Professional Documents
Culture Documents
لماذا نغفر؟
لماذا نغفر؟
?Why forgive
يوهان كريستوف آرنولد
Johann Christoph Arnold
المقدمة بقلم
ستيف تشاك Steve Chalke
Robertsbridge, England
Rifton, New York
Elsmore, Australia
www.plough.com/ar
إىـلـ ـ
زوـَجـيـت ـ
ـفييرنَــاف
عضيدـه ِ
اـِلـ، َـ الـيـتـِـ ِدوـنـ َمــ ـ
ـَّبتــهاـوَـت
ـَّياـ ـمِـن ـهذهـ ِـالكت ِ ـ
بـ. نتـ َـكتبتــ ـأ ـ
اـك ـ
ـ ـ ـ
ـَم
الـمحتـويــــات
تقديم 6 ......................................................................................
تمهيد :هـل يمـكن الغفـران ملثـل هذا الرجـل؟ 9 .......................
سدسه ،وقال أنه لو كانت إجابة هذا السؤال سهلة لروجر ،فقد استخدم م ّ
ألن حياته كانت قد امتألت برغبة مرة أخرىّ ، أتيحت له الفرصة الستخدمه ّ
م ّ
تأججة في االنتقام ملوت ابنته.
كانت ابنته سارة خارج الدار تركب دراجتها عندما صدمها سائق ثمل
تسبب في تلكوماتت في الحال .ولم يكن هناك شك من جهة الشخص امل ّ
الحادثة ،وقد أرسل السائق إلى السجن بتهمة القتل الذي لم يكن يحمل
رخصة قيادة سارية بسبب إدانته سابقا بالقيادة وهو ثمل .لكن لم يكن هذا
العقاب كافيا لروجر ،فعندما أطلق سراح السائق من السجن استعار روجر
مسدس وأطلق عليه الرصاص م ّ
تعمدا.
ّ
وانقلبت األدوار اآلن ،ووجد روجر نفسه م ّتهما بمحاولة قتل .والغريب أنه
ّ
بالرغم من أنه كان يحاكم بتهمة محاولة قتل إنسان بصورة متعمدة لكن تمت
أي نوع من أنواع الندم ،فقد وجدت بد ّ
تبرئته .أما بالنسبة للسائق ،الذي لم ي ِ
ّ ّ
هيئة املحلفين أن موقفه كان مثيرا لالشمئزاز لدرجة أنهم أصدروا حكمهم
ّ
باإلجماع بأن السائق "ليس مذنبا" .إال أن روجر لم يشعر باالكتفاء على الرغم
من نجاحه في اإلفالت من عقوبة سجن طويلة.
ّ ّ وعندما ّ
تحدثت معه ومع زوجته "كاثي" ،كان كل ما يفكران فيه هو
سدس االنتقام من قاتل سارة ،فسألت روجر إن كان الضغط على زناد امل ّ
ورؤية ذلك الرجل ينهار من األلم بعدما يطلق النار عليه سيجعله يشعر
بارتياح ،فقال" :ال .إن ما يريحني هو قتله فقط" .فسألت كاثي عن مشاعرها
تجاه هذا األمر ،فقالت" :لن أكون سعيدة إن قتل روجر ذلك الرجل ،ألن هذا
6
تقديم 7
ّ
ألنها تحثنا على سبر أغوار جوانب طبيعتنا التي قد ت ّهدد بدمارنا إن أن ّ
يتغيرّ ،
قدم لنا الوسيلة الناجحة للخروج من لعنة مرارة لم نراجعها .لكنها أيضا ت ّ
هامة لجميعنا من الذين يجدون قدم هذا الكتاب رسالة ّالحقد والكراهية .وي ّ
صعوبة في أن يغفروا لآلخرين أو ألنفسنا ،كما هو الحال مع كثيرين.
لكن ال تعتمد على كلماتي ،فعليك أن تقرأ الكتاب بنفسك...
ـكن ُ
الغفـران لمثـل هذا الرجـل؟ هـل يم ُ
ّ
يا له من قانون صعب ،ذلك الذي يقول أننا ال يمكن أن نشفى من جروحنا
النفسية العميقة ما لم نغفر.
قول من
آالن باتون Alan Paton
كاتب من جنوب أفريقيا وناشط مناهض للفصل العنصري
في صباح أحد األيام في سبتمبر ،7991وبينما كنت جالسا احتس ي القهوة
ّ
املحلية ،ارتعبت حين قرأت نبأ في الجريدة يخبرنا باختطاف وأقرأ الصحف
فتاة عمرها سبع سنوات في وضح النهار ،ولقد تابعت القصة عن كثب طوال
ّ
األيام التي تلت.
لقد تم العثور على تلك الفتاة في خالل أسبوع من اختطافها ،ملقاة في
تعرضتمنطقة من الغابات على بعد بضعة أمتار من سجن املدينة ،وقد ّ
حتى املوت ،واألسوأ من ذلك هو ّأن الرجل الذي اعترف
لالغتصاب والضرب ّ
ّ ّ ّ ّ
أي أنه كان شخصا عارف الطفلة،
بارتكابه للجريمة ،اتضح أنه كان من م ِ
يمكنها أن تثق به!
9
71لـمـاذا نـغفـر؟
ُّ
يستحق رد فعل الجمهور فكان من ال ُممكن التن ُّبؤ به طبعا :هذا الرجل
أما ّ
املوت ،ويجب أن يحكم عليه بأقص ى عقوبة .وعلى الرغم من ّأن املدعي العام
كان قد وعد بتقليل العقوبة ملدة أقصاها عشرين عاما في مقابل تبادل
ّ ّ ّ
املعلومات التي ّأدت إلى الوصول لجثة الطفلة ،إال أنه عاد وعدل عن وعده
ّ عدة أيام قائال ّإنه تعاهد مع الشيطان ّ بعد ّ
حتى يجد الطفلة ،وإنه يأمل أن
عام في تاريخ نيويورك يقوم بإرسال قاتال إلى غرفة اإلعدام. يصبح ّأول نائب ّ
ّ
غير أن سكان املدينة اقترحوا بحسب ما جاء في الصحف أن تطلق السلطات
ُّ سراح هذا املجرم املغتصب ّ
حتى "يتولوا هم أمره".
ّ ّ
وعلى الرغم من أن تلك املشاعر الغاضبة مفهومة ،إال أنني تساءلت :هل
ّ
الضحية املكلومة؟! وقد شعرت تماما بما ستأتي هذه املشاعر بالعزاء ألسرة
ّ ّ
يجب أن يكون عليه رد فعلي كراع كنس ي ،ورتبت ممثلين من كنيستي
ّ
لوالدي الطفلة ،وحاولت جاهدا زيارة للمشاركة في الجنازة ،وأرسلت الزهور
ّ ّ ّ
األسرة لكن ّي لم أتمكن من ذلك ،إال أن قلبي كان ما يزال حزينا .وجاءني
علي زيارة القاتل ،وذلك لكي أجعله يتواجه مع أفعاله إحساس أنه يحب ّ
وأساعده ليتوب عما كان قد ارتكبه( ،فقد كان في نظري ّ
حتى تلك اللحظة
وحشا ال أعرف شكله).
جرد دخولك إليها .كانت العقوبة هي السجن مدى الحياة بمشاعر العداوة بم ّ
وجهها للم ّتهم قائال له" :أرجو أن يكون الجحيم الذي
التي تبعها القاض ي بعبارة ّ
ّ
األبدية!" جرد بداية للجحيم الذي ستواجهه في تواجهه ّهنا اآلن في السجن م ّ
ّ
ّ
لوالدي وسمح أخيرا للم ّتهم أن يتكلم بكلمات قليلة ،فقال بصوت مرتفع
صلي ّ ّ ّ الطفلة ّإنه آسف فعال على األلم الذي ّ
يوميا طالبا تسبب فيه لهما وإنه ي
الغفران ،وعندما انتشر الهمس الغاضب بين الجالسين ،سألت نفس ي أصعب
سؤال" :هل يمكن أن يغفر ملثل هذا الرجل؟"
ُ
من يختار االنتقام يجب عليه أن يحفر قبرين.
مثل صيني
السر الذي إن لم َ
نسع ُّ الغفران هو الطريق للسالم والسعادة ،وهو إنَّ ُ
ّ ّ الكتشافه ّ
لظل خفيا عنا .فالهدف من هذا الكتاب هو ليس أن يكون بمثابة
ّ ّ
عملي للغفران ،ألنه من املستحيل أن تخبر شخصا كيف يجب أن مرشد
يغفر ،لكني آمل أن يساعد هذا الكتاب في توضيح السبب وراء الحاجة إلى
الغفران.
ّإن الغفران أمر ممكن ،وهذا هو ما تظهره قصص هذا الكتاب ،حيث
حتى في أصعب الظروف .وأنا ّ علم الناس أن يغفروا ّ ّ
أتمنى أن أساعدك ت
للوصول إلى الباب الذي يقودك إلى طريق الغفران بسردي لتلك القصص،
جرد أن تصل إلى الباب ،فستكون أنت الشخص الوحيد الذي يكون وبم ّ
بمقدوره أن يفتحه.
ّ ّ
ما معنى الغفران؟ قال س ي .أس .لويس C. S. Lewisأنه يتعدى حدود
ّ ّ
اإلنساني ،إذ أنه يصفح عن تلك األمور التي ال يمكن الصفح عنها أبدا. العدل
فهو إذن أكبر من مجرد ِالتماس العفو ،فعندما نلتمس نحن العفو من
ّ
شخص ما ،فإننا ننحي جانبا األخطاء التي ارتكبها وال نعاقبه عليها،
12
سرطان النقمة والبغض 71
لكننا عندما نغفر ،فنحن ال نتسامح في الخطأ أو الفعل املتعمد للشر فحسب
جيدا أن ذلك الشخص هو املسئول عن الخطأ ،ونسعى إلى بل نعلم أيضا ّ
إعادة تأهيله واستعادته مرة أخرى .وقد ال يكون غفراننا مقبوال دائما ،لكن
جرد أن نبادر بالغفران فستصبح نفوسنا طاهرة من الشعور بالكراهية .ر ّبما بم ّ
األقل لن نستخدم األلم الذي نشعر به إلحداث ّ
ِ نظل مجروحين ،لكن ّنا على
مزيد من األلم لآلخرين.
ّ
الخاصة بإساءة ّ
السلبية مرة أخرى تلك الذكريات فنحن عندما نستعيد ّ
يهم ما إذاحقنا ،فإن أمرا كهذا سيستفحل ليصير ظنونا سيئة ،وال ّ آخرين في ّ
ِ
ّ ّ
كان سبب هذا الظن صحيحا أم وهما ،إذ أن تأثير كالهما واحد .فبمجرد أن
حتى ننفجر ونفسد ّ
كل الظن قد استهلك قوانا ّ
ّ نصل لتلك املرحلة ،سنجد ّأن
ش يء من حولنا.
جميعنا يعرف أناس يشعرون بالبغض ،فمثل هؤالء لديهم ذاكرة مدهشة
ألدق التفاصيل ،وهم يغرقون في فخ الشعور بالشفقة على الذات وفخ ّ
الكراهية .كما ّأنهم يسجلون ك ّل ظلم وقع عليهم ،ويكونون على استعداد دوما
ّ ألن يظهروا لآلخرين إلى ّ
أي مدى هم متأملون ،وهم قد يبدون هادئين من
الخارج ،لكنهم يكونون في واقع األمر مملوئين بالكراهية من الداخل.
وعادة ما يدافع هؤالء الناس عن شعورهم بالسخط والنقمة باستمرار
بحد ذاته -كفيل ألن يكون قائلين ّإنهم قد تأملّوا وعانوا كثيرا ،وأمرا كهذا ّ -
لكن الحقيقة هي ّأن هؤالء الناس ذريعة تعفيهم عن مسامحة غيرهمّ .
يحتاجون إلى الغفران أكثر من غيرهم ،فقلوبهم في بعض األحيان تمتلئ
بالضغينة للدرجة التي تجعلهم يفقدون القدرة على ّ
املحبة!
منذ ما يقرب من عشرين سنة تحدثت وأبي لوقت طويل مع امرأة من
هذا النوع محاولين مساعدتها ،فقد مات زوجها لكنها كانت قاسية وبال مشاعر
مثل الصخرة ،وعاشت حياة بال لوم في نظر العالم ،إذ كانت شديدة الترتيب
والتدقيق وتعمل بجد ،وأمينة ومقتدرة ويعتمد عليها ،لكنها كانت ال تستطيع
ّ
أن تحب .وبعد شهور من الصراع ،اتضح السبب وراء شعورها بفتور القلب،
إذ ّأنها لم تكن قادرة على الغفران ،ولم يكن بإمكانها اإلشارة إلى ألم م ّعين
71لـمـاذا نـغفـر؟
نحنية تحت ثقل اآلالف من الظنون الصغيرة بعينه بحياتها ،لكنها كانت م ّ
مجتمعة معا.
ّ ّ
سلبية للحياة .فهي هدامة ّإن مرارة الكراهية هي أكثر من م ّ
جرد نظرة
وتهدم الشخص بحد ذاته أيضا .فعندما تحتفظ أنت عمدا بالضغينة تجاه
دمر على نفسك .إذ ّأن أمرا كهذا سيفتح شخص آخر ،فسيكون لهذا تأثير م ّ
عرضين ألفكار الكراهية واالنتقام ،بل وألفكار القتل.الباب للشر ،وسيتركنا م ّ
ّ
الشد النفس ي يمكن وبهذا تتضرر النفس ويتضرر الجسد أيضا .ونحن نعلم أن
يتسبب في حدوث قرحة أو آالم الصداع ،لكننا عادة ما نخفق في رؤية ّ أن
العالقة بين مرارة االستياء واألرق على سبيل املثال .فقد أظهرت األبحاث
الطبية عالقة وثيقة بين الغضب الذي تكون مشكلته غير محلولة ،وبين ّ
النوبات القلبية :فيبدو أن الذين يحبسون استيائهم ومرارتهم يكونون أكثر
عرضة لإلصابة باألمراض من أولئك الذين يتمكنون من تهدئتها عن طريق
التنفيس عن مشاعرهم.
"برندا "Brendaامرأة شا ّبة طُلب مني ُمساعدتها قبل مدة قصيرة ،لقد
عمها القسيس .وعلى الرغم من ّأنها ّ
كانت قد تعرضت لالعتداء الجنس ّي من ِ
ّ ّ
ضحية بريئة لذلك الرجل الفاسق والرهيب ،إال أن ومن غير شك كانت
شعورها بالبؤس والكآبة كان قد صار جزءا من تكوينها النفس ّي ،فلم ترغب بل
لم تقدر على تجميع قواها النفسية لتغفر.
إلي يائسة بعدما قضت سنوات طويلة في الخوف من وصرخت "برندا" ّ
ّ
معذبها ّ - الكحوليات التي كان ّ
يمدها بها ّ ّ
كل يوم عمها – ِ الفضيحة وفي إدمان
كهدايا .اجتازت "برندا" مشوارا طويال في الحصول على استشارات من األطباء
مادية يمكن أن ترغب فيها .وكانت تشغل كل رفاهية ّ ّ
النفسيين ،وكان لديها ّ
وظيفة مرموقة ولديها شبكة من األصدقاء الذين قدموا لها الدعم ،وقد تم
القيام بكل ما هو مستطاع ملساعدتها الستعادة وضعها الطبيعي ،لكن بدون
جدوى .لكن ،وبالرغم من هذا ،كانت مشاعرها تتأرجح بصورة كبيرة ما بين
الضحك املفرط والبكاء الذي ال يمكن إيقافه .وكانت تنغمس في التهام الطعام
سرطان النقمة والبغض 71
ثم تضرب عنه في اليوم التالي .وكانت تشرب زجاجة وراء األخرى في أحد األيامّ ،
ّ
الكحولية ،محاولة بذلك أن تنس ى مشكلتها. من املشروبات
ر ّبما كانت "برندا" واحدة من أصعب الناس الذين سعيت ملساعدتهم.
بأي شعور بالذنب ،لكن بدا واضحا لي ّأنها هي كنت م ّ
ترددا في التحميل عليها ّ
ّ
يدها أن تبادر في عملية الشفاء .فما لم تتعلم الغفران للشخص وحدها التي ِب ِ
ّ ُّ ّ
الذي اعتدى عليها ،فإنها ستظل تشعر بأنها ضحيته .لكن لألسف كانت كل
االحتقانمحاوالتنا معها فاشلة .فازداد شعورها أكثر وأكثر باليأس بسبب ِ
النفس ي واإلحساس بالغضب والحيرة ،وأخيرا حاولت أن تخنق نفسها فتم نقلها
إلى املستشفى.
ّ
ّإن الجراح النفسية التي يخلفها االعتداء الجنس ّي ربما تستغرق سنوات
ُّ
تستمر ملدة طويلة .لكن يجب أال لتشفى .وعادة ما تترك مثل هذه الجراح آثارا
يؤدي األمر إلى الشعور بالعذاب مدى الحياة أو إلى االنتحار .وفي ك ّل الحاالت ّ
تحرر وحياة التي تتشابه مع حالة "برندا" وجدت الضحايا يحصلون على ّ
جديدة عندما يغفرون للمغتصب ،ويغفرون للذين سمحوا باستمرار
ّ
االغتصاب أو فشلوا في رؤية ما كان يحدث في ذلك الوقت ،ولم يتمكنوا من
إيقافه.
ّ
ال تعني املغفرة بالضرورة النسيان أو التغاض ي عن األمر .وال يتوقف
األمر هنا بالتأكيد على شرط االلتقاء وجها لوجه مع املعتدي – حتى أنه ال
ينصح به في حالة االغتصاب .لكنه يعني بالتأكيد أن ّتتخذ قرارا طوعيا
بالتوقف عن الكراهيةّ ، ُّ
ألن الكراهية ال تساعد بش يء ولن تقودك إلى ش يء
مفيد ،فهي تنتشر في الشخص مثل السرطان حتى ت ّ
دمره بالكامل.
حتى املوت في سيارتها ،إذ اخترقت سيارتها .فقد نزفت "فرانسز" ّ لنأخذ ّ
ِ
الرصاصات الشريان األورطي وقلبها ورئتيها ،وقد اختنقت بدمها .وماتت
ّ بكر من صباح يوم األحد .وأخذنا ّ ّ
سيارتها في وقت متأخر من في وقت م
مساء يوم الثالثاء .وكانت السيارة تبعث رائحة ن ِتنة .ولم تبرح تلك الرائحة
ذهن "دانيال" الذي أراد االنتقام بأبشع صورة ممكنة .فقد أراد فعال أن
يجد َمن يساعده بأية طريقة كانت – كنوع من العدالة على مقتل أخته.
ارجُ ُّ
تغي ُرا كبيراُ في البحر لذا ُ يقو ُل التاريخ :ال تترجى شيئا في
بعيداُ عن االنتقام القبر
ّ
أن ُهناك شاطئ أبعد وآمن ُ حي اآلن،لكن وأنت ُُّ
ُ
ُيمكن الوصولُ إليه من هنا موجة العدالة التيُ ستعلو
ُ
فآمن باملعجزات طال انتظارها،
ُ ُ
وينابيع الشفاء يرتبط الواقعُ باألمل
ُ وعندئذ
18
التغلب على الكراهية بالمحبة 79
فقدت ابنتي ،وطبعا سنفتقدها .لكنني لست أحمل ضغينة وال حقدا ُّ لقد
مرة أخرى ...وال تسألوني من فضلكم عن في قلبي ،فهذا لن يعيدها لي ّ
وأن هناك قصدا منلكني أعلم ّأنه الب ّد ّ
لدي إجابةّ .
ألنه ليست ّّ
السبب...
ّ ّ
وراء موتها .ولو لم أفكر بهذه الطريقة النتحرت بالتأكيد .إذ أن موتها
ّ
خطة أعظم ...وسنتقابل معا ّ
مرة أخرى. جزءا من
وقد قال "جوردون" الحقا ّإن كالمه ليس عبارة عن إجابة الهوتية عن موت
عبر عما كان يخالج صميم قلبه .وبعد مض ّي ّأيام وشهور على ابنته .فهو مجرد ّ
االنفجار ،صارع لكي يحيا بحسب هذا الكالم .ولم يكن أمرا كهذا سهال ،لكن
ّ
يتعلق به ،ش يء ليجعله ّ
حيا في الساعات الحالكة. كان هذا الكالم بمثابة ش يء
ّ
اإلرهابيين الذين قضوا على حياة ابنته لم يشعروا بالندم، كان يعلم أن
وقد أراد أن يحصلوا على العقاب ويودعوا في السجن .وقد أساء كثيرون فهمه
ّ
ألنه رفض أن يطلب االنتقام لحياة ابنته .فقد قال:
هؤالء املسئولون عن ارتكاب هذا الفعل سيواجهون دينونة هللا ،التي هي
خارج نطاق مغفرتي لهم ...وقد يكون خطأ من جانبي أن أعطي انطباعا
ّ
أن هؤالء املسلحون ومن ضربوا تلك القنبلة يجب أن يطلق سراحهم
ليسيروا أحرارا في الشوارع .لكن ...سواء ّتمت محاكمتهم هنا على األرض
فإنني سأبذل قصارى جهدي كبشر أن أظهر بقانون املحاكم أو لم تتمّ ...
لهم الغفران ...وصاحب القرار األخير سيكون هللا.
ّ
لقد ساهم غفران "جوردون" للقتلى مساهمة إيجابية وجعله يتأقلم مع وفاة
ّ
األقل ،ولو ابنته املفاجئ وآثارها التي امتدت إلى أمور أبعد منه كبشر .فعلى
ِ
01لـمـاذا نـغفـر؟
وقتيا ،كسرت كلماته دوامة القتل واالنتقام :فقد أحس قادة املليشيات ّ
ّ
ستانتية بالذنب لشجاعة "جوردون" من أنه لم يطالب باالنتقام. البروت
ّ
إن قصة "ستيفن ماكدونالد "Steven McDonaldقد تأثر بها كثير من
األمريكيين لكن بدا ّأن قليلين فقط هم الذين
فهموا ّأن غفرانه لم يكن عمل بطولي ّ
لقوة
إرادة خارقة الطبيعة .كان "ستيفن" ضابطا في
البوليس في مدينة نيويورك حين تم أطالق
مما أصابه بالشلل من الرقبة الرصاص عليهّ ،
إلى أسفل في عام 0916أثناء استجوابه لثالثة
من الشباب في املتنزه املركزي للمدينة Central
.Parkولم يكن قد مض ى على زواجه عام واحد
آنذاك ،وكانت زوجته حامال في الشهر الثاني.
كان "شافود جونس ،"Shavod Jones
وهو الشخص الذي هاجم "ستيفن" ،يسكن في أحد مشاريع اإلسكان الفقيرة
في حي هارلم في مدينة نيويورك ،في حين كان "ستيفن" يعيش في مقاطعة ناساو
ّ
الغنية التي تقطنها غالبية بيضاء .كان من املمكن أن تنتهي املقابلة القصيرة
بين االثنين بالسجن ألحدهما وبالشعور بالنقمة طوال الحياة لآلخر .لكن قبل
يتم إطالق سراح "شافود" كان "ستيفن" قد بدأ في مراسلته محاوال أن أن ّ
يخلق سالما في حياة ذلك الشاب وأيضا معنى .فكتب قائال:
التغلب على الكراهية بالمحبة 07
علي الرصاص؟ وأنا مضطجع في لم يبرح من ذهني السؤال :ملاذا أطلق ّ
الطابق السادس من الجناح الجنوبي للمستشفى ،أنظر إلى السقف
ّ
متحيرا ،لكني وجدت أنه ال يمكنني أن أكرهه ،فقد أتت به الظروف إلى
ذلك املتنزه في تلك الظهيرة ،ومعه مسدسا يخبئه في سرواله.
ّي ّ
فلم أكن أنا سوى شارة شرطي لذلك الصبي ،أو ز يمثل الحكومة،
ّ
فقد كنت في نظره النظام الذي جعل املالك يطالبون بإيجار للشقق
ّ
الحقيرة في املباني املتهالكة؛ وقد كنت أمثل في نظره الجهة املسئولة في
ّ
املدينة التي تتولى أمر جيرانها من األحياء السكنية الفقيرة وتطرد سكانها
عما إذا كانوا أناسا ملتزمينبغض النظر ّ ّ بحجة تحسين املستوى لكن
لندي الذي ظهر في نزاعبالقانون أو مجرمين ،وقد كنت أنا الضابط االير ّ
ّ ّ
محلي ورحل دون أن يفعل شيئا ألنه لم يكن هناك خرق للقانون.
ُّ
والعدو .فمن وبالنسبة لـ"شافود جونس" كنت أنا كبش الفداء،
جهته لم يرني كإنسان ،أو كشخص له أحبائه ،أو كزوج له زوجة أو
تربى على نظرة مجتمعه لرجال كأب في القريب العاجل إن شاء هللا .فقد ّ ّ
ّ ّ
الشرطة الذين يتسمون بالعنصرية والعنف ،لذلك كان عليه أن يتسلح
ضدهم .كال ،ال يمكنني أن ألوم "جونس" .فقد كان املجتمع – الذي ّ
االجتماعية املسئولة عنه والناس الذين ّ يتألف من أسرته والهيئات
جعلوا من املستحيل أن يحيا أبواه معا تحت سقف واحد -كان املجتمع
هو الذي أخفق معه بمدة طويلة قبل أن يتقابل "شافود جونس" مع
"ستيفن ماكدونالد" في متنزه املدينة...
أنني لست على ما يرام ،أشعر بالغضب في بعض األيام حين أشعر ّ
الشديد ،لكني أدركت ّأن الغضب مشاعر بال فائدة .فأحيانا أشعر
علي النيران ،لكني كثيرا ما أشعر بالغضب تجاه ذلك املراهق الذي أطلق ّ
ّ
باألس ى نحوه .ورجائي الوحيد هو أن يتمكن من تغيير حياته لكي يساعد
الناس ال لكي يؤذيهم .فأنا أغفر له ،وآمل أن يجد السالم والهدف
لحياته.
00لـمـاذا نـغفـر؟
لم يجب "شافود" على خطابات "ستيفن" في البداية ،وعندما أجاب عليها
ألن "ستيفن" رفض طلبه ملساعدته في الحصول على إطالق فشلت املبادرة ّ
ّ سراح مشروطّ .
ثم في أواخر عام 0993بعد مض ّي ثالثة أيام فقط من إطالق
سراحه من السجن ق ِتل "شافود" في حادث اصطدام دراجة نارية في شارع
ماديسون.
قبل عدة أشهر عندما زرت "ستيفن" في منزله بجزيرة لونغ آيلند Long ّ
Islandفي نيويورك ،ذ ِهلت على سلوكه الرقيق وعلى عيناه الالمعتان املفعمتان
بالحيوية وفي الوقت نفسه ذ ِهلت على مدى عجزه الكبير .فالحياة على كرس ّي
ّ جدا أن يقبلها ّ
تحرك من الصعب ّ م ّ
حتى العجوز ،فما بالك أن يتخلى إنسان
سن التاسعة والعشرين فهو أمر محبط من الطبيعية النشيطة في ّ
ّ عن الحياة
ُّ ّ ّ دون ّ
شك .وفوق هذا كله فهو لديه قصبة هوائية اصطناعية للتنفس
بواسطتها ،وهو غير قادر حتى على احتضان أبنه ذي العشر سنوات ،فهذا هو
بأي غضب أو بأي نقمة في "ستيفن ماكدونالد" لكني مع كل ذلك لم أشعر ّ
داخله.
ُّ
لقد فتح قلبه لي وحكى بهدوء لكن بحزم ،وشرح لي كيف أن التعرض
لتلك الطلقة ،دفعه إلى أن يعيد تقييم حياته بر ّمتها:
ّ
في البداية كان الغفران سبيال لي يمكنني من املض ّي قدما في الحياة،
وأسلوبا لنسيان هذا الحادث الفظيع .لكن فيما بعد أدركت ّ
أنني كنت
أحيا حياة ّ
أنانية ،وأنني أنا نفس ي كنت بحاجة إلى الغفران .بهذه البساطة
ومن غير لف ودوران.
عجزه وآثارها على زواجهما .وكثيرا ما يقاوم "ستيفن" مشاعر الكآبة وأفكار
ّ
االنتحار .لكن عندما سألته إن كان الغفران نفسه صراعا ،قال ال ،إنه نعمة.
حتى فيبشدة .لكن ّ ال يمكن أن يكون الغفران سهال عندما يجرح اإلنسان ّ
إننا نواجه خياراّ :إما أن نحب أو أن نكره ،إما أن نغفر أو أن الحزن الشديد ف ّ
ندين ،إما أن نسعى للمصالحة أو لالنتقام .ر ّبما يكون "ستيفن" قد استسلم
ّ للبغض واالمتعاض ،لكنه ي ّغير حياة الكثيرين ّ
حتى هذا اليوم ألنه اختار طريق
السالم واملصالحة.
ومن أحد األبطال الذين يعتز بهم "ستيفن" هو "مارتن لوثر كنج" .ففي
املمرضة أن تأتي له بمجموعة من أقوال ذلك الزعيم أثناء زيارتي له طلب من ّ
املفضل لديه الذي يقولّ " :إنّ بشأن حقوق املدنيين التي قرأ منها السطر
عرضياّ ،
لكنه موقفا دائميا". ّ الغفران ليس ُّ
تصرفا
حتى مركز الشباب حيث مرة أخرى ّ وافقت وسرت معه تجاه الشارع ّ
مجرد أن ركبت كان يترك سيارته (التي هي منزل في ذات الوقت) .وب ّ
عني ّ
حتى أريح نفس ي. السيارة معه ،وضعت متعلقاتي ّ
ألن الرجل كان ّيتجه نحو اختفت مدينة ميامي من أمامي بسرعة ّ
ّ
العامة وعلى الشمال .وأوقف السيارة في منطقة بعيدة عن املواصالت
جانب الطريق ،وادعى أنه قد فاتته االستدارة .فأعطاني خريطة وطلب
مدعيا أنه مني أن أبحث عن رقم م ّعين ،ثم ذهب الى مؤخرة السيارة ّ ّ
"سيجلب شيئا ما".
وفيما أنا منتظر وأدرس في الخريطة شعرت بلسعة في كتفي ثم
فالتفت ورائي فرأيته يحمل معول لكسر الجليد في يده .ثم ُّ أخرى.
علي وأخذسحبني من مقعدي ورماني على األرض .فجلس بركبتيه ّ
ّ يطعنني في صدري ّ
عدة ّ
مرات .فرجوته أن يتوقف عن هذا ووعدته أنه لو
ّ
فإني لن أخبر ّ
أي شخص بما حدث. تركني وشأني
علي .وأخبرني أنه سيلقي وشعرت براحة ال توصف عندما قام من ّ
وسيعرفه مكاني .وسمح لي أن أجلس ُّ بي في مكان ما وبعدها سيكلم أبي
ّ ّ
في مؤخرة السيارة وهو يقودها ،لكني أدركت الحقيقة املؤملة من أن هذا
املوقف خارج نطاق سيطرتي .وعندما سألته ملاذا يفعل هذا معي ،قال لي:
" ّإن أباك كان السبب في أن أخسر جزءا كبيرا من أموالي".
اتجه إلى طريق الساعة أو أكثرّ ، وبعدما قاد السيارة ملا يقرب من ّ
إلي أبي ليأخذني منه. ابي ،وأخبرني أن هذا هو املكان الذي سيأتي ّ ّ
جانبي تر ّ
وسرنا معا بين األحراش وجلست في املكان الذي أجبرني على الجلوس
ّ
فيه .وآخر ما أتذكر هو رؤيته وهو يمض ي في طريقه ويتركني.
ستة ّأيام ،وفي مساء يوم 36ديسمبر وجد أحد صيادي الغزالنوبعد مض ّي ّ
املحليين "كريس" .وكان رأسه ينزف وعينيه سوداوين ،فقد أطلق عليه
ّ
الرصاص في رأسه واخترقه .وبأعجوبة لم يصب مخه بأذى ،لكنه ال يتذكر ّأن
هناك من أطلق عليه الرصاص.
التغلب على الكراهية بالمحبة 01
عندما زرته في تلك الظهيرة شعرت بالشفقة عليه .فلم يعد "دافيد ماك
أليستر" هو نفس الشخص املرعب الذي اختطفني ،لكنه أصبح رجال
ستين عجوزا في السابعة والسبعين من عمره وكان وزنه أكثر بقليل من ّ
رطال .وقد أصبح أعمى بسبب املياه الزرقاء ،وقد ت ِلف جسده بسبب
الخمور والتدخين .ولم يعد له أصدقاء أو عائلة .باإلجمال ،كان رجال
يواجه املوت بندم شديد.
ّ ّ ّ
أتحدث مع "دافيد" كان قاسيا ،فربما أعتقد أنني وعندما بدأت
كنت ضابط شرطة ثاني ،فسأله أحد أصدقائي الذي رافقني بعض
األسئلة البسيطة لكي يقوده لالعتراف أنه اختطفني ،قائال" :أال ترغب في
01لـمـاذا نـغفـر؟
ّ ّ
الصبي الصغير أنك ندمت على ما فعلته معه؟" فأجاب أن تخبر ذلك
ّ ّ
"دافيد" مؤكدا" :أتمنى لو كان هذا بإمكاني".
ّ ّ عندئذ ّ
قدمت نفس ي له ،وعلى الرغم من أنه لم يستطع رؤيتي ،أال
ّ
أنه أمسك بيدي وأخبرني أنه آسف على ما فعله معي .وباملقابل عرضت
عليه صداقتي وأخبرته أنني قد غفرت له.
ّ
يقول "كريس" إنه لم يكن صعبا عليه أن يغفر،
لكن وسائل اإلعالم لم تفهم ملاذا غفر له أو كيف
حدث هذا .لقد أعجبت وسائل اإلعالم بقدرته على
الغفران ،لكنها لم تستطع أن تدرك ما الذي دفعه
ملثل هذا الغفران .فوسائل اإلعالم ال تدرك عادة
ّ
ّ
قصة معنى الغفران ،فيبدو ّأنها تركز على
االختطاف وتفاصيل التعذيبّ ،أما "كريس" فيقول:
وفي ّ
األيام التالية لهذا االجتماع بدأ "كريس" في زيارة "دافيد" بصفة منتظمة
مع زوجته وابنتيه .وقض ى الرجالن ساعات طويلة معا في الحديث وذابت قسوة
الرجل العجوز بالتدريج .وفي أحد األمسيات بعد ثالثة أسابيع من تلك
التغلب على الكراهية بالمحبة 07
الحادثة ،وبعد أن أودع "كريس" صديقه املريض إلى الفراش لينام ،مات
"دافيد".
السر الذي
ِ
ّ ُتظهر لنا قصص "جوردون" و"كريس" و"ستيفين" التناقض في
ّ ّ ّ
نطلق عليه "الغفران" .فيرى الكثيرون منـا أنه من الصعب أن نتخلى حتى عن
الضغائن الصغيرة .لكن هؤالء الرجال الثالثة الذين عانوا أكثر بكثير من أسوأ
كوابيسهم ،استطاعوا أن يغفروا بسهولة عجيبة .ور ّبما ال يكون هذا بسبب
ّ
استمد هؤالء الرجال ق ّوتهم طبيعتهم ،لكنه يرجع إلى ق ّوة أكبر منهم .وفي النهاية
للغفران من إيمانهم باهلل ،ال من بحثهم عن السالم فقط.
الفصل الثالث
إذا كانت املسألة مجرد مسألة وجود بعض األشرار الذين يقترفونُ األفعال
ّ
ن من الضروريُ إذن عزلهم عنا والقضاء الشريرة في مكان معين فسيكو ُ
ّ ّ
ن الخط الفاصل ما بين الخير والشر يتغلغل داخل قلب ُّ
كل إال أ ُ
عليهمُ .
ّ َ ّ
جزء من قلبه؟
إنسان منـا .فمنُ ِمنا تراه راغب في القضاء على ُ
قول من
ألكسندر سولجنيتسين Aleksander Solzhenitsyn
أديب ومعارض روس ي ،كتب ضد معسكرات االتحاد السوفيتي للعمل القسري
حائز على جائزة نوبل في األدب سنة 0901
بالقصة التالية لي ّ
وضح لنا معنى هذه الكلمات في ّ أخبرنا يسوع املسيح
ّ
الربانية: الصالة
28
إنهاء دوامة الحقد 09
َ
اس َب ِة ق ِّد َم ِإل ْي ِه َو ِاحد يدهَ .ف َلما ْاب َت َد َأ في ْامل َح َ َأ َ َاد َملكا َأ ْن ي َحاس َب َعب َ
ِ ِ ِ ر ِ
اع هوَ آالف َو ْز َنةَ .وإ ْذ َل ْم َيك ْن َله َما يوفي َأ َم َر َس ّيده َأ ْن ي َب َ َ ْ َ َ َْ
ِ ِ ِ مديون ِبعشر ِة ِ
َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ
َو ْام َرأته َوأ ْوالده َوك ُّل َما له َويوفى الد ْين .فخر ال َع ْبد َو َس َج َد له ق ِائالَ :يا
َ َْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َ
َس ِّيد ت َمه ْل َعلي فأو ِف َي َك ال َج ِم َيع .ف َت َحن َن َس ِّيد ذ ِل َك ال َع ْب ِد َوأطلقه َوت َر َك له
َ
ان َم ْديونا له الد ْي َنَ .و َملا َخ َر َج َذل َك ْال َع ْبد َو َج َد َواحدا م َن ْال َعبيد َف َقائه َك َ
ِ ِ ر ِِ ِ ِ ِ
ْ َ ََْ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ََْ َ َ ََ َ َ َ
ِب ِمئ ِة ِدينار فأمسكه وأخذ ِبعن ِق ِه قا ِئال :أو ِف ِني ما ِلي عليك .فخر العبد
ََ ْ ََ َ َ ََ َ َ َ ْ َ ََ َ ْ َ
وف َي َك ال َج ِم َيع .فل ْم ي ِر ْد َر ِفيقه على قدمي ِه وطل َب ِإلي ِه ق ِائال :ت َمه ْل علي فأ ِ
ان َب ْل َم َض ى َو َأ ْل َقاه في س ْجن َحتى يوف َي الد ْي َنَ .ف َلما َ َأى ْال َعبيد َف َقاؤه َما َك َ
ِ ر ر ِ ِ ِ
َ َ َ َ ََ َ ّ َ َ َ ْ َ َ ُّ َ َ
َح ِزنوا ِجدا .وأتوا وقصوا على س ِي ِد ِهم كل ما جرى .فدعاه ِحين ِئذ س ِيده
ّ َ ْ ّ َ
َ ََ ََ َ ْ َ َ َ ّ َو َق َ َ َ ْ َ ْ
الش ِّرير ك ُّل ذ ِل َك الد ْي ِن ت َركته ل َك ألن َك طل ْب َت ِإلي .أف َما ال له :أ ُّي َها العبد ِ
ََ َ َ َ ْ َ َ َْ َ َ َ ْ
ان َين َب ِغي أن َك أن َت أ ْيضا ت ْر َحم ال َع ْب َد َر ِفيق َك ك َما َر ِح ْمت َك أنا؟َ .وغ ِض َب ك
َ َ َ َ َ َْ َ َ ّ َ ْ َ َ َ َ
س ِّيده وسل َمه ِإلى املع ِذ ِبين حتى ي ِوف َي كل ما كان له علي ِه (متى -32 :01
.)24
من أقوى الدوافع للغفران هو تجربتنا الشخصية عندما يغفر لنا ،وإدراكنا
لحاجتنا إلى الغفران عن األخطاء التي ارتكبتاها في ّ
حق اآلخرين.
ّ
أفريقي من ُّ
أمريكي من أصل ُيخبرنا "جي َرد "Jaredأحد طلبة الجامعة وهو
والية بوسطن األمريكية ّ
بقصة صراعه مع الغفران قائال:
ّ
املدنية لألفارقة كان والدي مناضال في حركة الدفاع عن الحقوق
حب الجميع ونحترمهم سواء كانوا بيضا أو سودا. األمريكان ،وعلّـمنا أن ن ّ
لم أدرك في ذلك الوقت الصراع العنصر ّي .وكنت الطفل الوحيد األسود
ّ
في املدرسة ،وكان من الواضح أن كثيرين من األطفال اآلخرين تعلموا أن
ّ
يكرهوا .فاألطفال يمكن أن يكونوا قساة فيما يتعلق بالفروق التي
يالحظونها بينهم وبين اآلخرين .فيبدؤون بسؤال بريء :ملاذا لون بشرتك
ألنهم يعلمون ّأن البشرة الب ّنية ب ّني؟ وبعدها يضحكون ويسخرون مني ّ
ّ
حد ما ،ففي مرحلة ما تعلموا ّأن هذا اللون ليس ش يء مختلف إلى ّ
ّ
طبيعيا". "
ّ ّ
لقد شعرت أنني لست في املكان السليم .وكأني سمكة تخرج من
ّ
املاء ،ولم يكن هؤالء األطفال يتعاملون معي بطريقة لطيفة .وأتذكر
قدمت خاصة حادثة ّأثرت ّفي للغاية .ففي أحد األيام ،عندما ّ ّ بصفة
صديقا أبيضا لي لصديق أبيض آخر في األتوبيس ،صارا هذان الصديقان
منذ ذلك اليوم معا وتركانني.
ّ
ثم عندما كنت في الصف السابع في املدينة ،كان هناك طفل واحد
أبيض في فصلي يدعى "شون" وهو الطفل الوحيد األبيض في املدرسة
وكنا نسخر منه ونلقبه بكلمات عنصرية غير ك ّلها .فك ّنا نعامله كاملنبوذ ّ
ّ
الئقة ونعتدي عليه بالضرب .إذ نتخلص من مشاعر الكراهية التي
ّ نحملها نحو البيض في "شون" .وبالرغم من ّأنه لم يفعل ّ
أي ش يء لنا ،إال
مثل ّّ ّ ّ
كل ما نعرفه عن أننا كنا نشعر بالغضب الشديد تجاهه .فقد كان ي
البيض وتاريخهم إلذالل شعبنا ،والقتل واإلجرام وتجارة العبيد ،فأخرجنا
كل البغض والغضب على هذا الصبي. ّ
واآلن ،أستطيع أن أرى ّأن ما فعلناه في "شون" كان خطأ .وقد ك ّنا
حتى هذا نصريين ،وهو الش يء الذي كرهناه في البيض .وما لت ّ بهذا ع ّ
ز
اليوم أطلب الغفران عن األلم الذي تسببت فيه لـ "شون" .وأطلب أيضا
حبونني عندما الغفران لهؤالء األطفال الذين لم تعرف قلوبهم كيف ي ّ
كنت الطفل الوحيد األسود في وسطهم.
إنهاء دوامة الحقد 17
جلست مرتعدة ،وأثناء جلوس ي تجلى األمر لي أنني لو نظرت إلى قلبي
لوجدت بذور الكراهية فيه أيضا .وأدركت ّأن بذور الكراهية موجودة في
كل إنسان .فأفكار االنتقام ومشاعر السخط وبرود القلب نحو اآلخرين ّ
والغضب والحسد وحتى عدم االكتراث بآالم اآلخرين – هي بالحقيقة
الجذور نفسها لتلك املجازر التي حدثت في أملانيا النازّية .وهنا أدركت ّأول
املاسة إلى الغفران وأخيرا شعرت أي وقت مض ى ،حاجتي ّ مرة ،وأكثر من ّ ّ
ّ
بالتحرر الكامل.
ّ
عدة ّأيام سمعنا فجأة ّأن هذه املنطقة سيحتلها األملان أيضا.وبعد ّ
والدي باألموال التي أخفوها ومتشاركين مع ّ فانتابنا الذعر واشترى
عائلتين أو ثالثة حصانا وعربة لكي تحمل األطفال الصغار واألشياء
القليلة التي حملناها على ظهورنا.
واتجهنا شرقا إلى روسيا أمال في الوصول إلى الحدود قبل حلول
حل الظالم .وهناك الظالم ،لكننا وجدنا أنفسنا في غابة كبيرة عندما ّ
مسلحون وطلبوا أن نعطيهم ّ ّ
كل ما نملك .كانت لحظات هاجمنا رجال
ّ
مرعبة لكن كان هناك بعض الرجال في مجموعتنا ممن كانت لديهم
دراجة وأشياء أخرى الشجاعة ملقاومتهم .وفي النهاية رحل الرجال آخذين ّ
صغيرة.
قضت أسرة يوسف سنوات الحرب في سيبيريا .ونجح يوسف بأعجوبة في
الهروب إلى فلسطين عام ،0942وبعد الحرب تقابل مع يهود نجوا من
معسكرات اإلبادة .فيقول يوسف:
وأثناء حمالتنا على رام هللا واللد ،أمرت كتيبتي الفلسطينيين أن
يتركوا بيوتهم خالل ساعات .ولم نسمح لهم أن يرحلوا بسالم لكننا
سكبنا غضبنا عليهم .فضربناهم وعاملناهم بقسوة .ولقي بعضهم حتفه.
ولم تكن لدينا أوامر بفعل هذا ،لكننا فعلنا هذا من تلقاء أنفسنا .فقد
أطلقنا العنان ألدنى غرائزنا واحقرها.
ّ
اليهودية ،وترك الدين ترك يوسف الجيش لكنه ما زال غير سعيد .وترك
بر ّمته ،وحاول أن يعطى معنى للعالم من خالل تفسير شروره باملنطق .لكن لم
ينجح األمر معه .وفي نهاية املطاف جاء الى أحد مجتمعات برودرهوف
املسيحية ،فقال:
ألول مرة حقيقة الغفران .وأسأل نفس ي" :كيف ال يمكنني أن هنا اختبرت ّ
ّ
أغفر لآلخرين على الرغم من أنني أنا نفس ي بحاجة إلى الكثير من الغفران
مرة بعد أخرى؟" وفوق كل ش يء ،فإني كلي أمل أنه في يوم من ّ
األيام
سيمتلئ الناس في كافة أنحاء العالم بالروح نفسه الذي خلصني.
إنهاء دوامة الحقد 11
لكل من "جي َرد" و"هيال" و"يوسف" أسبابا مقنعة لعدم الغفران كان ّ
ّ
البشرية كانوا أبرياء .إذ كانت األعباء التي يحملونها ألعدائهم .فمن وجهة النظر
ّ
نتيجة لكراهية اآلخرين لهم وليس كراهيتهم لآلخرين .ولهذا كان لهم ك ّل الحق
في أن يشعروا باملشاعر التي شعروا بها.
ّ
خاصة لهؤالء الذين ذبحوا ال أحاول للحظة أن أقول إ ّن الغفران سهل
عائلتك وأصدقائك وجيرانك ،لكن من خبرتي كراع كنس ي وكمشير أن أقول ّإن
سيظل مضطهديهم ضحايا لهم بعدماُّ هؤالء الذين ال يستطيعون أن يغفروا
ّ
الجسدي. ينتهي الخطر أو األلم
يقف اإلنسان في حيرة من أمره أمام بعض املسائل ُ– باألخص أمام ما
ُ
ّ
املحبة نشهده من خطايا البشر -ويتساءل :هل يجب أن أستخدم الق ّوة أم
صممت أن دائما استخدام املحبة املُتواضعة! ...وإن ّ
ُ ّ
قر ُر
ُ
املتواضعة؟ ِ ...
ُ
ّ
فاملحبة فرّبما ستخضع العالم كله لك. مرة واحدة ولألبدُ ، تفعل ذلك ّ
املُتواضعة ّ
قوية للغاية ،ومن أقوىُ األشياء ،وال يوجد ش يء مثلها.
قول من
فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoevsky
وهو من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العامليين
ّ
ال السيد المسيح في الموعظة على الجبل إنه يجب أن نح ّب أعداءنا – َق َ
وقد قال أيضا أنه يجب أن "نبارك" الذين يضطهدوننا .ولم تكن هذه م ّ ّ
جرد
نظرية ،لكنه مبدأ أظهره يسوع املسيح بوضوح في كلماته على الصليب حين ّ
ّ ُ َ َ ُ َ َّ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ
ن َماذا َيف َعلونُ( ".لوقا )24 :32وصلى قالَ " :يا أ َبت ُُ
اه اغ ِفرُ لهمُ ألنهمُ الُ يعلمو ُ
تعرضت حياتهاملسيحية صالة مشابهة لهذه عندما ّّ اسطيفانوس ّأول شهيد في
ََ َ َ ّ
لنهاية مأساوية إذ قال" :يا َر ُّب ،ال تحس ْب عل ِيهم ِ
هذ ِه الخطيئة!" (أعمال )61 :0
36
باركوا الذين يضطهدونكم 17
كان "مارتن لوثر كنج ".Jr،Martin Luther Kingمن األشخاص الذين رأوا
ّأنهم يجب أن يغفروا ،وقد قال" :رّبما ال توجد ّ
وصية من وصايا يسوع املسيح
حب أعداءنا" .وقد كتب ّ
الوصية التي تأمرنا بأن ن ّ يصعب تنفيذها مثل تلك
هذا في كتابه الذي كان من أفضل الكتب مبيعا في عام 0962بعنوان "القوةّ
لن ِحب" .فيقول فيه:
18لـمـاذا نـغفـر؟
الفعلية ّ
ملحبة األعداء غير ممكنة. ّ لقد شعر بعض الناس ّأن املمارسة
حبونك ،لكن كيف يمكن فيقولون ّإنه من السهل أن ت ّ
حب هؤالء الذين ي ُّ
حب هؤالء الذين علنا وبكامل املكر يسعون ألن يهزمونه...؟ للمرء أن ي ّ
وحاشا لوصية محبة األعداء أن تكون
متدين مثالي ،بل هي ضرورة ّ وصية حالم
ّ
حتمية لبقائنا .فاملحبة حتى ألعدائنا تعتبر
لحل مشكالت عاملنا .إن يسوع هو مفتاحا ّ
ليس شخص مثالي غير عملي ،بل إنه واقعي
وعملي...
ّإن الرد على الكراهية بالكراهية
يضاعف من الكراهية ،ويزيد من سواد الليل
الذي هو سلفا خال من النجوم .فالظالم ال
يقدر على طرد الظالم؛ فالنور وحده القادر على ذلك .والكراهية ال تقدر
فاملحبة وحدها القادرة على ذلك .فالكراهية تضاعف ّ على طرد الكراهية؛
الكراهية ،والعنف يضاعف العنف ،والقسوة تضاعف القسوة في دوامة
جارفة على طريق الدمار...
ّ
املحبة هي الق ّوة الوحيدة القادرة على تحويل العدو إلى صديق. إن ّ
ّ
فال يمكن أن نتخلص من أعدائنا عندما نقابل كراهيتهم بكراهية؛ لكننا
التخلص من العداوة .فالكراهية بطبيعتها م ّ ُّ ّ
دمرة نتخلص من العدو ب
تغير اآلخرين بقوة املحبة بطبيعتها فتخلق وتبني .فاملحبة ّ ّ مزقة؛ ّأما
وم ِ
شافية.
باملحبة واتخاذها كسالح سياس ّي نابع من إيمانهّ لقد كان التزام "كنج"
َ ّ ّ
املسيحي ،لكن كان لديه أيضا نزعة عملية في تفكيره .فقد ع ِلم أنه كان عليه
وكان على كل زمالئه األمريكيين األفريقيين انتظار النتائج والعيش لعقود تالية
في املنطقة نفسها التي كانوا يقيمون فيها حمالتهم للحصول على اعتراف
الحكومة بحقوقهم املدنية ،التي حرموا منها ملائتي عام بسبب لون بشرتهم ،ال
غير .فلو سلموا ألنفسهم إلى الشعور بالبغض عن املعاملة التي تلقونها،
باركوا الذين يضطهدونكم 19
فسيتحول األمر إلى عنف وهذا من شأنه أن يؤدي ببساطة إلى مزيد من ّ
البغض واالستياء في املستقبل .وبدال من تهديم جدران الحقد العنصري،
فسيصير بناءه أعلى .إن املغفرة لظامليهم هي الكفيل الوحيد لتحرير األمريكيين
األفريقيين – وأيضا األمريكيين البيض -من "الدوامة الجارفة نحو الدمار".
فالغفران هو وحده القادر على أن يشير إلى الطريق الذي يقودنا إلى مستقبل
أكثر إشراقا .فقد قال مارتن لوثر:
نمي قدرتنا على الغفران ونحافظ عليها .فالشخص الذي يخلو يجب أن ن ّ
من ق ّوة الغفران ،يخلو من ق ّوة املحبة .ومن املستحيل أن يبدأ الشخص
مسبق بضرورة الغفران ومسامحة الذين محبة أعدائه دون قبول ّ حتى في ّ
يمارسون ،الشر واألذية تجاهنا في كل مرة .ومن الضروري أيضا أن ندرك
ّ
الضحية التي ّأن الغفران هو فعل يجب أن يبدأه الشخص املظلوم ،أو
تعاني من جرح كبير ،أو الشخص الذي تلقى ظلما فظيعا ،أو الشخص
تحمل اضطهادا شنيعا .وربما يسألكم املعتدي لتغفروا له .ور ّبما الذي ّ
ّ
يأتون بنفسهم ،مثل االبن امل َبذر (االبن الضال) ،من الطريق املليء
بالضياع ،وقلوبهم تخفق عطشا للحصول على الغفران .لكن الشخص
املجروح واألب املنتظر في البيت هو وحده الذي يستطيع أن يسكب مياه
الغفران الدافئة.
والغفران ال يعني تجاهل ما تم اقترافه أو إعطاء تسمية كاذبة لعمل
الشر ال يعود يبقى كعائق في العالقة. ّ شرير .لكنه يعني باألحرى أن
املحفز الذي يخلق املناخ الالزم لبداية جديدة وصفحة ّ فالغفران هو
جديدة...
نقول ألكثر خصومنا املريرين" :سنقابل قدرتكم على تعذيبنا بقدرتنا
تحمل املعاناة .وسنعمل على مقابلة قوتكم البدنية بقوة الروح. على ُّ
سنظل نحبكم .وال يمكننا أن نطيع ُّ فافعلوا فينا ما تشاؤون ،لكننا
الشر ضرورة أخالقيةّألن عدم التعاون مع ّ حيّ ،
قوانينكم الظاملة بضمير ّ
ُّ
سنظل تماما مثلها مثل التعاون مع الخير .ألقوا بنا في السجون ،لكننا
ّ ن ّ
حبكم .أرسلوا الجناة امللثمين إلى مجتمعنا في منتصف الليل ،اضربونا
11لـمـاذا نـغفـر؟
يمر فوقكل منها بعرض بوصة وبطول ثالث بوصات أحدها ُّ ضربات قاتلةّ ،
أذنه واألخرى في قاع الجمجمة واألخيرة في أعلى رأسه.
ّ ّ
وحضرنا الجنازة هناك بعدما تأثرنا باملوقف بشدة ،حيث كانت األولى من
تعج بحوالي ثالثة آالف شخص (كثيرون غيرهم بين جنازتين .وكانت القاعة ُّ
كانوا يقفون بالخارج) ،أما نحن فجلسنا على عتبة ش ّباك في الخلف .لم نسمع
أي تعليق عن الغضب أو االنتقام في تلك الجنازة ،بل انتشرت روح التشجيع
ّ
بين الحاضرين وبصفة خاصة عندما رنموا ترنيمة العبيد القديمة" :لن أسمح
لشخص أن يبعدني عما أريد ".Aint gonna let nobody turn me round
ّ
النظامية (لطائفة الجو السائد في كنيسة صهيون ُّ وفيما بعد كان
النظاميين )Methodistsفي ماريون أكثر هدوء وبكل ما في الكلمة من معنى.
ُّ
فقد كان هناك صف طويل من قوات الشرطة املحلية يقفون في ساحة
محكمة املدينة في الجهة املقابلة من الشارع ،وأيديهم تمسك بعص ي ومركزين
نظرهم علينا .كانوا هم الرجال نفسهم الذين هاجموا السود في مدينة ماريون
تجمع جمهور البيض في منطقة قريبة من املبنى منذ عدة أيام قليلة .هذا وقد ّ
أقل رعبا .وقد قاموا بمسح كامل للمنطقة بالنواظير العام للمدينة ولم يكونوا ّ
والكاميرات وصورونا بالكامل بحيث شعر كل واحد منا أنه تم وضع عالمة
عليه.
واملحبة .وناشد شعبه أن يصلوا ّ وعند املقبرة ،تحدث "كنج" عن الغفران
من أجل رجال الشرطة ،وأن يغفروا للقتلة ،وأن يغفروا لهؤالء الذين
يضطهدونهم .ثم أمسك بعضنا بأيدي بعض ورنمنا "سنغلب We shall
."overcomeكانت لحظات ال يمكن نسيانها .فإن كان هناك مكان في العالم له
نحس مطلقا ّ جميع الدواعي ليحقد وينتقم فسيكون هذا املكان .غير أننا لم
بش يء من هذا القبيل وال حتى من طرف أهل "جيمي".
كان الذهاب إلى "سيلمة" محفوفا باملخاطر فبعد أربعة أيام فقط من
الخيالة مع متظاهرين كانوا في طريقهم الى مدينة الجنازة تواجهت الشرطة ّ
مونتجمري واستعملوا الغازات املسيلة للدموع حيث اندفعوا بخيلهم نحو
املتظاهرين وأسقطوهم أرضا وضربوهم بال رحمة .وبعد مض ّي يومين من هذا
تعرض قسيس أبيض "جيمس ريب" من مدينة بوسطن للضرب في الحادث ّ
10لـمـاذا نـغفـر؟
ّ
مركز مدينة "سيلمة" ،ومات متأثرا بجراحه بعد يومين .وخالل الثالثة أسابيع
سيدة بيضاء من مدينة ديترويت مصرعها التي تلت لقت "فيوال ليوزو" وهي ّ
قل رجال أسود من مظاهرة( .لقد فعلنا نحن أيضا بطلق نار ّي عندما كانت ت ُّ
األمر نفسه قبل أسبوع واحد فقط من تلك الحادثة ،عندما أوصلنا ثالثة
سيدات ك ّن بحاجة إلى وسيلة مواصالت ت ُّ
قلهم إلى ماريون).
تأثرت ّ ّ بعد ّ
بشدة عندما قرأت عن غفران أوالد مدارس عدة سنوات
"سيلمة" في تلك األيام نفسها من فبراير ومارس .0963فقد نظم التالميذ
سلمية بعد انتهاء دوام املدرسة وإذا بمأمور البلدة السيئ السمعة ّ مسيرة
جبر التالميذ"كالرك" يصل .وبدأ هو وتابعيه في دفع التالميذ ونخسهم ،وحاال أ ِ
ّ
على الركض باتجاه معين .فاعتقد الفتيان والفتيات في البداية أن رجال
الشرطة يدفعونهم إلى مركز توقيف البلدية لحجزهم ،لكنهم سرعان ما
اكتشفوا ّأنهم م ّتجهين إلى معسكر السجن على بعد خمسة أميال من املدينة.
ّ
ولم يهدأ رجال الشرطة إال عندما أخذ األوالد بالتقيؤ .وفيما بعد ّادعت
الشرطة ّأنها أرادت أن تنهك "حمى املظاهرات" في "سيلمة" للتخلص منها لألبد.
عدة ّأيام من تلك الحادثة نقل املأمور "كالرك" إلى املستشفى بسبب بعد ّ
إصابته بآالم في الصدر .واألمر الذي ال يمكن تصديقه هو أن أوالد املدارس في
نظموا مظاهرة ثانية خارج املحكمة وهذه ّ ّ
املرة مرتلين الصلوات "سيلمة"
ورافعين الفتات تدعو للشفاء العاجل.
وهي تتمتم بكلمات من فمها حين كانت تعبر صفوف اآلباء البيض الغاضبين،
وعندما ذكرت املعلمة ذلك أمام "كولس" انتابه الفضول قائال" :ما الذي كانت
تقوله؟"
ّ ّ
فلما سأل "كولس" الفتاة "روبي" أجابت أنها كانت تصلي من أجل اآلباء
ّ
البيض .فاندهش "كولس" وسألها باستغراب" :وملاذا تصلين لهم؟" فأجابت:
ّ " ّ
ألنهم بحاجة ملن يصلي ألجلهم" فقد سمعت في الكنيسة كلمات يسوع املسيح
َ ُ َ َّ ُ َ َ َ ُ َ َ َ َ
ن َماذاوهو يموت على الصليب قائالَ :يا أ َبت ُاهُ اغ ِف ُر لهمُ ألنهمُ الُ يعلمو ُ
ُ َ
ن ".لقد اخترقت هذه الكلمات قلبها .وقد رأى الطبيب "كولس" الفتاة َيف َعلو ُ
"روبي بريدجز" ومن مثلها على ّأنهم بذور لوالدة أمريكا الجديدة.
قول من
يسوع املسيح
44
حبُّوا أَعدا َءكُم 11
أ ِ
ّ
ضحية لإلرهاب علي أن أصبح في يوم من ّ
األيام -ورب ّما اليوم - إن كان ّ
كل األجانب الذين يعيشون في الجزائرُّ ،
فأود أن الذي يبدو أنه يستهدف ّ
ّ
يتذكر املجتمع الذي أعيش فيه وكنيستي وعائلتي ّأن حياتي قد قدمتها
ّ
سلموا أن سيد الحياة الوحيد لم يكن غافال عن هذا هلل وللجزائر؛ وأن ي ِ
الرحيل الفظيع.
ُّ
عندما يأتي الوقت أود أن تتاح لي الفرصة لكي أطلب الغفران من
كل قلبي للشخص الذي البشرية ،وألن أغفر من ّ ّ هللا لي وألتباعي في
سيقتلني.
ّ
لم أرغب في ميتة كهذه .فيبدو لي أنه من الضروري أن اذكر ذلك -
فكيف سأفرح إذا اتهم الشعب الجزائر ّي الذي ُّ
أحبه بقتلي؟
أشكر هللا على هذه الحياة املفقودة التي أبذلها في سبيل اآلخرين
كما أوصانا السيد املسيح ،وفي شكري هذا ،الذي أقدمه ّ
لكل ش يء
يحدث في حياتي من اآلن فصاعدا ،فأنا بالتأكيدُّ ...
أود أن أشملك هنا في
ّ ّ
صالتي يا صديق لحظاتي األخيرة ألنك ال تعلم ماذا تفعل ...واسلمك هلل
الذي أراك في وجهه .ولعل بعضنا يجد بعضا ،يا أيها "اللصوص الطيبين"
الفرحين في السماء ،إن كان هذا يسعد هللا ،أبانا أجمعين.
ومن الواضح ّأن رئيس الدير هذا مع إخوانه الرهبان لم يكونوا مجرد رجال
شجعان ليقبلوا مثل هذا املوت .فهناك كثيرون من أمثالهم .فقد امتأل هؤالء
11لـمـاذا نـغفـر؟
إسرائيل وفلسطين تحتاج إلى المصالحة مثلها مثل أماكن عديدة في هذه
األرض .ففي عام 0911سافرت ّ
ألول مرة إلى تلك
مزقتها الحروب حيث قابلت إلياس األرض التي ّ
شقور وهو أسقف ملكي (من طائفة امللكيين
ُّ
فلسطيني عمل لسنوات الكاثوليكيين) وناشط
ّ
واستمرت طويلة بال كلل من أجل السالم.
حتى هذا اليوم ،وقد زار إلياس صداقتنا ّ
مجتمعاتنا املسيحية -برودرهوف - Bruderhof
ّ
مرتين.
يمكن أن يتوقع الكثيرون ويبرروا امتالء صدره بالبغض والحقد .فهو
"إنسان بال بلد" ألن قريته د ّمرت في عام ،0940ودخل السجن ألكثر من ّ
مرة
وتحمل سنوات من القسوة واالعتداء على أيدي الحكومة اإلسر ّ
ائيلية .لكنه ّ
واحد من أكثر الناس الذين عرفتهم مملوءين بالحرارة والتواضع والحنان .فعلى
ّ ّ ّ ّ ّ
شرد إال أنه ما زال مقتنعا طوال الوقت بفكرة" ،أن فلسطيني م الرغم من أنه
ألنهم بشر ".وفي زيارته األخيرةألنهم يهود ،لكن ّ يستحقون وطنا ،ال ّ
ُّ اليهود
ّ
ملجتمعنا املسيحي "دارفل "Darvellفي بريطانيا ذكرنا قائال:
لو امتأل قلبي بالغفران لليهود وللصهاينة ،وللجنود الذي كسروا عظام
أخي وسجنوا أبي -لكان في مقدوري آنذاك الذهاب إلى ذلك اليهودي
ّ بالحق وجها لوجه ،وسيشعر أني ُّ ّ
أحبه ،على الرغم من أني أكره ألخبره
ظلمه ...وسأفضل أن أدعوه إلى االهتداء بدال من تغيير األدوار وأصير أنا
الظالم – حاشا!
حبُّوا أَعدا َءكُم 17
أ ِ
وبشارة عوض ،مثله مثل الكثيرين في جتهي الصراع العربي – اإلسرائيلي ،قد
نال نصيبه من الظلم .وهو من أحد معارفي الفلسطينيين .فقد أخبرني حديثا
عن صراعه الذي استمر طوال حياته ليغفر ،فقال:
في عام 0941مات آالف الفلسطينيين في الحرب الفظيعة التي قامت بين
ّ
وتشرد الكثيرون .ولم تسلم عائلتنا من هذه العرب واملستوطنين اليهود
الحرب .فقد قتل والدي برصاصة طائشة ،ولم يكن هناك مكان يليق
بدفنه .فالجميع كان يخشون أن يتركوا تلك املنطقة خوفا من أن يصيبهم
ّ الرمي من كال الجانبين ،ولم يكن هناك كاهن أو ُّ
قس ليصلي عليه .لهذا
18لـمـاذا نـغفـر؟
ذهب بشارة عندما بلغ سن الرشد إلى الجامعة في الواليات امل ّتحدة وأصبح
ّ ّ
أمريكيا .وعاد ّ
مرة أخرى إلى إسرائيل وحصل على وظيفة كمعلم في مواطنا
ّ
مسيحية .وعندما يتذكر السنين السابقة يقول: مدرسة
أي ش يء ،وشعرت بالهزيمة...في السنة األولى شعرت باإلحباط ،فلم أنجز ّ
فقد كان هناك جبل من الكراهية في داخلي ضد اليهود الظاملين :فقد كان
كل تالميذي فلسطينيين ،وجميعهم عانوا بالطريقة نفسها التي عانيت ّ
بها ...ولم أستطع مساعدة تالميذي بسبب مشاعر الكراهية نفسها التي
كانت بداخلي فقد أضمرتها في نفس ي منذ طفولتي حتى من دون أن أدري
بها.
ّ
وفي تلك الليلة صليت إلى هللا بدموع .وطلبت منه أن يغفر كراهيتي
ّ
لليهود ألني كنت قد سمحت للكراهية أن تسيطر على حياتي .فأخذ هللا
في تلك الليلة مشاعر اإلحباط والكراهية وفقدان األمل ووضع مكانها
ّ
املحبة.
يتم فيه التأكيد على ضرورة الحفاظ على الذات وعلى في المجتمع الذي ّ
تجنب أعمال املغفرة فيه ،إن لم ّ
يتم االزدراء بها. تشجيع الفردانية ،يجري ّ
ّ
فينظر إليها كضعف؛ لقد تعلمنا أن نطالب بحقوقنا ونحميها ال أن نتنازل عنها.
المحامية الفلسطين ّية واملدافعة عن حقوق غير أنَّ رجاء شديد وهي ُ
اإلنسان ت َف ِّند كل هذا وتقول ّإن يسوع املسيح قلب هذا املنطق رأسا على
عقب عندما دعا الناس إلى الغفران ألعدائهم .فتقول:
تحمل ممارسة الغفران الكثير من القوة .فهي تأكيد على كرامة اإلنسان
ّ
ألنه يملك الوسيلة والقدرة على الغفران ...رّبما يكون من الصعب أن
ّ ّ
املثالية أعتقد إنه إن كانت هناك رغبة تفهم ذلك ،لكن من وجهة النظر
في إحالل السالم هنا فال ب ّد أن يكون هناك غفران ...فيجب أن نغفر
لإلسرائيليين ما فعلوه فينا.
11لـمـاذا نـغفـر؟
تقدم هذه املؤسسة املنح الدراسية لتشجيع الشابات ملتابعة دراساتهن في
جامعات فلسطين وإسرائيل ولبنان واألردن ومصر وسوريا.
ولم يأت قراره بمسامحة اليهود بهذه السهولة فقد صارع داخليا في نفسه
في هذا املوضوع ،فكانت أصوات كثيرة تدعوه إلى االنتقام واألخذ بالثأر ،لكن
كان هناك صوت آخر يدعوه إلى التسامح وإلى عدم إراقة الدماء وإلى كسر
دوامة الشر ودوامة االنتقام ،وكان ذلك الصوت هو صوت ضميره .فكان
يتساءل ممن سيأخذ الثأر ،هل سيأخذه من أولئك األطفال اإلسرائيليين
األبرياء الذين كان يساعدهم على أن يولدوا؟ أم ،من أمهاتهم؟ أم ،من تلك
األسرة اليهودية التي قدمت له عمال أثناء صباه؟ أم ،من أصدقائه
اإلسرائيليين؟ أم ،من زمالء عمله في املستشفى؟ أم ،من أصدقائه من دعاة
السالم اليهود؟
وقد استضافته إحدى مدارس كنيستنا في الواليات املتحدة األمريكية
ليتكلم إلى طالب اإلعدادية عن تجاربه في الحياة وعن طموحاته وأمنياته
لآلخرين .وهو مليء حماسة وإيمان بقدرة اإلنسان على تغيير األوضاع من
حوله .وبالرغم من أن دموعه كانت تسيل أثناء إلقائه الخطاب على الطالب
بسبب عذابه القلبي ولوعته وحزنه على فقدانه لبناته الثالث وبالرغم من
الحرمان الذي القاه في طفولته وشبابه وهو يترعرع في مخيم جباليا في غزة إال
ّ
إننا رأينا أنه لم يسلم نفسه إلى فخ الكراهية وجنونها وت ّهورها ،رافضا أن يقع
َ َ
في براثن األحقاد املريضة ،ولم يدعها تستولي عليه ،بل نش َل نفسه منها واختار
طريق السالم واملسامحة واملصالحة والكرامة اإلنسانية .ألنه يعلم أن روح
االنتقام والعنف ال تنتمي إلى الروح اإلنسانية األصيلة بل هي دخيلة عليه وال
تفرز إال خرابا وموتا .وهو ال يريد أن يعيش وفقا لها بل وفقا لروح الحياة.
وهنا نتذكر كالم السيد املسيح وهو على الصليب عندما صلى ألبيه السماوي
َ َ َ َ َ َ ْ َ َ
من أجل قاتليه ،قائالَ " :يا أ َب َتاه ،اغ ِف ْر له ْم ،ألنه ْم ال َي ْعلمون َماذا َي ْف َعلون".
(لوقا )24 :32وهو يؤكد أن إيمانه باهلل ودينه اإلسالمي هو الذي يقويه على
املض ي في طريق السالم والغفران.
َ
ومن املثير لالنتباه ،نرى أن قصته تشبه قصة يوسف بن ِألعازر Josef
Ben-Eliezerالذي له خلفية يهودية وقصة ألياس شقور الفلسطيني املسيحي
10لـمـاذا نـغفـر؟
خوة الدم" وباإلنكليزي " ."Blood Brothersفنرى أن هؤالءالذي كتب كتاب "أ ّ
الثالثة ،مسلم ويهودي ومسيحي ،عانوا األمرين من جراء أحداث زمان الحرب
العاملية الثانية وأحداث عام 0941م ،وما خلفته من أحداث وحروب ومآس ي،
ّ
وقصصهم تقطع القلب ،إال أنهم لم يسلموا أنفسهم للبغض والكراهية
والعنف بل اختاروا طريق الغفران والسالم واملصالحة واملؤاخاة.
ُ
الـغـفـران والـعـدالـة
قول من
ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold
عالمة الهوتي أملاني ومؤسس حركة برودرهوف املسيحية
أخ َتب َر "شاؤول دوركام ،"Joel Dorkamوهو صديق من كيبوتس "تسوبا" في
إسرائيل( ،كيبوتس هي مجتمعات اسرائيلية تعاونية)َ ،
أخت َبر مصاعب مشابهة
مر بها كال من "هيال" و"يوسف" اللذين تناولنا ّ
قصتيهما في الفصل لتلك التي ّ
الثالث ،لكنه يضيف نظرة مختلفة إلى ّ
حد ما .فقد اعترف "دوركام" بالحاجة
إلى الغفران املتبادل والثقة املتبادلة في الزمن املعاصر للصراع اإلسرائيلي
تحمل املخاطر لكي يقيم عالقات صداقة الفلسطيني ،وباعتباره يهودي فقد ّ
ّ
ستمرة مع الناس األملانيين العاديين .إال ّأن العذاب يتملكه حين يفكر م ّ
دمروا طفولته وذبحوا أبناء قوميته من اليهود .وتثير ّ
للنازيين الذين ّ بالغفران
ّ ّ
قصته سؤاال قديما للغاية تفرضه األجيال التي عانت على مر التاريخ اإلنساني،
وهذا السؤال هو" :هل الغفران هو بال حدود؟" فلنسمعه يحكي لنا عن
تجاربه:
املالية ّ
االقتصادية ّ ولدت في كاسل بأملانيا في عام 0939وهي سنة األزمة
ّ
التي كان لها آثارها الحاسمة على الشؤون العاملية ،وكانت السبب الذي
53
11لـمـاذا نـغفـر؟
ّ
حفيا وأ ّمي معلمة. جاء بالنازيين إلى السلطة في أملانيا .كان أبي يعمل ص ّ
حتى بدأت وكانت عائلتنا ميسورة الحال ،وك ّنا نعيش حياة سعيدةّ ،
التعصب في الظهور.ُّ سحب
ّ
لم يأخذ أبي مسألة النازيين بجدية في البداية مثله مثل الكثير من
ّ
األملانية اليهود في كافة أرجاء البلد .فكيف يمكن أن تسقط الحضارة
العريقة في هذا الهراء؟ لكن عندما أصبح "هتلر" رئيسا للوزراء نصح
أصدقاء أبي ذوو النوايا الحسنة بترك أملانيا.
وهكذا كان على أبي أن يترك أملانيا بلده املحبوب حيث ولد ونشأ،
العاملية األولى .وبعد مدة قصيرة ّ التي كان قد حارب ألجلها في الحرب
لحقت به أنا وأمي ،وج ِمع شملنا ثانية في مدينة ستراسبورج Strasbourg
الفرنسية .ك ّنا قد أخذنا معنا القليل جدا من ممتلكاتنا .وكانت هذه نهاية
رحالة بال شردين ّ الطبيعية التي اعتدنا عليها ،وصرنا يهود م ّ ّ للحياة
جنسية وبال حقوق. ّ
كان وقتا مثيرا لي كطفل في الثالثة من عمره ومليء بحب االستطالع.
ّ ّ
فقد تعلمت سريعا عادات جديدة ولغة جديدة ،واتخذت لي أصدقاء
مرة أخرى كالجئين أملان، جدد .لكن بعد م ّض ي عام كان علينا الرحيل ّ
فكانوا يعتبروننا بمثابة تهديد لألمن في املناطق الحدودية .وذهبنا إلى قرية
الفوسجز "Vosgesالفرنسية وكان هذا تغييرا جديدا آخر .فقد ِ في جبال "
ُّ ّ
كان على أهلي أن يتعلما ويكتسبا مهارات جديدة ولغة جديدة للتكيف
مع الثقافة املختلفة جدا ،على عكس سبل الراحة ألسلوب حياتهم
السابقة – وعالوة على ذلك ،كان عليهم أن يكسبوا رزقهم في ظل تلك
الظروف الصعبة...
ّ ّ
وبعد عام احترق املصنع الذي كانت أمي تعمل به ،مما فرض علينا
املرة إلى مدينة مارسيليا Marseilleالفرنسية الكبيرةّ .
ومرة االنتقال هذه ّ
أخرى حاول أبواي التأقلم مع الحياة ،وكان لهم وجودا مقلقال .فكثيرا ما
غيرضطرا ألن أ ّ مما يعني ّأنني كنت م ّ ك ّنا ن ّغير املنزل الذي نعيش فيهّ ،
املدرسة واألصدقاء ،فلم تتح لي أية فرصة لتكوين عالقات م ّ
ستمرة...
الغفران والعدالة 11
مي ،وتم نقلنا إلى سجن النساء عدة أشهر أرسلوني أللحق بأ ّ وبعد ّ
في مدريد .وكنت الذكر الوحيد في ذلك املكان ،وكان على أمي أن تراقبني
طوال الوقت .كان لنا زنزانة منفصلة ،في حين كانت املسجونات األخريات
بهن في عنابر تسع من عشرين إلى ثالثين سريرا .وك ّنا ننضم إلى يزج ّ
النساء في أثناء النهار في تلك الغرف الكبيرة ،ثم نذهب إلى زنزانتنا
نمر على زنزانات املوت حيث تنتظر النساء حكم الخاصة في املساء ،وك ّنا ُّ
ّ
اإلعدام ،ونسمع في الليل صوت طلقات الرصاص.
مرة أخرى في مدريد .وقامت "لجنة لم شمل األسرة ّ وفيما بعد تم ّ
اليهودية املشتركة" بتغطية نفقات معيشتنا ،لكن ّ الخدمات االجتماعية
ّ
أتى وقت كان علينا أن نختار املكان التالي الذي سنهاجر إليه ،وفضلنا
الذهاب إلى فلسطين.
كان ذلك في عام 0944قرب نهاية الحرب ،وكانت الظروف في ذلك
عمتي في شقة صغيرة، البلد الجديد صعبة للغاية .فتشاركنا مع أسرة ّ
مهنية في "كيبوتس ياجور ( "Kibbutz Yagurكيبوتس والتحقت بمدرسة ّ
ّ
مصلحا ميكانيكيا ّ
للسيارات. هي مجتمعات اسرائيلية تعاونية) وأصبحت ِ
وقد تم بناء هذه املدرسة ألوالد اليهود األملان الذين نجوا من أوروبا ،لكن
في الوقت الذي وصلت فيه لم يكن هناك من نجا ،لذلك كان معظم
التالميذ من الذين يعيشون في تلك املنطقة -الذين يدعون بتسمية
"صبر ( "Sabrasأي كل يهودي ولد في إسرائيل) -وكنت غريبا ومختلفا
ّ
لليهودية على النمط األملاني من خلفيتي املماثلة ّ عنهم هنا أيضا بسبب
ناحية ومعرفتي القليلة بالعادات والتقاليد اليهودية من ناحية أخرى...
ومع الوقت ،بدأت أشعر باأللفة في ذلك البلد الجديد ،وأيضا في
الكيبوتس .وكان لي أصدقاء واشتركت في األنشطة املختلفة ،مثل جمع
الصيفية .لكني لم استطع تحقيق الكثير من ّ العنب والذرة أثناء العطل
واالجتماعية ،فقد كانت هناك فجوات ّ ّ
واملهنية ّ
الشخصية طموحاتي
ّ
كثيرة في أسلوب تعليمي .وكذلك كان الحال مع أبواي .وبالتدريج بدأت
ّ ّ
العبرية ووجدت عمال في مدرسة زراعية قريبة، أ ّمي تعلم نفسها اللغة
ُّ
لكن أبي لم ينجح أبدا في تعلم اللغة الجديدة.
الغفران والعدالة 17
طبيعية إلى حد ما .فأنهيت ّ وبمجرد انتهاء الحرب أصبحت الحياة
ّ
املدرسة وأصبحت عضوا في منظمة الهجانة السرية املسلحة Haganah
وحاربت في حرب التحرير ،ثم التحقت بـ تسوبا ( Tsubaوهو كيبوتس
قرب أورشليم) مع زوجة املستقبل سارة ذات الشعر األحمر ،وهي
ّ
بأال أرحل ّ إسر ّ
مرة ائيلية املولد .Sabraوأخذت على نفس ي عهدا مقدسا
أخرى ،فسيظل هذا بلدي مدى الحياة ،وسأعيش هنا وأعمل وأربي
أوالدي كأحد أفراد الجماعة ،وسأحاول مساعدة املهاجرين الذين مروا
بالظروف الصعبة نفسها.
ّ ّ
واآلن عندما أتذكر طفولتي ،أدرك أنها قدمت لي الكثير من الخبرات
مدتني ببعض الحكمة .فقد أدركت أهمية اعتماد الناس املفيدة ،ور ّبما ّ
أهمية مساعدة ّ بعضهم على بعض ،والسيما في الشدائد .واكتشفت
اآلخرين وكلمات التشجيع .وأدركت أن بين الناس يوجد الصالح ويوجد
ّ
الطالح في كل مكان ،وأننا أنفسنا خليط من الخير والشر.
تسبب فيها األملان لي وألسرتي ،إالوعلى الرغم من ك ّل املعاناة التي ّ
أني ما زلت أشعر بصلتي مع تاريخهم وحضارتهم التي استقيتها من أهلي. ّ
وقد بذلت قصارى جهدي إلعادة خلق عالقات مع أشخاص أملانيين
محترمين.
في الستينيات ناديت بالترحيب بالشباب األملان الذين يأتون للعمل
تطوعين وأيضا استضافتهم من قبل األسر في مجتمعنا (كيبوتس) كم ّ
املحلية ملجتمعنا ليكونوا على دراية بالتاريخ الحديث ،وذلك على عكس
أي نوع من االتصال السياسة التي كانت سائدة في ذلك الوقت من رفض ّ
تطوعين وما زلنا نتبادلأسسنا صداقات مع هؤالء امل ّ مع األملان .كما ّ
حتىكل ما بوسعنا ّمعهم الزيارات .ونحرص على الحوار املستمر ،ونفعل ّ
اإليجابية واملضادة للفاشية في أوروبا التي تناهض ّ نقو ّي العناصر
ّ
الرجعية. وتحارب حركات
ّ ّ
بطبيعة الحال ،ال يمكن أبدا أن ننس ى الستة ماليين يهودي -بما
ّ
فيهم 0.3مليون طفل برئ – الذين قد تعذبوا وماتوا على أيدي النازيين
ومعاونيهم .ر ّبما نستطيع أن نصالح أنفسنا مع أملانيا الحديثة اليوم ،لكن
18لـمـاذا نـغفـر؟
اعتقد أننا نفهم الدافع وراء رفض شاؤول ألن يغفر للنازيين الذين ذبحوا بال
رحمة ّ
ستة ماليين من الرجال والنساء واألطفال اليهود على أنه لم يكن بدافع
النقمة أو الكراهية لكن بدافع الخوف من ّأن الغفران سيكون مرادفا لعملية
تبرئتهم من أفعالهم .وشخص مثل "شاؤول" الذي هو مصمم على ضمان عدم
تكرار مثل هذه الفظائع ثانية في املستقبل ،يصعب عليه أن يغفر إذا كان
الغفران والعدالة 19
"سي أس لويس ( "C. S. Lewisوهو كاتب وباحث ايرلندي وقد كتب سلسلة
األطفال الشهيرة نارنيا) كتب في عام 0940في الوقت الذي بدأت مظاهر
ّ
الرعب الكامل للهولوكوست (محارق اليهود في أملانيا) تظهر للعيان ،ألنه كان
تامة بأخطار تبرير الناس ألفعالهم الشريرة .فكتب يقول" :هناك على دراية ّ
فرق كبير بين الغفران واختالق األعذار" .وقال ّإن معظم الناس ال يرغبون في
االعتراف أنهم قد ارتكبوا خطأ ما ،لذلك فهم ي ّبررون أفعالهم .ويحاولون أن
ويتفقون معهم حتى اليجعلوا اآلخرين يقبلون أعذارهم ويلطفون األجواء ّ
يلقون اللوم عليهم بدال من أن يطلبوا منهم الغفران .ويكمل لويس قائال" :إن
ُّ
يستحق الغفران ،وهذا لم يكن هناك شخص يجب أن يالم ،فال يوجد ش يء
معناه ّأن الغفران واختالق األعذار نقيضان ".وقال:
ّ
للخطية ،تلك الخطية التي ّ
الحقيقي معناه أن تنظر بثبات إن الغفران
ّ
ظلت باقية بال عذر ،رغم شتى أنواع الحجج املختلقة ،وأن تراها كما هي
عليه من رعب وقذارة وخبث وحقد ،وبرغم ذلك أن تتصالح بالكامل مع
الشخص الذي أخطأت في حقه .فهذا هو الغفران وليس سواه.
11لـمـاذا نـغفـر؟
ّ
بأقص ى عقوبة على ابنها .وقالت إنه لو كان ابنها هو الذي مات بسبب
قيادة "مايكل" ما كانت لتحمل في قلبها ضغينة ناحيته .وقلت لها ما لم
ّ ّ
تتكلم ّ نرى ِابنها ّ
عما كانت ستفعله أو لن ميت بالفعل فإنها يجب أال
تفعله.
تدريبي على أن يقض يّ ّ ّ
وتم حبس ابنها ملدة ستة أشهر في معسكر
الست مطلق السراح املشروط .وبعد ستة أشهر عاد ّ بقية السنوات ّ
ِابنها ،أما ِابننا فلم َيع ْد.
َ
اعتقد أنني كنت مؤمنا ّأن األمور ستختلف بعدما َمــثل املجرم أمام
ّ
يتحدثون عن العدالة .وأعتقد ّأن هذا هو ما يقصده الناس عندما
فنظن أننا لو وجدنا من نلقي عليه اللوم لشعرنا ُّ "حسم القضية".
بالراحة ،ألن الجاني سينال جزاءه ،فستزول آالمنا أخيرا .وقد رأينا
حكايات عديدة عن أناس يبحثون عن تلك الراحة من خالل ذلك
القصاص ،وقد رأيتهم حتى في البرنامج التلفزيوني الشهير "أوبرا Oprah
"Winfrey Showيطالبون بموت املجرم كما لو كان موته سيساعدهم
بطريقة ما ويخفف عنهم.
ّ ّ
شك أنني غاضب من السائق ،لكني غاضب من "مايكل" أيضا. ال
ّ ّ
فقد اتخذ قرارات خاطئة في تلك الليلة ،مما عرض حياته للخطر .شعرت
ُّ ّ بهذا الغضب ّ
التكيف مع مشاعري .لكني لم أشعر حتى أتمكن من
حتى بعد حصول ذلك السائق على العقوبة .ك ُّل ما وجدته هو بالراحة ّ
ألي ش يء أن ّ
يسدها. تلك الفجوة الكبيرة في داخلي ،ولم يكن ممكنا ّ
عدة أشهر ،خبطني موضوع الغفران؛ فما لم أغفر للسائق وبعد ّ
فلن أجد الراحة التي أنشدها .فالغفران له يختلف تماما عن تبرئته من
علي أن أغفر املسؤولية .فما زال السائق مسئوال عن موت "مايكل" ،لكن ّ
له قبل أن أدع الحدث وشأنه .فال يوجد أبدا أية عقوبة ،ومهما كان
حجمها ،قادرة على جعل كفتي امليزان متعادلة .فكان يلزمني أن أكون
وعملية الغفران هذه الّ مستعدا ألغفر بدون أن تتعادل كفتي امليزان.
تتعلق بالسائق ،لكنها تتعلق بي .فكان يجب ّ
علي أن ّ ّ
أمر من خالل تلك
عما فعله. ّ
بغض النظر ّ أتغير، العملية ،فالبد أن ّ ّ
10لـمـاذا نـغفـر؟
كان طريق الغفران طويال ومؤملا .وكان يلزمني أن أغفر آلخرين غير
علي أن أغفر ألبني "مايكل" ،وهلل (الذي سمح بحدوث السائق .كان يجب ّ
شك أن عدم قدرتي على الغفران لنفس ي كان أصعب هذا) ،ولنفس ي .وال ّ
ش يء .فقد كانت هناك أوقات كثيرة في حياتي قمت بتوصيل "مايكل" فيها
ّ
الكحوليات .لكن هذا إلى أماكن عديدة حين كنت أنا نفس ي تحت تأثير
هو مفتاحي للغفران -أن أغفر ّأوال لنفس ي .فقد كان غضبي على اآلخرين
هو مجرد ِانعكاس ملخاوفي الداخلية .فألقيت بخطئي على اآلخرين – على
السائق وعلى املحكمة وعلى هللا وعلى "مايكل" ّ -
حتى ال أضطر للنظر إلى
ّ
نفس ي ...ولم يحدث هناك تغيير في نظرتي لآلخرين إلى أن تمكنت من رؤية
الجزء الذي أخطأت فيه أنا شخصيا.
ّ
وهذا ما تعلمته :إن الراحة التي ننشدها توافينا من الغفران.
وتعتمد هذه الراحة علينا كليا ،ألن القوة الالزمة للغفران ال تكمن
خارجنا بل داخل نفوسنا.
ّ
لقد تعلم والد "مايكل" أكثر الدروس املؤملة لكل أب وأم .لكن من الضروري أن
منا أيضا ،مهما كان وضعنا في الحياة .فما لم تفيضيتعلم هذا الدرس ك ّل ّ
ّ
ّ
قلوبنا بالغفران ألولئك الذين يسيئون إلينا ،فإننا لن نجد السالم مهما كان
ُّ
الحق الذي نطالب به.
أما في المجتمع الذي يشجع على االنتقام ،فبالكاد أن تصير املغفرة فكرة
ّ
مستحبة .وتدريجيا صارت حتى العقوبات التي تصدرها املحاكم غير كافية وال
تشفي الغليل؛ فيريد الناس أن يشتركوا شخصيا في عملية إنزال العقوبة
بالشخص املس يء إليهم .وقد أخذت العديد من الواليات بتقديم تشريعات
تعرض على أسر الضحايا حق الحضور والتفرج عند تنفيذ حكم اإلعدام .ومع
ذلك ،يظهر أن تلك األسر ال تحصل أبدا على السالم الذي تنشده .وعطشهم
لرؤية اآلخرين يتأملون بالعنف نفسه الذي آذاهم شخصيا ال يرتوي أبدا .وبدال
شوشين ومملوءين من شفاء جروحهمّ ،
فإن رغبتهم في االنتقام تتركهم م ّ
سخطا.
الغفران والعدالة 11
ُ
الـغـفـران حـيـنـمـا
تـكون الـمـصـالحـة مسـتـحـيـلـة
ّ ُ
ن بدافع قد يكونُ رفض املُسامحة أسوأ بكثير من القـتلُ ،
ألن القـتل قد يكو ُ
ُ
ُّ
ومترو من لحظات من سعـير الغضب ،بينما املسامحة هي اختيار بارد
القلب.
قول من
جورج ماكدونالد George Macdonald
قسيس اسكتلندي وشاعر وكاتب
وقد ألهم الكثير من الكتاب املشهورين الذين جاءوا من بعده
11
الغفران حينما تكون المصالحة مستحيلة 11
ّ
ِاقترح قانون الوالية عقوبة اإلعدام ،إال أن "مارييتا" لم ترغب في االنتقام.
فكتبت" :في ذلك الوقت كنت قد أدركت أخيرا أن العدالة ال تدور حول
موضوع إنزال العقوبات بل حول اإلصالح والشفاء ".وطالبت عوضا عن ذلك
قدم لقاتل "سوزي" عقوبة السجن املؤبد مصحوبة برعاية طبيب نفس ّي أن ي َ
ّ
بدال من اإلعدام .إال ّأن ذلك الشاب املعذب أقدم على االنتحار ،غير أن األم
"مارييتا" لم تندم قط على عرضها بتقديم املساعدة له .ولم تنته جهودها
لفعل السالم هناك .واليوم ،هي عضو في مجموعة تعمل للمصالحة بين القتلة
وعائالت الضحايا .وكان ذلك جزء من أسلوب شفائها ،وشفاء اآلخرين.
تظهر لنا تجربة "مارييتا" ّأن كل القصص ال تنتهي نهاية سعيدة .فحتىّ
ّ
عندما نتمكن من مواجهة الشخص الذي يجب أن نغفر له فربما هو ال يشعر
بالندم على ما فعله .وفي بعض األحيان قد ال يتم العثور على القاتل ،أو قد ال
يعود شريك الحياة الذي هرب ،فهل يكون الغفران في هذه الحاالت ممكنا
أيضا؟
ّ
تخلّص "دانيال كولمان "Daniel Colemanمن حياته ألنه لم يستطع
انسس" .إال ّأن تلك
التعايش مع فكرة مقتل أخته "فر ِ
املأساة املزدوجة ّ
غيرت حياة األم "آن ."Anneفاليوم
تساعد وت ّ
قدم "آن" املشورة للرجال املحكوم عليهم
باإلعدام في والية ديالوير .Delawareوبدأ عملها
مرة مع "بربارة لويس" وهي س ّيدة عندما تقابلت ّ
ألول ّ
حكم على ابنها باإلعدام .وبعد زيارتها مع "بربارة" إلبن
"بربارة" املسجون بدأتا معا في زيارة السجناء اآلخرين
أيضا .فتقول:
هكذا تقابلت مع "بيلي" .فلم يكن هناك من يزوره ،وكان وحيدا للغاية.
ّ
وأبكي دائما عندما أتذكر كيف علقوه؛ وكيف وقفوه عند املشنقة في
األقل مل ّدة خمس عشرة دقيقة انتظارا لوصول
ّ وسط العواصف على
الغفران حينما تكون المصالحة مستحيلة 17
الشهود .وبعدما تم إعدامه ،خارت عزيمتي وقلت مع نفس ي" :ال أقوى على
االستمرار بعد".
تعرفت على صبي صغير يدعى مرقس ،كان أبوه قد حكم عليه ثم ّ
باإلعدام أيضا .ولم يكن له أم وكان قد فقد أختيه أيضا ،وكان يعاني من
الكوابيس ألنه على وشك أن يفقد والده أيضا.
ّ
أنا أعلم أنني إذا كرهت شخصا فلن يعيد ذلك ابنتي إلي .وحاليا،
لست متأكدة من أنني سأجد الشخص الذي قتلها يوما ما .غير أن املرء
بحاجة ماسة إلى إيجاد شفاء ما ،وأنا وجدته وهو عن طريق مساعدة كل
الناس في العالم من الذين يشبهون "بربارة" و "مرقس" .ألن أعطتني
مما كنت ّ
أتخيل. مساعدتهم شفاء أكثر ّ
وأن هناك أشياء من ماضيه ما كشف لي خطيبي ّأنه لم يكن أمينا معيّ ،
ّ زالت ّ
تعوق زواجنا .واألسوأ من ذلك ،أنه أراد أن يهرب من ك ّل ش يء بدال
من مواجهة ماضيه .أما أنا فتحطمت .وبكيت أليام طويلة وانسحق قلبي
لسنين .وملت نفس ي على عدم أمانته ،وشعرت بالبغض واالستياء.
وبعد مض ّي ثالثين عاما ما زالت "جينيفر" عازبة ،لكنها لم تعد تشعر بالبغض.
وقد غفرت لخطيبها بصورة كاملة ومن صميم قلبها بالرغم من أنها غير قادرة
على إخباره بذلك ألنها ال تعلم أين هو .وعلى الرغم من ّأنها في بعض األحيان
مازالت تشعر باأللم نتيجة للزواج الذي لم يتم ،وحزنا على الحب الذي ضاع،
وجدت إشباعا حقيقيا في مساعدة وخدمة اآلخرين من كبار السن ْ فقد
18لـمـاذا نـغفـر؟
عني، كنت منهارة وعلى مشارف اليأس .فقد أصبح زوجي شخصا غريبا ّ
أتمكن فيما بعد من َ ّ
العيش معه ألن الحياة تحولت إلى جحيم ،فقد ولم
قضينا عاما كامال بعيدا عن مجتمعنا كنيستنا الذي يعيش حياة
مسيحية مشتركة ،آملين أن ننقذ زواجنا وأسرتنا لكن بال فائدة ،فقد
ضاع ك ّل ش يء.
فتركته وعدت إلى مجتمعنا املسيحي ،غاضبة ومجروحة وكارهة
ومرفوضة ويائسة ومهانة ومذلولة -وال يمكن لكل هذه الصفات أن ت ّعبر
عما شعرت به وقتئذِ .واضطرمت معركة في قلبي .وأردت أن أغفر ،لكني ّ
في الوقت نفسه كنت أريد أن أوجه له ضربات االنتقام ،وكلما تذكرت
ّ
زوجته الجديدة (فقد طلقني وتزوج من أخرى) كانت مشاعري تشتعل
بالغضب تجاهه .لم تكن معركة سهلة فهي ما تزال مستمرة ،في الوقت
الذي أشهد فيه تلك اآلثار السيئة تنعكس على أوالدنا الخمسة جراء
إساءة املعاملة وجراء االنفصال.
الغفران حينما تكون المصالحة مستحيلة 19
كانت معركتي هي أنني كنت بالحقيقة راغبة ألغفر له :فقد أردت
فعال أن أغفر له من صميم قلبي .فقد علمت ّأن هذا هو واجبي .لكن
أي ندم؟ وماذا سيكون شكل كيف يمكنني أن أغفر له وهو ال يبدي ّ
ّ
العملي لغفراني؟ التعبير
ّ عما فعله ّ لم أرغب في التغاض ي ّ
بأية طريقة ،وقد أخبرته أنه ال
ّ
يمكنني أن أسمح ألوالدي أن يظلوا معه فيما بعد ،لكني قررت ّأن أكثر
إجراء مفيد يسعني عمله وقتذاك كان قبول الطالق.
ومنذ ذلك الحين اكتشفت أن غفراني له لم يكن ش يء أعمله مرة
مرة ّ أؤكد على غفراني ّ ّ
ومرات .وأحيانا أشك واحدة فقط .إذ كان يجب أن
فيما إذا أنا كنت فعال قد غفرت له ،وأصارع مع هذا األمر أيضا ،لكنني،
حقي ال كل األخطاء التي ارتكبها زوجي في ّ وفي نهاية املطاف ،أعلم ّأن ّ
يمكن لها أن ت ّ
دمرني.
ّ
توضح قصة "جولي" نقطة هامة أال وهي أنه رغم ّأن زوجها السابق لم يظهر
ُّ ّ ّ
فستظل هي مقيدة أي شعور بالندم ،إال أنها ما زالت تغفر له .وإن لم تفعل
بمشاعر البغض نحوه ،وسيستمر هو في التأثير على أفكارها ومشاعرها.
وستظل مجروحة بما فعله لها وألوالدها طوال الحياة .لكن من خالل طرح ُّ
غضبها وحقدها خارجا ،ومن خالل إدراكها أن سعير العذاب بالبغض ما هو
إال طاقة مهدورة ،حصلت آنذاك على قوة جديدة لتداوم في محبة أوالدها
وخدمتهم وأيضا قوة تقويها لتستمر في الحياة.
الفصل الثامن
ُ
الـغـفـران في الـحـيـاة الـيـومـيـة
َ
لو أحببت ،ولو قليال ،ألصبحت عرضة للخطر .ألنه ال يوجد مكان خارج
الفردوس تكونُ فيه آمنا تماما من كل املخاطر ِ
واالنزعاج الذي تسببه لك
ى الجحيم.
املحبة سو ُ
قول من
س ي أس لويس C. S. Lewis
وهو كاتب وباحث ايرلندي
وقد كتب سلسلة األطفال الشهيرة نارنيا
غضبت من صديقي:
وأخبرته بغضبي ،فزال غضبي.
غضبت من ّ
عدوي:
70
الغفران في الحياة اليومية 77
وغذيته بالخوف،
صباحا ومساء ...بدموعي؛
وراعيته باالبتسامات،
وبالخداع الناعم.
ّ
اليومية هي بذور شجرة الشاعر ّإن الضغائن والظنون الصغيرة في الحياة
"بليك" .فلو سقطت تلك البذور في قلوب خصبةّ ،
فإنها ستنمو ،وإذا كان
ّ
هناك من يرعاها ويغذيها فستكون لها حياتها الخاصة .رّبما تكون صغيرة وتبدو
كما لو كانت تافهة يصعب على املرء أن يراها في البداية ،لكن برغم ذلك يجب
القضاء عليها .يظهر لنا "بليك" في ّأول سطرين سهولة القيام بذلك :فالذي
نحتاجه هو أن نواجه مشاعر الغضب لدينا في الحال ونقلعها من جذورها
قبل أن تنمو.
علي أن أتعلم أ ّال أحمل ضغينة في حياتي منذ نعومة أظفاري .فقد كانت
كان َّ
ّ
طفولتي سعيدة في معظمها لكن كان لي نصيبي أيضا في التجارب السيئة .لقد
كنت طفال مريضا .فقد أخبر األطباء والدتي بعدما ولدت بفترة قصيرة أنني
70لـمـاذا نـغفـر؟
ّ
أعاني من مرض "استسقاء الرأس" (ماء على املخ) ولن أتمكن من السير على
صحة ذلك -فبدأت املش ي عند سن الرغم من ّأنه لم تثبت ّ قدمي أبدا .وعلى ُّّ
ّ
ّ
وتسبب هذا في الثانية والنصف -إال ّأن تسمية "أبو رأس املاء" ِالتصقت بي.
وأثر ّ
علي أنا أيضا. لوالدي َّ ألم كبير
ّ
كنت وحيدا .فقد كان هناك سبعة أطفال في عائلتنا غير أنني كنت
عنا ملدة ثالث سنوات وأنا الصبي الوحيد .باإلضافة إلى أن والدي كان بعيدا ّ ّ
كنت ما أزال في عمر خمس سنوات .لهذا كنت أتوق لألصدقاء.
وعندما بلغت السادسة ،كان يجب أن أزيل ورما كبيرا من ساقي .وقد
كانت هذه ّأول عملية من عمليات كثيرة أجريتها خالل الثالثة عقود التي تلت.
بأي ميكروب يداهمني وظل خطر اإلصابة ّ واستمرت العملية مل ّدة ساعتينّ ، ّ
الحيوية لم تكن قد ظهرت بعد ،حيث ك ّنا نعيش في ّ أليام ألن امل ّ
ضادات
الغابات النائية في دولة باراجواي .وبعد تقطيب الجرح الذي كان في ساقي،
قدم أحد لي أية عكازة أو ما إلى عدت مباشرة إلى منزلي سيرا على األقدام .ولم ي ّ
ذلك ،وال نستطيع بالطبع التحدث عن تقديم عربة لتوصيلي إلى البيت .وال
أزال أرى وجه والدي املصدوم عندما دخلت إلى املنزل بعرجي ،على الرغم من
ّ
أنه لم ينطق بكلمة.
وحالهما حال أي والدين ،فقد كان والداي يصارعان في مشاعرهما عندما
نتعرض نحن األوالد إلى أية إساءة في املعاملة من ِقبل معلم أو أي شخص بالغ
ُّ
أصرا على ّأن السبيل الوحيد للتغلب على مثل هذه اإلهانات آخر .لكنهما ّ
الصغيرة في الحياة هو الغفران.
وعندما بلغت الرابعة عشرة ،انتقلنا إلى الواليات املتحدة .وكان التغيير
من قرية في براري أمريكا الجنوبية إلى مدرسة ثانوية حكومية في والية نيويورك
ّ
هائال .كانت اللغة اإلنجليزية بالتأكيد عائقا لي ،لكنني كنت خجوال أيضا ألنني
شعرت أنني غريب األطوار ومتخلف .فكل طالب سعى ليكسب تقدير زميله أو
زميلته – ولم يرد أحد أن يكون وحيدا – وهذا ما أردت أن أفعله أنا أيضا.
فقد حاولت يائسا أن أكون مقبوال بينهم ،وخرجت عن طوري ألرض ي زمالئي
ّ ّ
خاصة من صبي معروف عنه أنه الجدد .وفي البداية تم االستهزاء بي وبصفة
أرد عليه بالعداء ،وملا كان كل أصدقائي مهاجرين مثلي بدأنا شقي .فأخذت ّ
الغفران في الحياة اليومية 71
من األسهل أن نغفر للغريب من أن نغفر لشخص نعرفه ونثق به .وهذا ما
يجعل األمر عسيرا جدا في أن ينجح املرء على تخطي محنة خيانة وغدر
أصدقاء عزيزين له أو زمالء عمل مقربين .فهم يعرفون أفكارنا ونقاط ضعفنا
فإننا من دون ّ ّ
شك سندوخ ونتعذب .لقد وصفاتنا -وهم عندما ينقلبون علينا
ّ
مر "بـيتر ،"Peteوهو صديق لي من فيرجينيا ،بتجربة مماثلة ،فيقول:
كان علي تصفية حساباتي مع شريكي الذي شاركته مل ّدة عشر سنوات
قبل االنتقال لوالية أخرى وترك مصلحة عملي .كان األمر عسيرا بسبب
حقيقة ّأنه وزوجته كانا قريبين جدا ّ
مني؛ فقد ك ّنا أصدقاء على مدار
الخمسة عشرة سنة املاضية.
لم يكن في وسع أحد أن يتخيل الكيفية املنصفة التي كنت أنوي
فيها توزيع حصص مصلحتنا .فلم أكن أبغي أن أكون عادال وحسب ،بل
أبغ أن يكون هناك ش يء ما عالق في ضميري .فأتيتوكريما أيضا .فلم ِ
بتقسيم يعطني نصف األرباح لغاية اليوم الذي تركت فيه املصلحة،
71لـمـاذا نـغفـر؟
وتركت لهم النصف اآلخر ،مع جميع األشغال التي كانت قائمة آنذاك،
ومع جميع األسهم وجميع أمنياتي الطيبة لهم بدوام التوفيق في املصلحة.
ّ ّ
التحدث معي ُّ بيد ّأن كليهما رأيا األمر كله بطريقة مختلفة ،وتوقفا عن
من اليوم الذي أخطرتهما فيه بذلك .ولسوء الحظ كنت قد أخطرتهما
بذلك قبل شهرين من التحويل الذي اتسم بأنه كان طويل وصامت
ووحيد تتخلله كلمات وعبارات الغضب فقط.
ولم نتمكن من توقيع أية اتفاقية حتى عند قدوم موعد تركي
ّ كل ّ
للمصلحة .فقد أتى ّ
منا بمحام مما عكر املياه بيننا .أما أنا فكنت أود
أن يكون هناك مصدر خارجي ليحكم في العرض الذي قدمته ،لكنهم
ّ
حكم وطلبوا النصيحة من محاسب عملنا معه مل ّدة أبعدوا الشخص امل ِ
سبع سنوات .وال أعلم ماذا جرى ،لكنه سرعان ما فقد حياديته وبدأ
يعمل ّ
ضدي.
تطلب األمر كثيرا من العروض والعروض امل ّ
ضادةّ ، ّ
حتى نصل إلى
أصروا على أنهم ال يتمكنون من إرسال الشيك لي بالبريد قبل اتفاق .وقد ّ
تم اتخاذ القرار على دفع املبلغ في بداية الرغم من أنه ّ 20ديسمبر على ُّ
استحق سوىُّ شهر ديسمبر .وفيما بعد علمت أن هذا التأخير جعلني ال
أتلق نصيبي من األرباح إال نصف مكاسبنا عن السنة ّكلها ُّ -رغم أنني لم ّ
في شهر يونيو .وانتهى بي األمر أنني دفعت مبلغ 31111دوالر للضرائب.
أتمكن من النوم ّ ّ
أليام .فقد شعرت أن صديقي كنت غاضبا للغاية ولم
علي لكي يسحقوني. أنهما قد تآمرا ّ
واملحاسب قد خاناني كليا .وشعرت ُّ
حتى أغفر لهم ،لكني وجدت الق ّوة علي أن أبذل مجهودا كبيرا ّ كان ّ
أنني بحاجة إلى الكتابة إليهما ألطلب منهما الغفران ألفعل ذلك .ثم أدركت ّ
أيضا .وشعرت براحة كبيرة عندما أغلقت الظرف ووضعت الخطاب في
بغض النظر عن ّ البريد .لقد كنت بحاجة إلى الح ّرية من مشاعر الغضب
ّردهما.
ممن نصحتني بضرورة وبعد مض ّي شهر ّاتصلت بي صديقة ّ
ّ
مسامحتهم لتسألني إذا كنت قد تمكنت من فعل هذا أم ال .فأخبرتها بما
الغفران في الحياة اليومية 71
ّ
فعلت فأجابت" :لقد أحسست أنك سامحته؛ إذ أنني قد الحظت عليه
(على الطرف اآلخر) كذلك ّ
وكأن حمال ثقيال قد أزيل من عليه فعال".
ّ
الحظ أنّ خيانة األصدقاء أو الزمالء أمر معروف في كل األوساط .لقد لسوء
كان أبي معروفا بقدرته على التشجيع والنصح بصفته راعي كنس ي في حركتنا
ُّ
التحدث املسيحية برودرهوف .Bruderhofفأينما ذهب كان الناس ُّ
يودون
معه .فكان للعديد منهم أعباء ثقيلة في صدورهم يبغون طرحها عنهم ،في حين
أحتاج غيرهم إلى من يستمع إليهم ليس إال .لكن تلك األشياء نفسها من التي
حبونه ،كانت تلقي من ناحية أخرى بذور الحسد في جعلت بعض الناس ي ُّ
قلوب اآلخرين تجاهه.
لقد عانى أبي من مشكلة في كليته في الفترة التي ولدت فيها ،وزادت هذه
املشكلة بتقدمه في العمر .فالحياة في دولة بارغواي كانت قاسية؛ فقد انتشرت
وأدت التوترات في مجتمع كنيستنا إلى جعل الصراع من أجل البقاء األمراضّ ،
أصعب .وقد ثقلت على أبي أحمال مسئولية القيادة بشكل غير مسبوق .ففي
الجسدي املستمر ،أخبره ّ
األطباء ّ إحدى املرات ،وبعد ّعدة أسابيع من الضعف
ّ
أنه لم يعد لديه سوى أربعين ساعة فقط ليعيشها .وتحسبا من حدوث ما هو
ّ ّ
وشجعهم أسوأ ،استدعى مجتمع الكنيسة كله إلى جواره على فراش املرض،
ّ ُّ
حت ّى يظلوا أقوياء وثابتين أمام تلك الظروف القاسية التي يعيشون فيها .وسلم
مسئولياته كشيخ كنيسة إلى ثالثة رجال ،وكان أحدهما هو زوج أخته.
تماثل أبي للشفاء وتغيرت األمور وبدال من أن يعيد الرجال الثالثة قيادة
ْ ّ
انتهت وول ْت؛ إذ قد أعلن الطبيب أن الرعية له أخبروه أن ّأيام قيادته قد
بتحمل مطالب مهمة صعبة كهذه. ُّ حالته الصحية ضعيفة جدا وال تسمح له
وقالوا أن السبب الرئيس ّي وراء ذلك هو "عدم االستقرار النفس ي" الذي أظهره
في أوج مرضه عندما حلم بأحالم غريبة وهلوسات.
ّ ّ ّ
قرر أبي أال يحارب هذا القرار ،وبدأ العمل في إرساليتنا الصغيرة في
ألنه ببساطة لم يكن من الرعاة امل ّ ّ
ستعدين لفرض إرادته املدرسة واملستشفى،
على اآلخرين مطلقا.
71لـمـاذا نـغفـر؟
ُّ
والدي املؤلف -هايني آرنولد وأنا ماريُ
ّ
إال أن هذا ُّ
التغير في ّ
والداي لم يدركا األمر في وقته، الرغم من ّأن
وعلى ُّ
األحداث لم يكن من باب املصادفة .فقد جرى إعدادها في محاولة متعمدة
كرس حياته له .وفي الواقع ،كان اقتراح الطبيب أن لتنحيته عن عمله الذي ّ
يأخذ والدي راحة إضافية ملجرد بضعة أسابيع ،لكن القادة الجدد ّ
غيروا
كالمه لخدمة أهدافهم( .ولم نعرف السبب الحقيقي وراء الهلوسات التي كانت
تحدث ألبي إال بعد مض ي ثالثين عاما حين اكتشف األمر طبيب آخر ،وشرح
جانبية لعالج البروميد البدائي الذي كان يستخدمه ّ لنا ّأنها كانت تحدث كآثار
بأية مرارة بغض أو ِامتعاض من جانبه هناك) ولم نشعر أبدا نحن أوالده ّ
تجاههم.
ْ
يمر وقت طويل حتى ظهرت مشكالت جديدة في مجتمع كنيستنا. ولم ّ
والداي صوتهما إلى أصوات حفنة من اإلخوة واألخوات اآلخرين الذين َ فقد ّ
ضم
حاولوا أن يحذروا مجتمع كنيستنا بأسره من ّأن أعمال الرحمة األصيلة قد
خنقتها مجموعة من النظم والقواعد الخالية من الروح ،إال ّأن كالمهم أس يء
فهمه .فتم استبعاد العديد منهم ،بضمنهم أبي ،بتهمة ّأنهم يحاولون عمل
ّ انقسام متعمد في الجماعة .وعلى ُّ
الرغم من أن والدي كان مزارعا ماهرا (فقد
الغفران في الحياة اليومية 77
السرطان مجرد قبل أسابيع قليلة ،باإلضافة إلى أنني شعرت في ذلك الوقت ّأن
أي وقت مض ى .وأردت يائسا تحسين ما مجتمع كنيستنا يحتاجني أكثر من ّ
أقوم به واستعادة مكانتي "الصحيحة" .وبطبيعة الحال ،فقد رفض أبي أن
ّ ّ دعمني في شن حرب م ّ ي ّ
ضادة على املجتمع .وذكرني أنه في النهاية نحن لسنا
عما نفعله نحن بهم. عما يفعله اآلخرون بنا -لكننا مسئولين فقط ّ مسئولين ّ
ّ
نتحدث ،بدأت أدرك أنني لم أكن ّنقيا وبال لوم كما كنت ّ وبينما ّ
كنا
أعتقد .ففي أعماقي كنت أحمل ضغينة تجاه أفراد معينين في مجتمع كنيستنا.
جرد علي أن أطلب منهم الغفران بدال من محاولة تبرير نفس ي .وبم ّ وكان يجب ّ
سدا قد أن فعلت هذا ،اتخذ صراعي معنى جديدا .فقد شعرت ّأن هناك ّ
انفجر في مكان ما في أعماق فؤادي .فكل األذية التي كنت أشعر بها سابقا
كانت بسبب تخدش كبريائي وانتفاخي؛ أما اآلن ،فتحررت وصار بمقدوري أن
أسأل نفس ي :ما فائدة ذلك على املدى الطويل؟
ُّ
وبتصميم جديد على تصحيح مسار األشياء وتحمل مسؤولية شخصية
أننا آذيناهم في لتلك التشنجات التي حدثت ،ذهبت وزوجتي إلى أناس شعرنا ّ
املاض ي وطلبنا منهم السماح .وبينما كنا نذهب من واحد آلخر شعرنا أن حمال
أخذ ينزاح عن قلوبنا تدريجيا.
ّ
كانت تلك السنة سنة مؤملة جدا لي ولزوجتي ،لكنها كانت سنة هامة
حس للمسؤوليات التي نحملها اآلن عن طريق حصولنا على ّ ّ أيضا .إذ ّأنها ّأهلتنا
ّ
مرهف عند تعاملنا مع اآلخرين .كما علمتنا دروسا لن ننساها أبداّ .أوال ،ال يه ُّم
ّ
إن أساء الناس فهمك أو اتهموك ظلما؛ لكن املهم هو أال تس يء أنت فهم
اآلخرين أو ّتتهمهم ظلما .ثانيا ،صحيح أن قرار الصفح عن ذنوب اآلخرين يجب
نتغير ونقوم بهذه أن يكون دائما نابعا من القلب ،إال أننا ال نستطيع أن ّ
منا ،لكن الخطوة بفضل قوتنا البشرية الذاتية .فالقدرة على الغفران ال تأتي ّ
من تجربتنا الشخصية ّأن هناك من غفر لنا.
جم و كارولين ويكس "Jim and Carolyn Weeksبأوقات عسيرة في م ّر " ِ
ّ
السنة نفسها .فقد وجدا أيضا أن الغفران هو السبيل الوحيد للمصالحة.
وتكتب "كارولين" قائلة:
الغفران في الحياة اليومية 79
وبم ّ
جرد عودة " ِجم" و"كارولين" إلى بيتهما (أي إلى جماعة الحياة املسيحية
املشتركة) لم يمض وقت طويل ّ
حتى شعرا ّأنهما أيضا لم يكونا خاليين من
الذنب .فتكتب "كارولين":
ّ
القصة -وهو إننا شخصيا ك ّنا
ّ كان علينا أن نرى الجانب اآلخر من
عنيدين وم ّ
تشبثين برأينا .وكان كبرياؤنا عائقا أمام املصالحة.
حق هي معدودة جدا .ففي إن الخالفات التي يكون فيها طرف واحد على ّ
ّ
كبريائنا ال نرى غير أخطاء اآلخرين ونتعامى عن أخطاءنا .وإن لم نتعلم
التواضع ،فال نقدر أن نغفر لآلخرين أو أن يغفر لنا .نعم ،هذا مؤلم ،لكنه
جزء محتوم وال مفر منه في الحياة .فاملغفرة تمكننا على تجاوز عقبة األلم،
حتى لو ِاعترفنا باأللم ،وتأخذنا إلى الفرح الناتج عن املحبة .ويكتب "م .سكوت
ِبك ( "M. Scott Peckوهو طبيب نفساني أمريكي وكاتب ذو أكثر مبيعات كتب):
ال يوجد سبيل للعيش بحياة نفيسة ما لم نكن راغبين لنتألم مرة بعد
أخرى ،ونتذوق الكآبة واليأس ،والخوف والذعر ،واألس ى والحزن،
والغضب ،وعذاب املغفرة ،والحيرة والشك ،واالنتقاد والرفض .فالحياة
التمزق باملشاعر لن تكون مجدية لنا فحسب بل لآلخرين ّ الخالية من
أيضا .فال يمكننا أن نشفي اآلخرين بدون االستعداد ألن يجرحنا اآلخرين.
جم" و"كارولين" ّأن في مقدور الغفران أن يعيد الناس ُتظهر لنا قصة " ِ
بعضهم إلى بعض .ويمكن لألوقات العصيبة ،إذا ّ
تم التغلب عليها ،أن تؤدي إلى
محبة أعظم .فهي في مقدورها أن تقوي وال تضعف رابطة الوحدة والوئام.
الفصل التاسع
ُ
الـغـفــران في الــزواج
قول من
األم تريزا Mother Teresa
الراهبة العاملة في كالكتا
حائزة على جائزة نوبل للسالم لسنة 0909
ّ
سيتحول الزواج إلى جحيم إنّ لم يغفر الزوج والزوجة بعضهما لبعض ّ
يوميا
حقيقي ،وهذا ما رأيته دائما خالل السنوات العديدة التي قضيتها في املشورة
حل أعقد املشكالت بكلمتين تزوجين .ورأيت أيضا ّأنه يمكن ّ الكنسية للم ّ
بسيطتين أال وهما" :أنا آسف".
81
81لـمـاذا نـغفـر؟
للغفران أنا وزوجتي "فيرينا" طوال مدة زواجنا التي لم تنقصنا أية ُفرصة ُ
استمرت ثالثة وخمسين عاما – ومازالت لحد اآلن .فبعد مض ّي مجرد أسبوعّ
على زفافنا واجهتنا ّأول أزمة في حياتنا .فقد كانت أختي قد صنعت لي ،وهي
ّ
والدي وأخواتي على العشاء في فنانة ،مجموعة جميلة من األطباق ،ودعونا ّ
ّ
شقتنا الجديدة ،وكنت أنا و"فيرينا" قد قضينا طوال فترة بعد الظهر في إعداد
الطعام ،وقمت أنا بإعداد مائدة الطعام مستخدما األطباق التي صنعتها أختي.
ّ
طرفي املنضدة( ،فعلى ما يبدو ووصل أهلي وجلسنا لنأكل معا ،لكن فجأة أنهار
ّ ّ
أنني لم أقم بضبط املنضدة جيدا) ،وغطى الطعام والصحون املكسورة
األرضية ،وخرجت زوجتي من الحجرة والدموع تمأل عينيها .ومضت ساعات ّ
ّ
طويلة قبل أن تتمكن زوجتي من أن تغفر لي فعلتي هذه ،وهي اآلن تضحك على
تلك الحادثة التي صارت مع الوقت نكتة ّ
عائلية معروفة.
وأصبح لدينا مع الوقت ثماني أطفال ،وكانت هناك أسباب كثيرة
حمام لألطفال وإلباسهم كل مساء كانت "فيرينا" تقوم بإعطاء ّ للخالفات ،وفي ّ
فضلة .وكنت عندما ثم ينتظروني على الكنبة مع كتبهم امل ّ بيجامات نظيفةّ ،
أرجع من عملي إلى املنزل ،كان األوالد يرغبون في اللعب معي ،وينتهي بنا األمر
في بعض األحيان إلى أن يقصف بعضنا بعضا بالحشائش في الحديقة ،وما
ّ
زالت "فيرينا" تتذكر الساعات التي قضتها لتزيل بقع الحشيش والطين مع ش يء
من التذمر!
الغفران في الزواج 81
هامة للغاية" .هذا التأكيد لم يكن يهدئ كثيرا من روع قائال إن تلك السفرة " ّ
والتكيف مع جدول أعماليُّ زوجتي التي كان عليها إعداد حقائب السفر
ّ
املكثف ،وغالبا ما كانت تبقى في البيت مع األوالد.
ثم يأتي وقت قراءة جريدة الـ "نيويورك تايمز" .فبعد قضاء يوم شاق في
السياقة ،لم َأر الضرر في االضطجاع وقراءة الجريدة لبضع دقائق بينما كان
أشدد على هذا الرأي ّ
بقوة .ولم يسعني حوالي فرحين ،وكنت ّ ّ أوالدي يلعبون
رؤية أنانيتي هذه إال فيما بعد.
وغالبا ما أفكر اآلن متسائال :كيف كان سينتهي األمر بزواجنا إذا لم
يتعلم أحدنا مسامحة اآلخر كل يوم ومنذ البداية؟ ونحن نعلم أن كثير من
األزواج ينامون معا في الفراش نفسه ويعيشون في البيت نفسه ،إال ّأن بعضهم
ألنهم قد بنوا جدارا من الكراهيةنفسيا بعيد عن بعض ملسافة أميالّ ، ّ ّ
يظل
والضغائن بينهم .وقد تكون الحجارة التي بني بها هذا الجدار صغيرة للغاية -
نسيان عيد الزواج على سبيل املثال ،أو مجرد سوء فهم بسيط ،أو اجتماع
عائلية طال ِانتظارها .لكن الحقيقة هي ّأن هذا
ّ تم تفضيله على نزهة عمل ّ
االنقسام الصغير الذي صنعوه في مقدوره أن يؤدي إلى كارثة.
بإمكاننا إنقاذ كثير من العالقات الزوجية لو أدركنا فقط أننا -نحن الناس -
غير كاملين .فكثيرا ما يفترض الزوجان ّأن العالقة " ّ
الجيدة" هي العالقة التي
تكون خالية من الجدال واالختالفات .وعندما يعجزان عن تحقيق مثل هذه
التطلعات غير الواقعية ،تخيب آمالهما ،وال تمض ي فترة طويلة حتى تراهما
ينفصالن على أساس "عدم املالئمة".
ّإن النقص البشري وعدم كماله يعني أننا سنرتكب أخطاء وسيجرح
بعضنا بعضا بمعرفة أو بغير معرفة .وقد ملست في حياتي الشخصية أن الحل
الوحيد واآلمن إلخفاقاتنا هو املغفرة ،وسبعين مرة في اليوم إن لزم األمر.
يكتب "س ي أس لويس ( "C. S. Lewisوهو كاتب وباحث ايرلندي وقد كتب
سلسلة األطفال الشهيرة نارنيا) قائال:
الغفران في الزواج 87
"هانز و مارجريت ماير "Hans and Margrit Meierهما أهل زوجتي ،وتشهد
قصتهما على القوة القديرة التي تحملها املغفرة واملوصوفة وصفا رائعا في
ّ
وتسبب عناده في افتراقهما أحداثها .فقد كان "هانز" رجال متصلبا في إرادته
مرة .فقد سجن بعد مض ّي شهور قليلة وانفصال عالقتهما الزوجية وألكثر من ّ
ّ ّ
على زواجهما في عام 0939ألنه رفض االلتحاق بالجيش السويسر ّي وذلك ألنه
ّ
املضاد للحرب والجيش. من املتحمسين للمبدأ
وبعد إطالق سراحه بمدة قصيرة ِافترق الزوجان ثانية .وكان السبب يعود إلى
ّأن "مارجريت" قد اكتشفت جماعتنا التي تعيش حياة مسيحية مشتركة
وأرادت االنضمام إليها .أما "هانز" ذو التيار الديني واالجتماعي الذي كان له
أفكار مختلفة عن الحياة املسيحية املشتركة لم يرغب في االنضمام .وقد ولدت
األول بعد مدة قصيرة من انضمامهاّ ،
وتوسلت به لالنضمام "مارجريت" طفلهما ّ
ومرتإلى املجتمع املسيحي لكن "هانز" ليس من النوع الذي يلين عوده بسهولةّ .
شهور عديدة قبل أن تفلح في إقناعه باملجيء .وبعد مض ّي ثالثين عاما وبعد
مرة أخرى .وكانا في هذه ّ
املرة يعيشان في أمريكا إنجاب أحد عشر طفالِ ،افترقا ّ
الجنوبية ،وكان ذلك في عام ،0960وهو وقت ِاتسم بالتخبط واالضطراب ّ
الروحي لحركة برودرهوف املسيحية .وأصبح "هانز" في قطيعة مع زوجته ومع
ّ
املجموعة ألنه لم يستطع رؤية أخطائه وال مسامحة اآلخرين على أخطائهم في
ّ
حقه.
ومن ثم انتقلت "مارجريت" واألطفال إلى مجتمعنا املسيحي في الواليات
آيرس وبقى فيها طوال ّ
املتحدة .أما "هانز" فاشتغل واستقر في مدينة بوي ِنس ِ
األحد عشر عاما التي تلت.
88لـمـاذا نـغفـر؟
ّ
لم يكن لديه ما يشير على أنه يحمل ضغينة ،لكن لم يكن هناك أيضا ما
يشير على شفاءه .وتدريجيا نشأ جدار من البغض واالمتعاض بينهما وصار
تزوجت من "فيرينا" في عام ،0966لم يحضر يهدد باالنفصال املديد .وعندما ّ
جد من طرف الزفاف ،وبدأ أطفالنا يكبرون بدون ّ "هانز" والدها حتى حفل ّ
ّأمهم.
أخفي عام 0903سافرت إلى مدينة بوينس آيرس مع "أندرياس" – وهو ّ
ِ ِ
بد
لزوجتي "فيرينا" -في محاولة ألي نوع من املصالحة مع "هانز" ،لكنه لم ي ِ
ّ
يخصه اهتماما بذلك – السيما في البداية .ولم َي ِر ْد شيئا سوى أن يحكي لنا ما
تعرض فيها لألذى .وفياملرات التي ّمرة أخرى بعدد ّ ّ
القصة ،وأن يعلمنا ّ من
ّ
اليوم األخير من رحلتنا حدث تغيير .إذ أعلن أنه سيزورنا في الواليات املتحدة،
ّ
وأصر على أن زيارته ستكون مل ّدة أسبوعين فقط ،ال أكثر ،وأكد على حقيقة ّ
ّ
أنه سيشتري تذكرة عودة ،لكن هذه بالحقيقة كانت البداية.
ألن "هانز" ببساطة لم يستطع ظنناّ .
وعندما تحققت الزيارة فعال ،خاب ُّ
كنا قد بذلنا كل الجهود لنزيل صعوبات املاض ي واعترفنا بذنبنا أن يغفر .فقد ّ
في األحداث التي ّأدت إلى غربته الطويلة ،لكننا لم نصل لش يء .ففي قرارة
الغفران في الزواج 89
فكره ،عرف "هانز" أن الش يء الوحيد الذي يفصل بيننا وبينه هو عدم قدرته
على الغفران ،ومع ذلك لم يقدر على القيام بها.
التحول .ففي وسط أحد اجتماعات األخوية ،استجمع ّ
عمي ُّ ثم أتت نقطة
"هانز هيرمان" ،الذي كان على مشارف املوت بسبب إصابته بسرطان في الرئة،
ّ ّ ّ
كل قوته ،وقام واتجه نحو "هانز" ،وقرع على صدر "هانز" قائال(( :يا هانز،
ّ
التغيير يجب أن يحدث هنا!)) وقد كلفت هذه الكلمات عمي "هانز هيرمان"
ّ
جهدا بليغا ألنه كان يحصل على أوكسجين أضافي من خالل فتحتي األنف
وبالكاد كان قادرا على التكلم.
وفي تلك اللحظة رفع "هانز" الراية البيضاء .فذاب فتوره وجفافه،
قرر وقتئذ أن يغفر – ويعود .وبعد أن سافر إلى األرجنتين لتصفية وهناك ّ
أعماله ،عاد آنذاك لينضم إلى زوجته "مارجريت" وإلى مجتمع الكنيسة،
وسرعان ما شهدنا أنه عاد إلى ذات الغيرة املسيحية املتفانية والحيوية كما
عدة عقود مضت. عهدناه منذ ّ
يمس "هانز" طوال السنوات التي قضاها بعيدا أية امرأة أخرى .وأثناء لم ّ
ّ
تلك العقود الطويلة كانت زوجته "مارجريت" تصلي يوميا من أجل عودة
زوجها .وعلى كل حال ،فقد ِانجرح كالهما ،واستغرق األمر وقتا طويال لتلتئم
عالقتهما الزوجية وإعادة بناء الثقة أحدهما في اآلخر .وبصفتي زوج ابنتهما ،ال
محبة وفرح وكذلك يسعني إال أن أشهد أنهما نجحا أخيرا؛ فقد عاشا معا في ّ
توفت "مارجريت" بعد ستة عشرة عاما من ذلك ْ مع أوالدهما وأحفادهما إلى أن
الوقت.
تبرهن لنا قصة أهل زوجتي أنه بالغفران واملسامحة يمكن شفاء املشاكل
الزوجية وحتى الفراق واالنفصال الزوجي الطويل األمد .لكن هل من املمكن
يتم إصالحهللزواج الذي دمرته الخيانة الزوجية أو التعامل الوحش ي أن ّ
وشفاءه بالكامل؟ من السهل أن نقول ال ،لكن وفقا لخبرتي يمكن أن ّ
يتغير
معظم الناس ،إذا أعطيناهم الوقت الكافي ،والتحفيز ،والدعم االجتماعي
ّ وحتى لو ّ
فاملحبة تصالح وتغفرّ . ّ
حتمت الظروف عليهم انفصاال مؤقتا واملادي.
إال ّأن الحب الوفي هو السبيل الجدير الوحيد للشفاء ّ ّ
ولم شمل العائلة من
ّ
طلقون ويتزوجون ثانية ،فهم يغلقون بذلك الباب أمام ّأية جديد .أما الذين ي ِ
فرصة للمصالحة في املستقبل.
ّ
قد يستغرق الصدع في الثقة بسبب الخيانة الزوجية سنوات للشفاء
هم للزوجين أن يعيشا منفصلين، بالتأكيد .ففي البداية قد يكون من امل ّ
ظل إرشادتخصصين ،أو مساعدة أقل رسمية ،وفي ّ ويحصال على مشورة من م ّ
شخص يثق كالهما فيه .والبد أن يكونا ر َ
اغبين في العمل على إعادة بناء ثقتهما
حتى يستعيدا زواجهما. ّ
تزامنت بداية كتابتي لهذا الكتاب مع تقديمي للمشورة لزوجين انهار زواجهما
بسبب الخيانة الزوجية .فقد تزوج "ايد و كارول " Ed and Carolمنذ تسع
سنوات .وقد عانى "ايد" من مشكالت في إدمان الكحوليات حتى قبل زواجه،
الرغم من ّأنهما مما ّ
تسبب في كثير من التوترات في زواجهما منذ البداية .وعلى ُّ ّ
كانا يعيشان تحت سقف واحد ،إال أن أحدهما ابتعد نفسيا عن اآلخر أكثر
سرية مع جارته بعد مض ي بضع سنوات من زواجهما. فأكثر .وبدأ "ايد" عالقة ّ
بالغم والكآبة أكثر فأكثر ،غير ّأنها لم تعرف سبب
ّ
ورأت "كارول" نفسها تشعر ِ
ذلك.
كان "ايد" و "كارول" قد انضما إلى أحد مجتمعات برودرهوف املسيحية
للحياة املشتركة في التسعينيات .وبعد ّأيام معدودة من مجيئهما أخبر "ايد"
زوجته بعالقته مع جارتهما .فلم يتح له ضميره املذنب الشعور بالسالم ،ووجد
نفسه ال يستطيع إخفاء هذا السر أكثر من ذلك .أما "كارول" فص ِعقت .فقد
الغفران في الزواج 97
كان في داخلها إحساس بوجود ش يء غير صحيح منذ زمن طويل ،لكنها لم تكن
تتخيل أن تكون مخدوعة بهذا الشكل .وأخبرت "ايد" في انفعالها -املفهوم ّ -أن ّ
زواجهما انتهى ولن تغفر له أبدا.
ّ
لم يكن من الصعب التعاطف مع مشاعرها ،لكني علمت منذ البداية أنه
ّ
إن لم تتمكن من الغفران ل ـ "ايد" فلن تشفى جراحاتها العميقة التي تسبب
سل ّْ
مت نفسها فريسة إلى دوامة الشعور "ايد" فيها .واقترحت عليها أنها إذا
بالهزيمة واالنخداع ،فسيؤدي ذلك بدوره إلى َج ِّر أحدهما بعيدا عن اآلخر أكثر
فأكثر ،وأيضا سيؤدي إلى استبعاد إمكانية رجعتهما ثانية معا وإلى األبد.
الفوري مع ضمان تقديم املشورة ّ وفي الوقت نفسه نصحتهما بالفراق
لكال الطرفين .فهذا االنفصال سيساعد "ايد" و"كارول" على التعامل مع
مشاعرهما وتصفيتها كل على ِحدة .فلم يكن هناك أي "إصالح سريع" أو
ّ
"وصفة سريعة" ،إذ ّأن هذه العملية مؤملة وتتطلب وقتا طويال .ويلزمنا هنا بناء
العالقة من جديد ومن القاع إلى السطح.
ُّ
لعدة شهور ،لكنهما كانا يحرزان تقدما عجيبا في وتفارق "ايد" و"كارول" ّ
عالقتهما أثناء هذه املدة .فشرعوا في البداية باالتصال فيما بينهما بالتلفون
فقط .أما فيما بعد ،فأخذت مكاملتهما تنمو وتطول ويطغي عليها طابع االرتياح
ّ
النفس ي ،ومن ثم بدءا حتى بتبادل الزيارات .كما توقف "ايد" عن شرب
الخمور ،وتدريجيا صار الفرح والتحرر اللذان يتبعان عادة االعتراف بالذنب
تفحص روحه وقلبه .أما "كارول" يحل محل عذاب شهور قضاها وحيدا في ّ ّ
مرت بأوقات عسيرة وصارعت فيها ،لكنها كانت شغوفة أن تبدأ من جديد فقد ّ
-ال فقط من أجل أوالدها وحدهم ،الذين بقوا معها عندما رحل "ايد" من
أجل نفسها هي أيضا.املنزل ،لكن من ّ
أنها رغبت فيبحب جديد ل ـ "ايد" .واألهم من كل ذلك هو ّ وبدأت تشعر ّ ْ
جرد أن أدركت ّأنها هي أيضا قد أخطأت في هذا األمر، أن تسامحه كليا .وبم ّ
استطاعت أن تتقابل مع "ايد" عند هذا املستوى.
مرة أخرى.واآلن وبعد مض ي عشرة شهور ،اجتمع شمل "ايد" و "كارول" ّ
وفي اجتماع عبادة خاص ع ِق َد لالحتفال بإعادة اكتشاف زواجهما ،أعلن "ايد"
و "كارول" جهارا ،أمام الجماعة األخوية كلها ،عن مغفرتهما أحدهما لآلخر.
90لـمـاذا نـغفـر؟
لم يكن "ايد" و "كارول" ّأول زوجين أقوم بتقديم املشورة لهما من الذين قد
مروا من خالل آالم الخيانة الزوجية ،ور ّبما لن يكونا آخر زوجين .ومع ذلك،
ّ
فأنا على يقين من أن غيرهما من األزواج اآلخرين سيجدون القوة للتغلب على
هذه العاصفة ،مادام كال الزوجين ر َ
اغبين في السعي إلى تجديد العالقة بينهما
على أساس املغفرة واملحبة املتبادلة.
الفصل العاشر
مما الشك فيه أن الوعي بعدم حاجتنا إلى أن نبقى ضحايا ماضينا فيه
ُّ ّ ُّ
ويمكننا ذلك من تعلم طرقا جديدة في التعامل .لكن هناك ِ تحررُ ُ
كاف
خطوة أكبر من عملية اإلدراك هذه .إنها خطوة املغفرة .فاملغفرة هي محبة
تعيشها بين ناس قليلي املحبة .وهي ّ
تحررنا من دونُ أن نترجى شيئا باملقابل.
قول من
هنري ج .م .نووين Henri J. M. Nouwen
وهو قسيس كاثوليكي أملاني
كتب 41كتابا روحيا
91
91لـمـاذا نـغفـر؟
كان جوابه عجيبا :فقد اقترح جدي عليه أن يكتب لوالديه رسالة ويطلب
منهما العفو والغفران ،لتصحيح األوقات التي آذى فيها هو مشاعرهما عن
سبب فيها حزنهما .كما أخبر "كارل" لينظر فقط إلى ذنوبه هو بحق عمد ،أو ّ
اآلخرين ،ال إلى ذنوب اآلخرين بحقه .تفاجأ "كارل" من جوابه في البداية ،لكنه
ُّ
أنتصح بنصيحة جدي أخيرا .واستلم بالفعل والد "كارل" الرسالة ،لكن بالرغم
ّ
من أنه لم يعتذر شخصيا عن األخطاء الفظيعة التي ارتكبها بحق ابنه "كارل"،
ّ
إال ّأن األحمال التي كانت تثقل قلب "كارل" زالتّ .
وألول ّ
مرة في حياته وجد
السالم والراحة ،وأنهى ذلك الفصل املؤلم من حياته ،ولم يعد يشتكي ثانية
من طفولته أبدا.
تغل ّبت "ماري "Maryوهي صديقة ألسرتي على ذكريات مؤملة من إساءة
املعاملة بطريقة مماثلة ،فتقول:
ْ
توفيت ّأمي في سن الثانية واألربعين تاركة وراءها أبي وثمانية أطفال
تتراوح أعمارهم من سنة إلى تسعة عشرة .كان لفقدانها وقعا مأساويا على
نفسيا في الوقت الذي ك ّنا فيه بأشد الحاجة إليه.
ّ عائلتنا ،فقد أنهار أبي
التحرش بي وبأختي ،فبدأت أمقت وجوده وكرهته.ُّ وحاول
انتقل والدي إلى منزل آخر ،أما أنا فذهبت إلى مدرسة في أوروبا ولم
أره ثانية مل ّدة سبعة سنوات .إال أنني تمسكت بمشاعر الكراهية نحوه،
وصارت تلك املشاعر تستفحل في داخلي.
عندما رجعت إلى أمريكا الجنوبية ،خطبت لشاب أحببته ،كان من
أصدقاء الطفولة .وطلب مني أبي أن أقابله ،لكني رفضت .فلم أكن أرغب
أصر على أن أقابل والدي .وقالفي مقابلته على اإلطالق .أما خطيبي فقد ّ
ّ ّ
إنه ليس بإمكاني رفض مثل تلك املقابلة ،وأنه يجب التجاوب مع اشتياق
سبب لي أمرا كهذا صراعا حقيقيا ،وفي النهاية والدي للمصالحة .وقد ّ
وافقت.
مسامحة الوالد أو الوالدة 97
أي ش يء ّ
توجه أبي نحوي وتقابلنا مع أبي في مقهى .وقبل أن أقول ّ
ّ
وطلب مني الغفران والسماح وهو مكسور الخاطر .فتأثرت للغاية،
التمسك بكر ّ
اهيتي ألبي أكثر من ذلك. ُّ وأدركت أنني ال يمكنني
عد االعتداء على األطفال من أصعب األشياء التي يمكن غفرانها في العالم.
ُي ُّ
فالضحية دائما هو طفل برئ براءة كاملة ،في حين ّأن املعتدي – دائما شخص
ّ
بالغ – مذنب كليا .فلماذا يغفر البريء للمذنب؟ هناك أوالد كثيرون من
ضحايا إساءة املعاملة يظنون خطأ أن لهم حصة في الذنب :وأنهم تقريبا كان
لهم ضلعا في تسبب هذه اإلساءة أو حتى أنهم يستحقونها .وفي الواقع تأتي
الق ّوة املهيمنة التي يستخدمها املعتدي على نفسية ضحيته من هذا املبدأ
حتى بعد مدة من املضلل جدا على أن الضحية قد اشتركت أيضا في الجريمةّ ،
ّ ُّ
البدني نفسه .وذلك هو جزء من عملية جعل اآلخرين ضحايا. توقف االعتداء
يتضمن الغفران للشخص املعتدي لوم الضحايا على جزء من ّ لكن ،أال
الحدث؟
ّ ّ ّ
بالطبع ال يوجد كالم باطل مثل ذلك السؤال .فالغفران ضروري ألن كال
الضحية واملعتدي -الذي يعرف أحدهما اآلخر في معظم الحاالت -هم ّ من
أسرى لظلمة مشتركة .وسيظل كالهما في تلك الظلمة إلى أن يفتح شخص ما
الباب لهما .فالغفران هو السبيل الوحيد للخروج من تلك املشكلة ،فإذا اختار
نتمسك نحن أيضا بالظالم .لكننا إن يظل في الظالم ،فال يجب أن ّ املعتدي أن ّ
تركنا الباب مفتوحا ،فر ّبما سيتبعنا املعتدي (أو املعتدية) ويخرج إلى النور.
حتى بدأت والدة "كيت" تعود إلى املنزل ثملة ،وانفصللم يمض وقتا طويال ّ
ّ
عائلية جديرة بالذكر؛ فقد تم إهمال الوالدان الحقا .ولم تكن هناك أية حياة
البيت ،ولم تغسل املالبس قط .وصار كل ش يء ملقى على عاتق "كيت" ،الفتاة
ذات الثالثة عشرة عاما .فتردف قائلة:
عندما دخل أخي الصغير جيمي املدرسة ،كانت ّأمي بالكاد تتواجد في
ّ ّ
املنزل .ولم أتمكن قط من انجاز فرائض ي املدرسية في البيت ،ولم أتعلم
مرة أخرى. علي إعادة السنة ّالكثير .ورسبت في الصف التاسع وكان ّ
تركت أختاي األصغر مني البيت ،وحصلت كلتاهما على وظيفة،
شقة في املدينة .غير أنني بقيت في املنزل .فكان البد من وجودوأجرا معا ّ
ّ
شخص ليعتني بالصغار .وبالرغم من رداءة كفاءتي في التدبير املنزلي ،إال
أنهم تمكنوا على األقل من الحصول على ش يء يأكلونه.
ّ
وبدنيا، ّ
ذهنيا ازدحمت في مدينتنا املستشفى الخاصة باملعاقين
وبدأت الحكومة في إطالق املعاقين الذي ال يحتاجون إلى رعاية كل الوقت
مسامحة الوالد أو الوالدة 99
عند هذه املرحلة أردت أن أنس ى ّأمي .فقد كانت لي عائلتي الصغيرة،
جدا .وفجأة أرادتحبون أطفالي ّ فضال عن بيت أهل "توم" الذين كانوا ي ُّ
ّأمي االتصال بي ،لكني خلقت العديد من األعذار لكي ال أزورها .غير أنني
ألرد لها بعض ما فعلته معي من حصلت على ش يء من البأس والشجاعة ّ
جميل.
ّ ّ ّ
عند ذاك صار طالق والداي نهائيا .وتوقفت أمي أخيرا عن شرب
ألنها أدركت ّأن ضغط الدم والخمر سيقضيان عليها ال محالة. الخمرّ ،
711لـمـاذا نـغفـر؟
ّ
ومع ذلك كنت مترددة وغير راغبة في االتصال بها .فاملشكلة كانت هي أنني
لم أقدر أن أثق بها.
عدة سنوات انضم هذان الزوجان إلى املجتمع املسيحي برودرهوف وبعد ّ
للحياة املسيحية املشتركة .وكانت "كيت" بانتظار طفل آخر ،ودعا "توم"
والدتها لتشاركها ميالد الطفل الجديد .فتتابع القول:
أنني كاملجنونة ولم أعرف ماذا يجب أن أفعل تجاه هذا األمر. شعرت ّ
ّ
فقلت ل ـ "توم"" :عليك أن ّتتصل بها وتخبرها أال تأتي؛ قل لها ما تشاء.
فهذا طفلي أنا ،وال أرغب أن تشاركني هي به" .كنت خشنة للغاية .وفي
النهاية ذهبت إلى أحد الرعاة الروحيين في مجتمع كنيستنا وقعدنا
نتحدث عن املوضوع.
إلي بهدوء ثم قال" :يجب أن تتوصلي إلى سالم ومصالحة فاستمع ّ
مع والدتك" .فقلت" :أنت ال تعرف ّأمي ".فأجاب" :هذا ليس له عالقة
باألمر ".في النهاية أتت ّأمي .ولم تكن على ما يرام حين وصلت وكانت في
سهل األمر عليها ،لكن ّنا في النهاية ّ
الرعاية .ولم أ ّ حاجة إلى مزيد من
ّ استطعنا أن ّ
نتحدث سويا .بعدئذ وفي أثناء زيارتها األخيرة وقبل أن تذهب
تود هي أن تخبرني به .واألكثر من هذا ّ
أنها إلى بيتها ،شعرت ّأن هناك ما ُّ
كانت راغبة في االستماع إلى ما أقوله لها .لقد أرادت عالقة جديدة –
صممة على إزالة ّأية وكنت ألهف عليها أنا أيضا وقتئذ -وقد كانت م ّ
عوائق تقف في طريق إقامة هذه العالقة .وعند هذه املرحلة أدركت ّأنها
لم تكن عارفة بما كانت تفعله في السابق ،وعندما استطعت أن أغـفر لهـا
شـفـيـنـا جميعـا.
ليست جميع الحاالت بشأن القطيعة بين أحد الوالدين وأحد األبناء ّبينة
وخالية من التعقيد .فهناك ّ
قصة "سوزان" وهي امرأة من كاليفورنيا تأتي من
ظروف مختلفة تماما .فهي لم تكن قد عانت قط من إساءة معاملة فظيعة
من قبل أهلها ،لكنها ،مثلها مثل "كيت" ،كانت تحمل بغضا وكراهية تجاه
والدتها لسنوات طويلة ،ولم تبدأ عالقتهما في الشفاء إال عندما استطاعت أن
تغفر لها .فها هي تقول:
بأمي صعبة للغاية منذ بداية إدراكي كطفلة .فقد كنت كانت عالقتي ّ
أخش ى من انفجار غضبها ومن لسانها الالذع واالستهزائي ،ولم أكن
أستطيع إرضاءها أبدا .وكنتيجة لذلك ،كنت أشعر بالغضب تجاهها –
كان غضبا غائرا ومكبوتا ومخبأ في صدري جعلني أنغلق نفسيا عنها.
وأخذت أتمسك بآالم الظلم الذي صرت أتذكره من أيام طفولتي ،وأيضا
ّ
الكالم الخشن ،وبعض الضربات (التي ال يستحسن تذكرها) .لذا
ّ
أحس أتدمر بشكل ال يوصف من توبيخها لي ،وسرعان ما كنت أصبحت ّ
أنني مرفوضة من ِق َب ِلها.
وبكلمة أخرى ،لم يكن لدينا عالقة صريحة ليفتح أحدنا قلبه
ّ
لآلخر .لذلك بدأت أتطلع إلى الكبار اآلخرين الذين في حياتي وبصفة
ُّ ْ ّ
وكرهت ّأمي تعلقي باملدرسين لكنها لم تجد وسيلة تعبر خاصة امل ّ
درسين.
أنني تمنيت االبتعاد عن عائلتي وأن ّ وأتذكر ّ ّ
يتبناني أحد بها عن ذلك.
ّ امل ّ
درسين .وأتذكر أيضا املشاعر القوية بعدم االنتماء لتلك العائلة التي
بشدة. كانت تجتاحني ّ
وبسبب لهفتي على أن أحظى برضا أهلي ،حاولت أن أكون بنتا
فإن األمر لمالحقيقية .وحسبما كان مألوفا ّّ "صالحة" وأخفي مشاعري
يساعدني كثيرا حينما لم يسمح لألوالد بالرد على الكبار أو اإلجابة ب ـ "ال"
لطلب األهل أو الكبار بصورة عامة .إذ كان من املفروض علينا نحن
الصغار أن نكون مرئيين ال مسموعين.
وساء األمر أكثر عندما دخلت سن املراهقة .فقد قمت بإيجاد سبل
ماكرة أكثر فأكثر ألعبر بها عن غضبي وأفعل ما أشاءه .كما وجدت أيضا
710لـمـاذا نـغفـر؟
طرقا ملتوية عديدة مع أمي ،التي كانت بالحقيقة بمثابة "انتقام" منها.
وأدت أساليبي هذه بدرجة كبيرة إلى تورطي بعالقة جنسية مع كاهن ّ
أبرشيتنا الذي كان له عالقة اجتماعية مع أهلي.
وتزوجت من رجل آخر ،لكني استمرت في أخيرا انتهت تلك العالقةّ ،
خصامي مع أمي .إال أن العالقة كانت غريبة فعال ،ألني كنت ما أزال
مستميتة على إرضائها.
ّ
والنفسية على مدار ّ
الجسدية ومرت ّأمي بفترات طويلة من األزمات
ّ
كل تلك السنوات ،لكني استصعبت التعاطف معها أو إظهار االهتمام ّ
بما يحدث لها .وأخيرا جاء يوم أبديت فيه عطفا وشفقة عليها عندما
ُّ كانت تخوض برنامجا م ّ
كونا من اثنتي عشرة مرحلة للتخلص من إدمان
الكحول .وقضينا أسبوعا رائعا معا من مفاتحة القلوب ،غير أن األبواب
سرعان ما و ِص َد ْت بيننا بعدئذ .وألقيت اللوم عليها على ما حصل ،وال
أعرف اآلن سبب ذلك.
في النهاية ،تجلى لي األمر أن شخصيتها الظاهرية التي تبدو قوية
ّ
نفسيا وواثقة النفس ومسيطرة كانت مجرد غطاء لشخص مزعزع
تنقصه الثقة بالنفس ،حيث كانت تحمل أوجاعا كثيرة من طفولتها
منا الشخصية غير اآلمنة (التي افتقرت إلى املحبة) .وقد حاول كل ّ
التقرب من اآلخر بأسلوبه الشخص ي ،غير أن ِكالنا كان يخش ى من رفض ّ
اآلخر له ،لذلك أمست جهودنا سطحية ،حتى في أحسن أحوالها .وأنا
مستحية من نفس ي ألقول أنني انقطعت عن الكالم معها بعد أسبوعين.
غير أن أحد األبواب ف ِت َح لي بعد سنوات الحقة عن طريق صديقة
ّ
ظلت تالحقني ألسمع بعض األشرطة لوعظات قسيس يدعى "جارلس
ّ ستانلي ."Charles Stanleyوعلى ُّ
الرغم من أني لم اسمع عنه من قبل،
لكن ّي كنت أبحث عن إجابات لكثير من تساؤالتي في الحياة ،لهذا
استمعت لها مع ش يء من التحفظ .وال أتذكر ما قاله بالضبط ،لكني
سمعت تماما ما كنت أحتاج إلى سماعه في ذلك الوقت .فبدأت عيناي
تتفتح لترى حصتي من الذنب والتقصير في عالقتنا ،وحاجتي ّ
املاسة ّ
مسامحة الوالد أو الوالدة 711
وب ُمجـ ّرد أنهما واجهتا مشـاعر الغضـب في أحشاء كل منهما ،فقد تمكنت
كل من "سـوزان" وأمها من الشروع في بنـاء عالقـتهما من جـديـد .وهنـاك العـديد
القصـة ومس ّ
ـتمريـن باملعـانـاة بسـبب عـدم قـدرة ّ ممن لـهم قصص مشـابهة لتـلك ّ
ّ األطراف على الـغـفـران .فـال يهم مـن نـكـون أو ماهية خلفياتنا .فامل ُّ
ـهم أن نـتـعـلم
الـغـفـران .وعـندئذ سيمكن لألعاجيب أن تحدث .وستهيج علينا الـذكـريـات
ّ
املـؤلـمة من حيـن آلخـر لتعـكر صـفو العـالقـات ،لكننا ال يمكننـا ولألبـد أن
ّ
نسـمح لهـا أن تغيـم سـماء ما نرتـئيه صحيحا لحياتنـا .وح ّـتى عندمـا يـكون
ؤمن أن الغفـران ليـس ممكنـا النسـيان مستحـيال (وهذا طـبيعي) ،فيجـب أن نـ ّ
ّ
فإننا سنجـد الشـفـاء الحقـي ّ ّ
ـقي. فحسب ،بـل وضروريـا أيضـا .وحينمـا نـغـفـر،
الفصل الحادي عشر
مـســامـحـة أنـفـسـنـا
قول من
حنة آرندت Hannah Arendt
منظرة سياسية وباحثة يهودية من أصل أملاني
ح ّتى لو سا َم َحنا اآلخرون ،فهل يمكننا أن نسامح أنفسنا؟ هناك الكثير من
ّ
يتعذبون كثيرا بسبب ما فعلوه شخصيا ،لدرجة ُّأنهم ال يؤمنون الناس الذين
ّ
بإمكانية شفائهم ،لكن حتى تلك النفوس املهمومة يمكن لها أن تجد ّ بعد
الرجاء.
104
مسامحة أنفسنا 711
ّ
لقد خرجت عن طوري واحتدمت غضبا ،إال ّأن "ديلف" أخذ يهدئني.
وأخذنا طفلنا إلى الطبيب في كالركسفيل ،الذي كان أيضا املحقق الطبي
في أسباب الوفيات املشتبه بها ،وشرحنا له ما حدث ...ومن ناحيتي لم
ّ
مقصرةيخطر ببالي مطلقا أية شكوك ألغفر لزوجي ،ألني علمت أنني ِ
القدر نفسه .وحتى أنه لم يلمني ،بل الم نفسه فقط .ووقفنا معا جنبا
إلى جنب في مواجهة تلك املحنة املحزنة.
ديلف وأسرته
ّ
ولم يستطع "ديلف" أن يغفر لنفسه ،وظلت تلك الحادثة تالحقه لسنوات.
ومنذ ذلك الوقت غير أسلوبه في الحياة ليخصص وقتا لألطفال -ذلك الوقت
يقضه كفاية مع ابنه الذي قتله .وعندما أتذكر ،أرى كيف كنت أجد
الذي لم ِ
مسامحة أنفسنا 717
عينيه كثيرا ما تتألأل بالدموع ،ولدي إحساس قوي اآلن أنه كان يرى ابنه فينا
نحن الطالب ،أو يتخيله وهو يكبر .وكان تصميمه على بذل نفسه لآلخرين هو
األسلوب الذي اعتنقه للتكفير عن تلك املأساة التي ّ
سببها بال قصد .أنا مقتنع
ّأن هذا األسلوب حفظه من االستسالم للشعور بالذنب ،وقد استعاد به حياته
وأخيرا شعوره بالسالم.
"ديفيد هارفي "David Harveyالذي يبلغ عمره اآلن حوالي الثمانين ِا َلت َح َق
ّ
العاملية سن السادسة عشرة من عمره قبل انتهاء الحرب بالجيش حين كان في ّ
ِ
ّ ّ
الثانية .وبعد ما قض ى بقية سنوات الحرب في التدريب ،تم نقله إلى أفريقيا ثم
أملانيا ثم إيطاليا وهونك كونك والصين والبحر املتوسط .وفي البداية استمتع
خاصة بالصداقات الحميمة التي شعر بها تجاه ّ بوقته في الجيش وبصفة
ّ
أصدقائه من الجنود ،لكن شيئا ما قد حدث وغيـر حياته لألبد .فيقول:
الرغم من ّأنها كانت ما تزال أ ّنها ال تشعر باالستياء مما جرى لها .وعلى ُّ
لكنها أرادت أن يعلم الناس أن هناك تعرضت لهاّ ، تعاني كثيرا من الحروق التي ّ
آخرين غيرها عانوا أكثر منها ،فقالت" :خلفي في هذه الصورة ،كان هناك آالف
وآالف من الناس الذين ...ماتوا .وفقدوا أجزاء من أجسادهم .ود ّمرت حياتهم
بالكامل ،ولم يلتقط أحد صورا لهم".
مرت "كيم" في كلمتها قائلة أنها قد غفرت للرجل الذي ألقى بالقنبلة است ّ
ّ
الرغم من ّأنها ال يمكنها تغيير املاض ي ،إال ّ ّأنها كانت
على تلك القرية ،وعلى ُّ
تريد "ترويج السالم" .أما "جون" ،الذي لم يصدق عينيه ،فقد حاول االندفاع
لألمام واختراق الجموع وتمكن من لفت انتباهها قبل أن تغادر املكان كالبرق
الطيار املسئول عن إلقاء تلك فعرفها بنفسه على ّأنه ّ مع حماية بوليسيةّ .
مسامحة أنفسنا 777
ّ
يتحدثا معا القنبلة على قريتها منذ أربعة وعشرين عاما ،واستطاعا أن
لدقيقتين قصيرتين .فيخبرنا "حون":
أت "كيم" مدى حزني وألمي وكربي ...ففتحت ذراعيها لي وعانقتني .ولم ْ
ر
ّ ّ ّ
أتمكن من قول ّ
أي ش يء سوى "إنني آسف ،إنني آسف" -عدة مرات .وفي
الوقت نفسه كانت تقول لي" :حسنا ،ك ُّل ش يء على ما يرام ،أغفر لك".
فهل يا ترى حصل "جون" على السالم الذي كان ينشده؟ يقول "جون" نعم
ّ ّ
الرغم من ّأن مشاعره ال زالت متأثرة بذكريات الحرب ،إالحصلت عليه! وعلى ُّ
ّ ّ
أنه يشعر أنه اآلن يستطيع أن يغفر لنفسه وأن يضع هذا الحدث خلفه في
عداد النسيان ويعيش أياما جديدة.
ويقول "جون" أن لقاءه مع "كيم" وجها لوجه بعث فيه الحياة حينما
ّ
تمكن أن يخبرها أنه تعذب حقا بسبب جراحاتها .لكنه ومع ذلك فإنه يؤكد
على ّإن الغفران الذي حصل عليه ما هو إال نعمة إلهية مجانية قد تلقاها -
ُّ ّ
يستحقه .وإجماال، وليس ش يء يمكن اكتسابه بقدرته ،باإلضافة إلى أنه ال
سر عجيب :فهو ال يستطيع أن يفهم لحد اآلن كيف ّأن محادثة فالغفران ُّ
استمر مل ّدة أربعة
ّ استمرت مل ّدة دقيقتين ،استطاعت أن تزيل الكابوس الذي
ّ
وعشرون عاما معه.
ّ ّ ّ
رسمية يتم حث أشخاص أمثال "ريتشارد" بمراجعة جهات إعانة غالبا ما
ّ
لطلب املشورة .فينصحوهم مثال إليجاد غيرهم ممن مروا بتجارب مماثلة ،أو
االنضمام إلى مجاميع تدعمهم وتساعدهم معنويا ،أو الدوام على حضور
كل ذلك؛ وزار أكثر من مشير جلسات معالجة جماعية .وقد فعل "ريتشارد" ّ
وذهب إلى اجتماعات مجموعة املحاربين في فيتنام مل ّدة عام كامل ،لكنه لم
يحصل على السالم بعد.
قد تساعد هذه الوسائل في العالج ،لكنها في بعض األحيان تقف عاجزة
شجعكعن تقديم حل يدوم لفترة طويلة .فيمكن للطبيب النفس ّي الناجح أن ي ّ
على اإلفصاح عن األحمال التي تعاني منها من املاض ي ،لكن إن لم يتبع هذا
ّ
الشخصية إلى الغفران ،فلن يكون االعتراف مجديا. ندم واعتراف بالحاجة
نودع هذه السيدة ،نحتاج إلى أن نسأل سأقول لك شيئا؛ في كل مرةّ ،
أنفسنا ،ليس عن :ماذا نعتقد عن حالتها؟ -فهذا ما نفكر فيه دائما! –
بل :ماذا باألحرى نوده لها؟ آه ،أنا ال أقصد جلسات العالج النفس ي؛ فقد
أخذت منه كفايتها .فالتحليل النفس ي سيحتاج إلى سنين طويلة ،على ما ْ
أظن ،ليقدم لها شيئا ال يضاهي ما يقدمه لها الرب الطيب ...ال ،فهي ال
حتى وإن لم تدرك هي ذلك… فهذه املرأة املسكينة ال تحتاج تتحملنا بعدّ ،
إلينا بتاتا ...فما تحتاجه بالحقيقة هو...الغفران .فهي بحاجة إلى أن
التحدث معها عن عقلها .فالبد وأن يكونُّ تصنع سالما مع روحها ،وليس
هناك إله في مكان ما قادر على أن يساعدها ويسمعها ويشفيها… وال
شك في ّأننا غير م ّ
ؤهلين ملساعدتها في هذا املجال! يوجد ّ
ّ
هام للغاية :فال يمكننا أن نجد السالم والشفاء إن لم نتعلم
يا له من أمر ّ
مواجهة أخطائنا .ثم إن االعتراف بالذنب وحده ال يكفي لكي نحصل على
حقه أن الغفران .ففي بعض األحيان قد ال يرغب الشخص الذي أخطأنا في ّ
يغفر لنا .وفي أحيان أخرى قد ال نرغب نحن في أن نغفر ألنفسنا أو قد ال
نستطيع أن نغفر ألنفسنا .وعندئذ يجب أن نلتجئ هلل سبحانه تعالى لطلب
العون مثلما اقترحته "آنا فرويد" .وغالبا ما يوافينا الغفران كنعمة إلهية حينما
ّ
سنتحرر لتجعلنا قادرين نعتقد بأننا ال نستحقه .فبفضل هذه النعمة وحدها
على مسامحة اآلخرين من صميم قلوبنا وكذلك على إلزام أنفسنا بالتغيرّ
والتوبة.
الفصل الثاني عشر
ـحـمــل الـمـسـؤولـيــة
ت ُّ
عندما ندلي ونعترف بخطايا معينة ،فسيموت اإلنسان القديم الذي في
داخلنا ميتة موجعة ومخزية ومشينة أمام أنظار أخ مؤمن .وملا كان هذا
َّ
اإلذالل عسيراُ علينا ،فترانا دائماُ نحاولُ تجنبه .غير أنه بفضل هذه اآلالم
ُ
الجسدية واملعنوية املوجعة لهذا الذ ُّل والهوان أمام األخ املؤمن فإننا
سنشهد ...نجاتنا وخالصنا.
قول من
ديتريش بون هوفر Dietrich Bonhoeffer
قسيس والهوتي أملاني شهير
ناضل ضد الحكم النازي وتم إعدامه
771
تحمُّ ل المسؤولية 771
إن الـذنـب يـقـترف في الخـفـاء ،ويـفـقـد ق ّـوتـه بمج ّـرد السماح له بالخـروج إلى
النـور .لكننا غالبا ما نود إظهار شخصيتنا بأنها قوية وفاضلة ،األمر الذي
يؤدي إلى منعنا من اإلقرار لآلخرين بما قد اقترفناه من سيئات ،ونحـاول عـوضا
عـن ذلك أن نمحـو تـلك األخـطاء مـن الـذاكـرة ،وعنـدما نفشـل في محوها ،تجدنا
ّ
مجرد نحـاول تخبئتها .وبفعلتنا هذه فإننـا ال نقوم إال بتكديس ذنـب على ذنـب.
ّ
مسؤوليتـنا عنها ،فسيطفح ّ
ونتحمـل فما لم نعترف بما قد اقترفناه من سيئات
في داخلنـا الشـعور بالذنـب
ّ
وال توجد عالقـة بين شعورنـا باألسـف على مـا ارتـكبنـاه وبين موضوع
تعـذيـب النفـس .ألن تعذيب النفس يعني أن ال ننظر سوى إلى أنفسنا وضعفنا
البشري ،حينئذ سيكون حليفنا بالتأكيد هو اليأس والدمار .أما الشعور
باألسف فمعناه الصراخ هلل تعالى بدمـوع النـدم ،فال يلزمنا عندئذ سوى ترك
ّ ّ ََ
تتصفى .وإال األمر (لصاحب األمر) لنسمح للمياه العكرة التي َمأل ْت قلوبنا أن
فلن يسـعنا أبـدا رؤيـة وتنقية الرواسب الدفينة في أي مكان في داخلنا.
استطاعتي ،فلم َيع ْد لدي حجج لتبرير ذاتي بإلقاء الالئمة على مرحلة
الشباب أو الظروف أو أصدقاء السوء .فقد كنت أنا شخصيا مسئوال
عما فعلت.ّ
وبدأت أمسك ورقة بعد ورقة وأسكب فيها كل ما لدي من شائنات
وبكامل التفصيل .وأحسست وكأن مالك التوبة يضرب قلبي بسيفه،
فهكذا كانت اآلالم .وكتبت عشرات الخطابات ألفراد ومؤسسات تحايلت
ّ
عليها ،أو سرقت منها أو كذبت عليها ...وأخيرا شعرت أني قد صرت حرا
حقا.
ُّ
تأثر القلوب هذه قد تجاوزت ّ
حد وأهم ما في املوضوع هو ّأن حركة
الكالم واملشاعر وأفرزت تغييرات حياتية ملموسة ومنظورة تعبيرا عن التوبة
واملغفرة .فعادت البضائع املسروقة ،وتصالح األعداء ،وتم االعتراف بالخيانات
الزوجية والجرائم (من ضمنها وأد األطفال) ،وا ْ
لتأمت الزيجات املفككة .كما ِ
حتى مدمني الخمور في البلدة عن الحانات! ابتعد ّ
ّ
إن الذين يشككون في مدى أصالة الصحوة التي وقعت في ِ
موتلنجن ال
ْ َ
يلزمهم سوى أن ينظروا إلى نتائجها ليدركوا أنها لم تكن َو ْهم مخ َتلق .وعلى
ّ ّ
الرغم من سخرية الناس في البلدات األخرى ،إال ّأن ك ّل القرية كانت قد تأثرت
ّ
بتلك الصحوة .ويذكر أنه في عام 0112أي بعد حوالي 41سنة من تلك
الصحوة ،كتب "فريدريش سندل ( "Friedrich Zündelوهو كاتب سيرة
بلومهارت) ما يليّ " :إننا لم ننس بعد ما حدث ّ -
فحتى أطفال أولئك التائبـين ما
عم تلك البلدة" .أما أنا – كاتب هذا الكتابيشعون الفرح الغامر الذي ّ يزالون ُّ
-فقد سافرت خالل الثالثين عاما املاضية كثيرا إلى أملانيا لكي أزور حفيدات
تيمنا به) ويمكنني أن اسمه ّ ّ
والدي بكتاباته وسمياني ِب ِ "بلومهارت"( .فقد تأثر
ّ
أشهد أن هناك شيئا من الروح نفسه الذي اكتسح البلدة آنذاك ظل على
حتى اليوم. حاله ّ
لكن السؤال املطروح هو :هل تعتبر الصحوة التي حدثت في قرية
موتلنجن حدثا عرضيا؟ وهل يمكن لحدث كهذا أن يتكرر؟ كان لدى القسيس ِ
ّ
"بلومهارت" إيمان يجيب على هذه األسئلة ،فيقول" :نعم ممكن"؛ فعـلى أيـة
ّ
حـال ،لقد بـدأ األمـر كلـه بندامة رجـل واحـد فقـط.
في كثير من الحاالتُ ،يمكن تصحيح الخطأ بمجرد اعتذار بسيط – مثال
عندما نفقد صبرنا مع شخص ما أو عندما يفتقر تعاملنا إلى الرأفة .وقد
وجدت من خالل خبرتي ّأن أفعاال متعمدة مثل الغش أو السرقة يجب أال ّ
يتم
االعتراف بها فقط ،وإنما مواجهة عواقبها أيضا ،إذا كانت هناك رغبة في
تحرر كامل .فهناك حاالت يكون فيها من الضرور ّي عمل أشياء
الحصول على ّ
أكثر من مجرد االعتراف الشخص ي.
تحمُّ ل المسؤولية 779
اختبر "مارك و دبي ،"Mark & Debbieوهما صديقان لي يعيشان اآلن في
والية بنسلفانيا ،اختبرا هذا األمر ّ
للمرة األولى في الجماعة املسيحية الصغيرة
التي كانا ينتميان إليها بكاليفورنيا في أواخر الثمانينيات ،فيقوالن:
ومع ذلك ،فقد ترك الرجل مجتمع جماعتنا أخيرا .وبعد سنتين،
ّ
تركت املرأة أيضا -وطلقت زوجها.
مرا بها "مارك" و "دبي" ليسـت فريـدة من نوعـها حتمـا .فقد ّأن التجربـة التي ّ
ّ
يستخفوا بما كـان يحـدث فعـالّ .إن ألن الجمـيع حـاولوا أن تفكك الزواج ّ
املواجهـة أحيانـا تكون ضروريـة إذا أردنـا الحـصول على الغفـران ،ألنه ما لـم
ّ ّ يتواجـه ّ
أي شخـص منـا وجهـا لوجـه بمـا قد فعـله من خطايـا ،فإنه سوف ال
بتذوقه .أما االبتعاد عن مواجهة َم ْن يؤذي
حتى ينعـم ّ يسـعى لطـلب الغفـران وال ّ
ّ
اآلخرين -ألننـا نقنـع أنفسـنا أن هـذا األمـر ليـس مـن شأننـا ،على سبـيل املثـال -
فيـكون أحيانـا سبيال لنعذرهم عما يفعلونه من شائنات .وكما رأينـا سـلفا ،فإن
التغاض ي عن الشائنات نقيـض لغفـرانها.
ُّ
نظل مهد الطريق ُ
للغفران وال ُمصالحة .وبدونه إنَّ االعتراف بالخطايا ُي ّ
منغلقين كليا في كبريائنا ،ويصبح الغفران ليس ممكنا .عندما عاد والد زوجتي
تحمُّ ل المسؤولية 707
"هانز "Hansإلى مجتمعنا املسيحي بعد قضائه ألحد عشر عاما بعيدا عنه،
كتب ما يلي:
ّ
توقعت أن يستقبلوني الناس بالحجارة ،لكن لم يحدث أي ش يء من هذا
أعبر بها عن أسئلتي وهواجس ي كل الفرص لكي ّ القبيل .فقد أتيحت لي ُّ
وتحدث الجميع معي بانفتاح وصراحة .والحقيقة هي ّ علنا أمام الجماعة،
ّأن قلبي لم يذب من الصراحة فقط؛ لكن باألحرى ،من ّ
املح ّبة بينهم التي
محبة مستعدة لتغفرّ ،
ألنها تقاسموا بفضلها املسؤولية وااللتزام -وهي ّ
هي نفسها اختبرت الغفران.
ولم يكن هناك ش يء ليتنازع عليه الناس سوى الش يء الذي فصلنا.
منا على املقعد نفسه ،بمعنى أننا جميعنا ّ
كنا كل ّ
وباختصار ،جلس ّ
سواسية ولنا الصراع الروحي نفسه .ولم يتم التعامل مع األمور بمشاعر
اإلطراء واملداهنات ،بل تم األخذ بنظر االعتبار حتى أكثر الحقائق املؤملة
بحسب نور املحبة.
ّ
تأثر "هانز" جدا ّ
بحب مجتمعه له ،إال أن الش يء الذي أطاح بعناده وتصلبه
كان استعدادهم في طلب العفو منه عن األمور التي أخطئوا فيها بحقه.
لم أذق طعم النوم والراحة في الليل .فكان هناك ش يء يطرق في بالي :كان
أصحح األمور! فذهبت إلى بعض من أصدقائي الذين ّ
لدي ثقة يلزمني أن ّ
فيهم ،وأخبرتهم بكل ش يء .وقد ساعدني هذا كثيرا جدا ،على الرغم من
األيام التي تلتْ ،
بدأت علي أن اعترف به هو م َق ّززا للنفس .وفي ّ
أن ما كان ّ
ِ
ّ
أشياء أخرى تتوارد إلى ذهني ،وهناك أيضا لم أتمكن من االنتظار.
ّ
وأتذكر حينما ركضت إليهم لكي أدلو بها .فعندما تقوم بتنظيف جميع
700لـمـاذا نـغفـر؟
ّ
وتحس بضرورة دفاترك وسجالتك ،تصير حتى أصغر وأدق األشياء مهمة
علي أن أتخلص من كل ش يء صغير يتبادر إلى اإلدالء بها .فكان يجب ّ
ذهني .فلم استطع االنتظار.
ّ
ولم أكن أعلم مطلقا بأنني سأجد مثل هذا الفرح في االعتراف
والتوبة ،فقد أصبح قلبي خفيف مثل الريشة أكثر وأكثر.
ْ
اكتشفت " ّ
سارة" ،مثلها مثل اآلخرين الذين صمموا على مواجهة ذنوبهم وطلب
ّ ّ ْ
التحرر والراحة الروحية .وقد توقعت أن اكتشفت شعورا رائعا من الغفران،
يرفضها وينتقدها األعضاء اآلخرين في املجتمع املسيحي بشدة بسبب ما ارتكبته
في املاض ي ،وأن ّ
يتجنبوها بالكامل ب ّ
مجرد أن تحكي لهم ما حدث ،لكن لدهشتها
رحبون بأمانتها ويقبلونها معهم بكل ضعفها .وعندما اعترفت وجدتهم ي ّ
ّ
بمسؤوليتها عن أخطاء املاض ي وأعلنت تصميمها على القيام ببداية جديدة،
وجدت "سارة" – مثلما يقدر على إيجاده كل واحد ّ
منا – أن االعتراف يمهد
مهد هذا االعتراف الطريق أمامها للحصول على السبيل للمصالحة .فلقد ّ
املصالحة.
الفصل الثالث عشر
قول من
ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnold
عالمة الهوتي أملاني ومؤسس حركة برودرهوف املسيحية
ّ نتحدث عن ُ
الغفران ،فإننا عادة ما نقصد األذى الذي تسبب بعضنا ّ عندما
ّ
فيه لبعض ،لكن في بعض املرات يبدو أنه ال يوجد من نلومه .وملا كانت
املشاعر واالنفعاالت التي تهيج لدينا في هذه املرات تشابه كثيرا تلك التي تحدث
منا – ّ
بحق أو في الحاالت التي يوجد فيها طرف مذنب ،فلذلك يميل كثيرون ّ
ّ بغير ّ
حق – إلى إلقاء اللوم على هللا ألنه جعلنا نتعذب بدون أي سبب واضح أو
مبرر .وعندها نمتلئ بالغضب واأللم متسائلين" :كيف يمكن إلله رحيم أن
يسمح بهذا؟" فهل ترانا نقدر أن "نغفر" هلل؟
ّ
ال أنوي البحث في مسألة" :هل من العدل أن نلوم هللا في مثل تلك
حتى لو ك ّنا ال نؤمن به،
الظروف أو ال؟" فمن السهل أن نلوم هللا ونغفر له ّ
ألن ذلك أفضل من مواجهة حالة ال يوجد فيها من نلومه .فالغضب مرحلة
حتى عندما ال يكون هناك هدف واضح لنوجه نحوه مشروعة من الحزن ّ
غضبنا .فنحن بحاجة إلى التعبير عن غضبنا والتعامل معه ،إن ك ّنا نرغب
701
701لـمـاذا نـغفـر؟
ّ
فهل يمكن أن نتعلم إذن أن نغفر هلل عندما نراه مسئوال عن األلم الذي
ّ
حدث لنا ،تماما مثلما تعلمنا أن نغفر لآلخرين عندما نشعر أنهم جرحونا؟ إن
ُّ
الحل يكمن في تنمية رغبتنا في التعلم من تجاربنا لننمو ولكي ينتج منها ش يء
ّ ّ ّ
ّ
سلبي في حياتنا .فعندما يبدو أنه ال يوجد إيجابي ،وإال سيبدو ّأن األمر كله
سبب آلالمنا ،فيجب علينا أن نجد سببا .وليس من الضروري أن تكون األزمة
مجرد كارثة؛ فيمكنها أن تكون فرصة أيضا.
املطاعم على جانبي الطريق .ويبدو ّأن السائق ارتكب خطأ وأغلق
ّ
الفرامل .فظلت الحافلة تنزلق نحو شاحنة واقفة جانبا .فأصيب ثماني
عشر شخصا بجروح ،ولقي جندي وفتاة في الخامسة من عمرها
مصرعهما.
ّ
وال أتذكر ّ
أي ش يء عن الحادث ،على الرغم من أن املسعف الذي
ّ
شرع بإسعافي على الفور قال أنني بقيت على وعيي .وأتذكر بعض
ّ
الشخصية األحداث البسيطة في املستشفى مثل إعطائي رقم بطاقتي
قصوا مالبس ي؛ والدي ،وأيضا عندما ّ ّ وأرقام التليفونات لكي يخبروا
وأتذكر ّأمي كذلك وهي في طريقها من غرفة اإلفاقة إلى وحدة العناية
ّ
املركزة.
ولم يخبرونني أني خسرت ساقي إال بعدها بيوم .فجاءت ّأمي إلى
ّ
سريري وسألتني إن كنت أعلم ما حدث ،فأخبرتها أنه يوجد عطب ما في
ّ ّ ّ ّ
رجلي ،لكني ال أستطيع رؤيتهما ألني كنت نائمة على ظهري .وال أتذكر أنني
جرائها ،وذلك بسبب تأثير شتى أنواع أصبت بصدمة نفسية من ّ
ّ
املسكنات لتخفيف األلم .وبقيت بوحدة العناية املركزة مل ّدة اثني عشر
الرغم من آالمي الشديدة، يوما .وشعرت باالطمئنان في ذلك املكان على ُّ
ّ
لدرجة أنني لم أستطع رفع رأس ي من على وسادتي ،وكنت أعاني من
ارتفاع في درجة الحرارة معظم الوقت .فقد تمت رعايتي بصورة جيدة،
علي التعامل مع ش يء من هذا ولم يخطر ببالي وقتذاك أنه سيترتب ّ
القبيل ،وكنت محاطة بكل الدعم والرعاية اللطيفة التي كنت أتمناها.
اليهودي الجديد ،انتقلت إلى الجناح الخاص ّ لكن قبل حلول العام
ّ ُّ
التشوهاتّ .
وقرروا عند ذاك أنه لم يكن في اإلمكان املحافظة على بعالج
علي إجراء عملية ثانية لبتر رجلي فوق ّ
ركبتي اليمنى ،وأخبروني أنه يجب ّ
الركبة مباشرة .وكان هذا أصعب بكثير من احتمالي ،وانفجرت في البكاء
عندما أخبرت أحد أصدقائي الذي أتى لزيارتي.
عملية الشفاء من الجراحة الثانية صعبة للغاية .فقد عانيت كانت ّ
كثيرا والسيما من آالم وهمية في الرجل املفقودة .Phantom pain-وما
جعل املوقف أسوأ هو محاولة األطباء إقناعي أن مثل هذه اآلالم غير
701لـمـاذا نـغفـر؟
موجودة باألساس .وكانت فترة األربعة أسابيع هذه ،فترة عجز بالنسبة لي.
فقد كنت مدركة لضعفي وعدم مقدرتي على رعاية نفس ي ّمما جعلني
غاضبة للغاية (كانت عائلتي وأصدقائي بجواري طوال الوقت) .فقد كنت
مرة أخرى .ولمشخصية مستقلة تماما ،وفجأة رجعت مثل طفلة صغيرة ّ ّ
ّ
قواي لفعل األشياء التي اعتدت عليها من يكن من السهل أن استجمع
ّ
قبل التي لم أقلق بشأنها قط في السابق ألنها كانت أمور مسلم بها ،أما
اآلن فصارت تبدو شبه مستحيلة.
ال أعلم كيف كانت لشخصيتي أن تكون لو لم يصبني هذا الحادث
ومن ثم أخوض تبعاته ،لكني أعتقد أنه جعلني أقوى .فعندما أدركت
حاجتي لآلخرين من حولي من جهة وأيضا ضرورة التعامل مع موقفي من
ّ
جهة أخرى تجل ْت لي بكامل الوضوح أهمية دور حياة الجماعة املتضافرة
ّ
من حولي .فبدال من أن أشعر أني عديمة الفائدة ألني ال استطيع القيام
عينة ،وجدت ّأنني عندما اعترف بحاجتي إلى املساعدةّ ،
فإن هذا بأمور م ّ
يجعلني شخصا كامال أكثر وأكثر .كنت من قبل أميل إلى االستعالء على
ّ
هؤالء املعاقين الذين ال يستطيعون الوفاء بمتطلبات الحياة بمفردهم،
ُّ ّ
لكني اآلن تعلمت درسا جيدا في قبول اآلخرين كما هم من خالل تعلم
طلب املساعدة.
غمرتنا السعادة أنا وزوجي "نيل" عندما اكتشفنا أنني حامل بعد حوالي
ستة أشهر فقط من زواجنا ،لكن في إحدى الليالي قبل عيد امليالد ّ
Christmasشعرت بألم ّ
حاد ازداد سوء بسرعة .وأراد طبيب أخويتنا أن
708لـمـاذا نـغفـر؟
يرسلني إلى املستشفى ،وجاءت جارتي املمرضة لتبقى معي إلى أن ذهبنا إلى
ّ ّ
وأك ْ
دت املمرضة لي ما كنت أخشاه -وهو أنني قد أفقد طفلي. البلدة.
الجسدي الذي شعرت به .ملاذا يا ّ وكان األلم النفس ّي قاسيا تماما كاأللم
هللا؟ ملاذا أنا؟ ملاذا ستأخذ تلك النفس الصغيرة بهذه السرعة؟ ما الذنب
الذي ارتكبته؟
ّ
ولغرض إنقاذ حياتي ،تحتم إجراء عملية جراحية .وفقدت الطفل،
وقضيت أسابيع السترد عافيتي .يا له من عيد ميالد مختلف هذه املرة!
وكنا نعاني وحدنا من أملنا هذا. وتعذبنا كثيرا بسبب هذه الخسارةّ ،
حظكما أفضل في ّ ُّ
املرة وعندما قال لنا أحد أقاربنا" :ابتهجا! فسيكون
التالية" ،شعرت وكأنني تلقيت صفعة على وجهي .حظ؟ أي حظ هذا؟
لقد فقدنا طفال توا! إنسان حقيقي! طفلنا!
والرب يأخذ ،مبارك ُّ الرب يعطي، أرسل أحدهم بطاقة لي تقولُّ " :
دمرني فعال .فكيف لي أن أشكر هللا على هذه اسم الرب " غير أن هذا ّ
التجربة املؤملة والفظيعة؟ فلم أقدر .ولم أتمكن من التوقف عن التفكير
بالرغم من عدم معرفتي بالسبب. في ّأن هللا كان يعاقبني بالحقيقةُّ ،
املحبة ،وليس إله العقاب، ّ وعزاني راعينا الروحي قائال" :هللا إله ّ
ّ
يتمسك فتمسكت بكلماته مثلما ّ وهو موجود ليخفف عن آالمنا".
بأي ش يء ليصل به إلى الشاطئ .أما الدعم الحميم اإلنسان الغارق ّ
لزوجي "نيل" فبدا وكأنه عالمة مرئية ملحبة هللا هذه ،واكتشفنا ّأن األلم
قد ربطنا معا بطريقة جديدة .والعبارة التالية" :سيدوم البكاء طوال
ّ
الليل ،لكن الفرح قادم في الصباح" ،عزتني كثيرا وخففت عني ،حتى
أحس بقدوم ذلك الفرح ،وحينما كان يبدو أن الفجر لن يبزغ ّ حينما لم
بعد.
وتدريجيا مع الوقت وباملعونة الحميمة لهؤالء الذين يحيطون بي
من أخوة وأخوات من مجتمعنا املسيحي ،استطعت أن أشعر ّأن تلك
يهتم بمعاناةمحبة هللا ،الذي ُّ التجربة املؤملة قد أعطتني ملحة عن ّ
الناس ،الذي كان – وأنا على يقين تام – موجودا بقربي في آالمي .وأصبح
حقيقيا ،أكثر وأكثر بالنسبة لي ،وبدأت أثق في ّ
محبته. ّ هللا واقعا
إلقاء اللوم على اهلل 709
عدة شهور الحقة عندما كنت حامال في طفل آخر، لكن بعد ّ
ّ
وأتطلع بشوق ألن تسير األمور على ما يرام هذه ّ
املرة ،حدث الش يء نفسه
حاد ،ورحلة في سيارة اإلسعاف إلى املستشفى ،وعملية مرة أخرى .ألم ُّ ّ
إلنقاذ حياتي .وهنا مرة ثانية ،فقدنا أنسانا صغيرا وعزيزا فور تكوينه.
ومزق األلم قلبي .وكتبت في مذكراتي" :ال يسعني أن أفهم السبب؛ وربما ّ
رحمت َك!"
لن أفهم أبدا .أريد االطمئنان الذي ينعم به اإليمان – َ
وقف "نيل" معي جنبا إلى جنب في محنتي وبكل وفاء ،وكان قد فقد
عدة سنوات ،وكان ما كتبه عند تلك املرحلة أخته بسبب السرطان منذ ّ
ّ
مصدر تشجيع كبير لي" :إننا منفصلون عن هللا جسديا فقط ،وربما ال
بكل ق ّوتي. تكون تلك املسافة كبيرة"ّ .
وتمسكت بهذه الكلمات ّ
تضاءلت تدريجيا أوجاعنا ْ مر األسابيع واألشهر التي تلت، وعلى ّ
وأحزاننا ،بالرغم من أنها لم تفارقنا مطلقا بصورة كاملة .وبعد سنة
يلد بعد .وهنا أيضا ،أكتنف قلبي أملا تقريبا فقدنا مرة أخرى طفال لم ْ
بالغا ،لكنني لم أقم هذه املرة بأية محاوالت يائسة ملعرفة السبب.
واليوم "أندريا" ُّأم لطفلة جميلة عمرها ثماني سنوات .وبالرغم من أنها ت ْد َمر
ّ
نفسيا وينتابها فيض من املشاعر حينما تتذكر حاالت الحمل الثالث األولى ،إال
ّ
اإليجابي من معاناتها، أن قلبها خال من أي استياء .وتحاول أن ترى الجانب
وتشعر أنها ،وبفضل تلك املعاناة ،صارت تحب زوجها بصورة أكثر وجدانية
فضال عن أنها جازت في الجحيم وعادت منه سوية مع زوجها ،فتراها صارت
أيضا ّ
تثمن ابنتها بصورة أكبر مما لو لم ّ
تمر بتلك التجربة.
في مكانه بال حراك ،وعندما كان يتنفس ،كانوا يسمعون مرات صوت قرقرة
غريبة .وجرى قبوله على الفور في إحدى املستشفيات الجامعية القريبة ّ
منا،
لكن مشاكله الصحية لم تتضح لألهل إال بعد بلوغه الثالثة أشهر؛ فقالوا
األطباء أن هناك احتمالية عدم قدرته على املش ي والتكلم بقية عمره ،هذا وقد
ّ
طبيعية في الورك ،والدماغ كان مكفوفا؛ وكانت هناك أمور واضحة وغير
واألذنين واملعدة.
ّ ّ ّ ّ
نفسيا ،فقد ظال لفترة طويلة يشكان في وجود والدي "آالن" فتحطموا أما
ّ ّ
علة معينة في طفلهما ،لكنهما لم يتوقعا مطلقا أن يكون األمر بهذا السوء .وقد
يمر وقت طويل حتى بدءا في اتهام هللا بدءا على الفور في اتهام نفسيهما ،ولم ّ
قائلين" :ملاذا نحن؟"
ّ ّ
وأخبرني "جوناثان" في أحد املرات أنه كان غاضبا ،لكن عند مسائلته لم
وجه له غضبه .هل هو نفسه؟ أم حدد ذلك الشخص الذي ي ّ يستطع أن ي ّ
زوجته؟ أم ّ
األطباء؟ أم هللا؟ نعم ،ربما هللا .إال أنه لم يعرف السبب .فقد قال:
ّ ّ
من األشياء التي تتعلمها بسرعة هي أال تقارن طفلك بأطفال اآلخرين.
فطفل جارنا في حجم "آالن" لكنه في ثلث عمره .وهو ال يجد ّأية مشكلة
في شرب الحليب من زجاجته خالل خمس عشر دقيقةّ .أما نحن فعندما
ّ
يشرب "آالن" سنتيمترا واحد من الزجاجة ،فإننا نشعر بانتصار كبير.
فإما ّأن هللا يكرهنا ،أو ّأن هذا هو ما أراده هللا
ملاذا؟ ال يوجد ما نقولهّ .
فعال لطفلنا "آالن" .وقد ال نعرف أبدا السبب ،لكن إن امتألت أحشاؤنا
بغضا واستياء ،فسوف نقتل بذلك كل األفراح التي قد ننالها.
ّ
وعندما جاءا لي باحتياجهما ،أكدت لكل من "جوناثان" و "جريتشن" على ّأنهما
بأي صورة من الصور -عن معاناة ابنهما .وأخبرتهما ّأن ّ
كل ّ
مسئولين ّ - ليسا
ّ ّ ّ ّ
عطية من هللا ،وأن "آالن" ربما يكون ّ
طفل هو ّ
عطية خاصة للغاية ،ألننا عن
ّ
قيمة عن الصبر والحنان .فهو يذكرنا باألمور ّ ّ
نتعلم دروسا ّ
الهامة في طريقه
الحياة ،وينشلنا من سباق الجرذان (بمعنى التنافس العنيف األحمق في
الحياة) ،ويساعدنا على ترتيب أ ّ
ولوياتنا بطريقة سليمة ،مثله مثل كل األطفال
إلقاء اللوم على اهلل 717
الخاصة .فاألطفال أمثال "آالن" لهم القابلية على استخراج ّ ذوي االحتياجات
ما هو األفضل في داخلنا ،ويعيدون اتصالنا مع إنساننا الداخلي الحقيقي.
وما زال والدي "آالن" يجاهدان ألن يغفرا .فهو ليس أمرا سهال .فأحيانا
يتمكنا من مواجهة ائر آخر ي ّ ّ
قدم لهما كلمات ز يريدان الهروب ،عندما ال
عطف بال معنى ،أي بمعنى مجرد كالم فيه مجامالت خالية من اإليمان وال
ّ
يعزي الروح.
فإن والديه يواجهان مستقبال األولّ ،وباقتراب "آالن" من عيد ميالده ّ
ّ
مجهوال .وكانت آخر التطورات أنه كان عليه أن يركب خراطيم للتنفس
كل ذلك ،كان عليه استئصال االصطناعي وأنابيب من أجل إطعامه ،وفوق ّ
الزائدة .فكم من العذابات يلزمه أن ّ
يتحمل بعد؟
ّ
وفي عاملنا الذي يدعو إلى "التشخيص املبكر" (و "إنهاء الحمل" وهو
منمق بديل عن كلمة إجهاض) كإجراء لتفادي حاالت األطفال مصطلح ّ
لكل طفل في العالم. ّ
الجوهرية ّ ّ
والدي "آالن" عن القيمة شوهين ،يشهد امل ّ
ّ ّ
وراثي ،وإنما هو إنسان لديه الكثير ويقولون أن "آالن" ليس مسألة شذوذ
وإنهما ليسا على استعداد ألن يسمحا له أن يموت .وتكتب األم ليقوله لناّ ،
"جريتشن" قائلة:
حتى بعض الطعام القو ّي .فلم تعد هناك قرقرات ضحك منه ،وال ّ
حتى ّ
صرخات بكاء اإلحباط.
ّ ّ
األطباء أنه لو عاش ،فقد ال يحتاج إلى تلك الخراطيم .هذا ويخبرنا
ْ
"لو عاش!" .مزقت هذه الكلمات فؤادينا ،لكن ابتسامته ال تزال تعطينا
ّ
أمال .فهو ي ِعلمنا القبول – ومن ثم الغفران -ك ّل يوم.
الفصل الرابع عشر
قاس ُ
ومف ِزع باملقارنة مع املحبة الحاملة .فمحبة َّ ُ
إن املحبة العملية أمر ُ
عاجل وأمام أنظار ّ
األحالم طماعة ،حيث تطمع في تنفيذ فوري ،وأداء ِ
ُ
ل عذاب املحنة...معن لبذل نفوسهم إن لم يط ُ الجميع .والناس مستعدو ُ
مشاهدة وتصفيق الجميع .أما املحبة العاملة فهي عبارة عن جه ُود مبذولة
وصبر وثبات.
قول من
فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoevsky
وهو من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العامليين
لسنوات عديدة ،وكلما أسمع أسم البلد رواندا يكون رد فعلي فوري.
فتخطر على بالي املذابح الجماعية ،ومعها صور مروعة من عام 0994عندما
يت قرى بأكملها عن الوجود في مجزرة ت َعد من أسوأ املجازر في التاريخمح ْ
ِ
املعاصر .أما اليوم فيخطر على بالي أمر مختلف تماما عند سماعي بهذا البلد.
إنها املغفرة وقدرتها العجيبة على شفاء حتى أكثر فصول التاريخ اإلنساني
ّ
والتغير في رد فعلي جاء في عام 3111بعد مقابلة "جان بولس سامبوتو ظلمة.
."Jean-Paul Samputu
ّ
فقد كان "جان بولس" موسيقيا على مستوى عالمي وذو جدول أعمال
مكثف ،وكان ي َشبه باملغني الشهير "بولس سايمون ،"Paul Simonوقد ّ
غنى في
133
711لـمـاذا نـغفـر؟
كل مكان ،بدء من أرياف أفريقيا وانتهاء بمركز "لنكولن "Lincoln Centre
للفنون في مدينة نيويورك.
وقد فاز بالعديد من الجوائز الفخرية ،منها جائزة "كورا "Kora Award
الذائعة الصيت ،لكن الذي لفت انتباهي هو ليس موسيقاه ،وإنما رحلته من
الغضب والحقد إلى املغفرة والفرح ...فها هو يحكي لنا:
َ َ
تأملوا هذا ،لقد جرى ق ْتل مليون شخصا في غضون تسعين يوما! فق َت َل
األصدقاء أصدقائهم ،واإلخوة إخوتهم ،واألخوات أخواتهن ،واألوالد
أهاليهم ،واألزواج زوجاتهم...
وفي خضم ذلك الوقت ،كنت أتجول في
دولة بوروندي وأوغندا – وألني كنت شهيرا في
رواندا ،نصحني أبي بالهرب من البلد ،لكنني
رجعت إلى بلدي في شهر تموز من عام 0994
عند نهاية املذابح.
وكنت أعلم سلفا أن والداي قد لقيا
مصرعهما – فكانا قد قتال في شهر أيار في
قريتنا "بوتير "Butareالتي تقع جنوبي
العاصمة .كما قتل ثالثة من أخواني ،وأختي
التي كانت بعمر 24سنة .فقد كان األمر فظيعا للغاية.
كانت عائلتي من قبيلة "توتس ي ،"Tutsiوكان جيراننا قد شرعوا في
قتل أبناء قبيلتنا .وكنت أعتقد أن أختي بأمان ألنها كانت متزوجة من
تجر األمور كما رجل من قبيلة "هوتو ،"Hutuلكن بالحقيقة لم ِ
اعتقدت .فقد قتلوها شيئا فشيئا ،وملدة ثالثة أيام .هناك الكثير من
األمور التي ال أقوى على الحديث عنها...
وعندما رجعت إلى رواندا ،سافرت إلى قرية "بوتير" ،وذهبت إلى
منزل والدي .لقد كان فارغا .بحثت عن الجيران .لم يكن هناك أحد.
وأي رائحة! أخيرا عثرت على بعض الناجين، كانت الجثث في كل مكانّ .
َ
وعرفت َم ْن قتل والداي .كان أفضل أصدقاء الطفولة" ،فينسنت
تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية 711
ْ
انتقلت عائلة "سامبوتو" إلى كندا في عام .0991واستقرت العائلة في مونتريال،
حيث كانت تقطنها جالية كبيرة من الروانديين املهاجرين ،ثم جاءهم طفل
ّ
آخر .وفي عام 3111تطلق الزوجان .وعاد "جان بولس" إلى أفريقيا .فيردف
قائال:
711لـمـاذا نـغفـر؟
ذهبت إلى أوغندا – كنت نجما غنائيا هناك – وأقمت عرضا غنائيا كبيرا
هناك .وكسبت ماال كثيرا مرة ثانية .وبسبب إدماني على الشرب
واملخدرات ،كان األمر ينتهي بي دائما في السجن .فصرت أدخل وأخرج
من السجون ،مرة بعد أخرى .واآلن أعرف جميع السجون هناك؛ فقد
قضيت فترة في كل منها.
أخيرا ،دفع أخي مبلغا ضخما إلطالق سراحي ،وذهبت معه إلى كينيا
حيث يسكن .وبينما أنا هناك ،زارنا صديق لعائلة زوجته الذي كان
مسيحيا إنجيليا ويدعى موس ى .وقال أنه جاء من أجلي – وأن هللا أوعز
إليه ليجدني ومن ثم يصلي من أجلي.
كنت مترددا ،لكنني أصغيت إليه ،وبعدئذ سمحت له أن يصلي
علي .وبصراحة ،كنت مستعدا ألي ش يء وقتذاك ،فلم يكن لي أي خيار
آخر .إذ لم ينجح أي ش يء آخر معي.
ّ
كانت صالة موس ى جبارة .فقد أعانني على التغلب على إدمان
الكحول واملخدرات عندما أمر الشياطين بمغادرتي .فصلى هكذا:
ّ
أحس "اخرجوا منه ،باسم يسوع ".وكلما كان يذكر أسم يسوع كنت
بش يء غريب .فكنت غالبا ما أسقط أرضا ،وأحيانا كنت حتى أتقيأ .فمن
الصعب أن أوصف املوقف .فكل ما يسعني قوله هو أنه في كل مرة كان
ص ّدق.
ذلك الرجل يصلي ،كانت صالته جبارة بشكل ال ي َ
في البداية قلت له" :إنك أحسن من أفضل طبيب ساحر عرفته".
(فكان هذا كل ما عرفته عن املوضوع) فضحك وقال" :كال ،أنا لست
أصر على أنه لم يقم بأي ش يء سوى بطبيب ساحر" .وعندما شكرتهّ ،
الصالة" .ال تشكرني أنا ،فأنا لست الطبيب الذي شفاك .إنه يسوع".
وعلى الفور صار قلبي ّيتقد شوقا ليسوع .وأردت معرفة املزيد عنه ،ومن
هو .وبعد ثالثة أشهر توقفت عن الشرب ،وانقطعت عن املخدرات.
ْ
كتبت كل ذهبت إلى أوغندا في عام .3112واآلن أنا مسيحي ،وقد
ْ
فعلت سابقا عندما ذهبت إلى السجن .فكانت قصة الصحف عني ،مثلما
تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية 717
غير حياته"" .سامبوتو يؤمن بالصالة" .أما أنا فذهبت كبيرة" :سامبوتو ّ
إلى جبل "سيجوكو "Ssegukuوهو أشهر جبل في أوغندا للصالة .فالناس
يقصدونه من كل حدب وصوب ليكونوا مع هللا .وقضيت ثالثة أشهر
محاوال أيجاد يسوع.
صليت وصليت كثيرا على جبل "سيجوكو" ،وسألت هللا جميع
أسئلتي .كنت أتلقى الجواب نفسه .فكان الجواب يأتيني في األحالم ،عن
طريق صوت وكأني كنت أتحدث معه .وحدث هذا الش يء ليلة بعد ليلة،
والرسالة كانت دائما ذاتها" :يجب عليك أن تغفر".
كنت أذهب إلى الكنيسة هناك على الجبل ،وكنت أسمعهم
يوعظون باملوضوع نفسه .وأنا شخصيا لم أرد أن أسمعه ،لكن لم يكن
هناك أي مفر منه .وصرت أسمع هذا الصوت مرات ومرات في نومي
يقول لي" :ستشفى بمجرد أن تغفر لآلخرين" .على أني تابعت العناد
واملقاومة لسنة أخرى في األقل.
عندما طلبت من "جان بولس" تحديد بالضبط األمر الذي دفعه ليغفر
ّ
يتحول إلى قاتل. لصديقه القديم ،قال أنه بدأ يقلق من أنه هو نفسه صار
كما مبين فيما يلي:
أؤاذ أحدا
أحمد هللا على أنني لم أجد "فنسنت" قبل هذا الوقت .فأنا لم ِ
طوال عمري ،إال أنني كنت ،بعد هذه املذابح ،عاقد النية على أذية
"فنسنت" في قرارة فكري .فكنت في طريقي لقتله .وحتى لو لم أكن قادرا
على فعلها بنفس ي ،كنت ناويا على أن أطلب من أحدهم ليقتله .فهذا ما
يأخذنا الحقد إليه :حيث ينتهي األمر بك لتصير قاتال أنت نفسك ،حتى
لو لم يكن لديك أية فكرة عن كيفية القتل.
وأخيرا عندما غفرت لـ "فنسنت" بالفعل ،أستصعب "فنسنت"
تصديق األمر .فقال لزوجته" :كيف له بحق السماء أن يفعل ذلك؟ بعد
كل الذي فعلته معه؟" وكان كل ظنه أنها خدعة ،ومجرد حيلة سياسية.
إال أن زوجته قالت له" :لقد تكلمت مع ‘سامبوتو‘ .وإن لم تقبل مغفرته،
فهذه مشكلتك ،لكن دعني أن أقول لك شيئاّ ،إن الذي يغفر لك هو
ليس ‘سامبوتو‘ بل هللاّ .إنها النعمة اإللهية".
َ َ
صدقني "فنسنت" أخيرا ،وخلق هذا األمر شيئا عجيبا .فقد كانت
زوجته سابقا ال تسمح له بالرجوع إلى البيت .فلم تقدر أن ترى نفسها
تعيش مع قاتل غير تائب .أما عندما قبل "فنسنت" مغفرتي له (ألنه قد
رأى أن هللا فعال كان وراء كل ش يء) صار في مقدوره التوبة ومسامحة
غفرت له زوجته " َرجينة" أيضا .فقالت له" :إن غفر هللاْ ذاته .بعد ذاك،
ّ
لك عن طريق ‘سامبوتو‘ ،فيجب علي أنا أيضا أن أغفر لك" .وغفر له
أيضا جميع أوالده .وهو اآلن ينعم في بيته .وأسرته جميعها معا .وعندما
أزورهم أتناول الطعام سوية معهم .فهكذا تعمل ّ
قوة املغفرة.
تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية 719
منذ ذلك الوقت حدثت عجائب كثيرة في حياتي .فقد تكلم هللا معنا من
خالل فم مربية أبنتنا ّ
املعوقة ،التي ّبينت لنا أن بنتنا ليست بنت كسيحة
وإنما مالك .فقالت لنا" :لقد خلق هللا بنتكما كلوديا ،وفي نظره ال يوجد
أي عطب فيها .وأنتما تشعران بالغم من طفلة كهذه .حتى أنكما ال
تريدان النظر إليها .واألولى بكما أن تفتخرا بها".
وفي املرة القادمة التي ذهبت فيها لزيارة "كلوديا" (فهي لم تكن قادرة
على السكن معنا ،بل كانت تسكن في قسم خاص) بكيت ،وشاهدني أبني
711لـمـاذا نـغفـر؟
أبكي .فسألني" :ملاذا تبكي؟" بعد ذلك صلينا معها .وأخيرا تمكنت من أن
أقر وأقول" :لقد أنعم ّ
علي هللا فعال بهذه الطفلة". ّ
وبمقتضى ما تبرهنه قصة "جان بولس" (مثلما تفعل جميع قصص هذا
الكتاب) ،فإن الغفران يعتبر مسألة شخصية بحتة .فكل ّ
منا يجب عليه أن
يجد شفاء داخليا ،بأساليبنا الشخصية ،وفي الزمن الذي نعيش فيه .أما على
صعيد آخر ،فإن الغفران هو أكثر من ذلك .فحتى لو كان الغفران في مقدوره
أن يربط الناس بعضها ببعض ،إال أن تأثيره يشبه "تأثير املوجة" الذي يمكن
أن نلمسه على نطاق أوسع بكثير .وفي الحقيقة والواقع ،يمكن للغفران أن
يغير ّ
ويقوي جماعات من يكون قوة اجتماعية مقتدرة ،فهو له القدرة على أن ّ
الناس بأكملها.
فنرى في تاريخ العالم كيف كان كل من دور "مارتن لوثر ِكنج" في حركة
الدفاع عن حقوق اإلنسان في الواليات املتحدة األمريكية ،ودور "غاندي" في
صراع الهند من أجل االستقالل املثالين األكثر معروفين في موضوع تأثير
الغفران على نطاق واسع ،لكن هناك الكثير من األمثلة غيرهما .فيمكننا كتابة
مجلدات عن دور "هيئة الحقيقة واملصالحة" في دولة جنوب أفريقيا ،وعن
َ
وتحت رعايتها جميع جلسات التحقيق التي عقدتها في أواسط التسعينيات.
وإرشادها ،صارت املئات من كل من الضحايا وأيضا من مرتكبي جرائم سياسة
التفرقة العنصرية الوحشية للبلد ،صارت تتدفق ملواجهة املاض ي املرير ،أمال
في شفائها وبناء مجتمع جديد أكثر استقرار.
تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية 717
بعد حوالي عشرة أعوام ،حدث الش يء ذاته في رواندا .خذوا على سبيل
املثال بلدة "نياماتا "Nyamataالتي تقع جنوبي العاصمة كيغالي .فعندما بدأت
املذابح الجماعية في ربيع عام ،0994وجد كل من "موكامانا" – فتاة من قبيلة
توتس ي – و "أزيري" – مزارع من قبيلة هوتو – وجدا نفسيهما في معسكرات
ّ
متضادة.
ففي أحد أيام الربيع عندما عادت "موكامانا" إلى البيت راجعة من البئر
لجلب املاء ،وجدت أن عائلتها كلها قد تم قتلها وتقطيعها أربا أربا باملدية (آلة
فرت إلى دولة بوروندي املجاورة.الحش) .فاختبأت بأحد الحقول ،ومن ثم ّ ّ
و "أزيري" املزارع لم يشترك في هذه املجزرة بالذات ،لكنه قد اعترف
الحقا بقتل آخرين في املنطقة نفسها.
أما اليوم ،فيعيش االثنان كالجيران ،حتى أنهما يذهبان إلى الكنيسة
نفسها أيام اآلحاد .وقال "أزيري" ألحد الصحفيين من IRINوهي شبكة
املعلومات اإلنسانية التابعة لألمم املتحدة" :إن بعضنا يساعد بعضا ".كما
أضاف قائال" :حينما يمرض واحد من جيراننا ،نزوره في البيت" .حتى أنه يشير
إلى ش يء أكثر أهمية قائال" :وصار أوالدنا أصدقاء".
ويعيش كل من "موكامانا" و "أزيري" مع حوالي أربعين أسرة أخرى في
ممن اعترفوا بذنبهم. مجتمع يتألف من الناجين من املذابح ومن مرتكبيها ْ
والقرية املستحدثة التي أطلقوا عليها أسم " ِإمدجودو ( "Imidugudoومعناها
قرية املصالحة) كان قد بدأها قسيس أنكليكاني (من الكنيسة األنكليكانية
710لـمـاذا نـغفـر؟
وفي السنين األخيرة نرى ظهور مبادرات مماثلة في مناطق أخرى في أرجاء
العالم .في إسرائيل مثال واندونيسيا وبغداد ودول البلقان ومجموعات مثل
"فرق صانعي السالم املسيحية ،"Christian Peacemaker Teamsوهيئة
خدمات األمريكيين األصدقاء ،"American Friends Service Committee
وغيرها من املنظمات غير الحكومية ،التي كلها تعمل على ترويج املصالحة على
اعتبارها السبيل الوحيد للتغلب على النزاعات العرقية .وفي أغلب الحاالت
يحققون إنجازات متواضعة ،إذا أخذنا بنظر االعتبار جسامة حجم القضية
تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية 711
التي يتناولونها بكامل أبعادها .وغالبا ما يتبع انتصاراتهم عراقيل واتهامات من
قبل أولئك الذين لم يجدوا تفاؤال وأيضا من قبل املثاليين .ففي رواندا على
سبيل املثال ،حيث حضرت مؤتمرا عن املغفرة والتسامح في شباط من عام
،3119قابلت هناك العديد من الذين يقدمون طاقاتهم لبناء مجتمع جديد
مبني على املحبة والثقة .لكن هناك ولحد اآلن أعداد أكثر منهم ممن ّيدعون
يروجون علنا أيديولوجيات بأن املصالحة هي حلم فارغ .وبعض من هؤالء ّ
ومفاهيم قديمة من التي تؤدي إلى مذابح اإلبادة الجماعية .وفي مواجهة واقع
كهذا فإن "جان بولس" ي َ
عت َبر حقيقة واقعة .فيقول:
بالرغم من أن دوامة العنف تبدو غالبا بال نهاية .فكل حادثة منها
تستدرج أخرى .إذ أن كل شخص أو كل جماعة لهم عدوهم الشخص ي
كما يبدو األمر .ومما يثير السخرية ،فإن هؤالء "األعداء" غالبا لم يعودوا
موجودين من حوالينا .وفي حاالت كثيرة فهم لم يعودوا موجودين حتى
على قيد الحياة .أما في نظري ،فإن العدو الحقيقي هو ذاك الذي نواجهه
كلنا ،أال وهو :الغضب واالستياء اللذين نحملهما معنا خالل اليوم وأينما
ذهبنا؛ وكذلك الخوف والقلق والوسواس الذين ننام معهم كل ليلة .فال
نحتاج إلى ناس آخرين! فإننا نقتل أنفسنا بأيدينا.
إن الناس ما زالوا مأسورين :بالخوف ،والغضب ،وعدم الثقة،
والتشكيك ،واالنتقام .وال تزال هناك مرارة الكراهية واالستياء ،وال تزال
درس في نظريات التفرقة العنصرية التي كانت وراء املذابح الجماعية ت ّ
مدارسنا .والناس الذين قد قضوا أعواما وراء القضبان يعودون اآلن إلى
قابلت َم ْن قتل ابن عمك أو عمك أو َ َ
قابلت أحدهم – إذا بيوتهم ،وإذا
َ
أمك ،وتكلمت معه – فال يسعك التكلم معه مثلما كنت تتكلم معه َ
سابقا .فاألمر مستحيل بدون محبة .فاملحبة وحدها هي القادرة على
إعتاقنا وتحريرنا من قيود األحقاد املاضية وأيضا وحدها التي توافينا
بالشفاء الحقيقي.
711لـمـاذا نـغفـر؟
ويتعذب الكثير من الناس في العالم من جراء هذا ،فاألمر ليس محصورا في
رواندا فقط .ومما يزيد الفاجعة ،هو أنهم يتصرفون كما لو أنه ليس هناك أي
مخرج من هذا املأزق .ويقولون" :إن مثل هذه األمور تحدث .فهذا هو الطريق
ّ
الحل ،الذي هو الغفران .غير أن الذي تسير عليها الحياة" ،ولن يتكلموا عن
تقليدا من املغفرة هو وحده الكفيل بإيقاف دوامة العنف واليأس ويحرك
عوضا عنها دوامات جديدة من األمل واملحبة.
ولن يحدث هذا بين ليلة وضحاها ،ألن الغفران هو مسألة اختيار ْ
تفحصا كامال لروحهشخص ي بحت .فالغفران يقتض ي من املرء أن يجري ّ
يتم توضيح الدواعي واألسباب لهم لخوض كل وكيانه .ويحتاج الناس إلى أن ّ
هذا العناء .ويحتاجون إلى سماع قصص حقيقية عن الغفران ،لكي يتأثروا.
كما يحتاجون إلى رؤية شاملة عن كيفية سير األمور إذا سمحوا للغفران أن
يقودهم ،حتى يحصلوا على األمل واالندفاع.
إن رؤية كهذه تشبه فحوى أغنية قديمة للكفاح من أجل الحرية من
الستينيات ،حيث تقول:
فهذا هو األمل الذي جاء بضحايا ومرتكبي جرائم "التصفية العرقية" في عدد
ّ
ليتجمعوا ويحرثوا تربة املزارع املشتركة؛ وهو الش يء من القرى في كوسوفو
نفسه الذي دفع الناجين املسيحيين جراء اضطهاد املسلمين في عامي – 0991
0999في جزر "مالوكا "Maluka Islandsاألندونيسية ليغفروا إلى من حرق
منازلهم واغتصب زوجاتهم وبناتهم.
وهو يستمر كذلك بإلهام نشاطات إبداعية أخرى في كافة أنحاء العالم،
مثل املشروع املسرحي الذي أقيم في مدينة "بيتسبرج "Pittsburghاألمريكية في
جمع فيه يهودا إسرائيليين ومسلمين عرب ومسيحيين صيف عام 3111الذي ّ
تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية 711
أمريكان ،من أجل مجتمع إنساني .وقد استعملوا أسلوب املشاهد املسرحية
التي كانت تحكي قصص املعاناة لكال الطرفين ،وتم دعوة الخصوم بعدئذ
لتبادل األدوار ليتخيلوا أنفسهم وهم في مكان وظروف خصومهم ،ويناقشوا
حلوال جديدة عوضا عن مجرد تكرار إعادة املشاكل القديمة( .بعدئذّ ،
صمم
املشاركون أن يأخذوا معهم إلى بالدهم ما تعلموه هناك ،الستخدامه كأداة
لصنع السالم).
ويقول مدير املشروع "روني أوستفيلد " :"Roni Ostfieldهناك الكثير من
املخاوف وسوء الفهم والجروح لدى جميع األطراف" .ويردف قائال" :إنه ألم
حقيقي ،لكننا دائما نأمل أنه إذا فتح شخص واحد قلبه للمحادثات مع
الطرف اآلخر ،ربما سيؤثر على عشرة أشخاص آخرين ،ومن ثم لها أن تنمو
من هناك".
ففي الثاني من شهر تشرين األول عام ،0111دخل سائق شاحنة لبيع
الحليب واسمه "تشارلس روبرتس "Charles Robertsومن دون إعالم مسبق،
دخل إلى أحد صفوف مدرسة جماعة ال ـ ِآمش التي كانت قريبة من مكان
سكناه في شرق والية بنسلفانيا ،وأمر الفتيان واملعلمين بترك املدرسة .وبعد
ربطه ألقدام الفتيات املتبقيات ،استعد "روبرتس" لرميهن بأسلوب اإلعدام،
وببندقية رشاشة ومعه 411إطالقه من العتاد الذي جلبه لهذه املهمة.
711لـمـاذا نـغفـر؟
توسلت إليه أكبر فتاة كانت موجودة هناك ،التي كانت بعمر 02سنة،ْ
ودع الصغيرات يذهبن" .وعندما رفض عرضها، علي أوال ْقائلة" :أطلق النار ّ
أطلق النار على جميعهن ،قاتال خمس منهن وتاركا األخريات بجراح خطيرة .ومن
ثم أطلق النار على نفسه أثناء انقضاض قوات الشرطة على املبنى.
ال يعلم أحد دوافعه الحقيقية ،لكنه كان قد أخبر الفتيات في املدرسة
أنه كان غاضبا على هللا ألنه أخذ ابنته الصغيرة منه ،التي ماتت كطفلة قبل
عدة سنوات.
وما هي إال ساعات حتى استولت هذه القصة على وسائل اإلعالم في
العالم .وعند املساء ،مألت الفرق التلفزيونية تلك القرية الصغيرة املسماة
" ِنكل ماينز ."Nickel Minesوبقوا هناك حوالي أسبوعا كامال ،إلى أن تم دفن
القاتل والضحايا.
وعلى بشاعتها ،فإن املجزرة بحد ذاتها قد طغى عليها فصل ثاني عجيب
أضيف إلى القصة أال وهو :املوقف الغفور لألسر التي فقدت بناتها .وفي
الواقع ،كان الدم بالكاد قد جف على أرضية املدرسة عندما ذهب أفراد من
ّ
تلك الجماعة املتدينة جدا ليزوروا أهل وأرملة الرجل املسلح ليقدموا لهم
تعاطفهم وليسألوا عن أحوالهم .وتعدى موقفهم الكالم – فقد أقامت جماعة
تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية 717
ال ـ " ِآمش" صندوقا ماليا لجمع التبرعات ألرملة القاتل وأوالدها .كما جمعوا
الطعام ألسرة القاتل .وقد صادف أحد الصحفيين رجال من ال ـ " ِآمش" يجوب
حقوال عديدة ويجمع التبرعات ،في يوم املجزرة نفسه .واألمر األكثر عجبا ،هو
أن نصف عدد الذين جاءوا إلى مراسيم دفن القاتل كان من أسر الضحايا
الحزينة ،وهناك أيضا أبدوا مشاعر املحبة ثانية ألرملته" ،ماري" ،وألوالدها
الثالثة.
يحب أغلب عامة الناس جماعة ال ـ " ِآمش" ،لكن في هذه الحادثة بالذات،
رأى الكثيرون أن ّرد فعلهم لعملية القتل أمر ال يصدق .كما أشار إلى ذلك
ّ
أحد مذيعي األخبار القدامى في نشرته التلفزيونية" :كل األديان تعلم عن
الغفران ،لكن ال أحد يعمل بها فعال مثلما تسعى جماعة ال ـ " ِآمش" على فعله.
فما الفرق يا ترى؟"
هينا لجماعة ال ـ " ِآمش" ليغفروا .فأنا شخصيا ال أعتقد أن األمر كان ّ
أعرف الكثير منهم ،ولدي أصدقاء ممن يعرفون عددا من األسر التي أصيب
أوالدها .فهم ليسوا أكثر قداسة من غيرهم :وبالحقيقة ،لم يكن الغفران
بالنسبة لهم ،كما هو األمر بالنسبة للكثيرين ،مسألة قرار يتخذه املرء ملجرد
مرة واحدة في العمر .فقد أقتض ى األمر صراعا وتجديد االلتزام بالغفران،
وعلى صعيد يومي أحيانا.
َ
فقد قضت إحدى الضحايا عدة أشهر في غيبوبة؛ في حين ت ِلف دماغ
وسيحتجن إلى رعاية طبية خاصة باستمرار .وبعض األسر خائفة ّ أخريات،
تدرس أوالدها في البيت وال تبعثهم إلى املدرسة .وكل َم ْن
جدا بحيث أنها ما تزال ّ
مسه ذلك الصباح الرهيب سيظل يتعامل طيلة حياته مع الرواسب النفسية
له.
ّ
أما إذا أطلقنا العنان للغضب والعداء ليسيراننا جهارا ،األمر الذي
ّ
مدمرا – إنه أمسكت عنه جماعة ال ـ " ِآمش" لقرون من الزمان ،فسيكون األمر ِ
هدر للطاقات التي ستستحوذ على نفوسهم وتتخذهم كرهائن وتقتلهم في
النهاية ،تماما مثلما أخذت بناتهم كرهائن وق ِتلن من ِق َب ِل غضب أحد
األشخاص .وبالنسبة للمخلصين من أتباع يسوع املسيح فإن الخيار الوحيد
718لـمـاذا نـغفـر؟
ْ َ
أمامهم هو ذلك الذي قدمه لنا على خشبة الصليب ،حين قالَ " :يا أ َب َتاه اغ ِف ْر
َ َ َ َ َ َ َ
له ْم ألنه ْم ال َي ْعلمون َماذا َي ْف َعلون".
إن الموقف الذي يريده م ّنا يسوع المسيح ليس موقفا محبوبا من قبل
األكثرية وال له شعبية واسعة في يومنا الحاضر ،حتى في األوساط الدينية .وفي
يتم ترويج موضوع املغفرة علنا ،نرى أن رد فعل الناس حاالت نادرة حيث ّ
غالبا ما يرمي إلى زرع الشكوك في املوضوع ،أو يسخر منه سخرية محضة.
وهذا ما حصل في عام 3113عندما فاجأت الكنيسة األرثوذكسية الصربية
املراقبين عبر أوروبا بطلبها لنظام "ميلوسفيج ."Milosevicوجاء في االفتتاحية
لبيان رسمي أصدرته ما يلي" :نحن نعرض بإخالص املصالحة واملغفرة املتبادلة
ألشقائنا املواطنين األلبان".
ّ
لكن االنتقادات قللت من شأن االعتذار ووصفته بأنه حركة سياسية،
لكن كان هناك آخرون ممن احتضنوا هذه الفرصة من أجل فتح الحوار .فقد
أشاروا إلى أنه مهما كان تأثيرها ،إال أنها املحاولة األولى من نوعها التي تميزت
بتشخيص األحقاد بكل أمانة ،تلك األحقاد التي أدت إلى وحشية تلو األخرى في
أرجاء املنطقة وعلى مدى أغلب سني العقد املاض ي.
مما الشك فيه ،أن االعتذار ال يزيل حقيقة الظلم الذي تم اقترافه وال
األلم الذي ما يزال تشعر به أجيال متعاقبة من السكان األستراليين
تأثير الغفران ينتشر مثل الموجات المائية 719
شك من أن اعتراف رسمي كهذا... أي ّاألصليين .ومع ذلك ،ليس هناك ّ
تحول باتجاهيمكن أن يكون مرهما للجروح ،وهو خطوة كبيرة ونقطة ّ
رحلة طويلة من إعادة إرساء أركان العدالة وكذلك الشفاء للجميع...
كنت أسمعكم على مدى السنين تتكلمون عن إحساسكم
الشخص ي بالذنب والخزي على ما جرى في تاريخ بلدكم .وأنا متأكد اليوم
من أن الكثير منكم أذرفوا دموع الفرح لقدوم هذا اليوم وبأسلوب
مشرف ملواجهة بصراحة الفظائع التي حدثت في املاض ي ولبدء رحلة ّ
جديدة.
لم يكن ّرد األب القسيس "البسلي" مجرد ّرد أحد املراقبين .فقد تم اضطهاده
ضد نظام التمييز العنصري الذي كان على يد حكومة جنوب أفريقيا لنضاله ّ
في البلد ،وقد ح ِر َم هذا الناشط املعروف دوليا بدفاعه "لتجديد العدالة" من
َ
دخول البلد ،والحقا ف َق َد كلتا يديه وإحدى عينيه بانفجار طرد مفخخ .ومنذ
ذلك الوقت كان يعمل مع ضحايا التعذيب وأسس جمعية مدينة "كيب تاون"
لشفاء الذكريات ،حيث قد قدم املشورة واملساعدة إلى مئات الناجين من
ّ
العنف .وقد تعلم أن االعتذار – مهما كان شكله – هو بالغ األهمية ألنه في
كثير من األحيان يمثل الخطوة األولى الحاسمة التي بدونه ال يمكن ّ
ألي حوار
أن يخطو أية خطوة ،حتى لو لم نتطرق إلى موضوع مسامحة بعضنا لبعض.
إن قيمة عمل األب القسيس "البسلي" في مدينة "كيب تاون" ال يقدر
بثمن وهو يتعدى حدود املدينة ،ألنه يرينا مدى وعورة السير في طريق
املصالحة وشكل دربه الحقيقي ،وليس فقط فيما يخص األذى الشخص ي
الذي تلقاه ،بل أيضا بين الناس األصحاء جسديا ممن لهم تاريخ طويل
ولقرون من الحروب والحقد املتراكم.
وباختصار ،فإن عمال كهذا يتطلب االستماع إلى الناس الذين عانوا من
العنف ،سواء كانوا من مرتكبي الجرائم أو من الضحايا ،باإلضافة إلى
مساعدتهم للتعامل مع مشاعرهم مثل الغضب والكراهية والشعور بالذنب.
711لـمـاذا نـغفـر؟
في عالمنا ال ُمنساق باإلثارة السريعة اإليقاع وأيضا بدرجة كبيرة من
االرتياب ،فإن خبرا عن العمل الشاق والطويل األمد لبناء قرية دمرتها املذابح
نادرا ما نراه في النشرة اإلخبارية املسائية .وأرى شيئا مماثال يحدث في عملي
عندما أتكلم عن املغفرة في املدارس العامة (ضمن برنامج :كسر الدائرة
،)Breaking the Cycleفال ينجذب الصحفيون أبدا إلى انعقاد مجلس مدرس ي
تتشوه سمعة أية مدرسة في الحال وعلى طول ّ عن موضوع الالعنف ،في حين
إذا تعرضت إلى إطالق نار ،لكن ،ملاذا يجب أن يقاس النجاح بالتغطية
اإلعالمية أو بمقدار شعبيته؟
قول من
وليم شكسبير William Shakespeare
ممثل ومؤلف مسرحي وكان كبير الشعراء اإلنكليز
في السنة الماض ّية تقابلت م ّرتين مع رجل ينتظر الحكم بإعدامه في والية
َ َ
ك َن ِتكت ،وهو "مايكل روس "Michael Rossفي السابعة والثالثين من عمره،
وهو ّ
خريج من جامعة كورنيل الشهيرة.
710
خاتمة -هوذا الكل قد صار جديدا 711
مايكل روس
سفاح ومغتصب للعديد من الضحايا .وال يمكن ألحد أن ينكر فظاعة وهو ّ
جرائمه ،وال يمكن ألحد أن يتجاسر ليتكلم بالنيابة عن أسر ضحاياه ،ألنه إن
ّ
فعل ذلك ،سيستصغر بل وسيتستر على جسامة املعاناة واأللم الذي ما زالوا
يحتملونه .لكننا من ناحية أخرى ،يتحتم علينا أيضا أن ال نتغاض ى عن رؤية
اشتياق "مايكل" نفسه إلى املغفرة والشفاء .فاسمعوه يقول:
أشعر بإحساس عميق بالذنب .نعم ،فأنا أشعر بالذنب يغمرني ،لدرجة
ّ ّ
عذبة ،والندمأنه يحيط نفس ي بالظالم ،وبسحب كراهية النفس امل ِ
أي ش يء آخر .املصالحة مع واألس ى ...فأنا أتوق إلى املصالحة أكثر من ّ
ّ
ضحاياي ،ومع عائالتهم وأصدقائهم ،وأخيرا أتوق إلى املصالحة مع أرواح
نفس ي ومع هللا.
711لـمـاذا نـغفـر؟
هل يحق لنا أن ندير ظهورنا لمثل هذا الرجل؟ أليس من األفضل أن نواجهه
ّ
البشرية؟ ليشفى هو أيضا بك ّل الرعب الذي ّ
تسبب فيه باعتباره أخ لنا في
واملوجع ومن ثم الشفاء؟
ِ مثلما كلنا يحتاج إلى الكالم الصريح
في بداية هذا الكتاب كتبت عن رجل قتل فتاة تبلغ السابعة من عمرها.
وسألت" :هل يمكن الغفران لرجل مثل هذا؟" لقد الحظت تغييرا عجيبا لدى
هذا الرجل خالل األشهر التي تلت أول لقاء لي معه .ففي الوقت الذي كانت
َ
أحاسيسه ومشاعره بالبداية خ ِدرة وكان يرى جريمته على أنها ،بالرغم من
ّ
يتحمل مسؤولية أفعاله بشاعتها ،نتيجة حتمية ألمراض املجتمع ،إال أنه بدأ
ّ
بعدئذ .وأخذ يتعذب من حاجته املاسة إلى التوبة وإلى املغفرة – وبكى أيضا
ألجل اآلخرين أكثر من بكائه على نفسه .وفي مقابالتي مع هذا الرجل ،رأيته
يجابه الشر القابع في جريمته وأخذ تدريجيا ّ
يقر بمسؤوليته وأيضا يتندم.
سـيـرة الـمـؤلـف
ْ
وصلت المؤلف "يوهان كريستوف آرنولد "Johann Christoph Arnold
مبيعات كتبه في مواضيع تربية األوالد والزواج واملوت وصنع السالم والغفران
إلى أكثر من 111،411نسخة فضال عن النسخ املنشورة باللغات املختلفة.
فهو كاتب ذو تجارب غنية بصورة غير مألوفة وذو بصيرة شخصية .وهو
قسيس أيضا ،حيث قد قدم املشورة والنصح مع زوجته "فيرينا "Verena
لآلالف من األشخاص خالل الثالثين السنة املاضية ،من متزوجين وأطفال
ومراهقين؛ ومدمنين ونزالء السجون وضباط القوات املسلحة؛ ومعلمين
وطالب؛ واملريضين بأمراض مزمنة.
وغالبا ما يجري دعوة "آرنولد" كضيف في الندوات التلفزيونية وله
شعبيته كمتحدث في املدارس واملؤتمرات الدولية فيما يخص دور الغفران في
معالجة الصراعات بالالعنف ،وأهمية دور الغفران كخطوة في طريق
املصالحة .كما يدير برنامجه الخاص املعروف باسم "كسر الدائرة Breaking
"the Cycleفي مجالس املدارس الذي يتخصص في معالجة انتشار العنف في
املجتمع وترويج املغفرة بين صفوف الطالب واملواطنين .وباعتباره ناقدا
اجتماعيا ،فقد اشترك في مبادرات إلحالل السالم والعدل في مناطق مختلفة
من العالم .وقد أخذته رحالته في املدة األخيرة إلى أوروبا والشرق األوسط
وأمريكا الوسطى وجنوب شرق آسيا وأفريقيا – وإلى مدارسها ومستشفياتها
وسجونها ومعسكرات الجئيها.
ولدى "آرنولد" وزوجته ولدين وست بنات وخمسين حفيدا ،ويسكنون في
شمال والية نيويورك األمريكية.
711
ن ـ ـب ـ ــذة ع ـ ــن
هـويـتـنــا
إنّ حركة برودرهوف ( Bruderhofحيث تعني الكلمة باألملانية مكان اإلخوة)
هي حركة دولية للحياة املسيحية املشتركة املساملة التي يتألف قوامها من كل
من األسر والعزاب على حد سواء الذين يسعون لوضع وصايا يسوع املسيح في
حيز التطبيق من محبة هللا ومحبة القريب .ومثلما قد وص ْ
فت حياة املسيحيين ِ
األوائل في سفر أعمال الرسل في الفصل الثاني والرابع ،فقد دعينا نحن أيضا
إلى تلك الحياة التي فيها الكل قلب واحد وروح واحدة ،فال يملك أحد أي ش يء،
بل كل ش يء مشترك .كما نستقي اإلرشاد واإللهام من حياة جماعة
األنابابدست Anabaptistالتي انبثقت منذ زمن اإلصالح حيث التهبت صدورهم
غيرة ومحبة ليتبعوا املسيح في مجتمعات مسيحية ّ
كلية املشاركة على غرار
املسيحيين األوائل.
711
نبذة عن مـجـتمعـات بـرودرهـوف المـسـيحيـة 717
إيـمـانـنــا
نؤمن بجميع تعاليم السيد المسيح وبالثالوث األقدس وبقانون اإليمان
الرسولي .ونؤمن بنعمة الخالص التي قدمها لنا مجانا الرب يسوع املسيح بموته
على الصليب مسترخص دمه الثمين املسفوك كفارة لخطايانا ولخطايا العالم
َ َ َ َ َ َ
ن ِج َ َِهي ،ف َحاشا ِلي أ ُ
ن أفت ِخ َرُ كله .ونقول مع القديس بولس الرسولَ " :وأ َّما ِم ُ
َ َ َ إ َُّال ب َ
يب َرِّبنا َي ُسوعُ امل ِس ِيح( "...،غالطية )04 :6
ص ِل ِ ُ ِ ِ
وبأن غيرنا من وال نؤمن بأن كنيستنا هي الكنيسة الحقيقية الوحيدة ّ
ضاالت بل نؤمن ّ ّ
بأن كل من يتبع يسوع ينال الخالص مهما كان الكنائس
ّ
انتمائه الطائفي .وال نستعلي على بقية األديان األخرى أو نؤمن بأن مصير
أفرادها العذاب األبدي في جهنم ملجرد أنهم ينتمون إليها أو قد وِلدوا في
َ َ ّ
بقاعها ،ألن املسيح جاء ليخلص ال ليدين ،فها هو يقول" :ألنه ل ْم ي ْر ِس ِل الله
ْ َ ين ْال َع َال َمَ ،ب ْل ِل َي ْخل َ
ْاب َنه إ َلى ْال َع َالم ل َيد َ
ص ِب ِه ال َعالم"( .يوحنا )00 :2 ِ ِ ِ ِ
وهذا يشمل حتى عدم إدانة الخطأة سواء كانوا مسيحيين أو غير
ّ مسيحيين ،فاهلل تعالى هو ّ
الديان .كما ال نؤمن بأننا سنحظى بملكوت هللا إن
كنا مهملين لوصايا يسوع املسيح عن َع ْمد وتنقصنا نار الحماسة لقضية ّ
الرب
وملوثين باآلثام وال نتوب بعدما ّبين لنا الرب الطريق الصحيح .فقد قال السيد
اتَ ،ب ِل َ َ َ ْ َ ْ َ
س ك ُّل َمن يقول ِلي :يا َر ُّبَ ،يا َر ُّب! َيدخل َملكوت الس َماو ِ املسيحَ " :ل ْي َ
َ ََ َ ْ
ات"( .متى )30 :0 ال ِذي َيف َعل ِإ َرادة أ ِبي ال ِذي ِفي الس َماو ِ
لـمـحـة تـاريـخـيـة
بدأت حركة برودرهوف المسيحية في
عام 0931م في أملانيا عندما أخذت
مجاميع من املسيحيين تبحث عن أجوبة
حل من دمار في املجتمع بعد ملا قد ّ
الحرب العاملية األولى ،فأسسوا
مجتمعات مسيحية متشاركة تسترشد
الهدى في حياتها اليومية من وصايا
وتعاليم يسوع املسيح.
وفي سنواتها املبكرة زاد عدد أفراد الجماعة ليصل بضعة مئات واعتمدوا
في كسب رزقهم على الزراعة وبيع كتبهم .وكان حالهم فقيرا جدا ألن مجتمعهم
املسيحي فتح أبوابه الستقبال اليتامى واألمهات الوحيدات وغيرهم من
ّ
وأشتد الفقر عندما جاء النظام النازي إلى الحكم وحر َم بيع كتبهم املحتاجين.
الحرف التي كانت للجماعة.
وغيرها من ِ
وملا كانت الحرب تلوح في األفق ،أثار املزيج بين األعضاء االنكليزيين
واألملانيين شكوكا من قبل الناس في املناطق الريفية البريطانية ،والسيما عندما
بدأت سياسة الحكومة في اعتقال "األجانب األعداء" تؤثر على الجماعة
املسيحية األخوية .فعرضت الحكومة البريطانية على الجماعة خيارين :إما
اعتقال جميع األعضاء األملانيين أو مغادرة الجماعة كلها البالد .وفي عام
0940م وبعد تصميم أفرادها على أن يبقوا معا ،قرروا أن يلتجئوا سوية إلى
بلد آخر.
تحتاجهم أقسام العمل في املجتمع ،مثل قسم غسيل املالبس ،أو املطبخ ،أو
العيادة الطبية ،أو واحدة من املصالح التي نسترزق منها .وتجتمع الجماعة
يوميا للعبادة وتناول وجبات الطعام وغيرها من الفعاليات.
نسعى دائما إلى االتفاق باإلجماع التام مهما كلف األمر لتحقيق وحدة
حقيقية صافية في القلوب.
األســرة
إ َّننا نؤمن بأن األسرة هي األساس الصائب ألي مجتمع كان ،وننظر للزواج
على أنه مديد الحياة وأيضا التزام
مقدس.
ّ
أما تربية األوالد فيتحمل
األهل املسؤولية الرئيسية فيها،
بالرغم من أن املجتمع يوفر لهم
حضانة ومدارس من أعمار
مبكرة.
ّ
حثهم على اكتشاف مشيئة هللا لحياتهم .أما تقديم النذور املؤبدة في خدمة
ّ
شخصية يسوع املسيح ضمن املجتمع املسيحي فيجب أن تكون دعوة إلهية
للفرد وقرار ّ
حر نابع عن إطالع ووعي من قبل الشخص البالغ.
الـعـمــل
إنَّ جميع جوانب الحياة اليومية لدينا هي
حي إليماننا ،والعمل ليس بمثابة إعالن ّ
مستثنى من ذلك .ويساهم كل فرد في دعم
وإعالة املجتمع ورسالته.
ومنظمة م َ
رس ّلي ماري كنول
الي Mary knoll Lay
Missionersملساعدة ضحايا
الفقر واملرض والكوارث
الطبيعية.
، وكتب األطفال، والكتب الـم ِلهمة،كتبنا التي تشمل الكتابات الروحية الشهيرة
وصار عدد منها من أكثر مبيعات الكتب وفقا إلحصائيات،إلى عشرات اللغات
: ويمكنكم زيارة موقعنا على الشبكة.كل من املكتبات الدينية والعلمانية
www.plough.com/ar
االتـصـال بـنـا
:إذا أحببتم االتصال بنا فيمكنكم الكتابة إلى أحد العناوين البريدية التالية
info@plough.com أوinfo@bruderhof.com
711لـمـاذا نـغفـر؟
تـنـسـيـق زيـارة
إذا أحببتَ زيارتنا للتعرف على طبيعة حياتنا فأهال وسهال بك في جميع
مجتمعاتنا املسيحية ،املوجودة في عدد من الدول ،مهما كانت خلفيتك
العرقية أو الدينية أو الطبقية .وما عليك إال أن تتصل بذلك املجتمع املسيحي
الذي تود زيارته إما بالهاتف أو بالبريد العادي أو بالبريد اإللكتروني.
والزيارات التي نتلقاها من بلدان كثيرة مفيدة لكال الطرفين حيث نتبادل
فيها الخبرات عندما ينفتح بعضنا على بعض ،ونتعلم نحن شخصيا من الزوار
الش يء الكثير ،باإلضافة إلى العالقات ّ
الودية التي نقيمها معهم.
وإنك كزائر ستعيش حياتنا اليومية ،بدء من املساهمة في العمل وإلى
املشاركة في االجتماعات الروحية .فنحن لسنا بمركز ملمارسة الرياضات
للتهرب من الواقع .وسوف ال تتلقى أجورا مقابل ّ
روحيا ّ الروحية أو سبيال
عملك معنا ،لكنك من ناحية أخرى لن تحتاج إلى دفع تكاليف الطعام أو
السكن عندنا.
وإذا كنت تريد اصطحاب أسرتك وأوالدك معك ،فيسعدنا ترتيب الغرف
الالزمة وإدراج أوالدك ضمن مجاميع األوالد في مدارسنا الخاصة.
أما عن موضوع مدة الزيارة فيجري تحديدها بالتنسيق مع ذلك املجتمع
املسيحي الذي تحب زيارته.
www.bruderhof.com
مسـيـرتي في الـبحـث
قصة حقيقية عن رجل لم يعرف امللل وال الكلل في بحثه عن الحياة األخوية
الحقيقية بالرغم من كل االضطهاد والتهجير الذي القاه.
الـمسيحيـون األوائـل
أعده العالمة الالهوتي ايبرهارد آرنولد Eberhard Arnoldحول حياة كتاب ّ
املسيحيين األوائل التي ّ
تعري بدورها فتور وعوملة حياتنا املعاصرة وتضعنا أمام
الرهان.