You are on page 1of 64

‫الكليات العلوم الصحية‬

‫س‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬


‫تار خ حضارة الإ لامية‬
‫اترخي احلضارة ا إلسالمية‬
‫إاعداد‬
‫مجموعة من الإساتذة‬

‫‪1‬‬
‫وهذا الكتاب اذلي بني يدينا يتحدث عن اترخي احلضارة الإسالمية من خالل الوحدات التالية‪:‬‬
‫الوحدة الأولى‬
‫اترخي احلضارة الإسالمية وأسسها‬
‫مفهوم احلضارة‪:‬‬
‫أمهية احلضارة الإسالمية‪:‬‬
‫أنواع احلضارة الإسالمية‪:‬‬
‫خصائص احلضارة الإسالمية ومظاهرها‬
‫الوحدة الثانثة‬
‫مظاهر احلضارة الإسالمية‪:‬‬
‫اجلانب الس يايس‪.‬‬
‫اجلانب الاقتصادي‪.‬‬
‫اجلانب الاجامتعي‪.‬‬
‫الوحدة الثالثة‬
‫اجلانب العلمي‪.‬‬
‫العالقات ادلولية‪.‬‬
‫النظام الترشيعي‪.‬‬
‫الوحدة الرابعة‬
‫النظام القضايئ‪.‬‬
‫اجلانب الطيب‪.‬‬
‫اجلانب املعامري‬

‫‪2‬‬
‫بسم هللا الرمحن الرحمي‬

‫مقدمة هامة‬

‫امحلد هلل رب العاملني ‪ ،‬والصالة والسالم عىل س يد النبياء واملرسلني ‪ ،‬وعىل أهل وحصبه أمجعني ‪ ،‬ومن‬
‫تبعهم بإحسان اإىل يوم ادلين‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فاإن الالكم عن احلضارة الإسالمية حديث هل جشون ‪ ،‬فعندما أكرم هللا تعاىل هذه المة بلرساةل اخلامتة‬
‫وف‬ ‫ون ِبلْ َم ْع ُر ِ‬ ‫نُت خ ْ ََري ُأ َّم ٍة ُأ ْخ ِر َج ْت لِلنَّ ِاس تَأْ ُم ُر َ‬ ‫وجعلها خري أمة أخرجت للناس كام قال تعاىل ‪ُ { :‬ك ُ ْ‬
‫اس ُقون}‪1‬‬
‫ون َو َأ ْك َ َُث ُ ُُه الْ َف ِ َ‬‫ون ِب ّ ِلل َول َ ْو أ َم َن َأ ْه ُل ْال ِكتَ ِاب لَ ََك َن خ ْ ًَريا لَّهُم ِّم ْْنُ ُم الْ ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫َوتَ ْْنَ ْو َن َع ِن الْ ُمن َك ِر َوت ُْؤ ِمنُ َ‬
‫أمرها أن تكون شاهدة عىل اخللق بتبليغ الرساةل وأداء المانة ‪ ،‬كام قال تعاىل ‪{َ :‬و َك َذ ِ َِل َج َعلْنَ ُ ْاُك ُأ َّم ًة‬
‫نت عَلَ ْْيَا الَّ ِلنَ ْع َ ََل‬‫ول عَلَ ْي ُ ُْك َشهِيدً ا َو َما َج َعلْنَا الْ ِق ْب َ ََل ال َّ ِِت ُك َ‬ ‫ون َّالر ُس ُ‬ ‫َو َس ًطا ِل ّ َت ُكونُو ْا ُشهَدَ اء عَ َىل النَّ ِاس َويَ ُك َ‬
‫ِ‬
‫َمن يَت َّ ِب ُع َّالر ُسو َل ِم َّمن يَن َق ِل ُب عَ َىل َع ِق َب ْي ِه َوان ََكن َْت لَ َكب َِري ًة الَّ عَ َىل َّ ِاذل َين هَدَ ى ا ّ ُلل َو َما ََك َن ا ّ ُلل ِل ُي ِضي َع‬
‫ِ‬ ‫اميَانَ ُ ُْك ا َّن ا ّ َلل ِبلنَّ ِاس لَر ُؤ ٌوف َّر ِح ٌمي} ‪ِ 2‬‬
‫َ‬ ‫ِ ِ‬
‫نُك َو َ َِعلُوا‬ ‫الل َّ ِاذل َين أ َمنُوا ِم ُ ْ‬
‫َ َ َّ ُ‬ ‫دَ‬ ‫ع‬‫{و‬ ‫‪:‬‬ ‫تعاىل‬ ‫قال‬ ‫كام‬ ‫‪،‬‬ ‫للناس‬ ‫نة‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫هذه‬ ‫محلل‬ ‫هال‬ ‫أ‬ ‫ا‬‫و‬ ‫ن‬ ‫و‬‫يك‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ذِل‬ ‫يقتيض‬
‫ات لَيَ ْس َت ْخ ِل َفْنَّ ُم ِِف ْ َال ْر ِض َ َمَك ْاس َت ْخلَ َف َّ ِاذل َين ِمن قَ ْب ِله ِْم َول َ ُي َم ِكّ َ ََّن لَه ُْم ِديْنَ ُ ُم َّ ِاذلي ْارت َََض لَه ُْم‬ ‫الصا ِل َح ِ‬ ‫َّ‬
‫ون ِِب َشيْئًا َو َمن َك َف َر ب َ ْعدَ َذ ِ َِل فَأُ ْول َئِ َك ُ ُُه الْ َف ِ َ‬
‫اس ُقون}‪3‬‬ ‫َول َ ُي َب ِّدلَْنَّ ُم ِّمن ب َ ْع ِد خ َْو ِفه ِْم َأ ْمنًا ي َ ْع ُبدُ ون َِِن َل ي ْ ِ‬
‫ُرش ُك َ‬
‫فانطلق املسلمون ِف الرض وفق ًا لمر هللا تعاىل هلم بذِل كام قال تعاىل ‪{ :‬ه َُو َّ ِاذلي َأ ْر َس َل َر ُس َ ُ‬
‫وهل‬
‫ون}‪ 4‬فاحتني للقلوب والعقول والنفوس ‪،‬‬ ‫ِبلْهُدَ ى َو ِد ِين الْ َح ّ ِق ِل ُي ْظهِ َر ُه عَ َىل ّ ِادلي ِن ُ ِكّ ِه َول َ ْو َك ِر َه الْ ُمش ُك َ‬
‫ومطهرين لها من لك رجس وإامث ‪،‬‬

‫‪ )110 1‬سورة أل َعران‬


‫‪ )143( 2‬سورة البقرة‬
‫‪ )55( 3‬سورة النور‬
‫‪ )33( 4‬سورة التوبة‬

‫‪3‬‬
‫وهناك أمر هام جدًّا وهو أن املسلمني عندما انطلقوا ِف الرض ‪-‬فاحتني‪َ -‬كنوا من حيث النوايح‬
‫احلضارية والعمرانية ِف أخر الركب كام هو معلوم ولكْنم َكنوا من حيث النوايح املعنوية ِف القمة عقيدة‬
‫وعبادة ومْنج حياة ‪ ،‬فَل يقدموا للعامل صناعات ول خمرتعات ول فلسفات‪.....‬‬
‫اب َأ َنزلْنَا ُه ال َ ْي َك ِل ُت ْخ ِر َج النَّ َاس ِم َن‬
‫اإمنا قدّ موا هلم هذه الرساةل اخلامتة الِت قال هللا تعاىل عْنا ‪{ :‬الَر ِك َت ٌ‬
‫ِ‬ ‫اط الْع ِزي ِز الْح ِمي ِد}‪5‬‬ ‫الظلُ َم ِ‬
‫ِص ِ َ َ‬ ‫ات ا َىل النُّو ِر ِب ْذ ِن َر ِ ّ ِّب ْم ا َىل ِ َ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وذِل لإخراج الناس من الظلامت اإىل النور ظلامت اجلهل وظلامت العقيدة الباطَل والفاسدة وظلامت‬
‫الهوى وظلامت اجملمتع وظلامت احلياة العفنة الس نة‪.‬‬
‫مث بعد مدة وجزية هضموا مجيع ما عند الناس من خري ‪ ،‬مث طهَّروه من الرجس واملنكر مث أضافوا عليه‬
‫الكثري الكثري فغدوا بناة احلضارة الإنسانية الرفيعة ‪ ،‬والِت ل متاثلها حضارة أخرى ِف الرض قدميا وحديثا‪.‬‬
‫فاإما حضارات جاهلية مادية وثنية ِصفة ‪ ،‬وإاما حضارة ربنية رفيعة‬
‫فاحلضارة الإسالمية نس يج وحدها ‪ ،‬ولها تصور شامل عن الإنسان والكون واحلياة ‪ ،‬فهيي تربط بني‬
‫الروح واجلسد والقلب والعقل ‪ ،‬وادلنيا والخرة ‪ ،‬بربط متني حمُك أنزهل العلمي اخلبري بنفوس البرش ‪،‬‬
‫ِري} ‪6‬‬‫قال تعاىل ‪َ { :‬أ َل ي َ ْع َ َُل َم ْن َخلَ َق َوه َُو الل َّ ِط ُيف الْ َخب ُ‬

‫‪ )1( 5‬سورة إبراهيم‬


‫‪ )14( 6‬سورة الملك‬
‫‪4‬‬
‫الحضارة اإلسالمية وأسسها‬

‫أنواع احلضارة الإسالمية‬


‫مفهوم احلضارة‪:‬‬
‫احلضارة يه اجلهد اذلي يُقدَّم خلدمة الإنسان ِف لك نوايح حياته‪ ،‬أو يه التقدم ِف املدنية‬
‫والثقافة م ًعا‪،‬‬
‫فالثقافة يه التقدم ِف الفَكر النظرية مثل القانون والس ياسة والاجامتع والخالق وغريها‪ ،‬وبلتاىل‬
‫تفكريا سلميًا‪ ،‬أما املدنية فهيي التقدم والرىق ِف العلوم الِت تقوم عىل التجربة‬
‫يس تطيع الإنسان أن يفكر ً‬
‫واملالحظة مثل الطب والهندسة والزراعة‪ ،‬وغريها‪ ..‬وقد مسيت بملدن َّية؛ لهنا ترتبط بملدينة‪ ،‬وحتقق‬
‫اس تقرار الناس فْيا عن طريق امتالك وسائل هذا الاس تقرار‪ ،‬فاملدنية هتدف اإىل س يطرة الإنسان عىل‬
‫الكون من حوهل‪ ،‬وإاخضاع ظروف البيئة ل إالنسان‪.‬‬
‫ولبد ل إالنسان من الثقافة واملدنية م ًعا؛ ليك يس تقمي فكر الفراد وسلوكياهتم‪ ،‬وتتحسن حياهتم‪ ،‬ذلِل‬
‫فاإن ادلوةل الِت هتُت بلتقدم املادي عىل حساب التقدم ِف جمال القمي والخالق‪ ،‬دوةل مدن َّية‪ ،‬وليست‬
‫متحرضة؛ ومن هنا فاإن تقدم ادلول الغربية ِف العرص احلديث يعد مدنية وليس حضارة؛ لن الغرب‬
‫اهُت بلتقدم املادي عىل حساب القمي واملبادئ والخالق‪ ،‬أما الإسالم اذلي َّكرم ا إلنسان وأعىل من‬
‫شأنه‪ ،‬فقد جاء حبضارة سامية‪ ،‬تسهم ِف تيسري حياة الإنسان‪.‬‬

‫مفهوم احلضارة الإسالمية‪:‬‬


‫احلضارة الإسالمية يه ما قدمه الإسالم للمجمتع البرشى من قمي ومبادئ‪ ،‬وقواعد ترفع من شأنه‪،‬‬
‫ومتكنه من التقدم ِف اجلانب املادي وت ِ ّيّس احلياة ل إالنسان‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫أمهية احلضارة الإسالمية‪:‬‬
‫قادرا عىل أن حيمل مشعل‬ ‫الفرد هو اللبنة الوىل ِف بناء اجملمتع‪ ،‬وإاذا صلح صلح اجملمتع كه‪ ،‬وأصبح ً‬
‫احلضارة‪ ،‬ويبلغها للعاملني‪ ،‬ومن أجل ذِل جاء الإسالم بتعالمي ومبادئ ت ُْص ِلح هذا الفرد‪ ،‬وجتعل حياته‬
‫هادئة مس تقرة‪ ،‬وأعطاه من املبادئ ما يصلح كيانه وروحه وعقهل وجسده‪.‬‬
‫وبعد اإصالح الفرد يتوجه الإسالم بخلطاب اإىل اجملمتع اذلي يتكون من الفراد‪ ،‬وحيهثم عىل الرتابط‬
‫والتعاون والرب والتقوى‪ ،‬وعىل لك خري؛ لتعمري هذه الرض‪ ،‬واس تخراج ما ّبا من خريات‪ ،‬وتسخريها‬
‫خلدمة الإنسان وسعادته‪ ،‬وقد َكن أبؤان عىل قدر املس ئولية‪ ،‬حفملوا هذه احلضارة‪ ،‬وانطلقوا ّبا يع ِل ّمون‬
‫العامل كه ويوهجونه‪.‬‬

‫أنواع احلضارة الإسالمية‪:‬‬


‫وللحضارة الإسالمية‪ ،‬ثالثة أنواع‪:‬‬
‫‪ -1‬حضارة التارخي (حضارة ادلول)‪:‬‬
‫ويه احلضارة الِت قدمهتا دوةل من ادلول الإسالمية لرفع شأن الإنسان وخدمته‪ ،‬وعند احلديث‬
‫عن حضارة ادلول ينبغى أن نتحدث عن اترخي ادلوةل الِت قدمت هذه احلضارة‪ ،‬وعن ميادين حضارهتا‪،‬‬
‫مثل‪ :‬الزراعة‪ ،‬والصناعة‪ ،‬والتعلمي‪ ،‬وعالقة هذه ادلوةل الإسالمية بغريها من ادلول‪ ،‬وما قدمته من‬
‫اإجنازات ِف هذا امليدان‪.‬‬
‫‪-2‬احلضارة الإسالمية الصيَل‪:‬‬
‫ويه احلضارة الِت جاء ّبا الإسالم خلدمة البرشية كها‪ ،‬وتشمل ما جاء به الإسالم من تعالمي ِف‬
‫جمال‪ :‬العقيدة‪ ،‬والس ياسة‪ ،‬والاقتصاد‪ ،‬والقضاء‪ ،‬والرتبية‪ ،‬وغري ذِل من أمور احلياة الِت تسعد الإنسان‬
‫وتيّس أموره‪.‬‬
‫‪ -3‬احلضارة املقتبسة‪:‬‬
‫وتسمى حضارة البعث والإحياء‪ ،‬وهذه احلضارة َكنت خدمة من املسلمني للبرشية كها‪ ،‬فقد َكنت‬
‫هناك حضارات وعلوم ماتت‪ ،‬فأحياها املسلمون وطوروها‪ ،‬وصبغوها بجلانب الخاليق اذلي اس متدوه‬
‫من الإسالم‪،‬‬
‫‪6‬‬
‫خصائص احلضارة الإسالمية ومظاهرها‬
‫خصائص احلضارة الإسالمية للحضارة الإسالمية أسس قامت علْيا‪ ،‬وخصائص متزيت ّبا عن‬
‫احلضارات الخرى‪ ،‬أمهها‪:‬‬
‫‪ -1‬العقيدة‪:‬‬
‫جاء الإسالم بعقيدة التوحيد الِت تُف ِرد هللا س بحانه بلعبادة والطاعة‪ ،‬وحرص عىل تثبيت تكل‬
‫العقيدة وتأكيدها‪ ،‬وّبذا نفى لك حتريف سابق لتكل احلقيقة الزلية‪ ،‬قال هللا تعاىل‪{ :‬قل هو هللا أحد‪.‬‬
‫هللا الصمد‪ .‬مل يدل ومل يودل‪ .‬ومل يكن هل كفوا أحد}‪7‬‬
‫ً‬
‫فأهنيي الإسالم بذِل اجلدل ادلائر حول وحدانية هللا تعاىل‪ ،‬وانقش افرتاءات الْيود والنصارى‪،‬‬
‫ور َّد علْيا؛ ِف مثل قوهل تعاىل‪{ :‬وقالت الْيود عزير ابن هللا وقالت النصارى املس يح ابن هللا ذِل قوهلم‬
‫ربب‬
‫بأفواههم يضاهئون قول اذلين كفروا من قبل قاتلهم هللا أىن يؤفكون‪ .‬اختذوا أحبارُه ورهباهنم أ ً‬
‫من دون هللا واملس يح ابن مرمي وما أمروا اإل ليعبدوا اإلهًا واحدً ا ل اإهل اإل هو س بحانه عام يرشكون}‪8‬‬

‫وقطع القرأن الطريق بحلجة واملنطق عىل لك من جعل مع هللا اإلهًا أخر‪ ،‬قال هللا تعاىل‪{ :‬أم اختذوا ألهة‬
‫من الرض ُه ينرشون‪ .‬لو َكن فْيام ألهة اإل هللا لفسدات فس بحان هللا رب العرش عام يصفون}‪9‬‬

‫‪ -2‬مشولية الإسالم وعامليته‪:‬‬


‫الإسالم دين شامل‪ ،‬وقد ظهرت هذه الشمولية واحضة جل َّية ِف عطاء الإسالم احلضاري‪ ،‬فهو‬
‫يشمل لك جوانب احلياة الاقتصادية والس ياس ية والاجامتعية والفكرية‪ ،‬كام أن الإسالم يشمل لك‬
‫متطلبات الإنسان الروحية والعقلية والبدنية‪ ،‬فاحلضارة الإسالمية تشمل الرض ومن علْيا اإىل يوم‬
‫القيامة؛ لهنا حضارة القرأن اذلي تعهَّد هللا حبفظه اإىل يوم القيامة‪،‬‬
‫أو وس يَل تساعد عىل الْنوض بلبرش‪ ،‬وتيّس هلم أمور حياهتم‪ ،‬ما دامت تكل الوس يَل ل ختالف‬
‫قواعد الإسالم وأسسه الِت قام علْيا‪.‬‬

‫‪[ 7‬اإلخالص‪.]4-1 :‬‬

‫‪[ 8‬التوبة‪.]31-30 :‬‬


‫‪[ 9‬األنبياء‪.]22-21 :‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ -3‬احلث عىل العَل‪:‬‬
‫حثت احلضارة الإسالمية عىل العَل‪ ،‬وجشَّع القرأن الكرمي والس نة النبوية عىل طلب العَل‪ ،‬ففرق‬
‫الإسالم بني أمة تقدمت علم ًّيا‪ ،‬وأمة مل تأخذ نصيهبا من العَل‪ ،‬فقال تعاىل‪{ :‬قل هل يس توي اذلين‬
‫يعلمون واذلين ل يعلمون} ‪ .10‬وبني القرأن فضل العلامء‪ ،‬فقال تعاىل‪{ :‬يرفع هللا اذلين أمنوا منُك واذلين‬
‫أوتوا العَل درجات} [اجملادةل‪.]11 :‬‬
‫وقال رسول هللا صىل هللا عليه وسَل مب ِ ّينًا فضل السعي ِف طلب العَل‪( :‬من سكل طريقًا يبتغي‬
‫فيه علما؛ سهل هللا هل به طريقًا اإىل اجلنة)‪11‬‬
‫ً‬

‫‪[ 10‬الزمر‪]9 :‬‬


‫‪ 11‬أخرجه أبو داود (‪ ،)3641‬والترمذي (‪ ،)2682‬وابن ماجه)‪(223‬‬
‫‪8‬‬
‫مظاهر احلضارة الإسالمية‪:‬‬

‫مل تغفل احلضارة الإسالمية اجلانبني الرويح واملادي ِف حياة الإنسان‪ ،‬ذلِل جند أن احلضارة‬
‫الإسالمية برزت ِف جمالت متعددة‪ ،‬حبيث ترىق بلإنسان ِف لك مس توايت حياته‪ ،‬ومظاهر‬
‫هذه احلضارة يه‪:‬‬
‫‪1-‬اجلانب الس يايس‪.‬‬
‫‪2-‬اجلانب الاقتصادي‪.‬‬
‫‪3-‬اجلانب الاجامتعي‪.‬‬
‫‪4-‬اجلانب العلمي‪.‬‬
‫‪5-‬العالقات ادلولية‪.‬‬
‫‪6-‬النظام الترشيعي‪.‬‬
‫‪7-‬النظام القضايئ‪.‬‬
‫‪8-‬اجلانب الطيب‬
‫‪ - 9‬اجلانب املعامري‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫اجلانب الس يايس ِف احلضارة الإسالمية‬

‫جاء الإسالم رمحة للعاملني‪ ،‬وجاءت تعالمي الإسالم لتضمن سالمة اجملمتع البرشي من التفكك‬
‫والضعف والاحنالل‪ ،‬ولتضمن سعادته ِف ادلنيا والخرة‪ ،‬ولقد متسك ّبا الصحابة ‪-‬ريض هللا عْنم‪-‬‬
‫خفضعت هلم ادلنيا‪ ،‬وأسسوا ل إالسالم دوةل واسعة احلضارة‪ ،‬قوية البناء‪ ،‬حمبة للعلوم‪ ،‬والتارخي خري‬
‫شاهد عىل ذِل‪ .‬لقد وضع الإسالم نظا ًما مل يكن معروفًا ِف أي جممتع من اجملمتعات‪ ،‬ومل يكن هذا‬
‫تطورا طبيع ًّيا أو غري طبيعى لي نظام سابق عليه‪.‬‬‫النظام ً‬
‫اإن نظام احلُك الإساليم هل أسسه وقوانينه الواحضة املس متدة من القرأن الكرمي‪ ،‬اذلي ل يأتيه‬
‫الباطل من بني يديه ول من خلفه‪ ،‬ولمهية احلُك ِف الإسالم فقد اهُت الإسالم ببيان ما عىل احلاُك‬
‫واحملكوم‪ ،‬حفذر احلاُك من اتباع الهوى وشهوات النفس‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬فاحُك بني الناس بحلق ول تتبع‬
‫الهوى فيضكل عن سبيل هللا[ }ص‪ .]26 :‬وقال تعاىل‪{ :‬وأن احُك بيْنم مبا أنزل هللا ول تتبع أهواءُه‬
‫واحذرُه أن يفتنوك عن بعض ما أنزل هللا اإليك}‪12‬‬

‫وحذر هللا‪ -‬س بحانه‪ -‬احملكوم من العصيان دون سبب مقبول رشعًا‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫اي أهيا اذلين أمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأويل المر منُك فاإن تنازعُت ِف يشء فردوه‬
‫اإىل هللا والرسول} ‪13‬‬

‫وحرص الإسالم عىل أن يسود العدل بني مجيع الناس‪ ،‬وحذر من الظَل وعواقبه‪ ،‬حىت مع غري‬
‫املسلمني‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬اإن هللا يأمرُك أن تؤدوا الماانت اإىل أهلها وإاذا حمكُت بني الناس أن حتمكوا بلعدل‬
‫بصريا} [النساء‪ .]58 :‬وقال رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪:‬‬ ‫اإن هللا نعام يعظُك به اإن هللا َكن مسي ًعا ً‬
‫(اتقوا الظَل‪ ،‬فاإن الظَل ظلامت يوم القيامة)‪14‬‬

‫‪ 12‬المائدة‪.49 :‬‬
‫‪ 13‬النساء‪.59 :‬‬
‫‪[ 14‬مسلم]‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫خصائص النظام الس يايس ِف الإسالم‬
‫‪ .1‬نظام عاملي‪:‬‬
‫النظام الس يايس الإساليم نظام عاملي‪ ،‬اس متد عامليته من عاملية الإسالم ذاته‪ ،‬ومن صالحيته‬
‫للتطبيق ِف لك زمان ومَكن‪ ،‬جفعل للعلامء القادرين عىل الاس تنتاج واس تخراج الحَكم َّ‬
‫احلق ِف‬
‫الاجهتاد ِف تفصيل الحَكم وتوضيحها بلشلك اذلي حيقق أهداف الإسالم‪ ،‬ويدور ِف اإطار أحَكم‬
‫الإسالم العامة‪ ،‬وقد جاءت أحَكم الإسالم ِف أسلوبني‪:‬‬
‫الول‪ :‬أحَكم تفصيلية حمددة‪ ،‬تبني حمكها نصوص من القرأن واحضة ادللةل‪ ،‬ل خالف ِف‬
‫معناها‪ ،‬وأحاديث حصيحة من الس نة وطرق أداهئا‪ ،‬وهذه التعالمي ل جمال لالجهتاد فْيا بلزايدة أو‬
‫النقصان مثل بعض أحَكم الصالة والزَكة واحلج واملواريث وغريها‪.‬‬
‫والثاىن‪ :‬أحَكم جاءت من خالل الايت الِت ُُيتلف ِف تفسريها‪ ،‬والحاديث الِت مل تثبت حصهتا‪،‬‬
‫أو ثبتت حصهتا ومل يتفق العلامء فْيا عىل معىن واحد‪ ،‬أو عبارة عن قواعد عامة ِف جمال املعامالت‪،‬‬
‫وهذه من حق العلامء القادرين عىل الاجهتاد أن يبدوا الرأي فْيا‪ ،‬مبا حيقق مصاحل اجملمتع الإساليم ِف‬
‫زمن معني أو وضع معني‪ ،‬مع احملافظة عىل روح الرشيعة‪ ،‬وحتقيق مقاصدها الِت جاءت ملصلحة الناس‪.‬‬
‫‪ -2‬ملشاركة بني الفرد واجملمتع‪:‬‬
‫العالقة بني الفرد واجملمتع ِف النظام الإساليم عالقة مشاركة‪ ،‬فالإسالم ل يعرتف بلفلسفات‬
‫واملذاهب الِت جتعل الفرد واجملمتع ِف ِصاع‪ ،‬وبعض هذه املذاهب يفضل جانب الفرد عىل اجملمتع مثل‬
‫الرأساملية‪ ،‬وبعضها الخر يفضل جانب اجملمتع عىل جانب الفرد كام صنعت الش يوعية‪ ،‬أما الإسالم فهو‬
‫يوازن بني الفرد واجملمتع‪ ،‬فهو يعرتف بملس ئولية الفردية‪ ،‬أي مس ئولية لك فرد عن أفعاهل‪،‬‬
‫النسان اإل ما سعى} ‪15‬‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬أل تزر وازرة وزر أخري‪ .‬وأن ليس ل إ‬
‫فقد أعطى الإسالم الفرد حقوقه الساس ية‪ ،‬وألزم احلكومة بتباع القانون الربين‪ ،‬ومحى الفرد من‬
‫تدخل احلكومة ِف ش ئونه دون مربر‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬اي داود اإان جعلناك خليفة ِف الرض فاحُك بني الناس‬
‫بحلق ول تتبع الهوى فيضكل عن سبيل هللا[ ‪16‬‬

‫‪ 15‬النجم‪،]39-38 :‬‬
‫‪ 16‬ص‪].26 :‬‬
‫‪11‬‬
‫وربط الإسالم الفرد املسَل بضوابط أخالقية‪ ،‬وفرض عليه طاعة احلكومة املسلمة الِت تطبق‬
‫رشع هللا‪ ،‬وطلب منه التعاون معها والتضحية بلنفس واملال ِف سبيل حاميهتا‪ ،‬قال صىل هللا عليه وسَل‬
‫‪( :‬امسعوا وأطيعوا وان تأ َّمر عليُك عبد حبيش) ‪17‬‬
‫إ‬
‫‪ -3‬احلكومة الإسالمية انبعة من اجملمتع الإساليم‪:‬‬
‫فالإسالم ل يعرتف ّبيئة من خارج اجملمتع الإساليم حتُك المة عن طريق الاستيالء عىل السلطة‬
‫بلقوة وحُك الشعوب بلتسلط والقهر‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬اي أهيا اذلين أمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأويل‬
‫المر منُك} ‪[18‬‬
‫فقوهل تعاىل‪( :‬منُك) حيدد نوعية احلاُك واحلكومة‪ ،‬ويه أهنا حكومة اإسالمية منا‪ ،‬وليست من غري‬
‫املسلمني‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ولن جيعل هللا للَكفرين عىل املؤمنني سبي ً‬
‫ال} ‪19‬‬

‫‪ 17‬البخاري]‪.‬‬
‫‪ 18‬النساء‪]59 :‬‬
‫‪[ 19‬النساء‪]141 :‬‬
‫‪12‬‬
‫أسس وقواعد احلُك ِف احلضارة الإسالمية‬

‫‪ -1‬حق المة ِف اختيار احلاُك وتقوميه‪:‬‬


‫فالمة صاحبة احلق ِف اختيار احلاُك ومبايعته‪ ،‬وِف ا إلرشاف عىل س ياس ته وترصفاته‪ ،‬ولها حق‬
‫تقوميه اإذا ابتعد عن طريق الصواب‪،‬‬
‫‪ -2‬الشورى‪:‬‬
‫فالشورى ركن أسايس من أرَكن احلُك الإساليم‪ ،‬قال س بحانه‪{ :‬وشاورُه ِف المر} ‪،20‬‬
‫وقال أيضً ا‪{ :‬وأمرُه شورى بيْنم} ‪21‬‬

‫وأهل احلل والعقد‪ُ :‬ه جامعة من المراء واحلَكم ‪-‬والعلامء ورؤساء اجلند وسائر الرؤساء والزعامء‬
‫ِف لك املصاحل‪ ،‬اذلين يرجع اإلْيم الناس ِف احلاجات واملصاحل العامة‪.‬‬
‫‪ -3‬العدل‪:‬‬
‫أمر الإسالم بلعدل‪ ،‬وجعهل غاية احلُك الإساليم وهدفه‪ ،‬والعدل هو‪ :‬اإعطاء لك ذي حق‬
‫حقه َكم ًال غري منقوص‪ .‬وهذا العدل مس ئولية احلاُك‪ ،‬وواجب من الواجبات املفروضة عليه‬

‫‪[ 20‬آل عمران‪]159 :‬‬


‫‪[ 21‬الشورى‪،]38 :‬‬
‫‪13‬‬
‫اجلانب الاقتصادي ِف احلضارة الإسالمية‬

‫املال من أُه مقومات احلياة‪ ،‬جعهل هللا أداة لتيسري حياة الإنسان ومعيش ته واس تقراره‪،‬‬
‫وجعهل هللا زينة من زينة احلياة ادلنيا‪ ،‬فالإنسان مفتون به‪ ،‬مشغول جبمعه‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬زين للناس حب‬
‫الشهوات من النساء والبنني والقناطري املقنطرة من اذلهب والفضة واخليل املسومة والنعام واحلرث‬
‫ذِل متاع احلياة ادلنيا وهللا عنده حسن املأب}‪22‬‬

‫وهذا الشغف جبمع املال قد يدفع الإنسان اإىل عدم حتري احلالل ِف مجع املال‪ ،‬وبلتايل يصبح هذا‬
‫الإنسان عبدً ا للامل‪ ،‬ذلي ًال هل‪ ،‬كام أن ضعفه أو جعزه عن مقاومة شهواته وغرائزه قد يدفعه اإىل اإنفاق‬
‫ترض به ومبجمتعه‪ ،‬فوضع الإسالم ضوابط للكسب والإنفاق‪ ،‬وبني أن الناس مس ئولون‬ ‫املال بصورة قد ُّ‬
‫برزا ِف قوهل‬ ‫عن أمواهلم وطرق اإنفاقها‪ ،‬وحذرُه من انشغاهلم ّبا عن أخرهتم أو افتتاهنم ّبا‪ ،‬جفاء هذا ً‬
‫تزول قدما عَب ٍد يو َم القيام ِة حىت ي ُسأ َل‪ :‬عن ُ َْع ِر ِه ف َمي أفناه‪ ،‬وعن عل ِمه ف َمي‬
‫صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬ل ُ‬
‫فعل‪ ،‬وعن ماهل من أين اكتس به‪ ،‬وفمي أنفقه‪ ،‬وعن جسمه فمي أباله)‪23‬‬
‫َ‬
‫وقال تعاىل‪{ :‬اي أهيا اذلين أمنوا ل تلهُك أموالُك ول أولدُك عن ذكر هللا ومن يفعل ذِل فأولئك ُه‬
‫اخلارسون} [املنافقون‪ ،]9 :‬وقال تعاىل‪{ :‬اإمنا أموالُك وأولدُك فتنة وهللا عنده أجر عظمي}‪ 24‬وهناك أمور‬
‫ينبغي عىل املسَل أن يعرفها عن املال‪ ،‬ويه‪:‬‬
‫‪1-‬أن هذا املال شأنه كشأن غريه مما ِف هذا الكون مكل هلل‪.‬‬
‫‪2-‬هذا الكون مبا فيه من مالٍ وغريه مسخر ل إالنسان تكرميًا هل‪.‬‬
‫‪3-‬املال مال هللا‪ ،‬والإنسان مس تخلف فيه‪ ،‬فاإن أحسن الترصف فيه؛ فهل خري اجلزاء‪ ،‬وإان أساء‬
‫الترصف فيه؛ حفسابه عىل هللا‪.‬‬
‫‪4-‬املال هو وس يَل حلياة كرمية عزيزة‪ ،‬ل غاية يسعى الإنسان لتحقيقها‪ ،‬ويضيع َعره من أجلها‪،‬‬
‫فاملسَل احلق ل يدع حب املال يستبد به‪ ،‬بل جيمع املال من حالل‪ ،‬وينفقه فامي حيب هللا‪.‬‬
‫‪5-‬املال اذلي اكتس به صاحبه من طريق حالل مكل هل ملكية خالصة‪ ،‬جيب أن حيافظ عليه‪ ،‬ول‬
‫جيوز لحد التعدي عليه‪.‬‬
‫‪[ 22‬آل عمران‪].14 :‬‬
‫‪[ 23‬الترمذي]‪.‬‬
‫‪[ 24‬التغابن‪].15 :‬‬

‫‪14‬‬
‫وبناء عىل هذه املبادئ والسس السابقة يكون ل إالنسان احلق ِف الترصف ِف ماهل كس ًبا وإانفاقًا‬
‫وإادارة‪ ،‬ويه حقوق مرتتبة عىل ملكية الإنسان للامل اذلي جاء من طريق رشعي‪.‬‬

‫الطرق املرشوعة ِف كسب املال‬

‫عىل املسَل أن يتحرى احلق والصواب ِف طلب املال‪ ،‬ومن هذه الطرق املرشوعة‪:‬‬
‫‪ .1‬العمل الرشيف‪ :‬مثل الزراعة والصناعة والتجارة والوظيفة واحلرفة‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫‪ .2‬املرياث‪ :‬وذِل بأن تنتقل ملكية املال اإىل ورثة املتوىف‪ ،‬طبقًا للقواعد الرشعية املقررة لهذا‬
‫املرياث‪.‬‬
‫‪ .3‬الهبة‪ :‬ويه أن يتنازل الإنسان عن بعض ماهل اإىل غريه دون مقابل‪ ،‬فتنتقل ملكية هذا املال اإىل‬
‫هذا الغري‪.‬‬
‫‪ .4‬الوقف‪ :‬ويكون حببس املال احلالل عىل بعض أوجه الإنفاق الرشعية‪ ،‬ول يترصف ِف أصهل‬
‫جزءا من ماهل ل يتجاوز الثلث‪ ،‬يأخذه بعد موت‬ ‫‪ .4‬الوصية‪ :‬ويه أن هيب الإنسان اإنساانً أخر ً‬
‫املويص‪.‬‬
‫‪ .5‬غنامئ احلرب‪ :‬ويه املال اذلي يؤخذ من أعداء الإسالم نتيجة احلروب‪ ،‬وقد أحل هللا الغنامئ‬
‫للمسلمني‪.‬‬
‫‪ .6‬الفىء‪ :‬وهو املال اذلي يؤخذ من أعداء هللا نتيجة استسالهمم‪ ،‬ول يبذل املسلمون ِف ذِل‬
‫مشقة‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫الطرق احملرمة ِف اكتساب املال‬
‫حرم الإسالم بعض الطرق الِت يكتسب ّبا املال‪ ،‬ويه‪:‬‬
‫‪ .1‬الرب‪ :‬حرم هللا الرب بلك صوره‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬وأحل هللا البيع وحرم الرب)‪25‬‬
‫وقال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬لعن هللا ألك الرب ومؤكه وشاهديه وَكتبه) ‪26‬‬
‫ْ‬
‫‪ .2‬الاحتَكر‪ :‬وهو حرام لقوهل صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬من احتكر فهو خاطئ (أمث))‪27‬‬

‫‪ .3‬العدوان‪ :‬فال جيوز للمسَل أن يعتدي عىل مال الخرين ليأخذه‪ ،‬قال هللا تعاىل‪{ :‬ول تعتدوا‬
‫اإن هللا ل حيب املعتدين} ‪[28‬البقرة‪.190 :‬‬
‫‪ .4‬الرشوة‪ :‬فاملسَل اذلي حيصل عىل ماهل من طريق الرشوة أمث عند هللا تعاىل‪ ،‬قال الرسول‬
‫صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬لعن هللا الرايش واملرتيش) [أبو داود والرتمذي‪].‬‬
‫‪ .5‬الغش‪ :‬فاكتساب املال من طريق الغش حرام ل جيوز‪ ،‬قال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬من غَ َّش فليس‬
‫منا)‬
‫‪ .6‬استامثر املال‬
‫املال هل أمهية عظمية ِف اإنعاش اقتصاد ادلوةل‪ ،‬وِف رفع مس توى معيشة الفراد‪ ،‬والتخفيف من‬
‫املعاانة الِت حيس ّبا ا إلنسان‪ ،‬وقد َكن أحصاب النىب ( يعملون ِف التجارة وغريها ويرحبون رحبًا حالل‪.‬‬
‫وعندما هاجر النىب ( اإىل املدينة وهاجر أحصابه‪ -‬اتركني أمواهلم من خلفهم‪ -‬أىخ ( بني املهاجرين‬
‫والنصار‪ ،‬فأىخ بني‬
‫عبد الرمحن بن عوف من املهاجرين وسعد بن الربيع من النصار‪ ،‬فعرض سعد عىل عبد الرمحن‬
‫أن يأخذ نصف ماهل‪ ،‬فقال عبد الرمحن لخيه‪ :‬برك هللا ِل ِف ماِل وأهكل‪ ،‬ولكن ُدلَِّن عىل السوق‪.‬‬
‫فدهل عىل سوق بِن قينقاع‪ ،‬فذهب اإليه‪ ،‬واتجر حىت كَث ماهل وصار من أغنياء املسلمني‪ ،‬فَكن ينفق‬
‫ماهل ِف سبيل هللا‪ ،‬قال صىل هللا عليه وسَل ‪ِ ( :‬نعم املال الصاحل للرجل الصاحل)‪29‬‬
‫ْ‬
‫‪[ 25‬البقرة‪،]275 :‬‬
‫‪[26 26‬مسلم وأصحاب السنن‪].‬‬

‫‪[ 27‬مسلم وأبو داود وابن ماجه]‪.‬‬

‫‪[ 28‬مسلم وأبوداود]‪.‬‬

‫‪ 29‬أحمد]‬
‫‪16‬‬
‫وي ُستمثر املال ِف الزراعة والصناعة والبناء‪ ،‬وغري ذِل مما فيه عامرة الرض وصالح الإنسان‪،‬‬
‫أما أن ي ُستمثر املال ِف جتارة حمرمة أو أمر فيه رضر عىل المة فهذا ما ل يبيحه الإسالم‪.‬‬
‫احلقوق ِف املال‬
‫‪ .1‬جعل هللا املال لتيسري احلياة عىل الناس‪ ،‬وأمرُه بلس متتاع بلطيبات ِف اعتدال بال إارساف‬
‫حرم ذِل‪ ،‬فقال س بحانه‪{ :‬وكوا وارشبوا ول تّسفوا اإنه ل حيب‬ ‫ول تبذير‪ ،‬لن هللا َّ‬
‫املّسفني}‪30‬‬

‫وحرم هللا كزن املال لغري مصلحة‪ ،‬وذم البخل به دون سبب؛ لن ِف ذِل تعطي ًال ملصاحل املسلمني‪،‬‬
‫تعسريا عىل الناس‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬اذلين يبخلون ويأمرون الناس بلبخل ويكمتون ما أاتُه هللا من فضهل‬ ‫و ً‬
‫عذاب همينًا}‪[ 31‬الزَكة حق معلوم ِف املال‪ ،‬ويه تُؤخذ من الغنياء وتُ ْع َطى للفقراء‬
‫وأعتدان للَكفرين ً‬
‫بقواعد حددها الرشع‪ ،‬وقد حدد الإسالم مصارف هذه الزَكة‪ ،‬واملس تحقني لها‪ ،‬فقال تعاىل‪{ :‬اإمنا‬
‫الصدقات للفقراء واملساكني والعاملني علْيا واملؤلفة قلوّبم وِف الرقاب والغارمني وِف سبيل هللا وابن‬
‫السبيل فريضة من هللا وهللا علمي حكمي}‪32‬‬

‫‪[ 30‬األعراف‪،]31 :‬‬


‫‪ 31‬النساء‪].37 :‬‬

‫‪ 32‬التوبة ‪].60 :‬‬ ‫‪.1‬‬

‫‪17‬‬
‫مبادئ الاقتصاد الإساليم‬
‫لالقتصاد الإساليم مبادئ حتفظ هل صالحية تطبيقه ِف اجملمتعات عىل مر العصور‪ ،‬مْنا‪:‬‬
‫تسلطا‪ ،‬كام َكن احلال من قبل‪ ،‬وليس معىن هذا أن الإسالم‬ ‫أول‪ :‬مل جيعل الإسالم الغىن حا ًمَك أو م ً‬
‫حيرم عىل الغىن أن يكون حا ًمَك أو أ ً‬
‫مريا أو وال ًيا‪ ،‬ولكن الغىن ليس املقياس الوحد للحُك‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫اثن ًيا‪ :‬اهُت القرأن بتوجيه املسلمني اإىل مصادر الَثوة اخملتلفة‪ ،‬سواء مْنا ما اتصل بلصناعة أو‬
‫الزراعة أو الصيد أو اس تخراج املعادن أو البرتول‪ ،‬وما سوى ذِل‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬وأنزلنا احلديد فيه بأس‬
‫شديد ومنافع للناس} [احلديد‪ .]25 :‬وقال‪{ :‬أفرأيُت ما حترثون‪ .‬أأنُت تزرعونه أم حنن الزارعون} [الواقعة‪:‬‬
‫طراي وتس تخرجوا حلية تلبسوهنا وترى الفكل‬ ‫‪ .]64 - 63‬وقال‪{ :‬وهو اذلي خسر البحر لتأكوا منه ًمحلا ً‬
‫مواخر فيه ولتبتغوا من فضهل ولعلُك تشكرون} [النحل‪.]14 :‬‬
‫اثلث ًا‪ :‬عرف الإسالم نظام امللكية العامة وامللكية اخلاصة‪ ،‬وبني أن هناك أش ياء ل جيوز أن ميلكها‬
‫الفراد‪ ،‬ويه الِت ل يس تغِن عْنا فرد من أفراد ادلوةل الإسالمية‪ ،‬وهذه الش ياء ختتلف حسب البيئات‬
‫والظروف‪ ،‬وقد أشار الرسول صىل هللا عليه وسَل اإىل ثالثة مْنا ويه‪ :‬املاء واللك والنار‪ ،‬لهنا يه‬
‫الِت َكنت منترشة ِف البيئة الصحراوية الِت َكنت ِف همد الإسالم‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬يرفض الإسالم أن تكون امللكيات الكبرية ِف أيدي فئة قليَل‪ ،‬اإذا مل ُيرجوا مْنا حق هللا؛‬
‫وذِل حىت ل تتسع الهوة بني الغنياء والفقراء‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬يك ل يكون دوةل بني الغنياء منُك} [احلرش‪:‬‬
‫‪.]7‬‬
‫خامسا‪ :‬أجاز الإسالم التفاوت بني الناس ِف امللكية عىل أساس التفاوت بيْنم ِف اجلهد والعمل‬ ‫ً‬
‫واملواهب‪.‬‬
‫قال تعاىل‪{ :‬وهللا فضل بعضُك عىل بعض ِف الرزق} [النحل‪].71 :‬‬
‫سادسا‪ :‬جعل الإسالم ِف مال الغِن حقوقًا للفقري‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬وِف أمواهلم حق للسائل واحملروم}‬ ‫ً‬
‫[اذلارايت‪.]19 :‬‬
‫ساب ًعا‪ :‬أوجب الإسالم عىل احلكومة املسلمة أن تدافع عن الفقراء اإذا حدث هلم أي ظَل من جانب‬
‫الغنياء‪،‬‬

‫‪18‬‬
‫اجلانب الاجامتعي ِف احلضارة الإسالمية‬

‫َكنت البرشية قبل جميء الرسول صىل هللا عليه وسَل تعيش ِف ظلامت كثرية‪ ،‬وتتخبط ِف اجلهل‪،‬‬
‫وكَث ْت الوثنية‪ ،‬ووصل عدد اللهة الِت تُعبد من دون هللا اإىل عدد مل تعهده البرشية من قبل‪ ،‬وانترشت‬ ‫ُ‬
‫نورا يزيل‬
‫املفاسد والرشور واملساوئ الخالقية‪ ،‬ومشل الفساد لك بقاع الرض‪ ،‬مث شاء هللا أن يرسل ً‬
‫به ما عىل الرض من ُظلمة‪ ،‬فأرشقت مشس الإسالم‪ ،‬وتغريت املوازين‪ ،‬ودبت احلياة ِف العامل‪.‬‬
‫ساسا لبناء اجملمتع املسَل الصاحل‬‫وأقام الإسالم جممت ًعا متَكم ًال‪ ،‬فبىن الفرد املسَل الصاحل‪ ،‬فَكن أ ً‬
‫املرتابط اذلي يسري عىل مْنج هللا س بحانه‪ ،‬وَكن لبد من تكوين جممتع مسَل؛ ليحمل عبء هذه ادلعوة‬
‫مع الرسول صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬وادلفاع عْنا بعد موته‪ ،‬ونرشها ِف لك أرجاء ادلنيا‪.‬‬
‫وقد انشغل الرسول صىل هللا عليه وسَل ِف بداية ادلعوة ِف مكة برتبية الفرد املسَل؛ كساس لبناء‬
‫اجملمتع املسَل‪ ،‬وقد متثلت جوانب هذه الرتبية ِف عدة أمور‪ ،‬يه‪:‬‬
‫أو ًل‪ :‬تصحيح العقيدة‪:‬‬
‫أخرج الإسالم الناس من عبادة الواثن اإىل عبادة هللا الواحد القهار‪ ،‬وإاىل الإميان بهلل ومالئكته‬
‫وكتبه ورسهل‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬والقدر خريه ورشه‪ ،‬وأخرهجم من عبادة املادة اإىل عبادة هللا‪ ،‬وأراد‬
‫حتريرُه من التخلف العقيل والعقائدي‪ ،‬وترقيق مشاعرُه وأحاسيسهم‪ ،‬والسمو ّبا اإىل أعىل مزنةل‪،‬‬
‫وحول هذا الإنسان من ادلفاع عن قبيلته وعشريته اإىل التفاين ِف‬ ‫فوصل هذا الإميان اإىل أعامق قلوّبم‪َّ ،‬‬
‫سبيل ادلفاع عن دينه وعقيدته‪ ،‬والعمل عىل نرص هذا ادلين‪ ،‬واحلرص عىل نرشه‪ ،‬وتبليغه للناس ابتغاء‬
‫مرضاة هللا‪.‬‬
‫فهذا الصحاِب اجلليل ربعي بن عامر يدخل عىل رس ُت ‪-‬قائد الفرس‪ -‬فال هيُت بلزخرفة والزينة الِت‬
‫حتيط به‪ ،‬فيقول هل رس ُت‪ :‬ما جاء بُك ؟! فريد عليه ربعي قائ ًال‪ :‬اإن هللا ابتعثنا لنخرج َم ْن شاء ِم ْن عبادة‬
‫جور الداين اإىل عدل الإسالم‪.‬‬ ‫العباد اإىل عبادة هللا‪ ،‬ومن ضيق ادلنيا اإىل سعة ادلنيا والخرة‪ ،‬ومن ْ‬
‫اثن ًيا‪ :‬السمو اخللقي‪ ،‬والتخلق بأخالق القرأن‪:‬‬
‫َكن كثري من العرب يفعلون الفواحش واملعايص‪ ،‬وعندما جاء الإسالم ألبسهم ثوب العفة والطهر‪،‬‬
‫فغضوا أبصارُه‪ ،‬واس تقبحوا الفواحش واملعايص‪ ،‬وذِل بفضل الضمري احلي اذلي يراقب هللا وُيشاه‪،‬‬
‫‪19‬‬
‫واذلي ربه القرأن ِف املسَل‪ ،‬فاإذا غلبه الش يطان والهوى ووقع ِف معصية‪ ،‬عاتبه مضريه‪ ،‬ورسعان‬
‫ما يتوب‪ ،‬ويطلب أن يقام عليه احلد اإن َكنت املعصية مما يوجب اإقامة احلد‪.‬‬
‫وَكن العرِب حيمل الس يف ويعتدي عىل غريه بسبب وبغري سبب‪ ،‬وَكنت احلروب تس متر بني‬
‫حفرم البغي والعدوان‪ ،‬ونرش المن والسالم‪ ،‬فصار الناس‬ ‫العرب وبعضهم لفرتات طويَل‪ ،‬جفاء الإسالم َّ‬
‫رحامء بعد أن َكنوا معتدين‪.‬‬
‫اثلث ًا‪ :‬التحاُك اإىل هللا ورسوهل‪:‬‬
‫َكن العرب يتحامكون فامي بيْنم اإىل رشائع توارثوها عن أبهئم‪ ،‬واحتمكوا اإلْيا بأهواهئم‪ ،‬جفاء الإسالم‬
‫فأهنيى تكل الفوىض‪ ،‬ورد احلُك اإىل هللا س بحانه‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬فال وربك ل يؤمنون حىت حيمكوك فامي‬
‫جشر بيْنم مث ل جيدوا ِف أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسلامي) ‪33‬‬

‫راب ًعا‪ :‬املس ئولية الشخصية والولء لدلين‪:‬‬


‫أكد الإسالم عىل املس ئولية الشخصية‪ ،‬واعتربها أساس املس ئولية ِف الإسالم‪ ،‬وقد َكن العرِب ‪-‬‬
‫قبل الإسالم‪ -‬يناِص قبيلته سواء َكنت ظاملة أو مظلومة‪ ،‬فال هيمه هل يه عىل حق أم عىل بطل‪،‬‬
‫فعَل املسَل أن أساس احلساب أمام هللا هو املس ئولية الشخصية‪َّ ،‬‬
‫وعَل الإسالم الإنسان‬ ‫جفاء الإسالم َّ‬
‫أن يكون ولؤه دلينه فقط‪ ،‬قال تعاىل‪ ( :‬إامنا وليُك هللا ورسوهل واذلين أمنوا اذلين يقميون الصالة ويؤتون‬
‫الزَكة وُه راكعون ‪ .‬ومن يتول هللا ورسوهل واذلين أمنوا فاإن حزب هللا ُه الغالبون)‪34‬‬

‫خامسا‪ :‬تكرمي املرأة‪:‬‬


‫ً‬
‫اعتىن الإسالم بملرأة عناية كبرية‪ ،‬ورفع مَكنهتا‪ ،‬وأعىل مزنلهتا‪ ،‬قال‬
‫َعر بن اخلطاب ‪-‬ريض هللا عنه‪ :-‬وهللا لقد كنا ِف اجلاهلية ل نعد النساء شيئًا حىت أنزل هللا فْين ما أنزل‪.‬‬
‫مظاهر عناية الإسالم بملرأة‪:‬‬
‫‪- .1‬قَض الإسالم عىل صور الزواج الِت َكنت عندُه‪ ،‬ما عدا الصورة الصحيحة الِت علْيا زواج‬
‫الناس حىت الن‪ ،‬ملا ِف ذِل من تكرمي للمرأة‪ ،‬وأهنا ليست متاعًا للك من أراده‪.‬‬
‫‪ .2‬حفظ الإسالم للمرأة مَكنهتا‪ ،‬فقد َكنت تورث كام يورث املتاع‪ ،‬فَكن الابن الكرب يرث نساء‬
‫حفرم ذِل‪.‬‬
‫أبيه‪ ،‬كام يرث أنواع املرياث الخرى‪ ،‬جفاء الإسالم َّ‬

‫‪ 33‬النساء‪.]65 :‬‬
‫‪[ 34‬المائدة‪ 55 :‬ـ ‪] .56‬‬

‫‪20‬‬
‫‪ .3‬مل يكن للمرأة عندُه مرياث‪ ،‬فال ترث البنت من أبْيا ول الزوجة من زوهجا‪ ،‬ول الم من‬
‫ابْنا‪ ،‬ففرض هللا للمرأة مري ًااث‪ ،‬قال هللا تعاىل‪( :‬للرجال نصيب مما ترك الوادلان والقربون‬
‫ل منه أو كَث نصيبا مفروضا) ‪35‬‬ ‫وللنساء نصيب مما ترك الوادلان والقربون مما ق َّ‬
‫حياء)؛ خوفًا من أن يأتني بلفقر أو بلعار‪.‬‬‫‪ .4‬هنيى الإسالم عن وأد البنات‪( ،‬أي قتلهن أ ً‬
‫‪ .5‬منح الإسالم املرأة حق التعلمي‪ ،‬فقد َكن النساء عىل عهد رسول هللا صىل هللا عليه وسَل‬
‫يذهنب اإليه‪ ،‬ليسألنه ِف أمور ادلين‪ ،‬وكن يسألن أهمات املؤمنني‪ ،‬وَكن النيب صىل هللا عليه‬
‫وسَل ُيطب العيد للرجال‪ ،‬مث يذهب اإىل النساء ُيطب فْين‪.‬‬
‫‪ .6‬أجاز الإسالم للمرأة أن تعمل اإذا فقدت من يعولها ويعول أولدها‪ ،‬أو مرض هذا العائل‪ ،‬ولها‬
‫ذرية ضعاف‪ ،‬لتنفق عىل نفسها وعىل أولدها‪ ،‬فاإن مل تس تطع اخلروج‪َ ،‬كن عىل ادلوةل أن‬
‫تتكفل ّبا وبعيالها‪ ،‬وتعمل كذِل اإذا احتاج اجملمتع الإساليم اإىل َعلها‪ ،‬اإذ يصبح خروهجا للعمل‬
‫ِف هذه احلاةل فرض عني علْيا ل حيل لها التخلف عنه‪.‬‬
‫رشطا لصحة الزواج‪ ،‬فال يس تطيع أحد أن جيرب املرأة عىل أن تزتوج‬ ‫‪ .7‬وجعل الإسالم رضا املرأة ً‬
‫مبن ل ترضاه‪ .‬قال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬ل تُنكح ال ِّمي (الثيب) حىت تُس تأمر‪ ،‬ول تُنكح‬
‫البكر حىت تُس تأذن) ‪[36‬‬
‫‪ .8‬ومل يفرق الإسالم بني الرجل واملرأة عىل أساس النوع‪ ،‬اإمنا التفاضل بيْنام فامي فضل هللا به‬
‫بعضهم عىل بعض‪ ،‬أما فامي دون ذِل‪ ،‬فالرجل واملرأة سواء ل فضل لحدهام عىل الخر اإل‬
‫بلتقوى والعمل الصاحل‪،‬‬
‫قال تعاىل‪{ :‬من َعل صاحل ًا من ذكر أو أنىث وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزيْنم أجرُه‬
‫بأحسن ما َكنوا يعملون}‪37‬‬

‫‪[ 35‬النساء‪.]7 :‬‬


‫‪ 36‬البخاري]‪.‬‬
‫‪ 37‬النحل‪.]97 :‬‬
‫‪21‬‬
‫مَكنة املرأة ِف احلضارات الخرى‪:‬‬

‫وليك تظهر مَكنة املرأة ِف الإسالم‪ ،‬فلننظر نظرة رسيعة اإىل مَكنهتا ِف احلضارات الخرى‪.‬‬
‫‪َ ‬كنت مرص يه البدل الوحيد اذلي انلت فيه املرأة بعض حقوقها قدميًا‪ ،‬اإذ َكن للمرأة أن‬
‫متكل‪ ،‬وأن ترث‪ ،‬وأن تقوم عىل ش ئون الرسة ِف غيبة الزوج‪ ،‬ومع ذِل فقد َكن الزوج‬
‫هو الس يد علْيا‪ ،‬وَكن ينظر اإىل املرأة عىل أهنا وس يَل للمتتع اجلسدي تفوق ما سواها من‬
‫اإمَكانت بنَّاءة خلقها هللا ِف املرأة‪.‬‬
‫رش ِف بيت الرجل‬ ‫‪ ‬وَكنت املرأة عند الصينيني ل قمية لها‪ ،‬ويسموهنا (بملياه املؤملة)‪ ،‬ويه َ ٌّ‬
‫يتخلص منه مىت شاء‪ ،‬وإاذا مات زوهجا حبست ِف بيته للخدمة َكحليوان‪ .‬وَكنت املرأة ِف‬
‫احلضارة الإغريقية ل قمية لها‪ ،‬ذلِل حبسوها ِف البيت خادمة للرجل‪ ،‬واعتربوها ً‬
‫قاِصا ل‬
‫حيق لها المتتع بأي حق‪ ،‬ونظروا اإلْيا عىل أهنا رجس من َعل الش يطان‪ ،‬وَكنت تقدم قربانً‬
‫لللهة عند نزول املصائب ّبم‪.‬‬
‫‪ ‬وَكن الهنود القدماء ينظرون اإىل املرأة عىل أهنا خملوق جنس‪ ،‬اإذا مات عْنا زوهجا ُحرقت‬
‫مع جثته بلنار‪ ،‬وَكنت أحياانً تدفن ويه حية‪ ،‬وإاذا َكنت زوجة فللزوج أن يفعل ّبا ما‬
‫يشاء من َس ٍ ّب ورضب وش ُت وغري ذِل‪.‬‬
‫‪ ‬وَكن حال املرأة عند الرومان كحالها عند اليوانن‪ ،‬بل أقبح حا ًل‪ ،‬فهيي أداة ل إالغواء‪ ،‬ويه‬
‫تُباع وتُشرتى‪ ،‬ولزوهجا علْيا الس يادة املطلقة‪ ،‬وللزوج أن يزتوج من النساء ما يشاء‪،‬‬
‫وتتعرض لش ىت أنواع التعذيب‪ ،‬وتلكَّف ما ل تطيق‪.‬‬
‫‪ ‬وِف بالد الفرس‪َ ،‬كنوا يذلون املرأة ويُعدوهنا سبب انتشار الفساد‪ ،‬وذلا َكنت تعيش حتت‬
‫أنواع كثرية من ظَل الناس‪ ،‬وتقع حتت سلطة الزوج املطلقة‪ ،‬فهل أن حيُك بقتلها‪ ،‬وأن‬
‫يزتوج من النساء غريها ما يشاء دون قيد أو رشط‪.‬‬
‫‪ ‬وَكن الْيود حي ِّملون املرأة اإمث اإغواء أدم وإاخراجه من اجلنة‪ ،‬ويه عندُه ِف احمليض جنسة‪،‬‬
‫ولك ما تلمسه جنس‪ ،‬وهلم احلق ِف بيعها وحرماهنا من املرياث‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫‪ ‬وَكنت املرأة عند النصارى وس يَل الش يطان‪ ،‬وجيردوهنا من العقل‪ ،‬ويه منكر‪ ،‬وَكنت‬
‫كنيسة روما تنفي وجود الروح ِف املرأة‪ ،‬ويه عندُه جنسة‪ ،‬وترتب عىل ذِل التحذير‬
‫من الزواج ّبا‪ ،‬فلجأت النساء للديرة وحياة الرهبنة‪ ،‬وَكن هذا الوضع ِف العامل املس يحي‬
‫حىت جاء عرص الْنضة احلديثة‪.‬‬
‫جزءا من متاع الرجل وثروته‪ ،‬وتورث كام يورث‬ ‫‪ ‬وَكنت املرأة عند العرب قبل الإسالم ً‬
‫املتاع‪ ،‬والابن الكرب يرث نساء أبيه‪ ،‬وليس لها مرياث‪ ،‬وِف حيضها تعزل عن لك يشء؛‬
‫لهنا تعد جنسة‪ ،‬وإاذا مات عْنا زوهجا تدخل ِف مَكن منعزل من البيت وتظل فيه عا ًما‬
‫َكم ًال‪ ،‬ل تلبس اإل قدمي املالبس‪ ،‬وَكنت مقة امهتاهنا تمتثل ِف البغاء ونَكح املتعة وغريها‪،‬‬
‫ومن أقبح العادات عند العرب قدميًا قتل البنات وهن أحياء‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬املساواة بني الناس‪:‬‬
‫ً‬
‫َكن العرِب يؤمن بنظام الطبقات‪ ،‬وَكنت نظرته ل إالنسان عىل أنه اإما س يد وإاما عبد‪ ،‬وَكن يؤمن‬
‫ساسا للتفاضل بني الناس‪ ،‬جفاء الإسالم‪ ،‬وألغى نظام الطبقات‪ ،‬وجعل أساس التفاضل‬ ‫بدلم والنسب أ ً‬
‫شعوب وقبائل‬
‫التقوى والعمل الصاحل‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬اي أهيا الناس اإان خلقناُك من ذكر أو أنىث وجعلناُك ً‬
‫لتعارفوا اإن أكرمُك عند هللا أتقاُك اإن هللا علمي خبري} [احلجرات‪].13 :‬‬
‫وقال النيب صىل هللا عليه وسَل (يأهيا الناس اإن ربُك واحد‪ ،‬كُك لدم وأدم من تراب‪ ،‬ل فضل‬
‫لعرِب عىل جعمي ول لعجمي عىل عرِب ول لمحر عىل أسود ول لسود عىل أمحر اإل بلتقوى) [أمحد]‪.‬‬

‫ساب ًعا‪ :‬العاملية‪:‬‬


‫َكن العرِب يعيش ِف اجلزيرة العربية ضعيفًا ُياف قوة الفرس والروم‪ ،‬ويقبل راض ًيا ً‬
‫خمتارا أو َكرها‬
‫أن يعيش ِف منطقة خاضعة للفرس أو الروم‪ ،‬فَكن العرِب ينظر اإلْيم نظرة رهبة‪ ،‬وقد عَ َّرب عن ذِل‬
‫عبد الرمحن بن عوف ‪-‬ريض هللا عنه‪ -‬قائال‪ :‬اإهنا الروم وبنو الصفر ح ُّد حديد‪ٌ ،‬‬
‫وركن شديد‪.‬‬
‫وقد َكنت نظرة الفرس والروم للعرب نظرة احتقار وازدراء‪ ،‬وهذا ما عرب عنه أحد ملوك الفرس ِف‬
‫الرساةل الِت وهجها اإىل جيش املثىن بن حارثة‪ ،‬قائد جيش املسلمني لغزو الفرس‪ ،‬قال فْيا‪ :‬اإين قد بعثت‬
‫اإليُك جندً ا من أهل فارس‪ ،‬وإامنا ُه رعاة ادلجاج واخلنازير‪ ،‬ولست أقاتكل اإل ّبم‪.‬‬
‫جفاءه رد املثىن بن حارثة‪ :‬اإمنا أنت أحد رجلني‪ ،‬اإما بغٍ فذِل رش ِل وخري لنا‪ ،‬وإاما َكذب‬
‫‪23‬‬
‫فأعظم الكذابني عقوبة وفضيحة عند هللا وِف الناس امللوك‪ ،‬وأما اذلي يدلنا عليه الرأي فاإنُك اإمنا‬
‫اضطررمت اإلْيم‪ ،‬فامحلد هلل اذلي رد كيدُك اإىل رعاة ادلجاج واخلنازير‪ ،‬فانزجع الفرس من كتابه هذا انزعا ًجا‬
‫وغرب‪ ،‬يفتحون البالد لنرش الإسالم وتكوين ادلوةل‬ ‫شديدً ا‪ .‬اإن الإسالم جعل العرب ينطلقون رشقًا ً‬
‫الإسالمية العاملية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫التَكفل الاجامتعي ِف احلضارة الإسالمية‬

‫لقد وضع الإسالم نظا ًما دقيقًا حيقق العداةل الاجامتعية بني املسلمني‪ ،‬ويش يع بيْنم ًّ‬
‫جوا من احملبة‬
‫واملودة والرمحة والتعاون والإيثار‪ .‬واملال من الش ياء الهامة الِت لها دور رئييس ِف حتقيق التَكفل‬
‫الاجامتعي بني املسلمني‪ ،‬والإسالم ل حيارب الغىن‪ ،‬ول ينتقص من ثروة الغنياء‪ ،‬ما دامت هذه الَثوة‬
‫قد جاءت بطريق مرشوع و ُأدي حق هللا فْيا‪.‬‬
‫وهناك كثري من الترشيعات املرتبطة بإنفاق املال‪ ،‬وكها تعمل عىل توثيق التعاون والرتابط واملودة‬
‫واحملبة بني املسلمني‪ ،‬ومن هذه الترشيعات‪ :‬الزَكة‪ ،‬والصدقات‪ ،‬فالزَكة والصدقات ُيرهجا الرجل طهارة‬
‫حساسا بأخيه املسَل الفقري‪ ،‬ومعاونة هل عىل مشاق احلياة وإادخال الّسور عىل قلبه‪ ،‬فتتحقق‬ ‫ملاهل‪ ،‬وإا ً‬
‫املودة بني الفقري والغِن‪ ،‬وختتفي المراض القلبية من اجملمتع من حقد وحسد‪ ،‬ومْنا الكفارات‪ ،‬فهناك‬
‫كفارات مالية‪ ،‬مثل كفارة الميني‪ ،‬وكفارة الظهار‪ ،‬وغريهام‪.‬‬
‫ومن الكفارات الإطعام اذلي يوثق احلب والإخاء بني املسَل وأخيه‪ ،‬ومْنا الولمئ والهدااي والهبات‬
‫والوصااي‪ ،‬وكها أمور تقيض عىل الاننية بني الناس‪ ،‬وتزيل الكراهية من النفوس‪ ،‬وتساعد عىل التعاون‬
‫عىل الرب والتقوى‪.‬‬
‫ومْنا كفاةل اليتمي ورعاية الرامل‪،‬‬
‫وهناك أمور أخرى كثرية‪ ،‬مثل الوقف والقرض والعارية‪ ،‬حتقق التَكفل بني أفراد اجملمتع املسَل‬
‫حرص الرشيعة عىل سالمة اجملمتع وطهارته‬
‫أكد الإسالم حرصه عىل سالمة اجملمتع وطهارته ورقيه‪ ،‬وقد ظهر ذِل واحضًا من خالل بعض‬
‫الترشيعات الاجامتعية والخالقية‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫‪ ‬املعامالت‪:‬‬
‫وفصل أحَكمه ورشوطه وأرَكنه‪ ،‬واحلالل منه واحلرام‪ ،‬فأحل منه ما َكن‬ ‫أح َّل الإسالم البيع‪َّ ،‬‬
‫حرم الإسالم الرب‬ ‫الك لموال الناس بلباطل‪ ،‬كام َّ‬ ‫وحرم ما َكن ظل ًما وأ ً‬ ‫اجملمتع حمتا ًجا اإليه وفيه نفعهم‪َّ ،‬‬
‫ملا فيه من أخطار ومضار كثرية‪ ،‬فهو يسبب العداوة بني الناس‪ ،‬ويقيض عىل التعاون فامي بيْنم‪،‬‬
‫‪25‬‬
‫ويؤدي اإىل وجود طبقة ل َعل لها اإل أن يزتايد مالها عىل حساب الخرين‪.‬‬
‫وجمَّد الإسالم العمل وحث عليه؛ لنه وس يَل لإعامر الكون ورخاء المة‪ ،‬كام حث عىل القرض‬
‫احلسن ملن احتاج اإىل املال‪ ،‬وَعل عىل حفظ ادلَّ ين بكتابته والإشهاد عليه‪ ،‬وحث املقرتض عىل رد‬
‫دينه‪ ،‬وأمر برضورة الوفاء بلعهد واحرتام العقود‪ ،‬كام أوجب الإسالم رضورة اإبداء شهادة احلق وعدم‬
‫ساسا من‬‫وحرم الغش ِف الكيل واملزيان‪ ،‬وأمر بلعدل‪ ،‬وحث عليه‪ ،‬وجعهل أ ً‬ ‫كامتهنا‪ ،‬وحرم قول الزور‪َّ ،‬‬
‫أسس احلُك ِف الإسالم‪ ،‬ملا هل من أثر ِف راحة الناس واطمئناهنم عىل حقوقهم‪.‬‬
‫‪ ‬احلدود والقصاص‪:‬‬
‫حرم الإسالم الإفساد ِف الرض كسفك ادلماء‪ ،‬ورسقة املال وغصبه‪ ،‬وانهتاك العراض‪،‬‬ ‫لقد َّ‬
‫وقذف احملصنات‪ ،‬وقطع الطريق‪ ،‬وغريها كثري‪ ،‬جفاءت احلدود الإسالمية لتكون مان ًعا من ارتَكب هذا‬
‫الفساد‪ ،‬وصوانً للمجمتع‪،‬‬
‫‪ ‬الداب الاجامتعية‪:‬‬
‫جاء الإسالم بأداب كثرية ومتنوعة حتقق سالمة بنيان اجملمتع املسَل‪ ،‬وتسهم ِف ترابطه وتعاونه مثل‪:‬‬
‫خوة‪ ،‬والزتاور‪ ،‬والإصالح بني الناس‪ ،‬والتواضع‪ ،‬والنصح‬ ‫اإفشاء السالم‪ ،‬وصَل الرمح‪ ،‬وبر الوادلين‪ ،‬وال َّ‬
‫للمسلمني‪.‬‬
‫وحرم الإسالم أش ياء ملا لها من أثر س ئي ِف تفكك اجملمتع وتنافره واحنالهل‪ ،‬مثل‪ :‬الغيبة والمنمية‪،‬‬‫َّ‬
‫وقطع الرمح‪ ،‬وعقوق الوادلين‪ ،‬والاعتداء عىل الخرين‪ ،‬والغش‪ ،‬والكذب‪ ،‬واخليانة‪ ،‬وشهادة الزور‪،‬‬
‫والظَل‪ ،‬اإىل أخر هذه المور املْنيي عْنا ِف كتاب هللا وس نة رسوهل صىل هللا عليه وسَل‪.‬‬
‫أسس بناء ادلوةل الإسالمية الوىل ِف املدينة‬
‫تكون وترىب عىل الإسالم هو ذِل اجملمتع اذلي ربه الرسول الكرمي‬ ‫اإن أول جممتع اإساليم َّ‬
‫صىل هللا عليه وسَل ‪ ،:‬وهو اجملمتع املثايل لي جممتع‪ ،‬وقد أقامه الرسول صىل هللا عليه وسَل عىل عدة‬
‫أسس‪ ،‬يه‪:‬‬
‫‪ ‬بناء املسجد‪:‬‬
‫لقد َكن أول يشء قام به الرسول صىل هللا عليه وسَل بعد قدومه اإىل املدينة املنورة هو بناء‬
‫املسجد‪ ،‬وقد َكن للمسجد أثره الكبري ِف اإقامة اجملمتع الإساليم عىل أداب الإسالم وتعالميه‪ ،‬فَل يكن‬

‫‪26‬‬
‫املسجد مَكانً لداء الصالة فقط‪ ،‬وإامنا َكن مَكانً للرتبية وللعَل وللقيادة وللحُك وللمناس بات الإسالمية‪.‬‬
‫فقد َكن الرسول صىل هللا عليه وسَل يعَل املسلمني ِف املسجد أحَكم الإسالم وتعالميه وأدابه‪..‬‬

‫‪ ‬املؤاخاة بني املسلمني‪:‬‬


‫لقد َكن الساس اذلي أرساه الرسول صىل هللا عليه وسَل لبناء اجملمتع الإساليم ِف املدينة‪ ،‬بعد‬
‫بناء املسجد هو املؤاخاة بني املسلمني‪ ،‬وهو َعل بدأه بني مسلمي مكة قبل الهجرة‪.‬‬
‫ومل يكن املهاجرون ميلكون شيئًا بعد أن هاجروا اإىل املدينة‪ ،‬فقد تركوا أمواهلم وأولدُه ِف مكة‪،‬‬
‫فأىخ الرسول صىل هللا عليه وسَل بني املهاجرين والنصار‪ ،‬وقامت املؤاخاة عىل أسس مادية َكملشاركة‬
‫ِف املال والَثوة والتوارث فْيا‪ ،‬بلإضافة للسس املعنوية َكلولء واملناِصة‪ ،‬وظل هذا التوارث بسبب‬
‫املؤاخاة قامئًا حىت غزوة بدر الكربى ِف الس نة الثانية للهجرة‪ ،‬عندما نزل قوهل تعاىل‪{ :‬وأولوا الرحام‬
‫بعضهم أوىل ببعض ِف كتاب هللا اإن هللا بلك يشء علمي} ‪ 38‬فأصبح التوارث بسبب القرابة والرمح‪.‬‬
‫وقد أحب النصار املهاجرين حبًّا شديدً ا‪ ،‬وأثروُه عىل أنفسهم‪ ،‬فأثىن هللا علْيم‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬واذلين‬
‫تبوءوا ادلار والإميان من قبلهم حيبون من هاجر اإلْيم ول جيدون ِف صدورُه حاجة مما أوتوا ويؤثرون‬
‫عىل أنفسهم ولو َكن ّبم خصاصة ومن يوق حش نفسه فأولئك ُه املفلحون}‪39‬‬

‫وهذه احملبة الِت قامت بني املسلمني َكنت نعمة من هللا علْيم‪ ،‬فقد جعلت املسلمني أرسة واحدة‪،‬‬
‫وجممت ًعا واحدً ا‪.‬‬
‫املعاهدة بني املسلمني وغريُه‪:‬‬
‫أصبح سَكن املدينة بعد املؤاخاة بني املسلمني جامعتني فقط‪ :‬جامعة املسلمني‪ ،‬وجامعة غري املسلمني‬
‫تورا وميثاقًا للعالقة بني املسلمني وغريُه‪،‬‬
‫وأغلهبم من الْيود‪ ،‬فوضع الرسول صىل هللا عليه وسَل دس ً‬
‫وَكنت هذه املعاهدة من أعظم املظاهر احلضارية ِف احلياة الس ياس ية والاجامتعية الِت جاء ّبا الإسالم‬
‫لبيان احلقوق والواجبات الِت عىل املسلمني وعىل غريُه بصورة مل تعهدها ش به اجلزيرة من قبل‪.‬‬

‫‪[ 38‬األنفال‪]75 :‬‬


‫‪[ 39‬الحشر‪.]6 :‬‬

‫‪27‬‬
‫‪ ‬الرسول صىل هللا عليه وسَل القدوة‪:‬‬
‫َكن الرسول صىل هللا عليه وسَل هو قائد اجملمتع املسَل‪ ،‬وهو احلاُك القدوة‪ ،‬فَكن الرسول‬
‫صىل هللا عليه وسَل يستشري أحصابه ِف كثري من المور‪ ،‬وَكن يلزتم الشورى ِف لك أمر مل يزنل فيه‬
‫ويح من عند هللا‪ ،‬حىت قال أبوهريرة ‪-‬ريض هللا عنه‪( :-‬ما رأيت أح ًدا أكَث مشورة لحصابه من‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪40 ):‬‬

‫وَكن صىل هللا عليه وسَل ميازح أحصابه ويداعهبم وُيالطهم‪ ،‬وجييب دعوة احلر والعبد‪ ،‬ويبدأ من‬
‫لقيه بلسالم‪ ،‬ويبدأ أحصابه بملصاحفة‪ ،‬ويقبل عذر املعتذر‪ ،‬وَكن يرقع ثوبه‪ ،‬وُيصف نعهل‪ ،‬ويساعد أهل‬
‫بيته‪ ....،‬اإىل أخر صفاته الكرمية‪(.‬‬
‫وقد نزل القرأن أ ًمرا الصحابة بلقتداء ب الرسول صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬لقد َكن لُك‬
‫ِف رسول هللا أسوة حس نة ملن َكن يرجو هللا واليوم الخر وذكر هللا ً‬
‫كثريا} ‪41‬‬

‫ومن هنا اقتدى الصحابة بلرسول صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬وبذِل ترىب اجملمتع الإساليم اجلديد عىل‬
‫القمي والخالق‪ ،‬وّبذه السس الراخسة‪ ،‬وتكل القواعد الثابتة والقمي السامية والخالق الرفيعة‪ ،‬جاءت‬
‫حضارة الإسالم‪ ،‬فأخرجت للعامل خري أمة أخرجت للناس‪.‬‬

‫‪[ 40‬الترمذي‪.‬‬
‫‪ 41‬األحزاب‪.21 :‬‬
‫‪28‬‬
‫الرسة ِف احلضارة الإسالمية‬
‫الرسة يه ادلرع احلصينة الِت حتمي صاحهبا‪ ،‬ول يكون الإنسان ًّ‬
‫قواي عز ًيزا اإل اإذا َكن ِف أرسة‬
‫حتصنه‪ .‬والرسة الِت ينشدها الرشع يه الرسة امللزتمة بأوامر هللا‪ ،‬والِت تكون نواة للمجمتع امللزتم‬
‫مبْنج هللا ورشعه‪.‬‬
‫‪ ‬الزواج أساس تكوين الرسة املسلمة‪:‬‬
‫الزواج هو الطريق الرشعي الصحيح لتكوين الرسة املسلمة‪ ،‬وقد حث الإسالم عىل الزواج وجشع‬
‫عليه‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ومن أايته أن خلق لُك من أنفسُك أزوا ًجا لتسكنوا اإلْيا وجعل بينُك مودة ورمحة اإن‬
‫ِف ذِل لايت لقوم يتفكرون}‪42‬‬

‫وقال الرسول صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬اي معرش الش باب‪ ،‬من اس تطاع منُك الباءة فليزتوج‪ ،‬ومن مل‬
‫يس تطع فعليه بلصوم فاإنه هل وجاء) ‪43‬‬

‫وللزواج فوائد كثرية أمهها‪:‬‬


‫‪ .1‬أنه وس يَل مرشوعة للمحافظة عىل بقاء النسل اإىل أن يرث هللا الرض ومن علْيا‪.‬‬
‫‪ .2‬احملافظة عىل النساب من الاختالط‪ ،‬بسبب ما يرتتب عىل النسب من حقوق وقواعد َكملرياث‪،‬‬
‫ومعرفة احملارم وغري ذِل‪.‬‬
‫‪ .3‬احملافظة عىل اجملمتع من ش يوع البغاء والزىن واللواط‪ ..‬تكل المراض الِت هتدم اجملمتع‪..‬‬
‫تربية البناء ِف احلضارة الإسالمية‬
‫‪ .4‬البناء نعمة من هللا تعاىل تس تحق الشكر‪ ،‬وشكر نعمة هللا ِف الولد يكون برتبيهتم تربية اإسالمية‬
‫حصيحة عىل املبادئ والخالق والقمي‪ ،‬قال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬ما من مولود اإل يودل عىل الفطرة‪،‬‬
‫فأبواه هيودانه أو ِ ّ‬
‫ينرصانه أو مي ِجسانه) ‪44‬‬
‫ّ‬

‫‪ 42‬الروم‪].21 :‬‬
‫‪[ 43‬متفق عليه]‪.‬‬
‫‪[ 44‬البخاري]‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫حقوق البناء عىل البء‪:‬‬
‫كبريا‪ ،‬وجعل عىل البء لبناهئم حقوقًا‪ ،‬كام جعل للبء عىل‬ ‫اهُت الإسالم برتبية البناء اهامت ًما ً‬
‫أبناهئم حقوقًا‪ ،‬وهذه احلقوق يه‪:‬‬
‫‪ ‬اختيار الم الصاحلة‪ :‬فينبغي أن ُيتار الب لبنائه أ ًّما صاحلة تقوم عىل تربية أبنائه تربية حصيحة‪،‬‬
‫حبيث يكون هؤلء البناء قادرين عل محل أمانة الإسالم‪ ،‬والوصول ّبا اإىل غايهتا‪ ،‬وادلفاع عْنا‪.‬‬
‫‪ ‬دفع الرضر عنه‪ ،‬وهل صور مْنا‪ :‬التأذين ِف أذن املولود الميىن وإاقامة الصالة ِف أذنه اليّسى‪ .‬فعن‬
‫أِب رافع عن أبيه قال‪( :‬رأيت رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪ ،:‬أ َّذن ِف أذن احلسن بن عيل ‪-‬حني‬
‫ودلته فاطمة‪ -‬بلصالة)‪45‬‬

‫‪ ‬تسميته ا ًمسا حس نًا حني ولدته‪ ،‬وقد بني رسول هللا صىل هللا عليه وسَل أن أحسن السامء‬
‫عبد هللا‪ ،‬وعبد الرمحن‪ ،‬حيث قال‪( :‬اإن أحسن أسامئُك اإىل هللا عبد هللا‪ ،‬وعبد الرمحن)‪46‬‬

‫‪[ 45‬أبو داود والترمذي]‪.‬‬


‫‪[ 46‬مسلم‬

‫‪30‬‬
‫اجلانب العلمي ِف احلضارة الإسالمية‬

‫أنزل هللا‪ -‬عز وجل‪ -‬أول أية من كتاب هللا تعاىل حتث املسلمني وحتضهم عىل العَل والتعَل‪،‬‬
‫قال تعاىل‪{ :‬أقرأ بمس ربك اذلي خلق‪ .‬خلق الإنسان من علق‪ .‬اقرأ وربك الكرم‪ .‬اذلي عَل بلقَل‪.‬‬
‫عَل الإنسان ما مل يعَل}‪47‬‬

‫وقد رفع هللا‪ -‬عز وجل‪ -‬قدر العلامء حيث قال‪{ :‬يرفع هللا اذلين أمنوا منُك واذلين أوتوا العَل‬
‫درجات} [اجملادةل‪ .]17 :‬وقال الرسول صىل هللا عليه وسَل مبينًا أمهية العَل‪( :‬طلب العَل فريضة عىل‬
‫لك مسَل) ‪48‬‬

‫وعندما ُأرس املرشكون ِف بدر‪ ،‬جعل الرسول صىل هللا عليه وسَل فداء لك واح ٍد مْنم أن يعَل‬
‫عرشة من الصحابة‪ ،‬وقد نشط املسلمون ِف مجيع العصور ِف طلب العَل واملعرفة حىت تركوا لنا مري ًااث‬
‫حضاراي رائ ًعا‪ ،‬يعرب عن تفوقهم ِف لك جمالت احلضارة‪ .‬وهناك وسائل عِن ّبا الإسالم لكتساب العلوم‬ ‫ًّ‬
‫مْنا‪:‬‬
‫‪ ‬املساجد‪:‬‬
‫فهيي أُه املنارات الِت أضاءت للمسلمني طريق العَل واملعرفة‪ ،‬فَكن أول يشء قام به الرسول‬
‫صىل هللا عليه وسَل بعد جهرته اإىل املدينة بناء املسجد‪ ،‬مما يدل عىل أمهيته ِف حياة املسلمني‪ ،‬وليعلموا‬
‫أن املسجد هو أول خطوة ِف بناء احلضارة وحتقيق الازدهار والتقدم‪ ،‬فَكن املسجد مَكانً لجامتع‬
‫املسلمني مع الرسول صىل هللا عليه وسَل يسألونه وجييهبم‪ ،‬ويتناقشون ِف أمور ديْنم ودنياُه‪ ،‬وتقام فيه‬
‫كبارا ليتعلموا القرأن وأمور الإسالم‪.‬‬
‫صغارا و ً‬
‫حلقات اذلكر‪ ،‬وجيلس املسلمون ً‬
‫ومن أُه املساجد الِت أسهمت ِف بناء احلضارة الإسالمية‪ :‬املسجد احلرام ِف مكة‪ ،‬واملسجد النبوي‬
‫ِف املدينة‪ ،‬واملسجد القىص ِف القدس‪ ،‬واملسجد الموي ِف دمشق‪ ،‬ومسجد َعرو بن العاص‪،‬‬
‫خرجت لنا أجيا ًل مسلمة‬ ‫واجلامع الزهر ِف مرص‪ ،‬ومسجد القريوان ِف تونس‪ ،‬ومساجد أخرى كثرية َّ‬
‫واعية اس تخدمت العَل ِف خدمة الإسالم ورفع شأن حضارة املسلمني‪ ،‬ومن هنا ارتبطت هنضة احلضارة‬
‫الإسالمية‪ ،‬بقيام املساجد بدورها عىل الوجه المكل‪.‬‬

‫‪[ 47‬العلق‪]5 .-1 :‬‬


‫‪[ 48‬مسلم وابن ماجه]‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫‪ ‬الكتاتيب‪:‬‬
‫وال ُكتَّاب عبارة عن مكتب تعلميي‪ ،‬يتعَل فيه أطفال املسلمني القراءة والكتابة وأحَكم تالوة القرأن‬
‫الكرمي‪ ،‬ويقوم بتعلميهم أساتذة متخصصون ِف علوم القرأن‪ ،‬ويعد ال ُكتَّاب خطوة جديدة حنو تطوير‬
‫كبارا‪ ،‬فانترشت هذه‬ ‫املنشأت التعلميية بعد أن ضاقت املساجد عن استيعاب أعداد املتعلمني ً‬
‫صغارا و ً‬
‫الكتاتيب ِف لك بالد املسلمني‪ ،‬وهذه مرحَل متطورة تدل عىل ازدهار العَل وارتفاع شأن العلامء‬
‫واملتعلمني‪.‬‬
‫‪ ‬املكتبات‪:‬‬
‫وقد قام احلَكم املسلمون بإنشاء املكتبات اململوءة بلكتب النافعة ِف جمالت العلوم‪ ،‬واش هترت‬
‫بغداد ودمشق والقاهرة مبكتباهتا الزاخرة بأهمات الكتب ِف لك فروع املعرفة الإسالمية‪ ،‬ومن بني‬
‫املكتبات الِت انلت شهرة واسعة دار احلمكة الِت أنشأها اخلليفة الفاطمي احلاُك بأمر هللا عام ‪ 395‬هـ‪،‬‬
‫ووضع فْيا الكثري من الكتب‪،‬‬
‫وقسمها اإىل جحرات متعددة‪ ،‬بعضها لالطالع وبعضها الخر حللقات ادلراسة‪ ،‬وزيْنا مبفروشات‬
‫مجيَل‪ ،‬وجعل ّبا عام ًل خلدمة طالب العَل‪ ،‬وَكنت ّبا فهارس تسهل للطالب احلصول عىل الكتب‪،‬‬
‫وَكن ّبا نظام الاس تعارة‪.‬‬
‫‪ ‬املدارس‪:‬‬
‫وتعددت املدارس‪ ،‬وتنوعت ما بني خاصة بخللفاء واحلَكم وأبناهئم‪ ،‬حيث املعامَل واخلدمة املمتزية‬
‫الِت تؤهلهم لتوىل املناصب القيادية ِف ادلوةل الإسالمية‪ ،‬وعامة لرعاية أبناء املسلمني ِف خمتلف فروع‬
‫املعرفة‪.‬‬
‫وقد برع الوزير السلجويق (نظام املكل) ِف اإنشاء العديد من املدارس‪ ،‬وَكنت عىل درجة عالية من‬
‫النظام والفخامة‪ ،‬وقد انترشت هذه املدارس ِف بغداد وأصفهان والبرصة واملوصل وغريها‪ ،‬ومن أشهر‬
‫هذه املدارس‪ :‬مدرسة نور ادلين محمود زنيك‪ ،‬وتعرف بملدرسة النورية الكربى بدمشق‪ ،‬وأنشأها س نة‬
‫‪ 563‬هـ عىل مساحة واسعة‪ ،‬وجعل فْيا قاعات للمحارضات‪ ،‬ومسجدً ا للصالة‪ ،‬وجحرتني للمعلمني‪،‬‬
‫ومسكنًا خلادم املدرسة‪ ،‬ومراحيض ليس تخدهما الطالب‪ ،‬وقد متزيت بروعة البناء ودقة وجامل تصمميها‪،‬‬
‫وارتفاع مس توى التعلمي فْيا‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫وَكنت هذه املدارس منارات لتخرجي العلامء‪ ،‬وقد ُوض َع ْت ّبا ن ُُظ ٌم عالية لختبار قدرات الطالب‪،‬‬
‫وتوجْيهم حسب كفاءاهتم ومواههبم ومصاحبة الطالب لساتذهتم ِف مَكن واحد‪ ،‬ومتتع الطالب وخاصة‬
‫املتفوقني بَكفة املزيات واملَكفأت؛ تشجي ًعا هلم‪ ،‬اإىل جانب العناية بلرتفيه عْنم‪ ،‬وإاقامة الرحالت املفيدة‬
‫هلم‪ ،‬والاهامتم بتمنية أجساهمم وعقوهلم‪ .‬هذا بلإضافة اإىل العناية بتعلمي الفتيات‪ ،‬فقد اهمتوا ّبن اهامت ًما‬
‫ل يقل عن الفتياجمالت العلوم‬
‫ومن أُه جمالت العلوم الِت اهُت املسلمون بتعلميها‪ :‬العلوم الصيَل‪ ،‬والعلوم املقتبسة‪.‬‬
‫أو ًل‪ :‬العلوم الصيَل‪:‬‬
‫يه العلوم الِت تتصل بلقرأن الكرمي والس نة النبوية وأصول ادلين وما ُيص المة من أداب‬
‫واترخي‪ ،‬وقد أبدعها املسلمون أنفسهم‪ ،‬ومل يقتبسوها من غريُه‪ ،‬ومن أبرز هذه العلوم‪:‬‬
‫‪ ‬عَل القراءات القرأنية‪:‬‬
‫ُوجدت القراءات مع وجود القرأن الكرمي‪ ،‬فقد َكن جربيل ‪-‬عليه السالم‪ -‬يُقرئ النيب صىل هللا عليه‬
‫يسريا عىل الناس؛ لختالف لهجاهتم‪ ،‬واهُت حصابة الرسول صىل هللا عليه‬ ‫وسَل بأكَث من طريقة؛ ت ً‬
‫وسَل حبفظ القرأن وتدوينه وتعلميه‪ ،‬واش هتر من بيْنم حبفظ القرأن عيل بن أِب طالب‪ ،‬وعامثن بن عفان‪،‬‬
‫وأِب بن كعب‪ ،‬وزيد بن اثبت‪ ،‬وأبو موىس الشعري‪ ،‬وسامل موىل حذيفة‪ ،‬وعبد هللا بن مسعود‪ ،‬وأبو‬
‫ادلرداء‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬وغريُه ريض هللا عْنم‪.‬‬
‫وقد أخذ عْنم عدد كبري من الصحابة ‪-‬أيضً ا‪ -‬والتابعني ِف المصار‪ ،‬فراح الناس يقرءون عىل طريقهتم‬
‫القراء الس بعة املشهورون‪:‬‬
‫ِف القراءة اإىل أن جاء َّ‬
‫أبو َعرو بن العالء ِف البرصة‪ ،‬وانفع ِف املدينة‪ ،‬وعامص ِف البرصة‪ ،‬ومحزة‪ ،‬والكسايئ ِف الكوفة‪،‬‬
‫وعبد هللا بن عامر ِف الشام‪ ،‬وابن كثري ِف مكة املكرمة‪ ،‬فاعتنوا بضبط القراءة وإاس نادها اإىل‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪ ،:‬ووضعوا القواعد من أجل ذِل‪.‬‬
‫وقد أسهم هذا العَل وعَل التجويد ِف احلفاظ عىل قراءة القرأن الكرمي قراءة حصيحة‪ ،‬واحلفاظ عليه‬
‫من التحريف والتبديل‪ ،‬كام أسهم عَل التجويد ِف نشأة عَل أصوات اللغة العربية‪ ،‬والِت وضع لها علامء‬
‫املسلمني القواعد فامي بعد‪ ،‬واس تفاد مْنا علامء اللغة ِف العرص احلديث‪.‬‬
‫‪ ‬عَل التفسري‪:‬‬
‫‪33‬‬
‫هو العَل اذلي يبحث ِف أوجه معاين الكم هللا تعاىل‪ ،‬ومعرفة املراد منه‪ ،‬ومعرفة أحَكمه‬
‫و ِح َمكه‪ ،‬وما اش متل من عقائد وأرسار‪ .‬قال ابن عباس‪ :‬التفسري أربعة أوجه‪ :‬وجه تعرفه العرب من الكهما‬
‫(اذلي يفهم من لغة العرب)‪ ،‬وتفسري ل يُعذر أحد جبهالته (وهو اذلي يأيت اإىل اذلهن من معرفة معناه‬
‫من النصوص)‪ ،‬وتفسري تعلَّمه العلامء (بلجهتاد والاس تنباط)‪ ،‬وتفسري ل يعلمه اإل هللا صىل هللا عليه‬
‫وسَل ‪:‬وهو ما يتعلق بلمور الغيبية‬
‫‪ ‬عَل احلديث‪:‬‬
‫لقد حرص حصابة رسول هللا صىل هللا عليه وسَل عىل سامع أحاديثه‪ ،‬وبلغ حرصهم عىل تتبع سامع‬
‫هذه الحاديث أن َكن بعضهم يتبادلون مالزمة جملسه ( يو ًما بعد يوم‪ ،‬فهذا َعر بن اخلطاب ‪-‬‬
‫ريض هللا عنه‪ -‬يقول‪ :‬كنت أان وجار يل من النصار ِف بِن أمية بن زيد ‪-‬ويه من عوايل املدينة‪ -‬وكنا‬
‫نتناوب الزنول عىل رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪ ،:‬يزنل يو ًما وأنزل يو ًما‪ ،‬فاإذا نزلت جئته خبرب ذِل‬
‫اليوم من الوىص وغريه‪ ،‬وإاذا نزل فعل مثل ذِل‪.‬‬
‫حيض املسلمني عىل تبليغ ما يسمعون‪ ،‬فقال‪َّ ( :‬نرض هللا امر ًأ‬ ‫وَكن الرسول صىل هللا عليه وسَل ُّ‬
‫فرب مبلَّغ أوعى من سامع) [الرتمذي]‪ .‬وَكن أبو هريرة وابن عباس أكَث‬ ‫مسع منا شيئًا فبلغه كام مسع‪َّ ،‬‬
‫الصحابة ً‬
‫حفظا لالكم رسول هللا صىل هللا عليه وسَل‪.‬‬
‫ومل يدون من حديث رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ِف حياته اإل القليل‪ ،‬وَكن‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ِف بداية المر قد هنيى الصحابة هن ًيا عا ًّما عن كتابة احلديث حىت ل‬
‫ُيتلط بلقرأن الكرمي‪ ،‬مما دفع الصحابة لالجهتاد ِف حفظه ومدارس ته‪ ،‬مث مسح فامي بعد‪.‬‬
‫‪ ‬عَل الفقه‪:‬‬
‫وهو كام عرفه بعض العلامء الطريق ملعرفة الحَكم الرشعية العملية من خالل الدةل التفصيلية؛‬
‫مكعرفة ما جيب وحيرم‪ ،‬وما يسن وما يندب‪ ،‬وما يكره‪ ،‬من خالل الكتاب والس نة‪ ،‬وما يس تنبط مْنام‪.‬‬
‫ولقد محل الصحابة ‪-‬ريض هللا عْنم‪ -‬لواء الفقه بعد الرسول صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬لك واح ٍد مْنم‬
‫ِف جماهل وِف ختصصه اذلي تفوق فيه‪ ،‬فنبغ عبد هللا بن َعر ِف الفقه‪ ،‬وَكن معاذ بن جبل أعَل الصحابة‬
‫بملواريث‪ ،‬وأسس لك مْنم ما يسمى بملدرسة الفقهية‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫املذاهب الفقهية الربعة‪:‬‬
‫‪ .1‬املذهب احلنفي‪ :‬وهذا املذهب‪ ،‬يعد امتدادًا ملدرسة الصحاِب عبد هللا بن مسعود ِف الكوفة‪ ،‬وإامام‬
‫ذِل املذهب الإمام أبو حنيفة النعامن بن اثبت (‪ 150- 80‬هـ)‪.‬‬
‫ومن أشهر تالميذ أِب حنيفة‪ :‬أبو يوسف‪ ،‬ومحمد بن احلسن الشيباين (ت ‪ 189‬هـ) اذلي د ََّون‬
‫فقه أس تاذه أِب حنيفة ِف كتب مثل‪ :‬املبسوط والزايدات واجلامع الصغري والكبري‪.‬‬
‫‪ .2‬املذهب املاليك‪ :‬وهو امتداد ملدرسة املدينة‪ ،‬وينسب اإىل الفقيه املدين ماِل بن أنس (ت ‪179‬‬
‫هـ)‪ ،‬ول إالمام ماِل كتاب املوطأ وهو كتاب حديث مرتب عىل أبواب الفقه‪ .‬ومن أشهر تالميذ‬
‫املذهب املاليك‪ :‬عبد‬
‫‪ .3‬املذهب الشافعي‪ :‬ومؤسسه هو الإمام محمد بن اإدريس الشافعي (‪150‬ـ ‪204‬هـ) أحد أمئة الفقه‬
‫العالم‪ ،‬ورحل اإىل العراق‪ ،‬و َّكون هناك مذهبه القدمي‪ ،‬وألف ِف ذِل كتاب احلجة‪ ،‬وأىت الشافعي‬
‫اإىل مرص مرتني‪ ،‬وِف املرة الثانية س نة (‪199‬هـ) اس تقر ِف مرص‪ ،‬وظل ّبا حىت مات‪ ،‬وعدَّل ِف‬
‫حص احلديث فهو مذهيب‪.‬‬ ‫مذهبه تعديالت كثرية‪ ،‬فأنشأ لنفسه مذهبه اجلديد‪ ،‬وَكن يقول‪ :‬اإذا َّ‬
‫وألف الإمام الشافعي ِف مرص كت ًبا رائعة ِف الفقه وغريه‪ ،‬مْنا كتاب الم‪ ،‬وهو موسوعة فقه َّية‬
‫قمية)‪.‬‬
‫‪ .4‬املذهب احلنبيل‪ :‬وينسب هذا املذهب اإىل الإمام أمحد بن حنبل الشيباين‬
‫(‪ 164‬ـ ‪ 241‬هـ)‪ ،‬وهو مذهب قامئ عىل احلديث النبوي الرشيف‪ ،‬وأفعال الصحابة حيث‬
‫يقدم احلديث‪ ،‬ويأخذ به‬
‫‪ ‬اللغة والدب‪:‬‬
‫ولقد اهُت علامؤان اهامت ًما عظميًا بللغة العربية‪ ،‬لن بيق العلوم الإسالمية حتتاج اإىل فهم اللغة العربية‬
‫فه ًما جيدً ا‪،‬‬
‫أحاط علامؤان بللغة من مجيع جوانهبا‪ ،‬مما رفع شأن اللغة والناطقني ّبا‪ ،‬وظهر عدد من الدبء‬
‫شعرا رائ ًعا و ًنَثا أمتع العقول واملشاعر والعواطف‪.‬‬
‫والفصحاء من الشعراء واخلطباء فأبدعوا لنا ً‬
‫‪ ‬التارخي‪:‬‬
‫التارخي هو ذاكرة الزمن‪ ،‬حيفظ للبرشية حركهتا ِف خمتلف العصور‪ ،‬وحيفظ العلوم ويدوهنا‪ ،‬وقد‬
‫‪35‬‬
‫َكن ملؤريخ العلوم فضل ِف تدوين اترخي عَل التفسري‪ ،‬وعَل احلديث‪ ،‬وعلوم اللغة‪ ،‬واترخي عَل‬
‫القراءات وغري ذِل من العلوم‪.‬‬
‫لقد اهُت املؤرخون املسلمون بتدوين اترخي الإسالم‪ ،‬وأخذوا هذا العَل من مصادره الصلية‪ ،‬وقد‬
‫اهمتوا اهامت ًما ًّ‬
‫خاصا بسرية الرسول صىل هللا عليه وسَل ‪،‬‬
‫وهناك عرشات بل مئات من الكتب الِت حتدثت عن حياة العلامء والولة والقضاة والطباء والفقهاء‬
‫واملفّسين وغريُه‪ ،‬ويه تشهد بعظمة هؤلء الرجال واجلهد الرائع اذلي بذلوه من أجل احلفاظ عىل‬
‫تراهثم واترُيهم‪ ،‬وهذه الكتب تسمى كتب الرتامج والطبقات‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫اثن ًيا‪ :‬العلوم املقتبسة‪:‬‬
‫العلوم املقتبسة يه العلوم التجريبية الِت تقوم عىل التجربة والاس تنباط‪ ،‬وهتدف اإىل اإسعاد الناس‬
‫وتسهيل حياهتم وخدمهتم‪ ،‬وهذه العلوم مثل الفكل والهندسة واحلساب واجلرب والكميياء والفزيايء والتارخي‬
‫الطبيعي والطب‪ ،‬وغري ذِل من العلوم التطبيقية‪.‬‬
‫وقد أسهم املسلمون الوائل بدور كبري ِف هذه العلوم‪ ،‬لن ديننا احلنيف حيث دامئًا عىل البحث‬
‫والتحري ودقة النظر‪ ،‬والتأمل ِف معامل هذا الكون‪ ،‬واس تنتاج قدرة هللا عز وجل‪ ،‬ولقد تعددت‬
‫اإجنازات املسلمني ِف العلوم املقتبسة‪ ،‬ومْنا‪:‬‬
‫‪ ‬عَل الفكل )‪) Astronomy Science‬‬
‫وهو العَل اذلي نعرف به أحوال الكواكب والنجوم ِف السامء وحرَكهتا وأبعادها‪ ،‬وقد اجته املسلمون‬
‫دلراسة هذا العَل دراسة دقيقة انبعة من توجْيات القرأن الكرمي وإاشاراته اإىل هذه املوضوعات‪ ،‬فانطلق‬
‫املسلمون اس تجابة لتوجْيات القرأن ينظرون ويدرسون هذا الفضاء الفس يح؛ فبدءوا برتمجة الكتب الِت‬
‫تتحدث عن الفكل عند اليوانن والفرس والهنود‪ ،‬واس توعبوا هذه املعارف وفهموها‪ ،‬مث نقدوها وعلَّقوا‬
‫علْيا‪ ،‬وأضافوا علْيا‪ ،‬وابتكروا أش ياء جديدة انفعة ِف حياة املسلمني‪.‬‬
‫ومن أُه علامء الفكل اذلين نبغوا ِف ظل احلضارة الإسالمية‪:‬‬
‫البتَّاين أبو عبد هللا محمد بن جابر بن س نان (ت ‪ 317‬هـ)‪ ،‬وهو من أحفاد املرتمج املشهور اثبت‬
‫بن قُ َّرة احلراين‪ ،‬وقد أنشأ البتَّاين مرصدً ا فلكيَّا ُع ِرف بمسه‪ ،‬ووصف اللت الفلكية وصفًا دقيقًا‪ ،‬ورشح‬
‫طريقة اس تخداهما‪ ،‬وهو ما يعرف ب َل ْس ُطرلب(‪)Astrolabe device‬‬
‫وقد َكن لعامهل جانب نظري يمتثل ِف قراءة مؤلفات الفليك اليوانين بطلميوس وانتقاهئا بطريقة‬
‫يدرس ِف أورب حىت عرص الْنضة العلمية ِف أورب‪،‬‬ ‫كتاب ِف حركة النجوم وعددها‪ ،‬ظل َّ‬ ‫علمية‪َ ،‬و َوضع ً‬
‫واجلانب الخر أحباث جتريبية َعلية بلغت منهتيى ادلقة والارتقاء والتقدم العلمي من واقع مشاهداته‬
‫الفلكية‪ ،‬وحدد أبعد نقطة بني الشمس والرض‪ ،‬وحسب مواعيد كسوف الشمس وخسوف القمر‪،‬‬
‫واتبع ِف ذِل مْن ًجا شبْيًا بملْنج العلمي احلديث‪ ،‬مما جعل الوربيني يع ُّدونه من أعظم علامء الفكل ِف‬
‫التارخي‪.‬‬
‫وأبو اإحساق اإبراهمي بن حيىي النقاش ُّالز ْرقَايل اذلي عاش ِف القرن الرابع الهجري‪ ،‬وودل ِف قرطبة‪،‬‬
‫وَعل ِف طليطَل بلندلس‪ ،‬وقد أنشأ مراصد فلكية عديدة‪ ،‬واخرتع هجاز السطرلب الفليك لقياس‬
‫‪37‬‬
‫اجتاهات الرايح ورسعهتا وحتديد الليل والْنار‪ ،‬مما أدهش علامء أورب‪ ،‬وقد اس تفاد من مؤلفاته العامل‬
‫الورِب الفليك كوبرنيكس اذلي حرص عىل الاستشهاد بأراء أِب اإحساق ِف مجيع مؤلفاته‪ .‬والفرغايل اذلي‬
‫كتاب ظل مرج ًعا اعمتدت عليه أورب وغرِب أس يا س بعامئة عام‪.‬‬
‫ألف ً‬
‫وغري هؤلء كثريون ممن برزوا ِف عَل الفكل‪.‬‬

‫‪ ‬علوم الرايضيات‪)Mathematical Sciences( :‬‬


‫علوم الرايضيات تشمل احلساب واجلرب والهندسة وغريها‪ ،‬ويعد العالمة محمد بن موىس اخلوارزيم‬
‫(ت ‪ 232‬هـ) صاحب الفضل الكرب ِف معرفة خاانت الحاد والعرشات واملئات‪ ،‬وِف معرفة الزويج‬
‫من الفردي ِف العداد‪ ،‬وِف معرفة َعليات الكسور العرشية‪ ،‬واس تخداهما ِف حتديد النس بة بني حميط‬
‫ادلائرة‪ ،‬وقطرها مما مل تعرفه أورب قبهل‪.‬‬
‫ومل يكن اخلوارزيم وحده هو البارز ِف هذا اجملال‪ ،‬بل َكن هناك علامء كثريون وضعوا مؤلفات ِف‬
‫احلساب واجلرب وغريهام مثل‪ :‬أِب َكمل جشاع بن أسَل املرصي‪ ،‬ووس نان بن الفتح َّ‬
‫احلراين‪ ،‬والكندي‪،‬‬
‫ومحمد بن احلسن الكريخ صاحب كتاب الَكِف ِف احلساب‪ ،‬وحيتوي عىل مبادئ احلساب الشائعة ِف‬
‫زمنه وبعض العمليات احلسابية املبتكرة‪.‬‬
‫وعَل اجلرب من العلوم الِت أنشأها املسلمون‪ ،‬برمغ أن لها أصول ِف ببل والهند وعند الإغريق‪،‬‬
‫طوروها‪ ،‬وأضافوا اإلْيا الكثري عىل يد علامء برعني‪ ،‬حىت تَكد تظهر بصامت اليد العربية‬ ‫لكن املسلمني َّ‬
‫عليه‪ ،‬وما زال حيتفظ بمسه العرِب ِف لغات العامل اخملتلفة‪.‬‬
‫ويعد اجلرب أفضل فروع الرايضيات عند اخلوارزيم‪ ،‬اذلي يعد أول من ألف فيه بطريقة علمية‪،‬‬
‫وهل كتاب ِف اجلرب يسمى (اجلرب واملقابَل)‪ ،‬كام جنح ِف اس تخدام اجلذور واس تخدم الرموز ِف الرايضيات‬
‫متطورا بدرجة عالية؛ فس بق اخلوارزيم بذِل ديَكرت وغريه من علامء‬ ‫لول مرة‪ ،‬مما جعل هذا العَل ً‬
‫الرايضيات الوربيني‪ .‬ويرجع الس بق اإىل املسلمني ِف اخرتاع الرمق صفر‪ ،‬فَل يكن معروفًا قبل ذِل‪.‬‬
‫وممن أبدعوا ِف عَل اجلرب أبو احلسن القصاوي (ت ‪ 891‬هـ)‪ .‬وأبو حنيفة ادلينوري (ت ‪ 282‬هـ)‪،‬‬
‫وجشاع بن أسَل املرصي‪ ،‬وأبو الوفاء البوزجاين (ت ‪ 388‬هـ)‪ ،‬اذلي وضع زايدات عىل مؤلفات‬
‫اخلوارزيم‪َّ ،‬وحضت العالقة بني اجلرب والهندسة مفهدت الطريق لورب حىت تكتشف الهندسة التحليلية‪،‬‬
‫مث التفاضل والتَكمل‪ .‬وترمج املسلمون كتب حساب املثلثات والهندسة‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫‪ ‬عَل اجلغرافيا وعالقته بلفكل والرحالت‪Geography and its relationship to :‬‬
‫‪astronomy and travel‬‬
‫َكن املسلمون الوائل يعيشون ِف بيئة حصراوية‪ ،‬ارتبطوا ّبا‪ ،‬وملسوا تغريات اجلو‪ ،‬وعرفوا تطوراته‪،‬‬
‫وَكنت تضاريس الصحراء‪ ،‬وما ّبا من جبال وتالل وهضاب وسهول ووداين‪ ،‬وأماكن املياه‪َ ،‬كن ذِل‬
‫داف ًعا ملعرفة املسلمني بعَل اجلغرافية وبراعهتم فيه‪.‬‬
‫لقد اس تفاد املسلمون من معارف المم السابقة ِف اجلغرافية‪ ،‬وأضافوا اإلْيا معلومات جغرافية كثرية‪،‬‬
‫فقد برعوا ِف جمال اجلغرافيا الوصفية‪ ،‬ويه ما عرف بعَل املساِل واملامِل‪ ،‬وقاموا ِف ذِل بعدة رحالت‬
‫برية وحبرية كثرية وصفوا خاللها الطرق واملسافات واملدن والقطار وصفًا دقيقًا رائ ًعا‪ ،‬كام برع املسلمون‬
‫ِف جمال التأليف اجلغراِف وحماوةل التفسري العلمي لبعض الظواهر اجلغرافية‪ ،‬وجنحوا جنا ًحا ً‬
‫بهرا ِف فن‬
‫رمس اخلرائط‪ ،‬مما يدل عىل ادلقة وسعة الثقافة الِت وصل اإلْيا اجلغرافيون املسلمون ِف معرفة البالد‬
‫ورمس مواقعها‪.‬‬
‫وَكن أشهر َّرسايم اخلرائط الإدرييس اذلي رمس خريطة للرض‪ ،‬كام َكنت تعرف ِف عرصه بناء‬
‫عىل طلب مكل صقلية‪ ،‬وقد رمسها عىل كرة من الفضة اخلالصة‪ ،‬ووضع علْيا خطوط الطول والعرض‪،‬‬
‫ومن أُه اجلغرافيني والرحاةل املسلمني‪:‬‬
‫محمد بن موىس اخلوارزيم وابنه أمحد‪ ،‬ويعد كتاب محمد بن موىس (صورة الرض) الساس الول‬
‫لعَل اجلغرافية العرِب‪ ،‬وقد اس تفاد منه اجلغرافيون الوربيون ومدحوه‪ ،‬واعتربوه ً‬
‫تطورا مفاجئًا ِف الوقت‬
‫اذلي وجد فيه‪.‬‬
‫واليعقوِب (ت ‪ 266‬هـ) وهو أبو اجلغرافية العربية‪ ،‬ألف كتاب البدلان‪ ،‬واهُت فيه بجلغرافية‬
‫مفصال‪ ،‬وينفرد الكتاب بوجود‬ ‫الطبيعية‪ ،‬والنوايح البرشية لبالد كثرية‪ ،‬فوصف فيه بعض البالد وصفًا َّ‬
‫دراسة مفصَل َكمَل عن الطرق الرئيس ية ِف فارس‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ ‬عَل الفزيايء‪Physics :‬‬
‫درس املسلمون ظواهر عديدة ِف البحر‪َ ،‬كملد واجلزر‪ ،‬والرباكني‪ ،‬وظواهر جوية َكلضغط اجلوي‬
‫والرايح والعاصري‪ ،‬واملطر والسحاب والربق والرعد وظواهر الصوت والضوء وغريها‪ .‬وظهر احلسن بن‬
‫الهيمث‪ ،‬صاحب النظرايت املعروفة ِف عَل البرصايت‪.‬‬
‫وقد اهُت املسلمون بلوزان‪ ،‬واس تخدموا موازين غاية ِف ادلقة‪ ،‬كام تفوقوا ِف تقدير الوزان‬
‫النوعية (النس بة بني وزن املادة ووزن جحم مسا ٍو حلجمها من املاء)‪.‬‬
‫ولقد اخرتع البريوين أةل خمروطية( ‪ ) Cone Machine،‬يتجه مصهبا اإىل أسفل‪ ،‬صنعها بنفسه‬
‫ورمسها‪ ،‬لس تخراج الوزن النوعي‪ ،‬وذِل عن طريق ملء هذه الةل بملاء حىت املصب (الْناية)‪ ،‬مث‬
‫يوضع فْيا املادة الِت يريد معرفة وزهنا النوعي‪ ،‬فيخرج من حولها قدر من املاء من خالل املصب‪،‬‬
‫ويسقط ِف الكفة‪ ،‬فيكون الوزن النوعي لها هو النس بة بني وزهنا ووزن املاء املزاح‪ ،‬وجنح البريوين عن‬
‫طريق تكل الةل ِف حتديد وزن مثانية عرش معدانً َكذلهب والزئبق والنحاس واحلديد والياقوت وغريها‪،‬‬
‫وتوصل اإىل نتاجئ قريبة من نتاجئ العرص احلديث‪.‬‬
‫كام درس علامؤان الرض وقالوا بكرويهتا‪ ،‬وعرفوا جاذبية الرض للجسام‪ ،‬ودوران الرض حول‬
‫نفسها كام ذكر البريوين‪ ،‬وقد س بق علامؤان نيوتن‪ ،‬وهمدوا هل الطريق لوضع قانون اجلاذبية‪ ،‬وقد تفَن‬
‫املسلمون ِف صناعة اللت ادلقيقة مثل الساعة الِت أهداها هارون الرش يد س نة (‪191‬هـ) اإىل أحد‬
‫ملوك أورب‪ ،‬وَكنت مصنوعة من النحاس الصفر مبهارة فنية عالية‪.‬‬
‫ودرس املسلمون الصوت والضوء‪ ،‬وعرفوا كيفية متيزي الصوات من خالل دراسة الواتر الصوتية‪،‬‬
‫واهزتازاهتا‪ ،‬وعرفوا املرااي بأنواعها‪ .‬وهذا قليل من كثري عن عَل الفزيايء عند املسلمني‪ ،‬وعطاهئم احلضاري‬
‫ِف ميدان الفزيايء‪ ،‬ولول هذا العطاء ما تقدم الغرب هذا التقدم الّسيع ِف علوم الفزيايء‪.‬‬
‫‪ ‬علوم احلياة‪bioscience :‬‬
‫ويه العلوم الِت تدرس النبات واحليوان‪ .‬وقد اش تغل املسلمون بعلمي النبات واحليوان‪ ،‬واهمتوا‬
‫ّبام اهامت ًما عظميًا‪ ،‬وَكنت تعالمي القرأن والإشارات العلمية الواردة فيه خري دافع للمسلمني للبحث ِف مجيع‬
‫فروع املعرفة‪ ،‬ومْنا علوم احلياة‪.‬‬
‫وقد ألف أبو حنيفة ادلينوري امللقب بش يخ علامء النبات كتاب (النبات)‪ ،‬وألف الإدرييس كتاب‬
‫(اجلامع لصفات أش تات النبات)‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫وقد اهُت املسلمون بلزراعة‪ ،‬وأصبحت عىل أيدهيم عل ًما هل أصوهل وقواعده قبل بيق العلوم‬
‫الخرى‪ ،‬وقد اعرتف الوربيون بفضل العلامء املسلمني ودورُه ِف نقل كثري من النبااتت اإىل مرص‬
‫والندلس وصقلية‪ ،‬والِت اس تفاد مْنا الغربيون ِف زراعاهتم ومْنا القطن‪ ،‬والبطيخ‪ ،‬وقصب السكر‪،‬‬
‫واللميون‪ ،‬واهمتوا بشق الرتع والقنوات‪ ،‬وقد ذكر ابن حوقل ِف كتابه (املساِل واملامِل) أ ً‬
‫خبارا كثرية‬
‫عن هذه الرتع والقنوات والهنار‪.‬‬
‫كام اهمتوا ببناء اخلزاانت وبناء السدود الضخمة عىل بعض الهنار‪ ،‬وكذِل شق اجملارى املائية حتت‬
‫سطح الرض‪.‬‬
‫‪ ‬عَل الكميياء (‪) Chemistry‬‬
‫لقد عرف املسلمون عَل الكميياء ِف وقت مبكر‪ ،‬وذِل عىل يد خادل بن يزيد بن معاوية (ت ‪85‬‬
‫هـ)‪ ،‬اذلي ترك حقه ِف اخلالفة؛ لنه َكن حيب العَل ويفضهل عىل أي يشء أخر‪ ،‬فقام برتمجة كتب‬
‫النجوم والطب والكميياء‪.‬‬
‫وبرع ِف هذا اجلانب جابر بن حيان (‪ 120‬هـ‪ 210-‬هـ) اذلي أكد عىل أن التجربة يه أُه مراحل‬
‫البحث العلمي‪ ،‬وبذِل وضع أسس املْنج التجرييب احلديث‪ ،‬وهو املْنج اذلي يقوم عىل التجربة‬
‫واملالحظة والاس تنتاج‪ ،‬كام عرف‬
‫كثريا من العمليات الكمييائية‪ ،‬ووصفها بدقة مثل‪ :‬التبخري‪ ،‬والرتش يح‪ ،‬والتقطري‪ ،‬والإذابة‪،‬‬
‫ابن حيان ً‬
‫وقد أجرى بعض التفاعالت الكمييائية‪ ،‬وحصل من خاللها عىل حملول نرتات الفضة‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ ‬عَل الطب‪:‬‬
‫لقد اش تغل العرب بلطب ِف القدمي‪ ،‬وتقدموا فيه مع تقدم الايم‪ ،‬وظهر مْنم ِف عهد الرسول‬
‫صىل هللا عليه وسَل احلارث بن َكَدة الثقفي طبيب العرب‪ ،‬اذلي شهد هل الرسول صىل هللا عليه وسَل‬
‫ببالغته ِف الطب‪ ،‬بلإضافة اإىل بعض النساء الاليت اش تغلن ومارسن هذا العمل‪ ،‬خاصة خالل غزوات‬
‫الرسول من أمثال‬
‫رفيدة بنت سعد السلمية والشفاء بنت عبد هللا‪ ،‬وأم عطية النصارية ‪-‬ريض هللا عْنن‪-.‬‬
‫وقد اهُت املسلمون بلطب ملا ورد ِف القرأن الكرمي وس نة النيب صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬من اإشارات‬
‫طبية‪ ،‬وأمر بلتداوي‪ ،‬وقد احتوت كتب أمئة احلديث عىل أحاديث الرسول صىل هللا عليه وسَل الِت‬
‫تتعلق بلمراض وبعالهجا‪ ،‬وكتب بعض علامء احلديث كت ًبا خاصة ِف ذِل‪ ،‬مثل‪ :‬الإمام النووي ِف‬
‫كتابه الطب النبوي‪ ،‬والإمام ابن القمي ِف كتابه زاد املعاد‪ ،‬وابن جحر ِف رشحه لصحيح الإمام البخاري‬
‫وغريُه‪.‬‬
‫وقد ُكَث الطباء من سَكن ادلوةل الإسالمية‪ ،‬وترمجت كتب الطب الِت كتهبا أبقراط وجالينوس‪،‬‬
‫وغريهام‪ ،‬ومتت الاس تفادة مْنا عىل أحسن وجه‪ ،‬واش هتر من العلامء الرازي اذلي َكن هل دور كبري ِف‬
‫التفريق بني العراض املتشاّبة لبعض المراض‪ ،‬مثل‪ :‬أمل القولون‪ ،49‬وأمل اللكى ‪ ،‬والتفريق بني اجلدري‬
‫واحلصبة‪..50‬‬
‫وفرق ابن سينا بني شلل الوجه‪ 51‬الناجت عن سبب أسايس ِف مراكز املخ‪ ،‬والخر الناجت عن عامل‬ ‫َّ‬
‫خاريج‪ .‬وجنح ابن النفيس ِف اكتشاف ادلورة ادلموية الصغرى ‪ِ52‬ف القرن السابع الهجري قبل معرفة‬
‫أورب لها بثالثة قرون‪ .‬وتنبه الطبيب واملؤرخ الندليس لسان ادلين بن اخلطيب اإىل خطورة العدوى‪،‬‬
‫ووجودها أثناء انتشار مرض الطاعون ِف الندلس‪ ،‬حفذر الناس من خطورهتا وبني كيفية الوقاية مْنا‪.‬‬
‫وقد عرف املسلمون الوائل التخصص‪ ،‬فَل يسمحوا لحد مبامرسة الطب اإل بعد جناحه ِف امتحان‬
‫ِف كتب التخصص املعروفة‪ ،‬للتأكد من سعة ثقافة الطالب النظرية والعملية‪ ،‬وللوثوق من همارهتم‬
‫ومقدرهتم عىل التشخيص والعالج‪ ،‬قبل أداء الميني‪ ،‬وحصوهلم عىل شهادة مكتوبة حتدد هلم المراض‬

‫‪Colon pain 49‬‬


‫‪Smallpox and measles 50‬‬
‫‪Facial paralysis 51‬‬
‫‪Microcirculation 52‬‬
‫‪42‬‬
‫الِت ميكْنم مواهجهتا وعالهجا‪ .‬وَكن الطباء ُيضعون لرقابة ادلوةل‪.‬‬
‫ومن التخصصات الِت عرفها املسلمون‪:‬‬
‫المراض الباطنية‪ 53:‬لقد عرف املسلمون تركيب جسم الإنسان وأهجزته‪ ،‬وطبيعة املعدة وأمراضها‪،‬‬
‫وديدان المعاء‪ ،‬والبواسري وغريها من المراض‪.‬‬
‫اجلراحة‪ 54:‬وَكن كتاب احلاوي للرازي يش متل عىل معلومات عن جراحات العضاء التناسلية‬
‫وادلماغ واخل َُّراجات املوجودة داخل الذن وجراحة البطن وغريها‪ .‬ويرجع الفضل ِف تقدم املسلمني ِف‬
‫اجلراحة اإىل الطبيب الندليس املسَل أِب القامس الزهراوي (ت ‪403‬هـ) رائد هذا التخصص‪ ،‬واذلي‬
‫اس تفادت أورب من كتبه ملدة مخسة قرون‪ ،‬حيث تُرمجت مؤلفاته اإىل اللغة الالتينية‪.‬‬
‫ظاهرا‪ ،‬واستئصاهل‬‫وقد ظهرت براعة أِب القامس الزهراوي ِف اإجراء العمليات بشلك ل يرتك أ ًثرا ً‬
‫لورام الثدي والفخذ‪ ،‬وعالج دوايل الساقني‪ ،‬واس تخراج حصوات املثانة‪ ،‬وتفتيهتا‪ ،‬واخرتع أكَث من‬
‫مائِت أةل جراحة تس تخدم ِف العمليات‪ ،‬وأخذها عنه اذلين جاءوا من بعده‪ ،‬وَكن حيرص عىل اس تخدام‬
‫ممرضات من النساء عند اإجراء َعليات جراحية للنساء لتوفري المن والطمأنينة لهن‪.‬‬
‫طب العيون‪ :55‬لقد اهُت الطباء املسلمون بأمراض العيون الِت انترشت ِف بعض البالد احلارة‪،‬‬
‫مثل‪ :‬مرص والشام والعراق‪ ،‬وجنحوا ِف ترشحي عيون احليواانت‪ ،‬فعرفوا أجزاء كثرية من عني الإنسان‬
‫كثريا عن عني احليوان‪ ،‬وعرفوا أمراضها اخملتلفة‪ ،‬ووصفوا لها عالهجا‪ ،‬ومن الطباء اذلين‬ ‫الِت ل ختتلف ً‬
‫برعوا ِف هذا التخصص‬
‫عامر بن عيل املوصيل (ت ‪ 400‬هـ) صاحب كتاب املنتخب ِف عالج أمراض العني‪ ،‬وأيضً ا العامل‬
‫الطبيب عيل بن عيىس الك َّحال صاحب كتاب تذكرة الكحالني‪ ،‬وغريهام‪.‬‬
‫طب العظام‪ :56‬وقد جنح الطباء املسلمون ِف عالج مجيع الكسور ِف النف والفك والرقبة‪،‬‬
‫يرشحون جثث املوىت ملعرفة شلك العظام‬ ‫والضلوع والركبة‪ ،‬والساقني‪ ،‬واذلراع وغري ذِل‪ ،‬وَكنوا ّ ِ‬
‫واملفصل وكيفية اتصالها‪.‬‬
‫طب الس نان‪ 57:‬وِف كتاب الطبيب املسَل الزهراوي اذلي سامه الترصيف‪ :‬بب وحض فيه كيف‬

‫‪Internal Medicine 53‬‬


‫‪Surgery 54‬‬
‫‪Ophthalmology 55‬‬
‫‪Orthopedics 56‬‬
‫‪dentistry 57‬‬
‫‪43‬‬
‫ميكن خلع الس نان جبذورها‪ ،‬ووصف اللت املس تخدمة ِف ذِل‪ ،‬وعالج ورم اللثة وتسكني‬
‫اللم‪ ،‬ووضع أس نان بديَل عن اخمللوعة من عظم البقر املشدود خبيوط من اذلهب أو الفضة‪ ،‬وعرفوا‬
‫السواك وبعض احملاليل واملساحيق الِت تش به معجون الس نان اليوم‪.‬‬ ‫الوقاية من التسوس بس تعامل ِّ‬
‫طب النساء‪ :‬اش هتر ِف هذا الفرع من فروع الطب الطبيب املسَل أبو بكر الرازي والزهراوي وابن‬
‫سينا‪ ،‬ووجدت طبيبات مسلامت للقيام ّبذا العمل مثل‪ :‬أخت احلفيد بن زهر الندليس وابنهتا‪ ،‬وهناك‬
‫مؤلفات اإسالمية طبية مثرية حتتوي عىل معلومات واسعة عن أمراض النساء وعالهجا‪ ،‬مثل‪َ :‬عليات‬
‫التوليد‪ ،‬وتوسعة بب الرمح أثناء الولدة‪ ،‬والنفاس وأاثره‪ ،‬وعاجلوا احتباس ادلورة الشهرية وغريها من‬
‫أمراض النساء‪ ،‬وحاولوا التعرف عىل نوع اجلنني ِف بطن أمه عن طريق املالحظة والتدقيق‪.‬‬
‫طب الطفال‪ 58:‬ولقد احتل طب الطفال مَكنة عالية عند املسلمني‪ ،‬وانل الطفال عناية كبرية‬
‫من اهامتم علامء الطب املسلمني‪ ،‬فقد تلكموا عن الرضاع والفطام‪ ،‬ومواقيته‪ ،‬كام عاجلوا أمراض الطفال‬
‫مثل السعال والإسهال والقيء‪ ،‬وحاولوا عالج شلل الطفال‪ ،‬والتبول الال إارادي ِف الفراش‪ ،‬وغريها من‬
‫المراض‪ .‬ومن كتب طب الطفال‪ :‬رساةل ِف أوجاع الطفال لِب عىل بن أمحد بن مندويه الصفهاين‬
‫(ت‪ 410‬هـ)‪.‬‬
‫الطب النفيس والعقيل‪ 59:‬وقد مارسه من أطباء املسلمني الرازي وغريه من الطباء‪ ،‬واس تخدموا‬
‫فيه الصدمات واملفاجأة لعالج العضاء املصابة بلشلل‪ ،‬وإاعادة احلياة اإلْيا‪ ،‬أما المراض العقلية فَكنت‬
‫هناك مستشفيات خاصة ّبذه المراض ِف جو ميلء بخلرضة والزهور والورد‪ ،‬وسامع بعض الايت‬
‫القرأنية‪.‬‬
‫عَل الصيدةل‪ 60:‬وبرع املسلمون الوائل ِف عَل الصيدةل‪ ،‬وقاموا برتمجة الكتب الِت تتحدث عن‬
‫العقاقري والدوية‪ ،‬مث طوروا وأبدعوا ِف جمالت الدوية والقراص والرشبة واملرُه‪ ،‬كام ورد ِف كتاب‬
‫(فردوس احلمكة) لعيل بن سهل الطربي‪ ،‬وكتاب (احلاوي) ِف الطب لِب بكر الرازي‪ ،‬وكتاب (القانون)‬
‫لبن سينا‪.‬‬
‫وقد جنح املسلمون ِف حتضري الدوية من العشاب‪ ،‬وَكنت هذه الدوية تباع ِف دَككني العطارين‬
‫املنترشة ِف أسواق املدن الإسالمية بلإضافة اإىل دَككني الصيادةل‪.‬‬

‫‪pediatrics 58‬‬
‫‪Psychiatry and psychiatry 59‬‬
‫‪pharmacology 60‬‬
‫‪44‬‬
‫وَكن من أُه اإجنازات العلامء املسلمني ِف جمال الصيدةل‪:‬‬
‫‪-‬اكتشاف العديد من العقاقري الِت ل تزال حتتفظ بأسامهئا العربية ِف اللغات الجنبية مثل احلناء‪،‬‬
‫واحلنظل‪ ،‬والَكفور‪ ،‬والكرُك‪ ،‬والمكون‪.‬‬
‫‪-‬حتضري أدوية من مواد نباتية وحيوانية ومعدنية‪ ،‬وابتَكر املعاجلة املعمتدة عىل الكميياء الطبية‪ ،‬ويعد‬
‫الرازي أول من جعل الكميياء ِف خدمة الطب‪ ،‬فاس تحرض ً‬
‫كثريا من املركبات‪.‬‬
‫‪-‬تغليف الدوية املرة بغالف من السكر أو عصري الفاكهة ليك يستس يغها املريض‪.‬‬
‫مَكن العالج‪:‬‬
‫وقد عرف املسلمون الباميرس تان (املستشفى)‪ ،‬منذ زمن بعيد‪ ،‬وأول مستشفى أنشئت ِف عهد‬
‫اخلليفة الوليد بن عبد املكل عام (‪88‬هـ) قرب دمشق‪ ،‬وَكنت تعاجل مرض اجلذام‪ ،‬مث كَثت بعد ذِل‬
‫املستشفيات‪ ،‬وهجزت جبميع الدوات الِت تلزم املريض‪ ،‬ومن هذه املستشفيات‪ :‬مستشفى أمحد بن‬
‫طولون ِف مرص‪ ،‬ومستشفى نور ادلين محمود زنيك ِف دمشق اذلي أنشئ عام (‪ 549‬هـ)‪ ،‬ومستشفى‬
‫صالح ادلين اليوِب ِف مرص اذلي أنشئ (‪ 577‬هـ)‪.‬‬
‫عَل املعادن‪ 61:‬عرف املسلمون الكثري عن اخلواص الطبيعية للمعادن‪ ،‬ووصفوها وصفًا علم ًّيا دقيقًا‪،‬‬
‫مثل‪ :‬اللون‪ ،‬والربيق‪ ،‬ودرجة الشفافية‪ ،‬والصالبة‪ ،‬والوزن النوعي لها‪.‬‬
‫عَل التنظمي والإدارة‪ :‬برع املسلمون ِف لك اجملالت‪ ،‬ومْنا التنظمي الإداري‪ ،‬فقد اقتَض قيام ادلوةل‬
‫الإسالمية أن يكون لها تنظميها الإداري اخلاص ّبا‪ ،‬اذلي يقوم بتنفيذ س ياساهتا العامة‪ ،‬والقيام بتطبيق‬
‫وتنفيذ أحَكم الرشيعة واحلفاظ علْيا‪ ،‬وقد َّمر عَل الإدارة والنظام الإداري الإساليم بلعديد من املراحل‪.‬‬
‫وِف عهد َعر بن اخلطاب‪ ،‬اتسعت ادلوةل الإسالمية‪ ،‬وازدادت احلاجة اإىل تطوير النظام الإداري‬
‫الإساليم ليالمئ الوضاع اجلديدة‪ ،‬فقام َعر ‪-‬ريض هللا عنه‪ -‬بتطوير اجلهاز الإداري ِف ادلوةل‬
‫الإسالمية‪ ،‬فوضع التارخي الهجري‪ ،‬وأنشأ ادلواوين‪ ،‬ومْنا ديوان الإنشاء حلفظ الواثئق الرمسية‪ ،‬وديوان‬
‫العطاء واجلند‪.‬‬
‫وِف عهد ادلوةل الموية ظهرت دواوين ووظائف جديدة ملواهجة اتساع نطاق الإدارة‪ ،‬فظهرت‬
‫دواوين اخلامت‪ ،‬والرشطة‪ ،‬والربيد‪ ،‬واحلس بة‪ ،‬والحباس للنظر ِف املظامل والضياع‪.‬‬
‫ومع بداية عهد ادلوةل العباس ية اس تقر نظام الوزارة ملساعدة اخلليفة ِف اإجناز ش ئون ادلوةل‪ .‬وليك‬

‫‪minerals 61‬‬
‫‪45‬‬
‫يتحقق ضامن ادلقة ِف الإدارة‪َ ،‬كن هناك مفهوم الرقابة الإدارية ِف ادلوةل‪ ،‬ومت وضع أساس مرشوعية‬
‫هذه الرقابة من خالل‪:‬‬
‫أو ًل‪ :‬الرقابة اذلاتية‪ ،‬أو حماس بة النفس‪ ،‬ومبقتضاها يوجب الإسالم عىل الإنسان املسَل رضورة‬
‫مراجعة نفسه وحماسبهتا‪.‬‬
‫اثن ًيا‪ :‬رقابة المة؛ فالمة رقيبة عىل لك مس ئول ِف موقعه ومنصبه‪ ،‬ل حيل للمة أن تتخىل عن‬
‫تكل املراقبة‪.‬‬
‫اثلث ًا‪ :‬رقابة احلاُك؛ فاحلاُك رقيب عىل من دونه من وزرائه وأمرائه‪ ،‬وهو مس ئول اإن َّقرص ِف ذِل‪،‬‬
‫وهو يقوم ّبذه الرقابة من خالل الهجزة املعاونة هل‪.‬‬
‫وهكذا ساُه الإسالم وحضارته السامية ِف اإرساء أُه السس والقواعد ِف ميدان الإدارة‪ ،‬والنظام‬
‫الإداري‪ ،‬فس بق بذِل العديد من النظم الإدارية الِت وضعها غريُه من البرش‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫العالقات ادلولية ِف احلضارة الإسالمية‬
‫سسا للحياة‪ ،‬تَ ْك ُفل السالمة لهذا اجملمتع‪ ،‬وإان اختلفت عقائد ادلول‬
‫قدم الإسالم للمجمتع البرشى أ ً‬
‫وأدايهنا‪.‬‬
‫فنظم التعاون بني المم ِف لك اجملالت الس ياس ية والاقتصادية والثقافية والاجامتعية‪ ،‬كام قدَّم‬
‫النظم املناس بة للتخفيف من ويالت احلروب‪ ،‬وَكن ما قدمه الإسالم ِف جمال العالقات ادلولية هو أول‬
‫تعلاميت سامية ِف هذا اجملال عرفهتا البرشية‪.‬‬
‫‪ ‬اجلانب الس يايس‪:‬‬
‫رشع الإسالم نظام املعاهدات‪ ،‬والسفراء‪ ،‬وتأمني الرسل املبعوثني اإىل ادلول الخرى‪ ،‬وكتب‬
‫رسائل ادلعوة لهذه ادلول‪.‬‬
‫‪ ‬اجلانب الاقتصادي‪:‬‬
‫أبح الإسالم التعامل بلعمَل الفارس ية والرومية ِف بداية المر؛ حىت مت اإنتاج َعَل اإسالمية خالصة‬
‫تدرجي ًّيا‪ ،‬كام مسح بلتجارة احلرة‪ ،‬فَكن التجار غري املسلمني يدخلون بتجارهتم العامل الإساليم‪ ،‬وعلْيم‬
‫أن يدفعوا بعض املال‪ ،‬وهو ما َكن يعرف بلعشور‪ ،‬كام َكن التجار املسلمون يدفعون عندما يدخلون‬
‫أرضً ا غري اإسالمية بتجارهتم‪.‬‬
‫‪ ‬اجلانب الاجامتعي‪:‬‬
‫أبح الإسالم للمسلمني أن يأكوا طعام أهل الكتاب (الْيود والنصارى) من غري ما حرم هللا‪ ،‬وأن‬
‫يقدموا هلم من طعاهمم‪ .‬وأبح للمسلمني أن يزتوجوا من نساهئم‪ ،‬وأن يتعاملوا معهم برب وصدق وعداةل‪،‬‬
‫وأن يساملوُه ما مل يظهر مْنم عدوان أو خيانة‪ ،‬وأن يكونوا مْنم عىل حذر‪.‬‬
‫‪ ‬اجلانب الثقاِف‪:‬‬
‫أحل الإسالم للمسلمني أن يتبادلوا الثقافات مع غري املسلمني‪ ،‬وأن يتعلموا لغاهتم‪ ،‬برشط أن يكون‬
‫تبادل الثقافات مبا ل يتعارض مع قواعد الرشع الإساليم احلنيف‪ ،‬ولهذا وجدان املسلمني الوائل يتعلمون‬
‫لغات غري املسلمني‪ ،‬لنرش الإسالم‪ ،‬وليأمنوا مكر أهل هذه اللغات ّبم كام ترمجوا كت ًبا كثرية بلغات‬
‫خمتلفة اإىل اللغة العربية‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫النظام الترشيعي ِف احلضارة الإسالمية‬
‫لقد جاء الإسالم بترشيعات وقوانني حفظت للناس حقوقهم‪ ،‬ومضنت هلم الفالح ِف ادلنيا والخرة‪.‬‬
‫واملصادر الساس ية للترشيع الإساليم يه‪:‬‬
‫القرأن الكرمي‬
‫القرأن الكرمي هو املصدر الول للترشيع الإساليم‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬وأن احُك بيْنم مبا أنزل هللا)‬
‫ورشع هللا ل يأتيه الباطل من بني يديه ول من خلفه تزنيل من حكمي محيد‪ ،‬وذلِل ل جيوز لحد‬
‫حرم هللا‪ ،‬أو حيرم ما أحل هللا‪،‬‬ ‫أن يرتكه وحيُك مبا سواه‪ ،‬ولك من جاء بترشيع ُيالف رشع هللا فيحل ما َّ‬
‫فهو خارج عن املَل‪.‬‬
‫ولقد اعترب هللا عز وجل املرشعني أله ًة يُعبدون من دونه‪ ،‬ولقد رشح النيب صىل هللا عليه وسَل‬
‫ربب‬
‫هذا المر لعدي بن حامت عندما دخل عليه (‪ ،‬وهو يقرأ قوهل تعاىل‪{ :‬اختذوا أحبارُه ورهباهنم أ ً‬
‫من دون هللا واملس يح ابن مرمي وما أمروا اإل ليعبدوا اإلهًا واحدً ا ل اإهل اإل هو س بحانه عام يرشكون} ‪62‬‬

‫وَكن عدي قد دخل النرصانية ِف اجلاهلية و ُأرست أخته وجامعة من قومه‪ ،‬مث أطلق‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل رساح أخته‪ ،‬فرجعت اإىل أخْيا‪ ،‬فرغبته ِف الإسالم وِف القدوم عىل‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪ ،:‬فقال عدي ملا مسع النيب يتلو هذه الية‪ :‬اإهنم مل يعبدوُه‪ .‬فقال‬
‫حرموا علْيم احلالل‪ ،‬وأحلوا هلم احلرام‪ ،‬فاتبعوُه‪ ،‬فتكل‬ ‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬بىل‪ ،‬اإهنم َّ‬
‫عبادهتم اإايُه) ‪63‬‬

‫والقرأن الكرمي مل يرتك شيئًا اإل ذكر حمكه اإما ًّنصا وإاما مضن القواعد العامة الِت جاءت فيه ملا جيد‬
‫من أمور ِف لك عرص من العصور‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬ما فرطنا ِف الكتاب من يشء) ‪64‬‬

‫‪ 62‬التوبة‪].31 :‬‬
‫‪[ 63‬أحمد والترمذي]‪.‬‬
‫‪[ 64‬األنعام‪.]38 :‬‬
‫‪48‬‬
‫والقرأن الكرمي به نوعان من الحَكم‪:‬‬
‫‪-‬أحَكم اثبتة وردت فْيا نصوص قرأنية‪ ،‬وهذه ل دخل للعقل فْيا اإل الاس تنباط من النصوص‬
‫وتوجْيها‪.‬‬
‫‪-‬قواعد عامة غري اثبتة‪ ،‬للقادرين عىل الاس تنباط حق الاجهتاد فْيا‪ ،‬ووضع النظرايت والقواعد‪،‬‬
‫برشط أل يتعارض ذِل مع القواعد العامة ل إالسالم‪.‬‬
‫ومن هذه القواعد العامة غري الثابتة‪ ،‬ما جاء به الإسالم ِف جمال الس ياسة والاقتصاد وغري ذِل‪.‬‬
‫الس نة النبوية الصحيحة‪:‬‬
‫ويه املصدر الثاين للترشيع الإساليم بعد القرأن الكرمي‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬وما أاتُك الرسول خفذوه وما‬
‫هناُك عنه فانهتوا}‪ .65‬وقال تعاىل‪{ :‬فال وربك ل يؤمنون حىت حيمكوك فامي جشر بيْنم مث ل جيدوا ِف أنفسهم‬
‫حرجا مما قضيت ويسلموا تسلميًا} ‪66‬‬
‫ً‬
‫ظاهرا ِف القرأن الكرمي‪ ،‬وأن نرىض ّبا دون شك‪ ،‬ول حترج؛ لن‬ ‫ِف المور الِت ل جند لها حمكًا ً‬
‫الس نة اإما أن تبني أحَك ًما موجودة ِف القرأن‪ ،‬أو تفصل أحَك ًما عامة مجمَل فيه‪ ،‬أو تأيت بأحَكم جديدة‪،‬‬
‫مفث ًال ذكر القرأن الصلوات وأمران ّبا‪ ،‬ولكنه مل يذكر عدد ركعاهتا‪ ،‬ول هيئاهتا ول طريقة أداهئا‪ ،‬جفاءت‬
‫الس نة ووحضت ذِل بلتفصيل‪ ،‬وغري ذِل كثري ِف أمور العبادات واملعامالت‪.‬‬

‫‪[ 65‬الحشر‪]7 :‬‬


‫‪[ 66‬النساء‪.]65 :‬‬
‫‪49‬‬
‫الإجامع‬
‫ل خالف بني العلامء عىل أن الإجامع مصدر من مصادر الترشيع الإساليم بعد كتاب هللا وس نة‬
‫رسوهل صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬والإجامع هو اتفاق اجملهتدين من أمة رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ِف‬
‫عرص من العصور بعد وفاته ( عىل حُك رشعي اجهتدوا فيه ليس فيه نص من الكتاب أو الس نة‪ ،‬ول‬
‫اإجامع عند الفقهاء اإل بس ند من كتاب هللا وس نة رسول هللا صىل هللا عليه وسَل‪:.‬‬
‫واجملهتدون ُه العلامء العارفون بأدةل الفقه من القرأن والس نة وأراء العلامء‪ ،‬وكيفية اس تخراج واس تنباط‬
‫الحَكم‪ ،‬ولقد استشهد العلامء عىل أن الإجامع مصدر من مصادر الترشيع بعدة أدةل من القرأن والس نة؛‬
‫أما أدةل القرأن مفْنا قوهل تعاىل‪{ :‬ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبني هل الهدى ويتبع غري سبيل املؤمنني‬
‫مصريا}‪67‬‬
‫نوهل ما توىل ونصهل هجمن وساءت ً‬
‫وسبيل املؤمنني احلق هو ما اتفق عليه اجملهتدون مْنم‪.‬‬

‫وأما أدةل الس نة‪ :‬فقد وردت أحاديث كثرية حصيحة؛ مْنا قوهل صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬ثالث ل‬
‫يغل علْين قلب امرئ مسَل‪ :‬اإخالص العمل هلل تعاىل‪ ،‬والنصح لمئة املسلمني‪ ،‬ولزوم جامعهتم) ‪68‬وقال‬
‫صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬يد هللا مع امجلاعة‪ ،‬ومن شذ؛ شذ ِف النار) ‪69‬‬

‫القياس‬
‫وهو املصدر الرابع من مصادر الترشيع الإساليم بعد كتاب هللا وس نة رسول هللا صىل هللا عليه‬
‫وسَل والإجامع‪.‬‬
‫وقد جاءت امرأة اإىل رسول هللا صىل هللا عليه وسَل فقالت‪ :‬اإن أيم نذرت أن حتج‪ ،‬مفاتت قبل‬
‫أن حتج‪ ،‬أفأجح عْنا؟ قال‪ُ ( :‬ح ِ ّجي عْنا‪ ،‬أرأيت لو َكن عىل أمك دين‪ ،‬أكنت قَا ِض َيتِ ِه؟)‪ .‬قالت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫قال‪( :‬فاقضوا اذلي هلل‪ ،‬فاإن َد ْي َن هللا أحق بلوفاء) [متفق عليه]‪ .‬فهذه احلادثة توحض اس تخدام الرسول‬
‫صىل هللا عليه وسَل للقياس‪ ،‬فقد قاس أمر احلج عىل أمر أخر‪ ،‬وهو قضاء ادلين‪ ،‬فاإن َكنت تس تطيع‬
‫أن تقيض ادلين عن أهما‪ ،‬فهيي تس تطيع أن حتج عْنا‪.‬‬
‫فاجملهتد اإذا قابلته مسأةل ومل جيد لها ح ًال أو حمكًا ِصحيًا ِف كتاب هللا وس نة‬

‫‪[ 67‬النساء‪.]115 :‬‬


‫‪[ 68‬ابن ماجه]‪.‬‬
‫‪ .69‬الترمذي‪].‬‬
‫‪50‬‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪ ،:‬ومل يكن ِف هذه املسأةل اإجامع من الفقهاء‪ ،‬مل يكن أمامه اإل أن‬
‫يبحث عن مسأةل شبْية ّبا‪ ،‬وحمكها معروف‪ ،‬وتوجد عَل (سبب) جتمع بيْنام‪ ،‬فاإن حُك املسأةل اجملهوةل‬
‫يكون حُك املسأةل املعلومة احلُك‪ ،‬وهذا هو القياس‪.‬‬
‫ومجهور الفقهاء مجمعون عىل أن القياس جحة‪ ،‬ويس تدلون عىل جحيته بلكتاب والس نة وأفعال‬
‫الصحابة‪ ،‬فأما أدةل القرأن فيقول هللا عز وجل‪{ :‬اي أهيا اذلين أمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول وأويل‬
‫المر منُك فاإن تنازعُت ِف يشء فردوه اإىل هللا والرسول اإن كنُت تؤمنون بهلل واليوم الخر ذِل خري‬
‫وأحسن تأوي ًال} ‪ .70‬ورد المر اإىل هللا ورسوهل معناه أن يُرجع ما فيه خالف اإىل كتاب هللا وس نة‬
‫رسوهل صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬فيقاس ما ليس فيه حُك عىل ما فيه حُك‪ ،‬لوجود عَل جتمع بيْنام‪.‬‬
‫وأما الدةل عليه من الس نة النبوية املطهرة فكثرية‪ ،‬مْنا احلديث اذلي ذكرانه ِف أول الالكم عن‬
‫القياس‪ ،‬وأما أفعال الصحابة‪ ،‬مفْنا أن الصحابة ‪-‬ريض هللا عْنم‪ -‬اختاروا أب بكر ‪-‬ريض هللا عنه‪ -‬خليفة‬
‫وبيعوه‪ ،‬لن النيب صىل هللا عليه وسَل اختاره لإمامة الصالة وإامامهتم فْيا‪ ،‬فقاس املسلمون الإمامة‬
‫العامة عىل اإمامة الصالة‪ ،‬وقالوا‪ :‬اختاره لمر ديننا أفال خنتاره لمر دنياان؟!‬
‫مضن من العلامء ِف اس تخراج الحَكم‪ ،‬كام أضاف‬ ‫والإجامع والقياس حيتاجان اإىل هجد كبري واجهتاد ٍ‬
‫العلامء مصادر وأدةل أخرى لس تنباط الحَكم‪َ ،‬كملصلحة املرسَل‪ ،‬والاس تحسان‪ ،‬والاس تصحاب‪،‬‬
‫ورشع من قبلنا‪ ،‬ما مل ُيالف رشعنا‪ ،‬وقول الصحاِب اإذا َكن مالمئًا لروح الرشيعة‪ ،‬وهكذا يتضح مدى‬
‫متزي اجلانب الترشيعي ِف الإسالم‪ ،‬وأثره ِف بناء حضارته‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫‪51‬‬
‫النظام القضايئ ِف احلضارة الإسالمية‬
‫َكنت امرأة من بِن خمزوم تس تعري من الناس أمتعهتم مث تنكرها‪ ،‬حفُك رسول هللا صىل هللا عليه‬
‫وسَل بقطع يدها تنفي ًذا حلد هللا‪ ،‬فأراد أهلها أن يس تغلوا ُح َّب رسول هللا لسامة بن زيد‪ ،‬فطلبوا من‬
‫أسامة بن زيد أن يشفع لها عند رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪:‬؛ لينقذها من اإقامة احلد علْيا‪ ،‬لكن‬
‫الرسول صىل هللا عليه وسَل غضب غض ًبا شديدً ا‪ ،‬وقال‪( :‬اإمنا أهكل اذلين قبلُك أهنم َكنوا اإذا رسق‬
‫فْيم الرشيف تركوه‪ ،‬وإاذا رسق فْيم الضعيف أقاموا عليه احلد‪ ،‬وأمي هللا‪ ،‬لو أن فاطمة بنت محمد رسقت؛‬
‫لقطعت يدها)‪71‬‬

‫وهكذا رضب الرسول صىل هللا عليه وسَل مث ًال ِف حتقيق العدل ِف اجملمتع‪ ،‬فنبذ احملابة والوساطة‬
‫ووضع الاعتبار لبعض الناس دون بعض‪ ،‬وقد بلغ من حرص الإسالم عىل اإقامة العدل أن حذر من‬
‫الظَل وجعهل ظلامت يوم القيامة‪ ،‬قال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬اتقوا الظَل فاإن الظَل ظلامت يوم القيامة)‪72‬‬

‫الفرق بني احلُك والقضاء‪:‬‬


‫احلُك هو ما يقوم به احلاُك لتحقيق العداةل ِف الناس ويشمل لك نوايح حياة المة‪ ،‬أما القضاء فهو‬
‫الفصل ِف اخلصومات بني الناس مبا يأمر به الرشع اإلزا ًما‬
‫الفتوى والقضاء‪:‬‬
‫الفتوى أمع وأمشل من القضاء‪ ،‬لن الفتوى ل حتتاج اإىل اإجراءات معينة‪ ،‬ويكفي أن يرسل السائل‬
‫اإىل العامل‪ ،‬فيجيب عن سؤاهل‪ ،‬والقايض ل يسأل ول يس تفِت ِف مسائل العبادات‪ ،‬أما املفِت فيجيب‬
‫عن َكفة التساؤلت‪ ،‬وينصح ويرشد‪ ،‬لكنه ل ميكل معاقبة املقرصين ِف أداهئا مثل القايض‪.‬‬
‫القضاء والنظم القضائية‪:‬‬
‫تمتتع ادلوةل املسلمة مبجموعة من املؤسسات‪ ،‬والقضاء جزء هام من هذه املؤسسات‪ ،‬لتحقيق‬
‫العداةل وإاخضاع امجليع لرشائع الإسالم وأدابه‪ ،‬وجاء الإسالم بنظم قضائية فريدة مل يعرفها العامل من قبل‬
‫من أمهها‪ :‬القضاء‪ ،‬والرشطة‪ ،‬ونظام احلس بة‪ ،‬ونظام النظر ِف املظامل‪.‬‬

‫‪71‬‬

‫‪[ 72‬مسلم]‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫اترخي القضاء ِف الإسالم‪:‬‬
‫لقد َكن الرسول صىل هللا عليه وسَل حاُك ادلوةل وقاضْيا الول‪ ،‬وقد أمره هللا تعاىل بذِل قائ ًال‪:‬‬
‫{وأن احُك بيْنم مبا أنزل هللا ول تتبع أهواءُه واحذرُه أن يفتنوك عن بعض ما أنزل هللا اإليك} [املائدة‪:‬‬
‫‪ .]49‬وقال تعاىل‪{ :‬اإان أنزلنا اإليك الكتاب بحلق لتحُك بني الناس مبا أراك هللا ول تكن للخائنني‬
‫خصميًا}[النساء‪].105 :‬‬
‫وَكن صىل هللا عليه وسَل يرسل نو ًاب عنه اإىل الماكن البعيدة يتولون القضاء‪ ،‬فقد أرسل معاذ بن‬
‫جبل ‪-‬ريض هللا عنه‪ -‬اإىل المين‪َ ،‬وعتَّاب بن أس يد ‪-‬ريض هللا عنه‪ -‬اإىل مكة‪ ،‬وَكن قبل أن يرسل‬
‫القضاة يتولُه بلنصيحة واملوعظة‪ ،‬وقد أوىص النيب صىل هللا عليه وسَل عيل بن أِب طالب ‪-‬‬
‫ريض هللا عنه‪ -‬ذات مرة‪ ،‬فقال‪( :‬اي عيل‪ ،‬اإذا جلس اإليك اخلصامن‪ ،‬فال تَ ْق ِض بيْنام حىت تسمع من‬
‫الخر كام مسعت من الول‪ ،‬فاإنك اإذا فعلت ذِل تبني ِل القضاء) [أمحد وأبوداود والرتمذي]‪.‬‬
‫املبادئ العامة للقضاء ِف الإسالم‬
‫َكنت املبادئ العامة للقضاء ِف عهد الرسول صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬ومن تبعه من اخللفاء والمراء‬
‫غاية ِف السمو والارتقاء والعظمة‪ ،‬ومن مظاهر ذِل‪:‬‬
‫‪ ‬القايض حيُك وفقًا لحَكم الرشيعة الإسالمية‪.‬‬
‫‪ ‬التحذير من الظَل ِف القضاء‪ ،‬فقد قال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬اإن هللا مع القايض ما مل َ ُجي ْر (يظَل)‪،‬‬
‫فاإذا جار تربأ منه‪ ،‬وألزمه الش يطان)‪ .]73‬وقال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬من طلب قضاء املسلمني‬
‫حىت يناهل مث غلب عدهل َج ْوره (ظلمه)‪ ،‬فهل اجلنة‪ ،‬ومن غلب جوره عدهل فهل النار) ‪[74‬‬
‫‪ ‬ابتعاد القايض عن لك ما قد يؤثر عىل حمكه بلعدل‪ ،‬فرياعى أن يكون ِف أحسن حالته النفس ية‪،‬‬
‫بعيدً ا عن اجلوع والعطش‪ ،‬والضيق والقلق والغضب‪ ،‬حىت ل يؤثر ذِل ِف عدالته‪ ،‬قال‬
‫صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬ل حيُك أحدُك بني اثنني وهو غضبان) ‪75‬‬

‫‪ ‬حترمي تقدمي الرشوة للقايض‪ ،‬أو قبولها‪ ،‬وإاذا قدهما املهتم‪ ،‬فللقايض أن يعاقبه مبا يراه‪ ،‬وذلِل فقد َكن‬
‫قضاة الإسالم ل يس تضيفون اخلصوم أو بعضهم‪ ،‬ول يقبلون ضيافهتم ول هداايُه‪ ،‬حىت ل يكون‬

‫‪[ 73‬الحاكم والبيهقي‬


‫‪ 74‬أبو داود]‪.‬‬
‫‪ 75‬متفق عليه]‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫ذلِل تأثري عىل قضاء القايض‪ ،‬قال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬من اس تعملناه عىل َعل‪ ،‬فرزقناه‬
‫رزقًا‪ ،‬مفا أخذ بعد ذِل فهو غُلُول) ‪76‬‬

‫وقال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬لعن هللا الرايش واملرتيش والرائش (أي اذلي يعطي الرشوة‪ ،‬واذلي‬
‫يأخذها والوس يط بيْنام))‪].77‬‬
‫‪ ‬حتذير املتخامصني من الكذب ِف الادعاء‪ ،‬فعن أ ٍنس ‪-‬ريض هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬س ئل‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل عن الكبائر‪ ،‬فقال‪( :‬ا إلرشاك بهلل‪ ،‬وعقوق الوادلين‪ ،‬وقتل‬
‫النفس‪ ،‬وشهادة الزور) ‪78‬‬

‫حتري الصدق ِف عرض القضية‪ ،‬فقد قال ( لرجلني اختصام أمامه ِف مرياث طال عليه الزمن‪،‬‬ ‫‪ِّ ‬‬
‫وليس لحد مْنام ب ِي ّنة‪ ،‬فقال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬اإنُك ختتصمون ا َّإيل‪ ،‬وإامنا أان برش‪ ،‬ولعل‬
‫بعضُك يكون أحلن حبجته من بعض (أبلغ)‪ ،‬وإامنا أقيض بينُك عىل حنو ما أمسع‪ ،‬مفن قضيت هل‬
‫من حق أخيه شيئًا فال يأخذه‪ ،‬فاإمنا أقطع هل قطعة من النار يأيت ّبا اإسطا ًما (احلديدة الِت حترك‬
‫ّبا النار) ِف عنقه يوم القيامة)‪ .‬فبىك الرجالن‪ ،‬وقال لك واحد مْنام‪ :‬حقي ليخ‪ .‬فقال‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬أما اإذ قلامت‪ ،‬فاذهبا فاقتسام مث توخيا احلق (اقصدا)‪ ،‬مث اس هتام‬
‫‪79‬‬ ‫(أي ليأخذ لك منكام ما خترجه القرعة بعد القسمة)‪ ،‬مث ليحلل لك واح ٍد منكام صاحبه)‬
‫أي أن الناس يتحامكون اإىل القايض‪ ،‬فيجهتد هلم‪ ،‬وقد ل يصيب احلق‪ ،‬فيقيض لحدُه بيشء ليس‬
‫من حقه‪ ،‬حفُك القايض هنا ل حيل لهذا الشخص أخذ ما ليس من حقه‪.‬‬
‫‪ ‬تقدمي الصلح عىل القضاء‪ ،‬وهذا من عظمة القضاء ِف الإسالم‪ ،‬لن حُك القضاء يورث‬
‫جائزا فَكن لبد أن يأخذ مَكنه لإصالح ما‬
‫الضغائن والحقاد وما دام الصلح بني املسلمني ً‬
‫أفسده الش يطان بني الناس‪ ،‬قال صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬والصلح جائز بني املسلمني‪ ،‬اإل‬
‫حرم حالل أو أح َّ‬
‫ل حرا ًما)‪80‬‬
‫صل ًحا َّ‬

‫‪[ 76‬أبو داود]‪.‬‬


‫‪ 77‬أبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد‬
‫‪ 78‬البخاري‪].‬‬
‫‪ 79‬أحمد والبخاري ومسلم]‪.‬‬
‫‪80‬‬

‫‪54‬‬
‫ُوروى عن َعر بن اخلطاب أنه قال‪ :‬ردوا اخلصوم حىت يصطلحوا‪ ،‬فاإن فصل القضاء (أحَكم‬
‫القضاء) يورث بيْنم الضغائن‪.‬‬
‫ومن عظمة الإسالم أنه أبح للقايض أن يشفع عند أحد املتخامصني للخر‪ ،‬فقد ورد أن كعب بن‬
‫حدر ٍد‪ ،‬وَكان ِف املسجد‪ ،‬فارتفعت أصواهتام حىت مسعهام‬‫ماِل طلب دينًا هل َكن عند أِب َ‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل وهو ِف بيته‪ ،‬فنادى الرسول صىل هللا عليه وسَل كعب بن ماِل‪،‬‬
‫فقال كعب‪ :‬لبيك اي رسول هللا ‪.‬فأشار اإليه بيده أن ضع الشطر من دينك (أي اترك نصف دينك‬
‫لخيك)‪ .‬قال كعب‪ :‬قد فعلت اي رسول هللا فقال النيب صىل هللا عليه وسَل لِب حدرد‪( :‬مق فاقضه)‬
‫[متفق عليه]‬

‫‪55‬‬
‫العامرة ِف احلضارة الإسالمية‬

‫املفهوم العام للبناء ِف الإسالم‬


‫حر الشمس وبرد الش تاء‬ ‫أمر الإسالم بتعمري الرض بلبناء علْيا‪ ،‬وحث عليه محلاية الإنسان من ّ ِ‬
‫وأمطاره‪ ،‬وجعل اختاذ املساكن نعمة من هللا خمللوقاته‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬وهللا جعل لُك من بيوتُك سكنًا‬
‫وجعل لُك من جلود النعام بيواتً تس تخفوهنا يوم ظعنُك ويوم اإقامتُك ومن أصوافها وأوبرها وأشعارها‬
‫أ ً‬
‫اثاث ومتاعًا اإىل حني} ‪81‬‬

‫ووضع الإسالم لبناء املساكن واملدن والقرى أدا ًب مْنا‪:‬‬


‫‪ ‬اختيار املَكن اجليد؛ فيبِن املسَل البيوت وغريها ِف السهول أو اجلبال حس امب تقتيض حاجته ومَكن‬
‫كثريا‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬وَكنوا ينحتون من اجلبال بيواتً أمنني}‬ ‫تواجده وراحته‪ ،‬وهذا ما حتدث به القرأن ً‬
‫‪ ،82‬وقال تعاىل‪{ :‬تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون اجلبال بيواتً } ‪83‬‬
‫ً‬
‫‪ ‬أن تتوفر ِف ادلور والبيوت وسائل السكن والراحة والطمأنينة من هتوية جيدة‪ ،‬وسعة ِف املَكن‪،‬‬
‫ووجود اخلرضة والزروع حول البيت‪ ،‬ووجود أماكن خاصة للنساء ِف البيوت‪.‬‬
‫وينبغي أن يكون ِف البيت مرحاض لقضاء احلاجة‪ ،‬وَكن العرب قبل الإسالم ل يعرفون بناء‬
‫املراحيض ِف البيوت‪ ،‬فلام جاء الإسالم اختذ املسلمون املراحيض جبوار املسجد لقضاء احلاجة مث‬
‫الوضوء‪ ،‬وَكن ذِل بعد غزوة خيرب واختذوها ِف البيوت بعد ذِل‪ ،‬فعن أِب أيوب النصاري ‪-‬‬
‫ريض هللا عنه‪ -‬أن النيب صىل هللا عليه وسَل قال‪( :‬اإذا أتيُت الغائط فال تس تقبلوا القبَل‪ ،‬ول تس تدبروها‬
‫غربوا)‪ .‬قال أبو أيوب‪ :‬فقدمنا الشام فوجدان مراحيض بنيت ِق َب َل القبَل‪ ،‬فننحرف‬ ‫رشقوا أو ّ ِ‬
‫ولكن ّ ِ‬
‫ونس تغفر هللا تعاىل‪[ .‬البخاري]‪ ،‬ومن هنا اختذ املسلمون املراحيض للمساجد والبيوت‪.‬‬
‫ومن أوجب المور ِف ختطيط وإانشاء البيت املسَل اختاذ مسجد للصالة ِف البيت‪ ،‬وهذا ما جاء‬
‫عن رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪ ،:‬فعن عائشة ‪-‬ريض هللا عْنا‪ -‬قالت‪( :‬أمر رسول هللا أن تتخذ‬
‫‪[ 81‬النحل‪.80 :‬‬
‫‪[ 82‬الحجر‪]82 :‬‬
‫‪[ 83‬األعراف‪.]74 :‬‬
‫‪56‬‬
‫‪84‬‬ ‫املساجد ِف ادلور وأن تطهَّر وتط َّيب)‬
‫وعن أِب هريرة‪( :‬أن رج ًال من النصار أرسل اإىل رسول هللا صىل هللا عليه وسَل أن تعا َل خفط‬
‫يل مسجدً ا ِف داري أصيل فيه ‪-‬وذِل بعدما َعي هذا الرجل‪ -‬جفاء النيب صىل هللا عليه وسَل ففعل)‪85‬‬

‫البساطة‪ ،‬فينبغي أن تكون دار املسَل بس يطة‪ ،‬فال يّسف ِف بناهئا وتزييْنا‪ ،‬فهذا بيت‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل َكن ُح َج ًرا من جريد مطيل بلطني‪ ،‬وبعضها مبِن بلطوب اللنب‪ ،‬وَكنت‬
‫منازل املسلمني ِف عهد رسول هللا صىل هللا عليه وسَل واخللفاء الراشدين غاية ِف البساطة‪ .‬فالهدف‬
‫من بناء املسَل للبيوت هو أن يبِن ما يسرته من املطر واحلر ويسرت عورة أههل‪.‬‬
‫ومع هذا فالبساطة ِف البناء عىل سبيل الاس تحباب وليس فرضً ا‪ ،‬فالإسالم مل حيرم حتسني بناء‬
‫البيوت وتزييْنا‪ ،‬ولكن ذِل يكون برشط أل يبعد هذا البناء املسَل عن هدفه احلقيقي وهو اإرضاء هللا‪،‬‬
‫والفوز ِف الخرة‪ ،‬وهذا هو ما ح َّذر منه النيب صىل هللا عليه وسَل (ل تتخذوا ِّ‬
‫الض َي َعة‪ ،‬فرتغبوا ِف‬
‫ادلنيا (والضيعة يه املنازل الفخمة)) ‪86‬‬

‫‪ ‬واملسَل ل يبِن ما ل يسكن‪ ،‬لنه ل يتعلق بدلنيا‪ ،‬وليست يه لك أمهل؛ فال جيوز هل أن‬
‫صغارا‪ ،‬كام ل جيوز هل أن يبِن عدة أدوار‬ ‫يبِن بيتًا ويرتكه بدون سكن حبجة أن هل أولدًا ً‬
‫ِف بيت واحد اإل لغرض السكن‪ ،‬اإما أن يسكنه هو وأههل من أقاربه‪ ،‬أو يسكنه املسلمون‬
‫اإجارة‪ ،‬قال رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬اإن العبد ليؤجر ِف نفقته كها اإل ِف الرتاب‬
‫‪-‬أو قال‪ِ :‬ف البناء‪ -‬وذِل فامي ل يسكنه) ‪[87‬‬
‫‪ ‬طهارة البيوت وشوارع القرى واملدن‪ ،‬قال رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬بيامن رجل‬
‫مييش بطريق‪ ،‬و َجدَ غصن شوك عىل الطريق‪ ،‬فأخذه فشكر هللا هل‪ ،‬فغفر هل)‪].88.‬‬
‫‪ ‬سعة البيوت‪ ،‬وسعة شوارع املدينة والقرية‪ ،‬فعن أِب هريرة قال‪ :‬قَض‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل اإذا تشاجروا ِف الطريق ا ِمل ْي َتاء (الطريق الواسعة الِت يكَث‬
‫دور الناس ّبا) بس بعة أذرع‪ 89 .‬أي أن سعة الطريق تكون عىل القل اإذا تشاجر الناس‬
‫‪ 84‬ابن ماجه‬
‫‪[ 85‬ابن ماجه‪].‬‬

‫‪[ 86‬الترمذي]‪.‬‬
‫‪ 87‬ابن ماجه]‪.‬‬
‫‪[ 88‬البخاري‬
‫‪[ 89‬البخاري‬
‫‪57‬‬
‫علْيا س بعة أذرع‪.‬‬
‫‪ ‬عدم اختاذ الامتثيل ِف ميادين القرى واملدن‪ ،‬أو ِف البيوت‪ ،‬ملا ورد عن‬
‫قيس بن جرير قال‪َ :‬كن بيت ِف اجلاهلية يقال هل‪ :‬ذو اخلَلَ َصة والكعبة الامينية‪ ،‬والكعبة الشامية‪،‬‬
‫فنفرت ِف مائة ومخسني راك ًبا‬
‫فقال يل النيب صىل هللا عليه وسَل (أل ترحيِن من ذي اخللصة؟)‪ُ .‬‬
‫فكّسانه‪ ،‬وقتلنا من وجدان عنده‪ ،‬فأتيت النيب‪ ،‬فأخربته؛ فبارك عىل خيل أمحس ورجالها‪ [90 .‬و ذو‬
‫اخللصة َكن بنياان بلمين به متاثيل تعبد‪ ،‬وأمحس هو اجلد الكرب للقبيَل الِت سار اإلْيا قيس بن جرير‬
‫اذلي قام ّبذه املهمة‪.‬‬
‫‪ ‬اإنشاء املساجد ِف القرى واملدن ّبا‪ ،‬قال رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬من بىن‬
‫مسجدً ا هلل تعاىل؛ بىن هللا هل ِف اجلنة مثهل) ‪91‬‬

‫جرا عظميًا‪ ،‬فهذا‬


‫وقد جعل الإسالم ملن يوسع مسجدً ا‪ ،‬ويزيد ِف مساحته أ ً‬
‫عامثن ‪-‬ريض هللا عنه‪ -‬يقول للمسلمني‪ :‬أنشدُك هللا‪ ،‬هل تعلمون أن املسجد ضاق بأههل؛ فقال‬
‫رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ‪( :‬من يشرتي بقعة أل فالن فزييدها ِف املسجد خبري هل مْنا ِف اجلنة؟)‬
‫فاشرتيهتا من صلب مايل‪ ،‬فزدهتا ِف املسجد)‪92‬‬
‫ُ‬
‫‪ ‬حتصني املدن والقرى وحاميهتا من جهامت املعتدين بإقامة احلصون حولها اإذا َكنت من مدن‬
‫الثغور أو يظن جهوم العدو علْيا‪ ،‬فَكن املسلمون يبنون املدن ويقميون ّبا احلصون‪.‬‬
‫‪-‬أل يرفع املسَل بناءه عن بناء أخيه اإل إبذنه‪ ،‬وعن حق اجلار قال رسول هللا صىل هللا عليه وسَل‬
‫فتحجب عنه الرحي؛ اإل أن يأذن)‪]93‬‬ ‫َ‬ ‫‪( :‬ول تس تطيل عليه بلبنيان‪،‬‬
‫فالإسالم مل حيرم رفع البنيان وتشييده‪ ،‬ولكنه اشرتط ذِل بإذن اجلار حىت ل حيجب عنه الرحي‪،‬‬
‫وحىت ل يكشف عوراته‪.‬‬

‫‪90‬البخاري]‪،‬‬
‫‪[ 91‬مسلم‪].‬‬
‫‪[ 92‬النسائي‪].‬‬
‫‪[ 93‬الطبراني‬
‫‪58‬‬
‫فن العامرة الإسالمية‬

‫نشأت العامرة الإسالمية كحرفة بس يطة ِف البناء ِف أبسط أشَكهل‪ ،‬مث تطورت حىت َّكونت مجموعة‬
‫الفنون املعامرية اخملتلفة‪.‬‬
‫وقد اش متل الفن املعامري الإساليم عىل عدة أنواعٍ مْنا‪ :‬فن عامرة املساجد‪ ،‬وهو أرىق فن معامري‬
‫عند املسلمني‪ ،‬وفن عامرة القصور‪ ،‬وفن عامرة البيوت‪ ،‬وفن عامرة املدارس‪ ،‬وقد برع املسلمون ِف فنون‬
‫العامرة بلك أشَكلها؛ لهنم فهموا مناذج العامرة ِف احلضارات السابقة مث طوروها مبا يتناسب مع عقيدهتم‬
‫وديْنم‪ ،‬مث أبدعوا بعد ذِل منوذ ًجا اإسالميًّا ًّ‬
‫خاصا ّبم‪.‬‬
‫وس نأخذ أمثَل لفن العامرة الإسالمية ِف بعض العصور الإسالمية لرنى مدى حمافظة املسلمني عىل‬
‫أسس وقواعد البناء الإساليم‪.‬‬
‫عرص النبوة واخللفاء الراشدين‪:‬‬
‫طبق املسلمون ِف عهد النيب صىل هللا عليه وسَل ‪ ،‬واخللفاء الراشدين قواعد البناء ِف الإسالم‬
‫أروع تطبيق‪.‬‬
‫‪ )1‬املسجد النبوي‪ :‬فقد بىن النيب صىل هللا عليه وسَل املسجد النبوي بملدينة‪ ،‬وَكن هذا‬
‫املسجد بس ًيطا‪ ،‬مبا يتفق مع روح ادلين الإساليم‪ ،‬ومع قواعد وأسس البناء ِف الإسالم‪،‬‬
‫وَكن املسجد مرب ًعا‪ ،‬وحصنه الوسط مكشوفًا‪ ،‬ل سقف عليه‪ ،‬أما جوانبه الربعة فَكنت‬
‫مسقوفة‪ ،‬وَكنت املساحة املسقوفة من احلائط اجملاور للقبَل أكرب من غريها‪ ،‬وجدير بذلكر‬
‫الإشارة اإىل أمهية وجود الصحن املكشوف ِف وسط املسجد ل إالضاءة والهتوية‪..‬‬
‫‪ )2‬املسجد القىص‪ :‬أقام َعر بن اخلطاب ‪-‬ريض هللا عنه‪ -‬مسجدً ا خشبيًّا عند الصخرة‬
‫املقدسة الِت ذكرت ِف قصة ا إلرساء واملعراج‪ ،‬وإاىل اجلنوب من قبة الصخرة يوجد املسجد‬
‫القىص‪ ،‬حيث أقىص مَكن وصل اإليه الرباق ب رسول هللا صىل هللا عليه وسَل ليَل‬
‫ا إلرساء‪.‬‬
‫‪ )3‬مدينة الفسطاط الِت بناها َعرو بن العاص ‪-‬ريض هللا عنه‪ِ -‬ف مرص‪ ،‬بأمر اخلليفة َعر‬
‫بن اخلطاب ‪-‬ريض هللا عنه‪ ،-‬واختار لها موق ًعا م ً‬
‫متزيا عىل النيل‪،‬‬
‫‪59‬‬
‫عرص اخلالفة الموية‪:‬‬
‫مع كَثة الفتوحات ِف عرص المويني كَث التصال بحلضارات اخملتلفة والتأثر‬
‫ّبا‪ ،‬ومل يقف املسلمون عند حد التأثر والاقتباس‪ ،‬فابتكروا وطوروا وأبدعوا ودخلوا جمال التنافس‬
‫مع احلضارات الخرى‪.‬‬
‫ومن أُه ما تركه لنا المويون‪:‬‬
‫‪ )1‬وتعد من أُه وأبدع أاثر المويني‪ ،‬ويه أية ِف امجلال والرباعة املعامرية‪ ،‬وقد بناها عبد‬
‫املكل بن مروان س نة (‪ 72‬هـ)‪،‬‬
‫‪ )2‬املسجد الموي بدمشق‪ :‬ويعد هذا املسجد من أُه فنون العامرة الإسالمية‪ ،‬فقد بناه‬
‫الوليد بن عبد املكل بني عايم (‪ 96-88‬هـ)‪،‬‬
‫‪ )3‬قصور المويني‪ :‬اس تحدث المويون نوعًا جديدً ا من املباين وهو القصور‪ ،‬ومْنا قرص َُعرية‪،‬‬
‫مرتا من مدينة عامن عامصة الردن‪ ،‬وقد بناه الوليد‬ ‫صغريا عىل بعد مخسني كيلو ً‬
‫قرصا ً‬ ‫وَكن ً‬
‫ابن عبد املكل ليسرتحي فيه عند خروجه للصيد‪ ،‬ومْنا قرص الشامل اذلي بناه اخلليفة هشام‬
‫بن عبد املكل‪ ،‬ومْنا قرص املش ىت‪ ،‬وقد َكنت هذه القصور عىل درجة عالية من الرباعة ِف‬
‫التصممي وجودة الزخرفة‪.‬‬
‫وِف عهد العباس يني زاد التصال بحلضارات اخملتلفة‪ ،‬فزاد الاهامتم بلعامرة وزخرفهتا‪ ،‬واش تد اهامتهمم‬
‫ببناء القصور واملدن‪.‬‬
‫مدينة بغداد‪ :‬فقد بىن اخلليفة املنصور مدينة بغداد لتصري عامصة العباس يني‬
‫اجلديدة‪ ،‬وِف بناء هذه املدينة برزت ادلراسات اجليدة لختيار املوقع والتخطيط قبل التنفيذ‪ ،‬فقد‬
‫طلب اخلليفة أبو جعفر املنصور رمس ختطيط لها عىل الرض قبل اإنشاهئا‪ ،‬وختطيط مدينة بغداد‬
‫دائري‪ ،‬ولها أربعة مداخل رئيس ية حمورية‪ ،‬واس متر بناء هذه املدينة من عام (‪ 145‬هـ) حىت عام‬
‫(‪147‬هـ) وَكن للمدينة سوران خارجيان؛ ادلاخيل مْنام أمسك وأعىل‪ ،‬وَكن حييط بسور املدينة من‬
‫اخلارج خندق عرضه س تة أمتار‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫اخلامتة‬
‫إان احلضارة الإسالمية يه احلضارة المنوذج بني حضارات ادلنيا‪ ،‬فهيي حضارة جتمع بني العلوم‬
‫الرشعية والعلوم احلياتية‪ ،‬جتمع بني بناء املصانع واملادة وبني بناء الإنسان‬
‫كثريا عىل أنه خُلقنا مسلمني‪ ،‬ولنا الفخر أن محلنا هذا ادلين‪ ،‬وأن ِصان أتباعًا‬ ‫خريا حنمد هللا ً‬ ‫وأ ً‬
‫لس يد املرسلني‪ ،‬وخري البرش أمجعني محمد صىل هللا عليه وسَل‪ ،‬كام أ َّن لنا الفخر أن جعل هللا عز وجل‬
‫لنا هذا التارخي امليضء‪ ،‬وهذه احلضارة النقية‪ ،‬وإانه أن الوان أن نرفع رؤوس نا عالية‪ ،‬وأن نبايه اخللق‬
‫أمجعني بأننا وامحلد هلل مسلمون‬
‫وامحلد هلل اذلي هل ما ِف السموات وما ِف الرض ‪ ،‬وهل احلُك ِف الخرة ‪ ،‬وهو احلكمي اخلبري‪.‬‬
‫وصىل هللا وسَل وبرك عىل س يد املرسلني ‪ ،‬وأرشف اخمللوقني ‪ ،‬وعىل أهل وحصبه وأتباعه أمجعني‪.‬‬

‫‪61‬‬
62
63

You might also like