Professional Documents
Culture Documents
الحكمة الزرادشتية
إن نس بة "الزرادش تية" إلى بالد ف ارس مج رد اف تراض ،أو ج واب م ؤقت عن إش كالية النش أة ،ب دليل أن
"أفستا" ،الكتاب المقدس للزرادشتيين لم يكتب باللغة الفارسية ،ولم يتشكل في المحيط الفارسي .فضال
عن ك ون زرادش ت ،مؤس س ه ذا الم ذهب ،ينتمي إلى مدين ة راك ا الميدي ة ،له ذا ج اءت "أفس تا" تتن اول
بعض األعراف والطقوس والتقاليد االجتماعية والنظم االقتصادية التي كانت سائدة آنذاك بين الميديين
منذ ألف سنة قبل الميالد .وأغلب شواهد وآراء الباحثين تؤكد على أن الكرد هم أحفاد هؤالء الميديين.
واألفس تا هي نفس ها اللغ ة الكردي ة .لكن بع د س قوط إمبراطوري ة مي ديا على ي د ك ورش مؤس س
اإلمبراطوري ة األخميني ة الفارس ية س نة 550ق.م ح اول الفارس يون طمس لغ ة أفس تا األص لية ودمجه ا
ضمن الحضارة الفارسية .لهذه األسباب اعتبرت الزرادشتية مكونا ثقافيا ضمن هذه الحضارة.
1
"الزرادش تية" ال دين الرس مي للدول ة .فتق وت ه ذه الديان ة في ف ترة حكم كس رى الث اني ال ذي أح يى معاب د
النيران ونشر تفسيرا جديدا لكتابها المقدس "أفستا".
تحوم حول شخصية زرادشت (مؤسس الزرادشتية) العديد من األساطير بصدد مولده ونشأته .1فاسم
زرادش ت( )Zoroastresه و الترجم ة اإلغريقي ة لـ "زاراثوس ترا ( .")Zarathustraهن اك اختالف كب ير
660ق.م بين المؤرخين بصدد تاريخ والدته ،لكن معظم الروايات تقر بأنه لم يولد قبل سنة
لما بل غ الثالثين من عم ره اتخ ذ حي اة العزل ة،
وت وفي بين 520ق.م و 550ق.م .يق ال إن زرادش ت َّ
فلج أ إلى هض بة يتأم ل في أس رار الك ون والوج ود ،وفي هات ه العزل ة ن زل علي ه وحي اإلل ه األعظم
"أهورامزدا" ( ) Ahuramazdaليبلغ رسالته إلى الناس .عندما سأل زرادشت اإلله أهورامازدا قائال:
<<في عالم التجسيد ،ما هو الشيء األول في الكمال ،وأيها الثاني وأيها الثالث؟>> فرد عليه أهورا
مازدا<< :إن أول كمال هو األفكار السديدة ،وثانيهما الكلمات الطيبة وثالثها األعمال الصالحة .>>.لقيت
رسالة زرادشت المقدسة مقاومة شديدة من لدن الكهنة ورجال الدين والعديد من الناس .حيث أنشأ زرادشت
مذهبا دينيا يقوم على أساس أخالقي غاية في الدقة واإلحكام ،لدرجة أن تأثيره بلغ العديد من الفلسفات
والمذاهب الدينية واألخالقية سواء لدى اليونان أو فالسفة اليهود أو النصارى أو المسلمين .استنادا إلى
مب دأي الخ ير والش ر .فوض ع نظام ا ديني ا محكم ا س واء على مس توى العقي دة أو العب ادات أو
المعامالت...إلى أن توفي عن عمر ناهز 78سنة ،ثم صعد إلى السماء وهو محاط بنور ساطع.
يس تند الاله وت الزرادش تي إلى الكت اب المق دس "أفس تا" ( )Avestaأو "األبس تاق" بالفارس ية ،ال ذي ه و
وحي من اإلل ه "أهورام ازدا" ،وهي عب ارة عن :أربع ة من َّ
الن ْس ك .حيث يحت وي النس ك األول (ياس نا)
مجموع ة من ه ايتي (بل غ ع ددها . )72أم ا النس ك الث اني (فيس برد) ويض م " 23ك ردة" ( .)Kardeأم ا
النسك الثالث (فينديداد) فيشتمل على 22فاركارد ،وأخيرا النسك الرابع يحتوي على ( 22ياشت)...
َّ
الن ْس ك ه و الج زء ،أم ا ياس نا ( )Yasnaفتع ني باللغ ة األفس تية التبجي ل ،العب ادة ،التق ديس...وتتض من
2
مجموعة من الترانيم والصلوات الدينية المؤلفة من 72فصال يسمى كل منها هايتي (.)Haiti
ياس نا هي أس اس العب ادات الزرادش تية ال تي يق وم به ا الكهن ة الزرادش تيون أم ام الن ار المقدس ة وأثن اء
تحض ير "االهوم ا" (الش راب اإللهي المق دس)ُ ،يع د (الك ات) الج وهرة الثمين ة في الياس نا ،وهي أناش يد
زرادشت نفسه ،وتتألف من 17نشيدا ،فضال عن قصص وصلوات ...ويقول المؤرخون أن (األفستا)
كتبت على 12000قطعة من جلود البقر .تعرضت أجزاء منها لإلتالف على يد اإلسكندر األكبر ،في
1
1 تحكي األساطير عن الوالدة الغريبة لـ "زاردشت" ،فقبيل ظهوره بلحظات انبثق نور إلهي شديد اللمعان من بيت "بوراشاسب"،ـ ومن السماء سمع
.صوت يبشر بميالده ،وفي غرفة والدته أضاء نور إلهي ،فخرج الطفل زرادشت وهو يضحك ،فأثار ذلك استغراب الحاضرين
2
?أفستا – الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية ،إعداد خليل عبد الرحمن ،روافد الثقافة والفنون2007 ،
2
حين أن أج زاء أخ رى فق دت أثن اء الفتوح ات اإلس المية في الق رن الس ابع الميالدي .والب اقي الزال
محفوظا إلى يومنا هذا بعد مضي أكثر من 3000سنةُ ،كتب باللغة األفستانية ،وهي لغة مشتركة بين
الفارس ية القديم ة والسنس كريتية الفيديةُ .جمع هذا الكتاب بعد وفاة زرادش ت بزمن طويل ،وهو يعتبر
بمثاب ة موس وعة في العقي دة والثقاف ة والحض ارة ،حيث تُمث ل أق دم وثيق ة تاريخي ة مكتوب ة تعكس األفك ار
الدينية واألخالقية والفلسفية للزرادشتيين.
ترتكز العقيدة الزرادشتية على العديد من المنطلقات ،منها :مبدأ "توحيد األلوهية"؛ فاإلله "أهورامزدا"،
( 3)Ahura Mazdaهو الخالق القادر على كل شيء ،ليس كمثله شيء .واحد ال شريك له ،ال منافس
له في السيادة والكمال المطلق ،هو األكبر واألول واآلخر ،والقديم واألزلي واألبدي ،والباقي بعد فناء
العالم.
أك دت الزرادش تية على أولوي ة ال روح وأهميته ا ووجوده ا ،واالعتق اد ب أن الجس د ه و الف اني ،في حين
تبقى ال روح في منطق ة وس طى بين الن ار والجنة .ومن تم اعتق اد الزرادش تيين الراس خ بالجن ة والن ار
3
3 أهورامزدا :أهورا (الرب) مزدا (المحيط بكل علم) .أهورا معناه السيد اإلله ،ومزدا العارف الحكيم .لهذا يطلق "أهورا" على مرتبة األلوهية بينما
.تطلق "مزدا على مرتبة الربوبية
3
والص راط وم يزان األعم ال ،أم ا بالنس بة للجحيم في الديان ة الزرادش تية فيختل ف وص فها عن األدي ان
األخ رى .ويعتق د معتنق و الديان ة الزرادش تية أن الجحيم عب ارة عن منطق ة ب اردة وفيه ا أن واع من
الحيوانات المتوحشة التي سوف تعاقب المذنبين بما اقترفت أيديهم من إثم في الدنيا.
وفي مجال العبادات ،سن زرادشت الصالة حيث حدد عددها في خمس صلوات ُي ؤقت أداؤها بحركة
الشمس .كما حث على الوضوء حيث غسل الوجه واليدين والرجلين مما علق بها من الغبار .وبالمقابل
وضع الميزان لحساب األعمال .فيوم القيامة هو يوم الحساب حيث سيمر الناس على الصراط المستقيم
(جسر جينفات) ،من أجل تحديد مسارهم النهائي (الجنة أو النار) .لكن ذلك ال يعني في النهاية الجحيم
األب دي ،ألن الغ رض من العق اب ه و اإلص الح ،وعن دما يص بح الجمي ع أتقي اء في النهاي ة ف إن الش يطان
وجميع أفعاله سيتم تدميرها في األخير .
ينعت خص وم الزرادش تية ه ذه األخ يرة بالديان ة المجوس ية لتمس كها بالن ار ،على اعتب ار أن الزرادش تية
أق امت هياك ل توق د فيه ا الن يران تكريم ا أله ورامزدا والن ار .ذل ك أن الن ار في الطق وس القديم ة ترم ز
للنور والقانون الكلي هلل؛ في النهار تكون قبلة المصلي الشمس وفي الليل القمر أو النجوم أو أي ضياء
كان .هكذا كانت النار في عبادات الزرادشتيين هي بمثابة النور الذي يعكس مظهرا من مظاهر ألوهية
أهورامزدا.
هكذا يتبين أن فلسفة األخالق عند زرادشت تتأسس على الصراع األبدي بين الخير والشر ،وفي النهاي ة
سينتصر الخير ،ألنه يتسلح دوما بقيم الفضيلة .فالخير هو الذي يحقق السعادة في العالم .حيث يقول
زرادشت في اإلبستاق<< :اعمل الخير كي تكون من زمرة األشخاص الذين يساهمون في رقي وكمال
ه ذا الع الم .>>.ويتجس د المب دأ األخالقي للخ ير في ثالث ة مب ادئ ،وهي :الفك ر الص ائب والق ول الطيب
والعمل الصالح .فالفكر الصائب هو الذي يجعل الفرد دقيقا في موقفه وذكيا في اختياراته وحكيما في
آرائ ه؛ أم ا الق ول الطيب فه و ال ذي ُيص ّير الم رء رحيم ا ولطيف ا ومحبوب ا يتجنب الغلط ة ح تى ال يك ره
الناس ويبتعدوا عنه؛ في حين أن العمل الصالح هو الذي يجعل الخير يسود الناس والعالم.
له ذا ق امت الزراديش تية على دعام ة أساس ية ،وهي الخ ير ال ذي ه و منب ع ك ل األعم ال الص الحة (اإلل ه
هارومازدا هو إله الخير) ،ولتحقيق ذلك تقوم فلسفة األخالق عنده على مبادئ منها:
مبدأ "االستقامة"(آشا ،)Asha -وهي فضيلة أخالقية سامية ،تفيد النظام واالنسجام ،وتتجسد في الطهارة
واألمانة والصدق والصالح ...فاالستقامة تحقق سعادة اإلنسان .وبها يكون فردا صالحا في المجتمع
قادرا على تكوين أسرة وتربية أفراد صالحين .ومن المبادئ األخالقية أيضا نجد مبدأ "العدالة" وكيف
4
نقل ه زرادش ت من مجال ه السياس ي إلى المج ال األخالقي ،وفي ذل ك ت أثير على الفلس فات الالحق ة ،حيث
رأى أن العدالة معناها التخلص من الخطأ عن طريق المعرفة الحقة؛ أي معرفة الحق ومعرفة اهلل .لهذا
ك انت العدال ة عن ده بمثاب ة الطري ق الم ؤدي إلى اهلل ،فالعدال ة والخ ير إذن متم اثالن ،بهم ا يتحق ق األمن
والس لم في الك ون .ومن المب ادئ األخالقي ة ال تي حث عليه ا زرادش ت نج د أيض ا مبدأ "التع اون" ،بحيث
يق ول في ه ذا الص دد<< :حياتن ا كله ا إن هي إال رحل ة جريئ ة نق وم فيه ا بخدم ة بعض نا البعض.>>.
فالتعاون حيث االنسجام والتماسك ،يمثل الفضيلة الوحيدة التي يستطيع بها األفراد تشكيل قوة من أجل
التغلب على المش قة وص عوبات الحي اة .في حين يفي د مب دأ "العف ة" ،بوص فها قيم ة أخالقي ة ،الق درة على
كبح جماح الشهوة والغريزة ،فبها يتحقق االعتدال وضبط النفس والتوسط بين اإلفراط والتفريط ،ولعلها
الفكرة التي انتشرت الحقا في كتابات فالسفة اليونان وفي مقدمتهم أرسطو .ومن المبادئ األخالقية التي
دع ا إليه ا زرادش ت مب دأ "االعتم اد على النفس" ،حيث لم يت وان ه ذا الحكيم على ذم األف راد الكس الى
والمتهاونين والمتقاعسين والالمبالين ،ذلك أن الكسل في نظره هو الذي يجلب الذل والمهانة ،في حين
أن العم ل والنش اط يش كالن أعظم الخ يرات .وأخ يرا حث زرادش ت على مبدأ "اإلحسان" باعتب اره ص فة
حمي دة تعم ل على نش ر المحب ة والتع اون بين الن اس .فاإلحس ان عن ده يتجس د في مس اعدة الفق ير ،حيث
يقول<< :تَكتسب صداقتي بمساعدة إخوانك الفقراء>>.
هك ذا يظه ر بش كل جلي أن فلس فة األخالق الزرادش تية هي فلس فة تطبيقي ة مرتبط ة ب الواقع ،مهمته ا
إصالح المجتمع واإلنسان ،من خالل االلتزام بالواجب األخالقي ،عبر أخالق الفضيلة .وفي هذا السياق
اعت بر كس نوفون ( )Xenophonفي كتاب ه " "Gyropedieأن زرادش ت ك ان س باقا لجع ل أخالق الفض يلة
أساس تربية النشء على قيم الخير ،فبهذه األخالق الفاضلة تتحقق سعادة اإلنسان والكون.
له ذه األس باب أث ارت الزرادش تية اهتم ام وفض ول كُت اب ق دماء أمث ال ه يرودوت وط اليس وأنكس يماندر
وفيثاغورس وهيراقليطس وأفالطون وأرسطو وكسينافون ...فضال عن التأثير الذي مارسه زرادشت
على رج ال ال دين المس يحيين والمس لمين ،وك ذا الالهوت يين أمث ال الق ديس أوغس طين وفالس فة العص ر
الحديث أمثال نيتشه وغوتة.
5
6