Professional Documents
Culture Documents
أبو العالء المعري شاعر الفالسفة وفيلسوف الشعراء ،وأحد كبار الشعراء العرب وأعمقهم ثقافة وأرسخهم قدما
في علوم العربية والمنطق والفلسفة ،وأحد القالئل الذين لهم خبرة بالنفس االنسانية وتقلباتها .ويزيد إعجابنا بسعة
ثقافته إذا تقصينا شيئا من ثقافته الفلكية.
يبهر أبو العالء المعري من له دراية بالفلك ،ويحار في الدقة التي يصف بها الشاعر المجموعات النجمية
وطلوعها وشروقها الواحدة تلو األخرى وهو الضرير الذي حرم من متعة النظر إلى السماء !
ولقد أكثر المعري من ذكر النجوم والكواكب ،وال جرم أنه كان يعظم شأنها وهو القائل عن زحل ( :زحل أشرف
الكواكب دارا)
والمعري كغيره من المثقفين في العصر العباسي األول والثاني الذين اطلعوا وال ريب على مؤلفات أفالطون
وأرسطو وبطليموس ،واإلشارة هنا بقوله "أشرف الكواكب دارا " إلى كون زحل الكوكب األبع̀د مدارا حول
األرض ال حول الشمس ألن النظرية البطليوسية وفحواها أن ( األرض مركز الكون ) سادت حتى عصر
كوبرنيكوس ،ولهذا وقف اإلنسان القديم في تعرفه على الكواكب عند زحل ألن الكواكب األخرى ( أورانوس
ونبتون وبلوتو) ال ترى إال بالمناظير القوية .وقد كان المعري مؤمنا بفناء المادة وانحالل الكون من حيث هو
نجوم وكواكب فيقول مباشرة بع̀د البيت السابق :
اقتران الكواكب
وفي لزوميات المعري إشارات فلكية تخفى على كثير من المثقفين في عصره وفي غيره من العصور .كإشارته
إلى اقتران الكواكب،وهو من الناحية الفلكية اجتماع كوكبين أو أكثر في برج البروج في أقرب مساحة ممكنة،وإذ̀ا
علمنا أن بعض الكواكب ال تتم دورة واحدة حول الشمس إال خالل عشرات السنين اتضح لنا أن هذا األمر نادر
الحدوث .ومن االقترانات التي تناولها المعري ما تعلق بكوكبي المشتري وزحل وقد كان القدماء يتفاءلون خيرا
بهذا اإلقتران ،على العكس من تشاؤمهم من ظهور المذنبات .يقول المعري :
غير أن المعري يخونه التوفيق في بيت من هذه القصيدة حين يؤكد ثبات مواقع النجوم :
وفي قصيدة "علالني " وهي قصيدة نظمها الشاعر في عهد الشباب حاول فيها أن يحاكي المبصرين في دقة
الوصف ،متعاليا على عاهته ،وقد نجح في ذلك إلى حد اإلعجاز ،وأدعو القارئ إلى قراءة هذه األبيات ومراجعة
ذاكرته حول أسماء النجوم الواردة في هذه القصيدة ،وعن الفصل الذي تشرق فيه وتغرب إن كان من الملمين
بالفلك ،يقول أبو العالء :
والمؤكد أن الشاعر نظم هذه القصيدة في أواخر الربيع ،ألن برج الثور حيث توجد مجموعة "الثريا " اليكون
باألفق الغربي إال في أواخر هذا الفصل حيث تنزله الشمس في شهر مايو فتنحجب عن األبصار .
فإذا كان الهالل إبن أيام قليلة في أواخر الربيع نزل في برج الثور فيرى بع̀د مغيب الشمس في هذا البرج ،وقبل
هذا البيت يقول المعري :
وقد أولع المعري بذكر نجم "سهيل " Canopusوهو نجم عمالق أحمر يبعد عن األرض بحوالي أربعمئة سنة
ضوئية وهو جد مهم في المالحة الفضائية ألنه يستخدم كنقطة مرجعية في توجيه السفن الفضائية في رحالتها ما
بين الكواكب ,ويقع هذا النجم في كوكبة ( الجؤجؤ )la carèneالتي تشكل جزءا من المجموعة النجمية العمالقة
"السفينة" فماذا يقول الشاعر عن هذا النجم ? :
ولن نخوض في الجمال األدبي األخاذ الكائن في هذا الوصف ،ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى أن هذا النجم ال يرى
من العروض الشمالية "كسورية" حيث عاش الشاعر بسبب وجوده تحت خط األفق في جنوب الكرة السماوية .
والتتأتى رؤيته إال من جنوب األرض (إفريقيا الجنوبية ،أستراليا ،أمريكا الجنوبية ) .والشاعر قد أراد أن يدلل
على سعة ثقافته الفلكية ولو لم يشاهد هذه النجوم !
ويختم المعري قصيدته باإلشارة إلى شروق كوكبة "النسر الواقع " وفيها النجم الالمع" "vegaوهي كوكبة
تشرق في أواخر الربيع قبل الفجر ثم تتقدم غرب السماء يوما بعد يوم ،وبالتالي تكون محتلة للسمت في فصل
الصيف .والعارف بالفلك يحار في دقة المعري في تقصي هذه المجموعات النجمية وهو الضرير .يقول عن هذه
المجموعة
شاعر الفرقدين
وفي قصيدة المعري المشهورة " أال في سبيل المجد " وهي التي نظمها في عهد الشباب وافتخر فيها بمركزه
األدبي وأخالقه العالية يذكر نجما هو " السها "وهو نجم خفي في كوكبة الدب األكبر في الذيل ،كانت العرب
تمتحن به قوة البصر عندهم وقالت في المثل ":أريها السها وتريني القمر "وهو مثل يضرب للشخص تريه األمر
الخفي فيضرب عنه صفحا ويتحدث عن الواضح الجلي ! يقول المعري مشيرا إلى هذا النجم :
و هو يشير من خالل ذكر هذا النجم إلى فساد القيم وانقالب األوضاع ،إلى درجة أن الحقير الصغير يطاول
الشريف الكبير !
و كما ذكر المعري الكواكبوأولع بذكر المريخ وزحل ( كيوان )،وذكر النجوم البعيدة وفي لزومياته يتردد ذكر
الفراقد أو الفرقدين كما في رثائه ألبي حمزة الفقيه،والفر قدان نجمان نيران في كوكبة الدب األصغر أشد إضاءة
من النجم القطبي الذي يشير إلى القطب الشمالي ،ومن أسمائهما " حارسا القطب " ألنهما يدالن على النجم
القطبي لمن ال يعرفه ،يقول شاعرنا مشيرا إليهما :
و لم يغفل المعري اإلشارة إلى السماكين وهما نجمان عمالقان أحدهما هو " السماك الرامح " في كوكبة " العواء
" أو الراعي واآلخر هو " السماك األعزل " في كوكبة " العذراء البروجية " والسماك الرامح ألمع من السماك
األعزل وقد تردد ذكرهما كثيرا في شعر العرب .أما شاعرنا فقد رأى منزلته األدبية سامية بين السماكين :
وهي قصيدة نظمها الشاعر في عهد الشباب وقد آلمه حسد البعض ومحاولتهم النيل من الشاعر ،يصر حكيم
المعرة على أن منزلته في الجوزاء،وفي هذه الكوكبة التي ذكرها الشاعر خاط كبير فالعرب قد تطلقها على
مجموعة الجبار " " orionبدليل أن أحد نجومها وهو من النجوم المصنفة كألمع النجوم تسميه العرب " إبط
الجوزاء " وبهذا اإلسم عرفه الفلكيون الغربيون " " Bételgeuse
على أن الجوزاء الحقيقية كوكبة بروجية بين الثور والسرطان تنزلها الشمس بين 22يونيو 21يوليووصارت
تقع في السمت في العروض الشمالية بدل كوكبة السرطان بسبب مبادرة اإلعتدالين وترنح محور دوران األرض،
وال نعلم هل كان المعري يقصد بالجوزاء برج الجوزاء هذا كما شرحناه ،أم جرى على إلف العرب في إطالقهم
هذا االسم على الجبار ? المهم أنه يقول :
أما الشمس نجمنا الذي يبد̀د سواد الفضاء ووحشة الكون فقد شغل هذا النجم عقل المعري الجبار وتساءل عن زمن
مولد الشمس وأدرك أنه قديم :
واستأثر الزمن بفكر الشاعر الفيلسوف كما استأثر بعقول الفالسفة اإلغريق وبعقل نيوتن وأينشتين ،وإن كانت
نظرية النسبية قد فصلت في نسبية الفضاء والزمن فالمعري يرى أن تيار الزمن ينساب في الكون ويملؤه وال
توجد نقطة في الكون بال زمن !
هذه لمحة وجيزة عن ثقافة المعري الفلكية ،فدارس شعره يقف على كثير من اإلحاالت في قصائده،وهي كثيرة
تستغرق مؤلفا مفصال ،وال يزعم كاتب هذا المقال أن الشاعر كان فلكيا ،وإن كان عنوان المقال يوحي بشيء من
ذلك فالشاعر كان عقال فذا استوعب ثقافة عصره واطلع على شيء من الفكر والثقافة اإلغريقية وربما الهندية
والفارسية ،ولهذا جاء شعره ممثال لسعة اطالعهوحيرته الفلسفية ،وطهارة نفسه ونقاوة ضميره من رذائل الكذب
والنفاق واألنانية وهو القائل:
حقا إن المعري مفخرة من مفاخر الثقافة العربية وشاعر عظيم من أساطين الشعر وفرسانه الكبار .
َلما َطلَ َع ْ
ت َمخا َف َة أن ُتكادا فلو َخ َب َر ْت ُه ُم َ
الجوزا ُء ُخبْري
الج َ
وزهرّ ا ين َو َ
عر َي ِ
زا ِء َوالشِ َ الجو لَيلَ ٌة حُلِّ َيت ِبم َ
ِنط َق ِة َ