Professional Documents
Culture Documents
نوعه :محاضرة
الفوج 9 + 8 :
نشأ النحو يف أحضان البصرة والكوفة كما ذكرنا ،وتطور على أيدي العلماء اخلالفني من كال
البلدين حىت وصل إىل درجة عالية من النضج واالستقرار ،وذهبت البصرة بالشهرة الكربى يف امليدان
،لكن الكوفة نافستها حبق وخباصة آخر عهد املدرستني حيث تصدر إلمامة البصرة حممد بن يزيد
املربد (ت 558هـ) ،وحيث رأس علماء الكوفة أبو العباس أمحد بن حيىي ثعلب (ت . )515
وشهدت بغداد نشاطا حيا يف حلقيت هذين العاملني اجلليلني ،واشتد بينهما الصراع ،وكثرت
املناظرات مما جعل الدارسني يقبلون عليهما كليهما ويأخذون عنهما معا ،مث يتخريون من هذا ومن
ذاك ما يراه كل واحد مناسبا لتفكريه واجتاهه .
ازدهر هذا النشاط إذن أواخر القرن الثالث ،وما كاد القرن الرابع يبدأ حىت أخذت مدرسة بغداد
تتميز مبنهجها اخلاص ،ومل يكن هذا املنهج جديدا من حيث األسس أو طرائق االستنتاج ،ولكنه
منهج ينبين على االنتقاء من املدرستني البصرية والكوفية.
الرواد األوائ ل ملدرسة بغداد يقبلون على الكوفة ويزيدون من األخذ عنها لكنهم يأخذون عن
البصرة ،وإن كان ميلهم إىل الكوفة أشد ،وأشهر هؤالء الرواد ابن كيسان (ت511هـ) وابن شقير،
(ت 558ه) وابن الخياط (ت 553هـ) .
ويف االجتاه الثاين كان عدد آخر من العلماء يقبلون على البصرة ويأخذون عن الكوفة لكن
ميلهم إىل البصرة أشد ،وأشهر هؤالء الزجاجي (ت ،)553وأبو علي الفارسي (ت 533هـ) ،وأبو
الفتح عثمان بن جني (ت 515هـ).
وبدأ العلماء يتتابعون يف بغداد ،واحدا يف إثر واحد ،مع اجتاه أقوي إىل مدرسة البصرة ،نذكر
لك منهم الزخمشري ،وابن الشجري ،وأبا الربكات األنباري ،وأبا البقاء العكربي ،وابن يعيش ،والرضي
اإلسرتاباذي .
اتبع حناة بغداد يف القرن الرابع اهلجري هنجا جديدا يف دراساهتم ومصنفاهتم النحوية يقوم على
االنتخاب من آراء املدرستني البصرية والكوفية مجيعا ،وكان من أهم ما هيأ هلذا االجتاه اجلديد أن
أوائل هؤالء النحاة تتلمذوا للمربد وثعلب ،وبذلك نشأ جيل من النحاة حيمل آراء مدرستيهما ويعىن
بالتعمق يف مصنفات أصحاهبما والنفوذ من خالل ذلك إىل كثري من اآلراء النحوية اجلديدة.
وكان من هذا اجليل من يغلب عليه امليل إىل اآلراء الكوفية ومن يغلب عليه امليل إىل اآلراء
البصرية ،فاضطرب كتَّاب الرتاجم والطبقات إزاءه ،فمنهم من حاول تصنيف أفراده يف املدرستني
الكوفية والبصرية على حنو ما صنع الزبيدي يف طبقاته ،ومنهم من أفردهم مبدرسة مستقلة كما صنع
ابن الندمي يف الفهرست ،وإن كان قد أدخل فيهم نفرا ليس هلم نشاط حنوي مذكور مثل ابن قتيبة،
وأيب حنيفة الدينوري.
وحاول بعض الباحثني املعاصرين أن ينفي وجود املدرسة البغدادية ،معتمدا على من ينظمون
أفرادها يف البصريني والكوفيني ،وأن علمني من أعالم جيلها الثاين ينسبان أنفسهما يف البصريني ،ومها
أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جين ،إذ يعربان يف تصانيفهما عنهم كثريا بكلمة أصحابنا ،وينتصران
يف أغلب األمر لآلراء البصرية وكثريا ما يطلق ابن جين على الكوفيني اسم البغداديني ،وكأهنم مدرسة
واحدة.
أما إطالق ابن جين اسم البغداديني على الكوفيني أحيانا ،فريجع إىل أن مجهور اجليل األول من
البغداديني كانت تغلب عليه النزعة الكوفية ،فسماهم الكوفيني تارة ،وتارة مساهم البغداديني ،وأمههم
ثالثة:ابن كيسان (ت 511هـ) ،وابن ش َق ْري (ت 558هـ) ،وابن اخلياط (ت 553هـ) ،وفيهم
يقول الزجاجي" :من علماء الكوفيني الذين أخذت عنهم :أبو احلسن بن كيسان ،وأبو بكر بن
شقري ،وأبو بكر بن اخلياط؛ ألن هؤالء قدوة أعالم يف علم الكوفيني ،وكان أول اعتمادهم عليه ،مث
درسوا علم البصريني بعد ذلك فجمعوا بني العلمني"
أما أشهر حناة الكوفة الوافدين إىل بغداد جند :الكسائي ،الفراء ،أما حناة البصرة فنجد سيبويه
الذي تغلب عليه الكسائي يف املسألة الزنبورية ،هلذا مل يطب له املقام فخرج من بغداد مكسورا،مث
األخفش البصري الذي ذهب انتقاما لسيبويه.
أما البغداديون فلم يكونوا مييزون بني لغة وأخرى ،أو يفضلون ما ورد عن قبيلة على ما ورد عن
قبيلة أخرى ،فاللغات عندهم كما عند الكوفيني ،كلها حيتج هبا ،فهذا ابن جين الذي ميثل املذهب
البغدادي يف أقواله خري متثيل ،قال( :اللغات على اختالفها كلها حجة ،وأن الزجاجي الذي سبق
ابن جين ،وهو بغدادي أيضا ،كان جييز لغات العرب مهما تنوعت وحيرتمها وال يقبل أن يصفها
بالشذوذ ،وإن خالفت قياس البصريني).
ومل خيالف البغداديون البصريون يف عدم التمييز بني لغات العرب فحسب ،وإمنا كانوا يأخذون عن
األعراب الذين توطنوا يف احلاضرة.
وقد ذهب الزخمشري من البغداديني املتأخرين أبعد من ذلك ،فكان يرى جواز االحتجاج بكالم ،
أئمة اللغة وكبار رواهتا جاعال ما يقولونه مبنزلة ما يروونه.
وخالصة القول :إن املذهب البغدادي يقف وسطا بني املذهبني ،فال مييز بني لغات العرب إال
بقدر فصاحتها ،وال يرفض أية لغة منها ،ولكن جيوز لنفسه أن يأخذ بلغة من غري رفض األخرى أو
تضعيفها .
_القياس :لقد بين البصريون قواعدهم على األعم األغلب من كالم العرب ،فكانوا ال يقيسون على
املثال الواحد ،أو األمثلة النادرة ،وكانوا يتشددون يف ذلك.
أما الكوفيون فكانوا يقيسون على املثال الواحد ،واألمثلة النادرة ،ولو عارضت قاعدة من
قواعدهم ،أو أصال من أصوهلم.
وقد وقف البغداديون موقفا وسطا بني املذهبني البصري والكويف يف القياس تبعا لألخفش
األوسط مؤسس مذهبهم ،فقد يقبلون املثال الواحد الشاذ عند البصريني ،وفق مبدأ معني وبعد
مناقشة له ،وجيوز عدم قبوله .
وكان الزجاجي البغدادي يقيس على النادر الشاذ من األمثلة ،فكان يرى أن (أمس) قد تأيت
مبنية على الفتح قياسا على قول الشاعر:
وجوز ابن جين متبعا األخفش أن يتصل ضمري املفعول به الفاعل املتقدم قياسا على قول أحد
()51
أصحاب مصعب بن الزبري فيه،
فقد اشتمل الفاعل (طالبوه)على ضمري يعود على املفعول به املتأخر (مصعبا) .
_القراءات الشاذة :ليس هناك شك أن القران الكرمي أفصح ما نطقت العرب به ،وهو الينبوع
األعظم ،والدليل األسلم يف تقرير قواعد النحو ،وحترير مسائله فكثر استشهاد النحاة به ،واعتمادهم
عليه ،وقد اتفق النحاة على صحة االحتجاج بقراءاته املختلفة.
قال السيوطي (:فكل ما ورد انه قرئ به جاز االحتجاج به يف العربية سواء كان تواترا أم أحاد ،أم
شاذ ،وقد أطبق الناس على االحتجاج بالقراءات الشاذة يف العربية إذا مل ختالف قياسا معروفا) ....
غري أن البصريني كانوا ال يقرون االحتجاج بالقراءات الشاذة بل كانوا يرفضوهنا ،أما البغداديون
فكانوا يرون أن القران الكرمي حمكم ال يتكلم العرب بشيء أجود منه ،فكان الزجاج البغدادي يقول:
(القران الكرمي حمكم ال حلن فيه وال شيء يتكلم العرب بأجود منه يف اإلعراب).
ويبني ابن حين سبب قبول الشاذ من القراءات فضال عن دعم الرواية له ،فريى أن من أقوى
األسباب روايته عن الرسول(صلى اهلل عليه وسلم) وألن اهلل أمر باألخذ به ،قال( :وعاذ اهلل وكيف
يكون هذا رفض الشاذ والرواية تنمية إىل رسول اهلل(صلى اهلل عليه وسلم) واهلل تعاىل يقول( :وما
أتاكم الرسول فخذوه) وهذا حكم عام يف املعاين واأللفاظ وأخذه هو األخذ به ،فكيف يسوغ مع
ذلك أن ترفضه وجتتنبه......؟) .
وابن جين ال يعرب يف هذا القول عن رأيه اخلاص وإمنا عن حناة املذهب البغدادي ،وخباصة أبو
علي النحوي الذي كان ينوي أن يؤلف كتابا يف القراءات الشاذة حيتج هلا ويدافع عنها ،ولكنه جيب
أال يفهم أن ابن جين وغريه من البغداديني ،كان يقبل الشاذ على علىته دون دراسة أو دعم بأدلة
مروية ،إمنا كان يرجع بالقراءة إىل اللغة ليلتمس دليال يقيسها عليه ،فإذا مل جتد دليال يستند إليه فال
حرج من ردها وتضعيفها وخري مثال على ذلك قراءة أيب يعفر يزيد (للمالئكة اسجدوا) بضم التاء
هذا ضعيف عندنا جدا.
والخالصة :كان البغداديون يقبلون من القراءات الشاذة ما دعمته الرواية ،وقام عليه الدليل
فيضعونه حينئذ يف مركز قوى ال يقبل عن مكانه الفصيح الذي يقاس عليه ،ولكنه إذا أعوزها الدليل
،ومل يعثر على سند هلا رفضت وردت ،عدا الزخمشري الذي كان مييل إىل رفض الشاذ ،وبالغ يف رفضه
فيقبحه و يستهجن القراءة به.
_ـ االحتجاج بالحديث :كان النحاة األوائل من بصريني وكوفيني حيتجون باحلديث النبوي يف مواطن
قليلة جدا ،وبعد حترج شديد ألسباب كثرية.
أما البغداديون فقد خرجوا يف القرن الرابع اهلجري على املبدأ الذي سار عليه البصريون
والكوفيون ،فاختذوا من احلديث مصدرا من مصادر السماع األساسية ،واحتجوا به يف مواطن كثرية.
وقد احتج به الزجاجي يف جزم فعل األمر للمخاطب ،قال( :وإذا كان األمر للمخاطب بالالم
كان جمزوما هبا ،كقولك( :لتخرج يا زيد ،ولرتكب يا عمرو ،وهي لغة جيدة) وقد روى عن الرسول
(صلى اهلل عليه وسلم)أنه قرأ (فبذلك فلتفرحوا) .
ومن البغداديني الذين أكثروا من االحتجاج باحلديث الشريف جار اهلل الزخمشري يف كتابه(األحاجي
النحوية) خاصة ،فقد احتج على إبدال السني شينا والشني سينا ،قال(فعيل)اجملموع على (فَـ َعلة)
مجع(س ِر َ
ي) وهو اسم مجع جعله سيبويه يف انه غري تكسري مثل(إخوة)يف مجع(أخ) َ قوهلم(سراة) ويف
(سروات)يعين لو كان تكسريا حنو( َكتبة) ملا قبل ذلك كما يقال
قال :ويدلك على هذا قوهلم َ
(كتبات وكفرات).
_ـ االحتجاج بشعر المولدين :واملولدون من الطبقة الرابعة ويقال هلم احملدثون ،كبشار وأيب نؤاس،
ومل يستشهد أحد من الكوفيني بشعر املولدين عدا الفراء الذي خرج على مذهب أصحابه وقد تأثر
البغداديون به فأكثروا من ذلك.
ومن البغداديني الذين استشهدوا بشعر املولدين أبو علي النحوي ،فقد استشهد ببيت أيب متام:
وكان الزخمشري يستشهد بشعر أيب متام ويقول( :وهو وإن كان حمدثا ال يستشهد بشعره يف اللغة،
فهو من علماء العربية ،فاجعل ما يقوله مبنزلة ما يرويه.).....
_ـ االنتخاب من المذهبين :إذا كان التعصب قد بلغ أشده يف بغداد بني املذهبني البصري والكويف
يف منتصف القرن الثالث اهلجري على يد املربد وثعلب ،فان التعصب قد انصهر وتالشى ،فكان
عامال من عوامل ظهور املذهب البغدادي ومل يعد النحو البغدادي يفرق بني حنوي بصري ،أو حنوي
كويف ،فكان يأخذ عن هذا وعن ذاك ،ويروي البصريني والكوفيني ،ومن الذين اشتهروا بالرواية عن
املذهبني :الزجاج ،وأبو علي النحوي ،وابن جين ،وقد وجد البغداديون أمامهم ثروة حنوية هائلة
خلفها هلم البصريون والكوفيون ،ووجدوا آراء متعددة يف املسألة الواحدة ومن أمثلة ذلك ما يأيت:
_ مسألة حبذا :مذهب سيبويه أن(حب)فعل ماض ،و(ذا) فاعل ،واملخصوص مبتدأ يف مثل
(حبذا زيد)واجلملة من الفعل والفاعل خربه ،والرابط بينهما اسم إشارة ،وقيل:املخصوص مبتدأ
حمذوف وقيل املخصوص خرب حمذوف املبتدأ ،وقيل :عطف بيان ،وقيل :بدل ،وقيل :إن (حب)و
(ذا) مركبان ،وغلبت عليه الفعلية لتقدم الفعل فصار اجلمع فعال ماضيا ،وما بعده من املخصوص
فاعل ،وقيل :مركبان ،ولكن االمسية هي اليت غلبت ،واالثنان اسم مبتدأ ،وما بعده من املخصوص
.
خربه
قيل (مذ) و(منذ) كل منهما مبتدأ ،وما بعدمها خرب عنهما واجب التأخي ،وقيل مها خربان مقدمان
وما بعدمها مبتدأ ،وقيل :مها ظرفان وما بعدمها فاعل بـ (كان)تامة حمذوفة ،والتقدير :من الزمان
الذي هو يومان.
_ كثرة اللجوء إلى التحليل والتأويل والحجاج والجدل المصحوب باالستدالل والتعليل ،فابن
جين مثال أكثر من التعليل واملبالغة واإلسراف يف استعماله ،وكذلك ابن كيسان الذي اعتمد على
التعليل ودفعه ذلك إىل تأليف كتابه :املختار يف علل النحو.
_استعمال أسلوب تقسيم املوضوع إىل أجزائه وأحواله وأنواعه ،مث حد كل جزء منها مبا مييزه من
األجزاء واألنواع األخرى.
_تأثر بعض البغداديني بألفاظ املنطق وعلم الفلسفة ومصطلحاهتم فاستخدموها يف كتبهم اللغوية
والنحوية كالعرض واجلوهر والعلة ،وعلة العلة والدليل واحلجة....