Professional Documents
Culture Documents
المحاكمة عن بعد وضامانات المحاكمة العادلة
المحاكمة عن بعد وضامانات المحاكمة العادلة
نظرا لما أصبح يعرفه العالم من تطور كبير في مج ال المعلومي ات واالتص االت ومم ا له ا من أهمي ة و
فوائد عديدة كالسرعة في اإلنجاز ،األمر الذي دف ع بالعدي د من ال دول اس تغالل ه ذا التط ور ودمج ه في
مختلف المرافق العمومية ،ولعلى خير مثال على ذلك استعمال وس ائل االتص ال المرئي ة والمس موعة في
مجال العدالة من خالل تبني آلي ة المحاكم ة عن بع د في المحاكم ات الجزائي ة ال تي يت ابع فيه ا أش خاص
موقوفين ،ويمكن القول أن المقصود بالمحاكمة عن بع د ه و اس تعمال الوس ائل التقني ة الحديث ة لالتص ال
إلجراء محاكمة قضائية بين أطراف ال يتواجدون بنفس المك ان ،حيث تتم محادث ة مرئي ة ومس موعة عن
طريق تقنية االتصال عن بعد بين هيئة الحكم التي تتواجد بمقر المحكم ة ويتم رب ط االتص ال بينه ا وبين
كل من له صلة بالدعوى سواء لالستجواب أو لالستماع.
حيث عرفت هذه اآلليةنجاعتها خالل الظرفية الوبائية التي عرفها الع الم من ذ أن تم اإلعالن من ط رف
منظمة الصحة العالمية أن فيروس كوفيد 19وباءا عالميا ،ما نتج عنه تعطيل غالبية المرافق بدول العالم
وبطبيعة الحال من بينها المغرب ،بما في ذلك مرفق العدالة ،وفي ظل االنتشار الواسع ال ذي ك ان يعرف ه
الفيروس انذاك والذي طال بعض المؤسسات السجنية بالمملكة ،األمر الذي اس تدعى اتخ اذ مجموع ة من
التدابير الوقائية واالحترازية من طرف المشرفين على قطاع العدالة من أجل الحد من ذلك ،وحفاظا على
سالمة وصحة العاملين بهذا األخير وكذا السجناء والعاملين بالمؤسسات السجنية ،تم اعتماد آلية المحاكمة
ل يدوزيرالعدلبتاريخ23أبري د,حيثصدرعنالس عن بع
2020قراريقضيباعتمادتقنيةالمحاكمةعنبعدفيالقضاياالجنحيةبالنسبةللمعتقليندونإحضارهممنالس جن ،وذل ك
من أجلالمنع المؤقت لنقل السجناء للمح اكم وإج راء جلس اتهم عن بع د ع بر الوس ائل والكيفي ة الم ذكورة
أعاله ،فحسب بالغ للمجلس األعلى للسلطة القضائية الصادر يوم 22يونيو 2020بموقع ه االلك تروني
والمتعلقباإلحصائيات حول تفعيل المحاكمات عن بعد خالل الف ترة الممت دة م ا بين االث نين 15يوني و إلى
يوم 19يونيو من سنة 2020أن محاكم المملكة عقدت خالل هذه الفترة م ا مجموع ه 364جلس ة عن
بعد أدرجت بها 6521قضية واستفاد من هذه المحاكمات عن بع د 7891معتقال ،وبتت مح اكم المملك ة
سواء االبتدائية أو االستئنافية في 2523قضية.
وبالرغم من نجاعة هذه اآللية في تلك الظرفية الصحية إال أنها وبالرغم من انتهاء هذه األخ يرة ع رفت
محاكم المملكة استعماال متزايدا لهذه اآللية في اآلونة األخيرة ،مما أسفر عليه توجيه العديد من االنتقادات
لها على أنها أصبحت تعتمد كوسيلة لتصريف العدد الكمي للمحاكمات وإغفال ما إذا كانت هذه المحاكم ة
تحترم ضمانات المحاكمة العادلة سواء من حيث الشكل أو الموضوع.
لإلجابة على اإلشكالية المطروحة ارتأينا تقسيم موضوع دراستنا على الشكل اآلتي:
فموافقة المتهم الصريحة على هذا االجراء تقيد بمفهوم المخالفة ؛أنه ال يحق له التمسك فيما بعد ببطالن ه
حيث يعد تنازل صريح من جانبه عن التمسك بالبطالن.
أما في الحالة التي يرفض فيها المتهم أو دفاعه هذا اإلجراء وجب على المحكمة عدم اللج وء إلي ه أم ا إذا
انتفت هذه المصلحة فإن المحكمة ال تلتفت إلى هذا الطلب وال يترتب عن سلوك هذا اإلجراء البطالن.
ومن جهة ثانية يتعين على الطرف الذي يتمسك بعدم صحة هذا اإلجراء أن يثيره وجوبا قبل الخوض في
مناقش ة القض ية .وقب ل ك ل دف ع أو دف اع،تحت طائل ة الس قوط طبق ا لمقتض يات الم ادة 323من ق انون
1
مقال هشام البالوي،مرجع سابق ص-12
المسطرة الجنائية .والمحكمة ملزمة ب الجواب عم ا تث يره األط راف من دف وع ش ريطة أن تق دم إليه ا في
صيغة مستنتجات كتابية أو شفوية مع التماس اإلشهاد عليها حيث في غير هذين الحالتين فإن المحكم ة ال
2
تكون ملزمة بالجواب.
وهذا ما أكدته محكمة النقض في أحد قراراتها "ال تكون المحاكم ملزمة ب الجواب عم ا يث ار أمامه ا من
وسائل الدفاع إال إذا قدمت إليها تلك الوسائل ض من مس تنتجات كتابي ة ص حيحة أو في ش كل مس تنتجات
3
شفوية التي يمكن اإلشهاد بها .
ولعل أبرز م بررات ه ذا االتج اه تتمث ل في ك ون المحاكم ة عن بع د له ا ت أثير على االقتن اع الص ميم
والقناعة الوجدانية للقاضي وس لطته التقديري ة ،وال تي يبنيه ا ه ذا األخ ير من خالل لغ ة الجس د وطريق ة
التعبير لدى المتهم أثن اء اس تجوابه و مواجهت ه بالخص وم واألدل ة القائم ة ض ده وك ذلك من خالل األدل ة
المبسوطة أمامه خالل الجلسة ،ومن هنا تظهر لنا األهمية الكب ير للحض ور الم ادي للمتهم أم ام المحكم ة
من أجل بن اء القاض ي قناعت ه ،كم ا نص ت على ذل ك الم ادة 286من ق.م.ج " يحكم القاض ي حس ب
اقتناعه الصميم ."...
كم ا أن الغي اب الم ادي للمتهم أم ام المحكم ة ل ه ت أثير على مش اركته المباش رة والفعلي ة في مناقش ة
قضيته .بمعية دفاعه .بما في ذلك بسط روايته للوقائع ،وبسط أوج ه دفاع ه ،واالس تماع مباش رة لوس ائل
2
مقال األستاذ عمر الكاسي" ،هل يطول البطالن إجراء المحاكمة عن بعد" ،جريدة الصباح ،العدد6309 :
3
قرار صادر عن محكمة النقض
).عدد 916بتاريخ 1976.2.1في الملف الجنائي عدد 27921منشور بمجلة القضاء والقانون عدد 117ص 208وما يليها(
دفاع الخصوم والتعقيب عليها ،بطلب التدخل في المناقشات متى بدت له جدوى من ذل ك ،واالطالع على
ما يدلى به من وثائق من طرف باقي األطراف وإب داء نظ ره فيه ا بمعي ة دفاع ه ،ومواجهــة المحكمـة
والخصــوم بمــا بحوزتـه مـن وثائـق أو أشيــاء تخــدم مصلحتــه ،مـع تقديـــم التوضيحـات الضروريـة
بشأنهـا والتعقيب على م ا يث ار من مالحظ ات بش أنها ،وك ذا ح ق االطالع على المحج وزات إن وج دت
ومناقشتها ،والرد علـى مالحظـات األطـراف األخـرى بشأنهـا ،وكـذا االستمـاع إلـى تق ارير الخ براء
وش هادات الشهـود ،باإلضافـة إلـى حقـه فـي االطـالع علـى محضـر الجلسـة وإب داء مالحظ ات أو
استدراكات أو تصحيحات بشأن مضامينه.4
وعليه فإن المحاكمة عن بعد لن توفر ما جاء أعاله كون المتهم رغم حض وره بالجلس ة إال أن ه حض ور
افتراضي يجعل منه متفرجا في مجريات القضية ال حاضرا ومشاركا فيه ا بش كل فعلي ومباش ر ،كم ا ال
ترقى نتائج هذا الحضور كتلك الناتجة عن الحضور المادي الملموس ،سواء بخرقها للض مانات المخول ة
للمتهم من جهة،أو بناء االقتناع الصميم للقاضي كما هو الحال في الحضور المادي من جهة أخرى.
وإضافة إلى ما س بق ف إن المحاكم ة عن بع د تمس بمب دأ الحض ورية ،نتيج ة ض عف الوس ائل التقني ة
المستعملة لالتصال عن بعد والمعتمدة سواء من ط رف المح اكم أو المؤسس ات الس جنية ،مم ا ي ؤدي في
بعض األحيان إلى انقطاع الصوت أو الصورة بين األطراف ،وهذا يشكل خرقا واضحا لمبدأ الحضورية
الفعلية التي تضمن المحاكمة العادلة.
وكذلك من مبررات هذا االتجاه أن المحاكمة عن بعد تمس بمبدأ العلنية والمساواة ،فالمقصود من علني ة
الجلسة هو حق الجمهور في حضور المحاكمة حيث الغ رض من علني ة الجلس ات دف ع القض اء الح ترام
ضمانات المحاكمة العادلة نتيجة القي ام بعملهم بوج ه مكش وف مم ا ي دفعهم للحكم بم ا ه و أص ح للمتهم،
وتجنبهم بعض الش بهات ،وتجنبهم بعض الش بهات ال تي تح وم ح ول الجلس ات الس رية وتأك د اس تقاللية
5
القضاء.
وتتجلى مظاهر مساس المحاكمة عن بعد بمبدأ العلنية أنه ا تك ون منقوص ة وغ ير كامل ة ،وذل ك لك ون
المتهم غائب عن الجلسة ومحروم من المناقشة الحضورية والعلنية لقضيته ،ثم لك ون الجمه ور الحاض ر
غالبا ما ال يتمكن من رؤية المتهم وسماعه ،أو ي راه ويس معه بش كل رديء ون اقص ال يحق ق الغاي ة من
إقرار مبدأ العلنيـة ،بـل إنـه إذا اعتبرنـا أن الفض اء ال ذي يمث ل في ه المعتق ل أم ام الك اميرا يعت بر ج زءا
افتراضيا من قاعة المحاكمة يمثل في ه الط رف الرئيس ي في القض ية ،ف إن المحكم ة نفس ها وك ذا النياب ة
العامة يصعب عليهما معاينة وضبط كل ما يجري في هذا الفضاء ،لكون كل ما يرونه ه و وج ه المعتق ل
المستمع إليه ،وهو ما يخل بواجب ضبط هيئة الحكم لكل ما يجري بالجلس ة والتص دي لك ل م ا يمكن أن
6
يمس بحسن سيرها.
أما بخصوص مظاهر المساس بمبدأ المساواة ،فتتجلى فحضور أطراف بجلسة المحاكمة وخاصة النيابة
العامة التي لها كامل اإلمكانيات في تقديم كل دفوعه ا ومرافعاته ا وله ا تواص ل بش كل مباش ر م ع هيئ ة
4محمد قرطيط" ،المحاكمة عن بعد وضمانات المحاكمة العادلة" ،مقال منشور بتاريخ 9يونيو 2020بالموقع االلكتروني هسبريس،
www.hespress.com
5الدكتور محمد عياط ـ دراسة في المسطرة الجنائية المغربية الجزء الثاني 1991ص .266
6محمد قرطيط ،مرجع سابق
الحكم وب اقي األط راف ،وتتب ع مجري ات الجلس ة بش كل فعلي ومباش ر دون أن يك ون في مواجهته ا أي
عطب تقني ،وغياب المتهم الذي يكون حاضرا شكال وال يمكنه متابعة مجري ات الجلس ة إال من المنظ ور
الذي تلتقط ه آل ة التص وير الثابت ة ال تي يجلس أمامه ا المتهم ،كم ا يك ون في مواجه ة األعط اب التقني ة
كانقطاع الصوت أو الصورة.
كما يرى البعض اآلخر أن ليس فيها أي خرق لضمانات المحاكمة العادلة ،طالم ا أن المحكم ة تح رص
على تطبيق هذه الضمانات كما هي مقررة في العهد الدولي للحقوق المدني ة والسياس ية بم ا يقتض يه ذل ك
من تمتع المتهم بحق الدفاع والتواجهية ومناقشة وسائل اإلثبات وغيرها .وهي كله ا ض مانات تتحق ق في
7
المحاكمة عن بعد ،وال فرق بين هذه األخيرة والمحاكمة العادية إال في الشكل.
وجاء في قرار 8لمحكمة النقض ما يلي " :تستمد تقني ة المحاكم ة عن بع د مرجعيته ا من الم ادة 3من
المرسوم رقم 2.20.292المتعلق بسن قانون الطوارئ الص حية ب المغرب ،وتعت بر المحاكم ة ص حيحة
من الناحية القانونية ما دام أن التواص ل بين مختل ف المت دخلين في المحاكم ة وهيئ ة الحكم ك ان واض حا
وغير مشوب بأي إخالل مسطري .والمحكمة لم ا وص فت تبع ا ل ذلك حكمه ا بالحض وري لم تخ رق أي
مقتضى قانوني".
يستشف من هذا القرار أن محكمة النقض أخ ذت بالتوج ه المؤي د للمحاكم ة عن بع د وأن ليس فيه ا أي
مساس لضمانات المحاكم ة العادل ة ،واعتم دت ص حة ه ذه المحاكم ة م تى ت وفر االتص ال الواض ح بين
األطراف المتدخلين في المحاكمة وهيئة الحكم واحترام اإلجراءات المسطرية.