Professional Documents
Culture Documents
رفع الحرج والتيسير
رفع الحرج والتيسير
ضوابطه وتطبيقاته
تمهيد ومقدمة:
الحمد هلل رب العالمين ،كلّف عباده المؤمنين بما يطيقون وبما يستطيعون ووضع عنهم ما هم عنه يعجزون،
والصالة والسالم على سيد األنبياء والمرسلين سيدنا محمد الذي جاء برسالة عنوانها السماحة -صاحب
الوجه األنور والجبين األزهر الشافع المشفع يوم الحشر.
أما بعد:
فإن المتتبع والدارس والقارئ للفقه اإلسالمي بدقة وتمعن يجد أنه يتميز بخصائص ومميزات ال يتميز بها
غيره ،جعلته قابالً للنماء والثبات والعطاء طيلة أكثر من أربعة عشر قرنا ً من الزمن ،وسيبقى كذلك إلى أن
يرث هللا األرض ومن عليها ،ذلك أن الشريعة اإلسالمية -لذي يُعد الفقه جزءاً منها -ذات صفة عالمية
ودائمة.
ولما كانت هذه الشريعة آخر شريعة سماوية ،كان البد أن تكون مميزة بخصائص ومميزات تجعلها قابلة
للثبات واالستمرار ومواكبة لحياة اإلنسان مهما كان ،وفي أي عصر كان وفي أي مكان كان.
ومن أهم المميزات التي تميزت بها شريعتنا الغراء رفع الحرج عن المكلفين والتيسير عليهم ،وهذه ميزة
ميزت الشريعة اإلسالمية عن غيرها من الشرائع األخرى السابقة التي ضمَّنها هللا -عز وجل -من األعمال
الشاقة ما يتناسب وأحوال وأوضاع تلك األمم التي جاءت لها تلك الشرائع ،واألمثلة على ذلك كثيرة منها:
اشتراط قتل النفس للتوبة من المعصية ،والتخلص من الخطيئة ،ويدل على ذلك قوله تعالىَ ﴿ :ف ُتوبُوا ِإلَى
َأ
ارِئ ُك ْم َفا ْق ُتلُوا ْنفُ َس ُك ْم َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم عِ ْن َد َب ِ
ارِئ ُك ْم ]1[﴾ ومثله أيضا ً تطهير الثوب بقطع موضع النجاسة منه، َب ِ
وبطالن الصالة في غير موضع العبادة المخصوص ،وغير ذلك من األمور التي كلّف بها من نزلت عليهم
تلك الشرائع السابقة.
هذا ولم تسلم شريعة من الشرائع السابقة من المشاق والتشديد والعنت ،لذلك علّمنا هللا عز وجل دعا ًء وهو
ِين مِنْ َق ْبلِ َنا َر َّب َنا َوال ُت َحم ِّْل َنا َما ال َطا َق َة لَ َنا ِب ِه[﴾
قوله تعالىَ ﴿ :ر َّب َنا َوال َتحْ ِم ْل َعلَ ْي َنا ِإصْ راً َك َما َح َم ْل َت ُه َعلَى الَّذ َ
.]2بل إن هذه األمة قد بشرت بنبيها محمد -صلى هللا عليه وسلم -األنبياء الذين سبقوه -صلى هللا عليه
وسلم -وجاءت صفاته في التوراة واإلنجيل والتي منها أنه سيُبعث -صلى هللا عليه وسلم -ميسِ راً ومخفِفا ً
عن األمة التي سيبعث فيها.
ُون الرَّ سُو َل ال َّن ِبيَّ اُألمِّيَّ الَّذِي َي ِج ُدو َن ُه َم ْك ُتوبا ً عِ ْندَ ُه ْم فِي ال َّت ْو َرا ِة َواِإل ْن ِج ِ
يل َيْأ ُم ُر ُه ْم قال تعالى ﴿ :الَّذ َ
ِين َي َّت ِبع َ
ض ُع َع ْن ُه ْم ِإصْ َر ُه ْم َواَأل ْغال َل ت َوي َُحرِّ ُم َعلَي ِْه ُم ْال َخ َب َ
اِئث َو َي َ ف َو َي ْن َها ُه ْم َع ِن ْال ُم ْن َك ِر َو ُي ِح ُّل لَ ُه ُم َّ
الط ِّي َبا ِ ِب ْال َمعْ رُو ِ
ض ُع َع ْن ُه ْم ِإصْ َر ُه ْم َواَأل ْغال َل ﴾ أنه -صلى هللا عليه ت َعلَي ِْه ْم .]3[﴾ ومعنى قوله -عز وجلَ ﴿ -و َي َ الَّتِي َكا َن ْ
وسلم -جاء بالتيسير والسماحة.
الفصل األول
المبحث األول
لغة :نقيض الخفض في ك ّل شي ٍء، رفع الحرج :مر ّكب إضافيّ ،تتو ّقف معريفته على معرف ٍة لفظ ّيةٍ ،فالرّفع ً
شيء ارتفاعا ً إذا عال ،ويأتي
شيء ،واألصل في ما ّدة الرّفع العلوّ ،يقال :ارتفع ال ّ
وال ّتبليغ ،والحمل ،وتقريبك ال ّ
بمعنى اإلزالة.
يقال :رفع ال ّ
شيء :إذا أزيل عن موضعه.
قال في المصباح المنير :ال ّرفع في األجسام حقيقة في الحركة واالنتقال ،وفي المعاني محمول على ما
يقتضيه المقام ،ومنه قوله صلى هللا عليه وسلم« :رفع القلم عن ثالثةٍ» والقلم لم يوضع على الصّغير ،وإ ّنما
معناه ال تكليف ،فال مؤاخذة.
قال ابن األثير :الحرج في األصل :الضّيق ،ويقع على اإلثم والحرام.
وح ِرج إذا كان ضيّق الصّدر.
تقول رجل َح َرج َ
وقال ال ّز ّجاج :الحرج في اللّغة أضيق ال ّ
ضيّق ،ومعناه أ ّنه ضيّق ج ّداً.
والحرج في االصطالح ما فيه مش ّقة وضيق فوق المعتاد ،فهو أخصّ من معناه اللّغويّ .
اق من المش ّقة برفع ال ّتكليف من أصله أو بتخفيفه أو بال ّتخيير فيه ،أو
ش ّورفع الحرج :إزالة ما في ال ّتكليف ال ّ
بأن يجعل له مخرج.
الحرج فى اللغة :الضيق والشدة .قال فى الصحاح :مكان َح َرج و َحرج أى ضيق كثير الشجر ال تصل إليه
الراعية .وفى اإلصطالح :كل ما يؤدى إلى مشقة زائدة فى البدن أو النفس أو المال حاال أو مآال.
والمقصود بالتيسير :التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ،فالتيسير ورفع الحرج مؤداهما واحد أو هما
شىء واحد.]5[
أ -ال ّتيسير :السّهولة والسّعة ،وهو مصدر يسّر ،واليسر ض ّد العسر ،وفي الحديث« :إنّ ال ّدين يسر» أي أ ّنه
ش ّر ،وفي ال ّتنزيل العزيز قولهَ ﴿ :ف َس ُن َي ِّس ُرهُ ل ِْليُسْ َرى﴾
سهل سمح قليل ال ّتشديد ،وال ّتيسير يكون في الخير وال ّ
[الليل .]7 :وال ّنسبة بين ال ّتيسير ورفع الحرج أنّ رفع الحرج ال يكون إالّ بعد ش ّدةٍ.
شرع لنا في كذا ترخيصا ً وأرخص إرخاصا ً إذا ب -ال ّرخصة :ال ّتسهيل في األمر وال ّتيسير ،يقال :ر ّخص ال ّ
يسّره وسهّله .ور ّخص له في األمر :أذن له فيه بعد ال ّنهي عنه ،وترخيص هّللا للعبد في أشياء :تخفيفها عنه،
وال ّرخصة في األمر وهو خالف ال ّتشديد .فالرّ خصة فسحة في مقابلة ال ّتضييق والحرج.
ج -الضّرر في اللّغة ض ّد ال ّنفع :وهو ال ّنقصان يدخل في ال ّ
شيء ،فالضّرر قد يكون أثراً من آثار عدم رفع
الحرج.
المبحث الثاني
المصلحة الحاجية :هي ما تكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليها ،]6[ إو المصلحة الواقعة في محل
الحاجة .وتسمى المصلحة الحقيقية الحاجية ،أو المصلحة الحاجية اختصاراً ،أو الحاجة والحاجيات بشكل
موجز.
قال اإلمام الجويني :الوصف الحاجي هو ما يتعلق بالحاجة العامة ،وال ينتهي إلى حد الضرورة.]7[
والمصلحة الحاجية تقع بعد مرتبة المقاصد الضرورية ،ويعتبر تركها غير مفوت لمصالح الدين والدنيا،
ولكنه يوقع اإلنسان في الحرج الشديد والمشقة العظمى.
يقول الشاطبي :الحاجيات معناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى
الحرج والمشقة الالحقة بفوت المطلوب ،فإذا دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ،ولكنه ال يبلغ
مبلغ الفاسد العادي المتوقع في المصالح العامة ،وهي جارية في العبادات والعادات والمعامالت والجنايات[
.]9
ثبتت المقاصد الحاجية باستقراء األدلة واألحكام الشرعية وتتبّعها والنظر فيها ،فلم تثبت بدليل واحد أو بعدد
قليل من األدلة الشرعية ،وإنما ثبتت بأدلة كثيرة فوق الحصر ،افادت بجموعها أهمية تلك المقاصد ودورها
في قيام حاجات اإلنسان ومطالبه المهمة القريبة من الضروريات الالزمة واألكيدة.
المبحث الثالث
وتشتمل المشقة التي ال يطيقها المكلف أو المشقة التي يطيقها ولكنها خارجة على المعتاد الديني والدنيوي،
أي المشقة التي فيها التكليف بالزائد عن المطلوب والمأمور به ،والتي توقع صاحبها في الملل والسآمة،
وتشوش ذهنه وتفوت عليه مصالحه ومنافعه في الدين والدنيا.
مثل :دوام قيام معظم الليل ،والوصال في الصوم ،وفيه مما يفوق تكليف المعتاد مما يوقع في تعطيل مصالح
أخرى كثيرة كطلب الرزق والعلم وإهمال النفس واألهل ،ومشقة إدراك الصلوات وأدائها في أوقاتها،
ومخالطة الكثرة من الناس ،ووقوع التزاحم والتدافع ،وحصول الفرقة والبعد عن األهل واألوطان ،وترك
األموال واألمالك والوظائف ،والمشقة في الجهاد في سبيل هللا تعالى وما فيه من ذهاب الحياة وزوال
األموال واألطراف واألنفس ،واإلنفاق المالي بالزكوات والصدقات والتبرعات وما فيه من عنت مخالفة
النفس الراغبة في تحصيل األموال ،قال تعالى ﴿َ وِإ َّن ُه لِحُبِّ ْال َخي ِْر لَ َشدِي ٌد[ ﴾ العاديات.]10[]8 :
فهذه المشقة وإن بدا فيها الضيق والحرج والشدة ومخالفة الهوى ومكابدة المصاعب ومجاهدة النفس ،إال أنها
أعباء ضرورية ال بد منها في قيام األحكام وأداء التكاليف.
فاألفعال الشرعية من عبادات ومعامالت وأنكحة وجنايات وكفارات مرتبطة بالمشاق واألعباء التي يقدر
عليها المكلفون ،والتي ال توقع أصحابها في الحرج والضرر ،وال تؤدي بهم إلى المفاسد والمهالك ،وهي
أمور تتالزم وترتبط بشكل وثيق ومتين باألفعال واألعمال واألقوال واالعتقادات الشرعية ،فالتكيف الشرعي
ال يقوم إال بها ،وه تدور معه وجوداً وعدماً .والتكليف لم يعتبر تكليفا ً إال لما فيه من الكلفة الشاقة ،ولما
ينضوي عليه من تحمل بعض األتعاب واإلجهاد النفسي والجسدي والعقلي الذي يؤهله لمرتبة التكليف
المرجوة.
وحال هذه المشاق في األفعال الشرعية كحال المشقة في سائر أعمال الدنيا ومختلف الفنون والشؤون
واألحوال .فطلب الرزق والسعي في األرض لتحصيله ،ومزاولة الحرف والصناعات واألسفار والرحالت
وإنجاز األفراح وتنظيم المناسبات والملتقيات وإعمار األرض وتنميتها وتنظيمها ..كل ذلك فيه من المشاق
واألعباء ومن التعب والنصب ما يجعل استبعاد تلك المشاق واألعباء أمراً معطالً لقيام تلك األعمال ،ومفوتا ً
لمصالح المعاش والمعاد ،ومشوها ً لنظام الحياة والوجود.
فخذ مثال األكل مثالً أو مثال الجماع لتدرك ما لهذين الفعلين من المشاق والتكلفة وهما على الرغم من ذلك
ما تلحظ من اإلقبال عليهما والرغبة فيهما وكيف أنهما من أمارات السعادة والسعة ومن عالمات الخير ومن
ضروب الطيبات والمباحات التي أنعم هللا تعالى تفضالً منه وكرما ً على عباده وخلقه.
فاألكل مسبوق بمشاق الضرب في األرض ،والبحث عن الرزق وتحصيله وتناوله ،وهو متبوع بمشاق
هضمه وإفرازاته وتطهير مواضعه من األكل نفسه ومن األرض ومحيطها ثم هو قد يتبع بآثار من األضرار
الصحية والنفسية والبيئية ،بل قد يتبع في األجل األبعد عند وفاة اإلنسان وبعث وحشره بسوء الخاتمة وسوء
الحساب بسبب الكسب الحرام واألكل الحرام.
فتالحظ أن األكل باعتباره عملية يومية عادية وشأنا ً مفرحا ً وطيبا ً ومطلوباً ،كيف أن المشاق قد أحاطت به
من كل جانب وكيف أ ،اآلالم قد الزمته في أطوار مختلفة في المعاش والمعاد في الدنيا واآلخرة.
غير أن األكل ظل وال يزال أمراً ال بد منه وضرورة لقيام النفس والحياة ،وأن المشاق التي ينضوي عليها
ويؤول إليها متالزمة ال تنفك عنه ول تتخلص منه.
أما بالنسبة للجماع ،فهو فعل محبوب ومرغوب ،وهو طريق التناسل واإلعمار ،وهو سبيل حفظ األعراض
واألنساب ،وهو المنظم للحياة والعالقات.
فالجماع المشروع الحالل موصوف بكل صفات الفضيلة والحسن ،وهو استجابة الفطرة وسد الحاجة ،وهو
أداء وظيفة التكليف واالستخالف واإلعمار في هذه األرض ،وهو فوق ذلك مدعو إليه ومرغوب فيه ،وقد
أثنت عليه نصوص الكتاب والسنة مما يجعله مقصداً معتبراً وأصالً وسبيالً لمقاصد جمّة ومصالح ع ّدة.
غير أنه منوط بالمشاق واآلالم ومرتبط بالمتاعب واإلعياء ،فهو منوط بمشقة االستعداد والتحضير وإعباء
اإلنفاق والتربية والرعاية ،وصور التعب والمتابعة في القيام بواجب الزوجية واألبوة واألمومة ،والمسؤولية
العظمى أمام الخالق جل وعال إن لم تؤ ّد على حقها وشروطها.
إن الخالصة لما سبق أن المشقة المقدور عليها ُتتحمّل ،و ُتؤ ّدى لتحقيق التكليف وإنجازه وصحته.
وهي المرتبطة بسائر األحكام واإللتزامات الشرعية في مجال العبادات والمعامالت وغيرها من التصرفات.
وهذه المشقة ال تنفك عن التكليف وال تتخلص منه ،وهي تدور معه وجوداً وعدماً .والتكليف ال يعد تكليفا ً إال
إذا انطوى على ما فيه الكلفة الشرعية والمشقة الالزمة.
أو هي المشقة التي يستطيع المكلف تحملها غير أنها خارجة عن المعتاد في األعمال العادية ،بحيث يحصل
للنفوس التشوش والقلق في القيام بها لما في ذلك من الحرج الشديد .كما يقول الشاطبي – ويقلقها هذا العمل
بما فيه من هذه المشقة.]11[
ولو أردنا ضبط ذلك فيمكن بالنظر في العمل وما يؤدي إليه أداؤه أو الدوام عليه من االنقطاع عنه أو عن
بعضه أو من وقوع خلل في صاحبه في نفسه وماله وأحواله .فإن لم يكن فيه شيء من ذلك في الغالب فال
يعد مشقة وإن سمي كلفة.]12[
فيالحظ وجود أحد أمرين :االنقطاع عن العمل أو وقوع الخلل ،ونزيد األمر بسطا ً ووضوحا ً فنقول:
المظهر األول :السآمة والملل :وقد أشار إلى ذلك النبي -صلى هللا عليه وسلم -بقوله( :خذوا من األعمال ما
تطيقون فإن هللا ال يم ّل حتى تملّوا)[ .]13ويستدل بذلك أيضا ً بأحاديث النهي عن الوصال ،فقد نهى -صلى
هللا عليه وسلم -أصحابه عنه ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :ال تواصلوا ،قالوا :يا رسول هللا! فإنك
تواصل ،قال :إني لست كمثلكم ،إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ،قال :فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم
النبي صلى هللا عليه وسلم يومين وليلتين ،ثم رأوا الهالل ،فقال النبي صلى هللا عليه وسلم :لو تأخر الهالل
لزدتكم ،كالمنكل لهم .وقال (لو مد لنا الشهر لواصلت وصاالً يدع المتعمقون تعمقهم ،إني لست مثلكم ،إني
أبيت يطعمني ربي ويسقين)[.]14
المظهر الثاني :االنقطاع :بسبب تزاحم الحقوق فإنه إذا أوغل في عمل شاق فربما قطعه عن غيره وال سيما
حقوق الغير التي تتعلق به فتكون عبادته أو عمله الداخل فيه قاطعا ً لما كلفه هللا به فيقصر فيه فيكون بذلك
ملوما ً ال معذوراً .إذ المطلوب منه القيام بجميعها على وجه ال يخل بواحد منها وال بحال من األحوال.
فحينما آخى -صلى هللا عليه وسلم -بين سلمان وأبي الدرداء -رضي هللا عنه -رأى سلمان أن أبا الدرداء
ليس له حاجة في الدنيا .فقال له سلمان :إن لربك عليك حقا ً ولنفسك عليك حقا ً وألهلك عليك حقاً ،فأعط كل
ذي حق حقه .فأتى النبي -صلى هللا عليه وسلم -فذكر ذلك له فقال (صدق سلمان)[.]15
وقد يعجز الموغل في بعض األعمال عن الجهاد أو غيره وهو من أهل الغناء فيه ،ولهذا روي في الحديث
عن سيدنا داود -صلى هللا عليه وسلم ( -كان يصوم يوما ً ويفطر يوما ً وال يفر إذا القى)[ .]16ومن هنا
تظهر علة النهي عن اإليغال في العمل وأنه يسبب تعطيل وظائف كما يسبب الكسل والترك ويبغض العمل.
فإذا وجدت العلة أو كانت متوقعة نهى عن ذلك ،وإن لم يكن شيء من ذلك فاإليغال فيه حسن ،ويقد يكون
الدافع إليه هو الخوف أو الرجاء أو المحبة.]17[
العمل الخارج عن المعتاد قد يؤدي إلى وقوع خلل في المكلف ،وهذا الخلل قد يكون في النفس سواء أمراض
بدنية أو نفسية ،فإذا علم المكلف أو ظن أنه يدخل عليه في جسمه أو نفسه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به
ويعنته ويكره بسببه العمل فهذا أمر ليس له ،وكذلك إن لم يعلم بذلك وال ظن ولكنه لما دخل في العمل دخل
عليه ذلك ،فحكمه اإلمساك عما دخل عليه المشوش وفي مثل هذا جاء عنه -صلى هللا عليه وسلم ( -ليس
من البر الصيام في السفر)[ .]18وفي مثله كذلك نهى عن الصالة بحضرة الطعام وال هو يدافعه األخبثان[
.]19وقال (ال يقض القاضي وهو غضبان)[.]20
فحاصل ما تقدم أن المكلف إذا كان يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل هذه المشقة الزائدة على المعتاد
فتؤثر فيه أو في غيره فسادا أو تحدث له ضجراً أو ملالً وقعوداً عن النشاط إلى ذلك العمل فينقطع في
الطريق ويبغض إلى نفسه العمل كما هو الغالب في المكلفين.]21[
بعد أن ذكرنا ضوابط المشقة غير المعتادة من حيث ما تؤدي إليه من االنقطاع والملل وحصول الخلل
للمكلف ال بد من التنبيه إلى أن هذه المشقة قد يصعب تلمسها في الواقع التطبيقي ،فال بد من ذكر ضابط
يهتدي به المكلف وبخاصة المفتي والفقيه من أجل إدراك ما يكون مؤثراً في التخفيف بالمقارنة بما نص
عليه الشارع من مشقات يؤدي الوقوع فيها إلى سلوك سبيل التخفيف والترخيص .يقول العز بن عبد السالم
في ذلك :إن الشرع قد ربط التخفيفات بالتشديد واألشد والشاق واألشق غير أن معرفة الشديد والشاق على
وجه التحديد متعذرة فال بد من التقريب فتضبط مشقة كل عبادة بأدنى المشاق فإذا كانت مثلها أو أزيد ثبتت
الرخصة ،ولن يعلم التماثل إال بالزيادة ،إذ ليس في قدرة البشر الوقوف على تساوي المشاق فإذا زادت
إحدى المشقتين على األخرى علمنا أنهما قد استويا فيما اشتملت عليه المشقة الدنيا منهما وكان ثبوت
التخفيف والترخيص بسبب الزيادة ]22[ انتهى.
فاألعذار المنصوص على التخفيف من أجلها في عبادة معينة كالسفر والمرض ينظر في المشقة الحاصلة
بسبب هذا العذر فإذا حصل أشق منها في نفس الظرف وفي نفس العبادة قيل بالتخفيف ،فالتأذي بالقمل مبيح
للحلق في حق المتلبّس بالنسك ،فيعتبر ّ
تأذيه باألمراض بمثل مشقة القمل ،ومثلها المشاق المبيحة للبس
والطيب والدهن وغيرها من المحظورات وكذلك األعذار في ترك الجمعة والجماعة ،غير أنه كلما اشتد
اهتمام الشرع بعبادة من العبادات أو عمل من األعمال شرط في تخفيفه مشاق شديدة وعامة ،وما لم يهتم به
خففه بالمشاق الخفيفة ،وقد تخفف مشاقه مع شرفه وعلو مرتبة لتكرر مشاقة كيال يؤدي إلى المشاق العامة
الكثيرة الوقوع.]23[
ويمكن أن يقال أن هذا االهتمام بالمطلوبات الشرعية يتمايز بالنظر إلى عدة اعتبارات من أبرزها:
إن تقدير المشقة في العبادات قد يختلف عنه في غيرها من عادات ومعامالت ،ومر ّد ذلك إلى اهتمام الشرع
بجانب العبادات ،حيث إن العبادات مشتملة على مصالح العباد وسعادة الدنيا واآلخرة .فال يليق تفويتها
بمسمى المشقة مع يسر احتمالها ،ولذلك قال من قال أن ترك الرخص في كثير من العبادات أولى وألن
تعاطي العبادة مع المشقة أبلغ في إظهار الطواعية وأبلغ في التقرب .ولذلك قال -صلى هللا عليه وسلم -
(أفضل العبادات أحمزها)[ .]24وقال (أجرك على قدر نصيك)[ .]25وأما المعامالت فتحصل مصالحها
التي بذلت األعراض فيها بمسمى حقائق الشرع والشروط بل التزام غير ذلك يؤدي إلى كثرة الخصام ونشر
الفساد وإظهار العناد .]26[ وللشاطبي وجهة نظر في بعض العقود كالقارض والسلم والمساقاة فهي عقود
مستثناة لكن استثناؤها ليس للمشقة ،إنما هو الحاجة من غير وجود مشقة كما هو المفترض في الرخص
االصطالحية حسب تعريفه .]27[ ذلك أن هذه العقود يجوز التعامل بها حيث ال عذر وال عجز ،ولو كانت
مستثناة من أصل ممنوع وإنما يكون مثل هذا داخالً في أصل الحاجيات الكليات.]28[
قرر العلماء أن اعتناء الشرع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات ،لذا قال -صلى هللا عليه وسلم ( -إذا
أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ،وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)[.]29
فالمنهيات تجتنب على اإلطالق ،أما المأمورات فيأتي اإلنسان منها بقدر االستطاعة .ومن ثم سومح في ترك
بعض الواجبات بأدنى مشقة كالقيام في الصالة والفطر والطهارة ولم يسامح في اإلقدام على المنهيات
وخصوصا ً الكبائر ،وكل ذلك يرجع إلى قاعدة – درء المفاسد أولى من جلب المصالح.-
يقصد به النظر إلى المشقة من حيث كون الفعل مقصوداً في نفسه أو وسيلة إلى غيره كالوضوء من أجل
الصالة والسفر من أجل الحج ،وقد تكون تابعة من أفعال هي قاصد في حد ذاتها كأفعال الصالة الحج
وغيرها.
وهذا الموضوع له جهتان :إحداهما جهة األجر النائيء عن االختالف في الوسائل كمن كان منزله بعيداً عن
المسجد بالنسبة لمن هو قريب منه ،وكذلك الوضوء في شدة البرد بالنسبة لمثله في الزمن المعتدل.
أما الجهة األخرى :فهو االغتفار في األمور إذا كانت وسائل مما ال يغتفر مثله في المقاصد .وقد قالوا :يغتفر
في الوسائل ما ال يغتفر في المقاصد .]30[ فالشيء الذي هو مقصود في نفسه من شأنه أال يترك في المكره
والمنشط إذ ال يتحقق شيء من العمل عند تركه.
أما ما شرع لكونه وسيلة إلى غيره فهذا القسم من شأنه أن يرخص فيه عند المكاره ،وعلى هذا يخرج
الرخص في ترك استقبال القبلة إلى التحرّي في الظلمة ونحوها ،وترك ستر العورة لمن لم يجد ثوبا ً فهو
يصلي على حسب حاله ،وكذلك االنتقال من الوضوء إلى التيمم لمن لم يجد الماء ،وترك الفاتحة إلى ذكر
من األذكار لمن ال يقدر عليها ،وتر القيام إلى القعود واالضطجاع لمن ال يستطيعه ،وترك الركوع والسجود
إلى االنحناء لمن ال يستطيعهما.]31[
الفصل الثاني
المبحث األول
النوع األول :النص على نفي الحرج :جاء في القرآن الكريم آيات كريمة فيها النص على نفي الحرج عن
هذا الدين ،آيتان منها تنفي الحرج عن الدين كله وبخاصة آية الحج .واآليات األخر تنفي الحرج عن فئات
معينة وفي حاالت خاصة ،وهذا ال يعني أنها قاصرة في الداللة على من نصت عليهم اآليات كما سيتضح
من كالم أهل العلم ،والعبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب.
-1قال تعالى ﴿َ ما ي ُِري ُد هَّللا ُ لِ َيجْ َع َل َعلَ ْي ُك ْم مِنْ َح َر ٍج َولَكِنْ ي ُِري ُد لِ ُي َطه َِّر ُك ْم َولِ ُي ِت َّم نِعْ َم َت ُه َعلَ ْي ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم َت ْش ُكر َ
ُون[﴾
.]32هذا جزء من آية كريمة في سورة المائدة جاء ختاما ً للكالم عن أحكام الوضوء والغسل والجنابة
والتيمم عند فقد الماء أو العجز عن استعماله ،مما يتبين أن الغاية في هذه التشريعات ليس االنات والمشقة،
إنما هو تكليف مع تخفيف للتطهير وإمام النعمة.
ين مِنْ َح َر ٍج ِملَّ َة َأ ِبي ُك ْم ِإب َْراهِي َم .]33[﴾ هذا جزء من آية كريمة جاء -2قال تعالى ﴿َ و َما َج َع َل َع َل ْي ُك ْم فِي ال ِّد ِ
تعقيبا ً بعدما أمر هللا تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالركوع والسجود واإلتيان بمجمل الطاعات من العبادة
ِين آ َم ُنوا ارْ َكعُوا َواسْ ُج ُدوا وفعل الخير والمجاهدة في هللا تعالى حق جهاده حيث يقول عز وجل ﴿َ يا َأ ُّي َها الَّذ َ
ُونَ * و َجا ِه ُدوا فِي هَّللا ِ َح َّق ِج َها ِد ِه ه َُو اجْ َت َبا ُك ْم َو َما َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي
َواعْ ُب ُدوا َر َّب ُك ْم َوا ْف َعلُوا ْال َخي َْر لَ َعلَّ ُك ْم ُت ْفلِح َ
ين مِنْ َح َر ٍج ِملَّ َة َأ ِبي ُك ْم ِإب َْراهِي َم.]34[﴾ .. ال ِّد ِ
يقول أهل التفسير :إن هللا سبحانه وتعالى ما كلف عباده ما ال يطيقون ،وما ألزمهم بشيء يشق عليهم إال
جعل هللا لهم فرجا ً ومخرجاً .صح عن ابن عباس -رضي هللا عنه -قال :إنما ذلك سعة اإلسالم وما جعل
هللا فيه من التوبة والكفارات ،فليس هناك ضيق إال ومنه مخرج ومخلص ،فمنه ما يكون بالتوبة ومنه ما
يكون برد المظالم ،فليس في دين اإلسالم ما ال سبيل إلى الخالص من عقوبته.
ولقد كانت الشدائد والعزائم في األمم فأعطى هللا هذه األمة من المسامحة واللين ما لم يعط أحداً قبلها رحمة
من هللا وفضالً ،فأعظم حرج رفع المؤاخذة بما نبدي في أنفسنا ونخفيه وما يقترن به من إصر وضع ع ّنا،
وتوبتنا تكون بالندم والعزم على ترك العود واالستغفار بالقلب واللسان ،أما من قبلنا فقيل لهم ﴿َ ف ُتوبُوا ِإلَى
َأ
ارِئ ُك ْم .]35[﴾ يقول ابن العربي :ولو ذهبت إلى تعديد نعم هللا في ارِئ ُك ْم َفا ْق ُتلُوا ْنفُ َس ُك ْم َذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم عِ ْن َد َب ِ
َب ِ
رفع الحرج لطال المرام.]36[
بل لقد قال اإلمام أبو بكر الجصاص :ولما كان الحرج هو الضيق ونفى هللا عن نفسه إرادة الحرج بنا ساغ
االستدالل بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات فيكون القاتل
بما يوجب الحرج والضيق محجوجا ً بظاهر هذه اآلية.]37[
صحُواون َح َر ٌج ِإ َذا َن َ
ون َما ُي ْنفِقُ َ ِين اَل َي ِج ُد َ ض َع َفا ِء َواَل َعلَى ْال َمرْ َ
ضى َواَل َع َلى الَّذ َ ْس َعلَى ال ُّ -3قوله تعالى ﴿ لَي َ
يل َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َرحِي ٌم .]38[﴾ هذه اآلية أصل في سقوط التكليف عن ِين مِنْ َس ِب ٍ هَّلِل ِ َو َرسُولِ ِه َما َعلَى ْالمُحْ سِ ن َ
العاجز ،فكل من عجز عن شيء سقط عنه فتارة إلى بدل هو فعل ،وتارة إلى بدل هو غرم ،ور فرق بين
العجز من جهة القوة العجز من جهة المال ،ونظير ذلك قوله تعالى ﴿ اَل ُي َكلِّفُ هَّللا ُ َن ْفسً ا ِإاَّل وُ سْ َع َها.]39[﴾
والمراد بالضعفاء :العاجزون عن العدو وتحمل المشاق وإن كانوا أصحاء كالشيخ والصبي والمرأة
والنحيف .أما المرضى :فهم العاجزون بأمر عرض لهم كالعمى والحرج .والذين ال يجدون ما ينفقون :هم
الفقراء ولو كانوا أقوياء وأصحاء.]40[ فكل هؤالء ليس عليهم إثم وال ذنب إذا تخلفوا عن الجهاد إذا نصحوا
هلل ورسوله وأخلصوا اإليمان والعمل الصالح فلم يرجفوا ولم يثيروا الفتن وأوصلوا الخير إلى المجاهدين
وقاموا بمصالح بيوتهم إذا دعت الحاجة إلى ذلك ونقل األخبار السارة عن المجاهيدن ،فكل ذلك من األمور
التي هي في مجرى اإلعانة على الجهاد.]41[
النوع الثاني :آيات التيسير والتخفيف :وهذا النوع في آيات التفسير والتخفيف والرحمة ،وهذه األوصاف ال
يمكن أن تجامع الحرج فهي جلية بينة في رفع الحرج ونفيه عن هذه الشريعة السمحة ،وهي آيات ال يمكن
حصرها إنما نقتصر على طائفة منها واضحة الداللة مع بعض تقريرات أهل العلم عليها.
-1قوله تعالى ﴿ :ي ُِري ُد هَّللا ُ ِب ُك ُم ْاليُسْ َر َواَل ي ُِري ُد ِب ُك ُم ْالعُسْ َر َولِ ُت ْك ِملُوا ْال ِع َّد َة .]42[﴾ ..تبين اآلية الكريمة أنه
سبحانه وتعالى أراد بتشريعه األحكام اليسر ،واليسر :كل ما يجهد النفس وال يثقل الجسم ،أما العسر فهو ما
يجهد النفس ويضر الجسم ،وداللتها على المقصود ظاهرة جلية .فإذا أراد هللا اليسر ونفى العسر فقد نفى
الحرج ،وهل الحرج أال عسر وكذا إذا أراد اليسر نفى الحرج .واآلية وإن كانت في شأن الرخص في
الصيام إال أن المراد منها العموم ،كما صرح بذلك غير واحد من المفسرين.]43[
ك ل ِْليُسْ َرى .]44[﴾ أي للحنفية السمحة السهلة التي هي أيسر الشرائع وأوفقها بحاجة
-2قوله تعالى ﴿َ و ُن َي ِّس ُر َ
البشر مدى الدهر.
ضعِي ًفا .]45[﴾ واآلية الكريمة وردت في بيان -3قوله تعالى ﴿ ي ُِري ُد هَّللا ُ َأنْ ي َُخ ِّف َ
ف َع ْن ُك ْم َو ُخل َِق اِإْل ْن َسانُ َ
المحرمات في النكاح وما أبيح من نكاح اإلماء عند العجز عن الحرائر .لذا رأى بعض العلماء أن المراد من
التخفيف إباحة نكاح اإلماء عند الضرورة ،وأن الضعف في اإلنسان هو الضعف أمام الشهوة .والقول
الراجح الذي صرح به كثير من المفسرين أن المراد عموم التخفيف في الشريعة وذلك يبتني على ضعف
اإلنسان أمام رغباته ومغريات الحياة .فاهلل سبحانه وتعاىل يسرد لهذا المخلوق الضعيف التخفيف والرحمة
واليسر ورفع الحرج والمشقة وإزالة الضرر.
-1عن ابن عباس -رضي هللا عنه -قال :قيل يا رسول هللا .أي األديان أحب إلى هللا؟ قال :الحنفية السمحة.
[.]46وأخرجه الب ّزار من وجه آخربلفظ :أي اإلسالم؟ .قال ابن حجر وإسناده حسن.
-2أورد الهيتمي في مجمع الزوائد والسيوطي في األشباه أحاديث بألفاظ متقاربة وأسانيد مختلفة كـ (بعثت
بالحنفية السمحة) و (إن أحب الدين إلى هللا الحنفية السمحة) .وعن أبي بن كعب -رضي هللا عنه -قال:
أقرأني النبي -صلى هللا عليه وسلم ( -إن الدين عند هللا الحنفية السمحة ال اليهودية وال النصرانية)
-3عن غاضرة بن عروة الفقيمي -رضي هللا عنه -قال :كنا ننتظر النبي -صلى هللا عليه وسلم -فخرج
يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلى ،فلما قضى الصالة جعل الناس يسألونه :يا رسول هللا .أعلينا حرج
في كذا؟ فقال -صلى هللا عليه وسلم :-ال ،أيها الناس ،إن دين هللا عز وجل في يسر ،إن دين هللا عز وجل
في يسر ،إن دين هللا عز وجل في يسر]47[.
النوع الثاني :في خشيته - صلى هللا عليه وسلم -أن يكون قد شق على أمته:
-1عن عائشة -رضي هللا عنه -عن النبي -صلى هللا عليه وسلم -أنه خرج من عندها مسروراً ثم رجع
إليها وهي كئيب ،فقال :إني دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها إني أخاف أن أكون
قد شققت على أمتي.]48[
-2أنه -صلى هللا عليه وسلم -صلى ذات ليلة من رمضان فصلى الناس بصالته ،ثم صلى القابلة فكثر
الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم ،فلما أصبح قال :قد رأيت الذي صنعتم فلم
يمنعني من الخروج إليكم إال أني خشيت أت تفرض عليكم ،وفي رواية فتعجزا عنها.]49[
-3قال -صلى هللا عليه وسلم ( -إني ألقوم إلى الصالة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوّ ز
كراهية أن أشق على أمّه)[.]50
النوع الثالث :في أمره - صلى هللا عليه وسلم -بالتخفيف ونهي أصحابه عن التعمق والتشديد وإنكاره
عليهم:
-1كان معاذ -رضي هللا عنه -يصلي معه -صلى هللا عليه وسلم -ثم يأتي فيؤم قومه ،فصلى ذات ليلة مع
النبي -صلى هللا عليه وسلم -ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة ،فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحد
وانصرف ،فقالوا له :أنافقت يا فالن؟ قال :ال وهللا وآلتين رسول هللا فألخبرنه ،فأتى رسول هللا -صلى هللا
عليه وسلم .-فقال :يا رسول هللا إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار ،وإن معاذاً صلى معك العشاء ثم أتى
فافتتح بسورة البقرة ،فأقبل -صلى هللا عليه وسلم -على معاذ ،فقال :يا معاذ أف ّتان أنت؟! اقرأ بكذا .وفي
الرواية األخرى سبح اسم ربك األعلى والليل إذا يغشى والضحى.]51[
-2جاء رجل إلى رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -فقال :إني أتأخر عن صالة الصبح من أجل فالن مما
يطيل بنا .يقول راوي الحديث وه أبو مسعود األنصاري ،فما رأيت النبي -صلى هللا عليه وسلم -غضب
في موعظة أشد مما غضب يومئذ ،فقال :أينا الناس إن منكم منفرين فأيكم أ ّم الناس فليوجز فإن ورائه الكبير
والضعيف ذا الحاجة.]52[
وتوجيهاته -صلى هللا عليه وسلم -في هذا مما يجل عن الحصر في مثل هذا المقام فالسهولة والرفق واألخذ
باأليسر ومراعاة أحوال الناس ديدنه عليه أفضل الصالة وأت ّم التسليم.
المبحث الثاني
مظاهر التيسير في األحكام Aوغيرها:
-1الفرائض:
األصل في العبادات التوقيف ،فال يتعبد هللا إال بما شرعه في كتابه وعلى لسان نبيه -صلى هللا عليه وسلم .-
فالعبادة حق خالص له سبحانه وتعالى قد طلبه من عباده بمقتضى ربوبيته لهم ،وكيفية العبادة وهيئاتها
والتقرب بها ال يكون إال على الوجه الذي شرعه وأذن به ،قال تعالى ﴿َ أ ْم لَ ُه ْم ُ
ش َر َكا ُء َش َرعُوا لَ ُه ْم م َِن ال ِّد ِ
ين
َما لَ ْم َيْأ َذنْ ِب ِه هَّللا ُ .]53[﴾ وجانب اليسر في هذا القصر والتحديد ظاهر ،فالعبادات تمثل مطلوبات شرعية،
والمطلوب ثقيل على النفس ،فمن رحمة هللا تعالى أنه لم يكله إلى المخلوقين وإال ألدخل بعض المكلفين
أنفسهم العنت والمشقة .وقد أراد بعض الصحابة هذا السلوك في التعمق والتشدد لكنه -صلى هللا عليه وسلم
-بين لهم أن ذلك رغبة عن سنة اإلسالم فاإلسالم في مجال العبادات محدود ال يقبل الزيادة .والعبادة
المفروضة سهلة ميسرة ،فالصالة التي هي عمود اإلسالم ال تجب في اليوم أكثر من خمس مرات على كيفية
خفيفة ميسرة ،إضافة إلى مراعاة تخفيفها العتبارات أخرى كضعف المصلي أو مرضه أو حاجته ،فاإلنسان
لو بذل غاية الطاقة يستطيع فوق ذلك.
أما الزكاة فهي فريضة مالية على األغنياء من المسلمين إذا تحققت شروطها سواء ما يتعلق بالمال أو مالكه،
وهذه الفريضة ال تمثل إال نسبة من المال الفائض عند المالك ،ومعلوم أن الزكاة ال تجب في كل ما يملك
اإلنسان فالدار التي يسكنها والمركب الذي يركبه وكل ما يستهلكه مهما بلغ من قيمة وال يحول عليه الحول
ال زكاة فيه.
أما الصيام فقد بيّن سبحانه وتعالى فقال ﴿ ي ُِري ُد هَّللا ُ ِب ُك ُم ْاليُسْ َر َواَل ي ُِري ُد ِب ُك ُم ْالعُسْ َر َولِ ُت ْك ِملُوا ْال ِع َّد َة .]54[﴾ مما
يبين أن المقصود من شرعية الصيام تهذيب النفس والوصول بها إلى مراقي التقوى ال العسر والمشقة
باألمساك عن الطعام والشراب والشهوة.
أما الحج فإنه ال يجب في عمر المكلف أكثر من مرة إذا توافرت شروطه من قدرة بدنية ومالية وأمن طريق
اع ِإلَ ْي ِه َس ِبياًل .]55[﴾
﴿َ م ِن اسْ َت َط َ
هذه هي أهم العبادات في اإلسالم ،سهلة ميسرة في األحوال والظروف المعتادة ،أم في الحاالت الطارئة
والظروف االستثنائة فتأخذ هيات وأحكام تناسب مع وضع الملكف في تلك الظروف واألحوال.
-2النوافل:
شرعت النوافل للمحافظة على الفرائض ولتربية النفس المسلمة وتقوية صلة المسلم باهلل عز وجل .وطلب
المواظبة على بعض النوافل ليس المراد منه االتيان بها على هيئة ثقيلة شاقة ،إنما المداومة على هيئة ال
تؤدي إلى االنقطاع ،فأحب الدين إلى هللا تعالة ما داوم عليه صاحبه وإن قل .يقول لنووي رحمه هللا :إن دوام
القليل به تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة واإلخالص ،واإلقبال على هللا بخالف الكثير الشاق حتى ينمو
القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا ً كثيرة .ويقول ابن الجوزي :إن مداوم الخير مالزم
للخدمة وليس من الزم الباب في كل يوم وقتا ً كمن الزم يوما ً كامالً ثم انقطع.]56[
والمقصود من الطاعات استقامة النفس ودفع اعوجاجها ال اإلحصاء وبلوغ الغاية فإنه كالمتعذر ،وفي ذلك
قال -صلى هللا عليه وسلم ( -استقيموا ولن تحصوا)[.]57
واالستقامة تحصل بمقدار معين يسير مع المداومة عليه على وجه ال يفضي إلى إهمال االرتفاقات
الالزمة وال إلى غمط حق من الحقوق كما قال سلمان -رضي هللا عنه -ألبي الدرداء -رضي هللا عنه :-
إن لنفسك عليك حقا ً وإن لزوجك عليك حقاً ،وقد صدقه عليه الصالة والسالم بل هو قوله وفعله حيث قال
(أصوم وأفطر وأقوم وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)[]58
وإن من مقاصد التشريع سد باب التعمق والتنطع في الدين لئال يتمسك بها جيل فيأتي من بعدهم فيظنوا أنها
من الطاعات المفروضة عليهم ثم مع تعاقب الزمن يتحول الظن إلى يقين فيقع الحرج بل قد يصل إلى
التحريف والزيغ وهو ما ذكره هللا في قوله عز وجل ﴿َ و َرهْ َبا ِني ًَّة ا ْب َتدَ عُو َها َما َك َت ْب َنا َها َعلَي ِْه ْم ِإاَّل ا ْبت َِغا َء
ان هَّللا ِ َف َما َر َع ْو َها َح َّق ِر َعا َي ِت َها .]59[﴾ ولقد وجه -صلى هللا عليه وسلم -أمته أن يقتصدوا في العمل ِرضْ َو ِ
وأن ال يجاوزا إلى حد يفضي إلى الملل أو إهمال الحقوق ،وفي السنة من ذلك ما ال يكاد يحصى كقوله عليه
الصالة والسالم (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إال غليه فسدوا وقاربوا وأبشروا)[.]60
هذا هو المسلك في النوافل طريق لتحصيل الثواب وإكمال لما يعتري الفرائض من خلل من غير مشقة أو
حرج ولكن أخذ باليسير من األمر ،أما التشديد واإلثقال المؤدي إلى االنقطاع فهذا غير مأمور به وحال
صاحبه كالمنبت ال ظهراً ابقى وال أرضا ً قطع.
المبحث الثالث
الرخصة في اللغة هي اليسر والسهولة ،وفي االصطالح اسم لما أباحه الشارع عند الضرورة تخفيفا ً عن
المكلين ورفعا ً للحرج عنهم.]61[
أو هي ما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم.]62[
أو هي ما شرع من األحكام لعذر مع قيام المحرم لوال العذر لثبتت الحرمة.]63[
فنلحظ من خالل تلك التعاريف بأن المكلف في األصل أنه قد شرع في حقه أحكام يجب أن يلتزم بها وهي ما
تسمى بالعزيمة وهي األحكام التي شرعت ابتدا ًء دون وجود ظروف طارئة يمر بها المكلف ،ولكن قد يحدث
وأن تمر على المكلف ظروف طارئة ،وأعذار تستدعي التخفيف ،لوالها لبقي الحكم األصلي ولكن تخفيفا
عن المكلفين ورفعا ً للحرج عنهم ،ودفعا ً للمشقة عنهم شرعت الرخصة والتي هي استثناء جزئي من كلي،
وسبب االستثناء مالحظة الشارع الضرورات واألعذار ،ولذا فإن األصوليين يعدون تشريع الرخص من
باب المصالح الحاجية والتي شرعت لحاجة الناس إليها ،والتي لو لم تشرع لوقع الناس في حرج ومشقة
وعنت.
-1ما انتقل فيه الحكم من المنع الذي يقتضيه الدليل إلى الجواز الذي يعم الوجوب كأكل الميتة للمضطر
بالقدر الذي يدفع به عن نفسه الهالك وهذا ثابت بقوله تعالىَ ﴿ :وال ُت ْلقُوا ِبَأ ْيدِي ُك ْم ِإلَى ال َّت ْهلُ َك ِة ]64[﴾ ودل
اغ َوال َعا ٍد َفال ِإ ْث َم َعلَ ْي ِه ِإنَّ هَّللا َ َغفُو ٌر َرحِي ٌم،]65[﴾ وهذا على خالف ُ
عليه قوله تعالىَ ﴿ :ف َم ِن اضْ طرَّ َغي َْر َب ٍ
قوله تعالىِ ﴿ :إ َّن َما َحرَّ َم َعلَ ْي ُك ُم ْال َم ْي َت َة ]66[﴾ كما يعم أيضا ً الندب مثاله :كقصر الصالة الرباعية للمسافر عند
َمن يرى بأن ذلك مندوب وهو ثابت بقوله -صلى هللا عليه وسلم ( -صدقة تصدق هللا بها عليكم فاقبلوا
صدقته)[ ]67على خالف الدليل الموجب لإلتمام وهو قوله -صلى هللا عليه وسلم ( -وصلوا كما رأيتموني
أصلي) ]68[ كما يعم اإلباحة كرؤية الطبيب المعالج لعورة المرأة -إذا لم توجد الطبيبة المسلمة -فقد كان
ممنوعا ً محرما ً إالّ أنه أبيح لرفع الحرج وتيسيراً على المكلفين.
ويعم أيضا ً خالف األولى كالفطر في نهار رمضان لمن ال يتأذى من الصوم الثابت بقوله تعالىَ ﴿ :ف َمنْ َك َ
ان
َّام ُأ َخ َر ]69[﴾ وهو على خالف قوله تعالىَ ﴿ :ف َمنْ َش ِهدَ ِم ْن ُك ُم ال َّشه َْر َأ َأ
ِم ْن ُك ْم َم ِريضا ً ْو َعلَى َس َف ٍر َف ِع َّدةٌ مِنْ ي ٍ
ُون.]71[﴾ َف ْل َيصُمْ ُه ]70[﴾ وكان خالف األولى لقوله تعالىَ ﴿ :وَأنْ َتصُومُوا َخ ْي ٌر لَ ُك ْم ِإنْ ُك ْن ُت ْم َتعْ لَم َ
-2ما جاء به النص مخالفا ً للقياس كالسلم إذ القياس يقتضي بطالنه ألنه بيع معدوم ،وبيع المعدوم من
المقرر فقها ً أنه باطل لقوله -صلى هللا عليه وسلم -لحكيم بن حزام رضي هللا عنه( :ال تبع ما ليس عندك)[
،]72ولكن ورد النص بجوازه وهو قوله -صلى هللا عليه وسلم َ ( -من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن
معلوم إلى أجل معلوم).]73[
وما شرعت اإلجارة والمضاربة ..وغيرها من العقود التي صححت على خالف القياس إالّ من باب
التيسير ورفع الحرج عن المكلفين وذلك لحاجتهم الماسة إلى تصحيح تلك العقود التي لو لم تصحح لوقع
المكلفون في حرج ومشقة وعنت ال يطيقونه وال يتحملونه تخفيفا ً عنهم شرعت وصححت تلك العقود على
خالف القياس.
-3ما انتقل فيه الحكم من الوجوب الذي يقتضيه الدليل إلى الترك الذي يعم الحرام ،ومثاله :كحرمة صوم
المريض إذا كان الصوم يؤدي به إلى الهالك المؤكد.
أقسـام الرخصة:
-1رخصة فعل :وهي التي يدعو فيها الشارع بسبب الضرورة أو الحاجة إلى فعل ما نهى عنه المكلف ،فقد
نهى عن أكل الميتة فرخص فيها عند الحاجة والضرورة الملحة تيسيراً على المكلف.
-2رخصة ترك :وهي التي يدعو الشارع فيها بسبب الضرورة أو الحاجة إلى ترك ما أوجبه ،مثاله :كترك
الصوم في رمضان للمريض والمسافر.
أنواع الرخصة:
-1إباحة المحظورات عند الضرورة فمن ُأكره على التلفظ لكلمة الكفر وقلبه مطمئن باإليمان أبيح له ذلك
ُأ
ان ]74[ ﴾ أو اضطر إلى تناول محرم لضرورة فيباح له لقوله تعالىِ ﴿ :إال َمنْ ْك ِر َه َو َق ْل ُب ُه م ُْط َمِئنٌّ ِباِألي َم ِ
ذلك.
وأما حكم هذا النوع :وجوب العمل بالرخصة إذا تعينت طريقا ً لدفع الضرر عن النفس ،ولكن في حالة التلفظ
بكلمة الكفر فاألولى عند األحناف عدم األخذ بالرخصة واألولى األخذ بالعزيمة لما في ذلك من إغاظة للكفار
وإظهار للتمسك بالعقيدة ،]75[ ولكن إن أخذ بالرخصة أخذه بها مشروع وجائز.
-2إباحة ترك الواجب في حالة وجود عذر يجعل أداءه شاقا ً على المكلف فرفعا ً للحرج وتيسيراً عليه أبيح
له ترك الواجب ،ومثال ذلك إباحة الفطر في نهار رمضان للمريض أو المسافر ،وذلك ألن المريض متلبس
بعذر يجعل أداء ما كلف به صعبا ً عليه وشاقا ً على النفس فلو لم تشرع تلك الرخصة لوقع المكلف في حرج
وضيق ،فتيسيراً عليه ورفعا ً للحرج عنه أبيح له ترك الواجب ،وكذا األمر بالنسبة للمسافر وكذلك يباح
للمسافر تيسيراً عليه ورفعا ً للحرج عنه أن يقصر من الصالة الرباعية والتي تؤدى ركعتين بدالً من
ْس َعلَ ْي ُك ْم ُج َنا ٌح َأنْ َت ْق ُ
صرُوا ض َفلَي َض َر ْب ُت ْم فِي اَألرْ ِ أربع ،دل على ذلك التخفيف والتيسير قوله تعالى ﴿َ وِإ َذا َ
م َِن الصَّال ِة ِإنْ ِخ ْف ُت ْم َأنْ َي ْف ِت َن ُك ُم الَّذ َ
ِين َك َفرُوا ِإنَّ ْال َكاف ِِر َ
ين َكا ُنوا لَ ُك ْم َع ُدوّ اً م ُِبينا ً.﴾
حكم هذا النوع :عند الجمهور العمل بالعزيمة أفضل من العمل بالرخصة بشرط أال يترتب على ذلك ضرر
بيّن بالمكلف ،فإذا ترتب ضرر يلزم حينئذ العمل بالرخصة الذي يكون متحتما ً وواجبا ً لدرء المفسدة ولدفع
الضرر الذي يحصل جراء األخذ بالعزيمة.
والذي يدل على ذلك أن رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى
إذا بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له :إن الناس قد شق عليهم الصوم .وإن الناس ينظرون فيما
فعلت فدعا بقدح من ماء فشربه والناس ينظرون إليه فأفطر بعضهم وظل البعض اآلخر صائما ً فقيل له -
صلى هللا عليه وسلم -إن بعض الناس قد صام فقال عليه الصالة والسالم( :أولئك العصاة أولئك العصاة).
فقوله -صلى هللا عليه وسلم -أولئك العصاة تنفير من هذا العمل الذي قاموا به وهو بقاؤهم صائمين بالرغم
من إفطار الرسول -صلى هللا عليه وسلم -فلو كان فعلهم مشروعا ً وجائزاً لما وصفهم الرسول -صلى هللا
عليه وسلم -بذلك الوصف.
-3تصحيح بعض العقود االستثنائية التي لم تتوافر فيها الشروط العامة النعقاد العقد وصحته ،ولكن جرت
بها معامالت الناس وصارت من حاجاتهم حكم هذا النوع :األخذ بها جائز ألنه يؤدي إلى رفع الحرج
والمشقة عن الناس لحاجتهم لتلك المعامالت التي ال تخلو منها حياتهم العملية.
-2رفع الحرج والضيق والمشقة وهذا السبب مبني على أصل تشريعي وهو أن المشقة تجلب التيسير ،ومرّ
معنا فيما سبق أمثلة على ذلك.
أسباب التخفيف :أورد اإلمام السيوطي -يرحمه هللا -في كتابه األشباه والنظائر سبعة أسباب للتخفيف كلها
تدل بمجموعها على أصالة مبدأ رفع الحرج والتيسير على المكلفين ،وأنه سمة بارزة وقد ذكرناها في مكانها
وال داعي لتكرارها.
بعد ما أوردناه فيما سبق من بيان ألصالة مبدأ رفع الحرج والتيسير في شرعنا الحنيف البد أن نشير إلى أنه
ليس معنى يسر الشريعة وسماحتها أن يركن اإلنسان ويهمل التكاليف الشرعية ،ويجعل من التيسير ورفع
الحرج مدخالً للهروب مما كلف به اإلنسان.
وأيضا ً مع سماحة اإلسالم ويسره فهو قد وبخ المتشددين الذين يشددون على المسلمين ويغلو الواحد منهم في
دينه ويبالغ في ذلك الغلو وحتى كأن السمة البارزة لإلسالم هي الغلو ،والذي يعد األخذ به اتباعا ً للهوى ألنه
مخالف لدين هللا الذي من سماته أنه دين اليسر والسماحة وال يمكن أن يجتمع اليسر والتشدد في آن واحد.
وصفة الغلو وبخ هللا عز وجل أصحابها من األمم السالفة وأنكر عليهم غلوهم ونهاهم عن ذلك في موعظة
يستفيد منها المسلمون ،فقال تعالىَ ﴿ :يا َأهْ َل ْال ِك َتا ِ
ب ال َت ْغلُوا فِي دِي ِن ُك ْم ]76[﴾ ولما كان األمر متعلقا ً بأمم
سبقت هذه األمة فعلى هذه األمة اإلسالمية أن تتجنب الوقوع بما وقعت يه تلك األمم من الغلو وأن تبتعد عن
أسبابه حتى ال يصيبها ما أصاب تلك األمم.
ويكفي هنا أن نسوق كالما ً قيما ً البن القيم في كتابه القيم أعالم الموقعين ما يدل داللة واضحة على سمات
بارزة في هذه الشريعة فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي
عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى
ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل
فالشريعة عدل هللا بين عباده ورحمته بين خلقه.]77[
المبحث الرابع
الضرورة فى اللغة :مأخوذة من اإلضطرار ،وهو الحاجة الشديدة ،والمحظورات جمع محظور :وهو الحرام
المنهى عنه شرعا.
وعلى ذلك يكون معنى القاعدة :أن الممنوع من فعله شرعا يباح عند الضرورة.]78[
وقد تأتى الضرورة بمعنى الضرر ،وأما الضُر فهو سوء الحال الذى النفع معه يساويه أو يزيد عليه ،فإن
كان معه نفع يساويه أو يزيد عليه فال يسمى حينئذ ضررا ،ومن ثم فال يطلق على تناول جرعات األدوية
المرة مثال ضرر لما تشمله من المنفعة.
ومثله اإلضطرار ،وهو حمل اإلنسان على ما فيه الضرر ،سواء كان الحامل من داخل اإلنسان كالجوع
والمرض ،أو من خارجه كاإلكراه.
وأفضل تعريف للضرورة هو ما جاء فى مجلة العدل الدولية :أنها هى العذر الذى يجوز بسببه إجراء الشىء
الممنوع .وإباحة الضرورات للمحظورات تسمى فى علم أصول الفقه :رخصة.]79[
دليل القاعدة:
ف ِإِل ْث ٍم َفِإنَّ هَّللا َ َغفُو ٌر َرحِي ٌم .]80[ ﴾ قال ابن كثير :أى -1قوله تعالىَ ﴿ :ف َم ِن اضْ ُ
طرَّ فِي َم ْخ َم َ
ص ٍة َغي َْر ُم َت َجا ِن ٍ
فمن احتاج إلى تناول شىء من هذه المحرمات التى ذكرها هللا تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك فله تناوله وهللا
غفور رحيم له ،ألنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له[.]81
ان ،]82[﴾ فمن ُأكره على ُأ
-2قوله تعالىَ ﴿ :منْ َك َف َر ِباهَّلل ِ مِنْ َبعْ ِد ِإي َما ِن ِه ِإاَّل َمنْ ْك ِر َه َو َق ْل ُب ُه م ُْط َمِئنٌّ ِباِإْلي َم ِ
النطق بكلمة الكفر وأنذر بالقتل إن لم يفعل نطق بها وال حرج عليه ما دام قلبه مطمئنا باإليمان ،وإن لم
ينطق بها فقتل مات شهيدا.
فقد أخذ المشركون عمار بن ياسر – كما روى ابن جرير فى تفسيره – ]83[ فعذبوه حتى قاربهم فى بعض
ما أرادوا ،فشكا ذلك إلى النبى -صلى هللا عليه وسلم ،-فقال النبى -صلى هللا عليه وسلم " :-كيف تجد
قلبك؟ قال :مطمئن باإليمان ،قال النبى -صلى هللا عليه وسلم " :-إن عادوا فعد" أى :إن عادوا إلى تعذيبك
وحملك على النطق بكلمة الكفر فقل ما كنت تقول حتى يخلوا سبيلك.
تطبيقات القاعدة:
لهذه القاعدة تطبيقات وصور عديدة ،وقد ذكر السيوطى بعضا منها فى كتابه األشباه والنظائر حيث قال:
ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة ،]84[ وإساغة اللقمة بالخمر ،والتلفظ بكلمة الكفر لإلكراه ،وكذا
إتالف المال ،وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه ،ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله ،ولو ع ًم الحرام
قطرا بحيث اليوجد فيه حالل إال نادرا فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه وال يقتصر على الضرورة.
قال اإلمام :واليرتقى إلى التبسط وأكل المالذ ،بل يقتصر على قدر الحاجة.]85[
البد للمفتى من مراعاة الضوابط للضرورة الشرعية عند اإلفتاء بالرخصة ،ومن أهم هذه الضوابط:
الضابط األول :أن تكون الضرورة متحققة المتوهمة ،بمعنى أن تكون متيقنة أو مظنونة ظنا قويا.
قال الشاطبى :وأسباب الرخص أكثر ما تكون مقدرة ومتوهمة المحققة ،فربما عدها شديدة وهى خفيفة فى
نفسها فأدى ذلك إلى عدم صحة التعبد ،وصار عمله ضائعا وغير مبنى على أصل ،وكثيرا ما يشاهد اإلنسان
ذلك ،فقد يتوهم األمور صعبة وليست كذلك إال بمحض التوهم.]86[
أمثلة للضرورة المتوهمة:
قد ضرب هللا فى القرآن الكريم للضرورة المتوهمة أمثلة كثيرة منها:
ِين َت َو َّفا ُه ُم ْال َماَل ِئ َك ُة َظالِمِي َأ ْنفُسِ ِه ْم َقالُوا فِي َم ُك ْن ُت ْم َقالُوا ُك َّنا مُسْ َتضْ َعف َ
ِين فِي -1ما جاء فى قوله تعالىِ ﴿ :إنَّ الَّذ َ
ت مَصِ يرً ا.]87[﴾ ِئك َمْأ َوا ُه ْم َج َه َّن ُم َو َسا َء ْ
ض َقالُوا َألَ ْم َت ُكنْ َأرْ ضُ هَّللا ِ َواسِ َع ًة َف ُت َها ِجرُوا فِي َها َفُأولَ َ
اَأْلرْ ِ
فقولهم :كنا مستضعفين فى األرض اعتذار بضرورة وهمية ،ألنهم كانوا قادرين على التحول عنها إلى
أرض أخرى يجدون فيها األمن والحرية فى التعبد ،ولذا اليقبل هللا عذرهم حين يعتذرون.
طوا ،]88[﴾ أى ائذن لى -2ما جاء فى قوله تعالىَ ﴿ :و ِم ْن ُه ْم َمنْ َيقُو ُل اْئ َذنْ لِي َواَل َت ْف ِت ِّني َأاَل فِي ْالفِ ْت َن ِة َس َق ُ
بالتخلف عن غزو الروم معك يا رسول هللا والتفتنى ببنات بنى األصفر ،وهو ساقط فى الفتنة من رأسه إلى
قدميه.
إن الضرورة الوهمية التطمئن النفس إليها عند عرضها على المفتى ،وإن كان المستفتى يرى أنها ضرورة،
كمن يكون الماء منه على بُعد يستطيع الوصول إليه بالسيارة فى زمن قصير ،فيتمسك بأقوال بعض الفقهاء
بأن الماء إذا كان على بُعد ميل جاز التيمم ،ولم يأخذ فى اعتباره تغير األحوال وتيسر السبل.
وكذلك من يكون مريضا مرضا خفيفا فيجعله رخصة فى الفطر ،مع أن المرض الذى يبيح الفطر هو ما يجد
المسلم فيه مع الصوم مشقة تزيد فى مرضه أو تعوق شفاءه ،وليس مطلق مرض كما يتوهم بعض من يأخذ
بظواهر النصوص.]89[
األول :يفيد إباحة المرخص به ما دامت حالة الضرورة ،كأكل الميتة للمضطر بقدر دفع الهالك عند
المجاعة ،وأكل لحم الخنزير وإساغة اللقمة بالخمر عند الغصة.
فهذه األشياء تباح عند اإلضطرار لقوله تعالى" :إال ما اضطررتم إليه" ،أى دعتكم شدة المجاعة ألكلها
واإلستثناء من التحريم إباحة.
الثانى :نوع من الرخص التسقط حرمته بحال ،أى أن الفعل يبقى حراما لكن رخص فى اإلقدام عليه لحالة
الضرورة كإتالف مال المسلم ،أو القذف فى عرضه أو إجراء كلمة الكفر على لسانه مع اطمئنان القلب
باإليمان – إذا كان اإلكراه تاما.
فهذه األفعال فى نفسها محرمة مع ثبوت الرخصة ،فأثر الرخصة فى تغيير حكم الفعل وهو المؤاخذة فقط،
الفى تغيير وصفه أى حرمته.
الثالث :أفعال التباح بحال ،واليرخص فيها أصال ال باإلكراه التام والغيره كقتل المسلم أو قطع عضو منه
أو الزنا أو ضرب الوالدين أو أحدهما.
فهذه األفعال اليباح اإلقدام عليها ،والترتفع المؤاخذة وال اإلثم لو فعل مع اإلكراه ،ألنه قد تعارض هنا
مفسدتان روعى أشدهما بارتكاب أخفهما :فقتل المسلم أشد من تهديده بالقتل ،ولو قتل فى هذه الحالة كان
مأجورا ولو َق َتل كان ظالما.
ولو زنا تحت اإلكراه التام فإنه يسقط عنه الحد للشبهة لكن اليرتفع اإلثم .وبناء على ذلك ،فهذه القاعدة
التتناول النوع األخير ألنه اليباح بحال من األحوال ،فهو مستثنى من هذه القاعدة ،وهى إنما تتناول النوع
األول مع ثبوت إباحته والنوع الثانى مع بقاء حرمته ،والترخيص إنما هو فى رفع اإلثم كنظر الطبيب إلى
ما اليجوز انكشافه شرعا من مريض أو جريح فإنه ترخيص فى رفع اإلثم ال الحرمة.]90[
المشقة فى اللغة هى :الجهد والتعب ،والمراد بالمشقة التى تكون سببا فى التيسير ،هى المشقة التى تنفك عنها
التكليفات الشرعية ،أما المشقة التى التنفك عنها التكليفات الشرعية كمشقة الجهاد ،وألم الحدود ورجم الزناة
وقتل البغاة والمفسدين والجناة ،فال أثر لها فى جلب تيسير وال تخفيف.
والتيسير فى اللغة هو السهولة والليونة ،والمعنى اللغوى هذا يفيد أن الصعوبة والعناء تصبح سببا للتسهيل.
والمعنى الشرعى للقاعدة اصطالحا :أن األحكام التى ينشأ عنها حرج على المكلف ومشقة فى نفسه أو ماله
فالشريعة تخففها بما يقع تحت قدرة المكلف دون عسر أو إحراج.]91[
دليل القاعدة:
قامت األدلة على هذه القاعدة من الكتاب والسنة واإلجماع ومشروعية الرخص:
وقوله تعالىَ ﴿ :ما ي ُِري ُد هَّللا ُ لِ َيجْ َع َل َعلَ ْي ُك ْم مِنْ َح َر ٍج ،]94[﴾ وغيرها كثير.
قوله - صلى هللا عليه وسلم ( :-يسروا وال تعسروا وبشروا وال تنفروا).]95[
وقوله - صلى هللا عليه وسلم ( :-إن أحب الدين إلى هللا الحنيفية السمحة)[.]96
وقوله - صلى هللا عليه وسلم ( :-إنما بُعثتم ميسرين ،ولم ُتبعثوا معسرين).]97[
وغيرها كثير حتى قال العلماء :يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته.
-3اإلجماع :اإلجماع قد انعقد بين علماء األمة على عدم وقوع المشقة غير المألوفة فى أمور الدين ،ولو
كان ذلك واقعا لحصل التناقض واإلختالف فى الشريعة وذلك منفى عنها ،ألن األدلة على سماحة الشريعة
أكثر من أن تحصر.
ومن أجل ذلك أباح الشارع اإلنتفاع بملك الغير بطريق اإلجارة واإلعارة ،والقرض ،وسهل األمر باإلستعانة
بالغير وكالة وإيداعا ،وشركة ومضاربة ،ومساقاة ،وأجاز اإلستيفاء من غير المديون حوالة ،وبإسقاط بعض
الدين صلحا أو إبراء ،وبالتوثيق على الدين برهن أو كفيل.]98[
-4ما ثبت من مشروعية الرخص :وهذا أمر مقطوع به ومما علم من دين األمة بالضرورة كرخص القصر
والفطر والجمع ،وتناول المحرمات فى اإلضطرار ،فإن هذا نمط يدل قطعا على مطلق رفع الحرج
والمشقة ،والتيسير والتسهيل على الناس.]99[
قال الفقهاء يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته ،وأسباب التخفيف فى العبادات وغيرها
ثمانية:
-2لمرض :فالمريض يرخص له فى التيمم عند عدم القدرة على استعمال الماء ،أو عدم وجود من يعينه
على ذلك ،ويرخص له فى الفطر إذا وجد فى الصوم مشقة ،والقعود فى صالة الفرض إن لم يتمكن من
القيام ،واإلستنابة فى الحج ورمى الجمار ،وإباحة محظورات اإلحرام مع الفدية.
-3إلكراه :المكره على الكفر يرخص له فى التلفظ بكلمة الكفر ما دام قلبه مطمئنا باإليمان.
-4لنسيان :وهو عدم تذكر الشىء عند الحاجة إليه ،واتفق العلماء على أنه مسقط للعقاب ،ومن فاته شىء من
الصالة مثال بسبب النسيان فإنه يعذر فيه واليؤاخذ على تركه وما عليه إال القضاء.
-5لجهل :الجاهل يعذر بجهله فى أمور كثيرة نص عليها الفقهاء فى كتبهم كمن تناول شيئا محرما دون علمه
أنه محرم.
7،6العسر وعموم البلوى :من تعسر عليه فعل شىء من الواجبات سقط عنه بدليل قوله تعالى ﴿ :اَل ُي َكلِّفُ
هَّللا ُ َن ْف ًسا ِإاَّل وُ سْ َع َها .]100[﴾ وإذا كان هناك أمر شاع وانتشر ولم يستطع المسلمون دفعه إال بمشقة بالغة –
قُبل عذرهم فى السكوت عليه وعدم دفعه أو التحرز منه – كالصالة مع النجاسة التى يشق على المصلى
إزالتها مثل دم القروح والدمامل والبراغيث والقيح والصديد ،وقليل دم األجنبى ،وطين الشوارع وذرق
الطيور إذا عم فى المساجد والمطاف .ومن ذلك الجمع فى المطر ،وعدم وجوب الصالة على الحائض
لتكررها بخالف الصوم وبخالف المستحاضة لندرة ذلك ،ومن ذلك مشروعية اإلستجمار بالحجر ،وجواز
المسح على العمامة لمشقة استيعاب الرأس ومسح الخف فى الحضر لمشقة نزعه فى كل وضوء إال الغسل
لعدم تكرره.
-8النقص :النقص الذى يجلب التخفيف هو الذى يؤدى التكليف معه إلى مشقة غير متحملة غالبا ،فال يكلف
الصبى والمجنون بما يكلف به البالغ العاقل لنقص األهلية ،واليكلف النساء بكثير مما يجب على الرجال
كالصالة مع الجماعة وحضور صالة الجمعة ،والجهاد فى سبيل هللا ،وغير ذلك من األمور التى يشق عليهن
القيام بها.]101[
-2مشروعية الطالق لما فى البقاء على الزوجية من المشقة عند التنافر وكذا مشروعية الخلع واإلفتداء
والفسخ بالعيب ونحوه ،والرجعة فى العدة.
-3مشروعية السلم والخيار ومشروعية الرد بالعيب ،والحوالة والرهن والصلح والشركة ،والحجر والوكالة
واإلجارة والمزارعة والوديعة ،والوكالة وغير ذلك من تيسيرات البيوع.
-4مشروعية التخيير بين القصاص والدية تيسيرا على الجانى والمجنى عليه.
-5مشروعية الوصية عند الموت ليتدارك اإلنسان ما فرط منه فى حال الحياة.
-7إباحة أربع نسوة ،فلم يقتصر على واحدة تيسيرا على الرجال وعلى النساء أيضا لكثرتهن.]102[
الثانى :مشقة متوسطة :وهذه فيها الرخصة ،من شاء أخذ بها ،ومن شاء تحمل المشقة وله أجره عند هللا
تعالى ،واألجر على قدر المشقة ،كالفطر الذى هو رخصة للمريض مرضا ال يخشى عليه منه لو صام أن
يزداد مرضه أو تأخر البرء منه ،وهذه المشقة المتوسطة الضابط لها إال العرف ،والمقصود هو عرف
العلماء ال عرف العوام.
الثالث :مشقة غير محتملة :وهى التى يقع فيها التخفيف حتما رحمة من هللا بعباده ،والرخصة فيها تتحول
إلى عزيمة يجب على المكلف األخذ بها ،كمن عضه الجوع ولم يجد إال الميتة ،فإنه يجب عليه األكل منها
اغ َواَل َعا ٍد ُ
حفظا على حياته ،بحيث ال يتجاوز أكله قدر الضرورة ]103[ لقوله تعالىَ ﴿ :ف َم ِن اضْ طرَّ َغي َْر َب ٍ
َفاَل ِإ ْث َم َعلَ ْي ِه ِإنَّ هَّللا َ َغفُو ٌر َرحِي ٌم.]104[﴾
الخاتمة:
إن المتتبع والدارس والقارئ للفقه اإلسالمي بدقة وتمعن يجد أنه يتميز بخصائص ومميزات ال يتميز بها
غيره ،جعلته قابالً للعطاء طيلة أكثر من أربعة عشر قرنا ً من الزمن ،يستوعب كل جديد ويدلي بالكلمة
الفصل فيه إن كان موافقا ً لمبادئ الشريعة اإلسالمية أخذ به ،وإن كان مخالفا ً لمبادئ التشريع وروحه
رفضه ،فالفقه هو الحاكم على الواقع وليس الواقع هو الحاكم عليه.
ومن أهم الميزات التي تميزت بها الشريعة اإلسالمية -والفقه جزء منها -السماحة واليسر ورفع
الحرج ،جعلتها هذه الميزة شريعة مميزة عن باقي الشرائع السماوية السابقة والتي وجد فيها من األعمال
الشاقة ما يتناسب وأحوال وأوضاع تلك األمم التي جاءت لها تلك الشرائع.
وقد ذكرت -صفة الرسول -صلى هللا عليه وسلم -بأنه ميسر ومبشر ورافع لتلك األغالل التي كانت على
تلك األمم السالفة.
ُون الرَّ سُو َل ال َّن ِبيَّ اُألمِّيَّ الَّذِي َي ِج ُدو َن ُه َم ْك ُتوبا ً عِ ْندَ ُه ْم فِي ال َّت ْو َرا ِة َواِأل ْن ِج ِ
يل َيْأ ُم ُر ُه ْم قال تعالى ﴿ :الَّذ َ
ِين َي َّت ِبع َ
ض ُع َع ْن ُه ْم ِإصْ َر ُه ْم.﴾ ت َوي َُحرِّ ُم َعلَي ِْه ُم ْال َخ َب َ
اِئث َو َي َ ف َو َي ْن َها ُه ْم َع ِن ْال ُم ْن َك ِر َو ُي ِح ُّل لَ ُه ُم َّ
الط ِّي َبا ِ ِب ْال َمعْ رُو ِ
واألدلة على مبدأ التيسير ورفع الحرج كثيرة ،منها قوله تعالىَ ﴿ :و َما َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي ال ِّد ِ
ين مِنْ َح َر ٍج ﴾ فما
نافية ،الدين يعم كل األحكام أي معنى ما سبق أن ال يوجد في ديننا اإلسالمي حكم في تطبيقه حرج على
المكلفين.
وقوله تعالى ﴿ :ي ُِري ُد هَّللا ُ ِب ُك ُم ْاليُسْ َر َوال ي ُِري ُد ِب ُك ُم ْالعُسْ َر ﴾ فهي واضحة الداللة بينة في معناها من أن هللا عز
وجل يريد أن ييسر علينا ،وال يعسر علينا ،ومن التيسير أن يشرع لنا من األحكام ما يسهل تطبيقها وال يشق
ذلك على المكلفين مطلقاً.
فإننا إذا نظرنا في ال ُس ّنة النبوية نجد نبي السماحة والتيسير والرحمة واللين -صلى هللا عليه وسلم -يوصي
الدعاة من أمته -صلى هللا عليه وسلم -من خالل حديثه مع صحابيين جليلين بعثا للدعوة وهما أبوموسى
األشعري ومعاذ بن جبل -رضي هللا عنه ( :-يسروا وال تعسروا وبشروا وال تنفروا وتطاوعوا وال
تختلفوا).
فالرسول -صلى هللا عليه وسلم -بهذا يضع أسسا ً راسخة لفقه الدعوة إلى هللا عز وجل ،بدأ وصيته باألمر
بالتيسير على الناس وعدم التعسير عليهم ،أوصى أيضا ً كل الدعاة بالتبشير وعدم التنفير ،فكل الدعاة البد أن
يتمثلوا روح هذا النص النبوي وتتشرب نفوسهم معاني ذلك الحديث وتلك الوصية الجامعة ،فالداعي إلى هللا
عز وجل عليه أن يتذكر أنه على نهج أول الدعاة إلى هللا سيدنا محمد -صلى هللا عليه وسلم -خير من دعا
إلى هللا بحكمة وبموعظة حسنة بأن ييسر وال يعسر ،وأن يبشر وأال ينفر ،فإن كان في موطن يقتضي
التيسير وعسر على الناس فهو مخالف لسنة أول الدعاة إلى هللا وإن نفر في موطن يحتاج إلى تبشير فهو
مخالف لسنة رسول هللا - صلى هللا عليه وسلم .-
المراجع:
-6اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي.
ــــــــــــــــ
[ ]7البرهان .2/924
[ ]9الموافقات .2/11
[ ]13أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث :أن رسول هللا كان له حصير يبسطه بالنهار
ويحتجزه بالليل ،فثاب إليه ناس فصفوا وراءه ...الحديث .وفيه :خذوا من األعمال ما تطيقون .رواه البخاري
في الصالة ( )1 :232عن إبراهيم بن المنذر ،عن أبي بكر بن أبي بكر بن أبي فديك ،عن ابن أبي ذئب
وفي اللباس ( )43عن محمد بن أبي بكر ،عن معتمر بن سليمان ،عن عبيد هللا بن عمر كالهما عن سعيد
المقبري به .ومسلم في الصالة ( )1 :138عن محمد بن مثنى ،عن عبد الوهاب الثقفي ،عن عبيد هللا بن
عمر به .والترمذي فيه (الصالة )1 :318عن قتيبة ،عن الليث ،عن ابن عجالن ،عن سعيد المقبري
ببعضه :اكلفوا من العمل ما تطيقون ...الحديث .والنسائي في (الصالة )180عن قتيبة بتمامه.
[ ]14أخرجه أحمد )12273(3/124قال :ح َّدثنا ابن َأبي َعدِي ،عن ُح َميْد .وفي )13101( 3/200
قال :ح َّدثنا َي ِزيد ،ح َّدثنا ُح َميْد .وفي )13691(3/253قال :ح َّدثنا َع َّفان ،ح َّدثنا َحمَّاد بن َسلَ َمةَ .
و"عبد بن
اري" 7241قال :ح َّدثنا َعيَّاش حُميد" 1353قال :ح َّدثني ُسلَيْمان بن َحرْ ب ،ح َّدثنا َحمَّاد بن َسلَ َمة .و"الب َُخ ِ
ِيرة ،عن ثابت ،عن َأ َنس ،عن اريَ :تا َب َع ُه ُسلَيْمان بن ُمغ َ َأل
الولِيد ،ح َّدثنا َعبْد ا عْ لَى ،ح َّدثنا ُح َميْد .قال الب َُخ ِ
بن َ
ال َّن ِبيِّ صلى هللا عليه وسلم .و"مسلم" 2539قال :ح َّدثنا عاصم بن ال َّنضْ ر ال َّت ْيمِي ،ح َّدثنا خالدَ ،يعْ نِي ابن
الحارث ،ح َّدثنا ُح َميْد.
[ ]18وفي رواية« :ليس من البرِّ الصو ُم في السفر» .أخرجه البخاري ،ومسلم ،وأبو داود ،والنسائي.
وفي أخرى للنسائيَ« :أنَّ رسو َل هللا -صلى هللا عليه وسلم -مرَّ برجل في ظِ ِّل شجرة ،ي َُرشُّ عليه الماء،
فقال :ما با ُل صاحبكم؟ قالوا :يا رسو َل هللا ،صائم ،قالِ :إ َّن ُه َ
ليس من البرِّ أن تصوموا في ال َّس َف ِر ،وعليكم
ص لكمَ ،فا ْق َبلُوها» .جامع األصول البن األثير 4638 بر ُْخ َ
ص ِة هللا التي َر َّخ َ
[ ]19أخرجه البخاري ومسلم بمعناه من حديث أبي بكر عبد هللا بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي
بكر الصديق عن عائشة-كتاب الجمع بين الصحيحين لمحمد بن فتوح الحميدي .4/72
[ ]20اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي .1/536
[ ]22أنظر قواعد األحكام للعز بن عبد السالم ج 2ص-15ص.16وانظر الفروق للقرافي ج 1ص.120
واألشباه والنظائر للسيوطي ص.89
[ ]24قال المزي :هو من غرائب األحاديث ولم يرو في شيء من الكتب الستة انتهى ،وهو منسوب في
النهاية البن األثير البن عباس بلفظ :سئل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أي األعمال أفضل؟ قال أحمزها،
وهو بالمهملة والزاي أي أقواها وأشدها.
[ ]25هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه و له شاهد صحيح - المستدرك بتعليق الذهبي
لإلمام الحاكم أبي عبد هللا محمد بن عبد هللا ج 2ص.119
[ ]26أنظر الفروق للقرافي ج 1ص .120وانظر قواعد العز بن عبد السالم ج 2ص-16ص.17
[ ]27قال الشاطبي :الرخصة :ما شرع لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع االقتصار على
مواضع الحاجة فيه /أنظر الموافقات ج 2ص.205
[ ]29وهو طرف حديث رواه أ بو هريرة -رضي هللا عنه -عنه -صلى هللا عليه وسلم -قال " :دعوني ما
تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختالفهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه وإذا أمرتكم
بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .رواه البخاري ( )422 / 4وكذا مسلم ( )1 9 / 7وأحمد ( )258 / 2من
طريق أبي الزناد عن األعرج عنه .وله طرق أخرى عن أبي هربرة فرواه مسلم وابن ماجه (رقم 1و )2
عن أبي صالح عنه .ومسلم عن أبي سلمه بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب كالهما معا عنه .وهو
والنسائي ( )2 / 2وأحمد ( 448 - 447 / 2و )467عن محمد بن زياد عنه وفيه عند النسائي سبب
الحديث قال :خطب رسول هللا (صلى هللا عليه وسلم) الناس فقال :إن هللا عز وجل قد فرض عليكم الحج
فقال رجل :في كل عام؟ فسكت عنه حتى أعاده ثالثا فقال :لو قلت :نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها
ذروني ما تركتكم الحديث .وهو رواية لمسلم ( )102 / 4وكذا رواه .الدارقطني في سننه (ص .)281
ورواه هو وأحمد ( )313 / 2عن همام بن منبه عنه.
[ ]31أنظر كتاب حجة هللا البالغة للشيخ شاه ولي هللا الدهلوي .ج 1ص.221
[ ]37أنظر أحكام القرآن للجصاص ج 2ص-391ص .396وانظر تفسير ابن كثير ج 4ص.668
[ ]47أخرجه الطبراني في مجمع الزوائد ج 1ص .62وأحمد 20688وقال الهيتمي رواه أحمد وأبو يعلى
في الكبير.
[ ]48سنن أبي داود ج 9ص..373
[ ]50سنن أبي داود ج 5ص 3من رواية أبي قتادة -رضي هللا عنه .-
[ ]57أخرج اإمام مالك في موطئه من حديث ثوبان وعبد هللا بن عمرو ،انظر تنوير الحوالك للسيوطي ج1
ص.56
[]58
[]60
[ ]68رواه البخاري كتاب اآلذان باب اآلذان للمسافر إذا كانوا جماعة حديث ،631كما في الفتح .2/111
[ ]72رواه أبو داود في سننه كتاب البيوع واإلجارات باب في الرجل يبيع ما ليس عنده 3/769حديث
.3503
[ ]73رواه البخاري في صحيحه في السلم باب السلم في كيل معلوم 4/428حديث رقم .2239
[ ]86الموافقات.131 / 1 :
[ ]88سورة التوبة اآلية ،49وقد نزلت في الجد بن قيس أخي بني سلمة.
[ ]95رواه البخاري في كتاب العلم ،196 :ومسلم في كتاب الجهاد والسير.1734 :
[ ]97رواه البخاري في كتاب الوضوء ،386 :وأبو داود ،1/263 :والترمذي.1/275 :
[ ]99المصدر السابق.
[ ]101األشباه والنظائر ،203-196 /1 :القواعد الفقهية ،83 – 82 :المقاصد الشرعية ،102 :شرح
القواعد الفقهية للزرقا.162-157 :