Professional Documents
Culture Documents
يعّد المكان عنصرًا محورّيًا من عناصر البناء الفنّي والدرامّي في أّي عمٍل أدبٍّي ،وال يمكن
االبتعاد عن تأثير المكان في األعمال األدبّية ،لكوِنه يختبُر الظاهرَة الجمالّيَة لدى المؤلف،
وباعتباره أهّم ما ينُظم العناصر اإلبداعّية ويربطها سوّيًة ،مكّو نًا البيئة التي تنمو فيها حبكة
العمل األدبّي ،وُيلقى بصناعة المكان على سردّية المؤلف الذي يدفع بكّل ما لديه من موهبٍة
لمحاولة نقل المكان الذي تشغله الشخصّية األدبّية الُم تخّيلة من حيث االسم والتاريخ واألبعاد
والعادات االجتماعّية واألحوال السياسّية ،إذ ُتفّر د للمكان مساحٌة خاصٌة في أّي عمٍل روائٍّي .
ولطالما ارتبط األدباء بمدنهم وارتبطت هي بهم أيضًا؛ فارتبطت موسكو بـ “تولوستوي”،
والقاهرة بنجيب محفوظ ،وباريس بـ “بلزاك” و”موديانو”.
شغلت مدينة القدس حّيزًا كبيرًا في مخيلة األدباء في البناء الفنّي ،سواًء في األدب المقاوم ،أو
في األدب العربي بشكٍل عاٍّم ،فضًال عن األدب الصهيوني .ونقل هذا االهتمام الصراع
العسكرّي والسياسّي ،والتحّيزات الدينية واالجتماعّية ،حول مدينة القدس إلى ساحات األدب.
فالمكان ،وتحديدًا القدس ،متشّعٌب ومتداخٌل في العالم األدبي ،ويحتاُج للكثير من التدقيق الَقِلق
على مصير المكان حّتى على الورق؛ فالتاريخ يسّجل رؤيته الخاصة عن هذا الجانب الحيوّي
في العمل اإلبداعي.
يستوجب وصُف المكــان تحديــَد زمٍن ُيعطي مؤشــرًا إلى أّي اتجــاٍه ســيتحرك الوصــف ،فــالزمن
يهيئ القارئ نفسّيًا ليتخيل المكان ويتقّبلــه حّس يًا ،ومن هــذا المنطلــق فمكــان الروايــة – الواقعّي ة
تحديًدا -بــالُغ األهمية والخطــورة في ذهنّي ة القــارئ .تطـّو ر الوصــف المكــاني على يـّد كــٍّل من
“بلزاك” و”فلوبير”؛ إذ صارت المنازل ،والشوارع ،والرسومات على الجدران ،واألثاث تحّد د
هوّية
األشــخاص في الروايــة ومــزاجيتهم وأصــولهم ،وُيمكن للوصــف أن ُيضــيف قيمــًة جمالّي ًة أو
تحقيرّي ًة ،كيفمــا يريــد األديب .وحــول العالقــة بين الروايــة والتــاريخ ،يــرى نجيب محفــوظ أّن
الرواية عبارٌة عن “استعراٍض للحياة اليومّية بكّل مشاكلها وقضــاياها وأشخاصــها…وجــزٌء من
تاريٍخ لم يكتبه المؤرخون ،ثّم إّن التاريخ عبارٌة عن أحداث وتفســير ورؤيــة وأشــخاص ،وكــذلك
الرواية”.
القدس في األدب العربّي
ســنّتخذ في هــذا المقــال روايــتْين عربّي تْين كنمــوذٍج للحــديث عن ظهــور القــدس كمكــاٍن في األدب والروايــة العربّي ة،
واخترُت روايَة (مصابيح أورشليم) ،للروائّي العراقّي علي بدر ،لتناولها القدس كـ”مكاٍن ” في سياٍق تــاريخٍّي ،وروايــة
(سوناتا أشباح القدس) ،للروائي الجزائرّي واسيني األعرج ،والتي تتناول المدينة في سياٍق رومانسٍّي عــاطفٍّي .وبينمــا
تولي كلتا الروايتين أهميًة لمدينة القدس ،كظرٍف مكانٍّي للرواية ،تستفيضان في وصفها ،من زاويتين مختلفتين.
في هذه الرواية ،يقّد م الروائي علي بدر خريطًة للقدس على مّر العصور ،قام بتجميعهــا وتركيبهــا بنفســه ،وجعــل أحــد
أشهر المثقفين الفلسطينيين والعرب بوصَلَتنا لقراءة هذه الخريطة :إدوارد سعيد ،واصفًا أعماله الفكرّي ة بأّنهــا “أخطــر
الحروب على إسرائيل” .يبدأ بدر برسم القدس في روايته بوحٍي من صوٍر التقطها “جوزيف دو برانغي” للمدينة]1[،
والتي تعـّد من أقـدم صـور المدينـة .كمـا اعتمـد على صـور “جيمس غراهـام” ،أّول مصـّو ٍر يعيش في القـدس ،خالل
خمســينّيات القــرن الماضــي ،وأحــد رجــال البعثــات التبشــيرّية للقــدس ،كمــا يســتنُد إلى العديــد من الوثــائق األمريكّي ة
والروسّية والقصص الخيالّية التي تناولت الحديث عن القدس؛ إذ ُيدرك علي بدر صعوبة الكتابة عن مدينـٍة ُه دمت 18
مرًة وأعيد بناؤها إثر كّل هدم ،ويمتّد عمرها إلى 45قرنًا ،ويصفها قـائًال“ :القــدس شــيٌء ال يمكن تصــنيفه ،وحـده هللا
يمكنه الكتابة عنها” .
يحاول علي بدر ،من بداية الرواية ،أن يرسم خّط التغّير في القدس وفي حياة ساكنيها مع مرور الزمن؛ فكان يعقد
المقارنات بين مالبس العرب منذ إعالن الدولة اليهودية؛ فحاول ،مثًال ،قراءة مالبس والي القدس الذي يظهر في
الصور ُم رتديًا األخضر الُم غّطى بقفطاٍن لونه أزرق ونعٍل أخضر اللون وُيمسك مسبحًة في يده ،فيما نقرأ نحُن من هذه
األلوان الحَّس الصوفَّي وفكرَة الخير على أرض القدس التي ُيجّسدها خليط اللونين األخضر واألزرق.
نشَهد في الرواية ثنائّيًة وصفّيًة (فلسطينّيًة – صهيونّيًة) من وجهــة نظــر بــدر؛ فالقــدس الــتي ضــاعت مــا بين الســلوان
والّسهو تمتّد بين منازل قديمٍة وشرفاٍت مغلقٍة وبين شوارع ُم بّلطٍة ُم غبّر ٍة وأزّقٍة رطبٍة ،وباعٍة على األرصفة ،وأطفــاٍل
نائمين على أكتاف أُم هاتهم ،وشّحاذين ،وُع ّم اٍل بسواعٍد ُم تعّرقٍة يدخلون القــدس المحتلــة ،وصــيادي يافــا الــذين يــبيعون
السمك في الِّش باك ،وُع ّم ال النظافة التائهين في الحـدائق ،وحـارة النصـارى بروائحهـا وعالمهـا ومناخهـا الحـاّر الُم فعم
بروائح الراهبات الُم مّيزة.
ويذكر البوابات القديمة ،كباب العامود وباب الّز اهرة وباب الخليل ،ويصف الطرق المؤّد ية إليهم بأّنها طـرق “األنبياء
والملوك” ،وفي ذات المشهد القديم جعلها الطرق التي اّتخذها “الجنــود والتجــار والكولنياليون” مســارًا لهم .ثم يــذهب
إلى ِذ كر تغُّير الماّر ين بطرق القدس على طول أزمانها؛ إذ شهدت المدينة عّد ة تحّوالٍت لطبيعتها ومركزها الذي جعلها
طريقًا مهّم ًا للمستعمر وحّتى مقِص دًا له ،كما جعلها طريقًا تجارّيًا تخضع لتغّيرات التجارة الدولّية وطرقها؛ من هذا مــا
سّجله من تغُّير أحوال القدس مع افتتــاح قنــاة الســويس وكــثرة حضــور المستشــرقين والمستكشــفين إليهــا ،مثــل األديب
الفرنسي الشهير “فولبير” ،الذين لم ُترّحب المدينة بهم ،والكثير من الصــور الـتي التقطتهــا هـذه البعثـات كــانت لنســاٍء
ُم حّجباٍت وبيوٍت وشبابيَك مغلقٍة ُأوِص دت في وجوههم.
تتغّير مالمح مدينة القدس مع مرور زمن الرواية وتختفي أحياؤها القديمة لتحّل محَّلها بنايــاٌت جديــدٌة ومحالُت مالبٍس
رياضّيٍة و”فاست فود” .ويمّر بطل الرواية ،إدوارد سعيد ،على فندق الملك داوود ،هذا الفندق الــذي ُيع ـّد نموذج ـًا حّي ًا
للتغّير ودليًال على إرهاب الصهاينة؛ إذ تّم تفجيره من قبل عصابات اإلرغون برئاسة مناحيم بيغن آنذاك ،ومن ثّم أعاد
الصهاينة بناءه واالستحواذ عليه ،وهو مثاٌل بسيٌط على عملية التهويد الواسعة لمدينة القدس.
باالنتقال إلى ُم ستعمرة “أورشليم إسرائيل” التي تختزل كّل هذا في حدائق توراتّيٍة وصورٍة ُم تخّيل ـٍة لحيوانات التــوراة
الناجية من الحرب ،موضوعٍة في حديقٍة شّيدها “إهرون شولوف” []2؛ إذ ترى شخوص الرواية اليهوديــة أّن القــرود
واألسود والغزالن هي التي شّك لت محور أحالم النبي يعقوب ،كرمــوٍز ُتشــير إلى رفقــاء المجاعــة والحــرب .وتتش ـّك ل
“إسرائيل” في حوارات شخوص علي بدر باعتبارها ُحلمًا يوتوبّيًا ،بّل “صوتًا بال موسيقى”.
يتعّم د علي بدر ذكَر هرتزل وصنَع مونولوٍج على لسانه وهو يقول“ :إن “أورشليم” تعطي لنا فرص ـًة جديــدًة ،فرص ـًة
أخرى لنكون أوروبا في مواجهة البربر” ،وهذا خٌّط يبّين فيه بدر اســتخدام الصــهاينة للقــوة حــتى في الخطابــات؛ كمــا
يأتي على لسانهم في أحد فقرات الروايـة“ :اليوم نحُن التـاريخ ..نحُن نكتبـه ..نحُن شـهوُده وُقضـاته وتوراتـه ..وليس
هناك من معترضين ،وال أّي شيٍء من هذا الخراء”! جملٌة ترّسخ حضور سياسة اإلقصاء في وجه كــّل ُم عــترٍض على
وجود هذا الكيان المغتصب.
تشرح الرواية أهمّية القدس االستثنائية في السردّيات اليهودّية وللسياسة الصهيونّية؛ فيقول “بن غوريون”“ :ال وجــوَد
لـ”إسرائيل” دون القدس ،وال وجوَد للقــدس دون الهيكــل” .هكــذا إذًا ُتعَت بر القــدس وعــاًء لصــناعة أيــديولوجيا احتالل
األرض.
وقد أجاد علي بدر ضبط أصــوات الَم شــاِهد؛ فســقوط فلســطين مــع صــراخ األّم وصــوت البقــاء يرافــُق حركــة خــروج
الفلسطينيين من قريٍة ألخرى ،وحركة جنود “بن غوريون”ُ ،م ختِلطًا بدعاية األخير بأّنه حامي الهيكــل وآخــُر النــاجين
من محرقة أوروبا ،فضًال عن همس األغنيات العربّية وُزْخ ر الشوارع بها.
يعّلل علي بدر كتابته هذه الرواية ،فيقـول إّن “إسـرائيل” نشـأت كفكـرٍة أدبّي ٍة رومانسـّيٍة ُنسـجت من الخيال ،فبالتـالي
“يجُب إعادة كتابتها عن طريق األدب ،وهكذا يتم تكذيبها أيضًا ،الرواية هي أفضُل حرٍب”.