العادة بفعل هللا تعالى وقدره ،فنفى في الحديث األول العدوى بطبعها ،ولم
ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر هللا تعالى وفعله ،وأرشد في الثاني إلى االحتراز مما
يحصل عنده الضرر بفعل هللا وإرادته وقدره»().
المبحث الثالث :حكم الدخول والخروج لبلد الوباء.
إذا كان الوباء ينتقل عن طريق التنفس والمجاورة كالطاعون؛ فقد نهى النبي صلى هللا عليه
وسلم من الدخول إليه أو من كان في البلد المصاب من الخروج منه ،وكذا كل وباء معد يشق
التحرز منه بمنع المريض من مجالسة الصحيح حتى ال ينتقل المرض إليه ،واألدلة وإن كانت
مخصوصة بمرضي الجذام والطاعون إال أن غيرهما من األمراض التي تشبهها في طريقة
االنتقال واالنتشار ،وصعوبة التحرز منها تأخذ الحكم نفسه من وجوب منع دخول بلد الوباء أو
الخروج منها().
قال ابن القيم« :يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة ،وتسكين هيجان األخالط ،وال يمكن
الخروج … والسفر إال بحركة شديدة وهي مضرة جدا ،هذا كالم أفضل األطباء»() ،وهذا هو
قول الجمهور لقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :الطاعون رجس أرسل على طائفة من
بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فال تقدموا عليه ،وإذا وقع بأرض
وأنتم بها فال تخرجوا فراراً منه)() ولما روي أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه خرج إلى
الشام ،فلما بلغه أن الوباء قد وقع بالشام ،فتوقفت عمر في دخول البلد ،فأخبره عبدالرحمن بن
عوف رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال «:إذا سمعتم به بأرض فال تقدموا
عليه ،وإذا وقع بأرض وأنتم بها فال تخرجوا فرارا منه»().
جاء في التراتيب اإلدارية« :في نهيه صلى هللا عليه وسلم عن الدخول لألرض التي حلها
الطاعون ،فائدتان :أحداهما :لئال يستنشقوا الهواء الذي قد عفا وفسد فيمرضون.
والثانية :لئال يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك ،فتتضاعف عليهم البلية ،وقد روي عن
النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال( :من القرف التلف)() <.وفسر بأنه مالبسة الداء ومداناة
المرضى»()<.
وقد ذكر الحنابلة مجموعة من األسباب للنهي عن الدخول إلى البلد المصاب بالطاعون أو
فقال﴿:والَ ُت ْلقُو ْا
َ الخروج منه ،من ذلك :عدم إلقاء النفس في التهلكة ،وقد نهى هللا عن ذلك
ِبَأ ْيدِي ُك ْم ِإ َلى ال َّت ْهلُ َكةِ﴾() <،وفي القدوم تعريض النفس ألسباب التلف؛ ذلك أن مجاورة المرضى
سبب من أسباب انتقال المرض ،واألخذ بالعافية مادة المعاش والمعاد().
ويجب حمل النفس على الثقة باهلل والتوكل عليه ،والرضا بقضائه والصبر عليه() ،فإذا خرج
إلى بلد آخر فقد ينقل المرض إلى غيره ممن لم تحصل له مناعة فينتشر المرض في البلد الذي
قدم إليه().
المبحث الرابع :الحجر الصحي في زمن الوباء.
إن الحجر الصحي يعتبر من أهم وسائل مقاومة انتشار األمراض الوبائية ،ويظهر بجالء أن
األحاديث النبوية الشريفة قد حددت مبادئ الحجر الصحي كأوضح ما يكون التحديد ،فهي تمنع
الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون ،كما أنها تمنع أهل تلك البلدة من الخروج
منها().
جاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد رضي هللا عنهما قال :سمعت رسول هللا صلى هللا
بأرض
ٍ بأرض فال تقدموا عليه ،وإذا وقع
ٍ عليه وسلم يقول ( :الطاعون رجس… فإذا سمعتم به
وأنتم بها فال تخرجوا فرارا منه)() ،فدل الحديث على النهي عن القدوم إلى البلد المصاب
بالوباء المعدي ،أو خروج من كان فيها وقت العدوى منها ،والنهي في الحديث عند أكثر أهل
العلم للتحريم.
لقد أثبت العلم بوجود أمراض خطيرة تنتقل من شخص إلى آخر ،و ُتعدي بقدرة هللا ومشيئته
بسبب أحد طرق العدوى العديدة ،وهي :إما بواسطة التنفس كما في أمراض الجهاز التنفسي
كالكورونا والسل الرئوي ،أو عن طريق المالمسة كالجدري والجذام ،أو عن طريق المعاشرة
الجنسية كما األمراض التناسلية كاإليدز والزهري والسيالن ،غيرها من األمراض التي قد
تنتقل عير وسائل االنتقال المختلفة ،مما يستدعي منع اختالط المرضى أو حاملي المرض
باألصحاء؛ حيث يمنع كل مريض عما كان وسيلة النتقال مرضه() ،وهو ما يسمى اليوم
بالحجر الصحي.
أوال :الحجر لغة:
قال ابن فارس« :الحاء والجيم والراء أصل واحد ،وهو المنع ،واإلحاطة على الشيء»()<.
ثانيا :الحجر اصطالحا
اختلف الحنابلة في تعريف الحجر فيما بينهم ،إال أنهم متفقون على أنه المنع من التصرف<
سواء كان التصرف فعال أو قوال ،في المال أو غيره ،وكالمهم متجه إلى الحجر في المعامالت
المالية ،قال ابن قدامة« :وهو في الشريعة منع اإلنسان من التصرف في ماله»().
وقد شرع الحجر حماية للفرد والمجتمع من تصرفات تصدر من المحجور عليه ،قد تضره،
أو تضر غيره ،وقد يكون الحجر لحماية المحجور عليه ،وحماية غيره في الوقت نفسه،
كالحجر الصحي ،يكون على المحجور عليه سوا ًء كان مريضا ،فيحجر عليه حتى يشفى من
مرضه ،أو صحيحا حتى ال يصاب بالمرض ،وفي الوقت ذاته فيه حماية للمجتمع من انتشار
المرض المعدي فيه().ولهذا< فالمعنى االصطالحي ال يخرج عن المعنى اللغوي.
ثالثا :تعريف الحجر الصحي:
هو« :تدبير احترازي يقتضي منع اختالط مرضى األمراض المعدية بجمهور األصحاء»()،
ذهبت الحنابلة إلى أنه ال يحل لمجذوم مخالطة صحيح إال بإذنه() ،قال البهوتي« <:وعلى والة
األمور منعهم من مخالطة األصحاء بأن يسكنوا في مكان مفرد لهم ونحو ذلك ،وإذا امتنع ولي
األمر من ذلك أو المجذوم أثم ،وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق»().
والحجر الصحي يتناول بمفهومه جانبين أساسيين هما:
الجانب األول :الحجر على األصحاء الذين اختلطوا بمن أصيب بالمرض الساري المعدي
خالل فترة قابلية المرض لإلعداء ،كمن كان في بلد انتشر فيها الطاعون أو الحمى القالعية
لكن لم تظهر عليه آثار المرض؛ ألن بعض األمراض تكون في فترة من فترات المرض شديدة
العدوى بعكس فترات أخرى ،فكل مرض له فترة عدوى خاصة به ،قد يكون معديا في
األسابيع الثالثة األولى من بدء المرض ،ثم تقل نسبة اإلعداء ؛ لقلة إفرازته للجراثيم المعدية
بعد تلك المدة()<.
الجانب الثاني :الحجر على المريض المصاب بالمرض المعدي() ،وذلك لمنع تفشي المرض
وانتشاره في المجتمع ،وعالج المصاب بالمرض إذا أمكن ،وتوفير العناية الطبية له ،وهذا
النوع من الحجر يختلف باختالف المرض المعدي ذاته ،ولذلك أقر أهل الطب طريقة الحجر
على المصابين باألمراض المعدية ،وتحديد تحركاتهم ،أو عزلهم في أماكن مستقلة ،أو في
المستشفيات ،ووضعوا قوانين صارمة تجبر المصاب بالمرض بالعزل في المستشفى ،أو في
أماكن مستقلة تسمى دور النقاهة ،وتسمى هذه الفئة من األمراض باألمراض ال ِمحْ َج ِريَّة التي
يجب فيها حجر المصاب أو المشتبه بإصابته بالمرض().
والحجر الصحي ليس مقصورا على األشخاص فقط بل إنه يطبق أيضا على الحيوانات،
ووسائل النقل المختلفة لمنع انتقال مرض ،أو مستودعه ،أو نواقل المرض ،ويجب توفير
العناصر الطبية المتخصصة ،كما أن الطبيب ملتزم بمعالجة المصابين بأمراض معدية ،و
يحرم عليه الفرار من المنطقة الموبوءة من باب أولى ،أو حتى مجرد االمتناع عن عالج
المصابين ،ذلك أنه بفراره أو امتناعه يسهم بصورة كبيرة في انتشار المرض وتفشيه ،وهو
األعرف بوسائل الوقاية منه ،وطرق مكافحته ،والحد من انتشاره ،وفي الوقت نفسه فهو قاد ٌر
بإذن هللا أن يحمي نفسه من اإلصابة ،ويساعد غيره أيضا()<.
وهذا ما قرره الطب الحديث بعد أن عرف الكثير من طبائع األمراض المعدية ،وتوصل إلى
أن الحجر الصحي من أهم أسباب مكافحة األمراض المعدية والقضاء عليها().
المبحث الخامس :جملة من األحكام الفقهية المتعلقة بالوباء
أوال :حضور المريض بمرض مع ٍد الجمعة والجماعات:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول األول :يمنع المريض بمرض مُعْ ٍد من المسجد وحضور الجمعة والجماعات ،وهذا هو
قول جمهور الفقهاء من الشافعية() ،والحنابلة() ،وبعض المالكية() ،وقد استدل أصحاب هذا
القول بعدة أدلة منها :حديث( :فر من المجذوم كما تفر من األسد)().
فقد نهى النبي صلى هللا عليه وسلم عن مخالطة المريض بمرض معد لألصحاء ،لئال يكون
قدر هللا على المختلط به مثل دائه ،وحضور المريض ألداء صلوات الجماعة مظنة لهذا
ُعذر في ترك الجمعة والجماعة المريض بال نزاع ،ويُع َذر أيضا االختالط ،قال المرداوي« <:وي َ
في تركهما لخوف حدوث المرض»().
القول الثاني :ال يمنع المريض بمرض معد من المسجد وحضور الجمعة والجماعات كصالة
العيد ،وأداء الحج والعمرة ،وهو قول عند المالكية() ،واستدلوا :باألثر الذي رواه مالك في
الموطأ :عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه أنه مرَّ بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال
لها :يا أمة هللا ،ال تؤذي الناس لو جلست في بيتك فجلست ،فمر بها رجل بعد ذلك قال لها :إن
الذي كان نهاك قد مات فاخرجي ،فقالت :ما كنت ألطيعه حيا وأعصيه ميتا»() .بمعنى أن
عمر رضي هللا عنه لم يعزم عليها بالنهي عن الطواف ودخول البيت ،وإنما خاطبها على سبيل
الرفق ،قال ابن رشد« :دليل على أنه أراد بقوله لها :لو جلست في بيتك ،األمر لها بذلك
والقضاء عليها به ،لكنه رفق بها في األمر رحمة بها وحنانا عليها ،وتوسم فيها أنها تكتفي
بذلك وتنتهي فلم تخب فراسته فيها وأطاعته حيا وميتا»().
ثانيا :القنوت لصرف الطاعون
ذهب الحنابلة إلى عدم مشروعية القنوت لرفع الطاعون؛ قال البهوتي« <:ألنه لم يثبت القنوت
في طاعون عمواس وال في غيره وألنه شهادة لألخيار فال يسأل رفعه»() ،فإن نزل بالمسلمين
نازلة سوى الطاعون فيسن أن يقنت إمام الوقت خاصة ،وهو اإلمام األعظم ،واختار المرداوي
أو نائبه في جميع الصلوات سوى الجمعة ،فيكفي الدعاء في آخر الخطبة ،ويجهر بالقنوت في
صالة جهرية() ،وأما الطاعون فال يقنت لنزوله ،ألنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس وال
غيره ،وألنه شهادة فال يسأل رفعه() ،لقول النبي صلى هَّللا عليه وسلم( :الطاعون شهادة لكل
مسلم)().
القول الثاني :أن القنوت إذا نزل الطاعون بين المسلمين مشروع ،واستدلوا بأن الطاعون من
جملة النوازل التي تنزل بالمسلمين فيشرع له الدعاء والقنوت واالبتهال إلى هللا بأن يرفعه كما
يشرع في باقي النوازل والشدائد التي تنزل بالمسلمين ،هو قول الجمهور قال النووي:
«والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور إن نزلت بالمسلمين نازلة كخوف ،أو قحط ،أو
وباء ،أو جراد ،ونحو ذلك ،قنتوا في جميعها ،وإال فال)().
ثالثا :غسل الموتى في الوباء
لقد كرم اإلسالم المؤمن وحفظ له كرامته بعد مماته ،كما حفظها له في حياته؛ إذ جاءت
الشريعة بجملة من األحكام والتفصيالت< الخاصة بالميت مما يدل على عنايتها به عناية تكريم
واحترام ،ومن تلك األحكام :تجهيز الميت وتغسيله وتكفينه ،ثم الدعاء له والترحم عليه ،قال
المرداوي« :غسل الميت وتكفينه والصالة عليه ودفنه فرض كفاية ،بال نزاع ،فلو ُدفن قبل
الغسل من أمكن غسله لزم نبشه على الصحيح من المذهب»().
وكما جاءت الشريعة بتلك األحكام تكريما لألموات فإنها جاءت بوجوب حفظ النفس ،ونفي
الضرر عن األحياء ،حينما يكون الميت مصابا بممرض معد يُخشى من تعدي ضرره إلى من
يقوم بتجهيزه وتغسيله ودفنه ،فإن للشريعة حينئذ تدابير وقائية تمع انتقال العدوى من جسد
الميت لألحياء ،قال البهوتي« :ومن تعذر غسله لعدم ماء أو عذر غيره كالحرق والجذام
والتبضيع يمم؛ ألن غسل الميت طهارة على البدن فقام التيمم عند العجز عنه مقامه
كالجنابة»().
وكذلك إذا كان توقع لحوق ضرر بمن يغسله ،كما هو الحال في األمراض المعدية إذا لم يمكن
تغسيل أصحابها بطريقة يسلم بها المغسل من العدوى؛ ففي هذه األحوال كلها استثنى العلماء
هؤالء من األصل وقالوا :إنهم ال يُغسلون ،وإنما ُي َيمَّمون()<.
رابعا :احتكار السلع وقت الوباء
اتفق الحنابلة على حرمة االحتكار؛ لما فيه من تضييق على الناس() مستدلين بقول النبي صلى
هللا عليه وسلم(« :ال يحتكر إال خاطئ)() ،و بما روي عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال :قال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين ،فهو
خاطئ)() ،وقوله صلى هللا عليه( :من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد بريء من هللا تعالى،
وبرىء هللا تعالى منه)().
والمحتكر :هو الذي يتلقى القافلة ،فيشتري الطعام منهم يريد إغالءه على الناس ،وهو ظالم
لعموم الناس ،خاطئ ،والخاطئ :المذنب العاصي ،والحكمة في تحريم االحتكار :دفع الضرر
عن عامة الناس ،كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند شخص طعام ،واضطر الناس إليه،
أجبر على بيعه ،ولهذا كان لولي األمر أن يُكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند
الضرورة إليه ،مثل من عنده طعام ال يحتاج إليه ،والناس في مخمصة().