You are on page 1of 167

‫لـمـاذا نـغـفـر؟‬

‫?‪Why forgive‬‬
‫يوهان كريستوف آرنولد‬
‫‪Johann Christoph Arnold‬‬

‫قصص حقيقية عن الشفاء من سرطان‬


‫ُ‬
‫البغض والكراهية‬

‫المقدمة بقلم‬
‫ستيف تشاك ‪Steve Chalke‬‬

‫دار المحراث للنشر‬


‫‪PLOUGH PUBLISHING HOUSE‬‬
‫يرجى مشاركة هذا الكتاب مع أصدقائكم‪ .‬وال تترددوا في إرساله في البريد اإللكتروني أو طبع‬
‫الكتاب كليا أو جزئيا‪ ،‬لكن الرجاء عدم إجراء أي تغيير بأية طريقة كانت‪ .‬وإذا رغبتم في عمل‬
‫نسخ متعددة منه لتوزيعه على نطاق واسع‪ ،‬أو إلعادة استنساخ أجزاء منه كرسائل إخبارية‬
‫أو دورية‪ ،‬فيرجى مراعاة القيود التالية‪:‬‬

‫ال يجوز إعادة نشره ملكاسب مادية‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫يجب إدراج عبارة االئتمان التالية‪" :‬حقوق الطبع والنشر لدار املحراث‬ ‫‪‬‬
‫للنشر ‪ - Plough Publishing House‬سنة ‪3102‬م‪ .‬تم استخدامه بعد‬
‫اإلذن"‬

‫إن كتاب يوهان كريستوف آرنولد ‪:Johann Christoph Arnold‬‬


‫"ملاذا نغفر؟ ?‪ "Why forgive‬واملقدمة بقلم ستيف تشاك ‪ Steve Chalke‬هو من إصدار دار‬
‫املحراث للنشر ‪ ،Plough Publishing House‬في عناوينها التالية‪:‬‬

‫‪Robertsbridge, England‬‬
‫‪Rifton, New York‬‬
‫‪Elsmore, Australia‬‬

‫‪www.plough.com/ar‬‬

‫‪ISBN:‬‬ ‫‪978-0-87486-866-1‬‬ ‫الترقيم الدولي (ردمك)‪:‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬


‫‪Copyright © 2008 by Plough Publishing House‬‬
‫‪Farmington, PA, 15437 USA‬‬
‫‪All Rights Reserved‬‬
‫ـَت ِ ـ‬
‫ابـ‪ :‬ـ‬ ‫الكـ ـ‬ ‫إِ ـ ـ‬
‫ـْه َد ـاءـ ـِ‬

‫إىـلـ ـ‬
‫زوـَجـيـت ـ‬
‫ـفييرنَــاف‬
‫عضيدـه ِ‬
‫اـِلـ‪،‬‬ ‫َـ‬ ‫الـيـتـِـ ِدوـنـ َمــ ـ‬
‫ـَّبتــهاـوَـت‬
‫ـَّياـ ـمِـن ـهذهـ ِـالكت ِ ـ‬
‫بـ‪.‬‬ ‫نتـ َـكتبتــ ـأ ـ‬
‫اـك ـ‬
‫ـ‬ ‫ـ ـ‬
‫ـَم‬
‫الـمحتـويــــات‬
‫تقديم ‪6 ......................................................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫تمهيد‪ :‬هـل يمـكن الغفـران ملثـل هذا الرجـل؟ ‪9 .......................‬‬ ‫‪‬‬

‫‪03‬‬ ‫‪ )1‬سرطان النقمة والبغض ‪................................................................‬‬


‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫‪01‬‬ ‫باملحبة ‪........................................................‬‬ ‫‪ )2‬التغلب على الكراهية‬
‫‪31‬‬ ‫‪ )3‬إنهاء دوامة الحقد ‪..........................................................................‬‬
‫‪26‬‬ ‫‪ )4‬باركوا الذين يضطهدونكم ‪.............................................................‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪44‬‬ ‫‪ )5‬أ ِح ُّبوا أ ْع َد َاءك ْم ‪...............................................................................‬‬
‫‪32‬‬ ‫‪ )6‬الغفران والعدالة ‪...........................................................................‬‬
‫‪64‬‬ ‫‪ )7‬الغفران حينما تكون املصالحة مستحيلة ‪....................................‬‬
‫‪01‬‬ ‫‪ )8‬الغفران في الحياة اليومية ‪.............................................................‬‬
‫‪12‬‬ ‫‪ )9‬الغفران في الزواج ‪..........................................................................‬‬
‫‪92‬‬ ‫‪ )11‬مسامحة الوالد أو الوالدة ‪..........................................................‬‬
‫‪014‬‬ ‫‪ )11‬مسامحة أنفسنا ‪...........................................................................‬‬
‫‪004‬‬ ‫ّ‬
‫املسؤولية ‪...........................................................................‬‬ ‫‪ّ )12‬‬
‫تحمل‬
‫‪032‬‬ ‫‪ )13‬إلقاء اللوم على هللا ‪......................................................................‬‬
‫‪022‬‬ ‫‪ )14‬تأثير الغفران ينتشر مثل املوجات املائية ‪..................................‬‬

‫خاتمة‪ :‬هوذا الـكـل قد صار جديدا ‪033 ......................................‬‬ ‫‪‬‬


‫نبذة من سيرة املؤلف ‪033 ............................................................‬‬ ‫‪‬‬
‫نبذة عن مجتمعات برودرهوف املسيحية ‪036 ...... Bruderhof‬‬ ‫‪‬‬
‫تـقـديـم‬

‫ماذا تفعل عندما ُيفاجئك صديقك بتصويب طلقات مسدسه نحوك؟‬

‫سدسه‪ ،‬وقال أنه لو‬ ‫كانت إجابة هذا السؤال سهلة لروجر‪ ،‬فقد استخدم م ّ‬
‫ألن حياته كانت قد امتألت برغبة‬ ‫مرة أخرى‪ّ ،‬‬ ‫أتيحت له الفرصة الستخدمه ّ‬
‫م ّ‬
‫تأججة في االنتقام ملوت ابنته‪.‬‬
‫كانت ابنته سارة خارج الدار تركب دراجتها عندما صدمها سائق ثمل‬
‫تسبب في تلك‬‫وماتت في الحال‪ .‬ولم يكن هناك شك من جهة الشخص امل ّ‬
‫الحادثة‪ ،‬وقد أرسل السائق إلى السجن بتهمة القتل الذي لم يكن يحمل‬
‫رخصة قيادة سارية بسبب إدانته سابقا بالقيادة وهو ثمل‪ .‬لكن لم يكن هذا‬
‫العقاب كافيا لروجر‪ ،‬فعندما أطلق سراح السائق من السجن استعار روجر‬
‫مسدس وأطلق عليه الرصاص م ّ‬
‫تعمدا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وانقلبت األدوار اآلن‪ ،‬ووجد روجر نفسه م ّتهما بمحاولة قتل‪ .‬والغريب أنه‬
‫ّ‬
‫بالرغم من أنه كان يحاكم بتهمة محاولة قتل إنسان بصورة متعمدة لكن تمت‬
‫أي نوع من أنواع الندم‪ ،‬فقد وجدت‬ ‫بد ّ‬
‫تبرئته‪ .‬أما بالنسبة للسائق‪ ،‬الذي لم ي ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هيئة املحلفين أن موقفه كان مثيرا لالشمئزاز لدرجة أنهم أصدروا حكمهم‬
‫ّ‬
‫باإلجماع بأن السائق "ليس مذنبا"‪ .‬إال أن روجر لم يشعر باالكتفاء على الرغم‬
‫من نجاحه في اإلفالت من عقوبة سجن طويلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وعندما ّ‬
‫تحدثت معه ومع زوجته "كاثي"‪ ،‬كان كل ما يفكران فيه هو‬
‫سدس‬ ‫االنتقام من قاتل سارة‪ ،‬فسألت روجر إن كان الضغط على زناد امل ّ‬
‫ورؤية ذلك الرجل ينهار من األلم بعدما يطلق النار عليه سيجعله يشعر‬
‫بارتياح‪ ،‬فقال‪" :‬ال‪ .‬إن ما يريحني هو قتله فقط"‪ .‬فسألت كاثي عن مشاعرها‬
‫تجاه هذا األمر‪ ،‬فقالت‪" :‬لن أكون سعيدة إن قتل روجر ذلك الرجل‪ ،‬ألن هذا‬

‫‪6‬‬
‫تقديم ‪7‬‬

‫يعني ّأنني لن أتمكن من قتله بنفس ي‪ ،‬فأنا أريد الضغط على ّ‬


‫الزناد بنفس ي‪،‬‬
‫ُّ‬
‫وأود أن أراه ّ‬
‫ميتا‪ ،‬وأعلم أنني مسؤولة عن موته"‪.‬‬
‫ّ‬
‫تأثرت كثيرا بالحزن الذي كسر قلبيهما وأنا جالس معهما في منزلهما‪ ،‬ولم‬
‫ّ‬
‫أتصور املحنة الرهيبة التي كانا يم ّران بها‪ ،‬بل وشككت في‬ ‫يكن بمقدوري أن‬
‫ّ‬
‫تفكيري بعدالة القانون الذي أعطى قاتل سارة عقابا مخففا من جهة‪ ،‬وبرود‬
‫أي شعور بالندم هز بدني من جهة‬ ‫القاتل وقسوة عنجهيته وعدم إظهاره ّ‬
‫أخرى‪ .‬لكني لم أستطع مقاومة الشعور بحزن أكبر بسبب الطريقة التي كانا‬
‫تسببت في شعورهما بالتعاسة‪ .‬وبدا لي‬‫يتعامالن بها مع موت ابنتهما تلك التي ّ‬
‫ّأن عدم قدرتهما على الغفران ونسيان األمر جعلهما في مواجهة جحيم آخر‪.‬‬
‫فمع صباح ك ّل يوم جديد كانت حياتهما تمتلئ بالشعور بالبغض والكراهية‪،‬‬
‫وهو أمر مميت مثله مثل السرطان‪ .‬لكن‪ ،‬هل هذا ما كانت تريده سارة حقا‬
‫دمر حياتهما بالرغم من ّأنه ليس له ّ‬
‫أي‬ ‫الحي الذي ي ّ‬
‫لوالديها؛ ذلك الجحيم ّ‬
‫تأثير على القاتل نفسه؟!‬

‫الغفران؟‬‫أمثال "روجر" و "كاثي" أن يتعلّما ُ‬


‫ُ‬ ‫هل هناك طريقة يستطيع بها‬
‫ّ‬ ‫وهل كان يمكن لهما أن ّ‬
‫يتحررا من الشعور بمرارة البغض الذي كان يعذبهما؟‬
‫يحاول املؤلف يوهان كريستوف آرنولد في كتابه "ملاذا نغفر؟" أن يجيب عن‬
‫بقصص أناس وجدوا الق ّوة للغفران‬
‫ِ‬ ‫بعض من هذه األسئلة‪ .‬ويمتلئ الكتاب‬
‫ألولئك الذين أساءوا إليهم على الرغم من الظروف الصعبة‪ .‬وعندما غفروا‬
‫إنهم رجال ونساء عاديين مثل "جوردون‬ ‫فعال‪ ،‬حصلوا على سالم الروح‪ّ .‬‬
‫ويلسون" الذي قتلت ابنته بسبب قنبلة من الجيش االيرلندي السري ‪ IRA‬في‬
‫مدينة أينيسكيلين‪ ،‬و "فان تاي كيم َفك" وهي طفلة محترقة وعارية في ّ‬
‫سن‬
‫تسببت فيه حرب فيتنام‪ .‬ويحوي الكتاب أيضا‬ ‫التاسعة‪ ،‬وسط الخراب الذي ّ‬
‫قصصا للغفران من مجتمعات كنيستنا التي تعيش حياة مشتركة – مجتمعات‬
‫برودرهوف املسيحية ‪ – Bruderhof‬مثل‪ :‬أزواج يعانون من الشجار املرير‪ ،‬أو‬
‫ارتكبوا ّ‬
‫خطية الزنا‪ ،‬أو كانوا ضحايا إلساءة املعاملة في مرحلة الطفولة‪.‬‬
‫ويروي املؤلف آرنولد ك ّل تلك القصص بمنتهى العطف والحنان وبدون‬
‫ألي شخص أن يقرأها دون‬ ‫أي حال‪ ،‬قصص م ّؤثرة وال يمكن ّ‬ ‫إدانة‪ .‬وهي على ّ‬
‫‪ 8‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫ألنها تحثنا على سبر أغوار جوانب طبيعتنا التي قد ت ّهدد بدمارنا إن‬ ‫أن ّ‬
‫يتغير‪ّ ،‬‬
‫قدم لنا الوسيلة الناجحة للخروج من لعنة مرارة‬ ‫لم نراجعها‪ .‬لكنها أيضا ت ّ‬
‫هامة لجميعنا من الذين يجدون‬ ‫قدم هذا الكتاب رسالة ّ‬‫الحقد والكراهية‪ .‬وي ّ‬
‫صعوبة في أن يغفروا لآلخرين أو ألنفسنا‪ ،‬كما هو الحال مع كثيرين‪.‬‬
‫لكن ال تعتمد على كلماتي‪ ،‬فعليك أن تقرأ الكتاب بنفسك‪...‬‬

‫سـتـيـف تـشـاك ‪Steve Chalke‬‬


‫قسيـس بريـطـاني وكاتـب وناشـط اجتمـاعي‬
‫لنـدن ‪7997‬‬
‫تمهيد‬

‫ـكن ُ‬
‫الغفـران لمثـل هذا الرجـل؟‬ ‫هـل يم ُ‬

‫ّ‬
‫يا له من قانون صعب‪ ،‬ذلك الذي يقول أننا ال يمكن أن نشفى من جروحنا‬
‫النفسية العميقة ما لم نغفر‪.‬‬

‫قول من‬
‫آالن باتون ‪Alan Paton‬‬
‫كاتب من جنوب أفريقيا وناشط مناهض للفصل العنصري‬

‫في صباح أحد األيام في سبتمبر ‪ ،7991‬وبينما كنت جالسا احتس ي القهوة‬
‫ّ‬
‫املحلية‪ ،‬ارتعبت حين قرأت نبأ في الجريدة يخبرنا باختطاف‬ ‫وأقرأ الصحف‬
‫فتاة عمرها سبع سنوات في وضح النهار‪ ،‬ولقد تابعت القصة عن كثب طوال‬
‫ّ‬
‫األيام التي تلت‪.‬‬
‫لقد تم العثور على تلك الفتاة في خالل أسبوع من اختطافها‪ ،‬ملقاة في‬
‫تعرضت‬‫منطقة من الغابات على بعد بضعة أمتار من سجن املدينة‪ ،‬وقد ّ‬
‫حتى املوت‪ ،‬واألسوأ من ذلك هو ّأن الرجل الذي اعترف‬
‫لالغتصاب والضرب ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أي أنه كان شخصا‬ ‫عارف الطفلة‪،‬‬
‫بارتكابه للجريمة‪ ،‬اتضح أنه كان من م ِ‬
‫يمكنها أن تثق به!‬

‫‪9‬‬
‫‪ 71‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ُّ‬
‫يستحق‬ ‫رد فعل الجمهور فكان من ال ُممكن التن ُّبؤ به طبعا‪ :‬هذا الرجل‬
‫أما ّ‬
‫املوت‪ ،‬ويجب أن يحكم عليه بأقص ى عقوبة‪ .‬وعلى الرغم من ّأن املدعي العام‬
‫كان قد وعد بتقليل العقوبة ملدة أقصاها عشرين عاما في مقابل تبادل‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫املعلومات التي ّأدت إلى الوصول لجثة الطفلة‪ ،‬إال أنه عاد وعدل عن وعده‬
‫ّ‬ ‫عدة أيام قائال ّإنه تعاهد مع الشيطان ّ‬ ‫بعد ّ‬
‫حتى يجد الطفلة‪ ،‬وإنه يأمل أن‬
‫عام في تاريخ نيويورك يقوم بإرسال قاتال إلى غرفة اإلعدام‪.‬‬ ‫يصبح ّأول نائب ّ‬
‫ّ‬
‫غير أن سكان املدينة اقترحوا بحسب ما جاء في الصحف أن تطلق السلطات‬
‫ُّ‬ ‫سراح هذا املجرم املغتصب ّ‬
‫حتى "يتولوا هم أمره"‪.‬‬
‫ّ ّ‬
‫وعلى الرغم من أن تلك املشاعر الغاضبة مفهومة‪ ،‬إال أنني تساءلت‪ :‬هل‬
‫ّ‬
‫الضحية املكلومة؟! وقد شعرت تماما بما‬ ‫ستأتي هذه املشاعر بالعزاء ألسرة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يجب أن يكون عليه رد فعلي كراع كنس ي‪ ،‬ورتبت ممثلين من كنيستي‬
‫ّ‬
‫لوالدي الطفلة‪ ،‬وحاولت جاهدا زيارة‬ ‫للمشاركة في الجنازة‪ ،‬وأرسلت الزهور‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األسرة لكن ّي لم أتمكن من ذلك‪ ،‬إال أن قلبي كان ما يزال حزينا‪ .‬وجاءني‬
‫علي زيارة القاتل‪ ،‬وذلك لكي أجعله يتواجه مع أفعاله‬ ‫إحساس أنه يحب ّ‬
‫وأساعده ليتوب عما كان قد ارتكبه‪( ،‬فقد كان في نظري ّ‬
‫حتى تلك اللحظة‬
‫وحشا ال أعرف شكله)‪.‬‬

‫أعلم أنّ البعض سينظرون باستنكار لتلك الزيارة إن لم يسيئوا فهمها‬


‫ك ّليا‪ ،‬لكني كنت مقتنعا أن هذا هو واجبي‪ .‬وهكذا وجدت نفس ي بعد ّ‬
‫عدة‬
‫أشهر جالسا بمفردي في سجن املدينة وجها لوجه مع ذلك القاتل‪ ،‬وقد‬
‫ْ‬
‫وتركت في‬ ‫ص ِعقت من األثر الذي َتركته تلك الساعات التي قضيتها معه ّ‬
‫علي‬
‫داخلي مجموعة من األسئلة من دون إجابات‪ ،‬وهي تلك األسئلة التي قادتني إلى‬
‫أي شخص آخر أن يغفر لهذا‬ ‫علي أو على ّ‬‫كتابة هذا الكتاب‪ ،‬ملاذا يجب ّ‬
‫بد هو من‬ ‫ُّ‬
‫الرجل؟ وما الذي سيغيره الغفران؟ وهل يمكنني أن أغفر له إن لم ي ِ‬
‫حقي أنا أن‬‫أي شعور بالندم؟ وإن أبدى شعورا بالندم‪ ،‬فهل يكون من ّ‬ ‫جهته ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شخصيا بطريقة مباشرة)؟!‬ ‫ؤذني أنا‬ ‫أغفر له (مع أنه لم ي ِ‬
‫أقل من ثالثة شهور على زيارتي للقاتل‪ ،‬واجه القاتل أخيرا‬ ‫وبعد مض ّي ّ‬
‫تعج بالحاضرين‪ ،‬ويمكنك أن تشعر‬ ‫أسرة الضحية‪ ،‬وقد كانت قاعة املحكمة ُّ‬
‫تمهيد ‪ -‬هـل يمـكنُ ُ‬
‫الغفـران لمثـل هذا الرجـل؟ ‪77‬‬

‫جرد دخولك إليها‪ .‬كانت العقوبة هي السجن مدى الحياة‬ ‫بمشاعر العداوة بم ّ‬
‫وجهها للم ّتهم قائال له‪" :‬أرجو أن يكون الجحيم الذي‬
‫التي تبعها القاض ي بعبارة ّ‬
‫ّ‬
‫األبدية!"‬ ‫جرد بداية للجحيم الذي ستواجهه في‬ ‫تواجهه ّهنا اآلن في السجن م ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫لوالدي‬ ‫وسمح أخيرا للم ّتهم أن يتكلم بكلمات قليلة‪ ،‬فقال بصوت مرتفع‬
‫صلي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطفلة ّإنه آسف فعال على األلم الذي ّ‬
‫يوميا طالبا‬ ‫تسبب فيه لهما وإنه ي‬
‫الغفران‪ ،‬وعندما انتشر الهمس الغاضب بين الجالسين‪ ،‬سألت نفس ي أصعب‬
‫سؤال‪" :‬هل يمكن أن يغفر ملثل هذا الرجل؟"‬

‫يـوهـان كريسـتـوف آرنـولـد ‪Johann Christoph Arnold‬‬


‫مـؤلـف الكتـاب ورا ٍع كنسـي في مجـتمعـات‬
‫بـرودرهـوف المسـيحيـة ‪Bruderhof‬‬
‫وصـاحب برنـامج كسـر الـدائـرة ‪Breaking the Cycle‬‬
‫لتـرويـج الـغفـران في الـمـدارس وبيـن البـلدان‬
‫الفصل األول‬

‫سـرطـان الـنـقـمـة والـبـغـض‬

‫ُ‬
‫من يختار االنتقام يجب عليه أن يحفر قبرين‪.‬‬

‫مثل صيني‬

‫السر الذي إن لم َ‬
‫نسع‬ ‫ُّ‬ ‫الغفران هو الطريق للسالم والسعادة‪ ،‬وهو‬ ‫إنَّ ُ‬
‫ّ ّ‬ ‫الكتشافه ّ‬
‫لظل خفيا عنا‪ .‬فالهدف من هذا الكتاب هو ليس أن يكون بمثابة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عملي للغفران‪ ،‬ألنه من املستحيل أن تخبر شخصا كيف يجب أن‬ ‫مرشد‬
‫يغفر‪ ،‬لكني آمل أن يساعد هذا الكتاب في توضيح السبب وراء الحاجة إلى‬
‫الغفران‪.‬‬
‫ّإن الغفران أمر ممكن‪ ،‬وهذا هو ما تظهره قصص هذا الكتاب‪ ،‬حيث‬
‫حتى في أصعب الظروف‪ .‬وأنا ّ‬ ‫علم الناس أن يغفروا ّ‬ ‫ّ‬
‫أتمنى أن أساعدك‬ ‫ت‬
‫للوصول إلى الباب الذي يقودك إلى طريق الغفران بسردي لتلك القصص‪،‬‬
‫جرد أن تصل إلى الباب‪ ،‬فستكون أنت الشخص الوحيد الذي يكون‬ ‫وبم ّ‬
‫بمقدوره أن يفتحه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ما معنى الغفران؟ قال س ي‪ .‬أس‪ .‬لويس ‪ C. S. Lewis‬أنه يتعدى حدود‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلنساني‪ ،‬إذ أنه يصفح عن تلك األمور التي ال يمكن الصفح عنها أبدا‪.‬‬ ‫العدل‬
‫فهو إذن أكبر من مجرد ِالتماس العفو‪ ،‬فعندما نلتمس نحن العفو من‬
‫ّ‬
‫شخص ما‪ ،‬فإننا ننحي جانبا األخطاء التي ارتكبها وال نعاقبه عليها‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫سرطان النقمة والبغض ‪71‬‬

‫لكننا عندما نغفر‪ ،‬فنحن ال نتسامح في الخطأ أو الفعل املتعمد للشر فحسب‬
‫جيدا أن ذلك الشخص هو املسئول عن الخطأ‪ ،‬ونسعى إلى‬ ‫بل نعلم أيضا ّ‬
‫إعادة تأهيله واستعادته مرة أخرى‪ .‬وقد ال يكون غفراننا مقبوال دائما‪ ،‬لكن‬
‫جرد أن نبادر بالغفران فستصبح نفوسنا طاهرة من الشعور بالكراهية‪ .‬ر ّبما‬ ‫بم ّ‬
‫األقل لن نستخدم األلم الذي نشعر به إلحداث‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫نظل مجروحين‪ ،‬لكن ّنا على‬
‫مزيد من األلم لآلخرين‪.‬‬
‫ّ‬
‫الخاصة بإساءة‬ ‫ّ‬
‫السلبية‬ ‫مرة أخرى تلك الذكريات‬ ‫فنحن عندما نستعيد ّ‬
‫يهم ما إذا‬‫حقنا‪ ،‬فإن أمرا كهذا سيستفحل ليصير ظنونا سيئة‪ ،‬وال ّ‬ ‫آخرين في ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كان سبب هذا الظن صحيحا أم وهما‪ ،‬إذ أن تأثير كالهما واحد‪ .‬فبمجرد أن‬
‫حتى ننفجر ونفسد ّ‬
‫كل‬ ‫الظن قد استهلك قوانا ّ‬
‫ّ‬ ‫نصل لتلك املرحلة‪ ،‬سنجد ّأن‬
‫ش يء من حولنا‪.‬‬
‫جميعنا يعرف أناس يشعرون بالبغض‪ ،‬فمثل هؤالء لديهم ذاكرة مدهشة‬
‫ألدق التفاصيل‪ ،‬وهم يغرقون في فخ الشعور بالشفقة على الذات وفخ‬ ‫ّ‬
‫الكراهية‪ .‬كما ّأنهم يسجلون ك ّل ظلم وقع عليهم‪ ،‬ويكونون على استعداد دوما‬
‫ّ‬ ‫ألن يظهروا لآلخرين إلى ّ‬
‫أي مدى هم متأملون‪ ،‬وهم قد يبدون هادئين من‬
‫الخارج‪ ،‬لكنهم يكونون في واقع األمر مملوئين بالكراهية من الداخل‪.‬‬
‫وعادة ما يدافع هؤالء الناس عن شعورهم بالسخط والنقمة باستمرار‬
‫بحد ذاته ‪ -‬كفيل ألن يكون‬ ‫قائلين ّإنهم قد تأملّوا وعانوا كثيرا‪ ،‬وأمرا كهذا ‪ّ -‬‬
‫لكن الحقيقة هي ّأن هؤالء الناس‬ ‫ذريعة تعفيهم عن مسامحة غيرهم‪ّ .‬‬
‫يحتاجون إلى الغفران أكثر من غيرهم‪ ،‬فقلوبهم في بعض األحيان تمتلئ‬
‫بالضغينة للدرجة التي تجعلهم يفقدون القدرة على ّ‬
‫املحبة!‬
‫منذ ما يقرب من عشرين سنة تحدثت وأبي لوقت طويل مع امرأة من‬
‫هذا النوع محاولين مساعدتها‪ ،‬فقد مات زوجها لكنها كانت قاسية وبال مشاعر‬
‫مثل الصخرة‪ ،‬وعاشت حياة بال لوم في نظر العالم‪ ،‬إذ كانت شديدة الترتيب‬
‫والتدقيق وتعمل بجد‪ ،‬وأمينة ومقتدرة ويعتمد عليها‪ ،‬لكنها كانت ال تستطيع‬
‫ّ‬
‫أن تحب‪ .‬وبعد شهور من الصراع‪ ،‬اتضح السبب وراء شعورها بفتور القلب‪،‬‬
‫إذ ّأنها لم تكن قادرة على الغفران‪ ،‬ولم يكن بإمكانها اإلشارة إلى ألم م ّعين‬
‫‪ 71‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫نحنية تحت ثقل اآلالف من الظنون الصغيرة‬ ‫بعينه بحياتها‪ ،‬لكنها كانت م ّ‬
‫مجتمعة معا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سلبية للحياة‪ .‬فهي هدامة‬ ‫ّإن مرارة الكراهية هي أكثر من م ّ‬
‫جرد نظرة‬
‫وتهدم الشخص بحد ذاته أيضا‪ .‬فعندما تحتفظ أنت عمدا بالضغينة تجاه‬
‫دمر على نفسك‪ .‬إذ ّأن أمرا كهذا سيفتح‬ ‫شخص آخر‪ ،‬فسيكون لهذا تأثير م ّ‬
‫عرضين ألفكار الكراهية واالنتقام‪ ،‬بل وألفكار القتل‪.‬‬‫الباب للشر‪ ،‬وسيتركنا م ّ‬
‫ّ‬
‫الشد النفس ي يمكن‬ ‫وبهذا تتضرر النفس ويتضرر الجسد أيضا‪ .‬ونحن نعلم أن‬
‫يتسبب في حدوث قرحة أو آالم الصداع‪ ،‬لكننا عادة ما نخفق في رؤية‬ ‫ّ‬ ‫أن‬
‫العالقة بين مرارة االستياء واألرق على سبيل املثال‪ .‬فقد أظهرت األبحاث‬
‫الطبية عالقة وثيقة بين الغضب الذي تكون مشكلته غير محلولة‪ ،‬وبين‬ ‫ّ‬
‫النوبات القلبية‪ :‬فيبدو أن الذين يحبسون استيائهم ومرارتهم يكونون أكثر‬
‫عرضة لإلصابة باألمراض من أولئك الذين يتمكنون من تهدئتها عن طريق‬
‫التنفيس عن مشاعرهم‪.‬‬

‫"برندا ‪ "Brenda‬امرأة شا ّبة طُلب مني ُمساعدتها قبل مدة قصيرة‪ ،‬لقد‬
‫عمها القسيس‪ .‬وعلى الرغم من ّأنها‬ ‫ّ‬
‫كانت قد تعرضت لالعتداء الجنس ّي من ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ضحية بريئة لذلك الرجل الفاسق والرهيب‪ ،‬إال أن‬ ‫ومن غير شك كانت‬
‫شعورها بالبؤس والكآبة كان قد صار جزءا من تكوينها النفس ّي‪ ،‬فلم ترغب بل‬
‫لم تقدر على تجميع قواها النفسية لتغفر‪.‬‬
‫إلي يائسة بعدما قضت سنوات طويلة في الخوف من‬ ‫وصرخت "برندا" ّ‬
‫ّ‬
‫معذبها ‪ّ -‬‬ ‫الكحوليات التي كان ّ‬
‫يمدها بها ّ‬ ‫ّ‬
‫كل يوم‬ ‫عمها – ِ‬ ‫الفضيحة وفي إدمان‬
‫كهدايا‪ .‬اجتازت "برندا" مشوارا طويال في الحصول على استشارات من األطباء‬
‫مادية يمكن أن ترغب فيها‪ .‬وكانت تشغل‬ ‫كل رفاهية ّ‬ ‫ّ‬
‫النفسيين‪ ،‬وكان لديها ّ‬
‫وظيفة مرموقة ولديها شبكة من األصدقاء الذين قدموا لها الدعم‪ ،‬وقد تم‬
‫القيام بكل ما هو مستطاع ملساعدتها الستعادة وضعها الطبيعي‪ ،‬لكن بدون‬
‫جدوى‪ .‬لكن‪ ،‬وبالرغم من هذا‪ ،‬كانت مشاعرها تتأرجح بصورة كبيرة ما بين‬
‫الضحك املفرط والبكاء الذي ال يمكن إيقافه‪ .‬وكانت تنغمس في التهام الطعام‬
‫سرطان النقمة والبغض ‪71‬‬

‫ثم تضرب عنه في اليوم التالي‪ .‬وكانت تشرب زجاجة وراء األخرى‬ ‫في أحد األيام‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الكحولية‪ ،‬محاولة بذلك أن تنس ى مشكلتها‪.‬‬ ‫من املشروبات‬
‫ر ّبما كانت "برندا" واحدة من أصعب الناس الذين سعيت ملساعدتهم‪.‬‬
‫بأي شعور بالذنب‪ ،‬لكن بدا واضحا لي ّأنها هي‬ ‫كنت م ّ‬
‫ترددا في التحميل عليها ّ‬
‫ّ‬
‫يدها أن تبادر في عملية الشفاء‪ .‬فما لم تتعلم الغفران للشخص‬ ‫وحدها التي ِب ِ‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫الذي اعتدى عليها‪ ،‬فإنها ستظل تشعر بأنها ضحيته‪ .‬لكن لألسف كانت كل‬
‫االحتقان‬‫محاوالتنا معها فاشلة‪ .‬فازداد شعورها أكثر وأكثر باليأس بسبب ِ‬
‫النفس ي واإلحساس بالغضب والحيرة‪ ،‬وأخيرا حاولت أن تخنق نفسها فتم نقلها‬
‫إلى املستشفى‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّإن الجراح النفسية التي يخلفها االعتداء الجنس ّي ربما تستغرق سنوات‬
‫ُّ‬
‫تستمر ملدة طويلة‪ .‬لكن يجب أال‬ ‫لتشفى‪ .‬وعادة ما تترك مثل هذه الجراح آثارا‬
‫يؤدي األمر إلى الشعور بالعذاب مدى الحياة أو إلى االنتحار‪ .‬وفي ك ّل الحاالت‬ ‫ّ‬
‫تحرر وحياة‬ ‫التي تتشابه مع حالة "برندا" وجدت الضحايا يحصلون على ّ‬
‫جديدة عندما يغفرون للمغتصب‪ ،‬ويغفرون للذين سمحوا باستمرار‬
‫ّ‬
‫االغتصاب أو فشلوا في رؤية ما كان يحدث في ذلك الوقت‪ ،‬ولم يتمكنوا من‬
‫إيقافه‪.‬‬
‫ّ‬
‫ال تعني املغفرة بالضرورة النسيان أو التغاض ي عن األمر‪ .‬وال يتوقف‬
‫األمر هنا بالتأكيد على شرط االلتقاء وجها لوجه مع املعتدي – حتى أنه ال‬
‫ينصح به في حالة االغتصاب‪ .‬لكنه يعني بالتأكيد أن ّتتخذ قرارا طوعيا‬
‫بالتوقف عن الكراهية‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫ألن الكراهية ال تساعد بش يء ولن تقودك إلى ش يء‬
‫مفيد‪ ،‬فهي تنتشر في الشخص مثل السرطان حتى ت ّ‬
‫دمره بالكامل‪.‬‬

‫"آن كولمان ‪ "Anne Coleman‬وهي ُّأم من والية ديالوير ‪ Delaware‬األمريكية‪،‬‬


‫ّ‬
‫تقابلت معها قبل عدة شهور وقد أخبرتني بما حدث البنها "دانيال" ألنه لم‬
‫يستطع أن يغفر‪:‬‬
‫‪ 71‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫انسز" في عام ‪ 0913‬أصبحت يائسة جدا‪ .‬ففي‬ ‫ْ‬


‫عندما ق ِتلت ابنتي "فر ِ‬
‫تلقيت مكاملة تليفونية من ابنة أختي في لوس أنجلوس‬ ‫صباح أحد األيام ّ‬
‫انسز ماتت‪ ،‬فقد أطلق عليها‬ ‫تقول‪" :‬فر ِ‬
‫الرصاص"‬
‫ّ‬
‫وال يمكنني أن أتذكر بالضبط ماذا فعلت‪،‬‬
‫ّ‬
‫لكني فعال صرخت‪ .‬وخططت للذهاب إلى‬
‫فكرت فعال‬‫كاليفورنيا في الحال‪ ،‬وفي الطائرة ّ‬
‫ّ‬
‫أنه بإمكاني أن أقتل شخصا ما‪ ،‬فلو كان معي‬
‫سالح ورأيت الشخص الذي أصابها‪ ،‬لكنت‬
‫فعلت ذلك ّ‬
‫حقا‪.‬‬
‫وبمرور الوقت هبطت الطائرة وكنت قلقة‬
‫على الطريقة التي سأقابل بها ابني "دانيال"‬
‫الذي ركب الطائرة من والية هاواي‪ ،‬وكان "دانيال" ضابطا في الجيش‬
‫دربا على القتل‪.‬‬‫وم ّ‬
‫وعندما وصلنا إلى قسم الشرطة في صباح اليوم التالي‪ ،‬كان الش يء‬
‫أي ش يء آخر‬ ‫الوحيد الذي أخبرونا به هو مجرد أن ابنتنا ماتت‪ ،‬وأن ّ‬
‫ليس من اختصاصنا‪ .‬ولألسف بقى الحال هكذا طوال األيام التي‬
‫قضيناها في لوس أنجلوس‪ .‬وأخبرني ضابط شرطة املباحث ّ‬
‫أنه إن لم يتم‬
‫ّ‬
‫القبض على الجاني في خالل أربعة ّأيام‪ ،‬فال يجب أن أتوقع أنهم‬
‫ثم استطرد‪" :‬فنحن لدينا الكثير من جرائم‬ ‫سيقبضون عليه الحقا! ّ‬
‫القتل في هذه الضاحية من املدينة‪ ،‬وال نعير جريمة القتل سوى أربعة‬
‫ّأيام فقط!"‬
‫أغضب ذلك الكالم ابني "دانيال" للغاية‪.‬‬
‫وعندما اكتشف أن قسم الشرطة غير م ّ‬
‫هتم‬
‫فعال بالعثور على قاتل أخته‪ ،‬أراد أن يشترى‬
‫رشاشة من نوع "عوزي ‪ "Uzi‬ويحصد الناس‬
‫حصدا‪.‬‬
‫ولم ينبهنا أحد ِبما سنراه عندما ذهبنا‬
‫سرطان النقمة والبغض ‪77‬‬

‫حتى املوت في سيارتها‪ ،‬إذ اخترقت‬ ‫سيارتها‪ .‬فقد نزفت "فرانسز" ّ‬ ‫لنأخذ ّ‬
‫ِ‬
‫الرصاصات الشريان األورطي وقلبها ورئتيها‪ ،‬وقد اختنقت بدمها‪ .‬وماتت‬
‫ّ‬ ‫بكر من صباح يوم األحد‪ .‬وأخذنا ّ‬ ‫ّ‬
‫سيارتها في وقت متأخر من‬ ‫في وقت م‬
‫مساء يوم الثالثاء‪ .‬وكانت السيارة تبعث رائحة ن ِتنة‪ .‬ولم تبرح تلك الرائحة‬
‫ذهن "دانيال" الذي أراد االنتقام بأبشع صورة ممكنة‪ .‬فقد أراد فعال أن‬
‫يجد َمن يساعده بأية طريقة كانت – كنوع من العدالة على مقتل أخته‪.‬‬

‫وطوال السنتين والنصف التاليتين‪ ،‬رأيت "دانيال" تسوء حالته‬


‫بسرعة‪ ،‬إلى أن وقفت يوما إلى جوار مقبرة أخته أراقبهم وهم ي ّنزلونه إلى‬
‫األرض ليدفن هو أيضا‪ ،‬فقد أخذ بالثأر أخيرا – أخذه من نفسه‪ .‬ورأيت‬
‫دمر ذهن اإلنسان وجسده!‬ ‫ما تفعله الكراهية‪ ،‬إذ ّأنها ت ّ‬
‫الفصل الثاني‬

‫الـتغـ ُّلـب على الـكراهيـة بالـمـح ّبـة‬

‫ارجُ ُّ‬
‫تغي ُرا كبيراُ في البحر‬ ‫لذا ُ‬ ‫يقو ُل التاريخ‪ :‬ال تترجى شيئا في‬
‫بعيداُ عن االنتقام‬ ‫القبر‬
‫ّ‬
‫أن ُهناك شاطئ أبعد‬ ‫وآمن ُ‬ ‫حي اآلن‪،‬‬‫لكن وأنت ُُّ‬
‫ُ‬
‫ُيمكن الوصولُ إليه من هنا‬ ‫موجة العدالة التي‬‫ُ‬ ‫ستعلو‬
‫ُ‬
‫فآمن باملعجزات‬ ‫طال انتظارها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وينابيع الشفاء‬ ‫يرتبط الواقعُ باألمل‬
‫ُ‬ ‫وعندئذ‬

‫مقطع مترجم من قصيدة للشاعر‬


‫شيموس هيني ‪Seamus Heaney‬‬
‫وهو بريطاني من ايرلندا الشمالية‬
‫حائز على جائزة نوبل في األدب لسنة ‪0993‬‬

‫َأ ْم َسكَ "جوردون ويلسون ‪"Gordon Wilson‬‬


‫بيد ابنته عندما ِانحصرا تحت أكوام من األنقاض‪.‬‬
‫كان ذلك في عام ‪ 0910‬عندما كان وابنته "ماري"‬
‫يحضران مراسيم لذكرى معينة في مدينة‬
‫أينسكيلين في إيرلندا الشمالية‪ .‬وكانت األجواء‬
‫هادئة جدا أثناء املراسيم‪ .‬وهناك انفجرت قنبلة‬
‫ّ‬
‫إرهابية‪ .‬وفي نهاية اليوم لقت "ماري" وتسع مدنيين‬
‫ُّ‬
‫وستون آخرون إلى‬ ‫آخرين مصرعهم ونقل ثالث‬

‫‪18‬‬
‫التغلب على الكراهية بالمحبة ‪79‬‬

‫املستشفى إلصابتهم بجراح‪.‬‬


‫ّ‬
‫والغريب أن "جوردون" رفض االنتقام قائال إن الكلمات الغاضبة ال‬
‫يمكن أن تعيد له ابنته‪ ،‬وال أن تأتي بالسالم إلى بلده‪ .‬وبعد ساعات قليلة من‬
‫تحدث مع مراسل الـ بي‪ .‬بي‪ .‬س ي قائال‪:‬‬‫االنفجار ّ‬

‫فقدت ابنتي‪ ،‬وطبعا سنفتقدها‪ .‬لكنني لست أحمل ضغينة وال حقدا‬ ‫ُّ‬ ‫لقد‬
‫مرة أخرى‪ ...‬وال تسألوني من فضلكم عن‬ ‫في قلبي‪ ،‬فهذا لن يعيدها لي ّ‬
‫وأن هناك قصدا من‬‫لكني أعلم ّأنه الب ّد ّ‬
‫لدي إجابة‪ّ .‬‬
‫ألنه ليست ّ‬‫ّ‬
‫السبب‪...‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وراء موتها‪ .‬ولو لم أفكر بهذه الطريقة النتحرت بالتأكيد‪ .‬إذ أن موتها‬
‫ّ‬
‫خطة أعظم‪ ...‬وسنتقابل معا ّ‬
‫مرة أخرى‪.‬‬ ‫جزءا من‬

‫وقد قال "جوردون" الحقا ّإن كالمه ليس عبارة عن إجابة الهوتية عن موت‬
‫عبر عما كان يخالج صميم قلبه‪ .‬وبعد مض ّي ّأيام وشهور على‬ ‫ابنته‪ .‬فهو مجرد ّ‬
‫االنفجار‪ ،‬صارع لكي يحيا بحسب هذا الكالم‪ .‬ولم يكن أمرا كهذا سهال‪ ،‬لكن‬
‫ّ‬
‫يتعلق به‪ ،‬ش يء ليجعله ّ‬
‫حيا في الساعات الحالكة‪.‬‬ ‫كان هذا الكالم بمثابة ش يء‬
‫ّ‬
‫اإلرهابيين الذين قضوا على حياة ابنته لم يشعروا بالندم‪،‬‬ ‫كان يعلم أن‬
‫وقد أراد أن يحصلوا على العقاب ويودعوا في السجن‪ .‬وقد أساء كثيرون فهمه‬
‫ّ‬
‫ألنه رفض أن يطلب االنتقام لحياة ابنته‪ .‬فقد قال‪:‬‬

‫هؤالء املسئولون عن ارتكاب هذا الفعل سيواجهون دينونة هللا‪ ،‬التي هي‬
‫خارج نطاق مغفرتي لهم‪ ...‬وقد يكون خطأ من جانبي أن أعطي انطباعا‬
‫ّ‬
‫أن هؤالء املسلحون ومن ضربوا تلك القنبلة يجب أن يطلق سراحهم‬
‫ليسيروا أحرارا في الشوارع‪ .‬لكن‪ ...‬سواء ّتمت محاكمتهم هنا على األرض‬
‫فإنني سأبذل قصارى جهدي كبشر أن أظهر‬ ‫بقانون املحاكم أو لم تتم‪ّ ...‬‬
‫لهم الغفران‪ ...‬وصاحب القرار األخير سيكون هللا‪.‬‬

‫ّ‬
‫لقد ساهم غفران "جوردون" للقتلى مساهمة إيجابية وجعله يتأقلم مع وفاة‬
‫ّ‬
‫األقل‪ ،‬ولو‬ ‫ابنته املفاجئ وآثارها التي امتدت إلى أمور أبعد منه كبشر‪ .‬فعلى‬
‫ِ‬
‫‪ 01‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫وقتيا‪ ،‬كسرت كلماته دوامة القتل واالنتقام‪ :‬فقد أحس قادة املليشيات‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫ستانتية بالذنب لشجاعة "جوردون" من أنه لم يطالب باالنتقام‪.‬‬ ‫البروت‬

‫ّ‬ ‫الحقيقة هي أ ّننا ح ّتى لو أدركنا حاجتنا إلى ُ‬


‫الغفران‪ ،‬فإننا في بعض األحيان‬
‫َ‬
‫ننغوي ون ّدعي أنه ليس بإمكاننا أن نغفر‪ .‬فنبرر موقفنا أن األمر صعب جدا‪،‬‬
‫وموجع جدا؛ وقد نظن ّأن القدرة على الغفران ّ‬
‫يتمتع بها القديسون فقط ال‬
‫نحن‪ .‬وقد نعتقد إما ّ‬
‫أننا انجرحنا زيادة‪ ،‬أو لم ّ‬
‫يتم سماع جانبنا من القصة‪،‬‬
‫أو لم يقدر أحد أن يفهم ما مررنا به‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن قصة "ستيفن ماكدونالد ‪ "Steven McDonald‬قد تأثر بها كثير من‬
‫األمريكيين لكن بدا ّأن قليلين فقط هم الذين‬
‫فهموا ّأن غفرانه لم يكن عمل بطولي ّ‬
‫لقوة‬
‫إرادة خارقة الطبيعة‪ .‬كان "ستيفن" ضابطا في‬
‫البوليس في مدينة نيويورك حين تم أطالق‬
‫مما أصابه بالشلل من الرقبة‬ ‫الرصاص عليه‪ّ ،‬‬
‫إلى أسفل في عام ‪ 0916‬أثناء استجوابه لثالثة‬
‫من الشباب في املتنزه املركزي للمدينة ‪Central‬‬
‫‪ .Park‬ولم يكن قد مض ى على زواجه عام واحد‬
‫آنذاك‪ ،‬وكانت زوجته حامال في الشهر الثاني‪.‬‬
‫كان "شافود جونس ‪،"Shavod Jones‬‬
‫وهو الشخص الذي هاجم "ستيفن"‪ ،‬يسكن في أحد مشاريع اإلسكان الفقيرة‬
‫في حي هارلم في مدينة نيويورك‪ ،‬في حين كان "ستيفن" يعيش في مقاطعة ناساو‬
‫ّ‬
‫الغنية التي تقطنها غالبية بيضاء‪ .‬كان من املمكن أن تنتهي املقابلة القصيرة‬
‫بين االثنين بالسجن ألحدهما وبالشعور بالنقمة طوال الحياة لآلخر‪ .‬لكن قبل‬
‫يتم إطالق سراح "شافود" كان "ستيفن" قد بدأ في مراسلته محاوال أن‬ ‫أن ّ‬
‫يخلق سالما في حياة ذلك الشاب وأيضا معنى‪ .‬فكتب قائال‪:‬‬
‫التغلب على الكراهية بالمحبة ‪07‬‬

‫علي الرصاص؟ وأنا مضطجع في‬ ‫لم يبرح من ذهني السؤال‪ :‬ملاذا أطلق ّ‬
‫الطابق السادس من الجناح الجنوبي للمستشفى‪ ،‬أنظر إلى السقف‬
‫ّ‬
‫متحيرا‪ ،‬لكني وجدت أنه ال يمكنني أن أكرهه‪ ،‬فقد أتت به الظروف إلى‬
‫ذلك املتنزه في تلك الظهيرة‪ ،‬ومعه مسدسا يخبئه في سرواله‪.‬‬
‫ّي ّ‬
‫فلم أكن أنا سوى شارة شرطي لذلك الصبي‪ ،‬أو ز يمثل الحكومة‪،‬‬
‫ّ‬
‫فقد كنت في نظره النظام الذي جعل املالك يطالبون بإيجار للشقق‬
‫ّ‬
‫الحقيرة في املباني املتهالكة؛ وقد كنت أمثل في نظره الجهة املسئولة في‬
‫ّ‬
‫املدينة التي تتولى أمر جيرانها من األحياء السكنية الفقيرة وتطرد سكانها‬
‫عما إذا كانوا أناسا ملتزمين‬‫بغض النظر ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحجة تحسين املستوى لكن‬
‫لندي الذي ظهر في نزاع‬‫بالقانون أو مجرمين‪ ،‬وقد كنت أنا الضابط االير ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫محلي ورحل دون أن يفعل شيئا ألنه لم يكن هناك خرق للقانون‪.‬‬
‫ُّ‬
‫والعدو‪ .‬فمن‬ ‫وبالنسبة لـ"شافود جونس" كنت أنا كبش الفداء‪،‬‬
‫جهته لم يرني كإنسان‪ ،‬أو كشخص له أحبائه‪ ،‬أو كزوج له زوجة أو‬
‫تربى على نظرة مجتمعه لرجال‬ ‫كأب في القريب العاجل إن شاء هللا‪ .‬فقد ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشرطة الذين يتسمون بالعنصرية والعنف‪ ،‬لذلك كان عليه أن يتسلح‬
‫ضدهم‪ .‬كال‪ ،‬ال يمكنني أن ألوم "جونس"‪ .‬فقد كان املجتمع – الذي‬ ‫ّ‬
‫االجتماعية املسئولة عنه والناس الذين‬ ‫ّ‬ ‫يتألف من أسرته والهيئات‬
‫جعلوا من املستحيل أن يحيا أبواه معا تحت سقف واحد ‪ -‬كان املجتمع‬
‫هو الذي أخفق معه بمدة طويلة قبل أن يتقابل "شافود جونس" مع‬
‫"ستيفن ماكدونالد" في متنزه املدينة‪...‬‬
‫أنني لست على ما يرام‪ ،‬أشعر بالغضب‬ ‫في بعض األيام حين أشعر ّ‬
‫الشديد‪ ،‬لكني أدركت ّأن الغضب مشاعر بال فائدة‪ .‬فأحيانا أشعر‬
‫علي النيران‪ ،‬لكني كثيرا ما أشعر‬ ‫بالغضب تجاه ذلك املراهق الذي أطلق ّ‬
‫ّ‬
‫باألس ى نحوه‪ .‬ورجائي الوحيد هو أن يتمكن من تغيير حياته لكي يساعد‬
‫الناس ال لكي يؤذيهم‪ .‬فأنا أغفر له‪ ،‬وآمل أن يجد السالم والهدف‬
‫لحياته‪.‬‬
‫‪ 00‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫لم يجب "شافود" على خطابات "ستيفن" في البداية‪ ،‬وعندما أجاب عليها‬
‫ألن "ستيفن" رفض طلبه ملساعدته في الحصول على إطالق‬ ‫فشلت املبادرة ّ‬
‫ّ‬ ‫سراح مشروط‪ّ .‬‬
‫ثم في أواخر عام ‪ 0993‬بعد مض ّي ثالثة أيام فقط من إطالق‬
‫سراحه من السجن ق ِتل "شافود" في حادث اصطدام دراجة نارية في شارع‬
‫ماديسون‪.‬‬
‫قبل عدة أشهر عندما زرت "ستيفن" في منزله بجزيرة لونغ آيلند ‪Long‬‬ ‫ّ‬
‫‪ Island‬في نيويورك‪ ،‬ذ ِهلت على سلوكه الرقيق وعلى عيناه الالمعتان املفعمتان‬
‫بالحيوية وفي الوقت نفسه ذ ِهلت على مدى عجزه الكبير‪ .‬فالحياة على كرس ّي‬
‫ّ‬ ‫جدا أن يقبلها ّ‬
‫تحرك من الصعب ّ‬ ‫م ّ‬
‫حتى العجوز‪ ،‬فما بالك أن يتخلى إنسان‬
‫سن التاسعة والعشرين فهو أمر محبط من‬ ‫الطبيعية النشيطة في ّ‬
‫ّ‬ ‫عن الحياة‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫دون ّ‬
‫شك‪ .‬وفوق هذا كله فهو لديه قصبة هوائية اصطناعية للتنفس‬
‫بواسطتها‪ ،‬وهو غير قادر حتى على احتضان أبنه ذي العشر سنوات‪ ،‬فهذا هو‬
‫بأي غضب أو بأي نقمة في‬ ‫"ستيفن ماكدونالد" لكني مع كل ذلك لم أشعر ّ‬
‫داخله‪.‬‬
‫ُّ‬
‫لقد فتح قلبه لي وحكى بهدوء لكن بحزم‪ ،‬وشرح لي كيف أن التعرض‬
‫لتلك الطلقة‪ ،‬دفعه إلى أن يعيد تقييم حياته بر ّمتها‪:‬‬

‫ّ‬
‫في البداية كان الغفران سبيال لي يمكنني من املض ّي قدما في الحياة‪،‬‬
‫وأسلوبا لنسيان هذا الحادث الفظيع‪ .‬لكن فيما بعد أدركت ّ‬
‫أنني كنت‬
‫أحيا حياة ّ‬
‫أنانية‪ ،‬وأنني أنا نفس ي كنت بحاجة إلى الغفران‪ .‬بهذه البساطة‬
‫ومن غير لف ودوران‪.‬‬

‫علم عن الغفران‪ ،‬فهو ّ‬ ‫ّ‬


‫يتحدث‬ ‫ووجد "ستيفن" هدفا ومعنى لحياته عندما بدأ ي‬
‫ُّ‬
‫باستمرار في املدارس االبتدائية والثانوية وفي حفالت التخرج‪ .‬ويرى أن هذا هو‬
‫العمل الذي أعطاه إياه هللا لي ّتممه‪.‬‬
‫وبعد مض ي أحد عشر عاما من إطالق الرصاص على "ستيفن"‪ ،‬ما زالت‬
‫وفية له وتقف إلى جواره‪ .‬وهما يصارعان ّ‬
‫يوميا مع حقيقة‬ ‫زوجته "باتي ‪ّ "Patti‬‬
‫التغلب على الكراهية بالمحبة ‪01‬‬

‫عجزه وآثارها على زواجهما‪ .‬وكثيرا ما يقاوم "ستيفن" مشاعر الكآبة وأفكار‬
‫ّ‬
‫االنتحار‪ .‬لكن عندما سألته إن كان الغفران نفسه صراعا‪ ،‬قال ال‪ ،‬إنه نعمة‪.‬‬
‫حتى في‬‫بشدة‪ .‬لكن ّ‬ ‫ال يمكن أن يكون الغفران سهال عندما يجرح اإلنسان ّ‬
‫إننا نواجه خيارا‪ّ :‬إما أن نحب أو أن نكره‪ ،‬إما أن نغفر أو أن‬ ‫الحزن الشديد ف ّ‬
‫ندين‪ ،‬إما أن نسعى للمصالحة أو لالنتقام‪ .‬ر ّبما يكون "ستيفن" قد استسلم‬
‫ّ‬ ‫للبغض واالمتعاض‪ ،‬لكنه ي ّغير حياة الكثيرين ّ‬
‫حتى هذا اليوم ألنه اختار طريق‬
‫السالم واملصالحة‪.‬‬
‫ومن أحد األبطال الذين يعتز بهم "ستيفن" هو "مارتن لوثر كنج"‪ .‬ففي‬
‫املمرضة أن تأتي له بمجموعة من أقوال ذلك الزعيم‬ ‫أثناء زيارتي له طلب من ّ‬
‫املفضل لديه الذي يقول‪ّ " :‬إن‬‫ّ‬ ‫بشأن حقوق املدنيين التي قرأ منها السطر‬
‫عرضيا‪ّ ،‬‬
‫لكنه موقفا دائميا"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الغفران ليس ُّ‬
‫تصرفا‬

‫غفر "كريس كاريير ‪ "Chris Carrier‬لرجل قد يرغب معظمنا في موته‪.‬‬


‫تعرض‬‫صبيا في العاشرة من عمره في مدينة ميامي األمريكية ّ‬ ‫فعندما كان ّ‬
‫ّ‬
‫لالختطاف واالعتداء عليه من أحد موظفي والده السابقين‪ ،‬ثم تركه بعدها‬
‫بين الحياة واملوت في متنزه أيفركليدز ‪ Everglades‬الحكومي الكبير املساحة‬
‫واملليء باملستنقعات في والية فلوريدا‪ ،‬فكتب كريس قائال‪:‬‬

‫لم يكن يوم الجمعة ‪ 31‬ديسمبر ‪ 0904‬يوما ّ‬


‫عاديا‪ .‬فقد كان آخر يوم في‬
‫املدرسة قبل إجازة عيد امليالد ‪ Christmas‬وعليه فقد خرجنا من‬
‫ّ‬
‫املدرسة مبكرا وقبل املوعد املح ّدد‪.‬‬
‫تركت أتوبيس املدرسة في الساعة ‪ 0.03‬بعد الظهر وبدأت في السير‬
‫م ّتجها إلى املنزل‪ .‬وبدا أن هناك رجال عجوزا يسير باتجاهي على الرصيف‬
‫وكأنه يعرفني‪ .‬وكنت على بعد منزلين فقط من منزلي‪ّ ،‬‬
‫فقدم ّ‬
‫إلي نفسه‬
‫عد حفلة لوالدي وطلب ّ‬
‫مني‬ ‫على ّأنه أحد أصدقاء والدي‪ .‬أخبرني ّأنه ي ّ‬
‫مساعدته في تزيين املكان‪.‬‬
‫‪ 01‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫حتى مركز الشباب حيث‬ ‫مرة أخرى ّ‬ ‫وافقت وسرت معه تجاه الشارع ّ‬
‫مجرد أن ركبت‬ ‫كان يترك سيارته (التي هي منزل في ذات الوقت)‪ .‬وب ّ‬
‫عني ّ‬
‫حتى أريح نفس ي‪.‬‬ ‫السيارة معه‪ ،‬وضعت متعلقاتي ّ‬
‫ألن الرجل كان ّيتجه نحو‬ ‫اختفت مدينة ميامي من أمامي بسرعة ّ‬
‫ّ‬
‫العامة وعلى‬ ‫الشمال‪ .‬وأوقف السيارة في منطقة بعيدة عن املواصالت‬
‫جانب الطريق‪ ،‬وادعى أنه قد فاتته االستدارة‪ .‬فأعطاني خريطة وطلب‬
‫مدعيا أنه‬ ‫مني أن أبحث عن رقم م ّعين‪ ،‬ثم ذهب الى مؤخرة السيارة ّ‬ ‫ّ‬
‫"سيجلب شيئا ما"‪.‬‬
‫وفيما أنا منتظر وأدرس في الخريطة شعرت بلسعة في كتفي ثم‬
‫فالتفت ورائي فرأيته يحمل معول لكسر الجليد في يده‪ .‬ثم‬ ‫ُّ‬ ‫أخرى‪.‬‬
‫علي وأخذ‬‫سحبني من مقعدي ورماني على األرض‪ .‬فجلس بركبتيه ّ‬
‫ّ‬ ‫يطعنني في صدري ّ‬
‫عدة ّ‬
‫مرات‪ .‬فرجوته أن يتوقف عن هذا ووعدته أنه لو‬
‫ّ‬
‫فإني لن أخبر ّ‬
‫أي شخص بما حدث‪.‬‬ ‫تركني وشأني‬
‫علي‪ .‬وأخبرني أنه سيلقي‬ ‫وشعرت براحة ال توصف عندما قام من ّ‬
‫وسيعرفه مكاني‪ .‬وسمح لي أن أجلس‬ ‫ُّ‬ ‫بي في مكان ما وبعدها سيكلم أبي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫في مؤخرة السيارة وهو يقودها‪ ،‬لكني أدركت الحقيقة املؤملة من أن هذا‬
‫املوقف خارج نطاق سيطرتي‪ .‬وعندما سألته ملاذا يفعل هذا معي‪ ،‬قال لي‪:‬‬
‫" ّإن أباك كان السبب في أن أخسر جزءا كبيرا من أموالي‪".‬‬
‫اتجه إلى طريق‬ ‫الساعة أو أكثر‪ّ ،‬‬ ‫وبعدما قاد السيارة ملا يقرب من ّ‬
‫إلي أبي ليأخذني منه‪.‬‬ ‫ابي‪ ،‬وأخبرني أن هذا هو املكان الذي سيأتي ّ‬ ‫ّ‬
‫جانبي تر ّ‬
‫وسرنا معا بين األحراش وجلست في املكان الذي أجبرني على الجلوس‬
‫ّ‬
‫فيه‪ .‬وآخر ما أتذكر هو رؤيته وهو يمض ي في طريقه ويتركني‪.‬‬

‫ستة ّأيام‪ ،‬وفي مساء يوم ‪ 36‬ديسمبر وجد أحد صيادي الغزالن‬‫وبعد مض ّي ّ‬
‫املحليين "كريس"‪ .‬وكان رأسه ينزف وعينيه سوداوين‪ ،‬فقد أطلق عليه‬
‫ّ‬
‫الرصاص في رأسه واخترقه‪ .‬وبأعجوبة لم يصب مخه بأذى‪ ،‬لكنه ال يتذكر ّأن‬
‫هناك من أطلق عليه الرصاص‪.‬‬
‫التغلب على الكراهية بالمحبة ‪01‬‬

‫ّ‬ ‫في الشهور التالية كان "كريس" يصارع ّ‬


‫يوميا مع شعوره بعدم األمان‪ ،‬ألنه‬
‫كان يعلم ّأن الشخص الذي اختطفه ح ُّر طليق‪ .‬وكان عليه أن يتجاوب مع‬
‫ترتبة على جرحه‪ ،‬حيث أصيب بالعمى في أحد عينيه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫مما جعله غير‬ ‫اآلثار امل‬
‫ّ‬
‫قادر على االشتراك في أية رياضة‪ .‬وكان قلقا بشأن مظهره وهذا ش يء يشعر به‬
‫أي مراهق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫كره "كريس" التحدث عما حدث له‪ ،‬وتذكر كيف أن هذه "األعجوبة"‬
‫تغير عند سن الثالثة عشر‪.‬‬ ‫كان لها أن تتركه في وضع تعيس فعال‪ .‬والغريب ّأنه ّ‬
‫فقد بدأ يرى ذلك الكابوس الذي حدث معه بطريقة مختلفة‪ .‬وأدرك ّأن جرحه‬
‫تعرض بسببه‬ ‫كان من املمكن أن يكون أسوأ من هذا بكثير‪ ،‬فر ّبما كان قد ّ‬
‫وقرر أن ينس ى هذا‬ ‫يظل غاضبا لألبد‪ّ .‬‬‫للموت‪ .‬وأدرك أيضا ّأنه ال يمكنه أن ُّ‬
‫ّ‬
‫الحادث‪ ،‬وينس ى كذلك ولألبد الرغبة في االنتقام والشفقة على الذات‪.‬‬
‫مرة‬‫غيرت حياته ّ‬ ‫ّ‬
‫تليفونية ّ‬ ‫تلقى "كريس" مكاملة‬‫وفي ‪ 2‬سبتمبر ‪ّ 0996‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جابلس ليخبره ّأن‬‫أخرى‪ .‬فقد اتصل به محقق من قسم شرطة مدينة كورال ِ‬
‫هناك رجال يدعى "دافيد ماك أليستر" قد اعترف أنه اختطفه‪ .‬فقد كان‬
‫مرض مساعد لعم "كريس" العجوز‪ ،‬وقد طرد من‬ ‫"دافيد" يعمل في السابق كم ّ‬
‫عمله بسبب إدمانه للخمر‪ .‬فقام "كريس" بزيارة "دافيد" في اليوم التالي‪ .‬يقول‬
‫كريس‪:‬‬

‫عندما زرته في تلك الظهيرة شعرت بالشفقة عليه‪ .‬فلم يعد "دافيد ماك‬
‫أليستر" هو نفس الشخص املرعب الذي اختطفني‪ ،‬لكنه أصبح رجال‬
‫ستين‬ ‫عجوزا في السابعة والسبعين من عمره وكان وزنه أكثر بقليل من ّ‬
‫رطال‪ .‬وقد أصبح أعمى بسبب املياه الزرقاء‪ ،‬وقد ت ِلف جسده بسبب‬
‫الخمور والتدخين‪ .‬ولم يعد له أصدقاء أو عائلة‪ .‬باإلجمال‪ ،‬كان رجال‬
‫يواجه املوت بندم شديد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أتحدث مع "دافيد" كان قاسيا‪ ،‬فربما أعتقد أنني‬ ‫وعندما بدأت‬
‫كنت ضابط شرطة ثاني‪ ،‬فسأله أحد أصدقائي الذي رافقني بعض‬
‫األسئلة البسيطة لكي يقوده لالعتراف أنه اختطفني‪ ،‬قائال‪" :‬أال ترغب في‬
‫‪ 01‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصبي الصغير أنك ندمت على ما فعلته معه؟" فأجاب‬ ‫أن تخبر ذلك‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫"دافيد" مؤكدا‪" :‬أتمنى لو كان هذا بإمكاني‪".‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عندئذ ّ‬
‫قدمت نفس ي له‪ ،‬وعلى الرغم من أنه لم يستطع رؤيتي‪ ،‬أال‬
‫ّ‬
‫أنه أمسك بيدي وأخبرني أنه آسف على ما فعله معي‪ .‬وباملقابل عرضت‬
‫عليه صداقتي وأخبرته أنني قد غفرت له‪.‬‬

‫ّ‬
‫يقول "كريس" إنه لم يكن صعبا عليه أن يغفر‪،‬‬
‫لكن وسائل اإلعالم لم تفهم ملاذا غفر له أو كيف‬
‫حدث هذا‪ .‬لقد أعجبت وسائل اإلعالم بقدرته على‬
‫الغفران‪ ،‬لكنها لم تستطع أن تدرك ما الذي دفعه‬
‫ملثل هذا الغفران‪ .‬فوسائل اإلعالم ال تدرك عادة‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫قصة‬ ‫معنى الغفران‪ ،‬فيبدو ّأنها تركز على‬
‫االختطاف وتفاصيل التعذيب‪ّ ،‬أما "كريس" فيقول‪:‬‬

‫هناك سبب قو ُّي للغفران‪ ،‬فعندما يخطئ‬


‫حقنا‪ ،‬يمكننا أن نتجاوب مع هذا األمر بطريقتين‪ّ ،‬إما أن‬ ‫اآلخرون في ّ‬
‫حقنا‪ ،‬أو أن نغفر له‪ .‬وإن‬ ‫نسعى لالنتقام من الشخص الذي أخطأ في ّ‬
‫اخترنا االنتقام‪ ،‬سيطر الغضب على حياتنا‪ّ ،‬‬
‫ألن الثأر يسلبنا حياتنا‪ ،‬إذ‬
‫من الصعب أن نرض ي مشاعر الغضب التي في داخلنا وقد نصاب‬
‫ّ‬
‫باإلدمان عليه‪ ،‬إال أن الغفران يسمح لنا بقلب صفحة جديدة واملض ي‬
‫قدما في الحياة‪.‬‬
‫وهناك سبب آخر يدفع اإلنسان للغفران‪ ،‬فالغفران هو نعمة إلهية‬
‫عطية حصلت عليها ويمكنني أن أ ّ‬
‫قدمها لآلخرين‪ .‬وفي ك ّل‬ ‫– أنه رحمة‪ .‬إنه ّ‬
‫الحاالت أشعر بالرضا التام‪.‬‬

‫وفي ّ‬
‫األيام التالية لهذا االجتماع بدأ "كريس" في زيارة "دافيد" بصفة منتظمة‬
‫مع زوجته وابنتيه‪ .‬وقض ى الرجالن ساعات طويلة معا في الحديث وذابت قسوة‬
‫الرجل العجوز بالتدريج‪ .‬وفي أحد األمسيات بعد ثالثة أسابيع من تلك‬
‫التغلب على الكراهية بالمحبة ‪07‬‬

‫الحادثة‪ ،‬وبعد أن أودع "كريس" صديقه املريض إلى الفراش لينام‪ ،‬مات‬
‫"دافيد"‪.‬‬

‫السر الذي‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُتظهر لنا قصص "جوردون" و"كريس" و"ستيفين" التناقض في‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫نطلق عليه "الغفران"‪ .‬فيرى الكثيرون منـا أنه من الصعب أن نتخلى حتى عن‬
‫الضغائن الصغيرة‪ .‬لكن هؤالء الرجال الثالثة الذين عانوا أكثر بكثير من أسوأ‬
‫كوابيسهم‪ ،‬استطاعوا أن يغفروا بسهولة عجيبة‪ .‬ور ّبما ال يكون هذا بسبب‬
‫ّ‬
‫استمد هؤالء الرجال ق ّوتهم‬ ‫طبيعتهم‪ ،‬لكنه يرجع إلى ق ّوة أكبر منهم‪ .‬وفي النهاية‬
‫للغفران من إيمانهم باهلل‪ ،‬ال من بحثهم عن السالم فقط‪.‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫إنـهـاء دوامـة الـحـقـد‬

‫إذا كانت املسألة مجرد مسألة وجود بعض األشرار الذين يقترفونُ األفعال‬
‫ّ‬
‫ن من الضروريُ إذن عزلهم عنا والقضاء‬ ‫الشريرة في مكان معين فسيكو ُ‬
‫ّ ّ‬
‫ن الخط الفاصل ما بين الخير والشر يتغلغل داخل قلب ُّ‬
‫كل‬ ‫إال أ ُ‬
‫عليهم‪ُ .‬‬
‫ّ َ ّ‬
‫جزء من قلبه؟‬
‫إنسان منـا‪ .‬فمنُ ِمنا تراه راغب في القضاء على ُ‬

‫قول من‬
‫ألكسندر سولجنيتسين ‪Aleksander Solzhenitsyn‬‬
‫أديب ومعارض روس ي‪ ،‬كتب ضد معسكرات االتحاد السوفيتي للعمل القسري‬
‫حائز على جائزة نوبل في األدب سنة ‪0901‬‬

‫عزي كثيرين ّ‬ ‫ّ‬


‫الربانية التي ت ّ‬
‫منا‬ ‫لقد تعلّمنا كأطفال الكلمات المألوفة في الصالة‬
‫َ َ ََ‬ ‫َ ْ ْ ََ‬
‫بصفة خاصة في األوقات الصعبة أو أوقات األزمات‪" :‬وﭐغ ِفر لنا ذنوبنا كما‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫ّ‬
‫الجدية التي نتعامل بها مع تلك‬ ‫نغ ِفر ن ْحن أ ْيضا ِللمذ ِن ِب َين ِإل ْي َنا‪ ".‬لكن ما مدى‬
‫الرسالة التي تحملها هذه الكلمات‪ :‬أي بمعنى أن نحصل على الق ّوة لنغفر‪،‬‬
‫عندما ندرك احتياجنا الشخص ي لغفران ذنوبنا؟ وال يأتي لنا مثل هذا اإلدراك‬
‫ّ‬
‫الذاتي وفضيلتنا البشرية!‬ ‫ببرنا‬ ‫بسهولة‪ .‬فقد يبدو ّأنه من األسلم أن ّ‬
‫نتمسك ّ‬

‫بالقصة التالية لي ّ‬
‫وضح لنا معنى هذه الكلمات في‬ ‫ّ‬ ‫أخبرنا يسوع املسيح‬
‫ّ‬
‫الربانية‪:‬‬ ‫الصالة‬

‫‪28‬‬
‫إنهاء دوامة الحقد ‪09‬‬

‫َ‬
‫اس َب ِة ق ِّد َم ِإل ْي ِه َو ِاحد‬ ‫يده‪َ .‬ف َلما ْاب َت َد َأ في ْامل َح َ‬ ‫َأ َ َاد َملكا َأ ْن ي َحاس َب َعب َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر ِ‬
‫اع هوَ‬ ‫آالف َو ْز َنة‪َ .‬وإ ْذ َل ْم َيك ْن َله َما يوفي َأ َم َر َس ّيده َأ ْن ي َب َ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مديون ِبعشر ِة ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬
‫َو ْام َرأته َوأ ْوالده َوك ُّل َما له َويوفى الد ْين‪ .‬فخر ال َع ْبد َو َس َج َد له ق ِائال‪َ :‬يا‬
‫َ َْ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َس ِّيد ت َمه ْل َعلي فأو ِف َي َك ال َج ِم َيع‪ .‬ف َت َحن َن َس ِّيد ذ ِل َك ال َع ْب ِد َوأطلقه َوت َر َك له‬
‫َ‬
‫ان َم ْديونا له‬ ‫الد ْي َن‪َ .‬و َملا َخ َر َج َذل َك ْال َع ْبد َو َج َد َواحدا م َن ْال َعبيد َف َقائه َك َ‬
‫ِ ِ ر ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََْ َ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََْ َ َ ََ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِب ِمئ ِة ِدينار فأمسكه وأخذ ِبعن ِق ِه قا ِئال‪ :‬أو ِف ِني ما ِلي عليك‪ .‬فخر العبد‬
‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َ َ ْ َ ََ َ ْ َ‬
‫وف َي َك ال َج ِم َيع‪ .‬فل ْم ي ِر ْد‬ ‫َر ِفيقه على قدمي ِه وطل َب ِإلي ِه ق ِائال‪ :‬ت َمه ْل علي فأ ِ‬
‫ان‬ ‫َب ْل َم َض ى َو َأ ْل َقاه في س ْجن َحتى يوف َي الد ْي َن‪َ .‬ف َلما َ َأى ْال َعبيد َف َقاؤه َما َك َ‬
‫ِ ر‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َ‬ ‫ّ َ َ َ ْ َ َ ُّ َ َ‬
‫َح ِزنوا ِجدا‪ .‬وأتوا وقصوا على س ِي ِد ِهم كل ما جرى‪ .‬فدعاه ِحين ِئذ س ِيده‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫َ ََ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َو َق َ َ َ ْ َ ْ‬
‫الش ِّرير ك ُّل ذ ِل َك الد ْي ِن ت َركته ل َك ألن َك طل ْب َت ِإلي‪ .‬أف َما‬ ‫ال له‪ :‬أ ُّي َها العبد ِ‬
‫ََ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ان َين َب ِغي أن َك أن َت أ ْيضا ت ْر َحم ال َع ْب َد َر ِفيق َك ك َما َر ِح ْمت َك أنا؟‪َ .‬وغ ِض َب‬ ‫ك‬
‫َ َ َ َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س ِّيده وسل َمه ِإلى املع ِذ ِبين حتى ي ِوف َي كل ما كان له علي ِه (متى ‪-32 :01‬‬
‫‪.)24‬‬

‫من أقوى الدوافع للغفران هو تجربتنا الشخصية عندما يغفر لنا‪ ،‬وإدراكنا‬
‫لحاجتنا إلى الغفران عن األخطاء التي ارتكبتاها في ّ‬
‫حق اآلخرين‪.‬‬

‫ّ‬
‫أفريقي من‬ ‫ُّ‬
‫أمريكي من أصل‬ ‫ُيخبرنا "جي َرد ‪ "Jared‬أحد طلبة الجامعة وهو‬
‫والية بوسطن األمريكية ّ‬
‫بقصة صراعه مع الغفران قائال‪:‬‬

‫كنت في السادسة من عمري عندما اصطدمت مع حقيقة الع ّ‬


‫نصرية‪.‬‬
‫ّ‬
‫االبتدائية‬ ‫فقد دفع بي من البيئة اآلمنة في منزلي إلى العالم في املدرسة‬
‫التي تقع على قارعة الشارع الذي أقطن فيه‪ .‬ذهبت لتلك املدرسة ملدةّ‬
‫علي االنتقال إلى مدرسة أخرى‬‫حتم ّ‬ ‫شهر قبل أن تصدر املدينة قانونا ي ّ‬
‫ّ‬
‫أبواي بهذا القانون‪ ،‬فقد أرادا لي‬ ‫في الجهة الثانية من املدينة‪ .‬ولم يسعد‬
‫الذهاب إلى املدرسة التي أكون فيها معروفا ومحبوبا‪ .‬وكانا يمتلكان مزرعة‬
‫في القرية‪ ،‬لهذا انتقلنا إليها‪...‬‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫املدنية لألفارقة‬ ‫كان والدي مناضال في حركة الدفاع عن الحقوق‬
‫حب الجميع ونحترمهم سواء كانوا بيضا أو سودا‪.‬‬ ‫األمريكان‪ ،‬وعلّـمنا أن ن ّ‬
‫لم أدرك في ذلك الوقت الصراع العنصر ّي‪ .‬وكنت الطفل الوحيد األسود‬
‫ّ‬
‫في املدرسة‪ ،‬وكان من الواضح أن كثيرين من األطفال اآلخرين تعلموا أن‬
‫ّ‬
‫يكرهوا‪ .‬فاألطفال يمكن أن يكونوا قساة فيما يتعلق بالفروق التي‬
‫يالحظونها بينهم وبين اآلخرين‪ .‬فيبدؤون بسؤال بريء‪ :‬ملاذا لون بشرتك‬
‫ألنهم يعلمون ّأن البشرة الب ّنية‬ ‫ب ّني؟ وبعدها يضحكون ويسخرون مني ّ‬
‫ّ‬
‫حد ما‪ ،‬ففي مرحلة ما تعلموا ّأن هذا اللون ليس‬ ‫ش يء مختلف إلى ّ‬
‫ّ‬
‫طبيعيا"‪.‬‬ ‫"‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لقد شعرت أنني لست في املكان السليم‪ .‬وكأني سمكة تخرج من‬
‫ّ‬
‫املاء‪ ،‬ولم يكن هؤالء األطفال يتعاملون معي بطريقة لطيفة‪ .‬وأتذكر‬
‫قدمت‬ ‫خاصة حادثة ّأثرت ّفي للغاية‪ .‬ففي أحد األيام‪ ،‬عندما ّ‬ ‫ّ‬ ‫بصفة‬
‫صديقا أبيضا لي لصديق أبيض آخر في األتوبيس‪ ،‬صارا هذان الصديقان‬
‫منذ ذلك اليوم معا وتركانني‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثم عندما كنت في الصف السابع في املدينة‪ ،‬كان هناك طفل واحد‬
‫أبيض في فصلي يدعى "شون" وهو الطفل الوحيد األبيض في املدرسة‬
‫وكنا نسخر منه ونلقبه بكلمات عنصرية غير‬ ‫ك ّلها‪ .‬فك ّنا نعامله كاملنبوذ ّ‬
‫ّ‬
‫الئقة ونعتدي عليه بالضرب‪ .‬إذ نتخلص من مشاعر الكراهية التي‬
‫ّ‬ ‫نحملها نحو البيض في "شون"‪ .‬وبالرغم من ّأنه لم يفعل ّ‬
‫أي ش يء لنا‪ ،‬إال‬
‫مثل ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كل ما نعرفه عن‬ ‫أننا كنا نشعر بالغضب الشديد تجاهه‪ .‬فقد كان ي‬
‫البيض وتاريخهم إلذالل شعبنا‪ ،‬والقتل واإلجرام وتجارة العبيد‪ ،‬فأخرجنا‬
‫كل البغض والغضب على هذا الصبي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫واآلن‪ ،‬أستطيع أن أرى ّأن ما فعلناه في "شون" كان خطأ‪ .‬وقد ك ّنا‬
‫حتى هذا‬ ‫نصريين‪ ،‬وهو الش يء الذي كرهناه في البيض‪ .‬وما لت ّ‬ ‫بهذا ع ّ‬
‫ز‬
‫اليوم أطلب الغفران عن األلم الذي تسببت فيه لـ "شون"‪ .‬وأطلب أيضا‬
‫حبونني عندما‬ ‫الغفران لهؤالء األطفال الذين لم تعرف قلوبهم كيف ي ّ‬
‫كنت الطفل الوحيد األسود في وسطهم‪.‬‬
‫إنهاء دوامة الحقد ‪17‬‬

‫"هيال إيرليتش ‪ "Hela Ehrlich‬وهي امرأة من أفراد مجتمعات برودرهوف‬


‫ّ‬
‫يهودي‪ ،‬نشأت في أملانيا النازية‪ .‬ونجحت‬ ‫املسيحية ‪ Bruderhof‬وهي من أصل‬
‫عائلتها في الهجرة قبل اندالع الحرب العا ّملية الثانية بوقت قليل‪ ،‬وبالتالي نجت‬
‫ّ‬ ‫من معتقالت املوت‪ .‬لكنهم ّ‬
‫مروا بالكثير من املتاعب‪ .‬فقد توفي والدها ولم يكن‬
‫كل أجدادها من ناحيتي األب واألم‪،‬‬ ‫عمره سوى ‪ 43‬عاما وفقدت "هيال" ّ‬
‫باإلضافة إلى جميع أصدقاء الطفولة في‬
‫الهولوكوست (محارق اليهود في أملانيا)‪.‬‬
‫وتحكي صراعها الطويل مع البغض واالستياء‬
‫ستمرة في الغفران‪ ،‬حيث وخزها‬ ‫وعدم رغبتها امل ّ‬
‫ّ‬
‫ضميرها في أحد األيام أثناء اجتماع ضم جميع أفراد‬
‫مجتمعها املسيحي برودرهوف‪ .‬فأسمعوها تقول ما‬
‫ّ‬
‫أحست به إثناء ذلك االجتماع‪:‬‬

‫جلست مرتعدة‪ ،‬وأثناء جلوس ي تجلى األمر لي أنني لو نظرت إلى قلبي‬
‫لوجدت بذور الكراهية فيه أيضا‪ .‬وأدركت ّأن بذور الكراهية موجودة في‬
‫كل إنسان‪ .‬فأفكار االنتقام ومشاعر السخط وبرود القلب نحو اآلخرين‬ ‫ّ‬
‫والغضب والحسد وحتى عدم االكتراث بآالم اآلخرين – هي بالحقيقة‬
‫الجذور نفسها لتلك املجازر التي حدثت في أملانيا النازّية‪ .‬وهنا أدركت ّأول‬
‫املاسة إلى الغفران وأخيرا شعرت‬ ‫أي وقت مض ى‪ ،‬حاجتي ّ‬ ‫مرة‪ ،‬وأكثر من ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫بالتحرر الكامل‪.‬‬

‫"يوسف بن اليعازر ‪ "Josef Ben-Eliezer‬وهو فرد‬


‫آخر من أفراد كنيستنا "برودرهوف ‪"Bruderhof‬‬
‫ّ‬
‫وهو من أسرة يهودية‪ ،‬وقد ولد في عام ‪ 0939‬في‬
‫فرانكفورت بأملانيا من أبوين يهوديين من أوربا‬
‫الشرقية‪ .‬وقد هاجر والداه من بولندا‪ ،‬مثلهما مثل‬
‫آالف آخرين‪ ،‬للهروب من االضطهاد والفقر‪.‬‬
‫إال ّّ ّأنهم لم ينجوا من ّ‬
‫أي منهما‪ ،‬ال من االضطهاد‬
‫‪ 10‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫وال من الفقر‪ .‬فيقول يوسف‪:‬‬

‫للسامية عندما كنت في الثالثة من عمري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تقابلت ّ‬


‫ألول مرة مع معادين‬
‫أثناء مراقبتنا لرتل من شباب هتلر وهم يم ُّرون من أمام نافذة منزلنا في‬
‫غنون أغنية حتى أنا فهمت معناها‬ ‫الشارع الشرقي ‪ Ostendstrasse‬وهم ي ُّ‬
‫في ذلك الوقت‪ .‬كانت تقول‪" :‬عندما تسيل دماء اليهود من‬
‫خناجرنا‪.....‬إلخ"‪ ،‬وما زلت أذكر الرعب الذي كان يظهر على وجه والدي‪.‬‬
‫قررت عائلتنا ترك البلد‪ .‬وفي نهاية عام ‪ 0922‬عدنا‬ ‫وسرعان ما ّ‬
‫ثانية إلى مدينة روزفادوف في بولندا املطلة على نهر سان‪ .‬وكان معظم‬
‫ونجارين وت ّجار‪.‬‬
‫وخياطين‪ّ ،‬‬ ‫س ّكانها من اليهود الذين يعملون كحرفيين‪ّ ،‬‬
‫وكان هناك فقر شديد لكن بالرغم من هذا الفقر الشديد ك ّنا نعتبر من‬
‫الطبقة امليسورة‪ ،‬وعشنا في روزفادوف طوال ّ‬
‫الستة أعوام التي تلت‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 0929‬بدأت الحرب‪ ،‬وفي غضون أسابيع دخل األملان إلى‬
‫مدينتنا‪ .‬واختبأ أبي وأخي األكبر في الع ّلية العليا‪ ،‬وك ّنا عندما يقرع أحد‬
‫على الباب ويسأل عنهما نخبره أنهما ليسا باملنزل‪.‬‬
‫كل اليهود عليهم أن يجتمعوا في‬ ‫وجاء اإلعالن العام الرهيب أن ّ‬
‫امليدان الرئيس ّي باملدينة‪ .‬وأعطيت لنا مهلة ساعات قليلة فقط‪ .‬فأخذنا‬
‫ّ‬
‫ما استطعنا حمله – مجرد وضعناه في ص ّرة لنتمكن من حمله على‬
‫ظهورنا‪ .‬ومن امليدان أجبرنا جنود قوات الـ ‪ SS‬للسير على األقدام باتجاه‬
‫جندين‬ ‫نهر سان‪ ،‬الذي كان يبعد عدة أميال عن القرية‪ .‬وكان الرجال امل ّ‬
‫ّ‬
‫جانبي‬ ‫خارية من على‬ ‫الدراجات الب ّ‬ ‫يرتدون الز ّي العسكر ّي ويركبون ّ‬
‫توقف أحدهم وصرخ فينا لكي نسرع‪ ،‬ثم ّ‬ ‫ّ‬
‫توجه‬ ‫الطريق‪ .‬ولن أنس ى كيف‬
‫ناحية والدي وضربه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ضفة النهر‪ ،‬كان هناك جنود آخرون بزيهم الرسمي ينتظروننا‪.‬‬ ‫وعند ّ‬
‫فقاموا بتفتيشنا بحثا عن األشياء الثمينة من مال أو مجوهرات أو‬
‫ساعات‪( .‬ولم يجدوا املبلغ الذي أخفاه والدي في مالبس أختي الصغيرة)‪.‬‬
‫ثم أمرونا أن نعبر النهر إلى أرض ليس فيها إنسان‪ .‬ولم يخبرنا أحد بما‬
‫يجب أن نفعله‪ ،‬لهذا وجدنا مأوى في قرية عبر النهر‪.‬‬
‫إنهاء دوامة الحقد ‪11‬‬

‫ّ‬
‫عدة ّأيام سمعنا فجأة ّأن هذه املنطقة سيحتلها األملان أيضا‪.‬‬‫وبعد ّ‬
‫والدي باألموال التي أخفوها ومتشاركين مع‬ ‫ّ‬ ‫فانتابنا الذعر واشترى‬
‫عائلتين أو ثالثة حصانا وعربة لكي تحمل األطفال الصغار واألشياء‬
‫القليلة التي حملناها على ظهورنا‪.‬‬
‫واتجهنا شرقا إلى روسيا أمال في الوصول إلى الحدود قبل حلول‬
‫حل الظالم‪ .‬وهناك‬ ‫الظالم‪ ،‬لكننا وجدنا أنفسنا في غابة كبيرة عندما ّ‬
‫مسلحون وطلبوا أن نعطيهم ّ‬ ‫ّ‬
‫كل ما نملك‪ .‬كانت لحظات‬ ‫هاجمنا رجال‬
‫ّ‬
‫مرعبة لكن كان هناك بعض الرجال في مجموعتنا ممن كانت لديهم‬
‫دراجة وأشياء أخرى‬ ‫الشجاعة ملقاومتهم‪ .‬وفي النهاية رحل الرجال آخذين ّ‬
‫صغيرة‪.‬‬

‫قضت أسرة يوسف سنوات الحرب في سيبيريا‪ .‬ونجح يوسف بأعجوبة في‬
‫الهروب إلى فلسطين عام ‪ ،0942‬وبعد الحرب تقابل مع يهود نجوا من‬
‫معسكرات اإلبادة‪ .‬فيقول يوسف‪:‬‬

‫لقد بدأت الدفعات األولى من األطفال الذين تم تحريرهم من معسكري‬


‫اإلبادة ‪ Bergen-Belsen‬و ‪ Buchen-wald‬األملانيين في الوصول إلى‬
‫مما سمعته من هؤالء الصبيان الذين‬‫فلسطين في عام ‪ .0943‬وارتعبت ّ‬
‫بالرغم من ّأنهم لم يتجاوزوا ّ‬
‫سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة أو‬
‫ّ‬
‫إال ّأنهم كانوا قد ّ‬
‫مروا بأحداث رهيبة‪ .‬وكان مظهرهم‬ ‫الرابعة عشرة‪،‬‬
‫يشبه العجزة‪ .‬وشعرت باالشمئزاز واإلحباط‪.‬‬

‫صارعت مع موضوع االحتالل البريطاني للبلد طوال الثالث سنوات‬


‫ّ‬
‫وخاصة بعدما بدأوا في وضع‬ ‫التالية‪ .‬وامتألت بالكراهية نحو البريطانيين‬
‫ّ‬
‫قيود على هجرة الناجين من الهولوكوست إلى فلسطين‪ .‬وقلنا إننا نحن‬
‫مرة أخرى مثل الغنم للذبح‪ ،‬على األقل ليس بدون قتال‬ ‫اليهود لن نسير ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ضار‪ .‬وشعرنا أننا نعيش في عالم من الوحوش‪ ،‬وأننا يجب أن نكون مثل‬
‫الوحوش ّ‬
‫حتى نستطيع أن نحيا في العالم‪.‬‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫وعندما انتهت الوصاية البريطانية على فلسطين‪ ،‬دارت حروب أكثر‬


‫ّ‬
‫بين اليهود والعرب من أجل األرض‪ .‬والتحقت بالجيش ألني كنت مقتنعا‬
‫ّ‬
‫أنه ال يمكن أن أسمح لنفس ي باالستمرار أن أسحق باألقدام‪...‬‬

‫وأثناء حمالتنا على رام هللا واللد‪ ،‬أمرت كتيبتي الفلسطينيين أن‬
‫يتركوا بيوتهم خالل ساعات‪ .‬ولم نسمح لهم أن يرحلوا بسالم لكننا‬
‫سكبنا غضبنا عليهم‪ .‬فضربناهم وعاملناهم بقسوة‪ .‬ولقي بعضهم حتفه‪.‬‬
‫ولم تكن لدينا أوامر بفعل هذا‪ ،‬لكننا فعلنا هذا من تلقاء أنفسنا‪ .‬فقد‬
‫أطلقنا العنان ألدنى غرائزنا واحقرها‪.‬‬

‫عيني طفولتي في وقت الحرب في بولندا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وفجأة‪ ،‬ملعت أمام‬


‫َ‬
‫واستعدت في ذهني خبرتي كطفل في العاشرة من عمره يبعد عن بلدته‪.‬‬
‫واآلن أمامي هؤالء الناس ‪ -‬رجال ونساء وأطفال ‪ -‬يهربون ّ‬
‫بكل ما يمكنهم‬
‫جيدا‪ .‬شعرت بألم‬ ‫أن يحملوه‪ .‬والخوف في عيونهم‪ ،‬خوف أعرفه أنا ّ‬
‫عميق‪ ،‬لكنني كنت تحت األوامر‪ ،‬واستمررت في البحث عن أشياء ّ‬
‫قيمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ضحية‪ ،‬لكني اآلن أملك القوة والنفوذ‪.‬‬ ‫وعلمت أنني لم أعد‬

‫ّ‬
‫اليهودية‪ ،‬وترك الدين‬ ‫ترك يوسف الجيش لكنه ما زال غير سعيد‪ .‬وترك‬
‫بر ّمته‪ ،‬وحاول أن يعطى معنى للعالم من خالل تفسير شروره باملنطق‪ .‬لكن لم‬
‫ينجح األمر معه‪ .‬وفي نهاية املطاف جاء الى أحد مجتمعات برودرهوف‬
‫املسيحية‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ألول مرة حقيقة الغفران‪ .‬وأسأل نفس ي‪" :‬كيف ال يمكنني أن‬ ‫هنا اختبرت ّ‬
‫ّ‬
‫أغفر لآلخرين على الرغم من أنني أنا نفس ي بحاجة إلى الكثير من الغفران‬
‫مرة بعد أخرى؟" وفوق كل ش يء‪ ،‬فإني كلي أمل أنه في يوم من ّ‬
‫األيام‬
‫سيمتلئ الناس في كافة أنحاء العالم بالروح نفسه الذي خلصني‪.‬‬
‫إنهاء دوامة الحقد ‪11‬‬

‫لكل من "جي َرد" و"هيال" و"يوسف" أسبابا مقنعة لعدم الغفران‬ ‫كان ّ‬
‫ّ‬
‫البشرية كانوا أبرياء‪ .‬إذ كانت األعباء التي يحملونها‬ ‫ألعدائهم‪ .‬فمن وجهة النظر‬
‫ّ‬
‫نتيجة لكراهية اآلخرين لهم وليس كراهيتهم لآلخرين‪ .‬ولهذا كان لهم ك ّل الحق‬
‫في أن يشعروا باملشاعر التي شعروا بها‪.‬‬

‫ّ‬
‫خاصة لهؤالء الذين ذبحوا‬ ‫ال أحاول للحظة أن أقول إ ّن الغفران سهل‬
‫عائلتك وأصدقائك وجيرانك‪ ،‬لكن من خبرتي كراع كنس ي وكمشير أن أقول ّإن‬
‫سيظل مضطهديهم ضحايا لهم بعدما‬‫ُّ‬ ‫هؤالء الذين ال يستطيعون أن يغفروا‬
‫ّ‬
‫الجسدي‪.‬‬ ‫ينتهي الخطر أو األلم‬

‫جيرد" و"هيال" و"يوسف" أن ينهوا دوامة‬‫واألكثر من ذلك أن بإمكان " َ‬


‫الكراهية بالغفران بالرغم من ّأنهم أنفسهم عانوا كثيرا‪ .‬فاستطاعوا أن‬
‫ّ‬
‫يتحرروا من مشاعر الرعب التي انتابهم في املاض ي‪.‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫باركـوا الـذيـن يـضـطـهـدونـكـم‬

‫يقف اإلنسان في حيرة من أمره أمام بعض املسائل ُ– باألخص أمام ما‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫املحبة‬ ‫نشهده من خطايا البشر ‪ -‬ويتساءل‪ :‬هل يجب أن أستخدم الق ّوة أم‬
‫صممت أن‬ ‫دائما استخدام املحبة املُتواضعة! ‪ ...‬وإن ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫قر ُر‬
‫ُ‬
‫املتواضعة؟ ‪ِ ...‬‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫فاملحبة‬ ‫فرّبما ستخضع العالم كله لك‪.‬‬ ‫مرة واحدة ولألبد‪ُ ،‬‬ ‫تفعل ذلك ّ‬
‫املُتواضعة ّ‬
‫قوية للغاية‪ ،‬ومن أقوىُ األشياء‪ ،‬وال يوجد ش يء مثلها‪.‬‬

‫قول من‬
‫فيودور دوستويفسكي ‪Fyodor Dostoevsky‬‬
‫وهو من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العامليين‬

‫ّ‬
‫ال السيد المسيح في الموعظة على الجبل إنه يجب أن نح ّب أعداءنا –‬ ‫َق َ‬
‫وقد قال أيضا أنه يجب أن "نبارك" الذين يضطهدوننا‪ .‬ولم تكن هذه م ّ‬ ‫ّ‬
‫جرد‬
‫نظرية‪ ،‬لكنه مبدأ أظهره يسوع املسيح بوضوح في كلماته على الصليب حين‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ُ َ َّ ُ َ َ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ن َماذا َيف َعلونُ‪( ".‬لوقا ‪ )24 :32‬وصلى‬ ‫قال‪َ " :‬يا أ َبت ُُ‬
‫اه اغ ِفرُ لهمُ ألنهمُ الُ يعلمو ُ‬
‫تعرضت حياته‬‫املسيحية صالة مشابهة لهذه عندما ّ‬‫ّ‬ ‫اسطيفانوس ّأول شهيد في‬
‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫لنهاية مأساوية إذ قال‪" :‬يا َر ُّب‪ ،‬ال تحس ْب عل ِيهم ِ‬
‫هذ ِه الخطيئة!" (أعمال ‪)61 :0‬‬

‫يسخر كثيرون من هذه األفعال ويعتبروها حماقة م ّ‬


‫دمرة للنفس‪ .‬فكيف‬
‫لنا أن نبارك هؤالء الذين يسعون إليذائنا أو وضع نهاية لحياتنا؟‬

‫‪36‬‬
‫باركوا الذين يضطهدونكم ‪17‬‬

‫عندما أعطيت نسخة من هذا الكتاب قبل‬


‫طباعته لصديقي "موميـا أبو جمال ‪Mumia‬‬
‫‪ "Abu-Jamal‬وهو كاتب االنتقادات الالذعة من‬
‫األميركيين األفارقة الذي ينتظر عقوبة اإلعدام‬
‫في والية بنسلفانيا األمريكية‪ ،‬كان ُّرد فعله كما‬
‫يلي‪:‬‬

‫من السهل على الناس الذين يعيشون في‬


‫مكان يشبه ّ‬
‫الجنة أن يعظوا عن الغفران‬
‫عندما يكون لديهم ما يكفيهم من الطعام واملزارع واألراض ي والبيوت‬
‫ّ‬
‫التجارية وما إلى ذلك‪ .‬لكن هل من العدل أن نقول‬ ‫الجميلة واملشروعات‬
‫ّإن من يعيشون في جحور من الجحيم ‪ -‬بال وظيفة ومهددين بموت‬
‫ّ‬
‫وشيك بسبب الجوع ‪ -‬أولئك الذين وصفهم الكاتب "فرانز فانون ‪Frantz‬‬
‫‪ "Fanon‬في كتابه "تعساء األرض ‪ ،"The wretched of the earth‬أن‬
‫جيدة ويدلون بأصواتهم‬ ‫بصحة ّ‬‫ّ‬ ‫يغفروا ملاليين الناس الذين ّ‬
‫يتمتعون‬
‫لصالح هذه املجاعة؟ أو التصويت من أجل الحرب؟ أو التصويت إلقامة‬
‫السجون؟ أو التصويت من أجل استمرار القمع ضدهم؟ هؤالء الذين‬
‫يتمنون من صميم قلوبهم لو لم يكن قد وِلدوا في هذا العالم أصال؟ فهل‬
‫سيغفرون لهم على القمع الذي ينتظرهم؟ وعلى اإلبادة الجماعية اآلتية؟‬

‫كان "مارتن لوثر كنج ‪ ".Jr،Martin Luther King‬من األشخاص الذين رأوا‬
‫ّأنهم يجب أن يغفروا‪ ،‬وقد قال‪" :‬رّبما ال توجد ّ‬
‫وصية من وصايا يسوع املسيح‬
‫حب أعداءنا"‪ .‬وقد كتب‬ ‫ّ‬
‫الوصية التي تأمرنا بأن ن ّ‬ ‫يصعب تنفيذها مثل تلك‬
‫هذا في كتابه الذي كان من أفضل الكتب مبيعا في عام ‪ 0962‬بعنوان "القوةّ‬
‫لن ِحب"‪ .‬فيقول فيه‪:‬‬
‫‪ 18‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫الفعلية ّ‬
‫ملحبة األعداء غير ممكنة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لقد شعر بعض الناس ّأن املمارسة‬
‫حبونك‪ ،‬لكن كيف يمكن‬ ‫فيقولون ّإنه من السهل أن ت ّ‬
‫حب هؤالء الذين ي ُّ‬
‫حب هؤالء الذين علنا وبكامل املكر يسعون ألن يهزمونه‪...‬؟‬ ‫للمرء أن ي ّ‬
‫وحاشا لوصية محبة األعداء أن تكون‬
‫متدين مثالي‪ ،‬بل هي ضرورة‬ ‫ّ‬ ‫وصية حالم‬
‫ّ‬
‫حتمية لبقائنا‪ .‬فاملحبة حتى ألعدائنا تعتبر‬
‫لحل مشكالت عاملنا‪ .‬إن يسوع هو‬ ‫مفتاحا ّ‬
‫ليس شخص مثالي غير عملي‪ ،‬بل إنه واقعي‬
‫وعملي‪...‬‬
‫ّإن الرد على الكراهية بالكراهية‬
‫يضاعف من الكراهية‪ ،‬ويزيد من سواد الليل‬
‫الذي هو سلفا خال من النجوم‪ .‬فالظالم ال‬
‫يقدر على طرد الظالم؛ فالنور وحده القادر على ذلك‪ .‬والكراهية ال تقدر‬
‫فاملحبة وحدها القادرة على ذلك‪ .‬فالكراهية تضاعف‬ ‫ّ‬ ‫على طرد الكراهية؛‬
‫الكراهية‪ ،‬والعنف يضاعف العنف‪ ،‬والقسوة تضاعف القسوة في دوامة‬
‫جارفة على طريق الدمار‪...‬‬
‫ّ‬
‫املحبة هي الق ّوة الوحيدة القادرة على تحويل العدو إلى صديق‪.‬‬ ‫إن ّ‬
‫ّ‬
‫فال يمكن أن نتخلص من أعدائنا عندما نقابل كراهيتهم بكراهية؛ لكننا‬
‫التخلص من العداوة‪ .‬فالكراهية بطبيعتها م ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫دمرة‬ ‫نتخلص من العدو ب‬
‫تغير اآلخرين بقوة‬ ‫املحبة بطبيعتها فتخلق وتبني‪ .‬فاملحبة ّ‬ ‫ّ‬ ‫مزقة؛ ّأما‬
‫وم ِ‬
‫شافية‪.‬‬

‫باملحبة واتخاذها كسالح سياس ّي نابع من إيمانه‬‫ّ‬ ‫لقد كان التزام "كنج"‬
‫َ ّ‬ ‫ّ‬
‫املسيحي‪ ،‬لكن كان لديه أيضا نزعة عملية في تفكيره‪ .‬فقد ع ِلم أنه كان عليه‬
‫وكان على كل زمالئه األمريكيين األفريقيين انتظار النتائج والعيش لعقود تالية‬
‫في املنطقة نفسها التي كانوا يقيمون فيها حمالتهم للحصول على اعتراف‬
‫الحكومة بحقوقهم املدنية‪ ،‬التي حرموا منها ملائتي عام بسبب لون بشرتهم‪ ،‬ال‬
‫غير‪ .‬فلو سلموا ألنفسهم إلى الشعور بالبغض عن املعاملة التي تلقونها‪،‬‬
‫باركوا الذين يضطهدونكم ‪19‬‬

‫فسيتحول األمر إلى عنف وهذا من شأنه أن يؤدي ببساطة إلى مزيد من‬ ‫ّ‬
‫البغض واالستياء في املستقبل‪ .‬وبدال من تهديم جدران الحقد العنصري‪،‬‬
‫فسيصير بناءه أعلى‪ .‬إن املغفرة لظامليهم هي الكفيل الوحيد لتحرير األمريكيين‬
‫األفريقيين – وأيضا األمريكيين البيض ‪ -‬من "الدوامة الجارفة نحو الدمار"‪.‬‬
‫فالغفران هو وحده القادر على أن يشير إلى الطريق الذي يقودنا إلى مستقبل‬
‫أكثر إشراقا‪ .‬فقد قال مارتن لوثر‪:‬‬

‫نمي قدرتنا على الغفران ونحافظ عليها‪ .‬فالشخص الذي يخلو‬ ‫يجب أن ن ّ‬
‫من ق ّوة الغفران‪ ،‬يخلو من ق ّوة املحبة‪ .‬ومن املستحيل أن يبدأ الشخص‬
‫مسبق بضرورة الغفران ومسامحة الذين‬ ‫محبة أعدائه دون قبول ّ‬ ‫حتى في ّ‬
‫يمارسون‪ ،‬الشر واألذية تجاهنا في كل مرة‪ .‬ومن الضروري أيضا أن ندرك‬
‫ّ‬
‫الضحية التي‬ ‫ّأن الغفران هو فعل يجب أن يبدأه الشخص املظلوم‪ ،‬أو‬
‫تعاني من جرح كبير‪ ،‬أو الشخص الذي تلقى ظلما فظيعا‪ ،‬أو الشخص‬
‫تحمل اضطهادا شنيعا‪ .‬وربما يسألكم املعتدي لتغفروا له‪ .‬ور ّبما‬ ‫الذي ّ‬
‫ّ‬
‫يأتون بنفسهم‪ ،‬مثل االبن امل َبذر (االبن الضال)‪ ،‬من الطريق املليء‬
‫بالضياع‪ ،‬وقلوبهم تخفق عطشا للحصول على الغفران‪ .‬لكن الشخص‬
‫املجروح واألب املنتظر في البيت هو وحده الذي يستطيع أن يسكب مياه‬
‫الغفران الدافئة‪.‬‬
‫والغفران ال يعني تجاهل ما تم اقترافه أو إعطاء تسمية كاذبة لعمل‬
‫الشر ال يعود يبقى كعائق في العالقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شرير‪ .‬لكنه يعني باألحرى أن‬
‫املحفز الذي يخلق املناخ الالزم لبداية جديدة وصفحة‬ ‫ّ‬ ‫فالغفران هو‬
‫جديدة‪...‬‬
‫نقول ألكثر خصومنا املريرين‪" :‬سنقابل قدرتكم على تعذيبنا بقدرتنا‬
‫تحمل املعاناة‪ .‬وسنعمل على مقابلة قوتكم البدنية بقوة الروح‪.‬‬ ‫على ُّ‬
‫سنظل نحبكم‪ .‬وال يمكننا أن نطيع‬ ‫ُّ‬ ‫فافعلوا فينا ما تشاؤون‪ ،‬لكننا‬
‫الشر ضرورة أخالقيةّ‬‫ألن عدم التعاون مع ّ‬ ‫حي‪ّ ،‬‬
‫قوانينكم الظاملة بضمير ّ‬
‫ُّ‬
‫سنظل‬ ‫تماما مثلها مثل التعاون مع الخير‪ .‬ألقوا بنا في السجون‪ ،‬لكننا‬
‫ّ‬ ‫ن ّ‬
‫حبكم‪ .‬أرسلوا الجناة امللثمين إلى مجتمعنا في منتصف الليل‪ ،‬اضربونا‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬ ‫سنظل ن ُّ‬


‫ُّ‬ ‫واتركونا نصف ّ‬
‫حبكم‪ .‬لكن كونوا متأكدين من‬ ‫ميتين‪ ،‬لكننا‬
‫أنكم ستنهكون من جراء قدرتنا على ُّ‬
‫تحمل األلم‪ .‬ففي يوم من األيام‬
‫سنكسب ح ّريتنا‪ ،‬لكن ليس من أجلنا فقط‪ .‬فسنناشد كثيرا قلوبكم‬
‫وضمائركم بحيث أننا سنكسبكم في هذه العملية‪ ،‬وانتصارنا سيكون‬
‫نصرا مزدوجا‪".‬‬

‫في ربيع عام ‪ 7911‬خرجتُ في مسيرة مع "مارتن لوثر كنج" في مدينة‬


‫محبته القلبية وتواضعه في‬‫ّ‬ ‫ماريون بوالية أالباملا‪ ،‬ألشهد بصورة مباشرة‬
‫مواجهة الظلم الفظيع‪.‬‬
‫سكجي ‪ Tuskegee‬في والية أالباما‬‫كنت أزور أصدقاء قدماء في معهد ت ِ‬
‫ُّ‬
‫عندما سمعنا بموت "جيمي لي جاكسون" وهو شاب أطلق عليه الرصاص قبل‬
‫ثماني ّأيام من ذلك التاريخ عندما اخترق رجال الشرطة مظاهرة في إحدى‬
‫الكنائس في مدينة ماريون‪ .‬واندفعت قوات الشرطة املحلية من كل أنحاء مركز‬
‫والية أالباملا لتجتمع في املدينة وضربت املتظاهرين بالعص ّي أثناء تدفقهم‬
‫بالشوارع‪.‬‬
‫تفرجون املشهد أنه كان فوضوي تماما‪ ،‬حيث قام الناس‬ ‫وقد وصف امل ّ‬
‫البيض الذين كانوا يتفرجون بتحطيم كاميرات الصحافة وكسر مصابيح‬
‫ّ‬
‫الشوارع‪ ،‬في الوقت الذي كانت ق ّوات الشرطة تهاجم الرجال والنساء بوحشية‪،‬‬
‫واستمر بعضهم في الركوع والصالة على درج كنيستهم‪ .‬وكانت جريمة "جيمي"‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أنه اعترض ضابط الشرطة الذي كان يضرب والدته بال رحمة‪ .‬وكان عقابه أن‬
‫يتم إطالق الرصاص عليه في معدته ويلقى ضربة بالعصا على رأسه ليوشك‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫املحلية إدخاله‪ ،‬لذلك نقل إلى مدينة "سيلمة‬ ‫على املوت‪ .‬ورفضت املستشفى‬
‫ّ‬
‫‪ "Selma‬في والية كاليفورنيا حيث استطاع أن يخبر الصحفيين بقصته‪ .‬وقد‬
‫مات بعد ّ‬
‫عدة ّأيام‪.‬‬
‫وفور سماعنا بموت "جيمي" ذهبنا إلى مدينة "سيلمة"‪ .‬وكانت معاينة‬
‫ّ‬
‫الفقيد في املصلى الصغير لكنيسة منطقة براون حيث كان التابوت مفتوحا‬
‫لكن على الرغم من ّأن الطبيب القانوني بذل قصارى جهده لكي يخفي جروح‬
‫ّ ّ‬
‫جيمي إال أنه لم يستطع إخفاء الجروح التي في رأسه‪ :‬فقد كانت هناك ثالث‬
‫باركوا الذين يضطهدونكم ‪17‬‬

‫يمر فوق‬‫كل منها بعرض بوصة وبطول ثالث بوصات أحدها ُّ‬ ‫ضربات قاتلة‪ّ ،‬‬
‫أذنه واألخرى في قاع الجمجمة واألخيرة في أعلى رأسه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وحضرنا الجنازة هناك بعدما تأثرنا باملوقف بشدة‪ ،‬حيث كانت األولى من‬
‫تعج بحوالي ثالثة آالف شخص (كثيرون غيرهم‬ ‫بين جنازتين‪ .‬وكانت القاعة ُّ‬
‫كانوا يقفون بالخارج)‪ ،‬أما نحن فجلسنا على عتبة ش ّباك في الخلف‪ .‬لم نسمع‬
‫أي تعليق عن الغضب أو االنتقام في تلك الجنازة‪ ،‬بل انتشرت روح التشجيع‬
‫ّ‬
‫بين الحاضرين وبصفة خاصة عندما رنموا ترنيمة العبيد القديمة‪" :‬لن أسمح‬
‫لشخص أن يبعدني عما أريد ‪".Aint gonna let nobody turn me round‬‬
‫ّ‬
‫النظامية (لطائفة‬ ‫الجو السائد في كنيسة صهيون‬ ‫ُّ‬ ‫وفيما بعد كان‬
‫النظاميين ‪ )Methodists‬في ماريون أكثر هدوء وبكل ما في الكلمة من معنى‪.‬‬
‫ُّ‬
‫فقد كان هناك صف طويل من قوات الشرطة املحلية يقفون في ساحة‬
‫محكمة املدينة في الجهة املقابلة من الشارع‪ ،‬وأيديهم تمسك بعص ي ومركزين‬
‫نظرهم علينا‪ .‬كانوا هم الرجال نفسهم الذين هاجموا السود في مدينة ماريون‬
‫تجمع جمهور البيض في منطقة قريبة من املبنى‬ ‫منذ عدة أيام قليلة‪ .‬هذا وقد ّ‬
‫أقل رعبا‪ .‬وقد قاموا بمسح كامل للمنطقة بالنواظير‬ ‫العام للمدينة ولم يكونوا ّ‬
‫والكاميرات وصورونا بالكامل بحيث شعر كل واحد منا أنه تم وضع عالمة‬
‫عليه‪.‬‬
‫واملحبة‪ .‬وناشد شعبه أن يصلوا‬ ‫ّ‬ ‫وعند املقبرة‪ ،‬تحدث "كنج" عن الغفران‬
‫من أجل رجال الشرطة‪ ،‬وأن يغفروا للقتلة‪ ،‬وأن يغفروا لهؤالء الذين‬
‫يضطهدونهم‪ .‬ثم أمسك بعضنا بأيدي بعض ورنمنا "سنغلب ‪We shall‬‬
‫‪ ."overcome‬كانت لحظات ال يمكن نسيانها‪ .‬فإن كان هناك مكان في العالم له‬
‫نحس مطلقا‬ ‫ّ‬ ‫جميع الدواعي ليحقد وينتقم فسيكون هذا املكان‪ .‬غير أننا لم‬
‫بش يء من هذا القبيل وال حتى من طرف أهل "جيمي"‪.‬‬
‫كان الذهاب إلى "سيلمة" محفوفا باملخاطر فبعد أربعة أيام فقط من‬
‫الخيالة مع متظاهرين كانوا في طريقهم الى مدينة‬ ‫الجنازة تواجهت الشرطة ّ‬
‫مونتجمري واستعملوا الغازات املسيلة للدموع حيث اندفعوا بخيلهم نحو‬
‫املتظاهرين وأسقطوهم أرضا وضربوهم بال رحمة‪ .‬وبعد مض ّي يومين من هذا‬
‫تعرض قسيس أبيض "جيمس ريب" من مدينة بوسطن للضرب في‬ ‫الحادث ّ‬
‫‪ 10‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫مركز مدينة "سيلمة"‪ ،‬ومات متأثرا بجراحه بعد يومين‪ .‬وخالل الثالثة أسابيع‬
‫سيدة بيضاء من مدينة ديترويت مصرعها‬ ‫التي تلت لقت "فيوال ليوزو" وهي ّ‬
‫قل رجال أسود من مظاهرة‪( .‬لقد فعلنا نحن أيضا‬ ‫بطلق نار ّي عندما كانت ت ُّ‬
‫األمر نفسه قبل أسبوع واحد فقط من تلك الحادثة‪ ،‬عندما أوصلنا ثالثة‬
‫سيدات ك ّن بحاجة إلى وسيلة مواصالت ت ُّ‬
‫قلهم إلى ماريون‪).‬‬
‫تأثرت ّ‬ ‫ّ‬ ‫بعد ّ‬
‫بشدة عندما قرأت عن غفران أوالد مدارس‬ ‫عدة سنوات‬
‫"سيلمة" في تلك األيام نفسها من فبراير ومارس ‪ .0963‬فقد نظم التالميذ‬
‫سلمية بعد انتهاء دوام املدرسة وإذا بمأمور البلدة السيئ السمعة‬ ‫ّ‬ ‫مسيرة‬
‫جبر التالميذ‬‫"كالرك" يصل‪ .‬وبدأ هو وتابعيه في دفع التالميذ ونخسهم‪ ،‬وحاال أ ِ‬
‫ّ‬
‫على الركض باتجاه معين‪ .‬فاعتقد الفتيان والفتيات في البداية أن رجال‬
‫الشرطة يدفعونهم إلى مركز توقيف البلدية لحجزهم‪ ،‬لكنهم سرعان ما‬
‫اكتشفوا ّأنهم م ّتجهين إلى معسكر السجن على بعد خمسة أميال من املدينة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولم يهدأ رجال الشرطة إال عندما أخذ األوالد بالتقيؤ‪ .‬وفيما بعد ّادعت‬
‫الشرطة ّأنها أرادت أن تنهك "حمى املظاهرات" في "سيلمة" للتخلص منها لألبد‪.‬‬
‫عدة ّأيام من تلك الحادثة نقل املأمور "كالرك" إلى املستشفى بسبب‬ ‫بعد ّ‬
‫إصابته بآالم في الصدر‪ .‬واألمر الذي ال يمكن تصديقه هو أن أوالد املدارس في‬
‫نظموا مظاهرة ثانية خارج املحكمة وهذه ّ‬ ‫ّ‬
‫املرة مرتلين الصلوات‬ ‫"سيلمة"‬
‫ورافعين الفتات تدعو للشفاء العاجل‪.‬‬

‫الحظ "روبرت كولس ‪ "Robert Coles‬وهو طبيب نفساني لألطفال ومشهور‬


‫في أمريكا‪ ،‬الحظ موقف التسامح العجيب ذاته لدى األوالد عندما عمل في‬
‫مستشفى نيو أورليانز في عام ‪ .0961‬فقد عارض األهالي البيض علنا قرار‬
‫الية الخاص بإلزام مدارس املدن بإنهاء الفصل العنصري فيها‪،‬‬ ‫املحكمة الفيدر ّ‬
‫ولم يكتفوا بسحب أوالدهم من ّأية مدرسة تسمح بوجود طالب أسود فحسب‬
‫بل حتى صاروا يرابضون أمام املدارس ليمنعوهم من الدخول إليها‪.‬‬
‫كانت هناك فتاة في السادسة من عمرها تدعى "روبي بريدج" وكانت هي‬
‫ّ‬
‫أفريقي في مدرستها‪ .‬وألسابيع طويلة كان‬ ‫ّ‬
‫األمريكية من أصل‬ ‫الفتاة الوحيدة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عليها دخول املدرسة في حراسة الحرس الفيدرالي‪ .‬وفي أحد األيام رأتها املعلمة‬
‫باركوا الذين يضطهدونكم ‪11‬‬

‫وهي تتمتم بكلمات من فمها حين كانت تعبر صفوف اآلباء البيض الغاضبين‪،‬‬
‫وعندما ذكرت املعلمة ذلك أمام "كولس" انتابه الفضول قائال‪" :‬ما الذي كانت‬
‫تقوله؟"‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فلما سأل "كولس" الفتاة "روبي" أجابت أنها كانت تصلي من أجل اآلباء‬
‫ّ‬
‫البيض‪ .‬فاندهش "كولس" وسألها باستغراب‪" :‬وملاذا تصلين لهم؟" فأجابت‪:‬‬
‫ّ‬ ‫" ّ‬
‫ألنهم بحاجة ملن يصلي ألجلهم" فقد سمعت في الكنيسة كلمات يسوع املسيح‬
‫َ ُ َ َّ ُ َ َ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ن َماذا‬‫وهو يموت على الصليب قائال‪َ :‬يا أ َبت ُاهُ اغ ِف ُر لهمُ ألنهمُ الُ يعلمو ُ‬
‫ُ َ‬
‫ن‪ ".‬لقد اخترقت هذه الكلمات قلبها‪ .‬وقد رأى الطبيب "كولس" الفتاة‬ ‫َيف َعلو ُ‬
‫"روبي بريدجز" ومن مثلها على ّأنهم بذور لوالدة أمريكا الجديدة‪.‬‬

‫قوي حياتنا‬‫للغفران أن يجعلنا ضعفاء أو عرضة لالعتداء‪ ،‬بل ّإنه ي ّ‬ ‫وحاشا ُ‬


‫ّ‬
‫وعملنا‪ .‬فهو يجلب نهاية إنسانية حقيقية ألصعب املواقف‪ ،‬وذلك ألنه يسمح‬
‫ّ‬
‫الشر بالشر‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية واملجازاة عن‬ ‫لنا أن نترك جانبا مقاييس العدالة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحقيقي للقلب‪ .‬واألكثر من ذلك‪ ،‬فهو يوظف سلسلة من ردود‬ ‫نختبر السالم‬
‫ّ‬
‫األفعال اإليجابية التي تأتي بثمار الغفران لآلخرين أيضا‪.‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫ح ُّبوا أَعدا َء ُكم‬


‫أ ِ‬

‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َ ََ ََ ُ‬


‫َوأ َّما أنا فأقو ُلُ لكمُ‪ :‬أ ِح ُّبوا أعد َاءك ُم‪َ .‬ب ُِاركوا ال ِع ِنيك ُم‪ .‬أح ِسنوا ِإلى‬
‫َ َُ ُ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫َّ َ ُ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ َ َ ُّ َ‬
‫ن ِإليكمُ َو َيط ُر ُدونكم‪ِ ،‬لك ُي تكونوا أبن َاءُ‬ ‫ل ال ِذينُ ي ِسيئو ُ‬ ‫صلوا ألج ِ ُ‬ ‫ُمب ِغ ِضيكم‪ ،‬و‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الس َم َاوات‪َ ،‬فإ َّن ُُه ُيشر ُقُ َشم َس ُُه َع َلى األش َرارُ َو َّ‬ ‫يك ُُم َّالذي في َّ‬ ‫َ ُ‬
‫الص ِال ِحين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ ِب‬
‫َ َ ُّ َ‬ ‫َ َ ُ ُ َّ َ ُ ُّ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُ َ َ َ َ َ َّ َ َ َّ‬
‫ي أج ُر‬ ‫ين ي ِحبونكم‪ ،‬فأ ُ‬ ‫ن أحببت ُم ال ِذ ُ‬ ‫املينُ‪ .‬ألن ُه ِإ ُ‬
‫ار والظ ِ ِ‬ ‫ط ُر على األبر ُ‬ ‫ويم ِ ُ‬
‫َ ُ ََ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ َ َّ ُ َ َ‬ ‫َ ُ َ َ َ َ َّ ِ ُ َ َ‬
‫ن ِذلك؟ و ِإنُ سلمت ُم على ِإخو ِتك ُم فقط‪،‬‬ ‫ون أيضا يفعلو ُ‬ ‫لكم؟ أليسُ العشار ُ‬
‫َ َ ُ َن َ َ َ ُ ُ َ ُ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ َ َ َّ ُ َ َ‬ ‫َ َ َّ َ‬
‫ون أيضا يفعلو ُ هكذا؟ فكونوا أنتمُ‬ ‫س العشار ُ‬ ‫ي فضل تصنعون؟ ألي ُ‬ ‫فأ ُ‬
‫َّ َ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ‬
‫اتُ هوُ ك ِاملُ‪.‬‬‫ن أباك ُم ال ِذي ِفي السماو ِ‬ ‫ين كما أ ُ‬‫ك ِام ِل ُ‬

‫قول من‬
‫يسوع املسيح‬

‫"جيمس كريس ِتنسن ‪ "James Christensen‬وهو من أحد معارفي في روما‬


‫الذي هو رئيس دير الترابيين هناك "‪( "Trappist monastery‬إحدى الحركات‬
‫قصة عجيبة عن الغفران‪ .‬ففي عام ‪0996‬‬ ‫الرهبانية)‪ ،‬سمعت منه قبل مدة ّ‬
‫اختطفت مجموعة من املسلمين املتطرفين في الجزائر ‪-‬الجماعة اإلسالمية‬
‫املسلحة ‪ - G.I.A‬سبعة من زمالء "جيمس" الرهبان في جبال أطلس‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫وهددت‬
‫حتى تطلق فرنسا عددا من رفاقهم املسجونين‪ .‬وعندما‬ ‫أن تحتجزهم كرهائن ّ‬
‫ّ‬
‫الفرنسية‪ ،‬ذبحت تلك الجماعة الرهبان‪.‬‬ ‫رفضت الحكومة‬

‫‪44‬‬
‫حبُّوا أَعدا َءكُم ‪11‬‬
‫أ ِ‬

‫كل كنائس فرنسا‬ ‫ارتعبت فرنسا ك ّلها كنتيجة لذلك‪ ،‬وأطلقت ّ‬


‫الكاثوليكية ‪ -‬وعددها ‪ 41111‬كنيسة ‪ -‬أجراسها في آن واحد كذكرى لهؤالء‬‫ّ‬
‫الرهبان‪ .‬إال أن ما أثر فعال ّفي من هذه املأساة ش يء مختلف تماما وقعت‬
‫س "كريستيان دي تشرجي‬ ‫ائرية َه َج َ‬
‫ظالله منذ عامين‪ ،‬فقبل املذبحة الجز ّ‬
‫س هاجسا‬ ‫‪ ،"Christian de Chorge‬وهو رئيس دير الرهبان الجزائري‪َ ،‬ه َج َ‬
‫ّ‬
‫غريبا من أنه سيموت ميتة عنيفة‪ ،‬وكتب خطاب غفران ملغتاليه مسبقا‪ .‬وختم‬
‫ّ‬
‫الخطاب وتركه مع والدته في فرنسا‪ .‬ولم يكتشف الخطاب إال بعد موته‪ ،‬وفيما‬
‫يلي جزء منه‪:‬‬

‫ّ‬
‫ضحية لإلرهاب‬ ‫علي أن أصبح في يوم من ّ‬
‫األيام ‪ -‬ورب ّما اليوم ‪-‬‬ ‫إن كان ّ‬
‫كل األجانب الذين يعيشون في الجزائر‪ُّ ،‬‬
‫فأود أن‬ ‫الذي يبدو أنه يستهدف ّ‬
‫ّ‬
‫يتذكر املجتمع الذي أعيش فيه وكنيستي وعائلتي ّأن حياتي قد قدمتها‬
‫ّ‬
‫سلموا أن سيد الحياة الوحيد لم يكن غافال عن هذا‬ ‫هلل وللجزائر؛ وأن ي ِ‬
‫الرحيل الفظيع‪.‬‬
‫ُّ‬
‫عندما يأتي الوقت أود أن تتاح لي الفرصة لكي أطلب الغفران من‬
‫كل قلبي للشخص الذي‬ ‫البشرية‪ ،‬وألن أغفر من ّ‬ ‫ّ‬ ‫هللا لي وألتباعي في‬
‫سيقتلني‪.‬‬
‫ّ‬
‫لم أرغب في ميتة كهذه‪ .‬فيبدو لي أنه من الضروري أن اذكر ذلك ‪-‬‬
‫فكيف سأفرح إذا اتهم الشعب الجزائر ّي الذي ُّ‬
‫أحبه بقتلي؟‬
‫أشكر هللا على هذه الحياة املفقودة التي أبذلها في سبيل اآلخرين‬
‫كما أوصانا السيد املسيح‪ ،‬وفي شكري هذا‪ ،‬الذي أقدمه ّ‬
‫لكل ش يء‬
‫يحدث في حياتي من اآلن فصاعدا‪ ،‬فأنا بالتأكيد‪ُّ ...‬‬
‫أود أن أشملك هنا في‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫صالتي يا صديق لحظاتي األخيرة ألنك ال تعلم ماذا تفعل‪ ...‬واسلمك هلل‬
‫الذي أراك في وجهه‪ .‬ولعل بعضنا يجد بعضا‪ ،‬يا أيها "اللصوص الطيبين"‬
‫الفرحين في السماء‪ ،‬إن كان هذا يسعد هللا‪ ،‬أبانا أجمعين‪.‬‬

‫ومن الواضح ّأن رئيس الدير هذا مع إخوانه الرهبان لم يكونوا مجرد رجال‬
‫شجعان ليقبلوا مثل هذا املوت‪ .‬فهناك كثيرون من أمثالهم‪ .‬فقد امتأل هؤالء‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫الرجال بروح التواضع النادرة ُّ‬


‫ومحبة غفرانيه التي ال يمكن أن نصفها إال ّ‬
‫أنها‬
‫مشابهة لروح السيد املسيح‪.‬‬

‫إسرائيل وفلسطين تحتاج إلى المصالحة مثلها مثل أماكن عديدة في هذه‬
‫األرض‪ .‬ففي عام ‪ 0911‬سافرت ّ‬
‫ألول مرة إلى تلك‬
‫مزقتها الحروب حيث قابلت إلياس‬ ‫األرض التي ّ‬
‫شقور وهو أسقف ملكي (من طائفة امللكيين‬
‫ُّ‬
‫فلسطيني عمل لسنوات‬ ‫الكاثوليكيين) وناشط‬
‫ّ‬
‫واستمرت‬ ‫طويلة بال كلل من أجل السالم‪.‬‬
‫حتى هذا اليوم‪ ،‬وقد زار إلياس‬ ‫صداقتنا ّ‬
‫مجتمعاتنا املسيحية ‪ -‬برودرهوف ‪- Bruderhof‬‬
‫ّ‬
‫مرتين‪.‬‬
‫يمكن أن يتوقع الكثيرون ويبرروا امتالء صدره بالبغض والحقد‪ .‬فهو‬
‫"إنسان بال بلد" ألن قريته د ّمرت في عام ‪ ،0940‬ودخل السجن ألكثر من ّ‬
‫مرة‬
‫وتحمل سنوات من القسوة واالعتداء على أيدي الحكومة اإلسر ّ‬
‫ائيلية‪ .‬لكنه‬ ‫ّ‬
‫واحد من أكثر الناس الذين عرفتهم مملوءين بالحرارة والتواضع والحنان‪ .‬فعلى‬
‫ّ ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شرد إال أنه ما زال مقتنعا طوال الوقت بفكرة‪" ،‬أن‬ ‫فلسطيني م‬ ‫الرغم من أنه‬
‫ألنهم بشر‪ ".‬وفي زيارته األخيرة‬‫ألنهم يهود‪ ،‬لكن ّ‬ ‫يستحقون وطنا‪ ،‬ال ّ‬
‫ُّ‬ ‫اليهود‬
‫ّ‬
‫ملجتمعنا املسيحي "دارفل ‪ "Darvell‬في بريطانيا ذكرنا قائال‪:‬‬

‫لو امتأل قلبي بالغفران لليهود وللصهاينة‪ ،‬وللجنود الذي كسروا عظام‬
‫أخي وسجنوا أبي ‪ -‬لكان في مقدوري آنذاك الذهاب إلى ذلك اليهودي‬
‫ّ‬ ‫بالحق وجها لوجه‪ ،‬وسيشعر أني ُّ‬ ‫ّ‬
‫أحبه‪ ،‬على الرغم من أني أكره‬ ‫ألخبره‬
‫ظلمه‪ ...‬وسأفضل أن أدعوه إلى االهتداء بدال من تغيير األدوار وأصير أنا‬
‫الظالم – حاشا!‬
‫حبُّوا أَعدا َءكُم ‪17‬‬
‫أ ِ‬

‫والكاهن الفلسطيني المعروف‪ ،‬نعيم عتيق من كاتدرائية القديس جورج في‬


‫ّ‬
‫تعلم الغفران من أبيه الذي فقد ّ‬
‫كل ش يء‬ ‫القدس له النظرة نفسها‪ .‬فقد‬
‫بسبب الجيش اإلسرائيلي في عام ‪ .0941‬فيقول‪:‬‬

‫عندما يحقد الناس على اآلخرين‪ ،‬تبتلعهم‬


‫قوة الحقد وتستهلكهم بالكامل‪ ...‬لذلك‬
‫واصل مقاومة الشعور بالكراهية والحقد‪.‬‬
‫فأحيانا سيكون لك اليد العليا‪ ،‬وأحيانا‬
‫أخرى ستشعر أنك انهزمت‪ .‬وعلى الرغم‬
‫من ّأن هذا أمرا صعبا للغاية‪ ،‬لكن ال‬
‫ّ‬
‫تسمح للكراهية أن تتغلب عليك‪ ...‬وال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املحبة‬ ‫بوصية‬ ‫تكف عن محاولة العيش‬
‫القوة الكامنة في رسالة يسوع املسيح‪ :‬فال‬ ‫والغفران‪ .‬وال تخفف من ّ‬
‫تتجنبها‪ ،‬وال تصرف النظر عنها على ّأنها كلمات غير واقعية وغير ّ‬
‫عملية‪.‬‬
‫ّ‬
‫إمكانية للتطبيق‬ ‫كيفها مع وضعك محاوال أن تجعلها أكثر‬ ‫وال تحاول أن ت ّ‬
‫تغيرها لتجعلها تناسبك‪ .‬لكن احتفظ بها كما هي‪،‬‬ ‫العملية‪ .‬ال ّ‬
‫ّ‬ ‫في الحياة‬
‫ّ‬
‫وتلهف عليها وتشوق لها‪ ،‬واعمل مع هللا من أجل تحقيقها‪.‬‬

‫وبشارة عوض‪ ،‬مثله مثل الكثيرين في جتهي الصراع العربي – اإلسرائيلي‪ ،‬قد‬
‫نال نصيبه من الظلم‪ .‬وهو من أحد معارفي الفلسطينيين‪ .‬فقد أخبرني حديثا‬
‫عن صراعه الذي استمر طوال حياته ليغفر‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫في عام ‪ 0941‬مات آالف الفلسطينيين في الحرب الفظيعة التي قامت بين‬
‫ّ‬
‫وتشرد الكثيرون‪ .‬ولم تسلم عائلتنا من هذه‬ ‫العرب واملستوطنين اليهود‬
‫الحرب‪ .‬فقد قتل والدي برصاصة طائشة‪ ،‬ولم يكن هناك مكان يليق‬
‫بدفنه‪ .‬فالجميع كان يخشون أن يتركوا تلك املنطقة خوفا من أن يصيبهم‬
‫ّ‬ ‫الرمي من كال الجانبين‪ ،‬ولم يكن هناك كاهن أو ُّ‬
‫قس ليصلي عليه‪ .‬لهذا‬
‫‪ 18‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫قدس ودفن‬ ‫قرأت لنا أمي من الكتاب امل ّ‬


‫الرجال الذين كانوا موجودين أبي في ساحة‬
‫الدار‪ .‬فلم تكن هناك وسيلة لكي يأخذوه‬
‫ّ‬
‫العادية في املدينة‪.‬‬ ‫إلى املقابر‬
‫ّ‬
‫وأصبحت أمي أرملة في سن التاسعة‬
‫والعشرين‪ ،‬ولديها سبعة أطفال‪ .‬وكنت في‬
‫ذلك الوقت في التاسعة من عمري‪ّ .‬‬
‫ولعدة‬
‫أسابيع حاصرتنا النيران ولم نستطع أن‬
‫نترك غرفة السرداب‪ .‬وفي إحدى الليالي‬
‫دفعنا الجيش األردني للهروب إلى املدينة القديمة‪ .‬وكانت هذه هي ّ‬
‫املرة‬
‫األخيرة التي رأيت فيها منزلنا وأثاثنا‪ .‬وهربنا بمالبسنا على ظهورنا وكان‬
‫بعضنا يرتدي مالبس النوم فقط‪...‬‬
‫وفي املدينة القديمة ك ّنا الجئين‪ .‬فوضعونا في مخزن للنفط وبال‬
‫أثاث‪ .‬وأعطتنا أسرة مسلمة بعض البطانيات وشيئا من الطعام‪ .‬كانت‬
‫ّ‬
‫الحياة قاسية للغاية؛ وما زلت أتذكر الليالي التي ك ّنا نذهب فيها للنوم بال‬
‫أكل‪.‬‬
‫وأخذت أمي تدرس التمريض‪ ،‬وحصلت على وظيفة في املستشفى‬
‫بمبلغ ‪ 33‬دوالرا في الشهر‪ .‬وكانت تعمل في الليل وتستكمل دراستها أثناء‬
‫النهار‪ ،‬وتم وضعنا نحن األطفال في امليتم‪ .‬وقبلت مدرسة مسلمة أخواتي‬
‫ّ‬
‫بريطانية‪ .‬وكان‬ ‫البنات أما نحن الصبيان فقد تم وضعنا في منزل سيدة‬
‫هذا كارثة بالنسبة لي فقد فقدت والدي واآلن انفصلت من أمي ومن‬
‫عائلتي‪.‬‬
‫مرة في الشهر‪ ،‬ومكثنا في بيت البنين ملدةّ‬ ‫كان يسمح لنا بزيارة املنزل ّ‬
‫استمرت معاناتي ومعاناة إخوتي ومعاناة ثمانين ولد‬ ‫ّ‬ ‫اثني عشر عاما‪.‬‬
‫ّ‬
‫آخر‪ ،‬فلم يكن لدينا ما يكفي من طعام‪ ،‬وكان الطعام سيئا للغاية‪،‬‬
‫وكانت املعاملة قاسية‪.‬‬
‫حبُّوا أَعدا َءكُم ‪19‬‬
‫أ ِ‬

‫ذهب بشارة عندما بلغ سن الرشد إلى الجامعة في الواليات امل ّتحدة وأصبح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أمريكيا‪ .‬وعاد ّ‬
‫مرة أخرى إلى إسرائيل وحصل على وظيفة كمعلم في‬ ‫مواطنا‬
‫ّ‬
‫مسيحية‪ .‬وعندما يتذكر السنين السابقة يقول‪:‬‬ ‫مدرسة‬

‫أي ش يء‪ ،‬وشعرت بالهزيمة‪...‬‬‫في السنة األولى شعرت باإلحباط‪ ،‬فلم أنجز ّ‬
‫فقد كان هناك جبل من الكراهية في داخلي ضد اليهود الظاملين‪ :‬فقد كان‬
‫كل تالميذي فلسطينيين‪ ،‬وجميعهم عانوا بالطريقة نفسها التي عانيت‬ ‫ّ‬
‫بها‪ ...‬ولم أستطع مساعدة تالميذي بسبب مشاعر الكراهية نفسها التي‬
‫كانت بداخلي فقد أضمرتها في نفس ي منذ طفولتي حتى من دون أن أدري‬
‫بها‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفي تلك الليلة صليت إلى هللا بدموع‪ .‬وطلبت منه أن يغفر كراهيتي‬
‫ّ‬
‫لليهود ألني كنت قد سمحت للكراهية أن تسيطر على حياتي‪ .‬فأخذ هللا‬
‫في تلك الليلة مشاعر اإلحباط والكراهية وفقدان األمل ووضع مكانها‬
‫ّ‬
‫املحبة‪.‬‬

‫يتم فيه التأكيد على ضرورة الحفاظ على الذات وعلى‬ ‫في المجتمع الذي ّ‬
‫تجنب أعمال املغفرة فيه‪ ،‬إن لم ّ‬
‫يتم االزدراء بها‪.‬‬ ‫تشجيع الفردانية‪ ،‬يجري ّ‬
‫ّ‬
‫فينظر إليها كضعف؛ لقد تعلمنا أن نطالب بحقوقنا ونحميها ال أن نتنازل عنها‪.‬‬

‫المحامية الفلسطين ّية واملدافعة عن حقوق‬ ‫غير أنَّ رجاء شديد وهي ُ‬
‫اإلنسان ت َف ِّند كل هذا وتقول ّإن يسوع املسيح قلب هذا املنطق رأسا على‬
‫عقب عندما دعا الناس إلى الغفران ألعدائهم‪ .‬فتقول‪:‬‬

‫تحمل ممارسة الغفران الكثير من القوة‪ .‬فهي تأكيد على كرامة اإلنسان‬
‫ّ‬
‫ألنه يملك الوسيلة والقدرة على الغفران‪ ...‬رّبما يكون من الصعب أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املثالية أعتقد إنه إن كانت هناك رغبة‬ ‫تفهم ذلك‪ ،‬لكن من وجهة النظر‬
‫في إحالل السالم هنا فال ب ّد أن يكون هناك غفران‪ ...‬فيجب أن نغفر‬
‫لإلسرائيليين ما فعلوه فينا‪.‬‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫لقد صار األخ عز الدين أبو العيش معروفا‬


‫لدى الكثيرين بفضل قصته التي تتسم‬
‫بروح املغفرة والتسامح نحو قتلة بناته‬
‫الثالثة وابنة أخيه في حرب غزة عام ‪3119‬م‬
‫بين اإلسرائيليين والفلسطينيين‪ .‬فهو يؤمن‬
‫إيمانا وجدانيا بضرورة التعايش السلمي بين‬
‫اإلسرائيليين‬ ‫السيما بين‬ ‫الناس‬
‫والفلسطينيين‪ ،‬وأيضا االحترام املتبادل بل‬
‫حتى محبة بعضهم بعضا‪ .‬ويؤمن بأن الحل‬
‫للقضية الفلسطينية يكمن في السالم واملصالحة بين الطرفين ألنه يرى أن‬
‫الناس ال يختلف بعضهم عن بعض‪ .‬فجميعهم لديهم قلب نابض ورغبة في‬
‫السالم‪ ،‬على خالف ما يراه على الصعيد السياس ي‪.‬‬
‫وقد عمل األخ عز الدين كطبيب أمراض العقم في مستشفى إسرائيلي‪،‬‬
‫طبيا‪ ،‬وهو أول طبيب عربي من غزة يعمل في مستشفى إسرائيلي‪،‬‬ ‫وأيضا باحثا ّ‬
‫حيث كان يعالج مرضاه من فلسطينيين وإسرائيليين بغض النظر عن أصلهم‪.‬‬
‫ولذلك كان لديه الكثير من زمالء العمل واألصدقاء واملعارف في إسرائيل‬
‫والكثير من هذه العالقات كانت حميمة للغاية‪ .‬ثم إنه قد حصل على شهادات‬
‫طبية متخصصة من جامعات دولية معروفة‪.‬‬
‫واألخ عز الدين يعرف جيدا معنى املعاناة ألنه قاس ى كثيرا مع أهله مما‬
‫أفرزته أحداث عام ‪0941‬م عند تأسيس دولة إسرائيل‪ .‬وطفولته كانت صعبة‬
‫للغاية وعانى من الحرمان والظروف املعيشية القاسية جدا وبشكل غير‬
‫معقول‪ .‬وقد اشتغل أشغاال شاقة ومختلفة وهو في عز صباه‪ .‬لكن كل هذه‬
‫الحياة القاسية خلقت في داخله تصميما وعزما وطموحا وسعيا ملستقبل‬
‫أفضل له ولشعبه‪.‬‬
‫ويمكنكم قراءة قصة حياته الكاملة في كتابه بالعربية "لن أكره"‬
‫وباإلنكليزية "‪ "I Shall not Hate‬وقد حاز عز الدين على جوائز دولية تقديرية‬
‫كثيرة‪ .‬وهو يقوم حاليا بترويج السالم واملصالحة هو وأوالده وبناته‪ .‬وقد أسس‬
‫مؤسسة "‪ "Daughters for Life Foundation‬إحياء لذكرى بناته الثالث‪ ،‬حيث‬
‫حبُّوا أَعدا َءكُم ‪17‬‬
‫أ ِ‬

‫تقدم هذه املؤسسة املنح الدراسية لتشجيع الشابات ملتابعة دراساتهن في‬
‫جامعات فلسطين وإسرائيل ولبنان واألردن ومصر وسوريا‪.‬‬
‫ولم يأت قراره بمسامحة اليهود بهذه السهولة فقد صارع داخليا في نفسه‬
‫في هذا املوضوع‪ ،‬فكانت أصوات كثيرة تدعوه إلى االنتقام واألخذ بالثأر‪ ،‬لكن‬
‫كان هناك صوت آخر يدعوه إلى التسامح وإلى عدم إراقة الدماء وإلى كسر‬
‫دوامة الشر ودوامة االنتقام‪ ،‬وكان ذلك الصوت هو صوت ضميره‪ .‬فكان‬
‫يتساءل ممن سيأخذ الثأر‪ ،‬هل سيأخذه من أولئك األطفال اإلسرائيليين‬
‫األبرياء الذين كان يساعدهم على أن يولدوا؟ أم‪ ،‬من أمهاتهم؟ أم‪ ،‬من تلك‬
‫األسرة اليهودية التي قدمت له عمال أثناء صباه؟ أم‪ ،‬من أصدقائه‬
‫اإلسرائيليين؟ أم‪ ،‬من زمالء عمله في املستشفى؟ أم‪ ،‬من أصدقائه من دعاة‬
‫السالم اليهود؟‬
‫وقد استضافته إحدى مدارس كنيستنا في الواليات املتحدة األمريكية‬
‫ليتكلم إلى طالب اإلعدادية عن تجاربه في الحياة وعن طموحاته وأمنياته‬
‫لآلخرين‪ .‬وهو مليء حماسة وإيمان بقدرة اإلنسان على تغيير األوضاع من‬
‫حوله‪ .‬وبالرغم من أن دموعه كانت تسيل أثناء إلقائه الخطاب على الطالب‬
‫بسبب عذابه القلبي ولوعته وحزنه على فقدانه لبناته الثالث وبالرغم من‬
‫الحرمان الذي القاه في طفولته وشبابه وهو يترعرع في مخيم جباليا في غزة إال‬
‫ّ‬
‫إننا رأينا أنه لم يسلم نفسه إلى فخ الكراهية وجنونها وت ّهورها‪ ،‬رافضا أن يقع‬
‫َ َ‬
‫في براثن األحقاد املريضة‪ ،‬ولم يدعها تستولي عليه‪ ،‬بل نش َل نفسه منها واختار‬
‫طريق السالم واملسامحة واملصالحة والكرامة اإلنسانية‪ .‬ألنه يعلم أن روح‬
‫االنتقام والعنف ال تنتمي إلى الروح اإلنسانية األصيلة بل هي دخيلة عليه وال‬
‫تفرز إال خرابا وموتا‪ .‬وهو ال يريد أن يعيش وفقا لها بل وفقا لروح الحياة‪.‬‬
‫وهنا نتذكر كالم السيد املسيح وهو على الصليب عندما صلى ألبيه السماوي‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫من أجل قاتليه‪ ،‬قائال‪َ " :‬يا أ َب َتاه‪ ،‬اغ ِف ْر له ْم‪ ،‬ألنه ْم ال َي ْعلمون َماذا َي ْف َعلون"‪.‬‬
‫(لوقا ‪ )24 :32‬وهو يؤكد أن إيمانه باهلل ودينه اإلسالمي هو الذي يقويه على‬
‫املض ي في طريق السالم والغفران‪.‬‬
‫َ‬
‫ومن املثير لالنتباه‪ ،‬نرى أن قصته تشبه قصة يوسف بن ِألعازر ‪Josef‬‬
‫‪ Ben-Eliezer‬الذي له خلفية يهودية وقصة ألياس شقور الفلسطيني املسيحي‬
‫‪ 10‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫خوة الدم" وباإلنكليزي "‪ ."Blood Brothers‬فنرى أن هؤالء‬‫الذي كتب كتاب "أ ّ‬
‫الثالثة‪ ،‬مسلم ويهودي ومسيحي‪ ،‬عانوا األمرين من جراء أحداث زمان الحرب‬
‫العاملية الثانية وأحداث عام ‪0941‬م‪ ،‬وما خلفته من أحداث وحروب ومآس ي‪،‬‬
‫ّ‬
‫وقصصهم تقطع القلب‪ ،‬إال أنهم لم يسلموا أنفسهم للبغض والكراهية‬
‫والعنف بل اختاروا طريق الغفران والسالم واملصالحة واملؤاخاة‪.‬‬

‫وفي هذه السطور القليلة ال يسعني التعبير عن كل ما خاضه األخ عز الدين‬


‫أبو العيش في حياته وعن كيفية وصوله إلى قراراته املساملة الصعبة‪،‬‬
‫ونصيحتي هي أن تقرؤوا كتابه "لن أكره"‪ ،‬لكن قبل أن تقرؤوه يجب أن تعلموا‬
‫إن القصة تدور بالحقيقة حول موضوع صراع الحياة‪ ،‬والتواجه مع حقائق‬
‫مرة وصعبة‪ ،‬وسوف يأخذكم الكتاب إلى خيار السالم والغفران‪ ،‬ونبذ العنف‬ ‫ّ‬
‫والكراهية‪ ،‬األمر الذي يجعلنا كلنا نصارع نفسيا مع قيمنا ومبادئنا املليئة‬
‫بالعنف ومع انتفاخنا وكبرياؤنا‪ ،‬لكي نتمكن من اختيار مثل هذا القرار‬
‫الصعب‪ ،‬قرار الغفران واملسامحة واملحبة‪ ،‬فهل تجرؤون على قراءته؟‬
‫الفصل السادس‬

‫ُ‬
‫الـغـفـران والـعـدالـة‬

‫واملحبة بال ّ‬ ‫ُ‬


‫حقُ كذب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُّ ُ‬
‫الحق بال ّ‬
‫محبة يقتل‪،‬‬

‫قول من‬
‫ايبرهارد آرنولد ‪Eberhard Arnold‬‬
‫عالمة الهوتي أملاني ومؤسس حركة برودرهوف املسيحية‬

‫أخ َتب َر "شاؤول دوركام ‪ ،"Joel Dorkam‬وهو صديق من كيبوتس "تسوبا" في‬
‫إسرائيل‪( ،‬كيبوتس هي مجتمعات اسرائيلية تعاونية)‪َ ،‬‬
‫أخت َبر مصاعب مشابهة‬
‫مر بها كال من "هيال" و"يوسف" اللذين تناولنا ّ‬
‫قصتيهما في الفصل‬ ‫لتلك التي ّ‬
‫الثالث‪ ،‬لكنه يضيف نظرة مختلفة إلى ّ‬
‫حد ما‪ .‬فقد اعترف "دوركام" بالحاجة‬
‫إلى الغفران املتبادل والثقة املتبادلة في الزمن املعاصر للصراع اإلسرائيلي‬
‫تحمل املخاطر لكي يقيم عالقات صداقة‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬وباعتباره يهودي فقد ّ‬
‫ّ‬
‫ستمرة مع الناس األملانيين العاديين‪ .‬إال ّأن العذاب يتملكه حين يفكر‬ ‫م ّ‬
‫دمروا طفولته وذبحوا أبناء قوميته من اليهود‪ .‬وتثير‬ ‫ّ‬
‫للنازيين الذين ّ‬ ‫بالغفران‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قصته سؤاال قديما للغاية تفرضه األجيال التي عانت على مر التاريخ اإلنساني‪،‬‬
‫وهذا السؤال هو‪" :‬هل الغفران هو بال حدود؟" فلنسمعه يحكي لنا عن‬
‫تجاربه‪:‬‬

‫املالية‬ ‫ّ‬
‫االقتصادية ّ‬ ‫ولدت في كاسل بأملانيا في عام ‪ 0939‬وهي سنة األزمة‬
‫ّ‬
‫التي كان لها آثارها الحاسمة على الشؤون العاملية‪ ،‬وكانت السبب الذي‬
‫‪53‬‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫حفيا وأ ّمي معلمة‪.‬‬ ‫جاء بالنازيين إلى السلطة في أملانيا‪ .‬كان أبي يعمل ص ّ‬
‫حتى بدأت‬ ‫وكانت عائلتنا ميسورة الحال‪ ،‬وك ّنا نعيش حياة سعيدة‪ّ ،‬‬
‫التعصب في الظهور‪.‬‬‫ُّ‬ ‫سحب‬
‫ّ‬
‫لم يأخذ أبي مسألة النازيين بجدية في البداية مثله مثل الكثير من‬
‫ّ‬
‫األملانية‬ ‫اليهود في كافة أرجاء البلد‪ .‬فكيف يمكن أن تسقط الحضارة‬
‫العريقة في هذا الهراء؟ لكن عندما أصبح "هتلر" رئيسا للوزراء نصح‬
‫أصدقاء أبي ذوو النوايا الحسنة بترك أملانيا‪.‬‬
‫وهكذا كان على أبي أن يترك أملانيا بلده املحبوب حيث ولد ونشأ‪،‬‬
‫العاملية األولى‪ .‬وبعد مدة قصيرة‬ ‫ّ‬ ‫التي كان قد حارب ألجلها في الحرب‬
‫لحقت به أنا وأمي‪ ،‬وج ِمع شملنا ثانية في مدينة ستراسبورج ‪Strasbourg‬‬
‫الفرنسية‪ .‬ك ّنا قد أخذنا معنا القليل جدا من ممتلكاتنا‪ .‬وكانت هذه نهاية‬
‫رحالة بال‬ ‫شردين ّ‬ ‫الطبيعية التي اعتدنا عليها‪ ،‬وصرنا يهود م ّ‬ ‫ّ‬ ‫للحياة‬
‫جنسية وبال حقوق‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كان وقتا مثيرا لي كطفل في الثالثة من عمره ومليء بحب االستطالع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فقد تعلمت سريعا عادات جديدة ولغة جديدة‪ ،‬واتخذت لي أصدقاء‬
‫مرة أخرى كالجئين أملان‪،‬‬ ‫جدد‪ .‬لكن بعد م ّض ي عام كان علينا الرحيل ّ‬
‫فكانوا يعتبروننا بمثابة تهديد لألمن في املناطق الحدودية‪ .‬وذهبنا إلى قرية‬
‫الفوسجز ‪ "Vosges‬الفرنسية وكان هذا تغييرا جديدا آخر‪ .‬فقد‬ ‫ِ‬ ‫في جبال "‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫كان على أهلي أن يتعلما ويكتسبا مهارات جديدة ولغة جديدة للتكيف‬
‫مع الثقافة املختلفة جدا‪ ،‬على عكس سبل الراحة ألسلوب حياتهم‬
‫السابقة – وعالوة على ذلك‪ ،‬كان عليهم أن يكسبوا رزقهم في ظل تلك‬
‫الظروف الصعبة‪...‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وبعد عام احترق املصنع الذي كانت أمي تعمل به‪ ،‬مما فرض علينا‬
‫املرة إلى مدينة مارسيليا ‪ Marseille‬الفرنسية الكبيرة‪ّ .‬‬
‫ومرة‬ ‫االنتقال هذه ّ‬
‫أخرى حاول أبواي التأقلم مع الحياة‪ ،‬وكان لهم وجودا مقلقال‪ .‬فكثيرا ما‬
‫غير‬‫ضطرا ألن أ ّ‬ ‫مما يعني ّأنني كنت م ّ‬ ‫ك ّنا ن ّغير املنزل الذي نعيش فيه‪ّ ،‬‬
‫املدرسة واألصدقاء‪ ،‬فلم تتح لي أية فرصة لتكوين عالقات م ّ‬
‫ستمرة‪...‬‬
‫الغفران والعدالة ‪11‬‬

‫كل ش يء‪ .‬وأصبحت غريبا‬ ‫ّ‬


‫العاملية الثانية وانهار ّ‬ ‫بعدئذ قامت الحرب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬بل أجنبيا‪ ...‬وغزا الجيش األملاني فرنسا واحتلها‪ ،‬وسرعان ما‬
‫قام جهاز "الجستابو" (الشرطة النازية السرية) بحمالت للقبض على‬
‫شقتنا ومصلحة عملنا لكننا اختبأنا بفضل‬ ‫وتمت مصادرة ّ‬ ‫اليهود‪ّ ...‬‬
‫مساعدة أصدقائنا الفرنسيين‪.‬‬
‫أبواي ّأن األمل الوحيد في نجاتنا هو في الهرب عبر‬ ‫ّ‬ ‫وأخيرا ّ‬
‫قرر‬
‫الحدود إلى أسبانيا‪ .‬وفي ذلك الوقت كان أبي ّتوه يتعافى من نوبة جراء‬
‫تحتم عليه أن يسير عبر سلسلة جبال‬ ‫مرض التهاب املفاصل‪ ،‬إال أنه ّ‬
‫كازين‪ ،‬وأحيانا كان امل َه ّرب يحمله على‬ ‫البيرنييز ‪ Pyrenees‬م ّتكئا على ع ّ‬
‫ظهره‪...‬‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫وبعد مسيرة ثالثة أيام في الجبال املغطاة بالثلوج‪ ،‬وتوسالت أبي لنا‬
‫أن نتركه ونمض ي نحن في طريقنا‪ ،‬أمسك بنا الدرك األسباني ‪Guardia‬‬
‫ّ‬
‫‪ ،Civil‬ولحسن الحظ فقد سمحوا لنا بالعبور كما فعلوا مع ما يقرب من‬
‫شرعية إلى أسبانيا‪ ،‬فلو‬ ‫ّ‬ ‫يهودي آخر عبروا الحدود بطريقة غير‬ ‫ّ‬ ‫‪01111‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لم يقبلونا وقاموا بإرجاعنا مرة أخرى إلى فرنسا لكنا حتما هلكنا‪...‬‬
‫تفرقنا كما هو الحال دائما عند مركز شرطة مقاطعة‬ ‫وهناك‪ّ ،‬‬
‫األسبانية‪ .‬فتم إرسال أبي إلى معسكر مدينة ميراندا ديل‬ ‫ّ‬ ‫جرندة ‪Gerona‬‬
‫املحلي‪ .‬وتركوني أنا‬‫ّ‬ ‫ْ‬
‫إيبرو ‪ ،Miranda-del-Ebro‬وأرسلت أ ّمي إلى السجن‬
‫تجمدا في زنزانة‪ ،‬معتقدا‬ ‫بمفردي‪ .‬فقضيت أسوأ ليلة في حياتي وحيدا م ّ‬
‫ّ‬
‫أنني فقدت أبواي لألبد‪ .‬وفي اليوم التالي أودعوني مللجأ األيتام التابع‬
‫النفسية‪ .‬وهناك بلغت سن‬ ‫ّ‬ ‫تحسنا طفيفا في حالتي‬ ‫مما أحدث ُّ‬ ‫للمدينة ّ‬
‫يتم فيها قبول الذكور بحسب طقوس‬ ‫الثالثة عشرة‪ ،‬وهي السن التي ّ‬
‫دينية تدعى ‪ bar-mitzvah‬إلى كنيست الجماعة اليهودية املؤمنة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ظل أشد ساعاتي‬ ‫وهدأني في ّ‬ ‫أخذني كاهن طيب القلب تحت رعايته ّ‬
‫أمر بها‪ .‬وقد ساعدني أيضا في تهريب بعض املال‬ ‫العصيبة التي كنت ّ‬
‫الذي كنت قد خبأته معي منذ خروجنا من فرنسا لتوصيله أل ّمي في‬
‫السجن‪ ،‬حيث كانت نصف ميتة جراء مرض الديزنتريا (إسهال شديد)‪،‬‬
‫صحي كاف‪ .‬ور ّبما أنقذ هذا املال حياتها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وغير قادرة على شراء طعام‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫مي‪ ،‬وتم نقلنا إلى سجن النساء‬ ‫عدة أشهر أرسلوني أللحق بأ ّ‬ ‫وبعد ّ‬
‫في مدريد‪ .‬وكنت الذكر الوحيد في ذلك املكان‪ ،‬وكان على أمي أن تراقبني‬
‫طوال الوقت‪ .‬كان لنا زنزانة منفصلة‪ ،‬في حين كانت املسجونات األخريات‬
‫بهن في عنابر تسع من عشرين إلى ثالثين سريرا‪ .‬وك ّنا ننضم إلى‬ ‫يزج ّ‬
‫النساء في أثناء النهار في تلك الغرف الكبيرة‪ ،‬ثم نذهب إلى زنزانتنا‬
‫نمر على زنزانات املوت حيث تنتظر النساء حكم‬ ‫الخاصة في املساء‪ ،‬وك ّنا ُّ‬
‫ّ‬
‫اإلعدام‪ ،‬ونسمع في الليل صوت طلقات الرصاص‪.‬‬
‫مرة أخرى في مدريد‪ .‬وقامت "لجنة‬ ‫لم شمل األسرة ّ‬ ‫وفيما بعد تم ّ‬
‫اليهودية املشتركة" بتغطية نفقات معيشتنا‪ ،‬لكن‬ ‫ّ‬ ‫الخدمات االجتماعية‬
‫ّ‬
‫أتى وقت كان علينا أن نختار املكان التالي الذي سنهاجر إليه‪ ،‬وفضلنا‬
‫الذهاب إلى فلسطين‪.‬‬
‫كان ذلك في عام ‪ 0944‬قرب نهاية الحرب‪ ،‬وكانت الظروف في ذلك‬
‫عمتي في شقة صغيرة‪،‬‬ ‫البلد الجديد صعبة للغاية‪ .‬فتشاركنا مع أسرة ّ‬
‫مهنية في "كيبوتس ياجور ‪( "Kibbutz Yagur‬كيبوتس‬ ‫والتحقت بمدرسة ّ‬
‫ّ‬
‫مصلحا ميكانيكيا ّ‬
‫للسيارات‪.‬‬ ‫هي مجتمعات اسرائيلية تعاونية) وأصبحت ِ‬
‫وقد تم بناء هذه املدرسة ألوالد اليهود األملان الذين نجوا من أوروبا‪ ،‬لكن‬
‫في الوقت الذي وصلت فيه لم يكن هناك من نجا‪ ،‬لذلك كان معظم‬
‫التالميذ من الذين يعيشون في تلك املنطقة ‪ -‬الذين يدعون بتسمية‬
‫"صبر ‪( "Sabras‬أي كل يهودي ولد في إسرائيل) ‪ -‬وكنت غريبا ومختلفا‬
‫ّ‬
‫لليهودية على النمط األملاني من‬ ‫خلفيتي املماثلة‬ ‫ّ‬ ‫عنهم هنا أيضا بسبب‬
‫ناحية ومعرفتي القليلة بالعادات والتقاليد اليهودية من ناحية أخرى‪...‬‬
‫ومع الوقت‪ ،‬بدأت أشعر باأللفة في ذلك البلد الجديد‪ ،‬وأيضا في‬
‫الكيبوتس‪ .‬وكان لي أصدقاء واشتركت في األنشطة املختلفة‪ ،‬مثل جمع‬
‫الصيفية‪ .‬لكني لم استطع تحقيق الكثير من‬ ‫ّ‬ ‫العنب والذرة أثناء العطل‬
‫واالجتماعية‪ ،‬فقد كانت هناك فجوات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملهنية‬ ‫ّ‬
‫الشخصية‬ ‫طموحاتي‬
‫ّ‬
‫كثيرة في أسلوب تعليمي‪ .‬وكذلك كان الحال مع أبواي‪ .‬وبالتدريج بدأت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العبرية ووجدت عمال في مدرسة زراعية قريبة‪،‬‬ ‫أ ّمي تعلم نفسها اللغة‬
‫ُّ‬
‫لكن أبي لم ينجح أبدا في تعلم اللغة الجديدة‪.‬‬
‫الغفران والعدالة ‪17‬‬

‫طبيعية إلى حد ما‪ .‬فأنهيت‬ ‫ّ‬ ‫وبمجرد انتهاء الحرب أصبحت الحياة‬
‫ّ‬
‫املدرسة وأصبحت عضوا في منظمة الهجانة السرية املسلحة ‪Haganah‬‬
‫وحاربت في حرب التحرير‪ ،‬ثم التحقت بـ تسوبا ‪( Tsuba‬وهو كيبوتس‬
‫قرب أورشليم) مع زوجة املستقبل سارة ذات الشعر األحمر‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬
‫بأال أرحل ّ‬ ‫إسر ّ‬
‫مرة‬ ‫ائيلية املولد ‪ .Sabra‬وأخذت على نفس ي عهدا مقدسا‬
‫أخرى‪ ،‬فسيظل هذا بلدي مدى الحياة‪ ،‬وسأعيش هنا وأعمل وأربي‬
‫أوالدي كأحد أفراد الجماعة‪ ،‬وسأحاول مساعدة املهاجرين الذين مروا‬
‫بالظروف الصعبة نفسها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واآلن عندما أتذكر طفولتي‪ ،‬أدرك أنها قدمت لي الكثير من الخبرات‬
‫مدتني ببعض الحكمة‪ .‬فقد أدركت أهمية اعتماد الناس‬ ‫املفيدة‪ ،‬ور ّبما ّ‬
‫أهمية مساعدة‬ ‫ّ‬ ‫بعضهم على بعض‪ ،‬والسيما في الشدائد‪ .‬واكتشفت‬
‫اآلخرين وكلمات التشجيع‪ .‬وأدركت أن بين الناس يوجد الصالح ويوجد‬
‫ّ‬
‫الطالح في كل مكان‪ ،‬وأننا أنفسنا خليط من الخير والشر‪.‬‬
‫تسبب فيها األملان لي وألسرتي‪ ،‬إال‬‫وعلى الرغم من ك ّل املعاناة التي ّ‬
‫أني ما زلت أشعر بصلتي مع تاريخهم وحضارتهم التي استقيتها من أهلي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وقد بذلت قصارى جهدي إلعادة خلق عالقات مع أشخاص أملانيين‬
‫محترمين‪.‬‬
‫في الستينيات ناديت بالترحيب بالشباب األملان الذين يأتون للعمل‬
‫تطوعين وأيضا استضافتهم من قبل األسر‬ ‫في مجتمعنا (كيبوتس) كم ّ‬
‫املحلية ملجتمعنا ليكونوا على دراية بالتاريخ الحديث‪ ،‬وذلك على عكس‬
‫أي نوع من االتصال‬ ‫السياسة التي كانت سائدة في ذلك الوقت من رفض ّ‬
‫تطوعين وما زلنا نتبادل‬‫أسسنا صداقات مع هؤالء امل ّ‬ ‫مع األملان‪ .‬كما ّ‬
‫حتى‬‫كل ما بوسعنا ّ‬‫معهم الزيارات‪ .‬ونحرص على الحوار املستمر‪ ،‬ونفعل ّ‬
‫اإليجابية واملضادة للفاشية في أوروبا التي تناهض‬ ‫ّ‬ ‫نقو ّي العناصر‬
‫ّ‬
‫الرجعية‪.‬‬ ‫وتحارب حركات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بطبيعة الحال‪ ،‬ال يمكن أبدا أن ننس ى الستة ماليين يهودي ‪ -‬بما‬
‫ّ‬
‫فيهم ‪ 0.3‬مليون طفل برئ – الذين قد تعذبوا وماتوا على أيدي النازيين‬
‫ومعاونيهم‪ .‬ر ّبما نستطيع أن نصالح أنفسنا مع أملانيا الحديثة اليوم‪ ،‬لكن‬
‫‪ 18‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫كيف يمكننا أن ننس ى الساعات الحالكة الظالم في التاريخ‪ ،‬وفي أوقات‬


‫يأسنا الكبير‪ ،‬وك ّنا بمفردنا نعاني ونموت‪ ،‬بال مساعدة من الجهات التي‬
‫يسمونها "القوى الدولية"؟ وحتى لو سامحنا هؤالء الذين يعيشون في‬
‫ّ‬
‫أملانيا اليوم‪ ،‬فماذا عن هؤالء الذين عذبوا اليهود وغيرهم من الضحايا‬
‫وقتلوهم بسبب الحقد النازي؟‬
‫فإن كان الغفران معناه نبذ الكراهية العمياء ومشاعر االنتقام ‪-‬‬
‫نعم فهذا ممكن في هذه الحالة‪ .‬لكن هل هذا يقض ي بالعفو عن‬
‫ّ‬
‫البشرية؟‬ ‫الوحوش الذين ارتكبوا أبشع املجازر في تاريخ‬
‫ر ّبما أغفر لهؤالء الذين وقفوا بجانبي غير قادرين أن يفعلوا شيئا‪،‬‬
‫أو لهؤالء الذين لم يجرؤوا على التكلم جهرا‪ .‬فأنا أعلم مقدار الشجاعة‬
‫التي يحتاجها األمر لكي تقف أمام السلطات وتعارض ذلك الرعب الذي‬
‫النازيين‪ .‬لكني أعلم أيضا أن اآلالف من الطيبين خاطروا بحياتهم‬ ‫ّ‬ ‫يفرضه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ليساعدوا ويخفون اليهود‪ ،‬عاملين جيدا أنهم يعرضون بذلك أنفسهم‬
‫وعائالتهم للخطر‪.‬‬
‫ّ‬
‫هل يمكن أن نغفر لهتلر وزمرته؟ ولحراس معسكرات املوت؟‬
‫وآلمري قوات الـ ‪ SS‬وجنودها؟ وللعاملين مع هتلر في الجستابو ‪Gestapo‬‬
‫السرية النازية)؟ هل يمكن أن نغفر ملنفذي التعذيب والقتل‬ ‫ّ‬ ‫(الشرطة‬
‫الذين عملوا على تجويع والرش بالرشاشات والخنق بالغازات السامة‬
‫ملئات آالف من الرجال والنساء واألطفال ّ‬
‫العزل؟‬
‫ضدنا في الحروب ّ‬
‫حتى لو‬ ‫يمكنني أن أغفر للجنود الذين حاربوا ّ‬
‫كانت دوافعهم خاطئة‪ ...‬يمكنني أن أغفر ملن حاربوا ليحموا أنفسهم أو‬
‫حتى لو تم تضليلهم‪ .‬لكن أال توجد حدود للغفران؟‬ ‫للمطالبة بحقوقهم‪ّ ،‬‬

‫اعتقد أننا نفهم الدافع وراء رفض شاؤول ألن يغفر للنازيين الذين ذبحوا بال‬
‫رحمة ّ‬
‫ستة ماليين من الرجال والنساء واألطفال اليهود على أنه لم يكن بدافع‬
‫النقمة أو الكراهية لكن بدافع الخوف من ّأن الغفران سيكون مرادفا لعملية‬
‫تبرئتهم من أفعالهم‪ .‬وشخص مثل "شاؤول" الذي هو مصمم على ضمان عدم‬
‫تكرار مثل هذه الفظائع ثانية في املستقبل‪ ،‬يصعب عليه أن يغفر إذا كان‬
‫الغفران والعدالة ‪19‬‬

‫األمر يتضمن التظاهر من أن محارق اليهود في أملانيا – الهولوكوست – لم‬


‫تحدث قط‪ ،‬أو أن الناس املسئولين عنها لم يقترفوا بالحقيقة ّ‬
‫شرا متعمدا‬
‫يقر الفعلة بشناعة أفعالهم ويطلبوا العفو‬ ‫وقاسيا زيادة عن اللزوم‪ .‬فما لم ّ‬
‫عما فعلوه من فظائع لن يغفر شاؤول لهم‪.‬‬
‫طبعا سنجرح بشدة مشاعر كل من فقد عائلة أو أصدقاء في معسكرات‬
‫املوت إذا اقترحنا أن نعذر أفعال النازيين الشريرة أو ال نلقي بالالئمة عليهم‬
‫لكن الغفران ليس هو‬ ‫أخالقي‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫مباشرة‪ .‬وأعتقد أن هذا سيكون شيئا غير‬
‫اختالق األعذار للناس أو إعفاءهم من اللوم‪.‬‬

‫"سي أس لويس ‪( "C. S. Lewis‬وهو كاتب وباحث ايرلندي وقد كتب سلسلة‬
‫األطفال الشهيرة نارنيا) كتب في عام ‪ 0940‬في الوقت الذي بدأت مظاهر‬
‫ّ‬
‫الرعب الكامل للهولوكوست (محارق اليهود في أملانيا) تظهر للعيان‪ ،‬ألنه كان‬
‫تامة بأخطار تبرير الناس ألفعالهم الشريرة‪ .‬فكتب يقول‪" :‬هناك‬ ‫على دراية ّ‬
‫فرق كبير بين الغفران واختالق األعذار"‪ .‬وقال ّإن معظم الناس ال يرغبون في‬
‫االعتراف أنهم قد ارتكبوا خطأ ما‪ ،‬لذلك فهم ي ّبررون أفعالهم‪ .‬ويحاولون أن‬
‫ويتفقون معهم حتى ال‬‫يجعلوا اآلخرين يقبلون أعذارهم ويلطفون األجواء ّ‬
‫يلقون اللوم عليهم بدال من أن يطلبوا منهم الغفران‪ .‬ويكمل لويس قائال‪" :‬إن‬
‫ُّ‬
‫يستحق الغفران‪ ،‬وهذا‬ ‫لم يكن هناك شخص يجب أن يالم‪ ،‬فال يوجد ش يء‬
‫معناه ّأن الغفران واختالق األعذار نقيضان‪ ".‬وقال‪:‬‬

‫ّ‬
‫للخطية‪ ،‬تلك الخطية التي‬ ‫ّ‬
‫الحقيقي معناه أن تنظر بثبات‬ ‫إن الغفران‬
‫ّ‬
‫ظلت باقية بال عذر‪ ،‬رغم شتى أنواع الحجج املختلقة‪ ،‬وأن تراها كما هي‬
‫عليه من رعب وقذارة وخبث وحقد‪ ،‬وبرغم ذلك أن تتصالح بالكامل مع‬
‫الشخص الذي أخطأت في حقه‪ .‬فهذا هو الغفران وليس سواه‪.‬‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ُيف ّرق "بيل جادويك "‪ Bill Chadwick‬من مدينة‬


‫"باتون روج" في والية لويزيانا بين الغفران واختالق‬
‫األعذار بوضوح عندما كتب عن موت ابنه "مايكل‬
‫‪ ."Michael‬لقد شعر "بيل" بحاجة م ّ‬
‫لحة إلى رؤية‬
‫العدالة تأخذ مجراها في حادث مقتل ابنه‪ ،‬لكنه في‬
‫النهاية اكتشف ّأن العدالة نفسها ال يمكن أن تأتي له‬
‫بالرضا والسالم اللذين يسعى للحصول عليهما‪ ،‬فقد‬
‫قال‪:‬‬

‫لقد قتل ابني "مايكل" في الحال في حادث ِاصطدام‬


‫سيارة وهو في الحادية والعشرين من عمره في ‪32‬‬ ‫ّ‬
‫قرب له الذي كان‬ ‫أكتوبر ‪ ،0992‬ولقي صديقه امل ّ‬
‫يجلس في املقعد الخلفي مصرعه أيضا‪ .‬والسائق‬
‫الذي كان ثمال للغاية ويسير بسرعة جنونية لم‬
‫يصب سوى بجروح طفيفة؛ وقد تم ِاتهامه الحقا‬
‫بجريمتي قتل مروري‪ .‬وكانت هناك آثار بسيطة‬
‫للخمر في دم "مايكل" ولم توجد أي آثار للخمر في دم‬
‫أعز صديق له‪.‬‬
‫ودارت عجالت العدالة ببطء‪ .‬وقد استغرقت املحكمة أكثر من عام‬
‫القضية ضد السائق‪ .‬وحضرنا جلسة االستماع جلسة وراء‬ ‫ّ‬ ‫لكي تعد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مرة كان يتم تأجيل القضية‪ .‬وكانت هناك محاولة من‬ ‫ّ‬
‫جلسة‪ ،‬وفي كل ّ‬
‫قبل محامي امل ّتهم بالتشكيك باختبارات الكحول في الدم‪ .‬لكنها باءت‬
‫بالفشل‪ .‬وأخيرا ألتمس املدعي العام أن يحكم املتهم بالسجن ملدة ستة‬
‫سنوات على كل جريمة‪ ،‬على أن تنفذ في آن واحد‪.‬‬
‫ّ‬
‫اقترحنا على "دائرة تعليق العقوبات على األحداث" أن يخوض‬
‫املذنب برنامج في معسكرات التدريب لعله يكون نافعا له ‪ -‬فلم نكن ُّ‬
‫نود‬
‫أن نؤذيه‪ ،‬لكننا أينا ّأنه بحاجة ألن يدفع جزاء ما فعله‪ .‬لكننا ّ‬
‫تلقينا‬ ‫ر‬
‫خطابا قبيحا للغاية من والدته تخبرنا فيه أننا دفعنا القاض ي للحكم‬
‫الغفران والعدالة ‪17‬‬

‫ّ‬
‫بأقص ى عقوبة على ابنها‪ .‬وقالت إنه لو كان ابنها هو الذي مات بسبب‬
‫قيادة "مايكل" ما كانت لتحمل في قلبها ضغينة ناحيته‪ .‬وقلت لها ما لم‬
‫ّ ّ‬
‫تتكلم ّ‬ ‫نرى ِابنها ّ‬
‫عما كانت ستفعله أو لن‬ ‫ميت بالفعل فإنها يجب أال‬
‫تفعله‪.‬‬
‫تدريبي على أن يقض ي‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتم حبس ابنها ملدة ستة أشهر في معسكر‬
‫الست مطلق السراح املشروط‪ .‬وبعد ستة أشهر عاد‬ ‫ّ‬ ‫بقية السنوات‬ ‫ّ‬
‫ِابنها‪ ،‬أما ِابننا فلم َيع ْد‪.‬‬
‫َ‬
‫اعتقد أنني كنت مؤمنا ّأن األمور ستختلف بعدما َمــثل املجرم أمام‬
‫ّ‬
‫يتحدثون عن‬ ‫العدالة‪ .‬وأعتقد ّأن هذا هو ما يقصده الناس عندما‬
‫فنظن أننا لو وجدنا من نلقي عليه اللوم لشعرنا‬ ‫ُّ‬ ‫"حسم القضية"‪.‬‬
‫بالراحة‪ ،‬ألن الجاني سينال جزاءه‪ ،‬فستزول آالمنا أخيرا‪ .‬وقد رأينا‬
‫حكايات عديدة عن أناس يبحثون عن تلك الراحة من خالل ذلك‬
‫القصاص‪ ،‬وقد رأيتهم حتى في البرنامج التلفزيوني الشهير "أوبرا ‪Oprah‬‬
‫‪ "Winfrey Show‬يطالبون بموت املجرم كما لو كان موته سيساعدهم‬
‫بطريقة ما ويخفف عنهم‪.‬‬
‫ّ ّ‬
‫شك أنني غاضب من السائق‪ ،‬لكني غاضب من "مايكل" أيضا‪.‬‬ ‫ال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فقد اتخذ قرارات خاطئة في تلك الليلة‪ ،‬مما عرض حياته للخطر‪ .‬شعرت‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫بهذا الغضب ّ‬
‫التكيف مع مشاعري‪ .‬لكني لم أشعر‬ ‫حتى أتمكن من‬
‫حتى بعد حصول ذلك السائق على العقوبة‪ .‬ك ُّل ما وجدته هو‬ ‫بالراحة ّ‬
‫ألي ش يء أن ّ‬
‫يسدها‪.‬‬ ‫تلك الفجوة الكبيرة في داخلي‪ ،‬ولم يكن ممكنا ّ‬
‫عدة أشهر‪ ،‬خبطني موضوع الغفران؛ فما لم أغفر للسائق‬ ‫وبعد ّ‬
‫فلن أجد الراحة التي أنشدها‪ .‬فالغفران له يختلف تماما عن تبرئته من‬
‫علي أن أغفر‬ ‫املسؤولية‪ .‬فما زال السائق مسئوال عن موت "مايكل"‪ ،‬لكن ّ‬
‫له قبل أن أدع الحدث وشأنه‪ .‬فال يوجد أبدا أية عقوبة‪ ،‬ومهما كان‬
‫حجمها‪ ،‬قادرة على جعل كفتي امليزان متعادلة‪ .‬فكان يلزمني أن أكون‬
‫وعملية الغفران هذه ال‬‫ّ‬ ‫مستعدا ألغفر بدون أن تتعادل كفتي امليزان‪.‬‬
‫تتعلق بالسائق‪ ،‬لكنها تتعلق بي‪ .‬فكان يجب ّ‬
‫علي أن ّ‬ ‫ّ‬
‫أمر من خالل تلك‬
‫عما فعله‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بغض النظر ّ‬ ‫أتغير‪،‬‬ ‫العملية‪ ،‬فالبد أن ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ 10‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫كان طريق الغفران طويال ومؤملا‪ .‬وكان يلزمني أن أغفر آلخرين غير‬
‫علي أن أغفر ألبني "مايكل"‪ ،‬وهلل (الذي سمح بحدوث‬ ‫السائق‪ .‬كان يجب ّ‬
‫شك أن عدم قدرتي على الغفران لنفس ي كان أصعب‬ ‫هذا)‪ ،‬ولنفس ي‪ .‬وال ّ‬
‫ش يء‪ .‬فقد كانت هناك أوقات كثيرة في حياتي قمت بتوصيل "مايكل" فيها‬
‫ّ‬
‫الكحوليات‪ .‬لكن هذا‬ ‫إلى أماكن عديدة حين كنت أنا نفس ي تحت تأثير‬
‫هو مفتاحي للغفران ‪ -‬أن أغفر ّأوال لنفس ي‪ .‬فقد كان غضبي على اآلخرين‬
‫هو مجرد ِانعكاس ملخاوفي الداخلية‪ .‬فألقيت بخطئي على اآلخرين – على‬
‫السائق وعلى املحكمة وعلى هللا وعلى "مايكل" ‪ّ -‬‬
‫حتى ال أضطر للنظر إلى‬
‫ّ‬
‫نفس ي‪ ...‬ولم يحدث هناك تغيير في نظرتي لآلخرين إلى أن تمكنت من رؤية‬
‫الجزء الذي أخطأت فيه أنا شخصيا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهذا ما تعلمته‪ :‬إن الراحة التي ننشدها توافينا من الغفران‪.‬‬
‫وتعتمد هذه الراحة علينا كليا‪ ،‬ألن القوة الالزمة للغفران ال تكمن‬
‫خارجنا بل داخل نفوسنا‪.‬‬

‫ّ‬
‫لقد تعلم والد "مايكل" أكثر الدروس املؤملة لكل أب وأم‪ .‬لكن من الضروري أن‬
‫منا أيضا‪ ،‬مهما كان وضعنا في الحياة‪ .‬فما لم تفيض‬‫يتعلم هذا الدرس ك ّل ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫قلوبنا بالغفران ألولئك الذين يسيئون إلينا‪ ،‬فإننا لن نجد السالم مهما كان‬
‫ُّ‬
‫الحق الذي نطالب به‪.‬‬

‫أما في المجتمع الذي يشجع على االنتقام‪ ،‬فبالكاد أن تصير املغفرة فكرة‬
‫ّ‬
‫مستحبة‪ .‬وتدريجيا صارت حتى العقوبات التي تصدرها املحاكم غير كافية وال‬
‫تشفي الغليل؛ فيريد الناس أن يشتركوا شخصيا في عملية إنزال العقوبة‬
‫بالشخص املس يء إليهم‪ .‬وقد أخذت العديد من الواليات بتقديم تشريعات‬
‫تعرض على أسر الضحايا حق الحضور والتفرج عند تنفيذ حكم اإلعدام‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬يظهر أن تلك األسر ال تحصل أبدا على السالم الذي تنشده‪ .‬وعطشهم‬
‫لرؤية اآلخرين يتأملون بالعنف نفسه الذي آذاهم شخصيا ال يرتوي أبدا‪ .‬وبدال‬
‫شوشين ومملوءين‬ ‫من شفاء جروحهم‪ّ ،‬‬
‫فإن رغبتهم في االنتقام تتركهم م ّ‬
‫سخطا‪.‬‬
‫الغفران والعدالة ‪11‬‬

‫ّإن الغفران هو ليس التغاض ي عن الخطأ‪ .‬ففي بعض الحاالت يكون‬


‫موضوع "الغفران والنسيان" ليس فقط مستحيال فحسب‪ّ ،‬‬
‫لكنه قد يكون‬
‫ألي شخص أن ينس ى ابنه؟ ويمكننا أن نفهم‬ ‫أخالقي‪ .‬فكيف يمكن ّ‬
‫ّ‬ ‫ش يء غير‬
‫جيدا سبب حصول املرء على مشاعر األلم والسخط والغضب‪ ،‬وقد تكون‬
‫ّ‬
‫ضرورية أيضا‪ ،‬لكن يجب أن تثمر هذه املشاعر االشتياق إلى املصالحة‪.‬‬
‫الفصل السابع‬

‫ُ‬
‫الـغـفـران حـيـنـمـا‬
‫تـكون الـمـصـالحـة مسـتـحـيـلـة‬

‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن بدافع‬ ‫قد يكونُ رفض املُسامحة أسوأ بكثير من القـتل‪ُ ،‬‬
‫ألن القـتل قد يكو ُ‬
‫ُ‬
‫ُّ‬
‫ومترو من‬ ‫لحظات من سعـير الغضب‪ ،‬بينما املسامحة هي اختيار بارد‬
‫القلب‪.‬‬

‫قول من‬
‫جورج ماكدونالد ‪George Macdonald‬‬
‫قسيس اسكتلندي وشاعر وكاتب‬
‫وقد ألهم الكثير من الكتاب املشهورين الذين جاءوا من بعده‬

‫عندما اخ ُتطفت ابنة "مارييتا جيكر ‪ "Marietta Jaeger‬البالغة سبع سنوات‬


‫من خيمتهم أثناء رحلة تخييم في والية مونتانا كان ُّرد فعل األم ّ‬
‫األول هو‬
‫الغضب‪ .‬فقالت‪:‬‬

‫كنت أغلي من الحقد ومستميتة على االنتقام‪ّ .‬‬


‫فحتى لو تم إرجاع بنتي‬
‫حية وبحالة ّ‬
‫جيدة لقتلت ذلك الرجل في الحال على ما‬ ‫"سوزي" اآلن ّ‬
‫بكل جزء من‬‫فعله بابنتي‪ ،‬هذا ما قلته لزوجي وما كنت أعنيه فعال ّ‬
‫كياني‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫الغفران حينما تكون المصالحة مستحيلة ‪11‬‬

‫يمكننا أن نفهم ونعذر "مارييتا" على رد‬


‫ّ‬
‫فعلها هذا‪ ،‬إال أنها سرعان ما أدركت أنه ال‬
‫ألي مقدار من الغضب أن يعيد لها‬ ‫يمكن ّ‬
‫مستعدة ألن تغفر لخاطف‬ ‫ّ‬ ‫بنتها‪ .‬فلم تكن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بنتها‪ :‬فقد ظلت تؤكد لنفسها لفترة طويلة‪،‬‬
‫ّأنها لو غفرت له فهذا معناه خيانة لبنتها‬
‫وصفح عن أفعال الخاطف‪ .‬لكنها شعرت في‬
‫أعماق نفسها أن غفرانها له هو الطريق‬
‫الوحيد لكي تتدارك املوقف في ظل فقدانها‬
‫لبنتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفي حالة اليأس هذه‪ ،‬بدأت تصلي‪ ،‬ال‬
‫من أجل عودة بنتها ساملة فحسب‪ ،‬لكن أيضا‬
‫من أجل الخاطف‪ .‬وطوال األسابيع والشهور التي تلت االختطاف أصبحت‬
‫صلواتها ألجل عودة "سوزي" أصعب وأصعب؛ لكن الغريب أن صلواتها‬
‫جدية‪ .‬فهي ببساطة أرادت أن تتعرف على‬ ‫للخاطف أصبحت أسهل وأكثر ّ‬
‫ُّ‬
‫التحدث معه‬ ‫الشخص الذي أخذ طفلتها املحبوبة‪ .‬وشعرت برغبة كبيرة في‬
‫وجها لوجه‪.‬‬
‫وفي أحدى الليالي‪ ،‬وبعد مض ّي عام بالضبط (وبالدقيقة نفسها) على‬
‫ّ‬
‫تليفونية‪ .‬وكان صاحب تلك املكاملة هو‬ ‫اختطاف بنتها ّ‬
‫تلقت "مارييتا" مكاملة‬
‫املختطف‪ .‬وشعرت "مارييتا" بالخوف ‪ -‬فقد كان صوته بغيضا ومخيفا كاللص‬
‫‪ -‬لكنها تعجبت من نفسها كيف كان لها مشاعر شفقة حقيقية لذلك الرجل‬
‫في الجهة الثانية من خط التلفون‪ .‬والحظت أنه صار يهدأ حينما صارت هي‬
‫وتحدثا معا مل ّدة ساعة‪.‬‬
‫تهدأ‪ّ .‬‬
‫ولحسن الحظ‪ ،‬استطاعت "مارييتا" أن ّ‬
‫تسجل املكاملة‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫تعقب مكتب التحقيقات الفيدرالية له وقبضهم عليه‪ ،‬إال‬ ‫مض ّي شهور على ُّ‬
‫مرة أخرى‪ .‬فقد عثر‬‫ّأنها منذ تلك اللحظة علمت أن "سوزي" لن ترجع البيت ّ‬
‫حققون على عظام ظهر طفلة صغيرة بين متعلقات املختطف‬ ‫امل ّ‬
‫‪ 11‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫ِاقترح قانون الوالية عقوبة اإلعدام‪ ،‬إال أن "مارييتا" لم ترغب في االنتقام‪.‬‬
‫فكتبت‪" :‬في ذلك الوقت كنت قد أدركت أخيرا أن العدالة ال تدور حول‬
‫موضوع إنزال العقوبات بل حول اإلصالح والشفاء‪ ".‬وطالبت عوضا عن ذلك‬
‫قدم لقاتل "سوزي" عقوبة السجن املؤبد مصحوبة برعاية طبيب نفس ّي‬ ‫أن ي َ‬
‫ّ‬
‫بدال من اإلعدام‪ .‬إال ّأن ذلك الشاب املعذب أقدم على االنتحار‪ ،‬غير أن األم‬
‫"مارييتا" لم تندم قط على عرضها بتقديم املساعدة له‪ .‬ولم تنته جهودها‬
‫لفعل السالم هناك‪ .‬واليوم‪ ،‬هي عضو في مجموعة تعمل للمصالحة بين القتلة‬
‫وعائالت الضحايا‪ .‬وكان ذلك جزء من أسلوب شفائها‪ ،‬وشفاء اآلخرين‪.‬‬
‫تظهر لنا تجربة "مارييتا" ّأن كل القصص ال تنتهي نهاية سعيدة‪ .‬فحتىّ‬
‫ّ‬
‫عندما نتمكن من مواجهة الشخص الذي يجب أن نغفر له فربما هو ال يشعر‬
‫بالندم على ما فعله‪ .‬وفي بعض األحيان قد ال يتم العثور على القاتل‪ ،‬أو قد ال‬
‫يعود شريك الحياة الذي هرب‪ ،‬فهل يكون الغفران في هذه الحاالت ممكنا‬
‫أيضا؟‬

‫ّ‬
‫تخلّص "دانيال كولمان ‪ "Daniel Coleman‬من حياته ألنه لم يستطع‬
‫انسس"‪ .‬إال ّأن تلك‬
‫التعايش مع فكرة مقتل أخته "فر ِ‬
‫املأساة املزدوجة ّ‬
‫غيرت حياة األم "آن ‪ ."Anne‬فاليوم‬
‫تساعد وت ّ‬
‫قدم "آن" املشورة للرجال املحكوم عليهم‬
‫باإلعدام في والية ديالوير ‪ .Delaware‬وبدأ عملها‬
‫مرة مع "بربارة لويس" وهي س ّيدة‬ ‫عندما تقابلت ّ‬
‫ألول ّ‬
‫حكم على ابنها باإلعدام‪ .‬وبعد زيارتها مع "بربارة" إلبن‬
‫"بربارة" املسجون بدأتا معا في زيارة السجناء اآلخرين‬
‫أيضا‪ .‬فتقول‪:‬‬

‫هكذا تقابلت مع "بيلي"‪ .‬فلم يكن هناك من يزوره‪ ،‬وكان وحيدا للغاية‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأبكي دائما عندما أتذكر كيف علقوه؛ وكيف وقفوه عند املشنقة في‬
‫األقل مل ّدة خمس عشرة دقيقة انتظارا لوصول‬
‫ّ‬ ‫وسط العواصف على‬
‫الغفران حينما تكون المصالحة مستحيلة ‪17‬‬

‫الشهود‪ .‬وبعدما تم إعدامه‪ ،‬خارت عزيمتي وقلت مع نفس ي‪" :‬ال أقوى على‬
‫االستمرار بعد‪".‬‬
‫تعرفت على صبي صغير يدعى مرقس‪ ،‬كان أبوه قد حكم عليه‬ ‫ثم ّ‬
‫باإلعدام أيضا‪ .‬ولم يكن له أم وكان قد فقد أختيه أيضا‪ ،‬وكان يعاني من‬
‫الكوابيس ألنه على وشك أن يفقد والده أيضا‪.‬‬
‫ّ‬
‫أنا أعلم أنني إذا كرهت شخصا فلن يعيد ذلك ابنتي إلي‪ .‬وحاليا‪،‬‬
‫لست متأكدة من أنني سأجد الشخص الذي قتلها يوما ما‪ .‬غير أن املرء‬
‫بحاجة ماسة إلى إيجاد شفاء ما‪ ،‬وأنا وجدته وهو عن طريق مساعدة كل‬
‫الناس في العالم من الذين يشبهون "بربارة" و "مرقس"‪ .‬ألن أعطتني‬
‫مما كنت ّ‬
‫أتخيل‪.‬‬ ‫مساعدتهم شفاء أكثر ّ‬

‫فقدت "جينيفر ‪ ،"Jennifer‬وهي من معارفي ملدة طويلة ‪ -‬خطيبها الذي تركها‬


‫قبل عشرة أيام من موعد زفافهما ولم تره ثانية مطلقا‪ .‬كانا مخطوبين ألكثر‬
‫ّ‬
‫من عام‪ ،‬وعلى الرغم من أ ّن عالقتهما عانت من اضطرابات من وقت آلخر‪ ،‬إال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أنها كانت واثقة من أنه سيأتي الوقت الذي ستنجح فيه عالقتهما‪ .‬فقد أحبته‬
‫تخرجت من ك ّلية التمريض‪،‬‬‫كثيرا‪ ،‬وكانت فرحانة جدا‪ .‬وكانت وقتئذ قد ّ‬
‫ّ‬
‫وشارفت على االنتهاء من إعداد ثوب الزفاف‪ .‬عندئذ تحطم ك ّل ش يء‪.‬‬
‫فاسمعوها تقول‪:‬‬

‫وأن هناك أشياء من ماضيه ما‬ ‫كشف لي خطيبي ّأنه لم يكن أمينا معي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫زالت ّ‬
‫تعوق زواجنا‪ .‬واألسوأ من ذلك‪ ،‬أنه أراد أن يهرب من ك ّل ش يء بدال‬
‫من مواجهة ماضيه‪ .‬أما أنا فتحطمت‪ .‬وبكيت أليام طويلة وانسحق قلبي‬
‫لسنين‪ .‬وملت نفس ي على عدم أمانته‪ ،‬وشعرت بالبغض واالستياء‪.‬‬
‫وبعد مض ّي ثالثين عاما ما زالت "جينيفر" عازبة‪ ،‬لكنها لم تعد تشعر بالبغض‪.‬‬
‫وقد غفرت لخطيبها بصورة كاملة ومن صميم قلبها بالرغم من أنها غير قادرة‬
‫على إخباره بذلك ألنها ال تعلم أين هو‪ .‬وعلى الرغم من ّأنها في بعض األحيان‬
‫مازالت تشعر باأللم نتيجة للزواج الذي لم يتم‪ ،‬وحزنا على الحب الذي ضاع‪،‬‬
‫وجدت إشباعا حقيقيا في مساعدة وخدمة اآلخرين من كبار السن‬ ‫ْ‬ ‫فقد‬
‫‪ 18‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫واملرض ى والحوامل واألطفال املعاقين‪ .‬يعلم البعض من أصدقائها بماضيها‪.‬‬


‫همة نراها مشغولة ّ‬
‫جدا وال تملك في قلبها أي شفقة‬ ‫ولكونها فرحانة ومليئة ّ‬
‫على الذات‪ .‬فتقول‪:‬‬

‫باعتباري عازبة‪ ،‬أستطيع أن أقوم بالكثير من األمور التي ال تقدر أبدا‬


‫قدم خدماتي أينما كانت‬‫عليها الزوجة املشغولة أو األم‪ .‬فأنا يمكنني أن أ ّ‬
‫أي مكان كان‪ .‬وقد صار في وسعي رعاية ومحبة‬ ‫هناك حاجة لي وفي ّ‬
‫أطفال أكثر بكثير مما لو كنت متزوجة‪.‬‬

‫تركت "جولي ‪ "Julie‬مع زوجها وأوالدها أحد مجتمعات كنيستنا –‬


‫واجهت زوجها بتحرشه‬‫ْ‬ ‫مجتمعات برودرهوف املسيحية ‪ - Bruderhof‬بعدما‬
‫بابنتهما‪ .‬وبالرغم من الصدمة التي أصابتها وأيضا الهلع‪ ،‬جراء ما فعله إال أنها‬
‫كانت ال تزال تحبه وتأمل في أن يتمكنوا من إعادة بناء عالقتهم كأسرة من‬
‫جديد خارج مجتمعنا‪ .‬ولألسف لم تنجح األمور بهذا األسلوب‪ ،‬فتقول‪:‬‬

‫عني‪،‬‬ ‫كنت منهارة وعلى مشارف اليأس‪ .‬فقد أصبح زوجي شخصا غريبا ّ‬
‫أتمكن فيما بعد من َ‬ ‫ّ‬
‫العيش معه ألن الحياة تحولت إلى جحيم‪ ،‬فقد‬ ‫ولم‬
‫قضينا عاما كامال بعيدا عن مجتمعنا كنيستنا الذي يعيش حياة‬
‫مسيحية مشتركة‪ ،‬آملين أن ننقذ زواجنا وأسرتنا لكن بال فائدة‪ ،‬فقد‬
‫ضاع ك ّل ش يء‪.‬‬
‫فتركته وعدت إلى مجتمعنا املسيحي‪ ،‬غاضبة ومجروحة وكارهة‬
‫ومرفوضة ويائسة ومهانة ومذلولة ‪ -‬وال يمكن لكل هذه الصفات أن ت ّعبر‬
‫عما شعرت به وقتئذ‪ِ .‬واضطرمت معركة في قلبي‪ .‬وأردت أن أغفر‪ ،‬لكني‬ ‫ّ‬
‫في الوقت نفسه كنت أريد أن أوجه له ضربات االنتقام‪ ،‬وكلما تذكرت‬
‫ّ‬
‫زوجته الجديدة (فقد طلقني وتزوج من أخرى) كانت مشاعري تشتعل‬
‫بالغضب تجاهه‪ .‬لم تكن معركة سهلة فهي ما تزال مستمرة‪ ،‬في الوقت‬
‫الذي أشهد فيه تلك اآلثار السيئة تنعكس على أوالدنا الخمسة جراء‬
‫إساءة املعاملة وجراء االنفصال‪.‬‬
‫الغفران حينما تكون المصالحة مستحيلة ‪19‬‬

‫كانت معركتي هي أنني كنت بالحقيقة راغبة ألغفر له‪ :‬فقد أردت‬
‫فعال أن أغفر له من صميم قلبي‪ .‬فقد علمت ّأن هذا هو واجبي‪ .‬لكن‬
‫أي ندم؟ وماذا سيكون شكل‬ ‫كيف يمكنني أن أغفر له وهو ال يبدي ّ‬
‫ّ‬
‫العملي لغفراني؟‬ ‫التعبير‬
‫ّ‬ ‫عما فعله ّ‬ ‫لم أرغب في التغاض ي ّ‬
‫بأية طريقة‪ ،‬وقد أخبرته أنه ال‬
‫ّ‬
‫يمكنني أن أسمح ألوالدي أن يظلوا معه فيما بعد‪ ،‬لكني قررت ّأن أكثر‬
‫إجراء مفيد يسعني عمله وقتذاك كان قبول الطالق‪.‬‬
‫ومنذ ذلك الحين اكتشفت أن غفراني له لم يكن ش يء أعمله مرة‬
‫مرة ّ‬ ‫أؤكد على غفراني ّ‬ ‫ّ‬
‫ومرات‪ .‬وأحيانا أشك‬ ‫واحدة فقط‪ .‬إذ كان يجب أن‬
‫فيما إذا أنا كنت فعال قد غفرت له‪ ،‬وأصارع مع هذا األمر أيضا‪ ،‬لكنني‪،‬‬
‫حقي ال‬ ‫كل األخطاء التي ارتكبها زوجي في ّ‬ ‫وفي نهاية املطاف‪ ،‬أعلم ّأن ّ‬
‫يمكن لها أن ت ّ‬
‫دمرني‪.‬‬

‫ّ‬
‫توضح قصة "جولي" نقطة هامة أال وهي أنه رغم ّأن زوجها السابق لم يظهر‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فستظل هي مقيدة‬ ‫أي شعور بالندم‪ ،‬إال أنها ما زالت تغفر له‪ .‬وإن لم تفعل‬
‫بمشاعر البغض نحوه‪ ،‬وسيستمر هو في التأثير على أفكارها ومشاعرها‪.‬‬
‫وستظل مجروحة بما فعله لها وألوالدها طوال الحياة‪ .‬لكن من خالل طرح‬ ‫ُّ‬
‫غضبها وحقدها خارجا‪ ،‬ومن خالل إدراكها أن سعير العذاب بالبغض ما هو‬
‫إال طاقة مهدورة‪ ،‬حصلت آنذاك على قوة جديدة لتداوم في محبة أوالدها‬
‫وخدمتهم وأيضا قوة تقويها لتستمر في الحياة‪.‬‬
‫الفصل الثامن‬

‫ُ‬
‫الـغـفـران في الـحـيـاة الـيـومـيـة‬

‫َ‬
‫لو أحببت‪ ،‬ولو قليال‪ ،‬ألصبحت عرضة للخطر‪ .‬ألنه ال يوجد مكان خارج‬
‫الفردوس تكونُ فيه آمنا تماما من كل املخاطر ِ‬
‫واالنزعاج الذي تسببه لك‬
‫ى الجحيم‪.‬‬
‫املحبة سو ُ‬

‫قول من‬
‫س ي أس لويس ‪C. S. Lewis‬‬
‫وهو كاتب وباحث ايرلندي‬
‫وقد كتب سلسلة األطفال الشهيرة نارنيا‬

‫َقد ال يواجه الكثير م ّنا أبد ًا موقفاً ّ‬


‫يحتم علينا أن نغفر لقاتل أو ملغتصب‬ ‫ّ‬
‫جنس ي‪ .‬لكنننا نواجه جميعا يوميا حاجتنا ألن نغفر لشريك حياة أو ألحد‬
‫األبناء أو لصديق أو لزميل عمل ‪ -‬وربما عشرات ّ‬
‫املرات في يوم واحد‪ .‬وهذا‬
‫العمل ليس أقل شأنا من األول‪.‬‬
‫ّ‬
‫يظهر "وليام بليك ‪ "William Blake‬في قصيدته "شجرة السم" كيف أن‬
‫أصغر ضغينة يمكن لها أن تنمو وتزهر وتحمل ثمارا قاتلة‪ .‬فيقول‪:‬‬

‫غضبت من صديقي‪:‬‬
‫وأخبرته بغضبي‪ ،‬فزال غضبي‪.‬‬
‫غضبت من ّ‬
‫عدوي‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫الغفران في الحياة اليومية ‪77‬‬

‫ولم أخبره‪ ،‬فكبر الغضب‬

‫وغذيته بالخوف‪،‬‬
‫صباحا ومساء‪ ...‬بدموعي؛‬
‫وراعيته باالبتسامات‪،‬‬
‫وبالخداع الناعم‪.‬‬

‫فنما نهارا وليال‪،‬‬


‫حتى أثمر ت ّفاحة المعة؛‬
‫عدوي تلمع‪،‬‬‫ورآها ّ‬
‫وعلم أنها لي‪.‬‬

‫وعندما أرخى الليل سدوله‪،‬‬


‫دخل إلى حديقتي وسرقها‪:‬‬
‫في الصباح أرى ُّ‬
‫عدوي‬
‫متنعما تحت الشجرة‪.‬‬

‫ّ‬
‫اليومية هي بذور شجرة الشاعر‬ ‫ّإن الضغائن والظنون الصغيرة في الحياة‬
‫"بليك"‪ .‬فلو سقطت تلك البذور في قلوب خصبة‪ّ ،‬‬
‫فإنها ستنمو‪ ،‬وإذا كان‬
‫ّ‬
‫هناك من يرعاها ويغذيها فستكون لها حياتها الخاصة‪ .‬رّبما تكون صغيرة وتبدو‬
‫كما لو كانت تافهة يصعب على املرء أن يراها في البداية‪ ،‬لكن برغم ذلك يجب‬
‫القضاء عليها‪ .‬يظهر لنا "بليك" في ّأول سطرين سهولة القيام بذلك‪ :‬فالذي‬
‫نحتاجه هو أن نواجه مشاعر الغضب لدينا في الحال ونقلعها من جذورها‬
‫قبل أن تنمو‪.‬‬

‫علي أن أتعلم أ ّال أحمل ضغينة في حياتي منذ نعومة أظفاري‪ .‬فقد كانت‬
‫كان َّ‬
‫ّ‬
‫طفولتي سعيدة في معظمها لكن كان لي نصيبي أيضا في التجارب السيئة‪ .‬لقد‬
‫كنت طفال مريضا‪ .‬فقد أخبر األطباء والدتي بعدما ولدت بفترة قصيرة أنني‬
‫‪ 70‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫أعاني من مرض "استسقاء الرأس" (ماء على املخ) ولن أتمكن من السير على‬
‫صحة ذلك ‪ -‬فبدأت املش ي عند سن‬ ‫الرغم من ّأنه لم تثبت ّ‬ ‫قدمي أبدا‪ .‬وعلى ُّ‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫وتسبب هذا في‬ ‫الثانية والنصف ‪ -‬إال ّأن تسمية "أبو رأس املاء" ِالتصقت بي‪.‬‬
‫وأثر ّ‬
‫علي أنا أيضا‪.‬‬ ‫لوالدي ّ‬‫َ‬ ‫ألم كبير‬
‫ّ‬
‫كنت وحيدا‪ .‬فقد كان هناك سبعة أطفال في عائلتنا غير أنني كنت‬
‫عنا ملدة ثالث سنوات وأنا‬ ‫الصبي الوحيد‪ .‬باإلضافة إلى أن والدي كان بعيدا ّ‬ ‫ّ‬
‫كنت ما أزال في عمر خمس سنوات‪ .‬لهذا كنت أتوق لألصدقاء‪.‬‬
‫وعندما بلغت السادسة‪ ،‬كان يجب أن أزيل ورما كبيرا من ساقي‪ .‬وقد‬
‫كانت هذه ّأول عملية من عمليات كثيرة أجريتها خالل الثالثة عقود التي تلت‪.‬‬
‫بأي ميكروب يداهمني‬ ‫وظل خطر اإلصابة ّ‬ ‫واستمرت العملية مل ّدة ساعتين‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الحيوية لم تكن قد ظهرت بعد‪ ،‬حيث ك ّنا نعيش في‬ ‫ّ‬ ‫أليام ألن امل ّ‬
‫ضادات‬
‫الغابات النائية في دولة باراجواي‪ .‬وبعد تقطيب الجرح الذي كان في ساقي‪،‬‬
‫قدم أحد لي أية عكازة أو ما إلى‬ ‫عدت مباشرة إلى منزلي سيرا على األقدام‪ .‬ولم ي ّ‬
‫ذلك‪ ،‬وال نستطيع بالطبع التحدث عن تقديم عربة لتوصيلي إلى البيت‪ .‬وال‬
‫أزال أرى وجه والدي املصدوم عندما دخلت إلى املنزل بعرجي‪ ،‬على الرغم من‬
‫ّ‬
‫أنه لم ينطق بكلمة‪.‬‬
‫وحالهما حال أي والدين‪ ،‬فقد كان والداي يصارعان في مشاعرهما عندما‬
‫نتعرض نحن األوالد إلى أية إساءة في املعاملة من ِقبل معلم أو أي شخص بالغ‬
‫ُّ‬
‫أصرا على ّأن السبيل الوحيد للتغلب على مثل هذه اإلهانات‬ ‫آخر‪ .‬لكنهما ّ‬
‫الصغيرة في الحياة هو الغفران‪.‬‬
‫وعندما بلغت الرابعة عشرة‪ ،‬انتقلنا إلى الواليات املتحدة‪ .‬وكان التغيير‬
‫من قرية في براري أمريكا الجنوبية إلى مدرسة ثانوية حكومية في والية نيويورك‬
‫ّ‬
‫هائال‪ .‬كانت اللغة اإلنجليزية بالتأكيد عائقا لي‪ ،‬لكنني كنت خجوال أيضا ألنني‬
‫شعرت أنني غريب األطوار ومتخلف‪ .‬فكل طالب سعى ليكسب تقدير زميله أو‬
‫زميلته – ولم يرد أحد أن يكون وحيدا – وهذا ما أردت أن أفعله أنا أيضا‪.‬‬
‫فقد حاولت يائسا أن أكون مقبوال بينهم‪ ،‬وخرجت عن طوري ألرض ي زمالئي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خاصة من صبي معروف عنه أنه‬ ‫الجدد‪ .‬وفي البداية تم االستهزاء بي وبصفة‬
‫أرد عليه بالعداء‪ ،‬وملا كان كل أصدقائي مهاجرين مثلي بدأنا‬ ‫شقي‪ .‬فأخذت ّ‬
‫الغفران في الحياة اليومية ‪71‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫نتحدث باألملانية فيما بيننا ألننا نعلم أنه لم يكن‬ ‫نسخر منه بال رحمة‪ ،‬وك ّنا‬
‫يفهم كلمة واحدة منها‪ .‬وقادتنا العداوة إلى أكثر من مجرد أنوف تدمي‪.‬‬
‫علي أن أتعامل مرة ثانية مع مشاعر‬ ‫وفي العشرينات من عمري صار ّ‬
‫بشابة وخطبتها لكن فجأة وفي‬ ‫ّ‬ ‫رفض وإقصاء اآلخرين‪ .‬فقد ّ‬
‫تعمقت عالقتي‬
‫أحد األيام جافتني وتركتني‪ .‬صارعت في داخلي ألغفر لها‪ ،‬وألغفر لنفس ي أيضا‪،‬‬
‫لدي ّأية فكرة عن سبب إنهاءها لهذه العالقة بيننا‪.‬‬ ‫والسيما ألنني لم تكن ّ‬
‫ّ‬
‫(أقنعت نفس ي ّأن األمور ساءت بيننا بسببي‪ ،‬ألني شعرت أنني غير مناسب لها‬
‫تحطمت آمالي ثانية عندما أنهت ّ‬ ‫ّ‬ ‫على اإلطالق‪ ).‬وبعد ّ‬
‫شابة أخرى‬ ‫عدة سنوات‬
‫عدة شهور‪ .‬فأنهار العالم من حولي عندما حاولت أن أفهم‬ ‫عالقتها بي بعد ّ‬
‫سبب حدوث ذلك‪ .‬ما الخطأ الذي ارتكبته؟‬
‫ّ‬ ‫واستغرق األمر ّ‬
‫مني وقتا طويال لكي أتغلب على جرحي‪ ،‬وأعيد بناء ثقتي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بنفس ي‪ .‬لكن أبي أكد لي أنه في الوقت املناسب سأعثر على اإلنسانة املناسبة‪،‬‬
‫عدة سنوات‪.‬‬‫صحة ما قاله عندما وجدت زوجتي "فيرينا" بعد ّ‬ ‫وقد ثبت ّ‬

‫من األسهل أن نغفر للغريب من أن نغفر لشخص نعرفه ونثق به‪ .‬وهذا ما‬
‫يجعل األمر عسيرا جدا في أن ينجح املرء على تخطي محنة خيانة وغدر‬
‫أصدقاء عزيزين له أو زمالء عمل مقربين‪ .‬فهم يعرفون أفكارنا ونقاط ضعفنا‬
‫فإننا من دون ّ‬ ‫ّ‬
‫شك سندوخ ونتعذب‪ .‬لقد‬ ‫وصفاتنا ‪ -‬وهم عندما ينقلبون علينا‬
‫ّ‬
‫مر "بـيتر ‪ ،"Pete‬وهو صديق لي من فيرجينيا‪ ،‬بتجربة مماثلة‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫كان علي تصفية حساباتي مع شريكي الذي شاركته مل ّدة عشر سنوات‬
‫قبل االنتقال لوالية أخرى وترك مصلحة عملي‪ .‬كان األمر عسيرا بسبب‬
‫حقيقة ّأنه وزوجته كانا قريبين جدا ّ‬
‫مني؛ فقد ك ّنا أصدقاء على مدار‬
‫الخمسة عشرة سنة املاضية‪.‬‬
‫لم يكن في وسع أحد أن يتخيل الكيفية املنصفة التي كنت أنوي‬
‫فيها توزيع حصص مصلحتنا‪ .‬فلم أكن أبغي أن أكون عادال وحسب‪ ،‬بل‬
‫أبغ أن يكون هناك ش يء ما عالق في ضميري‪ .‬فأتيت‬‫وكريما أيضا‪ .‬فلم ِ‬
‫بتقسيم يعطني نصف األرباح لغاية اليوم الذي تركت فيه املصلحة‪،‬‬
‫‪ 71‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫وتركت لهم النصف اآلخر‪ ،‬مع جميع األشغال التي كانت قائمة آنذاك‪،‬‬
‫ومع جميع األسهم وجميع أمنياتي الطيبة لهم بدوام التوفيق في املصلحة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التحدث معي‬ ‫ُّ‬ ‫بيد ّأن كليهما رأيا األمر كله بطريقة مختلفة‪ ،‬وتوقفا عن‬
‫من اليوم الذي أخطرتهما فيه بذلك‪ .‬ولسوء الحظ كنت قد أخطرتهما‬
‫بذلك قبل شهرين من التحويل الذي اتسم بأنه كان طويل وصامت‬
‫ووحيد تتخلله كلمات وعبارات الغضب فقط‪.‬‬
‫ولم نتمكن من توقيع أية اتفاقية حتى عند قدوم موعد تركي‬
‫ّ‬ ‫كل ّ‬
‫للمصلحة‪ .‬فقد أتى ّ‬
‫منا بمحام مما عكر املياه بيننا‪ .‬أما أنا فكنت أود‬
‫أن يكون هناك مصدر خارجي ليحكم في العرض الذي قدمته‪ ،‬لكنهم‬
‫ّ‬
‫حكم وطلبوا النصيحة من محاسب عملنا معه مل ّدة‬ ‫أبعدوا الشخص امل ِ‬
‫سبع سنوات‪ .‬وال أعلم ماذا جرى‪ ،‬لكنه سرعان ما فقد حياديته وبدأ‬
‫يعمل ّ‬
‫ضدي‪.‬‬
‫تطلب األمر كثيرا من العروض والعروض امل ّ‬
‫ضادة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫حتى نصل إلى‬
‫أصروا على أنهم ال يتمكنون من إرسال الشيك لي بالبريد قبل‬ ‫اتفاق‪ .‬وقد ّ‬
‫تم اتخاذ القرار على دفع املبلغ في بداية‬ ‫الرغم من أنه ّ‬ ‫‪ 20‬ديسمبر على ُّ‬
‫استحق سوى‬‫ُّ‬ ‫شهر ديسمبر‪ .‬وفيما بعد علمت أن هذا التأخير جعلني ال‬
‫أتلق نصيبي من األرباح إال‬ ‫نصف مكاسبنا عن السنة ّكلها ‪ُّ -‬رغم أنني لم ّ‬
‫في شهر يونيو‪ .‬وانتهى بي األمر أنني دفعت مبلغ ‪ 31111‬دوالر للضرائب‪.‬‬
‫أتمكن من النوم ّ‬ ‫ّ‬
‫أليام‪ .‬فقد شعرت أن صديقي‬ ‫كنت غاضبا للغاية ولم‬
‫علي لكي يسحقوني‪.‬‬ ‫أنهما قد تآمرا ّ‬
‫واملحاسب قد خاناني كليا‪ .‬وشعرت ُّ‬
‫حتى أغفر لهم‪ ،‬لكني وجدت الق ّوة‬ ‫علي أن أبذل مجهودا كبيرا ّ‬ ‫كان ّ‬
‫أنني بحاجة إلى الكتابة إليهما ألطلب منهما الغفران‬ ‫ألفعل ذلك‪ .‬ثم أدركت ّ‬
‫أيضا‪ .‬وشعرت براحة كبيرة عندما أغلقت الظرف ووضعت الخطاب في‬
‫بغض النظر عن‬ ‫ّ‬ ‫البريد‪ .‬لقد كنت بحاجة إلى الح ّرية من مشاعر الغضب‬
‫ّردهما‪.‬‬
‫ممن نصحتني بضرورة‬ ‫وبعد مض ّي شهر ّاتصلت بي صديقة ّ‬
‫ّ‬
‫مسامحتهم لتسألني إذا كنت قد تمكنت من فعل هذا أم ال‪ .‬فأخبرتها بما‬
‫الغفران في الحياة اليومية ‪71‬‬

‫ّ‬
‫فعلت فأجابت‪" :‬لقد أحسست أنك سامحته؛ إذ أنني قد الحظت عليه‬
‫(على الطرف اآلخر) كذلك ّ‬
‫وكأن حمال ثقيال قد أزيل من عليه فعال"‪.‬‬

‫ّ‬
‫الحظ أنّ خيانة األصدقاء أو الزمالء أمر معروف في كل األوساط‪ .‬لقد‬ ‫لسوء‬
‫كان أبي معروفا بقدرته على التشجيع والنصح بصفته راعي كنس ي في حركتنا‬
‫ُّ‬
‫التحدث‬ ‫املسيحية برودرهوف ‪ .Bruderhof‬فأينما ذهب كان الناس ُّ‬
‫يودون‬
‫معه‪ .‬فكان للعديد منهم أعباء ثقيلة في صدورهم يبغون طرحها عنهم‪ ،‬في حين‬
‫أحتاج غيرهم إلى من يستمع إليهم ليس إال‪ .‬لكن تلك األشياء نفسها من التي‬
‫حبونه‪ ،‬كانت تلقي من ناحية أخرى بذور الحسد في‬ ‫جعلت بعض الناس ي ُّ‬
‫قلوب اآلخرين تجاهه‪.‬‬
‫لقد عانى أبي من مشكلة في كليته في الفترة التي ولدت فيها‪ ،‬وزادت هذه‬
‫املشكلة بتقدمه في العمر‪ .‬فالحياة في دولة بارغواي كانت قاسية؛ فقد انتشرت‬
‫وأدت التوترات في مجتمع كنيستنا إلى جعل الصراع من أجل البقاء‬ ‫األمراض‪ّ ،‬‬
‫أصعب‪ .‬وقد ثقلت على أبي أحمال مسئولية القيادة بشكل غير مسبوق‪ .‬ففي‬
‫الجسدي املستمر‪ ،‬أخبره ّ‬
‫األطباء‬ ‫ّ‬ ‫إحدى املرات‪ ،‬وبعد ّعدة أسابيع من الضعف‬
‫ّ‬
‫أنه لم يعد لديه سوى أربعين ساعة فقط ليعيشها‪ .‬وتحسبا من حدوث ما هو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وشجعهم‬ ‫أسوأ‪ ،‬استدعى مجتمع الكنيسة كله إلى جواره على فراش املرض‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫حت ّى يظلوا أقوياء وثابتين أمام تلك الظروف القاسية التي يعيشون فيها‪ .‬وسلم‬
‫مسئولياته كشيخ كنيسة إلى ثالثة رجال‪ ،‬وكان أحدهما هو زوج أخته‪.‬‬
‫تماثل أبي للشفاء وتغيرت األمور وبدال من أن يعيد الرجال الثالثة قيادة‬
‫ْ ّ‬
‫انتهت وول ْت؛ إذ قد أعلن الطبيب أن‬ ‫الرعية له أخبروه أن ّأيام قيادته قد‬
‫بتحمل مطالب مهمة صعبة كهذه‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫حالته الصحية ضعيفة جدا وال تسمح له‬
‫وقالوا أن السبب الرئيس ّي وراء ذلك هو "عدم االستقرار النفس ي" الذي أظهره‬
‫في أوج مرضه عندما حلم بأحالم غريبة وهلوسات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قرر أبي أال يحارب هذا القرار‪ ،‬وبدأ العمل في إرساليتنا الصغيرة في‬
‫ألنه ببساطة لم يكن من الرعاة امل ّ‬ ‫ّ‬
‫ستعدين لفرض إرادته‬ ‫املدرسة واملستشفى‪،‬‬
‫على اآلخرين مطلقا‪.‬‬
‫‪ 71‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ُّ‬
‫والدي املؤلف ‪ -‬هايني آرنولد وأنا ماريُ‬

‫ّ‬
‫إال أن هذا ُّ‬
‫التغير في‬ ‫ّ‬
‫والداي لم يدركا األمر في وقته‪،‬‬ ‫الرغم من ّأن‬
‫وعلى ُّ‬
‫األحداث لم يكن من باب املصادفة‪ .‬فقد جرى إعدادها في محاولة متعمدة‬
‫كرس حياته له‪ .‬وفي الواقع‪ ،‬كان اقتراح الطبيب أن‬ ‫لتنحيته عن عمله الذي ّ‬
‫يأخذ والدي راحة إضافية ملجرد بضعة أسابيع‪ ،‬لكن القادة الجدد ّ‬
‫غيروا‬
‫كالمه لخدمة أهدافهم‪( .‬ولم نعرف السبب الحقيقي وراء الهلوسات التي كانت‬
‫تحدث ألبي إال بعد مض ي ثالثين عاما حين اكتشف األمر طبيب آخر‪ ،‬وشرح‬
‫جانبية لعالج البروميد البدائي الذي كان يستخدمه‬ ‫ّ‬ ‫لنا ّأنها كانت تحدث كآثار‬
‫بأية مرارة بغض أو ِامتعاض من جانبه‬ ‫هناك) ولم نشعر أبدا نحن أوالده ّ‬
‫تجاههم‪.‬‬
‫ْ‬
‫يمر وقت طويل حتى ظهرت مشكالت جديدة في مجتمع كنيستنا‪.‬‬ ‫ولم ّ‬
‫والداي صوتهما إلى أصوات حفنة من اإلخوة واألخوات اآلخرين الذين‬ ‫َ‬ ‫فقد ّ‬
‫ضم‬
‫حاولوا أن يحذروا مجتمع كنيستنا بأسره من ّأن أعمال الرحمة األصيلة قد‬
‫خنقتها مجموعة من النظم والقواعد الخالية من الروح‪ ،‬إال ّأن كالمهم أس يء‬
‫فهمه‪ .‬فتم استبعاد العديد منهم‪ ،‬بضمنهم أبي‪ ،‬بتهمة ّأنهم يحاولون عمل‬
‫ّ‬ ‫انقسام متعمد في الجماعة‪ .‬وعلى ُّ‬
‫الرغم من أن والدي كان مزارعا ماهرا (فقد‬
‫الغفران في الحياة اليومية ‪77‬‬

‫إال ّأنه لم يستطع الحصول على عمل من ّ‬ ‫ّ‬


‫أي‬ ‫كان قد درس الزراعة في زيوريخ)‪،‬‬
‫نوع كان‪ .‬فاملستوطنون األملان في بارغواي الذين كانوا يميلون إلى التعاطف مع‬
‫بشك‪ ،‬أما البريطانيون واألمريكان املغتربون فكانوا‬‫النازيين‪ ،‬كانوا ينظرون إليه ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجنسية‪ .‬وأخيرا وجد عمل كمدير مزرعة في‬ ‫يخشونه ألنه ملجرد أنه أملاني‬
‫مصحة للجذام‪.‬‬ ‫ّ‬
‫في أوائل األربعينيات لم يكن هناك عالج ملرض البرص‪ ،‬ولهذا السبب كان‬
‫ّ‬
‫عمال كهذا يعتبر خطيرا للغاية‪ .‬ولقد حذر الكثيرون والدي من العدوى وأخبره‬
‫مرة أخرى‪.‬‬‫أكثر من طبيب ّأن عمله هذا قد يحرمه من رؤية أوالده وزوجته ّ‬
‫مر به يفوق الوصف‪.‬‬ ‫فالعذاب الذي ّ‬
‫مصحة الجذام‬‫ّ‬ ‫لن أنس ى مدى فرحتي في اليوم الذي رجع فيه والدي من‬
‫ّ‬
‫هذه‪ .‬فلقد قفزت على كتفيه عندما دخل البيت وصحت‪" :‬عاد أبي!" لكل من‬
‫ّ‬
‫يمر بنا‪ ،‬إال ّأن الجميع قابلونا بنظرات جامدة‪.‬‬ ‫كان ُّ‬
‫ّ‬
‫الحقيقي وراء رحيل أبي‪ :‬فقد‬ ‫ومضت سنوات قبل أن أكتشف السبب‬
‫ّ‬
‫شعر أن الرعاة الكنسيين لجماعتنا صاروا مستبدين جدا‪ ،‬وقمعيين‪ ،‬وباردي‬
‫ّ‬
‫عاطفي"‪.‬‬ ‫القلب‪ .‬وملا طالبهم بأن يكونوا أكثر رحمة وأوسع صدرا‪ّ ،‬اتهموه أنه "‬
‫يكن أبي لهم ّأية بغض أو كراهية في قلبه‪.‬‬ ‫ومع ذلك لم ّ‬
‫في العشرينات من عمري سمعت ألول مرة عن هذه القصص واألحداث‬
‫من أصدقاء أبي القدامى‪ .‬فارتعبت‪ .‬وتساءلت‪" :‬ماذا سيكون ُّرد فعلي إذا تم‬
‫تنحيتي جانبا بال مبرر من قبل أصدقائي وزمالئي الذين أثق فيهم؟"‬
‫وفي عام ‪ 0911‬عرفت الجواب‪ .‬فقد طلب مني مجتمع جماعتنا فجأة أن‬
‫أتنحى عن دوري كشيخ كنس ي‪ ،‬وهي الوظيفة التي عملت بها مل ّدة ما يقرب من‬ ‫ّ‬
‫عشر سنوات‪ .‬ولغاية هذا اليوم لست متأكدا تماما مما حدث‪ .‬بالتأكيد كان‬
‫هناك عامل الغيرة نفسه امل َق ّسم الذي آذى أهلي قبل أربعين عاما‪ ،‬لكن في‬
‫ضدي‬ ‫املرة كان أصدقائي وزمالئي وأخواني من أبي وأمي هم الذين انقلبوا ّ‬ ‫هذه ّ‬
‫ويشجعونني صاروا فجأة يبحثون عن‬ ‫ّ‬ ‫على األكثر‪ .‬فالذين كانوا دائما يمدحونني‬
‫أخطاء في ك ّل ما فعلته‪.‬‬
‫وكنتيجة لشعوري بالحيرة والغضب‪ ،‬صارت لدي دوافع للرد على الشر‬
‫ّ‬ ‫التحول حدث في وقت ّ‬ ‫ُّ‬
‫سيئ لي‪ :‬إذ توفت والدتي بمرض‬ ‫بالشر‪ .‬لكن هذا‬
‫‪ 78‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫السرطان مجرد قبل أسابيع قليلة‪ ،‬باإلضافة إلى أنني شعرت في ذلك الوقت ّأن‬
‫أي وقت مض ى‪ .‬وأردت يائسا تحسين ما‬ ‫مجتمع كنيستنا يحتاجني أكثر من ّ‬
‫أقوم به واستعادة مكانتي "الصحيحة"‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬فقد رفض أبي أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫دعمني في شن حرب م ّ‬ ‫ي ّ‬
‫ضادة على املجتمع‪ .‬وذكرني أنه في النهاية نحن لسنا‬
‫عما نفعله نحن بهم‪.‬‬ ‫عما يفعله اآلخرون بنا ‪ -‬لكننا مسئولين فقط ّ‬ ‫مسئولين ّ‬
‫ّ‬
‫نتحدث‪ ،‬بدأت أدرك أنني لم أكن ّنقيا وبال لوم كما كنت‬ ‫ّ‬ ‫وبينما ّ‬
‫كنا‬
‫أعتقد‪ .‬ففي أعماقي كنت أحمل ضغينة تجاه أفراد معينين في مجتمع كنيستنا‪.‬‬
‫جرد‬ ‫علي أن أطلب منهم الغفران بدال من محاولة تبرير نفس ي‪ .‬وبم ّ‬ ‫وكان يجب ّ‬
‫سدا قد‬ ‫أن فعلت هذا‪ ،‬اتخذ صراعي معنى جديدا‪ .‬فقد شعرت ّأن هناك ّ‬
‫انفجر في مكان ما في أعماق فؤادي‪ .‬فكل األذية التي كنت أشعر بها سابقا‬
‫كانت بسبب تخدش كبريائي وانتفاخي؛ أما اآلن‪ ،‬فتحررت وصار بمقدوري أن‬
‫أسأل نفس ي‪ :‬ما فائدة ذلك على املدى الطويل؟‬
‫ُّ‬
‫وبتصميم جديد على تصحيح مسار األشياء وتحمل مسؤولية شخصية‬
‫أننا آذيناهم في‬ ‫لتلك التشنجات التي حدثت‪ ،‬ذهبت وزوجتي إلى أناس شعرنا ّ‬
‫املاض ي وطلبنا منهم السماح‪ .‬وبينما كنا نذهب من واحد آلخر شعرنا أن حمال‬
‫أخذ ينزاح عن قلوبنا تدريجيا‪.‬‬
‫ّ‬
‫كانت تلك السنة سنة مؤملة جدا لي ولزوجتي‪ ،‬لكنها كانت سنة هامة‬
‫حس‬ ‫للمسؤوليات التي نحملها اآلن عن طريق حصولنا على ّ‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‪ .‬إذ ّأنها ّأهلتنا‬
‫ّ‬
‫مرهف عند تعاملنا مع اآلخرين‪ .‬كما علمتنا دروسا لن ننساها أبدا‪ّ .‬أوال‪ ،‬ال يه ُّم‬
‫ّ‬
‫إن أساء الناس فهمك أو اتهموك ظلما؛ لكن املهم هو أال تس يء أنت فهم‬
‫اآلخرين أو ّتتهمهم ظلما‪ .‬ثانيا‪ ،‬صحيح أن قرار الصفح عن ذنوب اآلخرين يجب‬
‫نتغير ونقوم بهذه‬ ‫أن يكون دائما نابعا من القلب‪ ،‬إال أننا ال نستطيع أن ّ‬
‫منا‪ ،‬لكن‬ ‫الخطوة بفضل قوتنا البشرية الذاتية‪ .‬فالقدرة على الغفران ال تأتي ّ‬
‫من تجربتنا الشخصية ّأن هناك من غفر لنا‪.‬‬

‫جم و كارولين ويكس ‪ "Jim and Carolyn Weeks‬بأوقات عسيرة في‬ ‫م ّر " ِ‬
‫ّ‬
‫السنة نفسها‪ .‬فقد وجدا أيضا أن الغفران هو السبيل الوحيد للمصالحة‪.‬‬
‫وتكتب "كارولين" قائلة‪:‬‬
‫الغفران في الحياة اليومية ‪79‬‬

‫مر على إقامتنا في أحد مجتمعات برودرهوف‬ ‫في عام ‪ 0911‬كان قد ّ‬


‫املسيحية ‪ Bruderhof‬خمس سنوات‪ ،‬وكان ال يزال طموحنا أن نصير‬
‫ّ‬
‫أعضاء كاملين في الجماعة األخوية‪ ،‬لكن ِاتسم ذلك الوقت بالفوض ى‬
‫والتشويش‪ ،‬وعندما لم نستطع فهم األمور‪ ،‬تضايقنا بسرعة وانتهى بنا‬
‫األمر إلى أن نتراجع وننزوي جانبا ونتقوقع على أنفسنا‪.‬‬
‫ّ‬
‫قررنا أن نطلب ترك املجتمع املسيحي لعدة أسابيع ليتسنى‬ ‫وأخيرا ّ‬
‫ّ‬
‫لنا التعامل مع املوقف كأسرة ومن ثم نجد سالما‪ .‬ولسوء الحظ أساء‬
‫الناس فهم طلبنا‪ ،‬وانتهى بنا األمر بهجر الجماعة كليا وكأنه رحيل من‬
‫غير رجعة‪ .‬فلن أنس ى كيف ركبنا السيارة وغادرنا‪ .‬وجاء بعض األصدقاء‬
‫بأي ش يء سوى بفراغ عظيم‪.‬‬ ‫لتوديعنا لكن ّي لم أشعر في داخلي ّ‬
‫ألننا قبل أسابيع قليلة فقط ك ّنا متأكدين أننا سنصبح أعضاء‬
‫تحطمت ّ‬ ‫ّ‬
‫كل‬ ‫دائمين في حركة برودرهوف ‪ ،Bruderhof‬أما اآلن‪ ،‬فقد‬
‫بكل ش يء لكي ننضم لهذا األسلوب من الحياة‪.‬‬ ‫أحالمنا‪ .‬إذ أننا قد ّ‬
‫ضحينا ّ‬
‫كنا عائلة شابة متزوجة حديثا فقد جلبنا معنا بعضا من هدايا‬ ‫وكوننا ّ‬
‫وكنا قد سلمنا‬ ‫زواجنا التي كانت ما تزال آنذاك مغلفة بورق الهدايا‪ّ .‬‬
‫سيارتنا وكل ما نملك إلى مجتمع الكنيسة‪.‬‬
‫لكن جهزنا مجتمع الكنيسة بشاحنة مملوءة باألثاث وحتى بسائق‬
‫ّ‬
‫خاص لتوصيلنا إلى البيت الجديد في مدينة بولتيمور‪ ،‬إال أننا ومع ذلك‬
‫عنا‪ .‬لقد شعرنا أننا‬ ‫كنا ما نزال نصارع مع أحاسيس رفضهم وتخليهم ّ‬ ‫ّ‬
‫فاشلون جدا‪ .‬وحاولنا أن ننس ى كل ذكرياتنا مع املجتمع املسيحي ونرمي‬
‫أنفسنا بكل ثقلها إلى حياتنا الجديدة في بولتيمور وبعيدا عن املجتمع‬
‫املسيحي – بالرغم من أنه كانت هناك أوقات سعيدة كثيرة معهم‪.‬‬
‫حتى تعافينا ماديا‪ ،‬وذلك‬ ‫األمر ثمان سنوات ّ‬ ‫ّ‬ ‫واستغرق ّ‬
‫منا‬
‫بمساعدة كبيرة من األهل واألصدقاء‪ .‬في ذلك الوقت رضينا بالنصيب‬
‫حل بنا‪ .‬وحصل كالنا على وظيفة مستقرة‪ ،‬وداوم األوالد في‬ ‫وبكل ما ّ‬
‫جيدة‪ ،‬وكان لديهم كثير من األصدقاء‪ ،‬وبقي لنا مجرد بضعة‬ ‫مدارس ّ‬
‫فكنا فارغين‬‫سنين إلكمال تسديد دين رهن العقار‪ .‬أما داخليا ّ‬
‫وتحدثنا مبدئيا عن محاولة‬ ‫ّ‬ ‫ووحيدين‪ ،‬وعلمنا أننا نفتقر إلى ش يء مهم‪.‬‬
‫‪ 81‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬ ‫العودة إلى مجتمعنا املسيحي في برودرهوف لكننا بعد ّ‬


‫عدة سنوات تخلينا‬
‫ّ‬
‫عن هذا األمل بالكامل‪ .‬لم ندرك وقتها أننا ك ّنا بالحقيقة قد بنينا جدارا‬
‫ضخما من البغض واالمتعاض في قلوبنا‪.‬‬
‫في صباح أحد األيام وبعد مض ّي ما يقرب من عشرة أعوام على‬
‫ّ‬
‫رحيلنا‪ ،‬رن جرس التليفون في ذات الوقت الذي ركب فيه أوالدنا أتوبيس‬
‫املدرسة‪ .‬فقد كان على الخط أسرة من املجتمع املسيحي كانت يومئذ في‬
‫املدينة وأرادت زيارتنا‪ .‬في البداية ك ّنا خائفين‪ ،‬لكننا قمنا بدعوتهما على‬
‫نسوي جميع مشاعرنا‪ ،‬فلقد ك ّنا نعلم‬ ‫الرغم من ّأننا لم ّ‬ ‫العشاء‪ .‬وعلى ُّ‬
‫أي شخص من‬ ‫ّأننا نشعر بجرح عميق في داخلنا‪ .‬وغادرت األسرة ولم َنر ّ‬
‫إال بعد مض ي ّ‬ ‫ى ّ‬
‫عدة شهور عندما زرناها ملج ّرد زيارة‬ ‫مرة أخر‬‫األخوية ّ‬
‫قصيرة "في عطلة نهاية األسبوع‪".‬‬
‫وإذا بنا نعاود الزيارة أثناء عطلة نهاية أسبوع ثانية‪ ،‬وقد دعينا إلى‬
‫اجتماع خاص باألعضاء لشرح موقفنا ولتوضيحه لكي نبقى على األقل‬
‫جيد لكن في نهايته صدمنا من‬ ‫أصدقاء من جديد‪ .‬وبدأ االجتماع بشكل ّ‬
‫بشدة هو نفسه الشخص الذي لم يفهمنا‬ ‫أن الشخص الذي وثقنا فيه ّ‬
‫جيدا‪ .‬وهو أمر مؤلم‪ .‬وبعد االجتماع شعرنا أنه ما زالت هناك رغبة في‬
‫داخلنا لنكون أصدقاء مع جماعة األخوية في برودرهوف لكن ليس أكثر‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫ولك أن تتخيل دهشتنا‪ ،‬ففي صباح اليوم التالي قاد هذا الرجل‬ ‫ّ‬
‫منا‪ ،‬وعندما سمعنا‬ ‫وزوجته سيارتهما مل ّدة ساعتين ليرونا وليطلبوا العفو ّ‬
‫أنهما أتيا‪ ،‬لم نكن راغبين في رؤيتهما في البداية؛ فقد ك ّنا خائفين مما‬
‫التحدث معهما‪ .‬ولدهشتنا فقد‬ ‫ُّ‬ ‫سنقوله‪ .‬ثم وافقنا على مضض على‬
‫ّ‬
‫قابالنا بأذرع مفتوحة وعيون تمألها الدموع‪ .‬وقاال أنهما آسفان‪ ،‬ومدا لنا‬
‫كل ما‬ ‫أياديهما للمصافحة كعالمة لتحية السالم‪ .‬يا لها من لحظة! فبعد ّ‬
‫فعال بنا‪ ،‬وبعد عشرة سنوات من الكوابيس‪ ،‬وبعد ك ّل ما مررنا به‪ ،‬كيف‬
‫يمكننا يا ترى أن نبدأ من جديد؟ حاولنا التراجع لكننا لم نستطع‪.‬‬
‫فامتدت أيادينا لهما وسامحناهما‪ ...‬وفي غضون شهور قليلة رجعنا إلى‬
‫مجتمعنا املسيحي في برودرهوف‪.‬‬
‫الغفران في الحياة اليومية ‪87‬‬

‫وبم ّ‬
‫جرد عودة " ِجم" و"كارولين" إلى بيتهما (أي إلى جماعة الحياة املسيحية‬
‫املشتركة) لم يمض وقت طويل ّ‬
‫حتى شعرا ّأنهما أيضا لم يكونا خاليين من‬
‫الذنب‪ .‬فتكتب "كارولين"‪:‬‬

‫ّ‬
‫القصة ‪ -‬وهو إننا شخصيا ك ّنا‬
‫ّ‬ ‫كان علينا أن نرى الجانب اآلخر من‬
‫عنيدين وم ّ‬
‫تشبثين برأينا‪ .‬وكان كبرياؤنا عائقا أمام املصالحة‪.‬‬

‫حق هي معدودة جدا‪ .‬ففي‬ ‫إن الخالفات التي يكون فيها طرف واحد على ّ‬
‫ّ‬
‫كبريائنا ال نرى غير أخطاء اآلخرين ونتعامى عن أخطاءنا‪ .‬وإن لم نتعلم‬
‫التواضع‪ ،‬فال نقدر أن نغفر لآلخرين أو أن يغفر لنا‪ .‬نعم‪ ،‬هذا مؤلم‪ ،‬لكنه‬
‫جزء محتوم وال مفر منه في الحياة‪ .‬فاملغفرة تمكننا على تجاوز عقبة األلم‪،‬‬
‫حتى لو ِاعترفنا باأللم‪ ،‬وتأخذنا إلى الفرح الناتج عن املحبة‪ .‬ويكتب "م‪ .‬سكوت‬
‫ِبك ‪( "M. Scott Peck‬وهو طبيب نفساني أمريكي وكاتب ذو أكثر مبيعات كتب)‪:‬‬

‫ال يوجد سبيل للعيش بحياة نفيسة ما لم نكن راغبين لنتألم مرة بعد‬
‫أخرى‪ ،‬ونتذوق الكآبة واليأس‪ ،‬والخوف والذعر‪ ،‬واألس ى والحزن‪،‬‬
‫والغضب‪ ،‬وعذاب املغفرة‪ ،‬والحيرة والشك‪ ،‬واالنتقاد والرفض‪ .‬فالحياة‬
‫التمزق باملشاعر لن تكون مجدية لنا فحسب بل لآلخرين‬ ‫ّ‬ ‫الخالية من‬
‫أيضا‪ .‬فال يمكننا أن نشفي اآلخرين بدون االستعداد ألن يجرحنا اآلخرين‪.‬‬

‫الحقيقي الذي يشمل األسرة واألصدقاء والزمالء يتطلب ّ‬


‫منا أن‬ ‫ّ‬ ‫ّإن املجتمع‬
‫يظهر بعضنا حقيقة روحهم لبعض‪ .‬ويمض ي "س ي أس لويس" إلى ما هو أبعد‬
‫َ‬
‫أحببت‪ ،‬ولو قليال‪ ،‬ألصبحت عرضة للخطر‪ .‬ألنه ال يوجد‬ ‫من ذلك ليقول‪" :‬لو‬
‫مكان خارج الفردوس تكون فيه آمنا تماما من كل مخاطر املحبة ِ‬
‫واالنزعاج‬
‫الذي تسببه لك سوى الجحيم"‪.‬‬
‫‪ 80‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫جم" و"كارولين" ّأن في مقدور الغفران أن يعيد الناس‬ ‫ُتظهر لنا قصة " ِ‬
‫بعضهم إلى بعض‪ .‬ويمكن لألوقات العصيبة‪ ،‬إذا ّ‬
‫تم التغلب عليها‪ ،‬أن تؤدي إلى‬
‫محبة أعظم‪ .‬فهي في مقدورها أن تقوي وال تضعف رابطة الوحدة والوئام‪.‬‬
‫الفصل التاسع‬

‫ُ‬
‫الـغـفــران في الــزواج‬

‫يسألني الناس ما نصيحتي لزوجين لديهما ُمشكالت في عالقتهما‪ ،‬وعادة ما‬


‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫أجيب‪ :‬صلوا واغفروا‪ .‬وأقولُ للشباب الذين أتوا من بيوت كثر فيها العنف‪:‬‬
‫لكل ّأمُ تعيش بمفردها دونُ ّ‬ ‫ُّ‬
‫أيُ دعم‬ ‫ى أقو ُل ُّ‬ ‫صلوا واغفروا‪ّ .‬‬
‫ومرة أخر ُ‬
‫ّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫صلي ِوا ِ‬
‫غفر ُ‬ ‫عائلي‪ِ :‬‬

‫قول من‬
‫األم تريزا ‪Mother Teresa‬‬
‫الراهبة العاملة في كالكتا‬
‫حائزة على جائزة نوبل للسالم لسنة ‪0909‬‬

‫ّ‬
‫سيتحول الزواج إلى جحيم‬ ‫إنّ لم يغفر الزوج والزوجة بعضهما لبعض ّ‬
‫يوميا‬
‫حقيقي‪ ،‬وهذا ما رأيته دائما خالل السنوات العديدة التي قضيتها في املشورة‬
‫حل أعقد املشكالت بكلمتين‬ ‫تزوجين‪ .‬ورأيت أيضا ّأنه يمكن ّ‬ ‫الكنسية للم ّ‬
‫بسيطتين أال وهما‪" :‬أنا آسف"‪.‬‬

‫قد يكون من الصعب على الشريك أن يطلب السماح من شريك حياته‪.‬‬


‫ّ‬
‫إذ يتطلب املوضوع اتضاعا واعترافا بالضعف واالقرار بالخطأ‪ .‬لكن هذا هو ما‬
‫ّ‬ ‫ي ّ‬
‫نجح الزواج ويمنحه الصحة‪ :‬ألن كال الشريكين سيعيشان في ِاتضاع متبادل‬
‫مدركين تماما اعتمادهما الروحي أحدهما على اآلخر‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫‪ 81‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫لقد اِعتاد "ديتريش بونهوفر ‪ "Ditrich Bonhoeffer‬وهو القس األملاني‬


‫املعروف الذي سجنه هتلر في الثالثينيات من القرن املاض ي بسبب معارضته‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحدث مع أعضاء الجماعة الصغيرة التي كونها عن‬ ‫للنظام النازي ‪ِ -‬اعتاد أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مدى الحاجة الكبيرة إلى "عيش مشترك في ِظل الغفران"‪ ،‬ألنه بدون الغفران ال‬
‫يمكن أن تنجح ّأية شركة إنسانية والسيما الزواج‪ .‬وكتب ّ‬
‫مرة يقول‪" :‬ال ت ّ‬
‫صروا‬
‫على حقوقكم (‪ )...‬وال يلوم بعضكم بعضا‪ ،‬وال يحكم أو يدين بعضكم بعضا‪،‬‬
‫يتصيد بعضكم أخطاء بعض‪ ،‬لكن ليقبل بعضكم حال بعض كما هو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وال‬
‫وليسامح بعضكم بعضا كل يوم ومن أعماق قلبه‪".‬‬

‫للغفران أنا وزوجتي "فيرينا" طوال مدة زواجنا التي‬ ‫لم تنقصنا أية ُفرصة ُ‬
‫استمرت ثالثة وخمسين عاما – ومازالت لحد اآلن‪ .‬فبعد مض ّي مجرد أسبوع‬‫ّ‬
‫على زفافنا واجهتنا ّأول أزمة في حياتنا‪ .‬فقد كانت أختي قد صنعت لي‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬
‫والدي وأخواتي على العشاء في‬ ‫فنانة‪ ،‬مجموعة جميلة من األطباق‪ ،‬ودعونا‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫شقتنا الجديدة‪ ،‬وكنت أنا و"فيرينا" قد قضينا طوال فترة بعد الظهر في إعداد‬
‫الطعام‪ ،‬وقمت أنا بإعداد مائدة الطعام مستخدما األطباق التي صنعتها أختي‪.‬‬
‫ّ‬
‫طرفي املنضدة‪( ،‬فعلى ما يبدو‬ ‫ووصل أهلي وجلسنا لنأكل معا‪ ،‬لكن فجأة أنهار‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أنني لم أقم بضبط املنضدة جيدا)‪ ،‬وغطى الطعام والصحون املكسورة‬
‫األرضية‪ ،‬وخرجت زوجتي من الحجرة والدموع تمأل عينيها‪ .‬ومضت ساعات‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫طويلة قبل أن تتمكن زوجتي من أن تغفر لي فعلتي هذه‪ ،‬وهي اآلن تضحك على‬
‫تلك الحادثة التي صارت مع الوقت نكتة ّ‬
‫عائلية معروفة‪.‬‬
‫وأصبح لدينا مع الوقت ثماني أطفال‪ ،‬وكانت هناك أسباب كثيرة‬
‫حمام لألطفال وإلباسهم‬ ‫كل مساء كانت "فيرينا" تقوم بإعطاء ّ‬ ‫للخالفات‪ ،‬وفي ّ‬
‫فضلة‪ .‬وكنت عندما‬ ‫ثم ينتظروني على الكنبة مع كتبهم امل ّ‬ ‫بيجامات نظيفة‪ّ ،‬‬
‫أرجع من عملي إلى املنزل‪ ،‬كان األوالد يرغبون في اللعب معي‪ ،‬وينتهي بنا األمر‬
‫في بعض األحيان إلى أن يقصف بعضنا بعضا بالحشائش في الحديقة‪ ،‬وما‬
‫ّ‬
‫زالت "فيرينا" تتذكر الساعات التي قضتها لتزيل بقع الحشيش والطين مع ش يء‬
‫من التذمر!‬
‫الغفران في الزواج ‪81‬‬

‫املؤلف كريستوف آرنولد وزوجته فيرينا‬

‫عانى معظم أطفالنا من الربو عندما كانوا صغارا‪ ،‬وكثيرا ما أيقظوننا‬


‫تنفسهم‪ ،‬وهذا كان سببا في كثير من‬ ‫طوال الليل تقريبا بسبب ك ّحتهم وأزيز ُّ‬
‫ّ‬
‫ذكرني ّأنه ّ‬ ‫ّ‬
‫علي أحيانا أن أترك‬ ‫خاصة عندما كانت "فيرينا" ت‬ ‫املشكالت بيننا‬
‫ّ‬
‫النوم والذهاب إليهم تماما مثلها ألطمئن عليهم‪.‬‬
‫وك ّنا أيضا نختلف كثيرا حول موضوع العمل الذي كنت أقوم به‪ .‬ألني‬
‫كنت أقض ي أياما طويلة في الطرق بسبب عملي كمندوب مبيعات لدار نشر‬
‫ّ‬ ‫نملكها‪ّ ،‬‬
‫وألن دار النشر كانت تغطي منطقة كبيرة في غرب والية نيويورك مثل‬
‫مدينة بفلو ومدينة روتشيستر ومدينة سيراكيوس‪ ،‬فلقد كنت أقض ي ما بين‬
‫ست إلى ثماني ساعات في قيادة السيارة‪ .‬لكن الحقا‪ ،‬وبعد أن أصبحت راعيا‬ ‫ّ‬
‫كنسيا في مجتمعنا املسيحي برودرهوف ‪ ،Bruderhof‬صار ّ‬
‫علي الذهاب كثيرا إلى‬
‫كندا وأوروبا وحتى أفريقيا‪ .‬وكثيرا ما كنت أدافع عن سفري إلى تلك املناطق‬
‫‪ 81‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫هامة للغاية"‪ .‬هذا التأكيد لم يكن يهدئ كثيرا من روع‬ ‫قائال إن تلك السفرة " ّ‬
‫والتكيف مع جدول أعمالي‬‫ُّ‬ ‫زوجتي التي كان عليها إعداد حقائب السفر‬
‫ّ‬
‫املكثف‪ ،‬وغالبا ما كانت تبقى في البيت مع األوالد‪.‬‬
‫ثم يأتي وقت قراءة جريدة الـ "نيويورك تايمز"‪ .‬فبعد قضاء يوم شاق في‬
‫السياقة‪ ،‬لم َأر الضرر في االضطجاع وقراءة الجريدة لبضع دقائق بينما كان‬
‫أشدد على هذا الرأي ّ‬
‫بقوة‪ .‬ولم يسعني‬ ‫حوالي فرحين‪ ،‬وكنت ّ‬ ‫ّ‬ ‫أوالدي يلعبون‬
‫رؤية أنانيتي هذه إال فيما بعد‪.‬‬
‫وغالبا ما أفكر اآلن متسائال‪ :‬كيف كان سينتهي األمر بزواجنا إذا لم‬
‫يتعلم أحدنا مسامحة اآلخر كل يوم ومنذ البداية؟ ونحن نعلم أن كثير من‬
‫األزواج ينامون معا في الفراش نفسه ويعيشون في البيت نفسه‪ ،‬إال ّأن بعضهم‬
‫ألنهم قد بنوا جدارا من الكراهية‬‫نفسيا بعيد عن بعض ملسافة أميال‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يظل‬
‫والضغائن بينهم‪ .‬وقد تكون الحجارة التي بني بها هذا الجدار صغيرة للغاية ‪-‬‬
‫نسيان عيد الزواج على سبيل املثال‪ ،‬أو مجرد سوء فهم بسيط‪ ،‬أو اجتماع‬
‫عائلية طال ِانتظارها‪ .‬لكن الحقيقة هي ّأن هذا‬
‫ّ‬ ‫تم تفضيله على نزهة‬ ‫عمل ّ‬
‫االنقسام الصغير الذي صنعوه في مقدوره أن يؤدي إلى كارثة‪.‬‬

‫بإمكاننا إنقاذ كثير من العالقات الزوجية لو أدركنا فقط أننا ‪ -‬نحن الناس ‪-‬‬
‫غير كاملين‪ .‬فكثيرا ما يفترض الزوجان ّأن العالقة " ّ‬
‫الجيدة" هي العالقة التي‬
‫تكون خالية من الجدال واالختالفات‪ .‬وعندما يعجزان عن تحقيق مثل هذه‬
‫التطلعات غير الواقعية‪ ،‬تخيب آمالهما‪ ،‬وال تمض ي فترة طويلة حتى تراهما‬
‫ينفصالن على أساس "عدم املالئمة"‪.‬‬
‫ّإن النقص البشري وعدم كماله يعني أننا سنرتكب أخطاء وسيجرح‬
‫بعضنا بعضا بمعرفة أو بغير معرفة‪ .‬وقد ملست في حياتي الشخصية أن الحل‬
‫الوحيد واآلمن إلخفاقاتنا هو املغفرة‪ ،‬وسبعين مرة في اليوم إن لزم األمر‪.‬‬
‫يكتب "س ي أس لويس ‪( "C. S. Lewis‬وهو كاتب وباحث ايرلندي وقد كتب‬
‫سلسلة األطفال الشهيرة نارنيا) قائال‪:‬‬
‫الغفران في الزواج ‪87‬‬

‫ونستمر في مسامحة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫اليومية‪،‬‬ ‫كيف يمكننا أن نعفو الستفزازات الحياة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تسلطة والزوج ّ‬ ‫ّ‬
‫املتأمر والزوجة املتذمرة واالبنة األنانية واالبن‬ ‫ِ‬ ‫الحماة امل‬
‫ّ‬
‫املخادع؟ أعتقد أن الجواب كامن في أنه علينا أن نتذكر باستمرار نوع‬ ‫ّ‬
‫املوقف الذي نريد اتخاذه في حياتنا‪ ،‬وأيضا أن نعني ما نردده في صالتنا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ َ َ َ َ َ َ‬
‫كل ليلة‪َ " ،‬واغ ِف ْر ل َنا خط َايانا ألن َنا ن ْحن أ ْيضا نغ ِفر ِلك ِ ّل َم ْن يذ ِنب ِإل ْي َنا"‪.‬‬

‫"هانز و مارجريت ماير ‪ "Hans and Margrit Meier‬هما أهل زوجتي‪ ،‬وتشهد‬
‫قصتهما على القوة القديرة التي تحملها املغفرة واملوصوفة وصفا رائعا في‬
‫ّ‬
‫وتسبب عناده في افتراقهما‬ ‫أحداثها‪ .‬فقد كان "هانز" رجال متصلبا في إرادته‬
‫مرة‪ .‬فقد سجن بعد مض ّي شهور قليلة‬ ‫وانفصال عالقتهما الزوجية وألكثر من ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫على زواجهما في عام ‪ 0939‬ألنه رفض االلتحاق بالجيش السويسر ّي وذلك ألنه‬
‫ّ‬
‫املضاد للحرب والجيش‪.‬‬ ‫من املتحمسين للمبدأ‬
‫وبعد إطالق سراحه بمدة قصيرة ِافترق الزوجان ثانية‪ .‬وكان السبب يعود إلى‬
‫ّأن "مارجريت" قد اكتشفت جماعتنا التي تعيش حياة مسيحية مشتركة‬
‫وأرادت االنضمام إليها‪ .‬أما "هانز" ذو التيار الديني واالجتماعي الذي كان له‬
‫أفكار مختلفة عن الحياة املسيحية املشتركة لم يرغب في االنضمام‪ .‬وقد ولدت‬
‫األول بعد مدة قصيرة من انضمامها‪ّ ،‬‬
‫وتوسلت به لالنضمام‬ ‫"مارجريت" طفلهما ّ‬
‫ومرت‬‫إلى املجتمع املسيحي لكن "هانز" ليس من النوع الذي يلين عوده بسهولة‪ّ .‬‬
‫شهور عديدة قبل أن تفلح في إقناعه باملجيء‪ .‬وبعد مض ّي ثالثين عاما وبعد‬
‫مرة أخرى‪ .‬وكانا في هذه ّ‬
‫املرة يعيشان في أمريكا‬ ‫إنجاب أحد عشر طفال‪ِ ،‬افترقا ّ‬
‫الجنوبية‪ ،‬وكان ذلك في عام ‪ ،0960‬وهو وقت ِاتسم بالتخبط واالضطراب‬ ‫ّ‬
‫الروحي لحركة برودرهوف املسيحية‪ .‬وأصبح "هانز" في قطيعة مع زوجته ومع‬
‫ّ‬
‫املجموعة ألنه لم يستطع رؤية أخطائه وال مسامحة اآلخرين على أخطائهم في‬
‫ّ‬
‫حقه‪.‬‬
‫ومن ثم انتقلت "مارجريت" واألطفال إلى مجتمعنا املسيحي في الواليات‬
‫آيرس وبقى فيها طوال‬ ‫ّ‬
‫املتحدة‪ .‬أما "هانز" فاشتغل واستقر في مدينة بوي ِنس ِ‬
‫األحد عشر عاما التي تلت‪.‬‬
‫‪ 88‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫هانز ماير وزوجته مارجريت‬

‫ّ‬
‫لم يكن لديه ما يشير على أنه يحمل ضغينة‪ ،‬لكن لم يكن هناك أيضا ما‬
‫يشير على شفاءه‪ .‬وتدريجيا نشأ جدار من البغض واالمتعاض بينهما وصار‬
‫تزوجت من "فيرينا" في عام ‪ ،0966‬لم يحضر‬ ‫يهدد باالنفصال املديد‪ .‬وعندما ّ‬
‫جد من طرف‬ ‫الزفاف‪ ،‬وبدأ أطفالنا يكبرون بدون ّ‬ ‫"هانز" والدها حتى حفل ّ‬
‫ّأمهم‪.‬‬
‫أخ‬‫في عام ‪ 0903‬سافرت إلى مدينة بوينس آيرس مع "أندرياس" – وهو ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بد‬
‫لزوجتي "فيرينا" ‪ -‬في محاولة ألي نوع من املصالحة مع "هانز"‪ ،‬لكنه لم ي ِ‬
‫ّ‬
‫يخصه‬ ‫اهتماما بذلك – السيما في البداية‪ .‬ولم َي ِر ْد شيئا سوى أن يحكي لنا ما‬
‫تعرض فيها لألذى‪ .‬وفي‬‫املرات التي ّ‬‫مرة أخرى بعدد ّ‬ ‫ّ‬
‫القصة‪ ،‬وأن يعلمنا ّ‬ ‫من‬
‫ّ‬
‫اليوم األخير من رحلتنا حدث تغيير‪ .‬إذ أعلن أنه سيزورنا في الواليات املتحدة‪،‬‬
‫ّ‬
‫وأصر على أن زيارته ستكون مل ّدة أسبوعين فقط‪ ،‬ال أكثر‪ ،‬وأكد على حقيقة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أنه سيشتري تذكرة عودة‪ ،‬لكن هذه بالحقيقة كانت البداية‪.‬‬
‫ألن "هانز" ببساطة لم يستطع‬ ‫ظننا‪ّ .‬‬
‫وعندما تحققت الزيارة فعال‪ ،‬خاب ُّ‬
‫كنا قد بذلنا كل الجهود لنزيل صعوبات املاض ي واعترفنا بذنبنا‬ ‫أن يغفر‪ .‬فقد ّ‬
‫في األحداث التي ّأدت إلى غربته الطويلة‪ ،‬لكننا لم نصل لش يء‪ .‬ففي قرارة‬
‫الغفران في الزواج ‪89‬‬

‫فكره‪ ،‬عرف "هانز" أن الش يء الوحيد الذي يفصل بيننا وبينه هو عدم قدرته‬
‫على الغفران‪ ،‬ومع ذلك لم يقدر على القيام بها‪.‬‬
‫التحول‪ .‬ففي وسط أحد اجتماعات األخوية‪ ،‬استجمع ّ‬
‫عمي‬ ‫ُّ‬ ‫ثم أتت نقطة‬
‫"هانز هيرمان"‪ ،‬الذي كان على مشارف املوت بسبب إصابته بسرطان في الرئة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫كل قوته‪ ،‬وقام واتجه نحو "هانز"‪ ،‬وقرع على صدر "هانز" قائال‪(( :‬يا هانز‪،‬‬
‫ّ‬
‫التغيير يجب أن يحدث هنا!)) وقد كلفت هذه الكلمات عمي "هانز هيرمان"‬
‫ّ‬
‫جهدا بليغا ألنه كان يحصل على أوكسجين أضافي من خالل فتحتي األنف‬
‫وبالكاد كان قادرا على التكلم‪.‬‬
‫وفي تلك اللحظة رفع "هانز" الراية البيضاء‪ .‬فذاب فتوره وجفافه‪،‬‬
‫قرر وقتئذ أن يغفر – ويعود‪ .‬وبعد أن سافر إلى األرجنتين لتصفية‬ ‫وهناك ّ‬
‫أعماله‪ ،‬عاد آنذاك لينضم إلى زوجته "مارجريت" وإلى مجتمع الكنيسة‪،‬‬
‫وسرعان ما شهدنا أنه عاد إلى ذات الغيرة املسيحية املتفانية والحيوية كما‬
‫عدة عقود مضت‪.‬‬ ‫عهدناه منذ ّ‬
‫يمس "هانز" طوال السنوات التي قضاها بعيدا أية امرأة أخرى‪ .‬وأثناء‬ ‫لم ّ‬
‫ّ‬
‫تلك العقود الطويلة كانت زوجته "مارجريت" تصلي يوميا من أجل عودة‬
‫زوجها‪ .‬وعلى كل حال‪ ،‬فقد ِانجرح كالهما‪ ،‬واستغرق األمر وقتا طويال لتلتئم‬
‫عالقتهما الزوجية وإعادة بناء الثقة أحدهما في اآلخر‪ .‬وبصفتي زوج ابنتهما‪ ،‬ال‬
‫محبة وفرح وكذلك‬ ‫يسعني إال أن أشهد أنهما نجحا أخيرا؛ فقد عاشا معا في ّ‬
‫توفت "مارجريت" بعد ستة عشرة عاما من ذلك‬ ‫ْ‬ ‫مع أوالدهما وأحفادهما إلى أن‬
‫الوقت‪.‬‬

‫السؤال المطروح هو أننا حتى لو غفرنا ملَن قد َ‬


‫جر َحنا كثيرا‪ ،‬أليس من‬ ‫ِ‬
‫نظل ناقمين عليهم جراء ما فعلوه بنا؟ هذا سؤال صعب‪ ،‬لكن‬ ‫الطبيعي أن ّ‬
‫ربما يتعلق املوضوع باملشكلة التي فينا من أن نظرتنا البشرية تميل تجاه‬
‫العدالة أكثر من املغفرة‪ .‬فالغفران أكثر من م ّ‬
‫جرد عدالة مثلما وجده "هانز" و‬
‫منطقي ّ‬
‫وغبي في نظر الذين‬ ‫ّ‬ ‫"مارجريت"‪ .‬إنه نعمة إلهية‪ .‬وهذا قد يبدو أمرا غير‬
‫ال يمكنهم قبول الغفران‪.‬‬
‫‪ 91‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫تبرهن لنا قصة أهل زوجتي أنه بالغفران واملسامحة يمكن شفاء املشاكل‬
‫الزوجية وحتى الفراق واالنفصال الزوجي الطويل األمد‪ .‬لكن هل من املمكن‬
‫يتم إصالحه‬‫للزواج الذي دمرته الخيانة الزوجية أو التعامل الوحش ي أن ّ‬
‫وشفاءه بالكامل؟ من السهل أن نقول ال‪ ،‬لكن وفقا لخبرتي يمكن أن ّ‬
‫يتغير‬
‫معظم الناس‪ ،‬إذا أعطيناهم الوقت الكافي‪ ،‬والتحفيز‪ ،‬والدعم االجتماعي‬
‫ّ‬ ‫وحتى لو ّ‬
‫فاملحبة تصالح وتغفر‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫حتمت الظروف عليهم انفصاال مؤقتا‬ ‫واملادي‪.‬‬
‫إال ّأن الحب الوفي هو السبيل الجدير الوحيد للشفاء ّ‬ ‫ّ‬
‫ولم شمل العائلة من‬
‫ّ‬
‫طلقون ويتزوجون ثانية‪ ،‬فهم يغلقون بذلك الباب أمام ّأية‬ ‫جديد‪ .‬أما الذين ي ِ‬
‫فرصة للمصالحة في املستقبل‪.‬‬
‫ّ‬
‫قد يستغرق الصدع في الثقة بسبب الخيانة الزوجية سنوات للشفاء‬
‫هم للزوجين أن يعيشا منفصلين‪،‬‬ ‫بالتأكيد‪ .‬ففي البداية قد يكون من امل ّ‬
‫ظل إرشاد‬‫تخصصين‪ ،‬أو مساعدة أقل رسمية‪ ،‬وفي ّ‬ ‫ويحصال على مشورة من م ّ‬
‫شخص يثق كالهما فيه‪ .‬والبد أن يكونا ر َ‬
‫اغبين في العمل على إعادة بناء ثقتهما‬
‫حتى يستعيدا زواجهما‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تزامنت بداية كتابتي لهذا الكتاب مع تقديمي للمشورة لزوجين انهار زواجهما‬
‫بسبب الخيانة الزوجية‪ .‬فقد تزوج "ايد و كارول‪ " Ed and Carol‬منذ تسع‬
‫سنوات‪ .‬وقد عانى "ايد" من مشكالت في إدمان الكحوليات حتى قبل زواجه‪،‬‬
‫الرغم من ّأنهما‬ ‫مما ّ‬
‫تسبب في كثير من التوترات في زواجهما منذ البداية‪ .‬وعلى ُّ‬ ‫ّ‬
‫كانا يعيشان تحت سقف واحد‪ ،‬إال أن أحدهما ابتعد نفسيا عن اآلخر أكثر‬
‫سرية مع جارته بعد مض ي بضع سنوات من زواجهما‪.‬‬ ‫فأكثر‪ .‬وبدأ "ايد" عالقة ّ‬
‫بالغم والكآبة أكثر فأكثر‪ ،‬غير ّأنها لم تعرف سبب‬
‫ّ‬
‫ورأت "كارول" نفسها تشعر ِ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫كان "ايد" و "كارول" قد انضما إلى أحد مجتمعات برودرهوف املسيحية‬
‫للحياة املشتركة في التسعينيات‪ .‬وبعد ّأيام معدودة من مجيئهما أخبر "ايد"‬
‫زوجته بعالقته مع جارتهما‪ .‬فلم يتح له ضميره املذنب الشعور بالسالم‪ ،‬ووجد‬
‫نفسه ال يستطيع إخفاء هذا السر أكثر من ذلك‪ .‬أما "كارول" فص ِعقت‪ .‬فقد‬
‫الغفران في الزواج ‪97‬‬

‫كان في داخلها إحساس بوجود ش يء غير صحيح منذ زمن طويل‪ ،‬لكنها لم تكن‬
‫تتخيل أن تكون مخدوعة بهذا الشكل‪ .‬وأخبرت "ايد" في انفعالها ‪ -‬املفهوم ‪ّ -‬أن‬ ‫ّ‬
‫زواجهما انتهى ولن تغفر له أبدا‪.‬‬
‫ّ‬
‫لم يكن من الصعب التعاطف مع مشاعرها‪ ،‬لكني علمت منذ البداية أنه‬
‫ّ‬
‫إن لم تتمكن من الغفران ل ـ "ايد" فلن تشفى جراحاتها العميقة التي تسبب‬
‫سل ْ‬‫ّ‬
‫مت نفسها فريسة إلى دوامة الشعور‬ ‫"ايد" فيها‪ .‬واقترحت عليها أنها إذا‬
‫بالهزيمة واالنخداع‪ ،‬فسيؤدي ذلك بدوره إلى َج ِّر أحدهما بعيدا عن اآلخر أكثر‬
‫فأكثر‪ ،‬وأيضا سيؤدي إلى استبعاد إمكانية رجعتهما ثانية معا وإلى األبد‪.‬‬
‫الفوري مع ضمان تقديم املشورة‬ ‫ّ‬ ‫وفي الوقت نفسه نصحتهما بالفراق‬
‫لكال الطرفين‪ .‬فهذا االنفصال سيساعد "ايد" و"كارول" على التعامل مع‬
‫مشاعرهما وتصفيتها كل على ِحدة‪ .‬فلم يكن هناك أي "إصالح سريع" أو‬
‫ّ‬
‫"وصفة سريعة"‪ ،‬إذ ّأن هذه العملية مؤملة وتتطلب وقتا طويال‪ .‬ويلزمنا هنا بناء‬
‫العالقة من جديد ومن القاع إلى السطح‪.‬‬
‫ُّ‬
‫لعدة شهور‪ ،‬لكنهما كانا يحرزان تقدما عجيبا في‬ ‫وتفارق "ايد" و"كارول" ّ‬
‫عالقتهما أثناء هذه املدة‪ .‬فشرعوا في البداية باالتصال فيما بينهما بالتلفون‬
‫فقط‪ .‬أما فيما بعد‪ ،‬فأخذت مكاملتهما تنمو وتطول ويطغي عليها طابع االرتياح‬
‫ّ‬
‫النفس ي‪ ،‬ومن ثم بدءا حتى بتبادل الزيارات‪ .‬كما توقف "ايد" عن شرب‬
‫الخمور‪ ،‬وتدريجيا صار الفرح والتحرر اللذان يتبعان عادة االعتراف بالذنب‬
‫تفحص روحه وقلبه‪ .‬أما "كارول"‬ ‫يحل محل عذاب شهور قضاها وحيدا في ّ‬ ‫ّ‬
‫مرت بأوقات عسيرة وصارعت فيها‪ ،‬لكنها كانت شغوفة أن تبدأ من جديد‬ ‫فقد ّ‬
‫‪ -‬ال فقط من أجل أوالدها وحدهم‪ ،‬الذين بقوا معها عندما رحل "ايد" من‬
‫أجل نفسها هي أيضا‪.‬‬‫املنزل‪ ،‬لكن من ّ‬
‫أنها رغبت في‬‫بحب جديد ل ـ "ايد"‪ .‬واألهم من كل ذلك هو ّ‬ ‫وبدأت تشعر ّ‬ ‫ْ‬
‫جرد أن أدركت ّأنها هي أيضا قد أخطأت في هذا األمر‪،‬‬ ‫أن تسامحه كليا‪ .‬وبم ّ‬
‫استطاعت أن تتقابل مع "ايد" عند هذا املستوى‪.‬‬
‫مرة أخرى‪.‬‬‫واآلن وبعد مض ي عشرة شهور‪ ،‬اجتمع شمل "ايد" و "كارول" ّ‬
‫وفي اجتماع عبادة خاص ع ِق َد لالحتفال بإعادة اكتشاف زواجهما‪ ،‬أعلن "ايد"‬
‫و "كارول" جهارا‪ ،‬أمام الجماعة األخوية كلها‪ ،‬عن مغفرتهما أحدهما لآلخر‪.‬‬
‫‪ 90‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫بعدئذ‪ ،‬وبوجهين باسمين‪ ،‬تبادال خاتمي زواج جديدين‪.‬‬

‫لم يكن "ايد" و "كارول" ّأول زوجين أقوم بتقديم املشورة لهما من الذين قد‬
‫مروا من خالل آالم الخيانة الزوجية‪ ،‬ور ّبما لن يكونا آخر زوجين‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫ّ‬
‫فأنا على يقين من أن غيرهما من األزواج اآلخرين سيجدون القوة للتغلب على‬
‫هذه العاصفة‪ ،‬مادام كال الزوجين ر َ‬
‫اغبين في السعي إلى تجديد العالقة بينهما‬
‫على أساس املغفرة واملحبة املتبادلة‪.‬‬
‫الفصل العاشر‬

‫مـسـامـحـة الـوالـد أو الـوالـدة‬

‫مما الشك فيه أن الوعي بعدم حاجتنا إلى أن نبقى ضحايا ماضينا فيه‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫ويمكننا ذلك من تعلم طرقا جديدة في التعامل‪ .‬لكن هناك‬ ‫ِ‬ ‫تحررُ ُ‬
‫كاف‬
‫خطوة أكبر من عملية اإلدراك هذه‪ .‬إنها خطوة املغفرة‪ .‬فاملغفرة هي محبة‬
‫تعيشها بين ناس قليلي املحبة‪ .‬وهي ّ‬
‫تحررنا من دونُ أن نترجى شيئا باملقابل‪.‬‬

‫قول من‬
‫هنري ج‪ .‬م‪ .‬نووين ‪Henri J. M. Nouwen‬‬
‫وهو قسيس كاثوليكي أملاني‬
‫كتب ‪ 41‬كتابا روحيا‬

‫ُيصارع كثيرون اليوم ليشفوا من ماضيهم الفظيع‪ .‬فقد ّ‬


‫تعرضت نفوس ال‬
‫حصر لها لجروح نفسية عميقة بسبب إساءة معاملتهم وهم صغار‪ ،‬سواء‬
‫ّ‬
‫جنسية‪ .‬فالبرامج التلفزيونية‬ ‫نفسية أو ّ‬
‫بدنية أو ‪ -‬أسوأها ‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫كانت هذه اإلساءة‬
‫تبين ذلك وتتداول املجالت والصحف هذه املواضيع على صعيد يومي‪ ،‬فيعرض‬ ‫ّ‬
‫برنامج تلو اآلخر ومن خالله نشاهد الناجين من تلك اإلساءات يحكون‬
‫قصصهم املؤملة للجماهير املنهكة وغير املبالية بما يحدث معهم‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫يبدو أنه مهما قاموا به من مكاشفة نفسية فال يجلب ذلك لهم الشفاء الذي‬
‫يتوخونه‪ .‬فكيف يا ترى يمكنهم أن يحصلوا على الشفاء؟‬

‫‪91‬‬
‫‪ 91‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫نشأ "رونالد ‪ "Ronald‬في منطقة سالسل جبال "األبالش" في مزرعة بغربي‬


‫والية بنسلفانيا األمريكية‪ .‬وكان يسكن ما يقرب من أربعين فردا من األهل‬
‫واألقارب في منزل واحد‪ ،‬محاولين انتزاع لقمة العيش عن طريق زراعة أرضهم‪.‬‬
‫ِواتسمت طفولته بالوحشية‪ .‬فكان يتحدث عن أوالد أعمامه الذي حاول‬
‫جدة أطلقت مرة عيارا من امللح الصخري على‬ ‫بعضهم تعليق بعض‪ ،‬وعن ّ‬
‫األوالد غير املطيعين مستعملة بندقية‪.‬‬
‫ذكيا للغاية‪ ،‬وقد ترك املزرعة مع أوالده‬ ‫وكان والد "رونالد" شخصا ّ‬
‫وتحسنت‬ ‫ّ‬ ‫ورحل إلى جزيرة لونك ايالند في والية نيويورك حيث وجد عمال‪.‬‬
‫تتحسن عالقاته‪ .‬فقد تركته زوجته‪ ،‬وصار يضرب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املادية لكن لم‬ ‫أحواله‬
‫ستمرة وفي بعض األحيان بقسوة‪ .‬عاش "رونالد" في خوف دائم‬ ‫أوالده بصفة م ّ‬
‫كل يوم بعد عودته من املدرسة إلى البيت‪.‬‬ ‫من العنف الذي ينتظره ّ‬
‫سيارة فأصيب بإصابات بالغة‪ .‬فقد‬ ‫تعرض والده لحادث ّ‬ ‫وفي أحد األيام ّ‬
‫كسرت رقبته وأصيب بالشلل من رقبته إلى أسفل‪ .‬وبعدما كان الطاغية في‬
‫البيت‪ ،‬أصبح مقعدا كسيحا يعتمد بالكامل على عناية اآلخرين في احتياجاته‬
‫ّ‬
‫اليومية‪.‬‬
‫ّ‬
‫الحق في هجر أباه‪.‬‬ ‫وبمقاييس شاب لم ينضج تماما‪ ،‬كان ل ـ "رونالد" ك ُّل‬
‫فمن وجهة نظره‪ ،‬ملاذا كان يجب عليه أن يبقى معه ويعتني بذلك الرجل الذي‬
‫أفسد حياته؟ لكن الذي حصل أنه لم يبرح من جواره مطلقا‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫ّ‬
‫توافر العون من القائمين على التمريض واألطباء لحالة والده العاجز‪ ،‬إال ّأن‬
‫"رونالد" أخذ على عاتقه مسؤولية العناية بأغلب احتياجات والده‪ .‬فكان‬
‫اليومية من غسيل وتبديل مالبس ومساعدته في أداء‬ ‫ّ‬ ‫سدد احتياجات والده‬ ‫ي ّ‬
‫التمارين ألطرافه العاجزة التي ضربته سابقا بال رحمة وأحيانا إلى درجة‬
‫ّ‬
‫ويتحدثان معا عن‬ ‫تحرك‬ ‫اإلغماء‪ .‬وغالبا ما كان يأخذه للخارج على الكرس ّي امل ّ‬
‫مر كالهما بها‪ ،‬اللذان ما زاال يخوضانها‪.‬‬ ‫املعارك النفسية التي ّ‬
‫ّ‬
‫فما زالت أشباح املاض ي تهاجم "رونالد" من وقت آلخر‪ ،‬لكنه يقول أنه‬
‫بشدة في طفولته‪ .‬واألهم من كل‬ ‫أخيرا وجد مقدا ا من السالم الذي افتقده ّ‬
‫ر‬
‫الحبية تشهد عن املغفرة التي يعيشانها كل منهما‬ ‫ش يء آخر‪ ،‬هو أن خدمته ّ‬
‫اآلن وعن الشفاء الذي حصال عليه‪.‬‬
‫مسامحة الوالد أو الوالدة ‪91‬‬

‫عانى "كارل كايدرلينج ‪( ،"Karl Keiderling‬الذي كان فردا من أفراد‬


‫مجتمعات برودرهوف املسيحية ‪ Bruderhof‬الذي كان قد توفي عام ‪،)0992‬‬
‫ّ‬
‫أملانية من الطبقة‬ ‫عانى من طفولة قاسية‪ .‬فقد كان االبن الوحيد لعائلة‬
‫ّ‬
‫العاملة‪ .‬وسادت سنواته األولى سحب الحرب العاملية األولى والدمار‬
‫قتصادي الذي تبعها‪ .‬ثم ماتت ّأمه حين كان في الرابعة من عمره‪ ،‬والحقا‬ ‫ّ‬ ‫اال‬
‫ماتت زوجة أبيه حين كان في الرابعة عشرة‪ .‬وبعد موتها وضع األب إعالنا في‬
‫إحدى الصحف مستثنيا فيه ابنه "كارل" عمدا‪ ،‬قائال‪" :‬أرمل لديه ثالث بنات‬
‫ّ‬
‫إمكانية الزواج منها في املستقبل"‪.‬‬ ‫يبحث عن م ّ‬
‫دبرة منزل مع‬
‫قررت إحداهن أن تبقى‪ .‬ولم‬ ‫تقدم عدد كبير من النساء له‪ ،‬وفي النهاية ّ‬ ‫ّ‬
‫تكتشف وجود الصبي في البيت إال بعد حين‪ ،‬فلم تغفر تماما لوالد "كارل"‬
‫ّ‬ ‫إخفائه هذا األمر عنها‪ .‬أما طعام "كارل" فكان دائما ّ‬
‫أقل من طعام بقية أفراد‬
‫األسرة‪ ،‬وكثيرا ما كانت تتشكى منه زوجة أبيه‪.‬‬
‫وكان والد "كارل" صامتا في وجه قسوة زوجته الجديدة وسلوكها‬
‫أي ش يء ليدافع به عن ابنه‪ .‬وبالحقيقة‪ ،‬فقد انضم إليها‬ ‫الوحش ي‪ ،‬ولم يفعل ّ‬
‫في عملية إساءة معاملة ابنه‪ ،‬وكثيرا ما كان يضربه بالحزام الجلدي مستخدما‬
‫ناحية القفل النحاس ي‪ .‬وعندما كان "كارل" يحاول أن يحمي نفسه‪ ،‬وجد أن‬
‫أباه يزداد غضبا ويضربه على رأسه وعلى وجهه‪.‬‬
‫جرد أن أتيحت له الفرصة‪ .‬وبعد أن أنجذب إلى‬ ‫ترك "كارل" املنزل بم ّ‬
‫الحركة الشبابية التي اجتاحت البلد بعد سنين الحرب‪ ،‬التحق بصفوف‬
‫الساعين إللغاء الحكومات واالستبداد)‪ ،‬وغيرهم من‬ ‫امللحدين‪ ،‬والفوضويين ( ّ‬
‫أحسوا بضرورة تغيير العالم‪ ،‬والنضال لضمان عدم عودة املجتمع على‬ ‫الذين ّ‬
‫حتى وجد مجتمع‬ ‫يتجول في أرجاء أملانيا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما كان عليه من تعسف أبدا‪ .‬وصار‬
‫برودرهوف للحياة املسيحية املشتركة بطريق الصدفة‪ ،‬عندها شعر في الحال‬
‫وقرر أن يبقى بها‪ .‬واندمج تماما بكامل الحماس والغيرة في حياة‬ ‫ّأنه بين أهله‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫شك ْ‬
‫لت كراهيته ألبيه‬ ‫الجماعة‪ ،‬لكن خبرات الطفولة لم تتركه بسالم‪ .‬فقد‬
‫جدي ايبرهارد آرنولد (الذي‬ ‫قرر أخيرا الذهاب إلى ّ‬ ‫حمال ثقيال على قلبه‪ .‬لذلك ّ‬
‫كان راعيا روحيا للمجتمع املسيحي آنذاك)‪ ،‬ليفض ي أمامه بمكنونات صدره من‬
‫مشاعر الغضب والكراهية‪.‬‬
‫‪ 91‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫كان جوابه عجيبا‪ :‬فقد اقترح جدي عليه أن يكتب لوالديه رسالة ويطلب‬
‫منهما العفو والغفران‪ ،‬لتصحيح األوقات التي آذى فيها هو مشاعرهما عن‬
‫سبب فيها حزنهما‪ .‬كما أخبر "كارل" لينظر فقط إلى ذنوبه هو بحق‬ ‫عمد‪ ،‬أو ّ‬
‫اآلخرين‪ ،‬ال إلى ذنوب اآلخرين بحقه‪ .‬تفاجأ "كارل" من جوابه في البداية‪ ،‬لكنه‬
‫ُّ‬
‫أنتصح بنصيحة جدي أخيرا‪ .‬واستلم بالفعل والد "كارل" الرسالة‪ ،‬لكن بالرغم‬
‫ّ‬
‫من أنه لم يعتذر شخصيا عن األخطاء الفظيعة التي ارتكبها بحق ابنه "كارل"‪،‬‬
‫ّ‬
‫إال ّأن األحمال التي كانت تثقل قلب "كارل" زالت‪ّ .‬‬
‫وألول ّ‬
‫مرة في حياته وجد‬
‫السالم والراحة‪ ،‬وأنهى ذلك الفصل املؤلم من حياته‪ ،‬ولم يعد يشتكي ثانية‬
‫من طفولته أبدا‪.‬‬

‫تغل ّبت "ماري ‪ "Mary‬وهي صديقة ألسرتي على ذكريات مؤملة من إساءة‬
‫املعاملة بطريقة مماثلة‪ ،‬فتقول‪:‬‬

‫ْ‬
‫توفيت ّأمي في سن الثانية واألربعين تاركة وراءها أبي وثمانية أطفال‬
‫تتراوح أعمارهم من سنة إلى تسعة عشرة‪ .‬كان لفقدانها وقعا مأساويا على‬
‫نفسيا في الوقت الذي ك ّنا فيه بأشد الحاجة إليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عائلتنا‪ ،‬فقد أنهار أبي‬
‫التحرش بي وبأختي‪ ،‬فبدأت أمقت وجوده وكرهته‪.‬‬‫ُّ‬ ‫وحاول‬
‫انتقل والدي إلى منزل آخر‪ ،‬أما أنا فذهبت إلى مدرسة في أوروبا ولم‬
‫أره ثانية مل ّدة سبعة سنوات‪ .‬إال أنني تمسكت بمشاعر الكراهية نحوه‪،‬‬
‫وصارت تلك املشاعر تستفحل في داخلي‪.‬‬
‫عندما رجعت إلى أمريكا الجنوبية‪ ،‬خطبت لشاب أحببته‪ ،‬كان من‬
‫أصدقاء الطفولة‪ .‬وطلب مني أبي أن أقابله‪ ،‬لكني رفضت‪ .‬فلم أكن أرغب‬
‫أصر على أن أقابل والدي‪ .‬وقال‬‫في مقابلته على اإلطالق‪ .‬أما خطيبي فقد ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إنه ليس بإمكاني رفض مثل تلك املقابلة‪ ،‬وأنه يجب التجاوب مع اشتياق‬
‫سبب لي أمرا كهذا صراعا حقيقيا‪ ،‬وفي النهاية‬ ‫والدي للمصالحة‪ .‬وقد ّ‬
‫وافقت‪.‬‬
‫مسامحة الوالد أو الوالدة ‪97‬‬

‫أي ش يء ّ‬
‫توجه أبي نحوي‬ ‫وتقابلنا مع أبي في مقهى‪ .‬وقبل أن أقول ّ‬
‫ّ‬
‫وطلب مني الغفران والسماح وهو مكسور الخاطر‪ .‬فتأثرت للغاية‪،‬‬
‫التمسك بكر ّ‬
‫اهيتي ألبي أكثر من ذلك‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫وأدركت أنني ال يمكنني‬

‫عد االعتداء على األطفال من أصعب األشياء التي يمكن غفرانها في العالم‪.‬‬
‫ُي ُّ‬
‫فالضحية دائما هو طفل برئ براءة كاملة‪ ،‬في حين ّأن املعتدي – دائما شخص‬
‫ّ‬
‫بالغ – مذنب كليا‪ .‬فلماذا يغفر البريء للمذنب؟ هناك أوالد كثيرون من‬
‫ضحايا إساءة املعاملة يظنون خطأ أن لهم حصة في الذنب‪ :‬وأنهم تقريبا كان‬
‫لهم ضلعا في تسبب هذه اإلساءة أو حتى أنهم يستحقونها‪ .‬وفي الواقع تأتي‬
‫الق ّوة املهيمنة التي يستخدمها املعتدي على نفسية ضحيته من هذا املبدأ‬
‫حتى بعد مدة من‬ ‫املضلل جدا على أن الضحية قد اشتركت أيضا في الجريمة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫البدني نفسه‪ .‬وذلك هو جزء من عملية جعل اآلخرين ضحايا‪.‬‬ ‫توقف االعتداء‬
‫يتضمن الغفران للشخص املعتدي لوم الضحايا على جزء من‬ ‫ّ‬ ‫لكن‪ ،‬أال‬
‫الحدث؟‬
‫ّ ّ ّ‬
‫بالطبع ال يوجد كالم باطل مثل ذلك السؤال‪ .‬فالغفران ضروري ألن كال‬
‫الضحية واملعتدي ‪ -‬الذي يعرف أحدهما اآلخر في معظم الحاالت ‪ -‬هم‬ ‫ّ‬ ‫من‬
‫أسرى لظلمة مشتركة‪ .‬وسيظل كالهما في تلك الظلمة إلى أن يفتح شخص ما‬
‫الباب لهما‪ .‬فالغفران هو السبيل الوحيد للخروج من تلك املشكلة‪ ،‬فإذا اختار‬
‫نتمسك نحن أيضا بالظالم‪ .‬لكننا إن‬ ‫يظل في الظالم‪ ،‬فال يجب أن ّ‬ ‫املعتدي أن ّ‬
‫تركنا الباب مفتوحا‪ ،‬فر ّبما سيتبعنا املعتدي (أو املعتدية) ويخرج إلى النور‪.‬‬

‫تعرضت "كيت ‪ "Kate‬أيضاً‪ ،‬وهي ّ‬


‫جدة اآلن في أحد مجتمعات برودرهوف‬ ‫ّ‬
‫املسيحية ‪ Bruderhof‬إلى سوء املعاملة حينما كانت طفلة تعيش مع أسرتها‬
‫خارج مجتمع الكنيسة‪ .‬إال أنها بعدما تواجهت شخصيا مع مشاعرها‬
‫وأحاسيسها‪ ،‬وجدت أنها يمكنها التصالح مع ّأمها التي ّ‬
‫تغير قلبها فيما بعد‪ ،‬فها‬
‫هي تقول‪:‬‬
‫‪ 98‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولدت في مدينة ّ‬


‫الثانية بفترة قصيرة‪،‬‬ ‫كندية صغيرة بعد الحرب العاملية‬
‫وكنت أكبر طفلة في عائلتنا التي كانت ذات أصل روس ي وتنتمي إلى طائفة‬
‫املينونايت‪ .Menonite.‬ك ّنا نعيش وسط مجموعة من الفالحين في قرية‪،‬‬
‫اإلمكانيات التي نعيش بها ّ‬
‫بدائية للغاية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وكانت‬
‫وبعدما باع أبي مزرعتنا‪ ،‬كان عليه أن يذهب إلى املدينة ّ‬
‫يوميا‬
‫ليعمل‪ .‬وكانت وظيفة البناء التي يقوم بها أبي تبعد خمسة وعشرين ميال‪،‬‬
‫وبعد اثنتي عشرة ساعة من العمل اليومي كان عليه أن يعمل أيضا في‬
‫قطعة أرض صغيرة أبقيناها ملكا لنا‪.‬‬
‫ُّ‬
‫كنا أربعة أطفال‪ ،‬كلنا بنات‪ .‬وكانت هناك توترات مبطنة في عائلتنا‪،‬‬
‫لكننا لم نكن نفهم أسبابها‪ .‬وعندما ولد أخي بعدي بتسع سنوات‪ ،‬ساءت‬
‫األمور‪ .‬فقد أخذت أمي تتواجد في البيت بصورة أقل فأقل‪ .‬ولم نفطن‬
‫على األمر وقتئذ إال أنها كانت قد بدأت تشرب الكحوليات‪.‬‬

‫حتى بدأت والدة "كيت" تعود إلى املنزل ثملة‪ ،‬وانفصل‬‫لم يمض وقتا طويال ّ‬
‫ّ‬
‫عائلية جديرة بالذكر؛ فقد تم إهمال‬ ‫الوالدان الحقا‪ .‬ولم تكن هناك أية حياة‬
‫البيت‪ ،‬ولم تغسل املالبس قط‪ .‬وصار كل ش يء ملقى على عاتق "كيت"‪ ،‬الفتاة‬
‫ذات الثالثة عشرة عاما‪ .‬فتردف قائلة‪:‬‬

‫عندما دخل أخي الصغير جيمي املدرسة‪ ،‬كانت ّأمي بالكاد تتواجد في‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املنزل‪ .‬ولم أتمكن قط من انجاز فرائض ي املدرسية في البيت‪ ،‬ولم أتعلم‬
‫مرة أخرى‪.‬‬ ‫علي إعادة السنة ّ‬‫الكثير‪ .‬ورسبت في الصف التاسع وكان ّ‬
‫تركت أختاي األصغر مني البيت‪ ،‬وحصلت كلتاهما على وظيفة‪،‬‬
‫شقة في املدينة‪ .‬غير أنني بقيت في املنزل‪ .‬فكان البد من وجود‬‫وأجرا معا ّ‬
‫ّ‬
‫شخص ليعتني بالصغار‪ .‬وبالرغم من رداءة كفاءتي في التدبير املنزلي‪ ،‬إال‬
‫أنهم تمكنوا على األقل من الحصول على ش يء يأكلونه‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبدنيا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ذهنيا‬ ‫ازدحمت في مدينتنا املستشفى الخاصة باملعاقين‬
‫وبدأت الحكومة في إطالق املعاقين الذي ال يحتاجون إلى رعاية كل الوقت‬
‫مسامحة الوالد أو الوالدة ‪99‬‬

‫مثل مصدر دخل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫جيد لعائلتنا‪،‬‬ ‫املحلية‪ .‬وكان هذا ي‬ ‫لترعاهم العائالت‬
‫وأخذت أمي رجلين كبار السن وسيدة لترعاهم‪.‬‬
‫السيدة في‬ ‫ّ‬ ‫علي التخلي عن سريري ألحد الرجال ومشاركة‬ ‫وكان ّ‬
‫ّ‬
‫السيدة تذوق النوم‪ .‬وعندما أخبرت ّأمي أنني‬ ‫سرير مزدوج‪ ،‬ولم تكن تلك ّ‬
‫مرة‬ ‫وأنني أريدها أن تعيدها إلى املستشفى ّ‬ ‫ال أستطيع تحمل الوضع ّ‬
‫أخرى لترعاها لم توافق أمي‪ .‬فهي كانت تحصل على صك مالي يأتي لنا ّ‬
‫كل‬
‫إنها ستأتي إلى املنزل في املساء لتساعدني‪ .‬وقد جاءت فعال‪،‬‬ ‫شهر‪ .‬وقالت ّ‬
‫لكن ّأيما مجيء! فقد قالت ّإنها كانت تعيش في هذه الفوض ى بسببي أنا‪.‬‬
‫ّ‬
‫والدي‬ ‫في البداية لم أفهم معنى ما قالته‪ ،‬لكني علمت فيما بعد أن‬
‫ّ‬
‫ألن ّأمي كانت حبلى بي‪ .‬وأحيانا كانت تضربني بشدة‪،‬‬ ‫أرغما على الزواج ّ‬
‫عمن فعل هذا بوجهي‪ ،‬وعندما كنت‬ ‫وفي صباح اليوم التالي كانت تسألني ّ‬
‫أجيبها ّأنها هي التي فعلت‪ ،‬فإذا بها ّتتهمني بالكذب‪.‬‬

‫كرس‬ ‫وتوقفت "كيت" عن الذهاب إلى املدرسة في سن السادسة عشر لكي ت ّ‬


‫حياتها بالكامل لرعاية إخوتها‪ .‬في هذا الوقت تقابلت مع "توم" زوج املستقبل‬
‫ّ‬
‫وتزوجا بعد عامين‪ ،‬لكنها ما زالت تتذكر الذنب الذي شعرت به حين سألتها‬
‫ّأمها م ّتهمة إياها‪" :‬من سيقوم بتدبير املنزل هنا؟"‪ ،‬غير أن "كيت" لم تعرها أية‬
‫ّ‬
‫أهمية بل انتقلت من املنزل‪ ،‬وسرعان ما كونت مع توم عائلة خاصة بهما‪.‬‬
‫فتقول‪:‬‬

‫عند هذه املرحلة أردت أن أنس ى ّأمي‪ .‬فقد كانت لي عائلتي الصغيرة‪،‬‬
‫جدا‪ .‬وفجأة أرادت‬‫حبون أطفالي ّ‬ ‫فضال عن بيت أهل "توم" الذين كانوا ي ُّ‬
‫ّأمي االتصال بي‪ ،‬لكني خلقت العديد من األعذار لكي ال أزورها‪ .‬غير أنني‬
‫ألرد لها بعض ما فعلته معي من‬ ‫حصلت على ش يء من البأس والشجاعة ّ‬
‫جميل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عند ذاك صار طالق والداي نهائيا‪ .‬وتوقفت أمي أخيرا عن شرب‬
‫ألنها أدركت ّأن ضغط الدم والخمر سيقضيان عليها ال محالة‪.‬‬ ‫الخمر‪ّ ،‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫ومع ذلك كنت مترددة وغير راغبة في االتصال بها‪ .‬فاملشكلة كانت هي أنني‬
‫لم أقدر أن أثق بها‪.‬‬

‫عدة سنوات انضم هذان الزوجان إلى املجتمع املسيحي برودرهوف‬ ‫وبعد ّ‬
‫للحياة املسيحية املشتركة‪ .‬وكانت "كيت" بانتظار طفل آخر‪ ،‬ودعا "توم"‬
‫والدتها لتشاركها ميالد الطفل الجديد‪ .‬فتتابع القول‪:‬‬

‫أنني كاملجنونة ولم أعرف ماذا يجب أن أفعل تجاه هذا األمر‪.‬‬ ‫شعرت ّ‬
‫ّ‬
‫فقلت ل ـ "توم"‪" :‬عليك أن ّتتصل بها وتخبرها أال تأتي؛ قل لها ما تشاء‪.‬‬
‫فهذا طفلي أنا‪ ،‬وال أرغب أن تشاركني هي به"‪ .‬كنت خشنة للغاية‪ .‬وفي‬
‫النهاية ذهبت إلى أحد الرعاة الروحيين في مجتمع كنيستنا وقعدنا‬
‫نتحدث عن املوضوع‪.‬‬
‫إلي بهدوء ثم قال‪" :‬يجب أن تتوصلي إلى سالم ومصالحة‬ ‫فاستمع ّ‬
‫مع والدتك"‪ .‬فقلت‪" :‬أنت ال تعرف ّأمي‪ ".‬فأجاب‪" :‬هذا ليس له عالقة‬
‫باألمر‪ ".‬في النهاية أتت ّأمي‪ .‬ولم تكن على ما يرام حين وصلت وكانت في‬
‫سهل األمر عليها‪ ،‬لكن ّنا في النهاية‬ ‫ّ‬
‫الرعاية‪ .‬ولم أ ّ‬ ‫حاجة إلى مزيد من‬
‫ّ‬ ‫استطعنا أن ّ‬
‫نتحدث سويا‪ .‬بعدئذ وفي أثناء زيارتها األخيرة وقبل أن تذهب‬
‫تود هي أن تخبرني به‪ .‬واألكثر من هذا ّ‬
‫أنها‬ ‫إلى بيتها‪ ،‬شعرت ّأن هناك ما ُّ‬
‫كانت راغبة في االستماع إلى ما أقوله لها‪ .‬لقد أرادت عالقة جديدة –‬
‫صممة على إزالة ّأية‬ ‫وكنت ألهف عليها أنا أيضا وقتئذ ‪ -‬وقد كانت م ّ‬
‫عوائق تقف في طريق إقامة هذه العالقة‪ .‬وعند هذه املرحلة أدركت ّأنها‬
‫لم تكن عارفة بما كانت تفعله في السابق‪ ،‬وعندما استطعت أن أغـفر لهـا‬
‫شـفـيـنـا جميعـا‪.‬‬

‫جو بيتها امل ِح ّب في سالم مع والدتها‪ .‬فقد استطاعت أن‬‫عاشت "كيت" في ّ‬


‫تسامحها عن جراح املاض ي البليغة‪ ،‬لكنها أدركت أيضا أمرا هاما مفاده‪ّ :‬أن‬
‫أمها لم تكن وحدها التي افتقرت إلى املحبة فحسب بل برودها هي شخصيا‬
‫لعب أيضا دورا في القطيعة التي دامت بينهما سنوات عديدة‪.‬‬
‫مسامحة الوالد أو الوالدة ‪717‬‬

‫ليست جميع الحاالت بشأن القطيعة بين أحد الوالدين وأحد األبناء ّبينة‬
‫وخالية من التعقيد‪ .‬فهناك ّ‬
‫قصة "سوزان" وهي امرأة من كاليفورنيا تأتي من‬
‫ظروف مختلفة تماما‪ .‬فهي لم تكن قد عانت قط من إساءة معاملة فظيعة‬
‫من قبل أهلها‪ ،‬لكنها‪ ،‬مثلها مثل "كيت"‪ ،‬كانت تحمل بغضا وكراهية تجاه‬
‫والدتها لسنوات طويلة‪ ،‬ولم تبدأ عالقتهما في الشفاء إال عندما استطاعت أن‬
‫تغفر لها‪ .‬فها هي تقول‪:‬‬

‫بأمي صعبة للغاية منذ بداية إدراكي كطفلة‪ .‬فقد كنت‬ ‫كانت عالقتي ّ‬
‫أخش ى من انفجار غضبها ومن لسانها الالذع واالستهزائي‪ ،‬ولم أكن‬
‫أستطيع إرضاءها أبدا‪ .‬وكنتيجة لذلك‪ ،‬كنت أشعر بالغضب تجاهها –‬
‫كان غضبا غائرا ومكبوتا ومخبأ في صدري جعلني أنغلق نفسيا عنها‪.‬‬
‫وأخذت أتمسك بآالم الظلم الذي صرت أتذكره من أيام طفولتي‪ ،‬وأيضا‬
‫ّ‬
‫الكالم الخشن‪ ،‬وبعض الضربات (التي ال يستحسن تذكرها)‪ .‬لذا‬
‫ّ‬
‫أحس‬ ‫أتدمر بشكل ال يوصف من توبيخها لي‪ ،‬وسرعان ما كنت‬ ‫أصبحت ّ‬
‫أنني مرفوضة من ِق َب ِلها‪.‬‬
‫وبكلمة أخرى‪ ،‬لم يكن لدينا عالقة صريحة ليفتح أحدنا قلبه‬
‫ّ‬
‫لآلخر‪ .‬لذلك بدأت أتطلع إلى الكبار اآلخرين الذين في حياتي وبصفة‬
‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫وكرهت ّأمي تعلقي باملدرسين لكنها لم تجد وسيلة تعبر‬ ‫خاصة امل ّ‬
‫درسين‪.‬‬
‫أنني تمنيت االبتعاد عن عائلتي وأن ّ‬ ‫وأتذكر ّ‬ ‫ّ‬
‫يتبناني أحد‬ ‫بها عن ذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫امل ّ‬
‫درسين‪ .‬وأتذكر أيضا املشاعر القوية بعدم االنتماء لتلك العائلة التي‬
‫بشدة‪.‬‬ ‫كانت تجتاحني ّ‬
‫وبسبب لهفتي على أن أحظى برضا أهلي‪ ،‬حاولت أن أكون بنتا‬
‫فإن األمر لم‬‫الحقيقية‪ .‬وحسبما كان مألوفا ّ‬‫ّ‬ ‫"صالحة" وأخفي مشاعري‬
‫يساعدني كثيرا حينما لم يسمح لألوالد بالرد على الكبار أو اإلجابة ب ـ "ال"‬
‫لطلب األهل أو الكبار بصورة عامة‪ .‬إذ كان من املفروض علينا نحن‬
‫الصغار أن نكون مرئيين ال مسموعين‪.‬‬
‫وساء األمر أكثر عندما دخلت سن املراهقة‪ .‬فقد قمت بإيجاد سبل‬
‫ماكرة أكثر فأكثر ألعبر بها عن غضبي وأفعل ما أشاءه‪ .‬كما وجدت أيضا‬
‫‪ 710‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫طرقا ملتوية عديدة مع أمي‪ ،‬التي كانت بالحقيقة بمثابة "انتقام" منها‪.‬‬
‫وأدت أساليبي هذه بدرجة كبيرة إلى تورطي بعالقة جنسية مع كاهن‬ ‫ّ‬
‫أبرشيتنا الذي كان له عالقة اجتماعية مع أهلي‪.‬‬
‫وتزوجت من رجل آخر‪ ،‬لكني استمرت في‬ ‫أخيرا انتهت تلك العالقة‪ّ ،‬‬
‫خصامي مع أمي‪ .‬إال أن العالقة كانت غريبة فعال‪ ،‬ألني كنت ما أزال‬
‫مستميتة على إرضائها‪.‬‬
‫ّ‬
‫والنفسية على مدار‬ ‫ّ‬
‫الجسدية‬ ‫ومرت ّأمي بفترات طويلة من األزمات‬
‫ّ‬
‫كل تلك السنوات‪ ،‬لكني استصعبت التعاطف معها أو إظهار االهتمام‬ ‫ّ‬
‫بما يحدث لها‪ .‬وأخيرا جاء يوم أبديت فيه عطفا وشفقة عليها عندما‬
‫ُّ‬ ‫كانت تخوض برنامجا م ّ‬
‫كونا من اثنتي عشرة مرحلة للتخلص من إدمان‬
‫الكحول‪ .‬وقضينا أسبوعا رائعا معا من مفاتحة القلوب‪ ،‬غير أن األبواب‬
‫سرعان ما و ِص َد ْت بيننا بعدئذ‪ .‬وألقيت اللوم عليها على ما حصل‪ ،‬وال‬
‫أعرف اآلن سبب ذلك‪.‬‬
‫في النهاية‪ ،‬تجلى لي األمر أن شخصيتها الظاهرية التي تبدو قوية‬
‫ّ‬
‫نفسيا‬ ‫وواثقة النفس ومسيطرة كانت مجرد غطاء لشخص مزعزع‬
‫تنقصه الثقة بالنفس‪ ،‬حيث كانت تحمل أوجاعا كثيرة من طفولتها‬
‫منا‬ ‫الشخصية غير اآلمنة (التي افتقرت إلى املحبة)‪ .‬وقد حاول كل ّ‬
‫التقرب من اآلخر بأسلوبه الشخص ي‪ ،‬غير أن ِكالنا كان يخش ى من رفض‬ ‫ّ‬
‫اآلخر له‪ ،‬لذلك أمست جهودنا سطحية‪ ،‬حتى في أحسن أحوالها‪ .‬وأنا‬
‫مستحية من نفس ي ألقول أنني انقطعت عن الكالم معها بعد أسبوعين‪.‬‬
‫غير أن أحد األبواب ف ِت َح لي بعد سنوات الحقة عن طريق صديقة‬
‫ّ‬
‫ظلت تالحقني ألسمع بعض األشرطة لوعظات قسيس يدعى "جارلس‬
‫ّ‬ ‫ستانلي ‪ ."Charles Stanley‬وعلى ُّ‬
‫الرغم من أني لم اسمع عنه من قبل‪،‬‬
‫لكن ّي كنت أبحث عن إجابات لكثير من تساؤالتي في الحياة‪ ،‬لهذا‬
‫استمعت لها مع ش يء من التحفظ‪ .‬وال أتذكر ما قاله بالضبط‪ ،‬لكني‬
‫سمعت تماما ما كنت أحتاج إلى سماعه في ذلك الوقت‪ .‬فبدأت عيناي‬
‫تتفتح لترى حصتي من الذنب والتقصير في عالقتنا‪ ،‬وحاجتي ّ‬
‫املاسة‬ ‫ّ‬
‫مسامحة الوالد أو الوالدة ‪711‬‬

‫ألسأل العفو والغفران منها من جهة‪ ،‬وأيضا تقديمه لها من الجهة‬


‫األخرى‪.‬‬
‫تمر مدة طويلة حتى زرت أهلي‪ .‬وعندما كنت بمفردي مع ّأمي‬ ‫ولم ّ‬
‫أنني من جتهي قد‬ ‫تصرفاتي في املاض ي‪ ،‬وأخبرتها ّ‬
‫طلبت منها أن تغفر لي ُّ‬
‫أنني كنت غاضبة منها طوال حياتي‪ ،‬حتى لو‬ ‫سامحتها أيضا‪ .‬كما اعترفت ّ‬
‫ّ‬
‫لم أكن أعرف سبب ذلك‪ .‬لم تفهم السبب وراء غضبي منها‪ ،‬إال ّأنها‬
‫تسببت فيه لي‪ .‬وقالت‪" :‬ما حدث قد‬ ‫ّ‬ ‫اعتذرت أيضا عن األذى الذي‬
‫حدث‪ ،‬وال يمكننا تغييره؛ لكن يجب علينا اآلن أن نعيش يومنا ونتطلع‬
‫منا‪ .‬وسمح لي أن أنفتح معها‪ ،‬وأكون‬ ‫كل ّ‬
‫إلى الغد‪ ".‬كان وقتا لشفاء ّ‬
‫وأعبر عن رغبات قلبي في ّ‬
‫املحبة‪ ،‬وأن أكون محبوبة على ما أنا‬ ‫صادقة‪ّ ،‬‬
‫عليه وليس على الذي كنت أعتقد أنني باستطاعتي تقديمه‪.‬‬

‫وب ُمجـ ّرد أنهما واجهتا مشـاعر الغضـب في أحشاء كل منهما‪ ،‬فقد تمكنت‬
‫كل من "سـوزان" وأمها من الشروع في بنـاء عالقـتهما من جـديـد‪ .‬وهنـاك العـديد‬
‫القصـة ومس ّ‬
‫ـتمريـن باملعـانـاة بسـبب عـدم قـدرة‬ ‫ّ‬ ‫ممن لـهم قصص مشـابهة لتـلك‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫األطراف على الـغـفـران‪ .‬فـال يهم مـن نـكـون أو ماهية خلفياتنا‪ .‬فامل ُّ‬
‫ـهم أن نـتـعـلم‬
‫الـغـفـران‪ .‬وعـندئذ سيمكن لألعاجيب أن تحدث‪ .‬وستهيج علينا الـذكـريـات‬
‫ّ‬
‫املـؤلـمة من حيـن آلخـر لتعـكر صـفو العـالقـات‪ ،‬لكننا ال يمكننـا ولألبـد أن‬
‫ّ‬
‫نسـمح لهـا أن تغيـم سـماء ما نرتـئيه صحيحا لحياتنـا‪ .‬وح ّـتى عندمـا يـكون‬
‫ؤمن أن الغفـران ليـس ممكنـا‬ ‫النسـيان مستحـيال (وهذا طـبيعي)‪ ،‬فيجـب أن نـ ّ‬
‫ّ‬
‫فإننا سنجـد الشـفـاء الحقـي ّ‬ ‫ّ‬
‫ـقي‪.‬‬ ‫فحسب‪ ،‬بـل وضروريـا أيضـا‪ .‬وحينمـا نـغـفـر‪،‬‬
‫الفصل الحادي عشر‬

‫مـســامـحـة أنـفـسـنـا‬

‫ن تذوقُ املغفرة شخصيا‪ ،‬والتحر ُر من عواقب سيئاتنا التي اقترفناها‪،‬‬ ‫بدو ُ‬


‫ّ‬
‫ستظل قدرتنا على العطاء مكبلة بسبب سيئة واحدة لم نقدر أن نشفى‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كثيرا عن ذلك الغالم‬
‫منها مطلقا؛ وسنبقى ضحايا عقباتها لألبد‪ ،‬وال نختلف ُ‬
‫الذي يتعلم مهنة السحر على يد ساحر‪ ،‬في قصة "تلميذ الساحر‬
‫‪ ،"Sorcerer`s apprentice‬لكنه ال يعرف الوصفة السحرية التي ّ ُ‬
‫تفك قيود‬
‫السحر‪.‬‬

‫قول من‬
‫حنة آرندت ‪Hannah Arendt‬‬
‫منظرة سياسية وباحثة يهودية من أصل أملاني‬

‫ح ّتى لو سا َم َحنا اآلخرون‪ ،‬فهل يمكننا أن نسامح أنفسنا؟ هناك الكثير من‬
‫ّ‬
‫يتعذبون كثيرا بسبب ما فعلوه شخصيا‪ ،‬لدرجة ُّأنهم ال يؤمنون‬ ‫الناس الذين‬
‫ّ‬
‫بإمكانية شفائهم‪ ،‬لكن حتى تلك النفوس املهمومة يمكن لها أن تجد‬ ‫ّ‬ ‫بعد‬
‫الرجاء‪.‬‬

‫لقد تح ّرر "ديلف فرانشام ‪ ،"Delf Fransham‬وهو كندي من طائفة‬


‫الصحابيين ‪ ،Quakers‬من ماضيه عندما بدأ يقوم بأعمال املحبة والرحمة‬
‫غيرت مجرى حياته‬ ‫لآلخرين‪ ،‬فقد حدثت له‪ ،‬بصورة غير متوقعة‪ ،‬مأساة ّ‬

‫‪104‬‬
‫مسامحة أنفسنا ‪711‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مثله مثل كثيرين ّ‬


‫قصته‬ ‫ممن ذكرنا قصصهم هنا في هذا الكتاب‪ .‬إال أن‬
‫حد ما‪ :‬فقد كان الشخص الذي يجب أن يسامحه هو نفسه‪.‬‬ ‫مختلفة إلى ّ‬
‫مرة عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري‪.‬‬ ‫لقد تقابلت مع "ديلف" ّأول ّ‬
‫فقد انتقل إلى مجتمع كنيستنا التي تعيش حياة مسيحية مشتركة في أمريكا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجنوبية‪ ،‬وبدأ يعلم في مدرستنا‪ .‬وكان هناك أحد عشر طالب في فصلي وكنا‬
‫توحشين – إذا جاز التعبير‪ ،‬وبعد ايام قليلة من وصوله قررنا أن‬ ‫أوالدا م ّ‬
‫نضعه تحت االختبار‪.‬‬
‫عادي في بارغواي حيث الرطوبة العالية والحرارة التي قد تصل‬ ‫ّ‬ ‫وفي يوم‬
‫إلى حوالي ‪ 011‬درجة فهرنهايتية عرضنا عليه أن نأخذه في نزهة لنرى مدى‬
‫صالبته‪ .‬فمشينا معه ملسافة عشرة كيلومترات على األقل في وسط األدغال‬
‫جرد رجوعه إلى البيت‬ ‫والبراري واملستنقعات‪ ،‬ومن ثم رجعنا‪ .‬غير ّأنه سقط بم ّ‬
‫مصابا بضربة شمس‪.‬‬
‫ّ ّ‬
‫ظل "ديلف" في السرير لعدة أيام‪ ،‬لكننا لم نأبه له‪ .‬فقد حصلنا بالضبط‬
‫ّ‬
‫على ما كنا نرمي إليه‪ :‬فأثبتنا أنه "جبان"‪ ،‬لكن ّنا اندهشنا‪ .‬ألنه في اليوم الذي‬
‫جرب تلك النزهة ّ‬
‫مرة‬ ‫عاد وداوم فيه باملدرسة قال‪" :‬أيها الطالب‪ ،‬دعونا ن ّ‬
‫مرة أخرى لكنه‪ ،‬ومن غير‬ ‫صدق ما قاله! فسلكنا الطريق نفسه ّ‬ ‫أخرى‪ ".‬ولم ن ّ‬
‫ريب‪ ،‬لم يمرض هذه املرة‪ .‬وفاز "ديلف" باحترامنا ودخل قلوبنا ووثقنا به منذ‬
‫ّ‬
‫تلك اللحظة فصاعدا‪ .‬وسريعا ما اكتشفنا أنه أبعد ما يكون عن الجبن فهو‬
‫العب رياض ّي موهوب‪ .‬وأحببنا لعب كرة القدم معه‪.‬‬
‫عدة عقود اكتشفت بالصدفة السبب الذي جعل "ديلف" يسكب‬ ‫وبعد ّ‬
‫أنه كان قد فقد ابنه "نيكوالس"‬ ‫تبين ّ‬‫محبته وطاقته في عمله بمدرستنا‪ .‬فقد ّ‬ ‫ّ‬
‫مأساوية للغاية‪ .‬فقد ولد "نيكوالس" في أبريل ‪ 0930‬عندما كانت‬ ‫ّ‬ ‫في ظروف‬
‫أسرة "فرانشام" تعيش في جورجيا‪ .‬وبعد عيد امليالد عام ‪ 0933‬بفترة قصيرة‪،‬‬
‫كان "نيكوالس" يلعب خارج املنزل عندما جرى نحو الشاحنة التي كان والده‬
‫محملة‬‫"ديلف" يقودها راجعا بها إلى الخلف نحو الطريق‪ .‬وكانت الشاحنة ّ‬
‫ّ‬
‫بخشب للوقود‪ .‬ولم ّير "ديلف" ابنه إال بعد فوات األوان‪.‬‬
‫كانت زوجته "كاتي" تتحدث آنذاك مع جارتها داخل املنزل‪ ،‬فإذا ب ـ "ديلف"‬
‫ّ‬ ‫يدخل وابنهما ملقى على ذر َ‬
‫اع ّيه‪ .‬فتتذكر قائلة‪:‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫لقد خرجت عن طوري واحتدمت غضبا‪ ،‬إال ّأن "ديلف" أخذ يهدئني‪.‬‬
‫وأخذنا طفلنا إلى الطبيب في كالركسفيل‪ ،‬الذي كان أيضا املحقق الطبي‬
‫في أسباب الوفيات املشتبه بها‪ ،‬وشرحنا له ما حدث‪ ...‬ومن ناحيتي لم‬
‫ّ‬
‫مقصرة‬‫يخطر ببالي مطلقا أية شكوك ألغفر لزوجي‪ ،‬ألني علمت أنني ِ‬
‫القدر نفسه‪ .‬وحتى أنه لم يلمني‪ ،‬بل الم نفسه فقط‪ .‬ووقفنا معا جنبا‬
‫إلى جنب في مواجهة تلك املحنة املحزنة‪.‬‬

‫ديلف وأسرته‬

‫ّ‬
‫ولم يستطع "ديلف" أن يغفر لنفسه‪ ،‬وظلت تلك الحادثة تالحقه لسنوات‪.‬‬
‫ومنذ ذلك الوقت غير أسلوبه في الحياة ليخصص وقتا لألطفال ‪ -‬ذلك الوقت‬
‫يقضه كفاية مع ابنه الذي قتله‪ .‬وعندما أتذكر‪ ،‬أرى كيف كنت أجد‬
‫الذي لم ِ‬
‫مسامحة أنفسنا ‪717‬‬

‫عينيه كثيرا ما تتألأل بالدموع‪ ،‬ولدي إحساس قوي اآلن أنه كان يرى ابنه فينا‬
‫نحن الطالب‪ ،‬أو يتخيله وهو يكبر‪ .‬وكان تصميمه على بذل نفسه لآلخرين هو‬
‫األسلوب الذي اعتنقه للتكفير عن تلك املأساة التي ّ‬
‫سببها بال قصد‪ .‬أنا مقتنع‬
‫ّأن هذا األسلوب حفظه من االستسالم للشعور بالذنب‪ ،‬وقد استعاد به حياته‬
‫وأخيرا شعوره بالسالم‪.‬‬

‫"ديفيد هارفي ‪ "David Harvey‬الذي يبلغ عمره اآلن حوالي الثمانين ِا َلت َح َق‬
‫ّ‬
‫العاملية‬ ‫سن السادسة عشرة من عمره قبل انتهاء الحرب‬ ‫بالجيش حين كان في ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الثانية‪ .‬وبعد ما قض ى بقية سنوات الحرب في التدريب‪ ،‬تم نقله إلى أفريقيا ثم‬
‫أملانيا ثم إيطاليا وهونك كونك والصين والبحر املتوسط‪ .‬وفي البداية استمتع‬
‫خاصة بالصداقات الحميمة التي شعر بها تجاه‬ ‫ّ‬ ‫بوقته في الجيش وبصفة‬
‫ّ‬
‫أصدقائه من الجنود‪ ،‬لكن شيئا ما قد حدث وغيـر حياته لألبد‪ .‬فيقول‪:‬‬

‫قضيت جزء من خدمتي في كينيا ألقوم بتنفيذ مهام البوليس ُّ‬


‫وتعقب‬
‫"اإلرهابيين‪ ".‬وكنت أقض ي معظم الوقت في القيام بدوريات في مناطق‬
‫األدغال‪ .‬وأثناء إحدى هذه الدوريات وقعت في حادث فظيع‪.‬‬
‫كنا منبطحين أرضا ومنتظرين وصول عصابة من‬ ‫فبينما ّ‬
‫ّ‬
‫اإلرهابيين‪ ،‬تعرضنا نحن أنفسنا إلى كمين مضاد‪ .‬فصار كثير من الرمي‬
‫الذي صاحبته الفوض ى واالرتباك وأيضا سوء فهم لألوامر‪ .‬وانقسمت‬
‫ّ‬
‫الدورية إلى نصفين‪ .‬فسار النصف الذي كنت فيه‪ ،‬في خط مستقيم‬
‫في طريق تسير فيها الحيوانات‪ ،‬في حين كان النصف الثاني يقوم‬
‫بتمشيط األحراش في كال الجانبين‪ .‬بعدئذ اجتاز النصف الذي كان في‬
‫األحراش جماعتي‪ ،‬وكنتيجة لذلك أخذ بعضنا يطلق النيران على بعض‪.‬‬
‫ورأيت األحراش تنفرج بالجهة املقابلة لي تماما‪ ،‬فأطلقت النار‪ ،‬وأصبت‬
‫همتنا وحملنا املصاب على نقالة مؤقتة‬ ‫آمر الدورية في رأسه‪ .‬وتركنا م ّ‬
‫ملدة ستة عشرة ساعة عبر‬ ‫مصنوعة يدويا من خشب الخيزران ّ‬
‫ّ‬
‫الطبية الذي كان في أمس الحاجة إليها‪.‬‬ ‫األدغال ليحصل على الرعاية‬
‫‪ 718‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫دت جلسة قضائية عسكرية للتحقيق في الحادث‪،‬‬ ‫وفي النهاية عق ْ‬


‫ِ‬
‫إال أنني خرجت بريئا تماما من أي ذنب‪ .‬أما ضميري‪ ،‬فلم يهبني سالما‬
‫ّ‬
‫وال راحة بال‪ ،‬ألني لم استطع أن أعرف ماذا حدث آلمر الدورية‬
‫بالضبط‪ .‬وبعد أربعة سنوات انتهت م ّدة خدمتي في الجيش ورجعت‬
‫ّ‬
‫املدنية‪.‬‬ ‫للحياة‬
‫في البداية وجدت األمر صعبا للغاية‪ .‬ففي الجيش كان لي رقم ال‬
‫اسم‪ ،‬وكنت مدربا على اإلذعان لألوامر دون مناقشة‪ ،‬وكنت أعتقد أن‬
‫أي ش يء يطلب مني فهو سليم‪ ،‬األمر الذي ال يتماش ى مع الحياة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫املدنية‪ ،‬لكن عادت األمور لطبيعتها تدريجيا‪ ،‬وكان ّ‬ ‫ّ‬
‫لدي الوقت ألفكر‬
‫ّ‬
‫في ذكريات عملي العسكري‪ ،‬وكان أول ما يخطر في بالي هو أنني أطلقت‬
‫النار على صديقي‪ .‬أين هو يا ترى؟ وكيف كان حاله؟ هل نجا؟ هل ما‬
‫يزال على قيد الحياة؟‬
‫ّ‬
‫عدة سنوات بدأت استفسر وأتحرى بنفس ي عن مكان زميلي‬ ‫وبعد ّ‬
‫وصحته‪ ،‬لكني لم أصل لش يء‪ .‬وتقابلت مع زمالئي السابقين الذين‬ ‫ّ‬
‫ْ‬
‫وجدت زوجتي‬ ‫علي قصصا متضاربة ملا حدث له‪ .‬وفي عام ‪0996‬‬ ‫قصوا ّ‬ ‫ّ‬
‫"ماريون" كتاب يذكر تلك الحادثة بالذات‪ .‬فاتصلت بالكاتب الذي ذكر‬
‫ّ‬
‫أنه بالحقيقة لم يتقابل مع زميلي آمر الدورية بالفترة األخيرة‪ ،‬لكنه‬
‫ّ‬
‫سمع أنه كان يعيش في لندن‪.‬‬
‫وقررت يائسا أن‬‫وأدركت ّأنني وصلت إلى طريق مسدود آخر‪ّ .‬‬
‫قصتي وصورتي في طبعة‬ ‫املحلية‪ .‬فنشروا ّ‬
‫ّ‬ ‫أطلب مساعدة الصحف‬
‫أسبوعية لصحيفتهم‪ ،‬وفي غضون ‪ 41‬ساعة تلقيت مكاملة من‬ ‫ّ‬
‫الشخص الذي كنت أبحث عنه لسنوات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان األمر صعبا علي‪ .‬فبعد ّ‬
‫عدة محادثات تليفونية‪ ،‬رتبنا أن‬
‫ا‬ ‫ّ‬
‫املحدد أتى محمال بالهدايا للرجل الذي‬ ‫نلتقي معا في منزلي‪ .‬وفي الوقت‬
‫أطلق الرصاص عليه! فبسببي كان قد أصيب بشلل نصفي‪ ،‬وكان يجد‬
‫صعوبة في املش ي وفي تحريك ذراعه‪ .‬فسألته‪ :‬هل يمكنك أن تغفر لي؟‬
‫فاحتضنني‪ .‬ألنه كان قد غفر لي سلفا‪.‬‬
‫مسامحة أنفسنا ‪719‬‬

‫يعيش "جون بلمر ‪ "John Plummer‬حياة هادئة كقسيس ضمن الكنيسة‬


‫امليثودية ‪ Methodist‬في مدينة فيرجينيا النائمة والهانئة هذه ّ‬
‫األيام‪ ،‬لكن لم‬
‫تكن األمور دائما هكذا من قبل‪ .‬فقد عمل "جون" كطيار لطائرة هليكوبتر‬
‫أثناء حرب فيتنام‪ ،‬وقد ساعد على تنظيم غارة بقنابل النابالم على قرية (ترانج‬
‫ّ‬
‫بانج) في عام ‪ – 0903‬وهو القصف الذي تخلد الحقا عن طريق الصورة التي‬
‫فازت بجائزة‪ ،‬وهي صورة إلحدى ضحايا ذلك القصف أال وهي الفتاة‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫الفيتنامية "فان تاي كيم فك"‪.‬‬
‫وظلت تلك الصورة تطارد "جون" ّ‬ ‫ّ‬
‫ملدة‬
‫أربعة وعشرين سنة‪ ،‬فهي الصورة التي‬
‫بالنسبة للكثيرين تظهر مضمون الحرب‪:‬‬
‫فنرى فيها فتاة تبلغ التاسعة من عمرها‬
‫عارية ومحترقة تصرخ وهي فاتحة ذراعيها‬
‫وتجري نحو الكاميرا‪ ،‬وفي الصورة تظهر‬
‫ّ‬
‫سحب الدخان السوداء تتصاعد في السماء‬
‫من خلفها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ظل ضميره يعذبه ملدة أربع وعشرين‬
‫عاما‪ .‬واستمات على ش يء واحد وهو أن‬
‫يجد تلك الفتاة لكي يخبرها بأسفه ‪ -‬لكنه‬
‫لم يستطع إيجادها‪ .‬فقد كانت فيتنام كبلد بالنسبة له فصال قد انتهى من‬
‫مرة أخرى‪ .‬حاول‬ ‫حياته‪ ،‬فلم يستطع أن يقنع نفسه بالذهاب إلى هناك ّ‬
‫ّ‬
‫أصدقاؤه تهدئته‪ ،‬ألنه كان قد فعل وقتئذ ك ّل ما كان بوسعه ليتأكد من أن‬
‫تلك القرية كانت خالية تماما من املد ّنيين‪ ،‬لكنه ومع ذلك لم يحصل على‬
‫فأثر ذلك عليه حيث فشل زواجه وأدمن على الخمور‪.‬‬ ‫السالم‪ّ .‬‬
‫وفي مصادفة ال يمكن تصديقها‪ ،‬تقابل "جون" مع "كيم" في يوم املحاربين‬
‫السنوي عام ‪ 0996‬عند موقع النصب التذكاري الفخم لحرب فيتنام‪ .‬فقد‬
‫الزهور للسالم‪ ،‬في حين جاء‬ ‫جاءت "كيم" إلى واشنطن لكي تضع إكليال من ّ‬
‫الطيارين السابقين الذين كانوا ما يزالون يبحثون عن‬‫"جون" مع مجموعة من ّ‬
‫تحرر من املاض ي وشفاء الروح‪ .‬وفي الكلمة التي ألقتها "كيم" أمام الجموع قالت‬‫ّ‬
‫‪ 771‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫"جونُ" و "كيم" معا‬

‫الرغم من ّأنها كانت ما تزال‬ ‫أ ّنها ال تشعر باالستياء مما جرى لها‪ .‬وعلى ُّ‬
‫لكنها أرادت أن يعلم الناس أن هناك‬ ‫تعرضت لها‪ّ ،‬‬ ‫تعاني كثيرا من الحروق التي ّ‬
‫آخرين غيرها عانوا أكثر منها‪ ،‬فقالت‪" :‬خلفي في هذه الصورة‪ ،‬كان هناك آالف‬
‫وآالف من الناس الذين‪ ...‬ماتوا‪ .‬وفقدوا أجزاء من أجسادهم‪ .‬ود ّمرت حياتهم‬
‫بالكامل‪ ،‬ولم يلتقط أحد صورا لهم‪".‬‬
‫مرت "كيم" في كلمتها قائلة أنها قد غفرت للرجل الذي ألقى بالقنبلة‬ ‫است ّ‬
‫ّ‬
‫الرغم من ّأنها ال يمكنها تغيير املاض ي‪ ،‬إال ّ ّأنها كانت‬
‫على تلك القرية‪ ،‬وعلى ُّ‬
‫تريد "ترويج السالم"‪ .‬أما "جون"‪ ،‬الذي لم يصدق عينيه‪ ،‬فقد حاول االندفاع‬
‫لألمام واختراق الجموع وتمكن من لفت انتباهها قبل أن تغادر املكان كالبرق‬
‫الطيار املسئول عن إلقاء تلك‬ ‫فعرفها بنفسه على ّأنه ّ‬ ‫مع حماية بوليسية‪ّ .‬‬
‫مسامحة أنفسنا ‪777‬‬

‫ّ‬
‫يتحدثا معا‬ ‫القنبلة على قريتها منذ أربعة وعشرين عاما‪ ،‬واستطاعا أن‬
‫لدقيقتين قصيرتين‪ .‬فيخبرنا "حون"‪:‬‬

‫أت "كيم" مدى حزني وألمي وكربي‪ ...‬ففتحت ذراعيها لي وعانقتني‪ .‬ولم‬ ‫ْ‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أتمكن من قول ّ‬
‫أي ش يء سوى "إنني آسف‪ ،‬إنني آسف"‪ -‬عدة مرات‪ .‬وفي‬
‫الوقت نفسه كانت تقول لي‪" :‬حسنا‪ ،‬ك ُّل ش يء على ما يرام‪ ،‬أغفر لك‪".‬‬

‫مرة أخرى في اليوم نفسه‪ ،‬وأكدت كيم له من جديد ّأنها‬


‫تقابل "جون" و "كيم" ّ‬
‫قد غفرت له‪ .‬ولقد أصبحا منذ تلك اللحظة صديقين حميمين أحدهما يتصل‬
‫باآلخر تلفونيا باستمرار‪.‬‬

‫فهل يا ترى حصل "جون" على السالم الذي كان ينشده؟ يقول "جون" نعم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الرغم من ّأن مشاعره ال زالت متأثرة بذكريات الحرب‪ ،‬إال‬‫حصلت عليه! وعلى ُّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أنه يشعر أنه اآلن يستطيع أن يغفر لنفسه وأن يضع هذا الحدث خلفه في‬
‫عداد النسيان ويعيش أياما جديدة‪.‬‬
‫ويقول "جون" أن لقاءه مع "كيم" وجها لوجه بعث فيه الحياة حينما‬
‫ّ‬
‫تمكن أن يخبرها أنه تعذب حقا بسبب جراحاتها‪ .‬لكنه ومع ذلك فإنه يؤكد‬
‫على ّإن الغفران الذي حصل عليه ما هو إال نعمة إلهية مجانية قد تلقاها ‪-‬‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫يستحقه‪ .‬وإجماال‪،‬‬ ‫وليس ش يء يمكن اكتسابه بقدرته‪ ،‬باإلضافة إلى أنه ال‬
‫سر عجيب‪ :‬فهو ال يستطيع أن يفهم لحد اآلن كيف ّأن محادثة‬ ‫فالغفران ُّ‬
‫استمر مل ّدة أربعة‬
‫ّ‬ ‫استمرت مل ّدة دقيقتين‪ ،‬استطاعت أن تزيل الكابوس الذي‬
‫ّ‬
‫وعشرون عاما معه‪.‬‬

‫"ريتشارد ‪ "Richard‬وهو ُمحارب آخر من حرب فيتنام‪ ،‬رجل وديع وهادئ‬


‫يحب األطفال والخيل‪ ،‬لكنه‪ ،‬طوال السنوات الخمس التي عرفته فيها‪ ،‬الحظت‬
‫يتعذب بسبب األحداث التي كان قد ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مر بها منذ أكثر من عقدين‪.‬‬ ‫أنه كان‬
‫اسمعه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ 770‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫هناك أحداث موت كثيرة تمأل ذهني‪ .‬فاملوت الذي ّ‬


‫تسببت فيه لآلخرين –‬
‫واملوت الذي أراده اآلخرين لي ‪ -‬ال يفارقني أبدا! وأمزح كثيرا مع من أعمل‬
‫حتى أخفي األلم‪ ،‬وأبعد ذهني عن‬ ‫علي أن أفعل ذلك‪ّ ،‬‬ ‫معهم‪ .‬فيجب ّ‬
‫التفكير في هذا األمر‪ .‬فأنا بحاجة ألضحك‪ .‬فالضحك يبعد الكآبة‪.‬‬
‫غير أنني لست قادرا على محبة اآلخرين‪ .‬فيوجد جزء مفقود من‬
‫ّ‬
‫روحي‪ ،‬ويبدو أنني لن أستعيده أبدا‪ .‬وال أعرف إن كان سيكون بمقدوري‬
‫في يوم من األيام أن أغفر لنفس ي ك ّل األخطاء التي ارتكبتها‪ .‬فأنا أعيش‬
‫يوم بيوم‪ ،‬لكني أشعر باإلعياء طوال الوقت – دائما منهك‪ .‬فهل سينتهي‬
‫هذا يوما ما؟ ال أعرف كيف؟ فقد كان معي طوال الخمسة وعشرين‬
‫عاما املاضية‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫رسمية‬ ‫يتم حث أشخاص أمثال "ريتشارد" بمراجعة جهات إعانة‬ ‫غالبا ما‬
‫ّ‬
‫لطلب املشورة‪ .‬فينصحوهم مثال إليجاد غيرهم ممن مروا بتجارب مماثلة‪ ،‬أو‬
‫االنضمام إلى مجاميع تدعمهم وتساعدهم معنويا‪ ،‬أو الدوام على حضور‬
‫كل ذلك؛ وزار أكثر من مشير‬ ‫جلسات معالجة جماعية‪ .‬وقد فعل "ريتشارد" ّ‬
‫وذهب إلى اجتماعات مجموعة املحاربين في فيتنام مل ّدة عام كامل‪ ،‬لكنه لم‬
‫يحصل على السالم بعد‪.‬‬
‫قد تساعد هذه الوسائل في العالج‪ ،‬لكنها في بعض األحيان تقف عاجزة‬
‫شجعك‬‫عن تقديم حل يدوم لفترة طويلة‪ .‬فيمكن للطبيب النفس ّي الناجح أن ي ّ‬
‫على اإلفصاح عن األحمال التي تعاني منها من املاض ي‪ ،‬لكن إن لم يتبع هذا‬
‫ّ‬
‫الشخصية إلى الغفران‪ ،‬فلن يكون االعتراف مجديا‪.‬‬ ‫ندم واعتراف بالحاجة‬

‫يتذكر "روبرت كولس ‪ "Robert Coles‬الطبيب النفساني من جامعة هارفارد‬


‫الذائعة الصيت محادثة ّ‬
‫هامة مع املحللة النفسانية الشهيرة "آنا فرويد ‪Anna‬‬
‫‪ "Freud‬ابنة عالم النفس الشهير "فرويد ‪ ."Freud‬ويقول أنه عندما تحدثا مرة‬
‫بشأن إحدى السيدات امل ّ‬
‫سنات وعن تاريخها النفس ي الطويل واملليء باملتاعب‪،‬‬
‫فإذا بها تخرج بنتيجة‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫مسامحة أنفسنا ‪771‬‬

‫نودع هذه السيدة‪ ،‬نحتاج إلى أن نسأل‬ ‫سأقول لك شيئا؛ في كل مرة‪ّ ،‬‬
‫أنفسنا‪ ،‬ليس عن‪ :‬ماذا نعتقد عن حالتها؟ ‪ -‬فهذا ما نفكر فيه دائما! –‬
‫بل‪ :‬ماذا باألحرى نوده لها؟ آه‪ ،‬أنا ال أقصد جلسات العالج النفس ي؛ فقد‬
‫أخذت منه كفايتها‪ .‬فالتحليل النفس ي سيحتاج إلى سنين طويلة‪ ،‬على ما‬ ‫ْ‬
‫أظن‪ ،‬ليقدم لها شيئا ال يضاهي ما يقدمه لها الرب الطيب‪ ...‬ال‪ ،‬فهي ال‬
‫حتى وإن لم تدرك هي ذلك… فهذه املرأة املسكينة ال تحتاج‬ ‫تتحملنا بعد‪ّ ،‬‬
‫إلينا بتاتا‪ ...‬فما تحتاجه بالحقيقة هو‪...‬الغفران‪ .‬فهي بحاجة إلى أن‬
‫التحدث معها عن عقلها‪ .‬فالبد وأن يكون‬‫ُّ‬ ‫تصنع سالما مع روحها‪ ،‬وليس‬
‫هناك إله في مكان ما قادر على أن يساعدها ويسمعها ويشفيها… وال‬
‫شك في ّأننا غير م ّ‬
‫ؤهلين ملساعدتها في هذا املجال!‬ ‫يوجد ّ‬

‫ّ‬
‫هام للغاية‪ :‬فال يمكننا أن نجد السالم والشفاء إن لم نتعلم‬
‫يا له من أمر ّ‬
‫مواجهة أخطائنا‪ .‬ثم إن االعتراف بالذنب وحده ال يكفي لكي نحصل على‬
‫حقه أن‬ ‫الغفران‪ .‬ففي بعض األحيان قد ال يرغب الشخص الذي أخطأنا في ّ‬
‫يغفر لنا‪ .‬وفي أحيان أخرى قد ال نرغب نحن في أن نغفر ألنفسنا أو قد ال‬
‫نستطيع أن نغفر ألنفسنا‪ .‬وعندئذ يجب أن نلتجئ هلل سبحانه تعالى لطلب‬
‫العون مثلما اقترحته "آنا فرويد"‪ .‬وغالبا ما يوافينا الغفران كنعمة إلهية حينما‬
‫ّ‬
‫سنتحرر لتجعلنا قادرين‬ ‫نعتقد بأننا ال نستحقه‪ .‬فبفضل هذه النعمة وحدها‬
‫على مسامحة اآلخرين من صميم قلوبنا وكذلك على إلزام أنفسنا بالتغيرّ‬
‫والتوبة‪.‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬

‫ـحـمــل الـمـسـؤولـيــة‬
‫ت ُّ‬

‫عندما ندلي ونعترف بخطايا معينة‪ ،‬فسيموت اإلنسان القديم الذي في‬
‫داخلنا ميتة موجعة ومخزية ومشينة أمام أنظار أخ مؤمن‪ .‬وملا كان هذا‬
‫َّ‬
‫اإلذالل عسيراُ علينا‪ ،‬فترانا دائماُ نحاولُ تجنبه‪ .‬غير أنه بفضل هذه اآلالم‬
‫ُ‬
‫الجسدية واملعنوية املوجعة لهذا الذ ُّل والهوان أمام األخ املؤمن فإننا‬
‫سنشهد‪ ...‬نجاتنا وخالصنا‪.‬‬

‫قول من‬
‫ديتريش بون هوفر ‪Dietrich Bonhoeffer‬‬
‫قسيس والهوتي أملاني شهير‬
‫ناضل ضد الحكم النازي وتم إعدامه‬

‫من المستحيل أن نغفر لآلخرين إن لم ندرك حاجتنا إلى الغفران‪ .‬وفي‬


‫الواقع‪ ،‬فإن مجرد إدراك املوضوع ليس كافيا‪ ،‬ألنه يجب علينا أن نعترف‬
‫بأخطائنا لشخص آخر‪.‬‬
‫ويصرف بعض الناس نظرهم عن موضوع "االعتراف بالخطايا" بحجة أنه‬
‫ويقر آخرون بأن االعتراف ‪ -‬سواء كان ّ‬
‫لقس أو‬ ‫طقس كاثوليكي غريب وعقيم‪ّ .‬‬
‫لصديق أو ملشير – قد يكون مفيدا‪ ،‬ويقولون أن املرء يمكنه أن ينال سالم‬
‫القلب بالسهولة نفسها بدون االعتراف لشخص آخر‪ .‬ومع ذلك‪ّ ،‬‬
‫فإن سالم‬
‫ّ‬ ‫هؤالء الناس ليس أكثر ّ‬
‫مما وصفه "تولستوي ‪ "Tolstoy‬حين قال‪" :‬إنه تمويت‬
‫الروح"‪.‬‬

‫‪771‬‬
‫تحمُّ ل المسؤولية ‪771‬‬

‫إن الـذنـب يـقـترف في الخـفـاء‪ ،‬ويـفـقـد ق ّـوتـه بمج ّـرد السماح له بالخـروج إلى‬
‫النـور‪ .‬لكننا غالبا ما نود إظهار شخصيتنا بأنها قوية وفاضلة‪ ،‬األمر الذي‬
‫يؤدي إلى منعنا من اإلقرار لآلخرين بما قد اقترفناه من سيئات‪ ،‬ونحـاول عـوضا‬
‫عـن ذلك أن نمحـو تـلك األخـطاء مـن الـذاكـرة‪ ،‬وعنـدما نفشـل في محوها‪ ،‬تجدنا‬
‫ّ‬
‫مجرد نحـاول تخبئتها‪ .‬وبفعلتنا هذه فإننـا ال نقوم إال بتكديس ذنـب على ذنـب‪.‬‬
‫ّ‬
‫مسؤوليتـنا عنها‪ ،‬فسيطفح‬ ‫ّ‬
‫ونتحمـل‬ ‫فما لم نعترف بما قد اقترفناه من سيئات‬
‫في داخلنـا الشـعور بالذنـب‬
‫ّ‬
‫وال توجد عالقـة بين شعورنـا باألسـف على مـا ارتـكبنـاه وبين موضوع‬
‫تعـذيـب النفـس‪ .‬ألن تعذيب النفس يعني أن ال ننظر سوى إلى أنفسنا وضعفنا‬
‫البشري‪ ،‬حينئذ سيكون حليفنا بالتأكيد هو اليأس والدمار‪ .‬أما الشعور‬
‫باألسف فمعناه الصراخ هلل تعالى بدمـوع النـدم‪ ،‬فال يلزمنا عندئذ سوى ترك‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ََ‬
‫تتصفى‪ .‬وإال‬ ‫األمر (لصاحب األمر) لنسمح للمياه العكرة التي َمأل ْت قلوبنا أن‬
‫فلن يسـعنا أبـدا رؤيـة وتنقية الرواسب الدفينة في أي مكان في داخلنا‪.‬‬

‫يكتب "سيتف ‪ "Steve‬وهو صديق قديم لي نشأ في ضواحي مدينة واشنطن‬


‫العاصمة في الستينيات قائال‪:‬‬

‫النفسية من أجل السالم‬‫ّ‬ ‫لقد سعيت إلى العديد من الديانات والدراسات‬


‫زئية‪ ...‬لكن عندما رأيت أخيرا‬‫والكمال‪ ،‬غير أنني لم أجد سوى إجابات ج ّ‬
‫مدى فداحة الغلط في حياتي الشخصية‪ ،‬أدركت عندئذ الضرورة امل ِل ّحة‬
‫وحاجتي إلى ّ‬
‫التغير والتوبة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وقد حدثت تلك التجربة التي ّ‬
‫غيرت موقفي بغير توقع في أحد أيام‬
‫عام ‪ 0912‬عندما رأيت عدد ذنوبي مثل مجرى فائض‪ .‬فقد كانت تلك‬
‫عني بسبب كبريائي ورغبتي في أن أبدو صالحا أمام‬ ‫الحقيقة غائبة ّ‬
‫أخذت الصور والذكريات تنساب مني مثل نهر من‬ ‫ْ‬ ‫اآلخرين‪ ،‬لكن اآلن‬
‫املرارة والعلقم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫متحررا منها‪ ،‬وأال سيكون في‬ ‫فصار كل ما كنت أبتغيه هو أن أكون‬
‫ّ‬
‫وأردت أن أصحح أخطائي على قدر‬ ‫ُّ‬ ‫داخلي ش يء مظلم ومختبئ في أعماقي‪،‬‬
‫‪ 771‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫استطاعتي‪ ،‬فلم َيع ْد لدي حجج لتبرير ذاتي بإلقاء الالئمة على مرحلة‬
‫الشباب أو الظروف أو أصدقاء السوء‪ .‬فقد كنت أنا شخصيا مسئوال‬
‫عما فعلت‪.‬‬‫ّ‬
‫وبدأت أمسك ورقة بعد ورقة وأسكب فيها كل ما لدي من شائنات‬
‫وبكامل التفصيل‪ .‬وأحسست وكأن مالك التوبة يضرب قلبي بسيفه‪،‬‬
‫فهكذا كانت اآلالم‪ .‬وكتبت عشرات الخطابات ألفراد ومؤسسات تحايلت‬
‫ّ‬
‫عليها‪ ،‬أو سرقت منها أو كذبت عليها‪ ...‬وأخيرا شعرت أني قد صرت حرا‬
‫حقا‪.‬‬

‫كتب الروائي الروسي الشهير "دوستويفسكي" في ّ‬


‫قصته التي تحمل‬
‫عنوان "األخوة كارامازوف" بالفكر نفسه عن رجل اعترف بجريمة قتل أخفاها‬
‫لعقود طويلة‪ ،‬فقال بعد اعترافه‪" :‬أشعر بالفرح والسالم ّ‬
‫ألول ّ‬
‫مرة منذ سنوات‬
‫طويلة‪ ،‬فقد صارت السماء في داخل قلبي‪ ...‬واآلن يمكنني أن أجرؤ على ّ‬
‫محبة‬
‫أوالدي وتقبـيلهم"‪.‬‬

‫الحقيقي كالعدوى من شخص آلخر‪ ،‬وهو له القدرة على‬ ‫ُّ‬ ‫ينتشر ُ‬


‫الغفران‬
‫َ َ ّ‬
‫موتلنجن‬ ‫اكتساح مجتمع أو مدينة أو منطقة بأكملها‪ .‬فقد ش ِهد سكان قرية " ِ‬
‫‪ "Möttlingen‬وهي إحدى القرى التابعة ملنطقة "بالك فورست ‪"Black Forest‬‬
‫ـبت حياتـهم رأسـا على عقـب‪.‬‬ ‫بأملانيا‪َ ،‬شه َد حركة كهذه في عام ‪ ،0144‬التي قل ْ‬
‫ِ‬
‫أما اليوم فهي قرية عادية وال تختلف عما كانت عليه سابقا قبل حدوث‬
‫الصحوة فيها‪ .‬وقد كان راعي كنيستهم آنذاك "يوهان كريستوف بلومهارت‬
‫‪ "Johann Christoph Blumhardt‬الذي صار معروفا في أيامنا هذه‪ ،‬كان يت ّـنهد‬
‫ّ‬
‫كثيرا بسبب شعور الالمباالة والفتور الذي كان يغطى أبرشـيته مثل سحابة من‬
‫ّ‬
‫خشبي ألحد املنازل القديمة‪،‬‬‫ّ‬ ‫الضباب‪ .‬غير ّأن لوحة كانت معلقة على جدار‬
‫صحة هذه األحـداث العجـيـبة التي اكتسحت القرية يومها‪ .‬فقد‬ ‫تشهد عن ّ‬
‫وجدوا مكتوبا عليها العبارات التالية‪:‬‬
‫تحمُّ ل المسؤولية ‪777‬‬

‫أيها اإلنسان‪ :‬فكر باآلخرة‬


‫ال تهزأ بزمن الرحمة‬
‫ألن يوم الحساب قريب‪.‬‬

‫وبدأت "الصحوة"‪ ،‬كما يسمونها اليوم‪ ،‬في‬


‫شاب معروف‬‫بداية عام ‪ ،0142‬عندما جاء ُّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وعصبي املزاج إلى بيت‬ ‫عنه أنه مدمن خمر‬
‫القسيس بلومهارت‪ .‬وبعد أن ألتمس راجيا‬
‫مقابلة القسيس‪ ،‬س ِمح له بالدخول‪ .‬وأخبر‬
‫ّ‬
‫ذلك الشاب القسيس "بلومهارت" أنه لم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتمكن من النوم طوال األسبوع املاض ي‪ ،‬وأنه‬
‫يخش ى أن يموت إن لم يبح بما في ضميره‪.‬‬
‫وظل "بلومهارت" متحفظا ومحترزا إلى ّ‬
‫حد‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫القسيس بلومهارت ُ‬ ‫ما‪ ،‬بيد أنه بدأ يتقبل مصداقيته حينما رأى‬
‫كيف أخذ وابل من الذنوب الكبيرة‬
‫والصغيرة ينهمر كالسيل من قلبه‪.‬‬
‫وعندها بدأت موجة عجيبة من الندم والتوبة في القرية‪ .‬فمع حلول ‪30‬‬
‫ستة عشرة شخصا إلى بيت القسيس ليزيحوا عن قلوبهم‬ ‫يناير ‪ 0144‬جاء ّ‬
‫حمل الخطية‪ .‬وبعد مض ّي ثالثة ّأيام ارتفع العدد ليصل إلى خمسة وثالثين‪.‬‬
‫وبعد عشرة أيام وصل إلى أكثر من مائة وخمسين شخصا‪ .‬فصار الرجال‬
‫كل القرى املحيطة يتدفقون إلى قرية موتلِـنجن‪.‬‬ ‫والنساء من ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولم يكن لهذا أية عالقة باملشاعر الجياشة التي تصاحب "النهضات"‬
‫الروحية‪ ،‬وال ّأية مبالغة في الشرور التي كانت قد ارتكبت في املاض ي أو في‬ ‫ّ‬
‫وجدية باملقارنة مع‬‫ّ‬ ‫املجاهرة بالتوبة علنا‪ .‬فقد كانت تلك الصحوة أكثر وقارا‬
‫هذه األمور‪ .‬وكان لها أيضا انعكاسات على الحياة الواقعية بصورة أعمق‪ .‬فقد‬
‫شعر الناس في داخلهم بضرورة قطع عالقتهم باملاض ي‪ :‬فقد و ِخ َز ْت قلوبهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وفجأة تجلت لهم قباحة حالهم‪ .‬وحينما استبشعوا األمر‪ ،‬رأوا‪ ،‬ومن غير لف‬
‫ودوران‪ ،‬بوجوب التخلي عن طرقهم القديمة‪.‬‬
‫‪ 778‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ُّ‬
‫تأثر القلوب هذه قد تجاوزت ّ‬
‫حد‬ ‫وأهم ما في املوضوع هو ّأن حركة‬
‫الكالم واملشاعر وأفرزت تغييرات حياتية ملموسة ومنظورة تعبيرا عن التوبة‬
‫واملغفرة‪ .‬فعادت البضائع املسروقة‪ ،‬وتصالح األعداء‪ ،‬وتم االعتراف بالخيانات‬
‫الزوجية والجرائم (من ضمنها وأد األطفال)‪ ،‬وا ْ‬
‫لتأمت الزيجات املفككة‪ .‬كما‬ ‫ِ‬
‫حتى مدمني الخمور في البلدة عن الحانات!‬ ‫ابتعد ّ‬
‫ّ‬
‫إن الذين يشككون في مدى أصالة الصحوة التي وقعت في ِ‬
‫موتلنجن ال‬
‫ْ َ‬
‫يلزمهم سوى أن ينظروا إلى نتائجها ليدركوا أنها لم تكن َو ْهم مخ َتلق‪ .‬وعلى‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الرغم من سخرية الناس في البلدات األخرى‪ ،‬إال ّأن ك ّل القرية كانت قد تأثرت‬
‫ّ‬
‫بتلك الصحوة‪ .‬ويذكر أنه في عام ‪ 0112‬أي بعد حوالي ‪ 41‬سنة من تلك‬
‫الصحوة‪ ،‬كتب "فريدريش سندل ‪( "Friedrich Zündel‬وهو كاتب سيرة‬
‫بلومهارت) ما يلي‪ّ " :‬إننا لم ننس بعد ما حدث ‪ّ -‬‬
‫فحتى أطفال أولئك التائبـين ما‬
‫عم تلك البلدة"‪ .‬أما أنا – كاتب هذا الكتاب‬‫يشعون الفرح الغامر الذي ّ‬ ‫يزالون ُّ‬
‫‪ -‬فقد سافرت خالل الثالثين عاما املاضية كثيرا إلى أملانيا لكي أزور حفيدات‬
‫تيمنا به) ويمكنني أن‬ ‫اسمه ّ‬ ‫ّ‬
‫والدي بكتاباته وسمياني ِب ِ‬ ‫"بلومهارت"‪( .‬فقد تأثر‬
‫ّ‬
‫أشهد أن هناك شيئا من الروح نفسه الذي اكتسح البلدة آنذاك ظل على‬
‫حتى اليوم‪.‬‬ ‫حاله ّ‬
‫لكن السؤال املطروح هو‪ :‬هل تعتبر الصحوة التي حدثت في قرية‬
‫موتلنجن حدثا عرضيا؟ وهل يمكن لحدث كهذا أن يتكرر؟ كان لدى القسيس‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫"بلومهارت" إيمان يجيب على هذه األسئلة‪ ،‬فيقول‪" :‬نعم ممكن"؛ فعـلى أيـة‬
‫ّ‬
‫حـال‪ ،‬لقد بـدأ األمـر كلـه بندامة رجـل واحـد فقـط‪.‬‬

‫في كثير من الحاالت‪ُ ،‬يمكن تصحيح الخطأ بمجرد اعتذار بسيط – مثال‬
‫عندما نفقد صبرنا مع شخص ما أو عندما يفتقر تعاملنا إلى الرأفة‪ .‬وقد‬
‫وجدت من خالل خبرتي ّأن أفعاال متعمدة مثل الغش أو السرقة يجب أال ّ‬
‫يتم‬
‫االعتراف بها فقط‪ ،‬وإنما مواجهة عواقبها أيضا‪ ،‬إذا كانت هناك رغبة في‬
‫تحرر كامل‪ .‬فهناك حاالت يكون فيها من الضرور ّي عمل أشياء‬
‫الحصول على ّ‬
‫أكثر من مجرد االعتراف الشخص ي‪.‬‬
‫تحمُّ ل المسؤولية ‪779‬‬

‫فكما يكتب الالهوتي األمريكي "ستانلي َ‬


‫هاورفاز ‪" :"Stanley Hauerwas‬ال‬
‫أي مجتمع مسيحي يعيش حياة مسيحية مشتركة أن يتغاض ى‬ ‫يمكن ألفراد ّ‬
‫ّ‬
‫ألنهم تعلموا ّأن الخطية تمثل تهديدا للمجتمع الذي‬
‫بعضهم عن خطايا بعض ّ‬
‫يرمي إلى السالم"‪ .‬فال يرى أفراد املجتمع املسيحي ّ‬
‫املتحدين أن مشكلة إخفاء‬
‫العذاب الذي تسببه ذنوبهم الشخصية هي مشكلة فردية يتحملها الفرد‬
‫ّ‬
‫لوحده‪ .‬ويردف قائال‪" :‬عندما نفكر في أخينا (أو أختنا) في الكنيسة الذي أخطأ‬
‫ضدنا نحن شخصيا فحسب‪ ،‬بل حتى ّ‬
‫ضد‬ ‫بحقنا‪ ،‬فإن إهانة كهذه لم ترتكب ّ‬
‫ّ‬
‫مجتمع الكنيسة كله"‪.‬‬

‫اختبر "مارك و دبي ‪ ،"Mark & Debbie‬وهما صديقان لي يعيشان اآلن في‬
‫والية بنسلفانيا‪ ،‬اختبرا هذا األمر ّ‬
‫للمرة األولى في الجماعة املسيحية الصغيرة‬
‫التي كانا ينتميان إليها بكاليفورنيا في أواخر الثمانينيات‪ ،‬فيقوالن‪:‬‬

‫ّ‬ ‫مر السنوات‪ ،‬رأينا النتائج امل ّ‬


‫على ّ‬
‫دمرة املترتبة عن تجاهلنا لألخطاء أو‬
‫سرا‪ .‬ك ّنا نعيش ضمن مجتمع متشارك صغير في املدينة‬ ‫محاولة إخفائها ّ‬
‫تزوجة‬ ‫مع عدد من الناس‪ ،‬أحدهم كان رجال أعزب وقع في ح ّب سيدة م ّ‬
‫ُّ‬
‫التحدث‬ ‫من جماعتنا‪ .‬وحاول بعضنا معالجة تلك العالقة من خالل‬
‫قصتهما الغرامية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لم يكن هناك فعال ّأية وسيلة‬ ‫معهما عن ّ‬
‫إلمكانية "طرح القضية علنـا"‪.‬‬
‫ولخشيتنا من أن نبدو في موقف ّديان أو قاس ي القلب‪ ،‬اخترنا أن‬
‫نتعامل مع األمر باعتبار ّأن تلك العالقة لم تكن عالقة خطيرة للغاية‪ ،‬أو‬
‫على األقل ليست خطيرة بالدرجة التي تستوجب إثارتها علنا‪ .‬أال يرتكب‬
‫جميعنا أخطاء؟ فمن نحن لندينهم؟ أقنعنا أنفسنا ّأن املواجهة ستزيد‬
‫من شعورهما بالعار وأيضا من إدانتهما لنفسيهما‪ ،‬وكذلك ستديم دوامة‬
‫الفشل وستغرقهما أكثر‪ .‬لهذا فلقد تجنبنـا األمر ّ‬
‫برمته كما لو كان وباء‪.‬‬
‫بأم أعيننـا أن ما كان يدعى "عطفا" هو الذي عمل‬ ‫واآلن‪ ،‬وبعد حين‪ ،‬نرى ّ‬
‫على ديمومة فشلهما‪.‬‬
‫‪ 701‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فقد ترك الرجل مجتمع جماعتنا أخيرا‪ .‬وبعد سنتين‪،‬‬
‫ّ‬
‫تركت املرأة أيضا ‪ -‬وطلقت زوجها‪.‬‬

‫مرا بها "مارك" و "دبي" ليسـت فريـدة من نوعـها حتمـا‪ .‬فقد‬ ‫ّأن التجربـة التي ّ‬
‫ّ‬
‫يستخفوا بما كـان يحـدث فعـال‪ّ .‬إن‬ ‫ألن الجمـيع حـاولوا أن‬ ‫تفكك الزواج ّ‬
‫املواجهـة أحيانـا تكون ضروريـة إذا أردنـا الحـصول على الغفـران‪ ،‬ألنه ما لـم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتواجـه ّ‬
‫أي شخـص منـا وجهـا لوجـه بمـا قد فعـله من خطايـا‪ ،‬فإنه سوف ال‬
‫بتذوقه‪ .‬أما االبتعاد عن مواجهة َم ْن يؤذي‬
‫حتى ينعـم ّ‬ ‫يسـعى لطـلب الغفـران وال ّ‬
‫ّ‬
‫اآلخرين ‪ -‬ألننـا نقنـع أنفسـنا أن هـذا األمـر ليـس مـن شأننـا‪ ،‬على سبـيل املثـال ‪-‬‬
‫فيـكون أحيانـا سبيال لنعذرهم عما يفعلونه من شائنات‪ .‬وكما رأينـا سـلفا‪ ،‬فإن‬
‫التغاض ي عن الشائنات نقيـض لغفـرانها‪.‬‬

‫يكتب "آالن باتون ‪ "Alan Paton‬الكاتب من دولة جنوب أفريقيا في روايته‬


‫ََ‬
‫الفلروب ‪ "Too Late the Phalarope‬عن رجل‬ ‫الشهيرة "فات الوقت يا طائر‬
‫أفريقي محترم من أصل أوروبي (أي أبيض البشرة)‪ ،‬في زمن التمييز العنصري‬‫ّ‬
‫أال وهي‪ّ :‬‬‫ّ‬
‫الزنا مع‬ ‫في دولة جنوب أفريقيا‪ ،‬كان قد اقترف خطيئة "ال تغتفر"‬
‫ّ‬
‫امرأة أفريقية األصل‪ .‬وملا ظهرت تلك الخطية إلى النور‪ ،‬انهارت أسرته‪ .‬وتركه‬
‫ّ‬
‫أصدقاؤه‪ ،‬واحتقره ورفضه أقرباؤه‪ ،‬ومات والده نتيجة شعوره بالعار‪ .‬إال ّأن‬
‫عبر عن حزنه ملا حدث فقال‪:‬‬‫أحد جيرانه ّ‬

‫يمكن معاقبة املذنب‪...‬لكن أن نعاقب وال نصلح‪ ،‬فهذا في ّ‬


‫حد ذاته يعتبر‬
‫أشد الجرائم‪...‬فإن أخذ اإلنسان على عاتقه القيام بدور هللا في‬‫من ّ‬
‫العقاب‪ ،‬فيجب عليه أيضا أن يأخذ على عاتقه تحقيق وعد هللا بإصالح‬
‫الشخص املذنب‬

‫ُّ‬
‫نظل‬ ‫مهد الطريق ُ‬
‫للغفران وال ُمصالحة‪ .‬وبدونه‬ ‫إنَّ االعتراف بالخطايا ُي ّ‬
‫منغلقين كليا في كبريائنا‪ ،‬ويصبح الغفران ليس ممكنا‪ .‬عندما عاد والد زوجتي‬
‫تحمُّ ل المسؤولية ‪707‬‬

‫"هانز ‪ "Hans‬إلى مجتمعنا املسيحي بعد قضائه ألحد عشر عاما بعيدا عنه‪،‬‬
‫كتب ما يلي‪:‬‬

‫ّ‬
‫توقعت أن يستقبلوني الناس بالحجارة‪ ،‬لكن لم يحدث أي ش يء من هذا‬
‫أعبر بها عن أسئلتي وهواجس ي‬ ‫كل الفرص لكي ّ‬ ‫القبيل‪ .‬فقد أتيحت لي ُّ‬
‫وتحدث الجميع معي بانفتاح وصراحة‪ .‬والحقيقة هي‬ ‫ّ‬ ‫علنا أمام الجماعة‪،‬‬
‫ّأن قلبي لم يذب من الصراحة فقط؛ لكن باألحرى‪ ،‬من ّ‬
‫املح ّبة بينهم التي‬
‫محبة مستعدة لتغفر‪ّ ،‬‬
‫ألنها‬ ‫تقاسموا بفضلها املسؤولية وااللتزام ‪ -‬وهي ّ‬
‫هي نفسها اختبرت الغفران‪.‬‬
‫ولم يكن هناك ش يء ليتنازع عليه الناس سوى الش يء الذي فصلنا‪.‬‬
‫منا على املقعد نفسه‪ ،‬بمعنى أننا جميعنا ّ‬
‫كنا‬ ‫كل ّ‬
‫وباختصار‪ ،‬جلس ّ‬
‫سواسية ولنا الصراع الروحي نفسه‪ .‬ولم يتم التعامل مع األمور بمشاعر‬
‫اإلطراء واملداهنات‪ ،‬بل تم األخذ بنظر االعتبار حتى أكثر الحقائق املؤملة‬
‫بحسب نور املحبة‪.‬‬

‫ّ‬
‫تأثر "هانز" جدا ّ‬
‫بحب مجتمعه له‪ ،‬إال أن الش يء الذي أطاح بعناده وتصلبه‬
‫كان استعدادهم في طلب العفو منه عن األمور التي أخطئوا فيها بحقه‪.‬‬

‫وتكتب سا ّرة‪ ،‬وهي أخت أخرى في المسيح في مجتمعنا املسيحي برودرهوف‬


‫قررت أن تنظف‬‫والتحرر اللذين غمراها عندما ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ ،Bruderhof‬عن الفرح‬
‫سجالتها القديمة وتبدأ بداية جديدة‪ ،‬فتقول‪:‬‬

‫لم أذق طعم النوم والراحة في الليل‪ .‬فكان هناك ش يء يطرق في بالي‪ :‬كان‬
‫أصحح األمور! فذهبت إلى بعض من أصدقائي الذين ّ‬
‫لدي ثقة‬ ‫يلزمني أن ّ‬
‫فيهم‪ ،‬وأخبرتهم بكل ش يء‪ .‬وقد ساعدني هذا كثيرا جدا‪ ،‬على الرغم من‬
‫األيام التي تلت‪ْ ،‬‬
‫بدأت‬ ‫علي أن اعترف به هو م َق ّززا للنفس‪ .‬وفي ّ‬
‫أن ما كان ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫أشياء أخرى تتوارد إلى ذهني‪ ،‬وهناك أيضا لم أتمكن من االنتظار‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأتذكر حينما ركضت إليهم لكي أدلو بها‪ .‬فعندما تقوم بتنظيف جميع‬
‫‪ 700‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫وتحس بضرورة‬ ‫دفاترك وسجالتك‪ ،‬تصير حتى أصغر وأدق األشياء مهمة‬
‫علي أن أتخلص من كل ش يء صغير يتبادر إلى‬ ‫اإلدالء بها‪ .‬فكان يجب ّ‬
‫ذهني‪ .‬فلم استطع االنتظار‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولم أكن أعلم مطلقا بأنني سأجد مثل هذا الفرح في االعتراف‬
‫والتوبة‪ ،‬فقد أصبح قلبي خفيف مثل الريشة أكثر وأكثر‪.‬‬

‫ْ‬
‫اكتشفت " ّ‬
‫سارة"‪ ،‬مثلها مثل اآلخرين الذين صمموا على مواجهة ذنوبهم وطلب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫التحرر والراحة الروحية‪ .‬وقد توقعت أن‬ ‫اكتشفت شعورا رائعا من‬ ‫الغفران‪،‬‬
‫يرفضها وينتقدها األعضاء اآلخرين في املجتمع املسيحي بشدة بسبب ما ارتكبته‬
‫في املاض ي‪ ،‬وأن ّ‬
‫يتجنبوها بالكامل ب ّ‬
‫مجرد أن تحكي لهم ما حدث‪ ،‬لكن لدهشتها‬
‫رحبون بأمانتها ويقبلونها معهم بكل ضعفها‪ .‬وعندما اعترفت‬ ‫وجدتهم ي ّ‬
‫ّ‬
‫بمسؤوليتها عن أخطاء املاض ي وأعلنت تصميمها على القيام ببداية جديدة‪،‬‬
‫وجدت "سارة" – مثلما يقدر على إيجاده كل واحد ّ‬
‫منا – أن االعتراف يمهد‬
‫مهد هذا االعتراف الطريق أمامها للحصول على‬ ‫السبيل للمصالحة‪ .‬فلقد ّ‬
‫املصالحة‪.‬‬
‫الفصل الثالث عشر‬

‫إلـقـاء ال ّلـوم عـلى ال ّلــه‬

‫صحيحا ال أن ُتحاولُ إزالة ّ‬


‫كلُ اآلالم‪ ،‬وال أن تتحملها متعمداُ برباطة‬ ‫ُ‬ ‫ليس‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جأش‪ .‬فاملعاناة يمكن تسخيرها وتحويلها للخير‪ .‬وما يجعل الحياة ُف ِرحة أو‬
‫تعيسة هو ليس الظروف الخارجية‪ ،‬بل موقفنا الداخلي تجاهها‪.‬‬

‫قول من‬
‫ايبرهارد آرنولد ‪Eberhard Arnold‬‬
‫عالمة الهوتي أملاني ومؤسس حركة برودرهوف املسيحية‬

‫ّ‬ ‫نتحدث عن ُ‬
‫الغفران‪ ،‬فإننا عادة ما نقصد األذى الذي تسبب بعضنا‬ ‫ّ‬ ‫عندما‬
‫ّ‬
‫فيه لبعض‪ ،‬لكن في بعض املرات يبدو أنه ال يوجد من نلومه‪ .‬وملا كانت‬
‫املشاعر واالنفعاالت التي تهيج لدينا في هذه املرات تشابه كثيرا تلك التي تحدث‬
‫منا – ّ‬
‫بحق أو‬ ‫في الحاالت التي يوجد فيها طرف مذنب‪ ،‬فلذلك يميل كثيرون ّ‬
‫ّ‬ ‫بغير ّ‬
‫حق – إلى إلقاء اللوم على هللا ألنه جعلنا نتعذب بدون أي سبب واضح أو‬
‫مبرر‪ .‬وعندها نمتلئ بالغضب واأللم متسائلين‪" :‬كيف يمكن إلله رحيم أن‬
‫يسمح بهذا؟" فهل ترانا نقدر أن "نغفر" هلل؟‬
‫ّ‬
‫ال أنوي البحث في مسألة‪" :‬هل من العدل أن نلوم هللا في مثل تلك‬
‫حتى لو ك ّنا ال نؤمن به‪،‬‬
‫الظروف أو ال؟" فمن السهل أن نلوم هللا ونغفر له ّ‬
‫ألن ذلك أفضل من مواجهة حالة ال يوجد فيها من نلومه‪ .‬فالغضب مرحلة‬
‫حتى عندما ال يكون هناك هدف واضح لنوجه نحوه‬ ‫مشروعة من الحزن ّ‬
‫غضبنا‪ .‬فنحن بحاجة إلى التعبير عن غضبنا والتعامل معه‪ ،‬إن ك ّنا نرغب‬
‫‪701‬‬
‫‪ 701‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫في الحصول على الفرصة املناسبة للشفاء وقلب صفحة جديدة‪.‬‬

‫ّ‬
‫فهل يمكن أن نتعلم إذن أن نغفر هلل عندما نراه مسئوال عن األلم الذي‬
‫ّ‬
‫حدث لنا‪ ،‬تماما مثلما تعلمنا أن نغفر لآلخرين عندما نشعر أنهم جرحونا؟ إن‬
‫ُّ‬
‫الحل يكمن في تنمية رغبتنا في التعلم من تجاربنا لننمو ولكي ينتج منها ش يء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫سلبي في حياتنا‪ .‬فعندما يبدو أنه ال يوجد‬ ‫إيجابي‪ ،‬وإال سيبدو ّأن األمر كله‬
‫سبب آلالمنا‪ ،‬فيجب علينا أن نجد سببا‪ .‬وليس من الضروري أن تكون األزمة‬
‫مجرد كارثة؛ فيمكنها أن تكون فرصة أيضا‪.‬‬

‫فقدت "زوهار جيمبر ِلن ‪ ،"Zohar Chamberlain‬وهي صديقة من كيبوتس‬


‫كيشور في إسرائيل (كيبوتس هو مجمع تعاوني سكني وعملي متشارك في‬
‫فقدت ساقها في حادثة حين كانت في السابعة عشر من‬‫ْ‬ ‫املصاريف الرئيسية)‪،‬‬
‫عمرها‪ .‬وعلى الرغم من أن "زوهار" لم تجد شخصا لتلومه على ما حدث‪،‬‬
‫وعليه لم تجد شخصا لتغفر له‪ ،‬فقد كانت ال تزال غاضبة بشأن حالها وقد‬
‫نفسيا تدميرا كبيرا ألنها فجأة صار عليها أن تتعلم من جديد كيفية‬‫ّ‬ ‫د ِم َر ْت‬
‫القيام بالكثير من األمور التي كانت في السابق ال تستغرقها ومضة عين ألدائها‪.‬‬
‫فتقول‪:‬‬

‫حدث ذلك في صيف عام ‪ 0910‬عندما كنت في السابعة عشر من‬


‫ّ‬
‫تطوعت للعمل مل ّدة عام كمرشدة مع منظمة للشباب‬ ‫عمري‪ ،‬وكنت قد ّ‬
‫في أورشليم‪ .‬وبعد أربعة ّأيام من عملي كان عل ّي االتجاه إلى الشمال‪ ،‬لهذا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املركزية‪ .‬فقد كان هذا أفضل‬ ‫أخذت حافلة من محطة حافالت أورشليم‬
‫أسلوب للوصول إلى الشمال‪ .‬ولم أحاول أسلوب الركوب املجاني عن‬
‫املارة‪ ،‬أو املغامرة بأي خطر آخر‪ .‬وإنما ذهبت‬‫طريق التلويح للسيارات ّ‬
‫كمسافرة ّ‬
‫عادية‪.‬‬
‫لم يستغرق األمر سوى دقائق معدودة لكي ّتتجه الحافلة إلى شارع‬
‫"يارمياهو"‪ ،‬ولم تكن هناك حتى أدنى فرصة أمام السائق ليسرع في‬
‫سياقته‪ ،‬لكن الطريق كان مليئا باملياه والصابون اآلتية من تنظيف أحد‬
‫إلقاء اللوم على اهلل ‪701‬‬

‫املطاعم على جانبي الطريق‪ .‬ويبدو ّأن السائق ارتكب خطأ وأغلق‬
‫ّ‬
‫الفرامل‪ .‬فظلت الحافلة تنزلق نحو شاحنة واقفة جانبا‪ .‬فأصيب ثماني‬
‫عشر شخصا بجروح‪ ،‬ولقي جندي وفتاة في الخامسة من عمرها‬
‫مصرعهما‪.‬‬
‫ّ‬
‫وال أتذكر ّ‬
‫أي ش يء عن الحادث‪ ،‬على الرغم من أن املسعف الذي‬
‫ّ‬
‫شرع بإسعافي على الفور قال أنني بقيت على وعيي‪ .‬وأتذكر بعض‬
‫ّ‬
‫الشخصية‬ ‫األحداث البسيطة في املستشفى مثل إعطائي رقم بطاقتي‬
‫قصوا مالبس ي؛‬ ‫والدي‪ ،‬وأيضا عندما ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأرقام التليفونات لكي يخبروا‬
‫وأتذكر ّأمي كذلك وهي في طريقها من غرفة اإلفاقة إلى وحدة العناية‬
‫ّ‬
‫املركزة‪.‬‬
‫ولم يخبرونني أني خسرت ساقي إال بعدها بيوم‪ .‬فجاءت ّأمي إلى‬
‫ّ‬
‫سريري وسألتني إن كنت أعلم ما حدث‪ ،‬فأخبرتها أنه يوجد عطب ما في‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫رجلي‪ ،‬لكني ال أستطيع رؤيتهما ألني كنت نائمة على ظهري‪ .‬وال أتذكر أنني‬
‫جرائها‪ ،‬وذلك بسبب تأثير شتى أنواع‬ ‫أصبت بصدمة نفسية من ّ‬
‫ّ‬
‫املسكنات لتخفيف األلم‪ .‬وبقيت بوحدة العناية املركزة مل ّدة اثني عشر‬
‫الرغم من آالمي الشديدة‪،‬‬ ‫يوما‪ .‬وشعرت باالطمئنان في ذلك املكان على ُّ‬
‫ّ‬
‫لدرجة أنني لم أستطع رفع رأس ي من على وسادتي‪ ،‬وكنت أعاني من‬
‫ارتفاع في درجة الحرارة معظم الوقت‪ .‬فقد تمت رعايتي بصورة جيدة‪،‬‬
‫علي التعامل مع ش يء من هذا‬ ‫ولم يخطر ببالي وقتذاك أنه سيترتب ّ‬
‫القبيل‪ ،‬وكنت محاطة بكل الدعم والرعاية اللطيفة التي كنت أتمناها‪.‬‬
‫اليهودي الجديد‪ ،‬انتقلت إلى الجناح الخاص‬ ‫ّ‬ ‫لكن قبل حلول العام‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫التشوهات‪ّ .‬‬
‫وقرروا عند ذاك أنه لم يكن في اإلمكان املحافظة على‬ ‫بعالج‬
‫علي إجراء عملية ثانية لبتر رجلي فوق‬ ‫ّ‬
‫ركبتي اليمنى‪ ،‬وأخبروني أنه يجب ّ‬
‫الركبة مباشرة‪ .‬وكان هذا أصعب بكثير من احتمالي‪ ،‬وانفجرت في البكاء‬
‫عندما أخبرت أحد أصدقائي الذي أتى لزيارتي‪.‬‬
‫عملية الشفاء من الجراحة الثانية صعبة للغاية‪ .‬فقد عانيت‬ ‫كانت ّ‬
‫كثيرا والسيما من آالم وهمية في الرجل املفقودة ‪ .Phantom pain-‬وما‬
‫جعل املوقف أسوأ هو محاولة األطباء إقناعي أن مثل هذه اآلالم غير‬
‫‪ 701‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫موجودة باألساس‪ .‬وكانت فترة األربعة أسابيع هذه‪ ،‬فترة عجز بالنسبة لي‪.‬‬
‫فقد كنت مدركة لضعفي وعدم مقدرتي على رعاية نفس ي ّمما جعلني‬
‫غاضبة للغاية (كانت عائلتي وأصدقائي بجواري طوال الوقت)‪ .‬فقد كنت‬
‫مرة أخرى‪ .‬ولم‬‫شخصية مستقلة تماما‪ ،‬وفجأة رجعت مثل طفلة صغيرة ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫قواي لفعل األشياء التي اعتدت عليها من‬ ‫يكن من السهل أن استجمع‬
‫ّ‬
‫قبل التي لم أقلق بشأنها قط في السابق ألنها كانت أمور مسلم بها‪ ،‬أما‬
‫اآلن فصارت تبدو شبه مستحيلة‪.‬‬
‫ال أعلم كيف كانت لشخصيتي أن تكون لو لم يصبني هذا الحادث‬
‫ومن ثم أخوض تبعاته‪ ،‬لكني أعتقد أنه جعلني أقوى‪ .‬فعندما أدركت‬
‫حاجتي لآلخرين من حولي من جهة وأيضا ضرورة التعامل مع موقفي من‬
‫ّ‬
‫جهة أخرى تجل ْت لي بكامل الوضوح أهمية دور حياة الجماعة املتضافرة‬
‫ّ‬
‫من حولي‪ .‬فبدال من أن أشعر أني عديمة الفائدة ألني ال استطيع القيام‬
‫عينة‪ ،‬وجدت ّأنني عندما اعترف بحاجتي إلى املساعدة‪ّ ،‬‬
‫فإن هذا‬ ‫بأمور م ّ‬
‫يجعلني شخصا كامال أكثر وأكثر‪ .‬كنت من قبل أميل إلى االستعالء على‬
‫ّ‬
‫هؤالء املعاقين الذين ال يستطيعون الوفاء بمتطلبات الحياة بمفردهم‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫لكني اآلن تعلمت درسا جيدا في قبول اآلخرين كما هم من خالل تعلم‬
‫طلب املساعدة‪.‬‬

‫في حياتي الشخصية – يقول المؤلف ‪ -‬كان يتحتم ّ‬


‫علي باستمرار مواجهة‬
‫حاالت من اإلحباط والغضب وكنت أقوم أحيانا بإلقاء الالئمة على هللا‪ ،‬ففي‬
‫املرات كنت في رحلة صيد سمك في والية نيويورك ‪ -‬وكانت رحلة فاشلة‬‫إحدى ّ‬
‫ّ‬
‫فيما يتعلق بالصيد‪ ،‬لكنها كانت فرصة جيدة للهروب من ضغوط العمل‬
‫لبضعة ّأيام‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفي طريقي إلى املنزل‪ ،‬الحظت أنني بدأت أفقد صوتي‪ .‬فتجاهلت األمر في‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫يتحسن‪ .‬فذهبت إلى‬ ‫البداية متوقعا أنه سيتحسن خالل بضعة أيام‪ ،‬لكنه لم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصوتية‪ .‬وأكد لي أني‬ ‫األخصائي الذي شخص األمر بأنه شلل في الحبال‬
‫مرت أسابيع وشهور ولم يحدث ّ‬
‫أي تغيير‪ .‬وقد‬ ‫سأسترد صوتي الحقا‪ ،‬لكن ّ‬
‫إلقاء اللوم على اهلل ‪707‬‬

‫حتى بالهمس‪ .‬وتساءلت‪:‬‬‫تامة للصوت‪ ،‬ولم يكن مسموحا لي ّ‬ ‫وصف لي راحة ّ‬


‫"هل تراني سأتكلم ثانية؟"‬
‫ماسة إلى قيادة‬ ‫ّ‬
‫ومما زاد األمر سوء‪ ،‬أن مجتمع كنيستنا كان في حاجة ّ‬ ‫ّ‬
‫قوية في ذلك الوقت‪ .‬فقد ك ّنا في خضم أزمة ‪ -‬لقد كان وقت مليء بتفحص‬ ‫ّ‬
‫النفوس ‪ -‬وخالل تلك األسابيع من النقاش الساخن وأحيانا متخاصم لم أقدر‬
‫سوى الجلوس جانبا صامتا‪.‬‬
‫كان يلتهب صدري لهفا على االشتراك في تلك االجتماعات‪ ،‬لكنني لم‬
‫مرة أدرك حقا قيمة عطية الكالم‪ .‬وفي وسط إحباطي وخور‬ ‫أقدر؛ ّ‬
‫فألول ّ‬
‫علي أن أكتب ّ‬
‫كل‬ ‫عزيمتي لم يسعني حتى التكلم مع زوجتي وأوالدي‪ ،‬بل كان ّ‬
‫ش يء لهم‪ .‬كنت غاضبا بصراحة‪ .‬وباعتباري قسيسا ملجتمع كنيستنا‪ ،‬لم‬
‫أستطع أن أفهم أرجحيه إسكات هللا لي في زمن كان يحتاجني بصورة ّبينة‪.‬‬
‫وبعد ثالثة أشهر‪ ،‬بدأ صوتي يعود‪ ،‬وبعد مض ّي خمس سنوات أصبح‬
‫انس مطلقا تلك األسابيع االثني عشر‪ .‬فعندما أعود بذاكرتي‬ ‫يعيا‪ ،‬لكني لم َ‬‫طب ّ‬
‫إلى املاض ي‪ ،‬يمكنني أن أرى ّأن عجزي عن الكالم ساعدني أكثر على تنمية نظرة‬
‫مرنة ومتواضعة عن الحياة‪ .‬وتعلمت تدريجيا على إنعام النظر في إخفاقاتي‬
‫الشخصية وأيضا االستفادة اإليجابية القصوى من أي موقف معيب‪ .‬ويقرع‬
‫ذلك الوقت دائما في ضميري عند كل مرة أدنو أللوم هللا في لحظات األزمات‬
‫واإلحباط‪.‬‬

‫سيدة في أحد مجتمعات كنيستنا‬ ‫صارعت "أندريا ‪ "Andrea‬روحيا‪ ،‬وهي ّ‬


‫ْ‬
‫صارعت لقبول‬ ‫برودرهوف ‪ Bruderhof‬التي تعيش حياة مسيحية مشتركة‪،‬‬
‫ظروف مختلفة تماما‪ :‬فقد عانت من ثالث إسقاطات في الحمل قبل حصولها‬
‫على طفل سليم‪ .‬وفي بعض األحيان وجدت ّأن أعبائها ثقيلة جدا ال يمكنها‬
‫احتمالها‪ .‬فتقول‪:‬‬

‫غمرتنا السعادة أنا وزوجي "نيل" عندما اكتشفنا أنني حامل بعد حوالي‬
‫ستة أشهر فقط من زواجنا‪ ،‬لكن في إحدى الليالي قبل عيد امليالد‬ ‫ّ‬
‫‪ Christmas‬شعرت بألم ّ‬
‫حاد ازداد سوء بسرعة‪ .‬وأراد طبيب أخويتنا أن‬
‫‪ 708‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫يرسلني إلى املستشفى‪ ،‬وجاءت جارتي املمرضة لتبقى معي إلى أن ذهبنا إلى‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وأك ْ‬
‫دت املمرضة لي ما كنت أخشاه ‪ -‬وهو أنني قد أفقد طفلي‪.‬‬ ‫البلدة‪.‬‬
‫الجسدي الذي شعرت به‪ .‬ملاذا يا‬ ‫ّ‬ ‫وكان األلم النفس ّي قاسيا تماما كاأللم‬
‫هللا؟ ملاذا أنا؟ ملاذا ستأخذ تلك النفس الصغيرة بهذه السرعة؟ ما الذنب‬
‫الذي ارتكبته؟‬
‫ّ‬
‫ولغرض إنقاذ حياتي‪ ،‬تحتم إجراء عملية جراحية‪ .‬وفقدت الطفل‪،‬‬
‫وقضيت أسابيع السترد عافيتي‪ .‬يا له من عيد ميالد مختلف هذه املرة!‬
‫وكنا نعاني وحدنا من أملنا هذا‪.‬‬ ‫وتعذبنا كثيرا بسبب هذه الخسارة‪ّ ،‬‬
‫حظكما أفضل في ّ‬ ‫ُّ‬
‫املرة‬ ‫وعندما قال لنا أحد أقاربنا‪" :‬ابتهجا! فسيكون‬
‫التالية"‪ ،‬شعرت وكأنني تلقيت صفعة على وجهي‪ .‬حظ؟ أي حظ هذا؟‬
‫لقد فقدنا طفال توا! إنسان حقيقي! طفلنا!‬
‫والرب يأخذ‪ ،‬مبارك‬ ‫ُّ‬ ‫الرب يعطي‪،‬‬ ‫أرسل أحدهم بطاقة لي تقول‪ُّ " :‬‬
‫دمرني فعال‪ .‬فكيف لي أن أشكر هللا على هذه‬ ‫اسم الرب " غير أن هذا ّ‬
‫التجربة املؤملة والفظيعة؟ فلم أقدر‪ .‬ولم أتمكن من التوقف عن التفكير‬
‫بالرغم من عدم معرفتي بالسبب‪.‬‬ ‫في ّأن هللا كان يعاقبني بالحقيقة‪ُّ ،‬‬
‫املحبة‪ ،‬وليس إله العقاب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وعزاني راعينا الروحي قائال‪" :‬هللا إله‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫يتمسك‬ ‫فتمسكت بكلماته مثلما‬ ‫ّ‬ ‫وهو موجود ليخفف عن آالمنا‪".‬‬
‫بأي ش يء ليصل به إلى الشاطئ‪ .‬أما الدعم الحميم‬ ‫اإلنسان الغارق ّ‬
‫لزوجي "نيل" فبدا وكأنه عالمة مرئية ملحبة هللا هذه‪ ،‬واكتشفنا ّأن األلم‬
‫قد ربطنا معا بطريقة جديدة‪ .‬والعبارة التالية‪" :‬سيدوم البكاء طوال‬
‫ّ‬
‫الليل‪ ،‬لكن الفرح قادم في الصباح"‪ ،‬عزتني كثيرا وخففت عني‪ ،‬حتى‬
‫أحس بقدوم ذلك الفرح‪ ،‬وحينما كان يبدو أن الفجر لن يبزغ‬ ‫ّ‬ ‫حينما لم‬
‫بعد‪.‬‬
‫وتدريجيا مع الوقت وباملعونة الحميمة لهؤالء الذين يحيطون بي‬
‫من أخوة وأخوات من مجتمعنا املسيحي‪ ،‬استطعت أن أشعر ّأن تلك‬
‫يهتم بمعاناة‬‫محبة هللا‪ ،‬الذي ُّ‬ ‫التجربة املؤملة قد أعطتني ملحة عن ّ‬
‫الناس‪ ،‬الذي كان – وأنا على يقين تام – موجودا بقربي في آالمي‪ .‬وأصبح‬
‫حقيقيا‪ ،‬أكثر وأكثر بالنسبة لي‪ ،‬وبدأت أثق في ّ‬
‫محبته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هللا واقعا‬
‫إلقاء اللوم على اهلل ‪709‬‬

‫عدة شهور الحقة عندما كنت حامال في طفل آخر‪،‬‬ ‫لكن بعد ّ‬
‫ّ‬
‫وأتطلع بشوق ألن تسير األمور على ما يرام هذه ّ‬
‫املرة‪ ،‬حدث الش يء نفسه‬
‫حاد‪ ،‬ورحلة في سيارة اإلسعاف إلى املستشفى‪ ،‬وعملية‬ ‫مرة أخرى‪ .‬ألم ُّ‬ ‫ّ‬
‫إلنقاذ حياتي‪ .‬وهنا مرة ثانية‪ ،‬فقدنا أنسانا صغيرا وعزيزا فور تكوينه‪.‬‬
‫ومزق األلم قلبي‪ .‬وكتبت في مذكراتي‪" :‬ال يسعني أن أفهم السبب؛ وربما‬ ‫ّ‬
‫رحمت َك!"‬
‫لن أفهم أبدا‪ .‬أريد االطمئنان الذي ينعم به اإليمان – َ‬
‫وقف "نيل" معي جنبا إلى جنب في محنتي وبكل وفاء‪ ،‬وكان قد فقد‬
‫عدة سنوات‪ ،‬وكان ما كتبه عند تلك املرحلة‬ ‫أخته بسبب السرطان منذ ّ‬
‫ّ‬
‫مصدر تشجيع كبير لي‪" :‬إننا منفصلون عن هللا جسديا فقط‪ ،‬وربما ال‬
‫بكل ق ّوتي‪.‬‬ ‫تكون تلك املسافة كبيرة"‪ّ .‬‬
‫وتمسكت بهذه الكلمات ّ‬
‫تضاءلت تدريجيا أوجاعنا‬ ‫ْ‬ ‫مر األسابيع واألشهر التي تلت‪،‬‬ ‫وعلى ّ‬
‫وأحزاننا‪ ،‬بالرغم من أنها لم تفارقنا مطلقا بصورة كاملة‪ .‬وبعد سنة‬
‫يلد بعد‪ .‬وهنا أيضا‪ ،‬أكتنف قلبي أملا‬ ‫تقريبا فقدنا مرة أخرى طفال لم ْ‬
‫بالغا‪ ،‬لكنني لم أقم هذه املرة بأية محاوالت يائسة ملعرفة السبب‪.‬‬

‫واليوم "أندريا" ُّأم لطفلة جميلة عمرها ثماني سنوات‪ .‬وبالرغم من أنها ت ْد َمر‬
‫ّ‬
‫نفسيا وينتابها فيض من املشاعر حينما تتذكر حاالت الحمل الثالث األولى‪ ،‬إال‬
‫ّ‬
‫اإليجابي من معاناتها‪،‬‬ ‫أن قلبها خال من أي استياء‪ .‬وتحاول أن ترى الجانب‬
‫وتشعر أنها‪ ،‬وبفضل تلك املعاناة‪ ،‬صارت تحب زوجها بصورة أكثر وجدانية‬
‫فضال عن أنها جازت في الجحيم وعادت منه سوية مع زوجها‪ ،‬فتراها صارت‬
‫أيضا ّ‬
‫تثمن ابنتها بصورة أكبر مما لو لم ّ‬
‫تمر بتلك التجربة‪.‬‬

‫تزوج "جوناثان رودس ‪ "Jonathan Rhoads‬من "جريتشن ‪ "Gretchen‬في‬


‫ّ‬
‫عام ‪ ،0993‬ليؤسسا أسرة شابة في مجتمعنا املسيحي الذي يعيش حياة‬
‫مشتركة‪ .‬ومثلهما مثل أية عائلة جديدة‪ ،‬فقد انتظرا بشغف ميالد ّأول طفل‬
‫ّ‬
‫طبيعية‪ ،‬ولم يالحظ األبوين‬ ‫لهما‪ .‬وولد "آالن ‪ "Alan‬بعد فترة حمل كانت تبدو‬
‫وجود أشياء غير طبيعية على "آالن" إال بعد مغادرتهم للمستشفى‪ .‬فما كان‬
‫ُّ‬
‫الطفل يأكل جيدا‪ ،‬باإلضافة إلى ّأن تحكمه في عضالته كان ضعيفا‪ ،‬وكان يبقى‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫في مكانه بال حراك‪ ،‬وعندما كان يتنفس‪ ،‬كانوا يسمعون مرات صوت قرقرة‬
‫غريبة‪ .‬وجرى قبوله على الفور في إحدى املستشفيات الجامعية القريبة ّ‬
‫منا‪،‬‬
‫لكن مشاكله الصحية لم تتضح لألهل إال بعد بلوغه الثالثة أشهر؛ فقالوا‬
‫األطباء أن هناك احتمالية عدم قدرته على املش ي والتكلم بقية عمره‪ ،‬هذا وقد‬
‫ّ‬
‫طبيعية في الورك‪ ،‬والدماغ‬ ‫كان مكفوفا؛ وكانت هناك أمور واضحة وغير‬
‫واألذنين واملعدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نفسيا‪ ،‬فقد ظال لفترة طويلة يشكان في وجود‬ ‫والدي "آالن" فتحطموا‬ ‫أما‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫علة معينة في طفلهما‪ ،‬لكنهما لم يتوقعا مطلقا أن يكون األمر بهذا السوء‪ .‬وقد‬
‫يمر وقت طويل حتى بدءا في اتهام هللا‬ ‫بدءا على الفور في اتهام نفسيهما‪ ،‬ولم ّ‬
‫قائلين‪" :‬ملاذا نحن؟"‬
‫ّ ّ‬
‫وأخبرني "جوناثان" في أحد املرات أنه كان غاضبا‪ ،‬لكن عند مسائلته لم‬
‫وجه له غضبه‪ .‬هل هو نفسه؟ أم‬ ‫حدد ذلك الشخص الذي ي ّ‬ ‫يستطع أن ي ّ‬
‫زوجته؟ أم ّ‬
‫األطباء؟ أم هللا؟ نعم‪ ،‬ربما هللا‪ .‬إال أنه لم يعرف السبب‪ .‬فقد قال‪:‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫من األشياء التي تتعلمها بسرعة هي أال تقارن طفلك بأطفال اآلخرين‪.‬‬
‫فطفل جارنا في حجم "آالن" لكنه في ثلث عمره‪ .‬وهو ال يجد ّأية مشكلة‬
‫في شرب الحليب من زجاجته خالل خمس عشر دقيقة‪ّ .‬أما نحن فعندما‬
‫ّ‬
‫يشرب "آالن" سنتيمترا واحد من الزجاجة‪ ،‬فإننا نشعر بانتصار كبير‪.‬‬
‫فإما ّأن هللا يكرهنا‪ ،‬أو ّأن هذا هو ما أراده هللا‬
‫ملاذا؟ ال يوجد ما نقوله‪ّ .‬‬
‫فعال لطفلنا "آالن"‪ .‬وقد ال نعرف أبدا السبب‪ ،‬لكن إن امتألت أحشاؤنا‬
‫بغضا واستياء‪ ،‬فسوف نقتل بذلك كل األفراح التي قد ننالها‪.‬‬

‫ّ‬
‫وعندما جاءا لي باحتياجهما‪ ،‬أكدت لكل من "جوناثان" و "جريتشن" على ّأنهما‬
‫بأي صورة من الصور ‪ -‬عن معاناة ابنهما‪ .‬وأخبرتهما ّأن ّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫مسئولين ‪ّ -‬‬ ‫ليسا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عطية من هللا‪ ،‬وأن "آالن" ربما يكون ّ‬
‫طفل هو ّ‬
‫عطية خاصة للغاية‪ ،‬ألننا عن‬
‫ّ‬
‫قيمة عن الصبر والحنان‪ .‬فهو يذكرنا باألمور ّ‬ ‫ّ‬
‫نتعلم دروسا ّ‬
‫الهامة في‬ ‫طريقه‬
‫الحياة‪ ،‬وينشلنا من سباق الجرذان (بمعنى التنافس العنيف األحمق في‬
‫الحياة)‪ ،‬ويساعدنا على ترتيب أ ّ‬
‫ولوياتنا بطريقة سليمة‪ ،‬مثله مثل كل األطفال‬
‫إلقاء اللوم على اهلل ‪717‬‬

‫الخاصة‪ .‬فاألطفال أمثال "آالن" لهم القابلية على استخراج‬ ‫ّ‬ ‫ذوي االحتياجات‬
‫ما هو األفضل في داخلنا‪ ،‬ويعيدون اتصالنا مع إنساننا الداخلي الحقيقي‪.‬‬
‫وما زال والدي "آالن" يجاهدان ألن يغفرا‪ .‬فهو ليس أمرا سهال‪ .‬فأحيانا‬
‫يتمكنا من مواجهة ائر آخر ي ّ‬ ‫ّ‬
‫قدم لهما كلمات‬ ‫ز‬ ‫يريدان الهروب‪ ،‬عندما ال‬
‫عطف بال معنى‪ ،‬أي بمعنى مجرد كالم فيه مجامالت خالية من اإليمان وال‬
‫ّ‬
‫يعزي الروح‪.‬‬
‫فإن والديه يواجهان مستقبال‬ ‫األول‪ّ ،‬‬‫وباقتراب "آالن" من عيد ميالده ّ‬
‫ّ‬
‫مجهوال‪ .‬وكانت آخر التطورات أنه كان عليه أن يركب خراطيم للتنفس‬
‫كل ذلك‪ ،‬كان عليه استئصال‬ ‫االصطناعي وأنابيب من أجل إطعامه‪ ،‬وفوق ّ‬
‫الزائدة‪ .‬فكم من العذابات يلزمه أن ّ‬
‫يتحمل بعد؟‬
‫ّ‬
‫وفي عاملنا الذي يدعو إلى "التشخيص املبكر" (و "إنهاء الحمل" وهو‬
‫منمق بديل عن كلمة إجهاض) كإجراء لتفادي حاالت األطفال‬ ‫مصطلح ّ‬
‫لكل طفل في العالم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الجوهرية ّ‬ ‫ّ‬
‫والدي "آالن" عن القيمة‬ ‫شوهين‪ ،‬يشهد‬ ‫امل ّ‬
‫ّ ّ‬
‫وراثي‪ ،‬وإنما هو إنسان لديه الكثير‬ ‫ويقولون أن "آالن" ليس مسألة شذوذ‬
‫وإنهما ليسا على استعداد ألن يسمحا له أن يموت‪ .‬وتكتب األم‬ ‫ليقوله لنا‪ّ ،‬‬
‫"جريتشن" قائلة‪:‬‬

‫تمتد يده الصغيرة لتصعد عبر األسالك املتشابكة بحثا عن خدي‪.‬‬


‫تتحرك جفونه قليال ويعطيني ابتسامة‬ ‫ّ‬ ‫وعندما انحني ألرفعه من سريره‪،‬‬
‫عريضة هادئة‪ ...‬وفي خالل األشهر األحد عشر األولى بعد والدته‪ ،‬كان‬
‫مرات؛ ّأما عدد زيارات العيادات فلم‬ ‫"آالن" قد دخل املستشفى خمس ّ‬
‫نعد نحصيها‪ .‬وفي ّ‬
‫كل ّ‬
‫مرة كنا نعود فيها إلى املنزل‪ ،‬يكون في داخلنا املزيد‬
‫من األسئلة والقليل من األجوبة؛ ومزيدا من الدموع‪ ،‬ويقينا أقل‪ .‬لكن‬
‫يشد نفسه باتجاهي وينظر حواليه بح ّب االستطالع‪،‬‬ ‫عندما كان الطفل ّ‬
‫علي َبلسما لقلبي‪.‬‬
‫فقد كان يبتسم‪ .‬ورضاه ّ‬
‫ما مدى األلم الذي يمكن أن يحتمله؟ وما هي العقبات الجديدة‬
‫التي تنتظرنا؟ لسنا نعلم بالتحديد‪ .‬فقد أزال خرطوم التنفس االصطناعي‬
‫ّ‬
‫بعض املغامرات الصغيرة التي كنا نتطلع لها مثل األكل بقنينة الحليب أو‬
‫‪ 710‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫حتى بعض الطعام القو ّي‪ .‬فلم تعد هناك قرقرات ضحك منه‪ ،‬وال ّ‬
‫حتى‬ ‫ّ‬
‫صرخات بكاء اإلحباط‪.‬‬
‫ّ ّ‬
‫األطباء أنه لو عاش‪ ،‬فقد ال يحتاج إلى تلك الخراطيم‪ .‬هذا‬ ‫ويخبرنا‬
‫ْ‬
‫"لو عاش!"‪ .‬مزقت هذه الكلمات فؤادينا‪ ،‬لكن ابتسامته ال تزال تعطينا‬
‫ّ‬
‫أمال‪ .‬فهو ي ِعلمنا القبول – ومن ثم الغفران ‪ -‬ك ّل يوم‪.‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬

‫تـأثـيـر الـغـفـران يـنـتـشـر مـثـل‬


‫الـمـوجـات الـمـائـيـة‬

‫قاس ُ‬
‫ومف ِزع باملقارنة مع املحبة الحاملة‪ .‬فمحبة‬ ‫َّ ُ‬
‫إن املحبة العملية أمر ُ‬
‫عاجل وأمام أنظار‬ ‫ّ‬
‫األحالم طماعة‪ ،‬حيث تطمع في تنفيذ فوري‪ ،‬وأداء ِ‬
‫ُ‬
‫ل عذاب املحنة‪...‬مع‬‫ن لبذل نفوسهم إن لم يط ُ‬ ‫الجميع‪ .‬والناس مستعدو ُ‬
‫مشاهدة وتصفيق الجميع‪ .‬أما املحبة العاملة فهي عبارة عن جه ُود مبذولة‬
‫وصبر وثبات‪.‬‬

‫قول من‬
‫فيودور دوستويفسكي ‪Fyodor Dostoevsky‬‬
‫وهو من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العامليين‬

‫لسنوات عديدة‪ ،‬وكلما أسمع أسم البلد رواندا يكون رد فعلي فوري‪.‬‬
‫فتخطر على بالي املذابح الجماعية‪ ،‬ومعها صور مروعة من عام ‪ 0994‬عندما‬
‫يت قرى بأكملها عن الوجود في مجزرة ت َعد من أسوأ املجازر في التاريخ‬‫مح ْ‬
‫ِ‬
‫املعاصر‪ .‬أما اليوم فيخطر على بالي أمر مختلف تماما عند سماعي بهذا البلد‪.‬‬
‫إنها املغفرة وقدرتها العجيبة على شفاء حتى أكثر فصول التاريخ اإلنساني‬
‫ّ‬
‫والتغير في رد فعلي جاء في عام ‪ 3111‬بعد مقابلة "جان بولس سامبوتو‬ ‫ظلمة‪.‬‬
‫‪."Jean-Paul Samputu‬‬
‫ّ‬
‫فقد كان "جان بولس" موسيقيا على مستوى عالمي وذو جدول أعمال‬
‫مكثف‪ ،‬وكان ي َشبه باملغني الشهير "بولس سايمون ‪ ،"Paul Simon‬وقد ّ‬
‫غنى في‬
‫‪133‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫كل مكان‪ ،‬بدء من أرياف أفريقيا وانتهاء بمركز "لنكولن ‪"Lincoln Centre‬‬
‫للفنون في مدينة نيويورك‪.‬‬
‫وقد فاز بالعديد من الجوائز الفخرية‪ ،‬منها جائزة "كورا ‪"Kora Award‬‬
‫الذائعة الصيت‪ ،‬لكن الذي لفت انتباهي هو ليس موسيقاه‪ ،‬وإنما رحلته من‬
‫الغضب والحقد إلى املغفرة والفرح‪ ...‬فها هو يحكي لنا‪:‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫تأملوا هذا‪ ،‬لقد جرى ق ْتل مليون شخصا في غضون تسعين يوما! فق َت َل‬
‫األصدقاء أصدقائهم‪ ،‬واإلخوة إخوتهم‪ ،‬واألخوات أخواتهن‪ ،‬واألوالد‬
‫أهاليهم‪ ،‬واألزواج زوجاتهم‪...‬‬
‫وفي خضم ذلك الوقت‪ ،‬كنت أتجول في‬
‫دولة بوروندي وأوغندا – وألني كنت شهيرا في‬
‫رواندا‪ ،‬نصحني أبي بالهرب من البلد‪ ،‬لكنني‬
‫رجعت إلى بلدي في شهر تموز من عام ‪0994‬‬
‫عند نهاية املذابح‪.‬‬
‫وكنت أعلم سلفا أن والداي قد لقيا‬
‫مصرعهما – فكانا قد قتال في شهر أيار في‬
‫قريتنا "بوتير ‪ "Butare‬التي تقع جنوبي‬
‫العاصمة‪ .‬كما قتل ثالثة من أخواني‪ ،‬وأختي‬
‫التي كانت بعمر ‪ 24‬سنة‪ .‬فقد كان األمر فظيعا للغاية‪.‬‬
‫كانت عائلتي من قبيلة "توتس ي ‪ ،"Tutsi‬وكان جيراننا قد شرعوا في‬
‫قتل أبناء قبيلتنا‪ .‬وكنت أعتقد أن أختي بأمان ألنها كانت متزوجة من‬
‫تجر األمور كما‬ ‫رجل من قبيلة "هوتو ‪ ،"Hutu‬لكن بالحقيقة لم ِ‬
‫اعتقدت‪ .‬فقد قتلوها شيئا فشيئا‪ ،‬وملدة ثالثة أيام‪ .‬هناك الكثير من‬
‫األمور التي ال أقوى على الحديث عنها‪...‬‬
‫وعندما رجعت إلى رواندا‪ ،‬سافرت إلى قرية "بوتير"‪ ،‬وذهبت إلى‬
‫منزل والدي‪ .‬لقد كان فارغا‪ .‬بحثت عن الجيران‪ .‬لم يكن هناك أحد‪.‬‬
‫وأي رائحة! أخيرا عثرت على بعض الناجين‪،‬‬ ‫كانت الجثث في كل مكان‪ّ .‬‬
‫َ‬
‫وعرفت َم ْن قتل والداي‪ .‬كان أفضل أصدقاء الطفولة‪" ،‬فينسنت‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪711‬‬

‫‪ ."Vincent‬فقد ترعرعنا سوية‪ ،‬ولعبنا الكرة سوية‪ .‬فأنشل لساني من‬


‫الصدمة؛ فقد دمرتني األحداث كليا‪.‬‬
‫في الواقع‪ ،‬لقد فقد كل واحد من قبيلة توتس ي فردا من عائلته في‬
‫عام ‪ ،0994‬لكن بمجرد التفكير أن والداي قد قتلوا على يد ّ‬
‫أعز‬ ‫ِ‬
‫أصدقائي!‪ ...‬كنت أفقد صوابي‪ .‬وبدأت أتعاطى الكحول واملخدرات‪.‬‬
‫َ‬
‫فصرت أشرب قنينة كاملة من الجن األفريقي "واراجي ‪ "Waragi‬كل يوم‪.‬‬
‫وكنت أتعجب من سبب عدم موتي من جرائها‪ .‬أما اآلن فأنا أعرف‬
‫السبب‪.‬‬
‫وفي السنين التسع التي تلت‪ ،‬كنت أعيش مذهوال‪ .‬فالغضب واأللم‬
‫واالستياء ّأدوا إلى دمار شامل لي‪ .‬فكانت هناك حرب مشتعلة في داخلي‪،‬‬
‫وتمزقني‪ .‬ولم أعد بعد قادرا على الغناء‪ ،‬ألنني كنت ثمال باستمرار‪ .‬فلم‬
‫أقدر على إجراء العقود املوسيقية؛ ولم أكن مستعدا للمثول على املسرح‬
‫الغنائي‪.‬‬
‫ذهبت إلى أوغندا‪ ،‬وحاول األصدقاء مساعدتي‪ .‬فجاءوا بي إلى طبيب‬
‫ساحر‪ ،‬الواحد بعد اآلخر‪ ،‬لكن لم يفدني ش يء‪ .‬وكنت غاضبا على نفس ي‬
‫كنت يا هللا؟" وصرت أسأله وأسأله مرات ومرات‪" .‬كيف‬ ‫وعلى هللا‪" .‬أين َ‬
‫تسمح ملثل هذه األمور أن تحدث؟"‬
‫كانت زوجتي "كلوديا" حامال آنذاك‪ .‬والطفلة التي جاءتنا كانت‬
‫ّ‬
‫عصبية‪ .‬وأخذت ألوم هللا‪ .‬وبحصولنا‬ ‫ّ‬
‫معوقة جدا‪ .‬األمر الذي جعلني أكثر‬
‫على تلك الطفلة ّ‬
‫املعوقة ّ‬
‫تدمرنا كالنا‪ ،‬أنا وزوجتي‪ ،‬وأخذ أحدنا يتهم‬
‫اآلخر‪...‬‬

‫ْ‬
‫انتقلت عائلة "سامبوتو" إلى كندا في عام ‪ .0991‬واستقرت العائلة في مونتريال‪،‬‬
‫حيث كانت تقطنها جالية كبيرة من الروانديين املهاجرين‪ ،‬ثم جاءهم طفل‬
‫ّ‬
‫آخر‪ .‬وفي عام ‪ 3111‬تطلق الزوجان‪ .‬وعاد "جان بولس" إلى أفريقيا‪ .‬فيردف‬
‫قائال‪:‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ذهبت إلى أوغندا – كنت نجما غنائيا هناك – وأقمت عرضا غنائيا كبيرا‬
‫هناك‪ .‬وكسبت ماال كثيرا مرة ثانية‪ .‬وبسبب إدماني على الشرب‬
‫واملخدرات‪ ،‬كان األمر ينتهي بي دائما في السجن‪ .‬فصرت أدخل وأخرج‬
‫من السجون‪ ،‬مرة بعد أخرى‪ .‬واآلن أعرف جميع السجون هناك؛ فقد‬
‫قضيت فترة في كل منها‪.‬‬
‫أخيرا‪ ،‬دفع أخي مبلغا ضخما إلطالق سراحي‪ ،‬وذهبت معه إلى كينيا‬
‫حيث يسكن‪ .‬وبينما أنا هناك‪ ،‬زارنا صديق لعائلة زوجته الذي كان‬
‫مسيحيا إنجيليا ويدعى موس ى‪ .‬وقال أنه جاء من أجلي – وأن هللا أوعز‬
‫إليه ليجدني ومن ثم يصلي من أجلي‪.‬‬
‫كنت مترددا‪ ،‬لكنني أصغيت إليه‪ ،‬وبعدئذ سمحت له أن يصلي‬
‫علي‪ .‬وبصراحة‪ ،‬كنت مستعدا ألي ش يء وقتذاك‪ ،‬فلم يكن لي أي خيار‬
‫آخر‪ .‬إذ لم ينجح أي ش يء آخر معي‪.‬‬

‫ّ‬
‫كانت صالة موس ى جبارة‪ .‬فقد أعانني على التغلب على إدمان‬
‫الكحول واملخدرات عندما أمر الشياطين بمغادرتي‪ .‬فصلى هكذا‪:‬‬
‫ّ‬
‫أحس‬ ‫"اخرجوا منه‪ ،‬باسم يسوع‪ ".‬وكلما كان يذكر أسم يسوع كنت‬
‫بش يء غريب‪ .‬فكنت غالبا ما أسقط أرضا‪ ،‬وأحيانا كنت حتى أتقيأ‪ .‬فمن‬
‫الصعب أن أوصف املوقف‪ .‬فكل ما يسعني قوله هو أنه في كل مرة كان‬
‫ص ّدق‪.‬‬
‫ذلك الرجل يصلي‪ ،‬كانت صالته جبارة بشكل ال ي َ‬
‫في البداية قلت له‪" :‬إنك أحسن من أفضل طبيب ساحر عرفته‪".‬‬
‫(فكان هذا كل ما عرفته عن املوضوع) فضحك وقال‪" :‬كال‪ ،‬أنا لست‬
‫أصر على أنه لم يقم بأي ش يء سوى‬ ‫بطبيب ساحر"‪ .‬وعندما شكرته‪ّ ،‬‬
‫الصالة‪" .‬ال تشكرني أنا‪ ،‬فأنا لست الطبيب الذي شفاك‪ .‬إنه يسوع"‪.‬‬
‫وعلى الفور صار قلبي ّيتقد شوقا ليسوع‪ .‬وأردت معرفة املزيد عنه‪ ،‬ومن‬
‫هو‪ .‬وبعد ثالثة أشهر توقفت عن الشرب‪ ،‬وانقطعت عن املخدرات‪.‬‬

‫ْ‬
‫كتبت كل‬ ‫ذهبت إلى أوغندا في عام ‪ .3112‬واآلن أنا مسيحي‪ ،‬وقد‬
‫ْ‬
‫فعلت سابقا عندما ذهبت إلى السجن‪ .‬فكانت قصة‬ ‫الصحف عني‪ ،‬مثلما‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪717‬‬

‫غير حياته"‪" .‬سامبوتو يؤمن بالصالة"‪ .‬أما أنا فذهبت‬ ‫كبيرة‪" :‬سامبوتو ّ‬
‫إلى جبل "سيجوكو ‪ "Sseguku‬وهو أشهر جبل في أوغندا للصالة‪ .‬فالناس‬
‫يقصدونه من كل حدب وصوب ليكونوا مع هللا‪ .‬وقضيت ثالثة أشهر‬
‫محاوال أيجاد يسوع‪.‬‬
‫صليت وصليت كثيرا على جبل "سيجوكو"‪ ،‬وسألت هللا جميع‬
‫أسئلتي‪ .‬كنت أتلقى الجواب نفسه‪ .‬فكان الجواب يأتيني في األحالم‪ ،‬عن‬
‫طريق صوت وكأني كنت أتحدث معه‪ .‬وحدث هذا الش يء ليلة بعد ليلة‪،‬‬
‫والرسالة كانت دائما ذاتها‪" :‬يجب عليك أن تغفر"‪.‬‬
‫كنت أذهب إلى الكنيسة هناك على الجبل‪ ،‬وكنت أسمعهم‬
‫يوعظون باملوضوع نفسه‪ .‬وأنا شخصيا لم أرد أن أسمعه‪ ،‬لكن لم يكن‬
‫هناك أي مفر منه‪ .‬وصرت أسمع هذا الصوت مرات ومرات في نومي‬
‫يقول لي‪" :‬ستشفى بمجرد أن تغفر لآلخرين"‪ .‬على أني تابعت العناد‬
‫واملقاومة لسنة أخرى في األقل‪.‬‬

‫وهنا أيضا‪ ،‬فبالرغم من أنني كنت مسيحيا وتركت الشرب ولم‬


‫أتعاط املخدرات بعد‪ ،‬إال أنني لم أكن قد ّ‬ ‫َ‬
‫تحررت أو شفيت بالكامل‪.‬‬
‫كنت "على ما يرام" إلى حد ما‪ ،‬لكن ما زال كان هناك استياء في صميم‬
‫كياني‪ .‬فهذه كانت املشكلة‪ ،‬ألنه ال يكفي أن تكون مسيحيا‪ ،‬أو حتى أن‬
‫تحفظ الكتاب املقدس كله‪ .‬فهذا مجرد نصف البرنامج‪ .‬فما يهم هو أن‬
‫تعيش ما تعرفه صائبا – أي أن تعيش ّ‬
‫الحق‪.‬‬
‫كان يعني هذا في نظري أمر واحد ال غيره وهو أن أذهب وأسدد‬
‫ديوني في كل مكان‪ .‬فكان يلزمني أن أطلب املغفرة والعفو من حيث قد‬
‫أسأت إلى اآلخرين‪ .‬كان يلزمني أن أغفر ل ـ "فنسنت"‪ ،‬وأن أغفر لزوجتي‪.‬‬
‫كانت معركة صعبة‪ .‬فكنت دائما ّ‬
‫أرد ال‪ .‬ال! واستغرق األمر شهورا‪.‬‬
‫علي أن‬‫إلى أن جاء يوم عندما أحسست فيه أني ال أحتمل بعد‪ .‬فكان ّ‬
‫أتنازل‪ ،‬وأقول نعم‪ .‬فقلت في نفس ي‪ :‬أنا جاهز‪ ،‬اآلن‪ ،‬وفي الحال‪ ،‬ألغفر ل ـ‬
‫تحررت – وشفيت بالكامل‪ ،‬وتم كسر قيود‬ ‫"فنسنت"‪ .‬وملا فعلت ذلك ّ‬
‫كل ش يء من املاض ي‪ .‬ودخل السالم إلى قلبي‪ .‬وحدث كل هذا بسبب‬
‫‪ 718‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫جوابي لذلك الصوت عندما قلت نعم‪ .‬واتصلت تلفونيا مع زوجتي‪.‬‬


‫وذهبت ألبحث عن "فنسنت"‪ .‬كان في السجن‪ ،‬لكني وجدت زوجته‬
‫" َرجينة"‪ ،‬وطلبت منها أن تقول لزوجها "فنسنت" أنني قد غفرت له‪...‬‬

‫عندما طلبت من "جان بولس" تحديد بالضبط األمر الذي دفعه ليغفر‬
‫ّ‬
‫يتحول إلى قاتل‪.‬‬ ‫لصديقه القديم‪ ،‬قال أنه بدأ يقلق من أنه هو نفسه صار‬
‫كما مبين فيما يلي‪:‬‬

‫أؤاذ أحدا‬
‫أحمد هللا على أنني لم أجد "فنسنت" قبل هذا الوقت‪ .‬فأنا لم ِ‬
‫طوال عمري‪ ،‬إال أنني كنت‪ ،‬بعد هذه املذابح‪ ،‬عاقد النية على أذية‬
‫"فنسنت" في قرارة فكري‪ .‬فكنت في طريقي لقتله‪ .‬وحتى لو لم أكن قادرا‬
‫على فعلها بنفس ي‪ ،‬كنت ناويا على أن أطلب من أحدهم ليقتله‪ .‬فهذا ما‬
‫يأخذنا الحقد إليه‪ :‬حيث ينتهي األمر بك لتصير قاتال أنت نفسك‪ ،‬حتى‬
‫لو لم يكن لديك أية فكرة عن كيفية القتل‪.‬‬
‫وأخيرا عندما غفرت لـ "فنسنت" بالفعل‪ ،‬أستصعب "فنسنت"‬
‫تصديق األمر‪ .‬فقال لزوجته‪" :‬كيف له بحق السماء أن يفعل ذلك؟ بعد‬
‫كل الذي فعلته معه؟" وكان كل ظنه أنها خدعة‪ ،‬ومجرد حيلة سياسية‪.‬‬
‫إال أن زوجته قالت له‪" :‬لقد تكلمت مع ‘سامبوتو‘‪ .‬وإن لم تقبل مغفرته‪،‬‬
‫فهذه مشكلتك‪ ،‬لكن دعني أن أقول لك شيئا‪ّ ،‬إن الذي يغفر لك هو‬
‫ليس ‘سامبوتو‘ بل هللا‪ّ .‬إنها النعمة اإللهية"‪.‬‬
‫َ َ‬
‫صدقني "فنسنت" أخيرا‪ ،‬وخلق هذا األمر شيئا عجيبا‪ .‬فقد كانت‬
‫زوجته سابقا ال تسمح له بالرجوع إلى البيت‪ .‬فلم تقدر أن ترى نفسها‬
‫تعيش مع قاتل غير تائب‪ .‬أما عندما قبل "فنسنت" مغفرتي له (ألنه قد‬
‫رأى أن هللا فعال كان وراء كل ش يء) صار في مقدوره التوبة ومسامحة‬
‫غفرت له زوجته " َرجينة" أيضا‪ .‬فقالت له‪" :‬إن غفر هللا‬‫ْ‬ ‫ذاته‪ .‬بعد ذاك‪،‬‬
‫ّ‬
‫لك عن طريق ‘سامبوتو‘‪ ،‬فيجب علي أنا أيضا أن أغفر لك"‪ .‬وغفر له‬
‫أيضا جميع أوالده‪ .‬وهو اآلن ينعم في بيته‪ .‬وأسرته جميعها معا‪ .‬وعندما‬
‫أزورهم أتناول الطعام سوية معهم‪ .‬فهكذا تعمل ّ‬
‫قوة املغفرة‪.‬‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪719‬‬

‫جان بولس مع صديقه فنسنت بعد تصالحهما‬


‫ّ‬
‫والتغيرات التي طرأت على حياة "جان بولس" ّ‬
‫جمعت أسرته كذلك‪ .‬فقد‬
‫عاد "جان بولس" إلى أسرته في كندا في عام ‪ .3113‬فاسمعوه يقول‪:‬‬

‫منذ ذلك الوقت حدثت عجائب كثيرة في حياتي‪ .‬فقد تكلم هللا معنا من‬
‫خالل فم مربية أبنتنا ّ‬
‫املعوقة‪ ،‬التي ّبينت لنا أن بنتنا ليست بنت كسيحة‬
‫وإنما مالك‪ .‬فقالت لنا‪" :‬لقد خلق هللا بنتكما كلوديا‪ ،‬وفي نظره ال يوجد‬
‫أي عطب فيها‪ .‬وأنتما تشعران بالغم من طفلة كهذه‪ .‬حتى أنكما ال‬
‫تريدان النظر إليها‪ .‬واألولى بكما أن تفتخرا بها"‪.‬‬
‫وفي املرة القادمة التي ذهبت فيها لزيارة "كلوديا" (فهي لم تكن قادرة‬
‫على السكن معنا‪ ،‬بل كانت تسكن في قسم خاص) بكيت‪ ،‬وشاهدني أبني‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫أبكي‪ .‬فسألني‪" :‬ملاذا تبكي؟" بعد ذلك صلينا معها‪ .‬وأخيرا تمكنت من أن‬
‫أقر وأقول‪" :‬لقد أنعم ّ‬
‫علي هللا فعال بهذه الطفلة"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫أحس أن هللا بالحقيقة قد باركني‬ ‫ّ‬ ‫وبفضل مربية "كلوديا" بدأت‬


‫عندما ر ِزقنا بمثل هذه البنت‪ .‬واليوم‪ ،‬وبدال من إلقاء التهم أحدنا على‬
‫اآلخر بسبب حال بنتنا‪ ،‬أدركنا أنا وزوجتي أن بنتنا هي كنز ال يقدر بثمن‪.‬‬
‫وأعلم اآلن سبب عدم موتي عندما كنت أحاول قتل نفس ي باملخدرات‬
‫والشرب‪ .‬فقد حفظني هللا ألكون والدا للعائلة‪.‬‬

‫وبمقتضى ما تبرهنه قصة "جان بولس" (مثلما تفعل جميع قصص هذا‬
‫الكتاب)‪ ،‬فإن الغفران يعتبر مسألة شخصية بحتة‪ .‬فكل ّ‬
‫منا يجب عليه أن‬
‫يجد شفاء داخليا‪ ،‬بأساليبنا الشخصية‪ ،‬وفي الزمن الذي نعيش فيه‪ .‬أما على‬
‫صعيد آخر‪ ،‬فإن الغفران هو أكثر من ذلك‪ .‬فحتى لو كان الغفران في مقدوره‬
‫أن يربط الناس بعضها ببعض‪ ،‬إال أن تأثيره يشبه "تأثير املوجة" الذي يمكن‬
‫أن نلمسه على نطاق أوسع بكثير‪ .‬وفي الحقيقة والواقع‪ ،‬يمكن للغفران أن‬
‫يغير ّ‬
‫ويقوي جماعات من‬ ‫يكون قوة اجتماعية مقتدرة‪ ،‬فهو له القدرة على أن ّ‬
‫الناس بأكملها‪.‬‬

‫فنرى في تاريخ العالم كيف كان كل من دور "مارتن لوثر ِكنج" في حركة‬
‫الدفاع عن حقوق اإلنسان في الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬ودور "غاندي" في‬
‫صراع الهند من أجل االستقالل املثالين األكثر معروفين في موضوع تأثير‬
‫الغفران على نطاق واسع‪ ،‬لكن هناك الكثير من األمثلة غيرهما‪ .‬فيمكننا كتابة‬
‫مجلدات عن دور "هيئة الحقيقة واملصالحة" في دولة جنوب أفريقيا‪ ،‬وعن‬
‫َ‬
‫وتحت رعايتها‬ ‫جميع جلسات التحقيق التي عقدتها في أواسط التسعينيات‪.‬‬
‫وإرشادها‪ ،‬صارت املئات من كل من الضحايا وأيضا من مرتكبي جرائم سياسة‬
‫التفرقة العنصرية الوحشية للبلد‪ ،‬صارت تتدفق ملواجهة املاض ي املرير‪ ،‬أمال‬
‫في شفائها وبناء مجتمع جديد أكثر استقرار‪.‬‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪717‬‬

‫سافرتُ مع زوجتي إلى إيرلندا الشمالية في عام ‪ 0999‬وكذلك في عام‬


‫‪ ،3111‬كمشتركين في رحلة خاصة سميت بـ "رحلة من أجل السالم" وقابلنا‬
‫املئات من الناس – وحتى املئات من الصغار الذين كانوا أكثر حماسة – حيث‬
‫اجتمعوا كلهم ليشفوا جراح تلك املنطقة التي كانوا يسمونها "اضطرابات"‬
‫وذلك عن طريق ترويج الحوار واملصالحة ما بين املواطنين الكاثوليك‬
‫والبروتستانت‪.‬‬

‫بعد حوالي عشرة أعوام‪ ،‬حدث الش يء ذاته في رواندا‪ .‬خذوا على سبيل‬
‫املثال بلدة "نياماتا ‪ "Nyamata‬التي تقع جنوبي العاصمة كيغالي‪ .‬فعندما بدأت‬
‫املذابح الجماعية في ربيع عام ‪ ،0994‬وجد كل من "موكامانا" – فتاة من قبيلة‬
‫توتس ي – و "أزيري" – مزارع من قبيلة هوتو – وجدا نفسيهما في معسكرات‬
‫ّ‬
‫متضادة‪.‬‬
‫ففي أحد أيام الربيع عندما عادت "موكامانا" إلى البيت راجعة من البئر‬
‫لجلب املاء‪ ،‬وجدت أن عائلتها كلها قد تم قتلها وتقطيعها أربا أربا باملدية (آلة‬
‫فرت إلى دولة بوروندي املجاورة‪.‬‬‫الحش)‪ .‬فاختبأت بأحد الحقول‪ ،‬ومن ثم ّ‬ ‫ّ‬
‫و "أزيري" املزارع لم يشترك في هذه املجزرة بالذات‪ ،‬لكنه قد اعترف‬
‫الحقا بقتل آخرين في املنطقة نفسها‪.‬‬
‫أما اليوم‪ ،‬فيعيش االثنان كالجيران‪ ،‬حتى أنهما يذهبان إلى الكنيسة‬
‫نفسها أيام اآلحاد‪ .‬وقال "أزيري" ألحد الصحفيين من ‪ IRIN‬وهي شبكة‬
‫املعلومات اإلنسانية التابعة لألمم املتحدة‪" :‬إن بعضنا يساعد بعضا‪ ".‬كما‬
‫أضاف قائال‪" :‬حينما يمرض واحد من جيراننا‪ ،‬نزوره في البيت"‪ .‬حتى أنه يشير‬
‫إلى ش يء أكثر أهمية قائال‪" :‬وصار أوالدنا أصدقاء"‪.‬‬
‫ويعيش كل من "موكامانا" و "أزيري" مع حوالي أربعين أسرة أخرى في‬
‫ممن اعترفوا بذنبهم‪.‬‬ ‫مجتمع يتألف من الناجين من املذابح ومن مرتكبيها ْ‬
‫والقرية املستحدثة التي أطلقوا عليها أسم " ِإمدجودو ‪( "Imidugudo‬ومعناها‬
‫قرية املصالحة) كان قد بدأها قسيس أنكليكاني (من الكنيسة األنكليكانية‬
‫‪ 710‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫االنكليزية) ويدعى "ستيفن كاهيجي ‪ ،"Steven Gahigi‬الذي كان كل أباه وأمه‬


‫وإخوته قد ق ِتلوا في عام ‪.0994‬‬
‫كان "كاهيجي" قد ظن بأنه قد فقد قابليته على الغفران‪ ،‬فقال‪" :‬داومت‬
‫على الصالة إلى أن رأيت في إحدى الليالي صورة يسوع املسيح على الصليب‪...‬‬
‫وتأملت كيف هو غفر لآلخرين‪ ،‬فعلمت أنني وغيري من الناس نقدر أن نغفر‬
‫أيضا"‪ .‬وبفضل هذه الرؤية امتأل "كاهيجي" إلهاما وعزيمة وأخذ يعظ بالغفران‬
‫ويحكي للناس عنه‪ .‬ولم يق ْم بذلك في بلدة "نياماتا" فحسب بل أيضا عند‬
‫زيارته للسجون حيث كان مرتكبي الجرائم من قبيلة هوتو من الذين كانوا‬
‫ينتظرون محاكماتهم‪( .‬علما أن الحكومة في عام ‪ 3112‬قد أخلت سبيل اآلالف‬
‫من السجون لتخفيف شدة الزحام‪).‬‬
‫هينا‪ ،‬حسبما قال القرويون‪ ،‬فقد ّ‬ ‫تعلم املغفرة أمرا ّ‬‫ّ‬
‫أقرت‬ ‫ولم يكن‬
‫"موكامانا" بذلك قائلة‪" :‬ملدة طويلة‪ ،‬لم أكن أعتقد مطلقا بأنني سأقدر أن‬
‫أغفر لآلخرين"‪ .‬لكن حيثما يستعد الناس ملواجهة ماضيهم بأمانة‪ ،‬ستشفى‬
‫ّ‬
‫وسيتيسر ألشياء عجيبة أن تحدث‪.‬‬ ‫الجراح النفسية القديمة‪،‬‬
‫ويبدو أن هذا األمر هو الذي جعل املغفرة ممكنة في قرية " ِإمدجودو"‪،‬‬
‫حيث يحكي فيها الناس ألوالدهم عن دورهم في عام ‪ .0994‬ويقول "خافيير‬
‫ناماي ‪ "Xavier Namay‬وهو أحد مرتكبي املذابح من الذين قد ّ‬
‫أقروا بشناعة‬
‫ذنبهم‪" :‬إن ملذابح اإلبادة الجماعية آثار وعواقب وخيمة على كل الذين‬
‫اقترفوها الذين نجوا منها"‪ .‬ويردف قائال‪" :‬يجب أن يعرف أوالدي الش يء الذي‬
‫اقترفته لكي يبنوا هذا البلد"‪.‬‬

‫وفي السنين األخيرة نرى ظهور مبادرات مماثلة في مناطق أخرى في أرجاء‬
‫العالم‪ .‬في إسرائيل مثال واندونيسيا وبغداد ودول البلقان ومجموعات مثل‬
‫"فرق صانعي السالم املسيحية ‪ ،"Christian Peacemaker Teams‬وهيئة‬
‫خدمات األمريكيين األصدقاء ‪،"American Friends Service Committee‬‬
‫وغيرها من املنظمات غير الحكومية‪ ،‬التي كلها تعمل على ترويج املصالحة على‬
‫اعتبارها السبيل الوحيد للتغلب على النزاعات العرقية‪ .‬وفي أغلب الحاالت‬
‫يحققون إنجازات متواضعة‪ ،‬إذا أخذنا بنظر االعتبار جسامة حجم القضية‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪711‬‬

‫التي يتناولونها بكامل أبعادها‪ .‬وغالبا ما يتبع انتصاراتهم عراقيل واتهامات من‬
‫قبل أولئك الذين لم يجدوا تفاؤال وأيضا من قبل املثاليين‪ .‬ففي رواندا على‬
‫سبيل املثال‪ ،‬حيث حضرت مؤتمرا عن املغفرة والتسامح في شباط من عام‬
‫‪ ،3119‬قابلت هناك العديد من الذين يقدمون طاقاتهم لبناء مجتمع جديد‬
‫مبني على املحبة والثقة‪ .‬لكن هناك ولحد اآلن أعداد أكثر منهم ممن ّيدعون‬
‫يروجون علنا أيديولوجيات‬ ‫بأن املصالحة هي حلم فارغ‪ .‬وبعض من هؤالء ّ‬
‫ومفاهيم قديمة من التي تؤدي إلى مذابح اإلبادة الجماعية‪ .‬وفي مواجهة واقع‬
‫كهذا فإن "جان بولس" ي َ‬
‫عت َبر حقيقة واقعة‪ .‬فيقول‪:‬‬

‫بالرغم من أن دوامة العنف تبدو غالبا بال نهاية‪ .‬فكل حادثة منها‬
‫تستدرج أخرى‪ .‬إذ أن كل شخص أو كل جماعة لهم عدوهم الشخص ي‬
‫كما يبدو األمر‪ .‬ومما يثير السخرية‪ ،‬فإن هؤالء "األعداء" غالبا لم يعودوا‬
‫موجودين من حوالينا‪ .‬وفي حاالت كثيرة فهم لم يعودوا موجودين حتى‬
‫على قيد الحياة‪ .‬أما في نظري‪ ،‬فإن العدو الحقيقي هو ذاك الذي نواجهه‬
‫كلنا‪ ،‬أال وهو‪ :‬الغضب واالستياء اللذين نحملهما معنا خالل اليوم وأينما‬
‫ذهبنا؛ وكذلك الخوف والقلق والوسواس الذين ننام معهم كل ليلة‪ .‬فال‬
‫نحتاج إلى ناس آخرين! فإننا نقتل أنفسنا بأيدينا‪.‬‬
‫إن الناس ما زالوا مأسورين‪ :‬بالخوف‪ ،‬والغضب‪ ،‬وعدم الثقة‪،‬‬
‫والتشكيك‪ ،‬واالنتقام‪ .‬وال تزال هناك مرارة الكراهية واالستياء‪ ،‬وال تزال‬
‫درس في‬ ‫نظريات التفرقة العنصرية التي كانت وراء املذابح الجماعية ت ّ‬
‫مدارسنا‪ .‬والناس الذين قد قضوا أعواما وراء القضبان يعودون اآلن إلى‬
‫قابلت َم ْن قتل ابن عمك أو عمك أو‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قابلت أحدهم – إذا‬ ‫بيوتهم‪ ،‬وإذا‬
‫َ‬
‫أمك‪ ،‬وتكلمت معه – فال يسعك التكلم معه مثلما كنت تتكلم معه‬ ‫َ‬
‫سابقا‪ .‬فاألمر مستحيل بدون محبة‪ .‬فاملحبة وحدها هي القادرة على‬
‫إعتاقنا وتحريرنا من قيود األحقاد املاضية وأيضا وحدها التي توافينا‬
‫بالشفاء الحقيقي‪.‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ويتعذب الكثير من الناس في العالم من جراء هذا‪ ،‬فاألمر ليس محصورا في‬
‫رواندا فقط‪ .‬ومما يزيد الفاجعة‪ ،‬هو أنهم يتصرفون كما لو أنه ليس هناك أي‬
‫مخرج من هذا املأزق‪ .‬ويقولون‪" :‬إن مثل هذه األمور تحدث‪ .‬فهذا هو الطريق‬
‫ّ‬
‫الحل‪ ،‬الذي هو الغفران‪ .‬غير أن‬ ‫الذي تسير عليها الحياة"‪ ،‬ولن يتكلموا عن‬
‫تقليدا من املغفرة هو وحده الكفيل بإيقاف دوامة العنف واليأس ويحرك‬
‫عوضا عنها دوامات جديدة من األمل واملحبة‪.‬‬
‫ولن يحدث هذا بين ليلة وضحاها‪ ،‬ألن الغفران هو مسألة اختيار‬ ‫ْ‬
‫تفحصا كامال لروحه‬‫شخص ي بحت‪ .‬فالغفران يقتض ي من املرء أن يجري ّ‬
‫يتم توضيح الدواعي واألسباب لهم لخوض كل‬ ‫وكيانه‪ .‬ويحتاج الناس إلى أن ّ‬
‫هذا العناء‪ .‬ويحتاجون إلى سماع قصص حقيقية عن الغفران‪ ،‬لكي يتأثروا‪.‬‬
‫كما يحتاجون إلى رؤية شاملة عن كيفية سير األمور إذا سمحوا للغفران أن‬
‫يقودهم‪ ،‬حتى يحصلوا على األمل واالندفاع‪.‬‬
‫إن رؤية كهذه تشبه فحوى أغنية قديمة للكفاح من أجل الحرية من‬
‫الستينيات‪ ،‬حيث تقول‪:‬‬

‫ال تقوى يد َرجل واحد على كسر السجن‬


‫وال تقوى أيدي رجلين على كسر السجن‬
‫لكن إن كان اثنان مع اثنان مع خمسين ينتجون مليونا‬
‫فسنرى ذلك اليوم يتحقق‪...‬‬

‫فهذا هو األمل الذي جاء بضحايا ومرتكبي جرائم "التصفية العرقية" في عدد‬
‫ّ‬
‫ليتجمعوا ويحرثوا تربة املزارع املشتركة؛ وهو الش يء‬ ‫من القرى في كوسوفو‬
‫نفسه الذي دفع الناجين املسيحيين جراء اضطهاد املسلمين في عامي ‪– 0991‬‬
‫‪ 0999‬في جزر "مالوكا ‪ "Maluka Islands‬األندونيسية ليغفروا إلى من حرق‬
‫منازلهم واغتصب زوجاتهم وبناتهم‪.‬‬
‫وهو يستمر كذلك بإلهام نشاطات إبداعية أخرى في كافة أنحاء العالم‪،‬‬
‫مثل املشروع املسرحي الذي أقيم في مدينة "بيتسبرج ‪ "Pittsburgh‬األمريكية في‬
‫جمع فيه يهودا إسرائيليين ومسلمين عرب ومسيحيين‬ ‫صيف عام ‪ 3111‬الذي ّ‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪711‬‬

‫أمريكان‪ ،‬من أجل مجتمع إنساني‪ .‬وقد استعملوا أسلوب املشاهد املسرحية‬
‫التي كانت تحكي قصص املعاناة لكال الطرفين‪ ،‬وتم دعوة الخصوم بعدئذ‬
‫لتبادل األدوار ليتخيلوا أنفسهم وهم في مكان وظروف خصومهم‪ ،‬ويناقشوا‬
‫حلوال جديدة عوضا عن مجرد تكرار إعادة املشاكل القديمة‪( .‬بعدئذ‪ّ ،‬‬
‫صمم‬
‫املشاركون أن يأخذوا معهم إلى بالدهم ما تعلموه هناك‪ ،‬الستخدامه كأداة‬
‫لصنع السالم‪).‬‬
‫ويقول مدير املشروع "روني أوستفيلد ‪" :"Roni Ostfield‬هناك الكثير من‬
‫املخاوف وسوء الفهم والجروح لدى جميع األطراف"‪ .‬ويردف قائال‪" :‬إنه ألم‬
‫حقيقي‪ ،‬لكننا دائما نأمل أنه إذا فتح شخص واحد قلبه للمحادثات مع‬
‫الطرف اآلخر‪ ،‬ربما سيؤثر على عشرة أشخاص آخرين‪ ،‬ومن ثم لها أن تنمو‬
‫من هناك"‪.‬‬

‫و ِلما ال؟ فقد انتهرت "مارجريت ميد ‪ "Margaret Mead‬األخصائية في علم‬


‫اإلنسان في إحدى املناسبات موضوع التشكيك في قدرات املجاميع الصغيرة‪،‬‬
‫ّ‬
‫قائلة‪" :‬يجب علينا أال نشك أبدا في قدرة أية جماعة صغيرة من األفراد‬
‫امللتزمين على تغيير العالم‪ ...‬بالحقيقة والواقع‪ ،‬أن أمثال هؤالء هم الذين قد‬
‫ّ‬
‫أثروا في العالم"‪ .‬وصدقت كلماتها مجددا قبل عدة سنوات عندما استيقظنا‬
‫على حادثة مجزرة مدرسة جماعة ال ـ ِآمش ‪( Amish‬وهي طائفة مسيحية‬
‫ملتزمة ولها أسلوب حياتي بسيط)‪.‬‬

‫ففي الثاني من شهر تشرين األول عام ‪ ،0111‬دخل سائق شاحنة لبيع‬
‫الحليب واسمه "تشارلس روبرتس ‪ "Charles Roberts‬ومن دون إعالم مسبق‪،‬‬
‫دخل إلى أحد صفوف مدرسة جماعة ال ـ ِآمش التي كانت قريبة من مكان‬
‫سكناه في شرق والية بنسلفانيا‪ ،‬وأمر الفتيان واملعلمين بترك املدرسة‪ .‬وبعد‬
‫ربطه ألقدام الفتيات املتبقيات‪ ،‬استعد "روبرتس" لرميهن بأسلوب اإلعدام‪،‬‬
‫وببندقية رشاشة ومعه ‪ 411‬إطالقه من العتاد الذي جلبه لهذه املهمة‪.‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫توسلت إليه أكبر فتاة كانت موجودة هناك‪ ،‬التي كانت بعمر ‪ 02‬سنة‪،‬‬‫ْ‬
‫ودع الصغيرات يذهبن"‪ .‬وعندما رفض عرضها‪،‬‬ ‫علي أوال ْ‬‫قائلة‪" :‬أطلق النار ّ‬
‫أطلق النار على جميعهن‪ ،‬قاتال خمس منهن وتاركا األخريات بجراح خطيرة‪ .‬ومن‬
‫ثم أطلق النار على نفسه أثناء انقضاض قوات الشرطة على املبنى‪.‬‬
‫ال يعلم أحد دوافعه الحقيقية‪ ،‬لكنه كان قد أخبر الفتيات في املدرسة‬
‫أنه كان غاضبا على هللا ألنه أخذ ابنته الصغيرة منه‪ ،‬التي ماتت كطفلة قبل‬
‫عدة سنوات‪.‬‬
‫وما هي إال ساعات حتى استولت هذه القصة على وسائل اإلعالم في‬
‫العالم‪ .‬وعند املساء‪ ،‬مألت الفرق التلفزيونية تلك القرية الصغيرة املسماة‬
‫" ِنكل ماينز ‪ ."Nickel Mines‬وبقوا هناك حوالي أسبوعا كامال‪ ،‬إلى أن تم دفن‬
‫القاتل والضحايا‪.‬‬
‫وعلى بشاعتها‪ ،‬فإن املجزرة بحد ذاتها قد طغى عليها فصل ثاني عجيب‬
‫أضيف إلى القصة أال وهو‪ :‬املوقف الغفور لألسر التي فقدت بناتها‪ .‬وفي‬
‫الواقع‪ ،‬كان الدم بالكاد قد جف على أرضية املدرسة عندما ذهب أفراد من‬
‫ّ‬
‫تلك الجماعة املتدينة جدا ليزوروا أهل وأرملة الرجل املسلح ليقدموا لهم‬
‫تعاطفهم وليسألوا عن أحوالهم‪ .‬وتعدى موقفهم الكالم – فقد أقامت جماعة‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪717‬‬

‫ال ـ " ِآمش" صندوقا ماليا لجمع التبرعات ألرملة القاتل وأوالدها‪ .‬كما جمعوا‬
‫الطعام ألسرة القاتل‪ .‬وقد صادف أحد الصحفيين رجال من ال ـ " ِآمش" يجوب‬
‫حقوال عديدة ويجمع التبرعات‪ ،‬في يوم املجزرة نفسه‪ .‬واألمر األكثر عجبا‪ ،‬هو‬
‫أن نصف عدد الذين جاءوا إلى مراسيم دفن القاتل كان من أسر الضحايا‬
‫الحزينة‪ ،‬وهناك أيضا أبدوا مشاعر املحبة ثانية ألرملته‪" ،‬ماري"‪ ،‬وألوالدها‬
‫الثالثة‪.‬‬
‫يحب أغلب عامة الناس جماعة ال ـ " ِآمش"‪ ،‬لكن في هذه الحادثة بالذات‪،‬‬
‫رأى الكثيرون أن ّرد فعلهم لعملية القتل أمر ال يصدق‪ .‬كما أشار إلى ذلك‬
‫ّ‬
‫أحد مذيعي األخبار القدامى في نشرته التلفزيونية‪" :‬كل األديان تعلم عن‬
‫الغفران‪ ،‬لكن ال أحد يعمل بها فعال مثلما تسعى جماعة ال ـ " ِآمش" على فعله‪.‬‬
‫فما الفرق يا ترى؟"‬
‫هينا لجماعة ال ـ " ِآمش" ليغفروا‪ .‬فأنا شخصيا‬ ‫ال أعتقد أن األمر كان ّ‬
‫أعرف الكثير منهم‪ ،‬ولدي أصدقاء ممن يعرفون عددا من األسر التي أصيب‬
‫أوالدها‪ .‬فهم ليسوا أكثر قداسة من غيرهم‪ :‬وبالحقيقة‪ ،‬لم يكن الغفران‬
‫بالنسبة لهم‪ ،‬كما هو األمر بالنسبة للكثيرين‪ ،‬مسألة قرار يتخذه املرء ملجرد‬
‫مرة واحدة في العمر‪ .‬فقد أقتض ى األمر صراعا وتجديد االلتزام بالغفران‪،‬‬
‫وعلى صعيد يومي أحيانا‪.‬‬
‫َ‬
‫فقد قضت إحدى الضحايا عدة أشهر في غيبوبة؛ في حين ت ِلف دماغ‬
‫وسيحتجن إلى رعاية طبية خاصة باستمرار‪ .‬وبعض األسر خائفة‬ ‫ّ‬ ‫أخريات‪،‬‬
‫تدرس أوالدها في البيت وال تبعثهم إلى املدرسة‪ .‬وكل َم ْن‬
‫جدا بحيث أنها ما تزال ّ‬
‫مسه ذلك الصباح الرهيب سيظل يتعامل طيلة حياته مع الرواسب النفسية‬
‫له‪.‬‬
‫ّ‬
‫أما إذا أطلقنا العنان للغضب والعداء ليسيراننا جهارا‪ ،‬األمر الذي‬
‫ّ‬
‫مدمرا – إنه‬ ‫أمسكت عنه جماعة ال ـ " ِآمش" لقرون من الزمان‪ ،‬فسيكون األمر ِ‬
‫هدر للطاقات التي ستستحوذ على نفوسهم وتتخذهم كرهائن وتقتلهم في‬
‫النهاية‪ ،‬تماما مثلما أخذت بناتهم كرهائن وق ِتلن من ِق َب ِل غضب أحد‬
‫األشخاص‪ .‬وبالنسبة للمخلصين من أتباع يسوع املسيح فإن الخيار الوحيد‬
‫‪ 718‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ْ‬ ‫َ‬
‫أمامهم هو ذلك الذي قدمه لنا على خشبة الصليب‪ ،‬حين قال‪َ " :‬يا أ َب َتاه اغ ِف ْر‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫له ْم ألنه ْم ال َي ْعلمون َماذا َي ْف َعلون‪".‬‬

‫إن الموقف الذي يريده م ّنا يسوع المسيح ليس موقفا محبوبا من قبل‬
‫األكثرية وال له شعبية واسعة في يومنا الحاضر‪ ،‬حتى في األوساط الدينية‪ .‬وفي‬
‫يتم ترويج موضوع املغفرة علنا‪ ،‬نرى أن رد فعل الناس‬ ‫حاالت نادرة حيث ّ‬
‫غالبا ما يرمي إلى زرع الشكوك في املوضوع‪ ،‬أو يسخر منه سخرية محضة‪.‬‬
‫وهذا ما حصل في عام ‪ 3113‬عندما فاجأت الكنيسة األرثوذكسية الصربية‬
‫املراقبين عبر أوروبا بطلبها لنظام "ميلوسفيج ‪ ."Milosevic‬وجاء في االفتتاحية‬
‫لبيان رسمي أصدرته ما يلي‪" :‬نحن نعرض بإخالص املصالحة واملغفرة املتبادلة‬
‫ألشقائنا املواطنين األلبان‪".‬‬
‫ّ‬
‫لكن االنتقادات قللت من شأن االعتذار ووصفته بأنه حركة سياسية‪،‬‬
‫لكن كان هناك آخرون ممن احتضنوا هذه الفرصة من أجل فتح الحوار‪ .‬فقد‬
‫أشاروا إلى أنه مهما كان تأثيرها‪ ،‬إال أنها املحاولة األولى من نوعها التي تميزت‬
‫بتشخيص األحقاد بكل أمانة‪ ،‬تلك األحقاد التي أدت إلى وحشية تلو األخرى في‬
‫أرجاء املنطقة وعلى مدى أغلب سني العقد املاض ي‪.‬‬

‫وعلى المنوال نفسه شكّ ك المتشائمون بمصداقية رئيس الوزراء األسترالي‬


‫وجه اعتذارا رسميا‬ ‫"كيفن رود ‪ "Kevin Rudd‬عندما‪ ،‬وفي بدايات عام ‪ّ ،3111‬‬
‫إلى سكان البلد األصليين – األبوريجين – عن سياسات الحكومة الطويلة األمد‬
‫والتشدد في حصرهم وعدم السماح لهم باالنتشار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في التمييز العنصري‪،‬‬
‫وأيضا عن االعتداءات التي تحصل على أرض الواقع‪ .‬في حين ّ‬
‫رح َب آخرون بهذا‬
‫الخطاب‪ .‬وكان أحدهم قسيسا من دولة جنوب أفريقيا‪ ،‬وهو األب "مايكل‬
‫البسلي ‪ "Micheal Lapsley‬فقال‪:‬‬

‫مما الشك فيه‪ ،‬أن االعتذار ال يزيل حقيقة الظلم الذي تم اقترافه وال‬
‫األلم الذي ما يزال تشعر به أجيال متعاقبة من السكان األستراليين‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪719‬‬

‫شك من أن اعتراف رسمي كهذا‪...‬‬ ‫أي ّ‬‫األصليين‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ليس هناك ّ‬
‫تحول باتجاه‬‫يمكن أن يكون مرهما للجروح‪ ،‬وهو خطوة كبيرة ونقطة ّ‬
‫رحلة طويلة من إعادة إرساء أركان العدالة وكذلك الشفاء للجميع‪...‬‬
‫كنت أسمعكم على مدى السنين تتكلمون عن إحساسكم‬
‫الشخص ي بالذنب والخزي على ما جرى في تاريخ بلدكم‪ .‬وأنا متأكد اليوم‬
‫من أن الكثير منكم أذرفوا دموع الفرح لقدوم هذا اليوم وبأسلوب‬
‫مشرف ملواجهة بصراحة الفظائع التي حدثت في املاض ي ولبدء رحلة‬ ‫ّ‬
‫جديدة‪.‬‬

‫لم يكن ّرد األب القسيس "البسلي" مجرد ّرد أحد املراقبين‪ .‬فقد تم اضطهاده‬
‫ضد نظام التمييز العنصري الذي كان‬ ‫على يد حكومة جنوب أفريقيا لنضاله ّ‬
‫في البلد‪ ،‬وقد ح ِر َم هذا الناشط املعروف دوليا بدفاعه "لتجديد العدالة" من‬
‫َ‬
‫دخول البلد‪ ،‬والحقا ف َق َد كلتا يديه وإحدى عينيه بانفجار طرد مفخخ‪ .‬ومنذ‬
‫ذلك الوقت كان يعمل مع ضحايا التعذيب وأسس جمعية مدينة "كيب تاون"‬
‫لشفاء الذكريات‪ ،‬حيث قد قدم املشورة واملساعدة إلى مئات الناجين من‬
‫ّ‬
‫العنف‪ .‬وقد تعلم أن االعتذار – مهما كان شكله – هو بالغ األهمية ألنه في‬
‫كثير من األحيان يمثل الخطوة األولى الحاسمة التي بدونه ال يمكن ّ‬
‫ألي حوار‬
‫أن يخطو أية خطوة‪ ،‬حتى لو لم نتطرق إلى موضوع مسامحة بعضنا لبعض‪.‬‬

‫إن قيمة عمل األب القسيس "البسلي" في مدينة "كيب تاون" ال يقدر‬
‫بثمن وهو يتعدى حدود املدينة‪ ،‬ألنه يرينا مدى وعورة السير في طريق‬
‫املصالحة وشكل دربه الحقيقي‪ ،‬وليس فقط فيما يخص األذى الشخص ي‬
‫الذي تلقاه‪ ،‬بل أيضا بين الناس األصحاء جسديا ممن لهم تاريخ طويل‬
‫ولقرون من الحروب والحقد املتراكم‪.‬‬

‫وباختصار‪ ،‬فإن عمال كهذا يتطلب االستماع إلى الناس الذين عانوا من‬
‫العنف‪ ،‬سواء كانوا من مرتكبي الجرائم أو من الضحايا‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫مساعدتهم للتعامل مع مشاعرهم مثل الغضب والكراهية والشعور بالذنب‪.‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫األب القسيس ألبسلي إلى اليسار مع املطران لوتوينج ُ‬


‫ّ‬
‫أنه يعني توجيههم نحو املصالحة‪ ،‬وتعليمهم عن الغفران‪ .‬ويتطلب األمر احترام‬
‫التعددية العرقية والثقافات الدينية املتعددة على كوكبنا‪ ،‬والتسليم بأن جميع‬
‫الناس هم كائنات روحية ولهم قيمة جوهرية‪ .‬وأخيرا‪ ،‬يرينا املوضوع أنه ليس‬
‫هناك أي طريق مفتوح للمصالحة بدون استعداد جميع الناس الذين كانوا‬
‫ّ‬
‫يتحملوا مسؤولية املاض ي معا‪ ،‬ومن ثم الوعي بأن كل إنسان‬ ‫أعداء سابقا أن‬
‫يمكنه أن يكون ضحية ومعتدي‪.‬‬

‫أن مواجهة الذات بهذا األسلوب – أي أن ترى في داخل نفسك احتمالية‬


‫ألد أعدائك – إنما هو تمرين صعب‪ .‬إال أنه ّ‬
‫يحررنا‬ ‫أن تصير أنت بنفسك من ّ‬
‫تبينه فصول هذا الكتاب بكل وضوح ال توجد نصرة‬ ‫أيضا‪ .‬ألنه وبحسب ما ّ‬
‫بدون صراع‪ ،‬وال خالص بدون ندم‪ ،‬وال شفاء بدون وجع‪ .‬فليس هناك ربيع‬
‫َ‬
‫بدون شتاء أو ما إلى ذلك‪ .‬فما لم تم ْت البذرة وتدفن‪ ،‬لن تكون هناك أية حبة‬
‫جديدة‪ ،‬كما يصفها اإلنجيل‪.‬‬
‫تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية ‪717‬‬

‫في عالمنا ال ُمنساق باإلثارة السريعة اإليقاع وأيضا بدرجة كبيرة من‬
‫االرتياب‪ ،‬فإن خبرا عن العمل الشاق والطويل األمد لبناء قرية دمرتها املذابح‬
‫نادرا ما نراه في النشرة اإلخبارية املسائية‪ .‬وأرى شيئا مماثال يحدث في عملي‬
‫عندما أتكلم عن املغفرة في املدارس العامة (ضمن برنامج‪ :‬كسر الدائرة‬
‫‪ ،)Breaking the Cycle‬فال ينجذب الصحفيون أبدا إلى انعقاد مجلس مدرس ي‬
‫تتشوه سمعة أية مدرسة في الحال وعلى طول‬ ‫ّ‬ ‫عن موضوع الالعنف‪ ،‬في حين‬
‫إذا تعرضت إلى إطالق نار‪ ،‬لكن‪ ،‬ملاذا يجب أن يقاس النجاح بالتغطية‬
‫اإلعالمية أو بمقدار شعبيته؟‬

‫قالت "دوروثي داي ‪ ،"Dorothy Day‬وهي من‬


‫ْ‬
‫عملت لعقود في‬ ‫إحدى معارفي القدماء‪ ،‬التي‬
‫خدمة فقراء مدينة نيويورك‪ ،‬وهي مؤسسة‬
‫حركة العمال الكاثوليكيين‪ ،‬قالت أننا عندما‬
‫نحاول تغيير العالم فال يكمن العائق األكبر في‬
‫الناس اآلخرين أو في املؤسسات األخرى‪ ،‬بل في‬
‫مشاعرنا نحن‪ ،‬أال وهي مشاعر فتور العزيمة‬
‫ْ‬
‫انتهرت في أحدى‬ ‫واإلحساس بعدم الجدوى‪ .‬وقد‬
‫مقاالتها الصحفية‪ ،‬قائلة‪" :‬نحن نستطيع تغيير‬
‫العالم‪ ،‬إلى درجة كبيرة‪ .‬فيمكننا رمي قطعة من الحجر إلى البحيرة ومن ثم‬
‫ّ‬
‫نتيقن أن انتشار موجاتها املائية التي تستمر باالتساع ستصل إلى كافة أرجاء‬
‫العالم"‪.‬‬

‫إنني متأكد من وجود قصص عن املحبة والغفران في العالم أكثر من قصص‬


‫الحقد واالنتقام‪ .‬فكم ستنتظر أنت إلى أن تجعل قصتك مسموعة؟ متى‬
‫سترمي بحجرك إلى البحيرة لتبدأ في صنع موجات مائية؟‬
‫خـ ــاتـ ـ ـم ـ ـ ـ ــة‬

‫هوذا الـكـل قد صار جديدا‬

‫ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫على ُّ‬


‫إال أننا يجب أن نفكر فيما يلي‪ :‬إنه في‬
‫الرغم من أننا نطلب العدالة‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫ى الخالص‪ ،‬لكننا نصلي ُ‬
‫طلبا للرحمة‪،‬‬ ‫إطار العدالة ال ُيمكن ّ ُ‬
‫ألي ّمنا أن ير ُ‬
‫ُ ّ‬
‫وهذه الصالة بحد ذاتها تعلمنا كلنا أن نقدم أعمال الرحمة‪.‬‬

‫قول من‬
‫وليم شكسبير ‪William Shakespeare‬‬
‫ممثل ومؤلف مسرحي وكان كبير الشعراء اإلنكليز‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إنّ ُ‬


‫الغفران هو قوة قديرة‪ .‬فهو ّ‬
‫الشر‪.‬‬ ‫يحررنا من ماضينا‪ ،‬وبه نتغلب على‬
‫ويمكنه أن يشفي الشخص الذي يغفر والشخص املغفور له‪ .‬وفي الواقع‪،‬‬
‫ّ‬
‫يمكن أن ي ّغير الغفران العالم‪ ،‬إن سمحنا له أن يتدفق من خاللنا بال رادع‪.‬‬
‫لنعوقه وال نجرؤ على إطالق العنان لق ّوته!‬
‫لكن كم مرة تجدنا نقف في طريقه ّ‬
‫فنحن نمسك بمفاتيح الغفران في أيدينا‪ ،‬لكن يجب علينا أن نختار‪" :‬هل‬
‫سنستخدمها ّ‬
‫كل يوم أم ال؟"‬

‫في السنة الماض ّية تقابلت م ّرتين مع رجل ينتظر الحكم بإعدامه في والية‬
‫َ َ‬
‫ك َن ِتكت‪ ،‬وهو "مايكل روس ‪ "Michael Ross‬في السابعة والثالثين من عمره‪،‬‬
‫وهو ّ‬
‫خريج من جامعة كورنيل الشهيرة‪.‬‬

‫‪710‬‬
‫خاتمة ‪ -‬هوذا الكل قد صار جديدا ‪711‬‬

‫مايكل روس‬

‫سفاح ومغتصب للعديد من الضحايا‪ .‬وال يمكن ألحد أن ينكر فظاعة‬ ‫وهو ّ‬
‫جرائمه‪ ،‬وال يمكن ألحد أن يتجاسر ليتكلم بالنيابة عن أسر ضحاياه‪ ،‬ألنه إن‬
‫ّ‬
‫فعل ذلك‪ ،‬سيستصغر بل وسيتستر على جسامة املعاناة واأللم الذي ما زالوا‬
‫يحتملونه‪ .‬لكننا من ناحية أخرى‪ ،‬يتحتم علينا أيضا أن ال نتغاض ى عن رؤية‬
‫اشتياق "مايكل" نفسه إلى املغفرة والشفاء‪ .‬فاسمعوه يقول‪:‬‬

‫أشعر بإحساس عميق بالذنب‪ .‬نعم‪ ،‬فأنا أشعر بالذنب يغمرني‪ ،‬لدرجة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عذبة‪ ،‬والندم‬‫أنه يحيط نفس ي بالظالم‪ ،‬وبسحب كراهية النفس امل ِ‬
‫أي ش يء آخر‪ .‬املصالحة مع‬ ‫واألس ى‪ ...‬فأنا أتوق إلى املصالحة أكثر من ّ‬
‫ّ‬
‫ضحاياي‪ ،‬ومع عائالتهم وأصدقائهم‪ ،‬وأخيرا أتوق إلى املصالحة مع‬ ‫أرواح‬
‫نفس ي ومع هللا‪.‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫هل يحق لنا أن ندير ظهورنا لمثل هذا الرجل؟ أليس من األفضل أن نواجهه‬
‫ّ‬
‫البشرية؟ ليشفى هو أيضا‬ ‫بك ّل الرعب الذي ّ‬
‫تسبب فيه باعتباره أخ لنا في‬
‫واملوجع ومن ثم الشفاء؟‬
‫ِ‬ ‫مثلما كلنا يحتاج إلى الكالم الصريح‬
‫في بداية هذا الكتاب كتبت عن رجل قتل فتاة تبلغ السابعة من عمرها‪.‬‬
‫وسألت‪" :‬هل يمكن الغفران لرجل مثل هذا؟" لقد الحظت تغييرا عجيبا لدى‬
‫هذا الرجل خالل األشهر التي تلت أول لقاء لي معه‪ .‬ففي الوقت الذي كانت‬
‫َ‬
‫أحاسيسه ومشاعره بالبداية خ ِدرة وكان يرى جريمته على أنها‪ ،‬بالرغم من‬
‫ّ‬
‫يتحمل مسؤولية أفعاله‬ ‫بشاعتها‪ ،‬نتيجة حتمية ألمراض املجتمع‪ ،‬إال أنه بدأ‬
‫ّ‬
‫بعدئذ‪ .‬وأخذ يتعذب من حاجته املاسة إلى التوبة وإلى املغفرة – وبكى أيضا‬
‫ألجل اآلخرين أكثر من بكائه على نفسه‪ .‬وفي مقابالتي مع هذا الرجل‪ ،‬رأيته‬
‫يجابه الشر القابع في جريمته وأخذ تدريجيا ّ‬
‫يقر بمسؤوليته وأيضا يتندم‪.‬‬

‫بقوة الغفران القديرة‬ ‫الغفران لرجل مثل هذا؟ إن ّ‬


‫كنا نؤمن حقا ّ‬ ‫هل يمكنُ ُ‬
‫على تغيير الناس‪ ،‬فسيتحتم علينا األيمان بأن مثل هذا الرجل يمكنه أن ينال‬
‫ّ ّ‬
‫الغفران كذلك‪ .‬وطبعا يجب علينا أال نقلل مطلقا من شأن جريمته التي ارتكبها‬
‫ّ‬
‫أو إغماض العين عنها‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬يجب علينا أيضا أال نحرمه من‬
‫فرصة التغيير‪ .‬فكما قال "مارتن لوثر ِكنج"‪ّ " :‬إن الغفران له القدرة على تغيير‬
‫العدو ليصبح صديقا"‪ .‬والحقيقة هي ّأن الغفران ّ‬
‫غير حياة هؤالء الذين ذكرنا‬
‫موتلنجن" في‬ ‫ّ‬
‫قصصهم في هذا الكتاب‪ .‬كما غير البلدة الصغيرة التي تدعى " ِ‬
‫بأن الغفران‬‫األربعينيات من القرن التاسع عشر‪ .‬لذلك يجب علينا أن نؤمن ّ‬
‫ّ‬
‫قادر على تغيير العالم كله اليوم‪.‬‬
‫ن ـ ـب ـ ــذة م ـ ــن‬

‫سـيـرة الـمـؤلـف‬

‫ْ‬
‫وصلت‬ ‫المؤلف "يوهان كريستوف آرنولد ‪"Johann Christoph Arnold‬‬
‫مبيعات كتبه في مواضيع تربية األوالد والزواج واملوت وصنع السالم والغفران‬
‫إلى أكثر من ‪ 111،411‬نسخة فضال عن النسخ املنشورة باللغات املختلفة‪.‬‬
‫فهو كاتب ذو تجارب غنية بصورة غير مألوفة وذو بصيرة شخصية‪ .‬وهو‬
‫قسيس أيضا‪ ،‬حيث قد قدم املشورة والنصح مع زوجته "فيرينا ‪"Verena‬‬
‫لآلالف من األشخاص خالل الثالثين السنة املاضية‪ ،‬من متزوجين وأطفال‬
‫ومراهقين؛ ومدمنين ونزالء السجون وضباط القوات املسلحة؛ ومعلمين‬
‫وطالب؛ واملريضين بأمراض مزمنة‪.‬‬
‫وغالبا ما يجري دعوة "آرنولد" كضيف في الندوات التلفزيونية وله‬
‫شعبيته كمتحدث في املدارس واملؤتمرات الدولية فيما يخص دور الغفران في‬
‫معالجة الصراعات بالالعنف‪ ،‬وأهمية دور الغفران كخطوة في طريق‬
‫املصالحة‪ .‬كما يدير برنامجه الخاص املعروف باسم "كسر الدائرة ‪Breaking‬‬
‫‪ "the Cycle‬في مجالس املدارس الذي يتخصص في معالجة انتشار العنف في‬
‫املجتمع وترويج املغفرة بين صفوف الطالب واملواطنين‪ .‬وباعتباره ناقدا‬
‫اجتماعيا‪ ،‬فقد اشترك في مبادرات إلحالل السالم والعدل في مناطق مختلفة‬
‫من العالم‪ .‬وقد أخذته رحالته في املدة األخيرة إلى أوروبا والشرق األوسط‬
‫وأمريكا الوسطى وجنوب شرق آسيا وأفريقيا – وإلى مدارسها ومستشفياتها‬
‫وسجونها ومعسكرات الجئيها‪.‬‬
‫ولدى "آرنولد" وزوجته ولدين وست بنات وخمسين حفيدا‪ ،‬ويسكنون في‬
‫شمال والية نيويورك األمريكية‪.‬‬

‫‪711‬‬
‫ن ـ ـب ـ ــذة ع ـ ــن‬

‫مـجـتمعـات بـرودرهـوف المـسـيحيـة‬


‫‪Bruderhof Communities‬‬

‫هـويـتـنــا‬
‫إنّ حركة برودرهوف ‪( Bruderhof‬حيث تعني الكلمة باألملانية مكان اإلخوة)‬
‫هي حركة دولية للحياة املسيحية املشتركة املساملة التي يتألف قوامها من كل‬
‫من األسر والعزاب على حد سواء الذين يسعون لوضع وصايا يسوع املسيح في‬
‫حيز التطبيق من محبة هللا ومحبة القريب‪ .‬ومثلما قد وص ْ‬
‫فت حياة املسيحيين‬ ‫ِ‬
‫األوائل في سفر أعمال الرسل في الفصل الثاني والرابع‪ ،‬فقد دعينا نحن أيضا‬
‫إلى تلك الحياة التي فيها الكل قلب واحد وروح واحدة‪ ،‬فال يملك أحد أي ش يء‪،‬‬
‫بل كل ش يء مشترك‪ .‬كما نستقي اإلرشاد واإللهام من حياة جماعة‬
‫األنابابدست ‪ Anabaptist‬التي انبثقت منذ زمن اإلصالح حيث التهبت صدورهم‬
‫غيرة ومحبة ليتبعوا املسيح في مجتمعات مسيحية ّ‬
‫كلية املشاركة على غرار‬
‫املسيحيين األوائل‪.‬‬

‫‪711‬‬
‫نبذة عن مـجـتمعـات بـرودرهـوف المـسـيحيـة ‪717‬‬

‫إيـمـانـنــا‬
‫نؤمن بجميع تعاليم السيد المسيح وبالثالوث األقدس وبقانون اإليمان‬
‫الرسولي‪ .‬ونؤمن بنعمة الخالص التي قدمها لنا مجانا الرب يسوع املسيح بموته‬
‫على الصليب مسترخص دمه الثمين املسفوك كفارة لخطايانا ولخطايا العالم‬
‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ن ِج َ َِهي‪ ،‬ف َحاشا ِلي أ ُ‬
‫ن أفت ِخ َرُ‬ ‫كله‪ .‬ونقول مع القديس بولس الرسول‪َ " :‬وأ َّما ِم ُ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫إ َُّال ب َ‬
‫يب َرِّبنا َي ُسوعُ امل ِس ِيح‪( "...،‬غالطية ‪)04 :6‬‬
‫ص ِل ِ ُ‬ ‫ِ ِ‬

‫وبأن غيرنا من‬ ‫وال نؤمن بأن كنيستنا هي الكنيسة الحقيقية الوحيدة ّ‬
‫ضاالت بل نؤمن ّ‬ ‫ّ‬
‫بأن كل من يتبع يسوع ينال الخالص مهما كان‬ ‫الكنائس‬
‫ّ‬
‫انتمائه الطائفي‪ .‬وال نستعلي على بقية األديان األخرى أو نؤمن بأن مصير‬
‫أفرادها العذاب األبدي في جهنم ملجرد أنهم ينتمون إليها أو قد وِلدوا في‬
‫َ َ‬ ‫ّ‬
‫بقاعها‪ ،‬ألن املسيح جاء ليخلص ال ليدين‪ ،‬فها هو يقول‪" :‬ألنه ل ْم ي ْر ِس ِل الله‬
‫ْ َ‬ ‫ين ْال َع َال َم‪َ ،‬ب ْل ِل َي ْخل َ‬
‫ْاب َنه إ َلى ْال َع َالم ل َيد َ‬
‫ص ِب ِه ال َعالم"‪( .‬يوحنا ‪)00 :2‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬

‫وهذا يشمل حتى عدم إدانة الخطأة سواء كانوا مسيحيين أو غير‬
‫ّ‬ ‫مسيحيين‪ ،‬فاهلل تعالى هو ّ‬
‫الديان‪ .‬كما ال نؤمن بأننا سنحظى بملكوت هللا إن‬
‫كنا مهملين لوصايا يسوع املسيح عن َع ْمد وتنقصنا نار الحماسة لقضية ّ‬
‫الرب‬
‫وملوثين باآلثام وال نتوب بعدما ّبين لنا الرب الطريق الصحيح‪ .‬فقد قال السيد‬
‫ات‪َ ،‬ب ِل‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫س ك ُّل َمن يقول ِلي‪ :‬يا َر ُّب‪َ ،‬يا َر ُّب! َيدخل َملكوت الس َماو ِ‬ ‫املسيح‪َ " :‬ل ْي َ‬
‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫ْ‬
‫ات"‪( .‬متى ‪)30 :0‬‬ ‫ال ِذي َيف َعل ِإ َرادة أ ِبي ال ِذي ِفي الس َماو ِ‬

‫ونؤمن بضرورة أن يضع مجتمع الكنيسة ‪ -‬كجماعة ‪ -‬تعاليم السيد املسيح‬


‫في حيز التطبيق يوميا ليقدم شهادة حقيقية عن اإليمان املسيحي الذي يشمل‬
‫املشاركة واملغفرة والخدمة والتوبة اليومية‪ .‬ومثالنا هو حياة جماعة يسوع مع‬
‫التالميذ‪ ،‬وحياة الكنيسة الرسولية األولية في أورشليم‪.‬‬
‫‪ 718‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫لـمـحـة تـاريـخـيـة‬
‫بدأت حركة برودرهوف المسيحية في‬
‫عام ‪0931‬م في أملانيا عندما أخذت‬
‫مجاميع من املسيحيين تبحث عن أجوبة‬
‫حل من دمار في املجتمع بعد‬ ‫ملا قد ّ‬
‫الحرب العاملية األولى‪ ،‬فأسسوا‬
‫مجتمعات مسيحية متشاركة تسترشد‬
‫الهدى في حياتها اليومية من وصايا‬
‫وتعاليم يسوع املسيح‪.‬‬

‫وفي سنواتها املبكرة زاد عدد أفراد الجماعة ليصل بضعة مئات واعتمدوا‬
‫في كسب رزقهم على الزراعة وبيع كتبهم‪ .‬وكان حالهم فقيرا جدا ألن مجتمعهم‬
‫املسيحي فتح أبوابه الستقبال اليتامى واألمهات الوحيدات وغيرهم من‬
‫ّ‬
‫وأشتد الفقر عندما جاء النظام النازي إلى الحكم وحر َم بيع كتبهم‬ ‫املحتاجين‪.‬‬
‫الحرف التي كانت للجماعة‪.‬‬
‫وغيرها من ِ‬

‫وفي عام ‪0920‬م حاصرت‬


‫قوات ال ـ "‪ "SA‬أرضنا (وهي قوات‬
‫عسكرية متخصصة باالنقضاض)‪،‬‬
‫وسجنت العديد من أعضاءنا‪،‬‬
‫وأمرتنا بمغادرة بلدنا أملانيا في‬
‫غضون ‪ 41‬ساعة‪ .‬وقد كتب أحد‬
‫ضباط البوليس السري – الجستابو‬
‫– ّ‬
‫بأن هذا املجتمع املسيحي‪" ،‬يمثل‬
‫نظرة عاملية معارضة تماما لالشتراكية القومية ألملانيا"‪ .‬والنظرة العاملية‬
‫تضمنت رفض الجماعة ألداء التحية (االستعبادية) لهتلر‪،‬‬ ‫(بحسب ما سماها) ّ‬
‫وللخدمة في الجيش‪ ،‬ولقبول معلمي املدارس النازيين في مدارسهم الخاصة‪.‬‬
‫نبذة عن مـجـتمعـات بـرودرهـوف المـسـيحيـة ‪719‬‬

‫ولحسن الحظ‪ ،‬ولكون‬


‫الجماعة كان لها أعضاء‬
‫تيسرت الهجرة إلى‬‫ّ‬ ‫بريطانيين‪،‬‬
‫انكلترا‪ .‬وقد تم شراء مزرعة في‬
‫مقاطعة "كوتسوولد ‪"Cotswold‬‬
‫في عام ‪0921‬م‪ ،‬وزاد عدد‬
‫الجماعة ألكثر من ‪ 231‬فردا في‬
‫خالل السنين الخمس التي تلت‪.‬‬

‫وملا كانت الحرب تلوح في األفق‪ ،‬أثار املزيج بين األعضاء االنكليزيين‬
‫واألملانيين شكوكا من قبل الناس في املناطق الريفية البريطانية‪ ،‬والسيما عندما‬
‫بدأت سياسة الحكومة في اعتقال "األجانب األعداء" تؤثر على الجماعة‬
‫املسيحية األخوية‪ .‬فعرضت الحكومة البريطانية على الجماعة خيارين‪ :‬إما‬
‫اعتقال جميع األعضاء األملانيين أو مغادرة الجماعة كلها البالد‪ .‬وفي عام‬
‫‪0940‬م وبعد تصميم أفرادها على أن يبقوا معا‪ ،‬قرروا أن يلتجئوا سوية إلى‬
‫بلد آخر‪.‬‬

‫وكانت الدولة الوحيدة – أثناء الحرب‬


‫العاملية الثانية ‪ -‬التي قبلت جماعة مساملة‬
‫متكونة من انكليز وأملان هي باراغواي‪.‬‬
‫فسافر جميع األعضاء بأمان عبر املياه‬
‫التي كانت تنتشر فيها الغواصات العسكرية‬
‫املعادية وشرعوا في بناء مجتمعهم املسيحي‬
‫في األدغال هناك‪.‬‬
‫وفي غضون العشرين عاما التي تلت‪،‬‬
‫تم تأسيس ثالثة مجتمعات مسيحية في‬
‫البلد‪ ،‬فضال عن مستشفى قدمت خدماتها‬
‫إلى الجماعة باإلضافة إلى عشرات اآلالف‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫من السكان األصليين في باراغواي‪ .‬كانت الحياة في باراغواي صعبة‪ ،‬ومناخها‬


‫قاس وغير مألوف علينا‪ ،‬وفيها أمراض مدارية‪ ،‬وانعزال عن العالم الواسع‪.‬‬

‫وأثناء الحرب العاملية الثانية وبعدها‪ ،‬زاد اهتمام الكثير من األمريكيين‬


‫الشباب بالحياة املسيحية املشتركة‪ .‬فأخذت العشرات منهم تزور مجتمعاتنا‬
‫املسيحية في باراغواي‪ ،‬وفي عام ‪0934‬م تم تأسيس مجتمع "وودكرست‬
‫‪ "Woodcrest‬املسيحي في والية نيويورك في وسط وادي نهر "هدسن ‪."Hudson‬‬
‫وأخيرا أنتقل جميع األعضاء من باراغواي إلى الواليات املتحدة األمريكية‬
‫وانكلترا‪ .‬ومنذ ذلك الحين تم تأسيس مجتمعات مسيحية أخرى في أملانيا‬
‫واستراليا ومرة أخرى في باراغواي‪.‬‬

‫الـحيـاة الـمـسيحيـة المـشـتركة‬


‫إنّ حياة المشاركة في العمل والعبادة ووجبات الطعام تمنحنا يوميا فرصا‬
‫لتجسيد معتقداتنا على أرض الواقع‪ .‬فكل فرد‪ ،‬بغض النظر عن مدى‬
‫قابليته‪ ،‬قادر على أن يساهم بش يء ما‪.‬‬
‫واألعضاء يقدمون نذورهم املؤبدة بالطاعة والفقر وخدمة الجماعة‪ .‬وكل‬
‫من يرغب في االنتماء يجب عليه أن يكرس كل ما يملك (أو تملك) وأيضا كل‬
‫مواهبه ليقف على أرضية واحدة ّ‬
‫سوية مع كل األخوة واألخوات‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬يوجد أكثر من‬
‫عشرين مكانا ملجتمعات‬
‫برودرهوف املسيحية في أرجاء‬
‫العالم‪ .‬وحوالي نصفها تشبه‬
‫القرى القائمة بذاتها وتتكون‬
‫من ‪ 211 -011‬شخص‪ .‬ويداوم‬
‫األوالد في رياض األطفال‬
‫واملدارس االبتدائية الخاصة‬
‫باملجتمع‪ ،‬ويعمل الكبار حيثما‬
‫نبذة عن مـجـتمعـات بـرودرهـوف المـسـيحيـة ‪717‬‬

‫تحتاجهم أقسام العمل في املجتمع‪ ،‬مثل قسم غسيل املالبس‪ ،‬أو املطبخ‪ ،‬أو‬
‫العيادة الطبية‪ ،‬أو واحدة من املصالح التي نسترزق منها‪ .‬وتجتمع الجماعة‬
‫يوميا للعبادة وتناول وجبات الطعام وغيرها من الفعاليات‪.‬‬

‫باإلضافة إلى تلك املجتمعات املسيحية الكبيرة‪ ،‬لدينا بعض األخويات‬


‫الصغيرة التي تعيش أيضا حياة مشتركة في املدن الكبيرة مثل نيويورك ولندن‪.‬‬
‫وبسبب وعودنا بالطاعة‪ ،‬يحتمل أن يطلب من أي عضو لنا باالنتقال إلى‬
‫مجتمع مسيحي آخر‪ ،‬كبير كان أو صغير‪ ،‬وأينما كان في العالم‪.‬‬

‫نسعى دائما إلى االتفاق باإلجماع التام مهما كلف األمر لتحقيق وحدة‬
‫حقيقية صافية في القلوب‪.‬‬

‫األســرة‬
‫إ َّننا نؤمن بأن األسرة هي األساس الصائب ألي مجتمع كان‪ ،‬وننظر للزواج‬
‫على أنه مديد الحياة وأيضا التزام‬
‫مقدس‪.‬‬
‫ّ‬
‫أما تربية األوالد فيتحمل‬
‫األهل املسؤولية الرئيسية فيها‪،‬‬
‫بالرغم من أن املجتمع يوفر لهم‬
‫حضانة ومدارس من أعمار‬
‫مبكرة‪.‬‬

‫ويتم تنشئة األوالد في املجتمع املسيحي ليصبحوا مواطنين مسئولين‬ ‫ّ‬


‫يساهمون في بناء البلد مهما كان الطريق الذي يختارونه لحياتهم‪.‬‬

‫إن العضوية في مجتمعنا املسيحي ليست حقا مكتسبا بالوالدة‪ .‬فيجري‬


‫تشجيع الشباب على الحصول على خبرات حياتية في أماكن أخرى أيضا وكذلك‬
‫‪ 710‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ّ‬
‫حثهم على اكتشاف مشيئة هللا لحياتهم‪ .‬أما تقديم النذور املؤبدة في خدمة‬
‫ّ‬
‫شخصية‬ ‫يسوع املسيح ضمن املجتمع املسيحي فيجب أن تكون دعوة إلهية‬
‫للفرد وقرار ّ‬
‫حر نابع عن إطالع ووعي من قبل الشخص البالغ‪.‬‬

‫وتجري رعاية العجزة واملعوقين من قبل الجماعة نفسها‪ ،‬وهم يشاركون‬


‫في مختلف الفعاليات واألنشطة التي تجري في املجتمع املسيحي‪ ،‬ويعملون ما‬
‫داموا قادرين على ذلك‪.‬‬

‫التربية والـ ّتـعـلـيـم‬


‫تدير مدارس المجتمعات المسيحية للكنيسة عددا من رياض األطفال‬
‫ّ‬
‫متشددة وتعليم‬ ‫واملدارس االبتدائية وحتى الثانوية‪ ،‬وتقدم دراسات أكاديمية‬
‫ّ‬
‫واسع في الفن واملوسيقى والتأكيد على التحلي بالروح الرياضية‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫الكثير من الحرف اليدوية املاهرة‪ .‬ومن األولويات املركزية ملدارسنا هو أن نلهم‬
‫ّ‬
‫األوالد على محبة التعلم طوال‬
‫حياتهم وأيضا خدمة اآلخرين‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويشدد املنهج على أسس القراءة‬
‫والكتابة والحساب وأيضا على‬
‫وجود عالقة قوية مع عالم‬
‫الطبيعة بدال من االعتماد على‬
‫التكنولوجيا‪.‬‬

‫بعد املدرسة الثانوية‪ ،‬يواصل العديد من الطالب السعي في التدريب‬


‫املنهي أو األكاديمي‪ ،‬في حين يتعلم اآلخرون إتقان بعض املهارات في مهن معينة‬
‫من خالل التدريب‪.‬‬
‫نبذة عن مـجـتمعـات بـرودرهـوف المـسـيحيـة ‪711‬‬

‫الـعـمــل‬
‫إنَّ جميع جوانب الحياة اليومية لدينا هي‬
‫حي إليماننا‪ ،‬والعمل ليس‬ ‫بمثابة إعالن ّ‬
‫مستثنى من ذلك‪ .‬ويساهم كل فرد في دعم‬
‫وإعالة املجتمع ورسالته‪.‬‬

‫وال يستلم أي فرد أجورا على ما يقوم‬


‫به من خدمات‪ ،‬سواء كان يعمل ّ‬
‫كسباك أو‬
‫طباخ أو مهندس أو طبيب أو معلم‪ .‬وعملنا‬
‫املشترك هو تعبير عن التزامنا بخدمة بعضنا لبعض‪ .‬وال يركض األعضاء ال‬
‫وراء ممارسة مهنهم الشخصية وال وراء مركزهم االجتماعي في أو خارج املجتمع‬
‫املسيحي وال حتى القيام بأنشطة لغرض الترقية الشخصية‪.‬‬
‫وجميع مجتمعاتنا املسيحية املوجودة في أرجاء العالم لها صندوق مالي‬
‫مشترك واحد‪.‬‬

‫الـتـواصـل مـع اآلخـريـن‬


‫يكمن في صميم مجتمعاتنا املسيحية اشتياق للتواصل مع املجتمع األوسع في‬
‫العالم حوالينا‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى التواصل بشتى أنواعه الذي نجريه محليا من زيارة‬
‫السجون ومن مشاريع التطوير العمراني في املدينة على سبيل املثال‪ ،‬إال أن‬
‫املؤسسة الخيرية العامة التابعة ملجتمع كنيستنا ‪Church Communities‬‬
‫‪ Foundation‬تعمل سوية مع منظمات إنسانية عديدة مثل منظمة أوكسفام‬
‫لإلغاثة ‪ ،Oxfam‬ومنظمة أنقذوا األطفال ‪ ،Save the children‬ومنظمة أطباء‬
‫بال حدود ‪ ،Doctors without Borders‬والهيئة املركزية لجماعة املينونايت‬
‫‪ ،Mennonite Central Committee‬ومنظمة الرؤية العاملية ‪،World Vision‬‬
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫ومنظمة م َ‬
‫رس ّلي ماري كنول‬
‫الي ‪Mary knoll Lay‬‬
‫‪ Missioners‬ملساعدة ضحايا‬
‫الفقر واملرض والكوارث‬
‫الطبيعية‪.‬‬

‫ومن خالل تعاوننا وعملنا املشترك مع التربويين واألهالي والسلطات‬


‫املحلية وأيضا مع أصحاب السوابق الذين نبذوا حياة اإلجرام‪ ،‬فقد قدمت‬
‫حركة برودرهوف برنامجا يدعى "كسر الدائرة "‪Breaking the Cycle‬‬
‫‪ www.breakingthecycle.com‬ملجالس العشرات من املدارس الثانوية في‬
‫انكلترا والواليات املتحدة األمريكية وفي غيرها من الدول األخرى بغية مكافحة‬
‫العنف املتفش ي‪ .‬ومتحدثي هذه املجالس هم من الذين قد رأوا قوة وقدرة‬
‫املغفرة العجيبة من تجارب حياتهم الشخصية‪.‬‬

‫دار الـمحـراث للـنـشـر‬


‫ينشر "دار المحراث لنشر الكتب ‪ "House Plough Publishing‬الخاص‬
‫بحركة برودرهوف كتبنا وصحفنا منذ عام ‪0931‬م‪ .‬وقد ترجمت الكثير من‬
711 ‫نبذة عن مـجـتمعـات بـرودرهـوف المـسـيحيـة‬

،‫ وكتب األطفال‬،‫ والكتب الـم ِلهمة‬،‫كتبنا التي تشمل الكتابات الروحية الشهيرة‬
‫ وصار عدد منها من أكثر مبيعات الكتب وفقا إلحصائيات‬،‫إلى عشرات اللغات‬
:‫ ويمكنكم زيارة موقعنا على الشبكة‬.‫كل من املكتبات الدينية والعلمانية‬
www.plough.com/ar

‫االتـصـال بـنـا‬
:‫إذا أحببتم االتصال بنا فيمكنكم الكتابة إلى أحد العناوين البريدية التالية‬

Woodcrest Community Sannerzgemeinschaft


2032 Route 213 Lindenstrasse 13 36391
Rifton NY 12471 Sinntal-Sannerz
tel: 001(0)845.658.7700 tel: 0049(0) 6664.402.498
United States Germany
Darvell Community Villa Primavera
Brightling Road Correo Paraguayo
Robertsbridge Agencia MultiPlaza
East Sussex TN32 5DR Casilla de Correo No. 16051
tel: 0044(0) 1580.883.330 Asuncion
England tel: 00595(0) 21-608-938
Paraguay
Danthonia Community Spring Valley
Glen Innes Road PO Box 260, 100 Spring Valley Road
Inverell NSW 2360 Farmington, PA 15437
tel: 0061(0) 2.6723.2213 Tel: 001(0)724.329.1100
Australia United States

:‫ إلى عنوانينا التالية‬Email ‫أو يمكنكم ارسال رسالة إلكترونية‬

info@plough.com ‫ أو‬info@bruderhof.com
‫‪ 711‬لـمـاذا نـغفـر؟‬

‫تـنـسـيـق زيـارة‬
‫إذا أحببتَ زيارتنا للتعرف على طبيعة حياتنا فأهال وسهال بك في جميع‬
‫مجتمعاتنا املسيحية‪ ،‬املوجودة في عدد من الدول‪ ،‬مهما كانت خلفيتك‬
‫العرقية أو الدينية أو الطبقية‪ .‬وما عليك إال أن تتصل بذلك املجتمع املسيحي‬
‫الذي تود زيارته إما بالهاتف أو بالبريد العادي أو بالبريد اإللكتروني‪.‬‬
‫والزيارات التي نتلقاها من بلدان كثيرة مفيدة لكال الطرفين حيث نتبادل‬
‫فيها الخبرات عندما ينفتح بعضنا على بعض‪ ،‬ونتعلم نحن شخصيا من الزوار‬
‫الش يء الكثير‪ ،‬باإلضافة إلى العالقات ّ‬
‫الودية التي نقيمها معهم‪.‬‬
‫وإنك كزائر ستعيش حياتنا اليومية‪ ،‬بدء من املساهمة في العمل وإلى‬
‫املشاركة في االجتماعات الروحية‪ .‬فنحن لسنا بمركز ملمارسة الرياضات‬
‫للتهرب من الواقع‪ .‬وسوف ال تتلقى أجورا مقابل‬ ‫ّ‬
‫روحيا ّ‬ ‫الروحية أو سبيال‬
‫عملك معنا‪ ،‬لكنك من ناحية أخرى لن تحتاج إلى دفع تكاليف الطعام أو‬
‫السكن عندنا‪.‬‬
‫وإذا كنت تريد اصطحاب أسرتك وأوالدك معك‪ ،‬فيسعدنا ترتيب الغرف‬
‫الالزمة وإدراج أوالدك ضمن مجاميع األوالد في مدارسنا الخاصة‪.‬‬
‫أما عن موضوع مدة الزيارة فيجري تحديدها بالتنسيق مع ذلك املجتمع‬
‫املسيحي الذي تحب زيارته‪.‬‬

‫وللتعرف على مواقع جميع مجتمعاتنا المسيحية‪ ،‬وكيفية االتصال بها‪،‬‬


‫يمكنك زيارة موقع دليلنا الدولي على هذا الرابط‪:‬‬

‫‪www.bruderhof.com‬‬

‫فأهال وسهال ِبكم‬


‫كتـب أخـرى مـن إصـدارات دار المحراث‬

‫لماذا يهمنا األطفال‬


‫بقلم يوهان كريستوف آرنولد ‪ Johann Christoph Arnold‬الذي يقدم لنا‬
‫نصائحا سديدة للتربية في عصرنا الحديث الذي يصعب فيه تربية األوالد‪.‬‬

‫الجـنـس واللّـه والـزواج‬


‫بقلم يوهان كريستوف آرنولد ‪ ،Johann Christoph Arnold‬وفيه كل ما يخص‬
‫أمور الحب والزواج وخدمة العزاب‪.‬‬

‫التح ّرر من األفكار األثيمة‬


‫ّ‬
‫بقلم هاينريش آرنولد ‪ ،Heinrich Arnold‬حيث يدلنا على سبل تحطيم قيود‬
‫األفكار األثيمة وتجارب إبليس التي تراود كل إنسان‪..‬‬

‫مسـيـرتي في الـبحـث‬
‫قصة حقيقية عن رجل لم يعرف امللل وال الكلل في بحثه عن الحياة األخوية‬
‫الحقيقية بالرغم من كل االضطهاد والتهجير الذي القاه‪.‬‬

‫الـمسيحيـون األوائـل‬
‫أعده العالمة الالهوتي ايبرهارد آرنولد ‪ Eberhard Arnold‬حول حياة‬ ‫كتاب ّ‬
‫املسيحيين األوائل التي ّ‬
‫تعري بدورها فتور وعوملة حياتنا املعاصرة وتضعنا أمام‬
‫الرهان‪.‬‬

‫التفاني في خدمة الملكوت اآلتي!‬


‫كتابات ومواعظ القسيس األملاني املوهوب بلومهارت ‪ Blumhardt‬الذي يجعلنا‬
‫أمام املحك لنتوقع تدخل ملكوت هللا في حياتنا اآلن‪ ،‬وليس فقط في اآلخرة‪.‬‬

You might also like