You are on page 1of 525

Withe

‫ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻛﺘﺐ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﺷﻬﺮﻳﺔ ﻳﺼﺪرﻫﺎ‬


‫اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﻔﻨﻮن واداب ‪ -‬اﻟﻜﻮﻳﺖ‬
‫ﺻﺪرت اﻟﺴﻠﺴﻠـﺔ  ﻳﻨﺎﻳﺮ ‪1978‬‬
‫أﺳﺴﻬﺎ أﺣﻤـﺪ ﻣﺸـﺎري اﻟﻌﺪوا )‪ (1990-1923‬ود‪ .‬ﻓﺆاد زﻛﺮﻳﺎ )‪(2010-1927‬‬

‫ﺗﺸﻜﻴﻞ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺪوﻟﻴﺔ اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ‬


‫أﺻﻮل ﺣﻘﻞ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺪوﻟﻴﺔ وﺗﻄﻮره ﻓﻲ ذﻛﺮاه اﻟﻤﺌﻮﻳﺔ‬

‫ﺗﺄﻟﻴﻒ‪ :‬أﻣﻴﺘﺎف أﺷﺎرﻳﺎ ‪ -‬ﺑﺎري ﺑﻮزان‬


‫ﺗﺮﺟﻤﺔ‪ :‬ﻋﻤﺎر ﺑﻮ ﻋﺸﺔ‬

‫ﻳﻨﺎﻳﺮ ‪2023‬‬
‫‪502‬‬
‫سلسلة شهرية يصدرها‬
‫اجمللس الوطني للثقافة‬
‫والفنون واآلداب‬

‫أسسها‬
‫أحمد مشاري العدواين‬
‫د‪ .‬فـــــؤاد زكريــــــا‬

‫املشرف العام‬
‫األمني العام‬
‫مستشار التحرير‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬محمد غانم الرميحي‬
‫‪rumaihimg@gmail.com‬‬
‫هيئة التحرير‬
‫أ‪ .‬جاسـم خالد السعــدون‬
‫ترسل االقرتاحات عىل العنوان التايل‪:‬‬ ‫أ‪ .‬خليل عيل حيدر‬
‫السيد األمني العام‬ ‫د‪ .‬سعداء سعد الدعاس‬
‫للمجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬طارق عبداملحسن الدويسان‬
‫ص‪ .‬ب‪ - 28613 :‬الصفاة‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬عيل زيد الزعبي‬
‫الرمز الربيدي ‪13147‬‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬مرسل فالح العجمي‬
‫دولة الكويت‬ ‫أ‪ .‬منصور صالح العنزي‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬ناجي سعود الزيد‬
‫هاتف‪)965( 22431704 :‬‬
‫‪www.kuwaitculture.org.kw‬‬ ‫مديرة التحرير‬
‫عالية مجيد الرصاف‬
‫التنضيد واإلخراج والتنفيذ والتصحيح اللغوي‬
‫‪a.almarifah@nccalkw.com‬‬
‫وحدة اإلنتاج يف املجلس الوطني‬
‫سكرتيرة التحرير‬
‫‪ISBN 978 - 99906 - 0 - 728 - 4‬‬ ‫هلل فوزي املجيبل‬
‫العنوان األصلي للكتاب‬

The Making of Global International Relations


Origins and Evolution of IR at its Centenary

By
Amitav Acharya and Barry Buzan
Cambridge University Press

© Amitav Acharya and Barry Buzan 2019


This translation of The Making of Global International
Relations is published by arrangement with Cambridge
University Press.

‫ُطبع من هذا الكتاب اثنان وثالثون ألفا ومائتان وخمسون نسخة‬

2023 ‫ هـ ــ يناير‬1444 ‫جمادى الثاني‬


‫المواد المنشورة في هذه السلسلة تعبر‬
‫عن رأي كاتبها وال تعبر بالضرورة عن رأي المجلس‬

‫‪6‬‬
‫احملتويات‬
‫‪11‬‬ ‫قائمة االختصارات‬

‫‪19‬‬ ‫املقدمة‬

‫الفصل األول‪:‬‬

‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة ‪31‬‬

‫الفصل الثاين‪:‬‬

‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء ُ‬


‫األسس ‪67‬‬

‫الفصل الثالث‪:‬‬

‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي ‪115‬‬

‫الفصل الرابع‪:‬‬

‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول‬

‫‪135‬‬ ‫للتخصص املعريف‬

‫‪7‬‬
‫الفصل اخلامس‪:‬‬

‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة‬

‫‪181‬‬ ‫وإنهاء االستعمار‬

‫الفصل السادس‪:‬‬

‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين‬

‫‪219‬‬ ‫للتخصص املعريف‬

‫الفصل السابع‪:‬‬

‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة‬

‫‪279‬‬ ‫وصعود ال َبقِ َّية‬

‫الفصل الثامن‪:‬‬

‫‪335‬‬ ‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫‪8‬‬
‫الفصل التاسع‪:‬‬

‫‪397‬‬ ‫النظام العاملي ما بعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫الفصل العاشر‪:‬‬

‫‪431‬‬ ‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫‪481‬‬ ‫ببليوغرافيا‬

‫‪9‬‬
‫قائمة االختصارات‬
Withe
‫قائمة االختصارات‬

‫املقابل العريب‬ ‫الصيغة األصلية‬ ‫االختصار‬ ‫م‬


Air Defense Identification
‫منطقة تحديد الدفاع الجوي‬ ADIZ 1
Zone
‫الذكاء االصطناعي‬ Artificial Intelligence AI 2
‫البنك اآلسيوي لالستثامر يف البنية‬ Asian Infrastructure
AIIB 3
‫التحتية‬ Investment Bank
‫مؤمتر العالقات اآلسيوية‬ Asian Relations Conference ARC 4
Association of Southeast Asian
‫رابطة دول جنوب رشق آسيا‬ ASEAN 5
Nations
‫االتحاد األفريقي‬ African Union AU 6
‫ جمعية الدراسات الدولية‬British International Studies
BISA 7
‫الربيطانية‬ Association
‫مبادرة الحزام والطريق‬ Belt and Road Initiative BRI 8
Brazil, Russia, India, China,
»‫مجموعة «بريكس‬ BRICS 9
South Africa
‫الحزب الشيوعي الصيني‬ Chinese Communist Party CCP 10
‫أوروبا الوسطى والرشقية‬ Central and Eastern Europe CEE 11
Central and East European
‫رابطة الدراسات الدولية ألوروبا‬
International Studies CEEISA 12
‫الوسطى والرشقية‬
Association
‫ مجلس العالقات الخارجية‬Council on Foreign Relations CFR 13
‫نظرية السالم الدميوقراطي‬ Democratic Peace Theory DPT 14
‫ املجموعة االقتصادية لدول غرب‬Economic Community of West
ECOWAS 15
‫أفريقيا‬ African States
European Economic
‫الجامعة االقتصادية األوروبية‬ EEC 16
Community
‫ الرابطة األوروبية للدراسات‬European International Studies
EISA 17
‫الدولية‬ Association
‫املدرسة اإلنجليزية‬ English School ES 18
‫االتحاد األورويب‬ European Union EU 19

13
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫املقابل العريب‬ ‫الصيغة األصلية‬ ‫االختصار‬ ‫م‬


‫ معهد االتحاد األورويب للدراسات‬European Union Institute for
EUISS 20
‫األمنية‬ Security Studies
‫مجموعة الثامين‬ Group of 8 G8 21
‫مجموعة العرشين‬ Group of 20 G20 22
77 ‫مجموعة الـ‬ Group of 77 G77 23
‫االتفاقية العامة للتعريفات‬ General Agreement on Tariffs
GATT 24
‫الجمركية والتجارة‬ and Trade
‫الناتج املحيل اإلجاميل‬ gross domestic product GDP 25
‫املجتمع الدويل العاملي‬ global international society GIS 26
‫الحرب العاملية عىل اإلرهاب‬ global war on terrorism GWoT 27
‫نظرية استقرار الهيمنة‬ Hegemonic Stability Theory HST 28
‫بنك البلدان األمريكية‬ Inter-American Bank IAB 29
»‫منتدى «إبسا‬ India, Brazil, South Africa IBSA 30
International Commission
‫اللجنة الدولية املعنية بالتدخل‬
on Intervention and State ICISS 31
‫وسيادة الدول‬
Sovereignty
Indian Council of World
‫املجلس الهندي للشؤون العاملية‬ ICWA 32
Affairs
intergovernmental
‫منظمة حكومية دولية‬ IGO 33
organisation
International Institute of
‫املعهد الدويل للتعاون الفكري‬ IIIC 34
Intellectual Cooperation
‫صندوق النقد الدويل‬ International Monetary Fund IMF 35
international non-
‫منظمة غري حكومية دولية‬ INGO 36
governmental organisation
International Political
‫االقتصاد السيايس الدويل‬ IPE 37
Economy
‫معهد عالقات املحيط الهادئ‬ Institute of Pacific Relations IPR 38

14
‫قائمة االختصارات‬

‫املقابل العريب‬ ‫الصيغة األصلية‬ ‫االختصار‬ ‫م‬


International Political Science
‫الرابطة الدولية للعلوم السياسية‬ IPSA 39
Association
‫العالقات الدولية‬ International Relations
IR 40
)‫(بوصفها حقال معرفيا‬ (discipline)
‫العالقات الدولية‬ international relations
ir 41
)‫(بوصفها مامرس ًة‬ (practice)
International Studies
‫جمعية الدراسات الدولية‬ ISA 42
Association
International Studies
‫مؤمتر الدراسات الدولية‬ ISC 43
Conference
‫ الدراسات األمنية الدولية‬International Security Studies ISS 44
Japan Association of
‫الرابطة اليابانية للعالقات الدولية‬ JAIR 45
International Relations
‫الكومينتانغ‬
Kuomintang KMT 46
)‫(الحزب القومي الصيني‬
‫عصبة األمم‬ League of Nations LN 47
‫رشكة متعددة الجنسيات‬ multinational enterprise MNE 48
‫حركة عدم االنحياز‬ Non-Aligned Movement NAM 49
‫منظمة حلف شامل األطليس‬ North Atlantic Treaty
NATO 50
)‫(الناتو‬ Organisation
‫القوى الصاعدة الجديدة‬ New Emerging Forces NEFOS 51
New International Economic
‫النظام االقتصادي الدويل الجديد‬ NIEO 52
Order
‫ دولة غري حائزة لألسلحة النووية‬non-nuclear weapon state NNWS 53
‫دولة حائزة ألسلحة نووية‬ nuclear weapon state NWS 54
‫منظمة الوحدة األفريقية‬ Organization of African Unity OAU 55
Organisation for Economic
‫منظمة التعاون االقتصادي‬
Co-operation and OECD 56
‫والتنمية‬
Development

15
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫املقابل العريب‬ ‫الصيغة األصلية‬ ‫االختصار‬ ‫م‬


‫سياسات االقتصاد املفتوح‬ Open Economy Politics OEP 57
‫القوى العريقة‬ Old Established Forces OLDEFOS 58
‫ منظمة الدول املصدرة للنفط‬Organization of the Petroleum
OPEC 59
)‫(أوبيك‬ Exporting Countries
‫مسؤولية الحامية‬ Responsibility to Protect R2P 60
Shanghai Cooperation
‫منظمة شنغهاي للتعاون‬ SCO 61
Organisation
‫أفريقيا جنوب الصحراء‬ sub-Saharan Africa SSA 62
‫الرشاكة عرب املحيط الهادئ‬ Trans-Pacific Partnership TPP 63
‫رشكة عرب وطنية‬ transnational corporation TNC 64
‫التدريس والبحث والسياسة‬ Teaching, Research and
TRIP 65
‫الدولية‬ International Policy
Universal Declaration of
‫اإلعالن العاملي لحقوق اإلنسان‬ UDHR 66
Human Rights
‫اململكة املتحدة‬ United Kingdom UK 67
‫األمم املتحدة‬ United Nations UN 68
‫ مؤمتر األمم املتحدة للتجارة‬UN Conference on Trade and
UNCTAD 69
‫والتنمية‬ Development
‫ برنامج األمم املتحدة اإلمنايئ‬UN Development Programme UNDP 70
‫ املفوضية السامية لألمم املتحدة‬UN High Commissioner for
UNHCR 71
‫لشؤون الالجئني‬ Refugees
‫مجلس األمن الدويل‬ UN Security Council UNSC 72
‫الواليات املتحدة األمريكية‬ United States US 73
‫منظمة الصحة العاملية‬ World Health Organization WHO 74
‫ الرابطة النسائية الدولية للسالم‬Women’s International League
WILPF 75
‫والحرية‬ for Peace and Freedom

16
‫قائمة االختصارات‬

‫املقابل العريب‬ ‫الصيغة األصلية‬ ‫االختصار‬ ‫م‬


‫‪World International Studies‬‬
‫لجنة الدراسات الدولية العاملية‬ ‫‪WISC‬‬ ‫‪76‬‬
‫‪Committee‬‬
‫نظرية النظم العاملية‬ ‫‪World Systems Theory‬‬ ‫‪WST‬‬ ‫‪77‬‬
‫منظمة التجارة العاملية‬ ‫‪World Trade Organization‬‬ ‫‪WTO‬‬ ‫‪78‬‬

‫‪17‬‬
‫مقدمة‬

‫مقدمة‬

‫األهداف واملقاربات‬
‫يتم َّثل أحد الدوافع الرئيسة لتأليف هذا‬
‫الكتاب يف محاولة انتهاز ما يعتربه كث ٌري من‬
‫الباحثني يف حقل العالقات الدولية ‪ ،IR‬وليس‬
‫كلهم‪« ،‬الذكرى املئوية» لتأسيس هذا التخصص‬
‫َ‬
‫حلول العام ‪ .2019‬إنها‬ ‫املعريف‪ ،‬والتي توافق‬
‫«األسطورة» ا ُمل َؤ ِّس َسة طويلة األمد لحقل‬
‫العالقات الدولية التي ُتد َّرس عىل نطاق واسع‬
‫يف الدورات التمهيدية‪ ،‬والتي تحولت يف العام‬
‫‪ 1919‬إىل مجال دراسة رسمي بوصف ذلك‬
‫استجابة للكارثة التي خ َّلفتها الحرب العاملية‬
‫األوىل‪ُ .‬ت َص ِّو ُر هذه «األسطورة» حقل العالقات‬
‫الدولية باعتباره جاء استجابة ملشكلة ملحة‬
‫تتعلق بكيفية فهم إشكالية السلم والحرب‬
‫يف مجتمع الدول (سرناجع عىل نحو ُمستفيض‬ ‫«إن ما نهدف إليه‪ ،‬حيثام أمكن ذلك‪،‬‬ ‫َّ‬
‫هو تقديم نظرة عامة واسعة النطاق‬
‫هذه «األسطورة» والنقاش الدائر بشأنها يف‬ ‫عن بعض املوضوعات الرئيسة واملراكز‬
‫ا ُمل َؤ َّس ِس َّية لحقل العالقات الدولية‬
‫الفصل الثاين)‪َّ .‬إن مثل هذه الذكريات السنوية‬ ‫املوجودة يف مناطق خارج أوروبا‬
‫فرص جديرة بالتوقف عندها‬ ‫الكبرية لهي ٌ‬ ‫وأمريكا الشاملية»‬

‫‪19‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وتقييمها ومراجعة ما ُأنجز وما مل ُينجز‪ ،‬والتفكري‪ ،‬انطالقا من ذلك‪ ،‬يف املكان الذي‬
‫يجب التوجه إليه‪.‬‬
‫يتم ّثل الدافع اآلخر‪ ،‬والذي ال َي ِق ُّل أهمية عن سابقه‪ ،‬يف التفكري بشأن‬
‫النقاشات املتزايدة عن طبيعة حقل العالقات الدولية ونطاقه‪ ،‬خصوصا تلك‬
‫النقاشات ا ُملتَأَ ِّت َية من أولئك الذين يشعرون بأن هذا املجال املعريف ظل‪ ،‬وعىل‬
‫مدى فرتة طويلة‪ ،‬خاض ًعا ملركزية أوروبية ضيقة األفق‪ ،‬وأنه يحتاج إىل إظهار‬
‫الشمولِ ّية‪ .‬فعىل رغم ّأن مثل هذه الكتابات كانت مطروحة‬ ‫قدر أكرب من ُ‬
‫بعض الوقت‪ ،‬فإنها شهدت تزايدا كبريا خالل العقد املنرصم‪ .‬وعىل رغم ذلك‪،‬‬
‫ال توجد أي دراسة موحدة تضع تفكري حقل العالقات الدولية يف نطاقٍ أوسع‬
‫إن جهدنا هذا يأيت‬ ‫لِ َت َت ُّب ِع تطور هذا الحقل واتجاهاته خارج السياق الغريب‪َّ .‬‬
‫بوصفه محاول ًة لذلك الغرض‪ ،‬عىل الرغم من أنه ال ميكننا يف هذا الكتاب أن‬
‫نضطلع بأكرث من مجرد تبيان بعض املعامل املفقودة أو ا ُمل ْه َملة يف التفكري غري‬
‫الغريب لحقل العالقات الدولية‪ ،‬والتي من شأنها أن تضفي عىل هذا الحقل‬
‫ملسة أكرث عاملية‪ .‬وإذا ما قار َّنا ذلك مع ما هو موجود يف اململكة املتحدة أو‬
‫الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬فإن مثة يف اللغة اإلنجليزية عددا قليال جدًا من‬
‫األدبيات أو املعلومات عن أصول حقل العالقات الدولية وتطوره خارج السياق‬
‫الغريب‪ .‬تبدأ معظم األعامل ا ُملن َْجزَة بشأن تأريخ حقل العالقات الدولية باعتباره‬
‫تخصصا خارج السياق الغريب بعد الحرب العاملية الثانية (انظر عىل سبيل املثال‬ ‫ً‬
‫‪ .)Tickner and Wæver, 2009a‬وقد اقترصت تلك األعامل عىل نحو خاص‬
‫عىل تقديم معلومات سطحية عن الجامعات ومراكز التعليم واملناهج والكتب‬
‫املدرسية يف مجال العالقات الدولية خارج أوروبا والواليات املتحدة‪ .‬إن هدفنا‬
‫يف هذا الكتاب ليس تقديم رواية شاملة عن ظهور حقل العالقات الدولية خارج‬
‫السياق الغريب‪ ،‬بل إن ما نهدف إليه‪ ،‬حيثام أمكن ذلك‪ ،‬هو تقديم نظرة عامة‬
‫واسعة النطاق عن بعض املوضوعات الرئيسة واملراكز ا ُمل َؤ َّس ِس َّية لحقل العالقات‬
‫الدولية املوجودة يف مناطق خارج أوروبا وأمريكا الشاملية‪.‬‬
‫لقد ُصمم هذا الكتاب ليكون جز ًءا من ال َت َف ُّك ِر يف الذكرى املئوية لتأسيس حقل‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬وللمساهمة يف هذا النقاش عرب طرق رئيسة ثالث‪:‬‬
‫‪20‬‬
‫مقدمة‬

‫‪ - 1‬تعميق ا ُملساءلة الحالية لرواية العام ‪ 1919‬لتأسيس حقل العالقات الدولية‪،‬‬


‫بديل ُمتعدد الطبقات لتطور هذا الحقل املعريف‪.‬‬ ‫وتوفري إطا ٍر ٍ‬
‫‪ - 2‬ربط تطور العالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا (‪()IR‬٭) باملامرسة الفعلية‬
‫للعالقات الدولية (‪ )ir‬ابتدا ًء من القرن التاسع عرش‪ ،‬وذلك إلظهار مدى الدقة التي‬
‫العالقات الدولي ُة ‪ IR‬النظا َم الدو َّيل املوجو َد عرب الزمن(٭٭)‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عكست بها‬
‫‪ - 3‬االنفتاح عىل الرواية ا ُمل ْه َم َلة بشأن التفكري يف العالقات الدولية والتي َج َرت‬
‫فصولها خارج السياق الغريب طوال الفرتة ق ْيد الدراسة‪.‬‬
‫متكاماًل عن تاريخ وتطور حقل العالقات‬ ‫ً‬ ‫نصا متهيد ًيا‬ ‫كام يوفر الكتاب ً‬
‫أيضا ًّ‬
‫الدولية وتطورها بوصفها تخصصا معرفيا‪.‬‬

‫امللخص والحجة‬
‫تتمثل قصتنا إجامال يف أن تطور حقل العالقات الدولية اِق َت َفى‪ ،‬يف الواقع‪،‬‬
‫أ َثر طبيعة العالقات الدولية ومامرساتها عىل نحو لصيق‪ .‬بالنظر إىل أن حقل‬
‫العالقات الدولية كانت له دامئًا روابط قوية باألحداث الجارية وعملية صنع‬
‫السياسة الخارجية‪ ،‬فإن هذا االرتباط ليس هو اليشء املفاجئ يف حد ذاته عىل‬
‫نحو خاص(٭٭٭)‪ .‬وتكمن فائدة هذا االرتباط بالنسبة إىل أغراضنا البحثية يف‬
‫متكيننا من تطوير نظرة ثاقبة دقيقة بشأن متى وكيف وملاذا اكتسب حقل‬
‫العالقات الدولية ِبنْيتَه املركزية الغربية املشهورة‪ .‬عىل الرغم من املبالغة يف‬
‫التبسيط فإن القول بأن التيار السائد لنظرية العالقات الدولية املعارصة ليس‬
‫أكرث بكثري من أن يكون تجريدا مستمدا من التاريخ الغريب ا ُملتداخل مع النظرية‬
‫السياسية الغربية يظل قوال صحيحا عىل نحو عام‪ .‬فالواقعية هي فكرة تجريدية‬
‫(٭) يرمز املؤلف إىل العالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا بالحرفني الكبريين «‪ ،»IR‬بينام يرمز إىل العالقات الدولية‬
‫بوصفها مامرس ًة بالحرفني الصغريين «‪ .»ir‬راجع قامئة االختصارات‪[ .‬املحرر]‪.‬‬
‫(٭٭) وهكذا تختلف مقاربتنا عن مقاربة شميدت (‪ - )1998‬التي نأمل أن تكون مقاربة مكملة لها ‪ -‬واآلخرين‬
‫الذين يحاولون استكشاف أصول حقل العالقات الدولية وجذوره من خالل فحص خطابات هؤالء العلامء يف إطار‬
‫هذا التخصص‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬
‫(٭٭٭) للحصول عىل حجة مفصلة بشأن كيفية تأسيس نظرية العالقات الدولية وتاريخ العامل‪ ،‬انظر‪Lawson :‬‬
‫‪ 2012‬و‪ .Buzan and Lawson 2018‬ولالطالع عىل عمل آخر يتخذ مقاربة مشابهة لربط مامرسة العالقات الدولية‬
‫مبسألة التفكري بشأنها‪ ،‬انظر (‪[ .)Knutsen 2016‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫َتتَأَ َّىَّت من ميزان القوة األورويب للقرن الثامن عرش‪ ،‬من السلوك املقرتن بالقرنني‬
‫السادس عرش والسابع عرش‪ ،‬وبالطبع‪ ،‬من النظرية السياسية اليونانية القدمية‪.‬‬
‫أما الليربالية‪ ،‬فهي فكرة تجريدية َتتَأَ َّىَّت من املنظامت الحكومية الدولية للقرنني‬
‫التاسع عرش والعرشين‪ ،‬ومن نظريات االقتصاد السيايس‪ .‬ويف حني أن املاركسية‬
‫تعد تجريدا من فرع آخر ينبثق من نظريات القرنني التاسع عرش والعرشين‬
‫األوروبية املتعلقة باالقتصاد السيايس وعلم االجتامع التاريخي‪ ،‬فإن املدرسة‬
‫اإلنجليزية عبارة عن تجريد ينبثق من السلوك الديبلومايس األورويب يف القرن‬
‫التاسع عرش ومن تقليد أورويب طويل للنظرية القانونية القامئة عىل افرتاض أن‬
‫كل قانون؛ مبا يف ذلك القانون الدويل‪ ،‬يستلزم وجود مجتمع‪ .‬ومن الواضح أن‬
‫ال ِبنَائية ليست تجريدا منبث ًقا من املامرسة الغربية‪ ،‬ولكنها نظرية ُمستمدة من‬
‫فلسفة املعرفة الغربية‪ .‬لقد ُبني حقل العالقات الدولية ‪ -‬إىل حد بعيد ‪ -‬عىل‬
‫افرتاض أن التاريخ الغريب والنظرية السياسية الغربية هام تاريخ العامل ونظريته‬
‫السياسية ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫إنه ملن السهولة مبكان الكشف عن مغالطة هذا االفرتاض‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫التساؤل عن الشكل الذي كانت ستبدو عليه نظرية العالقات الدولية لو ُط ِّور‬
‫بداًل من العامل الغريب‪ .‬فالصني‪ ،‬عىل سبيل‬ ‫هذا التخصص املعريف يف مكان آخر ً‬
‫ٌ‬
‫ونظرية سياسية مختلفان جذر ًيا عن التاريخ والنظرية السياسية‬ ‫املثال‪ ،‬لديها ٌ‬
‫تاريخ‬
‫الغربيني‪ .‬ففي حني أن التفكري واملامرسة الغربيني قد انجذبوا أكرث نحو قضايا‬
‫السيادة؛ واإلقليمية؛ والفوىض الدولية ‪(international anarchy‬٭)؛ والحرب؛‬
‫واملجتمع الدويل‪ ،‬فقد ُو ِّجهت النظرية واملامرسة الصينيان عىل نحو كبري نحو قضايا‬
‫الوحدة؛ والتسلسل الهرمي؛ وتيانكسيا ‪( Tianxia‬كل ما تحت السامء)؛ وعالقات‬
‫جسدت الحرب والديبلوماسية‬ ‫الج ْز َية ‪(tribute system relations‬٭٭)‪ .‬لقد َّ‬
‫نظام ِ‬
‫والتجارة يف النظام الصيني مامرسات وفهو ًما مختلف ًة متا ًما عن تلك املوجودة يف‬
‫(٭) الفوىض أو الالسلطوية ‪ :anarchy‬وهي إحدى األفكار يف الفلسفة السياسية وتعني باختصار وجود مجتمع من‬
‫دون وجود دولة أو حكم يتحكم يف سلوك األشخاص يف هذا املجتمع‪[ .‬املحرر]‪.‬‬
‫(٭٭) للحصول عىل مراجعة ممتازة بشأن كيف وملاذا ترصف وفكر النظام الصيني بتلك الطريقة‪ ،‬انظر (‪Pines‬‬
‫‪[ .)2012‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫مقدمة‬

‫الغرب‪ ،‬وأدى ما ُيصطلح عىل تسميته اآلن بـ «القوة الناعمة» دو ًرا كبريا جدا يف‬
‫ذلك‪ .‬كان ادعاء الصني بأنها ُمُتثل «اململكة الوسطى» تأكيدًا عىل التفوقني الثقايف‬
‫واملادي عىل حد السواء‪ ،‬وأن املامرسة والتفكري الصينيني ال ينسجامن عىل نحو‬
‫مريح مع املفاهيم الغربية مثل‪ :‬القوة الكربى واإلمرباطورية والهيمنة‪ .‬ولو أن حقل‬
‫العالقات الدولية انبثق من التاريخ اإلسالمي ونظريته السياسية‪ ،‬لرمبا كان سريكز‬
‫بداًل من نظام الدول اإلقليمية ذات السيادة‪ .‬وكام ُتظهر‬ ‫أكرث عىل املجتمع العاملي ً‬
‫رحالت ابن بطوطة يف القرن الرابع عرش‪ ،‬فقد امتد مجتمع العامل اإلسالمي من‬
‫إسبانيا إىل الصني؛ وعربه كان ميكن للفرد السفر عىل نحو أكرث أو أقل أمانا‪ ،‬وكان‬
‫ُيعرتف مبكانته واحرتامه عىل طول الطريق (‪.)Mackintosh-Smith, 2002‬‬
‫لقد ظهرت خالل العقود القليلة املاضية أدلة أخرى عىل أن التاريخ الغريب‬
‫كاف بقية العامل‪ ،‬خصوصا مع‬ ‫والنظرية السياسية الغربية ال ميثالن عىل نحو ٍ‬
‫اكتساب دراسة حقل العالقات الدولية شعبية يف جميع أنحاء العامل‪ .‬إذ ُتظهر‬
‫األبحاث الجارية يف حقل العالقات الدولية يف كل من أمريكا الالتينية وأفريقيا‬
‫انفصااًل متزايدًا بني مفاهيم حقل العالقات‬ ‫ً‬ ‫والرشق األوسط وجنوب رشق آسيا‬
‫الدولية السائدة ا ُملط َّورة يف الغرب ‪ -‬مبا يف ذلك مفاهيم الدولة القومية‪ ،‬والقوة‪،‬‬
‫واملؤسسات واملعايري ‪ -‬والحقائق التي ُيدركها ويحللها الباحثون املحليون يف‬
‫تلك املناطق املختلفة‪.‬‬
‫وبالنظر إىل أن حقل العالقات الدولية ُي ْف َرَت ُض أن يكون من أكرث العلوم االجتامعية‬
‫عَالَ ِم َّي ًة‪ ،‬فكيف ظهرت فيه إذن هذا ال ِب ْن َية غري املتوازنة؟ ميكن العثور عىل اإلجابة‬
‫الخاصة بهذا السؤال وإدراك الكيفية التي ميكن عن طريقها أن يعيد حقل العالقات‬
‫الدولية التوازن لنفسه يف الصلة الكامنة بني العالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا‬
‫والعالقات الدولية بوصفها مامرسة عملية خالل القرنني املاضيني‪ .‬فخالل القرن التاسع‬
‫عرش وحتى الحرب العاملية األوىل‪ُ ،‬ن ِّظمت‪ ،‬وعىل نحو مك َّثف‪ ،‬طبيعة العالقات‬
‫الدولية ومامرساتها من خالل عالقة غري متكافئة بحدة بني َم ْر َك ٍز ‪ Core‬صغ ٍري نسب ًيا‬
‫اف ‪ Periphery‬كبرية ولكنها ضعيفة نسب ًيا‪ .‬يتمثل املَ ْر َكز‬ ‫ولكنه قوي جدًا‪ ،‬وأَ ْط َر ٍ‬
‫أساسا يف العامل الغريب باإلضافة إىل اليابان‪ ،‬وقد كانت مامرساته َت ْن َبني عىل الفصل‬
‫رِّضة» التي ش َّكلت املجتمع الدويل‪ ،‬واملجتمعات َ ْ‬
‫«الرَب َب ِر َّية»‬ ‫الجامد بني «الد َولِ ا ُملت ََح ِّ َ‬

‫‪23‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أو «ال َه َم ِج َّية» التي ُيتعامل معها يف األغلب بدرجات من التبعية االستعامرية وال‬
‫ُتعترب جزءا من املجتمع الدويل‪ .‬لقد كان تطور حقل العالقات الدولية خالل هذه‬
‫الفرتة أكرب بكثري مام تشري إليه األسطورة ا ُمل َؤ ِّسسة العائدة إىل العام ‪ .1919‬حيث‬
‫ُط ِّور معظم ُأسس حقل العالقات الدولية الحديث قبل العام ‪ ،1914‬وانعكس هذا‬
‫التط ُّور الحاصل يف «حقل العالقات الدولية قبل تقعيده بوصفه تخصصا معرفيا»‬
‫عىل اهتامماته ومفاهيمه‪ ،‬ليصبح ممثال لنظرة دول املَ ْر َكز (الغرب) تقريبا‪ .‬وعىل‬
‫الرغم من صدمة الحرب العاملية األوىل داخل املَ ْر َكز‪ ،‬فإن ال ِبنية االستعامرية غري‬
‫املتكافئة للغاية لعالقة املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف انتقلت إىل فرتة بني الحربني العامليتني‬
‫من دون تغيري كبري‪ .‬الواقع أن صدمة الحرب وضعت مسألة سالم القوى الكربى‬
‫والحرب يف مركز اهتاممات العالقات الدولية سواء باعتبارها حقال معرفيا أو مامرسة‬
‫تأسيس وتسمي ٍة‬‫ٍ‬ ‫عملية‪ .‬فمنذ العام ‪ 1919‬شهد حقل العالقات الدولية أول عملية‬
‫تهميشا لدول األَ ْط َراف‪ ،‬وهَ َو ًسا بحرب القوى الكربى‬ ‫ً‬ ‫رسمية له‪ ،‬وقد َع َكس ذلك‬
‫ظل الحقل يركز عىل نحو‬ ‫كام توحي بذلك أسطورة التأسيس للعام ‪ .1919‬وقد َّ‬
‫شبه كامل عىل اهتاممات الحرب‪/‬السلم ووجهات النظر األيديولوجية املنقسمة‬
‫همش ًة داخل اإلمرباطوريات‬ ‫الخاصة بدول املَ ْر َكز الغريب‪ ،‬مع بقاء دول األَ ْط َراف ُم َّ‬
‫الغربية واليابانية‪ .‬وطوال هذه الفرتة من الهيمنة الكلية لدول املَ ْر َكز‪ ،‬كانت اآلراء‬
‫حقاًل معرف ًيا‪ /‬مامرس ًة تتطور داخل دول األَ ْط َراف‪.‬‬‫بشأن العالقات الدولية باعتبارها ً‬
‫ونظ ًرا إىل أن عديدا من تلك اآلراء كانت مدفوع ًة بنزعة مناهضة االستعامر‪ ،‬فقد‬
‫ُتجوهلت أو هُ ِّمشت إىل ح ّد بعيد يف خطابات املركزية الغربية املتعلقة بحقل‬
‫العالقات الدولية‪ .‬إذ استُبعدت املستعمرات إىل حد بعيد من املجتمع الدويل يف حد‬
‫ذاته‪ ،‬ومل ُت َش ِّكل تلك املستعمرات جز ًءا كب ًريا من اهتاممات حقل العالقات الدولية‬
‫خالل هذه الفرتة ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫خالل حقبة الحرب الباردة‪ /‬إنهاء االستعامر‪ ،‬وحتى العام ‪ ،1989‬كان بنا ُء‬
‫«املركز ‪ -‬األطراف» ذو الطابع املتطرف هذا‪ ،‬والخاص بالعالقات الدولية بوصفها‬
‫حقال معرفيا‪/‬مامرس ًة‪ ،‬قد رشع بالتغري‪ .‬فبعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬ويف الفرتة‬
‫الواقعة بني منتصف األربعينيات ومنتصف السبعينيات من القرن املنرصم‪ ،‬أدى‬
‫إنهاء االستعامر إىل الدفع بدول األَ ْط َراف بأكملها تقري ًبا نحو عضوية رسمية يف‬
‫‪24‬‬
‫مقدمة‬

‫املجتمع الدويل بحيث تكون عىل قدم املساواة من ناحية السيادة‪ .‬يف الوقت‬
‫تأسيس ثانية‪ ،‬مع‬ ‫ٍ‬ ‫نفسه خضع حقل العالقات الدولية لِام عُ دَّ يف الواقع عملية‬
‫زيادات هائلة يف حجم الطابع ا ُمل َؤ َّس ِيِس ا ُمل ْضفى عىل هذا التخصص املعريف‪ .‬لقد‬
‫أدى مسار نزع الرشعية عن االستعامرية وعدم املساواة بني البرش إىل تحوالت‬
‫رئيسة يف العالقات الدولية‪ ،‬وكانت لذلك انعكاسات إىل حد ما عىل حقلها املعريف‪.‬‬
‫كام أصبح العامل الثالث ودراسات التنمية يشكالن جز ًءا من الربنامج الدرايس‬
‫لحقل العالقات الدولية‪ ،‬وبدأت أفكا ٌر من العامل الثالث؛ مثل نظرية التبعية وما‬
‫بعد االستعامرية‪ ،‬يف اقتحام التيار السائد لهذا التخصص‪ .‬لكن العالقات الدولية‬
‫بوصفها حقال معرفيا‪ ،‬وإىل حد ما بوصفها مامرسة‪ ،‬ظلت عىل رغم ذلك ُمركزة‬
‫عىل نحو كبري عىل اهتاممات ورؤى املَ ْر َكز الغريب‪ .‬وقد حدث هذا جزئ ًيا بعد‬
‫العام ‪ 1947‬بسبب استمرار هاجس حرب القوى الكربى الذي هيمن عىل فرتة‬
‫ضخ ِم هذا الهاجس بسبب خطر نشوب حرب نووية بني‬ ‫بني الحربني العامليتني‪ ،‬و َت ُّ‬
‫القوتني العظميني املتنافستني‪ .‬فالحرب النووية العاملية قد ال تدمر الحضارة فقط‪،‬‬
‫بل البرشية جمعاء‪ ،‬ولذلك كان االهتامم مبثل هذه القضايا ُيشكل أولوية ُم َ َّرَب َر ًة‪.‬‬
‫والحال أن دول األَطْرَاف؛ عىل رغم تَحَرُّرِهَا سياسيًا عىل نحو رسمي‪ ،‬ظ ّلت ضعيفة‬
‫من الناحية االقتصادية وخاضع ًة لقوى املَ ْر َكز‪ ،‬أي خاضع ًة للدول الغربية واليابان‬
‫عىل نحو أسايس‪ .‬وعىل الرغم من أن العامل الثالث كان لديه بعض هامش املناورة‬
‫اخرُتق بش ّدة من خالل منافسة الحرب الباردة الدائرة بني‬ ‫يف السياسة العاملية‪ ،‬فإنه ُ‬
‫الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي‪ .‬لذلك‪ ،‬وعىل رغم أن حقل العالقات الدولية‬
‫دمج دول األَ ْط َراف ضمن اهتامماته البحثية‪ ،‬فإنه اضطلع بذلك وفق منظور دول‬
‫فإن ِمنظار هذا الحقل املعريف ا ُمل َو َّجه إىل العامل‬ ‫املَ ْر َكز عىل نحو أسايس‪ ،‬ومن ثم ّ‬
‫الثالث وأحداثه لن يتم إال من خالل عدسات القوى الكربى وأجندتها‪ .‬يعكس‬
‫أيضا الهيمنة الفردية للواليات املتحدة داخل حقل العالقات الدولية‬ ‫هذا التوجه ً‬
‫أيضا من حيث السيطرة عىل التمويل‬ ‫ليس من حيث األرقام الهائلة فقط‪ ،‬ولكن ً‬
‫واملجالت والجمعيات األكادميية واملناقشات النظرية الحاصلة يف َم ْر َكز هذا املجال‬
‫املعريف‪ .‬ولذلك‪ ،‬ليس من املستغرب أن يعكس حقل العالقات الدولية األمرييك‬
‫(التخصص املعريف) العالقات الدولية للواليات املتحدة األمريكية (املامرسة)‪ :‬أي‬
‫‪25‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أنه يعكس اهتاممات الواليات املتحدة ومصالحها بشأن الحرب الباردة واالقتصاد‬
‫العاملي واالصطفاف األيديولوجي للعامل الثالث‪.‬‬
‫لن يبدأ هذا االختالل بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف يف العالقات الدولية بوصفها حقال‬
‫معرفيا‪ /‬مامرس ًة يف االنهيار حتى نصل إىل عامل ما بعد العام ‪ ،1989‬أي يف فرتة‬
‫ما بعد نهاية الحرب الباردة وإنهاء االستعامر‪ .‬فخالل فرتة التسعينيات ُحوفظ‬
‫عىل عدم التوازن هذا فرتة وجيزة‪ ،‬بينام حاولت العالقات الدولية بوصفها‬
‫حقال معرفيا ومامرس ًة استكشاف عواقب ظهور نظام القطبية األحادية بزعامة‬
‫الواليات املتحدة وعوملة العامل‪ .‬لكن ذلك الوضع رسعان ما انهار تحت ضغوط‬
‫مثااًل عىل ما يسميه فريد‬ ‫مختلفة‪ .‬وكان صعود الصني‪ ،‬وبدرجة أقل الهند وغريها‪ً ،‬‬
‫«ص ُعو ِد ال َب ِق َّية» ‪ .the rise of the rest‬وبحلول‬‫زكريا )‪ (Fareed Zakaria 2009‬بـ ُ‬
‫أوائل القرن الحادي والعرشين‪ ،‬كانت فجوة الرثوة والقوة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف؛‬
‫والتي جاءت نتيج ًة إلرث التنمية غري املتكافئة واملشرتكة التي أَ ْف َضت إليها ثورات‬
‫الحداثة خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬تتآكل عىل نحو واضح‪ .‬إذ حولت الواليات املتحدة‬
‫اهتامماتها األمنية يف البداية نحو مجموعة من «الدُ َولِ املَا ِر َقة» يف العامل الثالث‪،‬‬
‫ثم حولته‪ ،‬بعد العام ‪ ،2001‬نحو اإلرهاب العاملي الذي تعود جذوره يف األغلب إىل‬
‫األولنْي من القرن الحادي والعرشين‪ ،‬وخاصة بعد‬ ‫دول العامل الثالث‪ .‬خالل العقدين ْ‬
‫األزمة االقتصادية التي بدأت يف العام ‪ ،2008‬كان الصعود الصيني يلوح يف األفق‬
‫عىل نحو متزايد باعتباره التحدي الرئيس لهيمنة الواليات املتحدة عىل العالقات‬
‫الدولية‪ .‬ويف الوقت نفسه شهد حقل العالقات الدولية توس ًعا‪ ،‬حيث ُأضفي عليه‬
‫الطابع ا ُمل َؤ َّس ِيِس يف عديد من البلدان‪ .‬وقد احتفظت الواليات املتحدة بهيمنتها يف‬
‫الجانب املعريف للعالقات الدولية أكرث منه يف الجانب املامريس العميل‪ ،‬غري أنها‬
‫نواح عديدة خاصة عىل مستوى‬ ‫كانت تواجه تحد ًيا من ِقبل أوروبا وآسيا من ٍ‬
‫نظرية العالقات الدولية؛ واملؤسسات؛ والجمعيات األكادميية؛ واملجالت العلمية‬
‫(‪.)Acharya and Buzan, 2007a, b, 2017; Buzan and Hansen, 2009‬‬
‫ظل حقل العالقات الدولية الغريب مبنظوره املَ ْر َك ِزي هو ا ُملسيطر‪ .‬لكن عديدا من‬ ‫َّ‬
‫املنظورات األخرى كانت تحاول ‪ -‬وعىل نحو متزايد ‪ -‬إقحام تواريخها وفلسفاتها‬
‫األسس التاريخية والفلسفية لحقل العالقات الدولية‪.‬‬ ‫الخاصة ُبغية توسيع ُ‬
‫السياسية ّ‬
‫‪26‬‬
‫مقدمة‬

‫وبحلول العام ‪ ،2017‬كان من الواضح ‪ -‬عىل نحو متزايد ‪ -‬أن الهيمنة العاملية‬
‫للغرب عىل العالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا‪/‬مامرس ًة بدأت يف التاليش‪ .‬حيث‬
‫ظهر نظام عاملي ما بعد غريب مل يعد يشكل فيه الغرب املَ ْر َكز الوحيد أو املهيمن‬
‫عىل الرثوة والقوة والرشعية الثقافية‪ .‬وعىل رغم ذلك فإن إرث الهيمنة الغربية؛‬
‫خصوصا يف الحقل املعريف للعالقات الدولية‪ ،‬استمر فرتة أطول مام كان عليه يف‬
‫العامل الحقيقي للعالقات الدولية بوصفها مامرسة‪.‬‬
‫وألخذ صورة عامة عن تطور ا ُمل ْج َت َم ِع ِ‬
‫الدويِل ال َعالَ ِمي ‪Global International‬‬
‫بتحقيب لفرتة زمنية واسعة‬ ‫ٍ‬ ‫)‪ Society (GIS‬عىل مدى القرنني املاضيني‪ ،‬سنستعني‬
‫األ َ‬
‫وىَل‬ ‫طوره باري بوزان ‪ Buzan‬وسكوينبورغ )‪« :(Schouenborg 2018‬الصي َغة ُ‬
‫الدويِل ال َعالَ ِمي» ‪ ،version 1.0 GIS‬وهي مبنزلة التأسيس األول‬ ‫ِ‬ ‫للم ْج َت َم ِع‬
‫ُ‬
‫للعالقات الدولية الحديثة بوصفها مامرسة ‪ ،ir‬الذي أخذ شكل االستعامر الغريب‬
‫وىَل‬‫األ َ‬ ‫الصي َغة ُ‬
‫(من القرن التاسع عرش حتى العام ‪)1945‬؛ «التعديل األول عىل ِ‬
‫الدويِل ال َعالَ ِمي» ‪ ،version 1.1 GIS‬والذي يش ِّكل ا ُملراجعة الرئيسة‬ ‫ِ‬ ‫للم ْج َت َم ِع‬
‫ُ‬
‫األوىل التي أنهت االستعامر ولكنها حقبة التزال تشهد هيمنة دول املَ ْر َكز بحيث‬
‫الصي َغة‬ ‫شكاًل غرب ًيا عامل ًيا (‪)2008-1945‬؛ ظهور «التعديل الثاين عىل ِ‬ ‫تأخذ ً‬
‫الدويِل ال َعالَ ِمي» ‪ version 1.2 GIS‬بعد العام ‪ ،2008‬ويف هذا‬ ‫ِ‬ ‫للم ْج َت َم ِع‬
‫األوىل ُ‬
‫التعديل ستفسح الهيمنة الغربية الطريق عىل نحو متزايد أمام االنتقال إىل‬
‫شكل تعددي عميق يتضمن عديدا من مراكز الرثوة والقوة والرشعية الثقافية‪.‬‬
‫سنستخدم هذا املسار التاريخي للعالقات الدولية بوصفها مامرسة ‪ ،ir‬من‬
‫حيث العالقة املتغرية بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ ،‬ليكون انطالقة للتفكري يف الطريق‬
‫الذي يحتاج حقل العالقات الدولية ‪ IR‬إىل سلوكه اآلن ليك يصبح أكرث عَالَ ِم َّي ًة‬
‫«ص ُعو َد ال َب ِق َّية»‪ .‬وهذا يعني من بني أمور أخرى إيالء مزيد من‬ ‫بحيث يعكس ُ‬
‫االهتامم للتاريخ عىل الصعيد املحيل باإلضافة إىل التاريخ الغريب‪ ،‬وأيضا تاريخ‬
‫العامل الذي ُروِيَ من منظور عاملي‪ .‬إن التفكري يف العالقات الدولية انطالقا من‬
‫ثقافات اآلخرين وتواريخهم يحتاج إىل أن ُيقحم يف كل من الرسديات التاريخية‬
‫ومسارات التنظري‪ .‬إذ يجب عىل تلك الرسديات التاريخية أن تأخذ بعني االعتبار‬
‫املظامل التاريخية ا ُملوجهة ضد دول املَ ْر َكز القديم (الغرب) والتي التزال موجودة‬
‫‪27‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف كثري من دول األَ ْط َراف القدمية‪ُ ،‬مستمرة بذلك يف تسميم العالقات الدولية‬
‫بوصفها حقال معرفيا وتشويهها بوصفها مامرسة عملية‪.‬‬
‫ومن أجل الوقوف عىل التطور العاملي للعالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا‪،‬‬
‫سنعتمد النظرة الواسعة نفسها ملا ُي َعدُّ «تفك ًريا بشأن حقل العالقات الدولية»‪،‬‬
‫متا ًما مثلام فعلنا يف عملنا السابق (‪.)Acharya and Buzan 2007a, b, 2010‬‬
‫ً‬
‫نشاطا للقادة‬ ‫لقد كان التفكري بشأن العالقات الدولية يف مراحله األوىل ُيشكل‬
‫السياسيني واملثقفني العامني بقدر ما كان يشكل أيضا ً‬
‫نشاطا لألكادمييني‪ .‬الواقع‬
‫نشاطا أكادمي ًيا أساسيا‪ ،‬حتى يف الغرب‪ ،‬إال بعد‬ ‫أن حقل العالقات الدولية مل يصبح ً‬
‫العام ‪ ،1945‬لينتقل بعد ذلك التاريخ إىل العامل الثالث‪ .‬سنتناول هذا التفكري غري‬
‫األكادميي بشأن حقل العالقات الدولية عىل محمل الجد بوصفه جزءا من تاريخ‬
‫هذا التخصص املعريف‪ ،‬و ُنظهر كيف شكل هذا ال َت ْف ِك ُري التطورات األكادميية الالحقة‬
‫كل من دول املَ ْر َكز ودول األَ ْط َراف‪ .‬وضمن حقل العالقات الدولية األكادميي‬ ‫يف ٍّ‬
‫أيضا نظرة موسعة ملا ميكن اعتباره‬ ‫الذي تطور منذ الحرب العاملية الثانية‪ ،‬سنقدم ً‬
‫ستفيضا عن هذا املوضوع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫«نظرية»‪ .‬إذ سيتضمن الفصل الثاين نقاشا ُم‬
‫إن لكل هذا تبعات عىل كيفية تدريس هذا الحقل املعريف وكيفية إضفاء‬
‫نقاشا لكامل تخصص‬ ‫الطابع املؤسيس عليه‪ .‬نحن نأمل أن يفتح هذا الكتاب ً‬
‫العالقات الدولية بخصوص كيف وملاذا يحتاج هذا الحقل إىل االنتقال من‬
‫حقاًل معرف ًيا ذا خاصية َم ْر َكزية غربية أنجلوساكسونية يف األساس‪ ،‬إىل أن‬ ‫كونه ً‬
‫حقاًل معرف ًّيا عامل ًّيا ح ًّقا‪ ،‬ومن هنا َتأَ َّىَّت ُمصطلح «حقل ال َع َال َقات الدولية‬
‫يصبح ً‬
‫ال َعالَ ِمي» (‪.)Global IR Acharya 2014a‬‬
‫الحجة املوضحة أعاله يف شكل خمسة أزواج من الفصول‪ُ ،‬يغطي‬ ‫لقد ُنظمت ُ‬
‫كل زوج منها فرتة زمنية واحدة‪ :‬فرتة القرن التاسع عرش حتى العام ‪1919‬؛ فرتة‬
‫‪1945-1919‬؛ فرتة ‪1989-1945‬؛ فرتة ‪ ،2017-1989‬لنتطلع بعدها إىل فرتة ما‬
‫بعد العام ‪ .2017‬يتناول الفصل األول ا ُملتكون من جزأين التاريخ الدويل ملامرسة‬
‫العالقات الدولية ‪ ir‬املتعلقة بتلك الفرتة‪ ،‬ويوضح الفصل الثاين تطور العالقات‬
‫تخصصا معرف ًّيا ‪IR‬؛ وكيف ارتبط هذا التطور بتاريخ عرصه‪ .‬وكام‬ ‫ً‬ ‫الدولية باعتبارها‬
‫لوحظ أعاله‪ ،‬فإن حجتنا تتمثل يف أن أحداث تاريخ العامل وضعت كثريا من األجندة‬
‫‪28‬‬
‫مقدمة‬

‫خاضع‬
‫ٌ‬ ‫البحثية التي يتناولها حقل العالقات الدولية‪ .‬إن حقل العالقات الدولية‬
‫أيضا طريقا ذا اتجاهني‪ .‬فحقل‬‫إىل حد ما لتأثري األحداث الجارية‪ .‬غري أنه يشكل ً‬
‫العالقات الدولية يحاول التحكم يف هذا الواقع ا ُملتَغري‪ ،‬وإعطاء األولوية لبعض‬
‫املسائل عىل حساب مسائل أخرى‪ ،‬وإضافة تسميات ومفاهيم مثل القطبية الثنائية‬
‫والعوملة واملجتمع الدويل‪ ،‬وهي أشياء تؤثر بدورها يف كيفية فهم الناس للعامل الذي‬
‫يعيشون فيه‪ ،‬ومن ثم فهي ُت َش ِّكل طريقة َت َ ُّ‬
‫رَص ِفهم‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫‪1‬‬

‫العامل حتى العام ‪:1919‬‬


‫تشكيل العالقات الدولية‬
‫احلديثة‬

‫مقدمة‬
‫إذا كان حقل العالقات الدولية بوصفه تخصصا‬
‫معرفيا ‪ IR‬قد بدأ يف الظهور يف العام ‪ 1919‬مثلام‬
‫تؤكد ذلك األسطورة ا ُملتعا َرف عليها‪ ،‬فإننا سنظل‬
‫بحاجة إىل الرجوع إىل القرن التاسع عرش لرنى كيف‬
‫ساهم التاريخ الدويل يف صياغة الت ََش ُّك ِل األويل لهذا‬
‫الحقل‪ .‬الواقع أن‪ ،‬وكام سنحاجج بذلك يف الفصل‬
‫الثاين‪ ،‬جذور حقل العالقات الدولية ليست وحدها‬
‫هي التي متتد إىل أعامق القرن التاسع عرش‪ ،‬ولكن‬
‫أيضا مامرسة التفكري الحديث املرتبطة بهذا‬ ‫مثة ً‬
‫الحقل املعريف‪ ،‬مام يعني أننا بحاجة إىل فهم أحداث‬
‫القرن برمته من أجل فهم َنشأة هذا الحقل املعريف‪.‬‬ ‫«دعمت النزعة القومية مسار االنتقال‬
‫يكشف هذا الفصل عن أربعة مواضيع أساسية‬ ‫من وضعية الرعية إىل وضعية املواطن‪،‬‬
‫ومن النزعة الساللية يف الحكم إىل‬
‫متاميزة ولكنها مرتابطة فيام بينها بشكل وثيق‪:‬‬ ‫السيادة الشعبية»‬

‫‪31‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 1‬تأثري ثورات الحداثة يف العالقات الدولية‪.‬‬


‫‪ - 2‬إِرساء ا ُمل ْج َت َم ِع ال َد ْو ِيِل ْ‬
‫االس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب الهرمي وردود األفعال الناشئة ضده‪.‬‬
‫«ص ُعو ِد ال َب ِقية»‪.‬‬
‫‪ - 3‬صعود اليابان بوصفه أول تحرك كبري نحو ُ‬
‫‪ - 4‬صدمة الحرب العاملية األوىل‪.‬‬

‫‪ - 1‬تأثري الحداثة يف العامل‬


‫يحاجج باري بوزان وجورج الوسون (‪Barry Buzan and George Lawson‬‬
‫‪ (2015a‬بأن ثورات الحداثة خالل القرن التاسع عرش غريت ما كان ُيش ِّكل نظا ًما‬
‫دول ًيا تهيمن عليه اإلمرباطوريات الساللية والزراعية‪ ،‬ووضعت األسس ملجموعة‬
‫من األفكار والفواعل واألنظمة واملسارات التي التزال تحدد حقل العالقات الدولية‬
‫اليوم‪ .‬ويعتمد هذا القسم عىل ذلك التحليل من أجل رسم صورة تحوالت املشهد‬
‫املادي والفكري للعالقات الدولية(٭)‪.‬‬

‫‪ - 1 - 1‬املشهد الفكري‬
‫من الناحية الفكرية‪ ،‬متكنت ثورات الحداثة من إزاحة األسس املفاهيمية‬
‫للعامل الزراعي التقليدي‪ .‬لقد هيمنت أفكار الدين والنزعة الساللية‬
‫‪dynasticism‬؛ املرتابطني أحدهام باآلخر بشكل وثيق‪ ،‬عىل الرشعية السياسية‬
‫حتى القرن التاسع عرش‪ ،‬مام جعل من اإلِ ْق ِلي ِمية فكرة مائعة إىل حد ما‪ ،‬ومن‬
‫اإلمرباطورية ً‬
‫شكاًل سياس ًيا جذا ًبا ومستمرا يف كثري من األحيان‪ .‬وقد استُكمل هذا‬
‫بالتفكري االقتصادي الذي هيمنت عليه املريكانتيلية ‪ :mercantilism‬وهي الفكرة‬
‫القائلة بأن التصدير بالنسبة إىل أي دولة أفضل بكثري من االسترياد‪ ،‬وأن الرقابة‬
‫حصل عليها عن طريق املصادرة املبارشة إذا لزم‬ ‫االحتكارية عىل العرض‪ ،‬والتي ُي َ‬
‫األمر‪ ،‬أفضل من التجارة املفتوحة‪ .‬كانت السيادة‪ ،‬عىل األقل يف أوروبا‪ ،‬فكرة‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثي ًقا باملَ ِلك‪ ،‬ومن ثم بالنظام الساليل‪ .‬وكان‬ ‫راسخة‪ ،‬لكنها كانت مرتبطة‬
‫(٭) يجب عىل القراء الراغبني يف مزيد من التفاصيل ومراجع أعمق الرجوع إىل هذا العمل‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬
‫)‪(Bary Buzan and George Lowsan 2015a‬‬

‫‪32‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫هذا نظا ًما من املفرتض أن َت ْع ِر َف فيه الطبقات والرتب املختلفة مواقعها داخل‬
‫املجتمعات‪ ،‬ومن ثم املكوث يف تلك املواقع‪ .‬وهكذا‪ ،‬كانت الفرصة تتشكل أساسا‬
‫عن طريق الحق ا ُملكتسب باملولد‪.‬‬
‫خالل القرن التاسع عرش الطويل (‪ ،)1914-1776‬أفسح هذا النظام من‬
‫األفكار واملامرسات املجال عىل نحو متزايد ألربع أيديولوجيات تقدمية‪ :‬الليربالية؛‬
‫واالشرتاكية؛ والقومية؛ والعنرصية العلمية‪ .‬لقد غريت هذه األيديولوجيات األربع‬
‫معاين الحرب؛ واإلقليمية؛ والطبقة؛ والرشعية السياسية؛ والسيادة؛ والقانون؛ والهوية‬
‫الفردية والجامعية‪ ،‬والتجارة‪ .‬ودعمت تلك األيديولوجيات العالقات الدولية الحديثة‪،‬‬
‫وأعادت تعريف ما كانت تهتم به تلك العالقات‪ ،‬كام أعادت تعريف من ميارسها‬
‫وكيف ميارسها‪ .‬وخلفت هذه األيديولوجيات األربع العديد من التناقضات يف داخلها‬
‫وفيام بينها‪ ،‬وأيضا مع األفكار التقليدية التي كانت َت ِحل َمحلها‪ .‬حيث شكل العمل‬
‫ببعض هذه التناقضات ُمحر ًكا رئيسا للحروب العاملية الثالث يف القرن العرشين‪.‬‬
‫ارتبطت الليربالية بربيطانيا‪ ،‬املجتمع الرائد لثورات الحداثة‪ .‬وقد تطورت إىل شكل‬
‫حزمة ُمعقدة من املفاهيم التي تعود جذورها إىل فكرتني مركزيتني‪ :‬أن حقوق الفرد‬
‫يجب أن تكون ركيزة املجتمع والسياسة؛ وأن آلية األسواق املفتوحة نسب ًيا يجب أن‬
‫تكون املبدأ األسايس إلدارة االقتصاد‪ .‬وكانت هاتان الفكرتان تدعم إحداهام األخرى‬
‫إىل حد أن األسواق استلزمت أن يكون لألفراد الحق يف حيازة أمالك خاصة وحرية‬
‫االبتكار والتفاعل‪ ،‬وأن تلك الفردانية بدورها ستتعزَّز يف املقابل من خالل آلية األسواق‬
‫واملِ ْل ِكية الخاصة‪ .‬وليك تشتغل هذه الحزمة عىل الصعيدين االقتصادي والسيايس‪،‬‬
‫يجب أن يكون األفراد متعلمني‪ .‬سيصبح الرعايا مواطنني يتمتعون‪ ،‬وعىل نحو جامعي‪،‬‬
‫بالحق يف تقرير املصري‪ .‬وسيتمخض كل هذا عن َت ْر ِكيز عىل مفاهيم الجديروقراطية‬
‫بداًل من الرتكيز عىل مفهوم الحق ا ُملكتسب باملولد‪.‬‬‫‪(Meritocracy‬٭) والعقالنية ً‬
‫وهكذا‪ ،‬هاجمت الليربالية العديد من أسس النظام التقليدي‪ .‬فقد قوضت‬
‫كتسب باملولد وال ِبني َة الطبقي َة الجامدة‪،‬‬
‫َ‬ ‫اطية الحق ا ُمل‬‫الفردانية والجديروقر ُ‬
‫ُ‬
‫(٭) مرييتوقراطية أو جديروقراطية وتعني حكم الجدارة‪ ،‬وهو نظام إداري وسيايس ُتسند فيه التكليفات‬
‫واملسؤوليات إىل األفراد عىل أساس «استحقاقهم» القائم عىل ذكائهم وشهاداتهم ودرجة تعليمهم وكفاءتهم‪ ،‬التي‬
‫ُتقاس عن طريق التقييم أو االختبارات‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫و َدعَت األفراد إىل السعي إىل الرثوة والسلطة وف ًقا لقدراتهم‪ .‬وق َّوضت الرتكيبة‬
‫أيضا؛ إىل جانب الحق يف تقرير املصري‪،‬‬ ‫نفسها (الفردانية والجديروقراطية) ً‬
‫الساللية والدور السيايس للدين‪ .‬فقد دفعت النزعة الفردانية‬ ‫كال من النزعة ُ‬
‫بالتوجه نحو السيادة الشعبية‪ :‬مبعنى أن ِم ْل ِكية الدولة تكون من ِقبل الشعب‬
‫وليس من ِقبل املَ ِل ْك‪ .‬ومن املحتمل أن تكون هذه الفكرة قد سحبت بعض‬
‫الدعائم من تحت بساط الرشعية اإلمرباطورية‪ ،‬عىل الرغم من أن املامرسات‬
‫الليربالية‪ ،‬وخاصة فيام تعلق بالجديروقراطية‪ ،‬استوعبت بسهولة اإلمربيالية‬
‫أيضا نحو‬‫الجديدة ألواخر القرن التاسع عرش‪ .‬كام دفعت النزعة الفردانية ً‬
‫استيعاب الدين أو خصخصته وتقليص دوره يف السياسة‪ .‬إن األفكار الليربالية‬
‫بشأن السوق تتعارض بشكل مبارش مع املريكانتيلية‪ ،‬حيث تتطلع إىل جعل‬
‫السعي وراء الرثوة والتنمية ُم َبارا ًة إيجابية‪ً ،‬‬
‫بداًل من كونها ُم َبارا ًة صفرية‪ .‬وقد‬
‫أيضا بعض الدعائم الفكرية من تحت بساط الرشعية اإلمرباطورية‪.‬‬ ‫سحب هذا ً‬
‫وبرغم أن الفردانية الليربالية مرتبطة اآلن بالدميوقراطية‪ ،‬فإن هذا مل يكن‬
‫كذلك خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬إذ كان أي تفكري يف منح الناس حق التصويت‬
‫يشرتط بشدة وجود ِم ْل ِك َية ومؤهالت تعليمية‪ ،‬كام كان ال يحق للنساء التقدم‬
‫للتصويت؛ إذ إن أولئك الرجال الذين أثبتوا «جدارتهم» هم فقط من ميلكون‬
‫حق التصويت‪.‬‬
‫أما االشرتاكية فقد ظهرت بوصفها رد فعل عىل تجاوزات مامرسات‬
‫الرأساملية الليربالية‪ .‬وهي تتشارك يف الكثري من النقاط مع الليربالية‪ ،‬مبا يف‬
‫ذلك الن ُفور من النزعة الساللية يف الحكم والدين والحق ا ُملكتسب باملولد‪ .‬لقد‬
‫أيضا حل النظام الطبقي‪ ،‬وتعليم الناس‪ ،‬وتشجيع العقالنية‪،‬‬ ‫أراد االشرتاكيون ً‬
‫والسامح بالتنقل بني الطبقات‪ ،‬ونقل الناس من وضعهم بوصفهم رعايا ليك‬
‫يصبحوا مواطنني‪ .‬غري أن االشرتاكيني كانوا حريصني عىل الجامعة الوطنية أكرث‬
‫بداًل من الجدارة‪ ،‬وعىل قيادة الدولة‬ ‫من اهتاممهم بالفردانية‪ ،‬وعىل املساواة ً‬
‫بداًل من آلية السوق‪ .‬لقد نظروا إىل املِ ْل ِكية الخاصة والسوق عىل أنهام‬ ‫لالقتصاد ً‬
‫متثالن وسيلتني لالستغالل وليستا وسيلتني للتمكني‪ .‬ويف حني رأى الليرباليون‬
‫أن مثة انسجا ًما بني املصالح‪ ،‬ركز االشرتاكيون عىل مسائل االستغالل والرصاع‬
‫‪34‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫الطبقي‪ .‬لقد نظروا إىل انعكاسات الجديروقراطية الليربالية‪ ،‬والرأساملية‪،‬‬


‫وإىل ح ٍد ما‪ ،‬التجارة الحرة‪ ،‬عىل أنها انعكاسات ُم ْن ِت َج ٌة لحاالت ُمتطرفة غري‬
‫مقبولة من الفقر وعدم املساواة‪ .‬حيث متسك االشرتاكيون باإلمكانات السياسية‬
‫الجديدة التي أنتجتها نزعة التصنيع يف شكل بروليتاريا صناعية موسعة‪ .‬لقد‬
‫توزيع أكرث ً‬
‫عدْاًل لثامر الرأساملية‪ ،‬وإما‪ ،‬يف صيغة أكرث تطر ًفا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫سعوا إما إىل‬
‫إىل استبدال الرأساملية باقتصاديات ُتحكم و ُتدار من طرف الدولة‪ .‬وكان لكل‬
‫من الليربالية واالشرتاكية وجهات نظر متناقضة بشأن الدولة‪ ،‬حيث اعتنق‬
‫البعض تلك األيديولوجيات عىل أساس أنها متثل الشكل السيايس املرغوب فيه‪،‬‬
‫يف حني اعتنق البعض اآلخر وجهات نظر أكرث كوزموبوليتانية‪ .‬كانت الليربالية‬
‫واالشرتاكية متناقضتني بشأن الشكل السيايس أيضا‪ .‬فليرباليو القرن التاسع عرش‬
‫مل يكونوا دميوقراطيني بالرضورة حينام أعطوا وز ًنا ملفهوم الجديروقراطية‪ ،‬أما‬
‫االشرتاكيون‪ ،‬وبينام كانوا يضغطون من أجل الحصول عىل امتيازات أوسع‪ ،‬فقد‬
‫كانوا يتقسمون نحو اتجاهات دميوقراطية وسلطوية‪.‬‬
‫أما فيام تعلق بالنزعة القومية‪ ،‬فقد تزامن ظهورها مع الثورة الفرنسية‪ ،‬وكانت‬
‫فكرتها األساسية َت ْن َب ِني عىل تعريف الناس بشكل أسايس من ناحية اللغة والثقافة‬
‫والعرق والتاريخ املشرتك‪ ،‬ومن ثم جعل الهوية الجامعية الناتجة عن ذلك هي‬
‫األساس الرئيس الذي تقوم عليه الرشعية السياسية‪ .‬لقد استمد الفرنسيون الكثري‬
‫جيوشا ضخمة‬‫ً‬ ‫من القوة العسكرية من جراء هذه الخطوة‪ ،‬حيث حشدوا وحفزوا‬
‫ضغطا كب ًريا لدى اآلخرين ليك يحذوا حذوهم‪ .‬لقد دعمت‬ ‫من املواطنني‪ ،‬مام خلق ً‬
‫النزعة القومية مسار االنتقال من وضعية الرعية إىل وضعية املواطن‪ ،‬ومن النزعة‬
‫الساللية يف الحكم إىل السيادة الشعبية‪ ،‬عىل الرغم من أن بعض الم َ َل ِك َّيات متكنت‬
‫من تكييف نفسها وتضمني تلك املفاهيم‪ .‬كام عززت تلك املفاهيم الدولة بقوة‬
‫من خالل الدفع بتزاوج فكرة الدولة مع فكرة األمة‪ ،‬غري أنها عطلت بشدة األشكال‬
‫اإلقليمية القامئة خاصة اإلمرباطوريات‪ .‬فالقومية أدت دور الغراء الذي حافظ عىل‬
‫متاسك الكيانات السياسية الساللية املتباينة داخل أملانيا وإيطاليا‪ ،‬لكنها أدت دور‬
‫ا ُملذيب للغراء الذي كان ُيبقي عىل اإلمرباطوريات متعددة الجنسيات متامسكة‪.‬‬
‫كام أن القومية سببت اختالق إشكالية بالنسبة إىل الواليات املتحدة باعتبارها دولة‬
‫‪35‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ناشئة‪ ،‬حيث واجهت يف البداية صعوبة يف متييز نفسها عن الهوية الربيطانية من‬
‫تلك النواحي(٭)‪ .‬فمن خالل ابتكارها لهوية جامعية قوية‪ ،‬مل تقدم القومية فقط‬
‫طري ًقا للتغلب عىل ال َّن َزعَات املحلية وخلق مجتمع واسع النطاق مثلام تتطلبه‬
‫ثقاًل مواز ًنا للسياسات الطبقية الجديدة املثرية‬ ‫أيضا ً‬‫الثورة الصناعية‪ ،‬بل قدمت ً‬
‫لالنقسام التي فتحتها الثورة الصناعية‪ ،‬كام قدمت الطرق الليربالية واالشرتاكية‬
‫للتعامل مع تلك السياسات‪ .‬إذ ميكن للقومية من الناحية التجارية أن متيض يف‬
‫أيضا أن تسري من‬ ‫أي من االتجاهني‪ ،‬سواء أكان اتجاها ليرباليا أم حامئيا‪ ،‬وميكنها ً‬
‫الناحية السياسية يف أي اتجاه‪ ،‬أي أن بإمكانها دعم األنظمة الدميوقراطية كام ميكنها‬
‫دعم األنظمة السلطوية ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫لقد أصبحت العنرصية العلمية ‪ Scientific Racism‬توج ًها أيديولوج ًيا قو ًيا‬
‫للحداثة بني منتصف القرن التاسع عرش ومنتصف القرن العرشين‪ .‬وكام يشري‬
‫دونكان بيل )‪« :(2013: 1‬خالل العقود القليلة األوىل من القرن العرشين‪ ،‬كان‬
‫العرق ُي َعد عىل نطاق واسع وعىل نحو رصيح وحدة أنطولوجية أساسية للسياسة‪،‬‬
‫ورمبا الوحدة األساسية عىل اإلطالق»‪ .‬نشأت العنرصية العلمية بشكل أسايس من‬
‫مزيج مكون من ثالثة أشياء‪ :‬املخططات التصنيفية التي كانت تحدد علم األحياء؛‬
‫وانتقال مبدأ «البقاء لألصلح» من علم األحياء إىل املجتمع (الداروينية االجتامعية)؛‬
‫واملواجهات غري املتكافئة عىل نحو كبري التي كانت تحدث بشأن العامل بني الدول‬
‫«الرَب َب ِر َّية» أو «ال َه َم ِج َّية»‪ .‬فرؤية تلك الجامعات‬
‫رِّضة» والشعوب َ ْ‬ ‫األوروبية «ا ُملت ََح ِّ َ‬
‫رضة‪ ،‬ورؤيتها لبقية الجامعات األخرى عىل أنها َب ْر َب ِر َّية‬ ‫البرشية لنفسها عىل أنها ُمت ََح َ‬
‫مل تكن باليشء الجديد‪ .‬لكن هذه املامرسة القدمية والعاملية إىل حد ما كانت تستند‬
‫أساسا إىل أحكام بشأن الثقافة ودرجة التحرض‪ .‬وضمن هذا الشكل من التمييز‪ ،‬كان‬ ‫ً‬
‫مثة مجال للحراك االجتامعي‪ .‬إذ ميكن للناس الرفع من مستوى ثقافتهم أو تبني‬
‫ثقافة مجموعة أكرث حضارة‪ .‬لقد أسهمت العنرصية «العلمية» بشكل أو بآخر يف‬
‫تعطيل هذا التنقل‪ .‬فإذا كانت الدونية والتفوق شيئني وراثيني‪ ،‬فحينئ ٍذ تكون مثة‬
‫وض ٍع‬ ‫ً‬
‫تسلساًل هرم ًيا عرق ًيا مع َ َمَت ُ‬ ‫إمكانية ضئيلة أو معدومة للتحسن‪ ،‬وتكون النتيجة‬
‫(٭) يُقصد من نواحي اللغة والثقافة والعرق والتاريخ املشرتك‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫للبيض يف األعىل و َ َمَت ُ‬


‫وض ٍع للسود يف األسفل‪ .‬لقد عُ ِّرف التقدم بأنه تحسني املخزون‬
‫العرقي واستبدال أنواع متفوقة محل تلك األدىن‪ .‬ومع التطور الذي شهدته العنرصية‬
‫العلمية أصبحت هذه النزعة أكرث دقة يف درجات التمييز بني األعراق‪ ،‬لتفتح بذلك‬
‫الطريق أمام التسلسل الهرمي بني اآلريني والالتينيني والسالف داخل أوروبا‪ .‬ويف‬
‫هذه الصي َغة كان لنزعة العنرصية العلمية تآز ٌر واضح مع النزعة القومية‪ .‬كام أنها‬
‫قدمت تربي ًرا قو ًيا لإلمربيالية الجديدة يف أواخر القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫ومثلام سنبني يف الفصول الالحقة‪ ،‬التزال هذه األيديولوجيات األربع تهيمن‬
‫عىل العالقات الدولية‪ ،‬عىل الرغم من أن بعضها (القومية والليربالية ‪ -‬عىل األقل‬
‫مذهاًل‪ ،‬بينام دُفع بالبعض اآلخر نحو‬‫ً‬ ‫نجاحا‬
‫ً‬ ‫الليربالية االقتصادية) قد حقق‬
‫الهامش (العنرصية العلمية‪ ،‬وإىل حد أقل‪ ،‬االشرتاكية)‪ .‬وباستثناء أيديولوجية‬
‫اإلرشاف البيئي الصاعدة‪ ،‬مل تظهر أيديولوجيات جديدة ذات وزن مامثل إلعادة‬
‫تشكيل العالقات الدولية(٭)‪.‬‬

‫‪ - 1 - 2‬املشهد املادي‬
‫من الناحية املادية‪ ،‬كان لثورات الحداثة ثالثة تأثريات با ِرزة عىل العالقات‬
‫غرَّيت قدرة التفاعل داخل النظام الدويل من خالل تقليص الوقت‬ ‫الدولية‪ .‬أو ًاًل؛ َّ‬
‫والتكلفة واملخاطر املتعلقة بنقل البضائع واألشخاص واملعلومات عرب جميع أنحاء‬
‫غرَّيت الوحدات‪ُ ،‬منشئة بذلك ً‬
‫طاقاًم مألو ًفا من الفواعل الحديثة يف‬ ‫العامل‪ .‬ثان ًيا؛ َّ‬
‫مرسح السياسة العاملية‪ .‬ثال ًثا؛ أدخلت التغيري التكنولوجي الرسيع باعتبارها سمة‬
‫دامئة للنظام الدويل مع تأثريات كبرية يف العالقات االقتصادية والعسكرية‪.‬‬
‫بدأ مسار االندماج األول للعامل خالل القرن التاسع عرش‪ .‬حيث أدت البواخر‬
‫والسكك الحديد الجديدة‪ ،‬إىل حد بعيد‪ ،‬دورا حاسام يف تحطيم معظم الحواجز‬
‫التاريخية للمسافة والجغرافيا‪ .‬فخالل بداية ذلك القرن كان من املمكن أن يستغرق‬
‫األمر ما يقارب العام إلرسال أي يشء (سلع؛ أو أشخاص؛ أو معلومات) من لندن إىل‬
‫أسرتاليا‪ ،‬مع وجود خطر كبري يتمثل يف إمكانية ضياع كل يشء عىل طول الطريق‪.‬‬
‫(٭) كانت الفاشية ببساطة ً‬
‫مزيجا من القومية والعنرصية «العلمية»‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وبحلول العام ‪ 1914‬أصبح من املمكن إيصال املعلومات يف أقل من يوم‪ ،‬ونقل‬


‫البضائع أو األشخاص يف غضون أسابيع قليلة وعىل َن ْح ٍو آمن‪ .‬لقد ربطت شبكة من‬
‫كيبالت التلغراف معظم أنحاء العامل م ًعا‪ ،‬ومتكنت رشكات الشحن والسكك الحديد‬
‫من نقل أعداد كبرية من الناس وكميات هائلة من البضائع عرب جميع أنحاء العامل‬
‫بثمن زهيد وبرسعة وأمان إىل حد ما‪ .‬بينام أسهمت القنوات املائية يف السويس‬
‫و َبن ََاَم يف قطع مسافات شاسعة من طرق الشحن بني املحيطات‪ .‬شكلت هذه القدرة‬
‫الجديدة عىل التفاعل ِدعَا َم ًة للنسخة األوىل من نظام االعتامد املتبادل الدويل شديد‬
‫الرتابط الذي منلكه اليوم‪ .‬حيث مكنت من تكوين اقتصاد عاملي حقيقي ألول مرة‪،‬‬
‫مام أدى؛ وعىل العكس من روابط طريق الحرير يف العصور الكالسيكية‪ ،‬إىل إنشاء‬
‫أسواق عاملية يف التمويل والتجارة ُمشتمل ًة عىل جميع أنواع السلع‪ .‬ما م َّكن ً‬
‫أيضا‬
‫من حصول هجرات جامعية‪ ،‬حيث توجهت من خاللها أعداد كبرية من الناس من‬
‫أوروبا وجنوب آسيا والصني إىل قارات أخرى‪ .‬كام مكن أيضا من عوملة الحرب كام‬
‫يتضح من هزمية بريطانيا للصني يف العام ‪ .1840‬وباستثناء الحركة عن طريق الجو‪،‬‬
‫كانت جميع الخصائص اللوجستية األساسية للنظام الدويل الحديث متوافرة بحلول‬
‫نهاية القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫مع نهاية القرن التاسع عرش ُوضعت مجموعة كاملة من الفواعل التي شكلت‬
‫نظام املجتمع الدويل العاملي الحديث‪ .‬إن من بني أهم خصائص املجتمعات‬
‫التي خضعت ملسار التحديث هو أن الدولة البريوقراطية العقالنية والوطنية‬
‫يف تلك املجتمعات (يف شكلها الليربايل الدميوقراطي‪ ،‬والتنموي السلطوي) قد‬
‫متكنت إىل حد بعيد من إزاحة الدولة الساللية‪ .‬فقد أضفت النزعة القومية‬
‫شيئًا من القداسة عىل اإلقليم وشددت قبضتها عىل الحدود (‪،)Mayall, 1990‬‬
‫وشكلت معظم هذه الدول الحديثة يف املايض مراكز حرضية إلمرباطوريات ما‬
‫وراء البحار الجديدة‪ .‬وإىل جانب ظهور الدولة الحديثة‪ ،‬ظهرت أيضا الرشكات‬
‫عرب الوطنية ‪ .Transnational corporation‬لقد ُم ِّكن لهذه الرشكات من خالل‬
‫قانون الرشكات الربيطاين للعام ‪ ،1862‬مام أحدث ثورة يف مفهوم الرشكة‪ ،‬وفصلها‬
‫إىل حد بعيد عن الشكل القديم للرشكات املستأجرة التي كانت مرتبطة يف حد‬
‫ذاتها بالدولة وباملنظامت شبه الحكومية (‪.)Phillips and Sharman, 2015‬‬
‫‪38‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫وقد عكست هذه الرشكات عرب الوطنية األفكار الليربالية عن التجارة واألسواق‬
‫واالستثامر وعززتها‪ ،‬وأدت دو ًرا كب ًريا يف توطيد اقتصاد رأساميل عاملي‪.‬‬
‫وتعترب املنظامت الحكومية الدولية ‪Intergovernmental Organizations‬‬
‫دعامة أخرى من دعامات املجتمع الدويل العاملي التي ترسخت يف ذلك‬
‫الوقت‪ .‬فخالل الربع األخري من القرن التاسع عرش بدأت املنظامت الحكومية‬
‫الدولية يف تلبية املطالب الوظيفية للتنسيق والتشغيل البينيني الناتجني عن‬
‫الزيادات الهائلة يف التدفقات العاملية للتجارة واالتصاالت‪ ،‬واالنتشار الرسيع‬
‫للتكنولوجيات الجديدة مثل السكك الحديد والتلغراف‪ .‬ونظرا إىل القاعدة‬
‫العامة لتقسيم السيادة يف ا ُمل ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ْ‬
‫االس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب يف ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬فقد كانت السمة املثرية لالهتامم لتطور املنظامت الحكومية الدولية‬
‫تتمثل يف نجاح بعض الدول غري الغربية؛ مبا يف ذلك بعض الدول الواقعة تحت‬
‫الحكم االستعامري‪ ،‬يف الحصول عىل العضوية فيها‪ ،‬حيث شكل ذلك صيغة‬
‫رَّس ذلك من خالل الرتكيز الكبري عىل اإلدارة‬ ‫مهمة من االعرتاف الديبلومايس‪ .‬و ُي َف َّ ُ‬
‫بداًل من السيادة الرسمية يف تلك االتحادات الدولية للقرن‬ ‫الوظيفية الفعلية ً‬
‫التاسع عرش (‪.)Howland, 2016: 2‬‬
‫واألمثلة التالية تدل عىل أبعاد ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬االتحاد الدويل لالتصاالت (تأسس يف العام ‪ :)1865‬انضمت إليه تركيا يف العام‬
‫‪1866‬؛ ومرص ‪1876‬؛ وإيران ‪1868‬؛ والهند ‪1868‬؛ واليابان ‪1879‬؛ وتايالند ‪1883‬؛‬
‫ورسيالنكا ‪(1896‬٭)‪.‬‬
‫‪ -‬االتحاد الربيدي العاملي (تأسس يف العام ‪ :)1874‬انضمت إليه مرص عام‬
‫‪1875‬؛ وتركيا ‪1875‬؛ والهند ‪1876‬؛ وإندونيسيا ‪1877‬؛ وإيران ‪1877‬؛ واليابان‬
‫‪1877‬؛ وليبرييا ‪1879‬؛ وتايالند ‪1885‬؛ وتونس ‪1888‬؛ وكوريا ‪1900‬؛ والجزائر ‪1907‬؛‬
‫وإثيوبيا ‪1908‬؛ والصني ‪(1914‬٭٭)‪.‬‬

‫‪) www.itu.int/online/mm/scripts/gensel8 (Accessed 20 January 2013).‬٭(‬


‫[املؤلفان]‪.‬‬
‫‪) www.upu.int/en/the-upu/member-countries.html (Accessed 20 January 2013).‬٭٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ -‬املحكمة الدامئة للتحكيم (تأسست يف العام ‪ :)1899‬انضمت إليها إيران العام‬


‫‪1900‬؛ واليابان ‪1900‬؛ وتايالند ‪1900‬؛ والصني ‪1904‬؛ وتركيا ‪(1907‬٭)‪.‬‬
‫وبحلول العام ‪ 1913‬كانت مثة ‪ 45‬منظمة حكومية دولية (‪Wallace and‬‬
‫‪ ،)Singer, 1970:250–1‬وعىل الرغم من أنها كانت بداية متواضعة‪ ،‬فإنها أرست‬
‫طموحا التي تلت نهاية الحرب العاملية األوىل‪ .‬لقد شكلت‬
‫ً‬ ‫أسس التطورات األكرث‬
‫مؤمترات الهاي للسالم للعامني ‪ 1899‬و‪ 1907‬منعرجات تحول نحو اتساع املجتمع‬
‫الدويل‪ ،‬حيث جلبت دول األمريكتني إىل قلب الديبلوماسية الدولية (‪Simpson,‬‬
‫أيضا املحكمة الدامئة للتحكيم بوصفها آلية‬‫‪ .)2004: 135‬وأسس هذان املؤمتران ً‬
‫لتسوية املنازعات بني الدول‪ ،‬وم َّهدا الطريق أمام ظهور املحكمة الدامئة للعدل‬
‫الدويل التي كانت جز ًءا من معاهدات فرساي للعام ‪ .1919‬فاملنظامت الحكومية‬
‫رسعت إذن التحول من القانون الدويل الطبيعي إىل القانون الدويل الوضعي‬ ‫الدولية َّ‬
‫الذي م َّيز ً‬
‫أيضا ثورات الحداثة‪.‬‬
‫إىل جانب املنظامت الحكومية الدولية والرشكات عرب الوطنية‪ ،‬نشأت‬
‫أيضا املنظامت غري الحكومية الدولية ‪International Non-Governmental‬‬ ‫ً‬
‫شكلت املجتمع املدين العاملي يف ذلك الوقت‪ .‬غطت‬ ‫‪ Organizations‬التي َّ‬
‫املنظامت غري الحكومية الدولية مجموعة واسعة جدًا من االهتاممات مبا يف‬
‫ذلك الحركات الثورية العابرة للحدود؛ ومجتمعات السالم؛ وجمعيات مناهضة‬
‫العبودية؛ وجامعات التبشري الديني؛ وجامعات الضغط التي أدت دو ًرا يف‬
‫املناقشات الدائرة بشأن أخالق ومامرسات الحرب واإلمربيالية‪ ،‬والتدخل؛ والصحة‬
‫العامة؛ والتعليم؛ واإلصالح الجنايئ وتوسيع األسواق‪ .‬وبحلول ثالثينيات القرن‬
‫التاسع عرش أصبحت االتحادات عرب الوطنية تشارك يف نقاشات عامة نشطة‬
‫وش ِّكل يف خمسينيات‬ ‫بشأن قضايا متنوعة مثل السياسة التجارية والنمو السكاين‪ُ .‬‬
‫وستينيات القرن التاسع عرش عديدٌ من املنظامت غري الحكومية الدولية البارزة‪،‬‬
‫مبا يف ذلك جمعية الشبان املسيحيني والصليب األحمر الدويل‪ ،‬وكذلك املجموعات‬

‫‪) www.pca-cpa.org/showpage.asp?pag_id=1038 (Accessed 20 January 2013).‬٭(‬


‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫القامئة للدفاع عن قضايا محددة مثل تلك التي تسعى إىل تحسني رفاهية الحيوان‪،‬‬
‫وتعزيز الفنون وإضفاء الطابع الرسمي عىل املوضوعات األكادميية بدءا من علم‬
‫النبات ووصوال إىل األنرثوبولوجيا‪ .‬وشهد النصف األخري من القرن التاسع عرش‬
‫من ًوا إضاف ًيا يف نشاط املنظامت غري الحكومية الدولية‪ .‬حيث تشكلت مجموعات‬
‫الحركة العاملية استجاب ًة لحالة عدم املساواة التي خ َّلفتها نزعة التصنيع والكساد‬
‫األول للعرص الصناعي (الكساد الكبري)‪ .‬أما املنظمة الدولية للرياضة فقد تضمنت‬
‫اللجنة األوملبية الدولية‪ ،‬التي تأسست يف العام ‪ 1894‬إلحياء األلعاب اليونانية‬
‫شكل حديث‪ .‬كام ظهرت يف الربع األخري من القرن التاسع عرش حركة‬ ‫القدمية يف ٍ‬
‫عرب وطنية من أجل الدفاع عن حق املرأة يف التصويت‪ .‬وشهدت الفرتة التي‬
‫أيضا ظهور حركات السالم النسائية‪ .‬إذ أعرب‬ ‫تلت نهاية الحرب العاملية األوىل ً‬
‫املؤمتر الدويل للمرأة الذي انعقد يف الهاي يف العام ‪ 1915‬عن معارضته الشديدة‬
‫للقومية وتجارة األسلحة‪ ،‬ودعا إىل استبدال مقاربة توازن القوى بدعوة الدول‬
‫إىل ال ِو َفاق فيام بينها‪ ،‬وإنشاء قوة دولية لتحل محل الجيوش الوطنية‪ ،‬والعمل‬
‫عىل معالجة املظامل االقتصادية التي تسبب نشوب الرصاعات‪ .‬وقد كانت هذه‬
‫املطالب مبنزلة مقدمة قوية ألجندة األمم املتحدة بشأن املرأة والسالم واألمن يف‬
‫فرتة ما بعد الحرب الباردة (‪.)Tickner and True, 2018: 2– 5‬‬
‫يف ذروة ما قبل الحرب العاملية األوىل‪ ،‬كان مثة نحو ‪ 400‬منظمة غري حكومية‬
‫دولية نشطة حول العامل (‪Davies, 2013: 65– 76; Osterhammel, 2014:‬‬
‫‪ .)505– 12‬إن املجتمع املدين العاملي‪ ،‬الذي يعد سمة من السامت التي ُيحتفى‬
‫بها يف القرن العرشين‪ ،‬تعود جذوره إىل القرن التاسع عرش الطويل‪ .‬حيث كانت‬
‫حركة مناهضة العبودية رائدة يف أنشطة الضغط التي تضطلع بها املنظامت غري‬
‫الحكومية الدولية التي كانت تحاول التأثري يف معايري ومامرسات مجتمع الدول‪،‬‬
‫وقد تنبأ دعاة حركة السالم الحارضون يف مؤمترات الهاي بدمج املنظامت الحكومية‬
‫الدولية الحالية يف مسارات الديبلوماسية متعددة األطراف (‪ .)Buzan, 2017‬إن‬
‫كال من التفكري الجديد يف أيديولوجيات التقدم‪ ،‬والتكامل املادي واالجتامعي للعامل‬
‫الناتج عن التحسينات الهائلة يف القدرة عىل التفاعل‪ ،‬يعكسان حقيقة أن هذه‬
‫املجموعة الجديدة من الفواعل كانت مرتبطة بعضها ببعض من خالل ديناميات‬
‫‪41‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫قضايا الرأساملية الصناعية‪ ،‬والحرب‪ ،‬والثورة‪ ،‬واإلمربيالية‪ ،‬واالقتصاد العاملي الصاعد‬


‫والثقافة العاملية‪ ،‬وردود األفعال تجاهها‪.‬‬
‫يتمثل التأثري املادي الثالث لثورات الحداثة يف إدخال التغري التكنولوجي الرسيع‬
‫كميزة دامئة للنظام الدويل‪ .‬حيث كان لهذه امليزة الجديدة عواقب وخيمة عىل‬
‫العالقات االقتصادية والعسكرية بدأت تتكشف خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬والتزال‬
‫تتسع حتى اليوم‪ .‬ويشكل التغري التكنولوجي املستمر ً‬
‫شكاًل من أشكال الثورة الدامئة‬
‫يف الشؤون اإلنسانية التي تسبب خلق اضطرابات قاسية يف الشؤون االجتامعية‬
‫واالقتصادية والسياسية والعسكرية عىل الصعيدين املحيل والدويل‪ .‬إن التغريات‬
‫التكنولوجية عالية التأثري مل تكن‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬غري معروفة يف املجتمعات الزراعية‬
‫كام توضح ذلك قصص ِركاب الرسج والحديد والبارود والبوصلة‪ .‬لكن هذه التغريات‬
‫كانت نادرة وعادة ما تكون مفصولة بفرتات طويلة من االستقرار النسبي‪ .‬لقد أسهم‬
‫تزاوج املنهج العلمي مع نزعة التصنيع يف تغيري كل ذلك‪ .‬وعىل الرغم من أن آثاره‬
‫كانت واضحة بالفعل يف التحسينات التي ُأدخلت عىل ا ُملحركات البخارية خالل‬
‫القرن الثامن عرش‪ ،‬فإن التغري التكنولوجي الواسع النطاق والرسيع انطلق خالل‬
‫ثالثينيات وأربعينيات القرن التاسع عرش‪ ،‬ليواصل االستمرار يف وتريته املتسارعة‬
‫منذ ذلك الحني‪.‬‬
‫لقد كان للتغري التكنولوجي الرسيع أوجه تآزر كبرية مع الرأساملية‪ .‬فقد فتحت‬
‫التقنيات الجديدة أسوا ًقا جديدة ومصادر ربح جديدة أيضا‪ .‬وجعلت من السلع‬
‫القدمية أرخص‪ ،‬ويف كثري من األحيان ذات جودة أفضل (مثل القامش والحديد)‪،‬‬
‫وصدَّرت سل ًعا جديدة (مثل السكك الحديد والسيارات والطاقة الكهربائية) وس َّهلت‬
‫عىل نحو كبري تدفق السلع واملوارد بني ا ُملنتجني األوليني وا ُملصنعني واملستهلكني‪.‬‬
‫بني العامني ‪ 1850‬و‪ 1913‬زادت قيمة التجارة العاملية (باألسعار الثابتة) عرشة‬
‫أضعاف (‪ .)Osterhammel, 2014: 726‬وارتفع الناتج املحيل اإلجاميل للبلدان‬
‫الصناعية األساسية مبعامل ‪ 9‬بني العامني ‪ 1800‬و‪ ،1913‬كام ارتفع نصيب الفرد من‬
‫الناتج املحيل اإلجاميل مبعامل ‪ ،3.3‬وباملقارنة مع ما أصبح ُيعرف بـ «العامل الثالث»‪،‬‬
‫زاد الناتج املحيل اإلجاميل لديهم مبعامل يبلغ ‪ 1.5‬فقط‪ ،‬وظل نصيب الفرد من‬
‫الناتج املحيل اإلجاميل عىل حاله تقري ًبا (‪ .)Bairoch, 1981: 7– 8, 12‬ومثلام تشري‬
‫‪42‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫هذه األرقام‪ ،‬فإن التقدم التكنولوجي‪ ،‬باالقرتان مع التوزيع غري املتكافئ للغاية‬
‫لثورات الحداثة األخرى‪ ،‬قد ُأسس للتمييز والفصل بني البلدان املتقدمة والبلدان‬
‫النامية‪ ،‬وهو التمييز الذي اليزال ُيعد سمة رئيسة للعالقات الدولية‪ ،‬حيث استولت‬
‫مجموعة صغرية من الدول عىل معظم الرثوة والقوة التي أنتجتها ثورات الحداثة‪،‬‬
‫و ُو ِّظفت هذه امليزة من أجل إنشاء نظام ُم َكونٍ من مر َكز ‪ -‬أطراف‪ ،‬تضع فيه دول‬
‫املر َكز القواعد وف ًقا ملصالحها الخاصة‪ ،‬و ُتستَغل يف هذا النظام دول األطراف التي‬
‫غال ًبا ما تكون دو ًاًل ُم ْس َت ْع َم َرة‪ .‬كام أعطت التقنيات الجديدة أيضا مضمو ًنا ( ُمحتَوى)‬
‫لفكرة التقدم ا ُملتجسد يف األيديولوجيات الجديدة‪.‬‬
‫كان للتغري التكنولوجي الرسيع واملستمر تأثري كبري أيضا يف العالقات‬
‫العسكرية‪ .‬فمن الواضح أنه م َّهد الطريق لنشوء فجوة هائلة يف منط القوة بني‬
‫دول املركز الحديثة ودول األَ َطراف ا ُملتخلفة‪ .‬وكام أظهرت بريطانيا للصني يف‬
‫العام ‪ ،1840‬فإن أولئك الذين ميتلكون النمط الصناعي الحديث للقوة لديهم‬
‫قدرات تكنولوجية واقتصادية وتنظيمية جعلت من السهل عليهم عمو ًما هزمية‬
‫أولئك الذين مازالوا يعتمدون عىل قدرات النمط الزراعي للقوة‪ .‬لقد أدى ذلك‬
‫إىل تعزيز ِبنْية املَركز ‪ -‬األَ ْط َراف من خالل خلق فجوة كبرية عىل مستوى القوة‬
‫يصعب ردمها‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬و َّفرت البيئة التكنولوجية الجديدة املؤهالت‬
‫زعجا للغاية للعالقات‬ ‫الالزمة لدول املركز لتكون قوى كربى‪ ،‬كام أضافت ً‬
‫عاماًل ُم ً‬
‫القامئة بني القوى الكربى داخل املركز يتمثل يف سباق التسلح الصناعي‪ .‬خالل‬
‫العصور الكالسيكية‪ ،‬كانت القوة الكربى تتطلب عددًا كب ًريا من السكان وخزانة‬
‫كبرية وقيادة جيدة إىل حد معقول‪ .‬والتكنولوجيا العسكرية لتلك العصور مل‬
‫تكن تختلف كث ًريا بني الكيانات السياسية املجاورة‪ .‬ولكن مبجرد أن بدأت نزعة‬
‫التصنيع يف العمل‪ ،‬فقد بدأت جودة ونوعية األسلحة التي ميكن أن تعتمد عليها‬
‫دولة ما يف امليدان العسكري تكتيس أهمية بالغة‪ ،‬كام بدأت تظهر أهمية ما‬
‫شكل هذا‬ ‫إذا كان بإمكان الدولة ُصنع مثل هذه األسلحة بنفسها أم ال‪ .‬حيث َّ‬
‫حلقة مفرغة مستمرة؛ ألن جودة األسلحة املوجودة مثل البنادق واملدافع كانت‬
‫تشهد تحسنا طوال الوقت‪ ،‬وكانت أنواع جديدة من األسلحة؛ أحيا ًنا تحويلية‬
‫(مثل املدافع الرشاشة والغواصات والطائرات)‪ ،‬تظهر طول الوقت أيضا‪ .‬عىل‬
‫‪43‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫هذا األساس‪ ،‬أصبح من الرضوري وعىل نحو متزايد أن تتصدر القوى الكربى‬
‫طليعة التنمية‪ .‬لقد شهدت القوى الكربى التقليدية مثل الصني‪ ،‬واإلمرباطورية‬
‫العثامنية‪ ،‬وروسيا تراجعا إىل حد ما‪ ،‬يف حني كانت الدول التي حققت نجاحات‬
‫عىل صعيدي التحديث والتصنيع‪ ،‬مثل بريطانيا وأملانيا والواليات املتحدة‬
‫واليابان‪ ،‬تشهد صعودا‪.‬‬
‫ومثلام يتضح من خالل السباق البحري غري املعروف كثريا بني بريطانيا‬
‫وفرنسا خالل منتصف القرن التاسع عرش‪ ،‬والسباق املشهور جدًا بني بريطانيا‬
‫وأملانيا يف الفرتة التي سبقت الحرب العاملية األوىل‪ ،‬فقد س َّبب سباق التسلح‬
‫الصناعي نشوء حالة من انعدام األمن العسكري الكيل بني القوى الكربى‪ .‬حيث‬
‫كان يجب عىل كل واحدة من تلك القوى التخوف من أنه إذا مل تستمر يف‬
‫سباق التسلح‪ ،‬فإن اآلخرين قد ينرشون أسلحة متفوقة قد تؤدي إىل هزميتها‬
‫الرسيعة والحاسمة‪ .‬فإذا نرشت فرنسا أسطوال من السفن الحربية البخارية قبل‬
‫بريطانيا‪ ،‬فلن تتمكن بريطانيا من الدفاع عن نفسها ضد غزو الجيش الفرنيس‬
‫املتفوق‪ .‬كان مثة تآزر بني التقدم التكنولوجي العسكري والتقدم املدين‪ ،‬كام‬
‫هو الحال يف استخدام السكك الحديد والبواخر والتلغراف لتحويل الخدمات‬
‫غرَّيت هذه التقنيات الجديدة عىل نحو‬ ‫اللوجيستية للعمليات العسكرية‪ .‬حيث َّ‬
‫والح َك ِم املكتسبة‬
‫مستمر طبيعة الحرب‪ ،‬مام قلل من قيمة كثري من املعارف ِ‬
‫من الرصاعات السابقة‪.‬‬
‫وعىل الرغم من أن القوى االستعامرية سعت ‪ -‬إىل حد بعيد ‪ -‬إىل إبقاء األسلحة‬
‫الحديثة بعيد ًة عن أيدي رعاياها ا ُمل ْس َت ْع َم ِرين‪ ،‬فإنه كان مثة ً‬
‫أيضا امتداد للرأساملية‬
‫إىل املجال العسكري يف شكل تجارة لألسلحة‪ .‬لقد أراد مصنعو األسلحة بيع أسلحتهم‬
‫ليس فقط لحكوماتهم‪ ،‬بل أرادوا أيضا ترويجها قدر اإلمكان وعىل نطاق واسع ‪ -‬يف‬
‫مسارات تقييم أسباب الحرب التي أعقبت الحرب العاملية األوىل أكسبهم ذلك لقب‬
‫« ُتجار املَ ْوت» (‪ .)Engelbrecht and Hanighen, 1934‬بدأت التطورات الجديدة‬
‫يف مجال األسلحة بالدفع نحو الجهود الساعية إىل السيطرة عىل أنواع معينة من‬
‫التقنيات العسكرية‪ .‬وقد احتوت اتفاقية جنيف األوىل يف العام ‪ 1864‬واتفاقيات‬
‫الهاي الح ًقا يف العامني ‪ 1899‬و‪ 1907‬عىل سلسلة من تدابري الحد من األسلحة التي‬
‫‪44‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫تطورت بفعل التقنيات العسكرية الجديدة‪ .‬ففي النزاعات بني «الدول ا ُملت ََح ِّرِّضة»‪،‬‬
‫ُح ِظر الرصاص الذي ُي َف ِّج ُر الجسم (بنا ًء عىل اتفاقية سابقة بشأن عدم استخدام‬
‫الرصاصة املتفجرة املسامة «الدوم دوم» ‪ dum dum‬يف مؤمتر سانت بطرسربغ يف‬
‫وح ِظر القصف من أنواع مختلفة من الطائرات واستخدام الغازات‬ ‫العام ‪ُ ،)1868‬‬
‫كأسلحة‪ .‬كام ُق ِّيد أيضا نرش األلغام والطوربيدات‪.‬‬
‫سببت أيضا الزيادة الرسيعة واملستمرة يف عدد ونوع األسلحة ويف قدرتها‬
‫التدمريية وتكلفتها‪ ،‬نشو َء املعضلة الدفاعية ‪The Defence Dilemma (Buzan,‬‬
‫)‪ .[1991] 2007: 217– 33‬وقد شكلت هذه ظاهرة جديدة تختلف عن املعضلة‬
‫األمنية ‪ The Security Dilemma‬املألوفة الناشئة عن الخوف من الهزمية بالسالح‬
‫دت الخوف من الهزمية من خالل‬ ‫املوجود يف أيدي اآلخرين‪ .‬فاملعضلة الدفاعية َت َح ْ‬
‫الخوف من املنافسة العسكرية (بسبب تكلفتها ونوعية تحريكها) والخوف من‬
‫الحرب (ألن التكاليف املتزايدة والتدمري مقرتنان بتعبئة املجتمع عىل نحو متزايد‪،‬‬
‫مام يعني أن املجتمعات قد ُت َد َّم ُر من خالل هذه العملية‪ ،‬بغض النظر عام إذا كانوا‬
‫قد كسبوا أو خرسوا الحرب)‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن املعضلة الدفاعية مل تكتسب‬
‫زخاًم فعل ًيا حتى بداية الحرب العاملية األوىل‪ ،‬والتي سنتطرق إليها فيام بعد‪.‬‬ ‫ً‬

‫‪ - 2‬املجتمع الدويل العاملي االستعامري الغريب‬


‫أوجدت اآلثار املادية والفكرية لثورات الحداثة أول مجتمع دويل عىل مستوى‬
‫عاملي‪ ،‬والذي نشري إليه بـ «الصي َغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي»‪ .‬وعُ ِّرف املجتمع‬
‫الدويل من طرف هيديل بول ‪ Hedley Bull‬وآدم واتسون ‪Adam Watson‬‬
‫‪ ))1984a:1‬بأنه‪« :‬مجموعة من الدول (أو عىل نحو أعم‪ ،‬مجموعة من املجتمعات‬
‫السياسية املستقلة) التي ال تشكل مجرد نظام فقط ‪ -‬باملعنى الذي يكون فيه‬
‫سلوك كل منها عامال رضوريا يف حسابات اآلخرين ‪ -‬بل ُتن ِْشئ أيضا من خالل الحوار‬
‫والتوافق مجموعة قواعد ومؤسسات مشرتكة من أجل تسيري عالقاتها‪ ،‬و ُتدرك أن‬
‫مصالحها املشرتكة تكمن يف الحفاظ عىل تلك الرتتيبات»‪.‬‬
‫إن الفكرة األساسية بسيطة للغاية‪ :‬وهي أن الدول (أو األنظمة السياسية عىل‬
‫كل من خالل‬ ‫كل و َتت ََش ُ‬
‫نطاق أوسع)‪ ،‬مثلها مثل األفراد‪ ،‬تعيش يف مجتمعات ُت َش ُ‬

‫‪45‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وسلوكاتها‪ .‬لتأخذ املجتمعات شكل القواعد واملؤسسات املشرتكة التي‬ ‫هُ ويا ِتها ُ‬
‫ُتحدد الهوية والعضوية والسلوك املرشوع‪ .‬قبل القرن التاسع عرش كان باإلمكان‬
‫العثور عىل مجتمعات دولية فرعية عاملية مميزة يف أماكن مختلفة‪ .‬فقد كان مثة‬
‫مجتمع ويستفايل دويل يف أوروبا يقوم عىل سيادة الساللة الحاكمة؛ ومجتمع دويل‬
‫يف املحيط الهندي يقوم عىل التجارة بني مزيج من الكيانات مبا يف ذلك املدن‬
‫التجارية واإلمرباطوريات والرشكات األوروبية املستأجرة؛ ومجتمع دويل هرمي يف‬
‫رشق آسيا يقوم عىل نظام الجزية الصيني (; ‪Suzuki, Zhang and Quirk, 2014‬‬
‫‪ .)Phillips and Sharman, 2015‬وخالل القرن التاسع عرش توسع املجتمع الدويل‬
‫األورويب ليشمل النطاق العاملي‪ ،‬وقد تغري هو يف حد ذاته بسبب ثورات الحداثة‬
‫واملواجهات التي كانت قامئة مع املجتمعات الدولية األخرى‪.‬‬
‫كان مثة ثالثة عوامل رئيسة تقف وراء ظهور الصيغة األوىل للمجتمع الدويل‬
‫العاملي‪ :‬إنشاء اقتصاد َم ْر َكز ‪ -‬أطراف عاملي يتمركز يف أوروبا؛ وخلق فجوة كبرية‬
‫عىل مستوى القوة بني دول التحديث وال َب ِقية يف أثناء املرحلة األوىل من الحداثة؛‬
‫والثورات التي أوجدت مجموعة من الدول الجديدة يف األمريكتني والتي سيطر‬
‫عليها املهاجرون القادمون من أوروبا‪.‬‬
‫لقد أدى إنشاء اقتصاد عاملي متكامل إىل جعل األوروبيني يعتمدون عىل مصادر‬
‫متنوعة من اإلمداد واألسواق العاملية‪ ،‬مام أدى إىل نشوء حاجة قوية إىل تنظيم‬
‫وتوحيد السلوك عرب مجموعة واسعة من الثقافات ومستويات مختلفة من التنمية‪.‬‬
‫وكام يشري جرييت و‪ .‬جونغ )‪ ،(Gerrit W. Gong 1984: 7– 21‬كانت الحاجة‬
‫األوروبية إىل الوصول إىل (التجارة؛ والتبشري؛ والسفر) هي التي دفعت الجوانب‬
‫الوظيفية ملا أصبح يعرف باسم «معيار الحضارة» (لحامية الحياة‪ ،‬وحرية وممتلكات‬
‫األوروبيني يف البلدان األخرى)‪ ،‬ومن ثم املطالبة بإقليمية أكرب وعالقات غري متكافئة‪،‬‬
‫وجدت فجوة‬ ‫حيث إن السكان املحليني ال يستطيعون أو ال ميكنهم توفريها‪ .‬لقد ُأ ِ‬
‫كبرية ودامئة عىل صعيد القوة بني تلك الدول واملجتمعات التي كانت تتصدر طليعة‬
‫الحداثة‪ ،‬وتلك املجتمعات التي مل ُمُتَ ِّكن يف نهاية املطاف من هم يف الطليعة من‬
‫السيطرة املبارشة عىل البقية‪ ،‬إذا ما رغبوا يف ذلك‪ .‬وقد ُأشري إىل هذا التطور من‬
‫خالل هزمية بريطانيا السهلة للصني يف العام ‪ .1840‬بعد ذلك شهدت موجة جديدة‬
‫‪46‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫من اإلمربيالية استيالء القوى األوروبية والواليات املتحدة واليابان عىل مساحات‬
‫شاسعة من أفريقيا وآسيا‪ ،‬حيث متكنت من إخضاع القوى الكربى السابقة التي‬
‫فشلت يف التصالح مع الحداثة؛ مثل الصني واإلمرباطورية العثامنية‪ .‬وأخ ًريا‪ ،‬متكنت‬
‫ثورات أواخر القرن الثامن عرش وأوائل القرن التاسع عرش يف األمريكتني ضد الحكم‬
‫االستعامري من إضافة أعضاء جدد إىل املجتمع الدويل العاملي الناشئ‪ .‬حيث ش َّكلت‬
‫مزيجا من الثقافة األوروبية والثورية‪ ،‬وبحلول تسعينيات‬ ‫هذه الدول الجديدة ً‬
‫القرن التاسع عرش‪ ،‬أصبحت الواليات املتحدة يف حد ذاتها قوة كربى‪.‬‬
‫ليس من الصحيح متا ًما اعتبار أن إنشاء املجتمع الدويل العاملي كان مجرد توسيع‬
‫للمجتمع الدويل األورويب ليشمل الصعيد العاملي‪ .‬فاملجتمع الدويل األورويب يف حد ذاته‬
‫كان قد تلقى خالل مسار َت َش ُّك ِله ُمد َْخ َال ٍت من آسيا والعامل اإلسالمي‪ ،‬ومن ثم كان يشهد‬
‫اندماجا يف بعض النواحي‪ .‬وبحلول القرن التاسع عرش كان هذا االندماج يف‬ ‫ً‬ ‫بالفعل‬
‫حد ذاته مير بثورات الحداثة‪ ،‬أي مير مبسار عاملي مرة أخرى‪ ،‬وقد أصبح قو ًيا مبا يكفي‬
‫للسيطرة عىل بقية العامل‪ .‬حيث هيمن هذا التوسع عىل املجتمعات الدولية ما قبل‬
‫الحديثة التي كانت موجودة يف أجزاء أخرى من العامل‪ .‬ومن خالل مسارات االستعامر‬
‫وإصالح املواجهة‪ ،‬حاول األوروبيون ‪ -‬وقد نجحوا يف ذلك إىل حد ما ‪ -‬إعادة تشكيل‬
‫العامل وفق تصورهم السيايس واالقتصادي والثقايف‪ ،‬وإن كان األخري بشكل أقل(٭)‪.‬‬
‫كانت هذه الصيغة األوىل من املجتمع الدويل العاملي صيغة جديدة ليس‬
‫أيضا من ناحية َت َش ُّك ِل قواعدها ومعايريها‬
‫من ناحية كونها عاملي ًة فقط‪ ،‬ولكن ً‬
‫ومؤسساتها‪ .‬إذ مل يكن عديد من أجزاء هذه الصيغة األوىل أوروبي ًة عىل وجه‬
‫اليِل‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬كانت ً‬
‫شكاًل شائ ًعا من أشكال‬ ‫الس ِ‬ ‫التحديد‪ .‬فنزعة الحكم ُّ‬
‫الحكم لدى عديد من الثقافات‪ .‬وباملثل كان مبدأ عدم املساواة بني البرش نظاما‬
‫شائعا يف عديد من املجتمعات ُي َرَبر املامرسات بدءا من العبودية والتمييز بني‬
‫الجنسني وصوال إىل اإلمرباطورية‪ .‬لقد أدت األفكار املسيحية والليربالية يف أوروبا‪،‬‬
‫(٭) األدبيات الرئيسة بشأن توسع املجتمع الدويل تشمل‪:‬‬
‫‪Bull and Watson, 1984b; Gong, 1984; Watson, 1992; Keene, 2002; Buzan and Little, 2010; Dunne‬‬
‫‪and Reus-Smit, 2017.‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫إىل حد ما‪ ،‬إىل تقويض مبدأ عدم املساواة بني البرش‪ ،‬خصوصا تلك الحمالت‬
‫الناجحة التي ُق ِّيدت ملكافحة العبودية يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش‪.‬‬
‫لكن تصاعد «العنرصية العلمية» و«الداروينية االجتامعية» خالل القرن التاسع‬
‫عرش أبقت إىل حد كبري عىل وضع عدم املساواة بني البرش عىل ما هو عليه‪،‬‬
‫ووظفته كمسوغ رئيس لرشعنة اإلمربيالية واالستعامر والتمييز بني األجناس‬ ‫َّ‬
‫أيضا نظاما واسع االنتشار يف معظم‬ ‫(‪ .)Towns, 2009, 2010‬وقد كانت الحرب ً‬
‫املجتمعات‪ ،‬مع وجود قيود قليلة نسب ًيا تتعلق باألسباب ا ُمل ِ‬
‫وج َبة للحرب‪ ،‬و َق َبولٍ‬
‫َام بأن للغازي الحق يف التملك‪.‬‬ ‫ع ٍ‬
‫رمبا كانت السمة الرئيسة للصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي هي أنه‬
‫ُق ِّسم بشكل هرمي بني َمر َك ٍز ُم َت َمي ٍز مع مجموعة واحدة من القواعد التي ِصي َغت‬
‫اف خاضع ٍة تنطبق عليها مجموعة أخرى مختلفة من القواعد‪.‬‬ ‫عىل مقاسه‪ ،‬وأَ ْط َر ٍ‬
‫إنه ملن املعقول تسمية ذلك باملجتمع الدويل العاملي االستعامري الغريب‪ ،‬ألن‬
‫املَركز ‪ core‬كان غرب ًيا عىل نحو أسايس‪ ،‬عىل الرغم من أن اليابان أثبتت أن‬
‫عضوية ذلك املَركز كانت مفتوحة ألولئك الذين ميكنهم تلبية ِم ْع َيار الحضارة‪.‬‬
‫وسيأيت الحديث عن هذا بالتفصيل يف القسم التايل‪ .‬داخل املركز‪ ،‬كانت قواعد‬
‫ومؤسسات املجتمع الدويل مأخوذة إىل حد كبري من املجتمع الدويل الوستفايل‪،‬‬
‫ولكنها كانت تتكيف مع االحتياجات واألفكار الجديدة للحداثة (‪Buzan, 2014:‬‬
‫‪ .)113– 33‬وكام ُلوحظ أعاله‪ ،‬فقد انتقلت السيادة من الساللة الحاكمة إىل‬
‫الشعب مع إحساس أقوى باملساواة القانونية‪ ،‬وأصبح القانون الدويل أقل تجذرا‬
‫يف القانون الطبيعي ( ُو ِضع من ِقبل الله‪ ،‬واكتشفه البرش باستخدام العقل)‪،‬‬
‫وأكرث رسوخا يف القانون الوضعي (أي القانون الذي ُو ِضع من ِق َبل البرش كقواعد‬
‫ُم َت َف ٍق عليها لتنظيم اللعبة السياسية)‪ .‬وانتقلت الديبلوماسية من كونها مدفوعة‬
‫مبصالح الساللة الحاكمة والتسلسل الهرمي‪ ،‬لتكون متعددة األطراف عىل نحو‬
‫متزايد وتعكس املصالح الوطنية والحاجة إىل إيجاد عنارص للتعاون يف نظام دويل‬
‫ابطا‪ .‬لقد جعل املركز األورويب النزعة القومية َت ِح ُّل َم َحل الساللة‬ ‫أكرث تعقيدًا وتر ً‬
‫الحاكمة باعتبارها أساسا للرشعية السياسية‪ .‬كام عزز املركز األورويب ميزان القوى‬
‫باعتباره مبدأ أساسيا لتسيري عالقات القوى الكربى‪ ،‬وأضفى الطابع الرسمي عىل‬
‫‪48‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫ذلك من خالل نظام «الوفاق األورويب»(٭)‪ .‬لبضعة عقود خالل القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬أضفى «الوفاق األورويب» الطابع املؤسيس عىل إدارة القوى الكربى‪ ،‬ومنح‬
‫القوى الكربى حقو ًقا ومسؤوليات خاصة فوق تلك التي متتلكها الدول العادية‬
‫انتقاصا كب ًريا عىل مستوى املساواة يف السيادة‪ .‬فقد‬ ‫ً‬ ‫ذات السيادة‪ ،‬مام شكل‬
‫حاولت بريطانيا‪ ،‬باعتبارها قوة صناعية رائدة‪ ،‬الرتويج للسوق بوصفه نظاما‬
‫للمجتمع الدويل العاملي‪ .‬لكن‪ ،‬ويف حني أن هذا قد حقق بعض النجاح‪ ،‬فإنه‬
‫أعطى ميزة كبرية للتجارة والصناعة الربيطانيتني‪ ،‬حيث جرت مواجهتهام من‬
‫طرف النزعة الحامئية الصناعية الناشئة يف معظم قوى املركز األخرى‪ .‬أما بالنسبة‬
‫إىل الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬فقد كانت جزئ ًيا خارج هذا املجتمع املركزي ألنها‬
‫بداًل من ذلك سياسة العزلة السياسية‪ ،‬بينام‬ ‫تجنبت سياسة توازن القوى‪ ،‬واتبعت ً‬
‫ظلت منخرطة يف معظم املسارات األخرى‪.‬‬
‫لقد ُح ِرمت دول األطراف من املساواة يف السيادة‪ ،‬حيث كانت خاضعة بدرجات‬
‫ترتاوح بني الدمج الكامل وسيادة السلطة الحرضية ‪ -‬من خالل املحميات التي‬
‫تتمتع ببعض السيادة املحلية ‪ -‬إىل السيادة التي لديها قدر معقول من الحكم الذايت‬
‫أيضا من املساواة العرقية والثقافية تحت ذريعة‬ ‫املحيل‪ .‬كام ُحرمت دول األطراف ً‬
‫منطق «الداروينية االجتامعية» و«معيار الحضارة»‪ .‬كام ُأعيد تشكيل اقتصادات‬
‫الدول ا ُمل ْس َت ْع َم َرة لتلبية املوارد التي تحتاج إليها مراكز الحوارض‪ ،‬وأيضا من أجل‬
‫العمل كأسواق أسرية ملنتجاتها‪ .‬ففي أماكن مثل الهند‪ ،‬أدت هذه التبعية ملصالح‬
‫املراكز الحرضية إىل تراجع كبري يف مستوى التصنيع؛ لذلك‪ ،‬ويف حني كان مثة داخل‬
‫املركز ما وصفه عىل نحو رائع هيديل بول (‪« )1977‬باملجتمع الفوضوي ذي السيادة‬
‫املتساوية»‪ ،‬كان مثة يف األطراف ِب ْن َي ٌة هَ َر ِم ٌية من السيادة ا ُملن َق ِسمة‪ ،‬حيث تعرضت‬
‫دولها لالستغالل والعنرصية والتدخل من ِق َبل دول املركز‪.‬‬
‫(٭) م َّثل الوفاق األورويب ‪ Concert of Europe‬توازن القوة األورويب من خالل مرحلتني‪ ،‬املرحلة األوىل من ‪1815‬‬
‫إىل بداية الستينيات من القرن ذاته‪ ،‬وأما املرحلة الثانية فمن بداية الثامنينيات من القرن التاسع عرش وإىل العام‬
‫‪ .1914‬هيمنت عىل املرحلة األوىل للوفاق األورويب‪ ،‬والتي تعرف بنظام املؤمترات ‪ Congress System‬أو نظام‬
‫فيينا ‪ Vienna System‬وذلك بعد مؤمتر فيينا (‪ ،)1814-1815‬قوى أوروبا العظمى وهي‪ :‬بروسيا وروسيا وبريطانيا‬
‫وفرنسا والنمسا‪ .‬واستعمل أكرث أعضاء الوفاق األورويب اعتداال‪ ،‬والذين كانوا أيضا أعضاء التحالف املقدس‪ ،‬هذا‬
‫النظام ملعارضة الحركات الثورية وإضعاف القوى القومية ودعم توازن القوى‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف املقابل‪ ،‬وجدت دول األطراف نفسها؛ سواء كان ذلك عن قصد أو من دون‬
‫قصد‪ ،‬يف ُم َو َاج َه ٍة مع املصادر املادية والفكرية للحداثة‪ .‬من الناحية الفكرية‪ ،‬فإن‬
‫األيديولوجيات األربع «للتقدم» التي ُنوقشت أعاله مستمدة بشكل شبه حرصي‬
‫من السياق الغريب ومن نقاشاته الفكرية والسياسية‪ .‬إذ ناد ًرا ما قام املفكرون‬
‫الغربيون املدافعون عن تلك األيديولوجيات بأي محاولة لالستفادة من أفكار‬
‫مامثلة أو متوافقة معها ُمتَأَت َية من العامل غري الغريب‪ .‬لقد رأوا أفكارهم معيارا عامليا‬
‫لـ «الحضارة» ا ُملتجذرة يف التاريخ األورويب وفواعله‪ ،‬والتي ميكن أن تنهض وترتقي‬
‫بظروف دول األطراف إذا تعلمت هذه «املجتمعات غري املتحرضة» تلك األفكار‬
‫واستوعبتها عىل نحو صحيح‪ .‬من الناحية املادية‪ ،‬حصلت دول األطراف إىل َحد‬
‫معني فقط عىل بعض االلتزام من القوى االستعامرية لتعزيز التنمية فيها والدفع‬
‫بالشعوب ا ُملتخلفة ليك تصبح قادرة عىل تلبية معيار الحضارة‪ .‬فلرمبا َف َقدَت الهند‬
‫صناعاتها يف النسيج والصلب وهَ ْي َبتها الثقافية والعرقية واستقاللها‪ ،‬لكنها حصلت‬
‫بالفعل عىل السكك الحديد وتذوقت آالت وأفكار الدولة العقالنية الحديثة‪.‬‬
‫ضمن املجتمع الدويل العاملي هذا‪ ،‬كانت القوى األوروبية مسكونة بالخوف‬
‫من الثورة عىل الرغم من قوتها وثرواتها الهائلة‪ .‬ففي دول املركز‪ ،‬كان الخوف‬
‫َيتَأَىت من الثورات الناشئة عن التحوالت الرسيعة للحداثة‪ .‬وكام لوحظ أعاله‪ ،‬فقد‬
‫احتوت األيديولوجيات األربع للتقدم التي أطلقتها الحداثة عىل تناقضات ليس مع‬
‫أيضا عىل تناقضات‬ ‫النزعة الساللية يف الحكم والتقاليد الدينية فقط‪ ،‬ولكن احتوت ً‬
‫فيام بينها‪ .‬لقد كان الخوف َيتَأَىت جزئ ًيا من إمكانية صدام السالالت الحاكمة‬
‫التقليدية؛ خاصة يف روسيا وبروسيا والنمسا واملجر‪ ،‬مع الثورات الشعبوية والقومية‬
‫والجمهورية مثل تلك التي أطاحت بالنظام املليك الفرنيس يف العام ‪ .1789‬وكام‬
‫يذهب إىل ذلك ج‪ .‬جرانت )‪ ،(1916: 12‬فإن القوى الكربى‪ ،‬ال سيام الرجعية منها‪،‬‬
‫« ُتركت الثورة الفرنسية عىل أعصابها»‪ .‬كام كان الخوف َيتَأَىت‪ ،‬يف جزء منه‪ ،‬من‬
‫النخب الرأساملية الليربالية ذات الديناميات الطبقية الجديدة التي أطلقتها نزعة‬
‫التصنيع وحشدها املؤمنون باالشرتاكية‪ .‬حيث أدت االضطرابات الثورية‪ ،‬مثل تلك‬
‫التي حدثت يف العام ‪ ،1848‬إىل عدم ارتياح النخب األوروبية يف مواقعها‪ .‬وكذلك‬
‫كان األمر بالنسبة إىل احتامل حدوث ثورات يف املستعمرات األفريقية واآلسيوية‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫فقد شكلت ثورات االستقالل يف األمريكتني خطرا مثل الذي شكله التمرد ضد‬
‫رشكة الهند الرشقية يف جنوب آسيا يف العامني ‪ 1857‬و‪ .1858‬ويف حني أن الثورات‬
‫يف األمريكتني أنتجت دو ًاًل تحت قيادة النخب البيضاء‪ ،‬كان العنرصيون قلقني‬
‫من أن التمردات يف املستعمرات غري البيضاء ستمكن لـ «الساللة األدىن»‪ .‬وقد‬
‫أدى مثل هذا التفكري إىل ظهور الخطاب العنرصي عن «الخطر األصفر»‪ ،‬واألمر‬
‫الزجري بـ «ترك الصني تنام»‪.‬‬
‫وقد ألقى هذا التوتر الحاصل داخل املركز‪ ،‬حتى خالل ذروة عظمة عهده‬
‫اإلمرباطوري‪ ،‬بظالله عىل ظهور الحركات املناهضة لالستعامر يف كل من آسيا‬
‫وأفريقيا والعامل العريب وأماكن أخرى خالل أواخر القرن التاسع عرش وأوائل‬
‫القرن العرشين‪.‬‬
‫ففي الهند تأسس حزب املؤمتر الوطني الهندي يف العام ‪ ،1885‬الذي يراه البعض‬
‫«أول حركة قومية حديثة صاعدة يف اإلمرباطورية غري األوروبية» ‪(Marshall,‬‬
‫)‪ .2001: 179‬وكان من بني ُمؤسسيه أالن أوكتافيان هيوم؛ وهو موظف حكومي‬
‫بريطاين‪ ،‬وداداباي ناوروجي ‪Dadabhai Naoroji‬؛ وهو مدرس هندي سنتطرق‬
‫إىل الحديث عنه مرة أخرى يف الفصل الثاين‪ .‬نشأت الحركة املناهضة لالستعامر يف‬
‫الهند وأماكن أخرى من مصادر مختلفة كان من بينها َت َصاعُ د النزعة القومية‪ .‬لكن‬
‫القومية مل تكن مجرد مسألة إنشاء «مجتمعات ُمت ََخ َّي َلة» (‪ )Anderson, 2006‬من‬
‫طرف النُّخب املحلية‪ .‬فمن املؤكد أن بعض العوامل التي حددها أندرسون‪ ،‬مثل‬
‫تأثريات التجانس للبريوقراطيات االستعامرية املركزية‪ ،‬وإنشاء واستخدام لغة وطنية‬
‫من ِق َبل القوة االستعامرية‪ ،‬وانتشار وسائط الطباعة‪ ،‬مارست كلها دو ًرا يف الجمع‬
‫بني ُأ َناس من مجموعات عرقية مختلفة‪ .‬غري أن القومية يف العامل االستعامري ظهرت‬
‫يف األساس كمقاومة للحكم والهيمنة األجنبيني‪ ،‬وبعبارة أخرى؛ جاءت القومية نتيجة‬
‫ثانوية‪ ،‬وليس سببا للمقاومة ضد االستعامر‪ ،‬عىل الرغم من أن االثنني سارا جن ًبا إىل‬
‫جنب‪ ،‬وكان ُي َعزز كل منهام اآلخر‪.‬‬
‫وبينام يتحدث أندرسون عن األصول «الك ِري ُيولية» للقومية‪ ،‬التي تفرس التفاعل‬
‫بني التأثري األورويب ودور النخب املحلية يف تطوير املجتمع ا ُملت ََخ َّيل لألمة‪ ،‬فقد‬
‫تعرض تفسريه النتقادات بسبب اعتبار القومية فكرة عاملية ميكنها أن تتالءم مع‬
‫‪51‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫السياقات االستعامرية املختلفة‪ ،‬وأيضا بسبب تجاهله «املكان ا ُمل َركب للتابعني يف‬
‫هذه القصة‪ ،‬ال سيام مكان السكان األصليني املحارصين داخل الحكم االستعامري»‬
‫(‪ .)Calhoun, 2017‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬ال ميكن تفسري انتشار القومية وتأثرياتها يف‬
‫املستعمرات عىل أنه انتشار معياري لفكرة أوروبية عاملية بشكل افرتايض (‪Nath‬‬
‫‪َ « )and Dutta, 2014‬ت َع َل َم ْت َها» الن َُّخ ُب التي درست وعملت يف أوروبا قبل العودة‬
‫بداًل من ذلك‪ ،‬وكام يحاجج بارثا شاترجي (‪ ،)1993‬فإن تطور القومية‬ ‫إىل أوطانها‪ً .‬‬
‫أشكااًل عديدة‪ ،‬ففي حني أن القوميني‬ ‫ً‬ ‫والنضاالت املناهضة لالستعامر اتخذت‬
‫املحليني رمبا يكونون قد تبنوا الجوانب املادية للحداثة الغربية‪ ،‬لكنهم احتفظوا‬
‫أيضا مبعتقداتهم الثقافية والروحية يف بناء القومية‪ .‬باختصار‪ ،‬لقد طور العامل غري‬ ‫ً‬
‫الغريب أنواعًا مختلفة من األفكار واملقاربات التي تقف وراء النضاالت املناهضة‬
‫لالستعامر وف ًقا للسياق والحاجة املحليني‪ :‬إنها حالة كالسيكية من التوطني النشط‬
‫والتكويني (‪ً ،)Acharya, 2004‬‬
‫بداًل من كونها تبن ًيا شامال وسلبيا لـفكرة أجنبية من‬
‫ِق َبل القادة واملجتمعات املحليني‪.‬‬
‫لقد كان لظهور القومية العربية يف أواخر القرن التاسع عرش وأوائل القرن‬
‫العرشين جذور علامنية ودينية عىل حد سواء‪ ،‬وكانت تلك النزعة موجهة ضد‬
‫الحكم العثامين وكذلك ضد اإلمربيالية الغربية‪ ،‬عىل الرغم من أنها كانت موجهة‬
‫أكرث ضد الغرب يف البلدان العربية يف شامل أفريقيا‪ .‬وباستثناء املغرب‪ ،‬كان جزء كبري‬
‫من الرشق األوسط الحديث خالل القرن التاسع عرش وأوائل القرن العرشين يقبع؛‬
‫عىل األقل اسم ًيا‪ ،‬تحت الحكم العثامين‪ .‬لفرتة طويلة َق ِب َل العرب بالحكم العثامين‪،‬‬
‫وذلك بفضل دينهم املشرتك‪ ،‬وكذلك بفضل قوة وسلطة اإلمرباطورية العثامنية التي‬
‫فرصا للحكام العرب املحليني‬ ‫كان بإمكانها أن تتحدى الغرب عىل أبواب فيينا وتوفر ً‬
‫للعمل يف البالط العثامين‪ .‬لكن ذلك تغري مع انهيار اإلمرباطورية العثامنية يف القرن‬
‫التاسع عرش‪ .‬فبينام وقعت انتفاضات محلية ضد القوى االستعامرية الغربية؛ مثل‬
‫الثورة التي قادها األمري عبدالقادر يف الجزائر يف أربعينيات القرن التاسع عرش‪ ،‬فإن‬
‫البداية الحقيقية للقومية األكرث اتساعًا يف العامل العريب ميكن إرجاعها إىل «النهضة‬
‫العربية» خالل القرن التاسع عرش (‪ .)Kramer, 1993‬وقد شكلت العلامنية أحد‬
‫مصادر تلك الحركة‪ ،‬حيث ُت ُز ِّع َم ْت حركة النهضة من طرف املسيحي اللبناين ُجرجي‬
‫‪52‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫زيدان وجهود العرب املسيحيني الليرباليني من أجل تكييف اللغة العربية وسيل ًة‬
‫لنرش الحداثة الغربية من خالل التعليم واألدب‪ .‬كام شكل الدينُ أيضا أحد مصادر‬
‫تلك الحركة‪ ،‬وقد انعكس يف رغبة العرب املسلمني يف االبتعاد عن القيادة الثقافية‬
‫بداًل من ذلك‪ ،‬كحامل للواء مايض‬ ‫العثامنية املتدهورة‪ ،‬ورسم الحضارة العربية‪ً ،‬‬
‫أيضا مصد ٌر سيايس للقومية‬‫اإلسالم املجيد ومستقبله (‪ .)Kramer, 1993‬كان مثة ً‬
‫العربية‪ ،‬التي وجدت أقوى تعبري لها عندما أبرم حسني بن عيل‪ ،‬رشيف مكة‪ ،‬اتفا ًقا‬
‫مع بريطانيا يف العام ‪ 1915‬من أجل الثورة ضد العثامنيني مقابل الحصول عىل‬
‫الدعم الربيطاين الستقالل املرشق العريب‪ .‬غري أن الربيطانيني عقدوا صفقة مع فرنسا‬
‫(اتفاقية سايكس بيكو ‪ )1916‬لتقسيم املنطقة فيام بينهم ومل يفوا بالتزاماتهم‪.‬‬
‫وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬أدى وعد بلفور الربيطاين يف العام ‪ ،1917‬الذي دعا إىل إنشاء‬
‫وطن قومي لليهود يف فلسطني‪ ،‬إىل تفاقم الشكوك حول بريطانيا وغ َّذى نزعة‬
‫مناهضة االستعامر لدى العرب‪ ،‬والتي ستجد تعب ًريا لها بصورة أكمل بعد الحرب‬
‫العاملية األوىل‪.‬‬
‫أيضا مبجموعة متنوعة من‬ ‫ويف أفريقيا ْاختَص َت َصاعُ د نزعة مناهضة االستعامر ً‬
‫اإلسرتاتيجيات واملقاربات التي تعكس حجم وتنوع القارة‪ .‬ففي حني أن الدول‬
‫الساحلية؛ التي كانت عىل اتصال باألوروبيني يف وقت سابق (منذ القرن الخامس‬
‫عرش)‪ ،‬كانت يف البداية أكرث تكي ًفا مع الحكم االستعامري‪ ،‬فإن املجتمعات الداخلية‬
‫غري املسيحية؛ والتي أصبحت عىل اتصال مع األوروبيني الح ًقا عىل نحو أكرث‬
‫سطحية‪ ،‬طورت إىل نضاالت ذات طابع أكرث عسكرية‪ .‬لقد كانت النضاالت ضد‬
‫االستعامر أكرث عُ ن ًفا يف مستعمرات املستوطنني األوروبيني يف رشق أفريقيا وشاملها؛‬
‫مثل كينيا والجزائر اللتني كانتا ُتح َكامن من طرف األوروبيني عىل نحو مبارش‪ ،‬مقارنة‬
‫باملستعمرات غري االستيطانية يف الساحل الغريب؛ مثل نيجرييا والكامريون‪ .‬توسع‬
‫الحكم االستعامري األورويب يف أفريقيا عىل نحو كبري بعد مؤمتر برلني (‪)1885–1884‬‬
‫أيضا النضاالت‬ ‫قسم أفريقيا بني القوى األوروبية املختلفة‪ .‬وقد ألهم هذا ً‬ ‫الذي َّ‬
‫القامئة ضد االستعامر والتي كانت تهدف إىل منع مزيد من االستغالل ملوارد أفريقيا‬
‫واإلطاحة بالحكم األورويب‪ .‬وعىل رغم أن البعض من تلك النضاالت اتخذ طاب ًعا‬
‫عسكر ًيا‪ ،‬فإن إثيوبيا فقط هي التي متكنت من هزمية قوة أوروبية؛ إيطاليا يف‬
‫‪53‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫العام ‪ ،1896‬لتظل مستقلة خالل تلك الفرتة‪ .‬وقد تضمنت تلك النضاالت املناهضة‬
‫لالستعامر خالل أوائل القرن العرشين مترد ماجي ماجي يف تنجانيقا يف العام‬
‫‪1905‬؛ وثورات مدغشقر يف العامني ‪ 1904‬و‪ 1905‬والعام ‪1915‬؛ وثورات املهدي يف‬
‫السودان (‪)1904-1900‬؛ وثورة أرض الصومال (‪)1920-1895‬؛ وثورة إجبا يف نيجرييا‬
‫يف العام ‪(1918‬٭)‪ .‬ويف أثناء مواجهة القوة األوروبية املتفوقة‪ ،‬لجأ األفارقة أحيا ًنا إىل‬
‫خصوصا يف املستعمرات الفرنسية والبلجيكية‬ ‫ً‬ ‫الهجرة الجامعية املوسمية أو الدامئة‪،‬‬
‫واألملانية والربتغالية‪ ،‬تاركني وراءهم املناطق التي كان الحكم االستعامري ينتهج‬
‫حكاًم قمع ًّيا عىل نحو خاص‪ ،‬لينتقلوا إىل مناطق أكرث أما ًنا نسب ًّيا‪ .‬وكان لظهور‬ ‫فيها ً‬
‫وسائل اإلعالم املطبوعة دور مساعد للحركات املناهضة لالستعامر يف أفريقيا‪.‬‬
‫عىل الرغم من االنقسامات وغياب األمن‪ ،‬فإن الصيغة األوىل للمجتمع‬
‫الدويل العاملي متكنت من وضع أسس ما نسميه اآلن بالحوكمة العاملية ‪Global‬‬
‫‪(Governance‬٭٭)‪ .‬وكام لوحظ أعاله‪ ،‬فقد أصبح لكل من املجتمع املدين العاملي‬
‫الذي أخذ شكل منظامت غري حكومية دولية؛ واملَ ْأ َس َس َة الجديدة ملجتمع ما بني‬
‫الدول الذي أخذ شكل منظامت حكومية دولية دامئة‪ ،‬أدوار بارزة خالل القرن‬
‫التاسع عرش‪ ،‬وقد شهدت الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي أيضا ضم بعض‬
‫األعضاء من دول األَ ْط َراف‪.‬‬

‫‪ - 3‬اليابان ُت ْن ِذ ُر بـ «صُ ُعو ِد ال َب ِقية»‬


‫باستثناء األدبيات املتخصصة يف شامل رشق آسيا والتاريخ االقتصادي‪ ،‬فإن‬
‫قصة اليابان قبل الحرب العاملية األوىل كانت ُم َه َّمشة عىل نحو عام أو تم‬
‫تجاهلها يف رسديات حقل العالقات الدولية‪ .‬ويجدر االنتباه إليها هنا‪ ،‬ليس فقط‬
‫ِإلصالح اختالل التوازن هذا‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا ألن قصة اليابان ُت َج ِّسدُ ثالثة موضوعات‬
‫(٭) كانت حرب البوير (‪ )1902-1899‬حالة غري عادية لنخبة استعامرية بيضاء يف أفريقيا تتمرد ضد أخرى‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬
‫(٭٭) يُستخدم مصطلح الحوكمة العاملية عىل نحو واسع لإلشارة إىل جميع األحكام الهادفة إىل تنظيم و َم ْر َكزة‬
‫الجامعات البرشية وف ًقا ملقياس عاملي‪ .‬ويع ّرف منتدى الحوكمة العاملية الجديدة املصطلح كالتايل‪« :‬إدارة كوكب‬
‫األرض بصورة جامعية»‪ .‬إنها إذن عبار ٌة عن نظام يسعى إىل اتخاذ القرارات باالعتامد عىل تطبيق القانون الدويل‪،‬‬
‫يتعامل مع الحكومات‬ ‫ُ‬ ‫تطبيق نظام إداري عاملي‬ ‫ِ‬ ‫واملعاهدات الدولية بني دول العامل‪ ،‬وذلك من خالل سعيه إىل‬
‫للنصوص السياسية‪ ،‬واإلدارية ا ُملتَّفق عليها‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ويعمل عىل إدارة شؤونها العاملية وفقا‬ ‫الدولية‪،‬‬

‫‪54‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫سيرتدد صداها يف الفصول الالحقة(٭)‪ .‬يتمثل املوضوع األول يف أن اليابان كانت‬


‫جز ًءا من املجموعة األوىل من الدول التي رشعت بنجاح يف مسار التحديث قبل‬
‫الحرب العاملية األوىل‪ .‬لذلك‪ ،‬مل تكن الطليعة الرائدة للحداثة حد ًثا غرب ًّيا بحتًا‪،‬‬
‫بل حد ًثا كانت اليابان تشكل جز ًءا ال يتجزأ منه‪ .‬يتجسد املوضوع الثاين يف أنه‬
‫مهاًم يف تقويض أسطورة‬ ‫وقبل الحرب العاملية األوىل‪ ،‬كانت اليابان تؤدي دو ًرا ً‬
‫القوة البيضاء التي ال ُتقهر‪ ،‬وهي األسطورة التي كانت تشكل إحدى الدعائم‬
‫املهمة التي يقوم عليها ا ُمل ْج َت َمع الدُ َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب‪ .‬املوضوع‬
‫الثالث هو دور اليابان يف التشكيك يف العنرصية‪ ،‬والذي ساعد أَ ْي ًضا عىل تآكل‬
‫رشعية االستعامر كنظام للمجتمع الدويل‪.‬‬

‫‪ - 3 - 1‬اليابان كجزء من املرحلة العامة األوىل للحداثة‬


‫أين ومتى وكيف انسجمت اليابان مع مسار الحداثة الذي انطلق خالل‬
‫القرن التاسع عرش؟ ُتعترب اليابان عاد ًة أنها تشكل استثنا ًء‪ ،‬وهي الدولة الوحيدة‬
‫غري الغربية التي ُحدِّثت بطريقة ما قبل قرن من الزمن وقبل أي دولة غري‬
‫غربية أخرى‪ ،‬حيث أصبحت دولة ُمعرت ًفا بها كقوة كربى من ِق َبل الدول الرائدة‬
‫األخرى‪ .‬إن هذا ال ينسجم مع الرواية األكرث انتشارا بشأن آسيا والتي تتعلق‬
‫بالدول الزراعية «الراكدة» التي إما أن تكون ُم ْس َت ْع َم َرة من ِقبل القوى الغربية‬
‫(كدول الجنوب ودول جنوب رشق آسيا) وإما ُت َجا ِبه من موقع ضعف مواجهتهم‬
‫العنيفة واملؤملة (كالصني)‪ .‬كام أنه ال ينسجم مع الرواية الغربية التي ترغب يف‬
‫رؤية الظهور الحاسم لحداثة صناعية مستقرة كيش ٍء حدث يف أوروبا الغربية‬
‫وأمريكا الشاملية فقط مهام كانت ا ُملدخالت التي قد تتأىت إىل أوروبا من بقية‬
‫العامل‪ .‬إن السؤال الدائم الذي تطرحه الحالة اليابانية هو ما إذا كانت اليابان‬
‫تشكل جز ًءا من الرشق أم جز ًءا من الغرب؟‬
‫مثلام أوضح املؤرخون االقتصاديون‪ ،‬كانت اليابان عض ًوا يف مجموعة أساسية‬
‫صغرية جدًا من البلدان التي استجابت بنجاح للتحدي الربيطاين وحققت حداثة‬
‫(٭) هذا القسم سيعتمد عىل نحو كبري عىل أفكار كوياما وبوزان (‪[ .)2018‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫صناعية دامئة قبل الحرب العاملية األوىل (‪Bairoch, 1982: 288; Maddison,‬‬
‫‪ .)2001 ; R. Baldwin, 2016‬وعىل الرغم من أن اليابان رشعت يف مسار‬
‫التحديث متأخرة مقارنة بفرنسا وأملانيا والواليات املتحدة‪ ،‬فإنها كانت جز ًءا‬
‫من مجموعة فرعية ثالثة من املرحلة األوىل للتحديثيني إىل جانب كل من‬
‫روسيا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا واملجر‪ .‬وعىل عكس معظم البلدان غري الغربية‬
‫األخرى وكذا بعض الدول الغربية والسيام تلك الواقعة يف أوروبا الرشقية‬
‫وإيبرييا‪ ،‬كانت اليابان تتمتع بظروف محلية مواتية نسب ًّيا س َّهلت مسار تحولها‬
‫إىل حداثة صناعية (‪ .)Maddison, 2001: 27, 38, 46‬حيث كان لديها اقتصاد‬
‫تجاري متطور‪ ،‬بينام شكلت ِب ْن َيتُها الطبقية ودميوغرافيتها ونظام ملكية األرايض‬
‫فيها رشوطا مواتية للتحديث (‪Curtin, 2000: 156–71; Totman, 2005:‬‬
‫‪ ،)locs. 8028–56; Allinson and Anievas, 2010: 479–85‬بحيث ابتكر‬
‫ماجا ُمتَوا ِز ًنا بني التقاليد (اإلمرباطور وشينتو)‬
‫مصلحو حركة امليجي يف اليابان اِ ْن ِد ً‬
‫والحداثة‪ ،‬ورسعان ما أقاموا دولة عقالنية حديثة بإمكانها أن ُت َهذب النزعة‬
‫القومية‪ ،‬وتسعى وراء التصنيع‪ ،‬وتقاوم السيطرة األجنبية (‪Jansen, 2000: chs.‬‬
‫‪.)11– 12; Totman, 2005: locs. 8198– 429‬‬
‫ومبجرد أن رشعت اليابان يف مسار الحداثة حتى تحركت القيادة اليابانية‬
‫سرْي األمور يف الدول الغربية‪،‬‬
‫برسعة‪ .‬فقد أرسلوا بعثات إىل الخارج ملراقبة كيفية ْ‬
‫واستوردوا ِب ُحرية الخرباء من الخارج للمساعدة يف جميع جوانب التحديث‪ .‬إذ‬
‫رسعان ما أدرك اليابانيون أن التحديث الغريب كان تطو ًرا حدي ًثا‪ ،‬ومن ثم فإن‬
‫فجوة التنمية ليست كبرية أو ال ميكن التغلب عليها كام قد تبدو للوهلة األوىل‬
‫(‪ .)Jansen, 2000: locs. 5364–438‬وخالل الفرتة املمتدة بني العامني ‪1870‬‬
‫و‪ ،1913‬لحقت اليابان عىل نطاق واسع مبعدالت النمو يف أوروبا الغربية بالنسبة‬
‫إىل السكان والناتج املحيل اإلجاميل ونصيب الفرد من الناتج املحيل اإلجاميل‬
‫(‪ .)Maddison, 2001:126‬ليتضاعف الناتج املحيل اإلجاميل الياباين ثالث مرات‬
‫خالل هذه الفرتة مقارنة بأملانيا وروسيا‪ ،‬وأفضل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا‪،‬‬
‫كام تضاعف نصيب الفرد من الناتج املحيل اإلجاميل متجاو ًزا عىل نحو طفيف‬
‫املعدل يف أوروبا الغربية (‪.)Maddison, 2001: 129, 206, 261, 264– 5‬‬
‫‪56‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫وارتفع متوسط العمر املتوقع يف اليابان خالل هذه الفرتة مثلام حدث يف‬
‫دول املَ ْر َكز األخرى‪ ،‬ولكنه مل يتجاوزها (;‪Topik and Wells, 2012: 602– 3‬‬
‫‪ .)Osterhammel, 2014: 170– 2‬وعىل عكس دول العامل الثالث األخرى‪،‬‬
‫احتفظت اليابان إىل حد كبري بحصتها يف التصنيع العاملي بني العامني ‪1800‬‬
‫و‪ .)Bairoch, 1982: 294, 296( 1913‬وخالل الفرتة نفسها ارتفع مستوى‬
‫التصنيع للفرد فيها (مع األخذ باعتبار اململكة املتحدة يف العام ‪ 1900‬هي‬
‫األعىل درجة يف مستوى التصنيع للفرد بنسبة ‪ )100‬من ‪ 7‬إىل ‪ ،20‬وبني العامني‬
‫‪ 1820‬و‪ ،1913‬ظلت حصة اليابان من الناتج املحيل اإلجاميل العاملي ثابتة إىل‬
‫حد ما عند نحو ‪ 3‬يف املائة حيث حافظت عىل وتريتها لتكون يف طليعة الدول‬
‫ا ُمل َصنِّعة (‪ .)Maddison, 2001: 127, 263‬وبحلول العام ‪ ،1913‬احتلت اليابان‬
‫املرتبة الثامنة من حيث إجاميل اإلنتاج الصناعي‪ ،‬وذلك بنسبة ‪ 20‬يف املائة من‬
‫املستوى الربيطاين و‪ 17‬يف املائة من املستوى األملاين (‪.)Bairoch, 1982: 284‬‬
‫وكام تظهر البيانات‪ ،‬من الواضح أن اليابان كانت جز ًءا ضمن مجموعة‬
‫أوائل التحديثيني للقرن التاسع عرش‪ ،‬عىل الرغم من كونها كانت غري غربية‬
‫عىل نحو عميق‪ .‬ومثل كل أولئك الذين اتبعوا القيادة الربيطانية‪ ،‬استجابت‬
‫اليابان للضغط الخارجي الذي فرضه الشكل العام الجديد للحداثة‪ ،‬وكان لديها‬
‫الحظ واملهارة المتالك وخلق ظروف محلية مواتية للدخول يف مسار الحداثة‪.‬‬
‫وفضال عىل النامذج الربيطانية‪ ،‬كان لديها أيضا مناذج ميكن االعتامد عليها‪.‬‬
‫فقد كانت تتساوى مع التحديثيني املتأخرين يف املرحلة األوىل‪ ،‬وتركت وراءها‬
‫تلك الدول األوروبية التي فشلت يف االستجابة بفعالية للتحديات التي فرضتها‬
‫الحداثة‪ .‬لقد استَحدَثت اليابان اِد َماجها املتميز بني الثقافة والحداثة‪ ،‬وأصبحت‬
‫منوذجا للدولة التنموية اآلسيوية‪ .‬إن فكرة أن اليابان كانت جز ًءا ال يتجزأ‬
‫ً‬ ‫متثل‬
‫من املرحلة األوىل من التحديث هي األساس الذي يجب أن ُيفهم عىل أساسه‬
‫موقعها يف العالقات الدولية‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬رسعان ما أصبحت اليابان‬
‫متثل النموذج املحيل للتحديث يف شامل رشق آسيا‪ ،‬حتى أنها انتزعت اعرتاف‬
‫اإلصالحيني الصينيني بها (‪.)Koyama and Buzan, 2018‬‬

‫‪57‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪َ - 3 - 2‬ت َحطم أسطورة القوة البيضاء‬


‫سعت اليابان كغريها من القوى الصناعية الكربى األخرى يف ذلك الوقت إىل‬
‫العدة لإلمرباطورية التي كانت متثل‬ ‫الحصول عىل مكانة «قوة كربى»(٭)‪ ،‬وتجهيز ُ‬
‫منط القوة الكربى خالل القرن التاسع عرش‪ .‬لقد وضعت الحرب اليابانية الناجحة‬
‫ضد الصني (‪ )1895-1894‬البلد عىل طريق االعرتاف به كقوة كربى‪ ،‬وهو ما أكده‬
‫التحالف اإلنجليزي ‪ -‬الياباين يف العام ‪ ،1902‬والذي عُ زِّز بهزميته لروسيا يف العامني‬
‫‪ 1904‬و‪ .1905‬وال ُيعرتف اليوم باألهمية العاملية النتصار اليابان‪ ،‬إال قليال‪ ،‬سواء‬
‫من قبل التيار السائد يف حقل العالقات الدولية (‪،)Buzan and Lawson, 2014a‬‬
‫أو من قبل منتقدي املركزية األوروبية داخل العالقات الدولية‪ ،‬الذين يركزون‬
‫عىل االستعامر الياباين الوحيش أكرث من الرتكيز عىل مساهامته يف تقويض النظام‬
‫االستعامري برمته‪ .‬لكن أهمية انتصار اليابان كانت واضحة متا ًما للمراقبني يف ذلك‬
‫الوقت‪ .‬فقد كان من املقرر أن يلقي ألفريد زميرن ‪ ،Alfred Zimmern‬الذي‬
‫رمبا أصبح األكادميي الرائد لحقل العالقات الدولية الربيطاين يف فرتة بني الحربني‪،‬‬
‫محارضة للطالب يف جامعة أكسفورد بشأن التاريخ اليوناين‪ ،‬ولكن ً‬
‫بداًل من ذلك‪،‬‬
‫بدأ حديثه باإلعالن عام ييل‪« :‬أشعر بأنني يجب أن أتحدث إليكم عن أهم حدث‬
‫تاريخي حصل؛ أو من املرجح أن يحصل‪ ،‬عىل مدى حياتنا‪ :‬إنه انتصار الشعب غري‬
‫األبيض عىل الشعب األبيض» (‪ .)Vitalis, 2005: 168‬توضح هذه املالحظة أهمية‬
‫ال ِع ْرق خالل أوائل القرن العرشين والذي تم تناسيه إىل حد كبري يف حقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬و ُتربز كيف حطمت انتصارات اليابان العسكرية أسطورة القوة البيضاء‬
‫التي ال ُتقهر والتي تأسست يف القرن التاسع عرش من خالل االنتصارات األوروبية‬

‫(٭) يحدث لدى الكثريين التباس يف ترجمة مصطلح ‪ ،Great Power‬إذ يرتجم عادة إىل «القوة العظمى»‪ ،‬ويبدو‬
‫أن هذا خطأ شائع يف أدبيات العالقات الدولية العربية‪ .‬فاألصح من الناحية العلمية هي ترجمته إىل قوة كربى‪ .‬و َّمثة‬
‫ثالثة مفاهيم مفتاحية يف هذا الخصوص‪ .‬القوة اإلقليمية ‪ ،Regional power‬وهي القوة التي يكون نفوذها مقترصا‬
‫عىل إقليمها (مثل نفوذ اململكة العربية السعودية‪ ،‬أو تركيا‪ ،‬أو إيران يف منطقة الرشق األوسط‪ ،‬وهي كلها تعدُّ قوى‬
‫إقليمية يف املنطقة)‪ .‬القوة الكربى ‪ ،Great Power‬وهي القوة التي يتخطى نفوذها وتأثريها إقليمها ليكون لها تأثري‬
‫ونفوذ يف مناطق بعيدة محددة (مثل تأثري فرنسا يف أفريقيا‪ ،‬وتأثري بريطانيا يف الرشق األوسط)‪ .‬القوة العظمى‬
‫‪ ،Superpower‬وهي القوة التي يكون كل العامل مجاال ملصالحها ونفوذها وتأثريها‪ ،‬وال تحوز وضع القوة العظمى‬
‫اليوم سوى الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬خصوصا بعد انهيار االتحاد السوفييتي الذي شكل القوة العظمى الوحيدة‬
‫املنافسة خالل فرتة الحرب الباردة‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫واألمريكية السهلة نسب ًيا عىل الصني واإلمرباطورية العثامنية وأجزاء كثرية من‬
‫منوذجا لحركات التحديث ومناهضة‬ ‫ً‬ ‫أفريقيا‪ .‬وبذلك أعطت اليابان األمل وقدمت‬
‫االستعامر يف جميع أنحاء العامل‪ .‬فالشعب غري األبيض ميكنه أن يصبح بالفعل‬
‫تجسدت «الصحوة»‪ ،‬التي عززتها هزمية اليابان لروسيا‪،‬‬ ‫قوة كربى ناجحة‪ .‬وقد َّ‬
‫يف الثورات القومية ضد «الت ََخ ُّلف» يف إيران والصني واإلمرباطورية العثامنية‪ ،‬كام‬
‫تجسدت كذلك يف التيار الفكري لـ «النزعة الوحدوية اآلسيوية» ‪Pan-Asianism‬‬
‫التي احتوت عىل أصوات قيادية كالشاعر البنغايل رابندرانات طاغور‪ ،‬واستطاعت‬
‫أن تجتذب جمهو ًرا كب ًريا (‪ .)Collins, 2011‬وقد سعى األتراك الشباب (تركيا‬
‫الفتاة)(٭) إىل جعل الدولة العثامنية «يابان الرشق األدىن»‪ ،‬مشيدين بإرصارها‬
‫وتشكيلها لـ «حداثة آسيوية» عىل نحو متميز (‪ .)Aydin, 2007: 78‬كام كان ُيطلق‬
‫عىل أولئك التحديثيني املحيطني باإلمرباطور يف إثيوبيا خالل أوائل القرن العرشين‬
‫اسم «اليابانيون» )‪.Japanisers (Westad, 2007: 253‬‬

‫‪ - 3 - 3‬العنرصية‬
‫لقد متثلت مساهمة اليابان األخرى باعتبارها القوة الكربى الوحيدة غري البيضاء‬
‫يف مواجهة القوى الكربى األخرى يف قضية العنرصية خالل مفاوضات فرساي خالل‬
‫للم ْج َت َمع‬
‫العام ‪ .1919‬كانت محاولة اإلصالح هذه ملا كان يعترب مبنزلة نظام رئيس ُ‬
‫الدُ َو ِيِل االِ ْس ِت ْع َاَم ِري ُتشكل بالنسبة إىل اليابان مصلحة ذاتية عىل نحو أسايس‪ :‬إذ‬
‫كانت تتعلق مبكانة اليابانيني‪ ،‬وليس مببدأ العنرصية يف حد ذاته‪ .‬وكام تحاجج‬
‫الباحثة ناوكو شيامزو (‪ ،)1998‬فإن قضية عدم املساواة العرقية هددت مكانة‬
‫اليابان كقوة كربى والتي اكتسبتها بشق األنفس‪ ،‬وذلك من خالل وضعها يف مرتبة‬
‫عرقية أدىن من القوى البيضاء‪ ،‬ووضعها جن ًبا إىل جنب مع رعايا املستعمرات من‬
‫غري البيض‪ .‬لقد ُر ِّسخت هذه اإلهانة من ِقبل سياسات الهجرة املعادية لليابانيني‬
‫واآلسيويني يف الواليات املتحدة وكندا وأسرتاليا‪ .‬فمن دون االعرتاف مبساواتهم بني‬
‫الناس‪ ،‬كيف ميكن لليابان تجنب النظر إليها باعتبارها قوة كربى من الدرجة الثانية؟‬
‫(٭) تركيا الفتاة أو األتراك الشباب هام اسامن للحركة السياسية نفسها التي قادت الثورة إلسقاط الحكم‬
‫العثامين‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وكام تحاجج ناوكو شيامزو‪ ،‬كانت نتيجة ذلك أن اليابان كانت «قوة متعجرفة لكنها‬
‫غري آمنة‪ ،‬رافضة‪ ،‬لكنها حساسة تجاه الرأي العام الدويل» (‪Shimazu, 1998: loc.‬‬
‫‪ .)138‬وحتى يف هذه الرشوط الضيقة‪ ،‬فشلت اليابان يف التغلب عىل العنرصية التي‬
‫قام عليها النظام االستعامري الغريب عندما رفضت القوى الغربية سعيها ليك تكون‬
‫متساوية من الناحية العرقية (‪ .)Clark, 2007:83–106‬لقد نتج عن هذه اإلهانة‬
‫تحول معا ٍد للغرب يف السياسة اليابانية التي أرست أسس التنافس الجيوسيايس‬
‫خالل سنوات بني الحربني (‪ .)Zarakol, 2011: 166–73‬ويقدم كونراد تومتان‬
‫ابطا مث ًريا لالهتامم‪ ،‬وهو أن هذا الحرمان‬ ‫(‪ )locs. 8960–82 :2005‬يف هذا الصدد ر ً‬
‫لليابان من وجود منفذ لفائض سكانها قد غ َّذى مربرات بناء اإلمرباطورية من قبل‬
‫اليابان ألجل حل هذه املشكلة بطريقة مختلفة‪ .‬وعىل الرغم من مقاربتها القامئة‬
‫عىل املصلحة الذاتية وفشل تلك املقاربة‪ ،‬شنت اليابان عىل األقل أول تح ٍد كبري‬
‫للم ْج َت َمع الدُ َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب‪.‬‬
‫للتسلسل الهرمي العرقي ُ‬

‫‪ - 4‬الحرب العاملية األوىل‬


‫شكلت حرب ‪ 1918 - 1914‬أول أزمة كربى يف العرص الحديث‪ .‬ففي وقت‬
‫سابق‪ ،‬كانت مثة حروب خطرية نشبت بني القوى الكربى (بروسيا والنمسا واملجر‬
‫يف العام ‪ ،1866‬وفرنسا وأملانيا يف العام ‪ ،1870‬وروسيا واليابان يف العامني ‪1904‬‬
‫و‪ ،)1905‬كانت كلها حروبا قصرية وحاسمة‪ ،‬كام أن فرتة السبعينيات من القرن‬
‫التاسع عرش شهدت ركودا اقتصاديا كبريا‪ .‬لكن الحرب العاملية األوىل كانت أكرب‬
‫بكثري وأكرث تدم ًريا من أي من تلك الحروب‪ .‬ومن املثري لالهتامم أن الحرب مل تنشب‬
‫بسبب التوترات األيديولوجية التي و َّلدتها الحداثة أو بسبب أي أزمة اقتصادية‬
‫مبارشة‪ .‬بل كان املحرك الرئيس لها هو توازن القوى‪ .‬ففي مطلع القرن كان النظام‬
‫العاملي قد وصل إىل نهايته‪ ،‬مبعنى أن جميع األرايض والشعوب التي كان ميكن‬
‫استعامرها بسهولة‪ ،‬قد استُعمرت بالفعل‪ .‬ومثلام أشار كل من املاركسيني واملحللني‬
‫الجيوسياسيني‪ ،‬فإن هذه املنافسة اإلمربيالية اشتدت من خالل جعل إعادة التوزيع‬
‫(األرايض) السبيل الوحيد لكل قوة كربى لتوسيع إمرباطورياتها (]‪Lenin, [1916‬‬
‫‪ ،)1975; Mackinder, [1904] 1996‬إذ كانت القوى الصاعدة مثل أملانيا واليابان‬
‫‪60‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫والواليات املتحدة تبحث جميعها عن «مكان لها تحت الشمس»‪ ،‬ومل يكن بإمكانها‬
‫فعل ذلك إال عىل حساب القوى االستعامرية الحالية‪.‬‬
‫لقد استُقطبت ِبنْية القوة األوروبية يف شكل كتلتني‪ ،‬غري أن كال من التحالف‬
‫الثاليث (أملانيا والنمسا واملجر وإيطاليا) والوفاق الثاليث (بريطانيا وفرنسا وروسيا)‬
‫جاءا نتاجا لتوازن القوى‪ ،‬وليسا نتيج ًة للتحالفات األيديولوجية‪ .‬فقد كانت‬
‫اليابان متحالفة مع بريطانيا‪ ،‬وظلت الواليات املتحدة تتبنى «نزعة انعزالية»‬
‫منفصلة بذلك عن التوازن األورويب‪ ،‬وتحالفت اإلمرباطورية العثامنية مع أملانيا‬
‫عند اندالع الحرب‪ .‬وتؤكد الرواية التقليدية ألسباب الحرب العاملية األوىل دور‬
‫التحالفات غري املرنة وسباق التسلح الصناعي والتخطيط العسكري الصارم‬
‫والديبلوماسية الرسية‪ .‬كانت بريطانيا وأملانيا قد أمضتا أكرث من عقد من الزمان‬
‫قبل العام ‪ 1914‬يف خضم سباق تسلح بحري باهظ‪ ،‬حيث هدد ذلك التوسع‬
‫البحري األملاين التفوق البحري لربيطانيا (‪ .)Marder, 1961‬كانت أملانيا قلقة من‬
‫وترية التحديث الرويس الذي ميكن أن يغري من التوازن العسكري القائم بينهام‬
‫يف املستقبل غري البعيد‪ .‬نظ ًرا إىل ِبنْية التحالف هذه‪ ،‬كان عىل أملانيا؛ إذا أرادت‬
‫تجنب حرب عىل جبهتني‪ ،‬هزمية روسيا برسعة قبل أن يتمكن الروس من تعبئة‬
‫جيشهم الكبري‪ُ .‬أضيف إىل هذا الجو املشحون ُش ُعو ٌر بـ «القومية ذات النزعة‬
‫ورَش َعن ٌَة للحرب‬
‫الداروينية االجتامعية» بشأن التنافس ليك تكون األمة املتفوقة‪ْ َ ،‬‬
‫باعتبارها أداة للسياسة‪ .‬مل تقدم حروب القوى الكربى يف أواخر القرن التاسع‬
‫عرش أي تحذيرات جدية بشأن تكلفة ودمار ما سيأيت‪ ،‬وكانت جميع القوى‬
‫تتوقع وتستعد لحصول حرب أخرى تكون قصرية وحادة(٭)‪.‬‬
‫(٭) لقد قدمت الحرب األهلية األمريكية (‪ ،)1865-1861‬بخسائرها الكبرية وطول مدتها وتقنياتها الغريبة مثل‬
‫املدافع الحديد والغواصات‪ ،‬بعض اإلنذارات بالحرب العاملية األوىل‪ ،‬لكن دروسها تم تجاهلها من طرف حروب القوى‬
‫الكربى الحديثة التي هيمنت عليها الرسعة والتنقل‪ .‬حشدت الحرب األهلية األمريكية نصف الذكور األمريكيني‬
‫البيض‪ ،‬وقد فقد ثلث هؤالء حياتهم‪،‬‬
‫‪Belich, 2009: 331; see also C. S. Gray, 2012: ch. 4.‬‬
‫كام قدم مترد تايبينغ يف الصني (‪ )1871-1850‬تحذي ًرا آخر مل يُلتفت إليه‪ .‬ونتيجة للحرب املطولة بني العامني ‪1850‬‬
‫و‪ ،1873‬فقد ما يقرب من ‪ 20‬إىل ‪ 30‬مليون شخص حياتهم‪ ،‬ورمبا يصل العدد إىل ‪ 66‬مليو ًنا‪ ،‬وانخفض عدد سكان‬
‫الصني ككل من ‪ 410‬ماليني إىل ‪ 350‬مليون نسمة‪،‬‬
‫‪Phillips, 2011: 185; Fenby, 2013: 19; Schell and Delury, 2013: 45; Osterhammel, 2014: 120–1, 547–51‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ش َّكل ال َت َغرُّيُّ ُ يف وترية وحجم وتكلفة حروب القوى الكربى إحدى نتائج الحداثة‬
‫الصناعية التي كشفت عنها الحرب العاملية األوىل‪ .‬إذ مل تكن الحرب العاملية األوىل‬
‫حرب إنتاج فقط (من يستطيع إنتاج أكرب عدد من القوات واألسلحة)‪ ،‬بل كانت‬
‫ً‬
‫أشكااًل وظرو ًفا‬ ‫أيضا حر ًبا لالبتكار التكنولوجي‪ .‬فقد أوجدت التقنيات الجديدة‬ ‫ً‬
‫الح َك ِم اإلسرتاتيجية والعسكرية التقليدية ِح َك ًاًم‬
‫جديدة للحرب‪ ،‬مام جعل كثريا من ِ‬
‫بالية‪ .‬وعىل الرغم من أن بعض جوانب هذه الديناميات كانت موجودة يف حروب‬
‫القرن التاسع عرش يف أمريكا الشاملية وآسيا‪ ،‬فإن الحرب العاملية األوىل كانت أول‬
‫رصاع كبري أدت فيه الغواصات والطائرات والدبابات واملدافع الرشاشة واألسلحة‬
‫الكيميائية أدوا ًرا قيادية‪ .‬عىل األرض‪ ،‬خلقت القوة النارية الجديدة مأز ًقا دمو ًيا‬
‫طويل األمد عىل الجبهة الغربية مل ُي ْك َرَس إال من خالل تطوير أساليب األسلحة‬
‫املشرتكة للحرب‪ ،‬مبا يف ذلك الدبابات (‪ .)C. S. Gray, 2012: chs. 6–7‬أما يف البحر‪،‬‬
‫فقد اقرتبت الغواصات من االنتصار يف معركة األطليس ألجل أملانيا‪.‬‬
‫عىل أي حال‪ ،‬فإن ما ميكن اعتباره أول حرب حديثة شاملة بني القوى الصناعية‬
‫الكربى كان حد ًثا مدم ًرا وصاد ًما للغاية‪ .‬فقد سببت الحرب العاملية األوىل إسقاط‬
‫اإلمرباطوريات‪ ،‬وإفالس القوى الكربى‪ ،‬وإثارة الثورات وإنتاج مستويات غري مسبوقة‬
‫من املوت والدمار‪ .‬وبالنسبة إىل الكثريين‪ ،‬بدا أن الحرب الصناعية قد استنفدت‬
‫الدول التي حاربتها‪ُ ،‬مهددة بتدمري الحضارة األوروبية نفسها‪ .‬كان شعار «الحرب‬
‫ألجل إنهاء الحرب» محاولة يائسة لتصور وتربير الرصاع الذي كان يبدو أن مدته‬
‫وتكاليفه وخسائره تفوق بكثري أيا من األسباب األولية لخوض الحرب‪ .‬فقد بلغ‬
‫عدد الضحايا نحو ‪ 15‬مليو ًنا‪ ،‬أي نحو أربعة أضعاف عدد ضحايا الحروب الثورية‬
‫الفرنسية والنابليونية (‪ ،)Clodfelter, 2002‬أو ازداد إىل الضعف نظراً إىل الزيادة‬
‫يف عدد السكان بالنسبة إىل نصيب الفرد خالل القرن املنرصم (‪Maddison, 2001:‬‬
‫‪ .)241‬وباستثناء الواليات املتحدة واليابان‪ ،‬كانت الحرب مبنزلة كارثة حلت عىل‬
‫جميع الدول التي شاركت فيها‪ .‬وعىل الرغم من أن االنتصار كان أفضل من الخسارة‪،‬‬
‫فقد ُأزيلت إمرباطوريتان (العثامنية والنمساوية املجرية) من الخريطة‪ ،‬وخضعت‬
‫اإلمرباطورية الثالثة (الروسية) لثورة اجتامعية‪ .‬من بني «ا ُملنترصين»‪ ،‬عانت بريطانيا‬
‫وفرنسا خسائر فادحة و ُم َصا َد َرة لالقتصاد‪ُ ،‬وأ ْض ِع َفت رشعية إمرباطورياتهام من‬
‫‪62‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫خالل إرشاك أعداد كبرية من القوات االستعامرية يف القتال(٭)‪ .‬وحققت الواليات‬


‫املتحدة مكاسب اقتصادية وسياسية جمة مقابل خسائر خفيفة نسب ًيا‪ .‬لكنها أدارت‬
‫ظهرها للدور القيادي الدويل الذي َظ ِف َرت به‪ ،‬وعادت إىل نزعتها االنعزالية‪ .‬وعىل‬
‫رغم ذلك‪ ،‬فإن انخراطها يف الحرب كان مبنزلة بداية لنهاية وقوف الواليات املتحدة‬
‫مبعزل عن مسؤوليات توازن القوى وإدارة القوى الكربى‪ .‬أما أملانيا باعتبارها الخارس‬
‫الرئيس‪ ،‬فقد خضعت لإلذالل السيايس والتفكك واالقتطاع اإلقليمي‪ ،‬كام تعرضت‬
‫لإلفقار االقتصادي واالضطرابات االجتامعية‪.‬‬
‫دائم للعالقات‬
‫إرث ٍ‬ ‫لقد أنتجت الحرب العاملية األوىل ثالث َت ِب َعات كانت مبنزلة ٍ‬
‫الدولية‪ .‬إحداها كانت الثورة الروسية التي عزَّزت األيديولوجية االشرتاكية عىل‬
‫الرغم من تجاوز القومية الواضح للهوية الطبقية يف معظم البلدان التي شاركت‬
‫رسخت مبدأ تنظيم اجتامعي جديد يف إطار دولة‬ ‫يف الحرب‪ .‬فالثورة الروسية َّ‬
‫قوية‪ ،‬ومن ثم أ َّثرت يف التكوين األيديولوجي والنسق النزاعي للنظام الدويل عىل‬
‫مدى العقود السبعة التالية‪ .‬وتتمثل ال َت ِب َعة الثانية يف تفكك اإلمرباطورية العثامنية‬
‫وخاضع الستعامر كل‬
‫ٍ‬ ‫وإقامة دولة قومية يف تركيا‪ ،‬وظهور رشق أوسط ُم َجزأ سياس ًيا‬
‫من بريطانيا وفرنسا‪ ،‬الدولتني املنترصتني يف الحرب‪.‬‬
‫تتمثل ال َّت ِب َعة الثالثة يف ترسيخ املعضلة الدفاعية املذكورة أعاله‪ .‬فقد ولدت‬
‫التكلفة الهائلة واملذابح التي خ َّلفتها خمس سنوات من القتال العنيف خو ًفا من‬
‫الحرب واألسلحة الحديثة التي كانت قوية مبا يكفي لتحدي الخوف من الهزمية‪،‬‬
‫وإلثارة الشك يف رشعية الحرب ووظائفها‪ .‬كان من الواضح أن أي حرب مل تعد تشبه‬
‫سابقاتها‪ ،‬وأن األسلحة الجديدة؛ وخاصة الغازات السامة والطائرات‪ ،‬ستجعل من‬
‫أي حرب جديدة حر ًبا ُم َد ِّمر ًة عىل نحو ُم َر ِّوع‪ُ .‬ي ْن ِذر الخوف الذي و َّلدته األسلحة‬
‫النووية بعد عقود بأن عديدا من األوروبيني سيبدأون يف التخوف من أن قيام‬
‫أي حرب أخرى ستكون كفيلة بتدمري حضارتهم‪ .‬فأملانيا ُت ِر َكت غاضبة و ُممتعضة‬
‫عرضة للتمييز‪ ،‬وهو إِ ْر ٌث سيدفع الجميع مثنه بعد عقدين‪.‬‬ ‫و ُم َ‬

‫(٭) قاتل أكرث من مليون فرد من الجيش الهندي من أجل بريطانيا يف الحرب العاملية األوىل‪ ،‬كام فعل عدد مامثل‬
‫من القوات القادمة من املناطق ذات السيادة البيضاء ونحو ‪ 150‬ألف جندي من املستعمرات األخرى (‪Abernathy,‬‬
‫‪[ .)2000: 112‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬وبخالف هذه ال َت ِب َعات الكبرية الثالث‪ ،‬مل تفعل الحرب العاملية‬
‫للم ْج َت َم ِع ال َد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي‪ ،‬وعىل‬ ‫للصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫وىَل ُ‬ ‫األوىل كثريا لتغيري ال ِبنْية األساسية ِ‬
‫هذا األساس صنفها باري بوزان وجورج لوسون (‪ )2014a‬باعتبارها تاريخا مرجعيا‬
‫ثانويا لحقل العالقات الدولية‪ .‬حيث ظلت ِبنْية القوة متعددة األقطاب‪ ،‬ومل تتغري‬
‫رسعت الحرب من انحدار بريطانيا و َبرَّشَّ َ ْت ‪ -‬لكنها مل متثل‬ ‫قامئة القوى الكربى كث ًريا‪َّ .‬‬
‫ذلك ‪ -‬بتحولٍ يف انتقال القوة والقيادة من أوروبا إىل أمريكا الشاملية‪ .‬لقد أحدثت‬
‫فقط تغيريات هامشية يف توزيع القوة(٭)‪ ،‬بينام مل ُتحدث أي تغيريات تقري ًبا يف‬
‫مبادئ التنظيم االجتامعي‪ .‬وباستثناء اإلمرباطورية العثامنية‪ ،‬شكلت دول األَ ْط َراف‬
‫عىل نحو أسايس هد ًفا سلب ًيا يف الحرب‪ :‬أي أن دول األَ ْط َراف اقترص دورها فقط عىل‬
‫للمنترصين‪ .‬وقد ظلت النظم‬ ‫توفري املوارد للقوى الحرضية‪ ،‬وش َّكلت غنائم محتملة ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع ال َد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي؛ وأبرزها االستعامر‪/‬اإلمربيالية وعدم‬
‫وىَل ُ‬ ‫للصي َغة ُ‬
‫األ َ‬ ‫األساسية ِ‬
‫عجلت الحرب بزوال النزعة الساللية كشكل‬ ‫املساواة البرشية‪ ،‬قامئة إىل حد كبري‪ .‬وقد َّ‬
‫رشعي للحكم‪ ،‬وعززت النزعة القومية‪ .‬كام أضعفت‪ ،‬ولكنها مل تدمر‪َ ،‬ز ْع َم أوروبا‬
‫بتمثيل «معيار الحضارة»‪ .‬إن نجاح كل من التعبئة الجامهريية للحرب كنموذج‬
‫للحكم االشرتايك والثورة يف روسيا (يف مقابل فشلها يف أملانيا) عزز مكانة االشرتاكية‪.‬‬
‫لكن األخرية مل تفعل شيئًا ُيذكر لحل التوترات القامئة بني الليربالية واالشرتاكية‬
‫والعنرصية العلمية‪ ،‬ودفعت بهم فقط إىل الواجهة لتُحل تلك التوترات يف العقود‬
‫طموحا ‪ -‬لتطورات‬ ‫ً‬ ‫الالحقة‪ .‬وحتى عصبة األمم مل تعدو كونها مجرد امتداد ‪ -‬وإن كان‬
‫يف املنظامت الحكومية الدولية الدامئة التي بدأت قبل عدة عقود‪.‬‬

‫خالصات‬
‫لقد ش َّكل القرن الذي أفىض إىل الحرب العاملية األوىل مرحلة تحولية عىل نحو‬
‫عميق‪ .‬إذ إن يف هذه الحقبة تغري كل يشء تقري ًبا يف العالقات الدولية‪ ،‬ونشأت‬
‫خاللها معظم سامت العالقات الدولية املعارصة‪ .‬فقد ظهرت قوى فكرية ومادية‬
‫قوية جديدة أزاحت جان ًبا األمناط القدمية لإلنتاج‪ ،‬والتدمري‪ ،‬والقوة‪ ،‬والحكم‪.‬‬
‫(٭) يقصد توزيع القوة داخل النظام الدويل‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫العامل حتى العام ‪ :1919‬تشكيل العالقات الدولية احلديثة‬

‫ُوأنشئ ألول مرة اقتصاد عاملي مرتابط عىل نحو وثيق‪ .‬ولكن يف ظل الظروف التي‬
‫كان فيها التمييز العنرصي واالستعامر اليزاالن أم ًرا سائدًا خالل تلك الحقبة‪ ،‬اتخذ‬
‫ذلك وبجالء شكل املَ ْر َكز‪-‬األَ ْط َراف‪ ،‬وانعكس يف ا ُمل ْج َت َمع الدُ َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري‬
‫ال َغ ْر ِيِب‪ .‬باختصار‪ ،‬لقد ظهر إىل الوجود ألول مرة نظام ومجتمع دويل عاملي وحديث‪.‬‬
‫عند نهاية هذه الحقبة أرسلت حرب ضخمة موجات صدمة عرب النظام‬
‫الدويل مام جعله ضعي ًفا لكنه مل يتغري يف معظم النواحي عىل نحو أسايس‪.‬‬
‫لقد خ َّلفت هذه الحرب صدمتني كبريتني‪ .‬متثلت إحداهام يف إطالق العنان‬
‫للتناقضات ا ُملتأصلة يف أيديولوجيات التقدم يف ساحة السياسة الدولية‪ .‬وقد كان‬
‫تجسد يف التوترات التي كانت قامئة بني‬ ‫مثة نذي ٌر بذلك خالل القرن التاسع عرش َّ‬
‫الحكومات امللكية والجمهورية‪ ،‬غري أن الحرب العاملية األوىل أفسحت الطريق‬
‫أمام منافسة أيديولوجية ثالثية بني االشرتاكية والفاشية والدميوقراطية الليربالية‪،‬‬
‫مع إزاحة الم َ َل ِك َيات إىل الخلف‪ .‬وبهذا‪ ،‬انتهت إىل حد كبري املرحلة األوىل من‬
‫الرصاع السيايس للحداثة الذي كان قامئا بني النزعة الساللية والسيادة الشعبية‪.‬‬
‫وكانت املرحلة الثانية؛ التي حددتها الرصاعات داخل أيديولوجيات التقدم‪ ،‬تشهد‬
‫تجسدت الصدمة الكبرية األخرى يف رشعية وصالحية حرب القوى‬ ‫بداياتها‪ .‬لقد َّ‬
‫الكربى باعتبارها أداة للسياسة‪ .‬كام سببت املعضلة الدفاعية إيجاد حالة مل تكن‬
‫موجودة من قبل من الخوف واالنزعاج من اللجوء إىل الحرب‪ .‬حيث كان لهذا‬
‫املنعطف نتائج كبرية عىل العالقات الدولية كمامرسة يف فرتة بني الحربني‪ ،‬وأيضا‬
‫عىل تأسيس حقل العالقات الدولية كمجال أكادميي معرتف به‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫احلديثة‬

‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫‪2‬‬

‫حقل العالقات الدولية حتى‬


‫العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫مقدمة‬
‫يف العام ‪ 1789‬صاغ جريميي بينثام مصطلح‬
‫«دويل» ‪ international‬لإلشارة إىل املعامالت‬
‫القانونية القامئة بني امللوك‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن‬
‫تاريخ تأسيس مجال أو تخصص حقل العالقات‬
‫الدولية املعارص (تتنوع اآلراء بشأن ذلك) يرجع‬
‫اتفاقا إىل العام ‪ ،1919‬عندما ُأنشئ أول الكرايس‬
‫الجامعية ومراكز التفكري الخاصة به‪ ،‬وأصبحت‬
‫«العالقات الدولية» متثل تسمية واحدة من بني‬
‫عدة تسميات (الدراسات الدولية‪ ،‬والسياسة‬
‫الدولية‪ ،‬والسياسة العاملية) ملجال معني من‬
‫الدراسة(٭)‪ .‬والسؤال املطروح يف هذا الفصل‬ ‫«إن حقل العالقات الدولية مل ينشأ من‬
‫العدم يف العام ‪ ،1919‬حيث مل يكن‬
‫(٭) هذا النقاش بشأن التسمية اليزال مستمرا اليوم‪ .‬وملناقشة‬ ‫تغليف‬
‫والدة جديدة بقدر ما كان إعادة ٍ‬
‫معنى هذه التسميات املختلفة‪ ،‬انظر ‪Albert and Buzan‬‬ ‫وإعادة إطالقٍ لألفكار واملامرسات التي‬
‫)‪[ .(2017: 900-1‬املؤلفان]‪.‬‬ ‫كانت مستمرة فرتة طويلة»‬

‫‪67‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫هو ماذا حدث خالل الـ ‪ 130‬عا ًما التي تفصل بني هذين التاريخني (‪ 1789‬و‪،)1919‬‬
‫وكيف يرتبط ذلك بكل من التاريخ الذي ُكشف عنه يف الفصل األول واللحظة‬
‫التكوينية املفرتضة يف العام ‪1919‬؟ وفيام ييل سنقسم املناقشة إىل ثالثة أقسام‬
‫رئيسة‪ .‬يغطي القسم األول ذلك «التفكري والبحث» داخل دول املركز‪ ،‬وهو ما يطلق‬
‫عليه اليوم اسم حقل العالقات الدولية‪ ،‬حيث مل يكن يحمل هذه التسمية خالل‬
‫ذلك الوقت‪ .‬وباملنظور نفسه‪ ،‬يبحث القسم الثاين عن حقل العالقات الدولية قبل‬
‫تقعيده بوصفه تخصصا معرفيا‪ ،‬وذلك من خالل اآلراء واألفكار املتعالية القادمة من‬
‫دول األطراف‪ .‬يف حني يبحث القسم الثالث يف النقاش الدائر بشأن تاريخ التأسيس‬
‫(‪ ،)1919‬وكيف يرتبط ذلك مبا حدث من قبل‪.‬‬
‫يتأسس هذا الفصل عىل ُحجتني رئيستني‪ ،‬تتمثل أوالهام يف أن حقل العالقات‬
‫الدولية مل يظهر إىل الوجود يف العام ‪ 1919‬باعتباره رد فعل محددا عىل أهوال‬
‫الحرب العاملية األوىل‪ .‬يتحمل إدوارد هاليت كار )‪E. H. Carr (1946: 1–2‬‬
‫بعض املسؤولية يف الدعاية ألسطورة التأسيس للعام ‪ ،1919‬مؤكدًا أنه مل تكن مثة‬
‫أي دراسة ُمن َِّظ َمة للشؤون الدولية الراهنة قبل العام ‪ ،1914‬سواء يف الجامعات‬
‫أو يف الدوائر الفكرية عىل نطاق أوسع‪ ...‬فالسياسة الدولية كانت من اختصاص‬
‫الديبلوماسيني‪ .‬وقد كان كوينيس رايت )‪ُ (1955: 26‬مخطئًا عىل نحو طفيف يف‬
‫وجهة نظره القائلة إنه ال ميكن َتتَبع تخصص العالقات الدولية ككل قبل الحرب‬
‫العاملية األوىل عندما عمدت الجهود املبذولة لتنظيم العامل من خالل عصبة األمم‬
‫إىل إجراء فحص أكرث منهجية للتخصصات املساهمة يف تنظيم العامل مثل القانون‬
‫الدويل والسياسة الدولية واالقتصاد الدويل‪ُ .‬حجتنا هي أن األسس الرئيسة لحقل‬
‫العالقات الدولية؛ من حيث أجندته البحثية واملقاربات النظرية ملوضوع بحثه‪ ،‬قد‬
‫ُو ِضعت خالل عدة عقود قبل العام ‪ .1919‬لقد غطى «حقل العالقات الدولية»‬
‫الذي ازدهر خالل القرن التاسع عرش مجموعة واسعة من املوضوعات بدءا من‬
‫األيديولوجيا السياسية والقانون الدويل واملنظامت الحكومية الدولية والتجارة‬
‫الدولية؛ مرورا باإلمربيالية واإلدارة االستعامرية ونظرية العرق‪ ،‬وصوال إىل الجغرافيا‬
‫السياسية والدراسات الحربية‪ .‬وكام يالحظ أويل ويفر ذلك بذكاء )‪ (1997: 8‬فإنه‪:‬‬
‫«بعد االطالع عىل مقال رانيك عن القوى الكربى‪ ،‬وأعامل كل من كالوزفيتز‪ ،‬وبنثام‪،‬‬
‫‪68‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫ورمبا كوبدن وأخ ًريا كانط‪ ،‬فإنه‪ ،‬باستثناء الشكل والغطاء العلمي‪ ،‬من الصعب أن‬
‫ُت َفاجأ بالكثري يف حقل العالقات الدولية للقرن العرشين»‪.‬‬
‫الحجة الثانية هي أن كل هذا التفكري بشأن العالقات الدولية ميثل تقري ًبا رؤية‬
‫مجموعة صغرية من الدول الصناعية التي كانت تتصدر طليعة الحداثة‪ ،‬وخاصة‬
‫بريطانيا والواليات املتحدة‪ .‬لقد كان حقل العالقات الدولية للقرن التاسع عرش‬
‫ميثل إىل حد كبري رؤية للعامل تعكس اهتاممات قوى املركز‪ ،‬عىل الرغم من أننا‬
‫أيضا بعض البوادر املبكرة للتفكري الحديث بشأن حقل العالقات الدولية‬ ‫نالحظ ً‬
‫خارج السياق الغريب‪ .‬فصدمة الحرب العاملية األوىل س َّهلت نوعًا ما من إعادة طرح‬
‫هذه األجندة بطريقة ضيقة وأكرث تركيزًا‪ .‬فكان حقل العالقات الدولية الجديد‬
‫مهووسا بصدمة الحرب العاملية األوىل وكيفية منع‬ ‫ً‬ ‫الذي تأسس يف العام ‪1919‬‬
‫حدوث مثل هذه الكارثة مرة أخرى‪ .‬كام أراد معرفة األسباب التي تقف وراء تلك‬
‫الحرب‪ ،‬وعقد الكثري من اآلمال عىل املنظامت الحكومية الدولية؛ ال سيام عصبة‬
‫األمم‪ ،‬ومراقبة التسلح ونزع السالح‪ ،‬التي ميكن أن تكون وسائل للحل‪ .‬باختصار‪،‬‬
‫ك َّرس حقل العالقات الدولية الجديد نفسه إلشكالية كربى ونبيلة‪ ،‬أال وهي إشكالية‬
‫الحرب والسلم‪ ،‬كام ثبت نظرته بثبات نحو املستقبل‪ .‬ومن خالل االضطالع بذلك‪،‬‬
‫كام سنكشف يف الفصل الرابع‪ ،‬استمر هذا املسار الجديد يف تهميش واستبعاد العامل‬
‫االستعامري من حقل العالقات الدولية‪.‬‬

‫‪ - 1‬حقل العالقات الدولية قبل ظهوره كحقل علمي يف املركز‬


‫يوضح هذا القسم أنواع ونطاق التفكري خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬والتي تعترب‬
‫اليوم حقال للعالقات الدولية‪ :‬إنه مامرسة ملفارقة تاريخية عن وعي تستخدم‬
‫املفاهيم الحالية لهيكلة املايض‪ .‬إن ُ‬
‫الكتَّاب الذين سنتطرق إليهم مل يروا أنفسهم‬
‫عمو ًما عىل أنهم ميارسون التنظري لحقل العالقات الدولية‪ ،‬عىل الرغم من أن بعض‬
‫اإلحساس بـحقل العالقات الدولية باعتباره موضوعا منفصال بدأ يف الظهور منذ‬
‫تسعينيات القرن التاسع عرش (‪ ،)Schmidt, 1998a: 70–121‬وعىل نحو أكرث‬
‫وضوحا قبل الحرب العاملية األوىل ويف أثنائها (‪ .)Olson and Groom, 1991: 47‬مل‬
‫ً‬
‫يكن كثري من هؤالء ُ‬
‫الكتاب أكادمييني باملعنى املعارص‪ ،‬لكنهم كانوا يشكلون خليطا‬
‫‪69‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫من املثقفني واملهنيني العامني‪ .‬إذ كانوا ميارسون يف األغلب أشياء أخرى (االقتصاد‪،‬‬
‫ودراسات الحرب‪ ،‬والقانون‪ ،‬واالقتصاد السيايس‪ ،‬والعلوم السياسية‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬وعلم‬
‫الوراثة البرشية‪ ،‬وما إىل ذلك)‪ ،‬وهي تخصصات امتدت إىل املجال الدويل‪ .‬إن هياكل‬
‫التفكري هذه تحتوي عىل عنارص من نظرية العالقات الدولية باملعنى البنيوي (كيف‬
‫يسري العامل يف الوا ِقع) وباملعنى املعياري (كيف يجب أن يسري)‪.‬‬
‫أيضا عىل تفكري حقل العالقات‬ ‫ومثلام سنبني ذلك‪ ،‬تنطبق هذه اإلشكاالت ً‬
‫الدولية داخل دول األطراف خالل هذه الفرتة وما بعدها‪ .‬ومن َثم فإن مقاربتنا ُتثري‬
‫أسئل ًة واجهناها يف عمل سابق بشأن ما هو حقل العالقات الدولية‪ ،‬وعىل نحو أكرث‬
‫تحديدًا‪ ،‬ما الذي ميكن اعتباره نظرية للعالقات الدولية؟ حيث أرشنا إىل‪:‬‬
‫«االنقسام بني الفهم الوضعاين الصعب للنظرية ا ُملهيمن يف الواليات املتحدة‪،‬‬
‫والفهوم االنعكاسية األكرث ليونة للنظرية املوجودة عىل نطاق أوسع يف أوروبا‬
‫(‪ .)Wæver, 1998‬يستخدم عديد من األوروبيني مصطلح النظرية ألي يشء ينظم‬
‫املجال املعريف عىل نحو منهجي‪ ،‬ويصمم األسئلة ويؤسس مجموعة متامسكة‬
‫وصارمة من املفاهيم والتصنيفات املرتابطة فيام بينها‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن التقليد‬
‫األمرييك ا ُملهيمن يتطلب عادة تعريف تلك النظرية مبصطلحات وضعانية‪ :‬إنه‬
‫شكل عميل‪ ،‬ثم يحدد ويرشح العالقات القامئة بني األسباب‬ ‫يحدد املصطلحات يف ٍ‬
‫والنتائج‪ .‬يجب أن يحتوي هذا النوع من النظرية ‪ -‬أو أن يكون قاد ًرا عىل توليد ‪-‬‬
‫فرضيات ذات طبيعة سببية قابلة لالختبار‪ .‬لقد ُر ِصدت هذه االختالفات يف متييز‬
‫هوليس وسميث (‪ )1990‬املستخدم عىل نطاق واسع بني الفهم والتفسري‪ .‬إذ لديهام‬
‫(هوليس وسميث) جذور إبستيمولوجية (املعرفية) وأنطولوجية (الوجودية)‬
‫تتجاوز االنقسام الرصيح بني أوروبا والواليات املتحدة‪ ،‬وبالطبع ميكن العثور عىل‬
‫أنصار للموقف «األورويب» يف الواليات املتحدة‪ ،‬وأنصار للموقف «األمرييك» يف‬
‫أوروبا‪ .‬يف كال الشكلني‪ ،‬تدور النظرية حول التجريد بعيدًا عن حقائق األحداث‬
‫اليومية يف محاولة للعثور عىل أمناط وتجميع أحداث م ًعا يف شكل مجموعات‬
‫وطبقات من األشياء» (‪.)Acharya and Buzan, 2010: 3–4‬‬
‫ستحرضا رميوند آرون‪ ،‬نظريات‬ ‫ً‬ ‫لقد ش َّبه ستانيل هوفامن )‪ُ ،(1977: 52‬م‬
‫العالقات الدولية بنظريات «السلوك غري املحدد التي ميكن أن تضطلع بأكرث من‬
‫‪70‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫تعريف املفاهيم األساسية‪ ،‬وتحليل التكوينات األساسية‪ ،‬ورسم السامت الدامئة‬


‫واضحا ومفهو ًما»‪ .‬وعىل‬
‫ً‬ ‫ملنطق ثابت للسلوك‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬جعل املجال املعريف‬
‫املنوال نفسه‪ ،‬حاججنا بأن «النظرية تتعلق إذن بتبسيط الواقع‪ ،‬حيث تبدأ من‬
‫االفرتاض القائل إن كل حدث‪ ،‬مبعنى أسايس متا ًما‪ ،‬ليس فريدًا من نوعه‪ ،‬ولكنه ميكن‬
‫تجميعه مع مجموع األحداث األخرى التي تتشارك معه يف بعض أوجه التشابه‬
‫املهمة» (‪ .)Acharya and Buzan, 2010: 4‬لقد حاججنا ً‬
‫أيضا بأن‪:‬‬
‫«تفضيل نوع من النظريات عىل غريه من شأنه أن يحبط إىل حد كبري الغرض‬
‫من مرشوعنا‪ ،‬الذي يتمثل يف إجراء تحقيق أويل للعثور عىل «ما هو موجود» يف‬
‫التفكري اآلسيوي عن العالقات الدولية‪ .‬ستعطينا املقاربة الواسعة للنظرية فرصة‬
‫أفضل بكثري للعثور عىل ُم ْنت ٍَج محيل ً‬
‫بداًل من ُم ْنت ٍَج ضيق‪ ،‬وميكن ألولئك الذين‬
‫شحا ِتهم الخاصة لفصل ما هو مهم (أو ليس مهام)‬ ‫يأخذون بآراء معينة تطبيق ُم َر َ‬
‫بالنسبة إليهم» (‪.)Acharya and Buzan, 2007a: 291‬‬
‫أيضا فكرة عام ميكن تسميته «ما قبل النظرية»‪ ،‬أو «عنارص التفكري‬ ‫قدمنا ً‬
‫التي ال تضيف بالرضورة إىل النظرية بحد ذاتها‪ ،‬ولكنها توفر نقاط انطالق محتملة‬
‫لالضطالع بذلك» ‪(Acharya and Buzan, 2007a: 292; see also Acharya and‬‬
‫)‪.Buzan, 2010‬‬
‫يثري هذا الطرح مسألة العالقة بني النظرية واملامرسة‪ ،‬فالنظرية مرتبطة ً‬
‫ارتباطا‬
‫وثي ًقا باملامرسة‪ ،‬حيث كانتا خالل املراحل املبكرة من ظهور تخصص العالقات‬
‫الدولية مرتبطتني معا بشكل أوثق بكثري مام هو عليه اليوم‪ .‬فقد كتب إدوارد‬
‫كار )‪« :(1964: 12‬ينظر الواقعي إىل النظرية السياسية باعتبارها نوعا من تدوين‬
‫املامرسة السياسية»‪ .‬وبالنسبة إىل هانز مورغنثاو )‪« ،(1948: 7‬ال ميكن للمرء يف‬
‫دراسة السياسة الدولية فصل املعرفة عن الفعل و‪ ...‬السعي وراء املعرفة من‬
‫أجله»‪ .‬وعند تحليل تطور تخصص العالقات الدولية داخل الواليات املتحدة‪ ،‬يالحظ‬
‫هوفامن )‪ (1977: 47‬أن‪« :‬االهتامم بشأن السلوك األمرييك يف العامل امتزج مع‬
‫دراسة العالقات الدولية‪ ...‬كانت دراسة السياسة الخارجية للواليات املتحدة تعني‬
‫دراسة النظام الدويل‪ .‬ودراسة النظام الدويل ال ميكنها إال أن تحيل املرء إىل دراسة‬
‫دور الواليات املتحدة»‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ال يتعني عىل املرء أن يكون واقع ًيا ليدرك أو يقبل بأن جزءا كبريا من حقل‬
‫العالقات الدولية املعارص هو تجريد َيتَأَىت من املامرسة‪ .‬وكام الحظنا يف املقدمة‪،‬‬
‫فإن جزءا كبريا من نظرية العالقات الدولية املعارصة هو مجرد تجريد َيتَأَىت من‬
‫التاريخ الغريب‪ .‬إذ غال ًبا ما تتبع النظرية املامرسة‪ ،‬أي أنها تتبع تطورات العامل‬
‫الحقيقي‪ .‬ومن َثم فإن أفكار القادة السياسيني أو ُر َؤاهُ م للعامل‪ ،‬سواء يف الغرب‬
‫أو عند ال َب ِقية‪ ،‬يجب اعتبارها مبنزلة تفك ٍري يف العالقات الدولية أو حتى نظرية‬
‫كاف‪.‬‬ ‫للعالقات الدولية‪ ،‬إذا كانت قوية ومؤثرة ومعممة أو قابلة للتعميم بشكل ٍ‬
‫فكل صانع سياسة‪ ،‬سواء اعرتف بذلك أو ال‪ ،‬لديه منوذج عقيل يفكر ويعمل من‬
‫َاص‬
‫ابطا ال َمن َ‬ ‫خالله يف مجال السياسة‪ .‬ومثلام ُيحاجج ستيفن والت‪ ،‬فإن «مثة ر ً‬
‫منه بني عامل النظرية املجرد والعامل الحقيقي للسياسة‪ .‬وحتى صانعو السياسات‬
‫الذين يحتقرون النظرية يجب أن يعتمدوا عىل أفكارهم الخاصة (غال ًبا ما تكون‬
‫سرْي العامل‪ ،‬ألجل فهم عاصفة املعلومات التي تجتاحنا‬ ‫غري مذكورة) بشأن كيفية ْ‬
‫يوم ًيا» (‪ .)Walt, 1998: 29‬ومع أخذ هذا الفهم يف الحسبان‪ ،‬فإننا س ُن َقا ِر ُب ما‬
‫ُي َعد تفكريا بشأن حقل العالقات الدولية يف كل من املركز واألطراف‪ ،‬سواء يف تلك‬
‫الفرتات الزمنية أو يف الفرتات الالحقة‪.‬‬
‫ً‬
‫وشاماًل‪.‬‬ ‫مسحا منهج ًيا‬
‫يف املساحة املتاحة لنا هنا‪ ،‬ال ميكننا أن نجعل هذا ً‬
‫إن هدفنا هو إظهار الخطوط العريضة ألنواع تفكري حقل العالقات الدولية التي‬
‫كانت جارية‪ .‬وتقف وراء االضطالع بذلك ثالثة مربرات‪ :‬أو ًاًل‪ ،‬نريد أن نثبت عىل‬
‫نحو مقنع أن حقل العالقات الدولية مل ينشأ من العدم يف العام ‪ ،1919‬حيث مل‬
‫تغليف وإعادة إطالقٍ لألفكار واملامرسات‬ ‫ٍ‬ ‫يكن والدة جديدة بقدر ما كان إعادة‬
‫التي كانت مستمرة فرتة طويلة‪ .‬وكام ُيظهر ويليام أولسون وجون غروم ‪(1991:‬‬
‫)‪ ،37–55‬فإن عديدا من املوضوعات الرئيسة لحقل العالقات الدولية الحديث بدءا‬
‫من الواقعية والليربالية‪ ،‬مرورا بحركات السالم‪ ،‬وصوال إىل الثورة‪ ،‬كانت جميعها‬
‫تؤدي دو ًرا يف القرن التاسع عرش‪ .‬لقد قام لوسيان أسوورث )‪ (2014: loc. 7‬بتمييز‬
‫رائع بني حقل العالقات الدولية الحديث والتفكري األويل لهذا الحقل‪« :‬يف حني أن‬
‫مسألة كيفية التعامل مع الغرباء من املجتمعات األخرى كانت ثابتة طوال تاريخ‬
‫البرشية‪ ،‬بيد أنه يف القرون األخرية فقط أصبحت مسألة «العالقات الخارجية»‬
‫‪72‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫(وخاصة اإلمربيالية والحرب) مسألة ملحة بالنسبة إىل جميع قطاعات املجتمع يف‬
‫جميع أنحاء العامل»‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬نريد أن نظهر مدى عمق هذه الرؤية الحديثة الناشئة‬
‫من املركز‪ ،‬لنقوم بتمييز حاد بني حقل العالقات الدولية باعتبارها عالقات قامئة‬
‫رضة» داخل املجتمع الدويل من ناحية‪ ،‬والعالقات االستعامرية‬ ‫بني الدول «ا ُملت ََح َ‬
‫«الرَب َب ِرية» و«ال َه َم ِجية» من‬
‫رضة» والشعوب واملجتمعات َ ْ‬ ‫القامئة بني الدول «ا ُملت ََح َ‬
‫ناحية أخرى‪ .‬ثال ًثا‪ ،‬نريد اإلعداد ُلحجة تكون واردة يف فصول الحقة مفادها أن‬
‫حقل العالقات الدولية «الجديد» ملا بعد العام ‪ 1919‬أصبح ضي ًقا نسب ًيا يف تركيزه‪.‬‬
‫حيث ُش ِّكل من خالل تأثري الحرب العاملية األوىل‪ ،‬أي من خالل هواجس دول املركز‬
‫املتعلقة بالحرب والسلم‪ ،‬والديناميات العسكرية لسباق التسلح الصناعي القائم‬
‫بني القوى الكربى‪.‬‬
‫يف إطار التعامل مع هذه األدبيات الواسعة الخاصة بـ «حقل العالقات قبل‬
‫تقعيده باعتباره تخصصا معرفيا»‪ ،‬من املفيد محاولة تقدير سياق العرص‪ .‬لقد أدى‬
‫التطور غري املتكافئ للغاية للحداثة الصناعية‪ ،‬أو ًاًل يف بريطانيا ثم داخل حفنة من‬
‫الدول الغربية األخرى واليابان‪ ،‬إىل فتح فجوة هائلة عىل صعيدي القوة والتنمية‬
‫بني دول املركز وال َب ِقية‪ .‬لقد كان من الصعب سد هذه الفجوة‪ ،‬ورسعان ما م َّكن‬
‫الرتكيز الهائل للرثوة والقوة يف َم ْر َك ٍز صغ ٍري من السيطرة عىل األطراف‪ .‬عاشت حفنة‬
‫من املجتمعات املتموضعة يف طليعة الحداثة نوعًا من النشوة لقدرتها الجديدة‬
‫عىل َت َس ُّيد الطبيعة واستغاللها‪ ،‬و َفت ِْح موارد ال حدود لها من الرثوة والقوة‪ .‬وقد رأوا‬
‫أنفسهم ممثلني لطليعة الحضارة والتقدم‪ .‬وعىل الرغم من أن هذا قد يبدو أم ًرا‬
‫مستهجنًا بالنسبة إلينا اآلن‪ ،‬فإنه ليس من املستغرب أن هذه الفجوة الضخمة بني‬
‫الصفر‪ ،‬أو‬ ‫«ا ُملت ََحرض» (عىل نحو أسايس من البيض) َ ْ‬
‫و«الرَب َب ِري» و«ال َه َم ِجي» (من ُّ‬
‫السمر أو السود) اكتسبت إيحاءات عنرصية قوية(٭)‪ .‬إذ كان من السهل والفعال‬
‫من الناحية السياسية ربط الحضارة بالعرق األبيض‪ ،‬وتربير؛ خالل هذه العملية‪،‬‬
‫تفوق ا ُملهمة الحضارية واإلمرباطورية عىل «السالالت األدىن»‪.‬‬
‫(٭) كانت اليابان‪ ،‬التي كانت ً‬
‫أيضا من أوائل التحديثيني‪ ،‬متثل دامئًا مشكلة لهذه الصيغة العنرصية‪ .‬انظر (‪،2018‬‬
‫‪[ .)Koyama and Buzan‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وبالنسبة إىل أولئك الذين كانوا ميارسون التفكري بشأن العالقات الدولية يف ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬فإن هذا التطور الهائل وفجوة القوة س َّلطا الضوء عىل قضيتني‪ )1( :‬إشكالية‬
‫كيفية تعامل القوى الكربى الرائدة بعضها مع بعض يف عرص الحداثة الصناعية‬
‫وتزايد االعتامد املتبادل واملنافسة اإلمرباطورية‪ )2( ،‬إشكالية كيفية ارتباط الدول‬
‫واملجتمعات املتصدرة لطليعة الحداثة بالشعوب املتخلفة من «األعراق األدىن»‪ .‬وقد‬
‫تراوحت الخيارات هنا بدءا من اإلبادة‪ ،‬مرورا باالستغالل اإلمرباطوري‪ ،‬وصوال إىل‬
‫شكل من أشكال الوصاية اإلمرباطورية يف فنون الحضارة‪ .‬وكام يحاجج ديفيد لونج‬
‫وبريان شميدت (‪ ،)2005‬كان النقاش الرئيس يف حقل العالقات الدولية املبكر يدور‬
‫حول التوتر القائم بني اإلمربيالية والنزعة األممية‪ .‬إن اختفاء هذه املرحلة التكوينية‬
‫لحقل العالقات الدولية إىل حد كبري من وعي حقل العالقات الدولية املعارص يرجع‬
‫وأيضا إىل العنرصية الصارخة ا ُملتأصلة‬
‫جزئ ًيا إىل أسطورة التأسيس للعام ‪ً ،1919‬‬
‫يف كثري من أدبيات ما قبل العام ‪ - 1914‬ويف الواقع ما قبل العام ‪ .1939‬ولهذا‬
‫السبب التزال أعامل املفكرين ا ُمل َؤسسني الرئيسني لحقل العالقات الدولية من أمثال‬
‫بول راينش ‪ً Paul S. Reinsch‬‬
‫أعاماًل غري معروفة إىل حد كبري ‪(Schmidt, 2005:‬‬
‫)‪ .45–6; L. Ashworth, 2014: 107–9‬ولرصد االستمرارية الهائلة بني اهتاممات‬
‫حقل العالقات الدولية يف القرن التاسع عرش وحقل العالقات الدولية املعارص‪،‬‬
‫من الرضوري اخرتاق حدود العام ‪ 1919‬ومواجهة حقيقة أن العنرصية و«معيار‬
‫الحضارة» كانا أساسيني بالنسبة إىل حقل العالقات الدولية‪ ،‬وعىل الرغم من قمعهام‬
‫أو تناسيهام عىل نحو كبري‪ ،‬فإنهام اليزاالن يشكالن عنارص مؤثرة (‪.)Vitalis, 2005‬‬
‫إن املكان الواضح لبدء التمعن يف حقل العالقات الدولية قبل تقعيده باعتباره‬
‫تخصصا يتجسد يف األيديولوجيات األربع للتقدم التي نوقشت يف الفصل السابق‪:‬‬
‫الليربالية؛ واالشرتاكية؛ والقومية والعنرصية العلمية‪ .‬ففي حني أن العنرصية العلمية‬
‫قد خرجت عن النسق باعتبارها مقاربة سائدة واضحة للعالقات الدولية‪ ،‬غري أن‬
‫العنرصية الضمنية مل تختف بأي حال من األحوال من العالقات القامئة بني الشامل‬
‫والجنوب‪ .‬والتزال الليربالية واالشرتاكية والقومية تشكل أجزاء واضحة جدًا من‬
‫الخطابات املعيارية والبنيوية لحقل العالقات الدولية‪ .‬لقد احتوت جميع هذه‬
‫األيديولوجيات األربع عىل خيوط رئيسة من التفكري الحديث لحقل العالقات الدولية‬
‫‪74‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫عىل املستويني البنيوي واملعياري‪ ،‬وغال ًبا ما كانت هذه الخيوط منسوجة م ًعا بطرق‬
‫مختلفة حول موضوعات اإلمربيالية والداروينية االجتامعية التي سيطرت عىل‬
‫تفكري القرن التاسع عرش حيال السياسة العاملية‪ .‬ش َّكلت هذه األيديولوجيات األربع‬
‫مزيجا معقدا‪ .‬وكانت هذه األيديولوجيات األربع؛ يف جزء منها‪ ،‬مبنزلة ُم َحر َك ٍ‬
‫ات‬
‫للحداثة التي ش َّكلت طريقة فهم األشياء‪ ،‬وش َّكلت؛ يف جزء آخر‪ ،‬رد فعل عىل‬
‫الحداثة يحاول تأطري واقع جديد كان قد بدأ بالفعل‪ .‬وقد حدث هذا املسار املعقد‬
‫جن ًبا إىل جنب بالتزامن مع ظهور الرأي العام ووسائل اإلعالم بوصفها قوى اجتامعية‬
‫وسياسية خالل العقود الالحقة من القرن التاسع عرش ‪(Buzan and Lawson,‬‬
‫)‪ .2015a‬وفيام يتعلق بظهور التفكري بشأن حقل العالقات الدولية‪ ،‬ميكننا تجميع‬
‫هذه األيديولوجيات يف شكل مجموعة من األزواج‪ :‬فقد كانت الليربالية واالشرتاكية‬
‫نواح عديدة مبنزلة استجابات متجانسة وكوزموبوليتانية لعامل يشهد عوملة‬ ‫من ٍ‬
‫بشكل مكثف خالل القرن التاسع عرش‪ .‬كام كانت القومية والعنرصية «العلمية»‬
‫أيضا دوافع‬ ‫ضيقتي األفق‪ ،‬مام مييز الردود الناشئة تجاه العوملة نفسها‪ .‬لكنهم مثلوا ً‬
‫واستجابات للتكثيف املوازي املتعلق بالتكامل االجتامعي والسيايس الذي كان‬
‫يحصل خالل تشكيل الدول العقالنية الحديثة‪.‬‬

‫‪ - 1 - 1‬الليبريالية واالشرتاكية‬
‫نواح كثرية‪ ،‬يختلف املنظور‬
‫كام يالحظ ِف ِريد هاليداي )‪« :(1999: 73–5‬من ٍ‬
‫قلياًل عن منظور الليرباليني اآلخرين يف النصف األول من‬‫الدويل ملاركس وإنجلز ً‬
‫القرن التاسع عرش»‪ .‬فقد كانت كلتا املجموعتني من املفكرين عىل دراية كبرية‬
‫باإلنشاء الرسيع وغري املسبوق القتصاد السوق العاملي الذي كان يحدث حولهام‪،‬‬
‫وتلخيصا لكل هذا‬
‫ً‬ ‫وكانت كلتاهام تفهم هذا عىل أنه مسار كوزموبوليتاين ُمتعومل‪.‬‬
‫يف نهاية هذه الفرتة‪ ،‬أشار آرثر غرينوود )‪ (1916: 77‬إىل أن إنشاء اقتصاد عاملي‬
‫قد حل نسب ًيا محل االقتصادات التي كانت تتمتع باالكتفاء الذايت يف عصور ما قبل‬
‫الحداثة‪ ،‬مام أدى إىل توتر نسقي بني التجارة الحرة والنزعة الحامئية‪ ،‬وأشار إىل‬
‫الحاجة إىل «منظمة سياسية تتحكم يف النشاط االقتصادي العاملي الذي تطور يف‬
‫العرص الحديث»‪ .‬يحاجج هاليداي )‪ (1999: 80‬بأن هذه النظرة الكوزموبوليتانية‬
‫‪75‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كانت مشابهة لتلك التي ُرصدت من خالل «االعتامد املتبادل» و«العوملة» يف‬
‫نقاشات حقل العالقات الدولية خالل فرتة السبعينيات والثامنينيات من القرن‬
‫العرشين‪ .‬فالعوملة املعارصة‪ ،‬وعىل الرغم من كونها ليربالية عىل نحو أسايس من‬
‫أيضا أن الرأساملية ُتشكل قو ًة لتحقيق التجانس عىل‬ ‫ناحية املنظور‪ ،‬فإنها ترى ً‬
‫نطاق عاملي؛ إذ تخرتق الدولة عىل نحو متزايد؛ تشتبك معها و ُتهمشها(٭)‪.‬‬
‫ويشري هاليداي )‪ (1999: 164–72‬عمو ًما إىل الرؤية الكوزموبوليتنانية لليرباليني‬
‫خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬ورغبتهم يف استبدال السيادة الشعبية بالنزعة الساللية‬
‫يف الحكم باعتبارها حلوال للحرب واملريكانتلية (املذهب التجاري)‪ .‬فقد أدى ظهور‬
‫الفهوم الليربالية لالقتصاد؛ وعىل وجه الخصوص فكرة أن كال من االزدهار والسالم‬
‫ينشآن من خالل السعي وراء التجارة الحرة‪ ،‬إىل تعزيز الفكرة القائلة إن مثل هذه‬
‫أيضا إىل تغيري العالقات بني تلك الدول‬ ‫اإلصالحات السياسية داخل الدول ستؤدي ً‬
‫بشكل مفيد‪ .‬من بعض مخاطر التبسيط املفرط‪ ،‬إمكانية تلخيص محتوى حقل‬
‫العالقات الدولية املتعلق بليربالية القرن التاسع عرش عىل أنه مزيج متآزر من السالم‬
‫نوحا للحرب من‬ ‫الدميوقراطي (الدول الواقعة تحت السيادة الشعبية ستكون أقل ُج ً‬
‫الم َ َل ِكيات) والتجارة الحرة (حيث ستقلل األسواق العاملية من الحوافز لالستيالء‬
‫عىل األرايض ألسباب اقتصادية)‪ُ .‬ج ِّسدت هذه األفكار يف كل من سلسلة الكتابات‬
‫الليربالية الكالسيكية والنشاط السيايس املبارش‪ ،‬وليس من قبيل املصادفة أن معظم‬
‫هذا كان يرتكز يف بريطانيا‪ ،‬الدولة األكرث تقد ًما عىل طريق الحداثة الصناعية‪ .‬لقد‬
‫الكتاب‪ ،‬بدءا من آدم سميث (‪ ،)1776‬مرورا بديفيد ريكاردو‬ ‫أرىس مجموعة من ُ‬
‫(‪ ،)1817‬وصوال إىل جون ستيوارت ميل (‪ )1848‬أسس تخصص االقتصاد الدويل‬
‫الحديث‪ ،‬وأسسوا لنظرة ليربالية للعالقات الدولية‪ .‬تضمنت أفكارهم مفاهيم‬
‫الفردانية‪ ،‬واليد الخفية(٭٭)‪ ،‬والنفعية‪ ،‬وتقسيم العمل‪ ،‬وامليزة املقارنة‪ ،‬وعمليات‬
‫(٭) للحصول عىل مراجعة ممتازة بشأن تأثري ثورات الحداثة والشعور بالتحول العاملي عىل مجموعة واسعة من‬
‫كتّاب القرن التاسع عرش‪ ،‬انظر (‪[ .)Deudney 2007: chs. 7–8‬املؤلفان]‪.‬‬
‫(٭٭) اليد الخفية ‪Invisible hand‬‏ هي استعارة ابتكرها االقتصادي آدم سميث‪ ،‬ورشح مبدأها يف كتابه «ثروة‬
‫األمم» وكتب أخرى‪ ،‬حيث يرى أن الفرد الذي يهتم مبصلحته الشخصية يسهم أيضا يف ارتقاء مصلحة مجتمعه ككل‬
‫من خالل مبدأ «اليد الخفية»‪ ،‬حيث يرشح بأن العائد العام للمجتمع هو مجموع عوائد األفراد‪ .‬فعندما يزيد العائد‬
‫الشخيص لفرد ما‪ ،‬فإنه يسهم يف زيادة العائد اإلجاميل للمجتمع‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫السوق املفتوحة نسب ًيا لألسواق داخل الدول وفيام بينها‪ .‬وقد شن نشطاء سياسيون‬
‫مثل ريتشارد كوبدن وجون برايت حملة ضد السياسات املريكانتلية‪ ،‬مثل قوانني‬
‫الذرة يف بريطانيا (التي ألغيت يف العام ‪()1846‬٭)‪ ،‬وذلك ملصلحة التجارة الحرة عىل‬
‫الصعيد الدويل (‪ .)L. Ashworth, 2014: 75–9‬وهكذا‪ ،‬كانت النظرية الليربالية‬
‫للعالقات الدولية يف القرن التاسع عرش ُتبرش بأن السيادة الشعبية باإلضافة إىل‬
‫طوياًل نحو القضاء عىل ويالت الحرب يف السياسة‬ ‫شوطا ً‬ ‫التجارة الحرة ستقطع ً‬
‫العاملية‪ .‬وكانت لهذه النظرة بالتأكيد عنارص كوزموبوليتانية وعوملية قوية‪ ،‬لكنها‬
‫أيضا مع الدولة‪ ،‬وإىل حد ما‪ ،‬مع القومية‪.‬‬ ‫كانت نظرة قد تكون متوافقة ً‬
‫لقد كان تبني االشرتاكيني للعوملة الكوزمبوليتانية أقوى‪ ،‬وهذا املوقف يذهب‬
‫إىل حد ما نحو تفسري سبب اعتبار تأثري املاركسية املبكرة ضعيفا عىل نحو عام يف‬
‫حقل العالقات الدولية كام هو مفهوم اآلن‪ .‬يقدم أندرو لينكاليرت )‪(2001: 131–9‬‬
‫رشحا ُمتَبرصا لتفسري سبب ذلك‪ .‬ففي رسديته‪ ،‬أعطى كارل ماركس وأتباعه األولوية‬ ‫ً‬
‫للرأساملية الصناعية والدينامية الجديدة للطبقة التي كانت ُتولدها‪ ،‬ولهذا السبب‬
‫ُأه ِمل مخططهم لألشياء‪ ،‬ودفع إىل الهامش ُكال من الدولة والقومية‪ .‬لقد رأوا‬
‫الرأساملية باعتبارها كوزمبوليتانية وعوملية هائلة تربط جميع شعوب العامل م ًعا‬
‫بشكل أعمق وأوثق أكرث من أي وقت مىض‪ .‬وضمن هذا اإلطار‪ ،‬ميكن أن تكون‬
‫العنارص التقليدية وا ُملجزأة مثل الدولة والقومية عنارص مؤقت ًة وغري مهمة نسب ًيا‪.‬‬
‫إن القوة ا ُمل َهيمنَة وا ُملتجانسة للرأساملية الصناعية ست َُض ِّمنُ و ُتد ِم ُج الجميع قري ًبا‪،‬‬
‫تأصاًل يف الفهم‬ ‫وتفرض عىل الجميع املنطق املهيمن للرصاع الطبقي الذي كان ُم ً‬
‫املاركيس للرأساملية‪.‬‬
‫ويف حني تبني أن التفكري املاركيس كان ُمخطئًا بشأن أهمية الدولة والقومية‪،‬‬
‫ومن ثم تباعد عن التيار السائد يف تفكري حقل العالقات الدولية‪ ،‬فاليزال من املمكن‬
‫اعتباره صيغ ًة مبكر ًة ومتبرص ًة من بعض النواحي ملا ميكن أن يسمى اآلن َف ْه ًاًم‬
‫ُم َع ْولَ ًاًم لحقل العالقات الدولية‪ .‬لقد رشح فالدميري لينني ([‪ )1975 ]1916‬اإلمربيالية‬
‫(٭) هي سياسات حامئية‪ ،‬كانت عبارة عن قوانني من التعريفات الجمركية وغريها من القيود التجارية املفروضة‬
‫عىل املواد الغذائية والحبوب املستوردة (الذرة) التي فرضت يف بريطانيا العظمى بني العامني ‪ 1815‬و‪ .1846‬وقد‬
‫ُصممت للحفاظ عىل أسعار الحبوب مرتفعة ملصلحة املنتجني املحليني‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كنوع من اللحظات األخرية من عمر القومية قبل أن تفسح املجال لعامل أكرث عوملة‪.‬‬
‫وقد اشتُهر بتفسري ديناميات الرأساملية عىل أنها تؤدي إىل املنافسة للتقسيم ومن‬
‫ثم إعادة تقسيم األرايض والشعوب واملوارد واألسواق يف العامل‪ .‬لقد ربط هذه‬
‫أساسا بالقومية والدولة‪ ،‬واعتربها «أعىل مراحل الرأساملية» (أي‬ ‫الدينامية الطبقية ً‬
‫املرحلة األخرية)‪ ،‬وأطلق عليها اسم اإلمربيالية‪ ،‬واستخدمها لرشح الحرب العاملية‬
‫األوىل‪ .‬لقد كان هذا‪ ،‬إىل جانب فكرة نيكوالي بوخارين (‪ )1916‬عن اندماج رأس‬
‫املال والدولة‪ ،‬أقرب ما توصلت إليه املاركسية املبكرة لربط فهمها للعوملة بتحليالت‬
‫العالقات الدولية التقليدية الخاصة بسياسات القوة بني الدول‪.‬‬
‫يف حني كان مثة بعض أوجه التشابه الالفتة للنظر يف وجهات النظر الليربالية‬
‫واالشرتاكية بشأن العالقات الدولية‪ ،‬مل يكن مثة الكثري لالختيار بينهام من حيث‬
‫موقفهام من العالقات بني «ا ُملت ََحرض» َ ْ‬
‫و«الرَب َب ِري»‪ .‬ويؤكد تشابه مواقفهم عىل مدى‬
‫انتشار املوقف الهرمي العميق عن األسس العرقية والثقافية تجاه الشعوب «األدىن»‬
‫داخل املجتمع الدويل االستعامري (‪ .)J. M. Hobson, 2012: ch. 2‬لنقارن بني‬
‫النصوص التالية‪ ،‬النص األول للمفكر الليربايل جون ستيوارت ميل‪ ،‬والثاين من بيان‬
‫الحزب الشيوعي ملاركس وإنجلز‪:‬‬
‫«إن افرتاض أن العادات الدولية نفسها‪ ،‬وقواعد األخالق الدولية نفسها‪ ،‬ميكن‬
‫أن تحصل بني أمة متحرضة وأخرى‪ ،‬وبني األمم املتحرضة والربابرة‪ ،‬لهو خطأ جسيم‬
‫وال ميكن ألي رجل دولة أن يقع فيه‪ ،‬إال أن يكون مع أولئك الذين ينتقدون رجال‬
‫الدولة من موقع آمن وغري مسؤول»‪.‬‬
‫من بني األسباب العديدة التي تقف وراء عدم إمكانية تطبيق القواعد نفسها‬
‫عىل مواقف مختلفة متا ًما‪ ،‬يعد السببان التاليان من بني األكرث أهمية‪ .‬يف املقام‬
‫األول‪ ،‬تنطوي قواعد األخالق الدولية العادية عىل مبدأ املعاملة باملثل‪ .‬لكن الربابرة‬
‫لن يردوا وفق هذا املبدأ؛ إذ ال ميكن االعتامد عليهم ملراقبة أي قواعد‪ .‬فال عقولهم‬
‫قادرة عىل بذل مثل هذا الجهد العظيم‪ ،‬وال إرادتهم تتمتع مبا فيه الكفاية لفعل‬
‫ذلك تحت تأثري دوافع مختلفة‪ .‬يف املقام التايل‪ ،‬فإن الدول التي التزال بربرية‬
‫مل تتجاوز الفرتة التي من املرجح أن يكون من مصلحتها غزوها وإخضاعها من‬
‫ِقبل األجانب‪ .‬فاالستقالل والجنسية؛ وهام شيئان رضوريان جدًا لنمو وتطور‬
‫‪78‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫شعب أحرز تقد ًما أكرث يف مسار اإلصالح‪ ،‬يشكالن عموما عوائق أمام شعوبهم‪ .‬إن‬
‫الواجبات املقدسة التي تدين بها األمم املتحرضة تجاه استقالل وجنسية بعضهم‬
‫رشا معينًا‪،‬‬‫البعض ليست ملزمة تجاه أولئك الذين تشكل الجنسية واالستقالل لهم ً‬
‫أو؛ يف أفضل األحوال‪ ،‬خ ًريا مشكوكا فيه‪.‬‬
‫إن وصف أي سلوك مهام كان تجاه شعب بربري بأنه انتهاك لقانون األمم‪،‬‬
‫ُيظهر فقط أن من يتحدث بهذه الطريقة مل يفكر يف املوضوع قط‪ .‬قد يكون هذا‬
‫انتها ًكا للمبادئ األخالقية العظيمة‪ ،‬لكن الربابرة ليست لديهم حقوق كأمة باستثناء‬
‫الحق يف مثل هذه املعاملة التي قد تناسبهم ليك يصبحوا أمة يف أقرب وقت ممكن‪.‬‬
‫وحكم بربري هي القواعد‬ ‫إن القوانني األخالقية الوحيدة للعالقة بني ُح ْكم حضاري ُ‬
‫العاملية لألخالق بني اإلنسان واإلنسان» (‪.)Mill, 1874: vol. 3, 252–3‬‬
‫وبهذه الطريقة‪ ،‬متكن املفكرون الليرباليون من مواءمة التزامهم بالفردانية‬
‫مبنظور عنرصي بشأن العالقات الدولية واإلمرباطورية‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬كان التفكري املاركيس يف هذا الوقت تفكريا ذا مركزية غربية‪ ،‬حيث‬
‫رأى الحداثة الصناعية والرأساملية باعتبارها قوى تقدمية بعمق‪ .‬وعىل الرغم من‬
‫رسالتها الثورية‪ ،‬فإن املاركسية كانت متثل رؤية للعامل ُمتَأَ ِّتي ًة من مركز غريب ُم َهي ِمن‪،‬‬
‫ينظر إىل أطراف « َبر َب ِرية» سلبية‪.‬‬
‫«أو ًاًل‪ ،‬أسعار املنتجات الصناعية املنخفضة وا ُملتدنية التي نتجت عن العاملة‬
‫اآللية دمرت عىل نحو كامل؛ ويف جميع بلدان العامل‪ ،‬النظام القديم لإلنتاج أو‬
‫الصناعة القامئة عىل اليد العاملة‪ .‬وبهذه الطريقة‪ُ ،‬أجربت جميع البلدان شبه الرببرية‬
‫التي كانت حتى اآلن غريبة إىل حد ما عن التطور التاريخي وكانت صناعتها قامئة‬
‫عىل اإلنتاج‪ ،‬عىل الخروج عىل نحو عنيف من عزلتها‪ .‬لقد اشرتوا السلع األرخص مثنًا‬
‫من اإلنجليز وسمحوا لعاملتهم املنتجة بالتحطم‪ .‬أما البلدان التي مل تشهد تقد ًما‬
‫منذ آالف السنني ‪ -‬عىل سبيل املثال‪ :‬الهند – فقد ُأح ِدثت فيها ثورة بكل ما تحمله‬
‫الكلمة من معنى‪ ،‬وحتى الصني هي اآلن يف طريقها إىل الثورة‪ .‬لقد وصلنا إىل نقطة‬
‫اخرُتعت يف غضون عام واحد آلة جديدة يف إنجلرتا تحرم ماليني العامل‬ ‫حيث ُ‬
‫الصينيني من مصادر رزقهم‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬جعلت الصناعة الضخمة جميع سكان‬
‫األرض يف اتصال بعضهم مع بعض‪ ،‬ودمجت جميع األسواق املحلية يف سوق عاملية‬
‫‪79‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫واحدة‪ ،‬ونرشت الحضارة والتقدم يف كل مكان‪ ،‬ومن ثم ضمنت أن كل ما يحدث‬


‫يف البلدان املتحرضة ستكون له تداعيات عىل جميع البلدان األخرى» (‪Marx and‬‬
‫‪.)Engels, [1848] 2010: 45‬‬
‫مثلهم مثل الليرباليني‪ ،‬رأى كل من ماركس وإنجلز «منط اإلنتاج اآلسيوي»‬
‫ومجتمعات ما قبل الحداثة عمو ًما ُمتخلف ًة وإستا ِتي ِكية‪ .‬فقد الحظ ماكسني‬
‫مولينو و ِف ِريد هاليداي (‪ )1984:18‬أن ماركس «شدد عىل الطابع التقدمي‬
‫للتطور الرأساميل يف توسيع القوى املنتجة للمجتمعات يف آسيا وأفريقيا»‪ .‬كام‬
‫جادل تشارلز بارون (‪ )1985: 12–13‬بأن ماركس رأى تأثري اإلمربيالية عىل أنه‬
‫استغاليل‪ ،‬بالطريقة نفسها التي كانت بها الرأساملية استغاللية بطبيعتها يف كل‬
‫أيضا تقدمية‪ ،‬ويف بعض النواحي قوة رضورية وإيجابية‬ ‫مكان‪ ،‬ولكنها كانت ً‬
‫للتنمية‪ .‬وعىل الرغم من أن اإلمربياليني احتلوا أماكن مثل الهند ملصالحهم‬
‫الخاصة‪ ،‬فإنهم مل يستطيعوا إال هدم البنى السياسية واالجتامعية ملا قبل‬
‫الحداثة يف تلك األماكن وزرع بذور الحداثة محلها‪ .‬وبينام كانت الثورة بحاجة‬
‫إىل أن ُت َولد من الداخل يف املجتمعات الصناعية املتقدمة‪ ،‬كان ال بد من فرضها‬
‫من أعىل عىل مجتمعات ما قبل الحداثة‪ ،‬والتي لوال ذلك فلن يكون مبقدورها‬
‫توليد أي إمكانات ثورية‪.‬‬
‫لقد جرى التأكيد عىل مدى انتشار مثل هذه املشاعر داخل املجتمعات الغربية‬
‫إبان منتصف وأواخر القرن التاسع عرش من خالل وصف بريان شميدت )‪(1998a: 125‬‬
‫للمواقف التي ُأبديت يف اجتامعات جمعية العلوم السياسية األمريكية خالل العقد‬
‫الذي سبق الحرب العاملية األوىل‪:‬‬
‫«إن مناقشة املناطق املستعمرة يف العامل‪ ،‬والتي غال ًبا ما توصف بلغة قد يجدها‬
‫معظم الناس اليوم مسيئة وغري مناسبة‪ ،‬تقع خارج النطاق الذي حدده خطاب‬
‫أوائل القرن العرشين بشأن العالقات بني الدول ذات السيادة‪ .‬يعتقد معظم علامء‬
‫السياسة أن املناطق املستع َمرة ‪ -‬األماكن «املظلمة»؛ أو «غري املتحرضة»؛ أو املناطق‬
‫«املتخلفة» أو «الرببرية» يف العامل ‪ -‬ال تنتمي إىل مجتمع الدول‪ً .‬‬
‫وبداًل من اعتبارهم‬
‫أعضاء مك ِّونني للمجتمع الدويل‪ ،‬كان ُينظر إىل املناطق املستع َمرة عىل أنها تقع‬
‫خارج مجتمع األمم وأنها أماكن ابتُليت بالفوىض الداخلية»‪.‬‬
‫‪80‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫إن انتشار مثل هذه اآلراء يشري بقوة إىل تأثري األيديولوجيتني األخريني للتقدم‪:‬‬
‫القومية والعنرصية «العلمية»‪.‬‬

‫‪ - 1 - 2‬القومية والعنرصية «العلمية»‬


‫عىل النقيض من الحتميات الليربالية واالشرتاكية لتحقيق التجانس لهذا العامل‬
‫ا ُملعومل وف ًقا لقراءاتهم العاملية للحداثة‪ ،‬كانت حتمية القومية والعنرصية «العلمية»‬
‫تتمثل يف تقسيم العامل ومتييزه‪ .‬لقد نشأت القومية والعنرصية «العلمية» من جذور‬
‫مختلفة متا ًما‪ ،‬لكنهام تشرتكان عىل الرغم من ذلك يف بعض أوجه التشابه التي‬
‫ميكنها أن ُت َولِّد تآز ًرا قو ًيا‪ .‬وكام هو موضح يف الفصل األول‪ ،‬كانت القومية تدور‬
‫حول فكرة تكوين مجموعات‬
‫كان مثة عديد من االختالفات داخل املعسكرين القومي والعنرصي‪ ،‬بد ًءا من‬
‫الرصاع األسايس ذي ا ُملحصل الصفري(٭) من جهة‪ ،‬مرورا باألنظمة الهرمية‪ ،‬وصوال‬
‫إىل أنظمة املساواة من جهة أخرى‪ .‬رمبا كانت القومية أكرث ً‬
‫مياًل إىل حد ما إىل‬
‫نظم املساواة عىل أساس أن استخدامها أساسا للرشعية السياسية سريبطها باملساواة‬
‫القانونية والسيادة بني الدول‪ .‬ضمن هذا اإلطار‪ ،‬كان مثة مجال لبعض التسلسل‬
‫الهرمي بني القوميات الكبرية والصغرية باملوازاة مع ذلك التسلسل الهرمي القائم بني‬
‫القوى الكربى والدول العادية‪ .‬ولكن مبجرد أن أصيبت القومية بعدوى الداروينية‬
‫االجتامعية‪ ،‬فإن اإلثنية (عىل سبيل املثال اآلرية) واملَ َد ِنية (مثل الواليات املتحدة)‪،‬‬
‫كانتا باإلمكان أن تصبحا ‪ -‬وقد أصبحتا بالفعل ‪ -‬أكرث تراتبية‪ .‬لقد فتح منطق «البقاء‬
‫لألصلح» الباب أمام الشعوب األقوى للهيمنة عىل الشعوب األضعف و ُمصادرتها‪.‬‬
‫وكام يالحظ فرانسيس فورتسكو أوركهارت )‪ ،(1916: 40, 52, 60‬فإن القومية‬
‫كانت مصدر إزعاج كبري للسالم الدويل‪« :‬لقد أثبتت القوميات أنها تأكيدية للذات‬
‫واك ِتسا ِبية مثل امللوك القدامى»‪ .‬رمبا كانت العنرصية «العلمية» هي األكرث ً‬
‫مياًل‬
‫متوضع‬
‫ٍ‬ ‫نحو العالقات الهرمية‪ ،‬وغال ًبا ما أفضت إىل تسلسالت هرمية عرقية مع‬
‫ومتوضع للسود يف األسفل‪ .‬ويف أقىص صيغ تطرفها‪ ،‬بررت بسهولة‬ ‫ٍ‬ ‫للبيض يف األعىل‬
‫(٭) املحصل الصفري‪ :‬وهي تعني تحقيق الربح والنجاح عىل حساب خسائر وفشل اآلخرين‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫هيمنة أو إبادة الشعوب األضعف من ِقبل الشعوب األقوى‪ ،‬عىل الرغم ً‬


‫أيضا من‬
‫أن األعراق ميكن أن تنشأ عىل أساس أنها مختلفة ولكن متساوية‪ .‬وميكن اعتبار‬
‫نوع القومية اإلثنية املتطرفة التي أدت إىل التفكري بشأن اآلريني واألنجلوساكسون‬
‫شكاًل أكرث دقة من‬ ‫والالتينيني والسالف ضمن الفئة العامة للبيض ‪ /‬األوروبيني‪ً ،‬‬
‫العنرصية «العلمية»‪.‬‬
‫كام ذكرنا ساب ًقا‪ ،‬فإن قد ًرا كب ًريا من التفكري املبكر لحقل العالقات الدولية‬
‫تم من خالل سياسات العرق ‪(Schmidt, 1998a: 125; Vitalis, 2005, 2010‬‬
‫)‪ .; Bell, 2013; J. M. Hobson, 2012‬ويظهر بنجامني دي كارفالو‪ ،‬وهالفارد‬
‫لريا‪ ،‬وجون هوبسون )‪ (2011: 750–1‬كيف أن تفكري حتى الشخصيات الرئيسة‬
‫التي ُيعتقد عمو ًما أنها ليربالية؛ وعىل األخص وودرو ويلسون (‪see also Vitalis,‬‬
‫أيضا بالنزعة العنرصية‪ .‬ويجادل روبرت فيتاليس (‪:2005‬‬ ‫‪ ،)2005: 169‬كان ُمشبعا ً‬
‫‪ )161‬بأنه يف حقل العالقات الدولية قبل الحرب العاملية األوىل «كانت األعراق‬
‫والدول أهم وحدات للتحليل بالنسبة إىل هذا التخصص َق ْي َد الت ََش ُّكل»‪ .‬كام يسلط‬
‫سيِس لـحقل العالقات الدولية َع َكس فكرة العنرصية‬ ‫الضوء عىل كيف أن التطور ا ُمل َؤ ِ‬
‫موضحا كيف أدى «التوسع اإلقليمي األمرييك بعد العام ‪ 1900‬إىل موجة من‬ ‫ً‬ ‫هذه‪،‬‬
‫الدورات العلمية الجديدة واملنشورات واملجالت الشعبية والعلمية» وأين ميكن‬
‫العثور فيها عىل «األصول ا ُمل َؤسسية الحقيقية لحقل العالقات الدولية»‪ ،‬وليس‬
‫يف عرشينيات أو أربعينيات القرن املايض كام تذهب إىل ذلك الحكمة ا ُملتَعا َرف‬
‫عليها (‪ .)Vitalis, 2005: 166‬فبالنسبة إىل روبرت فيتاليس )‪ ،(2000: 333‬فإن مثة‬
‫«قا ِع َد ًة ُمت َب َعة متنع من مالحظة» التاريخ الحقيقي لحقل العالقات الدولية‪.‬‬
‫دعمت القومية والعرق تربيرات الحرب واإلمربيالية عىل نحو خاص يف أشكالهام‬
‫الهرمية‪ ،‬وخلقت ِط َبا ًقا قويا ومميزا للعوملة الكوزموبوليتانية الخاصة بالليرباليني‬
‫واالشرتاكيني‪ .‬وقد انقسم املفكرون يف قضايا العرق والسياسة العاملية بشأن مسألة‬
‫اإلمربيالية‪ .‬ففي حني يعتقد البعض أنها طريقة جيدة لرتقية «السالالت املتخلفة»‪،‬‬
‫يعتقد البعض اآلخر أنها وسيلة جيدة إلبقاء الشعوب امللونة يف مرتبة «دونية»‪،‬‬
‫وتعزيز قضية تفوق البيض‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬عارض آخرون اإلمربيالية إما عىل‬
‫تدخل غري رضوري يف التطور الطبيعي لألعراق األخرى‪ ،‬أو عىل أساس‬ ‫أساس أنها ُّ‬

‫‪82‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫أنها تشكل تهديدا لنقاء العرق األبيض من خالل الهجرة أو متازج األجيال ‪(J. M.‬‬
‫)‪ .Hobson, 2010: 29–30; 2012‬لقد اختلف مؤيدو اإلمربيالية إذن من حيث‬
‫مستويات التفويض املمنوحة للرشق‪ .‬إذ كان بعض «العنرصيني الدفاعيني» مثل‬
‫هربرت سبنرس وويليام غراهام سمرن مناهضني لإلمربيالية ألنهم اعتقدوا أنها‬
‫ستعوق التطور التلقايئ للرشق‪ .‬يف حني كان آخرون مثل جيمس بلري وديفيد ستار‬
‫مناهضني لإلمربيالية‪ ،‬ليس ألنهم اعتقدوا أن الرشق ميكن أن يتطور عىل نحو‬
‫مستقل‪ ،‬ولكن ألن الرشق ال ميكن أن يتطور عىل اإلطالق بسبب دونيته العرقية‪،‬‬
‫الكتَّاب‬ ‫رْض َنة» كانت ُم َاَم َر َس ًة عقيمة‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬كان ُ‬ ‫ومن ثم فإن « ُم ِهم َة َ‬
‫الح ْ َ‬
‫مثل تشارلز بريسون ولوثروب ستودارد مهتمني أكرث بحامية البيض من «الخطر‬
‫األصفر» الرببري يف عملية منح مستوى عالٍ جدًا من التفويض للرشق‪ ،‬وإن كان‬
‫تفويضا «رجعيا» و«متوحشا» (‪ .)J. M. Hobson, 2012: 8‬كام كان مثة توجهٌ‬
‫آخر للعنرصية ضد اإلمربيالية يتلخص يف فكرة أن الرشق ميكن أن يتطور من تلقاء‬
‫نفسه‪ ،‬لكنه سيتبع مسار التطور والتقدم الذي كان قد حدده الغرب‪ .‬فقد كان لدى‬
‫الرشق «تفويض مشتق» (‪ ،)J. M. Hobson, 2012: 6‬والذي من املمكن أن تقمعه‬
‫اإلمربيالية الغربية‪ ،‬مام يجعله شيئا غري مرغوب فيه‪ .‬ولذلك ليس من املستغرب أن‬
‫تكون إحدى املجالت األوىل لحقل العالقات الدولية‪ ،‬والتي تأسست يف العام ‪،1910‬‬
‫تسمى بـ «مجلة تطور العرق»‪.‬‬
‫وحتى التوتر الذي أصبح اآلن مألوفا بني الحتميات االقتصادية ا ُمل َفض َلة‬
‫للهجرة وبني ردود الفعل االجتامعية والسياسية الناشئة ضدها‪ ،‬تأسس خالل‬
‫القرن التاسع عرش‪:‬‬
‫«لقد اعتاد العامل املهاجر عىل العيش يف مستوى معييش منخفض‪ .‬كان عىل‬
‫استعداد لقبول أجور أقل بكثري من أجور العامل األبيض‪ .‬لقد كان خارج النقابات‬
‫العاملية‪ .‬وكان عادة ينتمي إىل الطبقة العاملة وهي األكرث تخل ًفا عىل اإلطالق‪،‬‬
‫واألقل عُ رضة لالندماج يف الحضارة األوروبية‪ .‬وقد أصبح‪ ،‬من ثم‪ ،‬يشكل تهديدًا‬
‫خط ًريا بالنسبة إىل الطبقة العاملة البيضاء التي رأت يف الغرباء تهديدا آلفاقهم يف‬
‫العمل املستقر‪ ،‬ليس لسبب آخر سوى أنهم يستطيعون العيش مبستوى أقل بكثري‪،‬‬
‫وميكنهم تحمل قبول أجر أقل بكثري‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬كان العامل ُم َرافقا أو ُمتَا َب ًعا‬
‫‪83‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫من طرف التاجر‪ ،‬والتاجر اآلسيوي مل يكن يعمل يف العادة ساعات أطول فقط‪ ،‬بل‬
‫كان راض ًيا عن األرباح القليلة املتأتية بخالف التاجر األبيض‪ .‬لذلك كان مييل إىل‬
‫أيضا من الزبائن البيض‪ .‬وهكذا‬ ‫الحصول عىل العمالء ليس فقط من زمالئه‪ ،‬ولكن ً‬
‫عاىن التاجر األبيض وكذلك العامل األبيض» (‪.)Kerr, 1916: 175‬‬
‫لكن هذه األيديولوجيات األربع مل تكن بأي حال من األحوال متثل التفكري‬
‫الوحيد لحقل العالقات الدولية الذي كان جار ًيا خالل القرن التاسع عرش‪ .‬فقد كان‬
‫مثة عديد من الخيوط الفكرية األخرى التي ُنسجت من خاللها وإىل جانبها الواقعية؛‬
‫والجغرافيا السياسية؛ والدراسات الحربية واإلسرتاتيجية؛ واإلدارة االستعامرية‬
‫واإلمربيالية؛ والقانون الدويل واملنظامت الحكومية الدولية‪.‬‬

‫‪ - 1 - 3‬الواقعية‬
‫صناًم لنسبها الفكري الطويل الذي يعود إىل ثوقيديدس(٭)‪.‬‬
‫لطاملا صنعت الواقعية ً‬
‫بهذا املعنى‪ ،‬فإن املفكرين الواقعيني ال يرون بالتأكيد أنفسهم عىل أنهم بدأوا‬
‫التفكري بشأن العالقات الدولية يف العام ‪ .1919‬وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬ويف حني أنهم‬
‫يسرتشدون بهوبز ومكيافيليل كأسالف لهم‪ ،‬فإنهم مييلون إىل نسيان ذلك الجزء‬
‫من جذورهم الذي يكمن يف الواقعية األملانية الواضحة خالل القرن التاسع عرش‪،‬‬
‫والتي تعود إىل كل من هايرنيش فون تريتشيك (‪ )1900-1899‬وتلميذه فريدريش‬
‫مينييك (‪ .)Wæver, 1997: 8( )1908‬لقد كانت رؤية فون تريتشيك لسياسات‬
‫القوة باعتبارها الحقيقة األساسية للعالقات الدولية‪ ،‬رؤي ًة مشوبة بشدة بالداروينية‬
‫االجتامعية والعنرصية‪ .‬حيث كانت رؤيته متجد الحرب ك َو ِظي َفة لألمة‪ ،‬كام كانت‬
‫ملتزم ًة متا ًما بالرصاع األملاين ضد اإلمرباطورية الربيطانية‪ .‬أما فريدريش مينييك‪،‬‬
‫أيضا مشوب ًة بالعنرصية وملتزم ًة بالنزعة التوسعية األملانية(٭٭)‪.‬‬
‫فقد كانت رؤيته ً‬
‫(٭) ‪ 395( Thucydides‬ق‪.‬م ‪ 460 -‬ق‪.‬م) مؤرخ إغريقى شهري‪ ،‬صاحب كتاب «تاريخ الحرب البيلوبونيسية»‪ .‬ويعتربه‬
‫املجتمع املعريف للعلوم السياسية والعالقات الدولية أ ًبا من آباء مجال العالقات الدولية ملا كتبه من ترشيح للعالقات‬
‫بني أثينا وإسربطة يف أثناء الحرب بينهام (‪ 405‬ق‪.‬م – ‪ 431‬ق‪.‬م)‪ ،‬ومالمح فلسفته الواقعية يف تناول الرصاعات بني‬
‫القوى والدول‪ ،‬حيث يراها منظرو العالقات الدولية حال ًيا نواة للمدرسة الواقعية يف العالقات الدولية‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫(٭٭) للحصول عىل ملخص قصري عن الواقعية األملانية‪ ،‬انظر (‪ .)Deudney 2007: 70–3‬وللحصول عىل ملخص عن‬
‫تأثري الداروينية يف السياسة‪ ،‬انظر (‪[ .)Carr 1946: 46–50‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫ومثلام الحظ مايكل ويليامز (‪ ،)2005‬فإن التقليد األملاين بشأن سياسة القوة ش َّكل؛‬
‫عىل الرغم من إهامله من ِقبل حقل العالقات الدولية‪ ،‬مصد ًرا قو ًيا للتفكري الواقعي‬
‫خالل القرن العرشين‪ ،‬ال سيام أنه ُنقل هذا التقليد عرب فون تريتشيك إىل ُكتاب‬
‫آخرين مؤثرين يف حقل العالقات الدولية من أمثال فريدريك نيتشه‪ ،‬ماكس فيرب‬
‫وهانز مورغنثاو(٭)‪.‬‬

‫‪ - 1 - 4‬الجغرافيا السياسية‬
‫تعترب الجغرافيا السياسية قريبة جدًا من الواقعية من ناحية تركيزها عىل سياسة‬
‫القوة‪ ،‬لكنها تختلف عنها عىل وجه التحديد يف دوافعها الجغرافية‪ِ .‬صيغ مصطلح‬
‫ناشئ سعى إىل الدفع نحو‬ ‫فكري ٍ‬‫هيكل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لضبط‬‫الجغرافيا السياسية يف العام ‪َ 1899‬‬
‫التزاوج بني الجغرافيا والسياسة‪ ،‬والنظر إىل تاريخ العامل عىل أنه مدفوع بتبسيط‬
‫كبري يربط املوقع الجغرايف بالقوة العاملية‪ .‬إن استخدام ا ُملحددات البنيوية الهائلة‬
‫بعضا من تلك‬ ‫والبسيطة قد أعطى الجغرافيا السياسية كنظرية للعالقات الدولية ً‬
‫الجاذبية نفسها التي ستتمتع بها الواقعية الجديدة الح ًقا لثامنية عقود‪ .‬متتلك‬
‫أيضا أوجه تشابه أخرى مع عوامل الجذب املوجودة يف الواقعية‬ ‫الجغرافيا السياسية ً‬
‫الجديدة‪ ،‬ليس أقلها نظرتها الشاملة إىل العامل باعتباره نظاما واحدا‪ .‬وألن اإلمربيالية‬
‫الجديدة التي أقدمت بحلول تسعينيات القرن التاسع عرش عىل تحويل العامل إىل‬
‫نظام واح ٍد فعل ًيا‪ ،‬كانت جميع أجزائها معروفة ومرتابطة إىل حد ما‪ ،‬فقد عُ د ذلك‬
‫منظو ًرا قو ًيا جاء يف الوقت املناسب‪ .‬لقد ركزت الجغرافيا السياسية الكالسيكية‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثي ًقا‬ ‫إىل حد كبري عىل التنافس بني القوى الكربى‪ ،‬ومن ثم فهي مرتبطة‬
‫باألشكال السائدة اليوم للقومية ذات النزعة الداروينية االجتامعية وباإلمربيالية‬
‫وأيضا بفرضية تفوق العرق األبيض والحضارة الغربية عىل جميع الشعوب‬
‫والثقافات األخرى‪ .‬فخالل هذه الفرتة عمو ًما‪ ،‬مل ينظر املفكرون الجيوسياسيون إىل‬
‫(٭) مل يذكر مورجنثاو (‪ )1967‬ال هايرنيش فون تريتشيك وال فريدريش مينييك‪ .‬كام يعطي كنيث والتز (‪)1979‬‬
‫إشارة عابرة إىل مينييك‪ .‬أما جون مريشامير (‪ )2001‬فال يذكر أ ًيا منهام‪ .‬من بني النصوص الواقعية الرائدة‪ ،‬مثة فقط‬
‫إدوارد كار (‪ )9-88 ،49 ،15-14 :1946‬من يعطي إشارة عادلة عن كليهام‪ .‬يف حني يقدم كل من دونيل (‪)2000‬‬
‫وميشيل ويليامز (‪ )2005‬إشارات عابرة فقط عن مينييك‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الفوىض الدولية عىل أنها مشكلة‪ ،‬ولكن رأوها عىل أساس أنها مجرد بيئة تتطلب‬
‫وجود قدرة وطنية إذا أرادت األمم أن تعيش وتتطور (‪L. Ashworth, 2014:‬‬
‫‪ .)106– 7‬وقد كانت هذه الرؤية‪ ،‬كغريها من معظم الرؤى السائدة حول العالقات‬
‫الدولية خالل تلك الفرتة‪ ،‬رؤي ًة َتتَأَ َىَت من دول املَ ْر َكز‪.‬‬
‫لقد مثل كل من األملاين فريدريك راتزل والربيطاين هالفورد ماكيندر الشخصيات‬
‫الرئيسة لحقل الجغرافيا السياسية خالل أواخر القرن التاسع عرش (‪L. Ashworth,‬‬
‫‪ ،)2014: 98–102‬عىل الرغم من أن أعاملهام كان لها تأثري سيايس أكرب يف سنوات‬
‫ما بني الحربني أكرث مام كان عليه يف الفرتة التي سبقت الحرب العاملية األوىل‪ .‬كانت‬
‫املساهمة الرئيسة لفريدريك راتزل (‪ )1901‬تتمثل يف فكرة املجال الحيوي املرتبط‬
‫ً‬
‫مرتبطا عىل‬ ‫عضوي لألمة (‪ .)Ó Tuathail, 1998: 4‬وعىل رغم أن عمله كان‬ ‫ٍ‬ ‫مبفهوم‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫نح ٍو خاص بأملانيا‪ ،‬وكان متواف ًقا مع تفكري الواقعيني األملان‪ ،‬فإنه كانت له ِصلة أكرب‬
‫بعامل الداروينية االجتامعية الذي يضم قوى إمربيالية كربى متنافسة‪ُ ،‬وأ ً‬
‫ماًم وأعرا ًقا‬
‫مهتاًم كثريا بحقوق السكان األصليني‪.‬‬ ‫تتنافس للسيطرة عىل األرايض‪ ،‬ومل يكن عمال ً‬
‫كان عمل هالفورد ماكيندر ([‪ ،)1996 ]1904‬وال سيام فكرته عن «قلب األرض»‬
‫أو «محور االرتكاز»‪ ،‬أكرث انتشا ًرا عىل الصعيد العاملي‪ ،‬عىل رغم أنه سعى إىل أن‬
‫عماًل تسرتشد به إسرتاتيجية اإلمرباطورية الربيطانية ‪(Ó Tuathail, 1998: 4,‬‬ ‫يكون ً‬
‫)‪ .15–18‬وقد كانت املقولة املأثورة ملاكيندر )‪ (1919: 194‬تتمثل يف أن‪:‬‬
‫من يتحكم يف رشق أوروبا يسيطر عىل قلب األرض؛‬
‫ومن يتحكم يف قلب األرض يسيطر عىل جزيرة العامل؛‬
‫ومن يتحكم يف جزيرة العامل يسيطر عىل العامل؛‬
‫لقد وضعت هذه الفكرة روسيا‪ ،‬ورمبا أملانيا‪ ،‬يف مركز القوة العاملية‪ .‬فنظرة‬
‫إحساسا بأن النظام الدويل كان يتجه بحلول أواخر القرن‬ ‫ً‬ ‫ماكيندر الشاملة أعطته‬
‫التاسع عرش نحو إغالق إقليمي وسيايس‪ ،‬مع عدم وجود مساحات «مل يطالب بها‬
‫أحد»‪ .‬وقد تبنى لينني هذه الفكرة فيام بعدُ ([‪ )1975 ]1916‬كتفسري لإلمربيالية‬
‫واملنافسة الرضورية بشأن إعادة تقسيم األرايض‪ ،‬وأيضا كمرحلة أزمة بالنسبة إىل‬
‫الرأساملية‪ .‬قدم ماكيندر نظرية واقعية عنرصية كانت هجومية‪-‬إمربيالية بطبيعتها‪،‬‬
‫النسل‪ .‬ووفق تعبري جيمس تايرن‬ ‫ني ْ‬ ‫مزجت بني الجغرافيا السياسية وعلم َت ْحس ِ‬
‫‪86‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫النسل ُينذر بعامل‬


‫ني ْ‬ ‫)‪ ،(1999: 58‬فإن «التقاء الجغرافيا السياسية مع علم َت ْحس ِ‬
‫خطري‪ ،‬حيث ميكن أن يؤدي التقارب العرقي والتوسع اإلقليمي إىل انحطاط عرقي‬
‫واجتامعي‪ ،‬مع احتامل نشوب حروب عرقية»‪ .‬وقد كان ماكيندر يخىش فرتة من‬
‫املواجهة بني الغرب والرشق بعد العام ‪ ،1900‬ألن العامل بأرسه كان ُمستعم ًرا بالفعل‬
‫ومل يكن مثة يشء ميكن للقوى الغربية فعله لتوسيع أراضيها ومنع صعود الرشق (‪J.‬‬
‫‪.)M. Hobson, 2012: 124–30‬‬
‫كان الكاتب الجيوسيايس الربيطاين اآلخر‪ ،‬جون روبرت سييل (‪ ،)1883‬كاتبا‬
‫مؤث ًرا يف الرتويج لفكرة «بريطانيا العظمى» (‪ .)Bell, 2007‬ومرة أخرى‪ ،‬كان‬
‫لهذا روابط وثيقة باإلمرباطورية ومنافسة القوى الكربى‪ .‬لقد مثلث «بريطانيا‬
‫مزيجا من الجغرافيا السياسية (تحقيق الكتلة الحرجة املرتبطة بالقوى‬ ‫العظمى» ً‬
‫الصاعدة عىل املستوى القاري‪ ،‬مثل الواليات املتحدة وروسيا)؛ العنرصية‪ /‬القومية‬
‫(توطيد العرق األنجلوساكسوين)؛ واإلمرباطورية (توطيد اإلمرباطورية الربيطانية يف‬
‫شكل كيان سيايس أكرث إحكا ًما)‪ .‬وبغض النظر عام ميكن أن يقال عن عنرصيتهم‬
‫وإمربياليتهم‪ ،‬فإن املفكرين الجيوسياسيني يف أواخر القرن التاسع عرش مل يكونوا‬
‫خائفني من التفكري بعمق‪ .‬وقد كانوا‪ ،‬عىل الرغم من ذلك‪ ،‬مهتمني عىل نح ٍو شبه‬
‫كامل بسياسات القوى الكربى يف املَ ْر َكز‪ ،‬وبالكاد كانوا مهتمني باألَ ْط َراف التي مل‬
‫للم َصادرة والتنافس بني القوى الكربى‪.‬‬ ‫تشكل بالنسبة إليهم إال موضوعًا ُ‬

‫‪ - 1 - 5‬الدراسات اإلسرتاتيجية والحربية‬


‫يحاجج البعض بأن الجغرافيا السياسية الكالسيكية كانت أصل ما أصبح بعد‬
‫العام ‪ 1945‬دراسات إسرتاتيجية داخل حقل العالقات الدولية ‪(Olson and Onuf,‬‬
‫)‪ .1985: 12–13‬لكن‪ ،‬ويف حني أن مثة بالتأكيد تداخالت بني املجالني والتي رمبا م َّثل‬
‫ألفريد ثاير ماهان (‪ )1890‬أبرزها‪ ،‬فإن دراسة الحرب واإلسرتاتيجية كانت موجودة‬
‫قبل ذلك عىل نح ٍو مستقل و ُمبحاذا ٍة مع الجغرافيا السياسية‪ .‬وعىل الرغم من عدم‬
‫وجود حروب عاملية خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬فإن هذا كان وقتا ُكتبت فيه بعض‬
‫الكالسيكيات الر ِاسخة يف دراسة الحرب واإلسرتاتيجية‪ .‬ومثلام الحظ ماديسون غرانت‬
‫)‪ ،(1916: 17–32‬مل يكن ُينظر بالرضورة إىل تلك األوقات من ِقبل أولئك الذين‬
‫‪87‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫عايشوها عىل أنها أوقات سالم عىل نح ٍو خاص‪ .‬وعىل رغم ُميض ‪ 40‬عا ًما من السالم‬
‫بعد الحرب الفرنسية ‪ -‬الربوسية يف العام ‪ ،1870‬فإن أوروبا متيزت بسباقات التسلح‬
‫الرَب والبحر‪ ،‬وبالتنافس االستعامري يف الخارج ويف الجوار القريب‪ ،‬وبالتنافس‬ ‫يف َ‬
‫يف منطقة البلقان‪ .‬وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬مل تشكل تلك األحداث الراهنية املحور‬
‫الرئيس لهذه الكالسيكيات التي ترجع جميعها إىل القرن املايض‪ ،‬والتي ُكتبت كلها‬
‫من طرف ضباط عسكريني محرتفني‪ .‬فقد بحث كل من كتاب «عن الحرب» «‪On‬‬
‫‪ »War‬لكارل فون كالوزوفيتز (‪ )1832‬وكتاب «فن الحرب» «‪»The Art of War‬‬
‫ألنطوان هرني جوميني ([‪ ،)1854 ]1838‬عىل نح ٍو أسايس يف الحروب النابليونية‬
‫(‪ .)see C. S. Gray, 2012: ch. 2‬وعىل رغم أن كالوزفيتز َكتَب قبل اندالع الثورة‬
‫يف مجال التكنولوجيا العسكرية‪ ،‬فإنه استوعب العنارص السياسية الجديدة للحرب‬
‫التي جلبتها الثورة الفرنسية والقومية‪ ،‬كام استوعب غاياتها أيضا ‪ -‬أي عقالنية‬
‫الحداثة (‪ .)Booth, 1975: 23–9‬أما كتاب ماهان عن «تأثري القوة البحرية عىل‬
‫التاريخ» ‪(1890) 1660-1783 The Influence of Sea Power upon History‬‬
‫فقد كان دراسة ُمستمدة من الهيمنة البحرية الربيطانية يف عرص ِ َ‬
‫الرِشاع‪ .‬ومل تسجل‬
‫هذه املقاربة‪ ،‬التي كانت حبيسة ألفكار املايض‪ ،‬عىل نح ٍو كبري التغيريات الهائلة يف‬
‫التكنولوجيا العسكرية التي حدثت خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬لكن هذا الضعف مل‬
‫مينع هذا العمل من امتالك بعض السامت والخاصيات الخالدة‪.‬‬
‫احتوى عمل ماهان عىل عنارص من الجغرافيا السياسية‪ ،‬سواء يف ربطه للقوة‬
‫البحرية بالقوة الربية‪ ،‬أو يف قبوله افرتاضات الداروينية االجتامعية ‪(Ó Tuathail,‬‬
‫)‪ .1998: 4, 18; L. Ashworth, 2014: 103–5‬وقد حث عىل بناء القوة البحرية‬
‫التي تتضمن السيطرة عىل البحار من خالل بناء قدرات دفاعية بحرية وإسرتاتيجية‬
‫قوية‪ ،‬والسيطرة عىل نقاط االختناق اإلسرتاتيجية يف أجزاء مختلفة من العامل‪ .‬كان‬
‫أحد األهداف هو منع الرشق من الحصول عىل أي موطئ قدم‪ .‬فامهان كان‪،‬‬
‫مثله مثل ماكيندر‪ ،‬قل ًقا بشأن صعود االعتامد املتبادل العاملي أو «تقريب العامل»‬
‫(‪ ،)J. M. Hobson, 2012: 125‬ألن ذلك سيعمل عىل تقليل املسافة بني الغرب‬
‫والرشق‪ .‬كام دعا إىل بناء قاعدة أمريكية قوية يف هاواي الحتواء صعود الصني‪.‬‬
‫ووفق وجهة نظر جون هوبسون )‪ ،(2012: 124 – 30‬فقد كانت الحلول التي‬
‫‪88‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫قدمها ماكيندر وماهان تهدف إىل إجهاض صعود الرشق يف مهده‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫مشاريع إمربيالية عنرصية وعدوانية‪.‬‬
‫وبحلول نهاية القرن كان مثة عددٌ قليل فقط من الناس ممن توقعوا عىل نح ٍو‬
‫صحيح ما كانت تفعله الثورة التكنولوجية بالقدرات العسكرية‪ .‬وكان من أبرز‬
‫هؤالء املفكرين إيفان بلوخ (‪ )1898‬ونورمان أنجيل (‪ .)1909‬نهض إيفان بلوخ‬
‫بحساب مفصل (ستة مجلدات) لتأثريات القوة النارية املتزايدة‪ ،‬وجادل بأنه ال‬ ‫ٍ‬
‫ميكن كسب حرب شاملة‪ ،‬وأن األخرية قد تدمر املجتمعات التي تشنها ‪(Pearton,‬‬
‫)‪ .1982: 137–9‬كام توقع أيضا نشوء املعضلة الدفاعية‪ ،‬وقد اقرتبت الحرب العاملية‬
‫األوىل من إثبات وجهة نظره‪ .‬أما نورمان أنجيل فقد رافع ألجل نسخة مبكرة من‬
‫أطروحة االعتامد املتبادل املعارصة التي تقول إن الحرب يف ظل الظروف الحديثة مل‬
‫تعد تخدم املصالح االقتصادية للمجتمع‪ .‬فبالنسبة إىل املجتمعات الصناعية‪ ،‬دمرت‬
‫الحرب ثروات أكرث من تلك التي أوجدتها ألنها عطلت التجارة العاملية التي تعتمد‬
‫الحجج عىل نطاق واسع التوجه الليربايل‬ ‫عليها الرثوة والقوة‪ .‬وقد دعمت هذه ُ‬
‫املتعلق باالعتامد املتبادل‪ .‬إذ مل يعد بإمكان الدول أن تكتسب ثرو ًة من خالل‬
‫االستيالء عىل أرايض وموارد بعضها البعض كام فعلت خالل القرنني السابع عرش‬
‫والثامن عرش ‪(de Wilde, 1991: 61–90; Howard, 1981: 70–1; L. Ashworth,‬‬
‫منظرو الحرب هؤالء؛ وعىل نح ٍو غري مفاجئ‪،‬‬ ‫)‪ .2014: 116–19‬ومرة أخرى‪ ،‬ر َّكز ِّ‬
‫عىل العالقات القامئة بني القوى الكربى املَ ْر َكزية‪.‬‬

‫‪ - 1 - 6‬اإلمربيالية واإلدارة االستعامرية‬


‫شكلت اإلمربيالية الجديدة للغرب واليابان يف أفريقيا وآسيا خالل أواخر القرن‬‫َّ‬
‫التاسع عرش حقيقة أساسية يف تفكري العالقات الدولية خالل هذه الفرتة‪ .‬وكام‬
‫اتضح من خالل املناقشة حتى اآلن‪ ،‬فإن اإلمرباطورية واإلمربيالية َّ‬
‫غذتا الكثري‬
‫من نقاشات العالقات الدولية يف القرن التاسع عرش‪ ،‬سواء كان ذلك من منظور‬
‫الليربالية أو االشرتاكية أو القومية أو العنرصية «العلمية» أو الواقعية أو الجغرافيا‬
‫السياسية‪ .‬يرى أولسون وغرووم )‪ (1991: 47‬أن «التخصص املعريف للعالقات‬
‫الدولية كان قد شهد بداياته الحقيقية داخل إطار الدراسات اإلمربيالية»‪ .‬كام‬
‫‪89‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يتفق لونغ وشميدت (‪ )2005: 1–15‬عىل أن املفهومني التوأمني لإلمربيالية‬


‫واألممية والجدل الدائر بشأنهام هو الذي حدد خطاب حقل العالقات الدولية‬
‫املبكر‪ .‬ومثلام يجادل جون هوبسون (‪ ،)2010: 28‬فإن العديد من املفكرين‬
‫الليرباليني البارزين‪ ،‬مبا يف ذلك جون ستيورات ميل‪ ،‬وريتشارد كوبدين‪ ،‬ونورمان‬
‫أنجيل‪ ،‬وأتكينسون هوبسون‪ ،‬دعموا اإلمربيالية عىل أساس رضورة مساعدة‬
‫الثقافات املتخلف َة عىل تحقيق «معيار الحضارة»‪ .‬يف حني عارض بعض‬ ‫ِ‬ ‫الغرب‬
‫ِ‬
‫الليرباليني اإلمرباطورية عىل أساس تناقضها مع التجارة الحرة (عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫تجسدت أشهر تلك املعارضات يف نقد جون‬ ‫بيل سيدين سميث ‪ .)1859‬وقد َّ‬
‫أتكينسون هوبسون (‪ )1902‬الليربايل لإلمربيالية باعتبارها غري أخالقية وغري ف َّعالة‬
‫من الناحية االقتصادية‪ .‬لقد رفض جون أتكينسون هوبسون اإلمربيالية بناء عىل‬
‫أسس وظيفية وليست أخالقية‪ ،‬وذلك باعتبارها تشكل عبئًا عىل الغرب وشيئًا‬
‫محكو ًما عليه بالفشل يف النهاية‪ .‬كام ميز جون أتكينسون هوبسون بني اإلمربيالية‬
‫«العاقلة» و«املجنونة»‪ ،‬وكان عىل استعداد لدعم األوىل (‪.)J. M. Hobson, 2012‬‬
‫كان باإلمكان العثور عىل وجهات نظر منقسمة يف معظم املنظورات‪ .‬فبتسلسلها‬
‫االجتامعي الدارويني لألعراق‪ ،‬شكلت العنرصية «العلمية» بال شك واحدة من‬
‫الدعائم الرشعية الرئيسة لإلمربيالية‪ .‬ولكن‪ ،‬كام يجادل جون هوبسون ‪(2012:‬‬
‫أيضا اتجاه قوي مناهض لإلمربيالية داخل التفكري العنرصي‬ ‫)‪ ،ch. 4‬كان مثة ً‬
‫أراد تجنب االتصال «الم ُ َل ِوث» بني األعراق‪ ،‬والحروب بني البيض بشأن املنافسة‬
‫اإلمرباطورية‪ .‬وباملثل‪ ،‬كان لالشرتاكيني توجهان بشأن اإلمربيالية‪ ،‬حيث رأوها يف‬
‫صيغ تقدمية واستغاللية‪ .‬رمبا كانت اإلمرباطوريات واملنافسة اإلمربيالية هي‬ ‫ٍ‬
‫الوا ِقع الرئيس الذي كان عىل ُكتَّاب القرن التاسع عرش التعامل معه‪ :‬كيف ميكن‬
‫رشحه‪ ،‬هل ُيعا َر ُض أو ُيدْ ع َُم‪ ،‬وكيف ميكن لإلمرباطوريات أن ُتدار عىل نح ٍو أفضل؟‬
‫ومثلام جادل بوزان )‪ ،(2014: 153–6‬فإن مثة مثاال جيدا ميكن من خالله‬
‫رصد االهتامم مبسألة التنمية بعد العام ‪ ،1945‬وظهورها كنظام للمجتمع الدويل‬
‫الخ َل َف املبارش لنظام اإلمربيالية‪ /‬االستعامر الذي انهار بعد‬ ‫العاملي باعتبارها َ‬
‫الحرب العاملية الثانية‪ .‬فخالل القرن التاسع عرش كان النقاش القائم بشأن هذا‬
‫ُمُيثل أحد املوضوعات الرئيسة يف تفكري العالقات الدولية‪ ،‬وقد دار ذلك النقاش‬
‫‪90‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫تحت عنوان اإلدارة االستعامرية‪ .‬وكانت األسئلة املطروحة بشأن كيف يجب أن‬
‫ترتبط القوى الحرضية بالشعوب املستعمرة ‪ -‬سواء أكانت تلك الشعوب من‬
‫السكان األصليني أم من املستوطنني ‪ -‬تشكل أسئل ًة سابقة للقرن التاسع عرش‪.‬‬
‫غري أن القرن التاسع عرش شهد تحو ًاًل كب ًريا يف كيفية مامرسة اإلمربيالية‪ .‬فخالل‬
‫هذه الفرتة تولت معظم القوى األوروبية املسؤولية املبارشة عن مستعمراتها‬
‫بداًل من الرشكات املستأجرة التي غال ًبا ما مثلث طليعة اإلمربيالية األوروبية‪.‬‬ ‫ً‬
‫وكام ُذكر أعاله‪ ،‬قام مفكرو العالقات الدولية يف أواخر القرن التاسع عرش بتمييز‬
‫حاد بني عالقات الدول «ا ُملت ََحرِّضِّ َة» القامئة فيام بينها‪ ،‬والعالقات القامئة بني تلك‬
‫«الرَب َب ِر َّية»‪ .‬وقد انعكس هذا التمييز منذ‬
‫رِّضة» والدول والشعوب َ ْ‬ ‫الدول «ا ُملت ََح ِّ َ‬
‫تسعينيات القرن التاسع عرش يف األدبيات املتنامية بشأن اإلدارة االستعامرية‬
‫(‪ .)Schmidt, 1998 a: 136–40‬ففي أول اجتامع لجمعية العلوم السياسية‬
‫األمريكية يف العام ‪ُ 1904‬صنِّفت «اإلدارة االستعامرية» واحدا من الفروع األساسية‬
‫اسية (‪.)Vitalis, 2010‬‬ ‫للع ُلوم ِ‬
‫الس َي ِ‬ ‫الخمسة ُ‬
‫وميكن العثور عىل رؤية متبرصة بخصوص التفكري بشأن هذه املسألة (واللغة التي‬
‫ُو ِصفت بها!) يف مقال كرير (‪ )1916‬بشأن «العالقات السياسية القامئة بني الشعوب‬
‫املتقدمة والشعوب املتخلفة» ‪Political Relations between Advanced and‬‬
‫‪ .Backward Peoples‬كان كرير يدافع عىل نح ٍو أسايس عن رضورة الحكم االستعامري‬
‫للتعامل مع املشكالت التي خلقتها املواجهات القامئة بني الشعوب وعىل مستويات‬
‫مختلفة جدًا من التطور‪ .‬لقد كان منظوره ‪ -‬الذي يوضح التيارات املتداخلة لذلك‬
‫العرص والتي تبدو غريبة اآلن – عبار ًة عن مزيج من اإلمربيالية الليربالية والعنرصية‬
‫«العلمية»‪ ،‬ومداف ًعا عن حتمية اإلدارة االستعامرية‪ ،‬باإلضافة إىل دفاعه عن نوع من‬
‫الفصل العنرصي ملنع األعراق من االختالط (‪.)Kerr, 1916: 174–9‬‬
‫ؤسفة عىل الدوام بعد ظهور التاجر املتحرض بني الشعوب‬ ‫جاءت النتائج ا ُمل ِ‬
‫املتخلفة‪ ...‬إن األفراد الذين انخرطوا يف التجارة كانوا قد ولجوا فيها من دون أي‬
‫فكرة عن مساعدة األعراق املتخلفة‪ ،‬لقد انخرطوا يف التجارة بهدف مرشوع جني‬
‫األرباح من عملية التبادل التجاري العادية واملفيدة ماد ًيا‪ ...‬إنها قاعدة عامة‪ ...‬أنه‬
‫كاف بني مستويات حضارة شعبني‪ ،‬فإن القوة األكرث حضارة‬ ‫عندما يكون مثة فرق ٍ‬
‫‪91‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ستسعى إىل مصلحة العدالة واإلنسانية‪ ،‬لتتدخل و ُتنظم بأي حال من األحوال‬
‫آثار العالقة القامئة بني االثنني‪ ...‬ويجب عىل األشخاص األكرث تقد ًما الذين تدخلوا‬
‫ملصلحة الحضارة والحرية والتقدم‪ ،‬أن يديروا الحكم من أجل تعزيز تلك الغايات‬
‫نفسها (‪.)Kerr, 1916: 144–5, 163, 166‬‬
‫وكام هو الحال مع معظم منظورات حقل العالقات الدولية األخرى السائدة‬
‫يف ذلك الوقت‪ ،‬كانت رؤية كرير َتتَأَىَّتَّ من املَ ْر َكز‪ ،‬حيث كانت تتالءم مع النظرة‬
‫املستقبلية لـ «معيار للحضارة» كام حددها جونغ (‪ ،)1984: 24–53, 64–93‬الذي‬
‫الحظ أن حاجة األوروبيني للوصول إىل (التجارة؛ والتبشري؛ والسفر) كانت هي‬
‫التي حددت الجوانب الوظيفية لـ «معيار الحضارة» (ألجل حامية الحياة والحرية‬
‫واملمتلكات من خالل تبادل االلتزامات املتبادلة يف القانون)‪ .‬وإذا مل يتمكن السكان‬
‫املحليون من توفري هذا أو مل يرغبوا يف ذاك‪ ،‬فقد يؤدي ذلك إىل مطالب أوروبية‬
‫بعالقات غري متكافئة خارج الحدود اإلقليمية (‪.)Gong, 1984: 24–53‬‬
‫ويف حني أن طريقة تفكري حقل العالقات الدولية هذه كانت تويل اهتامما لدول‬
‫األَ ْط َراف‪ ،‬فإنها اضطلعت بذلك من منظور دول املَ ْر َكز‪ ،‬وبطريقة فصلت دراسة‬
‫العالقات القامئة بني الدول «ا ُملت ََحرِّضِّ َة» فيام بينها‪ ،‬عن العالقات القامئة بني الدول‬
‫«الرَب َب ِرية»‪.‬‬
‫رضة» والدول َ ْ‬‫«ا ُملت ََح َ‬

‫‪ - 1 - 7‬القانون الدويل‪ ،‬املنظامت الحكومية الدولية واملجتمع الدويل‬


‫خالل أواخر القرن التاسع عرش كان القانون الدويل مبنزلة فرع تفكري رئيس‬
‫وسابق لتفكري حقل العالقات الدولية (‪ .)Schmidt, 1998a: 45‬لقد ظلت األفكار‬
‫بشأن «قانون األمم» موجودة يف أوروبا عىل مدى عدة قرون‪ ،‬ولكن‪ ،‬وتحت ضغط‬
‫زيادة كبرية يف النقل والتجارة‪ ،‬شهد القرن التاسع عرش انتقاال من النمط القديم‬
‫للقانون الطبيعي‪ ،‬نحو القانون الوضعي (أي تلك القوانني التي وافقت عليها الدول‪،‬‬
‫والتي تسرتشد بفكرة أن الدول ملزمة فقط مبا وافقت عليه)‪ .‬لقد ُنرش عمل هرني‬
‫ويتون (‪ )1866‬الذي جاء تحت عنوان «عنارص مؤثرة يف القانون الدويل» ‪«Elements‬‬
‫»‪ of International Law‬ألول مرة يف العام ‪ .1836‬وسار تطوير القانون الدويل‬
‫الوضعي جن ًبا إىل جنب مع انتشار املنظامت الحكومية الدولية التي نوقشت يف‬
‫‪92‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫الفصل األول‪ ،‬حيث كان يغذي كل منها اآلخر‪ .‬إن ما ميكن اعتباره النص الرائد بشأن‬
‫املنظامت الحكومية الدولية (‪ )Reinsch, 1911‬كان قد ُكتب قبل الحرب العاملية‬
‫األوىل بفرتة طويلة (‪ .)Schmidt, 1998a: 118‬فإذا كانت الدول التزال ترغب يف‬
‫خوض الحرب‪ ،‬فإن بإمكانها فعل ذلك بالتأكيد‪ .‬ولكن إذا أرادت الدول السعي‬
‫وراء التجارة والسالم‪ ،‬فإن املجال األكرث كثافة من أي وقت مىض وا ُملتَض ِّمن القواعد‬
‫واللوائح الدولية املتعلقة بالتجارة والنقل واالتصاالت‪ ،‬سيساعد يف تنسيق السلوكات‬
‫بني الدول (‪َ .)Koskenniemi, 2001 ; Davies, 2013‬ع َكس ظهور القانون الدويل‬
‫الوضعي الهيمنة املتزايدة ألوروبا‪ ،‬ألن القانون الوضعي كان يف األساس قانو ًنا‬
‫أوروب ًيا‪ .‬إن امل ْيل داخل تقليد القانون الطبيعي ملعاملة (معظم) غري األوروبيني عىل‬
‫ربط القانون الوضعي مع التسلسل الهرمي الذي يوفره‬ ‫أنهم متساوون استُب ِدل به ُ‬
‫«معيار الحضارة» (‪ .)Gong, 1984: 5–32‬وبهذا املعنى‪ ،‬احتوى القانون الوضعي‬
‫عىل غرض مزدوج‪ :‬ترتيب السلوك بني املتساوين السياديني داخل املَ ْر َكز؛ وتنظيم‬
‫«االختالف» بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف عىل الصعيد العاملي (‪ .)Shilliam, 2013‬فخالل‬
‫مواجهاتهام مع القوى األوروبية منذ منتصف القرن التاسع عرش‪ ،‬لجأت كل من‬
‫الصني واليابان إىل الكتابات الغربية بشأن القانون الدويل والديبلوماسية ملحاولة‬
‫إيجاد أفضل السبل للرد عىل القوى املستبدة التي وصلت إىل أراضيها ‪(Suzuki,‬‬
‫)‪.2009: 69–85; Howland, 2016‬‬
‫وبحلول العام ‪ 1906‬أصبح القانون الدويل موضوعًا متميزًا بدرجة كافية‪ ،‬وذلك‬
‫لوجود الجمعية األمريكية للقانون الدويل‪ ،‬واملجلة األمريكية للقانون الدويل‪ .‬وقد‬
‫تركزت اهتاممات القانون الدويل عىل تدوين القانون العريف والتحكيم وإنشاء‬
‫محاكم العدل الدولية وإضفاء الطابع املؤسيس عىل الديبلوماسية متعددة األطراف‬
‫(‪ .)Schmidt, 1998a: 110‬وبحلول أواخر القرن التاسع عرش كان القانون الدويل‬
‫جز ًءا من مامرسة العالقات الدولية وكذا جزءا من التفكري الجاري بشأنهام‪.‬‬
‫لقد أدى القانون الدويل إىل التوجه بسهولة نحو فكرة املجتمع الدويل‪ ،‬ألنه إذا‬
‫كان مثة قانون دويل فيجب أن يعكس ذلك وجود مجتمع دويل‪ ،‬ألن القانون؛ وخاصة‬
‫القانون الوضعي‪ ،‬ال ميكن أن يوجد خارج املجتمع‪ .‬يحاجج شميدت (‪)1998a:124‬‬
‫أنه بحلول أواخر القرن التاسع عرش حدد التفكري القانوين والسيايس األمرييك بشأن‬
‫‪93‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫رضة»‪ ،‬وقد‬‫العالقات الدولية عىل نح ٍو واضح وجو َد مجتمع دويل بني الدول «ا ُملت ََح َ‬
‫األممية ‪ .Internationalism‬يف موضع آخر وضع نقاش‬ ‫ُرصد هذا يف مصطلح ُ‬
‫املؤرخ األملاين هريمان لودفيج هريين (‪ )1834‬بشأن أنظمة الدول فكرة املجتمع‬
‫الدويل التي التُقطت الح ًقا من ِقبل املفكرين داخل تقليد املدرسة اإلنجليزية‬
‫(‪ ،)Keene, 2002 ; Little, 2008‬وكان مصطلح املجتمع الدويل جوهر ًيا يف‬
‫نقاشات القانون الدويل التي تعود إىل القرن التاسع عرش (‪Schwarzenberger,‬‬
‫‪ .)1951‬الواقع أن توربيورن كنوتسن )‪ُ (2016: 2‬يحاجج بأن جيمس لورميري‬
‫(‪ )1884 ،1877‬ابتكر إىل حد كبري مفهوم «املجتمع الفوضوي»‪ ،‬ولكن ُنيس عمله‬
‫الرائد‪ .‬كان مجتمع الدول هذا قامئًا عىل تزايد االعتامد املتبادل واملصالح املشرتكة‬
‫بشأن السالم والتجارة والنقل واالتصاالت‪ .‬وكانت النزعة األممية واضحة عىل نح ٍو‬
‫متزايد يف كل من القامئة املتزايدة للمنظامت الحكومية الدولية ومؤمترات الهاي‪،‬‬
‫وعىل هذا األساس شجعت األممية التفكري واالقرتاحات بشأن صيغ ما من املنظامت‬
‫الحكومية الدولية يف جميع أنحاء العامل بغية التخفيف من آثار الفوىض‪ .‬وبحلول‬
‫ذلك الوقت ظهر ً‬
‫أيضا التفكري يف الفدرالية العاملية‪ :‬بنيامني تروبلود (‪ )1899‬ورميوند‬
‫بريدغامن (‪.)Schmidt, 1998a: 112( )1905‬‬
‫وكبقية املنظورات املتعلقة بحقل العالقات الدولية‪ ،‬كان كل هذا التفكري‬
‫محاطا باإلمربيالية والعنرصية‪ ،‬وقد مثل مرة أخرى وعىل نح ٍو حاسم رؤية للعامل‬ ‫ً‬
‫ُمتَأَ ِّتي ًة من املَ ْر َكز‪.‬‬

‫‪ - 1 - 8‬خالصات‬
‫ال ميكن أن يكون مثة شك يف أنه خالل العقود التي سبقت الحرب العاملية األوىل‬
‫متنام‪ ،‬خطاب جوهري ومنهجي بشأن العالقات الدولية‪ .‬الواقع‬ ‫ط ِّور‪ ،‬وعىل نح ٍو ٍ‬
‫أن توربيورن كنوتسن (‪()2016‬٭) تتبع التفكري النظري بشأن العالقات الدولية منذ‬
‫سقوط اإلمرباطورية الرومانية‪ .‬كان هذا الخطاب الحديث األول لحقل العالقات‬
‫أساسا يف بريطانيا والواليات املتحدة‪ ،‬وكان يشتمل عىل اهتاممات‬
‫الدولية متموضعا ً‬
‫(٭) للحصول عىل مزيد انظر (‪ )Olson and Groom 1991:1-15‬و( ‪.)Dougherty and Pfalzgraff 1997: 6-11‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫القرن التاسع عرش عىل نح ٍو أسايس‪ :‬تفوق (أو عدم تفوق) الشعوب البيضاء‬
‫والغرب؛ وكيفية إدارة العالقات بني الشعوب األكرث واألقل «تحرضا»؛ ودور الجغرافيا‬
‫السياسية يف تشكيل النظام الدويل؛ وصواب اإلمربيالية وأخطائها؛ والتمسك املتزايد‬
‫مبفاهيم السيادة الشعبية وتقرير املصري؛ وعالقة التجارة الحرة والحامئية بالرصاع‬
‫الدويل؛ واملخاطر والعواقب املتزايدة للتكنولوجيا العسكرية؛ وقدرة القانون الدويل‬
‫واملؤسسات الحكومية الدولية عىل التخفيف من حدة الحرب‪ .‬ليس من املستغرب‬
‫أن يشكل القرن التاسع عرش حقبة ثري ًة جدًا من التفكري بشأن العالقات الدولية‪.‬‬
‫وكام أوضحنا يف الفصل األول‪ ،‬كانت العقود الواقعة بني العامني ‪ 1840‬و‪1914‬‬
‫مشبعة بتحوالت هائلة مدفوعة بانتشار الحداثة يف كل من الدول واملجتمعات‪،‬‬
‫وبتحول يف توازنِ َما شكل الحياة االقتصادية والسياسية واالجتامعية بعيدًا عن‬
‫العوامل املحلية؛ ومتج ًها نحو العوامل الدولية‪ .‬خالل معظم القرن العرشين كان‬
‫الدافع الرئيس وراء تطور حقل العالقات الدولية هو الحرب والخوف من الحرب‪.‬‬
‫غري أن القرن التاسع عرش متيز‪ ،‬عىل األقل بالنسبة إىل دول ومجتمعات املَ ْر َكز‪،‬‬
‫بسالم طويل األمد‪ ،‬وداخل تلك املجتمعات املركزية تطور تفكري حقل العالقات‬
‫الدولية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن الدوافع الرئيسة لتفكري العالقات الدولية خالل القرن التاسع‬
‫عرش متثلت يف االقتصاد السيايس العاملي الجديد للحداثة؛ وميزان القوى الجديد؛‬
‫واملجتمع الدويل العنرصي االستعامري الجديد وغري املتكافئ إىل حد كبري والذي‬
‫ينبني عىل ثنائية املَ ْر َكز – األَ ْط َراف التي سببت خل َقها الفجو ُة الهائل ُة عىل مستوى‬
‫القوة والتنمية بني أولئك الذين يقودون ثورات الحداثة‪ ،‬وأولئك الذين تركتهم‬
‫قوى التحديث يقبعون يف الخلف‪ .‬لقد كان التفكري بشأن حقل العالقات الدولية‬
‫خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬بتعبري روبرت كوكس‪ ،‬يتم من ِق َب ِل قوى املَ ْر َكز وألجلها‪،‬‬
‫مع اختزال األَ ْط َراف إىل حد كبري إىل موضوع – أي أن التفكري بشأن حقل العالقات‬
‫الدولية خالل القرن التاسع كام وصفه عىل نح ٍو لطيف كل من كارفالو واليرا‬
‫وهوبسون‪ ،‬أصبح ُمُيثل «قصة الجانب الغريب»(٭)‪.‬‬
‫(٭) ميكن املحاججة بأن الفضاء الفكري الذي انتقل إليه حقل العالقات الدولية خالل أواخر القرن التاسع عرش قد‬
‫نشأ بسبب فشل تخصص علم االجتامع الناشئ يف التعامل عىل نحو فعال مع قضية الحرب (;‪Tiryakian, 1999‬‬
‫‪[ .)Joas, 2003‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وعىل رغم أن هذه التطورات مل تكن قد تق َّعدت بعدُ يف شكل تخصص أو مجال‬
‫من مجاالت حقل العالقات الدولية‪ ،‬فإن مثة عالمات واضحة عىل إضفاء الطابع‬
‫ا ُمل َؤسيس من ناحية الكتب واملجالت والدورات الجامعية‪ .‬فثمة العديد من كتب‬
‫حقل العالقات الدولية التي ُكتبت خالل هذه الفرتة‪ ،‬من مثل‪:‬‬
‫‪ -‬هرني ويتون ([‪ )1866 ]1836‬عنارص القانون الدويل‪.‬‬
‫‪Henry Wheaton ([1836] 1866) Elements of International Law.‬‬
‫‪ -‬جيمس لورمير (‪ )1884‬معاهد قانون األمم‪ :‬رسالة يف العالقات القانونية‬
‫للمجتمعات السياسية املنفصلة‪.‬‬
‫‪James Lorimer (1884) the Institutes of the Law of Nations: A‬‬
‫‪Treatise on the Jural Relations of Separate Political Communities.‬‬
‫‪ -‬أليني إريالند (‪ )1899‬االستعامر املداري‪ :‬مقدمة لدراسة هذه املسألة‪.‬‬
‫‪Alleyne Ireland (1899) Tropical Colonization: An Introduction to‬‬
‫‪the Study of the Subject.‬‬
‫‪ -‬بنجامني ف‪ .‬تروبلود (‪ )1899‬فدرالية العامل‪.‬‬
‫‪Benjamin F. Trueblood (1899) the Federation of the World.‬‬
‫‪ -‬بول راينش (‪ )1900‬السياسة العاملية يف نهاية القرن التاسع عرش املتأثرة‬
‫بالوضع الرشقي‪.‬‬
‫‪Paul Reinsch (1900) World Politics at the End of the Nineteenth‬‬
‫‪Century as Infl uenced by the Oriental Situation.‬‬
‫‪ -‬بول راينش (‪ )1902‬الحكم االستعامري‪ :‬مقدمة لدراسة النظم االستعامرية‪.‬‬
‫‪Paul Reinsch (1902) Colonial Government: An Introduction to‬‬
‫‪the Study of Colonial Institutions.‬‬
‫‪ -‬رميون ل‪ .‬بريدجامن (‪ )1905‬املنظمة العاملية‪.‬‬
‫‪Raymond L. Bridgman (1905) World Organization.‬‬
‫‪ -‬بول راينش (‪ )1911‬النقابات الدولية العامة ‪ -‬عملها وتنظيمها‪ :‬دراسة يف‬
‫القانون اإلداري الدويل‪.‬‬
‫‪Paul Reinsch (1911) Public International Unions –Their Work‬‬
‫‪96‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫‪and Organization: A Study in International Administrative Law.‬‬


‫‪ -‬لويس ديكنسون (‪ )1916‬الفوىض األوروبية‪.‬‬
‫‪G. Lowes Dickinson (1916) the European Anarchy.‬‬
‫‪ -‬إيه إف جرانت‪ ،‬آرثر غرينوود‪ ،‬جي دي آي هيوز‪ ،‬يب إتش كري وإف إف‬
‫أوركوهارت (‪ )1916‬مدخل إىل العالقات الدولية‪.‬‬
‫‪A. F. Grant, Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F.‬‬
‫‪F. Urquhart (1916) an Introduction to International Relations.‬‬
‫‪ -‬ديفيد ب‪ .‬هيتيل (‪ )1919‬الديبلوماسية ودراسة العالقات الدولية‪.‬‬
‫‪David P. Heatley (1919) Diplomacy and the Study of International‬‬
‫‪Relations.‬‬
‫إن ما ميكن اعتباره أول مجلة مهنية خاصة بالعالقات الدولية «مجلة التوفيق‬
‫الدويل» ‪ International Conciliation‬يعود تاريخها إىل العام ‪Schmidt,( 1907‬‬
‫‪)1998a: 101‬؛ ويعود تاريخ «املجلة األمريكية للقانون الدويل» ‪American Journal‬‬
‫‪ of International Law‬إىل العام ‪1907‬؛ ومجلة «تطور العرق» ‪Journal of Race‬‬
‫‪( Development‬فورين أفريز ‪ /‬الشؤون الخارجية منذ العام ‪ )1922‬إىل العام ‪.1910‬‬
‫وكانت أقدم مجلة لحقل العالقات الدولية يف بريطانيا هي «املائدة املستديرة» ‪The‬‬
‫‪ )Roundtable (1910‬التي جاءت يف األصل مع العنوان الفرعي «مراجعة ربع سنوية‬
‫لسياسة اإلمرباطورية الربيطانية»‪ .‬وقد أعطى شميدت (‪ )1998a: 54–7, 70‬بعض‬
‫األهمية إلنشاء مدرسة للعلوم السياسية يف جامعة كولومبيا يف العام ‪ ،1880‬وهو ما‬
‫شكل عالمة فارقة يف إضفاء الطابع املؤسيس عىل حقل العالقات الدولية‪ ،‬عىل الرغم‬
‫من أن أول دورة محددة لحقل العالقات الدولية ُوضعت يف العام ‪ 1900-1899‬يف‬
‫جامعة ويسكونسن‪ .‬ويف العام ‪ 1898‬أنشأت جامعة جورج واشنطن يف واشنطن‬
‫العاصمة‪ ،‬مدرسة الفقه القانوين املقارن والديبلوماسية‪ ،‬والتي ستمر بالعديد من‬
‫املراحل مبا يف ذلك عمليات الدمج مع أقسام العلوم السياسية والحكم‪ ،‬قبل أن تصبح‬
‫مدرسة للشؤون العامة والدولية يف الستينيات‪ ،‬لتكتسب الح ًقا اسمها الحايل تحت‬
‫اسم «مدرسة إليوت للشؤون الدولية» ‪Elliott School of International Affairs‬‬
‫يف العام ‪ .1988‬ويف العام ‪ 1915‬تأسست الرابطة النسائية الدولية للسالم والحرية‬
‫‪97‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أيضا محو ًرا مؤث ًرا ملجموعة من املفكرين النسويني‬ ‫كمجموعة ضغط‪ ،‬ولكنها أصبحت ً‬
‫خالل سنوات ما بني الحربني (‪ .)L. Ashworth, 2017‬ورمبا يكون الغائب األكرث‬
‫وضوحا خالل هذه الفرتة هو الجمعيات ذات العضوية األكادميية ا ُمل َؤ َّس َس ُة بشأن‬
‫ً‬
‫حقل العالقات الدولية‪.‬‬

‫‪ - 2‬حقل العالقات الدولية قبل ظهوره كحقل معريف يف َ‬


‫األ ْط َراف‬
‫صحيحا إىل حد كبري اعتبار أن حقل العالقات الدولية يف ذلك‬ ‫ً‬ ‫يف حني أنه اليزال‬
‫مرشوع قد أسس من طرف الغرب وألجله‪ ،‬فإنه ميكن للمرء ً‬
‫أيضا‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫الوقت كان مبنزلة‬
‫ناشئ يف أمكنة‬
‫حديث بشأن حقل العالقات الدولية ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أن يجد البواكري األوىل لتفك ٍري‬
‫كل من الغرب والحداثة خل َقها‪ .‬لقد‬ ‫أخرى‪ ،‬وذلك كرد عىل املواجهات التي س َّبب ٌ‬
‫أدى توسع ا ُمل ْج َت َمع الدُ َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب (مبحاسنه ومساوئه) عىل‬
‫نطاق عاملي إىل دفع جميع الشعوب واألنظمة السياسية (سواء أرادوا ذلك أو ال)‬
‫وتسلسل هرمي عاملي‬
‫ٍ‬ ‫إىل التوجه نحو اقتصاد عاملي‪ ،‬ونظام عاملي لسياسات القوة‪،‬‬
‫للعرق والتنمية‪ .‬كان الجمع بني النطاق العاملي والتفاعل املكثف والتسلسل الهرمي‬
‫السيايس واالقتصادي والعرقي ميثل مع كلها أشياء جديدة‪ .‬وكان أولئك املتواجدون‬
‫يف األَ ْط َراف يقبعون يف أسفل التسلسل الهرمي للرثوة والقوة واملكانة‪ ،‬حيث وجدوا‬
‫أنفسهم يتعرضون لضغوط من القوى الحداثية املتجانسة‪ .‬خالل ذلك الوقت كان‬
‫من الصعب فصل التحديث عن التغريب‪ ،‬مام طرح عىل الشعوب والكيانات‬
‫السياسية املوجودة يف األَ ْط َراف معضلة حادة تتعلق مبا إذا كان يتعني عليهم التخيل‬
‫عن هوياتهم الثقافية من أجل تحسني موقعهم داخل التسلسالت الهرمية العاملية‪.‬‬
‫وانطالقا من هذه الوضعية‪ ،‬ليس من املستغرب أن التفكري املبكر لحقل العالقات‬
‫الدولية الحديث يف األَ ْط َراف كان مدفوعًا بشدة بنزعة مناهضة االستعامر‪ ،‬وانجذب‬
‫بقوة نحو قضايا الهويات اإلقليمية ‪ /‬العرقية‪ ،‬وذلك بهدف تأكيد الذات ضد الغرب‪.‬‬

‫‪ - 2 - 1‬اليابان‬
‫بالنظر إىل ما ناقشناه يف الفصل األول بشأن كون اليابان شكلت جز ًءا من املرحلة‬
‫العامة األوىل للحداثة وأيضا قوة كربى بحلول العام ‪ ،1902‬فليس من املستغرب أن‬
‫‪98‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫نجد تطورات حقل العالقات الدولية فيها قبل الحرب العاملية األوىل مشابه ًة إىل ح ٍد ما‬
‫لتلك املوجودة يف الغرب‪ ،‬أي أنها شكلت بوادر واضحة لظهور مجال دراسة منهجي‪.‬‬
‫وكام الحظ تيتسويا ساكاي )‪ ،(2008: 234–7‬كانت اليابان ُمدركة متا ًما ملوقعها الغريب‬
‫كونها كانت موجودة جزئ ًيا يف املجتمع الدويل االستعامري‪ ،‬ولكنها كانت تطمح ً‬
‫أيضا إىل‬
‫االنضامم إىل املجتمع الفوضوي للقوى الغربية الكربى‪ .‬إذ الحظ أنه بحلول العام ‪1893‬‬
‫منهجي عن حقل العالقات الدولية يف اليابان (‪ .)Kuga [1893] 1968‬لقد‬ ‫ٌ‬ ‫كان مثة نص‬
‫كان محامو اليابان الدوليون نشطني يف ديبلوماسيتها بشأن الحرب الصينية ‪ -‬اليابانية‬
‫حيث نرشوا عديدا من الكتب عنها )‪ .(Ariga, 1896; Takahashi, 1899‬ويف العام‬
‫‪ُ 1897‬أ ِّسست الرابطة اليابانية للقانون الدويل‪ .‬و ُترجمت أعامل الكاتب األمرييك يف‬
‫حقل العالقات الدولية بول رينش )‪ (1900، 1902‬برسعة‪ ،‬وقد أثرت تلك األعامل‬
‫يف التفكري الياباين بشأن اإلمربيالية واإلدارة االستعامرية‪ .‬وقد احتوى عمل يوكيتيش‬
‫فوكوزاوا )‪ Yukichi Fukuzawa ([1875] 2009‬بشأن الحضارة املقارنة وحاجة‬
‫أيضا عىل عنارص من حقل العالقات الدولية(٭)‪ .‬و ُقدمت دورات‬ ‫اليابان إىل التحديث ً‬
‫بشأن التاريخ الديبلومايس يف عديد من الجامعات اليابانية قبل الحرب العاملية األوىل‬
‫(‪ .)Hosoya, 2009: 22–3‬ومثلام هو الحال خالل مسار تطورها عىل نحو عام‪،‬‬
‫كانت اليابان رسيعة يف اللحاق بركب التفكري الغريب بشأن حقل العالقات الدولية‪،‬‬
‫خصوصا يف جانب القانون الدويل‪ ،‬كام كانت رسيعة يف إنشاء رؤيتها الخاصة املتعلقة‬
‫بهذا الحقل (‪.)Howland, 2016‬‬
‫وبسبب نجاحها املبكر يف مجال التنمية عىل وجه التحديد‪ ،‬كانت اليابان أول‬
‫من واجه معضلة التحديث‪ /‬التغريب‪ .‬لقد لخص آر تاغارت موريف )‪(2014: 63‬‬
‫برباعة مدى التحدي الذي كانت تواجهه اليابان‪ ،‬ومن ثم جميع دول وشعوب‬
‫األَ ْط َراف‪ ،‬والذي فرضه عليهم مبدأ «معيار الحضارة»‪:‬‬
‫«لقد واجه قادة حركة امليجي ثالث مهامت عاجلة ومتشابكة‪ .‬كان يستوجب‬
‫ادع لإلمربيالية الغربية‪ .‬كام‬ ‫جيشا قو ًيا مبا يكفي ليكون مبنزلة ر ٍ‬‫عليهم أن يبنوا ً‬

‫(٭) نحن ممتنون لتاكسيش انوغويش وهيتومي كوياما لنصائحهام بشأن هذه املصادر‪ .‬هنا‪ ،‬نضع اليابان يف النقاش‬
‫الذي كان دائرا يف األَ ْط َراف ألنها كانت تنتمي إليه فقط إىل غاية نهاية هذه الفرتة‪ ،‬وبعد هزميتها للصني وروسيا‪،‬‬
‫أصبحت اليابان مقبولة عىل نحو واضح كجزء من املَ ْر َكز‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كان يستوجب عليهم تجميع رأس املال والتكنولوجيا الالزمني لتحويل بالدهم إىل‬
‫قوة صناعية متطورة مبا يكفي لتجهيز هذا الجيش‪ .‬وكان يستوجب عليهم كذلك‬
‫إرساء املؤسسات الالزمة ليس فقط إلنجاز تلك املهامت األخرى‪ ،‬ولكن أيضا إلقناع‬
‫الغرب بأن اليابان قد راكمت املتطلبات األساسية للعضوية يف نادي الدول التي‬
‫يجب أخذها عىل محمل الجد‪ .‬مل يكن ذلك يعني فقط وجود جيش جدير بالثقة‬
‫‪ُ -‬ي َفضل أن يتجىل ذلك يف االنتصارات خالل الحروب اإلمربيالية التي ُشنت عىل‬
‫أيضا وجود مؤسسات مثل الربملانات واملحاكم‪ ،‬والبنوك‪،‬‬‫اض ضعيفة ‪ -‬ولكن يعني ً‬ ‫أر ٍ‬
‫والزواج األحادي‪ ،‬واالنتخابات‪ ،‬ومن الناحية املثالية‪ ،‬والكنائس املسيحية‪ ،‬فضال عىل‬
‫التآ ُلف واإلملام بالطرق واملظاهر الغربية يف أمور مثل الهندسة املعامرية واللباس‬
‫واألعراف الجنسية وآداب املائدة‪ .‬فقط من خالل حكمهم كقادة يحاكون عن اقتناع‬
‫أمة إمربيالية حديثة‪َ ،‬مَتكن هؤالء الرجال من إقناع الغرب مبراجعة املعاهدات غري‬
‫املتكافئة‪ ،‬ومن ثم استعادة السيطرة من األوروبيني عىل نظام التعريفة الجمركية‬
‫وأيضا عىل األجهزة األمنية يف بالدهم»‪.‬‬
‫تناول املفكرون اليابانيون‪ ،‬املطلعون عىل الغرب وأيضا عىل ثقافتهم الخاصة‪،‬‬
‫قضايا حقل العالقات الدولية‪ .‬فقد حاجج مقال افتتاحي شهري يف العام ‪ 1885‬كان‬
‫منسو ًبا إىل فوكوزاوا‪ ،‬بأن اليابان يجب أن تغادر آسيا وتنضم إىل الغرب ‪(Jansen,‬‬
‫)‪ .2000: loc. 6450; Dreyer, 2016: 44‬أما أوكاكورا تينشني ‪Okakura‬‬
‫أيضا باسم كاكوزو)‪ ،‬وهو باحث ياباين بارز آخر‪ ،‬فقد كان‬ ‫‪( Tenshin‬املعروف ً‬
‫مدر ًكا متا ًما املفارقات املتعلقة باملكانة الدولية لبالده‪ .‬وقد كتب عن هذا بقوة يف‬
‫كتابه «كتاب الشاي» ‪ Book of Tea‬الذي ُنرش ألول مرة يف العام ‪(cited 1906‬‬
‫)‪:in Suzuki, 2005: 137‬‬
‫«يف األيام التي كانت تنخرط فيها اليابان يف أعامل سلمية‪ ،‬اعتاد الغرب التفكري‬
‫فيها باعتبارها دولة غري متحرضة‪ .‬ومنذ أن بدأت اليابان يف قتل اآلالف من الناس يف‬
‫ساحات القتال مبنشوريا‪ ،‬أطلق عليها الغرب اسم دولة متحرضة»‪.‬‬
‫لقد أسهم أوكاكورا أيضا يف بناء رؤية للنزعة الوحدوية اآلسيوية ‪Pan-‬‬
‫‪ Asianism‬التي كان لها صدى ً‬
‫أيضا يف جنوب آسيا كام سرنى ذلك الحقا‪ .‬وباعتبارها‬
‫دولة تحديثية مبكرة ناجحة ارتقت برسعة إىل مصاف القوى العاملية الكربى‪ ،‬نظر‬
‫‪100‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫كثريون‪ ،‬وليس فقط اليابانيون‪ ،‬إىل اليابان باعتبارها قائدا طبيعيا آلسيا ‪(Okakura,‬‬
‫)‪ .1903, 1904‬وعىل أي حال‪ ،‬فقد رأى أوكاكورا اليابان أفضل حضارة آسيوية‪ ،‬ألنها‬
‫«عكست وتعكس الوعي اآلسيوي برمته» (‪.)Tankha and Thampi, 2005: 60‬‬
‫كام أن رؤيته للوحدة اآلسيوية ضد الغرب كانت متثل رؤية ثقافية‪:‬‬
‫«إن آسيا واحدة‪ .‬تقسمها جبال الهياماليا فقط إلبراز حضارتني عظيمتني؛‬
‫الحضارة الصينية ذات النزعة الشيوعية للكونفوشيوسية؛ والحضارة الهندية ذات‬
‫النزعة الفردانية للفيدا‪ .‬ولكن حتى الحواجز الثلجية ال ميكنها أن تعطل للحظة‬
‫واحدة ذلك االمتداد الواسع من الحب املطلق والعاملي‪ ،‬وهو املرياث الفكري‬
‫املشرتك لكل عرق آسيوي‪ ،‬إذ ُ َمُيكنهم من إنتاج جميع الديانات الكربى يف العامل‪،‬‬
‫ومييزهم عن تلك الشعوب البحرية يف البحر األبيض املتوسط ودول البلطيق‪ ،‬تلك‬
‫الشعوب التي تحب اإلسهاب يف الحديث والبحث عن وسائل الحياة‪ ،‬ال الغاية منها»‬
‫(‪.)Okakura, 1903: 1‬‬
‫وبعيدًا عن اليابان‪ ،‬كان تفكري حقل العالقات الدولية خالل هذه الفرتة يتجسد‬
‫عىل نحو أقل يف شكل دراسة أكادميية منظمة‪ ،‬كام كان‪ ،‬مثله مثل كثري من تفكري‬
‫حقل العالقات الدولية املعارص يف الغرب خالل القرن التاسع عرش (عىل سبيل‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثي ًقا بقضايا السياسة‬ ‫ً‬
‫مرتبطا‬ ‫املثال‪ :‬التجارة الحرة؛ ومناهضة العبودية)‪،‬‬
‫العامة وتفكري السياسيني واملفكرين العامني‪.‬‬

‫‪ - 2 - 2‬أمريكا الالتينية‬
‫إن أمريكا الالتينية‪ ،‬وهي متثل اليوم أوىل املناطق يف «الجنوب العاملي» ‪Global‬‬
‫‪ South‬التي خرجت من االستعامر األورويب‪ ،‬مل تكن «غري غربية» باملعنى نفسه‬
‫التي كانت عليه اليابان والشعوب واألنظمة السياسية األخرى يف آسيا وأفريقيا‪ ،‬ومل‬
‫تكن أيضا تشكل قوة كربى صاعدة‪ .‬وعىل الرغم من أنها حققت إنهاء االستعامر‬
‫يف أواخر القرن الثامن عرش وأوائل القرن التاسع عرش؛ ومن ثم أصبحت عض ًوا يف‬
‫املجتمع الدويل‪ ،‬فإن دولها كانت التزال تشكل جز ًءا من األَ ْط َراف يف معنيني‪ :‬لقد‬
‫كانوا يقبعون عىل نح ٍو متزاي ٍد تحت ظل الهيمنة اإلقليمية للواليات املتحدة‪ ،‬وكانوا‬
‫مثل بقية املستعمرات من الناحية االقتصادية‪ ،‬يشكلون موردا للسلع األساسية‬
‫‪101‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بداًل من أن يكونوا هم أنفسهم يسريون عىل مسار‬ ‫املتوجهة نحو املَ ْر َكز ا ُملصنع ً‬
‫التحديث‪ .‬حيث كانوا رعايا ما يسمى بـ «اإلمرباطورية غري الرسمية»‪ .‬وانطالقا من‬
‫هذا املنظور‪ ،‬ليس من املستغرب أن يركز تفكري أمريكا الالتينية خالل هذه الفرتة‬
‫عىل نحو أسايس عىل الدفاع عن الحق يف املساواة يف السيادة‪ ،‬ومن ثم الرتكيز عىل‬
‫أيضا عنرص قوي من‬ ‫الدفاع عن مبدأ عدم التدخل كنتيجة طبيعية لذلك‪ .‬كان مثة ً‬
‫عنارص النزعة اإلقليمية الوحدوية األمريكية ‪ ،Pan-American regionalism‬عىل‬
‫الرغم من أن هذه النزعة قد متزقت بسبب غرضني ُم َتنَا ِزعني‪.‬‬
‫يف البداية‪ ،‬ظهرت النزعة الوحدوية األمريكية ‪ Pan-Americanism‬يف القرن‬
‫التاسع عرش من أجل بناء التعاون بني دول النصف الغريب للكرة األرضية‪ ،‬وقد‬
‫نشأت بقيادة الواليات املتحدة (‪ .)Lockey, 1920‬وعىل الرغم من أن أصول النزعة‬
‫الوحدوية األمريكية تعود إىل النصف األول من القرن التاسع عرش‪ ،‬فإن املؤمتر‬
‫الدويل األول بشأن الدول األمريكية كان قد عُ قد يف العام ‪ .1890‬والجدير بالذكر أن‬
‫هذا كان قبل عقد من انعقاد مؤمتر الهاي األول‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬فقد واجهت النزعة‬
‫الوحدوية األمريكية مفارقة‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬كانت حرك ًة مثالي ًة لتعزيز التعاون بني‬
‫الدول حتى أنها استثارت الح ًقا مقارنات مع عصبة األمم بسبب ِبنْيتها القانونية‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬كانت حركة اضطلعت بها دول أمريكا الالتينية ملواجهة الهيمنة‬
‫األمريكية ومبدأ مونرو‪ .‬فبسبب وجود القوة املهيمنة داخل هذه الحركة‪ ،‬فإن‬
‫النزعة الوحدوية األمريكية تختلف إذن عن الحركات الوحدوية القومية األخرى‬
‫التي نشأت كرد فعل عىل نحو أسايس عىل الهيمنة الخارجية‪ ،‬عىل رغم أنها تشبه‬
‫أيضا قوة مهيمنة داخلية‪ .‬كانت العالقات بني‬ ‫رشق آسيا‪ ،‬حيث كانت اليابان ً‬
‫األمريكيني بهذا املعنى مرشوطة «باستغالل وسوء استغالل اإلمكانيات السياسية»‬
‫املتاحة للواليات املتحدة بحكم موقعها املهيمن (‪ .)Hula, 1942: 22‬وعىل الرغم‬
‫من هذه اإلشكالية‪ ،‬فإن النزعة الوحدوية األمريكية تطورت لتعكس مفاهيم‬
‫«تضامن أمريكا الالتينية»‪ ،‬وقد كانت بطبيعتها معادية للهيمنة عىل غرار الحركات‬
‫الوحدوية القومية األخرى يف جميع أنحاء العامل‪.‬‬
‫وعىل رغم أن معايري املساواة يف السيادة وعدم التدخل هي معايري بارزة يف‬
‫جميع أنحاء العامل‪ ،‬فإن املساهامت املبكرة ألمريكا الالتينية لها أهمية خاصة‪،‬‬
‫‪102‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫ألن هذه املعايري ظهرت هناك أو ًاًل قبل االنتقال إىل أجزاء أخرى من العامل‪ .‬وبينام‬
‫تم التأكيد عىل مبدأ السيادة يف صلح وستفاليا للعام ‪ ،1648‬فإن مبدأ عدم‬
‫يحظ بذلك‪ .‬ومن أبرز معايري أمريكا الالتينية كان مثة مبدأ الحيازة‬ ‫التدخل مل َ‬
‫الجارية (‪ ،)uti possidetis juris‬أو احرتام الحدود املوروثة‪ .‬وقد أصبح هذا‬
‫املعيار؛ الذي يحرتم الحدود اإلدارية لإلمرباطورية اإلسبانية‪« ،‬إطا ًرا للرشعية‬
‫املحلية والدولية خل ًفا للعبور الدموي من اإلمرباطورية إىل الدول األمريكية التي‬
‫خلفتها» (‪ .)Dominguez, 2007: 90‬من الواضح أن هذا املعيار دعم وأسهم‬
‫يف معيار السالمة اإلقليمية العاملية‪ ،‬أو ما يسميه إيان براونيل ([‪)1998 ]1966‬‬
‫«إنشاء ونقل السيادة اإلقليمية»‪ .‬يتمثل معيا ٌر آخر ألمريكا الالتينية يف «عدم‬
‫التدخل املطلق يف مجتمع نصف الكرة الغريب» كمبدأ مجرد وكوسيلة لتحدي‬
‫عقيدة مونرو األمريكية‪ .‬وقد تطورت هذه القاعدة تحت راية النزعة الوحدوية‬
‫األمريكية‪ ،‬وجاءت استجابة إزاء ما ُيتصور أنه نفاق ُم َه ْي ِم ٍن إقليمي يف التعامل‬
‫مع جريانه الجنوبيني (‪.)Castle, 2000 ; Leonard, 2000‬‬
‫كان أبرز األمثلة عن تفكري أمريكا الالتينية بشأن مبدأ عدم التدخل يتمثل‬
‫يف مذهبي كالفو ودراغو‪ ،‬إذ إن كليهام ُطرح من قبل هؤالء األرجنتينيني‪ .‬يرتبط‬
‫األول بالديبلومايس واملؤرخ كارلوس كالفو‪ ،‬الذي أفصح يف العام ‪ 1868‬عن مذهبه‬
‫القائل إن «سلطة تسوية نزاعات االستثامر الدولية مستقرة يف حكومة البلد الذي‬
‫يوجد فيه هذا االستثامر» (‪ .)Wood, 2008: 46–7‬كان هذا املذهب ُم َوج ًها ضد‬
‫التدخل يف الشؤون الداخلية لدول أمريكا الالتينية املامرس من ِقبل القوى األجنبية‬
‫(األوروبية والواليات املتحدة)‪ ،‬إذ أصبح سمة أساسية للدساتري واملعاهدات يف‬
‫أمريكا الالتينية‪ .‬كام ظل مذهب كالفو مذهبا قانونيا‪ ،‬وقد ُأخذ به إىل أبعد من ذلك‬
‫من خالل مذهب دراغو‪ ،‬الذي طرحه وزير الخارجية األرجنتيني لويس ماريا دراغو‬
‫يف العام ‪ ،1902‬والذي تحدى من خالله املوقف األمرييك واألورويب القائل إن لهام‬
‫الحق يف التدخل إلجبار الدول عىل الوفاء بديونها السيادية ‪(Dominguez, 2007:‬‬
‫)‪ .92‬إذ يحظر هذا املذهب التدخل العسكري عىل وجه التحديد‪ .‬وبناء عىل هذه‬
‫األسس‪ ،‬يشري جريي سيمبسون (‪ )2004: 126-59‬إىل التمثيل القوي ألمريكا الالتينية‬
‫يف الدفاع عن املساواة يف السيادة ضد الهيمنة اإلقليمية للواليات املتحدة يف مؤمتر‬
‫‪103‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الهاي الثاين يف العام ‪ .1907‬حيث يحاجج بأن هذه ا ُملن َ َ‬


‫َارَصة ساعدت يف متهيد‬
‫الطريق ألجل حل وسط لهيكل جمعيات ومجالس املنظامت الحكومية الدولية يف‬
‫القرن العرشين‪ ،‬والجمع بني املساواة يف السيادة والتسلسل الهرمي‪.‬‬
‫أيضا عنارص من التفكري الحديث‬ ‫رمبا يكون األمر األكرث إثارة للدهشة هو أننا وجدنا ً‬
‫املرتبط بحقل العالقات الدولية الناشئ يف الصني والهند‪ ،‬وهي الدول التي مل تكن من‬
‫رواد املرحلة األوىل للحداثة أو من القوى الكربى‪ .‬لكن يف كلتا الحالتني‪ ،‬كانت عنارص‬
‫التفكري تلك عبارة عن عنارص مبعرثة‪ ،‬وال تشري بعدُ إىل ظهور مجال دراسة منهجي‪.‬‬

‫‪ - 2 - 3‬الصني‬
‫عىل رغم أن الصني؛ وعىل عكس الهند‪ ،‬مل تكن ُم ْس َت ْع َمرة عىل نحو رسمي‪،‬‬
‫اخرُتقت بشدة من طرف قوى خارجية مبا يف ذلك اليابان‪ .‬ويف ذلك الوقت‪،‬‬ ‫فإنها ُ‬
‫مل تكن مثة يف الصني دراسة أكادميية منهجية لحقل العالقات الدولية ميكن التعرف‬
‫عليها‪ ،‬وذلك ألسباب ليس أقلها االضطراب املستمر الناجم عن تفاعل ساللة تشينغ‬
‫املتدهورة مع الضغط األجنبي املتزايد‪ .‬لكن‪ ،‬كان مثة عنارص متناثرة من تفكري‬
‫النزعة الوحدوية اآلسيوية كام لوحظ يف الفصل األول‪ ،‬وبحلول أواخر القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬كان عديد من اإلصالحيني الصينيني يركزون عىل اليابان‪ ،‬ويفكرون مل ًيا يف‬
‫كيفية إنقاذ الصني من أن ُتبتلع من طرف اإلمربياليني األجانب‪.‬‬
‫رمبا كان أبرز عمل مرتبط بحقل العالقات الدولية يف الصني يف ذلك الوقت‬
‫هو كتاب كانع يووي ‪ Kang Yuwei‬املوسوم بـ «االنسجام الكبري» ‪(The Great‬‬
‫)‪ .Harmony [1935] 1958‬لقد ارتبط كانغ يووي بقوة بالحركة اإلصالحية التحديثية‬
‫يف الصني خالل نهاية القرن التاسع عرش‪ُ .‬كتبت النسخ األوىل من كتابه يف العامني‬
‫‪ 1884‬و‪ ،1885‬و ُنرش جزء منها يف العام ‪ .1913‬لقد جمعت ُحجة كانغ بني الحداثة‬
‫والتقاليد‪ .‬إن تركيزها عىل فكرة االنسجام وعامل موحد بال حدود يعكس األفكار‬
‫الكونفوشيوسية‪ ،‬ولكن يبدو أن كثريا من محتواها بشأن إزالة حدود الطبقة والعرق‬
‫واألمة والجنس وغريه من األشياء‪ ،‬يجد له جذورا يف النزعة االشرتاكية الطوباوية‪.‬‬
‫كان ليانغ تشيتشاو )‪ Liang Qichao (1873-1929‬أحد أبرز أتباع كانغ يووي؛‬
‫وهو صحايف ومفكر من أواخر ساللة تشينغ‪ .‬لقد سعى‪ ،‬مثله مثل كانغ‪ ،‬إىل إعادة‬
‫‪104‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫تفسري الكونفوشيوسية للصني‪ ،‬لكن مشاعره كانت تعيش نوعا من التضارب من خالل‬
‫جسد‬
‫الرغبة يف محاكاة الغرب مع الحفاظ عىل القيم والهوية الثقافية التقليدية‪ .‬لقد َّ‬
‫ليانغ تشيتشاو رغبة املثقفني الصينيني إبان تلك الفرتة يف إصالح وتحديث بلدهم‬
‫للتغلب عىل اإلذالل الوطني والتهديد املادي القادم من اليابان والغرب‪ ،‬ب ْيد أنه فشل‬
‫يف التوفيق بني الدميوقراطية والقيم الصينية التقليدية (‪.)Mishra, 2012: 123–215‬‬
‫وخالل زيارة للواليات املتحدة يف العام ‪ ،1903‬أصيب ليانغ بخيبة أمل من الدميوقراطية‬
‫األمريكية بعد أن شاهد عنرصيتها وفسادها وانعدام املساواة فيها (‪.)Shepard, 2012‬‬
‫كان سون يات سني (‪ )SunYat-sen‬أحد املنفيني الصينيني إىل اليابان‪ ،‬وقد كان‬
‫بصدد تطوير «رؤية آسيوية قامئة عىل الدولة ومعادية لإلمربيالية»‪ ،‬غري أنه كان‬
‫مثة أشكال أخرى من اإلقليمية بني املثقفني الصينيني متجذرة يف املامرسات غري‬
‫املرتكزة عىل الدولة ويف التعددية الثقافية غري الشوفينية ‪ -‬القومية (‪Karl, 1998:‬‬
‫‪ .)1096–7‬كان أحد األمثلة عىل هذه اإلقليمية البديلة هو أنشطة منظمة غري‬
‫معروفة تسمى جمعية التضامن اآلسيوي‪ ،‬التي تأسست يف طوكيو يف العام ‪1907‬‬
‫من طرف مفكرين صينيني واشرتاكيني يابانيني ومنفيني قادمني من الهند وفيتنام‬
‫والفلبني‪ .‬كان أحد الجوانب املثرية لالهتامم يف هذه النزعة اإلقليمية هو االعرتاف‬
‫املمنوح «للفلبيني األول» خوسيه ريزال )‪ ،José Rizal (1896-1861‬باعتباره‬
‫«القومي اآلسيوي املثايل الذي يجب أن تتعلم منه الصني واآلسيويون اآلخرون»‬
‫(‪ .)Karl, 1998: 1106‬وعىل الرغم من أن ريزال معروف عىل نحو كبري بأنه بطل‬
‫وحدة عرق املاليو‪ ،‬فإن رسالته كانت قد اعتمدت عىل التنوع غري املرتكز عىل‬
‫الدولة الخاص بفكرة اإلقليمية اآلسيوية‪ .‬والح ًقا يف هذا الفصل‪ ،‬سيكون مثة مزيد‬
‫من األفكار بشأن النزعة القومية عند ريزال‪.‬‬

‫‪ - 2 - 4‬الهند‬
‫كام هي الحال يف كثري من مناطق العامل غري الغريب ا ُملستع َمر‪ ،‬مل تكن مثة‬
‫دراسة منهجية لحقل العالقات الدولية يف الهند‪ ،‬ولكن كان مثة تفكري نشط بشأن‬
‫هذا الحقل بني املثقفني العامني‪ ،‬حيث كان تفكريا يتعلق أساسا مبناهضة االستعامر‬
‫وأفكار النزعة الوحدوية اآلسيوية‪ .‬ولعل أبرز تلك األفكار فكرة الدمج بني الحداثة‬
‫‪105‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫والتقاليد التي طرحها طاغور(٭)‪ ،‬والذي أصبح أول حائز جائزة نوبل يف األدب يف‬
‫آسيا يف العام ‪ .1913‬لقد متركزت مساهمة طاغور يف الفكر الدويل بشأن نقده‬
‫خيطا آخر من تفكريه اهتم بالنزعة الوحدوية‬ ‫الصارم ورفضه القومية‪ ،‬يف حني أن ً‬
‫اآلسيوية‪ .‬لقد أدار حملة ذات نزعة وحدوية آسيوية ومناهضة للنزعة للقومية‬
‫تعود جذورها يف األساس إىل النزعة البوذية‪ ،‬ومن املفارقات أن طاغور رأى اليابان‬
‫باعتبارها متثل القوة الرائدة يف آسيا‪ .‬بالنسبة إىل طاغور‪ ،‬كام رصح بذلك خالل‬
‫جولته يف الواليات املتحدة يف شتاء العامني ‪ 1916‬و‪ ،1917‬فإن «فكرة األمة هي‬
‫واحدة من أقوى أدوية التخدير التي اخرتعها اإلنسان‪ ...‬تحت تأثري أَ ْب ِخ َر ِت َها ميكن‬
‫أن يحمل كل الناس برنامجها املنهجي للبحث األكرث رضاوة عن الذات‪ ،‬من دون‬
‫أن يدركوا عىل األقل انحرافها األخالقي» (‪ .)Tagore, [1917] 2002: 98‬مل تكن‬
‫مناهضة طاغور للقومية يف الوقت الذي أصبحت فيه القومية جز ًءا ال يتجزأ‬
‫من النظام الرئيس للمجتمع الدويل العاملي (‪ )Mayall, 1990‬فكرة غريب ًة متا ًما‪.‬‬
‫فاملؤرخ الربيطاين أرنولد توينبي ‪Arnold Toynbee‬؛ مدير الدراسات يف املعهد‬
‫املليك للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) من العام ‪ 1924‬إىل العام ‪ ،1954‬دان ً‬
‫أيضا‬
‫القومية‪« :‬قوميتنا الغربية الحديثة‪ ...‬هي عودة إىل عبادة الذات الوثنية للقبيلة»‬
‫(‪.)cited in Brewin, 1995: 280‬‬
‫يعتقد طاغور أن القومية مل تسبب فقط نشوب رصاع دويل‪ ،‬ولكنها سببت‬
‫أيضا القمع املحيل‪ ،‬أو قمع الفردانية التي اعتربها واحدة من املساهامت الرئيسة‬ ‫ً‬
‫للمجتمعات الغربية‪ .‬وفيام يتعلق بالرصاع الدويل‪ ،‬ح َّذر طاغور خالل زيار ٍة لليابان‬
‫يف العام ‪ 1916‬من أن القومية ولدت املنافسة‪ ،‬أو عقلية «البقاء لألصلح»‪ ،‬أو نسخة‬
‫متطرفة من مبدأ املساعدة الذاتية‪« :‬ساعد نفسك‪ ،‬وال تكرتث أبدا ملا يحدثه هذا‬
‫لآلخرين» (‪ .)Tagore, [1917] 2002: 33‬كام ح َّذر طاغور اليابان من تقليد الغرب‪،‬‬
‫أيضا قمعي ًة وعسكري ًة‪ .‬وذ َّكر الجمهور بأنه «حيثام‬ ‫خشية أن تصبح هي األخرى ً‬

‫(٭) روبندرونات طاغور ‪ )1981-Rabindranath Tagore (1941‬فيلسوف وشاعر هندي مشهور‪ ،‬كان له أثر كبري‬
‫يف التأثري يف التفكري والتقاليد الهندية‪ .‬قدم طاغور للرتاث اإلنساين عديدا من القصائد الشعرية‪ ،‬والروايات األدبية‪،‬‬
‫إضافة إىل عرشات الكتب واملقاالت واملحارضات يف الفلسفة والدين والرتبية والسياسة والقضايا االجتامعية‪ .‬وقد نال‬
‫جائزة نوبل يف اآلداب للعام ‪ 1913‬ليكون بذلك أول أديب رشقي ينالها‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫َت ُس ْد الروح القومية‪ُ ،‬يع َّلم كل الناس منذ الصغر الكراهية والطموحات بجميع أنواع‬
‫الوسائل‪ ،‬وذلك من خالل صناعة أنصاف الحقائق واألكاذيب يف التاريخ‪ ،‬والتشويه‬
‫املستمر لألعراق األخرى‪ ...‬وهكذا‪ ،‬تختمر يف أذهانهم باستمرار فكرة خطر الرش‬
‫تجاه الجريان واألمم األخرى من غري دولهم» (‪ .)Tagore, [1917] 2002: 35‬لقد‬
‫عمى للبصرية تجاه القانون األخالقي القائل إن‬
‫رأى طاغور القومية باعتبارها متثل ً‬
‫«اإلنسان يصبح أكرث صد ًقا كلام أدرك نفسه من خالل اآلخرين»‪ .‬عالوة عىل ذلك‪،‬‬
‫«إن األمم التي تزرع برصامة العمى األخالقي كعبادة القومية؛ ستنهي وجودها‬
‫مفاجئ وعنيف» (‪ .)Tagore, [1917] 2002: 34‬وفيام يتعلق بتأثري القومية‬ ‫ٍ‬ ‫مبوت‬
‫ٍ‬
‫يف الحرية الفردية‪ ،‬أشار طاغور خالل جولته يف الواليات املتحدة إىل أنه «ال يسعنا‬
‫إال أن نعرتف باملفارقة القائلة إنه بينام تسري روح الغرب تحت راية الحرية‪ ،‬فإن أمة‬
‫الغرب تصوغ سالسلها الحديد من التنظيم‪ ،‬سالسل تنظيم هي األكرث قسوة واألقل‬
‫قابلية للكرس التي ُصنِّعت طوال تاريخ اإلنسان» (‪.)Tagore, [1917] 2002: 78‬‬
‫أيضا كتابات عن موقع الهند ا ُملست َغل يف االقتصاد الدويل‬ ‫لقد كان مثة ً‬
‫لإلمرباطورية الربيطانية‪ ،‬مثل «نظرية االستنزاف» لدادبهي ناوروجي ‪Dadabhai‬‬
‫‪ .Naoroji‬ففي كتابه «الفقر والحكم غري الربيطاين يف الهند» ‪Poverty and Un-‬‬
‫‪ British Rule in India‬الذي ُنرش يف العام ‪ ،1901‬حاول ناوروجي أن يفحص عىل‬
‫وخ ُل َص إىل أن معظم ثروة الهند كانت‬ ‫نحو إحصايئ الربح القومي الصايف للهند‪َ ،‬‬
‫« ُتستنزف» من ِقبل بريطانيا‪ ،‬وذلك من خالل تثبيط تطور الصناعة يف الهند‪ ،‬ومن‬
‫خالل جعل املستعمرة تدفع التكاليف املدنية واإلدارية الهائلة التي ينطوي عليها‬
‫مناهض‬
‫ٍ‬ ‫الحفاظ عىل اإلمرباطورية (‪ .)Ganguli, 1965‬مل ينخرط ناوروجي يف نشاط‬
‫لالستعامر‪ ،‬بل كان مرشوعه يهدف إىل إجراء دراسة علمية‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإنه‬
‫من الصحيح القول إن نظرية ناوروجي أعطت دفعة لحركة االستقالل الهندية‬
‫بسبب رفضها للحكم الربيطاين‪ ،‬حتى لو كان ذلك يف الجانب االقتصادي فقط‪.‬‬

‫‪ - 2 - 5‬حقل العالقات الدولية يف مناطق استعامرية أخرى‬


‫كان أحد التحديات التي تواجه تحليل أصول حقل العالقات الدولية يف أجزاء‬
‫مختلفة من العامل قبل الحرب العاملية األوىل يتمثل يف غياب املفاهيم املعارصة املتعلقة‬
‫‪107‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ٌ‬
‫مصطلحات مثل‪« :‬الرشق األدىن» و«الرشق األوسط»‬ ‫بـ «اإلقليم» ‪ .Region‬لقد كانت‬
‫و«الرشق األقىص» و«جنوب آسيا» و«جنوب رشق آسيا» عبارة عن بناءات استعامرية‬
‫ُأنشئت لخدمة األغراض اإلسرتاتيجية والجيوسياسية للقوى اإلمربيالية‪ ،‬وخاصة بريطانيا‬
‫العظمى‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬فاملنطقة املمتدة من أفغانستان يف الغرب إىل إندونيسيا‬
‫يف الرشق ُمقسمة اآلن إىل جنوب آسيا وجنوب رشق آسيا‪ ،‬مع ميامنار (بورما) التي‬
‫ُتعد مبنزلة خطٍ فاصل‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬مل تكن هذه املفاهيم اإلقليمية لجنوب آسيا‬
‫وجنوب رشق آسيا قد تشكلت بعد يف مطلع القرن العرشين‪ .‬والواقع‪ ،‬ستظهر جنوب‬
‫رشق آسيا كفكرة إقليمية مميزة عىل نحو رئيس بعد إنشاء قيادة جنوب رشق آسيا‬
‫من ِقبل القوى املتحالفة خالل الحرب العاملية الثانية (‪ .)Acharya, 2013a:38‬وقد‬
‫ُأشري إىل املنطقة تاريخ ًيا من ِقبل عديد من العلامء الغربيني باسم الهند الكربى‪ ،‬وهو‬
‫مصطلح من شأنه أن يلهم القوميني الهنود يف منطقة كالكوتا ‪ Calcutta‬فيام بعد‬
‫خالل عرشينيات القرن املنرصم لتشكيل جمعية الهند الكربى تحت الرعاية الروحية‬
‫لرابندرانات طاغور (‪.)Keenleyside, 1982 ; S. Bayly, 2004‬‬
‫كان جزء كبري من املنطقة املعروفة اليوم باسم الرشق األوسط يقبع تحت‬
‫السيادة العثامنية خالل هذه الفرتة‪ ،‬وكان هناك يف تلك املنطقة جزء نسبي من‬
‫التفكري بشأن العالقات الدولية‪ .‬فالنزعة الوحدوية العربية ‪ Pan-Arabism‬مل تظهر‬
‫حتى الحرب العاملية األوىل‪ ،‬ولكن كان هناك بعض من التفكري يف العالقات الدولية‬
‫كحقل معريف ضمن السياق اإلسالمي‪ .‬ففكرة الخالفة اإلسالمية املوحدة ُت َعد فكرة‬
‫قدمية (‪ .)Hashmi, 2009: 172–3‬ويوفر التمييز يف املصادر الرشعية اإلسالمية‬
‫أساسا للتفكري يف العالقات‬
‫الكالسيكية (وليس القرآن) بني دار اإلسالم ودار الحرب ً‬
‫الدولية وإن مل يكن ذلك داخل دار اإلسالم‪ ،‬ألنه من املفرتض أن تكون هناك دولة‬
‫إسالمية واحدة فقط (‪ .)Tadjbakhsh, 2010: 176–84‬لقد ظهرت فكرة الوحدة‬
‫مناهض لالستعامر عىل وجه التحديد‪ ،‬وحصل ذلك داخل‬ ‫ٍ‬ ‫اإلسالمية يف سياقٍ‬
‫اإلمرباطورية العثامنية خالل أواخر القرن التاسع عرش كطريقة ملواجهة التعديات‬
‫األوروبية عىل العامل اإلسالمي‪ .‬وقد دعا السلطان العثامين عبد الحميد الثاين ألجل‬
‫شكل من أشكال الوحدة اإلسالمية يف ظل اإلمرباطورية العثامنية لتقوية املقاومة‬
‫ضد الغرب‪ ،‬غري أن هذه الفكرة مل تصل إىل أي مكان‪.‬‬
‫‪108‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫استلهم عديد من املثقفني يف العامل االستعامري األفكار الغربية؛ مبا يف ذلك‬


‫الليربالية‪ ،‬كوسيلة إلصالح مجتمعاتهم ومحاربة االستعامر و‪/‬أو اإلذالل‪ .‬بيد أنهم مل‬
‫يجدوا دامئًا األفكار واألساليب الغربية جذابة أو قابلة للتطبيق يف سياقاتهم املحلية‪.‬‬
‫وقد أدت جهودهم إىل التوفيق بني الحداثة الغربية والقيم والهوية األصلية يف‬
‫بعض األحيان إىل الفشل من حيث النتائج السياسية‪ ،‬لكنها تركت تأث ًريا عمي ًقا عىل‬
‫الحركات القومية يف العامل االستعامري‪ .‬وبرصف النظر عن تشيتشاو الصيني الذي‬
‫سبق ذكره يف هذا الفصل‪ ،‬فإن املثال البارز عىل ذلك هو جامل الدين األفغاين‬
‫(‪ ،)1897-1838‬وهو صحايف وناشط سيايس فاريس املولد دعا إىل إسالم حدايث‬
‫كوسيلة ملحاربة الهيمنة الغربية (‪َ .)Kedourie, 2018‬د َرس جامل الدين األفغاين‬
‫وسافر إىل آسيا (الهند ومرص وتركيا)‪ ،‬وكذلك إىل أوروبا (لندن وباريس) يف أثناء‬
‫تطوير ونرش األفكار السياسية اإلسالمية التي من شأنها أن ُتلهم األجيال الالحقة من‬
‫القوميني اإلسالميني يف جنوب آسيا (مبا يف ذلك مؤسس باكستان محمد عيل جناح)‬
‫ومرص وتركيا (‪.)Mishra, 2012: 46–123‬‬
‫وإذا كان ُينظر إىل األفغاين عىل أنه مؤسس القومية اإلسالمية الحديثة‪ ،‬فإن‬
‫ريزال املذكور أعاله؛ وهو طبيب عيون وكاتب وزعيم سيايس تلقى تعليمه يف‬
‫أوروبا‪ ،‬ميكن اعتباره أول قومي علامين أو «قومي بدايئ» يف آسيا (‪.)Chong, 2017‬‬
‫فبينام حاول األفغاين التوفيق بني الحضارة التقليدية (اإلسالمية) والحداثة الغربية‪،‬‬
‫جسد ريزال التوترات القامئة بني القوميات الثورية واإلدماجية يف دول األَ ْط َراف‪.‬‬ ‫َّ‬
‫مثة جدل قائم بشأن ما إذا كان ريزال إدماجيا (إصالحيا) أم ثوريا أم كليهام‪ .‬حيث‬
‫تحتوي روايتاه «ال تلمسني» ‪ Touch Me Not‬و«عهد الجشع» ‪The Reign of‬‬
‫‪ Greed‬عىل مؤامرات ثورية مسلحة‪ ،‬ولكن يف كلتا الحالتني فشلت تلك الجهود‪.‬‬
‫ويرى البعض أنه يرفض الثورة املسلحة ملصلحة اإلصالح الليربايل الذي من شأنه أن‬
‫مينح الشعب الفلبيني حكومة جمهورية‪ ،‬واملساواة والحقوق؛ مبا يف ذلك املشاركة‬
‫والتمثيل السياسيني‪ ،‬وحرية الصحافة والتعبري‪ .‬وإذ تعذر ذلك‪ ،‬فإنه عارض الحكم‬
‫اإلسباين الذي اعتربه «حكام ال يهتم بالناس‪ ،‬وأنه أصبح حالة شاذة يف وسط الناس‬
‫الصالحني‪ ،‬متا ًما مثله مثل األشخاص ذوي األفكار الرشيرة‪ ،‬ال ميكنهم البقاء يف ظل‬
‫حكم صالح» (‪ .)Funtecha, 2008‬ما ال لبس فيه هو أن ريزال كان من بني قلة من‬
‫‪109‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الفلبينيني الذين مل يقبلوا بالفلبني القابعة تحت االستعامر اإلسباين كرشط طبيعي‪،‬‬
‫وكان لديهم الشجاعة للوقوف ضده‪.‬‬
‫أما فيام يتعلق بأفريقيا جنوب الصحراء‪ ،‬فقد كانت هي األخرى غري غربية‬
‫أيضا‪ ،‬وكانت تقبع بقوة يف قبضة االستعامر‪ .‬وباملقارنة مع الصني والهند‪ ،‬كانت‬ ‫ً‬
‫هذه املنطقة تفتقر عىل نحو واسع إىل مؤسسات وتقاليد التعليم العايل الرسمي‬
‫بخالف تلك البنى التي وفرتها القوى االستعامرية‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬عُ قد املؤمتر‬
‫األفريقي األول يف لندن يف العام ‪ ،1900‬وحظي حينها باهتامم دويل كبري‪ .‬خالل‬
‫تلك املرحلة‪ ،‬استفادت النزعة الوحدوية األفريقية ‪ Pan-Africanism‬عىل‬
‫نحو كبري من صالتها بحركة من أجل تحرير السود يف الواليات املتحدة‪ ،‬وتأثري‬
‫القادة األمريكيني السود مثل وليام إدوارد دو بويز ‪ .W. E. B. Du Bois‬ومل‬
‫تقترص مؤمترات الوحدة األفريقية عىل مناهضة االستعامر أو التمييز العنرصي‬
‫فقط‪ ،‬بل تبنت اهتاممات وقضايا أكرب يف العالقات الدولية‪ .‬ففي خطابه يف‬
‫مؤمتر العام ‪ ،1900‬أعلن وليام إدوارد دو بويز‪:‬‬
‫«ال تدع العامل يأخذ خطوة إىل الوراء عىل درب ذلك التقدم البطيء ولكن‬
‫الواثق‪ ،‬ذلك التقدم الذي رفض عىل التوايل السامح لروح الطبقة؛ روح الطبقة‬
‫االجتامعية أو روح االمتياز أو الوالدة‪ ،‬بالحرمان من الحياة والحرية والسعي‬
‫وراء السعادة؛ روح البرشية املناضلة‪ .‬فال يجب أن يكون اللون أو العرق‬
‫سمة من سامت التمييز بني الرجال البيض والسود بغض النظر عن القيمة أو‬
‫القدرة»(٭)‪.‬‬
‫إن هذا مؤرش واضح إىل أن املؤمتر تبنى قضية أوسع من مجرد حقوق السود‬
‫أو العرق‪ ،‬وقدم تلميحات ألفكار املساواة والحرية عىل املستوى الدويل‪ .‬ومن املثري‬
‫لالهتامم أن املؤمتر األفريقي األول يف العام ‪ 1900‬قد حرضه ناوروجي‪ ،‬مبتكر‬
‫«نظرية االستنزاف» لإلمربيالية الربيطانية‪.‬‬

‫‪) To the Nations of the World, www.blackpast.org/1900-w-e-b-du-bois-nations-world (Accessed‬٭(‬


‫‪27 May 2018).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫‪ - 3‬أسطورة العام ‪ 1919‬لتأسيس حقل العالقات الدولية‬


‫بالنظر إىل النطاق املثري لإلعجاب إىل حد ما وعمق تفكري حقل العالقات‬
‫الدولية قبل الحرب العاملية األوىل‪ ،‬والعالمات الواضحة املتعلقة ليس بإضفاء‬
‫الطابع املؤسيس عىل هذا الحقل يف دول املَ ْر َكز فقط‪ ،‬ولكن املتعلقة ً‬
‫أيضا بتطوراته‬
‫املهمة يف دول األَ ْط َراف‪ ،‬كيف ميكننا تفسري الفهم الواسع النطاق القائل إن حقل‬
‫العالقات الدولية مل يخرج إىل حيز الوجود إال يف العام ‪1919‬؟ كمثل كل أمة أو‬
‫سسة» الخاصة بها‪ ،‬والتي‬‫تخصص معريف‪ ،‬متتلك العالقات الدولية «أساطريها ا ُمل َؤ َ‬
‫ميكن فهمها عىل أنها «جزء من الخيال‪ /‬جزء من الحقائق» )‪.(Booth, 1996: 328‬‬
‫بالجدَل‪ .‬إذ يوجد‬
‫ومثل معظم األساطري‪ ،‬فإن أصول حقل العالقات الدولية محاطة َ‬
‫اآلن نقد قوي «ألسطورة» حقل العالقات الدولية لعام ‪ .1919‬حيث يفتتح شميدت‬
‫الحجة الواردة أعاله‪،‬‬
‫(‪ )1998a : 149‬القضية بحجة تجريبية تشبه إىل حد كبري ُ‬
‫حاججا بأنه كانت مثة أفكار بشأن حقل العالقات الدولية قبل العام ‪:1919‬‬‫ُم ً‬
‫«عىل عكس ما هو متعارف عليه‪ ،‬فإن مجال العالقات الدولية ال يدين بأصله‬
‫أو نشأته إىل اندالع الحرب العاملية األوىل‪ .‬إن الفكرة القائلة إن هذا الحقل املعريف‬
‫مل يظهر إىل الوجود إال بعد الحرب هي إحدى األساطري السائدة التي ُتزَود معظم‬
‫الروايات املتعارف عليها بتاريخ هذا الحقل‪...‬عىل مدى السنوات العرشين املاضية‪،‬‬
‫ناقش العلامء مزايا إنشاء نوع من الهيكل التنظيمي الذي ميكن أن يخفف من‬
‫الفوىض الدولية»‪.‬‬
‫أيضا حالة تجريبية مفصلة‪ ،‬ورفض كل من كارفالهو‬ ‫لقد قدم كنوتسن (‪ً )2016‬‬
‫ولريا (‪ )2011‬وجون هوبسون )‪ (2012: locs. 356–94‬بشدة قصة تأسيس يف العام‬
‫‪ ،1919‬وركزوا بحق عىل اإلهامل أو حتى اإلِغفال الكامل الذي طال الجذور الحديثة‬
‫والعميقة والجوهرية لحقل العالقات الدولية‪ .‬تتميز حجج كارفالهو ولريا وهوبسون‬
‫بالخط السيايس األكرث مالءمة إلِغفال روابط حقل العالقات الدولية باإلمربيالية‬
‫واإلدارة االستعامرية والعنرصية (التي متكن إضافتها إىل الجغرافيا السياسية) كجزء‬
‫من جاذبية أسطورة العام ‪ .1919‬لقد أثر هذا اإلغفال بالتأكيد يف الطريقة التي‬
‫تطورت بها العالقات الدولية السائدة‪ ،‬عىل الرغم من أن معظم هذا ا ِإلغفال حصل‬
‫بعد العام ‪ 1945‬مثلام سيتضح ذلك يف الفصلني الرابع والسادس‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬مثة سببان جوهريان يفرسان استمرار أسطورة العام ‪1919‬؛‬
‫سيِس‪ ،‬وصدمة الحرب العاملية األوىل‪ .‬من الواضح‬ ‫يتمثالن يف‪ :‬إضفاء الطابع ا ُمل َؤ ِ‬
‫تخصصا‬
‫ً‬ ‫أن حقل العالقات الدولية كان يف طريقه إىل أن يصبح ُم َ ْأَم َس ًسا باعتباره‬
‫حقاًل للدراسة قبل العام ‪ .1914‬لكن هذا مل يحدث إال يف العام ‪.1919‬‬ ‫أكادمي ًيا أو ً‬
‫وبعد ذلك‪ ،‬وعندما انطلق سباق املَ ْأ َس َسة هذا بالفعل‪ ،‬تكررت هذه الظاهرة مرة‬
‫أخرى بعد الحرب العاملية الثانية‪ .‬لقد متثلث األحداث األكرث تكرا ًرا يف‪ :‬تأسيس‬
‫قسم السياسة الدولية وكريس وودرو ويلسون ‪ Woodrow Wilson‬يف السياسة‬
‫الدولية يف جامعة أبرييستويث ‪ Aberystwyth‬يف العام ‪ ،1919‬وإنشاء اثنني من‬
‫مراكز التفكري يف حقل العالقات الدولية؛ املعهد املليك للشؤون الدولية يف لندن‬
‫‪ Royal Institute of International Affairs in London‬يف العام ‪ 1920‬ومجلته‬
‫لـ «الشؤون الدولية» ‪ International Affairs‬يف العام ‪1922‬؛ ومجلس العالقات‬
‫الخارجية ‪ Council on Foreign Relations‬يف نيويورك يف العام ‪ .1921‬وقد‬
‫ُأنشئ مزيد من كرايس وأقسام ومعاهد حقل العالقات الدولية طوال سنوات ما بني‬
‫الحربني‪ ،‬وسنوضح ذلك يف الفصل الرابع‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬كانت موجة املَ ْأ َس َسة هذه مدفوعة إىل حد كبري بصدمة‬
‫الحرب العاملية األوىل‪ ،‬ومن دون تأثري تلك الحرب كان من شبه املؤكد أنها مل تكن‬
‫لِت َْحدُ َث بهذه الرسعة أو بالطريقة نفسها‪ .‬واليزال من املمكن رؤية عمق تأثري‬
‫رف بها قسم السياسة الدولية يف جامعة‬ ‫الحرب العاملية األوىل بالطريقة التي ُي َع ُ‬
‫أبرييستويث نفسه اليوم‪:‬‬
‫«لقد تأسس القسم يف العام ‪ 1919‬كرد فعل عىل أهوال الحرب العاملية األوىل‬
‫التي فقد فيها ماليني األشخاص حول العامل حياتهم‪ .‬وقد مثل مرشوعًا معيار ًيا بهدف‬
‫فهم ديناميات السياسة العاملية من أجل تجاوز الحرب يف نهاية املطاف»(٭)‪.‬‬
‫مل تكن الحرب العاملية األوىل هي الحرب األوىل التي تم خوضها عىل نطاق‬
‫عاملي‪ :‬فقد حققت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية ذلك‪ .‬والواقع‪ ،‬كانت‬
‫شامل شمل مجموعة كاملة من القوى الصناعية‬ ‫ٍ‬ ‫الحرب العاملية األوىل أول رص ٍاع‬
‫‪) www.aber.ac.uk/en/interpol/about/ (Accessed 28 May 2017).‬٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫حقل العالقات الدولية حتى العام ‪ :1919‬إرساء األسس‬

‫الكربى‪ .‬وقد تم خوض تلك الحرب بأسلحة عىل عكس تلك املستخدمة يف الحروب‬
‫السابقة‪ ،‬حيث كانت أسلحة باهظة الثمن ومدمرة وصعبة املواجهة عىل نحو كبري‬
‫أكرث مام كان متوق ًعا‪ .‬إن تلك الدول التي دخلت يف الحرب العاملية األوىل بدرجة من‬
‫الحامس الدارويني االجتامعي إلثبات أنها الدولة املتفوقة كام فعل البعض‪ ،‬خرجت‬
‫منها يف األغلب‪ ،‬إذا نجت بالفعل‪ ،‬برعب شديد من أي تكرا ٍر للحرب‪ .‬وكام وصفنا‬
‫ذلك يف الفصل األول‪ ،‬بدت الحرب وكأنها تهدد وجود الحضارة األوروبية‪ ،‬وتركت‬
‫الشعور بالخوف الشديد من الحرب (ما نسميه باملعضلة الدفاعية) واسع االنتشار‪.‬‬
‫وأثارت التساؤل بشأن الديبلوماسية‪ ،‬وأيضا بشأن الحكمة من السامح بتطوي ٍر ال‬
‫نهاية له عىل مستوى التسلح بغرض السيطرة عىل العالقات بني القوى الكربى‪.‬‬
‫لقد كان تأثري هذه االعتبارات الطاغية هو الذي شكل حقل العالقات الدولية‬
‫الناشئ كام يظهر من تعريف قسم السياسة الدولية لنفسه يف جامعة أبرييستويث‪.‬‬
‫ومثلام حاجج جيمس جول (‪ ،)1982‬فقد دمرت الحرب العاملية األوىل جميع‬
‫خيوط التفكري الثالثة للقرن التاسع عرش بشأن كيفية ترويض الحرب‪ :‬ثقة‬
‫املحافظني مبيزان القوى؛ إميان الليرباليني باآلثار الوسيطة للتجارة الحرة والدساتري؛‬
‫وإميان االشرتاكيني بأن التضامن الطبقي سوف يتفوق عىل القومية‪ .‬وحتى آمال‬
‫أولئك الذين اعتقدوا‪ ،‬مثل بلوخ‪ ،‬أن الخوف من استخدام أسلحة جديدة مدمرة‬
‫من شأنه أن يردع الحرب مل تتحقق (‪ .)Pearton, 1982: 137–9‬وكام يحاجج‬
‫بوزان ولوسون (‪:)2015a: 62– 3‬‬
‫«انطالقا من عرشينيات القرن املايض فصاعدًا‪ ،‬كان حقل العالقات الدولية‬
‫يركز عىل نحو شبه مستحوذ عىل الحارض واملستقبل القريب اللذين ُحددا إىل حد‬
‫النشوء أطلق حقل العالقات الدولية‬ ‫كبري من منظور عالقات القوى الكربى‪ .‬هذا ُ‬
‫ً‬
‫حارضا كانت اهتامماته األساسية تتمثل يف النظام‪ /‬الالنظام‬ ‫باعتباره تخصصا معرف ًيا‬
‫املتعلق بالقوى الكربى وكيفية فهم الظروف التي قد تؤدي إىل نشوب الحرب أو‬
‫تعزيز السلم‪ .‬لقد عزز انكشاف القرن العرشين بانقساماته األيديولوجية العميقة‬
‫والتحسينات املستمرة يف قوى التدمري مركزية هذين االهتاممني التوأمني‪ .‬ويف‬
‫ظل هذه الظروف‪ ،‬كان من السهل إغفال العامل ملا قبل العام ‪ 1914‬بخالف كونه‬
‫فقط مادة للمناقشات بشأن أسباب الحرب واحتامالت تخفيفها‪ ...‬ويف عامل القرن‬
‫‪113‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫العرشين‪ ،‬كان األمر األكرث أهمية هو كيفية احتواء اندالع الحرب بني القوى الكربى‬
‫املستقطبة أيديولوج ًيا»‪.‬‬

‫خالصات‬
‫عىل الرغم من كل أفكار حقل العالقات الدولية التي جاءت من َقبل‪ ،‬فإن‬
‫فبداًل من النظر إىل «من‬‫الحرب العاملية األوىل وضعت حدا لها عىل نحو أو بآخر‪ً .‬‬
‫أين أَ َتت‪ ،‬ركز حقل العالقات الدولية نظرته بثبات نحو املستقبل‪ ،‬وعىل املشكلة‬
‫النبيلة لكيفية منع الحرب وإحقاق السالم‪ .‬لقد أصبحت الحاجة إىل إدارة الفوىض‬
‫الدولية لعالقات القوى الكربى وسباق التسلح واالقتصاد العاملي من أجل منع حرب‬
‫إلحاحا‬
‫ً‬ ‫أخرى هي األولوية املهيمنة للنظام «الجديد»‪ .‬وما أصبح ينتظرنا بدا أكرث‬
‫بكثري من القضايا االستعامرية التي ُتركت عىل الجانب‪ .‬إن توازن القرن التاسع عرش‬
‫يف حقل العالقات الدولية بني إدارة دول املَ ْر َكز من ناحية‪ ،‬وإدارة العالقات األساسية‬
‫لدول األَ ْط َراف من ناحية أخرى‪ ،‬أفسح املجال إىل حد كبري أمام املخاوف بشأن‬
‫إدارة العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز‪ .‬كان سالم القوى الكربى الطويل يف َم ْر َكز القرن‬
‫التاسع عرش هو الذي أطاحت به الحرب‪ ،‬وكان ذلك يحتاج إىل اهتامم عاجل‪ .‬فقد‬
‫أدت الحرب العاملية األوىل إىل اضطراب العالقات االستعامرية‪ ،‬ولكن ليس بالطرق‬
‫التي كانت تتطلب اهتام ًما فور ًيا‪ .‬وقد بدا النظام االستعامري قو ًيا يف العام ‪1919‬‬
‫كام كان يف العام ‪ ،1914‬ومن ثم صار من املمكن الدفع به نحو الخلف وإبقاؤه‬
‫منفصاًل إىل حد كبري عن دراسة العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز‪.‬‬
‫ً‬

‫‪114‬‬
‫احلديثة‬

‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫‪3‬‬

‫العامل ‪:1945-1919‬‬
‫الصيغة األوىل للمجتمع‬
‫الدويل العاملي‬

‫مقدمة‬
‫رمبا ميكن النظر إىل الحرب العاملية األوىل‬
‫باعتبارها الجولة األوىل من أزمة نسقية للحداثة‬
‫عىل نطاق عاملي‪ .‬ومثلام سنبني يف فصول‬
‫الحقة‪ ،‬احتلت الجوالت الالحقة من هذه األزمة‬
‫(الحرب العاملية الثانية‪ ،‬والحرب الباردة وإنهاء‬
‫االستعامر‪ ،‬و«صعود ال َب ِقية») معظم فرتة القرن‬
‫العرشين‪ .‬وكام ورد يف الفصل األول‪ ،‬كانت‬
‫أسباب الحرب العاملية األوىل متأصلة عىل نحو‬
‫عام يف زعزعة استقرار عالقات القوى الكربى‬
‫التي سببتها الحداثة‪ ،‬وخاصة يف زعزعة استقرار‬ ‫«رمبا بدت الفاشية‪ ،‬التي ظهرت خالل‬
‫عرشينيات القرن املايض‪ ،‬كأنها أيديولوجية‬
‫العالقات العسكرية الناجمة عن كل من النزعة‬ ‫جديدة لكنها مل تكن كذلك‪ ،‬إذ كانت‬
‫القومية وديناميات سباق التسلح الصناعي‪ .‬ومل‬ ‫مجرد اندماج بني العنرصية «العلمية»‬
‫والقومية ضمن صيغة متطرفة خاصة من‬
‫تكن الحرب ناتجة عىل نحو كبري عن رصاعات‬ ‫الداروينية االجتامعية»‬

‫‪115‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أيديولوجية حول أشكال الحكم‪ ،‬أو أزمة اقتصادية ناجمة عن الحداثة‪ ،‬عىل الرغم‬
‫كاًل من سنوات ما‬‫من أن كلتيهام كانت لهام عواقب وخيمة‪ .‬يغطي هذا الفصل ً‬
‫بني الحربني التي ش َّكلت محاولة فاشلة الستعادة وتحسني املجتمع الدويل الخاص‬
‫باملركز منذ ما قبل العام ‪ ،1914‬كام يغطي فرتة الحرب العاملية الثانية التي جاءت‬
‫نتيجة لذلك الفشل‪.‬‬
‫يلتقط القسم التايل املوضوعات الرئيسة من الفصل األول‪ ،‬ويتطرق إىل مسألة‬
‫االستمرارية وعدم االستمرارية مع فرتة ما قبل العام ‪ .1914‬نحن نحاجج بأن الحرب‬
‫العاملية األوىل كانت مجرد أزمة جزئية للحداثة‪ ،‬وأن عواقبها مل تغري عىل نحو أسايس‬
‫بنية الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي عىل الرغم من أنه كانت لها عواقب‬
‫وخيمة يف بعض النواحي‪ .‬تبحث األقسام الالحقة يف املوضوعات الرئيسة للسياسة‬
‫الدولية يف فرتة ما بني الحربني العامليتني والحرب العاملية الثانية‪ ،‬وتجد أن األخرية‬
‫شكلت أزمة عاملية أكرب بكثري من األوىل‪ .‬ونحن نتبنى الحجة القائلة بأن الحربني‬
‫العامليتني األوىل والثانية والحرب الباردة؛ باإلضافة إىل مرحلة إنهاء االستعامر‪ ،‬مل‬
‫تكن أحدا ًثا منفصلة ً‬
‫فعاًل‪ ،‬ولكنها م َّثلت مراحل يف أزمة أكرث شمو ًاًل تكشفت من‬
‫عواقب التحول الشامل الذي شهدته العالقات الدولية والذي و َّلدته ثورات الحداثة‬
‫يف القرن التاسع عرش (‪.)Buzan and Lawson, 2015b‬‬

‫‪ - 1‬االستمرارية وعدم االستمرارية من عامل ما قبل ‪1945‬‬


‫يلتقط هذا القسم املناقشات الرئيسة من الفصل األول وينظر يف كيفية ُم ِيِض‬
‫تلك املناقشات ُقد ًما من عدمه خالل هذه الفرتة‪ :‬اآلثار املادية والفكرية للحداثة؛‬
‫الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي االستعامري الغريب؛ والقصة الفريدة لليابان‪،‬‬
‫تلك الدولة املتأرجحة بني الغرب والبقية من دون أن تكون جز ًءا من أي منهام‪.‬‬
‫فيام يتعلق بالتأثريات املادية‪ ،‬استمرت ثورات الحداثة من دون هوادة يف تقديم‬
‫وترية من التغيري التكنولوجي عىل الصعيد املدين والصعيد العسكري‪ ،‬وغال ًبا عىل‬
‫الصعيدين م ًعا‪ .‬فالتقنيات الحالية للبواخر والسكك الحديد والتلغراف التي ق َّلصت‬
‫مسافة العامل ألول مرة خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬استمرت يف التحسن عىل مستوى‬
‫الرسعة واملوثوقية والفعالية‪ ،‬وأيضا من حيث التكلفة وتغطية جميع أرجاء العامل‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫ومع زيادة القدرة عىل التفاعل‪ ،‬استمر العامل يف التقارب برسعة‪ .‬إذ ميكن للمرء‬
‫اآلن الطريان إىل عديد من الوجهات‪ ،‬أو استخدام القصف من الطائرات كوسيلة‬
‫رخيصة للسيطرة عىل رجال القبائل املتمردين يف املواقع االستعامرية البعيدة‪ .‬لقد‬
‫أيضا وسيلة جامهريية‬ ‫جعلت اإلذاعة االتصاالت العاملية فورية إىل حد ما‪ ،‬وفتحت ً‬
‫جديدة وقوية‪ .‬كام أصبحت محركات االحرتاق الداخيل والكهرباء واملواد الكيميائية‬
‫تتصدر طليعة الصناعة‪ .‬باإلضافة إىل اإلنجازات املبكرة يف سعة التفاعل‪ُ ،‬أضيف‬
‫اإلنتاج الضخم واالستخدام الواسع النطاق للسيارات والطائرات وأجهزة الراديو‪ .‬أما‬
‫يف القطاع العسكري‪ ،‬فقد ُطبق املزيج نفسه من التحسينات واالبتكارات‪ ،‬حيث‬
‫ُح ِّسنت أشياء مثل الغواصات وحامالت الطائرات والغازات السامة والدبابات‬
‫دخلت ابتكارات جديدة مثل‬ ‫واملقاتالت والقاذفات والسونارات عىل نحو كبري‪ُ ،‬وأ ِ‬
‫الرادار‪ .‬فالثورة الدامئة يف الشؤون العسكرية التي انطلقت يف القرن التاسع عرش‬
‫ظلت مستمرة بال هوادة‪.‬‬
‫وعىل النقيض من ذلك‪ ،‬استمر املشهد الفكري ليكون تحت سيطرة‬
‫األيديولوجيات األربع نفسها للتقدم التي ظهرت خالل القرن التاسع عرش‪ .‬فقد‬
‫تطورت تلك األيديولوجيات مع الزمن‪ ،‬لكنها مل تحمل يف طياتها شيئا جديدًا‬
‫جوهر ًيا يذكر‪ .‬فلم تكن الحرب العاملية األوىل ناجم ًة عن املنافسات األيديولوجية‬
‫بشأن أشكال الحكم‪ ،‬عىل الرغم من أن القومية شكلت ً‬
‫عاماًل مهام يف نشوبها‬
‫وعجلت بزوال النزعة الساللية للحكم باعتبارها الشكل الرئيس للرشعية السياسية‪.‬‬
‫لكن الحرب مل تفعل الكثري ملعالجة أو حل التناقضات القامئة بني أيديولوجيات‬
‫التقدم‪ .‬أدت تلك األيديولوجيات إىل تآكل اإلمرباطورية خاصة داخل أوروبا‪ ،‬وإن‬
‫كان ذلك قد حصل يف الخارج عىل نحو أقل بكثري‪ .‬رمبا بدت الفاشية‪ ،‬التي ظهرت‬
‫خالل عرشينيات القرن املايض‪ ،‬كأنها أيديولوجية جديدة لكنها مل تكن كذلك‪ .‬إذ‬
‫كانت مجرد اندماج بني العنرصية «العلمية» والقومية ضمن صيغ ٍة متطرف ٍة خاص ٍة‬
‫من الداروينية االجتامعية‪.‬‬
‫وعىل رغم أن الحرب العاملية األوىل مل تفعل شيئًا يذكر لحل التناقضات‬
‫رئيسا‬ ‫األيديولوجية للحداثة‪ ،‬فإنها فعلت الكثري لرتكيزها عىل نحو أكرب وجعلها ً‬
‫عاماًل ً‬
‫يف العالقات بني القوى الكربى‪ ،‬وذلك من خالل ربطها بسلطة الدولة يف دول املركز‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫قبل العام ‪ 1914‬مل متارس أيديولوجيات التقدم دو ًرا كب ًريا يف تحديد العالقات بني‬
‫القوى الكربى‪ ،‬ويرجع ذلك جزئ ًيا إىل أن الساللة الحاكمة كانت التزال مؤثرة للغاية‪.‬‬
‫وبعد العام ‪ 1919‬أصبحت أيديولوجيات التقدم تشكل ً‬
‫عاماًل مركز ًيا يف عالقات‬
‫القوى الكربى‪ ،‬بل ميكن املحاججة بأنها شكلت العامل األسايس‪ .‬فقد كانت النزعة‬
‫القومية قوية يف كل مكان‪ ،‬وح َّلت محل الساللة الحاكمة باعتبارها األساس الرئيس‬
‫للدولة‪ .‬وكانت ألشكال الليربالية بالفعل سلطة دولة يف بريطانيا والواليات املتحدة‬
‫وفرنسا‪ ،‬وقد أدى هذا التقارب األيديولوجي دو ًرا ما خالل الحرب‪ .‬كانت الخطوة‬
‫األوىل لتحدي الليربالية وصعودها تتمثل يف الثورة البلشفية يف روسيا يف العام ‪.1917‬‬
‫إذ مل تؤ ِد هذه الخطوة إىل إخراج روسيا من الحرب العاملية األوىل فقط‪ ،‬بل جعلتها‬
‫أيضا ُم َم ِّثلة لفكرة عاملية بديلة من االقتصاد السيايس للحداثة‪ .‬لقد أقام االتحاد‬ ‫ً‬
‫السوفييتي دولة‪ /‬مجتم ًعا شمول ًيا واقتصادًا موج ًها ضد الرأساملية الفردية والليربالية‬
‫الدميوقراطية الخاصة بالغرب‪ .‬ورسعان ما تح َّولت هذه الثنائية األيديولوجية إىل‬
‫ثالوث مع استيالء الفاشيني عىل إيطاليا خالل عرشينيات القرن املايض‪ ،‬وعىل أملانيا‬
‫وإسبانيا واليابان خالل الثالثينيات من القرن نفسه(٭)‪ .‬كام قدمت الفاشية فكرة‬
‫بديلة عن االقتصاد السيايس للحداثة‪ ،‬ولكنها كانت فكرة ض ِّيقة األفق وليست‬
‫عاملية‪ ،‬حيث كانت تجمع بني الدولة‪ /‬املجتمع الشمويل ورأساملية الدولة‪ ،‬مع‬
‫إضافة جرعة كبرية من الداروينية االجتامعية العنرصية‪ .‬وهكذا‪ ،‬باإلضافة إىل الشد‬
‫والجذب الطبيعي عىل مستوى ميزان القوى‪ ،‬ظلت عالقات القوى الكربى خالل‬
‫سنوات ما بني الحربني مدفوعة باملنافسة األيديولوجية القامئة بني نزعتني كونيتني‬
‫متناقضتني‪ ،‬وباملنافسة األيديولوجية القامئة بني كل واحدة من تلك األيديولوجيات‪،‬‬
‫وأيضا مبجموعة من القوميني املتطرفني ضيقي األفق‪.‬‬ ‫ً‬
‫وبطريقة أبطأ وأكرث دقة‪ ،‬بدأت أيديولوجيات التقدم هذه يف الرتشيح والتآكل‬
‫داخل ِبن َية املركز ‪ -‬األطراف الخاصة باملجتمع الدويل العاملي االستعامري‪ .‬لقد‬
‫شككت األفكار القومية بشأن السيادة الشعبية التي ُد ِفع بها من طرف الرئيس‬
‫(٭) لقد كانت اليابان حكومة عسكرية باإلضافة إىل إمرباطور ‪ -‬إله أكرث من كونها فاشية عىل النمط الغريب ‪(Sims,‬‬
‫)‪ .2001: 179–85; Totman, 2005: chs. 15–16‬لكنها كانت تتناسب مع الصيغة الفاشية‪ ،‬وارتبطت بأملانيا وإيطاليا‬
‫يف تحالف املحور يف العام ‪[ .1940‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫ويلسون يف رشعية الحكم االستعامري‪ .‬وكذلك فعل الليرباليون فيام يتعلق بحقوق‬
‫اإلنسان الفردية وتقرير املصري للشعوب وحرية األسواق‪ .‬وصار من املمكن استخدام‬
‫األفكار العنرصية لبناء تسلسل هرمي يزيح فيه اليابانيون والصينيون واألفارقة‬
‫يض عن القمة‪ .‬فقد قدمت األفكار االشرتاكية أدوات ثورية ليس فقط‬ ‫وغريهم ال ِب َ‬
‫أيضا لإلطاحة بالحكومات اإلمربيالية‪ .‬وهكذا‪ ،‬كان مثة ‪-‬‬ ‫ملحاربة الرأساملية‪ ،‬ولكن ً‬
‫خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني ‪ -‬تجمع معني من الزخم يف الحركات املناهضة‬
‫لالستعامر يف دول األطراف‪.‬‬
‫كانت أمريكا الالتينية (باستثناء منطقة البحر الكاريبي) بالفعل مستقلة رسم ًيا‪،‬‬
‫ولكنها خالل القرن العرشين شهدت إحيا ًء لنزعة مناهضة االستعامر‪ .‬وتوق ًعا للتطور‬
‫الواسع إلنهاء االستعامر بعد العام ‪ُ ،1945‬أعيدت صياغة نزعة مناهضة االستعامر‬
‫تلك لتكون نزعة تسعى إىل إنهاء التبعية االقتصادية والسياسية أكرث من كونها‬
‫مطل ًبا لالستقالل الرسمي‪ .‬ففي بريو تأثر القومي البريويف خوسيه كارلوس مارياتغي‬
‫‪ José Carlos Mariátegui‬بكل من املهامتا غاندي وماو تيس تونغ باإلضافة إىل‬
‫ليون تروتسيك وفالدميري لينني وأنطونيو غراميش والثوار األيرلنديني‪ .‬ورمبا كانت‬
‫الحركة املناهضة لالستعامر يف الهند هي األكرث اتساعًا وتأث ًريا عرب الحدود بني هذه‬
‫الحركات خالل تلك الفرتة‪ ،‬لكنها مل تكن حركة فردية‪ .‬قاد غاندي‪ ،‬الذي عاد إىل‬
‫الهند يف العام ‪ 1915‬بعد أن قاد حملته «الالعنف» (ساتياغراها ‪،Satyagraha‬‬
‫أو «حب الحقيقة») ضد العنرصية البيضاء يف جنوب أفريقيا‪ ،‬إذ كان مذهبه يف‬
‫الالعنف مصدر إلهام لنيلسون مانديال ومارتن لوثر كينج‪ .‬ولكن عىل الرغم من‬
‫التأثري املهيمن لغاندي‪ ،‬فإن الفكر واملقاربة الهنديني ملناهضة االستعامر مل يكونا‬
‫ينتميان إىل نوع واحد‪ .‬إذ كانت املقاربات األخرى ثورية وبارزة عىل نحو خاص يف‬
‫منطقة البنجاب (مع الثوري بهجت سينغ) والبنغال (واملفكر أوروبيندو غوش)‪،‬‬
‫(أطلق عليه الربيطانيون لقب «إرهايب»)؛ والقومية الهندوسية (التي دافعت عنها‬
‫حركة هندوتفا بزعامة يف دي سافاركار(٭)‪ ،‬وهي الحركة الناشئة يف عرشينيات القرن‬
‫(٭) هندوتفا ‪ hindutva‬هو الشكل السائد للقومية الهندوسية يف الهند‪ .‬حظي املصطلح بشعبية منذ إطالقه من قبل‬
‫مؤسسه فيناياك دامودار سافاركار يف العام ‪ .1923‬وقد تبناها حزب بهاراتيا جناتا كأيديولوجية رسمية له يف العام ‪.1989‬‬
‫تزعم هندوتفا أن «الهندوس» يجب أن يهيمنوا عىل الهند‪ ،‬وأن عىل الدولة أن تكون ذات هوية «هندوسية»‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫املايض)‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬ويف تح ٍد لنهرو‪ ،‬دعا سوبهاس شاندرا بوس إىل التعاون‬
‫مع القوى الفاشية لترسيع استقالل الهند‪ .‬وهكذا‪ ،‬بدأ البعض عىل األقل يف دول‬
‫األطراف يف توقع اقتطاع دور يف توازن القوى داخل دول املركز‪.‬‬
‫ويف أفريقيا‪ ،‬تراوحت املقاومة ضد االستعامر بني مقاطعة التجارة الخاصة‬
‫باملنتجات االستعامرية‪ ،‬والكفاح املسلح الرصيح‪ .‬ففي أفريقيا الناطقة باإلنجليزية‬
‫‪ -‬غانا ونيجرييا وكينيا وأوغندا وتنزانيا وجنوب أفريقيا ‪ -‬تشكلت الحركات املناهضة‬
‫لالستعامر يف عرشينيات القرن املايض‪ ،‬عىل الرغم من أنها مل تصبح قوية إال بعد‬
‫الحرب العاملية الثانية‪ .‬وحصل هذا يف حني كان الوضع يف أفريقيا الناطقة بالفرنسية‬
‫مختل ًفا‪ .‬وعىل عكس الربيطانيني الذين اعتربوا مستعمراتهم حضارات منفصلة وأقل‬
‫مزيجا من الحكم املبارش وغري املبارش‪ ،‬عَد الفرنسيون مستعمراتهم جز ًءا‬‫شأ ًنا واتبعوا ً‬
‫من الحضارة الفرنسية‪ ،‬واتبعوا سياسة الدمج الرسمي يف األمة‪ُ .‬قسمت الحركات‬
‫املناهضة لالستعامر يف أفريقيا الناطقة بالفرنسية إىل أولئك الذين قبلوا بالهوية‬
‫الثقافية الفرنسية لكنهم طالبوا باملساواة الرسمية‪ ،‬وأولئك الذين رفضوا الدمج‬
‫ملصلحة االستقالل والهوية مع الثقافة والقيم األفريقية األصلية‪ .‬وكانت معظم تلك‬
‫الحركات توجد يف فرنسا نفسها وليس يف املستعمرات‪ ،‬وهو وضع مل يتغري إال بعد العام‬
‫‪ .Goebel, 2015 ; Elam, (2017) 1945‬وقد كان الحتالل قوات موسوليني إثيوبيا‬
‫يف العامني ‪ 1935‬و‪ 1936‬تأثري مضاعف يف تأجيج القومية األفريقية‪ .‬حيث أصبحت‬
‫هزمية إثيوبيا للغزو اإليطايل يف العام ‪ 1896‬رمزًا للمقاومة األفريقية لالستعامر‪.‬‬
‫خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬اتخذت القومية العربية طاب ًعا معاد ًيا‬
‫حساًم‪ ،‬وذلك عىل عكس «النهضة العربية» التي كانت سائدة‬ ‫للغرب عىل نحو أكرث ً‬
‫يف القرن املايض‪ ،‬والتي كانت موجه ًة سياس ًيا ضد الحكم العثامين ولكنها سعت‬
‫ثقاف ًيا إىل التعلم من الغرب (عىل األقل جزء منها بقيادة العرب املسيحيني)‪ .‬وكان‬
‫لهذا عالقة كبرية بإنشاء االنتداب الربيطاين والفرنيس يف ظل عصبة األمم بعد الحرب‬
‫العاملية األوىل‪ ،‬خاصة مع حصول بريطانيا عىل االنتداب عىل العراق وفلسطني‬
‫ورشق األردن‪ ،‬وفرنسا عىل لبنان وسورية‪ .‬لقد د َّمر هذا االنتداب أي آمال فورية‬
‫الستقالل العرب‪ ،‬وأدى وعد بلفور الربيطاين‪ ،‬الذي يتصور إنشاء وطن لليهود‪ ،‬إىل‬
‫مزيد من املعارضة لالستعامر الغريب‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬مل تولِّد هذه التطورات خالل هذه الفرتة ً‬
‫ضغطا كاف ًيا لالستقالل‬
‫من شأنه تهديد ِبنية الحكم اإلمرباطوري الغريب والياباين ملا وراء البحار‪ .‬لذلك‪ ،‬وفيام‬
‫يتعلق ببنية املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬استمرت سنوات ما بني الحربني إىل حد كبري‬
‫مع الصيغة األوىل للنظام االستعامري الغريب الذي ُأنشئ خالل القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫ُبذلت جهود كبرية لرتميم هذا النظام وتعزيزه ال سيام من خالل ترميم االقتصاد‬
‫العاملي ومتابعة سياسة الحد من التسلح وبناء هيكل دائم للمنظامت الحكومية‬
‫الدولية العاملية‪ .‬غري أن االنقسامات الحاصلة بني القوى الكربى؛ والتي كانت تقوم‬
‫جزئ ًيا عىل أسس أيديولوجية وجزئ ًيا بسبب االنتقام والقيادة الضعيفة‪ ،‬ق َّوضت هذا‬
‫املرشوع‪ .‬وسنتطرق ملزيد عن هذا املوضوع يف القسم التايل‪.‬‬
‫إن النقطة األساسية التي يجب توضيحها هنا هي أن الحرب العاملية األوىل‬
‫مل يكن لها تأثري كبري يف ِبنية املجتمع الدويل العاملي‪ .‬إذ كان تأثريها الرئيس‪ ،‬كام‬
‫لوحظ‪ ،‬يتمثل يف دفع االنقسامات األيديولوجية إىل صدارة عالقات القوى الكربى‪.‬‬
‫غرَّيت توزيع القوة من خالل تدمري اإلمرباطوريتني‬ ‫كام أن الحرب العاملية األوىل َّ‬
‫النمساوية املجرية والعثامنية‪ ،‬وخفض مرتبة أملانيا‪ ،‬وإضعاف بريطانيا وفرنسا‪،‬‬
‫وتقوية الواليات املتحدة واليابان‪ .‬ولكن بخالف ذلك‪ ،‬ظلت السامت الرئيسة‬
‫للصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي االستعامري الغريب عىل حالها‪ .‬فقد صارت‬
‫بنية املركز ‪ -‬األطراف ونظام االستعامر موضع تساؤل عىل نحو أكرث ً‬
‫قلياًل من قبل‪،‬‬
‫أيضا نظام العنرصية (عدم‬ ‫لكنهام ظال يشكالن بني ًة ونظا ًما رشعيني‪ .‬وكذلك فعل ً‬
‫املساواة البرشية) الذي دعم النزعة االستعامرية واحتضنته القوى الفاشية كعقيدة‬
‫لها ودعم لتطلعاتها اإلمربيالية‪ .‬إن التغيريات الحاصلة عىل مستوى توزيع القوة‬
‫كانت التزال تحافظ عىل ِبنية متعددة األقطاب عىل نحو عام‪ .‬وعىل رغم وجود‬
‫بعض التغيريات يف املواقع داخل إطار القطبية التعددية‪ ،‬فإن أوروبا ظلت املحور‬
‫املركزي لسياسات القوة‪ ،‬مع استمرار متوقع اليابان والواليات املتحدة عىل الحواف‪.‬‬
‫مل تكن مثة تغيريات جوهرية يف املبادئ التنظيمية للمجتمع الدويل العاملي‪،‬‬
‫فالسيادة ا ُملقسمة‪ ،‬واإلقليمية‪ ،‬والقومية‪ ،‬والديبلوماسية‪ ،‬وميزان القوى‪ ،‬والقانون‬
‫الدويل والحرب كلها مل تتغري إىل حد كبري‪ .‬وحتى نظام عصبة األمم كان أصل ًيا‬
‫فقط يف نطاق طموحاته‪ :‬فلم تكن فكرة املنظامت الحكومية الدولية الدامئة فكرة‬
‫‪121‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫جديدة‪ ،‬مام جعل عصبة األمم متثل امتدادًا للمامرسات الحالية ً‬


‫بداًل من كونها متثل‬
‫انطالقة جديدة (‪.)Reus- Smit, 1999:145–9‬‬
‫استمرت قصة اليابان خالل سنوات ما بني الحربني يف مسار سلس إىل حد ما‪،‬‬
‫وذلك منذ ما قبل العام ‪(1914‬٭)‪ .‬فقد خاضت اليابان حر ًبا سهلة ومربحة‪ .‬وبعد‬
‫ذلك‪ ،‬عملت عضوا عاديا يف نادي القوى الكربى‪ ،‬عىل الرغم من فشلها يف العام‬
‫‪ 1919‬يف الحصول عىل اعرتاف الغرب بأنها قوة متساوية من الناحية العرقية‪ .‬ونتج‬
‫عن ذلك اإلذالل ٌ‬
‫تحول معا ٍد للغرب يف السياسة اليابانية التي أرست أسس التنافس‬
‫الجيوسيايس مع بريطانيا والواليات املتحدة خالل سنوات ما بني الحربني ‪(Zarakol,‬‬
‫)‪ .2011: 166–73‬ومتاش ًيا مع التغيريات الحاصلة يف سياساتها الداخلية‪ ،‬ابتعدت‬
‫اليابان عن التوافق مع بريطانيا‪ ،‬واتجهت نحو مزيد من االعتامد عىل الذات‬
‫واالصطفاف النهايئ مع أملانيا وإيطاليا‪ .‬ويف مؤمتر واشنطن البحري يف العامني ‪1921‬‬
‫و‪ ،1922‬ظفرت اليابان باملرتبة الثالثة باعتبارها قوة بحرية متقدم ًة بذلك عىل‬
‫فرنسا وإيطاليا‪ .‬وواصلت بناء إمرباطوريتها يف شامل رشق آسيا بهدف بناء معقل‬
‫إقليمي لها قادر عىل مقاومة الغرب‪ .‬ولتحقيق هذه الغاية‪ ،‬استولت عىل منشوريا‬
‫يف العام ‪ 1931‬والتي كانت بالفعل دولة أمراء حرب شبه مستقلة‪ ،‬وأنشأت هناك‬
‫دولة استعامرية تنموية ناجحة (‪ .)Duara, 2003‬وقد أقدمت اليابان عىل غزو‬
‫الصني يف العام ‪ ،1937‬ولكن عىل الرغم من تحقيق عديد من االنتصارات العسكرية‬
‫فإنها مل تتمكن من هزمية الصينيني‪ ،‬لتتورط بذلك يف حرب طويلة ورشسة‪ .‬ويف الفرتة‬
‫التي سبقت الحرب العاملية الثانية‪ ،‬انسحبت اليابان‪ ،‬مثل عديد من القوى الكربى‬
‫األخرى‪ ،‬من عصبة األمم‪.‬‬
‫وف ًقا ملعايري اليوم‪ ،‬مل يكن سلوك اليابان مختل ًفا عىل نحو ملحوظ عن‬
‫أيضا تحالفات تقوم عىل أساس الفرص‬ ‫سلوك القوى الكربى األخرى التي أقامت ً‬
‫واأليديولوجيا‪ ،‬وسعت إىل بناء مجاالت إمرباطورية ذات اكتفاء ذايت‪ .‬وعىل رغم‬
‫ذلك كله‪ ،‬كانت اليابان إىل حد ما قوة استعامرية غري عادية بني الحربني؛ ذلك أنها‬
‫بذلت كثريا من الجهد لتحديث مستعمراتها‪ ،‬وفرضت عليها صيغة من إصالحاتها‬

‫(٭) تعتمد هذه املناقشة عىل نحو كبري عىل‪[ .Koyama and Buzan, 2018 :‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫الخاصة املرتبطة بحركة امليجي‪ .‬وكام يرى جان يانسن ويورغن أوسرتهاميل‬
‫)‪« :Jan Jansen and Jürgen Osterhammel (2017: 61‬كانت اليابان القوة‬
‫االستعامرية الوحيدة قبل العام ‪ 1945‬التي رأت فرصة يف تقوية املدينة الكربى‬
‫من خالل مخطط إضفاء الطابع الصناعي عىل أطراف اإلمرباطورية»‪ .‬ويتفق بروس‬
‫كامينغز ‪ Bruce Cumings‬مع هذا الطرح )‪« :(1984: 12–13‬قبل العام ‪1945‬‬
‫وطنت الصناعات الثقيلة‬ ‫كانت اليابان من بني القوى اإلمرباطورية القليلة جدًا التي َّ‬
‫الحديثة يف مستعمراتها‪ :‬الصلب؛ واملواد الكيميائية؛ ومنشآت الطاقة الكهرومائية‬
‫يف كوريا ومنشوريا؛ وإنتاج السيارات فرتة من الوقت الحقا‪ .‬وبحلول العام ‪1945‬‬
‫كان لدى كوريا بنية تحتية صناعية‪ ،‬وعىل رغم انحيازها الشديد نحو املصالح‬
‫الحرضية‪ ،‬فإنها كانت من بني األفضل تطو ًرا يف العامل الثالث»‪ .‬كام ُيظهر أتول‬
‫كوهيل )‪ (2004: 25–61‬بالتفصيل كيف أن الحكم االستعامري الياباين كان أكرث‬
‫اخرتا ًقا وتحدي ًثا من الربيطانيني والفرنسيني‪ ،‬حيث أعاد تشكيل الزراعة الكورية‪،‬‬
‫وح َّول الهياكل الطبقية والسياسية وإلغاء العبودية‪ ،‬وأسهم يف خلق اقتصاد حديث‬
‫موجه إىل التصدير مع إيجاد قطاع صناعي كبري‪ .‬ويروي براسونجيت دوارا (‪)2003‬‬
‫قصة مامثلة عن منشوريا‪ ،‬حيث يكشف أن الهجرة الداخلية الكبرية من الصني إىل‬
‫منشوريا‪ ،‬والتي كانت مستمرة منذ تسعينيات القرن التاسع عرش‪ ،‬استمرت عىل‬
‫قدم وساق خالل فرتة االحتالل الياباين‪ .‬وبينام قاوم بعض الصينيني استيالء اليابان‬
‫عىل السلطة‪ ،‬انجذب كثريون نحو الفرص االقتصادية املتزايدة وفرصة الهروب من‬
‫فوىض أمراء الحرب‪ .‬وعىل الرغم من أن تلك كانت من دون شك دو ًاًل استعامرية‬
‫َقه ِرية وقمعية‪ ،‬فإن اليابان نجحت يف استاملة قطاعات كبرية من مجتمعات هذه‬
‫املستعمرات‪ ،‬خصوصا يف كوريا (‪ .)Tudor, 2012: 19‬وقد حصلت تايوان ً‬
‫أيضا عىل‬
‫بنية تحتية كبرية للنقل والتنمية الصناعية‪ .‬فاليابان تعاملت مع تايوان‪ ،‬مثل كوريا‪،‬‬
‫نواح عديدة عىل أنها جزء منها‪ ،‬مبا يف ذلك توسيع نظامها التعليمي الشامل‬ ‫من ٍ‬
‫ليشمل السكان (‪ .)J. Gray, 2002: 456‬ومن املؤكد أن استغالل اليابان ملستعمراتها‬
‫ومحاولتها تجاوز ثقافتهم وهويتهم و َّلد معارض ًة‪ ،‬ولكن مع كل ذلك مارس الكوريون‬
‫مهاًم يف استعامر اليابان ويف تحديث كل من بلدهم ومنشوريا‪ ،‬وبني العامني‬ ‫دو ًرا ً‬
‫‪ 1910‬و‪ 1940‬حققت كل من كوريا وتايوان متوسط منو للناتج املحيل اإلجاميل أعىل‬
‫‪123‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫من اليابان بنسبة ‪ 3.36‬يف املائة‪ ،‬ومنت القدرة التصنيعية لكوريا بنسبة ‪ 10‬يف املائة‬
‫سنو ًيا (‪.)Cumings, 1984: 2‬‬
‫عىل رغم استعامرها وهزميتها يف نهاية املطاف‪ ،‬فإن االنتصارات املبكرة لليابان‬
‫عىل الواليات املتحدة وبريطانيا وفرنسا والهولنديني خالل عامي ‪ 1941‬و‪1942‬‬
‫حطمت مرة أخرى أسطورة القوة البيضاء يف آسيا‪ ،‬وم َّهدت الطريق عىل نحو كبري‬
‫إلنهاء االستعامر الذي أعقب تلك املرحلة (‪.)Westad, 2007: 88–9‬‬

‫‪ - 2‬املواضيع الرئيسة للعالقات الدولية يف فرتة ما بني الحربني العامليتني‬


‫يبحث هذا القسم مبزيد من التفصيل يف كيف وملاذا فشلت محاولة الدفع‬
‫باملجتمع الدويل العاملي نحو التعايف واالستقرار عىل الرغم من الجهود املبذولة‬
‫للسيطرة عىل التسلح والحرب‪ ،‬وإنعاش االقتصاد العاملي‪ ،‬وبناء منظامت حكومية‬
‫دولية عاملية أكرث شمو ًاًل‪ .‬هذه قصة مألوفة يف حقل العالقات الدولية‪ ،‬وتحتاج‬
‫فقط إىل إيضاحها هنا‪ .‬إنها تنقسم إىل مرحلتني واضحتني‪ :‬محاولة إعادة بناء‬
‫حسن بعد الحرب خالل عرشينيات القرن املايض‪ ،‬واالنهيار التدريجي‬ ‫نظام ُم َّ‬
‫لهذا النظام خالل سنوات الثالثينيات من القرن نفسه‪ .‬ويف كلتا املرحلتني تدور‬
‫القصة بالكامل تقري ًبا حول املركز‪ ،‬الذي س َّببت الحرب زعزع َة استقراره اقتصاد ًيا‬
‫وسياس ًيا واجتامع ًيا وعسكر ًيا‪ .‬وعىل رغم االضطراب الحاصل داخل املركز‪ ،‬فإنه مل‬
‫يكن مثة خالل هذه الفرتة أي تهديد كبري يأيت من األطراف من شأنه تهديد النظام‬
‫االستعامري املتمثل يف بنية املركز ‪ -‬األطراف‪ ،‬عىل الرغم من أنه قد ُوضعت‪ ،‬كام‬
‫لوحظ‪ ،‬األسس ملجابهة أي مقاومة قوية قد تنشأ يف وقت الحق‪ .‬لقد أصبحت‬
‫ً‬
‫تنظياًم يف فيتنام والهند وإندونيسيا وأجزاء كثرية من‬ ‫نزعة مناهضة االستعامر أكرث‬
‫الرشق األوسط‪ ،‬وكان عىل القوى االستعامرية أن تتعامل‪ ،‬ليس فقط مع املعارضة‬
‫الفكرية والسياسية التي يغذيها جزئ ًيا خطاب ويلسون عن حق تقرير املصري‪،‬‬
‫ولكن كان عليها يف بعض األحيان التعاطي مع االحتجاجات العنيفة وحركات‬
‫التمرد (‪ .)Jansen and Osterhammel, 2017: 35–70‬غري أنه وخالل سنوات‬
‫ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬كانت املخاوف االستعامرية ترتكز عىل نحو كبري عىل‬
‫طول الخطوط الجيوسياسية للمنافسة القامئة بني القوى الكربى إلعادة تقسيم‬
‫‪124‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫الغنائم االستعامرية؛ مع بريطانيا وفرنسا والواليات املتحدة باعتبارها تشكل قوى‬


‫الوضع القائم؛ ومع أملانيا وإيطاليا واليابان‪ ،‬وإىل حد ما االتحاد السوفييتي؛ وهي‬
‫القوى التي كانت تسعى إىل تغيري الوضع القائم‪ .‬كانت القوى االستعامرية التزال‬
‫تتمتع مبيزة كبرية داخل األطراف خاصة فيام يتعلق بالقوة والتنمية‪ ،‬كام تتمتع‬
‫مبيزة كبرية إىل حد ما فيام يتعلق مبعايري املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬أي السلطة‬
‫الرشعية‪ .‬وداخل املركز‪ ،‬كانت النزعة االستعامرية التزال تشكل نظاما رشعيا بأتم‬
‫املعنى بالنسبة إىل املجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫تركزت محاولة ترميم وتقوية املجتمع الدويل العاملي بعد الحرب العاملية األوىل‬
‫بشأن بناء نظام من املنظامت الحكومية الدولية العاملية؛ وإنعاش االقتصاد العاملي؛‬
‫والسيطرة عىل سباق التسلح؛ وحظر الحرب‪ .‬وكان مثة بعض النجاحات امللحوظة‬
‫يف كل هذه املجاالت‪.‬‬
‫لقد أنشأت‪ ،‬وألول مرة‪ ،‬عصبة األمم وعائلة املنظامت الحكومية الدولية‬
‫الوظيفية املرتبطة بها منتدىً دامئا متعدد األطراف عىل نطاق عاملي‪ .‬وعىل الرغم‬
‫من أن السياسة الداخلية منعت الواليات املتحدة من االنضامم إىل ما أنشأه رئيسها‬
‫سيِس عىل الديبلوماسية‬ ‫وودرو ويلسون‪ ،‬فإن عصبة األمم أضفت مع ذلك الطابع ا ُمل َؤ ِ‬
‫متعددة األطراف القامئة يف مركز املجتمع الدويل العاملي‪ .‬كانت عصبة األمم تأمل‬
‫بنظام لألمن الجامعي‪ .‬وقد أفسحت املجال‬ ‫ٍ‬ ‫الس ْمعة‬
‫استبدال ميزان القوى سيئ ُّ‬ ‫َ‬
‫أمام الرأي العام‪ ،‬وكانت تهدف إىل إنشاء إطار قانوين لدعم السالم العاملي‪ .‬ومثل‬
‫بقية املنظامت الحكومية الدولية السابقة املذكورة يف الفصل األول‪ ،‬مل يتكون أعضاء‬
‫أيضا عديد من الدول غري الغربية‪،‬‬ ‫عصبة األمم من القوى الرائدة فقط‪ ،‬ولكن ُضم ً‬
‫سسني‬‫حيث كان بعضها اليزال يقبع تحت الحكم االستعامري‪ .‬ومن بني األعضاء ا ُمل َؤ ِ‬
‫توجد الصني؛ والهند؛ وليبرييا؛ وبالد فارس‪ /‬إيران؛ وسيام‪ /‬تايلند‪ .‬وانضمت الح ًقا‬
‫الحبشة‪ /‬إثيوبيا؛ (‪ )1924‬وتركيا؛ (‪ )1932‬والعراق؛ (‪ )1932‬وأفغانستان؛ (‪)1934‬؛‬
‫ومرص (‪ .)1937‬داخل بعض القوى الكربى‪ ،‬وأبرزها بريطانيا‪ ،‬كان مثة دعم شعبي‬
‫قوي وأمل معقود عىل عصبة األمم‪ .‬فقد جمع اتحاد عصبة األمم يف بريطانيا أكرث‬
‫من ‪ 400‬ألف عضو‪ ،‬وكان تعب ًريا رائدًا عن فكرة أن الرأي العام الدميوقراطي يجب‬
‫أن ميارس دو ًرا كب ًريا يف تعزيز السالم والحفاظ عليه‪.‬‬
‫‪125‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫حققت محاولة إنعاش االقتصاد العاملي بعض النجاح خالل عرشينيات القرن‬
‫املايض‪ ،‬حيث تعافت التجارة العاملية إىل حد ما بعد الحرب‪ ،‬وكانت إعادة إنشاء‬
‫معيار الذهب باعتباره أساساً لنظام مايل عاملي أم ًرا ً‬
‫فعااًل إىل حد ما‪ .‬وقد انهار نظام‬
‫القرن التاسع عرش هذا خالل الحرب العاملية األوىل‪ ،‬ولكن بحلول أواخر العرشينيات‬
‫من القرن املايض عادت عديد من الدول إليه مجددا‪.‬‬
‫كانت النجاحات الرئيسة يف الحد من التسلح تتمثل يف معاهدة واشنطن‬
‫البحرية (‪ )1922‬وبروتوكول جنيف (‪ )1928‬الذي يحظر استخدام األسلحة الكياموية‬
‫والبيولوجية يف الحروب‪ .‬وقد تناول كالهام القضايا الناشئة عن الحرب العاملية‬
‫األوىل‪ :‬أي سباق التسلح البحري الذي سبق الحرب والذي كان مسؤو ًاًل عنها جزئ ًّيا؛‬
‫واستخدام األسلحة الكيميائية يف أثناء الحرب‪ .‬وحددت معاهدة واشنطن ِن َسب‬
‫السفن الرأساملية بني القوى البحرية الخمس الرئيسة‪ ،‬وسمحت بإلغاء البوارج عىل‬
‫نطاق واسع وأوقفت إىل حد كبري برامج البناء البحري الطموحة التي كانت التزال‬
‫تأت من الحرب‪ .‬كام أعاد بروتوكول جنيف فعل ًّيا فرض حظر ُو ِضع‬ ‫تتمتع بزخم ُم ٍّ‬
‫عمل تحضرييٌّ خالل‬ ‫أيضا ٌ‬
‫ألول مرة يف مؤمترات الهاي قبل نشوب الحرب‪ .‬كان مثة ً‬
‫العرشينيات من القرن املايض ألجل مؤمتر عاملي لنزع السالح‪ ،‬وذلك لتنفيذ الوعود‬
‫التي جرى التعهد بها يف معاهدة فرساي‪ .‬ويف العام ‪ 1925‬قطعت معاهدة لوكارنو‬
‫بعض األشواط نحو تطبيع العالقات مع أملانيا‪ ،‬وتأكيد التسوية اإلقليمية للحرب‪.‬‬
‫دعاًم واس ًعا لحظر الحرب كأداة رشعية‬ ‫ويف العام ‪ 1928‬نال ميثاق كيلوغ برييان ً‬
‫لسياسة الدولة‪ ،‬وقد ُأرفق هذا امليثاق بالقانون العام للتسوية السلمية للمنازعات‬
‫الدولية‪ .‬كان هذا ُي َعد مثاليا حتى يف ذلك الوقت‪ .‬لكنه عكس الصدمة التي سببتها‬
‫الحرب العاملية األوىل والخوف الذي و َّلدته من تكرار مثل هذا الحدث‪ ،‬كام قدم‬
‫أساسا لقوانني الحرب وجرامئها التي ستأيت الحقا‪.‬‬
‫ً‬
‫خالل ثالثينيات القرن العرشين انهارت إىل حد كبري العنارص األساسية املرتبطة‬
‫بهذه املحاولة الرامية إىل تقوية املجتمع الدويل العاملي‪ .‬لقد ُأض ِعفت عصبة األمم‬
‫منذ البداية‪ ،‬وتم ذلك بشكل رئيس من خالل استخدام حق النقض ضد عضوية‬
‫وأيضا بسبب السالم العقايب ضد‬ ‫الواليات املتحدة من ِقبل االنعزاليني األمريكيني‪ً ،‬‬
‫أملانيا التي مل ُتق َبل عضويتها يف عصبة األمم حتى العام ‪ .1926‬وقد انسحبت عدة‬
‫‪126‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫دول يف أمريكا الالتينية من عصبة األمم خالل عرشينيات وثالثينيات القرن املايض‪.‬‬
‫كام انسحبت القوى الفاشية الكربى خالل الثالثينيات من القرن نفسه‪ :‬انسحبت‬
‫اليابان يف العام ‪ 1933‬بسبب رفض اآلخرين االعرتاف بدولتها العميلة يف مانشوكو؛‬
‫وانسحبت أملانيا يف العام ‪ 1933‬ظاهر ًيا بسبب فشل مؤمتر عصبة األمم لنزع‬
‫السالح؛ وانسحبت إيطاليا يف العام ‪ 1937‬بسبب العقوبات املفروضة عليها بسبب‬
‫غزوها إلثيوبيا؛ كام ُط ِرد االتحاد السوفييتي يف العام ‪ 1939‬بسبب غزو فنلندا‪.‬‬
‫فشلت عصبة األمم يف الصمود باعتبارها آلية إلدارة األمن الجامعي‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫ضعف وانقسام قيادة القوى الكربى من جهة‪ ،‬وبسبب التوقعات غري الواقعية‬
‫والقدرات الضعيفة إلنفاذ القرارات من جهة أخرى‪ .‬مل يكن الرأي العام مساملًا عىل‬
‫الصعيد العاملي كام كان مأمو ًاًل‪ ،‬إذ إنه أ َّيد يف بعض البلدان السياسات القومية‬
‫العدوانية‪ .‬فاملصالح املتباينة القامئة بني القوى الكربى رسعان ما دمرت أي فرصة‬
‫لإلجامع الذي كان ميكن أن يكون رضوريا لتحقيق األمن الجامعي‪.‬‬
‫إن الوهن نفسه الذي أصاب عصبة األمم عىل إثر غياب الواليات املتحدة أ َّثر‬
‫أيضا يف االقتصاد العاملي‪ .‬فقد كانت بريطانيا ضعيفة اقتصاد ًّيا بسبب الحرب إىل‬ ‫ً‬
‫درجة أنها مل تكن قادرة عىل استئناف القيادة املالية والتجارية‪ ،‬بينام كانت الواليات‬
‫املتحدة؛ التي ق َّوتها الحرب مال ًّيا وصناع ًّيا عىل نحو كبري‪ ،‬غري راغبة سياس ًّيا يف تويل‬
‫الدور القيادي (‪ .)Kindleberger, 1973: 28, 292‬وأدى انهيار السوق يف العام‬
‫‪ 1929‬يف الواليات املتحدة برسعة إىل التوجه نحو النزعة الحامئية وانهيار التجارة‬
‫العاملية ومعيار الذهب‪ ،‬حتى أن بريطانيا ُأجربت عىل الخروج من معيار الذهب‬
‫يف العام ‪ ،1931‬والتخيل عن التجارة الحرة يف العام ‪W. Ashworth, 1975:( 1932‬‬
‫‪.)chs. 8–9; Foreman- Peck, 1982: chs. 7–8; Gilpin, 1987: 127 – 31‬‬
‫لقد تالىش ذلك الزخم الذي كان يقف وراء كل من سياسة الحد من التسلح‬
‫وحظر الحرب خالل ثالثينيات القرن العرشين‪ .‬فاملؤمتر العاملي لنزع السالح‬
‫الذي انعقد يف العام ‪ ،1932‬انهار برسعة يف العام ‪ ،1933‬ويرجع ذلك جزئ ًّيا إىل‬
‫تعقيدات التمييز بني األسلحة الهجومية والدفاعية‪ ،‬وجزئ ًّيا إىل أملانيا التي رفضت‬
‫قبول القيود العسكرية املستمرة والدونية بينام رفض اآلخرون نزع السالح إىل‬
‫مستواها‪ .‬وقد بدأت الحكومة النازية الجديدة يف برلني يف إعادة التسليح‪ ،‬وحذا‬
‫‪127‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫اآلخرون حذوها‪ .‬وجرى التخيل عن القيود املفروضة عىل أعداد وأنواع األسلحة‪،‬‬
‫تسلح يشبه إىل حد ما ذلك الذي سبق الحرب العاملية األوىل‪ .‬وعىل‬ ‫ٍ‬ ‫وبدأ ُ‬
‫سباق‬
‫الرغم من الخوف من الحرب الذي اليزال قو ًّيا داخل الدول الساعية إىل الحفاظ‬
‫عىل الوضع القائم‪ ،‬فإن الخوف من الهزمية أطلق العنان لدينامية األسلحة‬
‫الصناعية والتحسينات النوعية والكمية الرسيعة عىل نحو كبري‪ .‬مل يسبب حظر‬
‫الحرب سوى التخيل عن إعالن الحرب عندما غزت دول مثل إيطاليا واليابان‬
‫بلدانا أخرى‪ .‬وقد ُق ِّوضت الحركات السلمية القوية يف أماكن مثل بريطانيا عندما‬
‫أجربت أحداث مثل الحرب األهلية اإلسبانية عديدا من دعاة السالم االشرتاكيني‬
‫عىل االختيار بني مساملتهم ومعارضتهم للفاشية‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬وبحلول منتصف الثالثينيات من القرن العرشين‪ ،‬كانت محاولة إعادة‬
‫بناء نظام ما قبل الحرب تشهد تراجعا تاما‪ .‬فقد كانت عصبة األمم تشهد فشال‬
‫واضحا يف منع القوى الكربى من غزو البلدان األخرى‪ ،‬كام كانت أملانيا تكرس القيود‬
‫والعقوبات املفروضة عليها مبوجب معاهدة فرساي‪ .‬وانهار االقتصاد العاملي‪ ،‬مع‬
‫التخيل عن معيار الذهب ورفع الحواجز الجمركية يف كل مكان تقري ًبا‪ .‬ودخلت‬
‫جميع القوى الكربى عىل نحو متزايد يف لعبة صفرية بغرض محاولة إنشاء تكتالت‬
‫اقتصادية ذات اكتفاء ذايت‪ .‬كانت محاولة كبح دينامية األسلحة تتهاوى‪ ،‬ورشعت‬
‫القوى الكربى واحدة تلو األخرى يف برامج إعادة التسلح‪ .‬حيث بدت فكرة إمكانية‬
‫حظر الحرب ساذج ًة بشكل ميؤوس منه‪ ،‬وازداد االحتفاء بالحرب بني القوى الفاشية‬
‫باعتبارها تشكل مصري األمة‪.‬‬
‫ُتفرس القيادة الضعيفة للمجتمع الدويل العاملي ً‬
‫بعضا من هذا االنهيار‪ ،‬ولكن‬
‫التآزر القوي بني إقحام األيديولوجيا يف عالقات القوى الكربى‪ ،‬والضغط الذي ال‬
‫هوادة فيه لدينامية األسلحة الصناعية يقدمان تفسريا أشمل‪ .‬فقد أدى التقسيم‬
‫األيديولوجي ثاليث االتجاهات إىل جعل ميزان القوى وتوازن التهديد والحسابات‬
‫أمورا صعبة ومعقدة للغاية‪ .‬هل كانت الدميوقراطيات الليربالية مهددة أكرث من ِقبل‬
‫الشيوعية أم من ِقبل الفاشية؟ وهل كانت الفاشية مهددة أكرث من ِقبل الشيوعية‬
‫أم من ِقبل الدميوقراطية الليربالية؟ وهل كان الشيوعيون أكرث عرضة للتهديد من‬
‫ِقبل الفاشيني أم من ِقبل الدميوقراطيات الليربالية؟ ويف ظل هذه الظروف‪ ،‬هل‬
‫‪128‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫ميكن أن يكون عدو عدوي صديقي؟ مل يكن ملثل هذه األسئلة إجابات واضحة‬
‫تؤدي إىل إجامع سهل‪ .‬ومام زاد من تعقيد هذه الحسابات‪ ،‬كانت تلك التغيريات‬
‫الرسيعة الحاصلة يف التوازن العسكري الذي أحدثته مسارات إعادة التسلح األملانية‬
‫واليابانية والسوفييتية‪ ،‬وردود الفعل الناشئة تجاهها يف فرنسا وبريطانيا والواليات‬
‫املتحدة‪ .‬مل تكن هذه التغيريات كمي ًة فقط (عدد الطائرات والسفن والدبابات‬
‫أيضا‪ .‬وكانت األجيال الجديدة من األسلحة أكرث‬ ‫والقوات)‪ ،‬بل كانت تغيريات نوعية ً‬
‫فاعلية من األجيال القدمية‪ ،‬وكانت لبعض األشياء الجديدة متا ًما‪ ،‬مثل الرادار‪ ،‬القدرة‬
‫عىل تغيري اللعبة متا ًما‪.‬‬
‫لقد ش َّكل انهيار االقتصاد العاملي والسباق ألجل بناء تكتالت اقتصادية ذات‬
‫اكتفاء ذايت متغريا إضافيا إىل هذا الجو املشحون‪ .‬حيث أعادت هذه الحركة التجارية‬
‫عىل نحو أسايس تأسيس الصلة بني االزدهار والسيطرة عىل األرض‪ .‬وبذلك‪ ،‬زادت من‬
‫حدة التوترات القامئة داخل املركز بني القوى الساعية إىل الحفاظ عىل الوضع القائم‬
‫والقوى الساعية إىل تغيري ذلك الوضع‪ .‬كانت القوى «التي متلك»‪ ،‬مثل بريطانيا‬
‫وفرنسا والواليات املتحدة‪ ،‬من أوائل التحديثيني الذين كانت لديهم بالفعل مجاالت‬
‫نفوذ و‪/‬أو إمرباطوريات ميكن تحويلها إىل تكتالت اقتصادية‪ .‬وكانت القوى «التي‬
‫ال متلك»‪ ،‬مثل أملانيا وإيطاليا واليابان وروسيا‪ ،‬يف وقت الحق من دعاة التحديث‬
‫«مَت ُّلك» (أو يف حالة أملانيا وروسيا إعادة َ َمَت ُّلك) إمرباطورياتهم‬
‫الذين احتاجوا إىل َ َ‬
‫الخاصة حتى ال ُيط َردوا‪ .‬يف ظل هذه الظروف‪ ،‬كان تحقيق األمن الجامعي شيئا‬
‫مستحياًل‪ .‬إن منطق «تقريب العامل» الذي استخدمه بعض املحللني الجيوسياسيني‬ ‫ً‬
‫لرشح الحرب العاملية األوىل كان يعمل عىل نحو أكرث كثافة يف الفرتة التي سبقت‬
‫الحرب العاملية الثانية‪ .‬وبحلول الثالثينيات من القرن العرشين كان هذا املزيج قد‬
‫أشعل رشارة نزعة إمربيالية تنافسية إلعادة تقسيم األطراف االستعامرية من ِقبل‬
‫قوى املركز الكربى التي وضعت العامل بثبات عىل طريق الحرب العاملية الثانية‪.‬‬

‫‪ - 3‬الحرب العاملية الثانية‬


‫كام لوحظ يف املقدمة‪ ،‬ميكن النظر إىل الحرب العاملية الثانية عىل نحو أفضل‬
‫باعتبارها الجولة الثانية من أزمة الحداثة التي انطلقت منذ الحرب العاملية األوىل‪.‬‬
‫‪129‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كام ميكن اعتبار الحربني م ًعا نوعًا من الحرب األهلية األوروبية ‪(Preston, 2000:‬‬
‫)‪ .153–4‬إذ كان مثة فيهام كثري من االستمرارية وأوجه الشبه‪ .‬ومرة أخرى‪ ،‬كانت‬
‫أملانيا تتموضع يف قلب اإلشكالية األوروبية‪ .‬فالحرب العاملية األوىل مل تحل مشكلة‬
‫قوة أملانيا يف قلب أوروبا‪ ،‬وال استيائها من وضعها داخل املجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫والواقع أن التسوية القاسية يف فرساي أدت إىل تفاقم الحالة األخرية‪ ،‬إذ ساعدت يف‬
‫متهيد الطريق أمام ظهور النزعة الفاشية االنتقامية يف أملانيا‪ .‬لقد اتخذت تحالفات‬
‫شكاًل مشاب ًها متا ًما لتلك التي كانت موجودة خالل الحرب‬‫الحرب العاملية الثانية ً‬
‫العاملية األوىل‪ ،‬مع اصطفاف بريطانيا وفرنسا وروسيا والواليات املتحدة يف نهاية‬
‫املطاف ضد أملانيا وإيطاليا ومختلف بقايا اإلمرباطورية النمساوية املجرية‪ .‬وأدى‬
‫فشل محاولة تعزيز املجتمع الدويل العاملي خالل عرشينيات القرن املايض إىل إطالق‬
‫ديناميات التنمية والتسلح نفسها التي زعزعت استقرار عالقات القوى الكربى قبل‬
‫الحرب العاملية األوىل‪ .‬حيث زادت روسيا وأملانيا واليابان برسعة من قوتها الصناعية‬
‫والعسكرية‪ ،‬وكانت أسلحة جديدة مثل القاذفات ُتنبئ بجعل الحرب جديدة‬
‫أيضا‪ ،‬مثلها مثل الحرب‬ ‫ومختلفة متا ًما عن سابقاتها‪ .‬كانت الحرب العاملية الثانية ً‬
‫العاملية األوىل‪ ،‬حد ًثا اختص به املركز إىل حد كبري‪ ،‬حيث كانت دول األطراف تعترب‬
‫مبنزلة مصدر إمداد لها‪ ،‬مبا يف ذلك األعداد الكبرية من القوات‪ ،‬وأيضا مبنزلة هدف‬
‫للمنافسة بني القوى الكربى‪ .‬وقد ظلت القومية ذات النزعة الداروينية االجتامعية‬
‫متارس تأثريا قويا يف سلوك العالقات الدولية وتأطريها‪ ،‬واتخذت الفاشية ً‬
‫شكاًل أكرث‬
‫تطر ًفا مام كانت عليه قبل العام ‪.1914‬‬
‫كانت مثة بعض االختالفات عىل مستوى التحالفات‪ ،‬حيث انضمت اليابان إىل‬
‫بداًل من االنضامم إىل بريطانيا‪ ،‬وبقيت تركيا عىل الحياد‪ ،‬ومل تنشق‬ ‫قوى املحور ً‬
‫إيطاليا عن أملانيا يف بداية الحرب‪ .‬لكن هذا االختالف كان طفي ًفا نسب ًّيا مقارنة‬
‫باختالفني اثنني آخرين‪ :‬األيديولوجيا والنطاق‪ .‬ففي حني أن الحرب العاملية األوىل‬
‫رشا بني القوى الكربى بشأن توازن القوى والقومية‪،‬‬ ‫كانت يف األساس رصاعًا مبا ً‬
‫كانت الحرب العاملية الثانية‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬متثل معركة بشأن األيديولوجيا‪ :‬ما‬
‫هي صيغة االقتصاد السيايس للحداثة التي كانت ستصبغ املستقبل؟ ويف‬
‫حني أن القومية انترصت إىل حد كبري يف كل مكان‪ ،‬فإن التناقضات املتأصلة‬
‫‪130‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫يف األيديولوجيات الثالثة األخرى للتقدم خالل القرن التاسع عرش مل تكن قد‬
‫ُح َّلت بعد‪ .‬فقد كانت االشرتاكية والليربالية والفاشية مبنزلة ورثة رشعيني لثورات‬
‫الحداثة‪ .‬وبحلول الثالثينيات من القرن العرشين كان الجميع منغمسني بقوة يف‬
‫منافسة القوى الكربى‪ ،‬وذلك سع ًيا إىل حل املشكالت القامئة بينهم عن طريق‬
‫القتال‪ .‬من جهة‪ ،‬كانت هناك األيديولوجية الفاشية الضيقة األفق التي هددت‬
‫بجلب التسلسالت الهرمية االستعامرية الخاصة بالعرق والهيمنة اإلمربيالية إىل‬
‫داخل املركز‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬كانت هناك أيديولوجيتان كونيتان؛ الرأساملية‬
‫الليربالية والشيوعية الشمولية‪ ،‬حيث وعدتا بتقديم رؤى مختلفة لكيفية تنظيم‬
‫الجنس البرشي ككل بغية امليض قد ًما بالحداثة‪ .‬وقد حدث هذا االصطفاف عن‬
‫طريق املصادفة‪ .‬يف العام ‪ 1939‬حاولت اليابان مهاجمة االتحاد السوفييتي لكنها‬
‫هُ زمت‪ ،‬وعقدت سال ًما معه واتجهت جنو ًبا ضد الواليات املتحدة‪ .‬ويف العام‬
‫‪ 1941‬كرس هتلر اتفاقه مع ستالني ومل يغ ُز االتحاد السوفييتي فقط‪ ،‬بل أعلن‬
‫أيضا‪.‬‬‫الحرب عىل الواليات املتحدة ً‬
‫كانت الحرب العاملية الثانية أكرب بكثري من حيث النطاق والشدة من الحرب‬
‫العاملية األوىل‪ .‬لقد كانت‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬اندماجا لحربني إقليميتني‪ :‬واحدة يف أوروبا‬
‫كانت متثل الجولة الثانية من الحرب العاملية األوىل‪ ،‬واألخرى يف شامل رشق آسيا‪.‬‬
‫وقد جاءت هذه األخرية نتيج ًة ل َت َباعُ د اليابان عن الواليات املتحدة وبريطانيا خالل‬
‫سنوات ما بني الحربني املوصوفة أعاله‪ ،‬ومحاولتها بناء معقل إقليمي لها يف رشق‬
‫آسيا بإمكانه أن يصمد أمام الضغط الغريب‪ .‬بدأت حرب رشق آسيا هذه بشكل‬
‫جدي يف العام ‪ 1937‬مع غزو اليابان للصني‪ ،‬واندمجت مع الحرب األوروبية يف‬
‫العام ‪ 1941‬عندما هاجمت اليابان الواليات املتحدة واغتنم هتلر هذه الفرصة‬
‫إلعالن الحرب عىل الواليات املتحدة‪ .‬وعىل الرغم من طبيعتها العاملية املندمجة‪،‬‬
‫فإن الحرب العاملية الثانية ظلت تتمحور حول أوروبا‪ .‬كانت أملانيا أكرث قوة وتهديدًا‬
‫من اليابان؛ ألنها كانت متلك إمكانية توحيد املركز الصناعي ألوروبا بأكمله وتصبح‬
‫قوة عظمى عاملية‪ .‬إذ مل يكن لدى اليابان ال النية وال القدرة عىل غزو الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬مبا يهدد عىل نحو أسايس بإعادة انتداب املستعمرات الغربية الضعيفة يف‬
‫آسيا واملحيط الهادئ ملصلحتها‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أدى هذا االندماج بني حربني إقليميتني إىل حرب عاملية حقيقية ذات رهانات‬
‫إمربيالية أكرب بكثري‪ .‬فخالل الحرب العاملية األوىل‪ ،‬كان الرشق األوسط فقط هو‬
‫الذي يشكل محل نزاع خطري‪ ،‬مهام كانت األحالم الواسعة التي قد تكون لدى‬
‫أملانيا بشأن إخراج الربيطانيني من الهند‪ .‬ويف أماكن أخرى‪ ،‬كام هو الحال يف أفريقيا‬
‫ورشق آسيا‪ ،‬كان تطهري املستعمرات األملانية مسألة ثانوية نسب ًّيا‪ .‬لكن خالل الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬مل يكن الرشق األوسط وشامل أفريقيا فقط عىل املحك‪ ،‬ولكن‬
‫أيضا اإلمرباطوريات االستعامرية يف جنوب وجنوب رشق آسيا‪ .‬عىل مدى‬ ‫كانت مثة ً‬
‫بعض الوقت‪ ،‬هددت أملانيا وإيطاليا موقع بريطانيا يف البحر املتوسط ومرص‪ ،‬كام‬
‫وسعت األسلحة الجديدة‬ ‫سيطرت اليابان عىل جنوب رشق آسيا وهددت الهند‪ .‬لقد َّ‬
‫حسنة نطاق العمليات العسكرية‪ ،‬وباستثناء الواليات املتحدة‪ُ ،‬جلبت الجبهة‬ ‫وا ُمل َّ‬
‫الداخلية عىل نحو مكثف إىل الرصاع‪ ،‬خصوصا من خالل القصف العنيف للمدن‪.‬‬
‫وميكن من خالل التمعن يف األرقام املامثلة للضحايا‪ ،‬رؤية بعض األفكار املتعلقة‬
‫باالختالف يف كل من النطاق الواسع والتقنيات الجديدة اللذين أنتجتهام حرب‬
‫القوى الكربى‪ :‬نحو ‪ 15‬مليون قتيل خالل الحرب العاملية األوىل‪ ،‬و‪ 41‬مليون قتيل‬
‫خالل الحرب الثانية (‪.)Clodfelter, 2002‬‬
‫وبسبب هذه االختالفات كانت عواقب الحرب العاملية الثانية أكرب بكثري‬
‫من عواقب الحرب األوىل‪ .‬وكام يحاجج بوزان ولوسون (‪ ،)2014a‬فإن مجموعة‬
‫األحداث التي كانت دائرة خالل الحرب العاملية الثانية تستحق املكانة التي تتمتع‬
‫بها باعتبارها تاريخا مرجعيا أوليا لحقل العالقات الدولية‪ ،‬يف حني أن الحرب العاملية‬
‫األوىل ُتصنف فقط باعتبارها تاريخا مرجعيا ثانويا‪ .‬لقد أسهمت الحرب العاملية‬
‫األوىل عىل نحو طفيف نسب ًّيا يف تغيري سواء البنية املادية أو املعيارية للمجتمع‬
‫غرَّيت الحرب العاملية الثانية الكثري‪ .‬فبعد العام ‪ 1919‬استمرت‬‫الدويل العاملي‪ ،‬بينام َّ‬
‫الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‪ .‬وبعد العام ‪ 1945‬كانت التغيريات كبرية‬
‫مبا يكفي لتربير تسمية ما أنتجته الحرب بالصيغة األوىل ا ُمل َعدَّلة للمجتمع الدويل‬
‫العاملي‪ .‬وقد تجسدت النتائج الرئيسة للحرب العاملية الثانية فيام ييل‪:‬‬
‫‪ -‬إزاحة فرنسا وأملانيا وإيطاليا واليابان‪ ،‬والحقا‪ ،‬بريطانيا من أعىل سلم‬
‫ترتيب القوى‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫العامل ‪ :1945-1919‬الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‬

‫‪ -‬ارتقاء الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي إىل مكانة قوة عظمى‬


‫‪ ،superpower‬والتحول من نظام دويل متعدد األقطاب أيديولوج ًّيا وماد ًّيا إىل هيكل‬
‫ثنايئ القطبية سواء عىل مستوى توزيع القوة أو يف تقلص التنافس األيديولوجي‬
‫الذي يقود السياسة العاملية‪ ،‬ليضحي ذلك التنافس قامئا بني صيغتني من ال َّن َزعَات‬
‫الكونية‪ :‬النزعة الرأساملية الدميوقراطية الليربالية؛ والنزعة الشيوعية الشمولية‪.‬‬
‫‪ -‬تخفيض مرتبة أوروبا من كونها متثل مركز املركز إىل كونها الهدف الرئيس‬
‫للنزاع بني القوتني العظميني‪.‬‬
‫‪ -‬إنهاء النزعة االنعزالية األمريكية‪ ،‬واالستعداد داخل الواليات املتحدة لتويل‬
‫بداًل من بريطانيا‪ .‬وكانت النتيجة الطبيعية لذلك‬ ‫القيادة االقتصادية والسياسية ً‬
‫حسنة من‬ ‫تحو ًاًل كب ًريا نحو الديبلوماسية املتعددة األطراف وإعادة بناء مجموعة ُم َّ‬
‫املنظامت الحكومية الدولية العاملية‪ .‬وعىل الرغم من وجود قوتني عظميني فإن‬
‫الواليات املتحدة يف الواقع كانت متقدمة عىل نحو كبري عىل االتحاد السوفييتي‬
‫من حيث الرثوة والقدرات املادية‪ .‬إذ مل ينافسها االتحاد السوفييتي بجدية إال عىل‬
‫مستوى القدرات العسكرية وعىل املستوى األيديولوجي‪.‬‬
‫‪ -‬إعادة توحيد الصني باعتبارها قوة مستقلة يف ظل الحكم الشيوعي ً‬
‫بداًل من‬
‫الحكم القومي‪.‬‬
‫‪ -‬نزع الرشعية عن العنرصية وعدم املساواة البرشية كنظم أساسية للمجتمع‬
‫الدويل العاملي‪ ،‬واستبدال املساواة وحقوق اإلنسان مكانهام‪ .‬وكانت النتيجة‬
‫الطبيعية لذلك نزع الرشعية عن الفاشية كشكل من أشكال الحكم الحديثة عىل‬
‫أساس أنها هي ا ُملسببة لنقل العنرصية واالستخدام غري املقيد للقوة ‪ -‬الذي كان‬
‫منحرصا يف السابق يف األطراف ‪ -‬إىل داخل املركز‪.‬‬
‫‪ -‬نزع الرشعية عن االستعامر‪ /‬اإلمربيالية كنظام أسايس للمجتمع الدويل العاملي‬
‫واستبداله بالتنمية‪ .‬وكانت النتيجة الطبيعية لذلك هي التخيل الرسيع عن السيادة‬
‫املقسمة رسم ًّيا‪ ،‬واستبدال املساواة العاملية يف السيادة مكانها‪ ،‬وبداية توسع كبري‬
‫يف عضوية املجتمع الدويل العاملي‪ .‬ولكن‪ ،‬وبينام أنهى هذا املسار الجانب السيايس‬
‫لبنية املركز ‪ -‬األطراف الخاصة بالصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‪ ،‬فقد أبقى‬
‫عىل الجانب االقتصادي لتلك البنية ثابتًا يف مكانه‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ -‬وصول األسلحة النووية وما يرتتب عىل ذلك من عودة املعضلة الدفاعية‬
‫عىل نحو أكرث حدة (الخوف من الحرب يفوق الخوف من الهزمية)‪ .‬وقد عزز وضع‬
‫التكنولوجيا العسكرية الذي ُت ُو ِّصل إليه بحلول العام ‪ 1945‬فكرة أن الحرب كانت‬
‫غري منطقية‪ ،‬ألنه سيكون من املستحيل التمييز بني املنترصين والخارسين؛ حيث‬
‫أوجدت األسلحة النووية ألول مرة إمكانية انتحار األنواع البرشية‪ .‬وكام حدث بعد‬
‫الحرب العاملية األوىل؛ ولكن هذه املرة بقوة أكرب‪ ،‬كانت الفكرة السارية تتمثل يف‬
‫أن نشوب حرب جديدة من شأنه أن يهدد وجود الحضارة برمتها‪ ،‬وأن اإلشكالية ال‬
‫تكمن يف كيفية خوض مثل هذه الحرب‪ ،‬ولكن يف كيفية إيقافها لكيال تتكرر مرة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫خالصات‬
‫لقد حددت نتيجة الحرب العاملية الثانية السامت الرئيسة التي كانت تهيمن‬
‫عىل العالقات الدولية حتى نهاية الثامنينيات من القرن العرشين‪:‬‬
‫‪ -‬تنافس أيديولوجي ومادي مكثف وعىل نطاق عاملي بني القوتني العظميني‪.‬‬
‫‪ -‬صعود الصني بوصفها زعيام سياسيا ثالثا يف لعبة القوة واأليديولوجيا الكربى‪.‬‬
‫‪ -‬دينامية غري مقيدة إىل حد كبري بالنسبة إىل األسلحة من شأنها أن تستمر يف‬
‫ضخ أسلحة جديدة و ُم َح َّسنة يف النظام الدويل‪ ،‬مام يخلق زعزعة مستمرة لعالقات‬
‫القوتني العظميني‪.‬‬
‫‪ -‬إشكالية كبرية للغاية بشأن كيفية التعامل مع التأثري الهائل لألسلحة النووية‬
‫يف أهداف ومامرسات الحرب‪.‬‬
‫‪ -‬كيفية التكيف مع تفكك النزعة االستعامرية‪ ،‬والتضاعف الرسيع لعضوية‬
‫املجتمع الدويل العاملي الذي وصل إىل ثالثة أضعاف‪ ،‬حيث إن معظم األعضاء‬
‫الجدد كانوا ضعفاء عىل الصعيدين السيايس واالقتصادي‪ ،‬وبعيدين عن استيعاب‬
‫ثورات الحداثة وإدماجها يف شؤونهم الداخلية‪ .‬فبعد نزع الرشعية عن االستعامر‪،‬‬
‫كيف ميكن إذن للواقع االقتصادي ‪ -‬الذي اليزال غري متسا ٍو إىل حد كبري وينبني عىل‬
‫ثنائية املركز‪ /‬األطراف الخاصة بالصيغة األوىل املعدلة للمجتمع الدويل العاملي ‪ -‬أن‬
‫يدار يف إطار نظام تنمية جديد؟‬

‫‪134‬‬
‫احلديثة‬

‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫‪4‬‬

‫حقل العالقات الدولية‬


‫‪ :1945-1919‬التأسيس‬
‫األول للتخصص املعريف‬

‫مقدمة‬
‫لقد حاججنا يف الفصل الثاين بأنه طوال‬
‫القرن التاسع عرش وخالل الحرب العاملية األوىل‪،‬‬
‫كان مثة قد ٌر كب ٌري من التفكري والتنظري الذي من‬
‫شأنه‪ ،‬وفقا ملعايري اليوم‪ ،‬أن ُي َعد حقال للعالقات‬
‫الدولية‪ .‬لقد َتركز كثري من هذا التفكري والتنظري‬
‫يف بلدان املَ ْر َكز عَا ِكسا تصوراتها واهتامماتها؛‬
‫مبا يف ذلك التمييز القوي بني العالقات القامئة‬
‫رِّضة» داخل‬ ‫بني الدول والشعوب «ا ُملت ََح ِّ َ‬
‫املجتمع الدويل‪ ،‬والعالقات القامئة بني الشعوب‬
‫رِّضة» وتلك الشعوب التي استعمرتها‪.‬‬ ‫«ا ُملت ََح ِّ َ‬
‫لقد أدى التفكري من منظور التسلسل الهرمي‬ ‫«إن الحرب ومؤمتر السالم للعام ‪1919‬‬
‫وإنشاء عصبة األمم كانت كلها مرتبطة‬
‫العرقي والتنموي دورا مركزيا يف كثري من هذا‬ ‫ارتباطا وثيقا بظهور حقل العالقات‬
‫الحقل قبل أن ُي َق َّعد‪ .‬وكان مثة بعض املؤرشات‬ ‫الدولية كتخصص معريف»‬

‫‪135‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫سيِس عليه من حيث الكتب واملجالت والدورات‬ ‫املبكرة عىل إضفاء الطابع ا ُمل َؤ ِ‬
‫الجامعية‪ ،‬إذ إن معظمها تطور فقط يف العقد أو العقدين السابقني للحرب العاملية‬
‫قليل من بلدان املَ ْر َكز واليابان‪ .‬كان مثة تفكري بشأن حقل العالقات‬ ‫األوىل داخل عد ٍد ٍ‬
‫الدولية يف األَ ْط َراف أيضا‪ ،‬حيث كان الكثري منه مدفوعا بنزعة مناهضة االستعامر‬
‫والعنرصية (البيضاء)‪ ،‬حيث مل يتخذ بعدُ هذا التفكري شكال أكادمييا‪ .‬ومل يكن «لحقل‬
‫العالقات الدولية قبل تقعيده» تسمية جامعية بعدُ ‪ ،‬لكن التفكري املعني به كان‬
‫قد غطى كثريا من أجندة حقل العالقات الدولية املعارص‪ .‬واختتمنا الفصل بالقول‬
‫سسة للعام ‪ 1919‬كانت يف أفضل األحوال متثل نصف الحقيقة‪.‬‬ ‫إن «األسطورة» ا ُمل َؤ َ‬
‫صحيح أنه بدءا من العام ‪ 1919‬أصبح حقل العالقات الدولية مجاال للدراسة يعتمد‬ ‫ٌ‬
‫ْ‬
‫عىل الوعي الذايت‪ ،‬واكتسب درجة كبرية من املَأ َس َسة‪ .‬وإنه من الصحيح أيضا أن‬
‫صدمة الحرب العاملية األوىل أعادت توجيه تركيز أولويات هذا املجال الجديد نحو‬
‫اإلشكالية األساسية ا ُملتمثلة يف الحرب والسلم بني القوى الكربى يف عامل تسوده‬
‫االنقسامات األيديولوجية الحادة‪ .‬لكن ليس من الصحيح التسليم بأن التفكري‬
‫املنهجي والتنظري ألجل حقل العالقات الدولية الحديث كان قد بدأ يف العام ‪.1919‬‬
‫مثلام ُحوجج يف الفصل الثالث‪ ،‬فإنه عىل رغم أن الحرب العاملية األوىل عطلت‬
‫أشياء كثرية‪ ،‬فإنها مل تحطم بنية املجتمع الدويل العاملي االستعامري أو التسلسالت‬
‫الهرمية العرقية والتنموية التي قام عليها‪ .‬وألن العالقات الدولية كمامرسة ظلت‬
‫للم ْج َت َمع الد َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب‪ ،‬فقد كانت‬
‫داخل إطار الصيغة األوىل ُ‬
‫االختالفات الرئيسة التي كانت قامئة بشأن العالقات الدولية باعتبارها حقال معرفيا‬
‫تكمن يف إضفاء الطابع ا ُملؤسيس عليه‪ ،‬ويف هَ َو ِس دول املَ ْر َكز بإشكالية الحرب‬
‫والسلم بني القوى الكربى‪ .‬يف الواقع‪ ،‬لقد أدت صدمة الحرب إىل زيادة تهميش‬
‫االهتامم بعالقات املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف كجزء من العالقات الدولية سواء باعتبارها حقال‬
‫معرفيا أو مامرسة‪ .‬فخالل سنوات ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬كان مثة‪ ،‬إذن‪ ،‬استمرارية‬
‫كبرية للغاية مع أجندة تفكري حقل العالقات الدولية ملا قبل العام ‪ ،1914‬وكان هذا‬
‫صحيحا سواء يف داخل املَ ْر َكز أو األَ ْطراف‪ .‬لذلك‪ ،‬ميكننا استخدام ال ِبنية العامة نفسها‬
‫يف هذا الفصل مثلام فعلنا يف الفصل الثاين‪ ،‬وذلك ألجل التمعن يف تفكري حقل‬
‫العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز‪ ،‬ثم داخل األَ ْط َراف‪ .‬بيد أننا سننظر أوال إىل إضفاء‬
‫‪136‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫الطابع املؤسيس عىل هذا الحقل املعريف يف جميع أنحاء العامل‪ ،‬وهو ما ميثل جوهر‬
‫االدعاء التأسييس للعام ‪.1919‬‬

‫‪ - 1‬مأسسة حقل العالقات الدولية‬


‫سنتطرق أوال إىل مأسسة حقل العالقات الدولية يف دول املَ ْر َكز‪ ،‬وهي قصة قد‬
‫ُغطيت جيدا إىل حد ما‪ ،‬ثم نتطرق إىل بدايات مأسسته يف دول األَ ْط َراف‪ ،‬وهي‬
‫القصة التي مل َ‬
‫تحظ بعدُ بتغطية وافية يف هذا الخصوص‪.‬‬

‫‪ - 1 - 1‬املَ ْر َكز‬
‫ليس مثة شك يف أن الحرب العاملية األوىل أثارت تغيريا طفيفا يف دراسة حقل‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬حيث أسهمت يف صعوده كمجال دراسة رسمي معرتف به‪ ،‬أو‬
‫حتى كتخصص أكادميي (تباينت اآلراء بشأن هذا األمر يف ذلك الوقت‪ ،‬كام هي‬
‫الحال اآلن‪ ،‬بني تفسريات ضيقة وأخرى أوسع)‪ .‬ومل تحدث هذه املأسسة وإضفاء‬
‫الطابع الرسمي عىل خلفية حرب مدمرة ومكلفة للغاية فقط‪ ،‬ولكن أيضا عىل‬
‫خلفية مؤمتر فرساي للسالم وتشكيل عصبة األمم‪ .‬وهكذا‪ ،‬كان إنشاء حقل العالقات‬
‫الدولية متشابكا مع املشاعر املناهضة للحرب ومع اآلمال املعقودة عىل عصبة األمم‬
‫الجديدة كضامن للسالم العاملي‪ ،‬وهو ما تبلور يف شكل قوي من النزعة املثالية‪ .‬لقد‬
‫أدَّى صعود الرأي العام ووسائل اإلعالم منذ أواخر القرن التاسع عرش دورا متزايدا‬
‫يف العالقات الدولية كحقل معريف وكمامرسة‪ ،‬خصوصا بعد العام ‪ ،1919‬وكان عنرصا‬
‫كبريا يف املشاريع «الطوباوية» للسالم العاملي واألمن الجامعي ‪(Seton- Watson,‬‬
‫)‪ .1972‬مل تظهر الرغبة يف إخراج العالقات الدولية من أيدي الديبلوماسيني واملهنيني‬
‫إال بعد الحرب العاملية األوىل‪ .‬حيث يالحظ إدوارد كار (‪ )1964 :2‬أن تغري املزاج‪،‬‬
‫مع «التحريض» ضد املعاهدات الرسية ش َّكل «أول أعراض املطالبة بتعميم السياسة‬
‫الدولية التي َّبرَّشت مبيالد علم جديد»‪ .‬كام يردد كل من مايكل بانكس (‪)1985 :10‬‬
‫وإيكهارت كريبندورف (‪ )1989 : 34‬وجهة النظر املألوفة القائلة إن الحرب ومؤمتر‬
‫السالم للعام ‪ 1919‬وإنشاء عصبة األمم كانت كلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بظهور‬
‫حقل العالقات الدولية كتخصص معريف‪.‬‬
‫‪137‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ومثلام لوحظ يف الفصل الثاين‪ ،‬كانت الخطوة الرمزية األوىل إلضفاء الطابع‬
‫املؤسيس عىل العالقات الدولية هي منح كريس وودرو ويلسون يف السياسة الدولية‬
‫يف جامعة أبرييستويث يف العام ‪ .)Booth, 1996: 328, 330( 1919‬وقد كان الهدف‬
‫من تأسيس هذا القسم الجديد هو «إصالح عائلة األمم املمزقة»(٭) وترسيخ دعم‬
‫عصبة األمم‪ .‬مثة كثري من الدالئل لدعم الرأي القائل إن اململكة املتحدة كان لها‬
‫دور مهم‪ ،‬إن مل يكن األهم‪ ،‬يف نشأة العالقات الدولية الحديثة مثلها مثل الواليات‬
‫املتحدة‪ .‬فبعد تأسيس قسم السياسة الدولية يف جامعة أبرييستويث‪ ،‬تأسس املعهد‬
‫املليك للشؤون الدولية؛ الذي يشار إليه عادة باسم تشاتام هاوس‪ ،‬يف العام ‪1920‬‬
‫(‪ )Olson, 1972‬وبدأ يف نرش مجلته «الشؤون الدولية» يف العام ‪ .1922‬وتأسس‬
‫كريس إرنست كاسل للعالقات الدولية يف العام ‪ 1924‬يف كلية لندن لالقتصاد‪ ،‬وكان‬
‫فيليب نويل بيكر هو أول من شغل هذا املنصب‪َ .‬ت ِب َع ذلك قسم كامل للعالقات‬
‫الدولية يف الكلية نفسها يف العام ‪ ،1927‬حيث أصبح كريس إرنست كاسل هو كريس‬
‫مونتاج بريتون بدءا من العام ‪(1936‬٭٭)‪ .‬ويف العام ‪ُ 1930‬أنشئ كريس مونتاج‬
‫بريتون للعالقات الدولية يف جامعة أكسفورد‪.‬‬
‫كان إضفاء الطابع املؤسيس عىل العالقات الدولية خالل سنوات ما بني الحربني‬
‫العامليتني يف الواليات املتحدة أكرث غزارة‪ ،‬وقد اشتمل ذلك عىل إنشاء أقسام ومعاهد‬
‫ومراكز فكر يف العالقات الدولية‪.‬‬
‫ففي العام ‪ 1918‬تأسست رابطة عصبة األمم الحرة لدعم ُم ُثل ويلسون عن‬
‫«السالم العادل»‪ ،‬وكان من بني مؤسسيها جون فوسرت داالس وإليانور روزفلت‪.‬‬
‫وشهد العام ‪ 1921‬إنشاء مجلس العالقات الخارجية الذي تأسس مبهمة «تحمل‬
‫عقد مؤمتر مستمر بشأن املسائل الدولية التي تؤثر يف الواليات املتحدة‪ ،‬من خالل‬
‫الجمع بني الخرباء يف فن الحكم والتمويل والصناعة والتعليم والعلوم»(٭٭٭)‪ .‬وكان‬
‫‪) www.aber.ac.uk/en/interpol/about/history/ (Accessed 29 September 2017).‬٭(‬
‫‪)http://blogs.lse.ac.uk/internationalrelations/201726/04//foundation-and-history-of-the-‬٭٭(‬
‫‪international-relations-department/ (Accessed 29 September 2017).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬
‫‪) www.cfr.org/who-we-are (Accessed 29 September 2017).‬٭٭٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫مجلس العالقات الخارجية «منزال شقيقا» لشاتام هاوس بلندن‪ ،‬وباملثل عمل كمركز‬
‫فكر ُم َوجه للسياسة (‪َ .)Olson, 1972: 13‬ت ِب َع ذلك يف العام ‪ 1923‬إعادة تشكيل‬
‫رابطة عصبة األمم الحرة لتصبح جمعية السياسة الخارجية‪ ،‬والتي كانت تقدمية‬
‫إىل حد ما وكانت مبنزلة بديل ملجلس العالقات الخارجية ذي التوجه املحافظ‬
‫(‪ .)Vitalis, 2005: 175‬واشتملت املنشورات الرئيسة الصادرة عن الجمعية عىل‬
‫تقارير السياسة الخارجية؛ ونرشة السياسة الخارجية؛ وسلسلة العناوين الرئيسة‪.‬‬
‫سلكت الجامعات طريق معاهد البحث يف هذا املوضوع‪ .‬ففي العام ‪1919‬‬
‫أطلقت جامعة جورجتاون مدرسة والش إدموند للخدمة الخارجية‪ ،‬كام ُأسست‬
‫لجنة العالقات الدولية بجامعة شيكاغو يف العام ‪ 1928‬من قبل كوينيس رايت‬
‫وهانز مورغنثاو‪ ،‬و َتزْعُ م أنها «أقدم برنامج دراسات عليا يف أمريكا يف الشؤون‬
‫الدولية»(٭)‪ .‬تبع ذلك يف العام ‪ 1930‬إنشاء جامعة برينستون ملدرستها للشؤون‬
‫(س ِميت الحقا باسم وودرو ويلسون يف العام ‪ .)1948‬وتأسست‬ ‫العامة والدولية ُ‬
‫كلية فليترش للقانون والديبلوماسية بجامعة تافتس يف العام ‪ .1933‬ويف العام‬
‫‪ 1935‬تأسس معهد ييل للدراسات الدولية بقيادة نيكوالس سبيكامن ‪Nicholas‬‬
‫‪ Spykman‬وفريدريك دون ‪(Frederick Dunn‬٭٭)‪ ،‬ويف العام ‪ُ 1936‬أنشئت كلية‬
‫الدراسات العليا لإلدارة العامة يف جامعة هارفارد‪ .‬وقد تأسست كلية الدراسات‬
‫الدولية املتقدمة يف العام ‪ 1943‬يف واشنطن العاصمة (أصبحت جزءا من جامعة‬
‫جونز هوبكنز يف العام ‪ .)1950‬يالحظ شميدت (‪ )1998a: 155–7‬أنه بحلول‬
‫أوائل الثالثينيات من القرن العرشين يف الواليات املتحدة‪ ،‬كان هناك ‪ 204‬مقررات‬
‫جامعية بشأن العالقات الدولية‪ ،‬و‪ 67‬بشأن املنظمة الدولية‪ ،‬و‪ 196‬بشأن القانون‬
‫الدويل‪ ،‬والعديد من الكتب املدرسية لحقل العالقات الدولية لالختيار من بينها‪.‬‬
‫وكان من املعامل البارزة األخرى إنشاء معهد عالقات املحيط الهادئ يف العام‬
‫‪ 1925‬يف هونولولو؛ «أول مركز دراسات إقليمي رسمي يف الواليات املتحدة»‬
‫‪) https://cir.uchicago.edu/content/about (Accessed 29 September 2017).‬٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬
‫(٭٭) ُأغ ِلق املعهد يف العام ‪ 1951‬بعد هروب جامعي للكلية إىل برينستون بعد مواجهة مشاكل مع رئيس جامعة‬
‫ييل الجديد‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫(‪ .)Vitalis, 2005:177‬وعىل عكس مجلس العالقات الخارجية‪ ،‬سعى معهد‬


‫عالقات املحيط الهادئ إىل أن يكون تجمعا أكرث شموال‪ ،‬إذ كان يتألف من املجالس‬
‫الوطنية لدول املحيط الهادئ‪ ،‬عىل الرغم من هيمنة املجلس القومي األمرييك‬
‫(املعهد األمرييك لعالقات املحيط الهادئ) يف املامرسة العملية‪ .‬وقد عقد املعهد‬
‫مؤمترات يف اليابان (‪ )1929‬والصني (‪ .)1931‬وكان للنزعة املثالية الويلسونية تأثري‬
‫قوي فيه مثلام انعكس ذلك يف مجلته الرئيسة «شؤون املحيط الهادئ» ‪Pacific‬‬
‫‪ .Affairs‬ويف العام ‪ 1926‬أنشأ مجلس أبحاث العلوم االجتامعية أول لجانه‬
‫االستشارية للعالقات الدولية‪.‬‬
‫عىل الرغم من أن اإلجراءات الرئيسة املتعلقة بإضفاء الطابع املؤسيس عىل‬
‫حقل العالقات الدولية حصلت يف بريطانيا والواليات املتحدة‪ ،‬غري أنه كان‬
‫مثة أيضا تطورات أوسع يف أماكن أخرى‪ ،‬ولكنها يف األغلب كانت أقل زخام‪.‬‬
‫حيث ُق ِّلد تشاتام هاوس ومجلة الشؤون الدولية عىل نطاق واسع يف أجزاء من‬
‫أوروبا (بداية يف أملانيا يف العامني ‪ 1921‬و‪ ،1923‬ثم يف املجر وبولندا والدمنارك‬
‫وتشيكوسلوفاكيا)؛ واإلمرباطورية الربيطانية (أسرتاليا وجنوب أفريقيا والهند‬
‫ونيوزيلندا) (‪ .)Riemens, 2011: 914–16‬كام ُأسس املعهد العايل للدراسات‬
‫الدولية يف جنيف يف العام ‪.1927‬‬
‫ْ‬
‫مل تشهد سنوات ما بني الحربني العامليتني َمأ َس َسة عىل شاكلة الجمعيات‬
‫األكادميية القابلة للعضوية الخاصة بحقل العالقات الدولية‪ ،‬والتي أصبحت سمة‬
‫من سامت هذا املجال الدرايس يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية‪ .‬وبدال من‬
‫ذلك‪ ،‬كان الرتكيز الرئيس ينصب عىل مجموعة متنوعة من لجان التنسيق الوطنية‬
‫بشأن العالقات الدولية‪ ،‬وخاصة منها األوروبية واألمريكية‪ ،‬والتي كانت تعمل من‬
‫خالل املعهد الدويل للتعاون الفكري يف باريس‪ .‬كان هذا املعهد تحت رعاية فرنسية‬
‫ولكنه كان مرتبطا بعصبة األمم‪ .‬حيث سهل هذا املعهد من العام ‪ 1928‬حتى‬
‫الحرب العاملية الثانية من عقد املؤمتر السنوي للدراسات الدويل (‪ ،)ISC‬والذي‬
‫بث يف مواضيع مختلفة ونرش العديد من التقارير عن أعامله‪ .‬يف البداية‪ ،‬كان‬
‫يطلق عليه مؤمتر مؤسسات الدراسة العلمية للعالقات الدولية‪ ،‬وهي التسمية التي‬
‫جسدت عىل نحو أكرث دقة هيكله الفدرايل ومسؤولياته‪ .‬حيث حوى مندوبني من‬ ‫َّ‬
‫‪140‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫عديد من البلدان‪ ،‬وازداد عدد املشاركني يف املؤمتر إىل أكرث من مائة‪ .‬ك َّرس املؤمتر‬
‫السنوي للدراسات الدولية (‪ )ISC‬كثريا من وقته ملحاولة تحديد نطاق ومحتوى‬
‫تخصص العالقات الدولية الجديد‪ .‬وعىل رغم أن هذا املؤمتر عُ ِّلقَ خالل الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬فإنه ُأعيد إحياؤه من جديد فرتة وجيزة بعد ذلك‪ ،‬لينتهي يف العام‬
‫‪ .)Long, 2006 ; Riemens, 2011( 1954‬كان للمؤمتر السنوي للدراسات الدولية‬
‫دور رائد يف إضفاء الطابع املؤسيس عىل حقل العالقات الدولية األكادميي الذي‬
‫انطلق خالل الخمسينيات من القرن العرشين‪ .‬وكان هذا املؤمتر السنوي خاضعا‬
‫لهيمنة أمريكية‪ /‬أوروبية‪ /‬أصحاب البرشة البيضاء عىل نحو أسايس‪ ،‬مع وجود‬
‫هيئات وطنية يف عضويته‪ ،‬عىل الرغم من أنه كان يضم مندوبني من الهند والصني‬
‫ومرص واليابان وتركيا كانوا قد شاركوا فيه أيضا (‪.)Riemens, 2011: 920‬‬
‫إن التطور املثري لالهتامم يف كل هذا يكمن يف دور املؤسسات األمريكية يف‬
‫متويل مسارات املأسسة املبكرة لحقل العالقات الدولية (‪ .)Kuru, 2017‬كان لهذه‬
‫املؤسسات نظرة عاملية ليربالية عىل نطاق واسع‪ ،‬وكانت تعارض االنعزالية األمريكية‬
‫وأرادت تعزيز «مقاربة هندسية» عملية يف العلوم االجتامعية –‪(Kuru, 2017: 50‬‬
‫)‪ .3‬لقد مول كل من روكفلر وكارنيجي اجتامعات املؤمتر السنوي للدراسات الدولية‬
‫(‪ :)ISC‬مول كارنيجي كرايس حقل العالقات الدولية يف برلني وباريس يف منتصف‬
‫عرشينيات القرن املايض؛ بينام مول روكفلر معهد السياسة الخارجية يف هامبورغ‬
‫يف العام ‪ 1923‬ومعهد ييل للدراسات الدولية يف العام ‪ .1935‬وهكذا‪ ،‬يف الوقت‬
‫الذي ابتعدت فيه السياسة األمريكية عن املسؤوليات الدولية‪ ،‬كانت املؤسسات‬
‫الرأساملية األمريكية تفعل بالعكس‪.‬‬
‫وعىل رغم تطور مسار مأسسة حقل العالقات الدولية‪ ،‬مل يكن مثة اتفاق بشأن‬
‫اسم هذا التخصص املعريف‪ .‬فكان كريس جامعة أبرييستويث ُيسمى بكريس «السياسة‬
‫الدولية» وليس «العالقات الدولية»‪ .‬آخرون مثل إدوارد كار وهانز مورغنثاو‪،‬‬
‫استخدموا أيضا مصطلح «السياسة الدولية»‪ ،‬وكان مصطلح «الدراسات الدولية»‬
‫يؤدي دورا قويا أيضا‪ .‬حيث عُ د حقل العالقات الدولية فرعا من العلوم السياسية‬
‫كام هو واضح يف الواليات املتحدة ‪(Schmidt, 1998a: 55; L. Ashworth,‬‬
‫)‪ ،2014: 13; Kuru, 2017: 46‬ومثلث مصطلحات «السياسة الدولية» و«السياسة‬
‫‪141‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫العاملية» التسميات األكرث وضوحا‪ .‬كام حملت بعض الكتب املبكرة مصطلح‬
‫«العالقات الدولية» يف عناوينها‪ ،‬مثل كتاب غرانت وآخرين «مقدمة لدراسة‬
‫العالقات الدولية» ‪Introduction to the Study of International Relations‬‬
‫)‪ ،(1916‬وكتاب ديفيد باليفري هيتيل «الديبلوماسية ودراسة العالقات الدولية»‬
‫)‪ ،Diplomacy and the Study of International Relations (1919‬وكتاب‬
‫إدموند والش «تاريخ وطبيعة العالقات الدولية» ‪The History and Nature of‬‬
‫)‪ .International Relations (1922‬تناولت هذه الكتب مواضيع متنوعة مبا يف‬
‫ذلك االقتصاد والتاريخ والقانون‪ ،‬لكنها ركزت عىل نحو خاص عىل الديبلوماسية‪.‬‬
‫وقد كتب الباحث األمرييك رميوند ليزيل بويل ‪ Raymond Leslie Buell‬يف العام‬
‫‪ 1925‬كتابا بعنوان «العالقات الدولية» ‪ ،International Relations‬ورمبا كان‬
‫أول كتاب مدريس عن العالقات الدولية‪ .‬وخالل ذلك الوقت‪ ،‬كان هذا الكتاب‬
‫املدريس األمرييك يعد األكرث مبيعا‪ ،‬حيث كان مخصصا ألحد فروع علم السياسة‪،‬‬
‫أي العالقات الدولية (‪ .)Vitalis, 2005: 159‬كام أن نص فريدريك لويس شومان‬
‫‪ Frederick Schuman‬يف العام ‪ 1933‬جاء أيضا تحت عنوان «السياسة الدولية»‬
‫(‪.)Schmidt, 1998a: 213‬‬

‫‪َ -1-2‬‬
‫األ ْط َراف‬
‫مل نتمكن من العثور عىل دليل ملأسسة حقل العالقات الدولية يف أمريكا‬
‫الالتينية أو أفريقيا أو الرشق األوسط‪ ،‬عىل الرغم من أن هذه قد تكون فرصة‬
‫بحثية لآلخرين‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬كانت مثة تطورات مهمة جارية يف اليابان‪ ،‬وبدرجة‬
‫أقل يف الهند والصني‪ ،‬ورمبا أيضا يف أماكن أخرى‪ .‬لقد الحظنا أعاله أن مندوبني من‬
‫الهند والصني ومرص واليابان وتركيا شاركوا يف املؤمتر السنوي للدراسات الدولية‬
‫(‪ ،)ISC‬وهذه الحقيقة تشري إىل أن تلك البلدان كان لديها َم ْأ َس َسة ِبدَا ِئية لحقل‬
‫العالقات الدولية‪ .‬واملنطق نفسه ينطبق عىل مؤمترات «معهد عالقات املحيط‬
‫الهادئ» التي عُ قدت يف اليابان (‪ )1929‬والصني (‪ .)1931‬يستشهد مايكل رمينز‬
‫)‪ Michael Riemens (2011: 925‬بدراسة لعصبة األمم ُصنفت فيها اليابان يف‬
‫الطبقة الثانية من الدول (بعد بريطانيا والواليات املتحدة يف الدرجة األوىل‪ ،‬وإىل‬
‫‪142‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫جانب أسرتاليا وفرنسا وإيطاليا وكندا)‪ ،‬من حيث الجودة وعمق وإضفاء الطابع‬
‫املؤسيس عىل دراسات حقل العالقات الدولية الخاص بها؛ وجاءت الهند يف املرتبة‬
‫الثالثة بني اليابان والصني؛ فيام احتلت الصني املرتبة الرابعة‪ ،‬مام يعني أن بعض‬
‫خرباء العالقات الدولية «األفراد» كانوا نشطني يف هذا املجال‪ ،‬ولكن مع القليل من‬
‫املأسسة أو دونها‪.‬‬
‫ويف اليابان كان مثة مؤسسات ُت َد َّر ُس فيها «السياسة الدولية»‪ ،‬مثل كلية وكريس‬
‫جامعة طوكيو (التي كانت ُتسمى آنذاك جامعة طوكيو اإلمرباطورية) والتي تأسست‬
‫يف العام ‪1924‬؛ وجامعة واسيدا ‪ Waseda University‬التي قدمت مقررا دراسيا يف‬
‫العام ‪ .)Kawata and Ninomiya, 1964:193–4( 1932‬ويف الهند كان أول معهد‬
‫مخصص لدراسة حقل العالقات الدولية هو املعهد الهندي للشؤون الدولية الذي‬
‫شكلته الحكومة الربيطانية يف ثالثينيات القرن العرشين‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ُ ،‬أنشئ هذا‬
‫املعهد و ُك ِّون من طرف أعضاء من السلطات االستعامرية‪ .‬وكان رد النخبة املثقفة‬
‫الهندية هو إنشاء مركز فكر ُسمي باملجلس الهندي للشؤون العاملية (‪ )ICWA‬يف‬
‫نواح عديدة نشأة‬‫العام ‪ ،1943‬والذي كام أوضحنا يف الفصل السادس شكل من ٍ‬
‫تطور تخصص العالقات الدولية يف الهند‪.‬‬
‫إن قصة حقل العالقات الدولية بني الحربني العامليتني يف الصني مثرية للجدل‬
‫والتزال خاضعة للبحث‪ .‬يتخذ معظم الباحثني؛ الذين يتتبعون تأريخ حقل العالقات‬
‫الدولية يف الصني‪ ،‬يف العام ‪ 1949‬كنقطة انطالق لهم (‪Song, 2001 ; Zhang, F.,‬‬
‫‪ .)2012a‬غري أنهم تجاهلوا حقيقة وجود حقل للعالقات الدولية يف الصني خالل‬
‫فرتة ما قبل الشيوعية‪ .‬إذ إن معظم الباحثني الصينيني ال يدركون بعدُ هذا اإلرث‪.‬‬
‫إن تطور العالقات الدولية يف الصني يف فرتة ما قبل الحرب العاملية الثانية محجوب‬
‫بالتطورات السياسية ملا بعد الثورة الشيوعية للعام ‪ .1949‬حيث ُيحاجج لو بينج‬
‫(‪ Lu Peng )2014‬بأن مجال الدراسات الدولية كان راسخا يف الصني خالل فرتة‬
‫النظام القومي وذلك مبساعدة الباحثني الذين مترسوا يف الغرب‪ ،‬ولكن بعد الثورة‬
‫الشيوعية‪ ،‬تخىل الباحثون عن ذلك اإلرث‪ .‬لقد اتبع حقل العالقات الدولية يف‬
‫الصني قبل العام ‪ 1949‬موضوعات ومقاربات؛ من قبيل القانون والتنظيم الدوليني‪،‬‬
‫كانت شائعة يف الغرب‪ ،‬مع وجود جامعات مثل جامعة تسينغهوا ‪University‬‬
‫‪143‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪( Tsinghua‬التي أصبحت ُتسمى بعد ذلك بجامعة تسينغهوا الوطنية)؛ وجامعة‬
‫بكني؛ وجامعة سانت جون يف شنغهاي (أسسها مساعدون أمريكيون يف العام‬
‫‪ 1879‬ولكن أغلقتها الحكومة يف العام ‪ ،)1952‬حيث أخذت هذه الجامعات زمام‬
‫املبادرة يف هذا املجال‪ .‬يف تلك الجامعات كان مثة تركيز واضح عىل دراسة مكانة‬
‫الصني يف العامل وعالقات الصني مع العامل‪ ،‬مع العلم أن تخصص العالقات الدولية‬
‫ظل منفصال عن السياسة الصينية الداخلية‪ ،‬عىل رغم وجوده يف أقسام العلوم‬
‫السياسية (‪.)Lu, 2014‬‬

‫‪ - 2‬تفكري حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز‬


‫لقد كان لهيمنة العامل الناطق باللغة اإلنجليزية ‪ Anglosphere‬عىل مسار‬
‫إضفاء الطابع املؤسيس عىل العالقات الدولية تكلفة معينة‪ .‬ومثلام أشار إىل ذلك‬
‫شميدت بحق (‪ ،)1998a: 13‬فقد «اصطبغت الدراسة األكادميية للعالقات الدولية‬
‫األفق للربيطانيني‪ ،‬وخصوصا لألمريكيني»(٭)‪ .‬وقد متخض عن هذه‬ ‫بالتفكري الضيق ُ‬
‫النظرة الضيقة «أسطورة» تأسيسية أخرى لحقل العالقات الدولية متثلت يف «النقاش‬
‫الكبري» بني النزعتني الواقعية واملثالية خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني‪ .‬إن‬
‫النقاش من هذا القبيل الذي ُن ِّظم باعتباره لعبة صفرية بني موقفني غري متوافقني‪،‬‬
‫ُكشف زيفه إىل حد كبري ‪(Schmidt, 1998a; Wilson, 1998; L. Ashworth,‬‬
‫)‪ .2014: 134–7‬لقد تحدى شميدت التوصيف الواسع النطاق لتطور حقل العالقات‬
‫الدولية بني الحربني العامليتني باعتباره أحد األمثلة عىل هيمنة النزعة املثالية‪ .‬حيث‬
‫يشري إىل تعددية اآلراء ووجهات النظر خالل فرتة بني الحربني العامليتني يف كل من‬
‫أوروبا وأمريكا الشاملية‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬حاجج غولدسوريث لويس ديكنسون‬
‫‪ ،G. Lowes Dickinson‬عىل رغم أنه ُينظر إليه باعتباره مثاليا‪« ،‬بالطريقة نفسها‬
‫التي حاجج بها الواقعيون الجدد؛ عىل أن وجود دول مستقلة ذات سيادة ال تعرتف‬
‫(٭) لقد أوضح أولسون وجرووم (‪ )Olson and Groom 1991: 74–5‬نقطة جيدة مفادها أن‪ ...« :‬يف الدول‬
‫االستبدادية ال ميكن أن توجد دراسة العالقات الدولية أو السياسة الخارجية إال كتفسري وتربير لسياسة الدولة»‪.‬‬
‫ويقدم هذا بعض التفسري لهيمنة األنجلوسفري‪ ،‬والدميوقراطيات الغربية‪ ،‬عىل حقل العالقات الدولية‪ ،‬وهو يشء وثيق‬
‫الصلة بقصة اليابان املذكورة سابقا‪ ،‬وباالتحاد السوفييتي وأيضا بقصة الصني يف فرتات الحقة‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫بأي سلطة أعىل منها كان السبب األكرث أهمية لنشوء الحرب» ‪(Schmidt, 1998b:‬‬
‫)‪ .444‬لقد كان «الطوباويون» ُمدركني متاما جانب سياسة القوة يف حقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬وكانوا يحاولون إيجاد طرق للسيطرة عليها وإدارتها ‪(Long and Wilson,‬‬
‫)‪ .1995 ; Wilson, 1998; L. Ashworth, 2002‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬يوضح بيرت‬
‫ويلسون (‪ )1998‬أنه عىل الرغم من تعرضه النتقادات شديدة عندما ُنرش للمرة‬
‫األوىل يف العام ‪ ،1939‬فإن كتاب إدوارد كار «أزمة العرشين سنة» ‪The Twenty‬‬
‫‪ Years’ Crisis‬طرح نقاشا قويا كان له تأثري كبري يف ذلك الوقت‪ ،‬وأيضا يف فرتة ما‬
‫بعد العام ‪ .1945‬وكبقية كل هذه األساطري‪ ،‬مل يكن النقاش املثايل ‪ -‬الواقعي بال‬
‫عواقب أو من دون قيمة‪ .‬ومثلام أشار إىل ذلك سكوت بورشيل ‪Scott Burchill‬‬
‫وأندرو لينكالتر )‪ Andrew Linklater (2013: 9‬فإن «أسطورة النقاش الكبري‬
‫بني الواقعيني واملثاليني أعطت للتخصص املعريف للعالقات الدولية هويته خالل‬
‫السنوات التي أعقبت الحرب العاملية الثانية»‪ .‬ومن ثم فإن النقاش الكبري األول ُي َعد‬
‫بناء لحقل العالقات الدولية بعد العام ‪ 1945‬أكرث من كونه متثيال ملا حدث خالل‬
‫سنوات ما بني الحربني العامليتني (‪.)L. Ashworth, 2014: 134–7‬‬
‫ولفهم هذا «النقاش الكبري األول»‪ ،‬من املهم مرة أخرى أن نأخذ بعني االعتبار‬
‫الصلة القامئة بني العالقات الدولية كمامرسة؛ وحقلها املعريف‪ .‬لقد نشأ التخصص‬
‫املعريف الجديد لحقل العالقات الدولية يف أعقاب كارثة الحرب العاملية األوىل‬
‫التي أطاحت باإلمرباطوريات؛ وسببت إفالس األمم؛ ودمرت جيال من الشباب‪.‬‬
‫لقد جرى خوض الحرب (يف النهاية) من قبل بريطانيا والواليات املتحدة تحت‬
‫شعار «الحرب ألجل إنهاء الحرب»‪ ،‬وكان حقل العالقات الدولية الجديد مدفوعا‬
‫عىل نحو كبري بهذا الهدف‪ .‬لقد سعى إىل فهم أسباب الحرب العاملية األوىل من‬
‫خالل الديبلوماسية الرسية وسباق التسلح وتوازن القوى‪ .‬وخالل لعبة الشوطني‬
‫التي كانت قامئة يف أثناء فرتة ما بني الحربني العامليتني (انظر الفصل الثالث)‪،‬‬
‫هيمنت عىل النصف األول اآلمال املعلقة عىل عصبة األمم إليجاد إمكانية لحل‬
‫إشكالية الحرب عن طريق التحكم يف األسلحة؛ وتنوير الرأي العام واملؤسسات‬
‫الحكومية الدولية‪ .‬يف الشوط الثاين‪ ،‬وعندما كانت هذه اآلمال تتداعى‪ ،‬أعادت‬
‫حقائق سياسات القوة تأكيد نفسها من جديد‪ .‬وبينام مل يكن مثة «نقاش كبري»‬
‫‪145‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫عىل هذا النحو خالل هذه الفرتة‪ ،‬كان هناك بالتأكيد مجموعة واسعة من اآلراء‬
‫بشأن كيفية التعامل مع إشكالية الفوىض يف أعقاب الحرب العاملية األوىل‪.‬‬
‫تراوحت تلك اآلراء بدءا من أولئك اآلملني أن يشكل الرأي العام قوة جديدة‬
‫يف مواجهة الحرب؛ ومرورا بأولئك الذين ع َّلقوا اآلمال عىل قدرة املؤسسات‬
‫الحكومية الدولية القوية يف التوسط إليجاد حلول ألسباب الحرب؛ ووصوال إىل‬
‫أولئك الذين كانوا يتطلعون إىل توازن القوى عىل الرغم من فشله خالل العام‬
‫‪ .1914‬وخالل العرشينيات من القرن العرشين‪ ،‬كان ألولئك الذين ينتمون إىل‬
‫الطرف الليربايل من هذا الطيف (وحتى االشرتايك إىل حد ما) سيطرة عىل حقل‬
‫العالقات الدولية(٭)‪ .‬وكام ُذكر عن السري ألفريد زميرن ‪Sir Alfred Zimmern‬؛‬
‫أول حائز كريس وودرو ويلسون يف أبرييستويث والباحث الذي كان ميثل الهدف‬
‫الرئيس النتقادات إدوارد كار‪ ،‬قوله‪:‬‬
‫«لقد كان مثة حالة هلع عُ ِّ َرِّب عنها عن طريق إنشاء كريس وودرو ويلسون‬
‫للسياسة الدولية يف كلية جامعة ويلز أبرييستويث يف العام ‪ ،1919‬وهو أول كريس‬
‫جامعي عىل اإلطالق يف العامل‪ .‬يكشف هذا الكريس الجامعي بوضوح كيف أن‬
‫النزعة التفاؤلية والنزعة املثالية العاملية الجديدة الشجاعة املرتبطة بالفرتة املبارشة‬
‫التي أعقبت الحرب؛ ركزتا عىل إنشاء عصبة األمم الجديدة يف مؤمتر باريس للسالم‬
‫يف العام ‪ .1919‬وقد عكست تسمية الكريس بعد ويلسون حقيقة أن فكرة عصبة‬
‫األمم كانت يف الواقع فكرة أنجلو‪-‬أمريكية» (‪.)Morgan, 2012‬‬
‫جسد ألفريد زميرن مثاال جيدا عن التفاعل العميق الدائم بني مفكري حقل‬ ‫َّ‬
‫العالقات الدولية وأولئك الذين كانوا يدافعون عن عصبة األمم ويروجون لها‪ .‬فخالل‬
‫وجمع الجدل الذي‬ ‫الثالثينيات أصبحت األصوات الواقعية املتعالية أقوى من قبل‪َّ .‬‬
‫أحدثه إدوارد كار الليرباليني معا تحت مسمى ُّ‬
‫«الطو َبا ِويني» و«املثاليني»‪ ،‬والذين‪،‬‬
‫كام الحظ ويلسون (‪ ،)1998: 1‬كانوا أكرث بقليل من «فئة واقعية سيئة االستغالل»‪.‬‬
‫(٭) وكام يشري لوسيان أشوورث (‪ :)Lucian Ashworth 2014: 147–71‬كانت املواقف تجاه عصبة األمم أكرث‬
‫تعقيدا من أي انقسام بسيط بني اليسار واليمني‪ .‬فقد كان عديد من املحافظني من املؤيدين األقوياء لعصبة األمم‪،‬‬
‫كام عارضها كثريون يف اليساريني‪ .‬إذ إنه من املستحيل استخالص أي انقسام بسيط بني الواقعيني‪ /‬املثاليني من‬
‫السياسة الفعلية لليوم‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫كان تأثري عمل إدوارد كار بعد العام ‪ 1945‬أكرث مام كان عليه خالل سنوات‬
‫ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬وقد فعل هذا العمل الكثري لتأسيس وجهة نظر واقعية‬
‫مفادها أن املشاريع «الطوباوية» للسيطرة عىل الحرب كانت حمقاء وخطرية‪ .‬لكن‬
‫تجسد يف بعض النواحي طبيعة حقل العالقات‬ ‫فكرة «النقاش الكبري األول» كانت ِّ‬
‫الدولية الجديد‪ ،‬خصوصا أنه يشتبك مع اإلشكالية التي كشفت عنها الحرب العاملية‬
‫األوىل واملتمثلة يف أن التصنيع جعل الحرب مكلفة ومدمرة للغاية بحيث ال ميكنها‬
‫أن تكون أداة عادية لسياسات القوى الكربى‪ .‬لقد ُأسس حقل العالقات الدولية يف‬
‫وقت كان مثة شعو ٌر قوي بني النخب والجمهور بأن العامل (أو عىل نحو أكرث دقة‬
‫الحضارة الغربية) كان يف أزمة‪ ،‬مع وجود فرص حقيقية لحصول كارثة أو إنشاء‬
‫نظام عاملي جديد (‪ .)L. Ashworth, 2014: 138‬مثة الكثري من الكتابات بشأن نقد‬
‫إدوارد كار للنزعة الطوباوية (ومختلف تفسرياتها الخطأ) إىل درجة أنه ليس من‬
‫الرضوري يف هذا السياق إعادة النظر فيها بيشء من التفصيل (‪.)M. Cox, 2001‬‬
‫حيث تم فيها تحدي تصنيف إدوارد كار باعتباره واقعيا ُم َ‬
‫عرَتَفا به‪ .‬فإدوارد كار كان‬
‫ينتقد يف بعض األحيان النزعة الواقعية بقدر ما كان ينتقد النزعة املثالية‪ُ ،‬محاججا‬
‫بأن «االنحدار املفاجئ من قمة اآلمال الحكيمة للعقد األول [‪ ]1929-1919‬نحو قاع‬
‫اليأس الكئيب للعقد الثاين [‪ ]1939-1929‬كان عالمة عىل التحول «من الطو َبا ِوية‬
‫التي مل تأخذ بعني االعتبار الواقع إال قليال‪ ،‬إىل الواقع الذي استُبعد فيه‪ ،‬وعىل نحو‬
‫صارم‪ ،‬كل عنرص من عنارص تلك الطو َبا ِوية» (‪.)Carr, [1939] 2016: 207‬‬
‫ففي نقده للطو َبا ِوية‪ ،‬استهدف إدوارد كار عىل نحو خاص مبدأ «انسجام‬
‫املصالح»‪ ،‬ومذهب التجارة الحرة واملؤسسات الدولية التي كانت متثلها آنذاك عصبة‬
‫األمم وعقيدتها األساسية لألمن الجامعي‪ .‬إذ حاجج بأنه قد ُأعيد من خالل كتابات‬
‫«الطو َبا ِو َيني»‪ ،‬من أمثال نورمان أنجيل ‪ ،Norman Angell‬تقديم عقيدة «دعه‬
‫يعمل» التي ع َّفى عليها الزمن بعد الحرب العاملية األوىل يف شكل مبدأ «انسجام‬
‫املصالح» (‪ ،)Carr, [1939] 2016: 49‬خصوصا يف الواليات املتحدة‪ .‬وقد عُ د هذا‬
‫غري عميل بل وخطريا‪ .‬شدد إدوارد كار عىل تبني النزعة الواقعية بديال من ذلك‪.‬‬
‫وعىل الرغم من أن عمله م َّثل عىل نحو أسايس رفضا للمثالية الويلسونية التي َن َّبأت‬
‫بالكثري عن تطور العالقات الدولية يف فرتة ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬فإنه كان يعتقد‬
‫‪147‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أن السياسة هي مزيج من القوة واألخالق‪ .‬إذ ميكن املغاالة يف درجة االختالف بني‬
‫النزعتني املثالية والواقعية‪ :‬فهام مل يتضمنا اختالفات جوهرية بشأن الرؤية للعامل‪.‬‬
‫وخالل التفسريات‪ /‬إعادة التفسريات الحديثة ُأعيد تصنيف السري ألفريد زميرن‬
‫باعتباره « ِم َثاليا َح ِذرا»‪ ،‬وهو الذي اختلف مع‪ /‬وانتقد الطوباويني واالشرتاكيني األكرث‬
‫تطرفا من أمثال هارولد السيك ‪ ،Harold Laski‬ومل يتجاهل أهمية القوة وأولوية‬
‫القوى الكربى‪ ،‬واعرتف بحدود وإخفاقات عصبة األمم (‪.)Rich, 1995‬‬
‫إن معظم األمثلة التي قدمها إدوارد كار عن مغالطات النزعة الطو َبا ِوية‬
‫ومنطق النزعة الواقعية مستمدة من التجربة األوروبية‪ .‬فحجته القائلة بأن‬
‫نظرية العالقات الدولية املبكرة كانت مثالية يف جزء منها ألنها نشأت يف البلدان‬
‫الناطقة باللغة اإلنجليزية (الواليات املتحدة واململكة املتحدة) التي مل «تستفد»‬
‫مطلقا من الحرب (‪ ،)Carr, [1939] 2016: 50‬قد تبدو حجة موضع اعرتاض‬
‫ورفض ملن هم خارج الغرب‪ .‬فقد رأى ضحايا االستعامر الغريب أن بريطانيا‬
‫وكذلك القوى االستعامرية األخرى يف أوروبا قد استفادت عىل نحو كبري من‬
‫الحروب االستعامرية‪.‬‬
‫ضمن هذا الهوس بشأن كيفية التعامل مع إشكالية حرب القوى الكربى‪،‬‬
‫استمرت جميع املوضوعات واملقاربات التي م َّيزت حقل العالقات الدولية قبل العام‬
‫‪ 1914‬يف أداء دورها‪ .‬ومل يكن هذا أمرا مفاجئا نظرا إىل أن العديد من الشخصيات‬
‫الرئيسة يف حقل العالقات الدولية قبل العام ‪ 1914‬ظلت نشطة خالل سنوات ما بني‬
‫الحربني‪ :‬جون أتكينسون هوبسون؛ وهالفورد ماكندر ‪Mackinder‬؛ ونورمان أنجيل‬
‫وغريهم (‪ .)L. Ashworth, 2014: 137‬وإىل الحد الذي كانت فيه «املثالية» ليربالية‬
‫يف األساس كام يوحي هجوم إدوارد كار عىل أفكار االنسجام الطبيعي للمصالح‪،‬‬
‫كان النقاش الكبري يدور حول التوتر املستمر القائم بني «عوملة» النزعة الليربالية‬
‫و«املصلحة الوطنية» كام تطرحها النزعة الواقعية‪ .‬فبعد الحرب العاملية األوىل كان‬
‫ُينظر إىل املنطق الواقعي عىل اعتبار أنه ميثل مشكال أكرث من كونه ميثل الحل‪،‬‬
‫مام سمح للتفكري الليربايل بعقد من الهيمنة‪ .‬ولكن عندما أصبحت مقاربة الحرب‬
‫أكرث وضوحا خالل الثالثينيات من القرن العرشين‪ ،‬انعكست تلك املواقف وبلغت‬
‫ذروتها يف الجدال الذي أثاره إدوارد كار‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫لقد أدى الدافع الذي يقف وراء بروز «املثالية» الليربالية خالل عرشينيات‬
‫القرن العرشين إىل إنشاء منظمة دولية كمجال فرعي متميز لحقل العالقات‬
‫الدولية مثلام تطور يف الواليات املتحدة واململكة املتحدة يف فرتة ما بني الحربني‬
‫العامليتني‪ .‬وقد ِصيغ العمل يف املنظمة الدولية بلغة مثالية ومعيارية‪ ،‬وغالبا ما‬
‫اشتمل عملها عىل دراسات وتحليالت متع ِّمقة لعمل ووظائف املنظامت الدولية‪،‬‬
‫مع الرتكيز األسايس عىل عصبة األمم‪ .‬الواقع‪ ،‬يجادل بيتامن بنيامني بوتر ‪Pitman‬‬
‫)‪ B. Potter (1922‬يف كتابه املوسوم بـ «مقدمة لدراسة املنظمة الدولية» ‪An‬‬
‫‪ ،Introduction to the Study of International Organization‬بأن املنظمة‬
‫الدولية التي ُتص ِّورت عىل أنها «إجراء لتسهيل التنسيق واالنسجام الدويل بني‬
‫الدول» تختلف عن السياسة الدولية أو القانون الدويل عىل وجه التحديد‪ ،‬وذلك‬
‫بسبب توجهها املثايل (‪ .)Schmidt, 1998b: 449–52‬إن عدد الكتب التي تبحث‬
‫يف آفاق «حكومة دولية»‪ ،‬ولكنها أيضا تناشدها عىل نحو غري مبارش‪ ،‬مثل كتب‬
‫هوبسون «نحو حكومة عاملية» ‪Towards International Government‬‬
‫)‪(1915‬؛ وليونارد وولف ‪« Leonard Woolf‬الحكومة العاملية» ‪International‬‬
‫)‪Government (1916‬؛ وكاليد إغلتون ‪« Clyde Eagleton‬الحكومة العاملية»‬
‫)‪ ،International Government (1932‬كانت كتبا شاهدة عىل الخط املثايل‬
‫يف املنظمة الدولية‪ .‬وباملثل‪ ،‬ظل مفهوم املجتمع الدويل قويا خالل هذه الفرتة‪.‬‬
‫ومن بني الكتب التي تناولت هذه املقاربة يوجد‪ :‬توماس جوزيف لورانس ‪T. J.‬‬
‫‪« Lawrence‬مجتمع األمم‪ :‬ماضيه وحارضه ومستقبله املمكن» ‪The Society‬‬
‫)‪of Nations: Its Past, Present and Possible Future (1923‬؛ وفيليب‬
‫مارشال براون ‪« Philip Marshall Brown‬املجتمع الدويل‪ :‬طبيعته ومصالحه»‬
‫)‪International Society: Its Nature and Interests (1923‬؛ وس‪.‬ش بييل‬
‫‪« S. H. Bailey‬إطار املجتمع الدويل» ‪The Framework of International‬‬
‫)‪Society (1932‬؛ وفيليكس موريل ‪« Felix Morley‬مجتمع األمم‪ :‬تنظيمه‬
‫وتطوره الدستوري» ‪The Society of Nations: Its Organization and‬‬
‫)‪Constitutional Development (1932‬؛ وألفريد زميرن «عصبة األمم وسيادة‬
‫القانون» )‪.The League of Nations and the Rule of Law (1936‬‬
‫‪149‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫عىل الرغم من اإلهامل الذي شاب إىل حد ما الروايات املتعلقة بالنقاش الكبري‪،‬‬
‫فإن العنرصية «العلمية» والقومية والجغرافيا السياسية مارست جميعها دورا يف‬
‫ذلك النقاش‪ ،‬لينحاز معظمها إىل جانب سياسات القوة الواقعية‪ .‬غالبا ما كانت‬
‫العنرصية والجغرافيا السياسية تعزز كل منهام األخرى مثلام حصل قبل العام ‪.1914‬‬
‫فقد وصلت العنرصية «العلمية» إىل ذروتها خالل هذه الفرتة ال سيام يف الدول‬
‫الفاشية‪ ،‬إذ اندمجت مع القومية املفرطة‪ .‬وظل موقف التسلسالت الهرمية العرقية‬
‫ملا قبل العام ‪1914‬؛ والذي كان يحدد العالقات القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ ،‬من دون‬
‫تغيري إىل حد كبري‪ .‬كام كان التطور الجديد ينحرص يف تكثيف السياسات العرقية‬
‫داخل املَ ْر َكز‪ ،‬ولكن هذه املرة مع متييز للبيض داخل التسلسالت الهرمية العرقية‬
‫وتصنيفهم إىل أعراق آرية والتينية وسالفية‪ .‬لقد أعاد الكتاب املهتمون بقضايا العرق‬
‫والسياسة العاملية‪ ،‬مثل لوثروب ستودارد )‪ ،Lothrop Stoddard (1923: 12‬إحياء‬
‫النقطة التي ُرصدت يف الفصل األول‪ ،‬والتي ترى أن انتصار اليابان عىل روسيا يف العام‬
‫‪ 1905‬كان يعني أن «أسطورة األبيض الذي ال ُيقهر قد فقدت بريقها ومصداقيتها»‪.‬‬
‫وكام يالحظ روبرت فيتاليس )‪ ،Vitalis (2005: 159–60‬فقد كان مثة «طوفان من‬
‫الكتابات الجديدة وعمليات التنظري يف عرشينيات القرن املايض بشأن كل من العرق‬
‫والحرب العرقية»‪ .‬وقد كتب إدوارد دو بويز‪ ،‬الذي تطرقنا إليه يف الفصل الثاين بصفته‬
‫أحد دعاة النزعة الوحدوية األفريقية‪( ،‬عىل سبيل املثال يف مجلة الشؤون الخارجية)‬
‫عن العرق يف العالقات الدولية (‪ُ .)Vitalis, 2005: 172– 3‬يقدم إدوارد دو بويز‬
‫نظرة متبرصة مثرية لالهتامم بشأن انتشار العنرصية يف ذلك الوقت‪ .‬وباعتباره طالبا‬
‫يف جامعة هارفارد‪ ،‬كان عليه أن يكتب يف وقت الحق‪« :‬مل يكن من السهل عىل طالب‬
‫الشؤون الدولية املد َّرب يف املؤسسات البيضاء ومن طرف األيديولوجية األوروبية أن‬
‫يتبع العمل املخفي جزئيا املتعلق باملكائد الدولية‪ ،‬والذي كان يحول اإلمرباطوريات‬
‫االستعامرية إىل خطر املنافسة املسلحة عىل األسواق واملواد الرخيصة والعاملة‬
‫الرخيصة‪ .‬إن املستعمرات مازالت تعني االرتقاء باملستويني الديني واالجتامعي يف‬
‫الدعاية الحالية» ‪.Du Bois, [1940] 1992: 232‬‬
‫يايِل قبل العام ‪ 1919‬وظلت‬ ‫مرِب ِ‬
‫كانت الجغرافيا السياسية أيضا مؤثرة يف التفكري ا ِإل ِ‬
‫كذلك حتى نهاية الحرب العاملية الثانية (‪.)L. Ashworth, 2013; Guzzini, 2013‬‬
‫‪150‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫ففي أملانيا التقط كارل هاوسهوفر ‪ Karl Haushofer‬أعامل كل من ماكيندر وراتزيل ملا‬
‫قبل العام ‪ 1914‬بشأن نظرية قلب األرض وليبنرساوم (مساحة املعيشة) ور َّكب بينهام‪.‬‬
‫إذ أسس مجلة الجغرافيا السياسية ‪ Zeitschrift für Geopolitik‬يف العام ‪،1924‬‬
‫وكان له بعض التأثري يف تفكري هتلر بشأن اإلسرتاتيجية الكربى ألملانيا (‪Ó Tuathail,‬‬
‫‪.)1998: 4, 19– 27; J. M. Hobson, 2012: 154–9; L. Ashworth, 2014:203–6‬‬
‫نشطا مع تبني رؤية تعتمد عىل نحو أقل عىل الحتمية الجغرافية‬ ‫وقد ظل ماكيندر ً‬
‫يف كتابه للعام ‪ 1919‬الذي حمل عنوان «املثل الدميوقراطية والواقع» ‪Democratic‬‬
‫‪ .Ideals and Reality‬يف كتاب آيسايا بومان ‪ IsaiahBowman‬املؤثر يف الواليات‬
‫املتحدة والصادر يف العام ‪ 1921‬واملوسوم بـ «العامل الجديد‪ :‬إشكاليات يف الجغرافيا‬
‫السياسية» ‪ُ ،The New World: Problems in Political Geography‬م ِزج ً‬
‫أيضا بني‬
‫العوامل املادية والعوامل الفكرية يف فهم السياسة العاملية‪ .‬كام ط َّور كل من آيسايا‬
‫انفتاحا‬
‫ً‬ ‫بومان وديرونت ويتلييس ‪ Derwent Whittlesey‬جغرافيا سياسية أكرث‬
‫ملواجهة النسخة األملانية‪ ،‬ولتمهيد الطريق أمام اإلسرتاتيجية الكربى ذات التوجه‬
‫العاملي للواليات املتحدة ملا بعد العام ‪(L. Ashworth, 2014: 141–7, 1945‬‬
‫أيضا‪ ،‬التقط نيكوالس سبيكامن (‪ )1942‬أفكار‬ ‫)‪ .206–9‬ويف الواليات املتحدة ً‬
‫الحتمية الجغرافية وموضوع األرض يف مواجهة القوة البحرية من كل من ماكيندر‬
‫وماهان‪ ،‬وذلك بغية الدفاع عن جيوبوليتيك الرميالند (حافة األرض) ضد مقاربة‬
‫«قلب األرض» القارية ملاكيندر‪ ،‬وأن الواليات املتحدة ال ينبغي أن تعود إىل النزعة‬
‫االنعزالية بعد الحرب العاملية الثانية (‪ .)L. Ashworth, 2014: 206–13‬وقد تأثر‬
‫كل من نيكوالس سبيكامن وكارل هاوسهوفر باألفكار ا ُملتَأتية من الجغرافيا السياسية‬
‫والنزعة العنرصية «العلمية» ملا قبل العام ‪ 1914‬واملرتبطة بحامية األعراق البيضاء‬
‫واستخدام االحتواء اإلمرباطوري ملنع «الخطر األصفر» من االستيالء عىل الغرب‪ .‬مل ير‬
‫املفكرون اآلخرون التهديد نفسه قاد ًما من الرشق كام فعل ماكيندر وماهان‪ .‬حيث‬
‫يصف جيمس تايرن (‪ )1999: 58‬العلامء الجيوسياسيني مبا يف ذلك هوسوفر وراتزل‬
‫ورودولف كيلني ‪ Rudolf Kjellén‬بأنهم يطرحون «نظرية الدولة العضوية»‪ ،‬بسبب‬
‫الرتكيز عىل املساحة التي تتطلبها الدولة للبقاء‪ ،‬وذلك عىل عكس نظرية «تحسني‬
‫النسل» ملاكيندر وماهان‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫مثة مثال آخر عىل التأثري السائد للنزعة العنرصية يتجسد عند وودرو ويلسون‪.‬‬
‫إن النظرة التقليدية لتطور حقل العالقات الدولية ُت َص ِّو ُر وودرو ويلسون باعتباره‬
‫بطال للمثالية وتقرير املصري والقيم الحرة‪ .‬لكن وودرو ويلسون‪ ،‬وعىل الرغم من‬
‫نشطا لسياسات العرق والتفوق األبيض عىل‬ ‫مؤهالته الليربالية‪ ،‬فإنه كان داعي ًة ً‬
‫الصعيدين املحيل والدويل (‪ .)Vitalis, 2005: 168‬و ُيحاجج بول راهي (‪)2013‬‬
‫وجون هوبسون (‪ )2012: 167–75‬بأن وودرو ويلسون مل يكن تقدم ًّيا كام يصوره‬
‫تأريخ حقل العالقات الدولية‪ ،‬ولكنه يف الحقيقة كان عنرص ًّيا بشدة‪ .‬لقد كان تقرير‬
‫املصري الويلسوين طريقة أخرى للتعبري عن «الحاجة إىل مهمة حضارية إمربيالية‬
‫غربية يف الرشق البدايئ» (‪ .)J. M. Hobson, 2012: 168‬ومل يرغب الليرباليون مثل‬
‫وودرو ويلسون يف غرس التغيري بل أرادوا الحفاظ عىل الوضع القائم‪ ،‬مثلام ينعكس‬
‫ذلك يف تصميم وعمل عصبة األمم‪ .‬حيث كان نظام االنتداب الخاص بعصبة األمم‬
‫يف األساس عبارة عن استعامر باسم آخر‪ .‬وكان أقوى مؤرش عىل عنرصية ويلسون‬
‫عىل املستوى الدويل يتمثل يف جهوده املستمرة لرفض إدراج بند املساواة العرقية‬
‫لليابان يف مؤمتر باريس للسالم‪ .‬وعىل الصعيد املحيل سعى ويلسون إىل تربير‬
‫األنشطة العنرصية للبيض يف الجنوب؛ مبا يف ذلك نشاطات منظمة كو كلوكس‬
‫كالن(٭)‪ ،‬مش ًريا إىل أنه ليس لديهم خيار كبري بسبب «التحرر املفاجئ واملطلق‬
‫للزنوج» (‪ .)cited in J. M. Hobson, 2012: 171‬وقد ح َّدد جيمس تايرن (‪)1999‬‬
‫كيف استبعدت الواليات املتحدة‪ ،‬مبا يف ذلك خالل عهد ويلسون‪ ،‬الفلبينيني من‬
‫الهجرة بسبب االختالف العرقي‪ .‬لقد ب َّرر وودرو ويلسون ً‬
‫أيضا استعامر الفلبني‪،‬‬
‫بحجة أن األمريكيني ميكنهم تعليم الفلبينيني كيفية الحكم‪ ،‬وتوفري إمكانية‬
‫تقرير املصري بعد تلقينهم هذه التعاليم الرضورية عن أسلوب الحكم الغريب‬
‫املتفوق (‪.)J. M. Hobson, 2012: 172–3‬‬
‫لقد فشلت مقاربة «النقاشات الكربى» لدراسة العالقات الدولية يف إدراك أنه‬
‫خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني أسهمت العنرصية والجغرافيا السياسية يف‬
‫(٭) باإلنجليزية ‪ Ku Klux Klan‬واختصارا تدعى أيضا ‪ ،KKK‬هي جامعة عنرصية متطرفة برزت بعد الحرب‬
‫األهلية بالواليات املتحدة‪ ،‬قامت عىل اإلميان بتفوق العرق األبيض ونفذت هجامت دامية ضد السود واملتعاطفني‬
‫معهم عىل مدى ‪ 151‬عاما‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫استمرار منط تفكري حقل العالقات الدولية ملا قبل العام ‪ ،1914‬كونهام كانتا مؤثرتني‬
‫ومعززتني إحداهام لألخرى‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬كانت كلتاهام تتموضع داخل إطار‬
‫املركزية األوروبية العامة لحقل العالقات الدولية‪ ،‬وكانتا ملتزمتني بها‪ .‬إذ ُيحاجج‬
‫جون هوبسون (‪ )2012‬بأن جميع نظريات العالقات الدولية‪ ،‬بغض النظر عن أي‬
‫جانب من النقاشات كانت ترافع ألجله‪ ،‬كانت تركز عىل الحفاظ عىل األفكار والقيم‬
‫الغربية ونرشها‪ .‬حيث اتخذت هذه املركزية الغربية بسهولة محتوى عنرصيا‪ .‬وقد‬
‫كان هوبسون محقا متا ًما يف َعدِّة مفكري العنرصية «العلمية» والجغرافيا السياسية‬
‫جز ًءا من «استمرارية قوية بني النظرية الدولية ملا قبل العام ‪ 1914‬وخليفتها يف فرتة‬
‫ما بني الحربني» (‪.)J. M. Hobson, 2012: 15‬‬
‫تعد االشرتاكية‪ ،‬التي احت ُِضنت بعد العام ‪ 1917‬داخل قوة كربى‪ ،‬جزءا آخر‬
‫ُم ْه َم ًاًل يف النقاش الكبري‪ .‬ومثلام يالحظ لوسيان أشوورث (‪ ،)2014: 7‬كان مثة‬
‫«نقاش محتدم يف حقل العالقات الدولية يف الثالثينيات من القرن العرشين بشأن‬
‫دور الرأساملية كسبب للحرب»‪ .‬فقد رفض عديد من االشرتاكيني النضال من أجل‬
‫خطا واحدًا من النزعة السلمية املناهضة للحرب خالل هذه‬ ‫وشكلوا ًّ‬‫الرأساملية َّ‬
‫الفرتة‪ .‬الواقع أن اليسار كان مجزأ متا ًما يف موقفه تجاه عصبة األمم‪ ،‬حيث عارضها‬
‫البعض باعتبارها متثل أدا ًة للرأساملية‪ ،‬يف حني عارض آخرون أي فكرة عن قوة‬
‫جيش أو رشطة دوليني‪ ،‬بينام أراد آخرون إصالحها وتقويتها للمساعدة يف ترويض‬
‫السياسة الدولية (‪ .)L. Ashworth, 2014: 159–71‬وإىل الحد الذي أ َّثرت فيه‬
‫ابط آخر‬‫أيضا ر ٌ‬
‫أهداف السياسة الخارجية لستالني يف التفكري يف اليسار‪ ،‬كان مثة ً‬
‫بني مامرسة العالقات الدولية وحقلها املعريف‪ .‬فقد كانت سياسة ستالني تسعى إىل‬
‫منع اليابان وأملانيا من التحالف ضد االتحاد السوفييتي‪ .‬ولالضطالع بذلك‪ ،‬شجع‬
‫فرنسا وبريطانيا عىل التحالف ضد أملانيا‪ ،‬وشجع اليابان عىل التورط يف الصني‬
‫وعىل أن تكون عىل خالف مع الواليات املتحدة ‪(Paine, 2012: loc. 5672,‬‬
‫)‪.2017: 149–56‬‬
‫أيضا استمرارية ألدبيات متميزة عن الحرب والدراسات اإلسرتاتيجية‪.‬‬ ‫كان مثة ً‬
‫ً‬
‫حاصاًل يف فرتة‬ ‫حيث سيطر املهنيون العسكريون عىل تلك األدبيات متاما مثلام كان‬
‫ما قبل العام ‪ .1914‬و َمَتثل االختالف يف أنه خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني‬
‫‪153‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كان هنالك تركيز أكرب عىل التقنيات الجديدة للدبابات والطائرات بوصفها طرقا‬
‫الستعادة القدرة عىل الحركة املرتبطة باألعامل الحربية‪ .‬فقد دافع باسيل ليدل‬
‫هارت )‪ Basil Liddell Hart (1946‬عن حرب األسلحة املختلطة‪ ،‬واكتشف جون‬
‫فريدريك فولر )‪ J. F. C. Fuller (1945‬الحرب املدرعة (وكلتاهام ال ُت ِقطتا من قبل‬
‫األملان كأساس لفكرة الحرب الخاطفة)‪ .‬وكتب جوليو دوهيت ‪Giulio Douhet‬‬
‫)‪ ([1921] 1998‬عن القوة الجوية يف كتابه الكالسييك «قيادة القوة الجوية» ‪The‬‬
‫‪ .Command of the Air‬ويف إشارة إىل ما سيحدث بعد العام ‪(Buzan and 1945‬‬
‫أعامل ُأ ِعدت من طرف مدنيني يف هذا السياق؛ مل‬ ‫ٌ‬ ‫)‪ ،Hansen, 2009‬كان مثة ً‬
‫أيضا‬
‫أيضا عىل‬ ‫تنحرص فقط يف الدعاية املكثفة ألجل منظامت السالم‪ ،‬ولكن اشتملت ً‬
‫أعامل األكادمييني مثل أعامل فيليب نويل بيكر ‪ Philip Noel- Baker‬بشأن نزع‬
‫السالح وتجارة األسلحة )‪.Buzan, (1973‬‬
‫مثة نقطة أخرى تستحق التطرق إليها بشأن حقل العالقات الدولية لفرتة ما‬
‫بني الحربني‪ ،‬وهي تشابك السياسة الدولية باالقتصاد الدويل‪ .‬وكام يالحظ لوسيان‬
‫واع إىل حد كبري‪ ،‬و َيتَأَىت ً‬
‫أساسا‬ ‫أشورث (‪ ،)2014: 253–4‬كان هذا املزج طبيع ًيا وغري ٍ‬
‫من حقل العالقات الدولية لفرتة ما قبل العام ‪ .1914‬وقد عُ ِّرِّب عن هذا املزج يف‬
‫أعامل ُكتَّاب عديدين من أمثال نورمان أنجيل؛ وكارل بوالين؛ وديفيد ميرتاين؛ وألربت‬
‫أوتو هريشامن‪.‬‬
‫إن أحد خطوط التفكري الجديدة التي مل تكن موجودة يف حقل العالقات‬
‫الدولية قبل الحرب العاملية األوىل و َتأَسس خالل سنوات ما بني الحربني َ َمَت َّثل يف‬
‫النزعة النسوية‪ .‬رمبا يرجع تاريخ هذه النزعة إىل كتيب هيلينا سوانويك ‪Helena‬‬
‫‪ Swanwick‬للعام ‪ 1915‬بعنوان «النساء والحرب» ‪ Women and War‬والذي‬
‫ُكتب ملصلحة «اتحاد الرقابة الدميوقراطية» ‪(UDC L. Ashworth, 2008, 2014:‬‬
‫)‪ُ .125–6‬يحاجج لوسيان أشوورث (‪ )2017‬بوجود حركة نسوية مؤثرة مبكرة يف‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬كانت تتمحور حول «الرابطة النسائية الدولية للسالم والحرية»‬
‫‪ .WILPF‬فقد ط َّورت الكاتبات املرتبطات بهذه الحركة رؤية «لألمومة» بشأن‬
‫الحرب واألمن الجامعي‪ ،‬بحجة أن النساء بوصفهن مانحات للحياة كان لهن منظو ٌر‬
‫ُمختلف عن منظور الرجال بشأن هذه القضايا‪ .‬وقد ُق ِبل هذا املوقف وتأثريه يف‬
‫‪154‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫خطابات حقل العالقات الدولية اليوم‪ .‬إن تجاهل هذا التطور النسوي املبكر يف‬
‫ٌ‬
‫حديث أكرث مام‬ ‫حقل العالقات الدولية جعل الحركة النسوية تبدو كأنها تطو ٌر‬
‫تبدو عليه يف الواقع‪.‬‬
‫وعىل الرغم من كل اختالفاتهم العديدة‪ ،‬فإن مفكري حقل العالقات الدولية‬
‫لفرتة ما بني الحربني العامليتني كانوا متشابهني عىل نحو أسايس يف التعامل مع‬
‫اإلمربيالية ليس باعتبارها القضية املركزية لحقل العالقات الدولية ولكن باعتبارها‬
‫َع َرضا جانبيا‪ ،‬ومل يقدموا سوى رفض جزيئ أو مرشوط لها‪ .‬وقد م َّثل هذا نوعًا آخر‬
‫من العمى الذي أصاب فهم «النقاش الكبري» لحقل العالقات الدولية يف فرتة ما بني‬
‫الحربني العامليتني‪ .‬إن نقد إدوارد كار الالذع للطوباوية قد طال اإلمربيالية أيضا‪،‬‬
‫لكنه َع َك َس روح العرص ومل يعتربها قضية مركزية‪ .‬إذ اعترب إدوارد كار اإلمربيالية‬
‫عىل نحو أسايس مثاال عىل النفاق الطوباوي أو نقدا ألطروحة «انسجام املصالح»‬
‫املثالية‪ ،‬وليس رشا أخالقيا بحد ذاته‪ .‬ففي رأيه‪«ُ ،‬أ ِّسس انسجام املصالح من خالل‬
‫تضحية األفارقة واآلسيويني غري األَك َفاء» (‪ .)Carr, 1964:49‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬مل‬
‫تكن الزاوية االستعامرية زاوية مركزية‪ ،‬بل كانت زاوية هامشية يف جميع ادعاءاته‬
‫وجهة ضد النزعة الطوباوية‪ .‬لقد عارض كثري من اليساريني‪ ،‬من أمثال هرني‬ ‫ا ُمل َّ‬
‫نويل برايلسفورد ‪ ،H. N. Brailsford‬وبعض الليرباليني اإلمربيالية‪ ،‬ولكن نظ ًرا‬
‫إىل التأثري القوي للحرب العاملية األوىل‪ ،‬كان مثة اهتامم أكرب يف هذه األوساط‬
‫بشأن العالقة القامئة بني الرأساملية من ناحية‪ ،‬والحرب والفاشية من ناحية أخرى‪،‬‬
‫أكرث من االهتامم باإلمربيالية (‪ .)L. Ashworth, 2014: 213–21‬وبالنظر إىل تأثري‬
‫العنرصية «العلمية» والجغرافيا السياسية يف العالقات الدولية يف فرتة ما بني الحربني‬
‫العامليتني‪ ،‬وربط كلتيهام باإلمربيالية‪ ،‬فإن روبرت فيتاليس (‪ )2015 ,2005‬كان مح ًّقا‬
‫جزئ ًّيا يف دحض وجهة النظر القائلة إن العالقات الدولية أهملت اإلمربيالية يف ذلك‬
‫الوقت‪ .‬حيث يحاجج بأن العالقات بني األعراق واإلدارة االستعامرية كانت من‬
‫االهتاممات املركزية لعلامء حقل العالقات الدولية األمريكيني‪ .‬وكام كان عليه الحال‬
‫قبل العام ‪ ،1914‬استمرت اإلدارة االستعامرية يف كونها فرعًا ًّ‬
‫مهاًّم للدراسة‪ ،‬ولكن‬
‫أيضا ومثلام كانت قبل العام ‪ ،1914‬مل ُتعترب جز ًءا من حقل العالقات الدولية‪ ،‬بل‬ ‫ً‬
‫كانت تشكل مجاال منفصال عنه‪ .‬وقد تطرق آرثر برييديل كيث (‪Arthur )1924‬‬
‫‪155‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ ،Berriedale Keith‬عىل سبيل املثال‪ ،‬إىل طبقات السلطات القانونية والسياسية‬


‫ضمن اإلمرباطورية الربيطانية ‪ -‬مبا يف ذلك مشاركة املستعمرات كالهند ‪ -‬يف عديد‬
‫من املنظامت الحكومية الدولية‪ :‬املفاوضات بني بريطانيا ومستعمراتها بشأن توفري‬
‫ودفع تكاليف الدفاع؛ التوترات القامئة بني مطالب املستوطنني البيض ومسؤولية‬
‫اإلمرباطورية يف تطوير الشعوب األصلية نحو الحضارة؛ التوتر القائم داخل‬
‫اإلمرباطورية بشأن هجرة غري البيض إىل مستعمرات املستوطنني البيض‪ .‬لكن بينام‬
‫كانت اإلمربيالية حارضة يف حقل العالقات الدولية يف فرتة ما بني الحربني‪ ،‬كانت‬
‫رؤيتها َتتَأَىت من املركز‪ ،‬واستمرت إىل حد كبري يف مامرسات ما قبل العام ‪1914‬‬
‫املتمثلة يف عدم رؤية العالقات االستعامرية كجزء من حقل العالقات الدولية‪.‬‬

‫خالصات‬
‫خالصة القول أنه من املفهوم عمو ًما أن تخصص حقل العالقات الدولية قد نشأ‬
‫خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني ألجل هدف محدد مت َّثل يف منع اندالع حرب‬
‫نسب‬ ‫عاملية أخرى واسعة النطاق قد تكون مدمرة ومنهكة‪ .‬ويف هذا السياق‪ُ ،‬ي َ‬
‫تأسيس له الغرض املعياري املتمثل يف تجنب‬ ‫ٍ‬ ‫إىل حقل العالقات الدولية يف أول‬
‫الحرب وتحسني ظروف الناس يف جميع أنحاء العامل لجعله مكا ًنا أفضل للعيش‪.‬‬
‫وتتجسد هذه الرؤية يف أسطورة النقاش الواقعي‪ /‬املثايل‪ .‬إن أيا من هذه األساطري‬
‫صحيحا‪ .‬فحقل العالقات الدولية خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني كان‬ ‫ً‬ ‫ليس‬
‫أكرث تعقيدًا واتساعًا وتعددًا للتخصصات مام توحي به صيغة «النقاش الكبري»‪،‬‬
‫وكام بني كل من بريان شميدت (‪ )Schmidt 1998b‬ولوسيان أشوورث ‪(Lucian‬‬
‫)‪ Ashworth 2014‬عىل نح ٍو مفصل‪ ،‬فقد كان أقل استقطا ًبا بني املعسكرين‬
‫«املثايل» و«الواقعي»‪ .‬تصوير النزعة املثالية للناس عىل أنها نزعة غري مجدية‪ ،‬كانت‬
‫خدعة ناجحة قام بها الواقعيون إىل حد كبري بعد العام ‪(Kahler, 1997: 1945‬‬
‫أيضا حقل العالقات الدولية خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني‬ ‫)‪ .27‬لقد مت َّيز ً‬
‫بكثري من االستمرارية مع حقل العالقات الدولية ملا قبل العام ‪ ،1914‬وعىل‬
‫األخص مع االفرتاضات األساسية املرتبطة باملركزية الغربية؛ واإلمربيالية؛ والجغرافيا‬
‫السياسية؛ واالقتصاد السيايس الدويل؛ والتسلسل الهرمي العرقي‪ ،‬وهي االفرتاضات‬
‫‪156‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫التي ظلت من دون تغيري إىل حد كبري‪ .‬عقب صدمة الحرب العاملية األوىل‪ ،‬ومع‬
‫التجربة العظيمة لـعصبة األمم يف مواجهتها‪ ،‬ليس من املستغرب أن ُيظهر حقل‬
‫خاصا بـاملنظامت الحكومية الدولية‬ ‫العالقات الدولية يف فرتة ما بني الحربني اهتام ًما ً‬
‫باعتبارها طريقة ممكنة إلدارة إشكالية الفوىض يف النظام الدويل‪ .‬لذلك‪ ،‬كان لدى‬
‫اث وجذو ٌر قامتان باإلضافة إىل اإلرث اإليثاري لفهم‬ ‫حقل العالقات الدولية مري ٌ‬
‫الحرب والسعي إىل السالم‪ .‬كان حقل العالقات الدولية و«النظرية الدولية» عىل‬
‫نحو عام متشابكني بشكل ال ينفصم مع مرشوع النهوض باألفكار الغربية وحاميتها‪،‬‬
‫مام أدى إىل ظهور املركزية األوروبية يف أحسن األحوال‪ ،‬وظهور الجغرافيا السياسية‬
‫وجهة ضد العنرصية‬ ‫والعنرصية «العلمية» يف أسوئها‪ .‬وقد انبثقت االنتقادات ا ُمل َّ‬
‫واإلمربيالية من منظور معياري ومن وجهة نظر ا ُمل ْض َط َهدين من القادة واملفكرين‬
‫القوميني داخل املستعمرات‪ .‬وش َّكلت تلك املساهامت األسس األصلية ملرشوع حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي الذي يدور حوله هذا الكتاب‪.‬‬

‫‪ - 3‬تفكري حقل العالقات الدولية يف األطراف‬


‫إن الكتابات التأسيسية لحقل العالقات الدولية ا ُملتأتية من دول املركز أهملت‬
‫إىل حد كبري تفكري ومناقشات حقل العالقات الدولية يف العامل غري الغريب‪ .‬ويعرتف‬
‫إدوارد كار بإيجاز بأن الصني القدمية هي أحد املَ ْو ِق َع ْنْي اللذين َج َر ْت يف سياقهام‬
‫محاوالت البتكار «علم السياسة»‪ ،‬وأن املوقع اآلخر هو اليونان القدمية ‪(Carr,‬‬
‫)‪ .1964: 6‬ففي رأيه «النظريات الحالية للعالقات الدولية‪ ...‬انبثقت عىل نحو شبه‬
‫حرصي من البلدان الناطقة باللغة اإلنجليزية» (‪ .)Carr, 1964: 52‬إن املساهامت‬
‫غري الغربية (غري األوروبية‪ ،‬وغري األمريكية) يف دراسة العالقات الدولية خالل فرتة‬
‫ما بني الحربني العامليتني ُد ِرست عىل نحو جدي‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬شهدت فرتة ما‬
‫بني الحربني العامليتني ظهور عدد من األفكار الرئيسة خارج السياق الغريب والتي من‬
‫تشكل ليس السياسة الخارجية للدول غري الغربية بعد الحرب‬ ‫شأنها أن تسهم يف ُّ‬
‫أيضا تأث ٌري كب ٌري يف السياسة العاملية ككل‪.‬‬ ‫العاملية الثانية فقط‪ ،‬ولكن سيكون لها ً‬
‫مثلام فعلنا يف الفصل الثاين‪ ،‬سنستخدم املعايري العامة التي ُو ِضعت يف عملنا‬
‫حقاًل للعالقات الدولية‪ .‬وبالنظر إىل البيئة القاسية التي‬ ‫السابق املتعلق مبا ُي َعد ً‬

‫‪157‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أوجدتها الحرب العاملية األوىل‪ ،‬متيزت فرتة ما بني الحربني بعالقة قوية عىل نحو‬
‫خاص بني النظرية واملامرسة حتى داخل املركز‪ .‬إنه ملن املستحيل فهم أصول‬
‫وتشعبات النقاش املثايل الواقعي من دون إمعان النظر يف املناقشات السياسية‬
‫املحيطة بنقاط وودرو ويلسون األربع عرشة؛ وعصبة األمم؛ وميثاق كيلوغ برييان؛‬
‫والجهود املبذولة لنزع السالح وما شابه ذلك‪ .‬وقد جرى تأطري النقد الواقعي‬
‫للمثالية بقوة يف إطار نقد التوقعات بشأن عصبة األمم وإخفاقاتها‪ .‬مل يكن ألفريد‬
‫نخرطا بعمق يف‬ ‫أيضا ُم ً‬
‫زميرن مؤل ًفا لكتاب مهم عن عصبة األمم فقط‪ ،‬بل كان ً‬
‫وأيضا ميثل‬ ‫الرتويج لفكرة عصبة األمم‪ ،‬وذلك باعتباره مسؤو ًاًل حكوم ًّيا بريطان ًّيا ً‬
‫جزءا من املجموعة املنارصة للمنظمة‪ .‬كان اليشء نفسه يحصل يف السياق غري‬
‫الغريب‪ .‬فبالقدر نفسه‪ ،‬تأثرت أفكار القادة القوميني والحركات واملؤسسات التي‬
‫ألهموها بحقائق الحياة الدولية كام عاينوها بآمالها وآالمها‪ .‬حيث تركت أفكار‬
‫أيضا إر ًثا ثر ًّيا‬
‫الحركات القومية واملناهضة لالستعامر يف سنوات ما بني الحربني ً‬
‫وطويل األمد أ َّثر يف سلوك السياسة الخارجية والتفاعالت العاملية واإلقليمية للحرب‬
‫الباردة وحقبة إنهاء االستعامر بعد العام ‪ .1945‬الواقع أن تلك األفكار ش َّكلت‬
‫واستمرت يف تشكيل معتقدات ومامرسات السياسات الخارجية للقوى الصاعدة‬
‫مثل الصني والهند‪ .‬وإذا كان مثة أي يشء مثري لالنتباه‪ ،‬فهو عودتهم‪ ،‬ألن هذه الدول‬
‫أصبحت أكرث قوة وتأث ًريا يف املرسح العاملي‪.‬‬
‫لقد انبثقت حركة عدم االنحياز‪ ،‬التي تأسست رسم ًّيا يف بلغراد يف العام ‪،1961‬‬
‫عن مؤمتر آسيا وأفريقيا يف باندونغ يف العام ‪ ،1955‬والذي تأثر بدوره باملؤمتر الدويل‬
‫األول ضد اإلمربيالية واالستعامر الذي عُ قد يف بروكسل يف العام ‪(Prasad, 1927‬‬
‫رئيسا‬‫)‪ .1962: 79–99‬وكان الهندي جواهر الل نهرو ‪ Jawaharlal Nehru‬مشار ًكا ً‬
‫يف املؤمترات الثالثة‪ :‬بروكسل وباندونغ وبلغراد‪ .‬وقد استلهمت املنظامت اإلقليمية‬
‫مثل «منظمة الوحدة األفريقية» من ا ُملثل العليا للنزعة الوحدوية األفريقية‬
‫وحركات التحرر يف أوائل القرن العرشين‪ ،‬مبا يف ذلك فرتة ما بني الحربني العامليتني‪.‬‬
‫مل يكن تفكري حقل العالقات الدولية داخل األطراف خالل سنوات ما بني الحربني‬
‫أيضا عىل أفكار بشأن النزعة األممية‬ ‫يدور حول مناهضة االستعامر فقط‪ ،‬بل احتوى ً‬
‫والنظام العاملي والتنمية الدولية والتعاون والعدالة‪ .‬ليمتد إىل ما هو أبعد من‬
‫‪158‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫معاداة اإلمربيالية‪ ،‬عىل الرغم من أن األخرية ش َّكلت يف األغلب موضوعًا تنظيم ًّيا‬
‫مركز ًّيا بالنسبة إليهم‪ .‬فقد كان لحقل العالقات الدولية خالل فرتة ما بني الحربني‬
‫أصول متعددة وعاملية وليس أصو ًاًل غربية فقط‪ ،‬وهذا مهم لفهم كيفية وصول‬
‫هذا الحقل إىل شكله الحايل‪ ،‬وإىل أين يجب أن يتجه انطالقا من ذلك‪ .‬وكام فعلنا‬
‫يف الفصل الثاين‪ ،‬سنتعامل مع تفكري حقل العالقات الدولية يف األطراف من حيث‬
‫الدول واملناطق الرئيسة‪.‬‬

‫‪ - 3 - 1‬اليابان‬
‫إن تصنيف اليابان لوضعها داخل املركز أو داخل األطراف خالل هذه الفرتة‬
‫يعد مسألة صعبة‪ .‬وسنعمد إىل ترك هذه الدولة يف األطراف جزئ ًّيا ألن اليابان كانت‬
‫تسري عىل مسار مختلف عن الغرب حيث إنها كانت مستفيدة عىل نحو معترب‬
‫من الحرب العاملية األوىل؛ وذلك بسبب أنه كان اليزال يتعني عليها النضال ضد‬
‫مسألة العرق التي ُطرحت ضدها من طرف الغرب‪ .‬لقد تطور تفكري حقل العالقات‬
‫الدولية يف اليابان انطالقا من جذوره التي تعود إىل ما قبل العام ‪(Kawata 1914‬‬
‫)‪ .and Ninomiya, 1964: 190; Sakai, 2008: 237–44‬وقد تأثر الفكر الدويل‬
‫لليابان بشدة بنظرية الدولة األملانية ‪ Staatslehre‬وبالتقاليد املاركسية ‪(Inoguchi,‬‬
‫)‪ .2007‬تتوافق األبحاث اليابانية املبكرة بشأن حقل العالقات الدولية مع صعود‬
‫اليابان كقوة كربى ساعية إىل فهم مكانة اليابان يف العامل‪ ،‬ولكن تلك األبحاث مل‬
‫تكن تتمركز حول اليابان عىل نحو تام‪ .‬فقد كان مثة عمل عن السياسة العاملية‬
‫وأيضا عن اإلدارة االستعامرية (]‪Yanaihara, [1926‬‬ ‫(‪ً )Royama, 1928, 1938‬‬
‫‪ .)1963‬وعىل غرار الغرب‪ ،‬درس الباحثون اليابانيون يف هذه الفرتة موضوعات‬
‫مثل القانون الدويل؛ واملنظمة الدولية؛ والتاريخ الديبلومايس؛ والتكامل اإلقليمي؛‬
‫واالقتصاد السيايس الدويل ‪(Kawata and Ninomiya, 1964; Inoguchi,‬‬
‫)‪ .2007‬حتى أن تاكايش إنوغوتيش (‪ )Takashi Inoguchi 2007, 379–80‬كان‬
‫ُي َع ِّرف نيشيدا كيتارو ‪ Nishida Kitaro‬بأنه « ِبن َِايِئ ُمتَأَصل»‪ ،‬وذلك بسبب تركيزه‬
‫عىل مسألة الهوية‪ .‬كام كان لليابان حضور يف النظام القانوين الدويل‪ ،‬وبخاصة‬
‫مع مينيشريو أداتيش ‪ ،Mineichiro Adachi‬الباحث القانوين الدويل الذي كان‬
‫‪159‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫رئيسا لقضاة املحكمة الدامئة للعدل الدويل (الهاي)‪ ،‬والذي كتب‬ ‫ديبلوماس ًّيا ثم ً‬
‫أيضا عن عصبة األمم (‪ .)Adachi and De Visscher, 1923‬كان اليزال يتعني عىل‬ ‫ً‬
‫اليابان مواجهة إشكالية ردود الفعل العنرصية تجاه «الخطر األصفر»(٭) الصادرة‬
‫عن الغرب‪ ،‬حيث استجابت لذلك بفلسفة مدرسة كيوتو عن «قوة ما بعد البيض»‬
‫(‪ .)D. Williams, 2004; Shimizu, 2015‬وقد كان لعنرصية «الخطر األصفر»‬
‫وأيضا ضد استقبال اليابان‬ ‫مفعولها ضد كل من الهجرة اليابانية إىل األمريكتني‪ً ،‬‬
‫عضوا جديدا يف نادي القوى الكربى (‪.)Shimazu, 1998‬‬
‫خالل الثالثينيات من القرن العرشين‪ ،‬تح َّول الرتكيز نحو «اإلقليمية ا ُمل َهي ِمنة»‬
‫حيث انسحبت اليابان من عصبة األمم وبدأت يف اتباع رؤيتها الخاصة بشأن «مجال‬
‫االزدهار املشرتك يف رشق آسيا الكربى»(٭٭) بقيادة اليابان ‪(Acharya, 2017:‬‬
‫)‪ .6–7‬لقد كان صعود آسيا مساو ًيا لصعود اليابان‪ .‬حيث تبنت اليابان النزعة‬
‫الوحدوية اآلسيوية ملواجهة الهيمنة الغربية‪ ،‬ولكن يف تلك العملية راهنت عىل‬
‫املطالبة باالعرتاف مبركزيتها وإمرباطوريتها‪ ،‬عىل اعتبارها الدولة الحديثة الوحيدة يف‬
‫آسيا (‪ .)Koyama and Buzan, 2018‬وقد أدت الهيمنة املتزايدة لهذه السياسات‬
‫اإلمربيالية يف النهاية إىل تأخري منو حقل العالقات الدولية األكادميي الذي ُق ِمع من‬
‫طرف السلطات (‪.)Kawata and Ninomiya, 1964: 194‬‬

‫‪ - 3 - 2‬الصني‬
‫بينام أصبحت العالقات الدولية ً‬
‫مجااًل دراسيا ُمزده ًرا يف الصني منذ تسعينيات‬
‫القرن العرشين‪ ،‬ظل باحثو العالقات الدولية الصينيون‪ ،‬كام ُذكر أعاله‪ ،‬متحفظني‬
‫(٭) الخطر األصفر ‪ :yellow peril‬هو استعارة ألوان عنرصية تعترب جزءا ال يتجزأ من نظرية كره األجانب‪ .‬يلمح هذا‬
‫الغرب‪ ،‬وأن تلك الشعوب تشكل خطرا قادما من الرشق عىل‬ ‫التعبري العنرصي إىل االزدياد السكا ّين يف آسيا كام يتصوره ُ‬
‫العامل الغريب‪ .‬حيث ميزج هذا املصطلح بني املخاوف الغربية بشأن جنسه‪ ،‬ومخاوفه العنرصية من اآلخر املختلف‪.‬‬
‫ويذهب املؤرخون عىل تفسري هذه املقولة بأنها رمبا تنرصف إىل الشعب الياباين بسبب تقدمه الرسيع وال سيام يف‬
‫النصف الثاين من القرن العرشين‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫نظرت ور َّوجت له حكومة وجيش‬ ‫(٭٭) مجال االزدهار املشرتك لرشق آسيا الكربى‪ :‬هو عبارة عن مفهوم َّ‬
‫اإلمرباطورية اليابانية يف فرتة حكم اإلمرباطور شووا خالل نهاية ثالثينيات القرن املنرصم‪ ،‬حيث إن اليابان روجت‬
‫لوحدة ثقافية واقتصادية للعرق الرشق آسيوي‪ .‬كام أعلنت نيتها إلنشاء اكتفاء ذايت تحت شعار «كتلة الدول اآلسيوية‬
‫بقيادة يابانية خالية من القوى الغربية»‪ُ ،‬وأعلن عنه يف خطاب إذاعي لوزير الشؤون الخارجية الياباين آنذاك هاتشريو‬
‫أريتا‪ ،‬وكان الخطاب بعنوان «الوضع الدويل وموقف اليابان»‪ ،‬وذلك بتاريخ ‪ 29‬يونيو ‪[ .1940‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫بشأن االعرتاف بإرث تطور حقل العالقات الدولية يف الصني قبل العام ‪ .1949‬وف ًقا‬
‫لألسطورة ا ُمل َؤ َّس َسة الحالية‪ ،‬يقال إن العالقات الدولية الصينية بدأت يف منتصف‬
‫الستينيات تقري ًبا‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ُ ،‬ي َق ِّسم زهانغ فانغ ‪ Zhang Feng‬تاريخ حقل‬
‫العالقات الدولية يف الصني إىل أربع مراحل‪ .‬كانت املرحلة األوىل من العام ‪ 1949‬إىل‬
‫تخصصا أكادمي ًّيا بعدُ ‪،‬‬
‫ً‬ ‫العام ‪ ،1963‬عندما مل يكن حقل العالقات الدولية قد شكل‬
‫وكان البحث العلمي محظو ًرا‪ .‬حيث «كانت الدراسة الدولية مرادفة إىل حد كبري‬
‫لتحليل السياسات يف شكل تقارير أو مشورة سياسية تتضمن رشوحا» ‪(Zhang,‬‬
‫)‪ .F., 2012a: 69‬إن «منط التفاعل بني السلطة واملعرفة» ا ُمل َحدد (‪)Lu, 2014:133‬‬
‫الذي أوقف منو حقل العالقات الدولية الصيني خالل الخمسينيات ليس شيئًا فريدًا‬
‫بالنسبة إىل العامل غري الغريب‪ ،‬عىل الرغم من التحول السيايس الثوري يف الصني‬
‫وتأثري الثورة الثقافية باإلضافة إىل القيود السياسية املستمرة املفروضة عىل األوساط‬
‫خاص يف كيف وملاذا استمر حقل العالقات‬ ‫األكادميية الصينية‪ ،‬قد يكون له تأث ٌري ٌ‬
‫الدولية الصيني يف رفض االعرتاف بأصوله التي تعود إىل ما قبل العام ‪ .1949‬لقد‬
‫سعى الحكم الشيوعي إىل فرض رسديته الخاصة عىل الشؤون الدولية‪ ،‬وهي الرسدية‬
‫التي تحداها الباحثون بنوع من املخاطرة‪ .‬حيث ُندِّد ببعض الباحثني البارزين‬
‫بعد مراجعاتهم يف العام ‪ 1957‬للتخصصات األكادميية‪ .‬إن «الذاكرة الصامتة» ملا‬
‫قبل الحرب يف الصني‪ ،‬كام يقول الباحث لوو بانغ )‪ ،(Lu Peng 2014: 149‬ظلت‬
‫مهمة ألسباب سياسية‪ ،‬والتزال كذلك‪ ،‬ألنها تشهد أن العالقات الدولية غري الغربية‬
‫عاماًل رئيسا‪ ،‬وليس‬ ‫موجودة ولكنها غري مرئية‪ ،‬وأن الظروف املحلية ميكن أن تكون ً‬
‫فقط الظروف الدولية أو الهيمنة الغربية عىل حقل العالقات الدولية‪ .‬كام يشري‬
‫أيضا إىل أن تطور حقل العالقات الدولية غري الغريب قد ُش ِّكل من خالل مصدرين‪:‬‬ ‫ً‬
‫أفكار السكان األصليني (خصوصا القادة القوميني)‪ ،‬واألكادمييني ا ُملدَر ِبني يف الغرب‪.‬‬
‫وعىل نحو أقل اتسا ًما بالطابع الرسمي‪ ،‬كان سون يات سني ‪Sun Yat-sen‬‬
‫رئيسا للفكر الدويل يف الصني‪ .‬فقد كانت النزعة األممية عنده تتسم‬ ‫ميثل مصد ًرا ً‬
‫بالكوزموبوليتانية واملركزية الصينية‪ .‬وقد دافع عن التعاون مع اليابان ودول‬
‫أخرى يف آسيا‪ ،‬لكنه شدد عىل تفوق التقاليد الصينية يف فن الحكم واإلدارة‪.‬‬
‫حيث شدد سون يات سني عىل املجد املايض آلسيا ومل يتحدث عن «الصني‬
‫‪161‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫واليابان فقط‪ ،‬بل تحدث أيضا عن كل الشعوب يف رشق آسيا‪ ...‬موحدين م ًعا‬
‫الستعادة الوضع السابق آلسيا» (‪ .)Sun, 1941: 144‬ولكن‪ ،‬وليك يحدث ذلك‪،‬‬
‫كان عىل دول آسيا أو ًاًل التخلص من ْنرْي االستعامر والحصول عىل االستقالل‪ .‬كان‬
‫سون يات سني (‪ )1941: 144‬يأمل يف حدوث ذلك ألنه رأى «أدلة ملموسة عن‬
‫تقدم الفكرة القومية يف آسيا»‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن النزعة الوحدوية اآلسيوية‬
‫أيضا هرمية كتلك املوجودة عند اليابان‪ .‬لقد استدعى سني‬ ‫عند سني كانت ً‬
‫الج ْز َية الصيني ‪(Chinese tributary system‬٭)‪ ،‬مش ًريا‬
‫(‪ )1941: 146‬نظام ِ‬
‫إىل أن «الدول األضعف‪ ...‬احرتمت الصني باعتبارها دولة متفوقة وأرسلت تكر ًميا‬
‫سنو ًّيا للصني بإرادتها‪ ،‬والسامح لهم بذلك يعترب تكرميا مرشفا بالنسبة إىل هذه‬
‫الج ْز َية‬
‫الدول»‪ .‬ويؤكد سني عىل الطبيعة الطوعية للعالقات القامئة يف نظام ِ‬
‫الصيني‪ ،‬بحجة أن الصني يحكمها «الحق»‪ ،‬أي أنها محكومة مببادئ الصداقة‬
‫واملعاملة باملثل‪ ،‬وليس مببادئ «القوة»‪.‬‬
‫لقد كان الهدف األوسع للنزعة الوحدوية اآلسيوية عند سون يات سني هو‬
‫«إنهاء معاناة الشعوب اآلسيوية و‪ ...‬مقاومة عدوان الدول األوروبية القوية»‬
‫)‪ ،(Sun, 1941: 151‬مام كشف عن وجود خيط قوي مناهض لالستعامر‪ ،‬وهو‬
‫القاسم املشرتك الساري يف عروق الفكر الدويل داخل العامل غري الغريب‪ .‬لقد‬
‫حرصت كتابات سني (‪ )1941: 151‬عىل تضمني اليابان‪ .‬والواقع أنه ميكن للمرء‬
‫أن يرى أن تلك الكتابات كانت تستهدف اليابان‪ ،‬عىل رغم أن تلك الدولة‬
‫«أصبحت عىل دراية بأصول حكم القوة الخاص بالحضارة الغربية»‪ .‬وقد أكد‬
‫سني (‪ )1941: 151‬أنها «تحتفظ بخصائص الحضارة الرشقية املرتبطة بحكم‬
‫مفتاحا لضامن قطف مثار الحركة الوحدوية اآلسيوية‪ .‬لقد‬‫ً‬ ‫الحق»‪ ،‬وأنها كانت‬
‫تحدث سني عن الفضائل اآلسيوية‪ ،‬ولكن عىل نح ٍو ما كان يتصادم بأتم معنى‬
‫الكلمة مع كل من االستعامر األورويب والياباين‪ .‬كام حث اليابان عىل عدم تطوير‬

‫(٭) كان نظام الجزية (العطايا) هو النظام الصيني التقليدي إلدارة العالقات الخارجية‪ .‬وفقا للمامرسة املعتادة‪،‬‬
‫ُمُينح األجانب إذنا إلقامة التجارة واالتصال مع الصني برشط أن يُظهر حكامهم أو مبعوثو حكامهم خضوعهم لألباطرة‬
‫الصينيني من خالل دفع الجزية لهم شخصيا‪ .‬إذ يقدم هؤالء الحكام أو املبعوثون الجزية التي عادة ما تكون عبارة عن‬
‫عطايا من املنتجات والسلع املحلية الثمينة‪ ،‬وكانوا عىل ذلك يؤدون أيضا طقس الطاعة املسمى «كوتاو» ‪،Kowtow‬‬
‫ويعني فعل االنحناء تجاه اإلمرباطور الصيني كنوع من االحرتام العميق‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫النزعة الوحدوية اآلسيوية من خالل اإلمرباطورية‪ ،‬ولكن من خالل الفضائل‬


‫اآلسيوية؛ مثل األخالق واالستقامة واإلحسان‪ .‬كام عقد سني مقارنة بني النزعتني‬
‫(طرق الهيمنة) وهذه الفضائل اآلسيوية‪ .‬لكن‬ ‫املادية والعسكرية األوروبيتني ُ‬
‫العدد االفتتاحي من مجلة «آسيا الجديدة» (‪ ،)New Asia‬التي ُأطلقت يف‬
‫الصني يف العام ‪ 1930‬لتعزيز دعوة سني القومية‪ ،‬حاجج بأن‪« :‬انبعاث الصني هو‬
‫نقطة البداية النبعاث الشعوب اآلسيوية» ‪(cited in Tankha and Thampi,‬‬
‫)‪ ،2005: 108‬حيث زعمت أن سون يات سني ميثل القائد الوحيد الذي ميكنه‬
‫أن يأيت إلنقاذ الشعوب اآلسيوية‪ .‬فقد كان سني مؤيدًا قو ًّيا للنزعة الوحدوية‬
‫اآلسيوية‪ ،‬لكنه كان يتوق إىل استمرار تفوق الصني‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬كانت مثة‬
‫أفكار متنافسة بشأن الوحدة اآلسيوية داخل الصني‪ ،‬وكذلك داخل دول أخرى‬
‫يف آسيا (‪.)Acharya, 2017‬‬
‫باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬ووف ًقا إلريك هيليرن )‪ Eric Helleiner (2014, 376–8‬كان‬
‫سني هو من ابتكر فكرة التنمية الدولية‪ .‬وبتحليله ألصول التعاون اإلمنايئ الدويل‪،‬‬
‫يعارض هيليرن الرأي السائد القائل إن معيار التنمية الدولية نشأ مع خطاب العام‬
‫‪ 1949‬الذي ُقدم من طرف الرئيس األمرييك هاري ترومان‪ .‬فهو ينسب هذا املعيار‬
‫إىل سون يات سني‪ ،‬حيث يعود تاريخه إىل العام ‪ ،1918‬مثلام ورد يف كتاب ُنرش يف‬
‫العام ‪ 1922‬بعنوان «التنمية الدولية للصني»‪ .‬ففي هذا الكتاب يصف سني «منظمة‬
‫التنمية الدولية» التي من شأنها أن تساعد الصني عىل التطور‪ .‬ويف حني أن أفكاره‬
‫جسدت أفكا ًرا ذات خاصية مركزية صينية؛ أي أنها تهدف إىل تطوير الصني‪ ،‬فإنها‬ ‫َّ‬
‫رمبا تكون قد أثرت يف مؤسسات بريتون وودز‪.‬‬

‫‪ - 3 - 3‬الهند‬
‫من املحتمل أن يكون اإلنجاز املميز لنظرية حقل العالقات الدولية األكادميي‬
‫يف الهند هو إنجاز الباحث بينوي كومار ساركار ‪Benoy Kumar Sarkar (M. J.‬‬
‫)‪ .Bayly, 2017a‬ففي العام ‪ 1919‬نرش «النظرية الهندوسية للعالقات الدولية»‬
‫يف مجلة العلوم السياسية األمريكية‪ .‬حيث ح َّلل عددا من املفاهيم الهندية؛ مبا يف‬
‫ذلك مفهوم مجال التأثري ‪Mandala‬؛ ومفهوم السيادة العاملية ‪،Sarva-Bhauma‬‬
‫‪163‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وذلك باالعتامد عىل أعامل الكتاب الكالسيكيني مثل كاوتيليا؛ ومانو؛ وشوكورا؛ ونص‬
‫ماهابهاراتا ‪(Mahabharata‬٭)‪ .‬من ضمن تلك املفاهيم ادعى بينوي كومار أن‪:‬‬
‫«مفهوم السيادة «الخارجية» كان ر ً‬
‫اسخا يف الفلسفة الهندوسية للدولة‪ .‬إذ مل‬
‫يحلل املفكرون الهندوس مفهوم السيادة فقط الرتباطه بالعنارص املكونة للدولة‬
‫الواحدة‪ .‬بل أدركوا ً‬
‫أيضا أن السيادة ال تكتمل إال إذا كانت خارجية وداخلية عىل‬
‫حد السواء؛ أي حينام تتمكن الدولة من مامرسة سلطتها الداخلية من دون عوائق‬
‫ُتفرض عليها من ِقبل الدول األخرى‪ ،‬بحيث متارس سلطتها عىل نحو مستقل عن تلك‬
‫الدول» (‪.)Sarkar, 1919: 400‬‬
‫لقد كتب ساركار (‪ً )1921‬‬
‫مقااًل آخر يف «فصلية العلوم السياسية» ‪Political‬‬
‫‪ Science Quarterly‬جاء تحت عنوان «النظرية الهندوسية للدولة» ‪Hindu‬‬
‫‪ ،Theory of the State‬حيث قارن فيه املفاهيم الهندية لـ «حالة الطبيعة»(٭٭)‬

‫مبفاهيم الفالسفة السياسيني األوروبيني ووجد أنها متشابهة من حيث إن كلتيهام‬


‫دعت إىل قمع الفتنة مبساعدة سلطة أعىل قادرة عىل التلويح بالعقوبة وإنفاذ‬
‫أيضا ً‬
‫مقااًل بعنوان «بداية الثقافة الهندوسية‬ ‫العقاب‪ .‬كام كتب ساركار (‪ً )1916‬‬
‫كقوة عاملية» ‪ ،The Beginning of Hindu Culture As World-Power‬الذي‬
‫درس فيه الروابط الدولية للهند القدمية‪ ،‬وخاصة مع الوحدة اآلسيوية؛ مبا يف ذلك‬
‫التجارة والغزو وتدفق األفكار‪ .‬لقد تزامن توقيت هذه املنشورات مع السنوات‬
‫املبكرة لنشأة حقل العالقات الدولية باعتباره مجاال دراسيا‪ ،‬وبقدر ما اعتمدت تلك‬
‫(٭) ‪ ،Mahabharata‬هي واحدة من أعظم الكتب الهندية‪ .‬وهي أيضا أطول قصيدة ُكتبت عىل مر العصور‪.‬‬
‫متثل ملحمة املهابهاراتا إحدى أشهر قصيدتني ملحميتني معروفتني يف الهند‪ ،‬والقصيدة األخرى هي رامايانا‪ .‬وقد‬
‫مقسمة إىل مثانية عرش فصال‪ .‬كتبت القصيدة باللغة‬‫ُكتبت بالسنسكريتية‪ .‬وتتألف من ‪ 220‬ألف مقطع شعري‪َّ .‬‬
‫السنسكريتية وهي اللغة القدمية املقدسة للهند‪ُ .‬ترجمت هذه القصيدة إىل عدد من اللغات الهندية الحديثة‪.‬‬
‫والقصيدة هي مصدر آالف املعتقدات واألساطري واألفكار والتعاليم والشخصيات التي تشكل جزءا من الحياة‬
‫الهندية‪ .‬تحيك هذه القصيدة العظيمة قصة النزاع الدموي الطويل بني مجموعتني من أبناء العمومة‪ :‬الباندافا‪ ،‬وهم‬
‫خمسة إخوة‪ ،‬والكورافا‪ ،‬الذين يوجد منهم مائة‪ .‬وهذا النزاع العائيل الذي يدور حول من سيحكم ينتهي مبعركة‬
‫طاحنة يتهدد فيها مصري العامل‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫(٭٭) حالة الطبيعة ‪ ،state of nature‬هو مفهوم مفتاحي الفلسفة السياسية‪ ،‬ويقصد به طبيعة اإلنسان قبل‬
‫منظري العقد‬‫االرتباط سيايس‪ ،‬أي خالل حالة ما قبل سيادة حكم الدولة‪ .‬وقد تناول هذا مفهوم عديد من ِّ‬
‫االجتامعي‪ ،‬مثل توماس هوبز وجون لوك‪ ،‬ألجل فحص حدود وتربير السلطة السياسية‪ .‬وتباينت املواقف إزاء هذه‬
‫املسألة‪ ،‬حيث يعتقد البعض أن اإلنسان ذو طبيعة رشيرة (ميثل هذا املوقف هوبز)‪ ،‬يف حني يجادل البعض اآلخر‬
‫خرِّي بطبعه (ميثل هذا املوقف هوبز جون لوك)‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬‫بأنه ِّ‬

‫‪164‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫الكتابات عىل التقاليد الهندية‪ ،‬فإنها كانت أيضا مستقلة إىل حد كبري عن النقاشات‬
‫مساهامت رئيس ٍة خاصة بحقل العالقات‬
‫ٍ‬ ‫الغربية‪ .‬قد تكون هذه املنشورات أول‬
‫الدولية ُك ِت َبت من طرف هندي‪ ،‬وواحدا من أوىل الجهود الحديثة لتطوير نظرية‬
‫أصلية غري غربية لحقل العالقات الدولية‪.‬‬
‫وكام يحاجج مارتن باييل (‪ ،)2017b‬انخرط بعض باحثي حقل العالقات الدولية‬
‫الهنود يف نقاشات حقل العالقات الدولية الغريب‪ .‬حيث ح َّول م‪.‬ن‪ .‬تشاترجي ‪M.‬‬
‫)‪ُ « N. Chatterjee (1916‬مدَو َنات دراسات السالم الغربية‪ ،‬مبا يف ذلك العائدة‬
‫إىل كل من نورمان أنجيل وفيكتور هوغو وجون برايت وكوبدين وكانط‪ ،‬لتكون‬
‫يف مواجهة القوى األوروبية املتحاربة التي من املفرتض أنها أمم متحرضة» ‪(M. J.‬‬
‫)‪ .Bayly, 2017b: 22‬وصاغ بونتامبيكار )‪ S. V. Puntambekar (1939‬خطوط‬
‫تفكري واقعية ومثالية وطوباوية لفكر حقل العالقات الدولية خالل الوقت نفسه‬
‫الذي ق َّدم فيه إدوارد كار هو اآلخر إسهاماته يف هذا املجال‪.‬‬
‫يف الجانب األقل أكادميية كان مثة كثري من األعامل التي َخ َل َفت عمل‬
‫روبندرونات طاغور الذي نوقشت أفكاره يف الفصل الثاين‪ .‬فجواهر الل نهرو‪ ،‬الزعيم‬
‫الصاعد يف املؤمتر الوطني الهندي‪ ،‬تبنى نزعة مناهضة االستعامر مع جرعة قوية‬
‫من النزعة األممية‪ .‬وقد اتخذ بعض املفكرين الهنود موق ًفا نسب ًّيا‪ ،‬حيث سلطوا‬
‫الضوء عىل الفرق القائم بني الفكر الغريب والرشقي‪ ،‬بل أكد البعض منهم عىل‬
‫الطبيعة األكرث شمو ًاًل نسب ًّيا للفكر الرشقي‪ .‬وكغريهم من املفكرين اآلخرين يف آسيا‪،‬‬
‫شددوا عىل التمييز بني النزعة الروحانية الرشقية والنزعة املادية الغربية‪ .‬ورأى أحد‬
‫ومقاربات رشقية‪ ،‬بل حتى إىل هيمنتها‪،‬‬‫ٍ‬ ‫تلك املواقف أن العامل بحاجة إىل أفكا ٍر‬
‫وذلك لعالجه من ويالت املنافسة والحرب‪ .‬فقد ذهب بانديت كريشنا كانت‬
‫ماالفيا ‪ ،Pandit Krishna Kant Malaviya‬خالل مناقشات الجمعية الترشيعية‬
‫الهندية يف العام ‪ ،1936‬إىل القول إن «هيمنة الرشق متثل العالج الوحيد لجميع‬
‫العلل يف هذا العامل»‪« .‬نحن بحبنا للسالم وروحانيتنا وحسن نياتنا تجاه الجميع‪،‬‬
‫ال ميكننا إال أن نحقق السالم عىل هذه األرض» ‪(cited in Keenleyside, 1982:‬‬
‫ً‬
‫اعتدااًل‪ ،‬ودافع عن فكرة التآزر بني‬ ‫)‪ .211‬لكن البعض اآلخر من املفكرين كان أكرث‬
‫الرشق والغرب‪ .‬ففي العام ‪ 1933‬حاجج الفيلسوف الهندي (ورئيس الهند الح ًقا)‬
‫‪165‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أيضا أستا ًذا يف‬


‫سارفيبايل راداكريشنان ‪ ،Sarvepalli Radhakrishnan‬والذي كان ً‬
‫جامعة أكسفورد‪ ،‬بأن اآلسيويني كانوا «مساملني بالتقاليد والطباع‪ ،‬وأن بإمكانهم‬
‫توفري التكملة والرتياق الرضوريني ألجل معالجة النزعة القومية الرباغامتية للغرب»‬
‫(‪ .)cited in Keenleyside, 1982: 211‬ويف العام ‪ 1940‬حاجج جواهر الل نهرو‬
‫بأن نظام ما بعد الحرب يجب أن يجمع بني «أفضل عنارص الرشق والغرب‪ ،‬بحيث‬
‫ُيه َّذب العلم الغريب من خالل التأثري الكابح والخلفية الثقافية للهند والصني» (‪cited‬‬
‫أيضا العثور عىل أمثلة عىل نوع من الفكر‬ ‫‪ .)in Keenleyside, 1982: 212‬ميكن ً‬
‫الطوباوي املوجود يف الغرب يف خطاب مهامتا غاندي الرئايس أمام املؤمتر الوطني‬
‫الهندي يف العام ‪ ،1924‬إذ قال‪« :‬إن الفكر األسلم للعامل مل يرغب يف وجود دول‬
‫مستقلة متاما تتقاتل بعضها ضد بعض‪ ،‬بل أراد اتحادا من الدول الصديقة املرتابطة»‬
‫(‪.)cited in Prabhu, 2017‬‬
‫غري أن النزعة املثالية مل تكن العنرص املهيمن أو حتى العنرص الرئيس للفكر‬
‫الدويل يف الهند خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني‪ .‬ومن املثري لالهتامم أنه حتى‬
‫قبل هجوم إدوارد كار عىل النزعة الطوباوية‪ ،‬ويف الوقت الذي كان فيه القوميون‬
‫الهنود يبرشون مبقاومة االستعامر الغريب ووحدة العامل‪ ،‬كان علامء السياسة الهنود‬
‫يعتمدون عىل أطروحة أرتاساسرتا ‪ Arthashastra‬املكتشفة أخريا(٭)‪ ،‬وذلك من‬
‫أجل وضع عقيدة لسياسة واقعية‪ .‬فساركار‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬طرح األفكار الرئيسة‬
‫بشأن العالقات الدولية ا ُملستمدة من النصوص الهندية الكالسيكية‪ .‬فاملفهوم‬
‫الهندويس ماتسيا نيايا ‪( Matsya-Nyaya‬منطق السمكة)‪ ،‬الوارد يف عديد من‬
‫النصوص الهندية‪ ،‬سواء العلامنية منها أو الدينية مبا يف ذلك ملحمة ماهابهاراتا‬
‫(٭) هي أطروحة سنسكريتية هندية قدمية بشأن فن الحكم والسياسة االقتصادية واإلسرتاتيجية العسكرية‬
‫ُتنسب إىل كوتيليا‪ ،‬املعروف أيضا باسم فيشنوجوبتا وتشاناكيا‪ ،‬كمؤلف للنص‪ .‬كان األخري عاملا يف منطقة ثيكسال‬
‫‪ ،Takshashila‬وا ُملعلم والويص عىل اإلمرباطور تشاندراغبت موريا‪ ،‬مؤسس اإلمرباطورية املاورية‪ .‬يعتقد بعض‬
‫العلامء أنهام الشخص نفسه‪ ،‬بينام ش َّكك معظمهم يف هذا األمر‪ .‬ومن املحتمل أن يكون هذا النص القديم من عمل‬
‫العديد من املؤلفني عىل مدى قرون‪ .‬وقد ُألف وو ُِّسع ُ‬
‫وح ِّرر بني القرن الثاين قبل امليالد والقرن الثالث امليالدي‪ ،‬وكان‬
‫كتابا مؤثرا حتى القرن الثاين عرش‪ ،‬عندما اختفى حينها‪ .‬ليعاد اكتشافه يف العام ‪ 1905‬عىل يد ر‪ .‬شاماسرتي‪ ،‬الذي‬
‫نرشه يف العام ‪ .1909‬للمزيد من املعلومات انظر‪:‬‬
‫‪Roger Boesche (2002). The First Great Political Realist: Kautilya and His Arthashastra. Lexington‬‬
‫‪Books.‬‬
‫[املرتجم]‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫وأرتاساسرتا ومانو سامهيتا ‪( Manusmriti‬قانون مانو) ورامايانا ‪ ،Ramayana‬رشح‬


‫نشأة الدولة من خالل حالة الطبيعة‪ .‬ويرى نص ماهابهاراتا أنه يف حالة عدم وجود‬
‫حكم املجتمع حينئ ٍذ مبنطق األسامك‪ ،‬بحيث‬ ‫دولة أو حاكم له سلطة العقاب‪ ،‬س ُي ُ‬
‫«يلتهم القوي الضعيف متاما مثل ما يحدث يف عامل األسامك» ‪(cited in Sarkar,‬‬
‫)‪ .1921: 80‬وباملنطق نفسه ينطبق أيضا عىل العالقات الدولية‪.‬‬
‫تربز جوانب عديدة من هذا التفكري الهندي يف العالقات الدولية‪ .‬أولها‪ ،‬هو‬
‫أن التفكري الهندي ميثل محاولة لتحديد وتوضيح مفاهيم العالقات الدولية؛ سواء‬
‫باإلشارة إىل السياسة املحلية أو إىل الصعيد الدويل حرصيا‪ ،‬وذلك لرشح كيفية ارتباط‬
‫الدول بعضها ببعض‪ .‬ثانيا‪ ،‬احتوى هذا التفكري عىل مجموعة متنوعة من املواقف‬
‫املتوافقة إن مل تكن متطابقة مع كل من النزعات الطوباوية أو املثالية والواقعية‬
‫باملعنى الغريب‪ .‬ثالثا‪ ،‬غالبا ما أجرى بعض الباحثني والقادة الهنود مقارنات مع‬
‫يكتف ساركار برسم أوجه التشابه‬ ‫التفكري الغريب بشأن هذه املوضوعات‪ .‬حيث مل ِ‬
‫بني الفكر السيايس الغريب الكالسييك والفكر الدويل (مبا يف ذلك الفكر اليوناين القديم‬
‫وكذلك الحديث)‪ ،‬بل ادَّعى أيضا أن األفكار الهندية ميكن أن تساعد يف فهم السياق‬
‫الغريب املعارص‪ .‬ومبقارنة منطق األسامك بأفكار هوبز وسبينوزا وستوارت ميل‪ ،‬جادل‬
‫ساركار بأن «اإلجابة الهندوسية كانت متطابقة مع األوروبية» )‪.(Sarkar, 1921: 79‬‬
‫وباملثل‪ ،‬ويف املجال الدويل‪« ،‬ميكن التحقق من املآثر الديبلوماسية التي تصورها‬
‫الفالسفة السياسيون الهندوس تقريبا بالحرف من خالل عديد من األمثلة الحاصلة يف‬
‫التاريخ األورويب واآلسيوي» (‪ .)Sarkar, 1919: 407‬هذه اإلشارة إىل الفكر والسياق‬
‫األوروبيني توقعت حصول مامرسة واسعة النطاق يف التطور الالحق لـحقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬حيث بدأ الباحثون غري الغربيني غالبا أبحاثهم بشأن حقل العالقات الدولية‬
‫من خالل استدعاء األفكار الغربية‪ ،‬واستخدامها كنقاط مرجعية لتسليط الضوء عىل‬
‫املفاهيم واملامرسات األصلية‪ /‬املحلية والتحقق من صحتها‪ .‬وعىل رغم أن هذا رمبا‬
‫أعاق تطور نظريات أصلية‪ /‬املحلية بحتة‪ ،‬فإنه قدم‪ ،‬من حيث املبدأ وليس من‬
‫حيث املامرسة العملية‪ ،‬أساسا ملناقشة عاملية بشأن نظريات العالقات الدولية‪.‬‬
‫ميكن العثور عىل بيان مهم ملقاربة نهرو يف العالقات الدولية يف عمله الذي‬
‫حمل عنوان «اكتشاف الهند» ‪ ،The Discovery of India‬والذي أ َّلفه يف أثناء‬
‫‪167‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وجوده يف السجن يف العام ‪ .1944‬ففي ذلك العمل‪ ،‬وتحت عنوان «الواقعية‬


‫والجغرافيا السياسية‪ :‬الفتح العاملي أم الرابطة العاملية؟»‪ ،‬انتقد نهرو بقوة فكرة‬
‫اقرتحها سبيكامن ووالرت ليبامن (املدعوم أيضا من ونستون ترششل) ترى أنه يجري‬
‫تنظيم النظام العاملي ملا بعد الحرب بشأن أنظمة األمن اإلقليمية ضمن «نطاقات»‬
‫القوى الكربى‪ .‬لقد وصف نهرو أفكارهم باعتبارها «استمرارا لسياسات القوة عىل‬
‫نطاق أوسع‪ ...‬من الصعب أن نرى كيف يستطيع [ليبامن] أن يرى السالم العاملي‬
‫أو التعاون املنبثق عنه» (‪ .)Nehru, [1946] 2003: 539‬وبرصف النظر عن رفضه‬
‫لسياسات القوة‪ ،‬فقد أشار أيضا إىل رغبته وأمله يف تعاون دويل أكرب‪ ،‬ليس يف شكل‬
‫تحالفات عسكرية من شأنها أن تعكس سياسات القوة‪ ،‬ولكن يف شكل «كومنولث‬
‫الدول» أو «رابطة عاملية»‪ .‬ومن املهم هنا اإلشارة إىل أن هذا الطرح ُكتب قبل انتهاء‬
‫الحرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫بعد ذلك بعامني‪ ،‬ويف خطاب ألقاه يف ‪ 7‬سبتمرب ‪ ،1946‬قدم نهرو مزيدا من‬
‫التفصيل عن معتقداته املعيارية‪:‬‬
‫«نقرتح االبتعاد قدر اإلمكان عن سياسات القوة الخاصة باملجموعات املتحالفة‬
‫بعضها مع بعض‪ ،‬وهي السياسات التي أدَّت يف املايض إىل نشوب حروب عاملية‪،‬‬
‫والتي قد تؤدي مرة أخرى إىل كارثة عىل نطاق أوسع‪ .‬نحن نؤمن بأن السالم‬
‫والحرية غري قابلني للتجزئة‪ ،‬وأن الحرمان من الحرية يف أي مكان من شأنه أن‬
‫يع ِّرض الحرية للخطر يف مكان آخر ويؤدي إىل الرصاع والحرب‪ .‬نحن مهتمون عىل‬
‫نحو خاص بتحرير األرايض والشعوب املستعمرة والتابعة واالعرتاف نظريا ومامرس ًة‬
‫بالفرص املتساوية لجميع الشعوب‪ ...‬ال نسعى إىل الهيمنة عىل اآلخرين وال ندَّعي‬
‫امتالك أي مركز متميز عىل الشعوب األخرى‪ ...‬وعىل الرغم من الخصومات واألحقاد‬
‫والرصاعات الداخلية التي يشهدها العامل‪ ،‬فإنه يتحرك حتام نحو توثيق التعاون‬
‫وبناء عامل الكومنولث‪ .‬وألجل تحقيق هذا العامل الواحد ستعمل الهند الحرة‪ ،‬عامل‬
‫يوجد فيه تعاون حر للشعوب الحرة‪ ،‬وال توجد فيه طبقة أو مجموعة تستغل‬
‫أخرى» (‪.)cited in Mani, 2004: 66‬‬
‫مكان يف نصوص حقل العالقات الدولية‬ ‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬ال يوجد لنقد نهرو ٌ‬
‫التي تتعاطى مع النقاش املثايل ‪ -‬الواقعي أو النقاش الواقعي ‪ -‬الليربايل‪.‬‬
‫‪168‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫‪ - 3 - 4‬أمريكا الالتينية‬
‫لقد رصدنا يف الفصل الثاين اإلسهامات املميزة ألمريكا الالتينية خالل القرن‬
‫التاسع عرش بشأن اإلقليمية؛ واملساواة يف السيادة؛ وعدم التدخل‪ .‬وخالل سنوات‬
‫ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬نشأت مفاهيم رئيسة أخرى أصبحت اآلن أساسية يف‬
‫حقل العالقات الدولية و ُمتأصلة يف الحركة الوحدوية األمريكية ‪.Pan-American‬‬
‫ولعل أهمها مفهوم كيان الدولة املعلن ا ُملتضمن يف اتفاقية مونتفيديو بشأن حقوق‬
‫وواجبات الدول‪ ،‬والتي ُتبنيت يف مؤمتر البلدان األمريكية يف مونتيفيديو يف العام‬
‫‪ .1933‬لقد ُقننت هذه االتفاقية ضمن إطار القانون الدويل‪ ،‬ورمبا بفضلها أصبحت‪،‬‬
‫وألول مرة‪ ،‬املكونات التعريفية للدولة يف العالقات الدولية تتكون من‪ :‬الشعب؛‬
‫واألرايض؛ والحكومة؛ واالعرتاف‪ .‬وقد أدى تأييد أمريكا الالتينية يف النهاية إىل تخيل‬
‫الواليات املتحدة رسميا‪ ،‬إن مل يكن دامئا من الناحية العملية‪ ،‬عن مبدأ مونرو يف‬
‫العام ‪ 1933‬وقبول عدم التدخل كمبدأ أسايس يف عالقاتها مع املنطقة‪ .‬وبعد فرتة‬
‫يكتس معيار عدم التدخل قوة يف أمريكا الالتينية فقط‪ ،‬بل انترش أيضا يف‬ ‫قليلة مل ِ‬
‫أجزاء أخرى من العامل‪ ،‬وال سيام يف آسيا ما بعد إنهاء االستعامر‪.‬‬
‫ويف حني تشتهر أمريكا الالتينية بتطوير نظرية التبعية ‪Dependency Theory‬‬
‫يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬يسلط إريك هيليرن وأنتوليو روساليس‬
‫)‪ Antulio Rosales (2017‬الضوء عىل املساهامت السابقة األكرث عمومية وا ُملتأتية‬
‫من هذه املنطقة‪ ،‬وهي املساهامت التي تدور حول قضايا املركزية األوروبية؛‬
‫واإلمربيالية؛ والتبعية؛ والتعاون اإلقليمي خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني‪ .‬كام‬
‫أن أعامل اثنني من املفكرين البريوفيني‪ ،‬فيكتور راؤول هايا دي ال توري ‪Víctor‬‬
‫)‪ Raúl Haya de la Torre (1895-1979‬وخوسيه كارلوس مارياتغي ال شريا ‪José‬‬
‫)‪ ،Carlos Mariátegui La Chira (1894-1930‬كانت تكتيس أهمية خاصة‪ .‬لقد‬
‫شعر فيكتور راؤول هايا بأن األفكار السياسية يف أمريكا الالتينية استُعريت من‬
‫أوروبا من دون إيالء اعتبار كبري لسياق ورشوط أمريكا الالتينية (أو ما أسامه‬
‫«إندوأمريكا» ‪ .)Indoamerica‬ورفض الرأي القائل إن األفكار األوروبية؛ مبا يف‬
‫ذلك املاركسية التي كان يؤمن بها‪ ،‬كانت أفكارا عاملية كام ادَّعى أنصارها‪ ،‬فاألجزاء‬
‫املختلفة من العامل طورت رؤى مختلفة للعامل تعكس رشوطها وتواريخها املحليتني‪.‬‬
‫‪169‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بسط يف بيئتنا للمذاهب‬ ‫ومن ثم فإنه «من الرضوري إدراك أن التطبيق الشامل وا ُمل َّ‬
‫الفكرية األوروبية وقواعد التفسري تلك يجب أن ُيخضعا لتعديالت عميقة» ‪(cited‬‬
‫)‪ .in Helleiner and Rosales, 2017:673‬أما فيكتور راؤول هايا فقد كان تفكريه‬
‫ينزع إىل اإلقليمية‪ ،‬حيث دعا إىل القومية االقتصادية «ألمريكا الالتينية» التي تضم‬
‫السكان األصليني ا ُملهمشني‪ .‬وعالوة عىل ذلك‪ ،‬فقد تحدى فرضية لينني القائلة إن‬
‫اإلمربيالية هي أعىل مراحل الرأساملية‪ .‬ويف حني أن هذا قد يكون هو الحال يف‬
‫أوروبا‪ ،‬فقد كانت هذه متثل املرحلة األوىل بالنسبة إىل أمريكا الالتينية‪ .‬غري أنه‬
‫اعرُتض عىل هذا الرأي من طرف مارياتغي ‪ Mariátegui‬الذي قبل مبوقف لينني‪.‬‬ ‫ُ‬
‫طور كالهام صيغا مبكرة من نظرية التبعية‪ ،‬لكن مارياتغي كان مهتام عىل‬ ‫لقد َّ‬
‫نحو خاص باعتامد البريو الشديد عىل صادرات السلع التي تسيطر عليها املصالح‬
‫األجنبية؛ ومن ثم تع ُّرضها للتقلبات يف أسعار السلع األساسية‪ .‬وذهب مارياتغي إىل‬
‫أبعد من فيكتور راؤول هايا ليقول إن فكر التنمية االشرتاكية يف املناطق يجب أن‬
‫يدمج قيم الشعوب األصلية للمنطقة‪ ،‬ومن ثم إضافة مزيد من السياقات والفواعل‬
‫املحليتني إىل مفاهيم التنمية يف أمريكا الالتينية‪ .‬لكن مارياتغي عارض تفضيل‬
‫فيكتور راؤول هايا لـ «جبهة موحدة» من الثوار والعنارص الربجوازية ملحاربة‬
‫اإلمربيالية‪ .‬كان موقف مارياتغي مشابها ملوقف املفكر املاركيس الدويل والناشط‬
‫من الهند مانابندرا ناث روي )‪ - Manabendra Nath Roy (1887-1954‬الذي‬
‫كان ُمؤسسا للحزب الشيوعي املكسييك والذي تحدى سابقا موقف لينني ‪ -‬الذي‬
‫عُ ِّرِّب عنه يف العام ‪ ،1920‬والقائل بتطوير تحالف واسع النطاق مناهض لإلمربيالية‪.‬‬
‫كانت هذه األفكار واملناقشات مبنزلة بواكري للتطور الالحق لتفكري حقل العالقات‬
‫الدولية ألمريكا الالتينية‪ ،‬مبا يف ذلك؛ عىل سبيل املثال ال الحرص‪ ،‬نظرية التبعية‪ .‬وكام‬
‫الحظ كل من هيليرن وروزاليس (‪ ،)2017: 671‬فإن رفض فيكتور راؤول هايا للنزعة‬
‫العاملية «األحادية» األوروبية وحساسيته تجاه التغريات والتكيفات اإلقليمية ُي ِعدَّان‬
‫مقدمة قوية ألفكارنا الخاصة بإضفاء الطابع املحيل والعاملي التعددي عىل حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي ‪.Global IR‬‬
‫لقد ظهر مفهوم التنمية الدولية عىل نحو ملموس يف أمريكا الالتينية‪ .‬ففي‬
‫الثالثينيات من القرن املايض ط َّورت دول أمريكا الالتينية أفكارا بشأن التنمية‪،‬‬
‫‪170‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫وسعت إىل إنشاء بنك البلدان األمريكية ‪ IAB‬لتسهيل تدفق األموال من الواليات‬
‫املتحدة ألغراض تنمية تلك البلدان‪ .‬ويف الوقت الذي ُولد فيه بنك البلدان األمريكية‬
‫ميتا‪ ،‬أ َّثرت املقرتحات الخاصة به بالتأكيد يف املسودات األمريكية األولية ملؤسسات‬
‫بريتون وودز التابعة لصندوق النقد الدويل ‪ IMF‬والبنك الدويل لإلنشاء والتعمري‬
‫(البنك الدويل) (‪ .)Helleiner, 2014‬يف الواقع‪ ،‬يوضح هياليرن كيف كانت دول‬
‫أمريكا الالتينية‪ ،‬إىل جانب الصني والهند‪ ،‬من املساهمني الرئيسني يف مؤمتر بريتون‬
‫وودز للعام ‪.1944‬‬
‫إن املجال اآلخر الذي شملته مساهمة أمريكا الالتينية يف العالقات الدولية متثل‬
‫يف حقوق اإلنسان‪ .‬فخالل مناقشة املعامل الرئيسة ملساهمة أمريكا الالتينية يف مسائل‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬تستحرض كاثرين سيكينك )‪Kathryn Sikkink (2016:122–33‬‬
‫مؤمتر البلدان األمريكية بشأن إشكاالت الحرب والسالم للعام ‪ ،1945‬والذي حرضته‬
‫‪ 19‬دولة من أمريكا الالتينية‪ ،‬وعُ قد يف مدينة مكسيكو سيتي‪ .‬بعد ثالث سنوات‪،‬‬
‫وقعت ‪ 21‬دولة؛ مبا يف ذلك الواليات املتحدة‪ ،‬عىل اإلعالن األمرييك لحقوق وواجبات‬
‫اإلنسان يف العاصمة الكولومبية بوغوتا يف أبريل ‪ ،1948‬وذلك قبل سبعة أشهر من‬
‫إقرار اإلعالن العاملي لحقوق اإلنسان يف ‪ 10‬ديسمرب ‪ .1948‬وعىل الرغم من أن‬
‫هذه املبادرات يف أمريكا الالتينية جاءت خالل سنوات ‪ ،1948-1945‬أوال يف الفرتة‬
‫التي سبقت صياغة ميثاق األمم املتحدة يف العام ‪ 1945‬ثم صياغة اإلعالن العاملي‬
‫لحقوق اإلنسان يف العام ‪ ،1948‬فإن باولو كاروزا ‪ Paolo Carozza‬يجادل ‪(2003:‬‬
‫)‪ 282, 311‬بأنها عكست «فرتة طويلة من التقاليد العميقة لفكرة حقوق اإلنسان‬
‫يف املنطقة»‪ ،‬والتي تطورت من خالل نضاالت املنطقة ضد الغزو اإلسباين والثورات‬
‫الجمهورية الليربالية يف القارة‪ ،‬وأيضا من خالل الدستور املكسييك للعام ‪،1917‬‬
‫الذي ر َّكز بقوة عىل مسألة الحقوق االجتامعية واالقتصادية‪ .‬يجادل كاروزا ‪(2003:‬‬
‫)‪ 311–12‬كذلك بأن التفكري املتطور يف أمريكا الالتينية بشأن حقوق اإلنسان «كان‬
‫عامليا بقوة يف توجهه‪ ،‬إذ كان ينبني عىل املساواة يف الكرامة للجميع»‪ .‬لقد متكنت‬
‫إذن دول أمريكا الالتينية من إنتاج «لغة حقوق دستورية مع تكريس قوي لفكريت‬
‫الحرية واملساواة»‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 3 - 5‬الرشق األوسط‬
‫خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬كانت النزعة الوحدوية اإلسالمية ‪Pan-‬‬
‫‪ Islamism‬والنزعة الوحدوية العربية ‪« Pan-Arabism‬نزعتني» رئيستني‪ ،‬أو‬
‫خطوطا فكرية يف الرشق األوسط تتفاعل عىل نحو وثيق مع النزعة القومية‬
‫لتشكيل الفكر واملامرسة الدوليني يف العامل العريب‪ .‬رمبا تشرتك النزعة الوحدوية‬
‫اإلسالمية والنزعة الوحدوية العربية يف أهداف مامثلة تتعلق بتعزيز إنهاء‬
‫االستعامر‪ ،‬لكن النزعة الوحدوية العربية كانت ظاهرة أكرث علامنية‪ .‬ظهرت فكرة‬
‫العرب كأمة‪ ،‬عىل الصعيدين الثقايف والسيايس‪ ،‬عىل نحو أسايس خالل الحرب‬
‫العاملية األوىل‪ ،‬وظلت مع الثورة العربية ضد اإلمرباطورية العثامنية‪ .‬وكان من‬
‫أبرز املدافعني عنها يف تلك املرحلة حسني بن عيل‪ ،‬رشيف مكة‪ ،‬الذي حصل عىل‬
‫دعم بريطاين ضد العثامنيني ودافع عن «دولة عربية موحدة متتد من حلب إىل‬ ‫ٍ‬
‫عدن»(٭)‪ .‬ولكن بسبب اعتامده عىل الدعم الربيطاين‪ ،‬قلل حسني بن عيل من‬
‫أهمية الجوانب الدينية للنزعة الوحدوية العربية‪ .‬فقد أظهرت النزعة الوحدوية‬
‫العربية تقاربا مع النمط الغريب العلامين‪ .‬ومارس املفكرون اللبنانيون والسوريون‬
‫دورا رئيسا يف تطوير هذه النزعة‪ ،‬حيث تأثروا بالفكر الغريب وباملؤسسات‬
‫الغربية‪ ،‬مثل الكلية الربوتستانتية السورية (الجامعة األمريكية يف بريوت الحقا)‬
‫)‪ .(Antonius, [1938] 2001‬وخالل ثالثينيات القرن العرشين اكتسبت النزعة‬
‫الوحدوية العربية قوة فكرية أكرب‪ ،‬حيث تأثرت باملاركسية‪ .‬وكان تأسيس حزب‬
‫«البعث» أو «النهضة» يف األربعينيات عىل يد ميشيل عفلق وصالح الدين البيطار‬
‫نقطة بارزة أخرى يف تاريخ الحركة القومية العربية‪ ،‬عىل الرغم من أنه مل يصبح‬
‫فعاال للغاية‪ .‬ومن الالفت للنظر أن االهتامم بالوحدوية العربية ظل ضعيفا يف‬
‫مرص‪ ،‬عىل الرغم من أهميتها التاريخية كمركز فكري وسيايس يف العامل العريب‪.‬‬
‫فقد كانت القومية املرصية‪ ،‬وليس النزعة الوحدوية العربية‪ ،‬هي املحور املهيمن‬
‫للقومية يف ثالثينيات وأربعينيات القرن العرشين يف مرص‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬ستربز مرص‬
‫‪) The two “isms” of the Middle East’, Aljazeera News, www.aljazeera.com/focus/arabuni‬٭(‬
‫‪ty/2008200852518534468346/02/.html (Accessed 5 October 2018).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫كمصدر لصيغة أكرث نضالية ودولية من النزعة الوحدوية العربية بعد الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬وذلك تحت قيادة جامل عبدالنارص‪.‬‬
‫لقد ُرفض التأثري الغريب يف النزعة الوحدوية العربية ولونها العلامين من طرف‬
‫النزعة الوحدوية اإلسالمية التي قدمت نفسها بديال‪ .‬إذ كانت األخرية تقف يف‬
‫مواجهة املشاريع القومية بسبب اختالف قاعدة الهوية‪ .‬فقد أدى إلغاء تركيا‬
‫الخالفة يف العام ‪ 1924‬إىل حدوث انقسام سيايس بشأن من قد يرث اللقب‪ ،‬مام‬
‫أدى إىل إضعاف النزعة الوحدوية اإلسالمية مقارنة بالعهد العثامين ‪(Hashmi,‬‬
‫)‪ .2009:181–6‬وعىل النقيض من النزعة الوحدوية العربية‪ ،‬كانت الوحدوية‬
‫اإلسالمية قلقة بشأن تآكل القيم اإلسالمية‪ ،‬ورفضت مسارات التغريب والنزعة‬
‫العلامنية‪ .‬وكان من أبرز نقاط تطورها تأسيس جامعة اإلخوان املسلمني عىل يد‬
‫املرصي حسن البنا يف العام ‪.1928‬‬
‫كان الهدف املشرتك للنزعتني الوحدويتني العربية واإلسالمية هو رفض الدولة‬
‫القومية الوستفالية‪ .‬وسيؤدي هذا إىل رصاعات سياسية كبرية ونزاعات إقليمية‬
‫يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬وهو ما سيشكل الفكر واملقاربة الدوليني‬
‫يف الرشق األوسط‪ ،‬عىل رغم أن فكرة الدولة القومية ستظل مرنة وستسود عىل‬
‫التيارات الوحدوية بشقيها العريب واإلسالمي (‪.)Barnett, 1995‬‬

‫‪ - 3 - 6‬أفريقيا والكاريبي‬
‫كام هو مذكور يف الفصل الثاين‪ ،‬اختلفت النزعة الوحدوية األفريقية عن الحركات‬
‫الوحدوية القومية األخرى من ناحية أن دافعها األويل مل َ‬
‫يتأت من قادة قارة أفريقيا‪،‬‬
‫بل من األمريكيني األفارقة يف الواليات املتحدة ومنطقة البحر الكاريبي‪ .‬لقد استمر‬
‫إدوارد دو بويز يف كونه ميثل شخصية مهمة‪ .‬وكان دو بويز مهتام بشأن «إشكالية‬
‫اللون» التي مل تكن إشكالية داخلية بالنسبة إىل الواليات املتحدة فقط‪ ،‬بل كانت‬
‫ُتشكل إشكالية كبرية بالنسبة إىل العامل بأرسه؛ مبا يف ذلك األفارقة داخل أفريقيا‪.‬‬
‫لقد أكد زعامء الوحدوية األفريقية منذ عرشينيات القرن العرشين‪ ،‬من أمثال‬
‫ماركوس غاريف ‪ Marcus Garvey‬املولود يف جامايكا (‪ ،)1940-1887‬عىل املايض‬
‫الجامعي والخربة املشرتكة للسود عىل جانبي املحيط األطليس‪ .‬كام دافع غاريف عن‬
‫‪173‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫القومية السوداء والنزعة الوحدوية األفريقية واعتقد أن الشيوعية ستفيد البيض‬


‫أكرث من إفادتها للسود‪ .‬كام أن الجمعية العاملية لتحسني الزنوج ‪The Universal‬‬
‫‪ Negro Improvement Association‬ورابطة املجتمعات األفريقية ‪the African‬‬
‫‪ Communities League‬التي أسسهام برزا كمنظامت دفعتا مبثل هذا التفكري إىل‬
‫املرسح الدويل (‪ .)Kuryla, 2016‬لقد شهدت فرتة ما بني الحربني العامليتني انعقاد‬
‫ما ال يقل عن أربعة مؤمترات للحركة الوحدوية األفريقية؛ ابتداء من العام ‪ 1919‬يف‬
‫باريس وانتهاء بالعام ‪ 1927‬يف نيويورك‪ .‬ومل يكن أي من تلك املؤمترات فعاال‪ ،‬لكنها‬
‫سمحت بالتنشئة االجتامعية ومترير الشعلة من خارج أفريقيا إىل األفارقة‪ .‬ومع‬
‫التقدم الذي عرفته الحركة‪ ،‬انتقل قلبها النابض من األمريكيني األفارقة إىل األفارقة‬
‫يف أفريقيا والدول األفريقية‪ .‬لقد اتسمت مؤمتراتها مبناهضة شديدة لالستعامر‪،‬‬
‫واتخذت قرارات طالبت عربها بإنهاء االستعامر ونيل االستقالل‪ ،‬مع الرتكيز عىل‬
‫قضية التمييز العنرصي العرقي(٭)‪ .‬كام رددت الحركة الوحدوية األفريقية هذه‬
‫املالحظة الخاصة بالتخلف والجهود الدولية غري الكافية ملعالجة هذه املشكلة‪.‬‬
‫وقد تراوحت أفكار إدوارد دو بويز بني الدعوة إىل «الرأساملية السوداء» واألفكار‬
‫االشرتاكية واملاركسية بشأن التمييز ا ُملأمسس يف تنمية السود والبيض‪.‬‬
‫إن االرتباط اإلنساين والفكري الوثيق بني النشطاء واملفكرين يف أفريقيا؛‬
‫ومنطقة البحر الكاريبي؛ والحركة القومية السوداء يف الواليات املتحدة تجىل‬
‫أيضا يف العمل الرائد لروبرت جيمس من ترينيداد‪ .‬فقد كان ُكتيبه الذي حمل‬
‫عنوان «قضية الحكم الذايت لغرب الهند» ‪The Case for West-Indian Self‬‬
‫)‪ Government (James, 1933‬أول بيان مهم يدعو إىل االستقالل الوطني يف‬
‫جزر الهند الغربية الربيطانية (‪ .)Fraser, 1989‬أما كتابه املوسوم بـ «الثورة‬
‫العاملية» )‪ World Revolution (James, [1937] 2017‬فقد عمد إىل تحليل‬
‫تاريخ األممية الشيوعية مع الرتكيز عىل نزاعاتها الداخلية‪ .‬وعىل الرغم من تعاطفه‬
‫مع الحركة الرتوتسكية ومشاركته فيها‪ ،‬فإنه تحدى موقف تروتسيك من خالل‬
‫‪) Anticolonial Movements, Africa’, http://what-when-how.com/western-colonialism/ anticolonial-‬٭(‬
‫‪movements-africa/ (Accessed 27 May 2018).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫الدعوة إىل تنظيم حركة تحرير السود عىل نحو مستقل عن الحزب الشيوعي‬
‫الرتوسيك الطليعي‪ .‬كام أن كتاب جيمس الذي جاء تحت عنوان «اليعاقبة السود»‬
‫)‪ ،The Black Jacobins ([1938] 1989‬فاليزال ميثل رسدا كالسيكيا لدراسة‬
‫ماركسية لثورة العبيد يف هايتي يف تسعينيات القرن الثامن عرش‪ .‬مثة عمل آخر‬
‫مهم يف هذه الفرتة أال وهو كتاب «الرأساملية والعبودية» ‪Capitalism and‬‬
‫‪ Slavery‬إلريك ويليامز )‪ ،Eric Williams ([1944] 1994‬الذي أصبح أول رئيس‬
‫وزراء لرتينيداد وتوباغو من العام ‪ 1962‬إىل العام ‪ .1981‬حيث درس هذا العمل‬
‫كيفية مساهمة العبودية يف عملية الرتاكم الرأساميل الهائل يف بريطانيا والثورة‬
‫الصناعية‪ ،‬وجادل بأن إلغاء بريطانيا النهايئ لتجارة الرقيق عرب املحيط األطليس يف‬
‫العام ‪ 1807‬والعبودية يف العام ‪ 1833‬مل يكن مدفوعا باملخاوف اإلنسانية‪ ،‬ولكن‬
‫بأسباب اقتصادية‪ ،‬خاصة أن االقتصاد الصناعي الربيطاين مع منو اعتامده عىل‬
‫العمل املأجور‪ ،‬جعل العبودية غري فعالة اقتصاديا وزائدة عىل الحاجة‪.‬‬

‫‪ - 3 - 7‬خالصات‬
‫لقد كانت نزعة مناهضة االستعامر موضوعا ودافعا ُمشرتكا لكثري من تفكري‬
‫حقل العالقات الدولية يف األطراف‪ .‬كان هذا صحيحا عىل نحو خاص يف تلك‬
‫األماكن التي كانت التزال ُمستعمرة أو ُمخرتقة بشدة من طرف القوى الغربية‪،‬‬
‫وغالبا ما كان ذلك ُمتشابكا مع مزيج من اإلقليمية والنزعة الوحدوية‪ ،‬والتي‬
‫ميكن أن يكون له عالقة معقدة بالقومية‪ .‬ميكن للنزعة الوحدوية القومية أن‬
‫تكمل الحركات القومية ذات القاعدة الضيقة من خالل توفري إطار دعم ملناهضة‬
‫االستعامر‪ .‬ولكن حتى يف حالة وجود نوع من التجانس العرقي (مثل أفريقيا)‬
‫أو القومي (مثل العامل العريب) أو الثقايف (مثل أمريكا الالتينية والعامل اإلسالمي)‪،‬‬
‫فإن النزعة الوحدوية القومية والدولة القومية ميكن أن تقعا يف توتر‪ .‬مل تتضمن‬
‫النزعة الوحدوية اآلسيوية أي عامل تجانس واضح عىل اإلطالق باستثناء جغرافيا‬
‫مشرتكة ضخمة ومتنوعة‪ ،‬ورغب ٍة يف االنعتاق من الهيمنة الغربية‪ .‬لقد كانت‬
‫هذه الحركات الوطنية واإلقليمية‪ ،‬مثلها مثل معظم فروع حقل العالقات الدولية‬
‫الغريب لفرتة ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬ذات خاصية معيارية‪ /‬مثالية‪ .‬لكنهم كانوا‬
‫‪175‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ضد اإلمربيالية‪ ،‬وليس ضد حرب القوى الكربى‪ .‬لقد احتلت اإلمربيالية بالنسبة إىل‬
‫املثقفني يف املستعمرات املكانة نفسها التي احتلتها إشكالية الحرب لدى باحثي‬
‫حقل العالقات الدولية الغربيني خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني‪ .‬ومل تكن‬
‫النزعة الوحدوية القومية يف فرتة ما بني الحربني تتعلق بقضية التحرر فقط‪ ،‬بل‬
‫كانت أيضا متثل رؤية لكيفية تنظيم العامل‪ .‬وحتى يف هذه املرحلة املبكرة‪ ،‬كانت‬
‫مثة بدايات اهتامم بفكرة التنمية‪ ،‬كام لوحظ ذلك يف أمريكا الالتينية والصني‪.‬‬
‫ليس من املستغرب أن يكون لدى مفكري الدول غري الغربية خالل فرتة ما بني‬
‫الحربني وما قبلها الكثري ليقولوه بشأن فكرة التنمية الدولية‪ ،‬والتي كان يشء‬
‫منها سابقا للتفكري الغريب بشأن هذا املوضوع‪ .‬فلم تكن أفكار العامل غري الغريب‬
‫متوافقة دامئا مع األفكار الغربية‪ ،‬بل كانت يف الواقع تتعارض معها‪ .‬وقد حصل‬
‫هذا جزئيا ألن تلك األفكار كانت معادية لالستعامر بطبيعتها وأصلها‪ .‬حيث‬
‫احتوت تلك الحركات عىل مواقف متنوعة؛ مبا يف ذلك املثالية والواقعية‪ .‬وغالبا ما‬
‫بديل منها‪ .‬لكن يف بعض‬ ‫شددت عىل التحرر الثقايف عن الثقافة الغربية وإيجاد ٍ‬
‫األحيان‪ ،‬وعىل نحو أكرث وضوحا مع النزعة الوحدوية اآلسيوية اليابانية ‪ -‬وإىل حد‬
‫ما مع الصينية ‪ -‬اقرتحت تلك الحركات الهيمنة اإلقليمية كمضاد رضوري للهيمنة‬
‫الغربية‪ .‬فبالنسبة إىل األطراف‪ ،‬ميكن رؤية االهتامم طويل األمد باملساواة يف‬
‫السيادة؛ وعدم التدخل؛ وحقوق اإلنسان؛ ومناهضة الهيمنة يف أمريكا الالتينية ‪-‬‬
‫مثلام سيصبح أكرث عمومية بعد إنهاء االستعامر بعد العام ‪ 1945-‬كوضع متابع ٍة‬
‫طبيعي يتأىت من نزعة مناهضة االستعامر‪.‬‬
‫إن معظم النصوص الغربية الحالية بشأن العالقات الدولية تتجاهل هذه‬
‫األفكار اإلقليمية والقومية كمصدر للعالقات الدولية‪ .‬ومن املثري لالهتامم أن‬
‫نرصد املواقف التي ُأبديت تجاه تلك األفكار من نص كان واسع االستخدام يف‬
‫فرتة ما بني الحربني ُكتب من طرف رميون ليزيل بويل (‪ ،)1925: 91‬الذي ساوى‬
‫بني هذه األفكار والعنرصية؛ أو «القومية العرقية»‪ ،‬ومن ثم اعتربها أفكارا رجعية‬
‫أو ذات مركزية عرقية‪ .‬إن هذا االعرتاف بالعرق كقوة مهمة يف العالقات الدولية‬
‫وفكر ما قبل الحرب العاملية األوىل وفرتة ما بني الحربني ُيعد شيئا مهام‪ ،‬مام‬
‫يشري إىل أن حقل العالقات الدولية مل ينشأ فقط نتيجة لالنقسام املثايل والواقعي‬
‫‪176‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫القائم يف الغرب فقط‪ ،‬ولكن نشأ أيضا نتيجة لالنقسام العنرصي واالقتصادي‬
‫والسيايس القائم بني الغرب والبقية‪ .‬ومن املثري لالهتامم أيضا أن بويل بالكاد‬
‫مييز بني مثل هذه الحركات يف أوروبا (مثل النزعة الوحدوية الجرمانية؛ أو‬
‫النزعة الوحدوية السالفية؛ أو مفاهيم التفوق اآلري والتوتوين والشاميل) والنزعة‬
‫الوحدوية القومية يف العامل غري الغريب (كام هو الحال يف آسيا وأفريقيا وأمريكا‬
‫الالتينية والعامل العريب)‪ .‬حيث ال مييز بني الدوافع الرجعية والتحررية التي‬
‫فرقت بينهام‪ .‬يف الواقع‪ ،‬لقد ُم ِّثل كل من التيارات الرجعية والتحررية يف معظم‬
‫الحركات الوحدوية القومية‪ .‬وحتى اليابان؛ التي طورت نسخة متطرفة من النزعة‬
‫الوحدوية منذ أواخر القرن التاسع عرش تحت غطاء النزعة الوحدوية اآلسيوية‬
‫(وشعار آسيا لآلسيويني)‪َ ،‬ط َّورت رؤية أكرث تحررية كتلك التي مثلها أوكاكورا‬
‫تينشني وآخرون‪.‬‬
‫يرى بويل (‪ )1925: 92‬الحركات الوحدوية القومية يف الغرب كمصدر رص ٍاع‪،‬‬
‫أكرث أهمية من الرصاع الناجم عن أسباب اقتصادية أو سياسية بحتة‪ ،‬ومن ثم‬
‫توقع حدوث «رصاع الحضارات» عىل منط هنتنغتون‪ .‬وفيام يتعلق بـ «الحركات‬
‫الوحدوية القومية امللونة يف العامل»‪ ،‬التي ضم إليها الوحدوية األفريقية؛‬
‫واإلسالمية؛ والعربية؛ والطورانية (الرتكية)؛ واآلسيوية‪ ،‬فبينام كان العرق مهام يف‬
‫إنشائها‪ ،‬مل يكن لدى هؤالء كثري لدعم أنفسهم باستثناء «االستياء املشرتك تجاه‬
‫اإلمربيالية األوروبية واألمريكية؛ واستغالل الرجل األبيض» (‪.)Buell, 1925: 93‬‬
‫كان بويل يعتقد أن هذه الحركات سوف تتالىش مبجرد إزالة مصادرها الخارجية‪،‬‬
‫أي زوال اإلمربيالية والهيمنة‪ .‬ويف حني أن بويل ُيع ِّرف اإلمربيالية عىل نحو صحيح‬
‫عىل أنها مصدر رئيس لهذه الحركات الوحدوية القومية‪ ،‬فإن العوامل املحفزة‬
‫وتأثريها كان يف الواقع متعدد األبعاد وأطول أمدا مام توقعه‪ .‬فتلك الحركات‬
‫مل تحت ِو عىل رؤى بشأن تنظيم العامل واإلقليم فقط‪ ،‬بل وفرت أيضا األساس‬
‫لتطوير معايري توجيه السلوك للعالقات الدولية يف فرتة ما بعد االستعامر‪ ،‬كام‬
‫و َّفرت األفكار التي قامت عليها التأسيسات الالحقة لحركات عاملية مهمة مثل‬
‫مؤمتر باندونغ يف العام ‪1955‬؛ وحركة عدم االنحياز يف ستينيات القرن العرشين‬
‫(‪.)Acharya, 2009, 2011a‬‬
‫‪177‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫خالصات‬
‫خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني أصبح حقل العالقات الدولية ُمأمسسا إىل‬
‫حد كبري باعتباره تخصصا أكادمييا عىل نحو أسايس يف الغرب؛ خاصة يف البلدان‬
‫الناطقة باللغة اإلنجليزية‪ ،‬وأيضا ُمأمسسا إىل حد ما عىل الصعيد العاملي‪ .‬وعىل‬
‫ذلك‪ ،‬فقد احتفظ حقل العالقات الدولية بكثري من االستمراريات مع سابقه يف‬
‫القرن التاسع عرش‪ .‬ومتاشيا مع املامرسة الفعلية يف العالقات الدولية‪ ،‬اشتملت تلك‬
‫االستمراريات عىل فصل حاد جدا بني حقل العالقات الدولية داخل املركز؛ الذي‬
‫كان يركز إىل حد كبري عىل رؤى وإشكاليات دول املركز‪ ،‬وحقل العالقات الدولية‬
‫داخل األطراف؛ والذي كان مدفوعا عىل نحو أسايس بنزعة مناهضة االستعامر‪.‬‬
‫كان هناك أيضا كثري من االستمرارية يف األنواع الرئيسة للموضوعات واملقاربات‬
‫والنظريات يف حقل العالقات الدولية‪ ،‬مبا يف ذلك الليربالية؛ واالشرتاكية؛ والواقعية؛‬
‫والعنرصية «العلمية»؛ والقومية؛ واملنظمة الدولية؛ االقتصاد السيايس الدويل؛‬
‫والجغرافيا السياسية داخل املركز؛ ومناهضة االستعامر واإلقليمية داخل األطراف‪.‬‬
‫كام ظلت اإلدارة‪ /‬التنمية االستعامرية موضوعا لكل من املركز واألطراف عىل‬
‫حد السواء‪ ،‬وإن كان ذلك وفق منظورات مختلفة‪ .‬لقد كانت معظم املوضوعات‬
‫والنظريات الرئيسة التي ستشكل حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1945‬‬
‫موجودة بالفعل‪ ،‬وكان بعضها؛ خاصة النسوية واالقتصاد السيايس الدويل‪،‬‬
‫تعمل عىل نحو كامل‪ ،‬ولن تظهر مرة أخرى يف مرحلة ما بعد العام ‪ 1945‬حتى‬
‫السبعينيات‪ .‬أيضا‪ ،‬وعىل الرغم من املأسسة األكادميية لحقل العالقات الدولية‬
‫داخل كل من املركز واألطراف‪ ،‬ظلت هناك عنارص غري أكادميية كبرية جدا تشارك‬
‫يف النقاشات القامئة بشأن هذا الحقل‪ ،‬مبا يف ذلك املفكرون العامون؛ ومنظامت‬
‫منارصة القضايا املختلفة؛ والخطابات السياسية‪.‬‬
‫مل ُتبالغ الروايات ا ُملتعارف عليها لحقل العالقات الدولية خالل فرتة ما بني‬
‫الحربني يف هيمنة النزعة املثالية فقط‪ ،‬ولكنها بالغت أيضا يف االختالفات القامئة بني‬
‫املثاليني والواقعيني‪ ،‬بينام كانت ُتخفي تلك االختالفات القامئة داخل كل معسكر‬
‫(‪ .)Long, 1995: 302–3; L. Ashworth, 2014‬متنح هذه الروايات أيضا امتيازا‬
‫للمركز وتتجاهل إىل حد كبري تفكري حقل العالقات الدولية داخل األطراف‪ .‬مع‬

‫‪178‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1945-1919‬التأسيس األول للتخصص املعريف‬

‫األخذ بعني االعتبار أن هذا األخري ُيظهر أن أصول حقل العالقات الدولية كانت‬
‫أكرث تنوعا وتعقيدا‪ .‬ففي بعض الحاالت‪ ،‬تتبعت املساهامت غري الغربية االتجاهات‬
‫السائدة يف الغرب‪ ،‬ويف حاالت أخرى ُط ِّورت عىل نحو مستقل‪ .‬وعىل سبيل املثال‪،‬‬
‫فإن انتقادات طاغور للقومية واإلمربيالية تسبق نظريتي توينبي وهوبسون عن‬
‫اإلمربيالية‪ .‬لقد أرست فرتة ما بني الحربني العامليتني األساس ملقاربات التبعية وما‬
‫بعد االستعامرية يف حقل العالقات الدولية التي شقت طريقها إىل حقل العالقات‬
‫الدولية داخل املركز مبجرد أن بدأ مسار إنهاء االستعامر يف كرس الفصل القائم‬
‫بني املركز واألطراف‪ ،‬وتعطيل استبعاد املركز لألطراف من العالقات الدولية كحقل‬
‫معريف وكمامرسة‪.‬‬
‫إن إجراء تحقيق عاملي بشأن أصول حقل العالقات الدولية سيحيلنا إىل حقيقة‬
‫سجل يف النصوص املتاحة يف هذا التخصص املعريف؛ مبا يف‬ ‫وجود تنوع وتعقيد مل ُي َّ‬
‫ذلك تلك النصوص التي سعت إىل التشكيك يف فكرة النقاش األول‪ .‬أوال‪ ،‬إن تصنيفات‬
‫مثل النقاش املثايل ‪ -‬الواقعي أو النزعة املثالية‪ ،‬والنزعة الطوباوية والنزعة الواقعية‪،‬‬
‫تعترب مفرطة يف التبسيط بحيث ال تتناسب مع تنوع طرق التفكري واألساليب التي‬
‫ميكن أن تشكل مصدرا لحقل العالقات الدولية عىل نحو رشعي‪ .‬كام أنها لن تتناسب‬
‫بسهولة مع التصنيفات الثورية أو ما بعد االستعامرية مثلام أصبحت معروفة عليه‬
‫خالل تطور هذا التخصص بعد الحرب العاملية الثانية‪ .‬فجواهر الل نهرو‪ ،‬الذي‬
‫ُينظر إليه عموما يف الغرب عىل أنه ذو نزعة مثالية (وهي التسمية التي رفضها)‬
‫أو حتى ذو نزعة ليربالية عاملية‪ ،‬انجذب لفرتة وجيزة نحو النزعة املاركسية‪ ،‬ورفض‬
‫تحالفات القوى الكربى‪.‬‬
‫لقد تجاوز الفكر الدويل خالل فرتة ما بني الحربني النقاش املثايل والواقعي‪ .‬ففي‬
‫حني أن عديدا من املفكرين والقادة غري الغربيني اتفقوا مع «املثاليني» الغربيني بشأن‬
‫البشاعة األخالقية واملخاطر الجسدية للحرب‪ ،‬فقد اتفقوا أيضا مع أولئك الواقعيني‬
‫الذين رأوا النفاق ا ُملتجسد يف النزعة الليربالية الغربية‪ /‬املثالية عندما يتعلق األمر‬
‫باالستعامر يف العامل غري الغريب‪ .‬فهم مل يتقبلوا منظور «انسجام املصالح» الذي‬
‫انتقده إدوارد كار‪ .‬كام أنهم مل يتقبلوا الرؤية املثالية لفرتة ما بني الحربني القائلة‬
‫إن الحرب ميكن منعها من خالل االعتامد املتبادل أو من خالل املؤسسات يف ظل‬

‫‪179‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫غياب الجهود الالزمة للقضاء عىل االستعامر‪ .‬كان املثاليون والواقعيون الغربيون‬
‫أكرث اهتامما بإشكالية الحرب بني الدول الغربية؛ وإشكالية الفوىض الدولية؛ وعىل‬
‫نحو أقل‪ ،‬باإلمربيالية‪ .‬يف حني أن املفكرين يف العامل غري الغريب كانوا مهتمني يف املقام‬
‫األول باإلمربيالية واالستعامر‪ .‬هذا ال يعني أنهم مل يكونوا مهتمني مبسألة السالم‬
‫العاملي‪ ،‬لكنهم مل يؤمنوا بإمكانية تحقيق السالم أو النظام العاملي ببساطة عن‬
‫طريق القضاء عىل الحرب بني القوى األوروبية‪ .‬إذ إن ذلك سيتطلب أيضا معالجة‬
‫قضايا اإلمربيالية‪ ،‬ويف بعض الحاالت معالجة قضايا القومية أيضا‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫احلديثة‬

‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫‪5‬‬

‫العامل بعد العام ‪:1945‬‬


‫عصر احلرب الباردة وإنهاء‬
‫االستعمار‬

‫مقدمة‬
‫يرصد هذا الفصل قصة التاريخ الدويل بدءا‬
‫من التاريخ الذي توقفنا عنده يف الفصل الثالث‬
‫عىل مشارف نهاية الحرب العاملية الثانية‪ .‬لقد‬
‫جادلنا هناك بأن الحرب العاملية الثانية أنتجت‬
‫عديدا من التغيريات الرئيسة املعيارية واملادية‬
‫يف ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي‪ ،‬ومبا يكفي لِ ُي َع َّد‬
‫مبنزلة انتقال من الصيغة األوىل من ا ُمل ْج َت َمع‬
‫االس ِت ْع َاَم ِري الذي ُأنشئ‬
‫الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ال َغ ْر ِيِب ْ‬
‫خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬واستمر بعد الحرب‬
‫العاملية األوىل‪ ،‬إىل الصيغة األوىل ا ُمل َعدَّلة من‬
‫«كان يُنظر إىل الرأساملية الغربية عىل‬
‫ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ال َغ ْر ِيِب بعد العام ‪.1945‬‬ ‫نطاق واسع يف العامل الثالث عىل أنها‬
‫بداًل من الصيغة‬ ‫نحن نسميه بالصيغة املعدلة‪ً ،‬‬ ‫استمرار مبارش لعدم املساواة واالستغالل‬
‫االستعامريني‪ ،‬وأنها متثل تهديدًا للسيادة‬
‫الثانية‪ ،‬ألنه وعىل الرغم من أن التغيريات التي‬ ‫املكتسبة حدي ًثا لدول العامل الثالث»‬

‫‪181‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫طالته كانت كثرية وكبرية‪ ،‬فإنها كانت تغيريات يف النظام‪ /‬املجتمع وليست تغيريات‬
‫عىل مستوى الصيغة ككل‪ .‬فقد كانت العالقات الدولية التزال قامئة عىل شكل نظام‬
‫من الدول‪ ،‬وبقي عديدٌ من املؤسسات الرئيسة املحددة لذلك النظام عىل حاله‪.‬‬
‫لخص القسم التايل بإيجاز االستمرارية وعدم االستمرارية بدءا من ا ُمل ْج َت َمع‬ ‫ُي ُ‬
‫الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ملا قبل العام ‪ .1945‬يف حني يتطرق القسم الذي يليه مبزيد من‬
‫التفصيل إىل املوضوعات الرئيسة للصيغة األوىل ا ُمل َعدَّلة من ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي‬
‫خالل الفرتة املمتدة من العام ‪ 1945‬إىل العام ‪ :1989‬أي خالل فرتة الحرب الباردة‬
‫وإنهاء االستعامر‪.‬‬

‫‪ - 1‬االستمرارية وعدم االستمرارية من عامل ما قبل ‪1945‬‬


‫مثلام ورد يف الفصل الثالث‪ ،‬كان مثة قد ٌر كب ٌري من االستمرارية يف الفرتة الواقعة‬
‫بني ما قبل العام ‪ 1914‬وسنوات ما بني الحربني العامليتني‪ .‬وقد بدأ االنقطاع الرئيس‬
‫منذ الحرب العاملية األوىل نفسها‪ ،‬حيث سبب حجم املوت والدمار والتكلفة التي‬
‫خلفتها الحرب موج َة صدمة كبرية ضاعفت من املعضلة الدفاعية إىل حد ٍ‬
‫كاف‬
‫للتشكيك يف جدوى حرب القوى الكربى‪ .‬عىل النقيض من ذلك‪ ،‬أحدثت الحرب‬
‫للم ْج َت َمع‬
‫العاملية الثانية عديدا من التغيريات الرئيسة يف البنية املادية والفكرية ُ‬
‫الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي (‪ .)Buzan and Lawson, 2014a‬كام أن هذه الحرب تجاوزت‬
‫وترية الحرب العاملية األوىل بكثري من حيث حجم املوت والدمار والتكلفة‪ ،‬ولكنها‬
‫أضافت إىل ذلك شبح األسلحة النووية؛ التي زادت عىل نحو كبري من الخوف من‬
‫واضحا للجميع‪ .‬ففي‬
‫الحرب؛ وجعلت من إمكانية انتحار نوع الجنس البرشى أم ًرا ً‬
‫حرب عاملية جديدة إىل تدمري‬ ‫حني أن الحرب العاملية األوىل أثارت احتامل أن تؤدي ٌ‬
‫الحضارة الغربية‪ ،‬فإن األسلحة النووية أثارت إمكانية انقراض الجنس البرشي‪ .‬رمبا‬
‫كان التعزيز الالحق للمعضلة الدفاعية هو االستمرارية الرئيسة الحاصلة بني فرتة‬
‫ما بني الحربني والحرب الباردة‪ .‬وما عدا ذلك فإن القصة هي يف األغلب واحدة من‬
‫حيث التغيريات الحاصلة داخل هيكل ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي‪.‬‬
‫وصف نظام الحرب الباردة الذي ظهر برسعة يف السنوات التي‬ ‫عادة ما ُي َّ‬
‫تلت العام ‪ 1945‬مبصطلح القطبية الثنائية ‪ ،bipolarity‬ويف بعض النواحي توجد‬
‫‪182‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫حالة مناسبة لفعل ذلك(٭)‪ .‬فقد كانت الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي أكرب‬
‫املنترصين يف الحرب العاملية الثانية‪ ،‬ورسعان ما برزا كمركزين مهيمنني للقوة‬
‫العسكرية واملنافسة األيديولوجية‪ .‬أصبحت خطوط وقف إطالق النار بينهام يف‬
‫أوروبا وشامل رشق آسيا هي الحدود التي ترسم النظام العاملي الجديد‪ .‬كان هذا‬
‫تشكياًل بني الرشق والغرب عُ ِّرف بأنه منافسة أيديولوجية عاملية بني الرأساملية‬ ‫ً‬
‫وجه بشأن من سيهيمن‬ ‫الدميوقراطية الليربالية واالقتصاد الشيوعي الشمويل ا ُمل َّ‬
‫عىل مستقبل الحداثة‪ .‬إن تطوير ترسانات كبرية من األسلحة النووية‪ ،‬وأنظمة‬
‫اإليصال بعيدة املدى الالزمة لنقلها عرب مسافات عابرة للقارات‪ ،‬م َّيز برسعة هاتني‬
‫«القوتني العظميني» ‪ Superpowers‬عن بقية «القوى الكربى» ‪ .Great Powers‬أما‬
‫املجموعة التقليدية من القوى الكربى فقد تراجعت جميعها إىل املرتبة الثانية من‬
‫القوى الكربى‪ ،‬أو تراجعت إىل ما هو أسوأ‪ .‬لقد احتُلت أملانيا واليابان و ُنزع سالحهام‬
‫خضعتا للقوتني العظميني‪ .‬ويف حني أنهام استعادتا برسعة قوتيهام االقتصادية‪،‬‬ ‫ُوأ ِ‬
‫فإنهام فقدتا إىل حد كبري ليس اإلرادة السياسية والرشعية الدولية فقط‪ ،‬بل فقدتا‬
‫أيضا االستقالل السيايس ليك تصبحا قوتني كربيني كاملتني‪ُ .‬ح َّلت املشكلة األملانية‬ ‫ً‬
‫من خالل تقسيم البالد بني املعسكرين السوفييتي واألمرييك‪ .‬وكانت بريطانيا ً‬
‫أيضا‬
‫من بني املنترصين‪ ،‬ومارست عىل مدى فرتة وجيزة دو ًرا باعتبارها قوة عظمى ثالثة‬
‫‪ ،third superpower‬ولكن رسعان ما تحولت إىل مجرد قوة كربى بسبب ضعفها‬
‫االقتصادي وفقدانها لإلمرباطورية‪ .‬أما فرنسا فقد كافحت للتغلب عىل هزميتها‬
‫وإعادة تأكيد وضعها باعتبارها قوة كربى‪ .‬وتراجعت مكانة أوروبا من كونها متثل‬
‫مركز السياسة العاملية وتوازن القوى إىل كونها متثل محطة رئيسة للتنافس بني‬
‫القوتني العظميني‪ .‬وتحول الرتكيز الرئيس للقوى املتبقية يف أوروبا الغربية من‬
‫حجة ضد استخدام مصطلح القطبية الثنائية‪ .‬متيز نظرية القطبية فقط بني القوى العظمى والبقية‪.‬‬ ‫(٭) ّمثة أيضا ّ‬
‫إنها تتجاهل التمييز بني القوى العظمى ‪ Superpowers‬والقوى الكربى ‪ ،Great Powers‬والذي ميكن املحاججة بأنه‬
‫يظل ذا تأثري كبري عىل كيفية عمل املجتمع الدويل العاملي باتباع هذا التفكري‪ .‬كان للمجتمع الدويل العاملي خالل فرتة‬
‫الحرب الباردة قوتان عظميان وعدة قوى كربى‪ :‬الصني‪ ،‬والجامعة األوروبية‪ ،‬وميكن إضافة اليابان‪ .‬لقد تكرر الخطأ‬
‫نفسه بعد انهيار االتحاد السوفييتي‪ .‬حيث ُأعلن عن األحادية القطبية عىل نطاق واسع‪ ،‬ولكن الواقع كان الهيكل‬
‫الدويل يتشكل من قوة عظمى واحدة وأربع قوى كربى‪ .‬هناك فرق بنيوي هائل بني نظام يحوي فقط قوى عظمى‬
‫وقوى صغرى أو إقليمية‪ ،‬ونظام توجد فيه قوى كربى تقف بني القوة (القوى) العظمى والبقية‪ .‬ملزيد بشأن هذا‬
‫املوضوع انظر‪[ .)Buzan 2004a( :‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫مامرسة دور اإلمرباطوريات العاملية إىل محاولة إيجاد طريق للتكامل اإلقليمي‪،‬‬
‫وإبقاء الواليات املتحدة يف منظمة حلف شامل األطليس (الناتو) ألجل حاميته‪.‬‬
‫وأصبحت اليابان حلي ًفا تاب ًعا ألمريكا وقاعدة أمامية لها يف غرب املحيط الهادئ‪.‬‬
‫لكن بينام ُتقدم القطبية الثنائية قصة قوية‪ ،‬فإنها مل تكن القصة الوحيدة يف هذا‬
‫املشهد والتي حددت تلك الحقبة‪ ،‬وقد ال تكون أيضا القصة الرئيسة التي شوهدت‬
‫خالل هذا التاريخ الطويل‪ .‬إن القصة الكبرية األخرى متثلت يف قصة إنهاء االستعامر‬
‫بني الشامل والجنوب‪ .‬ويف حني أن القطبية الثنائية حددت القوتني العظميني‬
‫ومعسكراتهام؛ كام حددت األيديولوجيتني املتنافستني بشأن مستقبل الحداثة‪،‬‬
‫فإن إنهاء االستعامر حدد عاملًا ثال ًثا؛ وموق ًفا لعدم االنحياز‪ ،‬خارج الهيكل ثنايئ‬
‫تفضيل‬
‫ٍ‬ ‫القطب‪ُ .‬تقدم القطبية الثنائية عىل نحو أسايس قصة القوى املَ ْر َكزية‪ ،‬مع‬
‫لأل ْط َراف‪ .‬ويتامىش هذا مع قصة القوى الكربى منذ فرتة ما بني‬ ‫وتهميش َ‬
‫ٍ‬ ‫لل َم ْر َكز‬
‫الحربني العامليتني‪ ،‬حيث كان مثة تركيز رئيس عىل املنافسة بني القوى الكربى‪ ،‬كام‬
‫أن االستعامر املستمر سمح بإلغاء دور األَ ْط َراف يف العالقات الدولية إىل حد كبري‪.‬‬
‫للم ْج َت َم ِع‬
‫وىَل ُ‬ ‫ولكن منذ العام ‪ 1945‬أدى إنهاء االستعامر إىل تغيري صورة الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي بطريقة جذرية‪ .‬فقد ُنزعت الرشعية عن العنرصية واالستعامر‬
‫كنظم للمجتمع الدويل العاملي‪ ،‬ورسعان ما تضاعفت عضويته لثالثة أضعاف مع‬
‫إضافة أكرث من مائة دولة جديدة ذات سيادة يقع معظمها يف أفريقيا وآسيا‪ ،‬وتحول‬
‫االس ِت ْع َاَم ِري إىل الصيغة األوىل ا ُمل َعدَّلة من‬‫نظام ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ال َغ ْر ِيِب ْ‬
‫ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ال َغ ْر ِيِب‪ :‬لقد ظل املجتمع الدويل خاض ًعا لثنائية املَ ْر َكز‪-‬‬
‫لأل ْط َراف اآلن‬‫األَ ْط َراف من حيث املواقع االقتصادية املهيمنة والتابعة‪ ،‬ولكن أصبح َ‬
‫صوتها ومكانتها السياسية الخاصة‪ .‬لقد ُق ِّسم اآلن االقتصاد السيايس العاملي بشكل‬
‫مضاعف‪ :‬الرشق والغرب‪ ،‬والشامل والجنوب‪ .‬وبعد العام ‪ 1945‬انهار الفصل الحاد‬
‫بني العالقات الدولية التي كانت قامئة فيام بني دول املَ ْر َكز «املتحرض»؛ والعالقات‬
‫رض واألَ ْط َراف ا ُمل ْس َت ْع َمرة‪ ،‬واندمج‬
‫االستعامرية التي كانت قامئة بني املَ ْر َكز ا ُملت ََح َ‬
‫هذان العنرصان بشكل متزايد يف قصة واحدة‪.‬‬
‫ويف حني أن هذه القصص ا ُملتَأَ ِتية من الرشق والغرب والشامل والجنوب‬
‫أيضا روابطها‪ .‬فقد‬ ‫قصصا متميز ًة لها دينامياتها ونتائجها‪ ،‬بيد أنها قصص لها ً‬ ‫ُمُتثل ً‬
‫‪184‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫تنافست القوتان العظميان وحلفاؤهام عىل النفوذ والحلفاء داخل العامل الثالث‪،‬‬
‫ورأوا نجاحاتهم وإخفاقاتهم هناك كمؤرشات عىل من كان يربح ومن يخرس الرصاع‬
‫األيديولوجي الكبري الدائر بينهام‪ .‬يف االتجاه اآلخر‪ ،‬أدت دول العامل الثالث دور‬
‫القوتني العظميني إحداهام ضد األخرى من أجل تعظيم نفوذهام يف الوصول إىل‬
‫املوارد االقتصادية والعسكرية‪ .‬أما الصني فقد متوقعت بشكل محرج يف كل من‬
‫قصص الرشق والغرب والشامل والجنوب‪ .‬كام ترصفت كأنها قوة كربى تجاه العامل‬
‫الثالث أكرث من كونها عض ًوا فيه‪ ،‬عىل الرغم من أنها كانت دولة نامية‪ .‬وأصبحت‬
‫عىل نحو متزايد متثل العجلة الثالثة داخل بنية القوة واأليديولوجيا ثنائية القطب‪.‬‬

‫وىَل ا ُمل َعدلة ُ‬


‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعا َل ِمي‪ :‬املواضيع الرئيسة‬ ‫‪ - 2‬الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫للعالقات الدولية ‪1989-1945‬‬
‫لرصد املوضوعات الرئيسة للعالقات الدولية خالل فرتة الحرب الباردة‪ ،‬نحتاج‬
‫إىل مزيد من النظر ليس يف القطبية الثنائية فقط‪ ،‬ولكن نحتاج التمعن ً‬
‫أيضا يف‬
‫التحول الحاصل عىل مستوى بنية املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف والعالقات الناتجة عن مسار‬
‫إنهاء االستعامر‪ .‬لذلك‪ ،‬سريكز هذا القسم عىل املوضوعات الرئيسة ا ُملتناولة يف كل‬
‫من دول املَ ْر َكز ودول األَ ْط َراف‪ ،‬وكذلك عىل العالقة القامئة بينهام‪ .‬ومثل اليابان‬
‫ساب ًقا‪ ،‬تحتاج قصة الصني إىل أن ُتروى عىل أنها ُمُتثل قصتها الخاصة التي تبتعد إىل‬
‫حد ما عن هذا التأطري (بنية املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف)‪ ،‬ولكن بشكل يرتبط به‪.‬‬

‫‪ - 2 - 1‬املَ ْر َكز‬
‫مثة موضوعان رئيسان سيطرا عىل العالقات الدولية لدول املَ ْر َكز بني العامني‬
‫‪ 1945‬و‪ ،1989‬وميزاها عن فرتة ما بني الحربني العامليتني‪ :‬التحول من التوزيع‬
‫متعدد األقطاب إىل التوزيع الثنايئ القطب للقوة‪ ،‬والثورة يف الشؤون العسكرية؛‬
‫عجل بحصوله ظهور األسلحة النووية‪.‬‬
‫وهو التحول الذي َّ‬
‫وكام أشار ألكسيس دي توكفيل )‪Alexis de Tocqueville ([1835] 2006‬‬
‫يف كتابه «الدميوقراطية يف أمريكا» ‪ ،Democracy in America‬فإن روسيا‬
‫وأمريكا كانتا تربزان كقوتني عمالقتني من شأنهام أن تهيمنا عىل العامل يو ًما ما‬
‫‪185‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫عىل الرغم من أنهام كانتا تتبعان ُطر ًقا مختلفة متا ًما للتنمية‪ .‬ويف العام ‪1945‬‬
‫تحققت تنبؤات دي توكفيل الجيوسياسية‪ .‬فقد حطمت الحرب القوى الكربى‬
‫التقليدية األخرى وخفضت من مرتبة كل منها‪ .‬حيث تعرضت أملانيا واليابان‬
‫للهزمية والسحق واالحتالل‪ .‬وتعرضت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا للرضر والنضوب‬
‫والتأرجح عىل شفا اإلفالس‪ .‬يف حني أن الواليات املتحدة مل تترضر‪ ،‬وصارت مهيمنة‬
‫عىل األصعدة املالية والصناعية والعسكرية والسياسية‪ .‬أما االتحاد السوفييتي‬
‫فقد تعرض ألرضار جسيمة من الناحية االقتصادية سببت له خسائر فادحة‪ ،‬لكنه‬
‫ظل قو ًيا عىل الصعيدين العسكري والسيايس‪ .‬إذ كان يف حالة احتالل دائم ألوروبا‬
‫الرشقية وأملانيا الرشقية ومنشوريا عىل مدى فرتة كافية مكنته من نهب الصناعة‬
‫التي وطنتها اليابان هناك‪.‬‬
‫لقد متيز هذا التحول يف القطبية بظهور املصطلح الجديد «القوى العظمى»‬
‫‪(superpowers‬٭)‪ ،‬لكن القطبية الثنائية كانت أكرث بكثري من مجرد ترتيب مادي‬
‫جديد للقوة‪ .‬فعىل الرغم من االختالفات األيديولوجية القوية القامئة بينهام‪،‬‬
‫فإن الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي تعاونا يف النهاية من أجل هزمية‬
‫الفاشية‪ .‬وقد أدى نجاح هذا املرشوع إىل تحويل الثالثية األيديولوجية لفرتة‬
‫ما بني الحربني إىل ثنائية أبسط ولكن أكرث كثافة‪ ،‬إذ انحرست بني الرأساملية‬
‫الدميوقراطية من جهة؛ واالقتصاد الشمويل املوجه من جهة أخرى‪ .‬كان السؤال‬
‫الذي اليزال قامئا يتمحور حول ماهية الشكل الذي سيتخذه االقتصاد السيايس‬
‫للحداثة‪ ،‬لكن الخيارات التي كانت مطروحة تراجعت اآلن إىل خيارين اثنني –‬
‫يتموقعان عىل طريف نقيض‪ .‬كام مكن القضاء عىل الفاشية من إقصاء الصيغة‬
‫الضيقة والعنرصية للحداثة من تلك املنافسة القامئة بني الرأساملية واالقتصاد‬
‫الشمويل‪ .‬رمبا كانت الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي يتموضعان عىل طريف‬
‫نقيض من الطيف األيديولوجي‪ ،‬ولكن عىل عكس القوى الفاشية‪ ،‬كان كالهام‬
‫ميثل أيديولوجيات تشمل الجميع‪ .‬من حيث املبدأ‪ ،‬ميكن ألي شخص أن يقبل أو‬
‫ُيقبل‪ ،‬يف أسلوب الحياة واالقتصاد السيايس لكل منهام‪ ،‬كام أن كليهام كان يعتقد‬
‫(٭) حازت هذا الوضع دولتان اثنتان فقط بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬هام الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي‪.‬‬
‫[املرتجم]‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫أنه ميتلك مستقبل الحداثة‪ .‬لقد أدى هذا إىل جعل التنافس بينهام يأخذ طاب ًعا‬
‫تنافس ًيا صفر ًيا عىل نحو حاد‪ ،‬ورسعان ما أظهر نفسه ليس فقط يف القطبية‬
‫أيضا يف استقطاب دول املَ ْر َكز‬ ‫الثنائية القامئة بني القوتني العظميني‪ ،‬ولكن ً‬
‫ضمن تحالفني (حلف الناتو مقابل حلف وارسو) واقتصادين (منظمة التعاون‬
‫االقتصادي والتنمية (‪ )OECD‬واالتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية‬
‫والتجارة (‪ )GATT‬وصندوق النقد الدويل ‪ ،IMF‬يف مواجهة مجلس املساعدة‬
‫االقتصادية املتبادلة)‪.‬‬
‫امتلك االتحاد السوفييتي ميزة أيديولوجية متثلت يف‪ :‬أنه برغم احتالل روسيا‬
‫الطويل آلسيا الوسطى‪ ،‬ومحاولة ستالني بعد الحرب كسب موطئ قدم له يف تركيا‬
‫وإيران وليبيا (‪ ،)Westad, 2007: 57–66‬مل تربط دول العامل الثالث شكلها الحدايث‬
‫مع االستعامر‪ ،‬بل عىل النقيض من ذلك‪ ،‬كان ُينظر إىل الرأساملية الغربية عىل‬
‫نطاق واسع يف العامل الثالث عىل أنها استمرار مبارش لعدم املساواة واالستغالل‬
‫االستعامريني‪ ،‬وأنها متثل تهديدًا للسيادة املكتسبة حدي ًثا لدول العامل الثالث‪ .‬وعىل‬
‫رغم ذلك‪ ،‬كانت كلتا القوتني العظميني مناهضة لالستعامر عىل طريقتها‪ .‬حيث‬
‫عارضت كلتاهام اإلمربيالية القدمية للقوى األوروبية واليابان‪ ،‬مام م َّثل تحو ًاًل‬
‫أيديولوج ًيا كب ًريا يف شخصية ونظرة القوى املهيمنة يف املَ ْر َكز مقارنة بسنوات ما بني‬
‫الحربني‪ .‬فقد منحت الواليات املتحدة االستقالل ملستعمراتها يف الفلبني يف العام‬
‫‪ .1946‬ولكن بالنظر إىل أن كلتا القوتني العظميني اتبعتا بنشاط صيغ اإلمرباطورية‬
‫غري الرسمية؛ وذلك بح ًثا عن عمالء وقواعد ومحميات‪ ،‬كان مثة نوع من النفاق‬
‫البسيط يف موقفهام املناهض لالستعامر‪ ،‬وال سيام عند الجانب السوفييتي نظ ًرا إىل‬
‫احتالله العسكري والسيايس اإلمرباطوري ا ُملقنَّع ألوروبا الرشقية بعد العام ‪.1945‬‬
‫مهاًم ألنه كان إحدى القوى العديدة التي أسقطت‬ ‫غري أن خطابه كان عنرصا ً‬
‫االستعامر والعنرصية كنظم للمجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫عىل الرغم من بساطتها الجذابة ومالءمتها السطحية‪ ،‬كانت القطبية الثنائية‬
‫‪ -‬كام لوحظ سابقا ‪ -‬دامئًا طريقة غري دقيقة إىل حد ما لتحديد بنية املَ ْر َكز‪ .‬حيث‬
‫مل تقترص القطبية الثنائية عىل استبعاد مجموعة من القوى القدمية التي كانت‬
‫التزال «كربى» إن مل تكن «عظمى» (أوروبا الغربية واليابان)‪ ،‬ولكنها استبعدت‬
‫‪187‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أيضا الصني الصاعدة التي بدت‪ /‬وكانت تترصف عىل نحو متزايد مثل «القطب»‬ ‫ً‬
‫الثالث يف النظام الدويل‪ .‬وعندما أعادت أملانيا واليابان بناء اقتصاداتهام‪ ،‬وبدأتا‬
‫يف منافسة (ويف حالة اليابان تجاوزت) اقتصاد االتحاد السوفييتي‪ ،‬بدأ التمييز بني‬
‫«القوة الكربى» ‪ Great power‬و«القوة العظمى» ‪ Superpower‬يف التاليش‪ .‬فقد‬
‫أصبحت أملانيا واليابان «قوى مدنية هائلة» (‪ ،)Maull, 1990‬أما بريطانيا وفرنسا‬
‫فأصبحتا متتلكان أسلحة نووية وبعض القدرة عىل القيام بعمليات عسكرية عىل‬
‫أيضا رؤية الظهور املطرد للمجموعة‬ ‫املستوى العاملي‪ .‬لقد تجاهلت القطبية الثنائية ً‬
‫االقتصادية األوروبية ‪ EEC‬باعتبارها نوعا جديدا من القوة عىل املرسح العاملي‪.‬‬
‫وحتى بني الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي‪ ،‬فإن التكافؤ الذي توحي به‬
‫كلتا القوتني العظميني مل يصمد أمام ال َت َف ُّحص الدقيق لذلك (‪ .)Dibb, 1986‬رمبا‬
‫كان التكافؤ ُمرب ًرا أكرث من الناحية العسكرية‪ .‬وبرغم أن االتحاد السوفييتي كان يف‬
‫كثري من األحيان يتموضع وراء الواليات املتحدة من الناحية التكنولوجية‪ ،‬فإنه سعى‬
‫بقوة إىل الحصول عىل التكافؤ العسكري معها والحفاظ عليه‪ .‬يف البداية‪ ،‬تم ذلك‬
‫من خالل االستمرار يف التعبئة بعد الحرب‪ ،‬بينام رسعان ما رسحت الواليات املتحدة‬
‫قواتها الحربية الضخمة واستندت إىل احتكارها لألسلحة النووية‪ .‬لقد اخترب االتحاد‬
‫السوفييتي سالحه النووي يف العام ‪ ،1949‬وبدا فرت ًة من الوقت خالل الخمسينيات‬
‫من القرن العرشين أنه كان رائدًا يف أنظمة إطالق الصواريخ‪ .‬يف حني أجربت الحرب‬
‫الكورية (‪ )1953–1950‬الواليات املتحدة عىل إعادة التعبئة‪ ،‬ومن تلك النقطة‬
‫فصاعدًا‪ ،‬انخرط االثنان يف سباق تسلح شامل لألسلحة التقليدية والنووية‪ ،‬وأنظمة‬
‫التوصيل الخاصة باألخرية‪ .‬لقد نجح االتحاد السوفييتي يف تحقيق التكافؤ النووي‬
‫مع الواليات املتحدة خالل السبعينيات‪ .‬كام احتفظ بقوات برية أكرب من الغرب‬
‫خالل الحرب الباردة‪ ،‬ولكن برغم توسعه البحري‪ ،‬فإنه مل يحقق القدرة عىل العمل‬
‫كقوة بحرية عاملية مامثلة للواليات املتحدة‪ .‬إذ كان عىل االتحاد السوفييتي أن‬
‫يعمل بجد للحفاظ عىل التكافؤ العسكري‪ .‬وقد كان تعلي ًقا ُمنص ًفا القول بأنه يف‬
‫حني كان لدى الواليات املتحدة مجمع صناعي عسكري‪ ،‬كان االتحاد السوفييتي إىل‬
‫حد ما مجم ًعا صناع ًيا عسكر ًيا يف حد ذاته (‪.)Buzan and Hansen, 2009: 76–7‬‬
‫إذ مل ينتج اقتصاد االتحاد السوفييتي سوى القليل من السلع األساسية‪ ،‬وكان عليه‬
‫‪188‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫أن ينفق نسبة أكرب من ناتجه املحيل اإلجاميل الصغري عىل الدفاع من أجل مواكبة‬
‫الواليات املتحدة(٭)‪.‬‬
‫لقد كان االدعاء السوفييتي بأنه يحوز وضع القوة العظمى ‪ superpower‬ادعاء‬
‫واهيا يف القطاع االقتصادي‪ .‬فخالل الخمسينيات والستينيات من القرن العرشين‪ ،‬بدا‬
‫االدعاء السوفييتي جيدًا‪ .‬إذ منحه التعايف من الحرب معدل منو قويا‪ ،‬وبدا االقتصاد‬
‫منافسا ذا مصداقية للرأساملية الغربية من حيث عديد من األشياء مثل‬ ‫ً‬ ‫املوجه‬
‫إنتاج الصلب والطاقة‪ .‬إن التفاخر الشهري لنيكيتا خروتشوف ‪Nikita Khrushchev‬‬
‫والذي جسدته عبارته «سوف ندفنكم»(٭٭) وذلك خالل زيارته إىل أمريكا يف أوائل‬
‫الستينيات‪ ،‬مل يكن تهديدًا عسكر ًيا ولكنه كان تهديدا يتعلق بإنتاج السلع االستهالكية‪.‬‬
‫لقد ُمنحت هذه املصداقية ليس فقط من خالل اإلنجازات السوفييتية يف التكنولوجيا‬
‫أيضا من خالل النجاحات املبكرة يف سباق الفضاء‪ ،‬والذي‬ ‫العسكرية واإلنتاج‪ ،‬بل ً‬
‫شكل إطالق القمر االصطناعي سبوتنيك يف العام ‪ 1957‬إيذا ًنا ببدايته‪ .‬ولكن بحلول‬
‫واضحا‪ .‬فقد فشل االقتصاد‬
‫سبعينيات القرن العرشين أصبح خواء تفاخر خروتشوف ً‬
‫السوفييتي يف إنتاج الكثري من السلع االستهالكية‪ ،‬وبخالف القطاع العسكري‪ ،‬فشل يف‬
‫االبتكار ومواكبة التقدم التكنولوجي يف قطاعات أخرى‪ .‬وبحلول أواخر السبعينيات‬
‫أصبحت اليابان متثل ثاين أكرب اقتصاد(٭٭٭)‪ ،‬حيث أذهلت العامل بابتكاراتها يف مجال‬
‫(٭) نظرا إىل املستوى العايل من الرسية السوفييتية‪ ،‬وصعوبة تفسري اإلحصائيات التي نرشها عىل املأل‪ ،‬كان ّمثة كثري‬
‫من الجدل بشأن كيفية حساب كل من الناتج املحيل اإلجاميل السوفييتي واإلنفاق العسكري‪ .‬تشري اإلحصاءات التي‬
‫قدمها املعهد الدويل للدراسات اإلسرتاتيجية (‪ )62 :1971‬إىل أنه بني العامني ‪ 1951‬و‪ ،1970‬تفوقت الواليات املتحدة‬
‫بانتظام عىل االتحاد السوفييتي عىل مستوى الدفاع مبا يرتاوح بني الربع والثلث‪ .‬ويشري معهد ستوكهومل الدويل‬
‫ألبحاث السالم (‪ )9-36 :1979‬إىل أن الفجوة كانت أشبه بالثلث إىل النصف‪ ،‬وأن االتحاد السوفييتي ينفق بانتظام‬
‫ما بني ‪ 1‬يف املائة و‪ 3‬يف املائة من ناتجه املحيل اإلجاميل عىل الدفاع‪ ،‬أكرث مام أنفقته الواليات املتحدة‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬
‫(٭٭) هي عبارة استخدمها رئيس الوزراء السوفييتي نيكيتا خروتشوف‪ ،‬بينام كان يلقي خطابا‪ .‬وقد ُترجمت هذه‬
‫العبارة يف األصل إىل اللغة اإلنجليزية عىل نحو حريف من قبل مرتجم خروتشوف الشخيص فيكتور سخدروف‪ .‬و ُف ِّرِّس‬
‫ذلك عند عديد من األمريكيني بأنه مبنزلة تهديد نووي‪ ،‬وهو ما كاد يسبب أزمة بني البلدين‪ .‬ولكن نيكيتا خروتشوف‬
‫كان يشري إىل مقولة مجازية ماركسية يف الفصل األول من بيان الحزب الشيوعي «إن الربجوازية هم حفارو قبورهم‬
‫الخاصة‪ ،‬حيث إن سقوطها وانتصار الربوليتاريا أمران حتميان»‪ .‬واملقصود بعبارة «سوف ندفنكم» يف ترصيح رئيس‬
‫الوزراء السوفييتي نيكيتا خروتشوف‪ ،‬هو أن الطبقة الرأساملية الربجوازية هي التي ستنهي نفسها بنفسها وسوف‬
‫تنترص عليها الشيوعية‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫‪) United Nations National Accounts Main Aggregates Database: all countries for all years,‬٭٭٭(‬
‫‪https://unstats.un.org/unsd/snaama/dnllist.asp (Accessed 5 July 2017).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫اإللكرتونيات االستهالكية والدراجات النارية والسيارات والقطارات عالية الرسعة‬


‫وتقنيات اإلنتاج‪ .‬وعىل مدى فرتة وجيزة خالل الثامنينيات‪ ،‬بدا األمر كأن اليابان قد‬
‫تتفوق عىل الواليات املتحدة كأكرب اقتصاد (‪ .)Vogel, 1980‬وباملقارنة‪ ،‬كانت صناعة‬
‫الدراجات النارية السوفييتية التزال تنتج األورال‪ ،‬وهي نسخة (رخيصة الثمن ولكنها‬
‫رديئة الجودة) من سيارة يب إم دبليو التي تعود إىل أربعينيات القرن العرشين‪،‬‬
‫حيث أنتجها االتحاد السوفييتي بنا ًء عىل التصاميم واملعدات املنهوبة من املصانع‬
‫األملانية بعد الحرب‪ .‬لقد انخفض الناتج املحيل اإلجاميل لالتحاد السوفييتي‪ ،‬الذي‬
‫قلياًل من نصف مثيله يف الواليات املتحدة‪ ،‬إىل الثلث بحلول‬ ‫كان يف العام ‪ 1970‬أقل ً‬
‫العام ‪ ،1980‬ومع ركود االقتصاد السوفييتي خالل الثامنينيات‪ ،‬انخفض الناتج املحيل‬
‫اإلجاميل إىل أقل من السبع بحلول العام ‪(1990‬٭)‪ .‬وقد كان من املتوقع أن الصني‬
‫ستتخىل عن منوذج االقتصاد املوجه يف أواخر السبعينيات وتحتضن اقتصاد السوق‪.‬‬
‫وبرغم نجاحه يف القطاع العسكري‪ ،‬فإن النموذج االقتصادي السوفييتي فشل عىل‬
‫نحو ملحوظ يف مواكبة االقتصادات الرأساملية من حيث الرثوة واإلنتاج االستهاليك‬
‫واالبتكار‪ .‬وبحلول أواخر الثامنينيات كان من الواضح أن الرأساملية كانت املنترص يف‬
‫الرصاع الدائر بشأن املستقبل االقتصادي للحداثة‪.‬‬
‫كانت هذه القصة متشابهة إىل حد ما يف القطاع السيايس ً‬
‫أيضا‪ .‬ففي البداية‪،‬‬
‫كان أداء االتحاد السوفييتي جيدًا وبدا قو ًيا‪ .‬حيث اكتسب الكثري من الشهرة لكونه‬
‫منترصا يف الحرب ضد الفاشية‪ ،‬وكذلك لنجاحاته املبكرة يف تحدي القيادة االقتصادية‬
‫والتكنولوجية للواليات املتحدة‪ .‬وقد كان منوذج االقتصاد املوجه للتنمية االستبدادي‬
‫جذا ًبا بالنسبة إىل عديد من القادة يف العامل الثالث‪ ،‬متا ًما مثلام كانت معارضته‬
‫للرأساملية والغرب جذاب ًة هي األخرى‪ ،‬خاصة أن األخريين (الرأساملية والغرب)‬
‫مرتبطني بقوة باالستعامر واالستغالل‪ .‬لقد اكتسب االتحاد السوفييتي حلفاء‬ ‫اليزاالن َ‬
‫رئيسني يف الصني والهند وفيتنام ومرص وكوبا‪ ،‬كام ُر ِّو َجت مناذجه الثورية واالشرتاكية‬
‫والتنموية عىل نحو جيد يف كثري من دول أفريقيا وأجزاء من الرشق األوسط‪ .‬وكانت‬
‫‪) United Nations National Accounts Main Aggregates Database: all countries for all years,‬٭(‬
‫‪https://unstats.un.org/unsd/snaama/dnllist.asp (Accessed 5 July 2017).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫األحزاب السياسية املاركسية قوية يف أجزاء كثرية من أوروبا الغربية‪ ،‬كام كانت‬
‫الحركات الثورية املستوحاة من املاركسية شائعة يف أمريكا الالتينية‪.‬‬
‫لكن اللمعان السيايس األويل لالتحاد السوفييتي رسعان ما بدأ يف التالىش‪ .‬فالقمع‬
‫القايس الذي مارسه تجاه االنتفاضات يف بولندا واملجر (‪)1956‬؛ وتشيكوسلوفاكيا‬
‫(‪ ،)1968‬جعله يبدو كأنه إمرباطورية أكرث من كونه منب ًعا لإللهام األيديولوجي‪ ،‬كام‬
‫أدى التحول إىل املواجهة األيديولوجية مع الصني يف أواخر الخمسينيات إىل تقسيم‬
‫الوالءات الشيوعية يف جميع أنحاء العامل‪ .‬ومنذ سبعينيات القرن املايض أصبح‬
‫واضحا عىل نحو متزايد‪ ،‬مام قوض مزاعمه بت ََس ُّيد‬‫أداؤه االقتصادي الضعيف نسب ًيا ً‬
‫مستقبل الحداثة‪ .‬لقد كانت قيادته عبارة عن خالفة غري ملهمة ألعضاء الحزب‬
‫القدامى‪ ،‬كام أن غزوه أفغانستان يف العام ‪ ،1979‬والحرب التي استمرت عقدًا من‬
‫الزمان بعد ذلك‪ ،‬جعلته يبدو مرة أخرى قو ًة إمربيالي ًة يف نظر الكثريين حول العامل‬
‫الثالث‪ .‬وبرصف النظر عن بعض اإلنجازات البارزة يف الرياضة والثقافة العالية‪،‬‬
‫وباهتا عند مقارنته بثقافة البوب واألزياء والرتفيه‬‫بدا املجتمع السوفييتي رماد ًيا ِ‬
‫الجامهريي والنقاش املفتوح والنزعة االستهالكية الوافرة يف املجتمعات الرأساملية‪.‬‬
‫لقد كان االنهيار الرسيع لإلمرباطورية السوفييتية يف أوروبا الرشقية؛ فور أن رفع‬
‫ميخائيل جورباتشوف خطر التدخل‪ ،‬مبنزلة الرضبة القاضية للمعقولية السياسية‬
‫السوفييتية‪ ،‬ورسعان ما َت ِب َع ذلك تفكك االتحاد السوفييتي نفسه‪.‬‬
‫وبحلول منتصف الثامنينيات أصبح من الواضح عىل نطاق واسع أن االتحاد‬
‫السوفييتي قد خرس الحرب الباردة‪ ،‬أو‪ ،‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬أن االقتصاد السيايس‬
‫للرأساملية كان يفوز بتلك الحرب‪ .‬وعىل نحو متزايد‪ ،‬ظلت ترسانته النووية الضخمة‬
‫والتكافؤ النووي الواسع مع الواليات املتحدة ميثل األساس الوحيد املتبقي ملزاعم‬
‫االتحاد السوفييتي بأنه ُي َعدُّ قو ًة عظمى‪.‬‬
‫باملقارنة مع االتحاد السوفييتي‪ ،‬كانت الواليات املتحدة يف الواقع ُت َعد قوة‬
‫عظمى كاملة الطيف‪ .‬حيث كانت جميع قواتها املسلحة‪ ،‬وليس فقط أسلحتها‬
‫فعاًل بامتداد عاملي‪ .‬لقد أظهرت الواليات املتحدة هذه القدرة‬ ‫النووية‪ ،‬تتمتع ً‬
‫عىل نطاق واسع خالل الحرب العاملية الثانية‪ ،‬وعاودت فعل ذلك مرة أخرى مع‬
‫انتشارها العسكري يف أوروبا واليابان‪ ،‬وكذا مع الحروب البعيدة التي خاضتها يف‬
‫‪191‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كوريا وفيتنام‪ .‬وبفضل شبكة قواعدها يف جميع أنحاء العامل‪ ،‬ونرش أساطيلها يف‬
‫عديد من املحيطات وقدرتها الهائلة عىل النقل البحري والجوي‪ ،‬أصبح بإمكان‬
‫الواليات املتحدة يف كثري من األحيان أن تتحرك عسكريا يف كل من العامل الثالث‬
‫وجميع أطراف املعسكر الشيوعي‪ .‬أما من الناحية االقتصادية‪ ،‬فقد كانت الواليات‬
‫املتحدة متثل مركز النظام املايل والتجاري الذي شمل جميع االقتصادات الرأساملية‬
‫كاًل من منظمة‬ ‫الكربى‪ ،‬والذي تغلغل بعمق يف بلدان العامل الثالث‪ .‬ويف حني أن ً‬
‫التعاون االقتصادي والتنمية؛ والجات ‪GATT‬؛ وصندوق النقد الدويل مثلام هو‬
‫مقرتح فيام سبق‪ ،‬ميكن اعتبارها أدوات للمعسكر االقتصادي الغريب‪ ،‬رمبا كان ُينظر‬
‫إليها بشكل أفضل عىل أنها تشكل مؤسسات لالقتصاد العاملي اختارت دول املعسكر‬
‫الشيوعي إقصاء نفسها منها‪ .‬ومع ضعف اقتصاد االتحاد السوفييتي‪ ،‬أصبحت‬
‫وضوحا‪ .‬إن كون النظام االقتصادي‬ ‫ً‬ ‫الطبيعة العاملية للنظام االقتصادي الغريب أكرث‬
‫)‬ ‫٭‬
‫واضحا بالتأكيد لدينغ شياو بينغ عندما قرر‬
‫(‬
‫الغريب ميثل النظام العاملي‪ ،‬كان شيئا ً‬
‫يف أواخر السبعينيات أن الصني يجب أن تنضم إليه‪.‬‬
‫إن أولئك الذين كانوا يسعون يف العامل الثالث إىل الحد من االستغالل االقتصادي‬
‫وتحسني تنميتهم الخاصة مل يكن لديهم أدىن شك يف أنهم مازالوا يتحركون داخل‬
‫خاضع ملنطق بنية املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف‪ ،‬وأنهم كانوا يفعلون ذلك من‬
‫ٍ‬ ‫اقتصاد عاملي‬
‫موقع تبعية مجحف‪ .‬لقد اشتكوا من رشوط التبادل التجاري القائم بني املَ ْر َكز‬
‫الصناعي واألَ ْط َراف التي تزوده باملواد‪ ،‬ووجدوا أنفسهم عالقني يف مختلف األزمات‬
‫(الديون والنفط) التي ابتليت بها األنظمة الرأساملية‪ .‬تأثرت العديد من دول العامل‬
‫الثالث بشدة من جراء ارتفاع أسعار النفط خالل السبعينيات‪ ،‬وال سيام يف أمريكا‬
‫الالتينية‪ ،‬وذلك بسبب أزمة الديون املتفاقمة خالل فرتة الثامنينيات‪ .‬وعىل الرغم‬
‫من هذا االضطراب السائد وبعض التقلبات املحلية‪ ،‬فإن االقتصاد األمرييك ظل‬
‫قو ًيا و ُم ْب َت ِك ًرا و ُم ْزد َِه ًرا خالل فرتة الحرب الباردة‪ .‬ومع تعايف أوروبا واليابان خالل‬
‫الخمسينيات والستينيات من القرن املايض‪ ،‬خرست الواليات املتحدة هيمنتها‬
‫(٭) دينغ شياو بينغ (‪ 22‬أغسطس ‪ 1904‬ـ ‪ 19‬فرباير ‪ )1997‬سيايس ِّ‬
‫ومنظر وقائد صيني‪ ،‬يف عهد رئاسته للبالد‪ ،‬قاد‬
‫الصني (بني العامني ‪ 1978‬و‪ )1992‬نحو تبني اقتصاد السوق‪ .‬توىل قيادة الحزب الشيوعي الصيني بعد إطاحته بهوا‬
‫جيو فينج الذي كان خليفة ماو تيس تونغ كزعيم للحزب الشيوعي الصيني وجمهورية الصني الشعبية [املرتجم]‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫االقتصادية املتطرفة التي كانت تتمتع بها يف العام ‪ ،1945‬لكنها ظلت متثل املَ ْر َكز‬
‫الذي ربط النظام االقتصادي الدويل الليربايل بعضه ببعض‪ .‬ومبا أن النمور اآلسيوية‪،‬‬
‫وأيضا الصني منذ العام ‪ ،1978‬ازدهرت يف ظل التطور الرأساميل‪ ،‬فإن الواليات‬ ‫ً‬
‫املتحدة‪ ،‬وعىل عكس االتحاد السوفييتي بحلول الثامنينيات‪ ،‬كان اليزال بإمكانها أن‬
‫تدعي عىل نحو معقول أنها متتلك مستقبل الحداثة‪.‬‬
‫أيضا أيديولوجية ومجتمع جذابان بالنسبة إىل‬ ‫لقد كان للواليات املتحدة ً‬
‫كثريين‪ .‬ومثل االتحاد السوفييتي‪ ،‬بدأ األمر بفضل كبري من كون أمريكا كانت القوة‬
‫الرئيسة التي تقف وراء هزمية الفاشية‪ .‬ومع استقطاب عامل ما بعد الحرب رسي ًعا‬
‫نصبت الواليات املتحدة نفسها حصنا‬ ‫نحو معركة أيديولوجية ذات محصل صفري‪َّ ،‬‬
‫ومدافعا عام يسمى بـ «العامل الحر»‪ .‬من الناحية األيديولوجية‪َ ،‬ق َّد َمت الواليات‬
‫املتحدة النزعة الفردية؛ والرأساملية؛ والدميوقراطية؛ وحقوق اإلنسان‪ ،‬يف مواجهة‬
‫النزعة الجامعية؛ واالقتصاد املوجه؛ واالستبداد؛ وأولوية الحزب‪ /‬الدولة التي قدمتها‬
‫الكتلة الشيوعية‪ .‬وكمجتمع‪ ،‬عرضت الواليات املتحدة فكرة الحراك االجتامعي‪:‬‬
‫يجب أن يكون لألفراد الحق يف االزدهار وف ًقا ملواهبهم وعملهم الشاق‪ ،‬وليس عىل‬
‫أساس الحق املكتسب باملولد أو عىل أساس الوالء األيديولوجي‪ .‬وعىل الرغم من‬
‫العنرصية املستمرة داخل املجتمع األمرييك‪ ،‬فإن فكرة الحراك االجتامعي متكنت‬
‫من جذب ماليني املهاجرين إىل الواليات املتحدة سعيا وراء «الحلم األمرييك»‪.‬‬
‫وبينام أثارت السياسة الخارجية األمريكية معارض ًة قوية يف كل من الغرب والعامل‬
‫الثالث‪ ،‬فإن املجتمع األمرييك ظل جذا ًبا‪ .‬رمبا يكون الناس قد تظاهروا ضد حرب‬
‫فيتنام والتدخالت األمريكية األخرى‪ ،‬وكذا ضد سياسات الواليات املتحدة بشأن‬
‫األسلحة النووية والردع‪ ،‬لكنهم مازالوا يرتدون سرتات أمريكية‪ ،‬ويبدون إعجابهم‬
‫بالقادة األمريكيني ا ُمللهمني مثل جون كينيدي ومارتن لوثر كينغ‪ ،‬وغال ًبا ما يرغبون‬
‫يف الهجرة إىل الواليات املتحدة‪.‬‬
‫من ناحية املَ ْر َكز‪ ،‬كانت القطبية الثنائية حقيقي ًة ولكنها كانت غري متساوية‪،‬‬
‫وباستثناء القطاع العسكري‪ ،‬كانت بقية القطاعات تشهد حالة عدم تكافؤ عىل‬
‫نحو متزايد‪ .‬لقد ُرصدت هذه الصورة عىل نحو جيد من طرف إيان كالرك ‪(2011:‬‬
‫)‪ ،123–46‬الذي جادل بأن الواليات املتحدة كانت مهيمنة عىل نطاق واسع فقط‬
‫‪193‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫داخل الغرب‪ ،‬حيث كانت قادرة عىل توفري األمن والسيطرة عىل االنتشار النووي‬
‫وإنشاء نظام اقتصادي ليربايل‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فقد قدمت هيمنتها من منظور‬
‫عاملي عىل أنها متثل هيمنة كونية‪ ،‬وقد حققت بعض النجاح يف قبول هذا الرأي‪.‬‬
‫ومؤسسات متعددة‬
‫ٍ‬ ‫مامرسات‬
‫ٍ‬ ‫فالواليات املتحدة مارست إىل حد كبري دورا يف خلق‬
‫األطراف‪ ،‬وحدَّدت قوتها الخاصة مبا يكفي لجعل هذا االدعاء يبدو حقيق ًيا‪ ،‬برغم‬
‫أن قيادتها للعامل كانت دامئًا موضع نزاع من طرف الكتلة الشيوعية وعديد من دول‬
‫العامل الثالث‪ .‬انطالقا من هذا املنظور‪ ،‬من السهل أن نرى كيف أصبحت القطبية‬
‫األحادية ‪ Unipolarity‬خالل التسعينيات ُمُتثل املصطلح البديل من القطبية‬
‫الثنائية ‪ Bipolarity‬لتوصيف البنية القاعدية للنظام الدويل‪ ،‬وهو موضوع سنعود‬
‫إىل مناقشته يف الفصل السابع‪.‬‬
‫لقد مت َّثل املوضوع الرئيس الثاين للعالقات الدولية داخل املَ ْر َكز خالل هذه‬
‫عجلت األسلحة النووية بظهورها‪ .‬فمنذ‬ ‫الفرتة يف ثورة الشؤون العسكرية التي َّ‬
‫أول تجربة نووية ُأجريت يف العام ‪ ،1945‬كان تطوير التكنولوجيا الخاصة بكل‬
‫من األسلحة نفسها وأنظمة إيصالها يتم بطريقة رسيعة للغاية‪ .‬وكام هو الحال‬
‫مع التغريات الرسيعة التي كانت حاصلة عىل مستوى التقنيات البحرية يف أواخر‬
‫القرن التاسع عرش‪ ،‬أدَّت هذه الدينامية الصناعية‪ /‬العلمية‪ /‬العسكرية إىل زعزعة‬
‫استقرار العالقات بني القوى الرائدة‪ .‬جزئ ًيا‪ ،‬كانت تلك التقنيات مهيأة للتطور‬
‫الرسيع‪ ،‬وجزئ ًيا تطورت برسعة ألن القوتني العظميني وغريهام ضخت موارد‬
‫هائلة لتحقيق ذلك‪ .‬حيث إن القوة التفجريية للرؤوس الحربية النووية قفزت من‬
‫مستوى قياسها بآالف األطنان من مادة «يت إن يت» ‪( TNT‬ثاليث نيرتو التولوين)‬
‫إىل مستوى قياسها مباليني األطنان‪ ،‬متجاوز ًة برسعة الحد األقىص لحجم االنفجار‬
‫الذي ميكن ألي شخص أن يفكر فيه لالستخدام العسكري‪ .‬كام أن زيادة دقة‬
‫اإليصال جعلت الرؤوس الحربية الكبرية غري رضورية‪ .‬وبحلول الستينيات من‬
‫القرن العرشين‪ ،‬كان من املمكن إيصال هذه األسلحة بالصواريخ إىل أي مكان عىل‬
‫الكوكب يف غضون ‪ 30‬دقيقة‪ .‬وبحلول السبعينيات من القرن نفسه‪ ،‬تقلص مستوى‬
‫دقة إصابة الصواريخ من بضعة كيلومرتات؛ مثلام كانت عليه خالل الخمسينيات‪،‬‬
‫إىل بضعة أمتار‪ .‬وارتفعت أعداد الرؤوس الحربية النووية التي نرشتها القوتان‬
‫‪194‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫العظميان إىل عرشات اآلالف‪ ،‬مام جعل قوة التدمري؛ التي كانت نادرة يف املايض‪،‬‬
‫غرِّي بسهولة مناخ الكوكب وتقيض عىل جميع أشكال‬ ‫متاحة اآلن مبستويات قد ُت ِّ‬
‫الحياة عىل ظهر األرض‪.‬‬
‫كان للقوة التدمريية غري العادية لألسلحة النووية تأثريان كبريان يف العالقات‬
‫خم منطق‬ ‫الدولية داخل املَ ْر َكز خالل هذه الفرتة‪ .‬أو ًاًل‪ ،‬أدت عىل نحو كبري إىل َت َض ِ‬
‫املعضلة الدفاعية ورضورة تجنب حرب القوى الكربى‪ ،‬وهي املعضلة التي بدأت‬
‫بعد الحرب العاملية األوىل‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬جعلت من رضورة انتشار األسلحة النووية داخل‬
‫دائرة صغرية جدًا من القوى الكربى أم ًرا حتم ًيا تتبناه كلتا القوتني العظميني عىل‬
‫الرغم من عمق خالفاتهام األخرى‪ .‬وحتى من دون األسلحة النووية‪ ،‬فإن املوت‬
‫الهائل والدمار وتكلفة الحرب العاملية الثانية مثلث كلها عوامل من شأنها أن تعزز‬
‫املعضلة الدفاعية‪ .‬لقد خرس الخارسون يف الحرب العاملية الثانية أكرث مام خرسوه‬
‫يف الحرب العاملية األوىل‪ ،‬كام أن كثريا من املنترصين عانوا بشدة مرة أخرى‪ .‬غري أن‬
‫املنترصين كانوا قد كسبوا الحرب بطريقة مهمة‪ ،‬حتى إن بعضهم؛ مثل الواليات‬
‫واضحا حتى بالنسبة إىل املفكرين األوائل (مثل‬ ‫نرصا كب ًريا‪ .‬إن ما كان ً‬
‫املتحدة‪ ،‬حقق ً‬
‫برنارد برودي) بشأن أهمية األسلحة النووية هو أن أي حرب شاملة قد تنشب‬
‫بني القوتني العظميني باستخدام أعداد كبرية من األسلحة النووية لن ينتج عنها أي‬
‫منترص مبا قد تحمله كلمة االنتصار من معنى‪ .‬لقد كان املأزق الذي طرحته الثورة‬
‫النووية يكمن يف كيفية تجنب نشوب مثل هذه الحرب‪ ،‬وذلك مع االستمرار يف‬
‫خوض رص ٍاع أيديولوجي ذي محصلة صفرية بشأن من س ُيشكل مستقبل الحداثة‪.‬‬
‫وقد كان حل هذا املأزق يتمثل يف الردع‪ ،‬والسعي وراء «حرب» يجب أن تكون‬
‫بداًل من كونها حر ًبا «ساخنة»‪.‬‬‫«باردة» ً‬
‫كان الردع هو املنطق املحدد للعالقات النووية بني القوتني العظميني‪ .‬وكان‬
‫الهدف منه هو إقناع الجانب اآلخر بأنه ال توجد ظروف ميكنه فيها الهجوم أو ًاًل‬
‫بسيطا يف حد ذاته‬ ‫ً‬ ‫وعدم التعرض لرضبة مدمرة يف مقابل ذلك‪ .‬كان هذا املبدأ‬
‫ظروف تتغري فيها برسعة‬ ‫ٍ‬ ‫مبا فيه الكفاية‪ ،‬ولكن تنفيذه عىل نحو معقول يف ظل‬
‫التقنيات ذات الصلة؛ والتي قد يتعني يف إطارها اتخاذ قرارات تتعلق بالحياة أو‬
‫املوت يف غضون بضع دقائق‪ ،‬كان ذلك املبدأ بعيدًا جدًا عن كونه شيئا بسيطا‪.‬‬
‫‪195‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫اجم» واملتعلقة‬
‫إن تعقيدات التسلسل الكبري ملنطق «إذا هاجمت؛ فإنك إذن َس ُت َه َ‬
‫باالستفزاز واالستجابة‪ ،‬قد أنتجت أدبيات واسعة بشأن منطق الردع ‪(for a‬‬
‫)‪ .review of it seeBuzan and Hansen, 2009: 66–100‬وقد أدت الحاجة‬
‫إىل تغطية جميع حاالت الطوارئ إىل تكديس ترسانات ضخمة ومتنوعة من‬
‫األسلحة النووية‪ .‬وباإلضافة إىل كونه ُمك ِل ًفا عىل نحو مخيف‪ ،‬فإن نظام الردع هذا‬
‫حادث (قراءة الرادار الخاطئة‬ ‫ٍ‬ ‫يحمل يف طياته مخاطر حقيقية تتمثل يف أن أي‬
‫للصواريخ القادمة) أو سوء تقدير (أحد الجانبني يخطئ يف املنطق أو يرى نقطة‬
‫ضعف حيث قد تنجح الرضبة األوىل) قد يسبب اندالع حرب نووية‪ .‬يف هذه‬
‫الحالة‪ ،‬نجح «توازن الرعب»‪ ،‬عىل الرغم من وجود مناسبات اختُربت فيها عىل‬
‫نحو مؤمل وخطري خصوصا يف أثناء أزمة الصواريخ الكوبية يف العام ‪1962‬؛ عندما‬
‫أمىض العامل عدة أيام عىل شفا حرب نووية‪.‬‬
‫ومع كبح إمكانية نشوب حرب نووية بني القوتني العظميني‪ ،‬فتح منطق الردع‬
‫الطريق أمام الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي ملواصلة رصاعهام بوسائل أخرى‪:‬‬
‫املنافسة االقتصادية؛ البحث عن أصدقاء وحلفاء حول العامل؛ تخريب أصدقاء‬
‫وعمالء وحلفاء الطرف اآلخر حيثام أمكن ذلك؛ وأحيا ًنا استخدام النزاعات املحلية‬
‫كفرصة لخوض حروب محدودة‪ .‬ونظ ًرا إىل أن القطبية الثنائية كانت غري متكافئة‪،‬‬
‫فقد نشأت الحرب الباردة عىل أساس أنها لعبة احتواء‪ ،‬حيث حاولت الواليات‬
‫املتحدة منع االتحاد السوفييتي من تحقيق أي اخرتاق إضايف يف املجتمع الدويل‬
‫العاملي الغريب‪ .‬من جانبه‪ ،‬حاول االتحاد السوفييتي كرس االحتواء وزيادة نفوذه‬
‫األيديولوجي حيثام أمكنه فعل ذلك‪ .‬لقد جعل املأزق النووي من الخطورة للغاية‬
‫عىل الواليات املتحدة أن تحاول بأي طريقة عسكرية كربى دحر املجال السوفييتي‪.‬‬
‫وقد حافظ الردع إىل حد كبري عىل خطوط وقف إطالق النار منذ العام ‪ ،1945‬مام‬
‫أدى إىل تحويل املنافسة القامئة بني القوتني العظميني نحو قطاعات ومناطق أخرى‪.‬‬
‫وكام ذكرنا ساب ًقا‪ ،‬انترصت الواليات املتحدة وحلفاؤها يف نهاية املطاف يف‬
‫املنافسة االقتصادية‪ ،‬وكذا يف عملية استنزاف رشعي ِة املرشوع األيديولوجي لالتحاد‬
‫السوفييتي‪ .‬لقد نجح كال الجانبني يف البحث عن أصدقاء وعمالء وحلفاء‪ ،‬عىل‬
‫نجاحا خالل فرتة الحرب الباردة‪ .‬وكان نظام‬ ‫رغم أن الواليات املتحدة كانت أكرث ً‬
‫‪196‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫التحالف الغريب ُمُيثل تحال ًفا توافق ًيا أكرث من كونه تحال ًفا قرس ًيا‪ ،‬يف حني كان النظام‬
‫السوفييتي مييل إىل االتجاه املعاكس يف بناء تحالفاته‪ .‬فقد خرس االتحاد السوفييتي‬
‫الصني برسعة‪ ،‬لكنه نجح يف الحفاظ عىل صداقة توافقية مع الهند‪ .‬بينام ُأ ِّكد الوزن‬
‫التوافقي للتحالفات األمريكية من خالل استمرارها بعد سقوط االتحاد السوفييتي‪.‬‬
‫نجاحا كب ًريا عرب الحروب بالوكالة‪ .‬حيث تورطت‬‫ومل تحقق أي من القوتني العظميني ً‬
‫الواليات املتحدة عىل نحو مكلف يف فيتنام خالل السبعينيات‪ ،‬أي هُ زمت عىل نحو‬
‫مهني ُوأجربت عىل االنسحاب من هناك يف العام ‪ .1975‬أما االتحاد السوفييتي فقد‬
‫تورط خالل الثامنينيات يف مستنقع أفغانستان الذي كلفه الكثري‪ ،‬إذ هُ زم هو أيضا‬
‫هناك عىل نحو مهني ُوأجرب عىل االنسحاب يف العامني ‪ 1988‬و‪ .1989‬وقد دعمت‬
‫كلتا القوتني العظميني عمالءهام عىل نحو مكلف يف الرشق األوسط‪ ،‬ولكن من‬
‫دون اكتساب كثري من النفوذ للتأثري يف سلوكهم‪ .‬إذ انفجر استثامر أمريكا يف إيران؛‬
‫كحليف رئيس‪ ،‬يف وجهها يف العام ‪ ،1979‬وخرس االتحاد السوفييتي مرص بعد العام‬
‫‪ .1973‬كام أدت تدخالتهام يف الحروب األهلية يف أفريقيا إىل رفع مستوى إراقة‬
‫الدماء عىل املستوى املحيل‪ ،‬لكنها مل تتمكن من إعادة تشكيل املنطقة عىل نحو‬
‫دائم ملصلحة أي من الجانبني‪ .‬وحتى النجاح الكبري الذي حققه االتحاد السوفييتي‬
‫يف ضم كوبا الثورية إىل معسكره‪ ،‬أدى فيام بعد إىل نشوب أزمة الصواريخ املزعجة‬
‫يف العام ‪ ،1962‬والتي أعقبتها تبعية باهظة الثمن‪ .‬كام أنتج تدخل ومنافسة القوتني‬
‫العظميني يف العامل الثالث تهديدًا بزعزعة استقرار عالقة الردع األساسية القامئة‬
‫بينهام‪ .‬إذ كان مثة خوف من أن الرصاعات التي تشمل العمالء‪ ،‬ال سيام يف الرشق‬
‫األوسط‪ ،‬قد تخرج عن نطاق السيطرة وتدفع بالقوتني العظميني نحو مواجهة‬
‫مبارشة غري مرغوب فيها‪ .‬وقد أصبح االهتامم بهذا الشأن يشكل جز ًءا من تفكري‬
‫الردع املتعلق بكيفية التحكم يف التصعيد من مستويات منخفضة إىل مستويات‬
‫أعىل من الرصاع‪ ،‬وهو ما قد يؤدي إىل ضغوطٍ ال ميكن وقفها من شأنها أن تدفع إىل‬
‫استخدام األسلحة النووية‪.‬‬
‫يف إطار مسألة املعضلة الدفاعية وتجنب الحرب‪ ،‬مثة إشكالية تتعلق بكيفية‬
‫وقف انتشار األسلحة النووية‪ .‬كان واجب منع االنتشار يتعلق جزئ ًيا بوضع القوة‬
‫العظمى؛ ألن الرتسانات النووية الكبرية كانت عالمة رئيسة لهذا الوضع‪ .‬لقد‬
‫‪197‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تسامحت القوتان العظميان‪ ،‬حتى إنهام ساعدتا إىل حد ما‪ ،‬حفنة من حلفائهام‬
‫الرئيسني عىل امتالك أسلحة نووية‪ :‬بريطانيا وفرنسا والصني‪ .‬هذه الدول من‬
‫املرتبة الثانية الحائزة أسلحة النووية‪ ،‬أبقت ترسانتيهام صغرية‪ ،‬مام سمح‬
‫للقوتني العظميني باالحتفاظ برتساناتهام الكبريتني كعالمة عىل وضعهام‪ .‬عالوة‬
‫عىل ذلك‪ ،‬عارضت القوتان العظميان عىل نحو عام االنتشار النووي‪ ،‬وخالل‬
‫الستينيات أنشأتا عىل نحو مشرتك نظا ًما ملنع هذا االنتشار‪ .‬فمن خالل التحكم يف‬
‫التكنولوجيا النووية والتجارة‪ ،‬وفصل االستخدامات العسكرية عن االستخدامات‬
‫املدنية للتكنولوجيا النووية‪ُ ،‬صمم هذا النظام لجعل من الصعب عىل الدول األقل‬
‫قوة أن متتلك أسلحة نووية‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬استخدمت القوتان العظميان؛‬
‫وخاصة الواليات املتحدة‪ ،‬تقنية توفري «مظلة نووية» (الردع املمتد ‪extended‬‬
‫‪ )deterrence‬لحلفائهام من أجل تقليل حوافز عمالئهام وحلفائهام الرامية إىل‬
‫الحصول عىل أسلحة نووية خاصة بهم‪.‬‬
‫كانت مسألة عدم انتشار األسلحة النووية تتعلق جزئ ًيا مبصلحة القوتني‬
‫العظميني يف الدفاع عن وضعهام الخاص‪ ،‬وذلك بغية تجنب التعقيدات التي‬
‫قد يسببها انتشار األسلحة النووية عىل استقرار عالقة الردع النووي املعقدة‬
‫والحساسة القامئة بينهام‪ .‬لكن هذه املسألة كانت ً‬
‫أيضا تتعلق جزئ ًيا مبصالح‬
‫الدول غري الحائزة أسلحة النووية‪ .‬فقد كان مثة قبول واسع النطاق لفكرة أنه‬
‫كلام زاد عدد الدول التي متلك األسلحة النووية‪ ،‬زاد احتامل استخدام تلك‬
‫األسلحة‪ ،‬سواء عن طريق املصادفة أو التخطيط‪ .‬ومل يكن اندالع الحرب النووية‬
‫يصب يف مصلحة أي طرف عىل نحو واضح‪ ،‬لذا كانت تلك الحجة تتمتع ببعض‬
‫القوة‪ ،‬وإن كانت رشعيتها تتعرض باستمرار للضغط من خالل فرض التمييز بني‬
‫الدول الحائزة أسلحة النووية والدول غري الحائزة يف معاهدة عدم انتشار األسلحة‬
‫النووية‪ .‬حيث ألزمت تلك املعاهدة الدول الحائزة أسلحة النووية بالسعي إىل‬
‫نزع السالح النووي‪ ،‬وهو التزام كانوا يتشدقون به‪ ،‬لكنهم مل يوفوا به عىل نحو‬
‫جدي‪ .‬لقد قبلت عديد من الدول غري الحائزة أسلحة النووية بنظام عدم انتشار‬
‫األسلحة النووية ألنها مل تكن تريد تحمل التكلفة واملخاطر التي قد تنجر عن‬
‫امتالك أسلحة نووية إذا كان جريانها قد قرروا فعل اليشء نفسه‪ .‬غري أن هذا‬
‫‪198‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫النظام مل يؤ ِد دوره عىل أكمل وجه‪ .‬فقد رسبت بعض الدول الحائزة أسلحة‬
‫النووية من املرتبة الثانية التكنولوجيا إىل أطراف ثالثة‪ :‬فرنسا إىل إرسائيل‪ ،‬والصني‬
‫إىل باكستان‪ ،‬ومن باكستان إىل عدة أماكن أخرى يف العامل اإلسالمي‪ .‬كام متكنت‬
‫بعض الدول النامية (الهند والربازيل واألرجنتني وجنوب أفريقيا وكوريا الشاملية‬
‫وإيران) مبرور الوقت من بناء خرباتها النووية‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬ومن خالل زيادة‬
‫التكاليف وتقليل الحوافز‪ ،‬يكاد يكون من املؤكد أن نظام عدم االنتشار أبطأ‬
‫انتشار األسلحة النووية عىل نحو كبري‪ .‬حيث سهل ذلك عىل أملانيا واليابان قبول‬
‫وضع الدول غري الحائزة أسلحة النووية‪ ،‬كام س َّهل أيضا عىل دول مثل السويد‬
‫وسويرسا وكوريا الجنوبية وتايوان اتخاذ قرار عدم امتالك أسلحة نووية(٭)‪.‬‬

‫‪ - 2 - 2‬األطراف‬
‫كان املوضوع الرئيس للعالقات الدولية بالنسبة إىل دول األَ ْط َراف يتمثل يف‬
‫إنهاء االستعامر‪ .‬ففي العقود الثالثة التي تلت العام ‪ ،1945‬حقق الجزء األكرب من‬
‫العامل االستعامري استقالله السيايس‪ ،‬وأنجزت الحركات املناهضة لالستعامر التي‬
‫ُنوقشت يف الفصول السابقة ما كانت تصبو إليه‪ .‬لقد فعلوا ذلك من خالل طرق‬
‫مختلفة‪ ،‬سالكني مسارات عنيفة وسلمية عىل حد السواء‪ ،‬وبحلول العام ‪1975‬‬
‫انتهى االستعامر باعتباره بنية سياسية رسمية للعالقات غري املتكافئة بني املَ ْر َكز‬
‫واألَ ْط َراف‪ .‬بعد الحرب العاملية الثانية اتخذت القومية العربية طاب ًعا أكرث عسكرية‪،‬‬
‫وكان الجزء األكرب منها ُموج ًها ضد دولة إرسائيل ا ُملش َّكلة حدي ًثا‪ .‬وكام ذهب إىل ذلك‬
‫مارتن كرامر (‪ ،)1993: 184‬فإن القومية العربية‪ ،‬التي كانت «معادية لإلمربيالية»‬
‫بعد العام ‪ ،1920‬أصبحت «ثورية» بعد العام ‪ .1948‬ولكن يف آسيا كانت النضاالت‬
‫اختالطا‪ ،‬حيث كانت الرصاعات املسلحة هي لسان الحال يف‬ ‫ً‬ ‫ضد االستعامر أكرث‬
‫إندونيسيا وفيتنام وبورما (خاصة يف أثناء وقت الحرب)‪ ،‬بينام اتخذ القوميون املاليو‬
‫اعتدااًل وديبلوماسية‪ .‬لقد منح استقالل الهند يف العام ‪ 1947‬دفعة‬ ‫ً‬ ‫مقارب ًة أكرث‬
‫(٭) ّمثة مؤلفات واسعة ومستمرة بشأن االنتشار النووي‪ .‬للحصول عىل ملحات عامة‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Feiverson and Taylor 1977, Sagan and Waltz 1995, Buzan and Hansen 2009: 114–17.‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫قوية للمسارات السياسية والديبلوماسية الرامية لالستقالل‪ .‬ومع ن ْيل عديد من‬
‫الدول اآلسيوية استقاللها بعد الحرب العاملية الثانية مبارشة؛ مبا يف ذلك الهند‬
‫وباكستان (‪)1947‬؛ ورسيالنكا (‪)1948‬؛ وبورما (‪)1948‬؛ وإندونيسيا (التي أعلنت‬
‫استقاللها يف العام ‪ 1945‬ولكن مل يعرتف بها الهولنديون إال يف العام ‪ .)1949‬واحتلت‬
‫أفريقيا مركز الصدارة يف النضاالت املوجهة ضد االستعامر‪ ،‬وكانت غانا يف العام‬
‫‪ 1957‬أول دولة من جنوب الصحراء الكربى تنال االستقالل‪ .‬لقد اشتملت العوامل‬
‫التي أسهمت يف دعم جهود مناهضة االستعامر يف أفريقيا عىل‪ :‬ميثاق األطليس‬
‫للعام ‪ 1941‬الذي اعرتف بحق تقرير املصري للدول التي دعمت دول الحلفاء (لكن‬
‫الواليات املتحدة أرادت تطبيقه عامل ًيا)؛ إضعاف القوى االستعامرية األوروبية؛ إلهام‬
‫وتأثريات االستقالل التي حصلت عليها الدول اآلسيوية يف األربعينيات؛ استخدام‬
‫الجمعية العامة لألمم املتحدة لتعبئة الضغط الديبلومايس؛ الرأي العام الدويل؛‬
‫ومعايري حقوق اإلنسان والحق يف تقرير املصري‪.‬‬
‫وبهدف تشكيل الحركات املناهضة لالستعامر‪ ،‬سارت القومية ومناهضة‬
‫االستعامر والنزعة اإلقليمية جن ًبا إىل جنب‪ .‬ففي أوروبا الغربية بعد الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬كان ُينظر إىل اإلقليمية باعتبارها وسيلة رضورية لرتويض لعنة‬
‫القومية التي ُح ِّملت ِو ْزر نشوب حربني عامليتني‪ .‬لكن القادة يف العامل غري الغريب‬
‫طوال القرن العرشين نظروا إىل اإلقليمية من خالل منظور معاكس متا ًما‪ .‬إذ‬
‫كانت أدا ًة مفيدة لتحقيق االستقالل الوطني والسيادة التي فقدوها ملصلحة‬
‫الغرب‪ .‬وهذا ما يفرس االختالف األسايس القائم بني منوذج اإلقليمية الخاص‬
‫باملجموعة االقتصادية األوروبية ‪ /EEC‬االتحاد األورويب ‪ EU‬وتلك النامذج‬
‫اإلقليمية املوجودة يف العامل الثالث؛ مبا يف ذلك جامعة الدول العربية التي ُأنشئت‬
‫يف العام ‪1945‬؛ ومنظمة الوحدة األفريقية التي ُأنشئت يف العام ‪1963‬؛ ورابطة‬
‫دول جنوب رشق آسيا ‪ ASEAN‬التي تأسست يف العام ‪ .1967‬لقد رأى عديد من‬
‫القادة القوميني اإلقليمية عىل أنها وسيلة لدفع مسار إنهاء االستعامر ليس فقط‬
‫أيضا إلنهاء االستعامر عىل نحو عام‪ .‬فقد كانت هذه العالقة‬ ‫يف بلدانهم‪ ،‬ولكن ً‬
‫واضحة عىل نحو خاص يف الصلة القامئة بني النزعة الوحدوية األفريقية والنضاالت‬
‫الجارية ضد االستعامر يف أفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي‪ .‬كام أن هذه العالقة‬
‫‪200‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫أيضا يف دعم الهند الستقالل إندونيسيا يف مؤمتر العالقات اآلسيوية‬ ‫ستكون واضحة ً‬
‫الثاين (‪ )ARC‬يف نيودلهي يف العام ‪ ،1949‬وكذلك يف مؤمتر آسيا ‪ -‬أفريقيا للعام‬
‫‪ 1955‬يف باندونغ‪ ،‬والذي دفع بقوة نحو إنهاء ما تبقى من االستعامر خصوصا‬
‫يف أفريقيا‪ .‬ومثلام كان الحال مع املجموعة االقتصادية األوروبية‪ ،‬كانت فكرة‬
‫اإلقليمية يف العامل الثالث تدور حول الحد من الرصاع اإلقليمي وخلق مواقف‬
‫أقوى يف السياسة العاملية‪ .‬وعىل عكس املجموعة االقتصادية األوروبية‪ ،‬عزَّزت‬
‫هذه املنظامت النزعة القومية؛ ومبادئ السيادة وعدم التدخل‪.‬‬
‫وكام الحظ جانسون وأسرتهاميل )‪،Jansen and Osterhammel (2017: 1‬‬
‫كان إنهاء االستعامر مبنزلة تحول فكري وسلويك هائل للصيغة األوىل من ا ُمل ْج َت َمع‬
‫نظم العالقات الدولية إىل غاية العام‬ ‫الد َو ِيِل ال َعالَ ِمي ا ِال ْس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب الذي َّ‬
‫ونهاية للتسلسل الهرمي‬ ‫ٌ‬ ‫‪ :1945‬فقد كان مثة «اختفا ٌء لإلمرباطورية كشكل سيايس‪،‬‬
‫العرقي كأيديولوجيا سياسية مقبولة عىل نطاق واسع وكمبدأ هيكيل للنظام‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي‪ ،‬انخرط العامل‬ ‫العاملي»‪ .‬يف إطار الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫االستعامري السابق يف البنية الثنائية القطب للحرب الباردة تحت مسمى «العامل‬
‫الثالث» الجديد‪ .‬فهذه البلدان تتمتع اآلن بالحرية السياسية لتشق طريقها الخاص‬
‫يف السياسة العاملية‪ ،‬لكنها‪ ،‬وكام أشار ماركس )‪ ([1852] 1963: 1‬عىل نحو معروف‪،‬‬
‫كانت تقوم بذلك ليس يف إطار ظروف من اختيارهم‪ .‬لقد انتزع قادة وشعوب‬
‫العامل الثالث استقاللهم السيايس أو ُم ِن ُحوا إياه‪ .‬لكن دولهم كانت يف األغلب دو ًاًل‬
‫فقرية ومتخلفة‪ ،‬مع اقتصادات ضعيفة ظلت تعتمد عىل نحو كبري عىل املرتوبوالت‬
‫‪ metropoles‬السابقة(٭)‪ .‬إذ غال ًبا ما كانت سياساتهم الداخلية مضطربة وغري‬
‫مستقرة‪ ،‬وغال ًبا ما أدت أفكار القومية وتقرير املصري التي دعمت نضالهم من أجل‬
‫ن ْيل االستقالل إىل زعزعة استقرار الدول املتعددة األعراق والثقافات التي ُب ِن َيت‬
‫بعد االستقالل‪ .‬لقد احتفظت معظم تلك البلدان بحدودها االستعامرية‪ ،‬وناد ًرا‬
‫ما ُرسمت عىل أساس أي فكرة تأخذ بعني االعتبار مفهوم األمة‪ ،‬خاصة يف بلدان‬
‫أفريقيا‪ .‬وكام الحظ جانسون وأسرتهاميل (‪ :)2017: 177‬فإن «ما يقرب من ‪ 40‬يف‬
‫(٭) يقصد باملصطلح البلدان االستعامرية التي كانت متثل قلب الصناعة يف العامل‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫املائة من طول جميع الحدود الدولية اليوم كانت قد ُرسمت يف األصل من طرف‬
‫بريطانيا العظمى وفرنسا»‪ .‬لقد كان االفتقار إىل وجود شعوب موحدة‪ ،‬وما يرتتب‬
‫عىل ذلك من مشكالت االنفصال و‪/‬أو النضال من قبل مجموعات مختلفة للسيطرة‬
‫َوطنًا‪ .‬وعىل الرغم من أن تلك الدول مل تعد تؤدي دور الغنائم يف‬ ‫عىل الدولة‪ ،‬أمرا ُمت ِّ‬
‫املنافسات االستعامرية القامئة بني القوى الكربى البعيدة‪ ،‬فإنها كانت دوال خاضعة‬
‫للمنافسة األيديولوجية والعسكرية العاملية القامئة بني القوتني العظميني بشأن‬
‫طريقة تنمية تلك الدول وتحالفاتها السياسية‪ .‬ومثلام يالحظ أود أرن ويستيد‬
‫)‪ ،(Odd Arne Westad 2007: 5‬فإنه ميكن اعتبار الحرب الباردة «واحدة من‬
‫املراحل النهائية للسيطرة األوروبية عىل العامل»‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬وبينام كان قادة العامل الثالث يجلسون أخ ًريا عىل طاولة املجتمع الدويل‬
‫العاملي كأنداد متساويني من ناحية السيادة‪ ،‬كانوا ميلكون أورا ًقا تفاوضية ضعيفة‪.‬‬
‫ومن بعض النواحي‪ ،‬كانوا يلعبون لعبة مألوفة تتعلق بعالقات املَ ْر َكز‪-‬األَ ْط َراف‪،‬‬
‫نواح أخرى‪ ،‬كانت‬ ‫حيث أصبح لديهم اآلن عىل األقل صوت مستقل‪ .‬ولكن من ٍ‬
‫تلك اللعبة جديدة بالنسبة إليهم‪ ،‬حيث شكلت القطبية الثنائية والحرب الباردة‬
‫مجموعة مختلفة متا ًما من التحديات والفرص عن تلك التي كانت موجودة إبان‬
‫الحقبة االستعامرية‪ .‬حيث كان عىل قادة وشعوب العامل الثالث أن يتعاملوا مع‬
‫قضايا متعددة وعىل عدة جبهات مختلفة‪.‬‬
‫فعىل الصعيد املحيل‪ ،‬كان عىل قادة وشعوب العامل الثالث السعي إىل ترسيخ‬
‫دولهم الجديدة والعمل عىل استقرارها‪ ،‬وإيجاد اتجاه سيايس وإسرتاتيجية تنموية‬
‫متكنهم من دخول مسار التحديث يف أرسع وقت ممكن من أجل تلبية تطلعات‬
‫الشعوب والقادة نحو الرثوة والقوة (‪ .)Westad, 2007: 90‬وقد اختلفت مناذج‬
‫التنمية الرأساملية واالشرتاكية التي قدمتها (سواء كانت تدعمها أو تعارضها)‬
‫القوتان العظميان عىل نحو صارخ‪ :‬فقد جاءت الرأساملية مبساعدة غربية‪ ،‬لكنها‬
‫ارتبطت بسهولة باملامرسات االستعامرية االستغاللية التي أثارت استياء شديدا‪ .‬يف‬
‫حني بدت االشرتاكية وكأنها تنسجم مع رغبة عديد من قادة العامل الثالث الرامية‬
‫إىل سلوك طريق بسيط ورسيع وسلطوي نحو تحقيق التنمية ‪(Westad, 2007:‬‬
‫)‪ .91–3‬ونظ ًرا إىل الشعوب املجزأة التي كانت متثل اإلرث السيايس بالنسبة إىل‬
‫‪202‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫عديد من دول ما بعد االستعامر‪ ،‬كان أمن النظام ضد املنافسني الداخليني بالنسبة‬
‫إىل عديد من قادة العامل الثالث يشكل مشكلة أكرب نسبيا من املخاوف املتعلقة‬
‫بالتهديدات القادمة من الجريان‪ .‬ونظ ًرا إىل كونها كانت ضعيفة يف األغلب كدول‬
‫وكقوى‪ ،‬مل تكن دول العامل الثالث عمو ًما يف وضع ميكنها من تهديد جريانها عسكر ًيا‪.‬‬
‫لكن موثوقية حرب العصابات؛ التي ُط ِّبقت خالل بعض نضاالت إنهاء االستعامر‪،‬‬
‫شكلت رادعًا معقو ًاًل ضد أي تهديد باالحتالل‪ .‬وقد كان مثة بعض االستثناءات‬
‫بخصوص ذلك‪ ،‬خاصة يف الرشق األوسط وجنوب آسيا‪ ،‬حيث رأت عديد من الدول‬
‫الجديدة أن جريانها يشكلون تهديدات عسكرية وسياسية وجودية بالنسبة إليهم‪.‬‬
‫عىل الصعيد اإلقليمي‪ ،‬كان عىل دول العامل الثالث إقامة عالقات اقتصادية‬
‫سياسات للعمل داخل مناطقهم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وسياسية وأمنية مع جريانها املستقلني حدي ًثا‪ ،‬ووضع‬
‫كان هذا األمر ميثل يف األغلب تحديا‪ .‬حيث إن عديدا من املناطق الجديدة ُولِدَت‬
‫داخل بؤر الرصاع (‪ .)Buzan and Wæver, 2003‬فقد تحتَّم عىل منطقة جنوب‬
‫آسيا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أن تنتقل من كونها مركزًا ُم َو َّحدًا لإلمرباطورية الربيطانية‬
‫إىل كونها ُم َر َّك ًبا أمن ًيا إقليم ًيا ُم َمز ًقا بسبب الدين والتاريخ‪ .‬كام انتقلت منطقة‬
‫الرشق األوسط من السيطرة العثامنية إىل االنقسام إىل مستعمرات ومناطق انتداب‬
‫أوروبية بعد الحرب العاملية األوىل؛ ثم إىل كونها ُم َر َّك ًبا أمن ًيا إقليم ًيا شديد الرصاع‬
‫ُم َق َّس ًاًم عىل ُأسس دينية وعرقية وسياسية عديدة‪ .‬وغال ًبا ما كان لدى املستعمرات‬
‫السابقة داخل منطقة ما القليل من العالقات االقتصادية ملنحها مصلحة مشرتكة‪،‬‬
‫وكان كثري من تلك املستعمرات السابقة تسعى إىل إذكاء النزاعات السياسية والدينية‬
‫والثقافية والحدودية لوضع تلك املناطق عىل خالف بعضها مع بعض‪ .‬ومن املفارقات‬
‫أن إحدى اإلسرتاتيجيات املقبولة عىل نطاق واسع للتعامل مع التحديات املحلية‬
‫واإلقليمية كانت املوافقة عىل إبقاء الحدود االستعامرية من دون تغيري‪ .‬وقد أنتجت‬
‫دول العامل الثالث‪ ،‬وبدعم من منظومة األمم املتحدة يف كثري من األحيان‪ ،‬عديدا‬
‫من املنظامت الحكومية الدولية اإلقليمية وشبه اإلقليمية وفوق اإلقليمية ليس فقط‬
‫أيضا منظمة الدول األمريكية (‪)1948‬؛ ومنظمة التعاون‬ ‫تلك املذكورة أعاله‪ ،‬ولكن ً‬
‫اإلسالمي (‪)1969‬؛ واملجموعة االقتصادية لدول غرب أفريقيا (‪)1975‬؛ ومجلس‬
‫التعاون الخليجي (‪)1981‬؛ ورابطة جنوب آسيا للتعاون اإلقليمي (‪.)1985‬‬
‫‪203‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫عىل الصعيد العاملي‪ ،‬كان عىل الدول الجديدة التي تنتمي للعامل الثالث أن‬
‫أيضا دورا يف لعبة السياسة العاملية التي تهيمن عليها اآلن القوتان العظميان‪.‬‬ ‫تؤدي ً‬
‫أيضا‪ ،‬مارست املنظامت الحكومية الدولية دو ًرا ً‬
‫حاساًم يف متكني‬ ‫وعىل هذا املستوى ً‬
‫دول العامل الثالث من تأدية دور نشط يف الديبلوماسية‪ ،‬وتزويدها عىل األقل ببعض‬
‫الطرق التي ميكن من خاللها استغالل كرثة أعدادها للتعويض عن ضعفها االقتصادي‪.‬‬
‫وىَل ا ُمل َعدَّلة ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع الدويل ال َعالَ ِمي تآز ٌر مهم‬ ‫وبهذا املعنى‪ ،‬كان مثة يف الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫قائم بني التزام الواليات املتحدة بتعزيز الديبلوماسية متعددة األطراف واملنظامت‬ ‫ٌ‬
‫الحكومية الدولية من ناحية‪ ،‬وبني حاجة العامل الثالث إىل الدخول يف لعبة السياسة‬
‫العاملية ومحاولة التأثري فيها من ناحية أخرى‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬مل تكن الواليات‬
‫املتحدة مهتمة عىل نحو مبارش بتعزيز تأثري العامل الثالث‪ .‬بل أرادت إنشاء نظام‬
‫مستقر ومواصلة رصاعها ضد الشيوعية‪ ،‬وكانت مستعدة إىل حد ما لربط قوتها‬
‫باملؤسسات القامئة من أجل االضطالع بذلك‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فقد و َّفرت منظومة‬
‫األمم املتحدة منتدىً وإطا ًرا أخالق ًيا ميكن لدول العامل الثالث أن تبدي آراءها من‬
‫خالله‪ .‬حيث إنها زودتهم؛ عىل األقل يف الجمعية العامة‪ ،‬مبنتدى تحظى فيه كرثتهم‬
‫بأهمية عندما يتعلق األمر بالفوز باألصوات‪.‬‬
‫لقد ش َّكل إنشاء نظام شامل من املنظامت الحكومية الدولية أهمية أساسية‬
‫للم ْج َت َم ِع الدَويل ال َعالَ ِمي أكرث مام ُأدرك‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة ُ‬ ‫بالنسبة إىل وظيفة الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫مبارشة‪ .‬وكام يجادل باري بوزان وريتشارد ليتل )‪ ،(2010: 317–18‬فإن التوسع‬
‫الكبري يف عدد الدول الذي نتج عن إنهاء االستعامر‪َ ،‬خ َلقَ نوعًا من األزمة بالنسبة‬
‫إىل املامرسات الديبلوماسية الثنائية املعتادة‪ .‬إذ كان من املستحيل؛ خاصة بالنسبة‬
‫إىل البلدان الفقرية سواء بسبب التكلفة أو بسبب عدم وجود عدد كاف من‬
‫األشخاص املدربني‪ ،‬أن يكون لكل دولة سفارة يف عاصمة كل دولة أخرى‪ .‬ومن ثم‬
‫فإن املنظامت الحكومية الدولية اإلقليمية والعاملية ليست مجرد منتديات مفيدة‬
‫ملناقشة املشكالت الجامعية‪ ،‬بل تشكل آليات أساسية لرتكيز الديبلوماسية بطريقة‬
‫ُمُتَ ِّكن البلدان الفقرية من أداء دورها عىل أكمل وجه‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن عديدا من دول العامل الثالث أصبحت تنظر إىل بعض‬
‫املؤسسات الدولية عىل أنها أدوات لإلكراه يف أيدي الشامل؛ ُتسهم يف تفاوت القوى‬
‫‪204‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫وج ُه نحو خدمة األهداف اإلسرتاتيجية األمريكية‪ .‬ومن األمثلة‬ ‫يف النظام الدويل؛ و ُت َّ‬
‫الواضحة عىل ذلك قدرة صندوق النقد الدويل عىل فرض التكيف الهيكيل يف أفريقيا‬
‫عىل الرغم من تكاليفه البرشية والسياسية الهائلة‪ .‬لقد كان تقييم روبرت كوكس‬
‫للمؤسسات الدولية ينم عن ذلك‪ ،‬خاصة عند النظر إليها من منظور دول العامل الثالث‪:‬‬
‫«ميكن اآلن إعادة تعريف املنظمة الدولية باعتبارها عملية إضفاء الطابع املؤسيس‬
‫عىل الهيمنة‪ .‬حيث تعمل املؤسسات الدولية عىل تعميم املعايري املناسبة لبنية القوة‬
‫العاملية‪ ،‬وتحافظ بنية القوة هذه عىل نفسها من خالل دعم تلك املؤسسات‪ .‬وبهذا‬
‫املعنى‪ ،‬فإن املؤسسات هي كوابح للحفاظ عىل الوضع القائم» (‪R. W. Cox, 1980:‬‬
‫‪ .)377‬وردا عىل ذلك‪ ،‬سعت دول العامل الثالث إىل إنشاء مؤسسات تكون أكرث ً‬
‫دعاًم‬
‫ملصالحها وتطلعاتها‪ .‬فعىل املستوى العاملي طوروا ثالث مؤسسات‪ .‬حيث سخرت‬
‫مجموعة الـ ‪ )1964( 77‬قوتها التصويتية يف املنظامت الحكومية الدولية واملفاوضات‬
‫العاملية متعددة األطراف بشأن قضايا مثل قانون البحار وانتشار األسلحة النووية‪.‬‬
‫كام أن مؤمتر األمم املتحدة للتجارة والتنمية )‪ UNCTAD (1964‬اعرتض عىل‬
‫هيمنة الغرب عىل املؤسسات املالية العاملية (صندوق النقد الدويل‪ ،‬البنك الدويل‪،‬‬
‫الجات) وسعى إىل تعويض خلل التوازن ذاك‪ .‬أما حركة عدم االنحياز (‪ ،)1961‬فقد‬
‫حاولت خلق مساحة سياسية خارج نطاق القطبية األيديولوجية للقوتني العظميني‪.‬‬
‫خالل السبعينيات من القرن املايض اضطلعت مجموعة صغرية من الدول‬
‫ا ُملصدِّرة للنفط بإيجاد واستغالل رافعة اقتصادية قوية ميكن استخدامها ضد الغرب‪.‬‬
‫فمن خالل تقييد العرض‪ ،‬متكنوا من استخدام منظمة البلدان املصدرة للنفط‬
‫(أوبيك) لزيادة أسعار النفط عىل نحو كبري‪ .‬وقد سمح لهم املجال السيايس واألمني‬
‫الذي فتحته املنافسة بني القوتني العظميني بامليض ُقدما يف ذلك‪ .‬وعىل رغم ذلك‪،‬‬
‫تبني أن نجاحهم كان ملرة واحدة فقط‪ ،‬إذ أخفق ُمصدرو السلع األساسية اآلخرون‬
‫يف بناء كارتالت ناجحة مامثلة‪ ،‬وأدى ارتفاع أسعار النفط إىل إلحاق كثري من الرضر‬
‫بالبلدان النامية األخرى التي اضطرت إىل استرياده ومل تستطع التعامل مع ارتفاع‬
‫األسعار بالسهولة نفسها التي ميكن أن تتعامل بها البلدان الغنية‪.‬‬
‫نجاحا‪َّ ،‬‬
‫وظفت دول العامل الثالث أورا ًقا أخالقية‪ ،‬وذلك باستخدام‬ ‫وعىل نحو أكرث ً‬
‫اإلطار املعياري ا ُملت ََضمن يف الوثائق التأسيسية ملنظومة األمم املتحدة ويف بيانات‬
‫‪205‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أهدافها ا ُملسطرة‪ .‬ومبا أن مسار إنهاء االستعامر ظل غري مكتمل‪ ،‬فقد ضغطوا بال‬
‫هوادة من أجل حلحلة القضايا املتبقية‪ .‬بالتوازي عىل رغم ذلك‪ ،‬اضطلعوا‪ ،‬وبال‬
‫كلل‪ ،‬بحمالت مستمرة ضد العنرصية‪ ،‬وأدُّوا عىل نحو خاص دورا ضد نظام الفصل‬
‫العنرصي يف جنوب أفريقيا‪ ،‬واتهموا إرسائيل باتباع سياسات استعامرية وعنرصية‬
‫ضد الفلسطينيني‪ .‬كام عزز لويب العامل الثالث من مسألة املساعدة والتنمية ليك‬
‫تكون مسألة حقوق‪ ،‬ودافع عن سيادته املكتسبة حدي ًثا ضد كل أشكال التدخل‬
‫القدمية والجديدة‪.‬‬
‫عىل الرغم من الحرب الباردة‪ ،‬نجحت دول العامل الثالث يف فتح مساحة سياسية‬
‫كبرية لها‪ .‬وعىل الرغم من اخرتاق هذه املساحة بشدة من طرف ديناميات تنافس‬
‫القوتني العظميني خالل مرحلة الحرب الباردة‪ ،‬فإنهم استخدموا أيضا التقسيم الثنايئ‬
‫القطب لخلق أوراق نفوذ للمساومة عىل كل يشء بدءا من املساعدات ووصوال إىل‬
‫مناهضة العنرصية‪ .‬رمبا كانت الحرب الباردة «واحدة من املراحل النهائية للسيطرة‬
‫األوروبية عىل العامل»‪ ،‬ولكن باملقارنة مع الفرتة االستعامرية الغربية‪ ،‬كانت أيضا‬
‫متثل وعىل نحو كبري مرحلة تحرر‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬كان الشغل الشاغل ملعظم‬
‫دول العامل الثالث هو السعي وراء مسار التحديث والتنمية‪ ،‬وهنا ُقوبلت اآلمال‬
‫الكبرية التي صاحبت مسار إنهاء االستعامر بخيبات أمل مريرة‪ .‬لقد افرتض كثريون‪،‬‬
‫سواء من الطرف املستع َمر أو الطرف املستع ِمر السابق‪ ،‬أن االستقالل باإلضافة إىل‬
‫املساعدة من شأنه أن يحل برسعة مشكلة التخلف‪ .‬يف هذه الحالة نجح عددٌ قليل‬
‫فقط من النمور اآلسيوية (كوريا الجنوبية‪ ،‬وتايوان‪ ،‬وسنغافورة) يف االنتقال الكامل‬
‫نحو الحداثة الصناعية‪ ،‬يف حني حكم عىل معظم التجارب التي تبنت إسرتاتيجيات‬
‫التنمية االشرتاكية واالكتفاء الذايت و‪/‬أو «استبدال الواردات» بالفشل الذريع‪.‬‬
‫ففي معظم أنحاء أفريقيا وآسيا وأمريكا الالتينية‪ ،‬تعطلت التنمية بسبب مزيج‬
‫مختلف من الرصاع؛ والك ِلبتوقراطية(٭)؛ واأليديولوجية املضللة؛ والبريوقراطية؛‬
‫(٭) الك ِلبتوقراطية ‪ :Kleptocracy‬تعني حكم اللصوص‪ ،‬وهو نوع من الحكم يستخدم قادته الفاسدون السلطة‬
‫السياسية لالستيالء عىل ثروة شعوبهم؛ عادة عن طريق اختالس أو رسقة األموال عىل حساب عموم السكان‪ .‬وهذا‬
‫املصطلح مر َّكب من مقطعني باللغة اإلغريقية؛ أولهام «ك ِلبتو» (‪ )Klepto‬مبعنى لص‪ ،‬وثانيهام «قراط» (‪)cracy‬‬
‫مبعنى حكم‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫والفساد؛ والحكم الهش؛ وسوء التعليم؛ وسوء الصحة‪ .‬لقد كافحت الدول الضعيفة‬
‫يف العامل الثالث للحفاظ عىل استقاللها يف مواجهة عوملة التمويل واإلنتاج يف االقتصاد‬
‫العاملي‪ .‬حيث وجدوا أنفسهم منخرطني يف رصاع غري متكافئ ليس فقط مع الدول‬
‫القوية والقوى املتموقعة يف الشامل‪ ،‬ولكن أيضا مع الرشكات عرب الوطنية القوية‬
‫والهياكل التجارية واملالية العاملية التي مل يكن لديهم نفوذ أو سيطرة عليها(٭)‪ .‬إن‬
‫ما كان الفتا يف هذه الفرتة مل يكن نجاح تنمية العامل الثالث‪ ،‬ولكن كيف تعافت‬
‫تلك البلدان الصناعية التي دمرتها الحرب عىل نحو رسيع وشامل‪ .‬إذ رسعان ما‬
‫أصبحت اليابان وأملانيا من عاملقة الصناعة الحديثة مرة أخرى؛ وازدهر الغرب ككل‬
‫(‪ .)Westad, 2007: 91‬يف حني مل تنحرس الهوة بني البلدان املتقدمة والنامية‪ ،‬بل‬
‫كانت تتسع يف عديد من األماكن وعىل كثري من األصعدة‪.‬‬
‫كانت عملية إعادة بناء مجتمع حديث بالفعل أسهل بكثري من تطوير‬
‫قياس بني االثنني سيكون قياسا خاطئا‪ .‬وكام جادل‬ ‫مجتمع مل ُيحدَّ ث بعد‪ ،‬وأي ٍ‬
‫بعض املفكرين االستعامريني‪ ،‬ومثلام ُض ِّمن يف نظام انتداب عصبة األمم‪ ،‬مل يكن‬
‫كل أولئك الذين حصلوا عىل االستقالل مستعدين للحكم الذايت يف ظل الظروف‬
‫شديدة االخرتاق واملتطلبة لسياسات العامل الحديث‪ .‬وكام يف الفرتات السابقة‪،‬‬
‫تطلبت التنمية خوض غامر ثورات الحداثة مع الحفاظ عىل االستقرار السيايس‪،‬‬
‫ومل تكن هذه مهمة سهلة خصوصا مع االنتقال من وضع السيطرة االستعامرية‬
‫إىل االستقالل‪ .‬لقد تحول التزام القوى االستعامرية برفع مسؤوليتها إىل مستوى‬
‫«معيار الحضارة» إىل التز ٍام بتقديم املساعدة وتعزيز التنمية‪ .‬لكن مجموع‬
‫الحاالت والظروف كانت واسعة للغاية‪ ،‬وكانت أماكن البداية غري املتكافئة للغاية‬
‫يف السباق من أجل التنمية تقابلها درجات نجاح متفاوتة للغاية‪ .‬ففي أحد‬
‫طريف الطيف‪ ،‬كانت هنالك النمور اآلسيوية مثل كوريا وتايوان‪ ،‬والتي حدِّثت‬
‫مجتمعاتها بالقوة‪ ،‬ولكن عىل نحو فعال‪ ،‬من طرف اليابان عندما كانت تشكل تلك‬
‫الدول إحدى مستعمراتها‪ .‬كام نجحت هذه الدول القليلة‪ ،‬مبا يف ذلك سنغافورة‪،‬‬
‫(٭) من أجل ملحة عامة مفيدة عن التطورات يف االقتصاد العاملي خالل هذه الفرتة انظر‪:‬‬
‫‪Gilpin 1987, Hurrell and Woods 1995, Stubbs and Underhill 1994.‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف التطور برسعة‪ ،‬وإن كان ذلك يحصل يف األغلب يف ظل أنظمة سلطوية‪ .‬ويف‬
‫منتصف الطيف كانت توجد دول مثل الهند‪ ،‬التي لديها حكومات فعالة عىل‬
‫نحو معقول‪ ،‬وكانت تحوي بعض عنارص التصنيع والحداثة‪ .‬وقد كان ذلك مزيجا‬
‫مع َّقدا من النجاحات واإلخفاقات مع بعض التقدم نحو التحديث‪ ،‬ولكنه كان‬
‫تقدما بطيئا وغري مكتمل‪ .‬ففي الهند وأماكن أخرى ظلت عديد من املناطق‬
‫الريفية للبالد زراعية إىل حد كبري وتعيش حالة ما قبل الحداثة‪ .‬ويف الطرف اآلخر‬
‫من الطيف كانت هناك عديد من البلدان يف أفريقيا‪ ،‬حيث مل يكن من املتوقع أن‬
‫ُيحدث مسار إنهاء االستعامر أي يشء مثل ما أحدثه يف السابق‪ ،‬حيث كان إرث‬
‫الحدود االستعامرية صعبا عىل نحو خاص‪ ،‬وكانت تلك البلدان تفتقر يف كثري من‬
‫األحيان إىل املوارد التعليمية واالجتامعية والبريوقراطية واملالية الرضورية لتسيري‬
‫دولة حديثة‪ .‬بل إن بعض هذه املوارد قد تراجعت مقارنة مبستوى التطور الذي‬
‫كانت عليه أيام االستعامر‪ ،‬حيث كان النظام السيايس أقل رسوخا وكانت ظروف‬
‫االستثامر أسوأ‪ ،‬كام أن تلك البلدان عجزت عن الحفاظ عىل بعض البنى التحتية‬
‫املوروثة مثل السكك الحديد‪ .‬وحتى بعض النجاحات التي ُحققت عىل مستوى‬
‫التنمية‪ ،‬مثل تحسني الرعاية الصحية والسيطرة عىل األمراض‪ ،‬كانت لها عواقب‬
‫تجسدت يف شكل املعدالت العالية للنمو السكاين‪.‬‬‫يصعب حلها َّ‬
‫إن اإلشكالية التي واجهها املسؤولون االستعامريون بشأن كيفية إيجاد طرق‬
‫عادلة ومستقرة وتقدمية لربط االقتصادات الصناعية القوية باالقتصادات الضعيفة‬
‫وغري الحديثة مل ُتحل عن طريق إنهاء االستعامر‪ .‬لقد ُطرحت تلك اإلشكالية عىل‬
‫أنها مهمة طويلة وصعبة للغاية‪ .‬ففي حني أنه كان من املمكن مع نهاية تلك الفرتة‬
‫تخيل أن العامل كله سوف يتطور يوما ما عىل نحو متسا ٍو‪ ،‬فقد أصبح من الصعب‬
‫أو املستحيل تخيل أن هذا سيحدث إما برسعة وإما عىل نحو متسا ٍو‪ .‬ويف أحسن‬
‫األحوال كانت ستكون عملية طويلة وممتدة‪ ،‬إذ تتحرك خاللها مجموعة من الدول‬
‫لالنتقال من حالة الدول النامية إىل حالة الدول املتطورة‪ ،‬والتي قد تقيض فيها هذه‬
‫الدول وقتا طويال يف منطقة وسط بني الحالتني (أي بني حالتي التخلف والتطور)‪.‬‬
‫كان من غري الصواب من الناحية السياسية التعبري عن مثل هذه األفكار‪ ،‬ولكن كان‬
‫هذا هو ما أشارت إليه كل تجارب إنهاء االستعامر‪ /‬حقبة الحرب الباردة‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫‪ - 2 - 3‬إعادة هيكلة عالقة املركز ‪ -‬األطراف‬


‫خالل العقود التي أعقبت نهاية الحرب العاملية الثانية كان كل من املركز‬
‫واألطراف يشهد تحوال‪ .‬فقد تحول املركز إىل قطبية ثنائية ذات طابع نزاعي بشدة‪،‬‬
‫حيث ُت ُخ ِّيِّل عن خيار حرب القوى الكربى وذلك بسبب املعضلة الدفاعية التي‬
‫طرحتها األسلحة النووية‪ .‬وقد انتقلت األطراف من وضع الحالة االستعامرية إىل‬
‫كفاح جامعي وفردي إليجاد مسارات عملية بغية‬ ‫حالة االستقالل‪ ،‬وأيضا إىل حالة ٍ‬
‫تحقيق التنمية عىل جميع األصعدة‪ .‬كانت هذه القصص متشابكة من الناحية‬
‫السببية‪ .‬وعندما صارت املستعمرات تشكل دوال‪ ،‬كان عىل اإلمرباطوريات أيضا أن‬
‫تتحول هي األخرى إىل دول‪ .‬لقد أسهمت الحرب العاملية الثانية يف إيجاد قوتني‬
‫عظميني جزئيا من خالل إضعاف أو تحطيم القوى الكربى األوروبية واليابان‪ ،‬كام‬
‫أن إضعاف القوى اإلمربيالية الرئيسة كان ميثل السبب الذي يقف وراء تسهيل‬
‫مسار إنهاء االستعامر‪ .‬لكن القصتني لهام أيضا ديناميات مميزة خاصة بهام‪ .‬فقد‬
‫كان صعود الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي‪ ،‬كام الحظ ألكسيس دو توكفيل‪،‬‬
‫يف طور التكوين وعىل مدى فرتة طويلة‪ .‬وكذلك كان األمر بالنسبة إىل مسار إنهاء‬
‫االستعامر‪ ،‬الذي امتدت جذوره إىل القرن التاسع عرش متمظهرة يف كل من املقاومة‬
‫املحلية؛ والثقافة املحلية؛ والدين؛ وأيضا يف أيديولوجيات الليربالية واالشرتاكية‬
‫والقومية‪ .‬وكام يالحظ ويستاد (‪ ،)2007: 86-97‬يف حني أنه رمبا كانت الحرب‬
‫العاملية الثانية هي التي دمرت االستعامر‪ ،‬فإن الحرب العاملية األوىل ألهمته عىل‬
‫نحو كبري وفتحت باب املقاومة يف وجهه داخل األطراف‪.‬‬
‫لقد سارت الحرب الباردة ومسار إنهاء االستعامر جنبا إىل جنب وتعاطى كل‬
‫منهام مع اآلخر بطرق ال تعد وال تحىص‪ .‬من وجهة نظرنا رمبا تكون النقطة األكرث‬
‫عالقات‬
‫ٍ‬ ‫أهمية هي أنه خالل هذا التفاعل أصبحت العالقات الدولية وألول مرة‬
‫دولية عاملية بحق‪ .‬فقد أدى إنهاء االستعامر عىل نحو مطرد إىل حل الفصل الذي‬
‫يقسم العالقات االستعامرية القامئة بني املرتوبوالت وأطرافها من ناحية‪ ،‬وبني‬ ‫ِّ‬
‫العالقات الدولية القامئة بني الدول «املتحرضة» من ناحية أخرى‪ ،‬وهو الفصل‬
‫الذي م َّيز بقوة الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي‪ .‬لقد أدت الرسعة والحجم‬
‫غري املتوقعني ملسار إنهاء االستعامر بني العامني ‪ 1945‬و‪ 1975‬إىل تحويل املجتمع‬
‫‪209‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الدويل العاملي االستعامري الغريب إىل املجتمع الدويل العاملي الغريب‪ .‬وعىل الرغم‬
‫من أن عالقات القوة والرثوة ومستويات التنمية من ناحية التحديث ظلت غري‬
‫متكافئة للغاية‪ ،‬فإن العالقات القانونية والسياسية أصبحت قامئة عىل أساس‬
‫املساواة يف السيادة‪ ،‬وذلك عىل نحو فعال وعىل مستوى عاملي‪ .‬أما ما كان ُيعدُّ يف‬
‫عالقات رسمي ًة لعدم املساواة‪ ،‬فقد أصبحت‬
‫ٍ‬ ‫القرن املايض أو القرون التي سبقته‬
‫اآلن متساوية رسمية؛ وإن كان مع بقاء كثري من عدم املساواة غري الرسمية‪ .‬إذ‬
‫ُقيض عىل العنرصية عىل نحو رسمي ‪ -‬وإىل حد كبري عىل نحو غري رسمي ‪ -‬كأساس‬
‫لتحديد العالقات السياسية والقانونية‪.‬‬
‫عىل هذا األساس‪ ،‬أدَّى التنافس بني القوتني العظميني خالل فرتة الحرب الباردة‬
‫دورا يف العامل الثالث الجديد‪ .‬فبالنسبة إىل الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي‪،‬‬
‫أصبح العامل الثالث يشكل ساحة رئيسة خاضوا فيها رصاعهم‪ .‬لقد عرضوا وعىل نحو‬
‫مذهل إسرتاتيجيات مختلفة للتحديث‪ ،‬وقد أصبحت قدرتهم عىل جذب العمالء‬
‫والحلفاء‪ ،‬وتشكيل االقتصاد السيايس للتحديث يف العامل الثالث‪ ،‬عالمة مهمة عىل‬
‫كيفية أدائهم خالل تلك املنافسة الشاملة‪ .‬وقد تقاطعت مصالح القوتني العظميني‬
‫هذه مع عديد من خطوط الصدع داخل دول العامل الثالث وبينها‪ ،‬مام أدى إىل‬
‫تدخالت تنافسية شملت املساعدات وإمدادات األسلحة وأحيانا الدعم السيايس‬
‫والعسكري املبارش إىل طرف معني أو آخر‪ .‬وباإلضافة إىل تسجيل بعض املكاسب‬
‫األيديولوجية إحداهام عىل حساب األخرى‪ ،‬كانت القوتان العظميان مهتمتني أيضا‬
‫باهتاممات القوى الكربى مثل الوصول إىل املوارد (مثل النفط يف الرشق األوسط‬
‫وأفريقيا‪ ،‬واليورانيوم يف الكونغو البلجيكية السابقة) والقواعد (عىل سبيل املثال‬
‫يف الفلبني‪ ،‬وكوبا‪ ،‬والخليج‪ ،‬والشام‪ ،‬واملحيط الهندي)‪ .‬ويف ظل ظروف الحرب‬
‫الباردة‪ ،‬كان من الصعب عىل دول العامل الثالث تجنب اخرتاق القوتني العظميني‬
‫يف عالقاتهام املحلية واإلقليمية‪ .‬متيل كل واحدة من القوتني العظميني إىل تفسري‬
‫العامل الثالث ليس من ناحية الديناميات املحلية‪ ،‬ولكن من خالل رؤية األحداث‬
‫ومن خالل منظور مكائد منافستها األخرى‪ .‬عندما انخرطت القوتان العظميان عىل‬
‫نحو مبارش يف رصاعات العامل الثالث‪ ،‬كام فعلت الواليات املتحدة يف فيتنام وكام‬
‫فعل االتحاد السوفييتي يف أفغانستان‪ ،‬حاول كل منهام جعل تدخل اآلخر صعبا‬
‫‪210‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫ومؤملا قدر اإلمكان‪ ،‬وذلك من خالل تأليب وتشجيع جميع أشكال املعارضة املحلية‬
‫ضده‪ .‬كان معنى كلمة «الباردة» يف الحرب الباردة هو أن الواليات املتحدة واالتحاد‬
‫السوفييتي ال ميكنهام املخاطرة بالدخول يف حرب معا عىل نحو مبارش‪ .‬ففي الشامل‬
‫تعني كلمة «الباردة» سباق التسلح وخلق مواجهات عسكرية وسياسية يف أوروبا‬
‫وشامل رشق آسيا‪ .‬أما يف الجنوب فقد كانت تعني كلمة «الباردة» منافسة واسعة‬
‫النطاق عرب القطاعات العسكرية والسياسية واالقتصادية‪ ،‬واالستعداد للدخول يف‬
‫حروب بالوكالة‪.‬‬
‫وهكذا حولت الحرب الباردة االلتزام االستعامري للقوى املرتوبولية‪ ،‬والقائل إن‬
‫القوى االستعامرية ترقى مبسؤولياتها إىل «معيار الحضارة»‪ ،‬إىل رص ٍاع أيديولوجي‬
‫عاملي بشأن أفضل وأرسع طريق للتحديث والتنمية‪ .‬قبل العام ‪ 1945‬كان مدى‬
‫جودة أو سوء تنفيذ االلتزام االستعامري هذا متنوعا عىل نحو كبري‪ ،‬ومل يكن يسري‬
‫عىل نحو جيد يف كل األماكن‪ .‬لقد س َّيست الحرب الباردة مسألة التنمية‪ ،‬مام أدى‬
‫إىل زيادة موارد املساعدة املتاحة لها‪ ،‬ورفع مستويات الخالف والنزاع واالرتباك‬
‫بشأن كيفية استخدام تلك املوارد‪ .‬وقد تقاطع هوس العامل الثالث بتحقيق التنمية‬
‫مع النقاط األيديولوجية للقوتني العظميني الرامية إلعادة تشكيل دور املنظامت‬
‫الحكومية الدولية يف السياسة العاملية‪ .‬وبينام حاولت عصبة األمم إدارة عالقات‬
‫القوى الكربى من خالل مقاربة األمن الجامعي‪ ،‬فإن الحرب الباردة رسعان ما‬
‫أبعدت األمم املتحدة عن هذه الوظيفة‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬ومع إنهاء االستعامر‪،‬‬
‫أصبحت منظومة األمم املتحدة تشكل املنتدى الرئيس لسياسات الشامل والجنوب‬
‫بشأن التنمية؛ واالنتشار النووي؛ وإدارة االقتصاد العاملي؛ ومجموعة من القضايا‬
‫األخرى‪ .‬أما بالنسبة إىل العامل الثالث‪ ،‬فقد كان نظام األمم املتحدة ميثل املنتدى‬
‫املفضل ألنه كان املكان الوحيد الذي تتمتع فيه دوله بقوة سياسية وأخالقية‪.‬‬
‫خالل هذه الفرتة‪ ،‬ظلت دول األطراف ضعيفة ومعتمدة عىل دول املركز إىل حد‬
‫كبري‪ .‬فقد ثبت أن مسار التنمية‪ ،‬بغض النظر عن الطريق الذي سلكته‪ ،‬كان أبطأ‬
‫وأكرث صعوبة وأقل استقرارا مام كان متوقعا‪ .‬إذ متكنت حفنة من النمور اآلسيوية‬
‫فقط من الدخول يف مسار الحداثة‪ .‬وبنهاية الحرب الباردة‪ ،‬ومع استثناء كبري يتعلق‬
‫بالصني والنمور اآلسيوية‪ ،‬ظلت الفجوات القامئة بني الدول املتقدمة والدول النامية‬
‫‪211‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كام كانت عليه يف البداية‪ .‬وبينام أعادت الدول التي دمرتها الحرب يف املركز بناء‬
‫نفسها برسعة‪ ،‬ظل معظم العامل الثالث يقبع يف حالة التبعية االقتصادية‪ .‬لقد أعاد‬
‫العامل الثالث الجديد تشكيل السياسة الدولية من بعض النواحي املهمة‪ ،‬ليس أقلها‬
‫تحويل الغاية الرئيسة من املنظامت الحكومية الدولية ووظائفها‪ .‬فخالل هذه‬
‫الفرتة أصبحت العالقات الدولية عاملية حقا‪ ،‬مبعنى أن جميع الشعوب ‪ -‬أو عىل‬
‫نحو أكرث دقة جميع الحكومات ‪ -‬أصبحت تشارك اآلن فيها عىل نحو مستقل‪ .‬لكن‬
‫املجتمع الدويل العاملي كان اليزال يقبع تحت سيطرة الغرب‪ ،‬وكان العامل الثالث‬
‫ضعيف داخل االقتصاد العاملي لبنية املركز ‪ -‬األطراف‪ .‬ومع زوال‬ ‫ٍ‬ ‫وضع‬
‫اليزال يف ٍ‬
‫االتحاد السوفييتي‪ ،‬فقد العامل الثالث نفوذه ضد الغرب‪.‬‬
‫مثة ميزة أخرى لهذا التطور ال تتعلق فقط بهذه الفرتة‪ ،‬ولكنها تتعلق أيضا‬
‫مبا قبلها وما بعدها‪ .‬يتعلق ذلك بالطريقة التي ُيتَذكر بها التاريخ ‪ -‬و ُينىس ‪ -‬عىل‬
‫نحو مختلف يف الشامل والجنوب‪ .‬فمعظم الشعوب والحكومات يف الشامل تتذكر‬
‫هذه الفرتة عىل نحو أسايس عىل أنها «حقبة الحرب الباردة»‪ ،‬وتفكر يف إنهاء‬
‫كعرض جانبي لذلك‪ .‬وبالنظر إىل الوراء عىل‬ ‫ٍ‬ ‫االستعامر ‪ -‬إذا فكروا يف األمر أصال ‪-‬‬
‫نحو أعمق‪ ،‬فهم أصال بالكاد يتذكرون الحقبة االستعامرية ودور بلدانهم فيها‪ .‬وإذا‬
‫كانوا يتذكرون ذلك بالفعل‪ ،‬فإن هذا يكون مرفوقا يف األساس بتوهج فخور بأمجاد‬
‫وموروثات املايض(٭)‪ .‬وبرصف النظر عن حفنة من املؤرخني واليساريني‪ ،‬فقد نسوا‬
‫إىل حد كبري مدى تواطؤ دولهم ومجتمعاتهم يف قضايا العنرصية‪ ،‬ومدى العنف‬
‫والقسوة التي ارتكبوها من خالل املامرسة اإلمرباطورية‪ .‬عىل النقيض من ذلك‪ ،‬فإن‬
‫معظم الشعوب والحكومات يف الجنوب‪ ،‬وخاصة يف أفريقيا وآسيا‪ ،‬تتذكر عىل نحو‬
‫أسايس هذه الفرتة عىل أنها فرتة التحرر وإنهاء االستعامر‪ .‬إن ذكراهم عن االستعامر‬
‫والعنرصية السابقة والعنف واإلهانة التي لحقت بهم التزال قوية‪ ،‬وغالبا ما ُتصقل‬
‫و ُيعاد إنتاجها عىل نحو نشط‪ .‬وقد س َّهل التفاوت االقتصادي املستمر بني الشامل‬
‫والجنوب من إعادة إنتاجها‪ ،‬متاما كام فعلت حاجة حكومات العامل الثالث إىل العثور‬
‫(٭) تعدُّ الواليات املتحدة استثناء هنا ألنها كانت قوة استعامرية صغرية نسبيا قبل العام ‪ .1945‬كانت تجربتها‬
‫«االستعامرية» داخلية إىل حد كبري بسبب استرياد العبيد األفارقة؛ والعنرصية املرتبطة بذلك؛ واملشكلة املستمرة‬
‫لكيفية التعامل مع قضية العرق يف السياسة الداخلية األمريكية‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫عىل طرف آخر غريها لتلقي اللوم عليه بسبب فشلها يف تحقيق التنمية الرسيعة‪.‬‬
‫لقد ظهر هذا االنفصال بني النسيان يف الدول املتحرضة املستعمرة واالستياء التي‬
‫مازالت تتذكره دول األطراف ما بعد االستعامر‪ ،‬كميزة رئيسة للسياسة العاملية خالل‬
‫هذه الفرتة‪ ،‬وترددت أصداؤه بقوة من هناك يف قضايا ترتاوح بدءا من املساعدة‬
‫ورشوط التجارة‪ ،‬مرورا مبسائل حقوق اإلنسان وحفظ السالم‪ ،‬ووصوال إىل عدم‬
‫التدخل واإلرهاب‪.‬‬

‫‪ - 2 - 4‬الصني باعتبارها الغريب الغامض‬


‫ال تنسجم الصني عىل نحو مريح مع أي من جوانب هذه القصة‪ .‬حيث مل تكن‬
‫تشكل قوة عظمى‪ ،‬لكنها أدت وعىل نحو مستقل دورا يف لعبة القوتني العظميني‬
‫عىل الصعيدين املادي واأليديولوجي‪ .‬لقد كانت دولة نامية لديها استيا ٌء شديد ضد‬
‫الغرب وروسيا واليابان بسبب «قرن اإلهانة»(٭) الذي عاشته الصني عىل أيديهم‪.‬‬
‫ومن ثم فقد تشاركت مع العامل الثالث يف املشاعر املناهضة لإلمربيالية والعنرصية‪.‬‬
‫كام شاركتهم شغفهم إليجاد طريق رسيع للحداثة‪ ،‬وذلك من أجل استعادة الصني‬
‫ثروتها وقوتها‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬مل تكن الصني يف حد ذاتها مستعمرة سابقة‪ .‬وكبقية‬
‫دول العامل الثالث األخرى‪ ،‬متسكت بهويتها وبتصنيفها كدولة نامية‪ ،‬ولكن عىل‬
‫عكس معظم دول العامل الثالث‪ ،‬رأت نفسها أيضا قوة رئيسة‪ ،‬وإن كانت تعيش‬
‫يف وضع ضعيف مؤقتا‪ .‬لقد تشاركت الصني مع الهند يف هذا املزيج‪ .‬غري أن مزيج‬
‫الصني الذي كان يجمع الحجم الهائل؛ والحضارة الراسخة؛ وتقاليد الدولة؛ والعرق‬
‫املتامسك نسبيا؛ والسيطرة بال هوادة عىل الحكم املركزي‪ ،‬ميزها عىل نحو حاد عن‬
‫جميع دول العامل الثالث األخرى‪ ،‬مبا يف ذلك الهند‪.‬‬
‫بعد نهاية الحرب األهلية الصينية يف العام ‪ ،1949‬تحالفت الصني فرتة وجيزة‬
‫مع االتحاد السوفييتي وقبلت املساعدات السوفييتية ومنوذج التنمية السوفييتي‪.‬‬
‫وقد اصطدمت مع الواليات املتحدة يف كوريا‪ ،‬ورأت أن الواليات املتحدة متنع‬

‫(٭) قرن اإلهانة ‪ :century of humiliation‬هو وصف يطلق عىل فرتة تدخل القوى األجنبية‪ ،‬من بينها روسيا‬
‫واليابان‪ ،‬يف الصني ما بني العامني ‪ 1839‬و‪[ .1949‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫إعادة التوحيد النهايئ للبالد من خالل حامية نظام الكومينتانغ (‪ )KMT‬الذي‬


‫انسحب إىل تايوان‪ .‬وعىل الرغم من استمرار الشعور بالتهديد القادم من الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬فض نظام ماو تيس تونغ(٭) تحالفه مع االتحاد السوفييتي يف أواخر‬
‫الخمسينيات من القرن املايض‪ ،‬مام أدى إىل تعزيز أيديولوجيته الخاصة داخل‬
‫الكتلة السوفييتية والعامل الثالث عىل حد سواء‪ ،‬ساعيا وراء طريقه املتسارع نحو‬
‫التنمية‪ .‬حيث بدأ ميارس دورا مستقال يف معارضة وتحدي القوتني العظميني‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬وعىل الرغم من أن الصني مارست دورا مهام يف مؤمتر باندونغ للعام ‪،1955‬‬
‫فإنها مل تنضم إىل حركة عدم االنحياز‪ ،‬وقد كانت حرب الحدود الصينية الهندية‬
‫يف العام ‪ 1962‬مبنزلة رضبة كبرية لتامسك العامل الثالث (‪.)Westad, 2007:107‬‬
‫شكلت الصني رشاكة إسرتاتيجية مع الواليات‬ ‫ويف السبعينيات من القرن العرشين‪َّ ،‬‬
‫املتحدة ضد االتحاد السوفييتي‪ ،‬لكنها تخ َّلت عن ذلك يف التسعينيات مبجرد أن‬
‫تضاءل التهديد السوفييتي‪.‬‬
‫لقد حقق نظام ماو تيس تونغ بعض اإلنجازات البارزة‪ ،‬ليس أقلها توحيد البالد‬
‫بعد عقود من الحرب األهلية واألجنبية املدمرة‪ ،‬والحصول برسعة عىل األسلحة‬
‫وسع أيضا من تاريخ الصني املؤسف يف إيذاء الذات الذي يعود إىل‬ ‫النووية‪ .‬لكنه َّ‬
‫القرن التاسع عرش‪ .‬فقد سببت محاولته تدمري الثقافة التقليدية والبنية االجتامعية‬
‫للصني وإيجاد مسار رسيع للتنمية إلحاق أرضار مادية واجتامعية هائلة بالبلد‪.‬‬
‫حيث أدى مرشوع «القفزة العظيمة لألمام»؛ واملجهض يف أواخر الخمسينيات من‬
‫القرن املايض‪ ،‬إىل تدمري االقتصاد وأسفر عن وفاة نحو ‪ 35‬مليون صيني بسبب‬
‫العنف واملجاعة‪.‬‬
‫;‪(Rummell, 1991: 12–13; J. Gray, 2002: 310–15; Shirk, 2007: 18‬‬
‫‪Dikötter, 2011: locs. 61–74, 5602–784; Westad, 2012: loc. 5188; Schell‬‬
‫‪and Delury, 2013: 236–40; Fenby, 2013: 396, 415, 481).‬‬
‫(٭) ماو تيس تونغ )‪ Mao Zedong (1976–1893‬هو ثوري شيوعي صيني ومؤسس جمهورية الصني الشعبية‪،‬‬
‫والتي حكمها من خالل قيادته للحزب الشيوعي منذ تأسيس الحزب يف العام ‪ 1949‬حتى وفاته يف العام ‪ .1976‬يعرف‬
‫أيضا باسم الرئيس ماو‪ .‬اشتهر ماو بأيديولوجيته املاركسية اللينينية وإسرتاتيجياته العسكرية ونظرياته وسياساته‬
‫الخاصة‪ ،‬حيث شكلت كل هذه األفكار مجتمعة ما بات يعرف باملاوية‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫كام سببت «الثورة الثقافية الربوليتارية (العاملية) العظمى» يف منتصف‬


‫الستينيات مقتل عدد أقل بكثري من الناس‪ ،‬ودمرت معيشتهم وعطلت التنمية عىل‬
‫نطاق واسع‪.‬‬
‫‪(Kissinger, 2011: 181–4; Westad, 2012: loc. 5482; Fenby, 2013:‬‬
‫‪560; Dikötter, 2016: loc. 4070).‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬ومتاما كام سبق أن فعلت يف أواخر الخمسينيات من القرن‬
‫العرشين‪ ،‬خرجت الصني مرة أخرى عن اإلطار املألوف لتلك الحقبة يف أواخر‬
‫السبعينيات من خالل الرشوع يف سياسة «اإلصالح واالنفتاح» التي قادها دينغ شياو‬
‫بينغ(٭)‪ .‬الواقع أن الحزب الشيوعي الصيني احتفظ بديكتاتوريته بينام تحول من‬
‫منوذج التنمية االشرتايك إىل النموذج الرأساميل‪ .‬وعىل املدى القصري‪ ،‬كان هذا التحول‬
‫الدراماتييك مبنزلة عالمة عىل ناقوس املوت بالنسبة إىل التحدي السوفييتي للغرب‬
‫بشأن مستقبل الحداثة‪ ،‬والنهاية الوشيكة للحرب الباردة‪ .‬وخالل عقد وبضع سنوات‪،‬‬
‫اندثر االتحاد السوفييتي نفسه‪ ،‬وكانت الصني بصدد االنضامم إىل النمور اآلسيوية‬
‫من خالل مسا ٍر رسيع الصعود للتنمية تقوده الصادرات‪ .‬أما عىل املدى الطويل‪ ،‬فقد‬
‫أشار ذلك التحول إىل وجود تح ٍد أعمق للغرب‪ ،‬حيث ألزم الحزب الشيوعي الصيني‬
‫نفسه بخلق شكل من أشكال الرأساملية االستبدادية املستقرة التي من شأنها فك‬
‫االرتباط الليربايل بني الرأساملية والدميوقراطية‪ .‬ويف أثناء السعي وراء تحقيق تلك‬
‫األجندة‪ ،‬تخىل الحزب الشيوعي الصيني عن محاولة ماو تيس تدمري الثقافة الصينية‬
‫التقليدية‪ ،‬ورشع بدال من ذلك يف إحياء وإعادة إضفاء الرشعية عىل تلك العنارص‬
‫ثالث للتنمية‪ .‬وقد بدأت عبارة‬
‫طريق ٍ‬‫ٍ‬ ‫الكونفوشيوسية التي ميكن أن تدعم منوذج‬
‫«الخصائص الصينية» تصبح أداة أساسية للحديث عن اندماج التقاليد والحداثة الذي‬
‫احتاجه الحزب الشيوعي الصيني من أجل تثبيت هذا النموذج‪.‬‬
‫إن أحد األسباب الرئيسة لوضع الصني يف فئة خاصة بها باعتبارها الغريب‬
‫الغامض بالنسبة إىل األمناط الواسعة التي حددتها كل من الحرب الباردة ومسار‬
‫إنهاء االستعامر‪ ،‬يتمثل يف التقلب الشديد يف سياستها الخارجية‪ .‬وكام هو موضح‬
‫سابقا‪ ،‬فقد تأرجح انحيازها بني القوتني العظميني بينام كانت تبحث يف الوقت‬
‫نفسه عن القوة للوقوف مبفردها‪ .‬إذ مل يكن من الواضح ما إذا كانت الصني‬
‫‪215‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تريد أن تؤدي دورا من أجل قيادة العامل الثالث‪ ،‬أم أنها كانت واحدة من القوى‬
‫الكربى التي تتنافس عىل الهيمنة األيديولوجية والسياسية داخل العامل الثالث‪.‬‬
‫وعىل الرغم من فقرها‪ ،‬فإن الصني قدمت يف ظل حكم ماو تيس مساعدات‬
‫سخية لعديد من دول العامل الثالث (‪ .)Fenby, 2013: 423‬ويف بعض األحيان‪،‬‬
‫تدخلت الصني بال رحمة يف شؤون جريانها يف جنوب رشق وجنوب آسيا‪ ،‬ودعمت‬
‫األنظمة والحركات الثورية‪ ،‬وساعدت باكستان عىل أن تصبح دولة حائزة أسلحة‬
‫نووية وذلك من أجل إثارة املشكالت للهند‪ .‬ويف أحايني أخرى سعت إىل إقامة‬
‫عالقات منسجمة‪ .‬وبشأن االنتقال من موقف الدفاع عن الوضع القائم إىل‬
‫املوقف التعدييل‪ ،‬تحولت الصني من كونها ثورية متفانية يف تغيري‪ /‬تعديل‬
‫الوضع القائم يف عهد ماو‪ ،‬إىل تقديم نفسها عىل أنها قوة ساعية إىل الحفاظ عىل‬
‫الوضع القائم وعىل االستقرار يف ظل حكم دينغ‪.‬‬
‫وبإلقاء نظرة إىل املايض‪ ،‬ومع التطلع نحو املستقبل‪ ،‬بدأت ثورة دينغ بالفعل‬
‫تبدو كأنها حدث أكرث أهمية من زوال االتحاد السوفييتي‪.‬‬

‫‪ - 3‬انتهاء الحرب الباردة وإنهاء االستعامر‬


‫لقد انتهت الحرب الباردة بني أواخر الثامنينيات والعام ‪ ،1991‬وذلك بدءا‬
‫من محاولة ميخائيل غورباتشوف الفاشلة لالضطالع بنسخته الخاصة من اإلصالح‬
‫واالنفتاح؛ ومرورا بتفكك اإلمرباطورية السوفييتية يف أوروبا الرشقية؛ وانتهاء بتفجر‬
‫وضع االتحاد السوفييتي من الداخل لينقسم إىل ‪ 15‬دولة جديدة‪ .‬ومسألة هل ش َّكل‬
‫ذلك إيذانا بنهاية مسار إنهاء االستعامر أم أن األخري قد حدث يف منتصف السبعينيات‬
‫(استقالل املستعمرات الربتغالية يف أفريقيا) أو منتصف التسعينيات (جنوب أفريقيا‬
‫وهونغ كونغ)‪ ،‬فهي مسألة محل نقاش )‪.(Jansen and Osterhammel, 2017‬‬
‫ويف كلتا الحالتني كان من الواضح أن االتحاد السوفييتي وأيديولوجيته كانا أكرب‬
‫الخارسين يف الحرب الباردة‪ .‬ومبعنى ما‪ ،‬ميكن القول إن الواليات املتحدة عىل‬
‫وجه التحديد‪ ،‬والغرب واليابان عىل نحو عام‪ ،‬قد انترصوا يف الحرب الباردة‪ .‬لقد‬
‫خرس االتحاد السوفييتي املعركة التي كانت قامئة بشأن تسيد مستقبل الحداثة‪،‬‬
‫وكان مثن االستقالل بالنسبة إىل العامل الثالث هو اتخاذ الشكل السيايس الغريب‬
‫‪216‬‬
‫العامل بعد العام ‪ :1945‬عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار‬

‫الخاص بالسيادة؛ واإلقليمية؛ والدولة الوطنية‪ ،‬ومشاركته يف االقتصاد العاملي بقيادة‬


‫الغرب باعتباره ميثل األطراف‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬ومبعنى أكرث تحديدا‪ ،‬كانت األفكار‬
‫(الرأساملية والقومية) هي الرابح األكرب يف الحرب ‪(Buzan and Lawson, 2015a:‬‬
‫)‪ .280–91‬من ناحية معالجة التوترات الفكرية التي انطلقت يف القرن التاسع عرش‪،‬‬
‫أصبحت القومية تشكل األساس شبه العاملي لرشعية الدولة‪ ،‬وأصبحت الرأساملية‬
‫متثل أفضل طريق مقبول نحو التنمية‪ ،‬ومن ثم نحو الرثوة والقوة‪ .‬وعىل رغم‬
‫ذلك‪ ،‬انقسمت الرأساملية إىل عدة أصناف خالل مسار االنتصار يف الحرب الباردة‪،‬‬
‫وانفصلت عن الدميوقراطية‪ ،‬خصوصا يف الصني‪.‬‬
‫لقد أدى انتهاء الحرب الباردة إىل إنهاء مفاجئ لكل من القطبية الثنائية‬
‫واملعضلة الدفاعية النووية‪ .‬إذ بدت الواليات املتحدة كأنها تقف مبفردها بوصفها‬
‫قوة عظمى وحيدة‪ ،‬وقد أدى نزع فتيل التوترات األيديولوجية والعسكرية‬
‫التي كانت قامئة بني الرشق والغرب إىل التقليل من الرتسانات النووية‪ ،‬ونقلها‬
‫من حالة التأهب القصوى إىل حالة ضعف احتامل التصعيد أو االستخدام غري‬
‫املنضبط لتلك القوة‪ .‬لقد بدا أن فرتة ما بعد الحرب الباردة أنتجت قطبية‬
‫معارض إىل حد ما للرأساملية الليربالية الجديدة والعوملة‬
‫ٍ‬ ‫أحادية‪ ،‬وتسابقا غري‬
‫االقتصادية بقيادة الواليات املتحدة‪ .‬أما العامل الثالث‪ ،‬فلم يتمكن يف األغلب‬
‫من حل مشكلة التنمية والتبعية‪ ،‬وفقد هامش املناورة السياسية والفاعلية‬
‫التي وفرتها له القطبية الثنائية وأحد مناذجها التنموية‪ .‬وهذه هي القصة التي‬
‫سنسعى إىل رصدها يف الفصل السابع‪.‬‬

‫خالصات‬
‫عند التمعن يف هذه الفرتة من منظور تاريخي طويل‪ ،‬قد ُينظر إىل مسار إنهاء‬
‫االستعامر عىل أنه السمة املميزة الرئيسة لها‪ ،‬مع حلول انتصار الرأساملية (وإن‬
‫مل يكن الدميوقراطية) كسمة يف املرتبة الثانية‪ .‬قد تبدو الحرب الباردة عىل نحو‬
‫كبري كأنها مجرد حلقة أخرى يف مشهد متغري باستمرار لسياسات القوى الكربى‪ .‬إن‬
‫القطبية يف حد ذاتها قد ال تبدو ذات أهمية خاصة‪ .‬فثمة شيئان مميزان يستشفان‬
‫من الحرب الباردة‪ .‬أوال‪ ،‬تبدو تلك الحرب مهمة ألنها كانت جولة رئيسة يف لعبة‬
‫‪217‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تحديد الخيارات األيديولوجية القامئة بشأن االقتصاد السيايس املستقبيل للحداثة‬


‫التي ُو ِضعت خالل القرن التاسع عرش‪ .‬فقد كانت الرأساملية ستدفع بالحداثة‬
‫للميض قدما‪ ،‬ولكن إذا كان الصينيون يستطيعون العمل بها‪ ،‬فلن يكون ذلك‬
‫بالرضورة بالتزامن مع العمل بالدميوقراطية‪ .‬ثانيا‪ ،‬كانت هذه هي املرة األوىل التي‬
‫يواجه فيها الجنس البرشي تهديدا بأنه قد يتعرض لالنتحار‪ ،‬ومبساعدة بعض الحظ‬
‫السعيد‪ ،‬متكن جنسنا البرشي من النجاة من ذلك االختبار األول‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫‪6‬‬

‫حقل العالقات الدولية‬


‫‪ :1989-1945‬التأسيس‬
‫الثاين للتخصص املعريف‬

‫مقدمة‬
‫يرصد هذا الفصل قصة تخصص العالقات‬
‫الدولية منذ املرحلة التي توقفنا عندها يف‬
‫الفصل الرابع‪ .‬سنستخدم البنية نفسها تقري ًبا‬
‫للتمعن يف تفكري حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز‬
‫ويف األَ ْط َراف‪ ،‬وملحاولة رسم صورة عن مسار‬
‫مأسسة هذا الحقل داخل كال الجانبني‪ .‬سوف‬
‫نعمد إىل تسجيل االستمرارية حيثام وجدت‪،‬‬
‫ولكن كام يشري العنوان الفرعي لهذا الفصل‪،‬‬
‫سنكون مهتمني أكرث برصد االختالفات القامئة‬
‫بني الجانبني‪ .‬يرى كريبندورف ‪Krippendorff‬‬
‫)‪ (1989: 34‬أن العام ‪ 1945‬م َّثل التأسيس الثاين‬ ‫«ال ميكن أن توجد يف الدول االستبدادية‬
‫لـحقل العالقات الدولية باعتباره تخصصا معرفيا‪،‬‬ ‫دراسة للعالقات الدولية أو للسياسة‬
‫الخارجية إال باعتبارها تفسريا وتربيرا‬
‫تأسيسا «أكرث جدية» مام كان عليه‬ ‫ً‬ ‫بل إنه ش ّكل‬ ‫لسياسة الدولة»‬

‫‪219‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف العام ‪ .1919‬ونحن نتفق مع هذا الطرح‪ .‬وبالنظر إىل حجتنا العامة القائلة إن‬
‫حقل العالقات الدولية يعكس مامرسة العالقات الدولية‪ ،‬فإن هذا ليس شيئًا مفاجئًا‬
‫ألن الحرب العاملية الثانية‪ ،‬وكام جادلنا يف الفصل الخامس‪ ،‬متيزت بتحول مهم يف‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي‬ ‫مامرسة العالقات الدولية‪ ،‬حيث انتُقل من الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫وىَل ُ‬
‫وىَل ا ُمل َعدَّلة ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع‬ ‫األ َ‬ ‫الذي ُأنشئ ألول مرة خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬إىل الصي َغة ُ‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة‬ ‫الد ْويِل ال َعالَ ِمي‪ .‬وقد متثلت التغيريات الرئيسة التي حددت الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعال ِمي فيام ييل‪:‬‬
‫ُ‬
‫• التحول من نظام دويل متعدد األقطاب يحوي عديدا من القوى الكربى إىل‬
‫نظام دويل ثنايئ القطب يحوي قوتني عظميني فقط‪ ،‬حيث تسعى كل واحدة منهام‬
‫إىل الرتويج أليديولوجية عاملية شاملة منافسة‪.‬‬
‫• أدى إدخال األسلحة النووية وأنظمة اإليصال العابرة للقارات إىل تعميق حاد‬
‫للمعضلة الدفاعية واملخاوف بشأن الحرب‪.‬‬
‫• َنزْعُ رشعية العنرصية واالستعامر‪ ،‬و َت َضاعُ ف عضوية املجتمع الدويل العاملي‬
‫ثالث مرات‪ ،‬حيث أدى إنهاء االستعامر إىل ظهور املستعمرات السابقة باعتبارها‬
‫تشكل األَ ْط َراف الجديدة للعامل الثالث‪ ،‬أي «البلدان النامية»‪.‬‬
‫لقد أدى التغريان األول والثاين من هذه التغيريات إىل دفع الواليات املتحدة‬
‫نحو صدارة العالقات الدولية‪ ،‬وذلك بسبب أنها تحولت من االنعزالية إىل املشاركة‬
‫العاملية‪ ،‬وألنها أيضا أصبحت متثل القوة النووية الرائدة‪ .‬فالجمع بني التنافس‬
‫العاملي الثنايئ القطب املكثف املدفوع أيديولوج ًيا مع توافر قدرات األسلحة‬
‫النووية القادرة عىل تدمري العامل‪ ،‬أدى إىل زيادة هَ َو ِس حقل العالقات الدولية‬
‫داخل املَ ْر َكز‪ ،‬وهو الحقل املعريف الذي ُأنشئ بالفعل خالل سنوات ما بني الحربني‪،‬‬
‫حيث تأثر بعالقات القوى الكربى والحرب‪ .‬لقد كان إنهاء االستعامر ميثل تحو ًاًل‬
‫جذر ًيا للغاية يف العالقات السياسية القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ ،‬وعىل رغم ذلك مل‬
‫يؤثر هذا التحول كث ًريا يف اهتاممات القوى الكربى املتعلقة بتفكري حقل العالقات‬
‫الدولة يف املَ ْر َكز‪ .‬وكام الحظ كل من أرلني تينكر ‪ Arlene Tickner‬وأويل ويفر‬
‫)‪ ،Ole Wæver (2009b: 7‬فإن االهتامم بالعالقات بني الرشق والغرب سيطر عىل‬
‫حقل العالقات الدولية خالل هذه الفرتة‪ ،‬مام دفع االهتامم بالعالقات بني الشامل‬
‫‪220‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫والجنوب والعالقات بني الجنوب والجنوب إىل الهامش‪ .‬لقد أدى إنهاء االستعامر‬
‫إىل إضعاف موضوعات مناهضة االستعامر والعنرصية يف تفكري حقل العالقات‬
‫وبداًل من ذلك‪ ،‬تحولت‬ ‫الدولية داخل األَ ْط َراف‪ ،‬ولكن ذلك مل يكن عىل نح ٍو كبري‪ً .‬‬
‫معارضة االستعامر القديم إىل معارض ٍة لالستعامر الجديد الناتج عن عدم املساواة‬
‫االقتصادية واملركزية األوروبية والعنرصية الخفية التي طبعت جزءا كبريا من تفكري‬
‫حقل العالقات الدولية الغريب‪.‬‬
‫«تأسيس ثانٍ » بعد العام ‪1945‬‬
‫ٌ‬ ‫تستند فكرة أن حقل العالقات الدولية كان له‬
‫إىل عديد من التطورات التي سنستكشفها مبزيد من التفصيل فيام ييل‪:‬‬
‫هائل ملأسسة حقل العالقات الدولية من نواحي التدريس واألبحاث‬ ‫وسع ٌ‬ ‫• َت ٌ‬
‫واملنشورات‪.‬‬
‫• زوال مؤمتر الدراسات الدولية ‪ ISC‬الذي كان يتمركز حول عصبة األمم‪،‬‬
‫وظهور جمعيات أكادميية مستقلة مرتبطة بحقل العالقات الدولية‪.‬‬
‫ملحوظ ‪ -‬يف املَ ْر َكز عىل وجه الخصوص ‪ -‬لحقل العالقات الدولية من‬
‫ٌ‬ ‫• َت َح ُو ٌل‬
‫كونه ميثل موضوعًا فكر ًيا وسياس ًيا واسعا إىل موضوع يغلب عليه الطابع املهني‬
‫والنظري واألكادميي (‪.)L. Ashworth, 2014: 256‬‬
‫• إِغفال أو رفض الكثري مام حدث من قبل‪.‬‬
‫• الظهور الرسيع للمجاالت التخصصية الفرعية الجديدة‪ ،‬وأبرزها الدراسات‬
‫اإلسرتاتيجية‪ ،‬مع تركيزها عىل املشكالت الفريدة من نوعها التي تطرحها األسلحة‬
‫النووية‪.‬‬
‫• بدايات االعرتاف داخل املَ ْر َكز بتفكري حقل العالقات الدولية القادم من‬
‫األَ ْط َراف‪.‬‬
‫ميكن تفسري معظم هذه التغيريات من خالل تحول مركز ثقل العالقات الدولية‬
‫كحقل معريف وكمامرسة إىل الواليات املتحدة‪ .‬وباعتبارها قوة عظمى منخرطة عىل‬
‫الصعيد العاملي وزعيمة للعامل الغريب‪ ،‬كان لدى الواليات املتحدة حاجة ُم ِلحة ملعرفة‬
‫مزيد عن العالقات الدولية‪ .‬لقد كان لديها بالفعل ُأسس قوية مكتسبة من فرتة‬
‫ما بني الحربني للبناء عليها‪ ،‬وهي متلك اآلن الحافز واألشخاص واملال لفعل ذلك‪.‬‬
‫لقد أفسح التقليد العميل الطويل األمد يف العلوم االجتامعية األمريكية الطريق‬
‫‪221‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أمام نفسه لبلوغ هذه الحاجة الجديدة‪ ،‬وبسبب الكمية وإىل حد ما النوعية التي‬
‫حظي بها حقل العالقات الدولية األمرييك‪ ،‬أصبحت الواليات املتحدة عىل نحو‬
‫إنتاجا وتأث ًريا يف هذا التخصص املعريف‪ .‬يجادل كريبندورف‬ ‫رسيع‪ ،‬متثل الدولة األكرث ً‬
‫(‪ )33 :1989‬بأن حقل العالقات الدولية باعتباره تخصصا معرفيا يف الواليات‬
‫املتحدة نشأ بوصفه مبادرة حكومية ليس فقط ألجل إنتاج البحوث ذات الصلة‬
‫تأهياًل عال ًيا وا ُمل َك َّلفني‬
‫ً‬ ‫بالسياسات‪ ،‬بل ً‬
‫أيضا لتدريب املوظفني الحكوميني املؤهلني‬
‫بفهم العامل الخارجي‪ .‬وقد تراجعت بريطانيا إىل املركز الثاين‪ ،‬بينام خضعت أملانيا‬
‫واليابان للتأثريات األمريكية‪ .‬ومل يكن لالتحاد السوفييتي تأثري كبري يف تفكري حقل‬
‫العالقات الدولية بخالف ذلك التأثري الذي كان جاريا داخل كتلته‪ ،‬حيث وقع ذلك‬
‫التفكري ضحية للواقع كام هو موضح يف الفصل الرابع‪ ،‬أيْ أنه «ال ميكن أن توجد‬
‫يف الدول االستبدادية دراسة للعالقات الدولية أو للسياسة الخارجية إال باعتبارها‬
‫تفسريا وتربيرا لسياسة الدولة» ‪(Olson and Groom, 1991: 74–5; see also‬‬
‫)‪ .Sergounin, 2009‬ومن املثري لالهتامم أن الصني يف ظل حكم ماو تيس تونغ‬
‫أصبحت تشكل استثناء إىل حد ما بالنسبة إىل هذه القاعدة‪.‬‬
‫أدى تحول مركز ثقل العالقات الدولية إىل الواليات املتحدة بعد العام ‪1945‬‬
‫مبعنى ما إىل تكريس وتعزيز الهيمنة الحالية للعامل الناطق باللغة اإلنجليزية عىل‬
‫هذا التخصص املعريف املوروث عن سنوات ما بني الحربني العامليتني‪ .‬ولكن‪ ،‬يف حني‬
‫أن هذا التحول جلب عديدا من املزايا كالتمويل األمرييك لباحثي حقل العالقات‬
‫أيضا ببعض الخصائص األمريكية إىل مركز الصدارة‪.‬‬ ‫الدولية األجانب‪ ،‬غري أنه دفع ً‬
‫مرتبطا بشدة‬ ‫ً‬ ‫وكام لوحظ بالفعل‪ ،‬كان حقل العالقات الدولية يف الواليات املتحدة‬
‫بالعلوم السياسية ‪(Schmidt, 1998a: 55; L. Ashworth, 2014: 13; Kuru,‬‬
‫)‪ ،2017: 46‬وخالل أيامه األوىل كتخصص أكادميي‪ ،‬كان حقل العالقات الدولية‬
‫عىل نح ٍو عام ُمدمجا كتخصص داخل أقسام العلوم السياسية ‪(Richardson,‬‬
‫)‪ .1989: 287–8‬حيث كانت هذه امليزة سائدة طوال فرتة الحرب الباردة والتزال‬
‫كذلك حتى يومنا هذا‪ .‬كانت إحدى النتائج الرئيسة لهذا االرتباط هي أن حقل‬
‫العالقات الدولية األمرييك ظل ُم َر َّكزًا عىل نح ٍو ضيق لفهم املوضوع عىل أنه‬
‫مجموعة فرعية من املجال السيايس‪ ،‬وكان مييل بشدة إىل األساليب «العلمية»‬
‫‪222‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫الرسمية‪ .‬مل يكن هذا االرتباط القوي بني حقل العالقات الدولية والعلوم السياسية‬
‫صحيحا عىل نح ٍو عام يف أي مكان آخر‪ .‬فجذور العالقات الدولية يف بريطانيا تعود‬ ‫ً‬
‫إىل التاريخ والقانون الدويل والنظرية السياسية‪ ،‬بينام كانت له روابط قوية يف‬
‫القارة األمريكية مع علم االجتامع‪.‬‬
‫يف وصفه الشهري لـحقل العالقات الدولية بأنه «علم اجتامعي أمرييك»‪ ،‬حدد‬
‫هوفامن (‪ )1977‬ثالثة عوامل ُم َؤ َّس ِس َية أدت إىل أن يحمل هذا الحقل طاب ًعا أمريك ًيا‬
‫مميزًا‪ ،‬وذلك «مل يكن موجودًا يف ال َو ْق ِت َن ْف ِسه يف هذا الحقل يف أي مكان آخر»‪.‬‬
‫وضوحا بني العامل األكادميي وعامل السلطة (نظام‬
‫ً‬ ‫متثل العامل األول يف «الرابط األكرث‬
‫الحكم الداخيل والخارجي)‪ ،‬الذي مكن األكادمييني والباحثني ليس فقط من ولوج‬
‫أيضا من ولوج مطابخها»‪ .‬كان العامل الثاين‪ ،‬واملتعلق‬ ‫ممرات السلطة ولكن مكنهم ً‬
‫باألول‪ ،‬يتمثل يف «املبادالت القامئة بني مطابخ السلطة والصالونات األكادميية»‪ ،‬أو‬
‫االرتباط الوثيق‪ ،‬كام قد يقول البعض‪ ،‬بني العامل األكادميي وعامل السياسة‪ .‬وقد شكلت‬
‫الجامعات العامل ا ُمل َؤ َّس ِيِس الثالث لكونها كانت «مرنة» بسبب تنوعها الخاص‪ ،‬وهو‬
‫ما ضمن وجود املنافسة والتخصص‪ ،‬وأظهر الغياب شبه الكامل للقوانني الجامدة؛‬
‫والتقاليد شبه اإلقطاعية؛ واالعتامد املايل؛ والروتني الفكري الذي غال ًبا ما كان يشل‬
‫الجامعات األوروبية يف فرتة ما بعد الحرب» (‪.)Hoffmann, 1977: 49–50‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬فرض التفوق األمرييك معايريه عىل نح ٍو طاغ عىل بقية‬
‫التخصص املعريف بعد العام ‪ .1945‬وكام أشار إىل ذلك تيكنري وويفر (‪2009c:‬‬
‫‪ُ « :)329‬ت َعدُّ صيغة حقل العالقات الدولية األمرييك حالة محلية فريدة للتخصص‪،‬‬
‫كام ُت َعدُّ يف الوقت نفسه عنرصا ُمك ِّو ًنا ال يتجزأ من أي حالة عاملية أخرى»‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬بينام حددت الواليات املتحدة معيار حقل العالقات الدولية‬
‫عامل ًّيا وذلك من خالل حجمها النسبي وقدرتها عىل التحكم يف املوارد (املالية؛‬
‫أيضا القول بأن‬ ‫واملؤسسات األكادميية؛ واملجالت املرموقة)‪ ،‬كان من الصحيح ً‬
‫االختيار العقالين واملناهج الكمية التي سيطرت عىل نح ٍو متزايد عىل حقل‬
‫العالقات الدولية األمرييك كانت شبه غائبة متا ًما يف بقية العامل‪« :‬إنه ملن الالفت‬
‫للنظر كيف أن الصيغ السائدة حال ًّيا من حقل العالقات الدولية األمرييك ال تنتقل‬
‫عرب العامل» )‪.(Tickner and Wæver, 2009a: 5, 339; Maliniak et al., 2018‬‬
‫‪223‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كام أدى إضفاء الطابع املهني األكادميي عىل حقل العالقات الدولية وف ًقا للمعايري‬
‫األمريكية إىل تعميق استبعاد حقل العالقات الدولية غري األكادميي الخاص‬
‫باألَ ْط َراف من املناقشات التخصصية الجارية يف املَ ْر َكز‪« :‬مثة القليل فقط من‬
‫املساهامت املتأتية من خارج املَ ْر َكز معرتف بها بوصفها طرقا مرشوعة للتفكري يف‬
‫السياسة الدولية» (‪.)Tickner and Wæver, 2009b: 3‬‬
‫أيضا بالتفوق‬ ‫ً‬
‫مرتبطا ً‬ ‫رمبا كان ا ِإلغفال الرئيس الذي حصل يف التخصص‬
‫األمرييك يف حقل العالقات الدولية‪ .‬فبينام نشأ حقل العالقات الدولية قبل الحرب‬
‫العاملية الثانية بدرجة ما من التنوع؛ مبعنى وجود اهتاممات مواضيعية مختلفة‬
‫وبتوجه معني متعدد التخصصات‪ ،‬أصبح هذا الحقل بعد الحرب العاملية الثانية‬
‫ضي ًقا وأقل تعددية عىل نح ٍو ملحوظ‪ .‬فبعد أن ازدهرت خالل القرن التاسع عرش‬
‫وسنوات ما بني الحربني‪ُ ،‬نزعت الرشعية عن الجغرافيا السياسية بعد الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬وغرقت يف طي النسيان بسبب ارتباطها بالفاشية‪ ،‬مام سمح‬
‫أيضا يشكلون جز ًءا من تراثها‪ .‬وقد كان‬ ‫لبقية الغرب بأن يتناسوا أنهم كانوا ً‬
‫هذا االنقطاع عمي ًقا لدرجة أن الجغرافيا السياسية (عىل نح ٍو أسايس يف شكل‬
‫الجغرافيا السياسية النقدية) مل تعاود الظهور مرة أخرى يف حقل العالقات الدولية‬
‫األنجلو‪-‬أمرييك إال خالل فرتة التسعينيات ‪(Ó Tuathail, 1996; Ó Tuathail,‬‬
‫)‪ .Dalby and Routledge, 1998; Guzzini, 2013‬وباملثل‪ ،‬فإن الخط الواعد‬
‫للفكر النسوي الذي انفتح خالل فرتة ما بني الحربني مل يعاود هو اآلخر الظهور‬
‫أيضا‪ُ .‬وأس ِقط االقتصاد السيايس الدويل ‪ -‬باستثناء نظرية‬ ‫حتى التسعينيات ً‬
‫التبعية (التي سوف نتحدث عنها الحقا) التي كانت فكرة غري غربية بامتياز‪ -‬من‬
‫اهتاممات حقل العالقات الدولية بعد العام ‪ ،1945‬بحيث ركز التخصص خالل‬
‫تلك الفرتة عىل ا ُملشكالت األمنية للحرب الباردة‪ ،‬ومل يظهر االقتصاد السيايس‬
‫الدويل مرة أخرى حتى نشوب األزمات النفطية واملالية التي أثرت يف الواليات‬
‫املتحدة خالل سبعينيات ومثانينيات القرن العرشين‪ .‬لقد شكل كل من االستيعاب‬
‫العام لـحقل العالقات الدولية من ِقبل العلوم السياسية يف الواليات املتحدة؛‬
‫و َف ْص ُل هانز مورغانثو للمجال السيايس باعتباره الرتكيز املنفصل لدراسة حقل‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬خطوتني رئيستني إلسكات صوت االقتصاد السيايس الدويل مدة‬
‫‪224‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫ثالثة عقود (‪ .)L. Ashworth, 2014: 253–4‬ومع اختفاء اإلمرباطوريات الرسمية‬


‫القدمية برسعة خالل العقدين التاليني للعام ‪ ،1945‬اختفت أيضا روابط حقل‬
‫العالقات الدولية مع االستعامر‪ .‬مل يكن املوضوع الالحق لإلدارة االستعامرية –‬
‫أي موضوع التنمية ‪ -‬يشكل قضية رئيسة داخل حقل العالقات الدولية‪ .‬ويعود‬
‫ذلك جزئ ًيا إىل أنه تنوول ضمن تخصصات أخرى (اقتصاديات التنمية‪ ،‬والسياسة‬
‫املقارنة)‪ ،‬وجزئ ًيا ألنه كان ميثل إحدى قضايا الشامل والجنوب التي خضعت‬
‫أيضا الجذور العنرصية لحقل العالقات‬ ‫لقضايا الرشق والغرب‪ .‬لقد ُأغفلت ً‬
‫الدولية‪ ،‬خاصة يف الواليات املتحدة (‪ ،)Vitalis, 2005:161–5‬وهذا ال يعني أن‬
‫العنرصية الخفية مل تستمر يف مامرسة دور مهم يف كثري من تفكري حقل العالقات‬
‫الدولية (‪ .)J. M. Hobson, 2012‬باإلضافة إىل ذلك‪ُ ،‬أغ ِفلت إىل حد ما جذور‬
‫هذا التخصص التي تعود إىل القرن التاسع عرش‪ .‬فقد ُأ ِّسس أول «نقاش كبري»‪،‬‬
‫كام لوحظ يف الفصل الرابع‪ ،‬عىل نح ٍو أسايس بعد العام ‪ 1945‬باعتباره طريقة‬
‫لرفض حقل العالقات الدولية لفرتة ما بني الحربني‪ ،‬مع تركي ٍز كب ٍري عىل عصبة‬
‫األمم باعتبارها ذات نزعة طوباوية عىل نح ٍو أسايس‪ ،‬وأنها غري مناسبة متا ًما للعامل‬
‫الواقعي الخاص بالحرب الباردة الذي بدأ يف التشكل مع أواخر األربعينيات‪.‬‬

‫‪ - 1‬مأسسة حقل العالقات الدولية‬


‫كانت السمة الرئيسة لـ «التأسيس الثاين» لـحقل العالقات الدولية بعد‬
‫العام ‪ 1945‬هي التوسع الكبري يف مأسسته األكادميية من ناحية التدريس؛‬
‫وأقسام الجامعات؛ ومراكز الفكر؛ والكتب املدرسية؛ واملجالت العلمية؛ وتأسيس‬
‫جمعيات أكادميية وطنية ترتبط يف األغلب بهذا الحقل (أو عىل نح ٍو أكرث شيوعًا‬
‫«بالدراسات الدولية» الواسعة النطاق)‪ ،‬لتحل بذلك محل مؤمتر الدراسات‬
‫الدولية ‪ .ISC‬كانت هذه التطورات حاصل ًة يف األغلب يف أمريكا الشاملية‬
‫وأوروبا الغربية‪ ،‬برغم أننا يف هذه الفرتة نقلنا اليابان وكوريا من األَ ْط َراف إىل‬
‫املَ ْر َكز‪ .‬وكام كان عليه الحال خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬مل يظهر‬
‫إجامع بشأن ما ميكن تسميته بتخصص العالقات الدولية‪ ،‬مع بقاء عديد من‬
‫التسميات ق ْيد التداول‪.‬‬
‫‪225‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 1 - 1‬املركز‬
‫من نواح عديدة‪ ،‬اتبع مسار مأسسة حقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز ً‬
‫منطا‬
‫مشاب ًها لذلك املسار الذي كان عليه خالل سنوات ما بني الحربني‪ .‬فداخل تلك‬
‫البلدان التي ُأ ِّسس فيها أو ُأنشئ حقل عالقات دولية‪ ،‬كان مثة زيادة عامة يف عدد‬
‫األماكن التي تد ِّرس هذا املجال الدرايس؛ ويف عدد املجالت ومراكز الفكر املهتمة به؛‬
‫توسع‬
‫ويف عدد األشخاص الذين ينهضون بالتدريس والبحث فيه‪ ،‬كام كان مثة أيضا ٌ‬
‫عىل مستوى إنشاء جمعيات أكادميية مرتبطة بهذا التخصص‪ .‬كان هذا التوسع‬
‫ملحوظا يف األماكن التي تطور فيها حقل العالقات الدولية بالفعل خالل سنوات ما‬ ‫ً‬
‫حاصل يف بلدان أخرى‪ .‬ومتاشيا مع‬ ‫ٌ‬ ‫توسع‬
‫أيضا ٌ‬ ‫بني الحربني وما قبلها‪ ،‬ولكن كان مثة ً‬
‫حجمها وثروتها وأدوارها العاملية الجديدة‪ ،‬فقد قادت الواليات املتحدة عىل نح ٍو‬
‫رئيس هذه التطورات عىل كربى املستويات يف معظم النواحي‪.‬‬
‫هذا التطور املهم بالفعل لحقل العالقات الدولية والذي نوقش يف الفصل الرابع‪،‬‬
‫استمر يف الجامعات ومراكز األبحاث األمريكية‪ ،‬واكتسب زخام أكرب يف فرتة ما بعد‬
‫الحرب (العاملية الثانية)‪ .‬وكام يشري نورمان باملر (‪ ،)348 :1980‬فإن «الدورات‬
‫املتعلقة بالعالقات الدولية‪ ...‬انترشت يف الكليات والجامعات األمريكية‪ ،‬مع تزايد‬
‫االعرتاف والقبول بالعالقات الدولية باعتبارها مجاال للدراسة»‪ .‬و ُقدِّر أنه اعتبا ًرا من‬
‫العام ‪ 1980‬كانت مثة «زيادة مبقدار خمسة أضعاف يف عدد املقررات الدراسية‬
‫يف العالقات الدولية» مقارنة بثالثينيات القرن املايض‪ .‬وعىل نح ٍو ملحوظ كان مثة‬
‫ارتفاع يف كل من املقررات عىل مستوى البكالوريوس والدراسات العليا‪ .‬وبرصف‬
‫النظر عن أقسام العلوم السياسية‪ ،‬توافرت مقررات يف دراسة العالقات الدولية‬
‫أو ذات صلة بها من خالل تخصصات التاريخ واالقتصاد‪ ،‬وأصبحت أقسام وبرامج‬
‫الدراسات اإلقليمية متوافرة يف الجامعات‪ ،‬وكذلك يف كليات القانون واألعامل‪ .‬فقد‬
‫ظهرت مدارس منفصلة للعالقات الدولية؛ مثل كلية الشؤون الدولية والعامة يف‬
‫كولومبيا (تأسست يف العام ‪)1946‬؛ وكلية الخدمة الدولية يف الجامعة األمريكية‬
‫(‪)1957‬؛ ومدرسة مامثلة يف دنفر (كلية الدراسات العليا للدراسات الدولية يف العام‬
‫أيضا الكتب‬ ‫‪ .)1964‬ونتيج ًة طبيعي ًة لنمو األقسام والدورات الجامعية‪ ،‬انترشت ً‬
‫املدرسية والجمعيات واملجالت العلمية الخاصة بالعالقات الدولية يف الواليات‬
‫‪226‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫املتحدة أكرث من أي دولة أخرى‪ .‬إذ إن أغلبية الكتب املدرسية الخاصة بـحقل‬
‫العالقات الدولية التي يستخدمها طالب هذا التخصص عىل جميع املستويات ويف‬
‫جميع أنحاء العامل‪ُ ،‬تنرش يف الواليات املتحدة(٭)‪.‬‬
‫يقدم ِن ِيل ريتشاردسون عدة أسباب وراء الزيادة الكبرية يف اهتامم الطالب‬
‫الجامعيني بحقل العالقات الدولية يف الواليات املتحدة‪ :‬من بينها موقف رونالد‬
‫ريغان «البارز» يف السياسة الخارجية؛ وأرباب العمل الذين يبحثون عن خريجي‬
‫الجامعات الذين يحوزون معرفة بالشؤون الدولية؛ وتغري سياق العالقات الدولية‬
‫أيضا مراعاة الزيادة عىل مستوى خريجي‬ ‫(‪ .)Richardson, 1989: 288–9‬يجب ً‬
‫الدكتوراه يف الحقل كام يجب أن تؤخذ بعني االعتبار امليزات النوعية لربامج‬
‫الدراسات العليا التي تجذب اهتامم طالب الدراسات العليا ‪ -‬تلك الربامج التي‬
‫كانت «فريدة من نوعها يف سعيها لتحقيق التوازن بني الرصامة األكادميية والتدريب‬
‫العميل واملهني املناسب ملجموعة متنوعة من الوظائف يف القطاعني العام والخاص»‬
‫(‪.)Richardson, 1989: 290‬‬
‫لقد حدثت توسعات مؤسسية مامثلة يف أماكن أخرى‪ ،‬وإن كان حصل ذلك عىل‬
‫نح ٍو رئيس يف العامل الناطق باللغة اإلنجليزية ويف أماكن مثل الدول اإلسكندنافية حيث‬
‫كانت اللغة اإلنجليزية قوية باعتبارها لغة ثانية‪ .‬ويف بريطانيا انترش حقل العالقات‬
‫الدولية رسي ًعا لينتقل إىل معظم الجامعات‪ ،‬مع أقسام مخصصة يف جامعة سيتي‪،‬‬
‫وسانت أندروز‪ ،‬ووارويك‪ ،‬وكييل‪ ،‬وبرادفورد (دراسات السالم)‪ .‬كام حصلت توسعات‬
‫مامثلة يف أسرتاليا (مع الجامعة الوطنية األسرتالية بوصفها مركزا خاصا)‪ ،‬وكندا (معظمها‬
‫يف أقسام العلوم السياسية) ونيوزيلندا )‪ .(Cox and Nossal, 2009:295–301‬وقد‬
‫اكتسبت الدول اإلسكندنافية مكانة مهمة يف حقل العالقات الدولية‪ ،‬مع الرتكيز عىل‬
‫نح ٍو خاص عىل أبحاث السالم )‪ .(Friedrichs and Wæver, 2009‬وكانت أبحاث‬
‫أيضا تشكل القوة الرائدة لحقل العالقات الدولية يف أملانيا خالل ذلك الوقت‪.‬‬ ‫السالم ً‬
‫ويف اليابان وكوريا لقد توسع تدريس حقل العالقات الدولية ً‬
‫أيضا‪ ،‬مبا يف ذلك الرتكيز‬
‫القوي عىل أبحاث السالم‪ ،‬ولكن يف ظل غياب أقسام للعلوم السياسية يف اليابان‪ ،‬ظلت‬
‫‪) See Sandole (1985) for a review of post-1945 textbooks.‬٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫مأسسة هذا الحقل مبعرثة وضعيفة إىل حد ما من ناحية الجامعات (‪Inoguchi,‬‬


‫‪ .)2009:94, 97‬وقد شهدت املؤسسات الفكرية هي األخرى طفرة خالل هذه الفرتة‪.‬‬
‫حيث ُش ِّكلت يف أوروبا الغربية ‪ 19‬مؤسسة بحثية تختص بحقل العالقات الدولية‪ ،‬ويف‬
‫الواليات املتحدة ُأ ِّسست ‪ 18‬مؤسسة أخرى‪ ،‬وثالث أخرى يف اليابان(٭)‪.‬‬
‫كانت النتيجة الطبيعية لذلك هي زيادة يف عدد األشخاص املنخرطني يف حقل‬
‫سسية الكبرية التي‬‫العالقات الدولية األكادميي‪ ،‬وهذا يرتبط بأحد التحوالت ا ُمل َؤ ِ‬
‫أعقبت نهاية الحرب العاملية الثانية‪ :‬زوال مؤمتر الدراسات الدولية واستبدال‬
‫جمعيات أكادميية مستقلة‪ُ ،‬ن ِّظمت يف األغلب عىل املستوى الوطني‪ ،‬مكانه‪ .‬إن‬
‫انتهاء مهامت مؤمتر الدراسات الدولية (‪ )ISC‬يف العام ‪ 1954‬عندما ح َّول كل‬
‫من املؤسسات واألكادمييني األمريكيني اهتاممهم نحو الجمعية الدولية للعلوم‬
‫السياسية (‪ )IPSA‬التي أسستها منظمة األمم املتحدة للرتبية والعلوم والثقافة‬
‫يف العام ‪ .)Long, 2006: 607– 12( 1949‬وبعد فرتة وجيزة من زوال مؤمتر‬
‫الدراسات الدولية‪ُ ،‬ش ِّكل عديد من الجمعيات األكادميية الوطنية للعالقات الدولية‪:‬‬
‫الرابطة اليابانية للعالقات الدولية (‪)JAIR‬؛ والرابطة الكورية للعالقات الدولية‬
‫يف العام ‪1956‬؛ وجمعية الدراسات الدولية (األمريكية) (‪ )ISA‬يف العام ‪1959‬؛‬
‫والجمعية الربيطانية للدراسات الدولية (‪ )BISA‬يف العام ‪(1975‬٭٭)‪ .‬كانت هذه‬
‫الجمعيات متشابهة إىل حد كبري يف الشكل والغرض‪ ،‬وتشبه الجمعيات التي أنشأتها‬
‫التخصصات األخرى‪ .‬وعىل نح ٍو عام‪ ،‬كانت تلك الجمعيات القابلة للعضوية مهنية‬
‫ومستقلة‪ .‬وقد كانت مهامها الرئيسة تتمثل يف‪ :‬إدارة املؤمترات األكادميية؛ ودعم‬
‫مجموعات العمل املتخصصة(٭٭٭)؛ ونرش مجلة واحدة أو أكرث؛ ومنح الجوائز؛‬
‫‪) For detailed information about the associations and think tanks, see McGann (2018); www.‬٭(‬
‫‪wiscnetwork.net/about-wisc/members; www.isanet.org/ISA/Partners (Accessed 14 February 2018).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬
‫‪) At least in the case of BISA there was a connection to the ISC because the British‬٭٭(‬
‫‪Coordinating Committee generated the Bailey Conferences which ran from 1960, and were the‬‬
‫‪precursors to BISA (Long, 2006: 619).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬
‫‪) For a comparison of these between BISA and ISA see Cox and Nossal (2009: 293–4).‬٭٭٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫وتنمية الشعور بالهوية؛ واملشاركة بني أعضاء التخصص عىل نح ٍو عام‪ .‬م َّولت تلك‬
‫الجمعيات نفسها من خالل رسوم العضوية؛ وأرباح املؤمترات؛ والدعم املقدم من‬
‫طرف املؤسسات؛ والدخل املتأيت من املجالت التي يصدرونها‪ .‬وقد ترافقت زيادة‬
‫عدد هذه الجمعيات جن ًبا إىل جنب مع التوسع العام الذي شهده حقل العالقات‬
‫الدولية داخل الجامعات بوصفه موضوعا للدراسة والبحث‪ ،‬حيث تجاوزت برسعة‬
‫حجم العضوية الصغرية نسب ًيا التي ميزت مؤمتر الدراسات الدولية (‪ .)ISC‬وبحلول‬
‫أواخر التسعينيات كان لدى الرابطة اليابانية للعالقات الدولية أكرث من ألفي عضو؛‬
‫وبلغ عدد أعضاء الجمعية الربيطانية للدراسات الدولية أكرث من ألف عضو بحلول‬
‫العام ‪2006‬؛ وزاد أعضاء جمعية الدراسات الدولية من ‪ 200‬عضو يف العام ‪1959‬‬
‫إىل أكرث من ألفي عضو بحلول نهاية الحرب الباردة(٭)‪.‬‬
‫كانت جمعية الدراسات الدولية ‪ ISA‬بال شك هي األكرب واألكرث ثرا ًء واألكرث‬
‫تأث ًريا بني جمعيات حقل العالقات الدولية األكادميية الجديدة تلك‪ ،‬وقد روى قصتها‬
‫الخاصة كل من هرني تيون )‪ Henry Teune (1982‬وأويل هولستي ‪Ole Holsti‬‬
‫)‪ (2014‬ومايكل هاس )‪ .Michael Haas (2016‬فقد سعت جمعية الدراسات‬
‫الدولية إىل االقتصار عىل العلوم السياسية و ُو ِّسعت الحتضان بعض من التخصصات‬
‫املتعددة‪ ،‬ومبعنى ما كانت تتحدى إذن االرتباط املؤسيس الوثيق والطويل األمد‬
‫(فضال عىل االرتباط املعريف واملنهجي) القائم بني العالقات الدولية والعلوم‬
‫أيضا ً‬
‫سؤااًل‬ ‫السياسية يف الواليات املتحدة‪ .‬لقد أثار حجم جمعية الدراسات الدولية ً‬
‫دامئًا عن مسألة التدويل‪ .‬فعىل عكس معظم جمعيات حقل العالقات الدولية‬
‫األكادميية األخرى‪ ،‬مل ُي ْظ ِهر اسم جمعية الدراسات الدولية أي انتامء وطني‪ ،‬مام‬
‫مفتوحا أمام احتامل أن تكون‪ ،‬أو أنها ستكون‪ ،‬مبنزلة هيئة عاملية‪ .‬مثة‬
‫ً‬ ‫ترك الباب‬
‫بالطبع يشء من التأثري األمرييك لهذا النوع من الغموض العاملي‪ ،‬فعىل سبيل املثال‪،‬‬
‫ميكن التفكر فيام يسمى بـ «بطولة العامل» للعبة البيسبول وهي إىل حد كبري لعبة‬
‫أمريكية‪ .‬لقد سمحت جمعية الدراسات الدولية بالعضوية بالنسبة إىل الكنديني‬
‫وبعدهم لألوروبيني‪ ،‬ومنذ السبعينيات (عىل الرغم من أن التوقيت الدقيق لذلك‬
‫‪) www.isanet.org/ISA/About-ISA/Data/Membership (Accessed 18 September 2017).‬٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫غري واضح) قبلت بالعضوية القادمة من خارج أمريكا الشاملية‪ .‬قد يكون التخلف‬
‫النسبي لتكنولوجيا االتصال يف ذلك الوقت قد أعاق مشاركة علامء الجنوب العاملي‬
‫يف جمعية الدراسات الدولية خالل سنواتها األوىل (املعلومات بشأن مشاركة علامء‬
‫الجنوب العاملي يف اتفاقيات جمعية الدراسات الدولية نادرة للغاية)‪ .‬ومع اقرتاب‬
‫نهاية الثامنينيات بدا أن جمعية الدراسات الدولية رشعت يف حملة للتوسع يف‬
‫أوروبا‪ .‬حيث أثار ذلك معارض ًة‪ ،‬خاصة من بريطانيا‪ ،‬مام أدى بدوره إىل إعادة‬
‫تشكيل كبرية للمشهد املؤسيس لجمعيات حقل العالقات الدولية األكادميية‪ ،‬وهي‬
‫قصة سنتعرض لها يف الفصل الثامن‪.‬‬
‫قد يدعم الحجم النسبي لـجمعية الدراسات الدولية وثروتها وانفتاحها عىل‬
‫املشاركة َز ْع َم مايكل هاس (‪ )2016: 10‬أن «علامء الجمعية األمريكيني دشنوا‬
‫مجال دراسة دوليا ح ًقا»‪ .‬ولكن كام لوحظ سابقا‪ ،‬فإن اقرتاح جمعية الدراسات‬
‫الدولية للمقاربة األمريكية تجاه العالقات الدولية‪ ،‬خاصة بعد أن بدأت الثورة‬
‫السلوكية «العلمية» يف الستينيات‪ ،‬مل يلق رواجا كبريا يف بقية العامل‪ .‬وكام يجادل‬
‫هاس )‪ ،(2016: 10‬فإن مؤسيس جمعية الدراسات الدولية‪:‬‬
‫«بحثوا عن نظريات أو مناذج معرفية قامئة عىل البحث التجريبي الذي يتضمن‬
‫اختبار االقرتاحات (النظريات متوسطة املدى) التي من شأنها إعامل املفاهيم‬
‫املتأتية من املقرتحات املشتقة من النظريات الكلية يف شكل فرضيات منخفضة‬
‫املستوى‪ .‬لقد عُ رفوا باسم «الس ُلوكيون» ‪ behavioralists‬وميكن العثور عليهم يف‬
‫جامعات ميشيغان؛ ونورثويسرتن؛ وستانفورد؛ وييل‪ .‬لقد سعوا إىل استبدال أبحاث‬
‫العالقات الدولية التقليدية وتقديم توجيه سيايس قائم عىل البحث العلمي»‪.‬‬
‫إذا كانت جمعية الدراسات الدولية باعتبارها منظمة قد أعطت دفعة قوية‬
‫للسعي األمرييك املتميز وراء «علم» العالقات الدولية وساهمت يف الثورة «السلوكية»‬
‫التي مست هذا التخصص املعريف‪ ،‬فإن هذه الرغبة والرتكيز مل تتقاسمهام أوروبا‬
‫أو املناطق النامية األخرى‪ ،‬كام هو واضح يف النقاش الدائر بني هيديل بول (‪)1966‬‬
‫ومورتن كابالن (‪ .(see also Tickner and Wæver, 2009a) )1966‬ومن ثم قد‬
‫تكون جمعية الدراسات الدولية خالل بدايتها قد عمقت الهوة بني «علم االجتامع‬
‫األمرييك» وتطوير مجال العالقات الدولية يف بقية العامل‪ ،‬مبا يف ذلك الجنوب العاملي‪.‬‬
‫‪230‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫توسع كب ٌري يف عدد دوريات العالقات الدولية (‪Palmer,‬‬‫ٌ‬ ‫لقد رافق كل هذا‬
‫‪ ،)1980: 349–50‬وشكلت الواليات املتحدة مقر عديد منها‪ ،‬ولكن عديدا منها ً‬
‫أيضا‬
‫كان موجودا يف أوروبا وبقية العامل الناطق باللغة اإلنجليزية‪ .‬وقد ارتبط بعضها‬
‫بأقسام أو معاهد جامعية (مجلة الشؤون الدولية ‪Journal of International‬‬
‫‪[ Affairs‬جامعة كولومبيا‪]1947 ،‬؛ والسياسة العاملية ‪[ World Politics‬جامعة‬
‫برينستون‪]1948 ،‬؛ ومجلة مريشون للدراسات الدولية ‪Mershon International‬‬
‫‪[ Studies Review‬جامعة أوهايو‪]1957 ،‬؛ ومجلة العالقات الدولية ‪International‬‬
‫‪[ Relations‬جامعة أبريستويث‪]1960 ،‬؛ ومجلة الدراسات اآلسيوية ‪Asian Survey‬‬
‫[معهد دراسات رشق آسيا يف جامعة كاليفورنيا‪ ،‬بريكيل‪]1961 ،‬؛ ومجلة األلفية‬
‫‪[ Millennium‬معهد لندن لالقتصاد‪]1971 ،‬؛ ومجلة األمن الدويل ‪International‬‬
‫‪[ Security‬جامعة هارفارد‪]1976 ،‬؛ مجلة كامربيدج للشؤون الدولية ‪Cambridge‬‬
‫‪[ Review of International Affairs‬جامعة كامربيدج‪ .)]1986 ،‬وقد كان بعض‬
‫املجالت منتس ًبا إىل مراكز أبحاث ومعاهد بحثية مستقلة (املجلة األسرتالية للشؤون‬
‫الدولية‪ ،Australian Journal of International Affairs‬التي كان مسامها يف‬
‫األصل ‪[ Australian Outlook‬املعهد األسرتايل للشؤون الدولية‪]1946 ،‬؛ واملجلة‬
‫الدولية ‪[ International Journal‬املجلس الكندي الدويل ومركز بيل جراهام للتاريخ‬
‫الدويل املعارص‪]1946 ،‬؛ ومجلة حل النزاعات ‪Journal of Conflict Resolution‬‬
‫[ مجتمع علم السالم‪]1957 ،‬؛ ومجلة أوربيس ‪ [ Orbis‬معهد تحليل السياسة‬
‫الخارجية‪]1957 ،‬؛ ومجلة النجاة ‪[ Survival‬املعهد الدويل للدراسات اإلسرتاتيجية‪،‬‬
‫‪]1959‬؛ ومجلة أبحاث السالم ‪ [ Journal of Peace‬معهد أبحاث السالم أسلو‪،‬‬
‫‪]1964‬؛ ومجلة الحوار األمني ‪ Security Dialogue‬والتي كانت يف األصل تحمل‬
‫اسم نرشة مقرتحات السالم [ معهد أبحاث السالم أسلو‪]1970 ،‬؛ ومجلة السياسة‬
‫الخارجية ‪[ Foreign Policy‬أندرو كارنيغي للسالم الدويل‪ .]1970 ،‬كام ُأنشئ بعض‬
‫تلك املجالت عن طريق الجمعيات األكادميية الجديدة لحقل العالقات الدولية‬
‫مثل‪ :‬السياسات الدولية ‪]Kokusai Seiji [JAIR، 1957‬؛ و َفص ِلية الدراسات الدولية‬
‫‪[ International Studies Quarterly‬جمعية الدراسات الدولية ‪]ISA، 1959‬؛‬
‫ومجلة التعاون والنزاع ‪[ Cooperation and Conflict‬جمعية الدراسات الدولية‬
‫‪231‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الشاملية‪]1965 ،‬؛ ومجلة الدراسات الدولية ‪Review of International Studies‬‬


‫والتي كانت يف األصل املجلة الربيطانية للدراسات الدولية [‪ .]BISA، 1975‬كام‬
‫أن بعض تلك املجالت كانت تتمتع باالستقاللية كمجلة املنظمة الدولية [‪]1947‬؛‬
‫ومجلة السياسة الدولية ‪ International Politics‬التي كانت يف األصل تحمل‬
‫اسم التعايش‪ :‬مجلة دراسات الرشق والغرب [‪]2000/1963‬؛ ومجلة الدراسات‬
‫اإلسرتاتيجية [‪]Journal of Strategic Studies 1978‬؛ ومجلة السياسة األمنية‬
‫املعارصة [‪.]Contemporary Security Policy ]1980‬‬
‫ومثلام كان الحال خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬وبنمط مامثل‪،‬‬
‫استمرت املؤسسات األمريكية يف كونها من املمولني املؤثرين لحقل العالقات‬
‫الدولية‪ .‬فقد م َّولت مؤسسة فورد مركز دراسات العالقات الدولية يف معهد العلوم‬
‫السياسية بباريس منذ أوائل الخمسينيات من القرن املايض‪ .‬كام م َّول روكفلر وفورد‬
‫الجامعة الحرة يف برلني‪ .‬وم َّول روكفلر أيضا اللجنة الربيطانية‪ ،‬و ُم ِّولت الجمعية‬
‫الدولية للعلوم السياسية ‪ IPSA‬من قبل مؤسسة فورد (‪ .)Kuru, 2017: 56–8‬كام‬
‫أيضا دو ًرا كب ًريا يف متويل تطوير حقل العالقات الدولية‬ ‫مارست املؤسسات األمريكية ً‬
‫يف العامل الثالث (‪.)Tickner and Wæver, 2009a: 232‬‬
‫وخالل فرتة الحرب الباردة كان تطور حقل العالقات الدولية يف االتحاد السوفييتي‬
‫وأوروبا الرشقية يحمل أوجه تشابه (باإلضافة إىل اختالفات) مع املَ ْر َكز ومع األَ ْط َراف‬
‫عىل حد السواء‪ .‬لقد ُش ِّكل حقل العالقات الدولية يف االتحاد السوفييتي من خالل‬
‫دراسات املناطق وبعض العوامل املحلية املامثلة التي َق َّيدت تخصص العالقات‬
‫الدولية يف آسيا وأجزاء أخرى من األَ ْط َراف‪ .‬ويف العام ‪ُ 1947‬أغ ِلق معهد االقتصاد‬
‫العاملي والسياسة العاملية‪ ،‬الذي تأسس يف العام ‪ 1924‬من قبل الحكومة التي‬
‫قادم من الكتابات الرئيسة التي أشارت إىل استمرار بقاء الرأساملية‪.‬‬ ‫شعرت بتح ٍد ٍ‬
‫وقد أنشأت جامعة موسكو الحكومية كلية العالقات الدولية يف العام ‪ ،1943‬حيث‬
‫ركزت مناهجها الدراسية عىل التاريخ الديبلومايس بطريقة مشابهة للتطور األويل‬
‫الذي عرفه حقل العالقات الدولية يف أوروبا الغربية (‪ .)Lebedeva, 2004:263‬كام‬
‫ازدهرت مراكز الفكر أيضا يف االتحاد السوفييتي خالل تلك الفرتة‪ .‬ويف العام ‪1956‬‬
‫أنشأت األكادميية السوفييتية للعلوم معهد االقتصاد العاملي والعالقات الدولية الذي‬
‫‪232‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫سيضطلع بقيادة دراسة القضايا الفرعية يف الشؤون العاملية‪ ،‬بينام أنشأت األكادميية‬
‫أيضا عددًا من معاهد دراسات املناطق ألجل دراسة مناطق مختلفة من العامل؛‬ ‫ً‬
‫مبا يف ذلك معهد أفريقيا (‪)1959‬؛ ومعهد أمريكا الالتينية (‪)1961‬؛ ومعهد الرشق‬
‫األقىص (‪)1966‬؛ ومعهد الواليات املتحدة األمريكية وكندا (‪ .)1967‬كام ُأجريت‬
‫دراسة قضايا االقتصاد والسياسة يف البلدان الشيوعية األخرى يف معهد اقتصاد‬
‫النظام االشرتايك العاملي (‪ .)Lebedeva, 2004: 264–5( )1960‬وقد أظهر هذا‬
‫واضحا نحو دراسات املناطق يف تطوير حقل العالقات الدولية يف االتحاد‬ ‫ً‬ ‫توج ًها‬
‫السوفييتي‪ ،‬وهو ما شهدته أيضا بعض البلدان النامية‪ ،‬وال سيام الهند‪ .‬ولكن عىل‬
‫عكس الهند كانت دراسة حقل العالقات الدولية يف االتحاد السوفييتي مقيد ًة‬
‫بفرض حظر رسمي عىل النصوص باللغة اإلنجليزية القادمة من الغرب‪ ،‬والرقابة‬
‫الرسمية وعدم االتصال بالباحثني الغربيني‪ .‬حيث أثر هذا عىل نح ٍو خاص يف‬
‫األبحاث الدراسية يف نظرية العالقات الدولية‪ .‬وقد واجه تطوير حقل العالقات‬
‫الدولية يف بلدان أوروبا الوسطى والرشقية (‪ )CEE‬قيودًا متشابهة من حيث املوارد‬
‫واأليديولوجية‪ ،‬وكان توجهه البحثي يف األغلب تجريب ًيا وليس نظر ًيا وبقي عىل‬
‫نح ٍو عام حقال متخل ًفا )‪ .(Drulák, Karlas and Königová, 2009: 243‬ويف‬
‫بعض النواحي‪ ،‬تأثرت أبحاث العالقات الدولية يف بلدان أوروبا الوسطى والرشقية‬
‫بالنموذج األملاين‪ ،‬الذي يعطي الكثري من السلطة لرؤساء املؤسسات وكبار األساتذة‬
‫يف املنشورات العلمية )‪.(Drulák, Karlas and Königová, 2009: 257‬‬
‫خالل فرتة ‪ ،1989-1945‬ومهام كانت األسس النظرية التي كان يحتوي عليها‬
‫مزيجا من املاركسية‬
‫حقل العالقات الدولية يف االتحاد السوفييتي‪ ،‬فقد كان يشكل ً‬
‫اللينينية و«الواقعية»‪ .‬وينظر البعض إىل الواقعية عىل أنها كانت الخط الفكري‬
‫أيضا يعد‬ ‫املهيمن‪ ،‬كونها كانت تتمركز حول الدولة‪ .‬وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فهذا ً‬
‫سمة من سامت حقل العالقات الدولية يف جميع أنحاء األَ ْط َراف‪ .‬لكن هذا الخط‬
‫الواقعي داخل االتحاد السوفييتي تطور من دون تأثري مبارش كبري من الباحثني‬
‫الغربيني من املدرسة الواقعية والواقعية املحدثة‪ ،‬وذلك بسبب عدم توافر كتاباتهم‬
‫(‪ .)Lebedeva, 2004: 268‬من شأن وجهة النظر الواقعية الضمنية هذه أن ُت ِّ‬
‫فرِّس‬
‫صعود الجغرافيا السياسية يف حقل العالقات الدولية يف مرحلة ما بعد االتحاد‬
‫‪233‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫السوفييتي الرويس‪ ،‬حتى عندما تحولت األبحاث هناك لتأخذ طاب ًعا أكرث نظرية‬
‫وتبنت مجموعة متنوعة من املقاربات النظرية‪.‬‬

‫‪َ -1-2‬‬
‫األ ْط َراف‬
‫من األصعب بكثري تتبع التطور املؤسيس لحقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف‪.‬‬
‫فمن ضمن ما متكنا من العثور عليه‪ ،‬مل يكن مثة ذلك القدر الكبري عند مقارنته‬
‫باملَ ْر َكز‪ .‬فمن ناحية التدريس والبحث‪ُ ،‬د ِّرست دورات حقل العالقات الدولية‬
‫يف تركيا (جامعة أنقرة) يف الخمسينيات‪ ،‬وكان هناك قسم للعالقات الدولية يف‬
‫جامعة الرشق األوسط التقنية بحلول العام ‪ .1984‬ويف إرسائيل كانت الجامعة‬
‫العربية تستصدر شهادات يف العالقات الدولية بحلول العام ‪ ،1946‬وقد ُأنشئ‬
‫قسم مستقل للعالقات الدولية يف العام ‪ .1969‬ويف الهند أدت التطورات التي‬
‫نوقشت يف الفصل الرابع إىل تشكيل املدرسة الهندية للدراسات الدولية يف العام‬
‫‪ ،1955‬والتي أطلقت يف العام ‪ 1959‬مجلة الدراسات الدولية‪ ،‬وهي واحدة من‬
‫أوليات املجالت األكادميية الصادرة باللغة اإلنجليزية واملتخصصة يف العالقات‬
‫الدولية يف آسيا والعامل الثالث (فصلية الهند ‪ ،India Quarterly‬وهي مجلة أكرث‬
‫توج ًها نحو السياسات‪ ،‬بدأت يف النرش يف العام ‪ 1954‬تحت رعاية املجلس الهندي‬
‫للشؤون العاملية ‪ .)ICWA‬ويف العام ‪ 1969‬انضمت املدرسة الهندية للدراسات‬
‫الدولية إىل جامعة جواهر الل نهرو ا ُملنشأة حدي ًثا بوصفها مدرسة للدراسات‬
‫الدولية (‪ .)Batabyal, 2015: 137–63‬أما يف الصني فقد أخضعت اإلصالحات‬
‫التعليمية يف العام ‪ 1952‬التعليم العايل إىل الحزب الشيوعي الصيني‪ ،‬مام أدى‬
‫إىل إلغاء العلوم السياسية من املناهج الدراسية‪ ،‬وتفكيك حقل العالقات الدولية‬
‫باعتباره موضوعا متامسكا‪ .‬ويف العام ‪ 1963‬أمر الحزب الشيوعي الصيني بتقوية‬
‫دراسة العالقات الدولية وإنشاء أقسام العالقات الدولية يف جامعات بكني ورينمني‬
‫‪ Renmin‬وفودان ‪ ،Fudan‬لكن تلك األقسام كانت يف خدمة احتياجات السياسة‬
‫الخارجية للصني عىل نح ٍو أسايس‪ ،‬وكان حقل العالقات الدولية هناك مؤطرا إىل‬
‫حد كبري ضمن إطار األيديولوجية املاركسية )‪ .(Lu, 2014:133–4, 144–9‬ويف‬
‫أفريقيا ُأنشئ أول كريس للعالقات الدولية يف العام ‪ 1977‬يف الجامعة النيجريية‬
‫‪234‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫إيفي )‪ .University of Ife (Ofuho, 2009‬وعىل نح ٍو عام‪ ،‬كان أداء املراكز‬


‫الفكرية املتعلقة بحقل العالقات الدولية أفضل إىل حد ما‪ ،‬حيث يوجد واحد يف‬
‫أفريقيا وواحد يف أمريكا الالتينية وثالثة يف الرشق األوسط وثالثة يف جنوب آسيا‬
‫وعرشة يف رشق آسيا‪ ،‬وكان معظمها اآلخر موجودا يف الصني‪.‬‬
‫إن الدراسة األكادميية لحقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف مل يكن لديها خالل‬
‫كاف التباع منط املؤسسات املوجودة يف دول‬ ‫كاف أو مقياس ٍ‬‫هذه الفرتة اتساق ٍ‬
‫املَ ْر َكز‪ .‬فقد كانت جمعيات العالقات الدولية األكادميية نادرة‪ ،‬عىل الرغم من‬
‫االستثناء امللحوظ الذي متثل يف تشكيل الجمعية املكسيكية للدراسات الدولية‬
‫(‪ )Asociación Mexicana de Estudios Internacionales‬يف العام ‪ .1967‬كام‬
‫كان هناك بضع من املجالت متركز مقرها إما يف الجامعات (مجلة الدراسات الدولية‬
‫‪[ International Studies‬تولت نرشها جامعة جواهر الل نهرو يف العام ‪]1969‬؛‬
‫ومجلة قضايا ودراسات ‪[ Issues & Studies‬جامعة تشينغتيش الوطنية‪ )]1964 ،‬أو‬
‫يف املعاهد (مجلة جنوب رشق آسيا املعارصة ‪Contemporary Southeast Asia‬‬
‫[معهد دراسات جنوب رشق آسيا‪.)]1979 ،‬‬

‫‪ - 2‬تفكري حقل العالقات الدولية يف املركز‬


‫إن قصة تطور حقل العالقات الدولية حتى الحرب العاملية األوىل‪ ،‬وخالل سنوات‬
‫ما بني الحربني كام ُرُسدت يف الفصلني الثاين والرابع‪ ،‬ليست قصة معروفة عىل نطاق‬
‫واسع داخل التخصص‪ .‬لكن قصة التطور النظري لـحقل العالقات الدولية‪ ،‬وحروب‬
‫«النموذج الفكري» ‪ Aparadigm‬و«النقاشات الكربى» ‪ great debates‬التي كانت‬
‫جارية خالل تلك الفرتة متثل تقري ًبا جزءا قياسيا من أي استقراء يف املوضوع‪ ،‬وال‬
‫تحتاج إىل التكرار بالتفصيل هنا‪ .‬وهي متوافرة يف عديد من الكتب املدرسية لحقل‬
‫العالقات الدولية التي تقدم هذا املوضوع للطالب الجدد‪ ،‬ومتوافرة أيضا يف عديد‬
‫سينصب اهتاممنا‬
‫ُّ‬ ‫من التأمالت الذاتية املطروحة بشأن التخصص‪ .‬ويف هذا القسم‬
‫الرئيس عىل ربط هذه القصة املألوفة مبوضوعاتنا الرئيسة‪:‬‬
‫• إىل أي مدى وبأي طرق يعكس تطور الحقل املعريف للعالقات الدولية‬
‫(النظرية) التطورات الرئيسة الحاصلة يف عامل العالقات الدولية الحقيقي (املامرسة)؟‬
‫‪235‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫• هل استمر هذا الحقل يف عكس اهتاممات ووجهات نظر دول املَ ْر َكز‪،‬‬
‫وتهميش دول األَ ْط َراف؟‬
‫كام ذكرنا ساب ًقا‪ ،‬كانت التطورات الرئيسة الحاصلة يف العالقات الدولية بوصفها‬
‫مامرسة تتمظهر يف القطبية الثنائية؛ والحرب الباردة؛ واألسلحة النووية من جهة‪،‬‬
‫ويف إنهاء االستعامر من جهة أخرى‪ .‬لقد مارست كل من القطبية الثنائية والحرب‬
‫الباردة واألسلحة النووية دورا كبريا يف التأثري يف العالقات الدولية كحقل معريف‬
‫وكمامرسة داخل دول املً ْر َكز‪ ،‬يف حني مل يتمكن مسار إنهاء االستعامر من فعل‬
‫ذلك‪ .‬حيث أدى إنهاء االستعامر‪ ،‬وكام سنوضح ذلك يف القسم التايل‪ ،‬دو ًرا قو ًيا‬
‫أيضا التناقض‪،‬‬ ‫يف حقل العالقات الدولية داخل دول األَ ْط َراف‪ .‬سوف نستكشف ً‬
‫املذكور سابقا‪ ،‬بني الهيمنة األمريكية عىل حقل العالقات الدولية ومامرسة العالقات‬
‫الدولية كحقل معريف من ناحية‪ ،‬وتنوع ومتايز تفكري حقل العالقات الدولية داخل‬
‫دول املَ ْر َكز من ناحية أخرى‪ .‬سنبدأ بالتطرق إىل التنوع واالختالف القائم داخل‬
‫املَ ْر َكز‪ .‬حيث يبحث القسم الفرعي التايل يف ادعاء هوفامن بشأن حقل العالقات‬
‫الدولية باعتباره «علم اجتامع أمريكيا»‪ .‬وتتناول األقسام الفرعية الالحقة بإيجاز‬
‫التطورات السائدة يف الواقعية‪ ،‬والدراسات اإلسرتاتيجية‪ ،‬وأبحاث السالم‪ ،‬والليربالية‪،‬‬
‫واملاركسية‪ ،‬واملدرسة الربيطانية باعتبارها متثل الوجه الجديد لحقل العالقات‬
‫الدولية املعاد تأسيسه‪ ،‬والذي‪ ،‬كام هو موضح سابقا‪ ،‬أغفل أو أبعد جان ًبا الكثري مام‬
‫كان يضمه هذا التخصص خالل السنوات التي سبقت العام ‪.1939‬‬

‫‪ - 2 - 1‬التنوع والتاميز داخل مركز حقل العالقات الدولية‬


‫لقد كان التنوع والتاميز داخل مركز حقل العالقات الدولية كب ًريا‪ .‬وعىل الرغم‬
‫من عدم التطرق إليه عىل نح ٍو كاف خالل ذلك الوقت‪ ،‬أو يف الواقع حتى اآلن‪ ،‬فقد‬
‫مهاًم بالتطور نحو حقل عالقات دولية عاملي مثلام سنناقش ذلك‬ ‫كان هذا نذي ًرا ً‬
‫يف الفصلني الثامن والعارش‪ .‬كان مثة كثري من التشابه داخل املَ ْر َكز من ناحية إضفاء‬
‫الطابع املؤسيس عىل هذا الحقل املعريف‪ ،‬ولكن ليس هناك الكثري من التشابه من‬
‫حيث الروابط األكادميية أو املناهج‪ ،‬لكن كان مثة أيضا اختالفات كبرية قامئة بشأن‬
‫املوضوعات واملقاربات‪ .‬لقد حذت كوريا‪ ،‬وكندا‪ ،‬وحتى أملانيا إىل حد معني‪ ،‬حذو‬
‫‪236‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫الواليات املتحدة يف تقعيد حقل العالقات الدولية داخل إطار العلوم السياسية‪.‬‬
‫لكن هذا مل يكن الحال عىل نح ٍو عام يف أماكن أخرى‪ .‬ففي فرنسا وأملانيا ارتبطت‬
‫ارتباطا وثي ًقا بعلم االجتامع‪ .‬ويف بريطانيا وبقية العامل الناطق‬‫ً‬ ‫العالقات الدولية‬
‫باللغة اإلنجليزية‪ ،‬باستثناء كندا‪ ،‬غال ًبا ما كان حقل العالقات الدولية ُمن ََّظ ًاًم حول‬
‫ذاته‪ ،‬وله جذوره الرئيسة يف التاريخ والقانون الدويل والنظرية السياسية‪ .‬ويف اليابان‬
‫مل يكن هناك أقسام للعلوم السياسية‪ ،‬غري أن حقل العالقات الدولية مل يتطور هناك‬
‫مع أقسام مستقلة أخرى (‪ .)Inoguchi, 2009: 94‬وكام يرى يورج فريدريش ‪Jörg‬‬
‫‪ Friedrichs‬وأويل ويفر (‪ ، )Ole Wæver 2009: 262‬كانت وضعية تفكري حقل‬
‫العالقات الدولية يف املركز خالل هذه الفرتة تتمثل يف أن‪« :‬جميع مجتمعات حقل‬
‫العالقات الدولية يف أوروبا الغربية تقف يف وجه التيار األمرييك املهمني داخل عالقة‬
‫املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف»‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬وكام هو مذكور سابقا‪ ،‬مل يكن مثة اهتامم كبري‬
‫يف أوروبا أو اليابان باملناهج «العلمية» للواليات املتحدة‪ ،‬حيث يرى واين كوكس‬
‫‪ Wayne Cox‬وكيم ريتشارد نوسال (‪ )Kim Richard Nossal 2009: 303‬أن‬
‫الدول األخرى للعامل الناطق باللغة اإلنجليزية‪ ،‬مبا يف ذلك كندا‪ ،‬كانت تشكل املصدر‬
‫الرئيس لتحدي نظرية املعرفة العقالنية الوضعية التي ُي َف ِّض ُلها حقل العالقات‬
‫الدولية األمرييك‪ .‬ويف إطار التعامل مع موقعهم الهاميش داخل العالقة القامئة‬
‫بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ ،‬طورت مجتمعات حقل العالقات الدولية األوروبية ثالث‬
‫إسرتاتيجيات مختلفة للتكيف‪ :‬االعتامد األكادميي عىل الذات (فرنسا)؛ والتهميش‬
‫املستقيل (إيطاليا وإسبانيا)؛ والتعاون البحثي متعدد املستويات (دول الشامل‬
‫واملناطق الناطقة بالهولندية واألملانية) (‪.)Friedrichs and Wæver, 2009: 262‬‬
‫ومن الغريب أن األسلوب األكادميي الياباين القائم عىل الوصف الكثيف ينسجم عىل‬
‫نح ٍو أكرب مع األَ ْط َراف فيام يتعلق بتقسيم العمل الذي الحظه كل من تينكر وأويل‬
‫ويفر (‪ ،)2009c: 335‬حيث يضطلع املَ ْر َكز بعملية التنظري يف حني ال تفعل األَ ْط َراف‬
‫ذلك‪ .‬لقد أنتجت أوروبا وبقية العامل الناطق باللغة اإلنجليزية نظري ًة‪ ،‬ولكن ليس‬
‫دامئًا النظرية نفسها التي كان األمريكيون يتبعونها‪.‬‬
‫كان مثة بعض الوحدة القامئة حول «النقاشات الكربى» بني أوروبا وأمريكا‪،‬‬
‫وكذلك كان مثة قدر كبري من القواسم املشرتكة بشأن «النامذج الفكرية» الرئيسة‬
‫‪237‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫للواقعية والليربالية واملاركسية‪ .‬وهذا يحيلنا إىل أن اليابان مل تهتم كث ًريا بـ «النقاشات‬
‫الكربى»‪ ،‬واضطلعت إىل حد كبري بتأسيس مرجعي ذايت يف التفكري بشأن حقل‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬متا ًما كام فعلت فرنسا ‪(Inoguchi, 2009: 90; Friedrichs and‬‬
‫)‪ .Wæver, 2009: 263–4, 267–8‬ونظ ًرا إىل تركيز حقل العالقات الدولية داخل‬
‫املَ ْر َكز عىل العالقات بني الرشق والغرب وقضايا األمن النووي‪ ،‬فليس من املستغرب‬
‫أن توفر القضايا والنظريات األمنية (الدراسات اإلسرتاتيجية) أرضية مشرتكة‪ ،‬ولكن‬
‫كانت أبحاث السالم عىل رغم ذلك أكرث برو ًزا باعتبارها مقاربة لألمن يف كل من‬
‫أوروبا واليابان أكرث مام كانت عليه يف الواليات املتحدة‪ .‬كانت املاركسية أيضا أكرث‬
‫برو ًزا يف التفكري بشأن العالقات الدولية يف كل من أوروبا واليابان أكرث مام كانت‬
‫أيضا بتطوير «املدرسة‬ ‫عليه يف الواليات املتحدة‪ .‬وقد اضطلع املَ ْر َكز ‪ -‬اإلنجليزي ً‬
‫اإلنجليزية» أو مقاربة «املجتمع الدويل» لنظرية العالقات الدولية‪ ،‬وهي بديل‬
‫اجتامعي عن املقاربات الواقعية املادية والليربالية السائدة التي كانت مهيمنة‬
‫داخل الواليات املتحدة‪ .‬خالل هذه الفرتة‪ ،‬مل ُتخرتق أوروبا وال اليابان عىل نح ٍو كبري‬
‫من ِقبل حاميل شهادات الدكتوراه الذين تكونوا يف الواليات املتحدة مثلام حدث‬
‫مع كوريا‪ ،‬حيث إن األخرية أقدمت عىل هيكلة نفسها عىل نح ٍو أكرب وف ًقا لنموذج‬
‫العلوم السياسية واملقاربة املنهجية الرسمية للعالقات الدولية السائدة بالواليات‬
‫املتحدة (‪ .)Cox and Nossal, 2009: 300–1; Inoguchi, 2009: 95–7‬مل يكن‬
‫هناك كثري من عبور حاميل درجات الدكتوراه بني الواليات املتحدة وبقية املَ ْر َكز‬
‫كاًل من الواليات املتحدة‬ ‫اإلنجليزي واليابان (كوريا هي االستثناء)‪ ،‬عىل الرغم من أن ً‬
‫واملَ ْر َكز ‪ -‬اإلنجليزي ص َّدرا حاميل درجات الدكتوراه إىل أماكن أخرى‪ .‬وكام أوضح‬
‫ويفر (‪ )1998‬منذ فرتة طويلة‪ ،‬وبينام كان تفكري الواليات املتحدة املرتبط بحقل‬
‫العالقات الدولية ُيقرأ عىل نطاق واسع يف بقية املَ ْر َكز‪ ،‬ظلت الواليات املتحدة يف‬
‫حد ذاتها معزولة نسب ًيا عن تفكري حقل العالقات الدولية القادم من أوروبا أو‬
‫اليابان أو ذلك التفكري القادم من األَ ْط َراف‪ .‬ويف حني أنه من السهل اتهام الواليات‬
‫انعكاسا دقي ًقا‪.‬‬
‫ً‬ ‫املتحدة بالهيمنة والعزلة‪ ،‬غري أن أيا من تلك االتهامات ال ُي َعد‬
‫حيث ُت َعد الواليات املتحدة مهيمنة عىل نح ٍو أسايس ألنها متثل جز ًءا كب ًريا من حقل‬
‫العالقات الدولية يف املجمل العام‪ .‬وهي ليست مهيمنة سواء من الناحية املعرفية‬
‫‪238‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫أو املوضوعية‪ .‬وعىل الرغم من حقيقة أن الواليات املتحدة كانت معزولة‪ ،‬فإنها‬
‫ليست أقل من اليابان أو فرنسا أو إيطاليا يف هذا الشأن؛ إذ يعود االستياء من عزلة‬
‫الواليات املتحدة إىل حجمها النسبي أكرث من كونه استياء مبن ًيا عىل املبدأ‪.‬‬

‫‪ - 2 - 2‬القوة األمريكية‪ ،‬العلوم االجتامعية األمريكية‬


‫نظ ًرا إىل الثقل الكبري للواليات املتحدة يف العالقات الدولية كحقل معريف‬
‫وكمامرسة‪ ،‬فإن ادعاء هوفامن القائل بأن حقل العالقات الدولية كان «علم اجتامع‬
‫أمريكيا»‪َ ،‬م َّث َل وجهة نظر دقيقة للتخصص كام ُيرى ذلك يف الواليات املتحدة‪،‬‬
‫ولكن هذا االدعاء كان محل خالف يف أجزاء أخرى داخل املَ ْر َكز‪ .‬إن انعزالية حقل‬
‫العالقات الدولية األمرييك‪ ،‬واألولوية العالية التي ُتعطى للمشاركة الجديدة للبالد‬
‫كقائد للغرب يف مواجهة منافس أيديولوجي وعسكري رئيس‪ ،‬جعلتا هذا الرأي‬
‫بالتأكيد ممكنًا بالنسبة إىل الواليات املتحدة‪ .‬فقد كانت الحرب الباردة الشغل‬
‫الشاغل للسياسة الخارجية للواليات املتحدة‪ ،‬حيث دعمت تلك الحرب التطور‬
‫النظري للعالقات الدولية هناك‪ .‬وقد أدت القصص الرئيسة األخرى لهذه الفرتة‬
‫‪ -‬إنهاء االستعامر؛ وظهور العامل الثالث؛ وتطور النزعة اإلقليمية يف مناطق ما بعد‬
‫االستعامر؛ والعالقات األساسية مع األَ ْط َراف عىل نح ٍو عام ‪ -‬دو ًرا ثانو ًيا نسب ًيا يف‬
‫تطوير حقل ونظرية العالقات الدولية يف الغرب‪.‬‬
‫يدعي هوفامن أن حقل العالقات الدولية « ُولد و َنشأ» يف الواليات املتحدة‬
‫(‪ .)Hoffmann, 1977: 50‬إن هذا يتجاهل بالطبع األصول الربيطانية للعالقات‬
‫الدولية فيام عدا مساهمة إدوارد كار‪ ،‬الذي أدرك هوفامن أنه قدم‪ ،‬يف كتابه «أزمة‬
‫العرشين سنة»‪ ،‬أول معالجة «علمية» لسياسات العامل الحديث‪ ،‬عىل الرغم من‬
‫إرصاره عىل أن ذلك كان يف أمريكا‪ ،‬وليس يف إنجلرتا‪ ،‬حيث كان لنقد إدوارد كار‬
‫الواقعي التأثري األكرب (‪ .)Hoffmann, 1977: 43‬ومل يقترص تأثري إدوارد كار عىل‬
‫نيكوالس سبيكامن وخاصة يف كتابه «إسرتاتيجية أمريكا يف السياسة العاملية»‬
‫‪ America’s Strategy in World Politics‬فقط‪ ،‬بل األهم من ذلك أن عمله ساهم‬
‫يف إنجاب هانز مورغنثاو باعتباره «األب ا ُملؤسس» لحقل العالقات الدولية يف أمريكا‪.‬‬
‫واضحا هو أن هانز مورغنثاو‪ ،‬مثل إدوارد كار من قبله‪ ،‬كان عاز ًما عىل‬ ‫ً‬ ‫ما يبدو‬
‫‪239‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تطوير نوع من دراسة حقل العالقات الدولية التي اعتربها علمية‪ ،‬ليس باملعنى‬
‫املنهجي كام هو الحال مع املناهج السلوكية أو العقالنية الالحقة التي ظهرت‬
‫يف حقل العالقات الدولية منذ الستينيات‪ ،‬ولكن مبعنى أنها تتميز عن الن َزعَات‬
‫الطوباوية أو املثالية‪ .‬ومل ينتبه هوفامن كث ًريا إىل تطور دراسة البحث العلمي يف‬
‫أماكن أخرى‪ ،‬حيث مل يذكر سوى األسرتايل هيديل بول ‪ Hedley Bull‬والباحث‬
‫الفرنيس بيري هاسرن ‪ Pierre Hassner‬و«مساهامتهام الفردية الرائعة»‪ ،‬والتي يف‬
‫رأيه مل «تتمكن من تقعيد تخصص معريف» (‪ .)Hoffmann, 1977: 49‬بالنسبة إىل‬
‫هوفامن‪ ،‬كان صعود الواليات املتحدة‪ ،‬الذي ظهر من خالل النمو االقتصادي الرسيع‬
‫يف الداخل ونجاح السياسة الخارجية يف الخارج‪ ،‬قو ًة تأسيسي ًة تدعم صعود حقل‬
‫العالقات الدولية والهيمنة األمريكية عىل مجال الدراسة هذا‪« :‬لقد امتزج االهتامم‬
‫بشأن السلوك األمرييك يف العامل مع دراسة العالقات الدولية‪ ...‬كانت دراسة السياسة‬
‫الخارجية للواليات املتحدة تعني دراسة النظام الدويل‪ .‬ودراسة النظام الدويل ال‬
‫ميكنها إال أن تحيل املرء إىل دراسة دور الواليات املتحدة» (‪.)Hoffmann, 1977: 47‬‬
‫وقد شاركه هانز مورغنثاو (‪ )1948: 8‬هذا الشعور‪« :‬إن التفكري يف السياسة‬
‫الدولية يف الواليات املتحدة‪ ،‬مع اقرتابنا من منتصف القرن العرشين‪ ،‬يعني إذن‬
‫التفكري يف املشكالت التي تواجه السياسة الخارجية األمريكية يف عرصنا»‪ .‬فمن خالل‬
‫أيضا بنجاح االقتصاد‬ ‫روابطه بالعلوم السياسية‪ ،‬تأثر حقل العالقات الدولية األمرييك ً‬
‫باعتباره علام‪ ،‬وسعى إىل محاكاة االقتصاد يف محاولة منه ليك يصبح أكرث «مهنية»‪.‬‬
‫لقد أشار هوفامن إىل بعض امليول البارزة األخرى يف حقل العالقات الدولية األمرييك‬
‫مثل البحث عن اليقني والحارض (الخوف من التاريخ) وتجاهل الضعيف بسبب‬
‫الرتكيز عىل القطبية الثنائية‪.‬‬
‫لقد كان حقل العالقات الدولية األمرييك هو املهيمن ألنه كان كب ًريا وغن ًّيا‬
‫ومتمركزًا داخل القوة الرائدة يف الغرب‪ .‬وليس مثة شك يف أن أسلوب التفكري األمرييك‬
‫يف الواقعية والليربالية والدراسات اإلسرتاتيجية ش َّكل عمو ًما القاطرة بالنسبة إىل كثري‬
‫من تفكري حقل العالقات الدولية يف أماكن أخرى من املركز‪ .‬غري أن حقل العالقات‬
‫الدولية األمرييك مل يكن مهيمنا من الناحية املعرفية؛ ألن قلة آخرين شاركوا الهوس‬
‫األمرييك بشأن «العلم» الذي ُيفهم عىل أنه منهج وضعي‪ .‬كام أنه كان بعيدا عىل‬
‫‪240‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫كونه مهيمنًا عامل ًّيا يف مناهج العالقات الدولية ً‬


‫أيضا‪ ،‬خاصة مع التحديات املتأتية‬
‫من املدرسة الربيطانية وأبحاث السالم(٭)‪.‬‬

‫‪ - 2 - 3‬الواقعية‬
‫بالنسبة إىل مراقبي السياسة العاملية‪ ،‬فإن بروز الواقعية ‪ Realism‬يف فرتة ما‬
‫بعد الحرب العاملية الثانية ش َّكل أمرا مثريا للسخرية‪ ،‬إن مل يكن أمرا مح ًريا‪ .‬لقد كان‬
‫أمرا مثريا للسخرية ألن فرتة الحرب (‪ )1945-1939‬كانت ً‬
‫أيضا فرتة لبناء املؤسسات‬
‫العاملية عىل نحو مكثف‪ ،‬مبا يف ذلك صندوق النقد الدويل والبنك الدويل‪ ،‬وهي‬
‫املؤسسات التي متخض عنها مؤمتر سان فرانسيسكو يف العام ‪ 1945‬الذي وضع‬
‫مسودة ميثاق األمم املتحدة‪ .‬وكل هذا كان يجب أن يجعل من سنوات ما بعد‬
‫الحرب املبكرة «لحظ ًة ليربالي ًة» يف نظرية العالقات الدولية‪ ،‬حيث إن النظرية‬
‫الليربالية كانت قد قدمت كثريا من اإلسهامات بشأن فكرة «النظام الدويل الليربايل»‬
‫بعد الحرب (‪ ،)Deudney and Ikenberry, 1999; Ikenberry, 2011‬وأيضا‬
‫بشأن نظام املؤسسات املتعددة األطراف الذي ُأنشئ مببادر ٍة وتوجي ٍه أمرييك‪،‬‬
‫ووفرت بذلك منافع عامة عاملية يف األمن واالستقرار واالنفتاح االقتصادي‪ .‬وكام‬
‫الحظ لوسيان أشوورث (‪ ،)2014: 237–9‬مل تكن الواقعية مهيمنة عىل الفور يف‬
‫حقل العالقات الدولية األمرييك بعد العام ‪ ،1945‬لكنها كانت تعد لبنة أساسية‬
‫من لبناته خالل أواخر األربعينيات والخمسينيات (أي بداية الحرب الباردة)‪ .‬فلم‬
‫يكن هناك أي «انتصار» واضح للواقعيني يف «النقاش الكبري» املفرتض خالل سنوات‬
‫ما بني الحربني‪ .‬وإذا كان مثة يشء يذكر‪ ،‬فهو أن تفكري حقل العالقات الدولية‬
‫يف أثناء الحرب العاملية الثانية وبعدها مبارشة‪ ،‬وخاصة يف الواليات املتحدة‪ ،‬كان‬
‫محضا‪ ،‬مبعنى أنه كان يتطلع مرة أخرى إىل املؤسسات الدولية لتعزيز‬ ‫تفكريا مثال ًيا ً‬
‫السالم‪ .‬وكام يجادل مايكل ويليامز (‪ ،)2013‬فإن العديد من الشخصيات الرئيسة يف‬
‫الواقعية األمريكية‪ ،‬مثل هانز مورغنثاو؛ ورينهولد نيبوهر ‪Reinhold Niebuhr‬؛‬
‫(٭) تحدت أبحاث السالم يف أوروبا الدراسات اإلسرتاتيجية عىل أسس معيارية‪ ،‬ولكنها‪ ،‬وعىل وجه الخصوص يف‬
‫منوذجا للمنهجية الكمية والوضعانية التي‬
‫ً‬ ‫الدول اإلسكندنافية (انظر مجلة أبحاث السالم)‪ ،‬غال ًبا ما شكلت ً‬
‫أيضا‬
‫كانت شائعة يف الواليات املتحدة ولكنها رفضت إىل حد كبري يف بقية حقل العالقات الدولية األورويب‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ووالرت ليبامن؛ وجون هريز كانوا يف الواقع يحاولون تجاوز إشكالية الواقعية أو‬
‫الطوباوية التي دشنها إدوارد كار‪ ،‬وذلك من خالل تطوير رؤية وسطية (‪see also‬‬
‫‪ .)Hacke and Puglierin, 2007‬لقد أرادوا إنقاذ الليربالية من الطوباوية‪ ،‬وإنقاذ‬
‫الواقعية من القيود املنهجية لعلم السياسة األمرييك‪ ،‬والتي اعتقدوا أنها منهجية ال‬
‫تستطيع بالرضورة التعامل مع الدراسة املعيارية للسياسة‪.‬‬
‫لكن املحدودية الواضحة لألمم املتحدة يف الحفاظ عىل السالم‪ ،‬جن ًبا إىل جنب‬
‫مع اندالع جوانب قواعد اللعب الالحقة وتصعيدها التي أنتجتها القطبية الثنائية‬
‫خالل الحرب الباردة واملتمثلة يف الردع وإدارة األزمات (خصوصا بعد أزمة الصواريخ‬
‫طابع أكرث مادية‪ ،‬كام غ َّذت الح ًقا صعود‬‫الكوبية)‪ ،‬غ َّذت نوعًا من الواقعية ذات ٍ‬
‫الواقعية الجديدة‪ .‬إن بروز الواقعية خالل الحرب الباردة مل يشكل بالطبع أمرا مح ًريا‪.‬‬
‫ً‬
‫فبداًل من املؤسسات املتعددة األطراف والنظام الليربايل‪ ،‬كان املوضوع األسايس للعالقات‬
‫الدولية منذ أواخر األربعينيات يتمحور حول القطبية الثنائية والتنافس بني القوتني‬
‫العظميني‪ .‬لقد بدت الحرب الباردة كأنها تربر االفرتاضات األساسية للواقعية القائلة إن‬
‫الفوىض‪ ،‬أو غياب أي شكل أعىل من السلطة فوق الدولة‪ ،‬هو السمة األساسية للنظام‬
‫الدويل؛ وأن العالقات الدولية هي لعبة ذات محصل صفري تؤدي فيها املؤسسات‬
‫وبداًل من ذلك‪ ،‬فإن مفتاح النظام الدويل هو الحفاظ عىل‬ ‫الدولية دو ًرا هامش ًّيا‪ً .‬‬
‫توازن القوى‪ ،‬مع تحديد القوة عىل نحو أسايس من الناحية االقتصادية والعسكرية‪.‬‬
‫ويف الطبعة الثانية من كتاب «السياسة بني األمم» ‪ Politics Among Nations‬الذي‬
‫قساًم عن «املبادئ الستة للواقعية السياسية»‬ ‫ُنرش يف العام ‪ ،1954‬أضاف مورغنثاو ً‬
‫التي ُينظر إليها باعتبارها بيانا واضحا عن السياسة الواقعية(٭)‪ .‬ومهام كانت نياته يف‬
‫سياق الحرب الباردة‪ُ ،‬قرئ هذا العمل أساسا عىل أنه بصدد تقديم حجة لدعم مقاربة‬
‫سياسة القوة يف مامرسة العالقات الدولية وكذا يف حقلها املعريف‪.‬‬

‫(٭) املبدأ الرابع عىل نح ٍو خاص‪« :‬تؤكد الواقعية أنه يجب فلرتة املبادئ األخالقية العاملية من خالل الظروف‬
‫امللموسة للزمان واملكان‪ ،‬ألنه ال ميكن تطبيقها عىل ترصفات الدول يف صياغتها العاملية املجردة»‪ .‬واملبدأ الخامس‪:‬‬
‫«ترفض الواقعية السياسية تحديد التطلعات األخالقية ألمة معينة من خالل القوانني األخالقية التي تحكم الكون»‪.‬‬
‫هذه االقتباسات مأخوذة من الطبعة الرابعة لكتاب )‪ Morgenthau، (1967: 9-10‬وقد ورد ذكر إضافة فصل‬
‫بعنوان «نظرية واقعية للسياسة الدولية» يف مقدمة الطبعة الثانية للعام ‪ ،1954‬والتي ُأعيد نرشها ً‬
‫أيضا يف كتاب‬
‫‪ ،Morgenthau 1967‬الفصل الثاين عرش‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫ويف حني أن الواقعية الكالسيكية ملورغنثاو كان لها تأثري كبري‪ ،‬فإنها مل تكن‬
‫النظرية السائدة للحرب الباردة أو للقطبية الثنائية‪ ،‬بل املوضوعات الرئيسة لحقل‬
‫العالقات الدولية األمرييك‪ ،‬التي جاءت مع ظهور الواقعية الجديدة‪ .‬حيث شددت‬
‫هذه النسخة من الواقعية‪ ،‬التي ابتكرها كينيث والتز يف السبعينيات‪ ،‬عىل أهمية‬
‫أيضا باسم‬ ‫الخصائص الهيكلية للنظام الدويل‪ ،‬وخاصة توزيع القوة (املعروف ً‬
‫القطبية)‪ ،‬كعامل محدد رئيس للنزاع وشكل النظام‪ .‬لقد قللت الواقعية الجديدة‬
‫من أهمية تأثري حالة الطبيعة البرشية (التي أكد عليها الواقعيون الكالسيكيون)‬
‫وتأثري السياسات املحلية واإلقليمية يف العالقات الدولية‪ .‬ونظ ًرا إىل أن مفهوم بنية‬
‫النظام يشري إىل توزيع القدرات بني الوحدات‪ ،‬فإن تلك الوحدات التي احتلت‬
‫الدرجات العليا يف مصفوفة القوة هي فقط التي ميكنها التأثري يف بنية النظام‬
‫الدويل‪ ،‬وذلك بنا ًء عىل سلوكها النزاعي أو التعاوين‪ .‬لقد وضع التبسيط املادي‬
‫وهمش كل‬ ‫املتطرف للقطبية القوتني العظميني يف مركز نظرية العالقات الدولية َّ‬
‫أيضا يشتمل‬ ‫القوى األخرى‪ .‬ومل يقترص األمر عىل دول العامل الثالث فقط‪ ،‬بل أصبح ً‬
‫عىل أوروبا واليابان‪ ،‬وقد أصبحت تلك الدول ببساطة متثل ساحة معركة خاضت‬
‫فيها القوتان العظميان لعبة القوة واأليديولوجيا ذات املحصل الصفري‪ .‬كان مثة‬
‫نقاشات كبرية مطروحة بشأن نظرية القطبية واالستقرار النسبي من عدمه‪ ،‬وأيضا‬
‫بشأن النظام ثنايئ القطب يف مقابل النظام متعدد األقطاب‪ ،‬ولكنها مل تكن نقاشات‬
‫حاسمة ; ‪(Deutsch and Singer, 1969; Rosecrance, 1969; Gilpin, 1981‬‬
‫واضحا للغاية هو أن الواقعية الجديدة‬
‫)‪ .Levy, 1989; Gaddis, 1992/ 93‬ما كان ً‬
‫همشت املعضالت األمنية والديناميات املحلية للعامل الثالث‪ ،‬مام جعلها‬ ‫ومناقشاتها َّ‬
‫ُينظر إليها باعتبارها أداة للتنافس بني القوتني العظميني‪ .‬لقد جاءت األدلة التاريخية‬
‫املستخدمة لدعم حجج كال الجانبني من تطور نظام الدول األورويب‪ .‬وقد تجاهلت‬
‫هذه التعميامت عىل مستوى النظام عواقب إنهاء االستعامر وظهور العامل الثالث‬
‫ودورهام يف الحفاظ عىل النظام الدويل‪ .‬الواقع‪ ،‬أنه من خالل تجاهل العالقة القامئة‬
‫بني الشامل والجنوب كعامل يف النسق النظامي‪ ،‬حافظت الواقعية الجديدة عىل‬
‫استبعاد األطراف من اهتاممات حقل العالقات الدولية السائد‪ ،‬حيث كان االستبعاد‬
‫ُي َعد سمة من سامت الحقل منذ القرن التاسع عرش‪ .‬ففي املوقف النظري لكنيث‬
‫‪243‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫والتز‪ ،‬مل يكن معدل حدوث نزاعات الحرب الباردة يف العامل الثالث يتحدى االستقرار‬
‫األسايس لألنظمة الدولية ثنائية القطب ما دام التوازن األسايس ومركزه اإلسرتاتيجي‬
‫األورويب خاليني من الحروب‪ .‬وقد سعى عدد قليل من الباحثني إىل إعادة تأكيد‬
‫أهمية املستوى اإلقليمي‪ ،‬واستقالليته عن املستوى العاملي ثنايئ القطب ‪(Buzan,‬‬
‫)‪ ،1983; Ayoob, 1986‬لكن التبسيط الكبري للواقعية الجديدة اجتاح عمو ًما كل‬
‫يشء قبل أن يظهر التأكيد عىل أهمية املستوى اإلقليمي‪.‬‬

‫‪ - 2 - 4‬الدراسات اإلسرتاتيجية وأبحاث السالم‬


‫ليس من املفاجئ أن تؤدي هيمنة منظور تنافس القوى العظمى ثنائية‬
‫القطب عىل العامل إىل تعظيم املخاوف بشأن التسلح وحرب القوى الكربى التي‬
‫م َّيزت العالقات الدولية خالل فرتة ما بني الحربني‪ ،‬خصوصا عندما اقرتنت تلك‬
‫الهيمنة بظهور األسلحة النووية‪ .‬لقد كانت املخاوف املتعلقة بإمكانية نشوب‬
‫أيضا سنوات ما بني الحربني‪ ،‬ولكن مع وجود‬ ‫«حرب مقبلة ُم َر ِّوعَة» تطبع ً‬
‫األسلحة النووية‪ ،‬أصبح الخوف من أن نشوب حرب قادمة‪ ،‬لن تدمر الحضارة‬
‫فقط بل رمبا قد متحو الجنس البرشي‪ ،‬ميثل أم ًرا حقيق ًيا للغاية‪ .‬لقد استجاب‬
‫الجانب الواقعي لحقل العالقات الدولية لهذا األمر بطريقة عملية من خالل‬
‫محاولة العمل عىل نحو عقالين عىل كيفية دمج األسلحة النووية يف إسرتاتيجية‬
‫القوى العظمى مع العمل عىل التقليل من مخاطر الحرب النووية الكربى‪ .‬وقد‬
‫يتجسد يف نظرية الردع‪ ،‬مام أدى إىل ظهور حقل فرعي‬ ‫كان جوهر هذا الطرح َّ‬
‫الكتَّاب الكالسيكيني‬‫جديد من الدراسات اإلسرتاتيجية‪ .‬وعىل الرغم من أن ُ‬
‫بشأن اإلسرتاتيجية مثل كارل فون كالوزفيتز ‪ Carl von Clausewitz‬ظلوا ُكتا ًبا‬
‫مؤثرين‪ ،‬فإن أحد األشياء املدهشة بشأن الدراسات اإلسرتاتيجية هو أنها كانت‬
‫تتم عىل نحو أسايس من قبل املدنيني(٭)‪ .‬لقد كانت الحرب النووية مختلفة متا ًما‬
‫عن أي يشء سبق ذلك التقليد العسكري‪ ،‬متجاوز ًة بذلك الخربات العسكرية‬

‫(٭) مل يكن املفكرون االسرتاتيجيون املدنيون مجهولني يف فرتات سابقة‪ ،‬وال سيام أنجيل (‪ )Angell 1909‬وبلوخ‬
‫(‪[ .)Bloch 1898‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫السابقة التي َقدمت قليال من الحكمة أو اإلرشاد‪ .‬طوال فرتة الحرب الباردة‬
‫كان عىل التفكري املتعلق بنظرية الردع مواكبة التطورات الرسيعة والقاسية‬
‫الحاصلة عىل مستوى تكنولوجيا األسلحة النووية وأنظمة إيصالها‪ .‬لقد عارضت‬
‫أبحاث السالم عىل نطاق واسع الدراسات اإلسرتاتيجية‪ ،‬إذ استندت يف مجملها‬
‫إىل وجهة النظر القائلة إن األسلحة النووية تشكل خط ًرا غري مقبول عىل بقاء‬
‫اإلنسان‪ ،‬ومن ثم يجب التخلص منها‪ .‬ويف حني أن الدراسات اإلسرتاتيجية كانت‬
‫تعمل عىل نحو أسايس عىل إثراء وتحسني السياسات الدفاعية التي تتضمن‬
‫ارتباطا بالحركات الشعبية النشطة‬ ‫ً‬ ‫األسلحة النووية‪ ،‬كانت أبحاث السالم أكرث‬
‫التي أرادت التخلص من األسلحة النووية‪ .‬فبالنسبة إىل معظم باحثي السالم‬
‫شكلت األسلحة النووية يف حد ذاتها تهديدًا أكرث من التهديد الذي قد تشكله‬ ‫َّ‬
‫القوة العظمى املعادية‪ .‬لقد كانت الدراسات اإلسرتاتيجية هي املهيمنة يف الدول‬
‫التي متتلك أسلحة نووية (الواليات املتحدة وبقية دول العامل الناطق باللغة‬
‫اإلنجليزية وفرنسا [بطريقتها الخاصة طبعا])‪ ،‬بينام هيمنت أبحاث السالم يف‬
‫شكلت عىل نحو أكرب الخطوط األمامية ألي حرب نووية‬ ‫تلك البلدان التي َّ‬
‫قد تنشب بني القوتني العظميني (الدول اإلسكندنافية وأملانيا واليابان)(٭)‪ .‬أما‬
‫عنرصا مهاًّمًّ يف‬
‫ً‬ ‫يف اليابان‪ ،‬ونظ ًرا إىل نبذها الدستوري للحرب‪ ،‬كانت املساملة‬
‫أيضا بفكرة األمن الشامل‬ ‫دراسات حقل العالقات الدولية الياباين‪ ،‬حيث ُربطت ً‬
‫(األمن اإلنساين الح ًقا)‪ .‬غري أن هذه األفكار مل تتحد إلنتاج مقاربة يابانية مميزة‬
‫لدراسة العالقات الدولية‪.‬‬
‫كانت نظرية الردع شبه مهووسة بالرشق والغرب يف اهتامماتها‪ ،‬لكن كان مثة‬
‫استثناءان أقحامها يف عالقات الشامل والجنوب‪َ .‬مَتثل االستثناء األول يف الخوف من‬
‫أن النزاعات القامئة يف العامل الثالث قد تجتذب القوتني العظميني إىل مستنقعها‪،‬‬
‫ومن ثم قد تؤدي إىل تصعيد يقود إىل نشوب حرب نووية عاملية‪ ،‬وكان هذا األمر‬
‫يتعلق عىل نحو خاص بالرشق األوسط‪ ،‬وقد كان ذلك جز ًءا من الطبيعة العامة‬
‫لحقل العالقات الدولية داخل املركز الذي كان ينظر إىل األطراف باعتبارها ساحة‬
‫(٭) ميكن العثور عىل الباحثني يف قضايا السالم واإلسرتاتيجيني عىل طريف النقيض من هذا االنقسام‪ .‬وللحصول عىل‬
‫نظرة شاملة بشأن هذه األدبيات وتطورها‪ ،‬انظر‪[ .)Buzan and Hansen 2009( :‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫للتنافس بني القوتني العظميني(٭)‪ .‬كان االستثناء اآلخر يتمثل يف االنتشار النووي‬
‫ورغبة كلتا القوتني العظميني يف إبقاء النادي النووي صغ ًريا قدر اإلمكان‪ .‬فقد كانت‬
‫سياسة منع انتشار األسلحة النووية هذه تستهدف جزئ ًيا دول املركز ذات القدرة‬
‫النووية (عىل نحو أسايس أملانيا واليابان والسويد وسويرسا)‪ ،‬ولكنها كانت تستهدف‬
‫عىل نحو أسايس دول العامل الثالث‪ .‬وقد خدمت سياسة منع انتشار األسلحة النووية‬
‫نوعا ما وضع القوتني العظميني اللتني كانتا يف حاجة إىل متييز نفسيهام كنا ٍد خاص‬
‫يتموضع فوق البقية‪ ،‬وإلضفاء مصداقية عىل تلك السياسة كانوا يدَّعون أن انتشار‬
‫األسلحة النووية سيزيد من فرص استخدامها‪ .‬إن كرثة الدول التي متتلك أسلحة نووية‬
‫أيضا عنرص تحيز يف‬ ‫يعني وجود احتاملية أكرب لنشوب حرب نووية‪ .‬ولكن كان مثة ً‬
‫الدعم األسايس لسياسة عدم انتشار األسلحة النووية‪ .‬حيث كان العنرص األسايس يف‬
‫نظرية الردع رشطا ألن يفكر أولئك الذين يسيطرون عىل األسلحة النووية بعقالنية‬
‫يف إمكانية استخدامها من عدم استخدامها‪ ،‬وكان مثة بالتأكيد اتجاه يف التفكري‬
‫وراء منع االنتشار قائم عىل افرتاض أن عديدا من دول العامل الثالث مل تتمتع بعد‬
‫بجودة القيادة أو الحكم لتلبية هذا املعيار (أي معيار العقالنية)‪ .‬ومل ُيت َ َّ‬
‫َنَب هذا الرأي‬
‫من قبل عديد من اإلسرتاتيجيني النوويني الغربيني فقط‪ ،‬ولكن كام تؤكد الدراسة‬
‫اإلثنوغرافية التي أجراها هيو جوسرتسون )‪ Hugh Gusterson’s (1999‬ملخترب‬
‫لورانس ليفرمور‪ ،‬قد جرى تبني ذلك الرأي من طرف عديد من العلامء النوويني‬
‫أيضا‪ .‬وقد وصف اإلسرتاتيجي الهندي سوبراهامنيام‬ ‫ومصممي األسلحة األمريكيني ً‬
‫)‪ Subrahmanyam (1993‬هذا التوجه بأنه «عنرصي»‪.‬‬
‫مثة رابط آخر بني الشامل والجنوب يف هذه األدبيات متحور حول الحروب‬
‫التي خاضها الشامل يف الجنوب‪ ،‬وتدخالت دول املركز يف الجنوب عىل نحو عام‪.‬‬
‫فقد كانت معظم هذه األدبيات مفيدة‪ ،‬وكانت تتأىت من منظور الشامل يف سياق‬
‫(٭) لقد استُبعد العامل الثالث حتى يف هذا السياق‪ .‬واستخدم مرشوع «متالزمات الحرب» يف جامعة ميشيغان‪،‬‬
‫بقيادة ‪ ،Singer and Small‬كمعايري لتعريف الحرب التي استبعدت الحروب اإلمربيالية واالستعامرية‪ .‬ونتيجة‬
‫لذلك‪ ،‬كام يالحظ فاسكيز‪ ،‬ويف حني أن مجموعة بيانات املرشوع التي أعدت للحروب بني الدول من العام ‪ 1816‬إىل‬
‫ذلك الوقت (‪ - )1972‬والتي تشمل «الدول القومية» ‪ -‬كانت بيانات نهائية‪ ،‬فإن البيانات الخاصة بالحروب «غري‬
‫النظامية»‪ ،‬أي الحروب االستعامرية‪ ،‬ظلت «غري مكتملة عىل نح ٍو يرىث له بالنسبة إىل الكيانات غري الوطنية‪ ...‬التي‬
‫عادة ما مثلوا ضحايا خالل هذه الفرتة التاريخية» (‪[ .)Vasquez, 1993: 27‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫تنافس القوتني العظميني يف العامل الثالث‪ .‬كام كانت تتمحور حول حرب العصابات‬
‫وكيفية مواجهتها‪ ،‬وحول مخاطر التصعيد عندما كانت القوتان العظميان تدعامن‬
‫األطراف املتعارضة‪ ،‬وكانت تدور أيضا حول الحرب املحدودة‪ ،‬مع كل قيودها عىل‬
‫األسلحة والتكتيكات عىل عكس أسلوب الحروب األكرث شمولية وغري املقيد الذي‬
‫عرفته الحرب العاملية الثانية‪ .‬ويف هذا السياق ش َّكلت األطراف إىل حد كبري موضوعًا‬
‫يف الرصاع املهيمن القائم بني القوتني العظميني‪.‬‬

‫‪ - 2 - 5‬الليربالية‬
‫مع بداية الحرب الباردة كان مجال حقل العالقات الدولية الليربايل الذي يركز‬
‫عىل املنظامت الحكومية الدولية العاملية مقيدًا بشدة؛ لذلك رمبا ال يكون مفاجئًا‬
‫أن قد ًرا كب ًريا من النظرية الليربالية بعد الحرب ر َّكز عىل التكامل اإلقليمي (‪Nye,‬‬
‫‪ .)1988: 239‬لقد ُقدِّمت النقطة املرجعية األكرث أهمية لهذه النظرية من طرف‬
‫نجاحا للتكامل اإلقليمي‬ ‫املجموعة االقتصادية األوروبية‪ ،‬والتي كانت املثال األكرث ً‬
‫واملجتمع األمني الذي ظهر يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية‪ .‬وقد اشتملت‬
‫األمثلة األخرى عىل كندا والواليات املتحدة‪ ،‬وأوروبا وأمريكا الشاملية‪ ،‬والواليات‬
‫املتحدة واليابان‪ .‬يف املقابل‪ ،‬كانت مثل هذه التجمعات غري موجودة فعل ًّيا يف العامل‬
‫الثالث‪ ،‬باستثناء محدود اشتمل عىل رابطة أمم جنوب رشق آسيا ‪ ASEAN‬والجزء‬
‫الجنويب ألمريكا الالتينية‪.‬‬
‫كانت نظرية التكامل اإلقليمي تشكل جزئ ًيا عبو ًرا من فرتة ما بني الحربني‬
‫إىل فرتة ما بعد العام ‪َ 1945‬ت َج َّسد يف شكل النظرية الوظيفية ‪Functionalism‬‬
‫لديفيد ميرتاين )‪ .David Mitrany (L. Ashworth, 2014: 221–5‬وقد‬
‫متحورت األدبيات الواسعة املتعلقة بنظرية التكامل اإلقليمي ‪(E. Haas, 1964,‬‬
‫‪1973; Hansen, 1969; Lindberg and Scheingold, 1971; Puchala,‬‬
‫)‪ 1984; Mace, 1986‬إىل حد كبري حول املدرسة املؤثرة للوظيفية الجديدة‬
‫‪ Neofunctionalism‬بقيادة إرنست هاس ‪ ،Ernst Haas‬ومتحورت إىل حد أقل‪،‬‬
‫حول النزعة عرب الوطنية (االتصالية)‪ ،‬التي كان ُم َؤيدُ هَ ا الفكري الرئيس كارل‬
‫دويتش )‪ .Karl Deutsch (Puchala, 1984: 186‬ولكن كان مثة «اتفاق ضئيل»‬
‫‪247‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بشأن كيفية تعريف املتغري التابع (التكامل)‪ ،‬أو بشأن ما إذا كان ُي َعد «عملي ًة أو‬
‫رشطا» (‪.)Hodges, 1978: 237‬‬‫ً‬
‫ففي حني افرتضت كال املقاربتني تخفي ًفا تدريج ًيا لسيادة الدولة‪ ،‬فإن املقاربة‬
‫الوظيفية الجديدة ‪ُ Neofunctionalist‬ت َص ِّو ُر أن التبادالت والتعاون بني الدول‬
‫تبدأ بقضايا «السياسة الدنيا» أو تلك القضايا ذات الحساسية السياسية األقل (مثل‬
‫التجارة وإدارة املوارد)‪ ،‬والتي ميكن أن يكون لها تأث ُري «االمتداد‪ /‬االنتشار»‪ ،‬مام‬
‫يؤدي إىل تعاونٍ سيايس وأمني أكرب وأكرث اتساعًا‪ .‬وقد ركزت املقاربة عرب الوطنية‬
‫(االتصالية) عىل زيادة االتصاالت االجتامعية التي تؤدي إىل قيام «الجامعة األمنية»‪،‬‬
‫حيث تتميز العالقات داخلها بـ «غياب الحرب أو وجود استعدادات ُمن ََّظ َمة مهمة‬
‫بني أعضائها ملجابهة الحرب أو العنف عىل نطاق واسع» (;‪Deutsch, 1961: 99‬‬
‫‪ .)see also Yalem, 1979: 217‬ميكن أن يجري «دمج» الجامعات األمنية من خالل‬
‫الدمج السيايس الرسمي للوحدات املشاركة‪ ،‬أو من خالل الحفاظ عىل «التعددية»‪،‬‬
‫بحيث يظل األعضاء يف هذه الحالة مستقلني رسم ًيا‪ .‬وبينام تجاهلت املقاربة عرب‬
‫الوطنية (االتصالية) دور املؤسسات يف مسار التوحيد السيايس‪ ،‬فإن املؤسسات‬
‫ستكون ذات أهمية مركزية بالنسبة إىل الوظيفيني الجدد ‪.Neofunctionalists‬‬
‫عىل الرغم من أن بعض التجمعات دون اإلقليمية يف العامل الثالث؛ مثل جامعة‬
‫رشق أفريقيا والسوق املشرتكة ألمريكا الوسطى‪ ،‬سعت يف البداية إىل محاكاة‬
‫الجامعة االقتصادية األوروبية‪ ،‬فإن جهودها باءت بالفشل‪ .‬ويف حني أن الوظيفيني‬
‫الجدد ‪ Neofunctionalists‬تصوروا «امتدادًا‪ /‬انتشا ًرا» من التكامل االقتصادي‬
‫إىل التعاون السيايس واألمني‪ ،‬فقد تبني أن تجربة العامل الثالث كانت معكوسة‬
‫متا ًما؛ إذ كان التفاهم والتعاون السياسيان يشكالن رشطا أساسيا للتكامل االقتصادي‬
‫(‪ .)Axline, 1977: 103‬وعىل نحو عام أثبت التكامل االقتصادي اإلقليمي يف العامل‬
‫غموضا من حيث الهدف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الثالث أنه «بدايئ أكرث مام هو عليه يف أوروبا‪ ،‬وأكرث‬
‫وغري واضح من حيث املحتوى» (‪ ،)Gordon, 1961: 245‬مام أثار تساؤالت بشأن‬
‫إمكانية تطبيق نظريات التكامل اإلقليمي يف العامل الثالث ‪(Duffy and Feld,‬‬
‫)‪ُ .1980: 497‬ي ِقر إرنست هاس (‪ )1973: 117‬أن «تطبيق [منوذجه الوظيفي‬
‫الجديد] ‪ Neofunctionalist model‬عىل العامل الثالث‪ ...‬كان كاف ًيا فقط للتنبؤ‬
‫‪248‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫بدقة بصعوبات وإخفاقات التكامل اإلقليمي‪ ،‬بينام مت َّكن منوذجه يف الحالة األوروبية‬
‫من تحقيق بعض التنبؤات اإليجابية الناجحة»‪.‬‬
‫من خالل بحثه املكثف بشأن التكامل اإلقليمي يف أمريكا الالتينية وأفريقيا‪،‬‬
‫َخ ُل َص جوزيف ناي ‪ Joseph Nye‬إىل أن أسباب فشل التكامل يف العامل الثالث لها‬
‫عالقة كبرية بالظروف املحلية‪ :‬القيادة األبوية؛ واملؤسسات السياسية والبريوقراطية‬
‫الضعيفة التي تكون عُ رضة لالستيالء العسكري؛ والتفاوت االقتصادي؛ وغياب‬
‫مجموعات املصالح املنظمة؛ والفجوات الثقافية بني املناطق الحرضية والريفية؛‬
‫كاف (‪ .)Nye, 1968: 381–2‬ولكن رمبا‬ ‫ونقص القوى العاملة ا ُملدَربة عىل نحو ٍ‬
‫كان السبب الحقيقي وراء عدم انطالق التكامل اإلقليمي يف العامل الثالث؛ عىل‬
‫غرار املجموعة االقتصادية األوروبية‪ ،‬هو التفضيل املعياري لقادة ما بعد االستعامر‬
‫الرامي إىل اإلبقاء عىل السيادة غري منقوصة‪ .‬ففي حني سعت النزعة اإلقليمية يف‬
‫أوروبا الغربية إىل نقل السياسة الدولية اإلقليمية إىل ما وراء الدولة القومية‪،‬‬
‫سعى أنصار اإلقليمية من غري الغربيني ‪ -‬بعد قرون من الحكم االستعامري ‪-‬‬
‫إىل إنشاء وتوحيد الدول القومية مهام كان تصورها مصطنعا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬وعىل‬
‫عكس املجموعة االقتصادية األوروبية‪ُ ،‬و ِّظ َفت منظمة الوحدة األفريقية والجامعة‬
‫بداًل من كونها أداة للتكامل اإلقليمي»‬ ‫العربية باعتبارها «أداة لالستقالل الوطني ً‬
‫(‪ ،)Miller, 1973: 58‬وتبنت صيغة موسعة من مبدأ عدم التدخل‪.‬‬
‫منذ منتصف السبعينيات من القرن املايض كان مثة تحول واضح يف تركيز نظرية‬
‫العالقات الدولية الليربالية نحو الليربالية الجديدة ﺍﻤﻟﺅﺴﺴﺎﺘﻴﺔ واالعتامد املتبادل‪.‬‬
‫لقد اعرتف إرنست هاس (‪ )1975 :6‬بأن التكامل اإلقليمي أصبح نظرية «بالية»‬
‫يف مواجهة الروابط االقتصادية اآلخذة يف االتساع والتي أصبحت عاملية من حيث‬
‫النطاق والتأثري‪ .‬وابتدا ًء من سبعينيات القرن املايض عندما أزاح خطاب االعتامد‬
‫املتبادل مفهوم التكامل اإلقليمي‪َ ،‬تحدت الليربالية الجديدة ﺍﻤﻟﺅﺴﺴﺎﺘﻴﺔ وفرعها‬
‫املعروف (نظرية النظم) الهيمنة التقليدية للنموذج الواقعي‪ /‬الواقعي الجديد‪.‬‬
‫وعىل عكس الليربالية الكالسيكية‪ ،‬التي اتخذت وجهة نظر حميدة عن حالة الطبيعة‬
‫البرشية‪ ،‬تقبلت الليربالية الجديدة ﺍﻤﻟﺅﺴﺴﺎﺘﻴﺔ الفرضية الواقعية القائلة إن النظام‬
‫الدويل فوضوي‪ ،‬وإن الدول هي الفواعل األساسية؛ إن مل تكن الفواعل الوحيدة‪ ،‬يف‬
‫‪249‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫العالقات الدولية‪ .‬لكنها ال تتفق مع رفض الواقعية الجديدة للمؤسسات الدولية‪.‬‬


‫إذ يؤكد الليرباليون الجدد أن املؤسسات الدولية املحددة عىل نطاق واسع ‪ -‬مبا يف‬
‫ذلك األنظمة واملنظامت الرسمية ‪ -‬ميكنها تنظيم سلوك الدولة وتعزيز التعاون عن‬
‫طريق خفض تكاليف املعامالت؛ وتسهيل تبادل املعلومات؛ ومنع الغش؛ وتوفري‬
‫سبل الحل السلمي للنزاعات (‪.)Keohane, 1984: 15; 1989: 10‬‬
‫لقد تحدَّت الليربالية الجديدة املؤسساتية نظرية استقرار الهيمنة ‪Hegemonic‬‬
‫‪ ،Stability Theory‬وهي النظرية التي تطورت بفضل أعامل تشارلز كيندلبريجر‬
‫)‪Charles Kindleberger (1973‬؛ مع مزيد من املساهامت والتعديالت التي‬
‫ُأدخلت عليها من قبل ستيفن كراسرن )‪Stephen Krasner (1976‬؛ وروبرت غيلبني‬
‫)‪Robert Gilpin (1987‬؛ وروبرت كيوهان )‪ Robert Keohane (1984‬نفسه‪،‬‬
‫حيث أدت هذه النظرية إىل ظهور املجال الفرعي لالقتصاد السيايس الدويل‪ .‬تعتمد‬
‫نظرية استقرار الهيمنة عىل الدور العاملي لربيطانيا قبل الحرب العاملية األوىل‪،‬‬
‫ودور الواليات املتحدة بعد العام ‪ 1945‬يف دعم التجارة الحرة واألمن (البحرية‬
‫عىل نحو خاص) كمنافع عامة دولية‪ .‬ببساطة‪ ،‬ترى نظرية استقرار الهيمنة أن هذا‬
‫النظام والتعاون يتطلبان مبادرة من قوة ُم َت َفوقة أو قوة ُم َه ْي ِمنَة‪ .‬اثنتان من هذه‬
‫الجهات الفاعلة يف التاريخ الحديث للعامل هام بريطانيا العظمى يف القرن التاسع‬
‫عرش‪ ،‬والواليات املتحدة بعد الحرب العاملية الثانية (‪.)Grunberg, 1990: 431‬‬
‫إن مثل هذه القوى باستطاعتها خلق مؤسسات وأنظمة اقتصادية أو أمنية لخدمة‬
‫أيضا فوائد أو منافع عامة دولية لآلخرين‪ .‬يعتمد الحفاظ‬ ‫مصالحها‪ ،‬ولكنها تقدم ً‬
‫عىل هذا النظام عىل القوة املادية املتفوقة (االقتصادية والعسكرية) وأيضا عىل‬
‫فضاًل عىل قدرتها عىل تشكيل توافق أيديولوجي وفرض‬ ‫الهيمنة والقدرة القرسية‪ً ،‬‬
‫القبول‪ .‬حيث تسعى قواعد ا ُمل َه ْي ِمن إىل تثبيط الخداع وتشجيع اآلخرين عىل تقاسم‬
‫تكاليف الحفاظ عىل النظام‪.‬‬
‫بيد أن نظرية استقرار الهيمنة ان ُت ِقدت ليس فقط بسبب قدرتها املحدودة عىل‬
‫أيضا بسبب‬ ‫تفسري النظام والتغيري يف السياسة العاملية (‪ ،)Snidal, 1985‬ولكن ً‬
‫مركزيتها العرقية (‪ .)Grunberg, 1990: 444–8‬وقد كان روبرت كيوهان (‪)1984‬‬
‫يبتعد عن نظرية استقرار الهيمنة بالقول إن املؤسسات الدولية ستستمر حتى بعد‬
‫‪250‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫تراجع الهيمنة األمريكية؛ ألنها استمرت يف تقديم فوائد مثل مشاركة املعلومات‬
‫وخفض تكاليف املعامالت‪ ،‬وألن إنشاء مؤسسات جديدة ُي َعد أكرث صعوبة من‬
‫إصالح املؤسسات القدمية يف عامل «ما بعد الهيمنة»‪ .‬ولكن يف حني ميكن اتهام‬
‫نظريات التكامل اإلقليمي بالنزعة األوروبية‪ ،‬فإن الليربالية الجديدة املؤسساتية هي‬
‫باألحرى تتمحور حول أمريكا‪ .‬وقد اعرتف كيوهان بـ «الطابع األمرييك املميز الذي‬
‫ُو ِضع يف مجال العالقات الدولية»‪ُ ،‬معرت ًفا بكيفية تشكيل ذلك ملساهمته النظرية‪.‬‬
‫كام أقر يف حاشية أحد الفصول «نظرية السياسة العاملية» قائال‪:‬‬
‫«من املحدودية املؤسفة لهذا الفصل أن نطاقه يقترص عىل األعامل املنشورة‬
‫باللغة اإلنجليزية وعىل نحو أسايس يف الواليات املتحدة‪ُ .‬أ ْد ِر ُك أن هذا يعكس‬
‫املركزية األمريكية لألبحاث الدراسية يف الواليات املتحدة‪ ،‬وأنا آسف لذلك‪ .‬لكني‬
‫لست متمكنًا مبا يكفي من األعامل املنشورة يف مكان آخر للتعليق عليها بذكاء»‬
‫(‪.)Keohane, 1989: 67, note 1‬‬
‫تعنَّي عىل النظريات املؤسساتية أن تقوله بشأن دور‬ ‫كان مثة القليل جدا مام َّ‬
‫دول األطراف باعتبارها مساهام يف تطور التعددية واألفكار التي يقوم عليها هذا‬
‫التطور‪ .‬لقد تغاىض التفكري الليربايل عن فاعلية العامل الثالث‪ .‬وميكن قول اليشء‬
‫نفسه عن الفهوم العامة املتعلقة بالتعددية والحوكمة العاملية‪ .‬فعىل سبيل املثال‪،‬‬
‫مل يحت ِو أحد أكرث الكتب تأث ًريا بشأن التعددية (‪ )Ruggie, 1993‬عىل فصل واحد‬
‫يتناول التعددية يف العامل الثالث‪ ،‬حيث يرى التعددية عىل أنها طريقة أمريكية‬
‫مميزة لتنظيم املجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫وعىل الرغم من انتشار أعاملٍ بشأن االعتامد املتبادل واألنظمة خالل‬
‫الثامنينيات‪ ،‬فإنها كانت ُتعنى يف األغلب بالعالقات القامئة بني الدول الغربية‪ .‬وكام‬
‫الحظ روبرت كوكس‪:‬‬
‫«نظرية النظام لديها الكثري لتقوله عن التعاون االقتصادي بني مجموعة السبعة‬
‫(‪ )G-7‬والتجمعات األخرى للبلدان الرأساملية املتقدمة فيام يتعلق باملشكالت‬
‫املشرتكة بينها‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬ليس لديها الكثري لتقوله عن محاوالت تغيري هيكل‬
‫االقتصاد العاملي‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬املطالبة يف العامل الثالث بنظام اقتصادي دويل‬
‫جديد ‪ .New International Economic Order‬الواقع أن األنظمة ُصممت‬
‫‪251‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫لتحقيق االستقرار يف االقتصاد العاملي‪ ،‬حيث إن لها تأثريا‪ ،‬كام أكد كيوهان يف عمله‪،‬‬
‫يف منع الدول وردعها عن الرشوع يف االبتعاد الجذري عن العقيدة االقتصادية؛ عىل‬
‫سبيل املثال من خالل االشرتاكية» (‪.)R. W. Cox, 1992a: 173‬‬
‫مل ُي ِع ْر ُمنظرو الليربالية املؤسساتية اهتام ًما كب ًريا للمؤسسة التعاونية الرئيسة‬
‫يف العامل الثالث خالل فرتة الحرب الباردة؛ وحركة عدم االنحياز(٭)‪ .‬عالوة عىل‬
‫بداًل من أن تنشئ ‪ -‬أن األنظمة خرية وطوعية‬ ‫ذلك فإن هذه النظريات «تفرتض ‪ً -‬‬
‫وتعاونية ورشعية» (‪ ،)Keeley, 1990: 90‬وهو افرتاض مشكوك فيه للغاية عندما‬
‫يتأمل املرء‪ ،‬كام هو مذكور يف الفصل الخامس‪ ،‬الطبيعة اإلقصائية لبعض األنظمة‬
‫والدور القرسي لبعض املؤسسات املتعددة األطراف مثلام تدركه دول العامل الثالث‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن تركيز الليربالية عىل هيمنة الواليات املتحدة وفوائدها يف توفري‬
‫املنافع العامة مثل التجارة الحرة؛ واملؤسسات الدولية؛ واألمن الجامعي‪ ،‬قد وضع‬
‫نظام هَ يمن ٍة ليربايل عاملي َح ِميد‪ ،‬والذي سيصبح بار ًزا بعد نهاية‬
‫األساس لفكرة ِ‬
‫الحرب الباردة (س ُينا َقش ذلك يف الفصل الثامن)‪.‬‬
‫لقد شهدت فرتة الثامنينيات ً‬
‫جداًل بني الواقعية الجديدة والليربالية الجديدة‪.‬‬
‫كاف (‪D. Baldwin, 1993:‬‬ ‫وقد ُل ِّخصت النقاط الرئيسة بشأن خالفهم عىل نحو ٍ‬
‫‪ )4–8; S. Smith, 2000: 381‬بحيث ال يتطلب منا هذا السياق مزيدًا من التفصيل‬
‫فيها‪ .‬عىل نحو عام‪ ،‬وعىل الرغم من اعتقادهم يف دور الفوىض ‪ ،anarchy‬فإن‬
‫الواقعيني الجدد أخذوا القيود التي تفرضها تلك الفوىض عىل سلوك الدولة بجدية‬
‫أكرب‪ ،‬مع تسليط الضوء عىل إمكانية التعاون الدويل وتأثري األنظمة واملؤسسات‬
‫الدولية التي يعرتف بها الليرباليون الجدد عىل أساس املصلحة الذاتية الوطنية‪ .‬عىل‬
‫هذا النحو‪ ،‬شدد الواقعيون الجدد عىل أهمية املخاوف بشأن املكاسب النسبية عىل‬
‫حساب تلك املتعلقة باملكاسب املطلقة‪ .‬وعىل الرغم من أن كليهام أدرك أهمية‬
‫التفاعل بني االقتصاد واألمن‪ ،‬فإن الواقعيني الجدد يولون اهتام ًما ملخاوف األمن‬
‫القومي‪ ،‬بينام كان الليرباليون الجدد يؤكدون عىل الرفاهية االقتصادية‪ .‬بالنسبة إىل‬
‫الواقعيني الجدد‪ ،‬فإن القدرات املادية وتوزيعها سيكون أكرث أهمية من النيات أو‬
‫(٭) لقد شكل ويليتس استثناء (‪[ .)Willetts 1978‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫املصالح أو املعلومات‪ .‬لكن االختالفات يف هذا النقاش كانت تتعلق بدرجة اإلميان‬
‫بالفوىض ‪ anarchy‬والتعاون‪ ،‬اللذين ميكن التوفيق بينهام مع التالعب باملفاهيم‪.‬‬
‫لقد تجلت هذه األرضية املشرتكة فيام يسمى برتكيبة «جديد ‪ -‬جديد» ‪.Neo-Neo‬‬
‫وكام يوضح أويل ويفر (‪ ،)1996: 163‬فإن كليهام «يشرتكان يف برنامج بحث عقالين»‪،‬‬
‫أي مفهوم العلم‪ ،‬كام أن لدى كليهام استعدادا مشرتكا للعمل عىل أساس الفوىض‬
‫‪( anarchy‬كنيث والتز) والتحقيق يف تطور التعاون وما إذا كانت للمؤسسات أي‬
‫أهمية تذكر (روبرت كيوهان)‪.‬‬

‫‪ - 2 - 6‬االقتصاد السيايس الدويل‬


‫من بني أهم التطورات التي شهدها حقل العالقات الدولية خالل السبعينيات‬
‫والثامنينيات من القرن العرشين كان تزايد شعبية االقتصاد السيايس الدويل‪ .‬فعىل‬
‫عكس التوجه الكبري للرشق والغرب نحو الدراسات اإلسرتاتيجية‪ ،‬ظهر االقتصاد‬
‫ٌ‬
‫عالقة‬ ‫السيايس الدويل ب ُب ْع ٍد قوي بني عالقات الشامل والجنوب‪ .‬وقد كان لذلك‬
‫جزئية بصالته باملاركسية ونظرية التبعية‪ .‬وبطريقة أكرث عملية‪ ،‬كان األمر يتعلق‬ ‫ٌ‬
‫أيضا بأصول االقتصاد السيايس الدويل خالل أزمة النفط يف السبعينيات‪ ،‬حيث‬ ‫ً‬
‫كشفت سياسة املقاطعات التي انتهجها أعضاء العامل الثالث يف أوبك عن الضعف‬
‫االقتصادي للواليات املتحدة والغرب‪ ،‬مام أثار املخاوف بشأن األمن االقتصادي‬
‫واالعتامد املتبادل‪ .‬ويف الواليات املتحدة واململكة املتحدة‪ ،‬حيث تطور هذا املجال‬
‫الفرعي عىل نحو مستقل نسب ًيا‪ ،‬أعطى كل من روبرت جيلبني ‪Robert Gilpin‬‬
‫)‪ (1987‬وسوزان سرتانج (‪ )1988‬مكان ًة معقول ًة للعامل الثالث‪ ،‬بل قد يكون االقتصاد‬
‫السيايس الدويل هو أكرث يشء أثار انتباه العامل الثالث تجاه مقاربات املركز يف حقل‬
‫العالقات الدولية‪.‬‬
‫لقد أسهم بعض منظري أطروحة االعتامد املتبادل‪ ،‬وخاصة جوزيف ناي وروبرت‬
‫كيوهان‪ ،‬يف ظهور االقتصاد السيايس الدويل داخل الواليات املتحدة‪ .‬لكن االقتصاد‬
‫أيضا تدخالت كبرية من قبل باحثني واقعيني مثل كرانرس‬ ‫السيايس الدويل شهد ً‬
‫وجيلبني‪ .‬ففي كتابه للعام ‪ 1975‬ع َّرف جيلبني االقتصاد السيايس الدويل بأنه «التفاعل‬
‫املتبادل والدينامييك‪ ...‬للسعي وراء الرثوة ووراء القوة» (‪.)Gilpin, 1975: 43‬‬
‫‪253‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وسيواصل جيلبني كتابة أحد النصوص األكرث توظي ًفا يف االقتصاد السيايس (‪Gilpin,‬‬
‫‪ .)1987‬حيث ظل تصنيف جيلبني لنظريات االقتصاد السيايس الدويل إىل قومية؛‬
‫وليربالية؛ وماركسية‪ ،‬تصني ًفا مؤث ًرا‪ :‬وكانت مقاربة جيلبني الخاصة‪ ،‬كام سيصوغ ذلك‬
‫الح ًقا‪ ،‬تتمثل يف الواقعية املتمركزة حول الدولة (‪ .)Gilpin, 2001‬بيد أنه ظهرت‬
‫بدائل للمقاربة األمريكية يف أماكن أخرى‪ ،‬خاصة يف اململكة املتحدة وكندا‪ .‬وباملقارنة‬
‫مع االتجاه السائد لفكر االقتصاد السيايس الدويل يف الواليات املتحدة‪ ،‬تبنت سوزان‬
‫سرتانج وجهة نظر أكرث انتقادية بشأن عمل االقتصاد العاملي‪ ،‬مؤكدة عىل تقلب رأس‬
‫املال املايل الدويل (‪ )Strange, 1986‬والتحدي الذي ميثله صعود األسواق العاملية‬
‫لسلطة الدولة (‪ .)Strange, 1988‬ويف كندا ط َّور روبرت كوكس (‪ )1987‬وستيفن جيل‬
‫(‪ )Gill and Law, 1988; see also Gill, 1991‬مقاربة ماركسية جديدة وغرامشية‬
‫لالقتصاد السيايس الدويل‪.‬‬

‫‪ - 2 - 7‬املاركسية‬
‫مل يكن لتفكري حقل العالقات الدولية القادم من الكتلة السوفييتية أي تأثري‬
‫تقري ًبا يف تفكري حقل العالقات الدولية يف املركز الغريب واليابان‪ .‬غري أن املاركسية‬
‫كانت إطا ًرا مؤث ًرا للتفكري يف العلوم االجتامعية عىل نحو عام ‪ -‬وكذلك يف العالقات‬
‫الدولية – باعتباره شكال من أشكال النظرية النقدية (انظر قسم «النظريات‬
‫النقدية» يف الفصل الثامن)‪ .‬لقد ش َّكلت املاركسية خط تفكري مهام بالنسبة إىل‬
‫حقل العالقات الدولية يف اليابان حتى الستينيات (‪ )1960‬عىل األقل ‪(Inoguchi,‬‬
‫)‪ .2009:88–90‬ويف بريطانيا ط َّورت جامعة ساسكس تقليدًا لحقل العالقات‬
‫الدولية املاركيس‪ ،‬ونظم باحثو العالقات الخارجية املهيمنون؛ مثل روبرت ماكينالي‬
‫وريتشارد ليتل (‪ ،)1986‬مقاربة النموذج الفكري الخاص باملوضوع تتمحور حول‬
‫النامذج الليربالية واالشرتاكية والواقعية للنظام العاملي‪ .‬وقد كان العلامء املتأثرون‬
‫باملاركسية مثل إدوارد كار؛ وروبرت كوكس؛ وفريد هاليداي؛ وإميانويل والرشتاين‬
‫ميثلون شخصيات مهمة يف العالقات الدولية‪ .‬مل يكن من غري املألوف بالنسبة إىل‬
‫القراء وأيضا بالنسبة إىل الكتب املدرسية أن تتضمن مناقشات بشأن املقاربات‬
‫املاركسية تجاه العالقات الدولية‪ ،‬وخاصة يف مجال االقتصاد السيايس الدويل‪ :‬عىل‬
‫‪254‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫سبيل املثال أعامل ليتل وسميث (‪)1980‬؛ وجيلبني (‪ .)1987‬وقد استمر التفكري‬
‫املاركيس يف املعاناة من تهميش الدولة‪ ،‬ولكن كانت لديه أشياء مفيدة ليقولها عن‬
‫الرأساملية واالستغالل (ومن ثم االستعامر الجديد)‪ ،‬وكان من حيث املبدأ‪ ،‬وإىل‬
‫انفتاحا عىل إشكاليات ومنظورات العامل الثالث مام‬
‫ً‬ ‫حد ما من حيث املامرسة‪ ،‬أكرث‬
‫كانت عليه الواقعية أو الليربالية‪.‬‬
‫إنه ملن اإلنصاف القول إن التأثري األكرث أهمية للامركسية يف العالقات الدولية كان‬
‫غري مبارش‪ ،‬أي أنه كان يتم من خالل نظريات مثل نظرية التبعية؛ والنظم العاملية؛‬
‫واألدبيات الغرامشية الجديدة؛ وإىل حد أقل‪ ،‬مقاربة ما بعد االستعامرية تجاه‬
‫العالقات الدولية‪ .‬قد يكون لهذا عالقة مبا يتحرس عليه بعض الباحثني من أنه «قصور‬
‫اب الفكر املاركيس التقليدي (‪ )Teschke, 2008: 166‬أو «ازدواجيته‬ ‫جيوسيايس» َش َ‬
‫تجاه السيايس‪ ،‬ونفيه واستبقاءه يف آن واحد» )‪ .(Davenport, 2011: 42‬لكن‬
‫العنارص الرئيسة للفكر املاركيس واللينيني؛ وخاصة دور القوى االقتصادية يف تشكيل‬
‫السياسة واألمن؛ ومكانة الالمساواة والالعدالة؛ والهيمنة؛ واحتامل املقاومة والتحول‬
‫يف السياسة العاملية‪ ،‬دُمجت كلها ضمن مجموعة من املفاهيم البديلة للسياسة‬
‫العاملية‪ .‬كانت املاركسية مؤثرة عىل نحو خاص يف تحدي املفاهيم املتمركزة حول‬
‫الدولة يف نظريات العالقات الدولية السائدة والتصوير الحميد للرتابط الرأساميل‬
‫بالليربالية (‪ ،)Davenport, 2011: 35‬السيام من خالل تقديم مفهوم بديل للهيمنة‬
‫من خالل مفاهيم اإلكراه واملوافقة (‪ .)R. W. Cox, 1987‬عالوة عىل ذلك أ َّثرت‬
‫الدراسة املاركسية املستوحاة من غراميش يف املناقشات املعرفية‪ ،‬وأحد أهم األمثلة‬
‫عىل ذلك هو جملة روبرت كوكس الشهرية القائلة إن «النظرية هي دامئًا لشخص ما‬
‫ولغرض ما»‪ ،‬وكذا متييزه بني «حل املشكالت» و «النظرية النقدية» ‪(R. W. Cox,‬‬
‫)‪ .1981: 128–30‬إن األول (حل املشكالت)‪ ،‬والذي يشمل الواقعية والليربالية‬
‫واملدرسة اإلنجليزية (وبعض صيغ البنائية)‪ ،‬يقبل النظام الحايل ويسعى إىل اإلصالح‬
‫والتغيري ضمن معايريه الحالية‪ ،‬وذلك جنبا إىل جنب «مع العالقات االجتامعية‬
‫السائدة وعالقات القوة واملؤسسات التي ُين ََّظم يف ُأطرها» ‪(R. W. Cox, 1981:‬‬
‫)‪ .128‬وعىل النقيض من ذلك‪ ،‬تدعو «النظرية النقدية» إىل التشكيك يف النظام‬
‫القائم ومؤسساته‪ .‬إذ يتعلق األمر بكيفية ظهورهم (النظام القائم ومؤسساته)‬
‫‪255‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫و«كيف وما إذا كانوا يف طور التغيري» (‪ ،)R. W. Cox, 1981: 129‬ومن ثم السعي‬
‫من أجل تحولهم الجذري‪ .‬وبينام تساعد «مقاربات حل املشكالت» عىل «رشعنة‬
‫نظام غري عادل وخطري للغاية»‪ ،‬تحاول «النظرية النقدية» «تحدي النظام السائد‬
‫من خالل البحث عن العمليات االجتامعية التي ميكن أن تؤدي إىل التغيري االنعتاقي؛‬
‫وتحليلها ودعمها حيثام أمكن ذلك» (‪.)Hobden and Wyn Jones, 2008: 151‬‬
‫لقد ناقشنا نقد روبرت كوكس للمؤسسات الليربالية‪ ،‬وسوف نناقش نظرية التبعية‬
‫ونظريات النظم العاملية الح ًقا يف هذا الفصل‪.‬‬

‫‪ - 2 - 8‬املدرسة اإلنجليزية‬
‫بدأ العمل عىل املدرسة اإلنجليزية يف أواخر الخمسينيات (‪ )1950‬عندما‬
‫م َّولت مؤسسة روكفلر اجتامعات اللجنة الربيطانية بشأن نظرية السياسة‬
‫الدولية‪ .‬ومنذ مرحلة مبكرة تباينت املدرسة اإلنجليزية عن تفكري حقل‬
‫العالقات الدولية الجاري يف الواليات املتحدة‪ .‬لقد كان جوهر االختالف هو‬
‫أن التفكري األمرييك؛ الواقعي والليربايل‪ ،‬كان يركز عىل نحو أسايس عىل فكرة‬
‫النظام الدويل‪ ،‬بينام تط َّورت املدرسة اإلنجليزية عىل نحو أسايس بشأن فكرة‬
‫املجتمع الدويل(٭)‪ .‬فالتفكري الن ُُّظمي يرشح العالقات الدولية من خالل منظور‬
‫مادي وميكانييك‪ :‬توازن القوى؛ والقطبية؛ واالعتامد املتبادل وما شابه‪ .‬يف حني‬
‫أن التفكري من منظور املجتمع الدويل يرشح العالقات الدولية مبصطلحات أكرث‬
‫ُمج َت َم ِعية واجتامعية‪ ،‬مثل القواعد؛ والقيم؛ واملؤسسات؛ املشرتكة التي ُت َك ِّون‬
‫مجتمع الدول‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬توقعت املدرسة اإلنجليزية تطور ما كان سيصبح‬
‫نظرية بنائية (وأثرت يف أحد دعاتها البارزين؛ ألكسندر وندت ‪Alexander‬‬
‫وضوحا من نظرية‬ ‫ً‬ ‫‪ .)Wendt‬لقد م َّثلت عىل نحو عام مقاربة معيارية أكرث‬
‫وبداًل من طرح التحليالت الواقعية‬ ‫ً‬ ‫العالقات الدولية األمريكية السائدة‪.‬‬
‫والليربالية عىل أنها أضداد‪ ،‬تتخذ املدرسة اإلنجليزية مقارب ًة أكرث شمو ًاًل‪ ،‬حيث‬
‫(٭) للحصول عىل نظرة عامة شاملة عن التاريخ واألفكار واألدبيات الخاص باملدرسة اإلنجليزية‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪(Dunne 1998), (Vigezzi 2005), (Buzan 2014).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫ترى مامرسة العالقات الدولية كنقاش مستمر ومتغري باستمرار بني رضورات‬
‫النظام (هذا الطرح ميثله الجناح التعددي داخل املدرسة اإلنجليزية) وتلك‬
‫الرضورات الخاصة بالعدالة (الجناح التضامني)‪ .‬ليست الفكرة يف أن ينترص أي‬
‫من الطرفني يف هذا النقاش‪ ،‬بل إن ما هو عىل املحك هو تحقيق توازن بينهام‬
‫يجعل أفضل الظروف متاحة يف الوقت املناسب‪ .‬ومثل الواقعيني األمريكيني‬
‫األوائل الذين جرت مناقشتهم أعاله‪ ،‬ميكن فهم املدرسة اإلنجليزية عىل أنها‬
‫محاولة إما لتجاوز‪ /‬أو اختيار معارضة إدوارد كار املتموضعة بني الواقعية‬ ‫ٌ‬
‫والطوباوية‪ .‬فاملدرسة اإلنجليزية ال تحتوي عىل علم غايئ‪ ،‬وتقبل بفكرة أن‬
‫املجتمع الدويل يشهد مدا وجز ًرا‪ ،‬وأنه يف حالة تطور مستمر‪.‬‬
‫أيضا عىل مقاربة بنيوية قوية ;‪(Bull, 1977‬‬ ‫غري أن املدرسة اإلنجليزية تحتوي ً‬
‫)‪ .Holsti, 2004; Buzan, 2004b‬فهي ترى املؤسسات األولية ‪ -‬مجموعة من‬
‫القواعد واملامرسات الثابتة التي تتطور مبرور الوقت ‪ -‬باعتبارها الهيكل االجتامعي‬
‫للمجتمع الدويل‪ .‬ففي أعامل املدرسة اإلنجليزية الكالسيكية خالل هذه الفرتة‬
‫كانت املؤسسات األولية الرئيسة التي ُنوقشت هي‪ :‬السيادة؛ واإلقليمية؛ وتوازن‬
‫القوى؛ والحرب؛ والديبلوماسية؛ والقانون الدويل وإدارة القوى العظمى‪ .‬وقد أضاف‬
‫جيمس مايول )‪ James Mayall (1990‬ظهور القومية خالل القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫لقد ُف ِهمت هذه املؤسسات األولية عىل أنها ا ُمل َك ِّو َنة لكل من أعضاء املجتمع الدويل‬
‫(السيادة ‪ +‬اإلقليمية ‪ +‬القومية = الدولة الحديثة) والسلوك املرشوع داخل ذلك‬
‫املجتمع (قواعد بشأن كيفية تواصل الدول وإدارة النظام والقتال بعضها ضد بعض)‪.‬‬
‫وميكن تتبع تلك املؤسسات األولية من حيث الظهور والتطور‪ ،‬ويف بعض األحيان‬
‫من حيث االضمحالل والزوال‪ .‬لقد َم َّيزت املدرسة اإلنجليزية إذن بني مجتمع الدول‬
‫أيضا باسم املجتمع الدويل)‪ ،‬واملجتمع العاملي للبرشية جمعاء‪ ،‬الذي يعد‬ ‫(املعروف ً‬
‫أكرث افرتاضية‪ ،‬ولكنه مهم من الناحية املعيارية‪.‬‬
‫لقد كانت املدرسة اإلنجليزية عىل نح ٍو ملحوظ أكرث تاريخية من نظريات‬
‫العالقات الدولية األخرى السائدة يف ذلك الوقت‪ .‬إذ كان لها تركي ٌز خاص عىل‬
‫كيفية تطور وتوسع املجتمع الدويل العاملي الذي انبثق مع إنهاء االستعامر من‬
‫أصاًل‪ ،‬والذي تط َّور يف حد ذاته منذ فرتة العصور الوسطى‬ ‫مجتمع دويل أورويب ً‬

‫‪257‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف أوروبا وبدأ يف الظهور عىل نحو حديث بحلول العام ‪(Wight, 1977; 1648‬‬
‫)‪ .Bull and Watson, 1984a; Watson, 1992‬لقد ساعدت هذه املقاربة‬
‫التاريخية كث ًريا يف التفريق بني املدرسة اإلنجليزية والواقعية الجديدة (التي‬
‫أخضعت أهمية التاريخ لعاملية قواعد سياسة القوة) والليربالية (التي مل يكن‬
‫لها تاريخ طويل‪ ،‬ومل ترغب يف إعادة النظر يف فشل «الطوباوية» املفرتض خالل‬
‫سنوات ما بني الحربني)‪ .‬ولكن فيام يتعلق بالعامل الثالث فإن املدرسة اإلنجليزية‪،‬‬
‫مثلها مثل نظرية العالقات الدولية الغربية األخرى يف ذلك الوقت‪ُ ،‬تصنَّف ضمن‬
‫إطار املركزية األوروبية‪ .‬فقد هَ َّمش التفكري الكالسييك للمدرسة اإلنجليزية‬
‫فرَّس املجتمع الدويل األورويب عىل‬ ‫العامل الثالث بثالث طرق‪ :‬حيث إنه‪ ،‬أو ًاًل‪َّ ،‬‬
‫أنه تطور أصيل ُف ِرض الحقا عىل بقية العامل‪ .‬ومثة بعض القوة لهذا الطرح من‬
‫ناحية مسارات االستعامر وإنهاء االستعامر‪ ،‬لكن القصة الكالسيكية للمدرسة‬
‫اإلنجليزية تجاهلت عىل نح ٍو أسايس املدخالت القادمة من بقية العامل نحو‬
‫أوروبا يف أثناء مراحل تكوينها‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬تبنت املدرسة اإلنجليزية الكالسيكية‪ ،‬مثلها‬
‫مثل الواقعية الجديدة‪ ،‬وجهة نظر «الوحدات املتشابهة» للدول والتي ترى أن‬
‫الدول متشابهة يف الشكل والوظيفة واملساواة يف السيادة‪ ،‬وال تفرق بينها إال‬
‫مبعيار القوة الذي مييز القوى الكربى عن البقية‪ .‬وقد خلق هذا متييزا مزدوجا‬
‫ضد دول العامل الثالث‪ :‬مبا أن أيا من دول العامل الثالث مل تكن تشكل قوة كربى‪،‬‬
‫قصيت إذن من إدارة القوى الكربى‪ .‬كام تجاهلت املدرسة اإلنجليزية‬ ‫فقد ُأ ِ‬
‫االختالفات الهائلة يف السياسات املحلية والدولية التي نتجت عن كون هذه‬
‫الدول دو ًاًل ما بعد استعامرية؛ وغال ًبا ما كانت دوال مصطنعة؛ وكانت يف األغلب‬
‫وجه‬‫فقرية ومتخلفة‪ .‬ثال ًثا‪ ،‬كان الرد الرئيس للمدرسة اإلنجليزية الكالسيكية ا ُمل َّ‬
‫تجاه إنهاء االستعامر يتمثل يف الخوف بشأن إضعاف املجتمع الدويل من خالل‬
‫دخول عديد من الدول الجديدة التي كانت ضعيفة وفقرية وال تشارك الثقافة‬
‫الغربية‪ .‬إن تحليل هيديل بول (‪ )1984‬للثورة ضد الغرب اعرتف عىل األقل بقوة‬
‫املشاعر املناهضة لالستعامر هناك‪ ،‬وفتح الطريق أمام العامل الثالث للمطالبة‬
‫بالعدالة‪ .‬غري أن املدرسة اإلنجليزية رأت يف األغلب أن إنهاء االستعامر ميثل‬
‫مشكلة ألنه أَ ْض َع َف النظام القائم من خالل تقويض متاسكه الثقايف (الغريب)‪.‬‬
‫‪258‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫‪ - 2 - 9‬حقل العالقات الدولية يناقش نفسه من جديد‬


‫مثلام كان الحال خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني‪ ،‬شهد حقل العالقات‬
‫الدولية داخل املركز خالل الحرب الباردة «نقاشا كبريا» آخر‪ .‬الواقع أن النقاش‬
‫الكبري الثاين حصل يف أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن املنرصم‪ ،‬حيث جاء‬
‫هذا النقاش يف سياق الثورة السلوكية خالل الخمسينيات والستينيات من القرن‬
‫املايض والتي أسهمت عىل نحو كبري يف تشكيل حقل العالقات الدولية األمرييك‪،‬‬
‫وقد ُل ِّخص هذا النقاش يف الجدل الذي كان قامئا بني هيديل بول (‪ )1966‬ومورتون‬
‫كابالن (‪ )1966‬الذي سبق ذكره‪ ،‬حيث أشار هذا الجدل عىل نح ٍو جيد إىل الرشخ‬
‫املتزايد بني الهواجس املنهجية لحقل العالقات الدولية األمرييك والقصور النسبي يف‬
‫الحامس ا ُملبدى حيال هذه املقاربة يف معظم األجزاء املتبقية من املركز‪ .‬لقد أراد‬
‫هيديل بول تبني «مقاربة كالسيكية» ‪ -‬باستخدام إطار تفسريي قائم عىل الفلسفة‬
‫والتاريخ والقانون ل َت َت ُّبع فهم السياسة العاملية‪ .‬يف املقابل‪ ،‬طالب السلوكيون مثل‬
‫مورتون كابالن بـ «مقاربة علمية» ‪ -‬باستخدام إطار تفسريي ‪ -‬قائم عىل الوضعية‪،‬‬
‫و َتتَبع تفسري السياسة العاملية عن طريق إنتاج املعرفة الحركية املرتكزة عىل منوذج‬
‫استنتاجي افرتايض (‪()Bull, 1966:361–2‬٭)‪ .‬لقد تع َّلق النقاش الكبري الثاين إذن‬
‫باملنهجية وليس بالنظرية أو مصادر االبتكار النظري (‪ .)Kahler, 1997: 30‬وكام‬
‫هو مذكور أعاله‪ ،‬فقد انضم بعض الواقعيني إىل هيديل بول يف الجدل القائم ضد‬
‫استخدام الطريقة العلمية يف حقل العالقات الدولية األمرييك‪ .‬ومثلام يالحظ مايلز‬
‫كاهلر‪ ،‬كان الواقعيون يف هذا املجال‪ ،‬من أمثال هانز مورغانتو‪« ،‬يتموقعون عىل‬
‫نحو مبارش يف الجانب املضاد للسلوكيني وشنوا هجو ًما قو ًيا عىل أعامل كل من‬
‫هارولد السويل ومورتون كابالن» ‪(Kahler, 1997: 30; see also M. Williams,‬‬
‫تأت بسبب األحداث الكارثية‪ ،‬أي بالطريقة‬ ‫)‪ .2013‬إن النقاش الكبري الثاين مل َي َ‬
‫نفسها التي دفعت بها الحرب العاملية األوىل النقاش الكبري األول إىل الظهور‪ .‬بيد أن‬
‫تلك األحداث ساعدت الحقا يف تشكيل «الهوية العلمية» لحقل العالقات الدولية‬
‫(٭) بشأن التمييز بني الفهم والتفسري‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪(Hollis and Smith 1990).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫األمرييك (‪ ،)Schmidt, 2002:11‬وميكن القول إن السلوكيني انترصوا يف هذا النقاش‬


‫داخل الواليات املتحدة‪ ،‬ولكن ليس يف معظم دول املركز األخرى‪ .‬وعىل الرغم‬
‫من ُشح األدلة املقدمة‪ ،‬فإن النقاش الثاين مل يكن له عمل ًيا أي تأثري مبارش يف دول‬
‫األطراف‪ ،‬حيث كانت الدراسة األكادميية للعالقات الدولية التزال يف مهدها‪ .‬ولكن‬
‫استنادًا إىل املسح الذي أجريناه لتطور حقل العالقات الدولية يف األطراف‪ ،‬فمن‬
‫املعقول أن نفرتض أن دراسات وأبحاث حقل العالقات الدولية هناك كانت أكرث‬
‫ً‬
‫تناغاًم مع املقاربة الكالسيكية منها إىل املقاربة العلمية‪.‬‬

‫‪ - 3‬تفكري حقل العالقات الدولية يف األطراف‬


‫مثلام نوقش يف الفصل الرابع‪ ،‬كان التفكري داخل دول األطراف خالل سنوات‬
‫مزيجا من العمل األكادميي وأفكار املثقفني والقادة العامني‪ ،‬وكانت‬
‫ما بني الحربني ً‬
‫كفة امليزان متيل بقوة ملصلحة القادة العامني‪ .‬كان أحد التفسريات لذلك هو ضعف‬
‫أو عدم وجود مأسسة لهذا املجال الجديد ‪ -‬حقل العالقات الدولية األكادميي ‪ -‬يف‬
‫معظم دول األطراف‪ .‬خالل فرتة الحرب الباردة وإنهاء االستعامر ظل هذا النمط‬
‫العام عىل حاله‪ .‬وعىل الرغم من بعض تعزيز إضفاء الطابع املؤسيس عىل حقل‬
‫العالقات الدولية األكادميي‪ ،‬فإنه اليزال ضعي ًفا عىل نحو عام‪ ،‬وحيثام كان موجودًا‬
‫كان غال ًبا ما يركز عىل نحو أسايس عىل السياسة واحتياجات موظفي الدولة‪ .‬لقد‬
‫كانت الهيمنة الفكرية لحقل العالقات الدولية الغريب املزدهر قوي ًة جدا‪ .‬وكام‬
‫يجادل تينكر وويفر (‪ ،)2009c:335‬فقد ظهر يشء من تقسيم العمل مع نظرية‬
‫حقل العالقات الدولية يف دول املركز‪ ،‬ومل يكن ذلك موجودا يف دول األطراف‪ .‬وحتى‬
‫يف الصني‪ ،‬عندما انفتح حقل العالقات الدولية مرة أخرى بعد وفاة ماو تيس وبدأ يف‬
‫النمو برسعة‪ ،‬استغرق األمر عدة عقود ألجل استيعاب والتحكم يف الكتابات الغربية‬
‫لحقل العالقات الدولية قبل التفكري يف إمكانيات تأسيس مدرسة صينية لـحقل‬
‫العالقات الدولية (‪ .)Qin, 2010, 2011a‬وقد كان جزء كبري من حقل العالقات‬
‫الدولية األكادميي الوليد يف دول األطراف ضعيف املوارد و ُم َك َّل ًفا عىل نحو أسايس‬
‫أيضا عىل إقصاء دول‬‫بداًل من البحث‪ .‬إن ضعف املوارد اشتمل ً‬ ‫بالتدريس‪ /‬التدريب ً‬
‫األطراف إىل حد كبري من املشاركة املبارشة يف دوائر املؤمترات التي كانت تعقدها‬
‫‪260‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫الجمعيات األكادميية اليابانية والغربية الجديدة‪ ،‬وظل ذلك عىل حاله حتى فتحت‬
‫هذه الجمعيات أبوابها ألجل مشاركة أوسع‪.‬‬
‫ترك ضعف وحداثة حقل العالقات الدولية األكادميي داخل دول األطراف‬
‫مفتوحا للقادة السياسيني املؤثرين لالضطالع بإسهام كبري يف التفكري بشأن‬ ‫ً‬ ‫املجال‬
‫حقل العالقات الدولية‪ .‬وقد منح إنهاء االستعامر القادة السياسيني يف األَ ْط َراف‬
‫أصوا ًتا أعىل وأكرب نطا ًقا للعمل‪ .‬حيث طرح بعض هؤالء القادة أفكا ًرا بشأن النظام‬
‫اإلقليمي والدويل‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬فإن أونغ سان ‪ Aung San‬من بورما‪ ،‬الذي‬
‫تعاون يف البداية مع اليابانيني‪ ،‬رفض الح ًقا فكرة تكتالت القوى الكربى (مثل‬
‫مجال االزدهار املشرتك لرشق آسيا الكربى الياباين) باعتباره وسيلة لتحقيق السالم‬
‫والرفاهية اإلقليميني‪ .‬ودعا يف مقابل ذلك إىل التعاون اإلقليمي عىل أساس املساواة‬
‫يف السيادة واالعتامد املتبادل‪ ،‬ومن ثم كرر طرح املوضوعات القدمية لتفكري حقل‬
‫العالقات الدولية الخاص باألَ ْط َراف‪ُ ،‬م َت َوق ًعا بذلك ظهور مبادئ اإلقليمية يف كثري من‬
‫دول األَ ْط َراف يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬مبا يف ذلك تلك التي طورتها‬
‫رابطة دول جنوب رشق آسيا التي تأسست يف العام ‪ .1967‬وخالل الستينيات قدَّم‬
‫سوكارنو ‪ Sukarno‬اإلندونييس تصو ًرا راديكال ًّيا للرصاع القائم بني الشامل والجنوب‬
‫من خالل املحاججة بأن االنقسام الرئيس للعامل مل يكن من خالل الحرب الباردة‪،‬‬
‫ولكن من خالل الرصاع بني «القوى القدمية القامئة» و«القوى الجديدة الصاعدة»‪،‬‬
‫حيث تتألف «القوى القدمية القامئة» من القوى االستعامرية الغربية التي التزال‬
‫تهدد الدول املستقلة حدي ًثا من خالل قواعدها العسكرية واستغاللها االقتصادي‪ .‬يف‬
‫حني تضم «القوى الجديدة الصاعدة» القوات املتحالفة ضد االستعامر واالستعامر‬
‫الجديد‪ ،‬مبا يف ذلك «املحور املناهض لإلمربيالية» يف إندونيسيا؛ وكمبوديا؛ وفيتنام‬
‫الشاملية؛ وجمهورية الصني الشعبية؛ وكوريا الشاملية ]‪(Weinstein, [1976‬‬
‫أيضا أمثلة عىل انتشار األفكار اإلقليمية بشأن السيادة‬ ‫)‪ .2007:167‬كان مثة ً‬
‫واملساواة واالعتامد االقتصادي عىل الذات يف عديد من املناطق‪ .‬فكوامي نكروما‬
‫‪ ،Kwame Nkrumah‬الذي ُم ِنع من حضور مؤمتر باندونغ يف العام ‪ 1955‬من ِقبل‬
‫بريطانيا ا ُمل ْس َت ْع ِم َرة لغانا‪ ،‬تبنى مبادئ مؤمتر باندونغ (مثل االمتناع عن الدخول يف‬
‫التكتالت اإلقليمية التي تقودها القوى الكربى‪ ،‬واالعتامد االقتصادي عىل الذات) يف‬
‫‪261‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تنظيم أول تجمع رسمي للدول األفريقية املستقلة حدي ًثا‪ :‬أي مؤمتر الدول األفريقية‬
‫املستقلة يف أكرا ‪ Accra‬يف ‪ 22-15‬أبريل ‪ .1958‬وقد عُ قد مؤمتر الحق يف أديس‬
‫أبابا يف العام ‪ ،1960‬حيث طور مبادئ إنهاء االستعامر؛ والسيطرة عىل األسلحة؛‬
‫والسيطرة عىل املوارد الطبيعية؛ ووضع بعض األسس إلنشاء منظمة الوحدة‬
‫األفريقية يف مايو ‪.1963‬‬
‫بينام ظل إنهاء االستعامر غري مكتمل من أواخر األربعينيات إىل منتصف‬
‫السبعينيات‪ ،‬كان بإمكان هؤالء القادة عىل األقل االستمرار يف موضوعات مناهضة‬
‫االستعامر والعنرصية منذ سنوات ما بني الحربني وما قبلها‪ .‬ومع تحول االستعامر‬
‫الرسمي إىل مجرد تاريخ‪ ،‬تحول الخطاب أكرث نحو معارضة االستعامر الجديد‪ ،‬ال‬
‫سيام بخصوص أشكال التفاوتات االقتصادية والتنموية التي ظلت قامئة فرتة طويلة‬
‫بعد أن نالت معظم الشعوب االستقالل السيايس‪ .‬لقد ظلت مناهضة العنرصية‬
‫موضوعًا قو ًّيا‪ ،‬ال سيام ضد نظام الفصل العنرصي يف جنوب أفريقيا وضد إرسائيل‪،‬‬
‫وكالهام ُينظر إليه من قبل معظم دول العامل الثالث عىل أنهام دولتان استعامريتان‪.‬‬
‫ويف الرشق األوسط تبنى جامل عبدالنارص وأعاد تنشيط فكرة الوحدوية العربية‬
‫املتأتية من سنوات ما بني الحربني‪ .‬ويف الهند كان ألفكار نهرو بشأن عدم االنحياز‬
‫واملنطقة غري اإلقصائية تأثري كبري يف مقاربات السياسة الخارجية للعامل الثالث‪،‬‬
‫وعىل األخص حركة عدم االنحياز‪ ،‬عىل الرغم من أنها مل تحظ باهتامم كبري يف‬
‫املناقشات النظرية لحقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز (‪.)Behera, 2009:143‬‬
‫وقد كان ألفكار غاندي بشأن املقاومة الالعنفية تأثري عميل وفكري يف جميع أنحاء‬
‫العامل‪ ،‬مام ألهم مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديال‪ .‬وقد تردد صدى أفكار ماو تيس‬
‫تونغ بشأن السياسة االشرتاكية والتنمية عىل نطاق واسع بني تيارات أقىص اليسار يف‬
‫عديد من األماكن‪ .‬وكانت «نظريته للعوامل الثالثة» منذ منتصف السبعينيات متثل‬
‫مرشوعًا سياس ًّيا ضد هيمنة القوتني العظميني (العامل األول) وطريقة لفهم ديناميات‬
‫السياسة العاملية عىل نح ٍو عام (‪()Garver, 2016:327–8‬٭)‪ .‬لقد ط ّور ماو تيس‬
‫(٭) كان تصنيف ماو للعوامل الثالثة مختل ًفا عن النموذج القيايس‪ ،‬الذي كانت فيه الدول الغربية املتقدمة هي‬
‫العامل األول‪ ،‬والكتلة االشرتاكية باعتبارها العامل الثاين‪ ،‬والدول املتخلفة باسم العامل الثالث‪ .‬اتفق مخطط ماو مع هذا‬
‫بالنسبة إىل العامل الثالث‪ ،‬ولكن كان العامل الثاين هو الدول املتقدمة بخالف القوتني العظميني‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫أيضا؛ جن ًبا إىل جنب مع تيش جيفارا وريجيس دوبريه ‪ ،Régis Debray‬فكرة‬ ‫تونغ ً‬
‫حرب العصابات وروجوا لها ومارسوها كإسرتاتيجية يستخدمها الضعفاء عسكر ًّيا‬
‫ضد القوة العسكرية ‪ -‬ما ُيطلق عليه اليوم «الحرب غري املتكافئة»‪.‬‬
‫عىل نح ٍو عام‪ ،‬وكام هو موضح سابقا‪ ،‬استمرت نظرية العالقات الدولية السائدة‬
‫داخل املَ ْر َكز يف الرتكيز عىل القطبية الثنائية وا ُملشكالت الغربية وعالقات القوى‬
‫الكربى‪ .‬وعىل الرغم من أن إنهاء االستعامر م َّثل أحد التطورات الرئيسة التي‬
‫حددت مامرسة العالقات الدولية ملا بعد العام ‪ ،1945‬فإن الديناميات املتغرية يف‬
‫عالقات املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف لقيت اعرتا ًفا خافتا يف نظرية العالقات الدولية‪ .‬كانت‬
‫العالمة الرئيسة للتغيري‪ ،‬كام أرشنا يف الفصل الرابع‪ ،‬تتمثل يف ظهور منظورين بشأن‬
‫العالقات الدولية قادمني من األَ ْط َراف من أجل تحدي النقاشات الجارية داخل‬
‫املَ ْر َكز‪ :‬نظرية التبعية؛ ونظرية ما بعد االستعامرية‪ .‬لقد نشأت نظرية التبعية يف‬
‫أمريكا الالتينية‪ ،‬وهي املنطقة التي شهدت إنهاء االستعامر يف وقت مبكر بكثري‬
‫مقارنة بآسيا أو أفريقيا أو الرشق األوسط‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن الدول األخرية‪،‬‬
‫وخاصة يف آسيا‪ ،‬ميكن أن تدعي أنها متثل مرحلة والدة نظرية أخرى غري غربية‬
‫لحقل العالقات الدولية‪ :‬أيْ نظرية ما بعد االستعامرية‪ .‬وبينام يرى الباحثون عمو ًما‬
‫أن نظرية ما بعد االستعامرية قد جاءت بعد نظرية التبعية‪ ،‬فإنه ميكن املحاججة‬
‫بأن جذورها الفكرية والعملية قد ُوضعت يف وقت سابق‪ .‬إن لكل من نظرية‬
‫التبعية ونظرية ما بعد االستعامرية نقاط منشأ متشابهة‪ ،‬حيث يربط كالهام‬
‫املستعمرات بالقوى االستعامرية السابقة مبعنى سلبي(٭)‪.‬‬

‫‪ - 3 - 1‬ما بعد االستعامرية‬


‫لنظرية مابعد االستعامرية جذور ترجع إىل نصف األلفية الثاين املرتبط بالتوسع‬
‫اإلمرباطوري األورويب إىل ما وراء البحار‪ .‬إن األمر يتعلق برؤية هذا املسار ليس‬
‫أيضا يتعلق برؤيته من‬‫فقط باعتباره مسار هيمنة ونضاالت ضد االستعامر‪ ،‬ولكن ً‬
‫(٭) القراء الذين يرغبون يف مراجعة أكرث تفصيال لتفكري حقل العالقات الدولية يف األطراف يجب أن يطلعوا عىل‪:‬‬
‫‪(Tickner and Wæver 2009a), (Tickner and Blaney 2012, 2013).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫خالل مواجهات ثقافية وإعادة تشكيل متبادلة(٭)‪ .‬كمقاربة أكادميية للتفكري يف‬
‫حقل العالقات الدولية‪ ،‬تنتمي ما بعد االستعامرية عىل نح ٍو أسايس إىل فرتة مابعد‬
‫العام ‪ ،1989‬ب ْيد أنها شهدت بعض البدايات املهمة خالل الحرب الباردة‪ .‬يتعلق‬
‫كثري من اإللهام املبكر ملقاربة ما بعد االستعامرية بالتفاعل بني عامل املامرسة والعامل‬
‫األكادميي لحقل العالقات الدولية‪ ،‬وإعادة التقييم الذي اضطلع بها األكادمييون‬
‫ملؤمتر آسيا وأفريقيا للعام ‪ 1955‬يف باندونغ‪ .‬لقد اعتنقت ما بعد االستعامرية مؤمتر‬
‫باندونغ باعتباره واحدا من لحظاتها التأسيسية‪ .‬وعىل حد تعبري مصطفى باشا‪ ،‬يف‬
‫حني أن مؤمتر باندونغ رمبا مل يحقق جميع أهدافه السياسية أو االقتصادية املعلنة‪،‬‬
‫فإنه ميثل «لحظة حرجة يف القصة العاملية التي ُرُسدت بإيعاز من حقل العالقات‬
‫الدولية» (‪.)Pasha, 2013: 146, emphasis original‬‬
‫جاء مؤمتر باندونغ نتيج ًة للمؤمترين من «مؤمتر العالقات اآلسيوية» ‪،ARC‬‬
‫اللذ ْين عُ ِقدَا يف نيودلهي خالل العامني ‪ 1947‬و‪ .1949‬وقد تناول جدول أعامل‬
‫مؤمتر العام ‪ 1947‬مثاين قضايا شملت‪ :‬الحركات الوطنية من أجل الحرية؛ وا ُملشكالت‬
‫العرقية؛ والهجرة داخل آسيا؛ واالنتقال من االقتصاد االستعامري إىل االقتصاد‬
‫الوطني؛ والزراعة؛ وإعادة اإلعامر؛ والتنمية الصناعية؛ و ُمشكالت العمل والخدمات‬
‫االجتامعية؛ وا ُملشكالت الثقافية‪ ،‬ووضع املرأة والحركات النسائية ‪(Appadorai,‬‬
‫)‪ .1979‬يف حني ُربط املؤمتر الثاين ملؤمتر العالقات اآلسيوية عىل نح ٍو خاص مبطلب‬
‫استقالل إندونيسيا عن الحكم الهولندي (‪ .)Acharya, 2009: 34–5‬وذهب مؤمتر‬
‫باندونغ إىل أبعد ما ذهب إليه مؤمتر العالقات اآلسيوية‪ ،‬حيث مل ينحرص هدفه‬
‫يف «مواصلة النضال من أجل التعميم الكامل لالستقالل الوطني»‪ ،‬بل تعدى ذلك‬
‫ليهدف إىل «صياغة وتأسيس معايري معينة إلدارة العالقات الدولية الحالية‪ ،‬وصياغة‬
‫أدوات التطبيق العميل لتلك القواعد» (‪ .)Abdulghani, 1964: 72, 103‬كان‬
‫هدف مؤمتر باندونغ هو التوصل إىل «اتفاق بشأن املبادئ العامة» للسلوك يف‬
‫الشؤون الدولية (‪ .)League of Arab States, 1955: 23‬لقد كان مبنزلة تحول‬
‫من معارضة االستعامر إىل محاولة الظفر مبكانٍ للعامل الثالث ضمن املجتمع الدويل‬
‫(٭) وهذا يشمل قصة أصحاب البرشة السمراء يف الواليات املتحدة‪ ،‬الذين ارتبطت عبوديتهم باالستعامر والعنرصية‪،‬‬
‫والذين ارتبط نضالهم من أجل التحرر بالنزعة الوحدوية األفريقية‪ ،‬كام هو موضح يف الفصول السابقة‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫العاملي‪ .‬وقد اعترب املشاركون يف مؤمتر باندونغ إعالن السالم العاملي «أهم قرار»‪،‬‬
‫ألنه حدد «املبادئ التي تنظم عالقاتهم بعضهم مع بعض؛ وكذا عالقاتهم مع العامل‬
‫بأرسه» (‪.)League of Arab States, 1955:151‬‬
‫بعد مؤمتر باندونغ وصل التحرك نحو الوعي املتزايد يف بلدان العامل الثالث؛‬
‫والسعي إىل تحقيق مشاركة أكرب والتعبري عن رأي يف املجتمع الدويل العاملي؛ إىل‬
‫ذروته يف الستينيات والسبعينيات مع تأسيس حركة عدم االنحياز يف العام ‪،1961‬‬
‫ووصل إىل حد الدعوة الالحقة إىل النظام االقتصادي الدويل الجديد وتشكيل‬
‫نشاطات مجموعة الـ ‪ .77‬لقد أثارت حرب فيتنام والتدخالت األخرى التي ِقيدَت‬
‫من قبل الواليات املتحدة‪ ،‬ال سيام يف أمريكا الالتينية خالل الستينيات والسبعينيات‬
‫من القرن املايض‪ ،‬التساؤل عام إذا كانت الواليات املتحدة تترصف كقوة إمربيالية‬
‫جديدة (‪ .)Viotti and Kauppi, 2011:211‬وخالل فرتة السبعينيات ُق ِّوضت اآلمال‬
‫املعقودة بشأن مزيد من املشاركة والتعاون بني الشامل والجنوب‪ ،‬مام أدى إىل‬
‫تفاقم إدراك الالعدالة والالمساوة يف االقتصاد الرأساميل الدويل (‪.)Darby, 2004:2‬‬
‫وقد شكلت كل هذه األحداث عوامل مهمة يف إثارة نظرية العالقات الدولية ما‬
‫بعد االستعامرية‪.‬‬
‫لقد جاء الباحثون ا ُمل َؤ ِّس ُسون ملا بعد االستعامرية من مثل فرانتز فانون ‪Frantz‬‬
‫‪Fanon‬؛ وإدوارد سعيد(٭)؛ وغاياتري شاكرافوريت سبيفاك ‪Gayatri Chakravorty‬‬
‫‪Spivak‬؛ وهومي بابا ‪Homi Bhabha‬؛ ونغوغي وا ثيونغو ‪Ngugi wa Thiong’o‬‬
‫من مجموعة متنوعة من املهن والتخصصات‪ ،‬وكانوا مؤثرين يف عمل أولئك الذين‬
‫أقحموا منظور مابعد االستعامرية ضمن حقل العالقات الدولية‪ .‬لقد تجسدت‬
‫بعض الحجج الرئيسة ملا بعد االستعامرية يف رفض إميي سيزير ‪Aimé Césaire‬‬
‫)‪ (1955‬مهم َة االستعامر «الحضارية» املزعومة‪ ،‬وعمل فرانتز فانون (‪ )1965‬بشأن‬
‫التأثري الالإنساين لالستعامر‪ ،‬و َف ْض ِح إدوارد سعيد (‪ )1978‬لـ «االسترشاق» وتصويره‬
‫للم ْس َت ْع َمر عىل أنه دوين؛ وغريب؛ و ُمس َت ِبد؛ وصويف مثلام تطرحه األعامل األدبية‬
‫ُ‬
‫(٭) أحد أهم املفكرين يف القرن العرشين وعمل أستاذا جامعيا للنقد األديب واألدب املقارن يف جامعة كولومبيا يف‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬ومن أهم أعامله كتاب االسترشاق‪ ،‬وقد نرشت له سلسلة «عامل املعرفة» كتابا بعنوان «إدورد سعيد‪:‬‬
‫أماكن الفكر»‪ ،‬العدد الرقم ‪ ،492‬مارس ‪[ .2022‬املحرر]‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الغربية‪ .‬فقد اكتشف كتاب « ُم َع َّذ ُبو األرض» لفرانتز فانون (‪ )1965‬كيف أن‬
‫االستعامر فرض عىل رعاياه شعو ًرا بالتبعية؛ ودوني ٍة سياسية ونفسية واقتصادية‬
‫واجتامعية عميقة إىل درجة أنه ال ميكن معالجتها إال من خالل اللجوء إىل العنف‪.‬‬
‫وسعى كتاب «االسترشاق» إلدوارد سعيد (‪ )1978‬إىل إظهار إىل أي مدى أن ما‬
‫كان وما أصبح ُيعرف باسم «الغرب»‪ ،‬اشتُق إىل حد كبري من «اآلخر» يف «الرشق»‬
‫(«الغرب» هو كل يشء‪ ،‬يف حني أن «الرشق» ال يشء وال ميكن أن يكون أي يشء‪،‬‬
‫ويسعى الغرب من خالل اإلمربيالية إىل ضامن تحقيق تلك النبوءة)‪.‬‬
‫نظ ًرا إىل أن فكر مابعد االستعامرية َيتَأَىت من مجموعة متنوعة من املنظورات‬
‫األدبية واملاركسية والغرامشية‪ ،‬وكذا من مجموعة من مفكري ما بعد الحداثة‪،‬‬
‫فقد انتُقد باعتباره «غري رشعي نظر ًّيا» (‪ .)Kennedy, 1996: 347–8‬ونظ ًرا إىل‬
‫التأثري الثقيل لعلامء األدب‪ ،‬مثل إدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك‪ ،‬فإن ارتباط ما‬
‫بعد االستعامرية مع حقل العالقات الدولية ُي َعدُّ ضعي ًفا إىل حد ما من قبل علامء‬
‫التخصص التقليديني‪ ،‬عىل الرغم من عمل حقل العالقات الدولية مابعد االستعامري‬
‫بقوة عىل تحديد موقع نظرية ما بعد االستعامرية ضمن املناقشات الجارية داخل‬
‫التخصص‪ .‬وبسبب أصولها يف دراسات األدب‪ ،‬فإن ما بعد االستعامرية‪ ،‬عىل عكس‬
‫نظرية التبعية‪ ،‬غال ًبا ما ُتظهر الرتكيز عىل القوى الفكرية التي ُت َشكل املجتمع‪،‬‬
‫وذلك عىل حساب القوى املادية‪ .‬فنظرية التبعية «هي يف األساس نظرية اقتصادية‬
‫للتخلف ال تفسح املجال بسهولة لتحليل قضايا العرق والثقافة واللغة والهوية»‬
‫(‪ .)Tikly, 2001:251‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن هذه القضايا تعد من بني االهتاممات‬
‫املركزية ملا بعد االستعامرية‪ ،‬فهي ُت َعد ناشئة جزئ ًّيا عن املوضوعات الهوياتية‬
‫يف األدب القادم من املستعمرات السابقة‪ ،‬وجزئ ًّيا تعد ناشئة من جذور ما بعد‬
‫االستعامرية يف دراسات املناطق‪ ،‬والتي أصبحت يف بعض النواحي متثل خل ًفا لها‬
‫(‪.)Harootunian, 2002‬‬
‫بوصفها فكرة سياسية‪ ،‬تنظر ما بعد االستعامرية إىل أصول النظام الدويل‬
‫الحديث ليس بدءا من العام ‪ ،1648‬أو بدءا من صلح وستفاليا‪ ،‬ولكن بدءا من‬
‫العام ‪ ،1498‬مع «اكتشاف» كولومبوس العامل الجديد‪ .‬وتحاجج ما بعد االستعامرية‬
‫بأنه نظ ًرا إىل أن املعرفة املتعلقة بالنظام الدويل والنظام العاملي قد ُأن ِتجت عىل نح ٍو‬
‫‪266‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫كبري خالل فرتة التوسع والهيمنة االستعامرية الغربيني‪ ،‬فإن هذا اإلنتاج للمعرفة‬
‫يجب أن يكون موضع تساؤل واستشكال (‪ .)Grovogui, 2013:249‬ومن ثم‪ ،‬فإن‬
‫أنصار ما بعد االستعامرية يشككون‪ ،‬عىل أقل تقدير‪ ،‬يف اإلثنوغرافيا واألنرثوبولوجيا‬
‫االستعامرية‪ ،‬ويف الواقع‪ ،‬يف أي نظرة كونية متولدة عن الغرب‪ ،‬مبا يف ذلك الرأساملية‬
‫واملاركسية (‪ .)Chibber, 2013‬حيث يهتم أنصار ما بعد االستعامرية عىل نح ٍو‬
‫خاص بكيفية تقبل حقل العالقات الدولية للمعرفة السائدة من دون إخضاعها‬
‫للتمحيص النقدي الصارم‪.‬‬

‫‪ - 3 - 2‬نظرية التبعية‬
‫فهم مادي للبنية االقتصادية الدولية‪ ،‬و ُتسلط الضوء‬‫تستند نظرية التبعية إىل ٍ‬
‫عىل عدم املساواة القامئة بني االقتصادات الغربية املتقدمة واالقتصادات املتخلفة أو‬
‫النامية يف العامل الثالث‪ .‬تجادل نظرية التبعية بأن تقسيم البنية االقتصادية الدولية‬
‫إىل « َم ْر َكز» و«أَ ْط َراف» يجعل من دول األَ ْط َراف تعتمد عىل نح ٍو أسايس عىل دول‬
‫املَ ْر َكز‪ ،‬كام يجعلها تعاين عائقا مزمنا يف رشوط التجارة‪.‬‬
‫ُط ِّورت الجوانب االقتصادية األساسية لألفكار التي ارتبطت بنظرية التبعية يف‬
‫ثالثينيات وأربعينيات القرن املايض من قبل االقتصادي األرجنتيني راؤول بريبيش‬
‫‪ ،Raúl Prebisch‬قبل أن تصبح مسألة التبعية متثل قضية يف السياسة الدولية‪.‬‬
‫كانت أفكار بريبيش مؤثرة عىل نح ٍو خاص يف املرسح الدويل ألنه شغل منصب‬
‫رئيس اللجنة االقتصادية ألمريكا الالتينية إبان تشكيلها يف العام ‪ ،1948‬وحولها‬
‫إىل منصة انطالقٍ ألفكاره‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬انتقل بريبيش ليصبح أول مدير عام ملؤمتر‬
‫األمم املتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)‪ ،‬حيث تصدر األصوات الداعية إىل النظام‬
‫االقتصادي الدويل الجديد (‪ .)The Economist, 2009‬لقد حولت ِص َي ٌغ الحقة‬
‫من نظرية التبعية‪ ،‬وخاصة عمل فرناندو كاردوسو ‪ Fernando Cardoso‬وإنزو‬
‫قلياًل من االهتاممات االقتصادية البحتة نحو‬‫فاليتو )‪ ،Enzo Faletto (1972‬الرتكيز ً‬
‫االهتامم مبقاربة االقتصاد السيايس‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬توقعت نظرية التبعية عودة ظهور‬
‫االقتصاد السيايس الدويل يف حقل العالقات الدولية الغريب السائد خالل السبعينيات‬
‫والثامنينيات‪ .‬كان لنظرية التبعية‪ ،‬خاصة يف أعاملها الالحقة‪ِ ،‬ص َي ٌغ ماركسية ملحوظة‪.‬‬
‫‪267‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وكان بعض هذا مؤث ًرا يف االقتصاد السيايس الدويل السائد‪ ،‬عىل الرغم من أن األخري‬
‫كان لديه الكثري من امليول الليربالية‪ .‬لقد كانت التنمية والتخلف والتبعية‪ ،‬وفق‬
‫كاردوسو وفاليتو‪ ،‬ناتجة عن تأثريات البنية االقتصادية والسياسية الدولية‪ .‬وباالبتعاد‬
‫أيضا تحليل‬‫عن الحجج االقتصادية البحتة‪ ،‬اعتقد كاردوسو وفاليتو أنه من الرضوري ً‬
‫القوى االجتامعية واأليديولوجيات‪ .‬وبرصف النظر عن العلامء واملهنيني املذكورين‬
‫سابقا والقادمني من أمريكا الالتينية‪ ،‬فإن من ضمن املساهمني الرئيسني اآلخرين‬
‫يف أدبيات نظرية التبعية كان مثة أندري غوندر فرانك ‪Andre Gunder Frank‬‬
‫)‪ ،(1966, 1971‬الذي ركز عىل االقتصاد السيايس املاركيس؛ وكذا سمري أمني (‪،)1972‬‬
‫الباحث املاركيس املرصي الفرنيس الذي كرس أعامله لتحليل أفريقيا من ضمن عديد‬
‫من املناطق األخرى‪ .‬كام ترتبط نظرية التبعية أيضا بنظرية يوهان غالتونغ ‪Johan‬‬
‫‪ Galtung‬البنيوية لإلمربيالية (‪ .)1971‬حيث سعى غالتونغ إىل تسليط الضوء ليس‬
‫عىل الالمساواة القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف عىل املستوى الدويل فقط‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا‬
‫عىل الالمساواة القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف داخل الدول نفسها‪ .‬يعرف غالتونغ‬
‫اإلمربيالية بأنها «نظام يقسم الجامعات ويربط بعض األجزاء بعضها ببعض يف‬
‫إطار عالقات انسجام املصالح‪ ،‬كام يربط أجزاء أخرى بعضها ببعض يف إطار عالقات‬
‫تنازع أو تضارب املصالح (‪ .)Galtung, 1971: 81, emphasis original‬وقد ط َّور‬
‫غالتونغ هذه النظرية بهدف تحقيق «التحرر» من «العنف البنيوي»‪.‬‬
‫كان الرتكيز األويل لنظرية التبعية ضي ًقا للغاية‪ ،‬حيث إنها ركزت فقط عىل‬
‫الجوانب االقتصادية للتبعية‪ .‬وباالعتامد عىل تجربة أمريكا الالتينية‪ ،‬وتحديدًا‬
‫األرجنتني‪ ،‬جادل راؤول بريبيش بأن دول األطراف ال ميكنها أن تتطور أبدًا ألنها‬
‫كانت تعتمد عىل صادرات املواد الخام كمصدر للدخل‪ ،‬بينام كانت دول املركز‬
‫تعتمد عىل التصنيع‪ .‬مل يكن من املرجح أن يتغري هذا العائق النسبي القتصاديات‬
‫أمريكا الالتينية يف ظل النظام الليربايل الغريب الذي فرض التجارة الحرة‪ً .‬‬
‫وبداًل من‬
‫ذلك دعا بريبيش إىل حامية االقتصادات الوطنية لألطراف من خالل تبني سياسات‬
‫توطني التصنيع كبديل عن الواردات‪ .‬وكام يشري إريك هيليرن‪ ،‬يعتقد بريبيش أن دول‬
‫األطراف «بحاجة إىل عزل نفسها عن الصدمات القوية املتأتية من البلدان الصناعية‪،‬‬
‫كام أنها بحاجة إىل إيجاد خيارات سياسية لتعزيز التصنيع والتنمية االقتصادية‬
‫‪268‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫املدعومة من طرف الدولة» (‪ .)Helleiner, 2017: 89‬كان هذا مطلو ًبا لحامية‬
‫الصناعات الناشئة وللسامح بتوطني التصنيع املحيل‪ .‬وقد َخ ُل َص بريبيش إىل هذا‬
‫االستنتاج من خالل مالحظته القائلة بأن «سعر املنتجات األولية مييل إىل االنخفاض‬
‫بالنسبة إىل أسعار السلع املصنعة (التي تجسد إنتاجية أعىل)‪ ،‬ومن ثم فإن البلدان‬
‫الصناعية تستفيد من التجارة أكرث مام تستفيد الدول النامية» ‪(The Economist,‬‬
‫)‪ 2009‬لذلك‪ ،‬كان التغيري البنيوي مطلو ًبا بغية تحقيق التنمية االقتصادية‪ .‬وقد‬
‫توصل االقتصادي الربيطاين األملاين املولد هانز سينجر ‪ Hans Singer‬إىل االستنتاج‬
‫نفسه عىل نح ٍو مستقل‪ ،‬وأصبحت أفكارهم ُتعرف باسم أطروحة «بريبيش سينجر»‬
‫(‪.)Toye and Toye, 2003‬‬
‫اكتسبت نظرية التبعية مكانة بارزة يف حقل العالقات الدولية يف وقت كانت‬
‫هناك مخاوف سائدة بني دول العامل النامي بشأن االفتقار إىل التنمية االقتصادية‬
‫بعد مرحلة إنهاء االستعامر‪ .‬فخالل السبعينيات والثامنينيات‪ ،‬أدت ُمشكالت‬
‫ديون صندوق النقد الدويل والبنك الدويل التي واجهتها عديد من دول العامل‬
‫الثالث‪ ،‬وخصوصا يف أفريقيا‪ ،‬إىل تفاقم هذه املخاوف بسبب الرشوط القاسية‬
‫املفروضة‪ .‬ورأى منظرو التبعية أن هذه ُت َعدُّ قضية بنيوية‪ ،‬حيث مارست القوى‬
‫شكاًل من أشكال االستعامر الجديد من خالل فرض التبعية‬ ‫االستعامرية السابقة ً‬
‫االقتصادية‪ ،‬وذلك عىل عكس الحكم االستعامري املبارش‪ .‬وبلغ تأثري نظرية التبعية‬
‫يف الشؤون الدولية ذروته يف العام ‪ 1974‬عندما اعتمدت الجمعية العامة لألمم‬
‫املتحدة اإلعالن الرامي إلنشاء النظام االقتصادي الدويل الجديد‪ ،‬وكان الكثري من‬
‫الزخم املؤيد لذلك يأيت من مؤمتر األمم املتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)‪ .‬ويف‬
‫ناجحا من ناحية تنفيذ البنود‬
‫حني أن النظام االقتصادي الدويل الجديد مل يكن ً‬
‫الواردة فيه‪ ،‬فإنه كان ً‬
‫مهاًم ألنه عرب عن مخاوف العامل النامي بشأن اآلثار السيئة‬
‫للتجارة الحرة املفروضة‪.‬‬
‫َ‬
‫بعد حامسها األويل الذي بلغ ذروته خالل السبعينيات‪َ ،‬تط َّو َرت نظرية‬
‫التبعية إىل نظري ٍة للنظم العاملية‪ ،‬والتي تشرتك يف جميع خصائص األوىل تقري ًبا‬
‫مع وجود اختالفات مهمة‪ .‬ترتبط نظرية النظم العاملية عىل نح ٍو وثيق بأعامل‬
‫إميانويل والرشتاين )‪،Immanuel Wallerstein (1974, 1979, 1983, 1984‬‬
‫‪269‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫حيث كان له موضوع بنيوي قوي لالقتصاد السيايس الدويل مبني عىل التفاعل‬
‫الدينامييك بني املَ ْر َكز‪ ،‬وشبه األَ ْط َراف‪ ،‬واألَ ْط َراف‪ .‬لقد عكست نظريته صدى كل‬
‫من املقاربات املاركسية والليربالية لالقتصاد السيايس الدويل‪ ،‬وأصبحت نظرية‬
‫مؤثرة يف العلوم االجتامعية والتاريخ‪ .‬وكانت نظريته متوافق ًة عىل نطاق واسع‬
‫مع نظرية التبعية ولكن كان لها تاريخ أكرب ونطاق نظري خاص‪ .‬إن نظرية النظم‬
‫العاملية كانت نظري ًة بنيوي ًة ومادي ًة‪ ،‬ركزت أساسا عىل املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ .‬ويف حني‬
‫ركزت نظرية التبعية يف املقام األول عىل التأثريات قصرية املدى للعامل الثالث‪،‬‬
‫وتحديدًا أمريكا الالتينية‪ ،‬فإن نظرية النظم العاملية متركزت عىل بنية وعالقات‬
‫االقتصاد الدويل مبعناه العاملي الحقيقي‪.‬‬
‫كان أحد االنتقادات الرئيسة املوجهة إىل نظرية التبعية هو تركيزها املفرط‪،‬‬
‫حتى الحرصي‪ ،‬عىل القضايا االقتصادية‪ .‬إذ حالت نزعتها املادية دون دمج قضايا‬
‫العرق والجنس يف تحليالتها‪ .‬وهكذا‪ ،‬وبرغم تركيزها عىل األمم املهمشة يف العامل‪،‬‬
‫أو األَ ْط َراف‪ ،‬فإن هذه النظرية مل تصلح لتحليل أنواع أخرى من التهميش‪ ،‬مثل‬
‫الجامعات املهمشة داخل الدول‪ .‬كام مل يسمح الرتكيز البنيوي لنظرية التبعية‬
‫بالتنظري بشأن دور النخب داخل دول األَ ْط َراف‪ ،‬وتحديدًا اهتاممهم وعملهم تجاه‬
‫الحفاظ عىل العالقات االقتصادية غري املتكافئة مع املَ ْر َكز الغريب‪ .‬مثة نقد آخر‬
‫يتمثل يف الفاصل القائم بني النظرية والتطبيق‪ .‬ففي حني اكتسبت الدعوة إىل‬
‫وزخاًم كبريين خالل فرتة السبعينيات‪ ،‬أثبتت‬ ‫ً‬ ‫إنشاء اقتصاد دويل جديد انكشا ًفا‬
‫بنود تلك املبادرة أنها غري قابلة للتطبيق و ُتركت من دون إنفاذ‪ .‬وعندما أصبح‬
‫بداًل من ذلك سياسات تتعارض مع‬ ‫رئيسا للربازيل تراجع عن نظريته ون َّفذ ً‬
‫كاردوزو ً‬
‫كتاباته ذات التوجه االشرتايك (‪ .)Viotti and Kauppi, 2011: 202‬رمبا يكون أكرب‬
‫انتقاد موجه إىل نظرية التبعية هو تركيزها عىل البنية االقتصادية يف وقت معني من‬
‫التاريخ وكذلك يف مناطق معينة من العامل‪ ،‬مام حال دون تعميم استنتاجاتها‪ .‬فعىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬عندما بدأت اقتصادات رشق آسيا يف الصعود انطالقا من السبعينيات‪،‬‬
‫وشهدت من ًوا اقتصاد ًّيا رسي ًعا يف الثامنينيات وأوائل التسعينيات‪ ،‬فهي مل تحقق ذلك‬
‫عن طريق استبدال الواردات‪ ،‬ولكن عن طريق ترويج الصادرات‪ ،‬حيث جعلت‬
‫هذه الظاهرة نظرية التبعية تفقد كثريا من أهميتها‪.‬‬
‫‪270‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫منذ فرتة الثامنينيات‪ ،‬انتقل الكثري من الزخم يف التنظري بشأن العامل غري‬
‫الغريب إىل نظرية النظم العاملية وما بعد االستعامرية‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬كان‬
‫لنظرية التبعية تأثري كبري‪ .‬يبدو أنها كانت أول نظرية لحقل العالقات الدولية‬
‫َتتَأَىت من األَ ْط َراف ل ُت ْق ِحم نفسها داخل املَ ْر َكز وتسهم يف النقاشات الدائرة فيه‪.‬‬
‫بحيث أسهمت يف إيجاد نظرية النظم العاملية كام أسهمت يف إعادة إدخال‬
‫االقتصاد السيايس الدويل الح ًقا ضمن حقل العالقات الدويل داخل املَ ْر َكز‪،‬‬
‫وتناولها من ِقبل باحثني أساسيني مؤثرين من أمثال غالتونغ‪ .‬وكام يجادل‬
‫ميشيل بانكس (‪ ،)1985: 18‬فإن البنيوية‪ ،‬مبا يف ذلك اإلمربيالية‪« ،‬كانت تلوح‬
‫يف األفق دامئًا يف ظالل حقل العالقات الدولية» طوال فرتة تكوينها‪ .‬وكام ناقشنا‬
‫يف الفصلني الثاين والرابع‪ ،‬فإن حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز تعمد تهميشها‬
‫«س ِّلط الضوء عليها» يف حقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز‪،‬‬
‫بالفعل‪ .‬ولكن أخ ًريا ُ‬
‫وذلك من خالل أعامل ُمن َِّظ ِري التبعية يف فرتة الستينيات والسبعينيات‪ .‬لقد‬
‫كان هناك تقسيم معني للعمل بني نظرية التبعية وما بعد االستعامرية‪ .‬وكام‬
‫يالحظ إيالن كابور (‪ ،)2002: 647–8‬فإن «نظرية التبعية تتبنى منظو ًرا بنيو ًّيا‬
‫واجتامع ًّيا اقتصاد ًّيا‪ ،‬وترى أن اإلمربيالية والتنمية مرتبطتان بتكشف الرأساملية‪،‬‬
‫يف حني ُتفضل نظرية ما بعد االستعامرية تبني منظور ثقايف مابعد بنيوي‪ ،‬وربط‬
‫اإلمربيالية وصفة الفاعلية بالخطاب وسياسة التمثيل»‪ .‬وسيناقش الفصل الثامن‬
‫نظرية ما بعد االستعامرية بتفصيل أكرب‪.‬‬

‫‪ - 3 - 3‬حقل العالقات الدولية يف األقاليم‬


‫لقد أصبح تتبع تطور حقل العالقات الدولية عىل نح ٍو منهجي يف مختلف‬
‫األقاليم غري الغربية أم ًرا صع ًبا بسبب املأسسة الضعيفة عمو ًما لهذا الحقل املعريف‬
‫يف معظم دول األَ ْط َراف (نوقش ذلك ساب ًقا)‪ ،‬والقيود السياسية املفروضة عىل العمل‬
‫األكادميي وما يرتتب عىل ذلك من ندرة يف املعلومات‪ .‬ويف حني شهدت فرتة ما‬
‫بعد الحرب الباردة بداية أبحاث حقل العالقات الدولية يف جميع أرجاء العامل يف‬
‫النضج ويف التعبري عن األفكار الرئيسة لهذا التخصص‪ ،‬فإن أسسها املفاهيمية املهمة‬
‫ُوضعت خالل الحرب الباردة‪.‬‬
‫‪271‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 3 - 4‬آسيا‬
‫تعاين دراسة تطور حقل العالقات الدولية يف اآلسيوي بعض ُمشكالت التنوع‬
‫املوجودة داخل اإلقليم واالختالفات املوجودة يف األقاليم األخرى‪ ،‬وإن كان ذلك‬
‫حاصال عىل نطاق أعىل‪ ،‬خاص ًة بسبب حقيقة أن القوى الثالث الرئيسة املحتضنة‬
‫لحقل العالقات الدولية‪ ،‬وهي اليابان والهند والصني‪ ،‬متكنت من تطوير مجال‬
‫الدراسة هذا بطرق مختلفة ومتميزة (‪ )Alagappa, 2011‬ومن دون أي روابط‬
‫بعضها مع بعض‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬كانت اليابان تشكل جز ًءا من َم ْر َكز حقل‬
‫العالقات الدولية أكرث من كونها تشكل جز ًءا من األَ ْط َراف‪ ،‬كام أن تطوير حقل‬
‫أيضا عملية ديناميكية‪ ،‬تستجيب للسياسات‬ ‫العالقات الدولية يف هذه البلدان ُي َعد ً‬
‫املحلية املتغرية والتيارات الجيوسياسية التي تواجه الدولة‪.‬‬
‫ففي الهند كانت «الرسدية الرئيسة» لحقل العالقات الدولية هي عدم‬
‫االنحياز‪ ،‬عىل الرغم من أن الهند انضمت الح ًقا إىل سياسات السعي وراء األمن‬
‫باملعنى التقليدي (‪ .)Alagappa, 2011: 204‬ويف الصني كانت الرسدية الرائجة‬
‫تتمركز عىل موقعها كدولة اشرتاكية تتامهى مع العامل النامي‪ .‬ومن املفارقات‬
‫أن مجتمع حقل العالقات الدولية يف الهند‪ ،‬عىل الرغم من دور الدولة باعتبارها‬
‫َارِصة للتضامن بني دول العامل الثالث‪ ،‬فشل يف‬ ‫مؤسسا لحركة عدم االنحياز و ُمن ِ‬
‫بناء مفهوم عدم االنحياز بوصفه مساهمة نظرية قوية لحقل العالقات الدولية‬
‫متأتية من العامل غري الغريب (‪ .)Mallavarapu, 2009‬كان هذا عىل عكس ما كان‬
‫يحدث يف الصني‪ ،‬حيث ميكن اعتبار نظرية العوامل الثالثة ملاو تيس تونغ (املوضحة‬
‫سابقا) مساهم ًة صيني ًة يف حقل العالقات الدولية (‪ .)Alagappa, 2011‬ولكن‬
‫خالل معظم هذه الفرتة كان حقل العالقات الدولية األكادميي الصيني إما يقبع‬
‫تحت سيطرة أيديولوجية صارمة للحزب‪ ،‬وإما يتموضع بجانب معظم الحياة‬
‫الجامعية املحاطة بفوىض الثورة الثقافية‪.‬‬
‫ويف حني أن بعض النظريات الغربية‪ ،‬خاصة الواقعية الكالسيكية‪ ،‬كانت مؤثرة‬
‫يف كل من الهند والصني‪ ،‬فإن ما بعد االستعامرية واملقاربات املستوحاة من دراسات‬
‫التبعية كانت شائعة عىل نح ٍو كبري يف الهند‪ ،‬إذ ميكن أن تكون األخرية متثل أهم‬
‫مساهمة للهند يف نظرية العالقات الدولية‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬يرفض بعض الباحثني‬
‫‪272‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫الهنود البارزين يف هذا التخصص فكرة وجود أي مقاربة هندية متميزة لحقل‬
‫العالقات الدولية (‪.)Mallavarapu, 2009: 166; Behera, 2010: 92‬‬
‫خالل فرتة الحرب الباردة‪ ،‬أسهم املفكرون‪ /‬الباحثون الهنود يف أفكار النظام‬
‫العاملي والعدالة من وجهة نظر التجربة الهندية‪ .‬لكن هذه املساهامت مل تشكل‬
‫أيضا‪ ،‬مع بعض مخاطر التبسيط‬ ‫متجانسا للنظام العاملي‪ .‬قد يكون من املمكن ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فهاًم‬
‫املفرط‪ ،‬وصف سيرس جوبتا ‪ Sisir Gupta‬بأنه «واقعي صارم»؛ وأيضا َن ْع ُت أرجون‬
‫أبادوراي ‪ A. Appadorai‬بأنه ليربايل أممي؛ وجواهر الل نهرو باعتباره ليربال ًّيا‬
‫واقع ًّيا؛ وآشيس ناندي ‪ Ashis Nandy‬باعتباره مؤيدًا ملا بعد االستعامرية‪ .‬لقد‬
‫وجد سيدهارث ماالفارابو )‪« Siddharth Mallavarapu (2018: 169–70‬انتقائية‬
‫كبرية يف الطريقة التي ُوضعت بها نظرية للنظام يف ساحة تفكري حقل العالقات‬
‫الدولية الهندي‪ ...‬سيكون يف غري محله إسناد أو فرض أي وجهة نظر جوهرية‬
‫أو أحادية للنظام السيايس تنبع من الهند»‪ .‬ويف الوقت نفسه‪« ،‬غال ًبا ما كانت‬
‫وجهات النظر هذه يف حوار بعضها مع بعض إما عن طريق التأييد وإما عن طريق‬
‫النقد» (‪ .)Mallavarapu, 2018:170‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬اكتشف سيدهارث ماالفارابو‬
‫وجود روح معيارية قوية كميزة مشرتكة لهذه املساهامت الهندية ‪(Mallavarapu,‬‬
‫)‪ .2018: 170‬أما نافنيتا بيهارا ‪ ،Navnita Chadha Behera‬فرافع ألجل إنشاء‬
‫مواقع بديلة لبناء املعرفة‪ ،‬وهو ما ميكن النهوض به من خالل توظيف وجهات نظر‬
‫مختلفة‪ ،‬كطريقة لبناء حقل عالقات دولية جديد‪ .‬إذ يجب أن يعتمد الحقل عىل‬
‫تأكيدات ما بعد الوضعية بشأن الثقافة والهوية (‪.)Behera, 2007: 355‬‬

‫‪ - 3 - 5‬أمريكا الالتينية‬
‫خالل السبعينيات والثامنينيات‪ ،‬أفسح اهتامم أمريكا الالتينية بنظرية التبعية‬
‫املجال أمام االستقالل الذايت‪ ،‬مستمدًا بذلك من الواقعية الكالسيكية أفكارها بشأن‬
‫دور النخب السياسية ودور السلطة‪ .‬واالستقالل الذايت‪ ،‬كام توضح ذلك أرلني تكرن‬
‫(‪ ،)33 :2009‬كان ُينظر إليه عىل أنه «رشط مسبق لتحقيق التنمية الداخلية وبناء‬
‫إسرتاتيجية سياسة خارجية ناجحة‪ ...‬كآلية للحامية من اآلثار الضارة للتبعية عىل‬
‫املستوى املحيل‪ ،‬ومن مستوى الداخل إىل الخارج كأداة لتأكيد املصالح اإلقليمية‬
‫‪273‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف النظام الدويل»‪ .‬كان التفكري املعريف الربازييل مؤثرا عىل نح ٍو خاص يف تطوير‬
‫مفهوم االستقالل الذايت‪ .‬وكنظرائهم يف األقاليم األخرى‪ ،‬وجد باحثو حقل العالقات‬
‫الدولية يف أمريكا الالتينية أن نظريات العالقات الدولية املستوردة ناقصة يف رشح‬
‫الواقع املحيل‪ ،‬ولكن ً‬
‫بداًل من التخيل عنها متا ًما‪ ،‬قاموا ب َت ْب ِي َئ ِت َها‪َ /‬ت ْو ِطي َن ًها‪ .‬وقد أدى‬
‫ذلك إىل ظهور ما تسميه أرلني تكرن بنموذج أمريكا الالتينية «الهجني» ‪(A. B.‬‬
‫)‪ ،Tickner, 2009: 33‬حيث ُتجسد أعامل هيليو جاغواريب ‪Helio Jaguaribe‬‬
‫وخوان كارلوس بويج ‪ Juan Carlos Puig‬هذا التوليف أو «التهجني»‪ ،‬أو «الدمج‬
‫اإلبداعي» ملبادئ حقل العالقات الدولية التقليدي يف التحليالت اإلقليمية للعالقات‬
‫الدولية‪ ،‬مام يؤدي إىل «اندماج املفاهيم املتأتية من نظريات التبعية والواقعية‬
‫واالعتامد املتبادل‪ ...‬التي أصبحت أساسية لتحليل القضايا العاملية يف عديد من دول‬
‫املنطقة» (‪.)A. B. Tickner, 2003a: 331‬‬

‫(٭ )‬ ‫‪ - 3 - 6‬أفريقيا‬
‫كام هو الحال يف املناطق األخرى‪ ،‬اعتمد حقل العالقات الدولية األفريقي‬
‫َت ْك ِييف وال َت َكيف مع مفاهيم ونظريات حقل العالقات الدولية الغريب‪ .‬لقد انتقد‬
‫باحثو حقل العالقات الدولية يف أفريقيا جنوب الصحراء الكربى (‪ )SSA‬الخطوط‬
‫املهيمنة لحقل العالقات الدولية الغريب‪ ،‬مثل تركيبة «جديد ‪ -‬جديد» ‪.Neo-Neo‬‬
‫ومن وجهة نظر ما‪« ،‬فإن توليفة «جديد – جديد» مل تفشل فقط يف رشح الحقائق‬
‫السياسية الدولية يف أفريقيا جنوب الصحراء الكربى‪ ،‬بل كانت تسمح باستغالل‬
‫أيضا وتضفي الرشعية عىل سياسة االستغالل من خالل التأكيد عىل سياسة‬‫املنطقة ً‬
‫القوة» (‪ .)Claassen, 2011:182‬لقد جمع باحثو العالقات الدولية األفارقة‬
‫بني نظريات التحديث والتبعية ووجهات نظر الدولة‪ .‬ففي ِحجاجه ضد طبيعة‬
‫مركزية الدولة يف نظرية العالقات الدولية الحديثة‪ ،‬يشري أسيس ماالكياس ‪Assis‬‬
‫(٭) نحن ندرك حقيقة أن مصادرنا الخاصة بأفريقيا تعود عىل نح ٍو أسايس إىل فرتة ما بعد الحرب الباردة‪ .‬إن قد ًرا‬
‫كب ًريا من أبحاث حقل العالقات الدولية يف أفريقيا حديث العهد نسب ًّيا‪ ،‬ال سيام باملقارنة مع أمريكا الالتينية وآسيا‪،‬‬
‫ولكن كام هو الحال مع مصادر أبحاث حقل العالقات الدولية والنقاش الدائر بشأن مناطق أخرى والكثري منها‬
‫حديث العهد نسب ًّيا‪ ،‬فهي تغطي املوضوعات الرئيسة للحقل مثلام تطور خالل الحرب الباردة‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫)‪ Malaquias (2001: 27‬إىل أن الدولة أو الجهات الفاعلة دون الدولة يجب أن‬
‫بداًل من الدولة الوستفالية‪.‬‬‫تكون وحدة تحليل حقل العالقات الدولية األفريقي ً‬
‫كام أن االنقسام بني أولئك الذين يفضلون اإلطار العاملي القائم عىل الغرب‬
‫أيضا أبحاث‬ ‫وأولئك الذين يفضلون اإلطار السياقي القائم عىل أفريقيا قد ميز ً‬
‫حقل العالقات الدولية يف املنطقة (‪ .)Ofuho, 2009: 74‬كانت أبحاث حقل‬
‫العالقات الدولية األفريقي منذ البداية أكرث توج ًها نحو التحديات التي تواجه‬
‫القارة‪ ،‬مثل الرصاع والعرق؛ وأزمات الالجئني؛ واألمن؛ والفساد وسوء الحكم؛‬
‫ونقص الدميوقراطية والعسكرة واالنقالبات؛ والفقر والتخلف‪ ،‬واملجاعة واألمن‬
‫الغذايئ؛ وفريوس نقص املناعة البرشية‪ /‬اإليدز؛ واملساعدات الدولية وأزمات‬
‫الديون؛ والجندر والقضايا البيئية؛ واإلرهاب؛ والبنية التحتية املنهارة؛ واالنتهاكات‬
‫الجسيمة لحقوق اإلنسان (‪ .)Ofuho, 2009: 76‬وهنا‪ ،‬كام هو الحال يف املناطق‬
‫األخرى‪ُ ،‬ت َعدُّ فائدة نظريات العالقات الدولية الغربية مصدر اهتامم كبري بالنسبة‬
‫إىل علامء حقل العالقات الدولية‪.‬‬
‫كان الرتكيز الثاين لحقل العالقات الدولية األفريقي‪ ،‬عىل غرار املناطق األخرى‬
‫يف األطراف‪ُ ،‬من َْص ًّبا عىل األفكار اإلقليمية التي شددت عىل أهمية التضامن والعمل‬
‫الوحدوي األفريقي‪ .‬ووفق توماس تيكو )‪ ،ThomasTieku (2013:15‬قد يعزو املرء‬
‫ذلك إىل االعتقاد السائد بني الحكام األفارقة بأن السلوك السليم يرتكز عىل «الشعور‬
‫بالوحدة والدعم تجاه األفارقة اآلخرين‪ ،‬عىل األقل يف األماكن العامة»‪ .‬وعىل الرغم‬
‫من أهمية القومية ومعيار السالمة اإلقليمية‪ ،‬متيل الكتابات األفريقية بشأن حقل‬
‫العالقات الدولية إىل تأكيد رؤية جامعية للعامل‪ ،‬وهي الرؤية التي غال ًبا ما ُتتجاهَ ل‬
‫يف الكتابات الغربية عن أفريقيا (‪ .)Tieku, 2013:16‬وقد أدت هذه النظرة العاملية‬
‫إىل ظهور مقرتحات من أجل السالم واألمن‪ ،‬مثل دعوة نكروما ‪ Nkrumah‬إىل‬
‫قيادة عليا أفريقية (‪ )Adebajo and Landsberg, 2001‬لتأمني السالم واألمن يف‬
‫أفريقيا من دون املساعدة أو التدخل الخارجيني‪.‬‬
‫كان عيل مزروعي أحد املساهمني الرئيسني يف تفكري حقل العالقات الدولية‬
‫األفريقي خالل أواخر فرتة الحرب الباردة‪ ،‬إذ ميكن وصفه بأنه ُمر ِّكب املفاهيم‬
‫وا ُملفكر الهجني العظيم يف أفريقيا‪ .‬ومن ثم سنتطرق إليه عىل نح ٍو منفصل يف‬
‫‪275‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫هذا السياق‪ ،‬عىل رغم أن البعض قد يعتقد أنه ينتمي إىل فئة الفكر مابعد‬
‫االستعامري الذي نوقش سابقا‪ .‬عىل الرغم من تأثره بالنزعة الوحدوية األفريقية‬
‫(‪ ،)Mazrui, 1967‬غري أن عيل مزروعي (‪ )1986‬أكد عىل الرتاث األفريقي الثاليث‪:‬‬
‫الثقافة األفريقية األصلية؛ واإلسالم؛ والنرصانية‪ .‬من الناحية األيديولوجية‪ ،‬متوضع‬
‫عيل مزروعي خارج املاركسية والرأساملية‪ .‬وعىل عكس أول حكام أفريقيا بفرتة‬
‫مابعد االستعامر مثل الجزائري أحمد بن بلة والتنزاين جوليوس نرييري‪ ،‬مل ير عيل‬
‫مزروعي االشرتاكية باعتبارها بديال أفضل من التطور الرأساميل‪ .‬لكنه اعرتف ً‬
‫أيضا‬
‫بأمراض الرأساملية‪ ،‬ويف حجة شهرية ضد املثقف الغاين الداعي إىل الوحدوية‬
‫األفريقية والرت رودين ‪ ،Walter Rodney‬دعا إىل املزج بني الرأساملية الليربالية‬
‫والقيم األفريقية (‪ .)Rajab, 2014‬قد ُي َفرس هذا االعتقاد يف التهجني سبب دعمه‬
‫رَسية ‪،)familyhood‬‬ ‫لربنامج جوليوس نرييري الخاص بـ «أوجاما» ‪ُ Ujamaa‬‬
‫(األ َ ِ‬
‫وهو مفهوم يجمع بني املبادئ االشرتاكية والقيم األفريقية‪ .‬كان مزروعي من أشد‬
‫منتقدي إرسائيل‪ ،‬وقد روج ملفهوم «أفرابيا» ‪ ،Afrabia‬أي اندماج أفريقيا والعامل‬
‫العريب (‪ .)Rajab, 2014‬وقد أدت أعامل مزروعي‪ ،‬مع اعرتافه بالتنوع الثقايف‬
‫والحضاري وفهمه التعددي لأليديولوجيا والهوية ومقاربات التنمية‪ ،‬ببعض‬
‫الباحثني إىل اعتبارها مقدمة لفكرة حقل العالقات الدولية العاملي‪ ،‬وهي الفكرة‬
‫التي تقود كتابنا (‪.)Adem, 2017: 247‬‬

‫‪ - 3 - 7‬الرشق األوسط‬
‫خالل الحرب الباردة ظل تطوير حقل العالقات الدولية يف جميع أنحاء الرشق‬
‫األوسط ضعي ًفا من الناحية النظرية ويركز عىل القضايا العملية‪ /‬السياسية وتدريب‬
‫الديبلوماسيني‪ .‬ففي تركيا ركزت دراسة هذا الحقل تحت إرشاف املَ ْكتَب الم ُ ْل ِيِك‬
‫‪( Mekteb-i Mülkiye‬مدرسة القرص‪ ،‬أو املدرسة الحكومية) ‪ -‬التي تأسست يف‬
‫العام ‪ 1859‬ولكنها اندمجت مع جامعة أنقرة يف العام ‪ - 1950‬عىل نح ٍو كبري عىل‬
‫التاريخ الديبلومايس والقانون الدويل (‪ .)Aydinli and Mathews, 2008‬حيث‬
‫سيطرت الواقعية ا ُمل َطبقة عىل املشكالت العملية عىل كل محاولة للتأطري النظري‪.‬‬
‫ويف العامل العريب‪ ،‬كام بني كريم مقديس (‪ ،)2009: 183‬عُ ِّرفت دراسة حقل العالقات‬
‫‪276‬‬
‫حقل العالقات الدولية ‪ :1989-1945‬التأسيس الثاين للتخصص املعريف‬

‫الدولية من خالل «مزيج من الشؤون امللحة الجارية‪ ،‬وشواغل السياسة العامة‬


‫قصرية املدى»‪ .‬ويف إيران‪ ،‬مل يكن حقل العالقات الدولية قبل ثورة الخميني يف‬
‫العام ‪ 1979‬يتسم بالرصامة ال من الناحية املنهجية وال النظرية‪ .‬إذ كانت الواقعية‬
‫هي النظرية املهيمنة‪ .‬ولكن بعد الثورة‪ ،‬مل تشهد إيران اهتام ًما متزايدًا بالنظرية‬
‫أيضا تبني أطر مفاهيمية شاملة‬ ‫واملنهجية فقط‪ ،‬خاصة بني جيل الشباب‪ ،‬بل شهدت ً‬
‫يف فهم السياسة الخارجية لبلدهم‪ ،‬مبا يف ذلك التوجهات الليربالية والواقعية ومزيج‬
‫من املقاربات األيديولوجية وغري األيديولوجية (املقاربات الوضعية والتجريبية‬
‫والتكاملية) (‪ .)Sariolghalam, 2009:160–1‬أما إرسائيل‪ ،‬فلطاملا كانت مندمجة‬
‫عىل نح ٍو وثيق مع حقل العالقات الدولية األورويب واألمرييك‪ ،‬ومن ثم كانت ُتشكل‬
‫جز ًءا من املَ ْر َكز أكرث من كونها جز ًءا من األَ ْط َراف‪ .‬ومل يتغري هذا الوضع يف إرسائيل‪،‬‬
‫ورمبا بسبب انخراطها الكبري يف التفاعل الوثيق مع حقل العالقات الدولية الغريب‪،‬‬
‫أصبحت تفتقر إىل إمكانية حيازة مقاربة نظرية متميزة لدراسة السياسة الدولية‬
‫(‪.)Kacowicz, 2009‬‬

‫خالصات‬
‫بحلول نهاية الحرب الباردة‪ ،‬بدأ حقل العالقات الدولية يف نرش مقاربة أكادميية‬
‫ُمتَأَ ِّتية من املَ ْر َكز نحو األَ ْط َراف‪ ،‬أي أصبح يشكل تخصصا معرفيا أكرث رسمية‪ .‬لكن‬
‫هذا التخصص املعريف ظل يهيمن عليه الغرب عىل نح ٍو كبري‪ ،‬وذلك بسبب هيمنة‬
‫قوة املَ ْر َكز واهتاممات األخري بشأن القطبية الثنائية واألسلحة النووية‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫مجموعة من العوامل األخرى مثل املوارد املحدودة لدى الباحثني يف دول األَ ْط َراف‬
‫وعدم اهتاممهم بالنظرية واملنهج‪ ،‬وتوجههم إىل حد كبري نحو السيايس والتجريبي‬
‫(وهو ما سيناقش يف الفصل العارش)‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬كانت مثة بدايات تفاعل حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز مع‬
‫نظريه يف األَ ْط َراف‪ ،‬وذلك مبساعدة ظهور نظرية التبعية ونظرية النظم العاملية‪،‬‬
‫واالستجابات األساسية التي قدمتها تلك النظريات‪ ،‬وتأثريها يف دراسات التنمية‬
‫واالقتصاد السيايس الدويل‪ .‬ولكن‪ ،‬ظلت ما بعد االستعامرية خالل هذه الفرتة‬
‫متثل يف األغلب حوا ًرا بني الباحثني املتشابهني يف التفكري القادمني من األَ ْط َراف‪.‬‬
‫‪277‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وعىل الرغم من أن نظرية العالقات الدولية يف الغرب مل تكن كتلة واحدة‪ ،‬وأنه‬
‫بحلول الثامنينيات كانت الواقعية والليربالية ومتغرياتها قد بدأت بالفعل يف مواجهة‬
‫تحديات قادمة من النسوية والنظريات النقدية األخرى (سنناقش هذه التحديات‬
‫يف الفصل الثامن‪ ،‬حيث ظهرت تلك النظريات خالل التسعينيات)‪ ،‬كانت نظرية‬
‫أساسا إىل بناء التجربة الغربية مبصطلحات عاملية‪ .‬وعىل‬ ‫العالقات الدولية موجهة ً‬
‫الرغم من أن إنهاء االستعامر كان تغي ًريا كب ًريا يف مامرسة العالقات الدولية‪ ،‬وجز ًءا‬
‫رئيسا من التحول من الصيغة األوىل إىل الصيغة األوىل املعدلة للمجتمع الدويل‬
‫العاملي‪ ،‬فإنه ظل خالل هذه املرحلة األوىل هامش ًّيا إىل حد كبري يف كل من مامرسة‬
‫العالقات الدولية ويف حقلها املعريف‪ .‬من املؤكد أن دول األَ ْط َراف أصبحت تتمتع اآلن‬
‫باالستقالل وبصوت سيايس أكرب‪ .‬لكنها مل تكن متلك ثروة وال قوة من الناحية املادية‪.‬‬
‫من ناحية دول املَ ْر َكز‪ ،‬بدا األمر أقل أهمية بكثري من اللعبة الصفرية الكبرية التي‬
‫طبعت املنافسات األيديولوجية والنووية خالل الحرب الباردة‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬بدأ‬
‫الوضع يشهد تغريا‪ .‬حيث بدأ جزء من حقل العالقات الدولية القادم من األَ ْط َراف‬
‫يف فرض نفسه داخل املَ ْر َكز‪ ،‬وكان هذا االتجاه ينتعش عىل نح ٍو ملحوظ خالل فرتة‬
‫التسعينيات وما بعدها عندما تحول تركيز حقل العالقات الدولية من التنافس‬
‫األيديولوجي واألسلحة النووية نحو الرتابط والعوملة وحقوق اإلنسان واالقتصاد‬
‫السيايس الدويل‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫احلديثة‬

‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫‪7‬‬

‫العامل بعد العام ‪:1989‬‬


‫«األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة‬
‫وصعود البقية‬

‫مقدمة‬
‫يغطي هذا الفصل الفرتة املمتدة بدءا من‬
‫نهاية الحرب الباردة‪ ،‬مرو ًرا باألزمة االقتصادية‬
‫التي بدأت يف العام ‪ ،2008‬وصوال إىل وقت‬
‫كتابة هذا الكتاب (‪ .)2018-2017‬ميثل أول‬
‫عقدين من هذه الفرتة‪ ،‬أي التسعينيات ومعظم‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة‬ ‫أوائل هذه األلفية‪ ،‬ذروة الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫الدويِل ال َعالَ ِمي التي بدأت يف ُّ‬
‫التشكل‬ ‫للم ْج َت َمع ِ‬
‫ُ‬
‫بعد الحرب العاملية الثانية‪ .‬أما العقد الثالث‬
‫لتلك الفرتة فقد شهد بدايات انتقال املجتمع‬
‫الدويل العاملي من بنيته العاملية الغربية يف‬
‫صيغتها األوىل املعدلة نحو البنية املابعد غربية‬ ‫«كان تعايف روسيا تحت حكم بوتني بدءا‬
‫يف صيغتها الثانية‪ُ .‬يلخص القسم التايل بإيجاز‬ ‫من العام ‪ 2000‬كاف ًيا لتمكينها من البدء‬
‫يف فرض نفسها داخل إقليمها والقتال ضد‬
‫استمرارية وعدم استمرارية املجتمع الدويل‬ ‫الواليات املتحدة والغرب»‬

‫‪279‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫العاملي املتشكل خالل فرتة الحرب الباردة‪ /‬إنهاء االستعامر‪ .‬ويتناول القسم الذي‬
‫الدويِل‬ ‫وىَل ا ُمل َعدلة ُ‬ ‫يليه مبزيد من التفصيل املوضوعات الرئيسة للصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫للم ْج َت َمع ِ‬
‫ال َعالَ ِمي‪ ،‬وكيف أن تلك املواضيع مارست أدوارا يف تنامي وترية التحول نحو الصي َغة‬
‫الدويِل ال َعالَ ِمي املابعد غريب‪.‬‬
‫للم ْج َت َمع ِ‬
‫الثا ِنية ُ‬

‫‪ - 1‬االستمرارية وعدم االستمرارية من عامل ما قبل العام ‪1989‬‬


‫مثلام ُحوجج بذلك يف الفصل الخامس‪ ،‬بدا أن نهاية الحرب الباردة كانت‬
‫مبنزلة انتصار للرأساملية الليربالية الجديدة الدميوقراطية للغرب عىل صيغة االقتصاد‬
‫املوجه الشمويل للحداثة التي طرحها االتحاد السوفييتي‪ .‬ضمن هذا النطاق كان‬
‫مثة ً‬
‫أيضا إىل حد ما انتصار للرأساملية الليربالية الجديدة عىل أشكالٍ من الرأساملية‬
‫كانت ذات َن َزعَات أكرث دميوقراطية واجتامعية وكينزية مثل تلك املوجودة يف‬
‫الدول اإلسكندنافية وأوروبا القارية واليابان‪ .‬خالل أوائل التسعينيات بدت الواليات‬
‫املتحدة وحلفاؤها الرئيسون أكرث قوة؛ إذ أظهرت رشاكاتهم التي ربطتهم م ًعا خالل‬
‫فرتة الحرب الباردة عُ م ًقا حقيقيا من خالل البقاء عىل قيد الحياة بعد زوال التهديد‬
‫األيديولوجي والعسكري السوفييتي املشرتك‪ .‬وقد أكدت الواليات املتحدة عىل نح ٍو‬
‫مقنع قوتها العسكرية بهزميتها لصدام حسني وطرد قواته من الكويت ‪(1990-‬‬
‫)‪ ،1991‬يف حني انتعش اقتصادها من ركود الثامنينيات وبدا أنه يشكل اقتصادا قويا‪.‬‬
‫أيضا كأنه يستعيد ذلك الزخم‪.‬‬ ‫ومثل الواليات املتحدة بدا االتحاد األورويب ً‬
‫فقد و َّلد القانون األورويب املوحد لعام ‪1987‬؛ ومرشوع العام ‪ 1992‬لإلصالحات‬
‫إحساسا حقيق ًيا بالتقدم‪ .‬وبينام وعدت معاهدة ماسرتيخت يف العام‬ ‫ً‬ ‫والتكامل‬
‫‪ 1993‬بتأسيس االتحاد النقدي يف غضون عقد من الزمان‪ ،‬نجحت معاهدة شنغن‬
‫يف العام ‪ 1995‬يف تفكيك الحدود الداخلية لالتحاد‪ .‬ومل يكن االتحاد األورويب‬
‫أيضا‪ :‬حيث انضمت إليه‬ ‫يتعمق يف مسار اندماجه فقط‪ ،‬بل كان يشهد توسعا ً‬
‫إسبانيا والربتغال يف العام ‪1986‬؛ وحققت أملانيا إعادة التوحيد يف العام ‪1990‬؛‬
‫ُوأدخلت أملانيا الرشقية السابقة ضمن املجموعة االقتصادية األوروبية؛ وانضمت‬
‫السويد وفنلندا والنمسا يف العام ‪1995‬؛ وفتح االتحاد آفاق التوسع رشقا بعد تحرير‬
‫تجسد هذا الشعور‬‫دول البلطيق وأوروبا الرشقية من السيطرة السوفييتية‪ .‬وقد َّ‬
‫‪280‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫بالزخم يف التحول الذي حصل يف العام ‪ 1993‬من املجموعة االقتصادية األوروبية‬


‫إىل االتحاد األورويب‪ .‬ويف أوائل التسعينيات عىل األقل‪ ،‬متتع الرشيك الرئيس اآلخر‬
‫للواليات املتحدة‪ ،‬اليابان‪ ،‬بزخم متولد عن ازدهاره االقتصادي الطويل‪ ،‬حيث‬
‫اعترب البعض اليابان املنافس املحتمل للواليات املتحدة ;‪(Huntington, 1991: 8‬‬
‫)‪ .Layne, 1993: 42–3, 51; Waltz, 1993: 55–70; Spruyt, 1998‬لقد كان لها‬
‫دور رائد يف تشكيل نظرية «اإل َوز الطائر»(٭) لالقتصادات رسيعة النمو يف رشق‬
‫رئيسا يف تحديث وتوسيع «اشرتاكية‬ ‫آسيا (‪ ،)Cumings, 1984‬وكانت متارس دو ًرا ً‬
‫السوق» التي أطلقتها الصني حدي ًثا ‪(Yahuda, 2014: locs. 627, 2258; S. A.‬‬
‫)‪ .Smith, 2015: 35–6; Kokubun et al., 2017: 95–121‬وقد بدت الرأساملية‪،‬‬
‫وبدرجة أقل الدميوقراطية الليربالية وحقوق اإلنسان‪ ،‬يف موقع قيادي يف املجتمع‬
‫الدويل العاملي مع بداية التسعينيات‪.‬‬
‫مل يواجه الغرب املنترص‪ ،‬عىل األقل يف البداية‪ ،‬أي منافسني أقوياء‪ .‬فبعد‬
‫انهيار االتحاد السوفييتي دخلت روسيا يف تدهور اقتصادي وسيايس وعسكري‬
‫حاد‪ ،‬وبالكاد متسكت بوضعها باعتبارها قوة كربى‪ .‬ورسعان ما توجهت دول‬
‫البلطيق الثالث باإلضافة إىل الدول التابعة لالتحاد السوفييتي السابق يف أوروبا‬
‫الرشقية نحو الغرب‪ ،‬إذ أصبح معظمها يشكل جزءا من «الناتو» واالتحاد األورويب‬
‫بحلول العام ‪ .2004‬أما الصني فقد تخلت عن االقتصاد املوجه ملصلحة االقتصاد‬
‫الرأساميل يف أواخر السبعينيات‪ ،‬وقد كان أداؤها جيدًا يف اإلصالحات االقتصادية‬
‫خالل الثامنينيات‪ ،‬لكنها بدأت الحقبة الجديدة يف ظل ظروف معقدة‪ ،‬حيث كان‬
‫الحزب الشيوعي الصيني يعيش حالة ذعر شديد بسبب انهيار األنظمة الشيوعية‬
‫يف جميع أنحاء اإلمرباطورية الروسية‪ ،‬وكانت عديد من العقوبات قد ُفرضت عىل‬
‫(٭) وضع االقتصادي الياباين املشهور «اكاماتسو كانامي» يف العام ‪ 1937‬نظرية اقتصادية اعتمدت عىل طريقة‬
‫أرساب اإلوز‪ ،‬وعرفت بنظرية «اإل َوز الطائر» ‪ ،flying geese theory‬وقد انترشت هذه النظرية وذاع صيتها عىل‬
‫يد االقتصادي «برسو كامنغز» يف العام ‪ 1984‬كنظرية بديلة شكلت اخرتاقا يف مجال مناذج التنمية الصناعية التي‬
‫طرحها الغربيون‪ .‬وتص ِّور نظرية اإلوز الطائر عملي َة النمو االقتصادي يف دول رشق آسيا عىل أساس أن اليابان تأيت يف‬
‫مقدمة الرسب باعتبار أنها قائد الرسب‪ ،‬وتليها مجموعة الرسب األول الذي يضم كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ‬
‫وسنغافورة‪ .‬ثم يأيت الرسب الثاين الذي يشمل ماليزيا وتايلند وإندونيسيا‪ ،‬أما الرسب الثالث فيضم كمبوديا وفيتنام‪.‬‬
‫وبالطبع تفصل بني كل رسب والذي يليه مسافة تحددها رسعة الرسب ومقدار علو طريانه‪ ،‬وهو ما يعكس مرحلة‬
‫النمو والتطور االقتصادي يف كل دولة‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫البالد بسبب سحقها الوحيش للمظاهرات املؤيدة للدميوقراطية يف ساحة تيانامنني‬


‫‪ Tiananmen Square‬يف العام ‪ .1989‬لقد أرادت بكني‪ /‬وكانت تحتاج إىل االستقرار‬
‫والوصول إىل االقتصاد العاملي‪ ،‬وقد اتبعت نصيحة الزعيم الصيني األسبق دنغ شياو‬
‫بينغ باالبتعاد عن األنظار‪ ،‬وتكريس وقتها للسعي إىل االنضامم إىل منظمة التجارة‬
‫العاملية (‪ )WTO‬بأفضل الرشوط التي ميكن أن تحصل عليها‪ .‬وكانت الهند هي‬
‫املنافس الوحيد املحتمل لها‪ ،‬ولكن حتى أواخر التسعينيات بدت الهند غارقة يف‬
‫النمو البطيء والسياسات التي تتطلع إىل الرتكيز عىل الداخل‪.‬‬
‫بالنظر إىل كل هذا‪ ،‬فليس من املستغرب أن يكون التحول البنيوي بعد العام‬
‫‪ 1989‬قد ُر ِصد عىل نحو عام من خالل مفهومني تبسيطيني كبريين‪ :‬القطبية‬
‫األحادية؛ والعوملة‪ .‬لقد بدا هذا االنتصار الذي أحرزته الدميوقراطية الرأساملية‬
‫شاماًل إىل درجة أن فرانسيس فوكوياما (‪ )1992‬أعلن بجرأة أنه‬ ‫الليربالية انتصارا ً‬
‫ُمُيثل إيذا ًنا بـ «نهاية التاريخ»‪.‬‬
‫يف الصياغة الواقعية الجديدة التي كانت مؤثرة داخل الواليات املتحدة ويف‬
‫أماكن أخرى عىل مستوى الدوائر األكادميية والسياسة‪ ،‬تح َّولت القطبية الثنائية إىل‬
‫القطبية األحادية ;‪(Huntington, 1999; Kapstein and Mastanduno, 1999‬‬
‫)‪ .Wohlforth, 1999, 2009‬فتشكيل النظام الذي كان مكونا من ثالث دول متلك‬
‫وضع القوة العاملية العظمى يف العام ‪ ،1945‬انخفض إىل القوتني العظميني بني‬
‫العامني ‪ 1947‬و‪ ،1989‬ثم بعد ذلك إىل القوة العظمى األوحد‪ .‬ومنذ العام ‪1990‬‬
‫وقفت الواليات املتحدة وحدها باعتبارها القوة العظمى الوحيدة‪ .‬وبدا أن سحقها‬
‫جيش صدام (‪ )1991-1990‬يشري إىل قدرة عسكرية عىل التدخل من دون منافسة‬ ‫َ‬
‫أو تقييد من أي قوى أخرى‪ .‬ومع انهيار االقتصاد املوجه يف فرتة ما بعد االتحاد‬
‫السوفييتي‪ ،‬وتحول الصني نحو اقتصاد السوق‪ ،‬بدت الليربالية الجديدة كأنها حاملة‬
‫اللواء األيديولوجي الوحيد املتبقي للحداثة‪ ،‬مام فتح الطريق أمام عوملة كاملة‬
‫لالقتصاد العاملي الرأساميل‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬تبخر برسعة ملحوظة خطر الحرب‬
‫النووية الوشيكة التي كانت قد سادت عامل الحرب الباردة‪ .‬فقد ألغت الواليات‬
‫املتحدة وروسيا املستويات العالية من التأهب العسكري والحساسية التي تراكمت‬
‫بينهام عىل مدى أربعة عقود من الحرب الباردة‪ ،‬وبدأتا يف تقليص الرتسانات‬
‫‪282‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫الهائلة من األسلحة النووية وأنظمة اإلطالق التي تراكمت لدى كل منهام‪ .‬وحتى‬
‫االنتشار النووي بدا كأنه تحت السيطرة‪ ،‬حيث اسرتدت روسيا فائض ترساناتها‬
‫النووية من بعض الدول التي َخ َل َف ْت َها‪ ،‬وأبرزها أوكرانيا وجنوب أفريقيا‪ ،‬حني فككت‬
‫الرتسانة النووية الصغرية التي بناها نظام الفصل العنرصي هناك‪ .‬وقد عُ زِّز التبسيط‬
‫الكبري لألحادية القطبية املتمحورة حول الواليات املتحدة عندما انفجرت الفقاعة‬
‫االقتصادية لليابان‪ ،‬أما التكهنات الشائعة لفرتة وجيزة القائلة بأن اليابان قد تتفوق‬
‫عىل الواليات املتحدة‪ ،‬فقد صارت يف طي النسيان‪.‬‬
‫مارست مركزية الدولة الخاصة بالقطبية األحادية دو ًرا غري ًبا إىل حد ما‬
‫مع العوملة التي أصبحت الطريقة املشهورة األخرى لرؤية عامل ما بعد الحرب‬
‫الباردة ;‪(Hirst and Thompson, 1996; Clark, 1997; Armstrong, 1998‬‬
‫)‪ .Held et al., 1999‬فقد ابتعدت العوملة من فهم العالقات الدولية عىل أنها‬
‫مجرد نظام من الدول‪ ،‬وعمدت إىل النظر إىل العالقات الدولية بوصفه نظاما من‬
‫التدفقات التي تجسد عديدا من أنواع الفواعل مبا يف ذلك الدول‪ .‬ويكمن جوهر‬
‫العوملة يف تتبع الروابط املتزايدة واالعتامد املتبادل بني الدول والشعوب عىل‬
‫نطاق عاملي‪ .‬ومبا أن االقتصاد كان القطاع الرائد يف مثل هذه الروابط ومسارات‬
‫االعتامد املتبادل‪ ،‬فإن منظور العوملة يفضل الديناميات االقتصادية عىل السياسية‪.‬‬
‫فهو مييل إىل رؤية الدول والشعوب منخرطة عىل نحو متزايد يف شبكات االعتامد‬
‫االقتصادي املتبادل التي تنسجها الرشكات عرب الوطنية واملنظامت الحكومية‬
‫الدولية‪ .‬هذه الروابط االقتصادية‪ ،‬وحينام ُتضاف إىل املصائر املشرتكة مثل قضايا‬
‫البيئة واألمراض العاملية‪ ،‬وأيضا إىل مجموعة متنامية من املنظامت الدولية غري‬
‫الحكومية والرشكات عرب الوطنية التي تربط الناس م ًعا عرب حدود الدولة ألجل‬
‫مجموعة متنوعة من األهداف‪ ،‬ستشري إىل نظام عاملي غري إقليمي تكون فيه‬
‫الدول أقل صلة بقضايا السياسة‪ ،‬وتنجرف فيه السياسة العاملية نحو الحوكمة‬
‫العاملية )‪.(Held et al., 1999; Weiss, 2013‬‬
‫وحتى لو كان املرء يرى العوملة عىل أنها كانت مسارا طويل األمد‪ ،‬فقد بدا أنه ال‬
‫جدال يف أن األحادية القطبية خالل التسعينيات‪ ،‬وألنها كانت تقودها قوة ليربالية‪،‬‬
‫حكاًم أكرث حرية من أي وقت مىض‪ .‬ميكن اآلن إطالق العنان‬ ‫فقد أعطت للعوملة ً‬

‫‪283‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫لرأس املال ضمن نظام مقيد بالقواعد‪ ،‬يدمج اإلنتاج عىل نطاق عاملي؛ ويعمق‬
‫الرتابط بني الجميع ضمن إطار التجارة والتمويل العامليني‪ .‬لقد ر َّوجت الدول‬
‫الليربالية الرائدة للعوملة االقتصادية (عىل الرغم من أن األخرية تتعلق برأس املال‬
‫والسلع أكرث مام تتعلق بالعاملة) عىل الرغم من أنها أضعفت سيطرتهم املحلية‬
‫واإلقليمية‪ .‬كانت الصفقة هي التجارة يف النظام االقتصادي الذايت لألسواق العاملية‬
‫من أجل الحصول عىل معدالت منو أعىل‪ ،‬وقد ُق ِبلت هذه الصفقة حتى من قبل‬
‫الحزب الشيوعي الصيني‪ .‬كانت الفكرة التي ربطت بني العوملة والقطبية األحادية‬
‫هي فكرة استقرار الهيمنة‪ :‬النظرية القائلة إن االقتصاد العاملي الليربايل كان يعمل‬
‫عىل نحو أفضل عندما كانت هناك قوة ليربالية رائدة قوية مبا يكفي للسيطرة عىل‬
‫الساحة؛ وتوفري األمن؛ وتعزيز ودعم املؤسسات الالزمة لحكم التجارة والتمويل‬
‫العامليني حتى يظل االقتصاد العاملي مستق ًرا ‪(Kindleberger, 1973; Gilpin,‬‬
‫)‪ .1981, 1987‬وقد أشارت العوملة إىل زيادة االعتامد املتبادل يف توليد الرثوة‪ ،‬ومن‬
‫ثم‪ ،‬إىل التقليل من َجد َوى الحرب والقوة العسكرية (‪.)Keohane and Nye, 1977‬‬
‫وعىل نحو أقل وضوحا‪ ،‬أشارت إىل صعود املصائر املشرتكة كعامل متزايد يف السياسة‬
‫العاملية‪ .‬وأوضح مثال لذلك هو املصري املشرتك لجميع الذين انخرطوا يف االقتصاد‬
‫الرأساميل العاملي؛ واالعتامد عىل أدائه السلس من أجل تحقيق الرثوة والرفاهية‪ .‬أما‬
‫املثال األقل وضوحا فقد كان يتمثل يف املصري املشرتك للعيش عىل كوكب يتعرض‬
‫لضغوط متزايدة بسبب مطالب األعداد البرشية املتزايدة ومستويات املعيشة‪.‬‬
‫كانت كل من القطبية األحادية والعوملة تسريان يف مصلحة الواليات املتحدة‪،‬‬
‫ومل يكن من املفاجئ أن تحظيا بشعبية هناك‪ .‬وقد ُق ِب َلتا عىل نطاق واسع يف‬
‫أماكن أخرى‪ ،‬وإن مل يكن دامئًا بحامس‪ ،‬كام َّ‬
‫شكلتا أيضا يف كثري من األحيان أشياء‬
‫كان يجب معارضتها‪ .‬لفت الرتكيز عىل هذين املفهومني االنتباه بعيدًا عن حقيقة‬
‫أيضا‪ .‬إذ اعترب البعض تفكك االتحاد السوفييتي؛‬ ‫أن عرص إنهاء االستعامر قد انتهى ً‬
‫وأيضا تحرير دوله الست التابعة ألوروبا‬ ‫وظهور روسيا والدول ‪ 14‬التي خلفته؛ ً‬
‫الرشقية‪ ،‬أنها الجولة األخرية من مسار إنهاء االستعامر‪ .‬لكن آخرين ‪(Jansen‬‬
‫)‪ ،and Osterhammel, 2017: 1 3–22‬وعىل الرغم من اعرتافهم بأن كال من‬
‫إنهاء االستعامر يف العامل الثالث وما بعد االتحاد السوفييتي ينطويان عىل نزع‬
‫‪284‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫الرشعية عن مامرسة الحكم األجنبي‪ ،‬فإنهم رأوا حالة ما بعد االتحاد السوفييتي‬
‫مختلفة عن تفكيك اإلمرباطوريات التي توجد فيها مرتوبوالت مركزية هيمنت‬
‫عىل أطراف العامل الثالث‪ .‬ومع انهيار ما يسمى بـ «العامل الثاين»(٭)‪ .‬بعد العام‬
‫‪ 1989‬أصبح املجتمع الدويل العاملي أكرث انقسا ًما بني مركز العامل األول الذي‬
‫يضم االقتصادات الصناعية املتقدمة‪ ،‬وأطراف العامل الثالث املكون من البلدان‬
‫النامية‪ .‬ضمن هذا السياق كانت الصني مبدئيا التزال تتموضع عىل نحو غامض‬
‫يف مكان وسط بني املركز واألطراف‪.‬‬
‫ضمن هذا اإلطار‪ ،‬املركز‪-‬األطراف‪ ،‬الذي هيمن عليه تحالف القوة العظمى‬
‫الليربالية (الواليات املتحدة) وحلفائها من قوى كربى أخرى (االتحاد األورويب‬
‫واليابان)‪ ،‬ليس من املستغرب أن يكون مثة إعادة إحياء لـ «معيار الحضارة» بعد‬
‫العام ‪ ،1990‬عىل الرغم من عدم استخدام نفس لغة الحقبة االستعامرية تلك‪ .‬إذ‬
‫تح َّول «معيار الحضارة» إىل مصطلحات ليربالية أكرث تهذيبا متظهرت يف مصطلحات‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬والحكم «الرشيد» (أي الدميوقراطية) واملرشوطية‪ .‬حيث الحظ‬
‫الكتاب كيف أصبحت فكرة حقوق اإلنسان متثل «معيا ًرا جديدًا‬ ‫عديد من ُ‬
‫للحضارة» ‪(Gong, 1984: 90–3; 2002 ; Donnelly, 1998; Jackson, 2000:‬‬
‫‪287–93; Keene, 2002: 122– 3, 147– 8; Clark, 2007: 183; Bowden,‬‬
‫)‪ .2009‬كام عكست املامرسات املرتبطة بالرتويج إلجامع واشنطن ‪Washington‬‬
‫‪(Consensus‬٭٭) قبل األزمة املالية للعام ‪ 2008‬مواقف «معيار الحضارة»‪ .‬وكذلك‬
‫فعلت تلك الفكرة التي برزت يف الواليات املتحدة خالل التسعينيات والعقد األول‬
‫من القرن الحادي والعرشين‪ ،‬حيث أكدت أن «عُ ْص َبة» الدميوقراطيات يجب أن‬
‫تؤكد مسؤوليتها اإلدارية عىل املجتمع الدويل ;‪(Ikenberry and Slaughter, 2006‬‬
‫)‪ .Geis, 2013‬مل يعكس هذا تقليدًا طويل األمد للسياسة الخارجية األمريكية فقط‪،‬‬
‫(٭) يُقصد به املعسكر الشيوعي أو املعسكر الرشقي‪ ،‬وهي مجموع الدول الداخلة تحت نطاق االتحاد السوفييتي‪،‬‬
‫أو تلك البلدان التي كانت تتميز بتبني االقتصاد املوجه‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫(٭٭) إجامع واشنطن هو مسودة طرحها االقتصادي األمرييك من أصل بريطاين جون وليامسون يف العام ‪1989‬‬
‫لتكون عالجا ووصفا من عرشة بنود للدول الفاشلة التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية وكيفية تنويع‬
‫اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية‪ ،‬باإلضافة إىل دعوته البنك الدويل وصندوق النقد الدويل لتبني هذه البنود‪.‬‬
‫[املرتجم]‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أيضا سياسة الواليات املتحدة بعد الحرب الباردة املتمثلة يف توسيع مجال‬‫بل عكس ً‬
‫الدميوقراطية التي بدأها بيل كلينتون‪ ،‬واستمر فيها بطريقة أكرث عدوانية جورج‬
‫دبليو بوش (‪.)Bouchet, 2013; Lynch, 2013‬‬
‫ولكن ما بدا يف البداية أنه انفتاح نحو تحقيق الغائية الليربالية‪ ،‬رسعان‬
‫ما تحول إىل يشء أكرث تعقيدًا وتحد ًيا‪ .‬فبعد نهاية الحرب األيديولوجية بني‬
‫الرشق والغرب‪ ،‬انهار التوتر السائد عامل ًيا بني الشيوعية الشمولية والليربالية‬
‫الدميوقراطية اللتني هيمنتا عىل املجتمع الدويل العاملي ملدة نصف قرن‪ً .‬‬
‫وبداًل‬
‫من ذلك‪ ،‬كان مثة عودة إىل القومية والدين والنعرة الحضارية وسياسات الهوية‪.‬‬
‫ممزوجا باستياء ما بعد فرتة االستعامر‪ ،‬ويف بعض‬ ‫ً‬ ‫غال ًبا ما كان هذا املركب‬
‫األحيان كان مصحو ًبا بالعنف الشديد‪ .‬يف بعض النواحي ويف بعض األماكن‬
‫ظهر اإلسالم ليحل محل الشيوعية كقطب فكري مضاد للمرشوع الليربايل‪.‬‬
‫ويف أماكن أخرى‪ ،‬وعىل األخص يف الصني وروسيا‪ُ ،‬ق ِبلت الرأساملية ولكن ليس‬
‫الدميوقراطية‪ ،‬مام خلق مرة أخرى انقسا ًما سلطو ًيا‪ /‬دميوقراط ًيا داخل العامل‬
‫الرأساميل‪ .‬وقد بدأ صعود الصني الرسيع نحو الرثوة والقوة يف التشكيك يف‬
‫الهيمنة الغربية عىل نحو أكرث برو ًزا مام كان عليه صعود اليابان سابقا‪ .‬ورسعان‬
‫ما ساءت عملية التصالح املأمول بني الغرب وروسيا‪ ،‬وبدأت القوى الصاعدة يف‬
‫فرض نفسها ضد الهيمنة الغربية‪ .‬وهو ما أثبت وعىل نحو رسيع خطأ غطرسة‬
‫فوكوياما الليربالية بشأن «نهاية التاريخ»‪.‬‬

‫‪ - 2‬ذروة الصيغة األوىل املعدلة من املجتمع الدويل العاملي واالنتقال‬


‫نحو صيغته الثانية‪ :‬املوضوعات الرئيسة للعالقات الدولية ‪2017-1989‬‬
‫يف هذا القسم سنستخدم البنية نفسها (املركز ‪ -‬األطراف) كام فعلنا يف الفصل‬
‫الخامس‪ ،‬حيث سنتطرق إىل دول املركز ودول األطراف والتفاعل الحاصل بينهام‪،‬‬
‫وسرنصد خيوط التفكري من حيث تركناها يف الفصول السابقة‪ .‬يتمثل أحد االختالفات‬
‫الرئيسة لهذا الفصل يف أن الصني ستصبح جز ًءا من املركز؛ ولذا فإننا سنناقشها ضمن‬
‫ذلك السياق ً‬
‫بداًل من كونها منطقة نائية منفصلة‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫‪ - 2 - 1‬املركز‬
‫خالل فرتة الحرب الباردة‪ ،‬كانت موضوعات القطبية الثنائية للقوتني العظميني‬
‫والتطور الرسيع لألسلحة النووية يهيمنان عىل املركز‪ .‬وبعد العام ‪ 1989‬تالىش‬
‫االهتامم بشأن األسلحة النووية وحروب القوى العظمى‪ ،‬عىل الرغم من أن املخاوف‬
‫بشأن االنتشار النووي ووقوعه يف أيدي الدول األخرى ظلت قوي ًة ‪(Buzan and‬‬
‫)‪ .Hansen, 2009: 239–43‬لقد أفسحت «القطبية الثنائية» الطريق أمام «القطبية‬
‫األحادية»‪ ،‬ولكن مثلام حاججنا يف الفصل الخامس بأن القطبية الثنائية فشلت‬
‫يف االستيالء عىل جزء كبري من بنية املجتمع الدويل العاملي فرتة الحرب الباردة‪،‬‬
‫فلم تكن األحادية القطبية متثل وص ًفا دقي ًقا للبنية الدولية فرتة ما بعد الحرب‬
‫الباردة‪ .‬إن فكرة التفريق الفردي بني القوى العظمى وجميع الدول األخرى أهملت‬
‫ببساطة كثريا من األشياء‪ .‬لقد كان التوصيف األفضل للمجتمع الدويل العاملي بعد‬
‫العام ‪ 1989‬هو وجود القوة العظمى األوحد (الواليات املتحدة)‪ ،‬وعديد من القوى‬
‫الكربى (االتحاد األورويب‪ ،‬والصني‪ ،‬وروسيا‪ ،‬وميكن القول بدرجة أكرب اليابان والهند)‬
‫وأعداد كبرية جدًا من القوى اإلقليمية (مثل الربازيل وإندونيسيا‪ ،‬وإيران‪ ،‬ونيجرييا‪،‬‬
‫وباكستان‪ ،‬وجنوب أفريقيا‪ ،‬وتركيا) ;‪(Layne, 1993, 2006; Huntington, 1999‬‬
‫)‪ .Buzan and Wæver, 2003; Buzan, 2004a‬لو كانت الواليات املتحدة تشكل‬
‫القوة العظمى الوحيدة يف عامل ليس فيه قوى كربى ويحتوي فقط عىل قوى إقليمية‪،‬‬
‫لكانت بالفعل غري مقيدة نسب ًيا‪ .‬ولكن مع وجود مجموعة من القوى الكربى يف‬
‫أيضا‪ ،‬وإحداها الصني التي كانت قوة صاعدة برسعة‪ ،‬كانت الواليات املتحدة‬ ‫اللعبة ً‬
‫تتمتع مبركز مهيمن لكنه بعيد عن القيادة‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬خالل التسعينيات ويف‬
‫أعقاب انتصار الرأساملية يف الحرب الباردة‪ ،‬كان لألحادية القطبية بعض املصداقية‪.‬‬
‫فقد دعمت اآلمال والخطط الليربالية لتوسيع املجال الدميوقراطي الليربايل‪ ،‬وعززت‬
‫انجرا ًفا ً‬
‫قاتاًل نحو النزعة االنفرادية داخل الواليات املتحدة والتي تبلورت يف عهد‬
‫إدارة بوش االبن (‪.)2009-2001‬‬
‫يف غضون هيمنة القطبية األحادية‪ ،‬كان مثة خطاب يدعو إىل نظام عاملي‬
‫«متعدد األقطاب» تبنته كل من روسيا والصني وفرنسا وإيران والهند وغريها من‬
‫الدول املعارضة لهيمنة الواليات املتحدة (‪.)Ahrari, 2001; Ambrosio, 2001‬‬
‫‪287‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كانت لهذه القوى أسباب مختلفة متا ًما تقف وراء تبني تلك الدعوة للتعددية‬
‫القطبية‪ ،‬عىل الرغم من أن أيا منها مل يكلف نفسه عناء وضع أي رؤية متامسكة‬
‫أو تصور بشأن أي نوع من املجتمع الدويل العاملي كانوا يريدونه‪ .‬كان القاسم‬
‫املشرتك أنهم يريدون مزيدا من االستقاللية و‪ /‬أو مزيدا من املكانة والصوت‬
‫ألنفسهم وملناطقهم داخل املجتمع الدويل العاملي‪ .‬يف حالة البعض‪ ،‬ال سيام روسيا‬
‫والصني وإيران والهند‪ ،‬كان النص الضمني غري املخفي هو أنهم يريدون مزيدًا من‬
‫النفوذ داخل مناطقهم‪ ،‬وتقليل الخضوع للقواعد والتدخالت األمريكية‪ .‬ويف حني‬
‫أن القطبية األحادية كتوصيف لبنية املجتمع الدويل العاملي رمبا تكون قد أربكت‬
‫املشهد أكرث مام أوضحته‪ ،‬فإنها ظلت صحيحة عىل األقل حتى العام ‪ ،2008‬ذلك‬
‫أن عالقات جميع القوى الكربى مع الواليات املتحدة كانت أكرث أهمية من عالقاتها‬
‫بعضها مع بعض‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬من املجدي يف هذا القسم الفرعي أن نراجع‬
‫بإيجاز كال من هذه العالقات الثنائية للقوى العظمى مع الواليات املتحدة؛ ألن‬
‫مثل هذه املراجعة ال تكشف فقط الحقيقة املختفية وراء االدعاء القائل باألحادية‬
‫القطبية‪ ،‬ولكنها تكشف ً‬
‫أيضا اآللية الكامنة وراء التآكل املستمر لذلك االدعاء‪.‬‬
‫سنبدأ بأولئك األكرث معارضة للواليات املتحدة (روسيا والصني)‪ ،‬ثم نتطرق إىل أولئك‬
‫املتحالفني معها (أوروبا واليابان)‪ ،‬وننتهي مع الهند‪ ،‬وهي قوة صاعدة حاولت فرتة‬
‫طويلة سلوك مسا ٍر أكرث حيادية‪.‬‬

‫‪ - 2 - 2‬روسيا‬
‫إن قصة العالقات الروسية ‪ -‬األمريكية هي لعبة ذات شقني‪ ،‬يغطي الشق‬
‫األول منها فرتة الضعف الرويس يف أعقاب انهيار االتحاد السوفييتي يف العام‬
‫‪ ،1991‬بينام يركز الشق الثاين عىل انتعاش روسيا يف العقدين األول والثاين من‬
‫هذا القرن‪ .‬خالل التسعينيات كانت روسيا تعيش حالة فوىض سياسية واقتصادية‪،‬‬
‫حاولت خاللها العثور عىل صيغة انتقال من الشيوعية إىل شكل من أشكال‬
‫الدميوقراطية والرأساملية‪ .‬لقد انهار اقتصادها وقوتها العسكرية‪ ،‬وكانت قيادتها‬
‫السياسية ضعيفة‪ .‬وقد حافظت املفاوضات الجارية مع الواليات املتحدة بشأن‬
‫تخفيضات األسلحة النووية عىل بعض الوهم الخاص بتمتعها بوضعها السابق كقوة‬
‫‪288‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫عظمى‪ ،‬لكن موقف روسيا كان ضعي ًفا ألنها ال تستطيع اآلن تحمل أعباء حتى تلك‬
‫األسلحة التي متتلكها‪ .‬لقد فقدت روسيا مجال نفوذها يف أوروبا الرشقية يف العام‬
‫‪ ،1989‬وكان من الواضح منذ البداية أن أتباعها السابقني‪ ،‬ويف الواقع حتى بعض‬
‫األجزاء املكونة لالتحاد السوفييتي السابق‪ ،‬سيصطفون إىل جانب الغرب‪ .‬شهدت‬
‫فرتة التسعينيات وأوائل العقد األول من القرن الحادي والعرشين إعادة تنظيم‬
‫هائلة ملناطق النفوذ بني «الناتو»‪ /‬االتحاد األورويب وروسيا ;‪(MacFarlane, 1993‬‬
‫)‪ .Fierke, 1999‬فقد توحدت أملانيا مرة أخرى يف العام ‪ ،1989‬مام أدى إىل انضامم‬
‫أملانيا الرشقية السابقة إىل كل من «الناتو» واالتحاد األورويب‪ .‬وبعد اضطالعها‬
‫باالستعدادات الالزمة‪ ،‬انضمت بولندا وجمهورية التشيك واملجر إىل «الناتو» يف‬
‫العام ‪1999‬؛ وانضمت إستونيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا والتفيا‬
‫وليتوانيا يف العام ‪2004‬؛ وألبانيا وكرواتيا يف العام ‪ .2017‬كام انضمت جمهورية‬
‫التشيك وإستونيا واملجر والتفيا وليتوانيا وبولندا وسلوفاكيا إىل االتحاد األورويب‬
‫يف العام ‪2004‬؛ وبلغاريا ورومانيا يف العام ‪ .2007‬وقد انسحبت الواليات املتحدة‬
‫من معاهدة الصواريخ املضادة للصواريخ الباليستية مع روسيا يف العام ‪ ،2002‬ثم‬
‫بدأ «الناتو» يف التحرك نحو تثبيت دفاعات صاروخية كانت ظاهر ًيا موجهة ضد‬
‫إيران‪ ،‬لكن روسيا عارضتها بشدة عىل أساس أنها ق َّوضت قدراتها الردعية‪ .‬ويف ظل‬
‫نظام القطبية األحادية األمرييك‪ ،‬كانت روسيا الضعيفة بالكاد متمسكة بوضعها‬
‫كقوة كربى‪ .‬فقد تراجع نفوذها‪ ،‬ومل تتلقَ املساعدة االقتصادية املتوقعة من الغرب‪،‬‬
‫وتوغلت مغازلة «الناتو» مع أوكرانيا وجورجيا لتصل عىل نحو أعمق إىل مجال‬
‫النفوذ التقليدي لروسيا‪.‬‬
‫بدأ الشق الثاين للعالقات الروسية ‪ -‬األمريكية مع بداية القرن الحادي والعرشين‪،‬‬
‫حيث بدأت روسيا‪ ،‬املستفيدة من طفرة السلع التي يغذيها منو الصني‪ ،‬يف استعادة‬
‫بعض قوتها تحت قيادة فالدميري بوتني‪ .‬كان هدفها هو أن تكون دولة رأساملية‬
‫استبدادية ممزوجة بنظرة قومية متزايدة معادية للغرب متعلقة بالسياسات‬
‫العامة‪ .‬وبينام استعادت روسيا بعض قوتها السابقة‪ ،‬مل تكن بالتأكيد تشكل «قوة‬
‫صاعدة» مثل الصني أو الهند عىل الرغم من إدراجها ضمن دول الربيكس ‪BRICS‬‬
‫(الربازيل؛ وروسيا؛ والهند؛ والصني؛ وجنوب أفريقيا)‪ .‬إذ كانت يف أحسن األحوال‬
‫‪289‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫متثل قوة تشهد تعافيا‪ ،‬وظلت إىل حد كبري ُمصدرة للسلع األساسية‪ ،‬وعرضة عىل‬
‫نحو خاص لتقلبات السوق يف أسعار النفط‪ .‬وعىل عكس الصني‪ ،‬كانت رأسامليتها‬
‫ضحلة وغري قادرة ح ًقا عىل توليد الرثوة والقوة كاقتصاد حديث متكامل‪ .‬لقد كان‬
‫عدد سكانها يتقلص‪ ،‬وعىل النقيض من العام ‪ 1945‬حينام كانت محاطة بجريان‬
‫ضعفاء‪ ،‬أصبحت اآلن محاطة بدول صار معظمها يبيل َب َال ًء َح َسنًا ‪ -‬حتى أفضل‬
‫مام كانت تفعله روسيا نفسها ‪ -‬يف التعامل مع الحداثة بطرق كانت أكرث فعالية يف‬
‫توليد الرثوة والقوة‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬كان تعايف روسيا تحت حكم بوتني بدءا من العام ‪ 2000‬كاف ًيا‬
‫لتمكينها من البدء يف فرض نفسها داخل إقليمها والقتال ضد الواليات املتحدة‬
‫تجسدت األخرية يف‬ ‫والغرب‪ .‬لقد استخدمت الوسائل العسكرية والفكرية‪ ،‬وقد َّ‬
‫تصاعد نزعتها القومية وإعادة تعريف هويتها خارج إطار الغرب (وهذا من شأنه‬
‫أن يعيد تشكيل التفكري الرويس يف حقل العالقات الدولية‪ ،‬كام سيناقش ذلك يف‬
‫الفصل الثامن)‪ .‬ومل تكن روسيا متلك القوة الكافية ليك تتحدى الغرب اقتصاد ًيا أو‬
‫سياس ًيا‪ ،‬بل كانت متلك قوة كافية وعىل نحو محدود فقط يف الجانب العسكري‪.‬‬
‫لكنها كانت قوية مبا يكفي لتصبح مصدر إزعاج كبري‪ ،‬وقد رشعت يف ذلك مبجرد‬
‫أن ُأتيحت لها الفرصة‪ .‬كان أحد أجزاء القتال الرويس ضد الغرب هو إرباك توسع‬
‫«الناتو»‪ /‬االتحاد األورويب يف مجال نفوذ روسيا السابق والعمل عىل زعزعة استقرار‬
‫ذلك التوسع‪ .‬وفعلت روسيا ذلك من خالل عديد من األعامل مثل الهجوم السيرباين‬
‫يف العام ‪ 2007‬عىل إستونيا؛ واستئناف جس النبض العسكري املنتظم لدفاعات‬
‫«الناتو» من قبل قواتها الجوية والبحرية؛ والتدخل الخفي يف السياسات األوروبية‬
‫من خالل دعم األحزاب السياسية اليمينية املتطرفة‪ .‬جزء آخر من هذا القتال كان‬
‫أكرث حزما‪ ،‬وقد متثل يف العمل عىل وقف أي توسع إضايف لحلف شامل األطليس‪/‬‬
‫االتحاد األورويب رشقا‪ .‬حيث غزت روسيا جورجيا يف العام ‪ ،2008‬وفصلت عنها‬
‫أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية‪ ،‬ورسخت هيمنتها اإلسرتاتيجية يف القوقاز‪.‬‬
‫أقدمت روسيا عىل خطوة أكرب بكثري يف العام ‪ ،2014‬عندما غزت جزئ ًيا‬
‫أوكرانيا وضمت شبه جزيرة القرم‪ .‬لقد أقدمت روسيا عىل فعل ذلك بالتنسيق مع‬
‫االنفصاليني املوالني لروسيا يف رشق أوكرانيا‪ ،‬مام خلق حالة من عدم اليقني املستمر‬
‫‪290‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫بشأن ما إذا كانت روسيا تريد إضعاف البالد أو تفتيتها أو تهيئة الظروف التي ميكن‬
‫من خاللها دمج أوكرانيا ككل ضمن االتحاد الرويس‪ .‬كان ُينظر إىل هذه الخطوة‬
‫يف الغرب عىل أنها انتهاك كبري لحرمة الحدود كمبدأ عام للمجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫وقد أدت إىل تدهور حاد يف عالقات روسيا مع الغرب‪ .‬حيث ُطردت روسيا من‬
‫مجموعة الثامين‪ ،‬النادي االقتصادي للقوى الرأساملية الرائدة‪ ،‬والتي كانت روسيا‬
‫عض ًوا فيها منذ العام ‪ .1998‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فرض الغرب عقوبات ضد روسيا‪ ،‬كام‬
‫زاد حلف شامل األطليس من نشاطه يف أوكرانيا‪ .‬الواقع أن أوكرانيا أصبحت موضوع‬
‫شد وجذب بني «الناتو» وروسيا‪ .‬ومن خالل هذه الخطوة‪ ،‬قطعت روسيا عىل نحو‬
‫أسايس العالقات مع أوروبا التي كانت قد أقيمت خالل التسعينيات‪ ،‬ووضعت‬
‫نفسها مرة أخرى كقوة معادية تهدد «الناتو»‪ ،‬وخاصة دول البلطيق واالتحاد‬
‫األورويب‪ .‬لقد دفع هذا االنقطاع بروسيا إىل تعميق عالقاتها مع الصني‪ ،‬حيث شكلت‬
‫عىل نحو متزايد رشي ًكا صغ ًريا يف مرشوع بكني املناهض لهيمنة الواليات املتحدة‪.‬‬
‫وقد واصلت روسيا هذا املسار عرب تدخل تصعيدي كبري يف الحرب األهلية السورية‬
‫يف العام ‪ 2015‬لدعم حكم األسد‪ .‬كام ُيعتقد عىل نطاق واسع أنها حاولت التأثري‬
‫يف االنتخابات الرئاسية األمريكية العام ‪ ،2016‬وهو موضوع تحقيقات جارية حتى‬
‫وقت كتابة هذا الكتاب(٭)‪.‬‬
‫لقد كان ضعف روسيا ألكرث من عقد بعد نهاية الحرب الباردة جز ًءا مام جعل‬
‫املجتمع الدويل العاملي يبدو أحادي القطب‪ .‬إن تعافيها خالل العقد األول من‬
‫(٭) انتهت التحقيقات يف العام ‪ 2019‬بنرش تقرير مولر‪ ،‬املعروف يف الدوائر الرسمية يف أمريكا باسم «تقرير عن‬
‫التحقيق يف التدخل الرويس يف االنتخابات الرئاسية للعام ‪ ،»2016‬وهو تقرير رسمي يوثق نتائج واستنتاجات تحقيق‬
‫املستشار القانوين الخاص روبرت مولر يف الجهود الروسية للتدخل يف انتخابات الواليات املتحدة الرئاسية للعام ‪،2016‬‬
‫ويف مزاعم التآمر أو التنسيق بني حملة دونالد ترامب الرئاسية والحكومة الروسية‪ ،‬وادعاءات تتهم ترامب بعرقلة سري‬
‫العدالة‪ ،‬وكذلك «يف أي أمور نشأت أو قد تنشأ مبارشة من التحقيق»‪ .‬وكان النائب العام للواليات املتحدة وليام بار‬
‫ووزارة العدل األمريكية قد أصدرا نسخة ُم َن ّقحة من التقرير املكون من ‪ 448‬صفحة يف ‪ 18‬أبريل ‪ .2019‬ويتضمن‬
‫التقرير مجلدين‪ :‬املجلد األول (يتكون من الصفحات ‪ )207-1‬يركز عىل التدخل الرويس واملسائل التي تتعلق بالتآمر‪،‬‬
‫واملجلد الثاين (يتكون من الصفحات ‪ )448-208‬ملناقشة العرقلة املحتملة لسري لعدالة‪ .‬خلص التقرير إىل أن التدخل‬
‫الرويس يف االنتخابات الرئاسية للعام ‪ 2016‬قد حدث «بطريقة شاملة ومنتظمة» و«انتهك القانون الجنايئ األمرييك»‪،‬‬
‫ورسد طريقتني حاولت روسيا عن طريقهام التأثري يف نتائج االنتخابات‪ :‬أوال‪ ،‬عن طريق حملة شنتها وكالة أبحاث‬
‫اإلنرتنت (‪ )IRA‬الروسية عىل وسائل التواصل االجتامعي من أجل «تضخيم الخالف السيايس واالجتامعي»‪ ،‬وثان ًّيا عن‬
‫طريق «القرصنة اإللكرتونية» أو اخرتاق حواسيب حملة هيالري كلينتون الرئاسية ومنظامت الحزب الدميوقراطي‬
‫األمرييك وإطالق رسائل الربيد اإللكرتوين الخاصة بهام يف توقيت حساس من الحملة االنتخابية‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫القرن الحادي والعرشين‪ ،‬وموقفها القوي عىل نحو متزايد ضد الواليات املتحدة‬
‫والغرب‪ ،‬وتحولها إىل بناء رشاكة إسرتاتيجية مع الصني باعتبارها تشكل مفتاح‬
‫عالقتها الدولية‪ ،‬مثلث كلها أجزاء من منط يؤرش إىل ظهور حقبة ما بعد الغرب‪.‬‬

‫‪ - 2 - 3‬الصني‬
‫يف الفصل الخامس وصفنا الصني بأنها الغريب الغامض الذي ال ينسجم عىل‬
‫نحو مريح مع ِص َيا َغة القطبية الثنائية أو ِص َيا َغة العامل الثالث‪ .‬فبمجرد أن تعافت‬
‫الصني من االنتكاسة املؤقتة للعام ‪ ،1989‬رسعان ما جعلها منوها االقتصادي املطرد‬
‫والرسيع جدا ليس فقط واحدة من القوى الكربى يف النظام «األحادي القطب»‪،‬‬
‫أيضا وعىل نحو متزايد الطرف الذي يعتقد أنه من املرجح أن‬ ‫ولكن جعل منها ً‬
‫يتحدى الواليات املتحدة عىل الصعيدين املادي والسيايس‪ .‬لقد خلق هذا ازدواجية‬
‫غريبة يف العالقات بني الواليات املتحدة والصني‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬أصبح البلدان مرتبطني‬
‫اقتصاد ًيا عىل نحو متزايد‪ .‬حيث فتحت الواليات املتحدة أسواقها أمام الصني‪ ،‬مام‬
‫سمح للزعيم الصيني دنغ وخلفائه باتباع إسرتاتيجية منو ناجحة للغاية تقودها‬
‫الصادرات‪ .‬وهكذا‪ ،‬أصبحت الصني أحد املستفيدين الرئيسني من العوملة من خالل‬
‫قدرتها عىل ربط اقتصادها باألنظمة التجارية واملالية التي تقودها الواليات املتحدة‪.‬‬
‫وقد عُ ِّوض العجز التجاري الذي نتج عن هذا األمر بالنسبة إىل الواليات املتحدة‬
‫من خالل مشرتيات الصني الضخمة من سندات الخزانة األمريكية ‪(Shirk, 2007:‬‬
‫)‪ 25; Foot and Walter,188 2011: 18‬والواردات الصينية الرخيصة التي أدت إىل‬
‫خفض تكاليف االستهالك وإبقاء معدالت التضخم منخفضة‪ .‬وعىل رغم أن الصني‬
‫منافسا للواليات املتحدة‪ ،‬فقد أبرمت واشنطن مع بكني النوع نفسه من‬ ‫ً‬ ‫شكلت‬
‫الصفقة االقتصادية التي أبرمتها واشنطن مع حليفتها اليابان خالل الحرب الباردة‪.‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬وفيام يتعلق بالعالقات السياسية واإلسرتاتيجية‪ ،‬كان مثة أوجه‬
‫تشابه مثرية لالهتامم بني اليابان يف فرتة ما بني الحربني العامليتني والصني ما بعد‬
‫حكم ماو تيس تونغ يف كيفية ارتباطهام بالواليات املتحدة‪ .‬فقد أرادت كل من‬
‫اليابان بني الحربني العامليتني والصني املعارصة التفوق يف آسيا‪ ،‬ومل تستطيعا تجنب‬
‫التنافس مع الواليات املتحدة التي كانتا تعتمدان عليها اقتصاد ًيا‪ ،‬والتي كانت ً‬
‫أيضا‬
‫‪292‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫رئيسا يف املنطقة (‪ .)Buzan, forthcoming‬خالل هذه الفرتة تحركت الصني‬ ‫الع ًبا ً‬
‫بوضوح للتموضع داخل املركز‪ ،‬حيث إنها تتشارك حسابات القوى الكربى األخرى‬
‫وضوحا للواليات‬
‫ً‬ ‫نفسها‪ ،‬فنموها االقتصادي الهائل جعلها املنافس املحتمل األكرث‬
‫املتحدة‪ .‬وقد ابتعدت عن األطراف مع انطالق تطورها‪ ،‬عىل رغم استمرارها يف‬
‫تعريف نفسها بطرق عديدة عىل أنها دولة نامية‪ .‬من الصحيح عمو ًما القول إن‬
‫السياسة يف الصني مدفوعة يف املقام األول باالعتبارات السياسية املحلية‪ ،‬ومن‬
‫أوضحها رغبة الحزب الشيوعي الصيني وحاجته إىل سحق أي تحديات قد تواجه‬
‫بقاءه يف السلطة إىل األبد‪ .‬وقد أدى هذا العامل املحيل إىل ظهور ازدواجية غريبة‬
‫يف العالقات الصينية ‪ -‬األمريكية‪ .‬فقد احتاج الحزب الشيوعي الصيني إىل النمو‬
‫االقتصادي لتعزيز رشعيته بعد أن ُت ُخ ِّيِّل عن الحرب الطبقية واالقتصاد املاركيس‪،‬‬
‫مام جعله يعتمد عىل النظام االقتصادي العاملي لواشنطن‪ .‬لكن الحزب الشيوعي‬
‫أيضا إىل النزعة القومية لتعزيز الوحدة الوطنية يف أثناء االضطرابات‬ ‫الصيني احتاج ً‬
‫التي رافقت التحول االقتصادي‪ ،‬مام م َّهد الطريق لعالقة سياسية متوترة ورسيعة‬
‫االنفعال مع الواليات املتحدة‪ .‬من جهتها‪ ،‬كان موقف الواليات املتحدة ممز ًقا بالقدر‬
‫نفسه‪ ،‬حيث رحبت بالصني باعتبارها إضافة رئيسة لالقتصاد العاملي الرأساميل‪،‬‬
‫لكنها أبدت قلقا إزاءها كمنافس اقتصادي وعسكري‪ /‬سيايس‪ ،‬وعىل نحو متزايد‬
‫كمنافس لتفوق واشنطن العاملي‪.‬‬
‫ومن األمثلة الواضحة عىل هذه االزدواجية الفوضوية هو املسار الذي أدخل‬
‫الصني إىل منظمة التجارة العاملية يف ديسمرب ‪ ،2001‬ومن ثم أضفى الطابع‬
‫الرسمي عىل اندماجها يف النظام االقتصادي الغريب‪ .‬كانت الصني قد تقدمت‬
‫بطلب ألول مرة يف العام ‪ ،1995‬وهو العام الذي ح َّلت فيه منظمة التجارة‬
‫العاملية محل اتفاقية الجات (حيث كانت الصني مراق ًبا)‪ .‬إذ كانت الصني تأمل‬
‫ؤس ًسا يف منظمة التجارة العاملية‪ ،‬لكن القوى الغربية واليابان‬ ‫أن تكون عض ًوا ُم ِّ‬
‫عرقلت ذلك‪ ،‬حيث طالبت مبزيد من اإلصالحات لالقتصاد الصيني الذي اليزال‬
‫يتمتع بحامئية وإدارة للدولة كبريين‪ .‬وقد ض َّيعت إدارة كلينتون فرصة التوصل‬
‫إىل اتفاق يف أوائل العام ‪ ،1999‬وعمدت إىل إذالل رئيس الوزراء الصيني تشو‬
‫رونغجي ‪ Zhu Rongji‬خالل هذا املسار‪ .‬كان عىل واشنطن أن تقبل بصفقة‬
‫‪293‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أقل فائدة مع الصني يف وقت الحق من العام نفسه‪ ،‬بعد أن أدى قصف الواليات‬
‫املتحدة لسفارة الصني يف بلغراد إىل مزيد من توتر العالقات بني البلدين ‪(Shirk,‬‬
‫)‪ .2007: 192, 228–31‬كانت عملية االنضامم إىل منظمة التجارة العاملية صعبة‬
‫وشاقة بالنسبة إىل الصني‪ ،‬مام تطلب منها فتح اقتصادها عىل نحو أكرب من معظم‬
‫البلدان النامية األخرى‪ ،‬وأيضا إصالح عديد من املؤسسات واملامرسات قبل أن‬
‫تتمكن من االنضامم )‪ .(Shirk, 2007: 132; Westad, 2012: loc. 6179‬وقد‬
‫كان االنضامم إىل منظمة التجارة العاملية خطوة رئيسة للدفع باإلصالحات التي‬
‫أقدمت عليها الصني أيضا يف انفتاحها‪ ،‬حيث ألزمتها بنظام تجاري عاملي متعدد‬
‫األطراف‪ ،‬ومنحتها دفعة كبرية بالنسبة إىل اقتصادها وتنميتها‪.‬‬
‫وعىل الرغم من النتيجة الناجحة‪ ،‬كان مثة متسع كبري من االختالفات يف‬
‫وجهات النظر بشأن هذه العملية برمتها‪ .‬فقد رأت الواليات املتحدة نفسها عىل‬
‫أنها استوعبت بسخاء قوة صاعدة غري ليربالية من خالل السامح لها بالدخول إىل‬
‫النظام التجاري واملايل العاملي (;‪Shirk, 2007: 25; Kissinger, 2011: 487–503‬‬
‫‪ .)Westad, 2012: locs. 5962, 6150‬وكان موقف الصني منقسام‪ ،‬حيث اعتنق‬
‫البعض االلتزام بالعوملة باعتبارها ستعزز إصالحات الصني وسعيها وراء الرثوة والقوة‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬رأى صينيون آخرون من ذوي النزعة القومية أن الصني تعرضت‬
‫للتخويف من أجل تقديم تنازالت حينام كانت التزال ضعيفة‪ ،‬وأنه قد ُف ِرض عليها‬
‫أمر مل يكن من صنعها‪ .‬كان هناك استياء كبري يف الصني بشأن طول ورشوط عملية‬
‫انضاممها‪ ،‬حيث قارنها البعض باإلهانة التي تعرضت لها الصني بسبب «املطالب‬
‫الواحد والعرشين» التي طرحتها اليابان خالل الحرب العاملية األوىل ‪(Shirk, 2007:‬‬
‫)‪ .230‬كان من نتائج انضامم الصني زيادة العجز التجاري األمرييك مع الصني إىل‬
‫درجة أنه أصبح «متفج ًرا سياس ًيا» يف السياسة الداخلية للواليات املتحدة ‪(Shirk,‬‬
‫)‪ .2007: 249‬ومع ازدياد قوة الصني‪ ،‬زاد ذلك الشعور القومي باالستياء من إجبار‬
‫بكني عىل اتباع قواعد مل تشارك يف إيجادها‪ .‬لقد انضمت الصني إىل منظمة التجارة‬
‫العاملية كاقتصاد غري سوقي‪ ،‬وهو األمر الذي عرضها لعديد من االدعاءات بتسببها‬
‫يف الكساد (‪ .)Shirk, 2007: 276–7; Shambaugh, 2013:160‬وعندما انتهت‬
‫هذه الحالة تلقائ ًيا يف العام ‪ 2016‬فتحت نزاعًا مستم ًرا بني ادعاء الصني القائل إنه‬
‫‪294‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫يجب التعامل معها اآلن باعتبارها اقتصا َد سوق‪ ،‬و َز ْع ِم الواليات املتحدة واالتحاد‬
‫تستوف هذا املعيار بعد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫األورويب أن الصني مل‬
‫واضحا عىل نحو أكرب‬ ‫ً‬ ‫لقد كان التنافس الحاد بني الصني والواليات املتحدة‬
‫يف سلسلة من املشاحنات يف القطاعني العسكري واإلسرتاتيجي‪ .‬وعىل الرغم من‬
‫إسقاط الخطاب الثوري من السياسة الخارجية للصني ملا بعد حكم ماو تيس‪ ،‬فإنه‬
‫كان مثة كثري من االستمرارية يف الشد والجذب العسكري‪ /‬اإلسرتاتيجي الذي م َّيز‬
‫العالقات األمريكية ‪ -‬الصينية طوال فرتة حكم ماو تيس‪ .‬ومبجرد زوال االتحاد‬
‫السوفييتي‪ ،‬رسعان ما تبدد ذلك الجو الذي ساد خالل السبعينيات والثامنينيات‪،‬‬
‫عندما تحالفت الصني والواليات املتحدة ضد االتحاد السوفييتي‪ .‬وظلت التوترات‬
‫بني الواليات املتحدة والصني بشأن تايوان سمة دامئة‪ ،‬متا ًما كام فعلت تحالفات‬
‫الواليات املتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية‪ .‬كانت للصني مشكلة تاريخية خاصة‬
‫بها مع اليابان‪ ،‬ووجد الحزب الشيوعي الصيني أن نرش القومية املعادية لليابان بني‬
‫الشعب الصيني من خالل برامج مستدامة «للتعليم الوطني» كانت طريقة مفيدة‬
‫للتوفيق بني انقسامات التاريخ السيايس املحيل للصني‪ ،‬وسد الفجوة بني حزب‬
‫الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني يف معارضتهام املشرتكة لإلمربيالية اليابانية‬
‫(‪ .)Wang, 2008, 2012‬وكان موقف بكني منقسام بشأن ما إذا كان التحالف بني‬
‫الواليات املتحدة واليابان أم ًرا جيدًا (ألنه ق َّيد أي إحياء للنزعة العسكرية اليابانية)‬
‫أو سيئًا (ألنه كان جز ًءا من مؤامرة أمريكية الحتواء صعود الصني)‪َ .‬ت َلت ذلك‬
‫اشتباكات معقدة انجذبت فيها الواليات املتحدة إىل الخالفات الصينية ‪ -‬اليابانية‬
‫بشأن جزر سينكاكو‪ /‬دياويو‪ ،‬والتزمت فيها اليابان عىل نحو متزايد بدعم الواليات‬
‫املتحدة يف الدفاع عن تايوان‪.‬‬
‫وقد متظهرت االحتكاكات العسكرية‪ /‬اإلسرتاتيجية الرئيسة بني الواليات املتحدة‬
‫والصني خالل هذه الفرتة فيام ييل‪:‬‬
‫‪ -‬مضيق تايوان ‪ .1996‬بعد خالف وقع بني الواليات املتحدة والصني (وداخل‬
‫الواليات املتحدة) يف العام ‪ 1995‬بشأن منح تأشرية للرئيس التايواين يل تنغ هوي‪،‬‬
‫أجرت الصني تجارب صاروخية قبالة سواحل تايوان يف العامني ‪ 1995‬و‪ ،1996‬كان‬
‫بعضها قريبا مبا يكفي لتعطيل عمليات الشحن يف موانئ تايوان‪ ،‬وقد كان يهدف‬
‫‪295‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫جزئ ًيا إىل تخويف الناخبني يف انتخابات تايوان يف العام ‪ .1996‬ردت الواليات املتحدة‬
‫بإرسال حاملتي طائرات إىل املنطقة‪ ،‬وإبحار إحداهام عرب مضيق تايوان‪ .‬خرست‬
‫الصني هذه األزمة‪ .‬ومل ُتظهر الواليات املتحدة تفو ًقا بحر ًيا فقط‪ ،‬بل زادت شعبية يل‬
‫تنغ هوي‪ ،‬وتعمقت العالقات األمنية بني الواليات املتحدة واليابان وتايوان‪.‬‬
‫‪ -‬تفجري السفارة يف بلغراد ‪ .1999‬يف مايو ‪ 1999‬قصفت الواليات املتحدة السفارة‬
‫الصينية يف بلغراد خالل حربها الجوية ضد رصبيا‪ .‬كان هناك كثري من الغضب‬
‫الشعبي الصيني ‪ -‬بتشجيع من الحكومة الصينية ‪ -‬حيال الفعل والوفيات‪ .‬مل ُمُتنح‬
‫استهداف تم عن طريق الخطأ إال القليل من املصداقية يف‬ ‫ٍ‬ ‫املزاعم األمريكية بشأن‬
‫الصني‪ .‬ويف نهاية املطاف‪ُ ،‬س ِّوي هذا الحادث ديبلوماسيا مع دفع الواليات املتحدة‬
‫تعويضات عن األرضار التي لحقت بالسفارة الصينية والقتىل والجرحى‪ ،‬ودفعت‬
‫الصني تعويضات للواليات املتحدة عن األرضار التي لحقت بسفارتها يف بكني نتيجة‬
‫لالحتجاجات الشعبية التي مل يج ِر احتواؤها من قبل الرشطة‪.‬‬
‫‪ -‬حادث الطائرة يف أبريل ‪ ،2001‬التي اصطدم بها مقاتل صيني كان يضايق‬
‫طائرة استخبارات أمريكية من طراز ‪ EP-3‬فوق بحر الصني الجنويب‪ ،‬مام أسفر‬
‫عن مقتل الطيار املقاتل وإلحاق الرضر بالطائرة ‪ ،EP-3‬مام اضطرها إىل الهبوط‬
‫االضطراري يف جزيرة هاينان‪ .‬احتجزت الصني طاقم الطائرة أكرث من أسبوع‪ ،‬وأعادت‬
‫فقط الطائرة ‪ EP-3‬املفككة يف يوليو‪ُ .‬س ِّويت هذه القضية ديبلوماس ًيا بعد اإلدالء‬
‫ببعض الخطابات الساخنة‪.‬‬
‫‪ -‬بناء جزيرة يف بحر الصني الجنويب من طرف الصني‪ ،‬واألزمة مستمرة منذ العام‬
‫‪ 2010‬حتى اآلن‪ .‬يف العام ‪ 2010‬أعادت الصني تعريف بحر الصني الجنويب كمصلحة‬
‫وطنية أساسية ميكن مقارنتها بتايوان‪ .‬ومن العام ‪ 2014‬إىل العام ‪ 2016‬كان هناك‬
‫بناء صيني رسيع لعديد من الجزر االصطناعية يف جزر سرباتيل‪ُ ،‬د ِمجت الح ًقا‪.‬‬
‫وعرب مزيج من الحوافز االقتصادية والديبلوماسية القرسية‪ ،‬ا ُّت ِهمت الصني باتباع‬
‫سياسة ف ِّرق تسد تجاه رابطة دول جنوب رشق آسيا (آسيان) فيام يتعلق بقضية‬
‫رئيسا)‬
‫بحر الصني الجنويب‪ ،‬حيث انحازت كمبوديا والفلبني (بعد انتخاب دوترييت ً‬
‫إىل جانب الصني‪ .‬لقد َّأجلت الصني إبرام مدونة سلوك ملزمة بشأن بحر الصني‬
‫الجنويب مع رابطة دول جنوب رشق آسيا بحجة أن التوقيت مل يكن مناسبا‪ ،‬مشري ًة‬
‫‪296‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫إىل عدم وجود وحدة داخل الرابطة‪ .‬وقد بدأت الواليات املتحدة عمليات حرية‬
‫املالحة قبالة الجزر من أكتوبر ‪ ،2015‬مع اإلبحار املنتظم لسفنها الحربية عرب املياه‬
‫التي تطالب بها الصني اآلن‪ ،‬ولكن الواليات املتحدة مل تعرتف بها‪ .‬ويف يوليو ‪2016‬‬
‫حكمت محكمة اتفاقية األمم املتحدة لقانون البحار يف قضية رفعتها الفلبني ضد‬
‫مطالبات صينية يف بحر الصني الجنويب‪ ،‬لكن الصني رفضت هذا الحكم‪ ،‬وعمدت‬
‫إىل مالطفة الحكومة الفلبينية حتى هدأت والتزمت الصمت بشأن هذه القضية‪.‬‬
‫‪ -‬منطقة الحظر الجوي ‪ .2013‬يف نوفمرب من هذا العام فرضت الصني منطقة‬
‫متييز للدفاع الجوي ‪ ADIZ‬عىل نحو صارم وغري معتاد عىل معظم بحر الصني‬
‫الرشقي‪ ،‬مبا يف ذلك الجزر سينكاكو‪ /‬دياويو املتنازع عليها مع اليابان‪ .‬مل تعرتف‬
‫الواليات املتحدة مبنطقة متييز الدفاع الجوي تلك وحلقت طائرتان من طراز ‪B-52‬‬
‫عرب املنطقة يف نوفمرب‪ ،‬عىل الرغم من تكيف الخطوط الجوية التجارية إىل حد كبري‬
‫مع هذا الوضع الجديد‪.‬‬
‫عىل الرغم من هذه االحتكاكات‪ ،‬كان هناك بعض التعاون بني الواليات املتحدة‬
‫والصني‪ ،‬ال سيام يف املحادثات السداسية األطراف بشأن املشكلة النووية لكوريا‬
‫الشاملية بني العامني ‪ 2003‬و‪ .2009‬لكن الصينيني كانوا‪ ،‬وعىل نحو متزايد‪ ،‬يفضلون‬
‫سلوك طريقهم الخاص‪ .‬لقد تعاونوا مع روسيا يف مجلس األمن التابع لألمم املتحدة‬
‫للدفاع عن أنفسهم ضد الضغط الغريب عىل نحو عام‪ ،‬وللتغطية عىل التدخالت‬
‫الروسية يف أوكرانيا وسورية‪ ،‬ولعرقلة استخدام الغرب سلطة مجلس األمن إلضفاء‬
‫الرشعية عىل تدخالته‪ .‬لقد بدأوا يف تأسيس منظامت حكومية دولية خاصة بهم‬
‫تركز عىل الصني لتحدي الهيمنة الغربية يف املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬وعىل األخص‬
‫منظمة شنغهاي للتعاون ‪ SCO‬التي تأسست يف العام ‪ ،2001‬ومجموعة الربيكس‬
‫‪ BRICS‬التي تأسست يف العامني ‪ 2009‬و‪ ،2010‬والبنك اآلسيوي لالستثامر يف البنية‬
‫التحتية ‪ AIIB‬الذي تأسس يف العام ‪.)Stuenkel, 2016: locs. 2974–3202( 2014‬‬
‫تضم منظمة شنغهاي للتعاون الصني وروسيا وأربع دول من آسيا الوسطى‪ ،‬مع‬
‫انضامم الهند وباكستان يف العام ‪ .2017‬وتضم مجموعة الربيكس الصني وروسيا‬
‫والهند والربازيل وجنوب أفريقيا كنوع من التجمع املضاد للغرب‪ .‬و ُت َعد الصني هي‬
‫كاًل من بنك التنمية‬‫االقتصاد املهيمن إىل حد بعيد يف هذه املجموعة‪ ،‬التي أنشأت ً‬

‫‪297‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الجديد يف العام ‪ ،2014‬وترتيب احتياطي للطوارئ للربيكس يف العام ‪ .2015‬وقد‬


‫اختار البنك اآلسيوي االستثامر يف البنية التحتية يف عديد من األعضاء األوروبيني‬
‫واآلسيويني‪ ،‬عىل الرغم من عدم انضامم اليابان والواليات املتحدة‪ ،‬وكذلك كوريا‬
‫الشاملية‪.‬‬
‫يف عهد يش جني بينغ ‪ ،Xi Jinping‬من الواضح أن الصني قد تحركت لتنأى‬
‫بنفسها عن الواليات املتحدة؛ فبعد األزمة االقتصادية يف العام ‪ 2008‬كان من‬
‫الواضح أن الواليات املتحدة ا ُمل ْث َقلة بالديون مل تعد قادرة عىل دعم منو الصني‬
‫الذي تقوده الصادرات‪ ،‬وأنه سيتعني عىل الصني تحقيق مزيد من النمو يف أسواقها‬
‫أيضا عىل نحو جيد من أخطاء إدارة ترامب وما خلفته من‬ ‫املحلية‪ .‬تستفيد الصني ً‬
‫فضاًل عىل استفادتها من االنقسام والشلل السائد يف‬ ‫اختالل يف الواليات املتحدة‪ً ،‬‬
‫بريطانيا بعد خروج بريطانيا من االتحاد األورويب‪ ،‬وذلك لتعزيز منوذجها الخاص يف‬
‫التنمية االستبدادية‪ ،‬واملطالبة بدور قيادي أكرب داخل املجتمع الدويل العاملي بغية‬
‫ملء الفراغ الذي س َّببه دونالد ترامب واالنهيار الداخيل الذي يعيشه العامل الناطق‬
‫باللغة اإلنجليزية‪ .‬لقد ظهر كال هذين الخطني بوضوح يف خطاب يش جني بينغ‬
‫أمام املؤمتر التاسع عرش للحزب الشيوعي يف أكتوبر ‪ ،2017‬حيث استخف باألشكال‬
‫األخرى للحكم وادعى أنه‪« :‬حان الوقت ألن نأخذ مركز الصدارة يف العامل ونقدم‬
‫مساهمة أكرب للبرشية»(٭)‪ .‬إن التوترات التجارية الحاصلة بني الصني وإدارة ترامب‬
‫تؤدي إىل تفاقم التنافس اإلسرتاتيجي بني الصني والواليات املتحدة‪ ،‬وقد تدفع الصني‬
‫أكرث نحو تطوير مبادراتها الخاصة وتأثريها يف الحوكمة العاملية‪.‬‬
‫إن الصني ال تسعى إىل الحرب مع الواليات املتحدة‪ ،‬أو حتى إىل التنافس‬
‫اإلسرتاتيجي املفتوح معها‪ .‬لكنها تسعى إىل تأكيد حضورها عىل نحو متزايد يف‬
‫آسيا‪ ،‬وتتحدى الواليات املتحدة واليابان يف تلك املنطقة بشأن التفوق اإلقليمي‪.‬‬
‫ميكن اعتبار خطة مبادرة الحزام والطريق الطموحة‪ ،‬التي وضعها يش جني‬
‫بينغ الستخدام مشاريع البنية التحتية العمالقة لربط أوراسيا بالصني‪ ،‬نوعا من‬
‫اإلسرتاتيجية القارية الكربى التي تهدف إىل مواجهة اإلسرتاتيجية البحرية الكربى‬
‫‪) BBC World News, www.bbc.co.uk/news/world-asia-china-41647872 (Accessed 18 October 2017).‬٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫للواليات املتحدة ‪(Gao, 2013; Pieke, 2016: 164–5; Stuenkel, 2016: locs.‬‬
‫)‪ .3985–4041‬وبرغم أن الصينيني قد ال يتقبلون هذه املقارنة‪ ،‬فإنه من املمكن‬
‫رؤية بعض أوجه الشبه بني مبادرة الحزام والطريق واإلسرتاتيجية القارية لليابان‬
‫خالل الثالثينيات واألربعينيات من القرن املايض‪ ،‬والتي حملت عنوان «مجال‬
‫االزدهار املشرتك لرشق آسيا»‪ .‬إذ إن كلتيهام تهدف إىل تقديم نفسها باعتبارها‬
‫تشكل جوهر االقتصاد القاري يف آسيا القادر عىل الوقوف ضد الواليات املتحدة‪.‬‬

‫‪ - 2 - 4‬أوروبا واليابان‬
‫ميكن رسد قصص أوروبا واليابان يف عالقتهام بالواليات املتحدة بإيجاز ألنها‬
‫تدور عىل نحو أسايس حول استمرار العالقات التي شكلتها الحرب الباردة‪ .‬فقد‬
‫متكن كل من حلف «الناتو» والواليات املتحدة واليابان من الصمود عىل الرغم من‬
‫نهاية الحرب الباردة‪.‬‬
‫وكام لوحظ سابقا‪ ،‬لقد توسع «الناتو» ليس فقط يف مجال النفوذ السوفييتي‬
‫السابق يف أوروبا الرشقية‪ ،‬ولكن أيضا يف أجزاء من االتحاد السوفييتي السابق‬
‫نفسه‪ .‬ونجح هذا التحالف يف إعادة توجيه نفسه باعتباره وسيلة للتضامن من‬
‫أجل شامل األطليس والرأساملية الدميوقراطية الليربالية‪ ،‬وظل نشطا بطرق متنوعة‪.‬‬
‫مل يكن «الناتو» مشاركا يف «تحالف الراغبني» بقيادة الواليات املتحدة الذي رد عىل‬
‫غزو العراق للكويت (‪ .)1991-1990‬لكن بريطانيا وفرنسا كانتا عضوين رئيسني يف‬
‫ذلك التحالف‪ ،‬كام شارك أيضا عديد من أعضاء «الناتو» اآلخرين‪ .‬وقدمت الواليات‬
‫املتحدة بدورها الدعم العسكري من خالل «الناتو» يف التدخالت يف البوسنة‬
‫)‪ ،(1994-1992‬ويف العام ‪ 1999‬يف كوسوفو‪ ،‬حيث كشف تفكك يوغوسالفيا‬
‫الفوضوي اعتامد أوروبا العسكري املستمر عىل الواليات املتحدة‪ .‬وقد استند حلف‬
‫«الناتو» إىل املادة ‪( 5‬الدعم املتبادل لعضو تعرض للهجوم) ردا عىل هجوم ‪11‬‬
‫سبتمرب اإلرهايب عىل الواليات املتحدة يف العام ‪ ،2001‬ودعم الواليات املتحدة يف‬
‫الغزو الالحق ألفغانستان‪ .‬كام توىل قيادة قوة املساعدة األمنية الدولية من العام‬
‫‪ 2003‬إىل العام ‪ .2014‬ب ْيد أن الغزو األمرييك الثاين للعراق يف العام ‪ 2003‬سبب‬
‫انقسامات عميقة داخل «الناتو»‪ ،‬حيث دعمت بريطانيا وبولندا الواليات املتحدة‬
‫‪299‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بقوة‪ ،‬أما فرنسا وأملانيا‪ ،‬إىل جانب روسيا‪ ،‬فقد عارضوا بشدة الغزو األمرييك‪.‬‬
‫باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬أقدم «الناتو» عىل مهمة تدريبية يف العراق يف الفرتة من العام‬
‫‪ 2004‬إىل العام ‪ .2011‬ومنذ العام ‪ ،2009‬دعم أيضا عمليات مكافحة القرصنة يف‬
‫خليج عدن واملحيط الهندي‪ .‬وقد كان «الناتو» نشطا مرة أخرى يف التدخل يف ليبيا‬
‫يف العام ‪ 2011‬وفرض منطقة حظر جوي‪ ،‬حيث متوقعت الواليات املتحدة خالل‬
‫تلك العملية يف املقعد الخلفي وتوىل األوروبيون زمام املبادرة‪ .‬لقد كان «الناتو»‬
‫متورطا أيضا يف أوكرانيا ويف تعقيدات العالقات بني أوكرانيا وروسيا منذ بداية القرن‪،‬‬
‫وذلك عندما أصبحت عضوية أوكرانيا املحتملة يف الحلف قضية سياسية‪ .‬وكام ُذكر‬
‫سابقا‪ ،‬أصبح هذا السؤال أكرث إلحاحا بعد الهجوم الرويس عىل أوكرانيا يف العام‬
‫‪ ،2014‬واليزال ميثل نقطة خالف حادة بني «الناتو» وروسيا‪.‬‬
‫لقد ألقى االرتباك بظالله عىل مستقبل التحالف بسبب الخطاب غري املتسق‬
‫للغاية للرئيس ترامب وسياسة «أمريكا أوال»‪ .‬حيث ندد ترامب يف بعض األحيان‬
‫بحلف شامل األطليس وأشاد به يف أحايني أخرى‪ ،‬مام أثار الشكوك بشأن استمرار‬
‫التزام الواليات املتحدة باملادة الخامسة من ميثاق الحلف‪ .‬ويف العامني ‪2017‬‬
‫و‪ ،2018‬عارض األوروبيون بشدة انسحاب ترامب من املعاهدة النووية مع إيران‪،‬‬
‫والتي مارست كل من أملانيا وفرنسا وبريطانيا واالتحاد األورويب وكذلك روسيا دورا‬
‫رئيسا يف التفاوض بشأنها‪ .‬وأدى خروج ترامب يف العام ‪ 2018‬من االتفاق إىل فتح‬
‫رشخ يف التحالف عرب األطليس يف وقت أصبح يشكل فيه العدو القديم لحلف شامل‬
‫األطليس‪ ،‬وروسيا‪ ،‬مجددا مصدر قلق أمني لألوروبيني وللواليات املتحدة عىل حد‬
‫السواء‪.‬‬
‫إن قصة التحالف بني الواليات املتحدة واليابان متشابهة مع سابقتها‪ ،‬لكنها‬
‫كانت أبسط‪ .‬وعىل عكس «الناتو»‪ ،‬الذي كانت انشغاالته يف األصل تدور حول‬
‫التهديد القادم من االتحاد السوفييتي‪ ،‬كان التحالف األمرييك الياباين منذ االنتصار‬
‫الشيوعي يف العام ‪ 1949‬يستهدف الصني‪ .‬فبعد الحرب الباردة كانت الصني تشهد‬
‫صعودا رسيعا‪ ،‬وكانت تزرع يف الوعي القومي الصيني كراهية تاريخية حيال اليابان‪.‬‬
‫لقد مرت اليابان بحرب باردة مريحة إىل حد ما‪ ،‬إذ كانت معزولة يف موقف ميكن‬
‫وصفه بنقطة الغرانج بني االتحاد السوفييتي والصني من جهة‪ ،‬والواليات املتحدة‬
‫‪300‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫من جهة أخرى‪ .‬كان عىل الواليات املتحدة حاميتها‪ ،‬وقد حققت اليابان مكاسب‬
‫اقتصادية‪ ،‬سواء من خالل الحروب األمريكية يف كوريا وفيتنام‪ ،‬أو من خالل إبقاء‬
‫نفقاتها الدفاعية منخفضة نسبيا عند ‪ 1‬يف املائة من الناتج املحيل اإلجاميل‪ .‬لكن‬
‫بعد الحرب الباردة انهار هذا املوقف املعزول‪ ،‬مام جعل اليابان أكرث انكشافا‪،‬‬
‫وتتملكها مخاوف بشأن ما إذا كانت الواليات املتحدة ستسعى إىل استيعاب الصني‬
‫عىل حساب اليابان‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬ركزت اليابان عىل الحفاظ عىل التحالف الثنايئ مع الواليات املتحدة‪.‬‬
‫وعززت عىل نحو مطرد وتدريجي التزامها بالتحالف من خالل بناء قوة بحرية‬
‫وخفر سواحل ذات قدرات عالية‪ ،‬ووضع موارد كبرية يف تقنيات الدفاع الصاروخي‬
‫الباليستي التي تقودها الواليات املتحدة‪ ،‬واالبتعاد تدريجيا عن القيود التي‬
‫يفرضها التفسري الصارم للامدة التاسعة من دستورها ;‪(Pempel, 2011: 266–73‬‬
‫وسعت اليابان ببطء الطرق التي ميكن من‬ ‫)‪(Hagström, 2015:130–2‬٭)‪ .‬إذ َّ‬
‫خاللها استخدام قواتها املسلحة‪ ،‬وزادت من قدرتها عىل العمل املشرتك مع القوات‬
‫األمريكية يف غرب املحيط الهادئ‪ .‬من جانبها‪ ،‬أكدت الواليات املتحدة أن املعاهدة‬
‫تغطي جزر سينكاكو‪ /‬دياويو‪ ،‬التي تسيطر عليها اليابان وتطالب بها الصني‪ .‬لقد‬
‫مرت اليابان بأوقات عصيبة خالل فرتة التسعينيات‪ ،‬عندما رأى البعض يف الواليات‬
‫املتحدة اليابان أنها منافسة أكرث من كونها حليفة‪ ،‬ولكن مبجرد أن أقلع صعود‬
‫الصني‪ ،‬أصبحت عالقات اليابان مع الواليات املتحدة أكرث مرونة حيث احتلت‬
‫الصني عىل نحو متزايد دور القوة املنافسة يف أعني الواليات املتحدة‪ .‬كام أدى تزايد‬
‫املخاوف بشأن الربنامج النووي لكوريا الشاملية منذ أوائل التسعينيات إىل توفري‬
‫مصلحة مشرتكة بني اليابان والواليات املتحدة‪ .‬وقد تعزز هذا أخريا مع اقرتاب‬
‫كوريا الشاملية من الحصول عىل القدرة عىل دعم تهديداتها الصاخبة واملتكررة‬
‫برضب الواليات املتحدة يف حد ذاتها برضبات نووية‪ .‬لكن اليابان‪ ،‬وعىل غرار عديد‬
‫(٭) هي إحدى مواد دستور اليابان الرئيسة التي أضيفت يف العام ‪ 1947‬واملعنية بالحروب واالبتعاد عن النزاعات‬
‫املسلحة أو املشاركة يف الحروب بالنسبة إىل اليابان‪ .‬يف نصها تتخىل الدولة رسميا عن حق السيادة يف القتال وتهدف‬
‫أيضا عىل أنه لتحقيق هذه األهداف‪ ،‬لن يحا َفظ عىل القوات‬
‫إىل سالم دويل قائم عىل العدالة والنظام‪ .‬وتنص املادة ً‬
‫املسلحة ذات اإلمكانات الحربية‪ .‬وقد أضيف هذا البند بضغوط أمريكية‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫من الدول اآلسيوية األخرى‪ ،‬تواجه معضلة املصالح االقتصادية واألمنية املتباينة‪،‬‬
‫حيث تعتمد مصالحها االقتصادية أكرث عىل الصني‪ ،‬يف حني تعتمد مصالحها األمنية‬
‫عىل الواليات املتحدة‪ .‬وقد أدى إلغاء الرشاكة عرب املحيط الهادئ (‪ )TPP‬من قبل‬
‫الرئيس ترامب إىل تفاقم هذه املعضلة من خالل تدمري الركيزة االقتصادية الرئيسة‬
‫ملحور الواليات املتحدة يف آسيا‪ .‬وإىل جانب املوقعني اآلخرين‪ ،‬تحاول اليابان إحياء‬
‫اتفاقية الرشاكة عرب املحيط الهادئ من دون الواليات املتحدة‪ ،‬عىل أمل أن تبقيها‬
‫مفتوحة لعضوية الواليات املتحدة إذا اتخذت قيادة أمريكا بعد ترامب وجهة نظر‬
‫مختلفة‪ .‬وتثري التهديدات املتأتية من كوريا الشاملية والصني‪ ،‬وتناقض ترامب بشأن‬
‫التزامات الواليات املتحدة‪ ،‬أيضا سؤاال لليابان بشأن ما إذا كان عليها أن تحذو حذو‬
‫بريطانيا وفرنسا يف الحصول عىل أسلحتها النووية الخاصة‪.‬‬

‫‪ - 2 - 5‬الهند‬
‫خالل الحرب الباردة‪ ،‬كانت الهند عىل نحو واضح تشكل قوة إقليمية وجزءا‬
‫من العامل الثالث‪ .‬لكن مع إصالحاتها االقتصادية التي قادتها يف أوائل التسعينيات‪،‬‬
‫وتجاربها لألسلحة النووية يف العام ‪ ،1998‬وعضويتها يف الربيكس‪ ،‬انتقلت الهند‬
‫برسعة إىل مصاف القوى الكربى‪ .‬وبذلك حافظت عىل يشء من تقاليدها الحيادية‬
‫كمو ِّرد رئيس لألسلحة‪ ،‬واتخذت‬ ‫الخاصة بالحرب الباردة‪ .‬لقد أبقت عىل روسيا ُ‬
‫وجهة نظر حذرة من صعود الصني يف الشامل‪ ،‬حيث كان لديها نزاعات حدودية‬
‫نشطة‪ ،‬وتنافس عىل القوة أكرث عمومية يف جنوب ورشق آسيا ‪(Ladwig, 2009‬‬
‫)‪ .; Rehman, 2009 ; Buzan, 2012‬منذ أواخر التسعينيات‪ ،‬واصلت الواليات‬
‫املتحدة تعزيز عالقاتها مع الهند (‪ ،)Paul, 2010: 17–18‬وهذا يعني أن رغبة‬
‫الهند يف أن ُتقبل قو ًة كربى عىل املستوى العاملي قد حققت تقدما كبريا‪ .‬وقد‬
‫ُحل وضع الهند باعتبارها دولة حائزة أسلحة نووية إىل حد كبري من خالل اتفاقها‬
‫النووي املدين مع الواليات املتحدة يف العام ‪ ،2005‬وم َّثل هذا تعزيزا رئيسا ملطالبتها‬
‫باالعرتاف بها كقوة كربى (‪ .)Pant, 2009: 276‬وبحلول العام ‪ ،2017‬كانت الواليات‬
‫املتحدة تعمل علنا عىل ترسيخ العالقات مع الهند باعتبارها دميوقراطية زميلة (قيم‬
‫مشرتكة ‪ -‬ومن املفارقات‪ ،‬أنه عامل مل تحصل الهند من خالله عىل كثري من التقدير‬
‫‪302‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫من الواليات املتحدة خالل الحرب الباردة) وكقوة توازن ضد الثقل املتزايد للصني‬
‫يف آسيا‪ .‬لكن الهند لديها مصلحة يف الت ََح ُّوط ضد الصني أكرث من اهتاممها باملوازنة‬
‫الرصيحة ضدها‪ .‬وما مل تصبح الصني أكرث عدوانية ضدها عىل نحو علني‪ ،‬يبدو‬
‫من املرجح أن تستمر الهند يف أداء دور وسطي‪ .‬ومثل عديد من الدول اآلسيوية‬
‫األخرى‪ ،‬فهي ال تريد االنجرار إىل الحرب الباردة بني الواليات املتحدة والصني‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬فهي ال تريد مواجهة الضغط الصيني وحدها‪ .‬حيث إن جزءا من‬
‫إسرتاتيجيتها كان تنمية رشاكات إسرتاتيجية مع اليابان وفيتنام وأسرتاليا ودول أخرى‬
‫يف املنطقة تتطلع إىل الت ََح ُّوط ضد الصني‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬يف إطار بنية القوة العظمى الواحدة وعديد من القوى الكربى‪،‬‬
‫كانت القوى الكربى منقسمة عىل نحو متزايد فيام إذا كانت يجب عليها أن‬
‫تدعم الواليات املتحدة أو تعارضها‪ .‬لقد تحركت الصني وروسيا عىل نحو واضح‬
‫يف اتجاه املعارضة‪ ،‬وعززتا ذلك يف شكل رشاكة إسرتاتيجية‪ .‬وقد دعا البعض يف‬
‫الصني إىل التخيل عن سياسة «عدم التحالفات» لتعميق هذه العالقة ‪(Zhang,‬‬
‫)‪ .F., 2012b ; Yan, 2014‬ويف وقت كتابة هذا الكتاب‪ ،‬مل يكن من الواضح بعد‬
‫مدى الرضر الذي ستلحقه إدارة ترامب بإضعاف تحالفات الواليات املتحدة مع‬
‫اليابان وأوروبا‪ .‬فال اليابان وال أوروبا كانتا ترغبان يف مثل هذا االنقطاع‪ ،‬لكن كان‬
‫فضلت الحفاظ عىل‬ ‫عىل كلتيهام التفكري يف إمكانية حدوث ذلك‪ .‬أما الهند‪ ،‬فقد َّ‬
‫استقالليتها آخذة موقفا وسطا مادامت الظروف سمحت لها بذلك‪ .‬ومع إحراق‬
‫الواليات املتحدة يف عهد ترامب بقايا رأس املال االجتامعي الدويل الذي تراكم‬
‫لديها منذ العام ‪ ،1945‬بدا أن املَ ْر َكز ينجرف نحو نظام ال يضم قوى عظمى‬
‫وعديدا من القوى الكربى‪ .‬التزال الواليات املتحدة تشكل القوة العظمى‪ ،‬ولكن‬
‫يبدو أنها بصدد فقدان ليس فقط القوة املادية النسبية‪ ،‬ولكن أيضا اإلرادة من‬
‫أجل االستمرار فرتة أطول باعتبارها القوة العظمى‪ .‬أما الصني فقد كانت تزداد‬
‫قوة‪ ،‬ولكن كان لديها القليل من رأس املال السيايس‪ ،‬ومع ازدياد عدد الدول‬
‫الكبرية أيضا )‪ (Zakaria, 2009; Stuenkel, 2016‬أصبحت القوة منترشة للغاية‬
‫بحيث ال تسمح ألي دولة بأن تكون قوة عظمى ‪(Buzan, 2011; Kupchan,‬‬
‫)‪ .2012; Buzan and Lawson, 2015a: 273–304‬وعىل عكس ما حدث خالل‬
‫‪303‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الحرب الباردة‪ ،‬أصبحت القوى الرئيسة اآلن كلها رأساملية‪ ،‬مام أدى إىل تضييق‬
‫النطاق الرتددي األيديولوجي للمجتمع الدويل العاملي إىل حد كبري‪ .‬غري أن هذا‬
‫التقارب االقتصادي مل ينتج عنه أي تقارب سيايس بشأن الدميوقراطية الليربالية‪.‬‬
‫وبدال من ذلك‪ ،‬ظهرت عدة أنواع من الرأساملية ضمن الرتتيبات السياسية التي‬
‫ترتاوح يف جميع املجاالت من الدميوقراطية الليربالية إىل السلطوية الشديدة‬
‫‪(Jackson and Deeg, 2006; Witt, 2010; McNally, 2013; Buzan and‬‬
‫)‪ ،Lawson, 2014b‬وسنتعرض ملزيد عن كل هذا يف الفصل التاسع‪.‬‬
‫إىل جانب هذا التفريق يف القوة والتشابك معها‪ ،‬كان هناك طمس‪ ،‬أو حتى‬
‫انهيار‪ ،‬للحدود القامئة بني املركز واألطراف‪ ،‬والتي كانت سابقا حدودا واضحة إىل‬
‫حد ما‪ .‬وكام هو مبني يف الفصل األول‪ ،‬ظهرت تلك الحدود خالل القرن التاسع‬
‫عرش عندما نجحت مجموعة صغرية من الدول (أوروبا الغربية وأمريكا الشاملية‬
‫وروسيا واليابان) يف استيعاب ثورات الحداثة‪ ،‬حيث فتحت تلك الدول فجوة قوة‬
‫كبرية بينها وبني اآلخرين‪ .‬ويف فرتة ما بني الحرب العاملية األوىل ونهاية الحرب‬
‫الباردة‪ ،‬اضطلعت حفنة من الدول الصغرية إىل حد ما ‪ -‬النمور اآلسيوية‪ :‬كوريا‬
‫الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة ‪ -‬بهذه القفزة وانضمت إىل املَ ْر َكز‪ ،‬عىل‬
‫الرغم من أن الصني كانت تستجمع قوتها بوضوح لالنضامم إليهم أيضا‪ .‬ولكن منذ‬
‫تسعينيات القرن املايض‪ ،‬بدأت الدول التي كانت التزال مصنفة رسميا من قبل‬
‫األمم املتحدة كدول نامية يف التحرك نحو صفوف القوى الكربى‪ ،‬وباألخص الصني‬
‫والهند‪ .‬وعىل نطاق أوسع‪ ،‬بدأت القوى الصاعدة تؤدي عىل املرسح العاملي دورا‬
‫ليس باعتبارها دوال من العامل الثالث تنشط ضد املَ ْر َكز انطالقا من األَ ْط َراف‪ ،‬بل‬
‫تنشط باعتبارها دوال من املَ ْر َكز‪ .‬إحدى العالمات املبكرة عىل هذا الخلط األكرث‬
‫عمومية بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف كان قبول املكسيك وكوريا الجنوبية يف منظمة التعاون‬
‫االقتصادي والتنمية ‪ – OECD‬النادي الخاص بالدول املتقدمة ‪ -‬خالل منتصف‬
‫التسعينيات‪ .‬ومتثلت العالمة األخرى يف تشكيل مجموعة العرشين ‪ G20‬يف العام‬
‫‪ ،1999‬يف أعقاب األزمة املالية (‪ )1998-1997‬يف رشق آسيا‪ .‬وباإلضافة إىل الدول‬
‫الغربية املعتادة واليابان‪ ،‬ضمت مجموعة العرشين األرجنتني؛ والربازيل؛ والصني؛‬
‫والهند؛ وإندونيسيا؛ واملكسيك؛ وروسيا؛ واململكة العربية السعودية؛ وجنوب‬
‫‪304‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫ووسع النادي ليشمل الدول الصاعدة متوسطة‬ ‫أفريقيا؛ وكوريا الجنوبية؛ وتركيا‪ِّ ،‬‬
‫الدخل‪ .‬ولكن‪ ،‬رمبا جاءت نقطة التحول الرئيسة يف هذا التطور يف وقت مبكر بعد‬
‫اندالع األزمة االقتصادية العاملية يف العام ‪( 2008‬والتي يوجد مزيد بشأنها الحقا)‪.‬‬
‫ففي العام ‪ ،2009‬حلت مجموعة العرشين محل مجموعة الثامين باعتبارها املنتدى‬
‫الرئيس إلدارة االقتصاد العاملي‪ .‬ويف العام ‪ ،2010‬حاولت الربازيل وتركيا التوسط‬
‫يف صفقة نووية مع إيران‪ .‬ويف العامني ‪ 2009‬و‪ 2010‬قدمت دول الربيكس نفسها‬
‫كمجموعة ديبلوماسية نشطة‪.‬‬
‫ميكن جزئيا فهم هذه التغيريات من منظور قصري األجل عىل أنها عواقب‬
‫للعوملة والليربالية الجديدة التي تدمج االقتصاد العاملي عىل نحو أكرث إحكاما‪ .‬ضمن‬
‫هذا اإلطار‪ ،‬ميكن أيضا فهمها باعتبارها استجابات حيال األزمات املالية النسقية‬
‫التي تعد سمة دورية لألنظمة الرأساملية‪ ،‬والتي تتطلب مشاركة أوسع إذا كان‬
‫س ُيتَعامل معها بنجاح‪ .‬كام ميكن فهمها أيضا من منظور أطول كمرحلة مهمة يف‬
‫تطور الحداثة التي انطلقت خالل القرن التاسع عرش‪ .‬إن التقسيم الحاد األويل بني‬
‫املَ ْر َكز واألَ ْط َراف الذي نشأ يف ذلك الوقت‪ ،‬والذي استمر طوال القرن العرشين‪ ،‬انهار‬
‫أخريا حيث كانت مزيد ومزيد من الدول واملجتمعات تجد طرقا لها نحو الحداثة‪،‬‬
‫وغالبا ما كانت طرقا قابلة لالستيعاب واالستمرار داخل ثقافاتها‪ .‬وهذا يعني أن‬
‫دعاة التحديث األوائل‪ ،‬الغرب وروسيا واليابان‪ ،‬بدأوا يفقدون املركز املهيمن يف‬
‫العامل الذي احتلوه منذ القرن التاسع عرش‪ .‬وضمن هذا السياق‪ ،‬أشاروا أيضا إىل‬
‫تآكل القطبية األحادية األمريكية‪ ،‬وهي عملية تسارعت بفعل النزعة االنفرادية‬
‫للرئيسني بوش االبن ودونالد ترامب‪.‬‬
‫وإذا كان املَ ْر َكز يشهد توسعا‪ ،‬فإن هذا يعني أن الديناميات الرئيسة للعالقات‬
‫الدولية كانت تبتعد عن االقتصاد السيايس العاملي الخاص ببنية املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف‪،‬‬
‫موسع كان الغرب يسيطر‬ ‫ٍ‬ ‫وأصبحت تدور عىل نحو متزايد بشأن ديناميات َم ْر َك ٍز‬
‫عليه عىل نحو متناقص (‪ .)Buzan and Lawson, 2015a: 270‬وإذا كان املَ ْر َكز‬
‫وديناميته يشهدان توسعا‪ ،‬فإن ذلك يعني بالرضورة أن األطراف كانت تتقلص من‬
‫حيث الحجم واألهمية‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 2 - 6‬األطراف‬
‫كان لنهاية الحرب الباردة تأثري متباين يف األمن يف العامل الثالث‪ .‬فمن ناحية‪،‬‬
‫بدا أنه خلق ظروفا أكرث مالءمة لالستقرار والتنمية‪ .‬لقد كان الحدث التحويل عىل‬
‫نحو خاص هو النهاية السلمية لنظام الفصل العنرصي يف جنوب أفريقيا‪ ،‬حيث‬
‫بدأت املفاوضات منذ العام ‪ 1990‬وتبعها انتخاب نيلسون مانديال رئيسا للبالد يف‬
‫العام ‪ .1994‬وشملت التطورات األخرى تسوية النزاعات اإلقليمية للحرب الباردة يف‬
‫جنوب أفريقيا؛ وجنوب آسيا؛ وأمريكا الوسطى؛ وجنوب رشق آسيا؛ وهي األقاليم‬
‫التي شهدت تدخال مبارشا أو غري مبارش من طرف القوتني العظميني‪ .‬وشملت هذه‬
‫اتفاقيات جنيف يف العام ‪ 1988‬التي أدت إىل االنسحاب السوفييتي من أفغانستان‬
‫(اكتمل يف العام ‪ ،)1989‬واتفاقيات نيويورك يف العام ‪ 1988‬التي تنص عىل استقالل‬
‫ناميبيا واتفاقية تشابولتيبيك يف العام ‪ 1992‬إلنهاء الرصاع يف السلفادور‪ .‬ويف جنوب‬
‫رشق آسيا‪ ،‬أدت اتفاقية باريس للسالم يف العام ‪ 1991‬إلنهاء الحرب األهلية يف‬
‫كمبوديا إىل ظهور أكرب مهمة لبناء السالم تابعة لألمم املتحدة خالل الفرتة من العام‬
‫‪ 1992‬إىل العام ‪ ،1993‬وذلك إلدارة انتقال البالد السلمي إىل الدميوقراطية‪.‬‬
‫من الناحية السلبية‪ ،‬كانت نهاية الحرب الباردة مبنزلة رضبة للعامل الثالث‬
‫مبعنى أنها أزالت مصدر متاسكه السيايس الرئيس (عدم االنحياز)‪ ،‬وق َّلصت من‬
‫هامش املناورة السياسية التي أوجدته منافسة القوتني العظميني‪ .‬كام أدى عدم‬
‫وضوح الحدود الفاصلة مع املَ ْر َكز الناتج عن صعود البقية إىل تقليل االهتامم‬
‫املشرتك للعامل الثالث بقضايا التنمية‪ .‬ويف حني ظلت بعض دول العامل الثالث فقرية‬
‫و ُتدار بطريقة سيئة‪ ،‬كان البعض اآلخر يجد له طريقا نحو الرثوة والقوة‪ ،‬ويطرق‬
‫أبواب النوادي االقتصادية للقوى الكربى داخل املركز‪ .‬ومع صعود الصني والهند‪،‬‬
‫كان الثقل الدميوغرايف للعامل يتحول من الدول املتخلفة إىل البلدان ذات الدخل‬
‫املتوسط واملرتفع‪ .‬وقد ظل خطاب مناهضة االستعامر والتنمية قويا‪ ،‬لكن إنهاء‬
‫االستعامر أصبح اآلن حقيقة من حقائق حقبة سابقة‪ ،‬وشيئا مل تختربه عىل نحو‬
‫شخيص نسبة متزايدة برسعة من سكان العامل الثالث‪ .‬وكام وجد آخرون يف العامل‬
‫الثالث مسارات تنمية قابلة للتطبيق‪ ،‬أصبح من الصعب عىل نحو متزايد عىل‬
‫أولئك الذين ُت ِر ُكوا يف الخلف االستمرار يف إلقاء اللوم عىل االستعامر كسبب لفقرهم‬
‫‪306‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫وحكمهم غري الكفؤ ‪ -‬عىل الرغم من أن ذلك مل مينع عديدا من قادة العامل الثالث‬
‫من االستمرار يف االضطالع بذلك‪ .‬كانت العوملة تضع الجميع يف القارب نفسه‪،‬‬
‫وكحركة سياسية‪ ،‬أصبح العامل الثالث من ثم ِظال ملا كان عليه يف السابق‪ .‬وعىل‬
‫رغم ذلك‪ ،‬ظلت املشاعر املعادية للغرب من الناحية الفكرية قوية داخل املجتمع‬
‫األكادميي والنشط‪ ،‬مع موجة جديدة من أدبيات حقل العالقات الدولية ملا بعد‬
‫وسعت تركيزها لتشمل قضايا العنرصية‬ ‫االستعامر ( ُنوقشت يف الفصل الثامن) َّ‬
‫والتهميش االقتصادي والتمييز بني الجنسني وما إىل ذلك‪.‬‬
‫لقد تحولت الحروب إىل كونها تقع داخل الدول أكرث من كونها تنشب فيام‬
‫بينها‪ ،‬وذلك تحت تأثري كل من الليربالية الجديدة والفساد وعدم املساواة‪ .‬مل‬
‫يضع إنهاء الحرب الباردة حدا للتدخالت املتأتية من املَ ْر َكز‪ ،‬ولكنه أزال عنرص‬
‫التنافس األيديولوجي والعسكري‪ :‬اآلن صارت التدخالت غربية عىل نحو أسايس‬
‫(مثة مزيد بشأن هذا الحقا)‪ .‬رمبا كانت املشكلة الرئيسة يف العامل الثالث هي‬
‫عدد الدول الضعيفة والفاشلة املوجودة داخله‪ .‬فخالل حقبة الحرب الباردة‬
‫وإنهاء االستعامر‪ ،‬كان التوقع العام هو أن الدول الجديدة‪ ،‬ومبساعد ٍة من‬
‫املَ ْر َكز‪ ،‬ستحل بطريقة ما مشكلة إيجاد عالقة مستقرة مع الحداثة‪ .‬وقد تعزز‬
‫هذا االفرتاض من خالل املنافسة بني القوتني العظميني لنرش أيديولوجياتهام‬
‫ومناذجهام التنموية يف العامل الثالث (‪ .)Westad, 2007‬ومع بداية عرص القطبية‬
‫األحادية والعوملة وصعود البقية‪ ،‬أصبح من الواضح أكرث من أي وقت مىض أنه‬
‫يف حني أن بعض دول ما بعد االستعامر متكنت‪ ،‬بدرجات متفاوتة من النجاح‪،‬‬
‫من إدارة هذا التحول‪ ،‬فإن مثة دوال أخرى كثرية مل تتمكن من تحقيق ذلك‪.‬‬
‫حيث ظهرت مجموعة من الدول الضعيفة والفاشلة التي ال يبدو أنها قادرة عىل‬
‫الحكم أو تطوير نفسها بنجاح يف ظل الظروف الصعبة للغاية التي أوجدتها‬
‫الرأساملية العاملية‪ .‬وقد اشتملت الدول الضعيفة يف العامل الثالث عىل تشاد؛‬
‫والعراق ما بعد صدام حسني؛ وليبرييا؛ ومايل؛ وسرياليون؛ مع البوسنة وأوكرانيا‬
‫يف أوروبا كحاالت إضافية‪ .‬واشتملت الدول الفاشلة عىل أفغانستان؛ وجمهورية‬
‫الكونغو الدميوقراطية؛ وهاييتي؛ والصومال؛ وجنوب السودان؛ واليمن‪ .‬وقد‬
‫كشف الربيع العريب (‪ )2013-2011‬هشاشة واسعة النطاق يف الرشق األوسط‪،‬‬
‫‪307‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ُأطيح بالحكومات يف مرص؛ وليبيا؛ واليمن؛ وتونس‪ ،‬و ُد ِفعت ليبيا وسورية إىل‬
‫أتون حروب أهلية وحشية حولتهام إىل وضع الدولة الفاشلة‪.‬‬
‫لقد كشفت النزاعات يف حقبة ما بعد الحرب الباردة أوجه ضعف النساء يف‬
‫األطراف كضحايا لالغتصاب والتعذيب والعبودية الجنسية يف مناطق النزاع‪ ،‬كام‬
‫وسعت تلك النزاعات أجندة إدارة األمن العاملي‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬اغتُصب ما بني‬ ‫َّ‬
‫‪ 250‬ألفا و‪ 500‬ألف امرأة خالل اإلبادة الجامعية يف رواندا يف العام ‪(Rehn 1994‬‬
‫)‪ .and Sirleaf, 2002: 9‬وتشتهر مناطق النزاع بزيادة حادة يف العنف املنزيل ضد‬
‫املرأة وكذلك االتجار بالنساء‪ .‬وتشكل النساء واألطفال عددا كبريا جدا من الالجئني‬
‫الفارين من مناطق النزاع‪ ،‬إذ ُيجندون أيضا كمقاتلني يف أثناء النزاعات‪ .‬ففي الرصاع‬
‫اإلثيويب الذي أدى إىل استقالل إريرتيا يف العام ‪ ،1993‬ش َّكلت النساء أكرث من ربع‬
‫املقاتلني‪ .‬كام نرش «منور التاميل»‪ ،‬الحركة التي ُق ِ َ‬
‫يِض عليها اآلن‪ ،‬عددا كبريا من النساء‬
‫كمقاتالت وقائدات وفرق انتحارية‪ .‬تصبح النساء أهدافا لالغتصاب والعنف الجنيس‬
‫ليس فقط ألنهن ميثلن رمزا اجتامعيا وثقافيا‪ ،‬ولكن ميكن أيضا مامرسة العنف‬
‫ضدهن كإسرتاتيجية متعمدة من قبل أطراف النزاع بهدف تقويض النسيج االجتامعي‬
‫لخصومهم‪ .‬كان من نتائج هذه األعامل الوحشية تزايد االهتامم بدور املرأة يف السالم‬
‫واألمن (‪ .)Rehn and Sirleaf, 2002: 63‬فقد حددت هيئة تابعة لألمم املتحدة‬
‫خمسة مجاالت تربط املرأة بأجندة السالم واألمن‪ )1( :‬العنف ضد النساء والفتيات؛‬
‫(‪ )2‬عدم املساواة بني الجنسني يف السيطرة عىل املوارد؛ (‪ )3‬عدم املساواة بني الجنسني‬
‫يف السلطة وصنع القرار؛ (‪ )4‬حقوق اإلنسان للمرأة؛ (‪ )5‬واالعرتاف بالنساء (والرجال)‬
‫بوصفهم فاعلني وليسوا ضحايا ‪(Inter Agency Network on Women and‬‬
‫)‪ .Gender Equality, 1999: 1‬وقد شكل اعتامد مجلس األمن الدويل للقرار ‪1325‬‬
‫بشأن املرأة والسالم واألمن يف العام ‪ 2000‬عالمة فارقة يف الدفع باإلجراءات الالزمة‬
‫ملعالجة هذه القضايا‪ .‬كام أثرت هذه التطورات يف جدول أعامل الدراسات األمنية‬
‫والدراسات النسوية‪ ،‬وهو ما س ُيناقش يف الفصل الثامن‪.‬‬
‫عىل رغم استمرار العنف‪ ،‬فإن النظرة إىل األمن واالستقرار يف دول األَ ْط َراف‬
‫مل تكن نظرة قامتة فقط‪ .‬وكان االنحدار العام للنزاعات املسلحة يف دول األطراف‬
‫هو السبب الرئيس الذي جعل الفرتة األولية التي تلت الحرب الباردة تشهد‬
‫‪308‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫انخفاضا كبريا يف حدوث النزاعات املسلحة بشأن العامل ‪(University of British‬‬


‫‪ .)Columbia, 2005‬لكن هذا االتجاه مل يكن خطيا‪ .‬فقد انخفض عدد النزاعات‬
‫املسلحة (النزاعات التي أسفرت عن ‪ 25‬حالة وفاة عىل األقل وتكون مرتبطة مبعركة‬
‫تكون الدولة أحد أطرافها) من ‪ 51‬نزاعا يف العام ‪( 1991‬ذروة النزاعات املسلحة‬
‫يف حقبة ما بعد الحرب الباردة) إىل ‪ 31‬نزاعا يف العام ‪2010‬؛ وقد شهد العام ‪2014‬‬
‫ارتفاعا مفاجئا حيث بلغ إجاميل عدد النزاعات املسلحة ‪ 40‬نزاعا‪ .‬وقد تراجعت‬
‫النزاعات التي أودت بحياة أكرث من ألف شخص والتي ع ِّرفت بأنها حروب‪ ،‬من‬
‫‪ 16‬يف العام ‪ 1988‬إىل ‪ 7‬يف العام ‪ ،2013‬ولكنها زادت إىل ‪ 11‬يف العام ‪2014‬‬
‫(‪ .)Pettersson and Wallensteen, 2015: 536, 539‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فقد أودت‬
‫النزاعات املسلحة منذ نهاية الحرب الباردة بحياة عدد أقل نسبيا مقارنة بأي وقت‬
‫آخر خالل القرن العرشين (‪.)Pettersson and Wallensteen, 2015: 536‬‬
‫لقد تأثرت األَ ْط َراف أيضا مبسارات توسع وانحسار الدميوقراطية يف فرتة ما بعد‬
‫الحرب الباردة‪ .‬إن من بني أبرز حاالت التحول الدميوقراطي كانت تلك التي حصلت‬
‫يف إندونيسيا بعد سقوط سوهارتو يف العام ‪ ،1998‬وإندونيسيا هي رابع أكرب دولة‬
‫يف العامل من حيث عدد السكان وأكرب دولة ذات أغلبية مسلمة‪ ،‬أما الحالة األخرى‬
‫فقد جسدتها ميامنار (منذ العام ‪ .)2011‬لكن املوجة الرابعة من ال َد َم ْق َر َطة التي‬
‫الضعف تقريبا بعد نهاية الحرب الباردة‬ ‫شهدت تزايد عدد الدميوقراطيات إىل ِ‬
‫بلغت ذروتها بحلول العام ‪،)Micklethwait and Wooldridge, 2014( 2000‬‬
‫لكنها واجهت مزيدا من االنتكاسات مع الوعد الذي مل يتحقق للربيع العريب‪ ،‬خاصة‬
‫مع االنتكاسات والرتاجع الذي شهدته مرص وتايلند وميامنار‪.‬‬
‫إن االتجاه الرئيس اآلخر يف األَ ْط َراف يتمثل يف انتشار املؤسسات اإلقليمية‬
‫وتوسيع وظائفها‪ ،‬والتي رمبا تكون قد عوضت إىل حد ما تراجع تضامن العامل‬
‫الثالث‪ .‬فقد استُبدلت منظمة الوحدة األفريقية ذات الرتكيز الشديد عىل السيادة‬
‫وحل محلها االتحاد األفريقي يف العام ‪ 2000‬الذي ُأسندت إليه مهمة التدخل‬
‫اإلنساين‪ُ .‬وأنشئت الجامعة اإلمنائية للجنوب األفريقي يف العام ‪ 1992‬بعضوية‬
‫جنوب أفريقيا مابعد الفصل العنرصي‪ .‬وبدأ ظهور املنظامت اإلقليمية يف منطقة‬
‫آسيا واملحيط الهادئ مع إنشاء منظمة التعاون االقتصادي آلسيا واملحيط الهادئ‬
‫‪309‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف العام ‪ ،1989‬واستمر ذلك مع املنتدى اإلقليمي لرابطة أمم جنوب رشق آسيا يف‬
‫العام ‪1994‬؛ وقمة رشق آسيا يف العام ‪2005‬؛ ومنظمة شنغهاي للتعاون يف العام‬
‫وسعت النزعة اإلقليمية يف األَ ْط َراف من نطاقها إىل ما وراء التجارة‬ ‫‪ .2001‬وقد َّ‬
‫واألمن ملواجهة التحديات العابرة للحدود الوطنية مثل األزمات املالية وتغري املناخ‪،‬‬
‫وذلك عىل الرغم من النتائج املتباينة التي حققتها‪.‬‬
‫عىل الرغم من ثرواتها املتباينة من حيث االستقرار والتعاون‪ ،‬ومواجهة التأثري‬
‫غري املتكافئ للعوملة‪ ،‬ظلت األَ ْط َراف أساسية بالنسبة إىل سياسات املجتمع الدويل‬
‫العاملي بسبب الطرق التي تربط عربها العوملة املَ ْر َكز واألَ ْط َراف يف إطار مجموعة‬
‫متنوعة من املصائر املشرتكة املتزايدة األهمية‪ .‬فقد تراجع العامل الثالث عن دوره‬
‫باعتباره فاعال جامعيا‪ ،‬ولكن هذا يرجع إىل أن عديدا من أعضائه كانوا ينتقلون إىل‬
‫املَ ْر َكز كجزء من صعود البقية‪ .‬وظلت العوملة قوية‪ ،‬ولكنها تعمقت واتسعت أيضا‬
‫باعتبارها سمة بنيوية رئيسة للمجتمع الدويل العاملي‪ .‬وبعد تسعينيات القرن املايض‪،‬‬
‫ضعفت القطبية األحادية‪ ،‬وبدا أن املجتمع الدويل العاملي يتحول عىل نحو متزايد‬
‫من كونه يتشكل من قوة عظمى واحدة وعديد من القوى الكربى‪ ،‬إىل كونه يتشكل‬
‫من عديد من القوى الكربى‪ ،‬وإن كان بعضها أقوى بكثري من القوى األخرى‪ .‬يف هذا‬
‫السياق‪ ،‬كانت التفاعالت واالعتامد املتبادل بني األَ ْط َراف واملَ ْر َكز‪ ،‬وعدم وضوح الحدود‬
‫الفاصلة بينهام‪ ،‬هي التي تحدد عىل نحو متزايد أجندة املجتمع الدويل العاملي يف‬
‫القرن الحادي والعرشين‪ .‬وعىل الرغم من أن بعض التنافسات الجيوسياسية العميقة‬
‫التزال قامئة بني القوى الكربى‪ ،‬كام ذكرنا سابقا‪ ،‬فإنها كانت مصحوبة عىل نحو متزايد‬
‫مبجموعة من تهديدات املصري املشرتك التي تتطلب وجود عمل جامعي‪.‬‬

‫‪ - 2 - 7‬عالقات املَ ْر َكز ‪َ -‬‬


‫األ ْط َراف كمصري مشرتك‬
‫إن مجموعة قضايا املصري املشرتك القامئة بني املَ ْر َكز‪-‬األَ ْط َراف والتي تشكل عىل‬
‫نح ٍو متزاي ٍد األجندة السياسية للمجتمع الدويل العاملي تتمثل يف‪ :‬عودة انتشار‬
‫األسلحة النووية؛ واإلرهاب؛ والهجرة؛ والتدخل؛ واإلدارة االقتصادية العاملية؛‬
‫واإلرشاف البيئي؛ واألمن السيرباين‪ .‬وغالبا ما تتشابك هذه القضايا بعضها مع بعض‬
‫بطرق معقدة‪ ،‬وفيام ييل سنستعرض بإيجاز كل واحدة من هاته القضايا‪.‬‬
‫‪310‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫‪ - 2 - 8‬عودة انتشار األسلحة النووية‬


‫خالل الحرب الباردة‪ ،‬كان انتشار األسلحة النووية أحد مجاالت االتفاق‬
‫القليلة بني الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي‪ .‬فقد كان للقوتني العظميني‬
‫مصلحتهام الخاصة يف إبقاء نادي الدول الحائزة أسلحة نووية صغريا قدر اإلمكان‪،‬‬
‫ولكن نظرا إىل أن مزيدا من انتشار األسلحة النووية زاد من احتاملية نشوب‬
‫حرب نووية‪ ،‬فقد كان مثة أيضا اهتامم منهجي قوي ومعرتف به لدى املجتمع‬
‫الدويل العاملي ككل برضورة عدم انتشار األسلحة النووية‪ .‬ومع اقرتاب نهاية‬
‫الحرب الباردة‪ ،‬بدا أن االنتشار النووي قد تم احتواؤه عىل نحو أو آخر‪ .‬إذ‬
‫فككت جنوب أفريقيا مخزونها الرسي الصغري؛ وكانت روسيا قد سيطرت عىل‬
‫الرتسانة السوفييتية السابقة املرتوكة يف أوكرانيا وأماكن أخرى‪ .‬وجمدت الربازيل‬
‫واألرجنتني برامجهام النووية املتنافسة‪ .‬لكن خالل فرتة التسعينيات‪ ،‬برزت قضية‬
‫عودة انتشار األسلحة النووية إىل الساحة مرة أخرى‪.‬‬
‫لقد كان أحد أسباب ذلك هو إضافة القوى الكربى املحتملة قدراتها النووية‬
‫ضمن مطالب االعرتاف بها كقوى كربى‪ .‬لكن هذا ينطبق فقط عىل الهند‪ ،‬التي‬
‫شكلت‪ ،‬من ثم‪ ،‬حالة خاصة مل تهدد بفتح سباق انتشار األسلحة النووية‪ .‬وخالل‬
‫اعرُتف عىل نحو متزايد مبزاعم الهند أنها تتمتع بوضع القوة الكربى‪،‬‬‫التسعينيات‪ُ ،‬‬
‫وعىل رغم أن كل األعضاء الخمسة الدامئني يف مجلس األمن التابع لألمم املتحدة‬
‫هم من الدول الحائزة أسلحة نووية‪ ،‬فقد جعل ذلك من تحرك الهند تحركا مقبوال‬
‫(‪ .)Buzan, 2018‬لقد أدت تجارب األسلحة النووية التي أجرتها الهند يف العام‬
‫‪ 1998‬برسعة إىل حد ما‪ ،‬إىل توسط الواليات املتحدة يف حل بديل مع الهند لتجاوز‬
‫استبعادها القانوين من مجموعة الدول الحائزة أسلحة نووية يف معاهدة عدم‬
‫االنتشار‪ .‬وكام لوحظ سابقا‪ ،‬ا ُّتفق عىل هذه الصفقة يف العام ‪ ،2005‬و ُنفذت يف‬
‫العامني ‪ 2008‬و‪ .2009‬وقد عزَّز ذلك من مكانة الهند كدولة نووية‪ ،‬وكان مبنزلة‬
‫تعزيز إضايف ملطالبها باالعرتاف بها كقوة كربى (‪.)Pant, 2009: 276‬‬
‫كانت املخاوف األكرث إثارة للقلق‪ ،‬عىل األقل بالنسبة إىل الواليات املتحدة‪،‬‬
‫تتمثل يف محاوالت بعض الدول المتالك أسلحة نووية كرادع ضد التدخل األمرييك‬
‫ضدها (‪ .)D. Smith, 2006‬ففي أثناء إدارة كلينتون‪ ،‬استُخدم مصطلح «الدُ َو ُل‬
‫‪311‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫املَا ِر َقة» لتوصيف كوبا؛ وإيران؛ والعراق؛ وليبيا؛ وكوريا الشاملية‪ ،‬واستخدمت‬
‫الرَش» يف السياق نفسه‪ .‬وقد شعرت تلك‬ ‫إدارة بوش الالحقة مصطلح « ِم ْح َو ُر َ‬
‫الدول فعال بتهديد الواليات املتحدة خالل ذروة األحادية القطبية التي انفردت‬
‫تسع إىل امتالك أسلحة نووية‪ ،‬لكن اآلخرين‬ ‫بها واشنطن‪ .‬وعىل رغم أن كوبا مل َ‬
‫فعلوا ذلك‪ .‬وبحلول العام ‪ 2003‬تخلت ليبيا عن محاولتها تطوير برنامج أسلحة‬
‫نووية‪ ،‬لكن كوريا الشاملية وإيران والعراق مل تقم بذلك‪ ،‬واستخدمت باكستان‬
‫خوفها من الهند املجاورة كذريعة إلجراء تجارب أسلحة نووية يف العام ‪.1998‬‬
‫إن قصة باكستان تتمحور حول كيف أدار عبد القدير خان‪ ،‬األب الروحي لربنامج‬
‫األسلحة النووية الباكستاين‪ ،‬شبكة السوق السوداء يف مجال التكنولوجيا النووية‬
‫خالل فرتة الثامنينيات والتسعينيات‪ .‬و ُيعتقد أنه مرر ُخططا وتقنيات نووية مهمة‬
‫إىل إيران؛ وكوريا الشاملية؛ وليبيا؛ ورمبا أيضا إىل جنوب أفريقيا؛ والعراق‪ .‬حيث‬
‫ُربطت شبكة خان بالعمل مع الوسطاء والرشكات يف أكرث من ‪ 20‬دولة‪ .‬وقد اعتُقل‬
‫ُوأغ ِل َقت شبكته يف العام ‪ .)MacCalman, 2016( 2004‬وكانت خدعة السالح‬
‫النووي لصدام حسني جزءا من مقدمة غزو العراق الذي قادته الواليات املتحدة‬
‫واإلطاحة بنظامه يف العام ‪ ،2003‬عىل الرغم من عدم العثور عىل دليل يشري إىل‬
‫وجود برنامج أسلحة نووية َح ِقي ِقي‪.‬‬
‫ومن ثم فإن الحالتني الرئيستني الجاريتني للدول «املارقة» التي تطمح إىل وضع‬
‫الدول الحائزة أسلحة نووية هام إيران وكوريا الشاملية‪ .‬لقد ُكشف عن الربنامج‬
‫النووي اإليراين يف العام ‪ ،2002‬ويف العامني ‪ 2005‬و‪ 2006‬تبني أنه ينتهك الضامنات‬
‫الدولية وتعرضت إيران إثر ذلك لعقوبات من قبل مجلس األمن الدويل‪ .‬نجحت‬
‫إيران يف الحصول عىل التكنولوجيا والخربة الكافيني لتقصري مهلها لتصبح قادرة‬
‫سنوات من املفاوضات املعقدة بخصوص ذلك‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عىل صنع أسلحة نووية‪ .‬وتعاقبت‬
‫ويف العام ‪ُ 2015‬أبرم اتفاق نووي بني إيران من جهة‪ ،‬والواليات املتحدة؛ والصني؛‬
‫وروسيا؛ وبريطانيا؛ وفرنسا؛ وأملانيا؛ واالتحاد األورويب من جهة أخرى‪ ،‬وهو ٌ‬
‫اتفاق‬
‫تعلق مبوجبه إيران برنامجها لألسلحة يف مقابل رفع العقوبات املفروضة عىل طهران‬
‫بسبب انتهاكاتها املتكررة السابقة‪ .‬ويف وقت كتابة هذا الكتاب‪ ،‬كان الرئيس ترامب‬
‫قد رفض هذه الصفقة‪ ،‬لكنها كانت التزال قامئة‪.‬‬
‫‪312‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫أما قضية كوريا الشاملية فقد ذهبت إىل أبعد من ذلك بكثري‪ .‬أصبحت كوريا‬
‫الشاملية محل اشتباه يف العامني ‪ 1992‬و‪ 1993‬نتيجة عمليات التفتيش التي‬
‫اضطلعت بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية‪ .‬وقد أدرج بوش االبن كوريا الشاملية‬
‫ضمن «محور الرش» يف خطابه يف العام ‪ ،2002‬ويف العام ‪ 2003‬أعلنت بيونغ يانغ‬
‫انسحابها من معاهدة عدم انتشار األسلحة النووية‪ .‬ويف أكتوبر ‪ 2006‬أجرت كوريا‬
‫الشاملية أول تجربة نووية لها‪ .‬وقد اضطلعت بذلك بعد فرتة طويلة من املحادثات‬
‫السداسية واملساومات التي جرت فيام بينهم‪ ،‬حيث إن كل الجهود التي بذلتها‬
‫الصني؛ واليابان؛ وروسيا؛ والواليات املتحدة؛ وكوريا الجنوبية يف منع ذلك باءت‬
‫بالفشل‪ .‬يف العام ‪ 2009‬أجرت بيونغ يانغ تجربتها النووية الثانية‪ ،‬وأجرت يف الوقت‬
‫نفسه تجارب صاروخية منتظمة‪ .‬وقد بدت الصني غري مبالية عىل نحو مثري للفضول‬
‫بهذا التطور‪ ،‬أو عىل األقل غري راغبة يف اتخاذ إجراءات جادة ضد حليفها الكوري‬
‫الشاميل‪ ،‬عىل الرغم من أن استفزازات بيونغ يانغ وخطابها التحرييض يهدد بحدوث‬
‫أزمة عسكرية كبرية مع الواليات املتحدة‪ ،‬وإمكانية زرع شعو ٍر لدى اليابان وكوريا‬
‫الجنوبية بأنهام مجربتان يف النهاية عىل امتالك وسائل الردع النووية الخاصة بهام‪.‬‬
‫لطاملا اتبعت اليابان سياسة الردع «املرتاخية»‪ :‬التهديد بالحصول عىل أسلحة نووية‬
‫برسعة كبرية إذا شعرت بتهديد عسكري خطري‪ .‬إذ إن لديها كل القدرات التي متكنها‬
‫من تجميع أسلحة نووية قابلة لإلطالق‪ ،‬ورمبا يكون ذلك يف غضون بضعة أشهر فقط‬
‫(‪ .)Buzan and Herring, 1998: 50–1, 172–3‬وقد استمرت المباالة الصني حيال‬
‫هذا الوضع حتى وقت كتابة هذا الكتاب‪ ،‬وخالل ذلك الوقت كانت كوريا الشاملية‬
‫عىل وشك امتالك أسلحة نووية ميكن أن تصل إىل األرايض األمريكية‪ .‬وكام ُذكر سابقا‪،‬‬
‫تعرضت اليابان وكوريا الجنوبية لضغوط متزايدة من التهديدات والقدرات النووية‬
‫لكوريا الشاملية‪ ،‬وقد تعززت تلك الضغوط بشكوك بشأن ضامن الواليات املتحدة‬
‫للدفاع عنهام وذلك نتيجة لضعف موقف واشنطن أمام كوريا الشاملية‪ ،‬واملواقف‬
‫املتناقضة داخل إدارة الرئيس ترامب بشأن ضامنات التحالف‪ .‬مل يكن من الواضح يف‬
‫وقت كتابة هذا الكتاب ما إذا كان أي تطور جوهري سينبثق من املحادثات الجارية‬
‫بني ترامب وكيم جونغ أون‪ ،‬عىل الرغم من أن احتامالت نزع السالح النووي الكامل‬
‫لكوريا الشاملية كنتيجة لهذه املحادثات تستدعي شكوكا كبرية‪.‬‬
‫‪313‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 2 - 9‬اإلرهاب‬
‫كان موضوع اإلرهاب بالتأكيد مطروحا عىل أجندة األمن الدويل خالل الحرب‬
‫الباردة وخالل التسعينيات‪ ،‬وهو موضوع يرتبط عىل نحو أسايس بالنزاعات الدائرة‬
‫يف العامل اإلسالمي‪ .‬ولكن حتى أحداث العام ‪ ،2001‬كان هذا املوضوع ميثل اهتامما‬
‫هامشيا نسبيا بالنسبة إىل أجندة األمن الدويل (‪Buzan and Hansen, 2009:‬‬
‫‪ .)227–55‬ومنذ هجامت ‪ 2001‬عىل نيويورك وواشنطن من ِقبل تنظيم القاعدة‪،‬‬
‫أصبحت ما تسمى بـ «الحرب العاملية عىل اإلرهاب» (‪ )GWOT‬تشكل املحور‬
‫الرئيس لألمن العاملي (‪ .)Buzan, 2006‬ومن املفارقات أن تنظيم القاعدة تعود‬
‫جذوره إىل حرب الواليات املتحدة بالوكالة ضد االتحاد السوفييتي يف أفغانستان‬
‫خالل الثامنينيات عندما س َّلحت الواليات املتحدة ودعمت امليليشيات اإلسالمية‬
‫املتطرفة ضد االحتالل السوفييتي (‪ .)Westad, 2007: 353–7‬كانت الدالئل‬
‫املبكرة عىل نشاط ونوايا تنظيم القاعدة تتمثل يف تفجري مركز التجارة العاملي يف‬
‫نيويورك يف العام ‪1993‬؛ وتفجري السفارتني األمريكيتني يف تنزانيا وأوغندا يف العام‬
‫‪1998‬؛ والهجوم عىل السفينة الحربية األمريكية املدمرة كول يف عدن يف العام‬
‫‪ .2000‬وقد أدت هجامت العام ‪ 2001‬إىل غزو الواليات املتحدة أفغانستان يف العام‬
‫‪2001‬؛ وغزو العراق يف العام ‪ ،2003‬وسنتعرض لذلك الحقا بيشء من التفصيل‪.‬‬
‫كام أن موضوع اإلرهاب مرتبط باالنتشار النووي والهجرة واألمن السيرباين واإلدارة‬
‫االقتصادية العاملية‪ .‬لقد قتلت الواليات املتحدة أخريا أسامة بن الدن يف مايو ‪2011‬‬
‫يف مخبأه يف باكستان‪ ،‬الحليف املفرتض للواليات املتحدة‪ .‬لكن تنظيم القاعدة يف‬
‫ذلك الوقت كان قد أنشأ بالفعل خليفة له‪ ،‬أي تنظيم «الدولة اإلسالمية» (داعش)‪.‬‬
‫بدأ تنظيم الدولة اإلسالمية كفرع من تنظيم «القاعدة» يف العام ‪ ،1999‬حيث‬
‫شارك يف الحرب األهلية يف العراق يف أعقاب الفوىض السياسية يف ذلك البلد التي‬
‫خلفها الغزو األمرييك يف العام ‪ 2003‬واالحتالل األمرييك الالحق‪ .‬وقد برز تنظيم‬
‫«الدولة اإلسالمية» يف حد ذاته يف العام ‪ 2014‬عندما نجح يف تجنيد جنود وأنصار‬
‫من عديد من دول الغرب والعامل اإلسالمي‪ ،‬مستغال يف ذلك فوىض الدول الضعيفة‬
‫والحروب األهلية القامئة‪ .‬حيث سيطر التنظيم عىل مساحات شاسعة من العراق‬
‫وسورية‪ ،‬وربط بني الحروب األهلية القامئة يف هذين البلدين‪ .‬وعىل أثر ذلك‪ ،‬بدأ‬
‫‪314‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫ووسعت الدولة اإلسالمية‬


‫«الناتو» يف قصف تنظيم الدولة اإلسالمية يف العام ‪َّ ،2014‬‬
‫هجامتها إىل أوروبا‪ ،‬ونشطت يف الحروب األهلية يف ليبيا‪ ،‬واستولت هناك عىل‬
‫اض كبرية يف العامني ‪ 2014‬و‪ ،2015‬وأيضا يف نيجرييا‪ ،‬حيث كانت بوكو حرام‬ ‫أر ٍ‬
‫تابعة لها يف العام ‪.2015‬‬
‫كانت األحداث الرئيسة املرتبطة باإلرهاب الدويل بعد العام ‪ 2001‬كام ييل‪:‬‬
‫‪ :2002 -‬هجوم مرسح موسكو‪.‬‬
‫‪ :2002 -‬قصف السياح يف بايل (إندونيسيا)‪.‬‬
‫‪ :2004 -‬هجوم مرتو موسكو ورهائن مدرسة بيسالن‪.‬‬
‫‪ :2004 -‬تفجريات قطارات مدريد‪.‬‬
‫‪ :2005 -‬تفجريات قطارات وحافالت يف لندن‪.‬‬
‫‪ :2006 -‬تفجري قطار يف مومباي‪ ،‬الهند‪.‬‬
‫‪ :2008 -‬هجامت مومباي‪.‬‬
‫‪ :2010 -‬هجوم مرتو موسكو مرة أخرى‪.‬‬
‫‪ :2013 -‬تفجري ماراثون بوسطن‪.‬‬
‫‪ :2015 -‬تفجريات أنقرة‪.‬‬
‫‪ :2015 -‬إطالق النار يف باريس‪.‬‬
‫‪ :2016 -‬إطالق النار يف ملهى أورالندو‪.‬‬
‫‪ :2016 -‬مطار إسطنبول‪.‬‬
‫‪ :2016 -‬هجوم نيس (فرنسا)‪.‬‬
‫‪ :2016 -‬هجوم سوق عيد امليالد يف برلني‪.‬‬
‫‪ :2017 -‬هجامت جرس وستمنسرت‪ ،‬ولندن بريدج وسوق بورو‪ ،‬ومانشسرت أرينا‪.‬‬
‫‪ :2017 -‬هجوم برشلونة‪.‬‬
‫‪ :2017 -‬هجوم نيويورك‪.‬‬
‫كان مثة عديد من الهجامت األخرى يف إندونيسيا والعراق وإرسائيل والهند‬
‫وباكستان وروسيا وتركيا وأماكن أخرى‪ ،‬مبا يف ذلك الصني يف العام ‪( 2011‬كاشغر)‬
‫‪ Kashgar‬ويف العام ‪( 2014‬كومنينغ) ‪ .Kunming‬لقد ُقتل من جراء تلك الهجامت‬
‫ما بني بضع مئات وبضعة آالف شخص كل عام منذ السبعينيات‪ ،‬مع أكرث من ضعف‬
‫‪315‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫هذا العدد من الضحايا‪ .‬كان اإلرهاب يشكل تهديدا لجميع البلدان‪ ،‬واألولوية التي‬
‫ُأوليت لهذا املوضوع كانت تتعلق بقدر كبري بإمكانية حدوث رضر أكرب بكثري إذا‬
‫استحوذ اإلرهابيون العدميون عىل أسلحة الدمار الشامل‪ .‬وهكذا ترادفت املخاوف‬
‫بشأن االنتشار النووي واإلرهاب جنبا إىل جنب إىل حد ما‪ .‬ومن املحتمل أن اإلرهاب‬
‫كان ميثل تهديدا للمجتمعات الدميوقراطية أكرث من املجتمعات االستبدادية‪ ،‬ألن‬
‫املجتمعات الدميوقراطية واجهتها املعضلة الرهيبة املتمثلة يف كيفية حامية سكانها‬
‫من دون املساس باالنفتاح الذي دافعوا عنه‪ ،‬وكذا كيفية عدم التحول إىل دول‬
‫بوليسية‪ .‬أما املجتمعات االستبدادية التي كانت بالفعل دوال بوليسية‪ ،‬فلم تكن‬
‫هذه املعضلة مطروحة لديها‪ ،‬عىل رغم أنه كان عليها التخوف حيال أن اإلرهاب قد‬
‫ُيقوض مصداقية إحساسها بالسيطرة‪ ،‬ومن ثم قد ُيقوض رشعيتها‪.‬‬

‫‪ - 2 - 10‬الهجرة‬
‫مل تكن الهجرة قضية رئيسة بالنسبة إىل دول املَ ْر َكز خالل الحرب الباردة‪ ،‬ولكن‬
‫منذ التسعينيات فصاعدا أصبحت تشكل مصدر قلق سيايس متزايدا‪ ،‬خاصة بالنسبة‬
‫إىل أوروبا والواليات املتحدة‪ .‬كانت الهجرة بعد الحرب الباردة مدفوعة بعوامل‬
‫مختلفة‪ ،‬ترتاوح بدءا من املهاجرين االقتصاديني التقليديني الذين يتطلعون إىل‬
‫تحسني آفاقهم من خالل االنتقال من البلدان الفقرية إىل الدول الغنية‪ ،‬ووصوال‬
‫إىل طالبي اللجوء الفارين من الحرب أو املجاعة أو القمع‪ .‬من ناحية بنية املَ ْر َكز‪-‬‬
‫األَ ْط َراف‪ ،‬كان الناس من املستعمرات السابقة يشقون طريقهم نحو القوى املرتوبولية‬
‫السابقة التي استعمرتهم كمهاجرين اقتصاديني‪ :‬من جنوب آسيا والكاريبي إىل‬
‫اململكة املتحدة؛ واألفارقة والعرب إىل فرنسا‪ .‬لقد عملت روابط اإلمرباطورية غري‬
‫الرسمية بالطريقة نفسها‪ ،‬حيث توجه األتراك إىل أملانيا واتجه األمريكيون الالتينيون‬
‫إىل الواليات املتحدة‪ .‬أما االتحاد األورويب فقد أوجد قضية الهجرة الخاصة به من‬
‫خالل الجمع بني انفتاح سوقه املوحدة والتوسع نحو البلدان الفقرية نسبيا يف جنوب‬
‫رشق أوروبا رشقها‪ .‬وعىل الرغم من أن الهجرة من املَ ْر َكز إىل األَ ْط َراف جذبت قدرا‬
‫أكرب من االهتامم‪ ،‬فإنه كان مثة أيضا عديد من الهجرات بني الجنوب والجنوب‪.‬‬
‫فالالجئون من النزاعات‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يفرون عىل نحو أسايس إما إىل داخل‬
‫‪316‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫بلدانهم (نازحني داخليا) وإما إىل البلدان املجاورة التي غالبا ما تشبههم ثقافيا‪.‬‬
‫وكام سجلت ذلك األمم املتحدة (‪ :)2016: 16‬فإن «أغلبية املهاجرين الدوليني الذين‬
‫منشؤهم آسيا (‪ 60‬يف املائة‪ ،‬أو ‪ 62‬مليون شخص)؛ وأوروبا (‪ 66‬يف املائة‪ ،‬أو ‪40‬‬
‫مليون شخص)؛ وأوقيانوسيا (‪ 59‬يف املائة‪ ،‬أو مليون شخص)؛ وأفريقيا (‪ 52‬يف املائة‪،‬‬
‫أو ‪ 18‬مليون شخص)‪ ،‬يعيشون يف بلد آخر داخل مناطقهم األصلية الرئيسة»‪.‬‬
‫ُوأدرجت قضية الهجرة ضمن األجندة األمنية يف أوروبا فور انتهاء الحرب الباردة‬
‫عندما أشعل تفكك يوغوسالفيا السابقة حروبا صغرية ولكنها كانت قاسية ‪(Wæver‬‬
‫)‪ .et al., 1993‬فقد شهدت أوائل التسعينيات توجه نحو ‪ 300‬ألف الجئ إىل شامل‬
‫أوروبا‪ .‬وقد أشارت أزمة كوسوفو يف أواخر التسعينيات إىل أنه بحلول العام ‪2000‬‬
‫رمبا كان هناك مليونا شخص من أصل بلقاين داخل االتحاد األورويب‪ ،‬عىل الرغم من‬
‫عودة عديد من الكوسوفيني إىل مناطقهم يف وقت الحق‪.‬‬
‫ظلت قضية الهجرة مطروحة ضمن األجندة األوروبية بسبب سلسلة الحروب‬
‫والتدخالت التي أعقبت ذلك يف إطار الحرب العاملية عىل اإلرهاب‪ .‬فقد بدأ منط‬
‫جديد من الالجئني العائدين من أفغانستان بعد الغزو والحرب السوفييتية خالل‬
‫الثامنينيات‪ ،‬واستمر ذلك مع نظام طالبان القمعي خالل التسعينيات‪ .‬حيث كان‬
‫إليران وباكستان الحصة األكرب من هؤالء الالجئني‪ .‬وبد ًءا من العام ‪ 2014‬كان اليزال‬
‫هناك نحو ‪ 2.5‬مليون أفغاين يف إيران وباكستان‪ .‬أما البلدان األخرى التي تضم‬
‫أكرث من ‪ 50‬ألف أفغاين فقد اشتملت عىل أملانيا؛ وطاجيكستان؛ واململكة املتحدة؛‬
‫والواليات املتحدة؛ باإلضافة إىل كندا بـ ‪ 48‬ألف أفغاين (‪ .)IOM, 2014‬ويف العام‬
‫‪ 2014‬بدأ عدد طالبي اللجوء األفغان الذين وصلوا إىل أوروبا يف التسارع‪ ،‬حيث‬
‫ارتفع عىل نح ٍو حاد إىل ما يقرب من ثالثة أرباع مليون يف العامني ‪ 2015‬و‪،2016‬‬
‫مام سبب أزمة خصوصا يف اليونان حيث َت َركز الجزء األكرب من هؤالء الوافدين‬
‫(‪ .)EU, 2016( )2015-2014‬كام أدى الغزو والعنف الداخيل إىل موجة من الهجرة‬
‫من العراق يف العام ‪ .2006‬واعتبا ًرا من العام ‪ 2015‬كان ما يقرب من ‪ 1.5‬مليون‬
‫عراقي يعيشون يف الخارج‪ ،‬أي ما يقرب من ‪ 4‬يف املائة من السكان‪ .‬حيث توزعوا‬
‫عىل نطاق واسع يف كل من دول جوار العراق (أكرث من نصف مليون)؛ ويف أوروبا‬
‫(ما يقرب من نصف مليون‪ ،‬معظمهم يف بلدان شامل أوروبا)؛ وأمريكا الشاملية‬
‫‪317‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫(ما يقرب من ربع مليون) (‪ .)IOM, 2015‬ومنذ اندالع الحرب األهلية يف سورية يف‬
‫العام ‪ ،2011‬قدرت مفوضية األمم املتحدة السامية لشؤون الالجئني (‪)UNHCR‬‬
‫أن ‪ 4.8‬مليون سوري قد فروا إىل تركيا ولبنان واألردن ومرص والعراق‪ ،‬وأن ‪6.6‬‬
‫مليون نزحوا داخل ًّيا داخل سورية‪ .‬يف حني قدم نحو مليون منهم طلب لجوء إىل‬
‫أوروبا‪ ،‬حيث تلقت من بينهم أملانيا أكرث من ‪ 300‬ألف طلب؛ والسويد ‪ 100‬ألف‬
‫(‪ .)EU, 2016‬وقد ش َّكل السوريون واألفغان والعراقيون أكرث من ‪ 88‬يف املائة من‬
‫زيادة عدد الوافدين إىل اليونان بعدد يصل إىل نحو مليون شخص يف العام ‪2015‬‬
‫(‪ .)IOM, 2017: 12‬وإذا ما متعنا يف قضية الهجرة عىل نح ٍو إجاميل‪ ،‬برغم أن عدد‬
‫األشخاص املقيمني يف بلد آخر غري بلد ميالدهم بلغ ‪ 244‬مليو ًنا يف العام ‪2015‬‬
‫بزيادة قدرها ‪ 41‬يف املائة منذ العام ‪ ،2000‬فإن املهاجرين كنسبة من سكان العامل‬
‫كان مستواهم ثابتًا إىل حد ما عند نحو ‪ 3‬يف املائة عىل مدى العقدين املاضيني‬
‫(‪ .)IOM, 2017: 5‬كانت نسبة الهجرة من الجنوب إىل الجنوب أعىل بقليل من‬
‫الهجرة من الجنوب إىل الشامل‪ ،‬وقد بلغ حجم الهجرة من الشامل إىل الشامل نحو‬
‫ثلثي الحجم‪ ،‬أما الهجرة من الشامل إىل الجنوب فم َّثلت ُسبع حجم الهجرة القادمة‬
‫من الجنوب إىل الشامل (‪ .)IOM, 2017: 7‬لقد استضافت املناطق النامية ‪ 86‬يف‬
‫املائة من الالجئني يف العامل (‪ 12.4‬مليون شخص)‪ ،‬وهي أعىل قيمة منذ أكرث من‬
‫عقدين‪ .‬وقد قدمت أقل البلدان منوا اللجوء إىل ‪ 3.6‬مليون الجئ‪ ،‬أو ‪ 25‬يف املائة‬
‫من املجموع العاملي‪ .‬ويف العام ‪ 2014‬أصبحت تركيا الدولة التي تستضيف أكرب عدد‬
‫من الالجئني يف جميع أنحاء العامل باستقبالها ‪ 1.6‬مليون الجئ؛ تليها باكستان (‪1.5‬‬
‫مليون)؛ ولبنان (‪ 1.2‬مليون)؛ وجمهورية إيران اإلسالمية (مليون)؛ وإثيوبيا واألردن‬
‫(‪ 0.7‬مليون لكل منهام)‪ .‬ويأيت أكرث من نصف (‪ 53‬يف املائة) الالجئني وفق املفوضية‬
‫السامية لألمم املتحدة لشؤون الالجئني من ثالثة بلدان فقط‪ :‬سورية (‪ 3.9‬مليون)؛‬
‫وأفغانستان (‪ 2.6‬مليون)؛ والصومال (‪ 1.1‬مليون) (‪.)UN, 2016: 9‬‬
‫لقد كان للهجرة مكاسب واضحة‪ :‬حيث إن «التحويالت التي يرسلها املهاجرون‬
‫الدوليون إىل عائالتهم يف بلدانهم األصلية بلغت ‪ 581‬مليار دوالر أمرييك يف العام‬
‫‪ ،»2015‬وقد ذهب معظم هذا املبلغ إىل االقتصادات املنخفضة واملتوسطة الدخل‬
‫التي بلغت تدفقات التحويالت إليها ثالثة أضعاف املساعدات األجنبية التي تلقتها‬
‫‪318‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫هذه البلدان يف العام نفسه (‪ .)IOM, 2017: 15‬ولكن عندما كانت التدفقات‬
‫ضغوطا هائلة عىل املجتمعات املستقبلة‪.‬‬‫ً‬ ‫كبرية ومفاجئة ومستمرة‪ ،‬خلقت‬
‫فبحلول العام ‪ 2015‬كان االتحاد األورويب يتصدى لضغوط تدفقات املهاجرين عرب‬
‫البحر األبيض املتوسط‪ .‬ويف العام ‪ 2016‬ش َّكل الخوف من الهجرة قضية مهمة يف‬
‫التصويت لخروج بريطانيا من االتحاد األورويب يف اململكة املتحدة؛ ويف انتخاب‬
‫ترامب يف الواليات املتحدة‪ .‬كان للهجرة أيضا روابط قوية بالحرب والتدخل يف كل‬
‫من املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ .‬فاملخاوف بشأن اآلثار املرتتبة عىل الهوية من جراء التدفقات‬
‫الجامعية لألشخاص القادمني من ثقافات مختلفة ساهمت يف إثارة قضايا الهوية‪،‬‬
‫حيث قوت شوكة الشعبويني اليمينيني يف العديد من البلدان الغربية‪ .‬كام ترتبط‬
‫ارتباطا وثي ًقا باإلرهاب‪ ،‬حيث مثة خوف من أن يكون هنالك ضمن تدفقات‬ ‫الهجرة ً‬
‫طالبي اللجوء واملهاجرين ألسباب اقتصادية‪ ،‬إرهابيون مختبئون مصممون عىل‬
‫مهاجمة البلدان املضيفة من الداخل‪.‬‬

‫‪ - 2 - 11‬التدخالت‬
‫صار من الواضح اآلن أن التدخالت تشكل قضية رئيسة أخرى متشابكة بني‬
‫املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ ،‬خاصة مع تداعيات االنتشار النووي واإلرهاب والهجرة‪ .‬يف البداية‪،‬‬
‫كان هناك تحول من التدخالت التنافسية التي كانت سائدة إبان الحرب الباردة‪،‬‬
‫إىل التدخالت التي قادها الغرب خالل التسعينيات والعقد األول من القرن الحادي‬
‫والعرشين‪ .‬لكن هذا النمط األخري من التدخل عاد عىل نحو متزايد إىل سابق‬
‫وضوحا يف سورية بعد العام‬‫ً‬ ‫عهده ليأخذ طابع التدخل التنافيس‪ ،‬وكان هذا أكرث‬
‫‪ .2011‬كانت هذه التدخالت تتم أحيا ًنا عىل أسس تتعلق باألمن القومي ضد الدول‬
‫«املارقة» التي كان ُيعتقد أنها تهدد الغرب (يف البداية أفغانستان والعراق)‪ ،‬بينام‬
‫كانت تتم يف أحايني أخرى عىل أسس تتعلق بانتهاكات األمن اإلنساين ألشخاص‬
‫آخرين يف أثناء الحروب األهلية (يوغوسالفيا السابقة؛ وليبيا؛ وسورية؛ وبعض‬
‫التدخالت ً‬
‫أيضا يف أفغانستان؛ والعراق يف مرحلة ما بعد الغزو)‪.‬‬
‫لقد أدى تفكك يوغوسالفيا إىل عدة دول يف العام ‪ 1991‬إىل نشوب حرب يف‬
‫كرواتيا بني الرصب والكروات يف العامني ‪ 1991‬و‪ .1992‬وعندما انفصلت البوسنة‬
‫‪319‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫والهرسك يف العام ‪ ،1992‬بدأت حرب البوسنة مع رصبيا‪ .‬ويف العامني ‪ 1992‬و‪،1993‬‬


‫انجر «الناتو» إىل الحرب‪ ،‬حيث قام يف البداية بعمليات املراقبة‪ ،‬ثم انتقل إىل‬
‫اإلرشاف عىل فرض عقوبات مجلس األمن الدويل وقرارات منطقة حظر الطريان‬
‫(قرارات مجلس األمن الدويل ‪ .)781 ،757 ،713‬ويف العامني ‪ 1993‬و‪ ،1994‬قدم‬
‫«الناتو» الدعم الجوي لقوة الحامية التابعة لألمم املتحدة‪ .‬ويف العام ‪ 1995‬شن‬
‫هجامت عنيفة عىل رصبيا‪ .‬وبعد اتفاقيات درايتون للعام ‪ 1995‬وفر «الناتو» قوات‬
‫حفظ السالم التي دُمجت يف النهاية ضمن قوة تحقيق االستقرار‪ .‬وأعقب ذلك حرب‬
‫انفصالية بني جمهورية يوغوسالفيا ومتمردي كوسوفو‪ ،‬وهي الحرب التي ظهرت يف‬
‫منتصف التسعينيات واشتدت يف العامني ‪ 1998‬و‪ .1999‬وقد تدخل حلف شامل‬
‫األطليس عىل أثر ذلك ألسباب إنسانية يف مارس ‪ -‬يونيو ‪ ،1999‬ليشن حملة قصف‬
‫ضد رصبيا متت من دون تفويض من مجلس األمن الدويل ألن روسيا والصني كانتا‬
‫ستعيقها‪ .‬وقد انفصلت كوسوفو يف النهاية عن رصبيا يف العام ‪ 2008‬بدعم غريب‪،‬‬
‫لكنها مل تلق االعرتاف من روسيا والصني‪.‬‬
‫ويف العام ‪ 2001‬كان التدخل يف أفغانستان ق ْيد التحضري منذ منتصف‬
‫التسعينيات‪ ،‬عندما هزمت «طالبان»‪ ،‬بدعم من باكستان ودول أخرى‪ ،‬أمراء الحرب‬
‫الذين استولوا عىل السلطة بعد االنسحاب السوفييتي‪ ،‬لِت ُْح ِك َم بذلك «طالبان»‬
‫قبضتها عىل العاصمة كابول‪ .‬وبعد طرد أسامة بن الدن من السودان‪ ،‬نقل األخري‬
‫عمليات تنظيم القاعدة إىل أفغانستان‪ ،‬حيث ساعد طالبان يف حربها األهلية‬
‫املستمرة ضد أمراء الحرب الطاجيك واألوزبكيني يف تحالف الشامل األفغاين‪ .‬لقد‬
‫صار أسامة بن الدن مطلوبا بالفعل من قبل الواليات املتحدة بسبب مشاركته‬
‫يف تفجريات العام ‪ 1998‬لسفاريت الواليات املتحدة يف تنزانيا وأوغندا‪ .‬وأصبحت‬
‫أفغانستان التي تحكمها طالبان الهدف األول للحرب العاملية ضد اإلرهاب بقيادة‬
‫جورج دبليو بوش‪ ،‬ألنها استضافت بن الدن والقاعدة‪ .‬يف البداية‪ ،‬نفى بن الدن‬
‫مسؤوليته عن هجامت الحادي عرش من سبتمرب عىل نيويورك وواشنطن‪ ،‬لكنه‬
‫أعلن مسؤوليته عن ذلك يف وقت الحق يف العام ‪ .2004‬وقد كان التدخل األمرييك‬
‫ناجحا يف بدايته‪ ،‬إذ رسعان ما هزم حركة طالبان يف العامني ‪ 2001‬و‪ 2002‬وعطل‬ ‫ً‬
‫نصبت الواليات املتحدة حكومة‬ ‫قواعد وعمليات القاعدة يف أفغانستان‪ .‬وبعد ذلك َّ‬
‫‪320‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫يف كابول‪ ،‬واضطلع «الناتو» بدور متزايد يف العملية برمتها‪ .‬ولكن بعد ذلك‪ ،‬وفيام‬
‫يشبه إعادة التجربة السوفييتية يف أفغانستان خالل الثامنينيات‪ ،‬وجدت الواليات‬
‫املتحدة نفسها متورطة يف مستنقع باهظ الثمن وغري مثمر عمقت من خطورته‬
‫الحكومات الضعيفة والفاسدة وغري الفعالة يف كابول‪ ،‬وكذلك حركات التمرد القبلية‬
‫واإلسالمية التي كانت متحمسة ومسلحة جيدًا وتحظى بدعم خارجي‪ .‬ومثل االتحاد‬
‫السوفييتي‪ ،‬كانت الواليات املتحدة قادرة عىل كسب املعارك‪ ،‬لكنها مل تتمكن من‬
‫خلق إما حكومة قادرة عىل حكم البالد بأكملها عىل نح ٍو رشعي‪ ،‬وإما تأسيس جيش‬
‫أفغاين قادر عىل كسب الحرب أو السيطرة عىل األرايض‪ .‬لقد شنت حركة طالبان‬
‫وجامعات أخرى معظمها إسالمي‪ ،‬حرب عصابات دامئة وفعالة ضد قوات «الناتو»‬
‫والحكومة األفغانية يف كابول‪ .‬وقد كان مبقدورهم شن هجامت يف أي مكان تقري ًبا‪،‬‬
‫حيث نجحوا يف احتالل أجزاء كبرية من البالد‪ .‬وعىل الرغم من اإلنهاء الرسمي‬
‫لتدخل «الناتو» يف العام ‪ ،2014‬فإن هذه الحرب التزال مستمرة عىل نح ٍو مؤمل‬
‫وباهظ الثمن‪ ،‬مع عدم وجود خروج واضح للقوات األمريكية التي لن تقبل بعودة‬
‫البالد تحت حكم طالبان‪.‬‬
‫بعد أن هزمت صدام يف العامني ‪ 1990‬و‪ ،1991‬ولكن مل تطح به‪ ،‬عاودت‬
‫ً‬
‫مرتبطا‬ ‫الواليات املتحدة الكرة يف العام ‪ .2003‬وكان السبب املنطقي لهذا التدخل‬
‫بكل من الحرب العاملية ضد اإلرهاب واألسلحة النووية العراقية املزعومة‪ ،‬عىل‬
‫الرغم من عدم إثبات أي تهمة بخصوصهام عىل اإلطالق‪ .‬وقد هُ زم جيش صدام‬
‫حسني برسعة عىل يد تحالف تقوده الواليات املتحدة واململكة املتحدة‪ ،‬ل ُي َّ‬
‫حل‬
‫الح ًقا‪ .‬لقد أدت الحكومات العراقية الضعيفة إىل تفاقم االنقسامات بني الشيعة‬
‫والسنة‪ ،‬وخلقت شكو ًكا بشأن ما إذا كان ميكن الحفاظ عىل الدولة العراقية موحدة‪،‬‬
‫أو تقسيمها إىل مناطق سنية وشيعية وكردية‪ .‬كانت سلطة التحالف املؤقتة التي‬
‫حكمت البالد يف العامني ‪ 2003‬و‪ 2004‬غري كفؤة إىل حد كبري‪ ،‬كام أن حظرها‬
‫ألعضاء حزب البعث من الحكومة زود املتمردين بإمدادات مفيدة من املجندين‬
‫املدربني املقصيني‪ .‬وعىل الفور تقري ًبا‪ ،‬بدأ مترد عنيف ضد القوات األمريكية والقوات‬
‫املتحالفة يف النمو املتزايد‪ .‬حافظت زيادة القوات األمريكية يف العام ‪ 2007‬عىل‬
‫الصمود‪ ،‬ب ْيد أنه يف العام ‪ 2011‬تال ذلك الصمود نوع من التاليش‪ُ ،‬أعيد عىل أثره‬
‫‪321‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫االشتباك مع هجوم الدولة اإلسالمية بد ًءا من العام ‪ .2014‬لقد عمقت الحرب عداء‬
‫الواليات املتحدة إليران‪ ،‬التي دعمت الجانب الشيعي يف كل من العراق وسورية‪،‬‬
‫مام أضاف إىل املشهد ُبعدًا آخر للمشاركة األمريكية الشاملة يف الرشق األوسط‬
‫إىل جانب إرسائيل واململكة العربية السعودية‪ .‬لقد تم دعم وتسليح العراق تحت‬
‫حكم صدام من قبل الغرب واالتحاد السوفييتي ضد إيران خالل الثامنينيات يف‬
‫أعقاب ثورة الخميني اإلسالمية يف إيران يف العام ‪ .1979‬وانعكس التفاؤل األمرييك‬
‫الساذج بخصوص عملية التحول الدميوقراطي يف اسم العملية العسكرية ضد صدام‪:‬‬
‫«عملية حرية العراق»‪ .‬وكذلك يف حجم قوة االحتالل الصغرية نسب ًّيا التي اعتقد‬
‫وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ‪ Donald Rumsfeld‬أنها ستكون كافية بعد اإلطاحة‬
‫بصدام‪ .‬لكن رسعان ما تبخر ذلك األمل مع بداية مواجهة املتمردين املسلحني‬
‫املتعددين؛ والسياسات الوطنية املتشعبة واالستبدادية يف كثري من األحيان؛ والنفوذ‬
‫الواسع لإلسالميني املسلحني واالستبداديني‪ .‬وبرغم أن حرب العراق وقعت تحت‬
‫ذريعة مكافحة اإلرهاب وعدم انتشار األسلحة النووية‪ ،‬فإنه ميكن إثبات أنها أدت‬
‫إىل تفاقم كلتا املشكلتني عىل نح ٍو كبري‪ .‬حيث أصبحت العراق مبنزلة مكان تجنيد‬
‫وأرض تدريب للجامعات اإلرهابية‪ ،‬كام ساعدت الحرب أيضا يف إقناع القيادة‬
‫الكورية الشاملية بأنه من األفضل الترسيع من وترية برنامج األسلحة النووية إذا‬
‫أرادوا تجنب مصري صدام‪.‬‬
‫أيضا عىل قيادة تدخل يف الحرب األهلية الليبية يف العام ‪.2011‬‬ ‫أقدم «الناتو» ً‬
‫وقد كانت حملة جوية عىل نح ٍو أسايس‪ ،‬وشملت دو ًاًل غري أعضاء يف «الناتو» مثل‬
‫قطر واإلمارات العربية املتحدة والسويد‪ .‬وقد دعمت جامعة الدول العربية فرض‬
‫منطقة حظر جوي ألسباب إنسانية‪ .‬كان الهدف األصيل الذي فوضته األمم املتحدة‬
‫يف قرار مجلس األمن الدويل الرقم ‪ 1973‬إنسان ًّيا‪ ،‬لكن انتهى الحلف «الناتو» بالسعي‬
‫إىل تغيري النظام واإلطاحة مبعمر القذايف‪ .‬وقد امتنعت روسيا والصني عن التصويت‬
‫عىل القرار ‪ ،1973‬وانتقدت الح ًقا التدخل النتهاكه فكرة مسؤولية الحامية (‪)R2P‬‬
‫واستخدامه ذريع ًة لتغيري النظام‪.‬‬
‫إن العودة إىل منط التدخل التنافيس الذي تنبأ به هذا االنقسام‪ ،‬ظهر أيضا خالل‬
‫الحرب األهلية السورية التي أثارها الربيع العريب يف العام ‪ .2011‬إذ رسعان ما تطور‬
‫‪322‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫القمع الحكومي القايس للمتظاهرين إىل رصاع وحيش متعدد الجوانب‪ .‬فقد دعمت‬
‫إيران وميليشيا حزب الله املدعومة من طهران حكومة األسد التي تلقت أيضا دعام‬
‫روسيا‪ .‬وأقدمت الواليات املتحدة ودول أخرى عىل دعم بعض الجامعات املناهضة‬
‫لألسد التي تلقت بدورها دعام تركيا‪ .‬قاتلت مجموعة متنوعة من امليليشيات‬
‫كاًل من الحكومة وبعضها بعضا‪ ،‬حيث كان بعضها يتطلع إىل‬ ‫العرقية والدينية ً‬
‫استبدال الحكومة‪ ،‬يف حني كان البعض اآلخر‪ ،‬مثل األكراد‪ ،‬يبحث عن الحكم الذايت‬
‫والسيطرة عىل أراضيه‪ .‬وقد أدى انهيار وقف إطالق النار الذي توسطت فيه األمم‬
‫املتحدة يف العام ‪ 2012‬إىل حرب أهلية واسعة النطاق بحلول العام ‪ ،2013‬خاصة‬
‫ً‬
‫اعتدااًل والدولة اإلسالمية من جهة‪،‬‬ ‫مع نشوب القتال بني القوات املتمردة األكرث‬
‫والقتال بني جميع تلك القوات املعارضة والحكومة من جهة أخرى‪ .‬وقد شن تنظيم‬
‫الدولة اإلسالمية هجو ًما كب ًريا يف سورية يف العام ‪ ،2013‬وبحلول العام ‪ 2014‬متكن‬
‫تنظيم الدولة اإلسالمية من السيطرة رمبا عىل ثلث األرايض السورية وعىل جزء كبري‬
‫من نفطها‪ .‬ويف العام ‪ 2014‬اشتبكت تركيا ضد تنظيم الدولة اإلسالمية واألكراد‪،‬‬
‫وبدأت الواليات املتحدة شن رضبات جوية ضد تنظيم الدولة اإلسالمية‪ .‬وعىل رغم‬
‫ذلك‪ ،‬نجحت الدولة اإلسالمية يف السيطرة عىل أراضيها وتوسيعها يف العام ‪.2015‬‬
‫ليعقب ذلك تدخل رويس من خالل رضبات جوية يف سبتمرب ‪ 2015‬ضد تنظيم‬
‫الدولة اإلسالمية وامليليشيات األخرى املناهضة لألسد‪ .‬كام شنت فرنسا من جهتها‬
‫رضبات جوية ضد تنظيم الدولة اإلسالمية ردا عىل الهجامت اإلرهابية يف باريس‪،‬‬
‫وأقدمت بريطانيا أيضا عىل شن رضبات جوية‪ .‬لقد احتوى هذا الرصاع الفوضوي‬
‫عىل نح ٍو غري عادي عىل عنارص من حرب بالوكالة بني الواليات املتحدة وروسيا‬
‫عىل الرغم من تعاونهام بشأن هدنة فاشلة إىل حد كبري يف العام ‪ .2016‬أما تركيا‬
‫فقد أقدمت عىل غزو سورية يف أغسطس ‪ 2016‬ملواجهة كل من الدولة اإلسالمية‬
‫واألكراد‪ .‬ويف العام ‪ 2017‬شنت الواليات املتحدة هجامت جوية مبارشة عىل قوات‬
‫الحكومة السورية ردا عىل استخدام األسلحة الكياموية‪ .‬لقد ارتبطت الحرب األهلية‬
‫السورية بالعراق عرب مكاسب تنظيم الدولة اإلسالمية عىل األرض؛ حيث استوىل‬
‫ً‬
‫مستغاًل يف‬ ‫تنظيم الدولة اإلسالمية عىل املوصل وعىل أجزاء أخرى كثرية يف العراق‪،‬‬
‫ذلك االنقسام السيايس بني السنة والشيعة يف عراق ما بعد صدام‪ .‬وبحلول العام‬
‫‪323‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ 2015‬سيطر تنظيم الدولة اإلسالمية عىل مناطق كبرية من غرب العراق ورشق‬
‫سورية‪ ،‬وش َّكل منطقة متامسكة مع عاصمة الخالفة املزعومة يف الرقة‪ .‬ليعقب ذلك‬
‫هجامت مضادة كبرية قيدت ضد التنظيم أدت إىل تآكل معظم سيطرته بحلول‬
‫أواخر العام ‪ ،2017‬مبا يف ذلك خسارته للموصل يف يوليو ‪.2017‬‬

‫‪ - 2 - 12‬اإلدارة االقتصادية العاملية‬


‫تشابك كل من املَ ْر َكز واألَ ْط َراف يف إطار اقتصاد عاملي واحد منذ القرن التاسع‬
‫واضحا بالفعل يف‬ ‫ً‬ ‫عرش‪ ،‬وكان االندماج املتزايد فيام يتعلق بإدارة االقتصاد العاملي‬
‫أيضا تداعيات واضحة بني القطاع‬ ‫قصة مجموعة العرشين التي ُرُسدت سابقا‪ .‬هناك ً‬
‫َ‬
‫االقتصادي واملصائر األخرى املشرتكة التي تربط بني املَ ْر َكز واأل ْط َراف‪ ،‬فعىل سبيل‬
‫املثال‪ :‬ش َّكلت الالمساواة االقتصادية أحد دوافع الهجرة؛ وكان فرض عقوبات تتعلق‬
‫باالنتشار النووي واإلرهاب مبنزلة خروج عن القواعد العادية للتجارة والتمويل‪.‬‬
‫وقد تجىل املصري املشرتك لل َم ْر َكز واألَ ْط َراف يف االقتصاد العاملي خالل هذه الفرتة‬
‫يف تطورين متثال يف‪ :‬األزمات االقتصادية؛ وإعادة تشكيل عدم املساواة االقتصادية‪.‬‬
‫كانت األزمات االقتصادية الدورية سمة من سامت الرأساملية الصناعية منذ‬
‫بداًل من كونها شيئًا جديدًا‪ .‬ويف اآلونة‬ ‫القرن التاسع عرش‪ ،‬لذا فهي ُت َعدُّ ً‬
‫منطا معرو ًفا ً‬
‫األخرية‪ ،‬نشأت هذه األزمات عىل نح ٍو رئيس من خالل سياسيات التحرير املايل‪ ،‬وما‬
‫يرتتب عن ذلك من ميل االقتصاد العاملي إىل توليد أزمات ديون من خالل اإلقراض‬
‫املفرط وغري الحكيم‪ .‬وقد رضبت أزمة سابقة من هذا النوع أمريكا الالتينية خالل‬
‫الثامنينيات‪ ،‬ويف العام ‪ 1997‬حدث يشء مشابه يف رشق آسيا حيث أدى مزيج من‬
‫املديونية العالية من االقرتاض الزائد؛ باإلضافة إىل سيولة األموال الساخنة(٭)‪ ،‬إىل‬
‫انهيار الثقة االقتصادية والعمالت يف رشق آسيا‪ ،‬وإىل ركود حاد ومخاوف من انتشار‬
‫األزمة عىل مستوى عاملي‪ .‬اكتسبت الصني بعض املكانة خالل هذه األزمة بعدم‬
‫تخفيض قيمة اليوان‪ .‬وترضرت إندونيسيا وكوريا الجنوبية وتايالند بشدة‪ ،‬واح ُت ِو َيت‬
‫األزمة جزئ ًّيا عن طريق خطة إنقاذ لصندوق النقد الدويل بقيمة ‪ 120‬مليار دوالر‪.‬‬
‫(٭) املال الساخن هو مصطلح يشري إىل رؤوس أموال مستثمرين من الخارج تدخل عىل عمالت دول ويف بعض‬
‫األحيان إيداعات بنوك قصرية املدى وتخرج منها برسعة وتنتقل بني الدول بهدف تحقيق ربح رسيع‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫ويف العام ‪ 2008‬حدثت أزمة مالية أكرب بكثري وأطول وأكرث من ناحية التداعيات‪.‬‬
‫فقد انترشت هذه األزمة املالية من أزمة الرهن العقاري يف الواليات املتحدة يف‬
‫العام ‪ ،2007‬لترتك العديد من البنوك تحتفظ مببالغ كبرية من السندات املالية‬
‫منخفضة القيمة أو عدمية القيمة مبا يكفي لجعل تلك البنوك مفلسة‪ .‬وكانت‬
‫ً‬
‫انكامشا حادا يف السيولة يف النظام املرصيف عىل نح ٍو عام‪ ،‬وانخفاضا حادا‬ ‫النتيجة‬
‫يف اإلقراض‪ .‬وقد تبع انهيار بنك ليامن براذرز يف العام ‪ 2008‬عديد من عمليات‬
‫وحزم التحفيز الضخمة املمولة من طرف الدولة‪ .‬ويف العام ‪2008‬‬ ‫اإلنقاذ البنكية ُ‬
‫أطلقت الصني حزمة تحفيز بقيمة ‪ 586‬مليار دوالر‪ ،‬تلتها بعد فرتة وجيزة يف العام‬
‫‪ 2009‬حزمة تحفيز أمريكية بقيمة ‪ 787‬مليار دوالر (‪ .)Skidelsky, 2009: 18‬وقد‬
‫أدى االنكامش العام يف النشاط االقتصادي إىل الركود الكبري (‪ )2012-2008‬وأزمة‬
‫الديون األوروبية ذات الصلة (‪ )2014-2009‬داخل منطقة اليورو‪ ،‬والتي أثرت عىل‬
‫نح ٍو رئيس يف اليونان والربتغال وأيرلندا وإسبانيا وقربص‪ .‬حيث سبب ذلك بطالة‬
‫شديدة وفرض قيو ٍد مالية‪ ،‬وتطلب من الحكومات اللجوء إىل التيسري الكمي الهائل‬
‫واستدامة أسعار الفائدة املنخفضة‪.‬‬
‫من نواح كثرية‪ ،‬كانت هذه أزمة كالسيكية للتحرير املايل‪ .‬إن إغراء تحرير‬
‫التمويل موجود باستمرار يف النظام ألنه يسمح بتوسيع مقدار االئتامن الذي ميكن‬
‫االستفادة منه من أي مخزون معني من رأس املال‪ .‬فمزيد من االئتامن يزيد من‬
‫احتامالت االستثامر واالستهالك والنمو التي تغذيها تلك املوارد اإلضافية‪ .‬ومادام‬
‫الناس يعتقدون أن نظام االئتامن مستقر‪ ،‬فإن املوارد اإلضافية الناتجة عن توسيع‬
‫االئتامن حقيقية وقابلة لالستخدام‪ .‬يكمن الخطر يف أنه ال أحد يعرف إىل أي‬
‫مدى ميكن دفع مثل نسبة املديونية هذه‪ ،‬وال أحد يريد أن يكون أول من يخرج‬
‫من نشاط مربح للغاية‪ .‬ولكن عندما تصبح النسبة بني رأس املال الفعيل ومقدار‬
‫االئتامن املمنوح منه عالية جدًا‪ ،‬تنكرس الثقة‪ ،‬مام يسبب حدوث انهيار داخيل‬
‫هائل ورسيع ومؤلِم للسيولة واالئتامن‪ .‬إن االبتكارات املالية املعقدة والقروض‬
‫املحفوفة باملخاطر وجني األرباح املفرتس ُت َق ِّوض مصداقية النظام‪ ،‬وبعض املحفزات‬
‫(يف حالة العام ‪ ،2008‬إخفاق الرهن العقاري الثانوي يف الواليات املتحدة) يكشف‬
‫الفقاعة ويسبب انهيا ًرا رسي ًعا للثقة‪ .‬لقد أوضح كل من روبرت سكيدلسيك )‬
‫‪325‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫(‪ )Robert Skidelsky 2009: 1–28‬ومارتن وولف )‪ Martin Wolf (2014‬كيف‬


‫كشفت هذه األزمة عىل هذا املنوال‪ ،‬وكالهام يجادل بأن مثل هذه األزمات ناتجة‬
‫عن نقاط ضعف أساسية يف النظرية االقتصادية‪ ،‬ال سيام التقليل من املخاطر املالية‬
‫‪ -‬أي أن مثل هذه األزمات هي داخلية للنظام الرأساميل وليست ناتجة عن صدمات‬
‫خارجية‪ .‬ومثلام يغذي التوسع يف االئتامن االقتصاد الحقيقي‪ ،‬فإن انكامشه يؤدي‬
‫إىل انكامش االقتصاد‪ ،‬مام يسبب أزمة متس املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ ،‬أي أنها متس كال من‬
‫ُم َص ِّد ِري املوارد وكذلك مناطق املراكز الصناعية‪.‬‬
‫ويف حالة أزمة العام ‪ ،2008‬كان أحد اآلثار السياسية الرئيسة يتمثل يف الكشف‬
‫عن التفاوت املتزايد بني األغنياء والفقراء الذي نتج عن النظام الرأساميل العاملي‪.‬‬
‫ففي حني أن الفوارق يف الرثوة بني البلدان كانت تتضاءل عىل نح ٍو كبري نتيجة انتشار‬
‫التنمية والحداثة‪ ،‬فإن الفروق بني األغنياء والفقراء آخذة يف االرتفاع داخل البلدان‪.‬‬
‫فوف ًقا للبنك الدويل (‪ ،)2016: 9–12‬انخفض معامل «جيني» ‪(coefficient Gini‬٭)‬

‫لعدم املساواة بني البلدان عىل نح ٍو مطرد من ‪ 0.80‬يف العام ‪ 1988‬إىل ‪ 0.65‬يف‬
‫العام ‪ ،2013‬بينام ارتفع عىل نح ٍو حاد يف حالة عدم املساواة داخل البلدان خالل‬
‫التسعينيات‪ ،‬وكان مييل إىل االستقرار يف العقد األول من القرن الحادي والعرشين‪.‬‬
‫وكام أفادت منظمة التعاون االقتصادي والتنمية (‪« :)2011: 22‬معامل جيني»‪ ...‬بلغ‬
‫متوسط ‪ 0.29‬يف دول منظمة التعاون االقتصادي والتنمية يف منتصف الثامنينيات‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬بحلول أواخر العقد األول من القرن الحادي والعرشين‪ ،‬ارتفع بنسبة‬
‫‪ 10‬يف املائة تقري ًبا ليصل إىل ‪ 0.316‬بوصة‪ .‬وقد ذكرت صحيفة «فاينانشيال تاميز»‬
‫(‪ )Waldau and Mitchell, 2016‬أن «معامل جيني» للصني كان ‪ ،0.3‬مرتفعا إىل‬
‫نحو ‪ 0.49‬خالل الثامنينيات‪ ،‬وأعىل عىل نح ٍو ملحوظ من الرقم املامثل للواليات‬
‫املتحدة (‪ .)0.41‬بينام كان «معامل جيني» لروسيا يف العام ‪ 2013‬هو ‪ ،0.40‬وللهند‬
‫‪ .)UNDP, 2016( 0.34‬بالنسبة إىل دول االتحاد األورويب البالغ عددها ‪ 27‬دولة‪،‬‬
‫كان معامل جيني للعام ‪ 2016‬هو ‪ .)Eurostat, 2017( 3.1‬وقد بدأ صعود البقية‬

‫(٭) عامل جيني (نسبة إىل عامل اإلحصاء اإليطايل كورادو جيني) من املقاييس املهمة واألكرث شيوعا يف قياس عدالة‬
‫توزيع الدخل القومي‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫يف سد فجوة عدم املساواة القامئة بني حفنة الدول املتقدمة والدول املتخلفة‪ ،‬والتي‬
‫انفتحت خالل القرن التاسع عرش‪ .‬لكن داخل عديد من البلدان‪ ،‬وعىل األخص‬
‫الواليات املتحدة والصني وروسيا‪ ،‬توسعت فجوة عدم املساواة بني األثرياء والبقية‬
‫عىل نح ٍو حاد‪.‬‬
‫مجتمعة معا‪ ،‬أدت حوادث الركود الكبري الذي بدأ يف العام ‪ 2008‬واالنهيار‬
‫الظاهري للعقد االجتامعي للرأساملية الذي انعكس يف ارتفاع عدم املساواة إىل فتح‬
‫أزمة الرشعية‪ .‬لقد ترافقت اللحظات االفتتاحية يف هذه األزمة مع التصويت عىل‬
‫خروج بريطانيا من االتحاد األورويب وانتخاب ترامب يف العام ‪ .2016‬وبدا أن التقدم‬
‫الرسيع يف تطوير الذكاء االصطناعي (‪ )AI‬وتطبيقه عىل اإلنتاج سيوسع هذه األزمة‬
‫أكرث من خالل تآكل رشعية الرأساملية داخل البلدان (إضافة الخوف من البطالة‬
‫الدامئة إىل االستياء السائد نتيجة عدم املساواة)‪ ،‬وفيام بينها (مام يهدد النمط‬
‫الراسخ لتنمية األَ ْط َراف من خالل العاملة الرخيصة والنمو الذي يقوده التصدير)‪.‬‬

‫‪ - 2 - 13‬اإلرشاف البيئي‬
‫رمبا تكون اإلدارة البيئية هي القضية النهائية املشرتكة املصري‪ ،‬والتي تربط بني‬
‫املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ .‬وبغض النظر عن االختالفات القامئة عىل مستوى الرثوة والقوة‬
‫والثقافة‪ ،‬فإن جميع البرش يتشاركون يف كوكب واحد‪ ،‬وإذا تغريت تلك البيئة املادية‬
‫بطرق معينة أو ترضرت فإننا جمي ًعا سنعاين عواقب ذلك‪ .‬تأيت التهديدات لبيئة‬
‫الكوكب بأشكال عديدة‪ ،‬قد يكون بعضها طبيعي (الزالزل‪ ،‬والرباكني‪ ،‬والصخور‬
‫الفضائية‪ ،‬والدورات املناخية‪ ،‬واألوبئة) وقد يكون بعضها ناتجا عن اإلنسان (الشتاء‬
‫النووي‪ ،‬واألمراض ا ُمل َه ْند ََسة‪ ،‬وتلوث األرض والبحر والجو)‪ .‬كام أن بعض القضايا‬
‫األخرى هي عبارة عن مزيج من هذا وذلك‪ ،‬كام هو الحال عند مامرسات الزراعة‬
‫البرشية‪ ،‬عىل سبيل املثال إنشاء تجمعات كبرية من الحيوانات‪ ،‬مام يؤدي إىل‬
‫ترسيع تطور البكترييا والفريوسات‪ ،‬وزيادة إمكانية انتقالها من الحيوانات إىل البرش‬
‫(مثل إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الجامل)‪ .‬لقد اكتسب البرش قدرات للتعامل مع‬
‫بعض التهديدات الطبيعية‪ ،‬ولكن يف الوقت نفسه‪ ،‬بدأت أنشطتهم يف الهندسة‬
‫الجغرافية للكوكب بطرق غري مقصودة وغال ًبا ما تكون ضارة‪ .‬وتشمل التأثريات‬
‫‪327‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫البرشية‪ :‬تحمض املحيطات وتسخينها؛ وتغيري الرتكيب الكيميايئ للغالف الجوي‬


‫بطرق تزيد من تأثري االحتباس الحراري؛ وترسيع تطور البكترييا والفريوسات من‬
‫خالل تحديها عن طريق األدوية؛ وتضييق تنوع املحيط الحيوي عن طريق دفع‬
‫عديد من األنواع إىل االنقراض‪ .‬هناك عالقة قوية بني اإلرشاف البيئي والتنمية‪،‬‬
‫ألن األنشطة االقتصادية غال ًبا ما ُت َولِّد الرضر البيئي‪ .‬ويثري هذا االرتباط املعضلة‬
‫السياسية املتمثلة يف وضع التنمية واإلرشاف البيئي عىل خالف أحدهام مع اآلخر‬
‫ما مل ُيعرث عىل طرق لجعل التنمية مستدامة‪ .‬نحن سنتطرق بإيجاز إىل قضيتني‬
‫محددتني هام تغري املناخ والسيطرة عىل األمراض العاملية‪ ،‬وذلك للتدليل عىل‬
‫أهمية هذا املصري املشرتك‪.‬‬
‫ُي َعد تغري املناخ دورة طبيعية للفرتات الدافئة والباردة ميكن مالحظة عمليتها‬
‫بوضوح يف السجل التاريخي‪ ،‬ولكن تبقى أسبابها غري مفهومة عىل نح ٍو كامل؛ وهي‬
‫ُت َعدُّ تهديدا من صنع اإلنسان يكون مدفوعًا بضخ الجسيامت والغازات الدفيئة يف‬
‫الغالف الجوي‪ .‬وكام يجادل روبرت فالكرن وباري بوزان (‪ ،)2017‬فإن معيار اإلرشاف‬
‫البيئي كان له فرتة حمل طويلة متتد إىل القرن التاسع عرش‪ .‬ولكن فقط يف عقود ما‬
‫بعد الحرب الباردة حقق هذا املعيار اخرتا ًقا ليصبح نظاما للمجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫لقد ولد مؤمتر ستوكهومل يف العام ‪ 1972‬وع ًيا سياس ًّيا عامل ًّيا بالقضايا واملعايري التي‬
‫تنشط املجتمع املدين والعمل السيايس املحيل يف بعض الدول الرائدة‪ .‬وقد بدأ‬
‫مؤمتر ريو يف العام ‪ 1992‬عملية التوفيق بني ما كان اليزال باألساس معيا ًرا غرب ًّيا‬
‫لإلرشاف البيئي واهتاممات العامل الثالث بشأن التنمية‪ .‬ولكن يف حني نجح مؤمتر‬
‫ريو يف عوملة تلك املعايري‪ ،‬فإنه مل يتمكن من حل مشكلة توزيع املسؤولية للترصف‬
‫مبوجبها‪ ،‬ال سيام مع مشكلة تلوث الغالف الجوي الذي يسبب تغري املناخ‪.‬‬
‫لقد ُوضع مبدأ «املسؤوليات املشرتكة ولكن املتباينة» للتعامل مع غازات‬
‫االحتباس الحراري يف مؤمتر ريو‪ ،‬وهذا يعني عىل نح ٍو فعال أن الدول املتقدمة‬
‫تتحمل تقري ًبا كل العبء لعمل يشء ما حيال مسألة االحتباس الحراري‪ ،‬بينام ميكن‬
‫للبلدان النامية متابعة التنمية من دون مسؤولية بيئية‪ .‬وقد أدى ذلك املأزق إىل‬
‫شل مؤمتر كوبنهاغن يف العام ‪ ،2009‬حيث انحازت الصني إىل جانب الدول النامية‪.‬‬
‫غري أنه ُح َّلت تلك اإلشكالية يف مؤمتر باريس يف العام ‪ ،2015‬حيث ا ُّت ِفق عىل‬
‫‪328‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫تطبيق أهداف االنبعاثات الطوعية عىل الجميع‪ .‬وقد استُبدل بهذا الحل مجموعة‬
‫التزامات أكرث مرونة وطوعية من أجل تحصيل قبول عاملي أكرث ملسؤولية الترصف‪.‬‬
‫وعىل غرار االستجابة تجاه استنفاد طبقة األوزون يف أواخر الثامنينيات عندما حظر‬
‫بروتوكول مونرتيال إنتاج املواد الكيميائية املستنفدة لألوزون (‪،)Benedick, 1991‬‬
‫أدى صعود اإلرشاف البيئي إىل وضع نظام أسايس للمجتمع الدويل العاملي‪ ،‬حيث‬
‫أشار هذا النظام إىل أنه عند مواجهة قضايا املصري املشرتك امللحة‪ ،‬فإن املجتمع‬
‫الدويل ميكنه أن يقدم استجابات جامعية مهمة عىل الرغم من االختالفات السياسية‬
‫واالقتصادية والثقافية القامئة بني أعضائه‪.‬‬
‫إن للسيطرة العاملية عىل األمراض تاريخا طويال‪ ،‬ولكن يف العام ‪ 2000‬حصل حدث‬
‫بارز عندما أقر مجلس األمن الدويل ألول مرة بالصلة القامئة بني الصحة واألمن من‬
‫خالل إعالن أن جائحة فريوس نقص املناعة البرشية‪ /‬اإليدز تشكل «خطرا عىل األمن‬
‫واالستقرار»‪ ،‬وذلك يف القرار الرقم ‪.(Poku, 2013: 529; Deloffre, 2014) 1308‬‬
‫ومنذ نهاية الحرب الباردة‪ ،‬أدت زيادة القدرة عىل التفاعل؛ خاصة مع اندماج الصني‬
‫والدول التي خلفت االتحاد السوفييتي السابق يف االقتصاد العاملي‪ ،‬إىل جعل الناس‬
‫يف كل مكان أكرث اتصاال وقربا بعضهم من بعض من خالل التجارة والسفر والهجرة‪،‬‬
‫وهو ما أثار مخاوف عاملية بشأن مكافحة األمراض‪ .‬ومنذ التسعينيات كان احتامل‬
‫أن تؤدي إنفلونزا الطيور إىل ظهور سالالت قادرة عىل إصابة الناس عىل نطاق واسع‬
‫نشطا خاصة يف رشق آسيا‪ .‬فقد ظهرت حاالت إصابة بني البرش من‬ ‫ميثل احتامال ً‬
‫حني إىل آخر‪ُ ،‬وأع ِدمت عىل نح ٍو دوري أعداد كبرية من الطيور املصابة‪ .‬ونظ ًرا إىل‬
‫السهولة التي ميكن أن تنترش بها اإلنفلونزا‪ ،‬ومعدالت الوفيات املرتفعة املرتبطة‬
‫ببعض سالالتها‪ ،‬يظل هذا األمر يشكل مصدر قلق‪ .‬إذ يكاد يكون من املؤكد أن‬
‫أشخاصا أكرث مام قتلت‬
‫ً‬ ‫جائحة اإلنفلونزا التي أعقبت الحرب العاملية األوىل قتلت‬
‫الحرب نفسها(٭)‪.‬‬
‫(٭) جائحة إنفلونزا ‪ 1918‬أو ما عرف باإلنفلونزا اإلسبانية‪ ،‬هي جائحة إنفلونزا قاتلة انترشت يف أعقاب الحرب‬
‫ٌ‬
‫خبيث ومدم ٌر من فريوس اإلنفلونزا‬ ‫العاملية األوىل يف أوروبا والعامل وخ َّلفت ماليني القتىل‪ ،‬وسبب هذه الجائح َة نوعٌ‬
‫(أ) من نوع فريوس «اإلنفلونزا أ» ‪ ،H1N1‬ومتيز الفريوس برسعة العدوى‪ ،‬حيث تقدر اإلحصائيات الحديثة أن نحو‬
‫‪ 500‬مليون شخص أصيبوا بالعدوى‪ ،‬وتشري التقديرات املتحفظة إىل وفاة ما بني ‪ 50‬مليون شخص إىل ‪ 100‬مليون من‬
‫جراء اإلصابة باملرض أي ما يعادل ضعف املتوفني خالل الحرب العاملية األوىل‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫عىل الرغم من عدم وجود تفيش وبايئ مبقياس العامني ‪ 1918‬و‪ ،1920‬فإنه‬
‫كانت هناك عدة أحداث كافية للحفاظ عىل مستوى املخاوف الجامعية‪ .‬ففي‬
‫العامني ‪ 2002‬و‪ 2003‬كان هناك انتشار ملتالزمة الجهاز التنفيس الحادة الوخيمة‬
‫(سارس)‪ ،‬خاصة يف الصني‪ ،‬مع وجود عدة آالف من الحاالت ومئات الوفيات‪ .‬ويف‬
‫تفش صغري‬‫اململكة العربية السعودية (‪ )2014‬وكوريا الجنوبية (‪ )2015‬كان هناك ٍ‬
‫ملتالزمة الرشق األوسط التنفسية‪ ،‬واملعروفة ً‬
‫أيضا باسم إنفلونزا اإلبل‪ .‬ويف الفرتة‬
‫من العام ‪ 2013‬إىل العام ‪ ،2016‬كان هناك انتشار كبري جدًا ملرض فريوس اإليبوال‬
‫يف غرب أفريقيا‪ .‬وقد أىت التحذير األول بشأن تفيش هذا املرض من منظمة الصحة‬
‫العاملية (‪ )WHO‬يف مارس ‪ ،2014‬عىل الرغم من عدم اتخاذ إجراءات حاسمة‬
‫من قبل املجتمع الدويل العاملي يف ذلك الوقت‪ .‬واتضح أنه أكرب انتشار للفريوس‬
‫واألطول واألشد تعقيدًا منذ اكتشافه يف العام ‪ .1976‬وعندما بلغت األزمة ذروتها‬
‫يف سبتمرب ‪ ،2014‬وصلت الحاالت األسبوعية إىل ما يقرب من ‪ 1000‬حالة (‪WHO,‬‬
‫‪ .)2014; Santos et al., 2015‬وعندما أعلنت منظمة الصحة العاملية رسميا انتهاء‬
‫جائحة إيبوال يف ‪ 14‬يناير ‪ ،2016‬كانت األزمة قد استمرت نحو عامني‪ ،‬أصيب‬
‫خاللها أكرث من ‪ 28600‬شخص بالفريوس وفقد أكرث من ‪ 11300‬شخص حياتهم‪،‬‬
‫كان معظمهم يف غينيا وليبرييا وسرياليون (‪ .)WHO, 2016‬كانت هناك استجابة‬
‫دولية كبرية الحتواء املرض‪ ،‬حيث أرسلت الواليات املتحدة والصني أفرادًا عسكريني‬
‫للعمل جن ًبا إىل جنب مع جهات فاعلة غري حكومية مثل منظمة أطباء بال حدود‪.‬‬
‫كام اعتمد مجلس األمن الدويل القرار الرقم ‪ 2177‬يف ‪ 18‬سبتمرب ‪ ،2014‬الذي أعلن‬
‫أن تفيش فريوس إيبوال يف أفريقيا يشكل «تهديدًا للسلم واألمن الدوليني»‪ ،‬مام دفع‬
‫إىل إضفاء الطابع األمني عىل الصحة (أمننة القطاع الصحي) بعمق وعىل مستوى‬
‫غري مسبوق (‪ .)Snyder, 2014‬وعىل الرغم من أن الجنس البرشي مل يخضع بعد‬
‫قاس يف القرن الحادي والعرشين بشأن هذا املصري املشرتك‪ ،‬فإن وجوده‬ ‫الختبار ٍ‬
‫ُ‬
‫معرتف به يف الشبكة العاملية لإلنذار بتفيش األمراض والتصدي لها التي أنشئت يف‬
‫العام ‪ 2000‬من أجل ربط عديد من املنظامت العامة والخاصة التي تعمل عىل‬
‫مراقبة األوبئة واالستجابة لتهديداتها‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫‪ - 2 - 14‬األمن السيرباين‬
‫لقد أضحت قضية املصري املشرتك أكرث تعقيدًا إىل حد ما تحت عنوان األمن‬
‫السيرباين (‪ .)Hansen and Nissenbaum, 2009‬إن األمن السيرباين معقد ألنه‬
‫ميثل مصريا مشرتكا أو باألحرى قضية أمنية مشرتكة (إىل الحد الذي يعتمد فيه‬
‫االقتصاد العاملي والشبكات االجتامعية العاملية عىل األداء الفعال لإلنرتنت باعتبارها‬
‫نظاما عامليا)‪ ،‬ومصريا قابال للتجزئة أو قضية أمن قومي (إىل حد امتالك كل من‬
‫الدول والجهات الفاعلة غري الحكومية الوسائل والحوافز ملهاجمة بعضها بعضا عرب‬
‫اإلنرتنت‪ ،‬مام يؤدي إىل حدوث اضطرابات مستهدفة)‪ .‬إن جانب األمن القومي‬
‫يجعل من الحرب السيربانية مصدر قلق بالغ (‪.)Singer and Friedman, 2014‬‬
‫وقد كانت إستونيا؛ وجورجيا؛ وإيران؛ والواليات املتحدة؛ والصني من بني الدول‬
‫العديدة التي عانت مثل هذه الهجامت‪ ،‬التي غال ًبا ما تكون هجامت يصعب‬
‫تحديد مصدرها‪ ،‬إذ إنها قد تأيت من دول أخرى أو من جهات فاعلة غري حكومية‪.‬‬
‫إن األمن السيرباين نشأ كقضية مصري مشرتك بسبب الطريقة التي ظهرت بها‬
‫اإلنرتنت لتحل محل التلغراف والهاتف والراديو‪ ،‬لتشكل بذلك مرحلة تالية من‬
‫االتصاالت املتكاملة عامل ًّيا‪ .‬لقد وفرت اإلنرتنت اتصاالت عالية الحجم وعالية الرسعة‬
‫ومنخفضة التكلفة‪ ،‬كام وفرت إمكانية الوصول إىل املعلومات ألعداد كبرية من الناس‬
‫حول العامل‪ .‬بد ًءا من مرافق االتصاالت العسكرية يف الستينيات‪ ،‬أصبحت اإلنرتنت‬
‫تشكل شبكة مهمة من الشبكات خالل الثامنينيات‪ ،‬لتنطلق يف مجال االتصاالت‬
‫الجامهريية مع إدخال صفحات الويب العاملي يف العام ‪ .1993‬رمبا كان نحو ‪150‬‬
‫مليون شخص عىل اتصال باإلنرتنت بحلول أواخر التسعينيات ‪(Christensen,‬‬
‫)‪ .1998‬وتشري التقديرات إىل أن أكرث من ملياري شخص كانوا متصلني باإلنرتنت‬
‫بحلول العام ‪ ،2013‬وأن حركة اإلنرتنت كانت تنمو مبعدل ‪ 50‬يف املائة سنو ًّيا‬
‫(‪ .)Mulgan, 2013: 46‬مل تزد اإلنرتنت من نطاق أو رسعة االتصال عرب الوسائل‬
‫اإللكرتونية السابقة‪ .‬ولكن من خالل خفض التكاليف‪ ،‬ساهمت اإلنرتنت يف زيادة‬
‫غرَّيت‬‫نسبة الوصول إىل االتصاالت وحجمها‪ ،‬وباالعتامد عىل طرق ال تعد وال تحىص َّ‬
‫املحتوى والغرض من االتصال‪ .‬ومن خالل ذلك‪ ،‬زادت اإلنرتنت من مدى انتشار‬
‫ثورة االتصاالت وعمقها وتأثريها بطرق ميكن اعتبارها تحولية للرشوط اإلنسانية‪ .‬إن‬
‫‪331‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫اإلنرتنت اآلن تعد موردا عامليا سيكون لخسارته تأثري كبري‪ .‬لكنها ً‬
‫أيضا تعترب سلعة‬
‫قابلة للتجزئة وال يرتبط استخدامها فقط بسري االقتصاد العاملي واملجتمع العاملي‪،‬‬
‫ولكن استخدامها صار يرتبط ً‬
‫أيضا باإلرهاب والهجرة وانتشار األسلحة النووية‪.‬‬

‫وىَل ا ُمل َعدلة إىل الصي َغة ال َثا ِنية ُ‬


‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعا َل ِمي‬ ‫الخالصة‪ :‬من الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫كام هو مقرتح يف مقدمة هذا الفصل‪ ،‬متثل قصة العامل منذ العام ‪ 1989‬نقطة‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي (الغريب) الذي ظهر بعد العام‬ ‫ذروة الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫‪ ،1945‬واملراحل االفتتاحية لالنتقال الواضح إىل الصيغة ال َثا ِنية ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل‬
‫ال َعالَ ِمي (املابعد الغريب)‪ .‬من منظور أطول‪ ،‬يشري هذا التحول إىل االبتعاد عن كل‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي (القرن التاسع عرش إىل العام ‪)1945‬‬ ‫وىَل ُ‬ ‫من الصيغة ُ‬
‫األ َ‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي‪ ،‬واللتني كانتا تتمحوران‬ ‫وكذلك الصيغة ُ‬
‫األ َ‬
‫حول هيمنة الغرب بطرق مختلفة‪ .‬اليزال االنتقال الجاري اآلن ُيبقي عىل مركزية‬
‫الدولة يف صيغها السابقة‪ ،‬لكنه يبتعد عن الهيمنة الغربية متوجها نحو حقبة ما‬
‫بعد الغرب‪ .‬وكام أوضحنا يف هذا الفصل‪ ،‬فإن مثة اآلن توزيعا متزايدا للرثوة والقوة‬
‫والسلطة الثقافية يتجه نحو التعددية العميقة يف سياق من التكثيف املستمر‬
‫للعوملة واالعتامد املتبادل‪.‬‬
‫ومع االقرتاب من نهاية الفرتة التي يغطيها هذا الفصل‪ ،‬كانت هناك عالمات‬
‫لأل ْط َراف‪ .‬وقد كان التطور األكرث إثارة هو‬ ‫واضحة عىل التحول االقتصادي الشامل َ‬
‫منو عديد من البلدان يف آسيا بقيادة الصني والهند‪ .‬ويقدر معهد االتحاد األورويب‬
‫للدراسات األمنية (‪ )EUISS, 2012‬أنه بحلول العام ‪ ،2030‬ميكن أن تستحوذ الصني‬
‫والهند عىل أكرث من ‪ 34‬يف املائة من االقتصاد العاملي‪ .‬كام يتنبأ تقرير صادر عن‬
‫رشكة برايس ووترهاوس (‪ )2015‬بأن الصني والهند ستظهران كأكرب اقتصادين يف‬
‫العامل بحلول العام ‪ ،2050‬تليهام الواليات املتحدة وإندونيسيا والربازيل واملكسيك‬
‫واليابان وروسيا ونيجرييا وأملانيا‪ .‬إذا َث ُبتَت صحة هذا التوقع فإن سبعة من أكرب‬
‫عرشة اقتصادات يف العامل ستكون غري غربية‪ ،‬ومن بني ‪ 32‬اقتصادًا رائدًا يف العامل‬
‫فيام يتعلق برشوط تعادل القوة الرشائية‪ ،‬فإن ‪ 20‬اقتصادًا (باستثناء اليابان وروسيا)‬
‫سيكون من العامل غري الغريب بحلول العام ‪.2050‬‬
‫‪332‬‬
‫العامل بعد العام ‪« :1989‬األحادية القطبية»‪ ،‬العوملة وصعود البقية‬

‫من املؤكد أن التنمية االقتصادية يف األَ ْط َراف متفاوتة عىل نح ٍو ملحوظ وستظل‬
‫تشهد تفاوتا‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬يشهد العامل «صعودًا لل َب ِقية» (;‪Zakaria, 2009‬‬
‫‪ )Acharya, 2014b:27–31‬عىل الصعيد االقتصادي عىل نح ٍو أكرث عمومية‪ .‬فوف ًقا‬
‫لربنامج األمم املتحدة اإلمنايئ (‪ ،)UNDP, 2013: 2‬ارتفعت حصة الجنوب العاملي‬
‫من الناتج املحيل اإلجاميل العاملي من ‪ 33‬يف املائة يف العام ‪ 1980‬إىل ‪ 45‬يف املائة‬
‫يف العام ‪ .2010‬وخالل الفرتة نفسها ارتفعت حصته من التجارة العاملية للبضائع‬
‫من ‪ 25‬يف املائة إىل ‪ 47‬يف املائة‪ .‬وتقدر منظمة التعاون االقتصادي والتنمية أن‬
‫الجنوب العاملي ميكن أن ميثل ‪ 57‬يف املائة من الناتج املحيل اإلجاميل العاملي بحلول‬
‫العام ‪ .)Guardian Datablog, 2012( 2060‬كام ينعكس صعود ال َب ِقية يف الكثافة‬
‫املتزايدة للتفاعالت بني الجنوب والجنوب‪ .‬فوف ًقا لربنامج األمم املتحدة اإلمنايئ‬
‫(‪ ،)2013: 2‬قفزت التجارة بني بلدان الجنوب من أقل من ‪ 8‬يف املائة من تجارة‬
‫البضائع العاملية يف العام ‪ 1980‬إىل أكرث من ‪ 26‬يف املائة يف العام ‪ .2011‬ويقدر مؤمتر‬
‫األمم املتحدة للتجارة والتنمية (‪ )2015: 5, 8–9‬أن تدفقات االستثامر األجنبي‬
‫املبارش بني بلدان الجنوب تشكل اآلن أكرث من ثلث التدفقات العاملية‪ .‬كام وجد‬
‫املؤمتر أنه يف العام ‪ ،2015‬أصبحت الرشكات متعددة الجنسيات القادمة من آسيا‬
‫النامية (باستثناء اليابان) أكرب مجموعة استثامرية يف العامل ألول مرة‪ ،‬حيث متثل‬
‫ما يقرب من ثلث اإلجاميل العاملي‪ .‬وقد منا االستثامر الخارجي من قبل الرشكات‬
‫متعددة الجنسيات الصينية عىل نح ٍو أرسع من التدفقات الوافدة إىل البالد‪ ،‬حيث‬
‫وصل إىل مستوى جديد بلغ ‪ 116‬مليار دوالر‪.‬‬
‫رمبا تكون األزمة االقتصادية للعام ‪ 2008‬مبنزلة التاريخ املعياري لنقطة التحول‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي (الغريب) والصيغة ال َثا ِنية‬ ‫بني الصيغة ُ‬
‫األ َ‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي (املابعد الغريب)‪ ،‬حيث ينحدر كل من الواليات املتحدة‬ ‫ُ‬
‫واالتحاد األورويب إىل أزمة عميقة‪ ،‬وتشعر الصني وروسيا وتركيا وغريها بثقة أكرب‬
‫وعىل نح ٍو ملحوظ‪ .‬لقد أضعفت األزمة االقتصادية الغرب ماد ًّيا‪ ،‬هذا باإلضافة إىل‬
‫أيضا‪ .‬إن تزايد عدم‬ ‫أن األيديولوجية الليربالية التي كانت تدعم قوته قد تآكلت ً‬
‫املساواة قاد إىل التساؤل عن مدى توافق الرأساملية والدميوقراطية‪ ،‬أما مامرسات‬
‫الواليات املتحدة يف الحرب العاملية ضد اإلرهاب فقد قوضت من قدرتها عىل‬
‫‪333‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫التحدث عن حقوق اإلنسان‪ .‬وميكن القول إن الواليات املتحدة يف عهد ترامب بدأت‬
‫تشبه االتحاد السوفييتي يف الحرب الباردة يف سنواته املتدهورة‪ :‬قوي ًة عسكر ًّيا‪ ،‬عىل‬
‫رغم أنها غري قادرة عىل استخدام هذه القوة لتحقيق تأثري جيد‪ .‬كام أنها صارت أقل‬
‫إثارة لإلعجاب عىل نح ٍو متزايد اقتصاد ًّيا واجتامع ًّيا وسياس ًّيا‪ /‬أيديولوج ًّيا‪.‬‬
‫إن ما لدينا اآلن هو مجتمع دويل عاملي مبركز ُم َت َوسع‪ ،‬مع َم ْر َكز غريب متآكل‬
‫وأَ ْط َراف متقلصة‪ .‬لقد بدأت الغا ِئية الليربالية تفقد مصداقيتها‪ ،‬وتشري األصوات‬
‫املؤيدة لرتامب ولخروج بريطانيا من االتحاد األورويب إىل أزمة تلوح يف األفق ستمس‬
‫الرأساملية والدميوقراطية داخل املَ ْر َكز‪ .‬إن االفرتاض الليربايل القائل بأن الدميوقراطية‬
‫هي املرافقة الطبيعية والحتمية للرأساملية مل يعد افرتاضا ذا مصداقية‪ ،‬وقد صار‬
‫الحزب الشيوعي الصيني يتحدى ذلك الطرح علنًا‪ .‬إن االنفتاح عىل أنواع مختلفة‬
‫من الرأساملية سيقود عىل نح ٍو طبيعي نحو فتح النقاشات‪ ،‬وتقديم أمثلة ملموسة‬
‫جديدة بشأن أفضل السبل إلدارة املفاضالت بني الحرية والسيطرة‪ ،‬واملصالح‬
‫والحقوق الفردية والجامعية‪ ،‬واالزدهار وعدم املساواة‪ ،‬واالنفتاح واملرونة يف مقابل‬
‫االستقرار‪ .‬ليس من الواضح أنه سيكون هناك تقارب عىل منوذج واحد «أفضل»‬
‫لالقتصاد السيايس‪ ،‬أو أن مثل هذا التقارب إذا حدث‪ ،‬فسيكون متوافقا مع الخطوط‬
‫الكالسيكية لليربالية الدميوقراطية‪ .‬وإذا كان مثة من تقارب‪ ،‬فيبدو أنه أقرب إىل‬
‫أن يأخذ مكانا وسطا يف منتصف الطيف‪ .‬فبينام فتحت الصني والهند وغريهام‬
‫اقتصاداتهام ومجتمعاتهام إىل حد ما‪ ،‬أجربت األزمة االقتصادية وسياسات الهجرة‬
‫القوى الليربالية التقليدية عىل إعادة تأكيد مزيد من سيطرة الدولة‪ .‬ويف هذا املزيج‬
‫تكتسب مجموعة القضايا العابرة للحدود ذات املصري املشرتك املوضحة سابقا‬
‫أهمية عىل القضايا التقليدية املشرتكة بني الدول‪.‬‬
‫وسيعمد الفصل التاسع إىل رصد هذه الخيوط ويفحص كيف ميكنها أن تتكشف‬
‫خالل العقود القادمة يف ظل مجتمع دويل عاملي تحدده التعددية العميقة‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫‪8‬‬

‫حقل العالقات الدولية‬


‫بعد العام ‪1989‬‬

‫مقدمة‬
‫يف الفصل السادس حاججنا بأن حقل‬
‫لتأسيس ثانٍ ‪ .‬حيث اتسع‬
‫ٍ‬ ‫العالقات الدولية خضع‬
‫وتعمق إضفاء الطابع املؤسيس عليه؛ وأصبحت‬
‫الواليات املتحدة ُمُتثل مركز هذا التخصص‬
‫املعريف (عىل الرغم من فشلها يف تحقيق الهيمنة‬
‫الفكرية عليه)؛ ُوأغ ِفل كثري من أفكاره العائدة‬
‫إىل ما قبل العام ‪1945‬؛ وأصبح هذا التخصص‬
‫أكرث أكادميية‪ ،‬مع مزيد من التقسيم الفرعي‬
‫إىل مواضيع ومقاربات متخصصة‪ .‬لقد ظل‬
‫حقل العالقات الدولية ُيركز عىل نحو أسايس‬
‫«من املتوقع أن تكون هجامت الحادي‬
‫عىل مخاوف دول املركز‪ ،‬وكان أقل تأث ًرا بإنهاء‬ ‫عرش من سبتمرب قد س َّببت ارتفاعا كبريا‬
‫االستعامر وأكرث اهتامما بالتنافس النووي القائم‬ ‫ودامئا لدراسات اإلرهاب‪ ،‬وهو املجال‬
‫الذي كان حتى أواخر التسعينيات ً‬
‫مجااًل‬
‫بني القوتني العظميني‪ .‬ولكن كان مثة بعد ذلك‬ ‫هامش ًيا إىل حد ما»‬

‫‪335‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بعض عالمات التكامل بني تفكري حقل العالقات الدولية يف املركز واألطراف‪ ،‬حيث إن‬
‫إنهاء االستعامر أضفى الرشعية عىل املنظورات املناهضة لالستعامر والعنرصية والتي‬
‫كانت ساب ًقا تشكل أفكارا معزولة داخل األطراف‪ .‬تطرقنا أيضا إىل هيمنة النظرية‬
‫الواقعية الجديدة والليربالية الجديدة (وتوليفة جديد ‪ -‬جديد)‪ ،‬وناقشنا مجموعة‬
‫متنوعة من النظريات املنافسة لهام‪ ،‬حيث كان بعضها أكرث نقدًا (املاركسية‪ ،‬وأبحاث‬
‫السالم‪ ،‬وما بعد االستعامرية‪ ،‬ونظرية التبعية) وبعضها اآلخر كان أكرث أرثوذكسية‬
‫(املدرسة اإلنجليزية‪ ،‬واالقتصاد السيايس الدويل الليربايل)‪.‬‬
‫ويف هذا الفصل سنتتبع َت َف ُّح َص هذه القصص و ُنضيف إليها بعض املقاربات‬
‫والتقسيامت الفرعية الجديدة الواردة ضمن هذا التخصص مثل النظرية النقدية؛‬
‫والنظرية النسوية؛ والنظرية البنائية‪ .‬ويف سياق اإلسهاب يف تفصيل تطور تخصص‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬سنأخذ بعني االعتبار مناقشة الفصل السابع املتعلقة بالعوملة‬
‫املتزايدة للسياسات العاملية التي أثارتها نهاية القطبية الثنائية وما يسمى بـ «لحظة‬
‫القطبية األحادية» للواليات املتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة‪ُ .‬ت َعد هذه‬
‫الفرتة أبسط من الناحية األيديولوجية ألن الرأساملية (وليس الدميوقراطية) انترصت‬
‫أيضا بتحوالت معقدة عىل مستوى القوة‬ ‫يف الحرب الباردة‪ ،‬لكن هذه الفرتة تتميز ً‬
‫العاملية‪ .‬فقد ظلت الواليات املتحدة مهيمن ًة فرت ًة وجيزة وكانت تحالفاتها التزال‬
‫قوية‪ ،‬ولكن بعد ذلك واجهت واشنطن تحديات متزايدة ُمتَأ ِّتي ًة من القوى الكربى‬
‫األخرى‪ ،‬كام واجهت أيضا تحديات ارتبطت بسياساتها الداخلية‪ .‬وأصبح العامل‬
‫الثالث أضعف من الناحية الجامعية‪ ،‬لكن بعض أعضائه‪ ،‬ال سيام الصني والهند‪،‬‬
‫كانوا ينتقلون إىل نادي القوى الكربى‪ ،‬حيث ستتحالف الصني وروسيا ضد الواليات‬
‫املتحدة‪ .‬وستبدأ الحدود التي كانت واضحة ساب ًقا بني املركز واألطراف تشهد حالة‬
‫من الضبابية وعدم الوضوح‪ .‬وميتزج مع كل هذا ظهور تحديات عرب وطنية معقدة‬
‫مثل اإلرهاب؛ والجرمية؛ وحقوق اإلنسان؛ والهجرة؛ وكذلك مجموعة من املصائر‬
‫املشرتكة ا ُمل ِلحة مبا يف ذلك عدم االستقرار يف االقتصاد العاملي؛ ومجموعة متنوعة‬
‫من التهديدات البيئية‪.‬‬
‫عىل الرغم من أن العام ‪ 1989‬مل ُي ِرِش إىل حدوث تحول يف املجتمع الدويل‬
‫العاملي باملدى نفسه الذي حدث يف العام ‪،)Buzan and Lawson, 2014a( 1945‬‬
‫‪336‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫فإننا نجادل بأنه خالل العقد األول من القرن الحادي والعرشين بدأ هنالك تحول‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة إىل الصي َغة الثا ِنية للمجتمع الدويل العاملي‪ .‬فالهيمنة‬ ‫من الصي َغة ُ‬
‫األ َ‬
‫الغربية عىل املجتمع الدويل العاملي واملستمرة منذ القرن التاسع عرش بدأت‬
‫ُتستبدَل عىل نحو واضح من خالل توزيع أكرث انتشا ًرا للرثوة والقوة والسلطة‬
‫الثقافية‪ ،‬وهي ِب ْن َية صنفناها عىل أنها متثل تعددية عميقة (والتي سنتعرض لها‬
‫مبزيد من التفصيل يف الفصل التاسع)‪ .‬ويف حني ال ميكن للمرء دامئًا إنشاء عالقة‬
‫مبارشة أو وثيقة بني التحوالت العاملية وبروز النظريات املخالفة‪ ،‬ميكننا بالتأكيد‬
‫تتبع تأثري تطورات مامرسة العالقات الدولية يف تفكري حقلها املعريف‪ ،‬وذلك جزئ ًيا‬
‫من حيث نوع القضايا التي تحتل مركز الصدارة؛ وجزئ ًيا من حيث كيفية تحدى‬
‫تطورات العامل الحقيقي ملختلف املقاربات النظرية؛ وجزئ ًيا من حيث من يضطلع‬
‫بعملية التنظري وأين يتم ذلك‪ .‬ولعل األهم من وجهة نظرنا هو كيف أن صعود‬
‫تحدُ لتؤدي إىل تآكل‬‫الدول غري الغربية والعوملة املتزايدة للمجتمع الدويل العاملي َت ِ‬
‫الحدود القامئة بني املركز واألطراف يف العالقات الدولية كمامرسة وأيضا يف حقلها‬
‫املعريف‪ .‬وقد فتح هذا بدوره مساحة لألصوات التي تنادي بتعددية أكرب ضمن هذا‬
‫التخصص املعريف‪ ،‬وتأجيج املطالبة بحقل العالقات الدولية العاملي الذي يتجاوز‬
‫النظريات النقدية السابقة ليصل إىل استيعاب األصوات املابعد استعامرية التي‬
‫ظلت مهملة حتى اآلن‪ .‬وعىل الرغم من أننا نجادل بأن ِبنْية املركز ‪ -‬األطراف آخذة‬
‫يف االنهيار‪ ،‬فإننا‪ ،‬ومن أجل االستمرارية‪ ،‬سنحافظ عىل ال ِبنْية نفسها كام تم ذلك‬
‫مع الفصول السابقة‪ :‬أي كام تم مع تلك الفصول املتعلقة بإضفاء الطابع املؤسيس‬
‫وتفكري حقل العالقات الدولية يف املركز ويف األطراف‪.‬‬

‫‪ - 1‬املأسسة‬
‫يف الفصل السادس جادلنا بأن التوسع الكبري يف مأسسة حقل العالقات الدولية‬
‫عنرصا أساس ًيا يف قضية التأسيس الثاين لهذا التخصص املعريف‪.‬‬
‫بعد العام ‪ 1945‬كان ً‬
‫فقد ُأنشئ النمط الرئيس للجمعيات األكادميية واملجالت العلمية ومراكز الفكر‬
‫والتدريس الجامعي الخاصة بحقل العالقات الدولية خالل فرتة الحرب الباردة‪،‬‬
‫واليزال ذلك املسار مستم ًرا حتى اليوم‪ .‬ولكن حتى العام ‪ 1989‬كانت تطورات‬
‫‪337‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫املأسسة تلك حاصلة داخل املركز إىل حد كبري‪ ،‬مع وجود قليل من املأسسة فقط‬
‫داخل األطراف‪ .‬إن ما حصل من ناحية التأسيس منذ العام ‪ 1989‬اشتمل يف األساس‬
‫وتعميق لهذا النمط‪ ،‬وامتداده إىل ما وراء املركز ليصل إىل األطراف‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫توسيع‬
‫ٍ‬ ‫عىل‪:‬‬
‫وتآكل عىل نحو كبري للحدود املؤسسية القامئة بني املركز واألطراف‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وحيثام ُأريس بالفعل الطابع املؤسيس استمر حقل العالقات الدولية يف االتساع‬
‫والتعميق‪ ،‬سواء داخل املركز أو خارجه‪ .‬وبينام كانت الواليات املتحدة تضم عديدا‬
‫من الجمعيات األكادميية‪ ،‬فقد ُأنشئت عديد من الجمعيات الجديدة يف أوروبا‬
‫الرشقية والغربية‪ ،‬وما ال يقل عن ‪ 15‬جمعية أخرى خارج الغرب‪ ،‬خاصة يف آسيا‬
‫وأمريكا الالتينية (انظر الجدول ‪.)8-1‬‬

‫الجدول (‪ :)8-1‬الجمعيات األكادميية الجديدة‬


‫املكان‬ ‫العام‬ ‫الجمعية‬ ‫م‬
‫أودنيس‪ ،‬الدمنارك‬ ‫‪1991‬‬ ‫الجمعية النوردية للدراسات الدولية‬ ‫‪1‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪1992‬‬ ‫الجمعية األوروبية للدراسات الدولية‬ ‫‪2‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪1993‬‬ ‫الجمعية الفنلندية للدراسات الدولية‬ ‫‪3‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪1993‬‬ ‫لجنة الدراسات الدولية العاملية‬ ‫‪4‬‬
‫جمعية الدراسات الدولية‬
‫براغ‬ ‫‪1996‬‬ ‫‪5‬‬
‫ألوروبا الوسطى والرشقية‬
‫لشبونة‬ ‫‪1998‬‬ ‫الجمعية الربتغالية للعلوم السياسية‬ ‫‪6‬‬
‫موسكو‬ ‫‪1999‬‬ ‫الجمعية الروسية للدراسات الدولية‬ ‫‪7‬‬
‫الجمعية اآلسيوية للدراسات‬
‫مانيال‬ ‫‪2001‬‬ ‫‪8‬‬
‫السياسية والدولية‬
‫بريتوريا‬ ‫‪2001‬‬ ‫‪ 9‬جمعية جنوب أفريقيا للدراسات السياسية‬
‫إسطنبول‬ ‫‪2004‬‬ ‫املجلس الرتيك للعالقات الدولية‬ ‫‪10‬‬
‫تايبيه‬ ‫‪2004‬‬ ‫الجمعية التايوانية للدراسات الدولية‬ ‫‪11‬‬
‫بيلو هوريزونتي‪،‬‬
‫‪2005‬‬ ‫الجمعية الربازيلية للعالقات الدولية‬ ‫‪12‬‬
‫الربازيل‬

‫‪338‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫الجدول (‪ :)8-1‬الجمعيات األكادميية الجديدة‬


‫تايبيه‬ ‫‪2007‬‬ ‫جمعية تايوان للعالقات الدولية‬ ‫‪13‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪2007‬‬ ‫الجمعية الرتكية للدراسات الدولية‬ ‫‪14‬‬
‫سيول‬ ‫‪2009‬‬ ‫الجمعية الكورية للدراسات الدولية‬ ‫‪15‬‬
‫بوغوتا‬ ‫‪2009‬‬ ‫الشبكة الكولومبية للعالقات الدولية‬ ‫‪16‬‬
‫وارسو‬ ‫‪2009‬‬ ‫الجمعية البولندية للدراسات الدولية‬ ‫‪17‬‬
‫باريس‬ ‫‪2009‬‬ ‫رابطة الدوليني‬ ‫‪18‬‬
‫سانتياغو دي تشييل‬ ‫‪2015‬‬ ‫الرابطة الشيلية للمتخصصني الدوليني‬ ‫‪19‬‬
‫مانيال‬ ‫‪2015‬‬ ‫املنظمة الفلبينية للدراسات الدولية‬ ‫‪20‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪/‬‬ ‫الجمعية الكازاخستانية للعالقات الدولية‬ ‫‪21‬‬
‫إسطنبول‬ ‫‪/‬‬ ‫الجمعية الرتكية للعلوم السياسية‬ ‫‪22‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪/‬‬ ‫الجمعية اإلرسائيلية للدراسات الدولية‬ ‫‪23‬‬
‫املجلس االتحادي األرجنتيني‬
‫بوينس آيرس‬ ‫‪/‬‬ ‫‪24‬‬
‫للدراسات الدولية‬
‫ترينتو‪ ،‬إيطاليا‬ ‫‪/‬‬ ‫الجمعية اإليطالية للعلوم السياسية‬ ‫‪25‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪/‬‬ ‫الجمعية الكرواتية للدراسات الدولية‬ ‫‪26‬‬

‫ظلت جمعية الدراسات الدولية ‪( ISA‬ألمريكا الشاملية) هي األكرب واألكرث ثرا ًء‬
‫إىل حد بعيد‪ ،‬حيث استمرت عىل ذلك الحال حتى العام ‪ .1989‬إذ ارتفع عدد فروع‬
‫جمعية الدراسات الدولية التي لديها اهتامم مبوضوع أو مقاربات العالقات الدولية‬
‫إىل ‪ 30‬فرعًا بحلول العام ‪ ،1917‬مام يدل عىل توسيع نطاق االهتامم املتعلق بحقل‬
‫العالقات الدولية(٭)‪ .‬وقد زادت عضوية جمعية الدراسات الدولية لتصل إىل ‪ 7‬آالف‬
‫بحلول العام ‪(2017‬٭٭)‪.‬‬

‫‪) www.isanet.org/ISA/Sections (Accessed 18 September 2017).‬٭(‬


‫[املؤلفان]‪.‬‬
‫‪) www.isanet.org/ISA/About-ISA/Data/Membership (Accessed 18 September 2017).‬٭٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫كام ُأطلق ما ال يقل عن ‪ 16‬مجلة جديدة‪ ،‬مام م َّكن أوروبا وآسيا من البدء يف‬
‫تحدي احتكار أمريكا شبه الكامل ملجالت العالقات الدولية املرموقة التي تسيطر‬
‫عىل الجوانب الفكرية للتخصص (انظر الجدول ‪.)8-2‬‬
‫الجدول (‪ :)8-2‬مجالت العالقات الدولية الجديدة‬
‫الجهة النارشة‬ ‫سنة النرش‬ ‫اسم املجلة‬ ‫م‬
‫‪/‬‬ ‫‪1991‬‬ ‫مجلة دراسات األمن‬ ‫‪1‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪1994‬‬ ‫‪ 2‬مجلة االقتصاد السيايس الدويل‬
‫مجلة الدراسات الدولية‬
‫جامعة سيول الوطنية‬ ‫‪1994‬‬ ‫‪3‬‬
‫واإلقليمية‬
‫الجمعية األملانية للعلوم السياسية – قسم‬
‫‪1994‬‬ ‫مجلة العالقات الدولية‬ ‫‪4‬‬
‫العالقات الدولية‬
‫املجلس األكادميي لألمم املتحدة‬ ‫‪1995‬‬ ‫الحوكمة العاملية‬ ‫‪5‬‬
‫الفريق الدائم املعني بالعالقات الدولية‪،‬‬
‫املجلة األوروبية للعالقات‬
‫واالتحاد األورويب للبحوث السياسية‬ ‫‪1995‬‬ ‫‪6‬‬
‫الدولية‬
‫والجمعية األوروبية للدراسات الدولية‬
‫جمعية الدراسات الدولية ‪ -‬تويل املسؤولية‬
‫‪1999‬‬ ‫مجلة الدراسات الدولية‬ ‫‪7‬‬
‫من مركز مريشون‬
‫مجلة العالقات الدولية آلسيا‬
‫الجمعية اليابانية للعالقات الدولية‬ ‫‪2001‬‬ ‫‪8‬‬
‫واملحيط الهادئ‬
‫جامعة ييل‬ ‫‪2005‬‬ ‫مجلة ييل للشؤون الدولية‬ ‫‪9‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪2005‬‬ ‫مجلة األمن اآلسيوي‬ ‫‪10‬‬
‫مركز دراسة املجتمعات النامية‬ ‫‪2005‬‬ ‫مجلة بدائل‬ ‫‪11‬‬
‫جمعية الدراسات الدولية‬ ‫‪2005‬‬ ‫مجلة تحليل السياسة الخارجية‬ ‫‪12‬‬
‫معهد العالقات الدولية‪ ،‬جامعة تسينغهوا‬ ‫‪2006‬‬ ‫املجلة الصينية للسياسة الدولية‬ ‫‪13‬‬
‫مجلة علم االجتامع السيايس‬
‫جمعية الدراسات الدولية‬ ‫‪2007‬‬ ‫‪14‬‬
‫الدويل‬
‫جمعية الدراسات الدولية‬ ‫‪2009‬‬ ‫مجلة النظرية الدولية‬ ‫‪15‬‬
‫جمعية الدراسات الدولية الربيطانية‬ ‫‪2016‬‬ ‫‪ 16‬املجلة األوروبية لألمن الدويل‬

‫‪340‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫باإلضافة إىل ذلك انترشت موجة من مراكز الفكر الجديدة يف كل من املركز‬


‫واألطراف‪ :‬كان هنالك ‪ 39‬مركزا يف الغرب (مبا يف ذلك اليابان؛ وكوريا الجنوبية؛‬
‫وإرسائيل؛ وأسرتاليا؛ ونيوزيلندا)؛ و‪ 25‬مركزا يف الجنوب العاملي؛ و‪ 18‬مركزا يف‬
‫االتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الرشقية؛ ومركز واحد يف الصني ‪(see McGann,‬‬
‫)‪ .2018‬كام زاد وجود األبحاث والدورات التعليمية الخاصة بحقل العالقات الدولية‬
‫يف الجامعات داخل كل من املركز واألطراف(٭)‪.‬‬
‫باإلضافة إىل هذا التوسيع والتعميق الجوهري ملسار مأسسة حقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬كان مثة انهيار كبري مس التقسيم القائم بني املركز واألطراف‪ .‬فقد ُر ِبط عديد‬
‫من الجمعيات األكادميية ومراكز الفكر بعضها مع بعض من جراء انهيار ذلك التقسيم‪،‬‬
‫حيث صارت املجالت تهتم عىل نحو متزايد بحقل العالقات الدولية العاملي‪ .‬كان من‬
‫املهم تحديد أمكنة إنشاء املجالت العلمية والجهات التي تسهر عىل تحريرها‪ ،‬ولكن‬
‫بالنسبة إىل معظم مجالت حقل العالقات الدولية‪ ،‬كان القراء وفرق التحرير واملؤلفون‬
‫عامليني عىل نحو كبري‪ .‬إذ جذبت مؤمترات حقل العالقات الدولية الكربى عمو ًما‬
‫مشاركني من مناطق عديدة‪ .‬لذلك‪ ،‬مل تكن العالقات الدولية ترسخ فقط جذورها يف‬
‫أيضا وعىل نحو متزايد بإطار عمل ُم َع ْولَم‪ .‬رمبا كانت الرموز‬
‫أماكن أكرث‪ ،‬بل كانت ترتبط ً‬
‫الرئيسة لهذا التطور هي جمعية الدراسات الدولية ‪ ISA‬نفسها‪ ،‬وأيضا لجنة الدراسات‬
‫الدولية العاملية ‪ WISC‬ا ُملنشأة يف العام ‪ 1993‬والتي اعتمدت ميثاقها يف العام ‪2002‬؛‬
‫وبدأت يف عقد مؤمترات منتظمة بدءا من العام ‪ .2005‬خالل أواخر الثامنينيات بذلت‬
‫جمعية الدراسات الدولية ‪ ISA‬جهدًا كب ًريا لتصبح جمعية عاملية للدراسات الدولية‬
‫وذلك ليس من خالل تجنيد مزيد من األعضاء األجانب فقط‪ ،‬بل من خالل دمجهم‬
‫أيضا يف هيكل الحوكمة‪ .‬وقد أثار هذا بعض املقاومة عىل أساس أن حقل العالقات‬
‫الدولية األمرييك كان بالفعل ُم َه ْي ِمنا للغاية‪ ،‬وأن عوملة جمعية الدراسات الدولية‬
‫من شأنها أن تعزز من تلك الهيمنة‪ .‬ونتيجة لذلك بدأت التحركات لتأسيس الهيئة‬
‫العاملية األكرث اتحادًا والتي أصبحت يف النهاية تحمل اسم «اللجنة العاملية للدراسات‬
‫(٭) سيكون من الصعب تتبع هذا التطور بأي طريقة موثوقة‪ ،‬واالضطالع بذلك يقع خارج نطاق هذا الكتاب‪ .‬إن‬
‫وجود جمعيات أكادميية (انظر الجدول ‪ )8-1‬هو وكيل مفيد للبلدان التي ُت َد َّرس فيها العالقات الدولية‪ ،‬ألن معظم‬
‫أعضاء هذه الجمعيات سيكونون مدرسني جامعيني وباحثني‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الدولية» ‪ .WISC‬يف الوقت نفسه فإن ذلك يعني أن جمعية الدراسات الدولية‪ ،‬برغم‬
‫حجمها ووزنها الهائلني‪ ،‬أصبحت يف بعض النواحي هيئة عاملية بحكم الواقع‪ .‬فقد‬
‫أصبحت مؤمتراتها السنوية هي املكان األكرث مالءمة إلقامة الشبكات العاملية‪ ،‬وقد‬
‫بذلت جمعية الدراسات الدولية قصارى جهدها للتعاون مع فروعها األخرى وعقد‬
‫بعض مؤمتراتها العديدة يف مناطق أخرى‪ ،‬مبا يف ذلك آسيا وأمريكا الالتينية‪ .‬واعتبا ًرا‬
‫من العام ‪ 2018‬كان لدى جمعية الدراسات الدولية نحو ‪ 75‬منظمة رشيكة مع وجود‬
‫نحو ثلث تلك املنظامت يف آسيا وأمريكا الالتينية والرشق األوسط وأفريقيا(٭)‪ .‬يف حني‬
‫تضم اللجنة العاملية للدراسات الدولية ‪ 24‬منظم ًة عضوا مبا يف ذلك جمعية الدراسات‬
‫توزيع مامثل عرب القارات(٭٭)‪ .‬وبالتعاون م ًعا‪ ،‬وبطرقهام املختلفة‪ ،‬فإن‬‫ٍ‬ ‫الدولية‪ ،‬مع‬
‫جمعية الدراسات الدولية ‪ ISA‬واللجنة العاملية للدراسات الدولية ‪ WISC‬أصبحتا‬
‫تخصصا معرف ًيا‬
‫ً‬ ‫متثالن الوجه العام ملدى تقدم حقل العالقات الدولية يف جعل نفسه‬
‫عامل ًيا‪ .‬ومن بعض النواحي‪ ،‬نفذت هاتان املنظمتان عملية الربط بني املركز واألطراف‪،‬‬
‫والتي بدأت مع مؤمتر الدراسات الدولية ‪ ISC‬خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني‪.‬‬

‫‪ - 2‬تفكري حقل العالقات الدولية داخل املركز‬


‫كام هو الحال مع حقل العالقات الدولية بني العامني ‪ 1945‬و‪ ،1989‬ستكون‬
‫قصة حقل العالقات الدولية منذ العام ‪ 1989‬مألوفة ملعظم القراء‪ ،‬وستكون‬
‫تجربة حية للكثريين‪ .‬ولذلك فإننا سنتبع املقاربة نفسها التي اعتمدناها يف الفصل‬
‫السادس‪ ،‬والعمل عىل ربط هذه القصة املألوفة مبوضوعني‪:‬‬
‫‪ -‬إىل أي مدى وبأي طرق يعكس تطور حقل العالقات الدولية (النظرية)‬
‫التطورات الرئيسة الحاصلة يف العامل الحقيقي للعالقات الدولية (املامرسة)؟‬
‫‪ -‬ما طبيعة التوازن الناشئ بني مصالح ورؤى املركز؛ ومصالح ورؤى األطراف‬
‫داخل حقل العالقات الدولية‪ ،‬وإىل أي مدى ظل هذا التمييز (القائم بني املركز‬
‫واألطراف) ُم ً‬
‫هاًم؟‬
‫‪) www.isanet.org/ISA/Partners (Accessed 14 March 2018).‬٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬
‫‪) www.wiscnetwork.org/about-wisc/members (Accessed 14 March 2018).‬٭٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪342‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫يف الفصل السادس تطرقنا ملوضوع التنوع والتاميز يف تفكري حقل العالقات‬
‫الدولية داخل املركز‪ .‬ستستمر تلك العملية خالل هذه الفرتة‪ ،‬وتندمج عىل نحو‬
‫متزايد مع انهيار الحواجز القامئة بني حقل العالقات الدولية يف املركز وحقل‬
‫العالقات الدولية يف األطراف‪ .‬أحد العنارص املهمة يف ذلك هو تطور اإلنرتنت الذي‬
‫ومتاحا عىل نطاق أوسع‬‫ً‬ ‫جعل االتصال يف جميع أنحاء العامل أرخص وأرسع وأسهل‬
‫منذ التسعينيات‪ .‬وعىل الرغم من أن اإلنرتنت كانت متمركزة يف املركز يف البداية‪،‬‬
‫فإنها رسعان ما أصبحت عاملية‪ ،‬مام س َّهل االتصال األكادميي والتعاون عرب حدود‬
‫املركز ‪ -‬األطراف‪ .‬وبرغم أن الواليات املتحدة ظلت أكرب مركز لحقل العالقات‬
‫الدولية والتزال مؤثرة للغاية‪ ،‬فإن ذروة قوة الواليات املتحدة يف ظل القطبية‬
‫األحادية والعوملة خالل التسعينيات مل تكن مصحوبة بالهيمنة الفكرية األمريكية‬
‫وبداًل من ذلك اتسعت وتعمقت أنواع التحديات‬ ‫القوية يف حقل العالقات الدولية‪ً .‬‬
‫التي تواجه توليفة «جديد ‪ -‬جديد» (‪ )Neo-Neo‬والتفسريات الوضعية لـ «العلم»‬
‫أيضا تتأىت عىل نحو متزايد‬ ‫ليس فقط داخل املركز‪ ،‬ولكن صارت تلك التحديات ً‬
‫من األطراف‪ ،‬والواقع أنها صارت مطروحة بقوة داخل الواليات املتحدة نفسها‪.‬‬
‫وفيام ييل سنبدأ بالتمعن يف كيفية تكيف التوليفة الجديدة والدراسات األمنية‬
‫مع عامل ما بعد الحرب الباردة‪ ،‬ثم نتطرق إىل النظريات املنافسة لها سواء كانت‬
‫من النظريات القدمية (املدرسة اإلنجليزية‪ ،‬وأبحاث السالم) أو الجديدة (النظرية‬
‫البنائية‪ ،‬والنظرية النسوية‪ ،‬والنظرية النقدية)‪ .‬لنختتم الفصل بإلقاء نظرة عىل‬
‫الجولة الثالثة من «النقاشات الكربى» لحقل العالقات الدولية‪.‬‬

‫‪ - 2 - 1‬الواقعية‬
‫بعد فشلهم يف التنبؤ بنهاية الحرب الباردة‪ ،‬دخل الواقعيون الجدد فرتة التسعينيات‬
‫بطريقة ما من الباب الخلفي‪ .‬ومع زوال االتحاد السوفييتي‪ ،‬كانوا ليواجهوا أمامهم‬
‫واق ًعا يشهد تحو ًاًل من نظام ثنايئ القطب إىل نظام أحادي القطب‪ .‬غري أن نظريتهم‬
‫مل يكن لها مكان الستيعاب الهيكل أحادي القطب‪ ،‬إذ إنه؛ وف ًقا للمنطق الواقعي‪،‬‬
‫يجب أن مينع ميزان القوى حدوث مثل هذا التحول يف النظام‪ .‬وبحكم الرضورة‪،‬‬
‫كان عليهم أن يروا هذه القطبية األحادية كلحظة انتقالية قصرية تتبعها عودة‬
‫‪343‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫حتمية إىل نظام متعدد األقطاب (‪ .)Layne, 1993, 2006 ; Waltz, 1993‬مل ُت َف ِّرق‬
‫أيضا بني القوى العظمى ‪ Superpowers‬والقوى‬ ‫نظرية القطبية الواقعية الجديدة ً‬
‫الكربى ‪ ،Great Powers‬ووجدت نفسها يف وضع ضعيف لتصور العامل الذي كانت‬
‫الواليات املتحدة التزال متثل فيه القوة العظمى لكنها تعمل جن ًبا إىل جنب عديد‬
‫من القوى الكربى‪ .‬وقد رأى عديد من الواقعيني الجدد أن التعددية القطبية أقل‬
‫استقرا ًرا وأكرث خطورة من القطبية الثنائية‪ ،‬ولذلك توقعوا عاملًا أكرث اضطرا ًبا‪ ،‬خاصة‬
‫بالنسبة إىل أوروبا والجنوب العاملي ‪(Gaddis, 1986: 103–4; Cintra, 1989:‬‬
‫)‪ 96–7; Mearsheimer, 1990; Hoffmann, 1991: 6‬وبعبارة كاربنرت (‪)1991‬‬
‫التي ُأعي َد استخدامها كث ًريا‪ ،‬توقع الواقعيون الجدد «اختالل العامل الجديد»‪ .‬ولكن‬
‫مع تعاظم «وقت» أحادية القطب األمريكية واستمرارها‪ ،‬أصبح عديد من الواقعيني‬
‫الجدد‪ ،‬بطريقة ما‪ ،‬مرتاحني لفكرة ِبنْية القوة أحادية القطب عىل الرغم من حقيقة‬
‫أنها دمرت ميزان القوى باعتباره املنطق الدافع لنظريتهم ;‪(Huntington, 1999‬‬
‫)‪.Kapstein and Mastanduno, 1999; Wohlforth, 1999‬‬
‫أيضا بعض االختالفات الداخلية‪ .‬بقيادة جون مريشامير‬ ‫لقد أظهرت الواقعية ً‬
‫)‪ John Mearsheimer (2001: 402‬اتخذ «الواقعيون الهجوميون»‪ ،‬الذين ينظرون‬
‫إىل الدول باعتبار أنها تسعى دامئا إىل تعظيم قوتها‪ ،‬موق ًفا مخالفا يف مواجهة‬
‫«الواقعيني الدفاعيني» مثل كينيث والتز ‪ ،Kenneth Waltz‬وروبرت جريفيس‬
‫)‪ ،Robert Jervis (1994, 1999‬وجاك سنايدر ‪ ،Jack Snyder‬الذين أكدوا أن‬
‫الدول تسعى دامئا إىل تعظيم أمنها‪ .‬وقد كان هذا املوقف مدفوعًا بصعود الصني‪،‬‬
‫حتاًم إىل الرصاع بني الصني والواليات‬‫التي رأى الواقعيون الهجوميون أنه سيقود ً‬
‫املتحدة‪ ،‬ومن ثم أشاروا إىل مخاطر انخراط الواليات املتحدة مع الصني من أجل‬
‫إدخالها يف االقتصاد العاملي‪ .‬لقد كان الواقعيون الهجوميون متشككني أيضا بشأن‬
‫املؤسسات الدولية‪ ،‬وذلك بحجة أنها‪:‬‬
‫انعكاسا لتوزيع القوة يف العامل‪ .‬إنها تستند إىل حسابات‬ ‫ً‬ ‫ُ«مُتثل يف األساس‬
‫املصلحة الذاتية للقوى الكربى‪ ،‬وليس لها تأثري مستقل يف سلوك الدولة؛ لذلك يعتقد‬
‫الواقعيون أن املؤسسات ليست سببا مهام للسالم‪ ،‬وأن لها أهمية هامشية فقط»‬
‫(‪.)Mearsheimer, 1994/ 95: 5‬‬
‫‪344‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫لقد متظهر االختالف اآلخر يف ظهور ما يسمى بـ «الواقعية الكالسيكية‬


‫الجديدة»‪ ،‬التي سعت إىل الرتاجع عن التبسيط املفرط للنظرية الواقعية البنيوية‬
‫من خالل إعادة إقحام العوامل املحلية واملعرفية يف التحليل الواقعي ‪(Lobell,‬‬
‫)‪.Ripsman and Taliaferro, 2009‬‬
‫ومن املفارقات أن صعود الصني أنقذ الواقعيني الجدد من بعض تناقضاتهم‬
‫النظرية ألنه م َّكنهم من الرتاجع عن الحديث عن أحادية القطب والتحدث أكرث عن‬
‫«انتقال القوة» وإمكانية العودة إىل هياكل القوة العاملية ثنائية القطبية أو متعددة‬
‫األقطاب‪ .‬خالل العقدين األول والثاين من القرن الحادي والعرشين‪ ،‬تزايدت األدلة‬
‫عىل أن وقت أحادية القطب األمريكية تقرتب من نهايتها‪ .‬إذ مل تكن الصني فقط‬
‫أيضا تشهد صعودا‪ .‬كام استعادت روسيا‪ ،‬عىل رغم‬ ‫تشهد صعودا‪ ،‬بل كانت الهند ً‬
‫أنها ليست قو ًة صاعد ًة‪ ،‬بعض قدرتها العسكرية ومعظم عدائها للغرب‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫فإن شيئًا مثل «تعددية األقطاب»‪ ،‬التي تنبأ بها الواقعيون الجدد فو ًرا بعد االنهيار‬
‫الداخيل لالتحاد السوفييتي‪ ،‬بدأ يف الظهور أخ ًريا‪ .‬لقد تحدى بعض الواقعيني فكرة‬
‫أن األنظمة متعددة األقطاب كانت بالرضورة غري مستقرة (‪،)Copeland, 2010‬‬
‫ففي حني أنها ُأنقذت من مأزق االستحالة النظرية للقطبية األحادية‪ ،‬غري أن‬
‫الواقعية الجديدة فشلت يف معالجة التمييز بني القوى العظمى ‪superpowers‬‬
‫والقوى الكربى ‪ .great powers‬لذلك‪ ،‬مل تكن هذه النظرية يف وضع يؤهلها لفهم‬
‫العامل الناشئ ذي التعددية العميقة املشار إليه يف الفصل السابع‪ ،‬والتي س ُتتَناول‬
‫بيشء من التفصيل يف الفصل التاسع‪ .‬هل سيكون هذا العامل مكو ًنا من قوى كربى‪،‬‬
‫مع تراجع الواليات املتحدة إىل هذا الوضع (أي تراجعها من وضع قوة عظمى إىل‬
‫مزيجا من‬
‫وضع قوة كربى)‪ ،‬وفشل الصني يف أن تصبح قوة عظمى؟ أم أنها ستكون ً‬
‫القوى العظمى (الواليات املتحدة والصني) والقوى الكربى (روسيا والهند واالتحاد‬
‫األورويب واليابان)؟ (‪ .)Buzan, 2004a‬ونظ ًرا إىل أن تحليلها للنظام الدويل اعتمد‬
‫أيضا يف وضع جيد للتعامل مع‬ ‫اضات تتمركز حول الدولة‪ ،‬مل تكن الواقعية ً‬‫عىل افرت ٍ‬
‫الحرب العاملية ضد اإلرهاب‪ ،‬التي دفعت بالجهات الفاعلة من غري الدول إىل أداء‬
‫دور رئيس يف الحرب‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 2 - 2‬الدراسات األمنية الدولية‬


‫منذ فرتة الثامنينيات‪ ،‬وبرسعة أكرب بعد العام ‪ ،1989‬كانت الدراسات‬
‫اإلسرتاتيجية وأبحاث السالم تنجرف نحو األرضية املشرتكة لألمن‪ ،‬والتسمية الشاملة‬
‫للدراسات األمنية الدولية (‪()ISS‬٭)‪ .‬مل يتنازل أي من العنرصين كل ًيا عن هويته أو‬
‫مؤسساته‪ ،‬غري أن اإلحساس بوجود اختالف بينهام قد تضاءل‪ ،‬واحتلت أجنداتهام‬
‫البحثية عىل نحو متزايد أرضية مشرتكة يف مجاالت األمن اإلنساين وقطاعات األمن‬
‫غري التقليدية األخرى‪ .‬يف الوقت نفسه ظهرت مجموعة متنوعة من املقاربات‬
‫تقسياًم ثنائ ًيا ً‬
‫بسيطا‪ :‬مدرسة كوبنهاغن؛ والدراسات األمنية‬ ‫ً‬ ‫األخرى لتعقيد ما كان‬
‫النقدية ‪Critical Security Studies‬؛ والدراسات األمنية النسوية؛ والدراسات‬
‫األمنية مابعد االستعامرية‪ ،‬والدراسات األمنية مابعد البنيوية‪.‬‬
‫ليس من املستغرب أن يكون النتهاء الحرب الباردة تأثري كبري يف الدراسات‬
‫األمنية الدولية نظ ًرا إىل ارتباطها الوثيق بقضايا السياسة اليومية‪ .‬فبمجرد أن أصبح‬
‫التنافس بني القوتني العظميني شيئا من املايض‪ ،‬رسعان ما تبخر الرتكيز املهووس عىل‬
‫الردع النووي والحرب واملخاوف بشأن التطور املستمر للتكنولوجيا العسكرية‪ .‬مثة‬
‫شيئان مآل الفراغ‪ ،‬أحدهام كان املخاوف القدمية بشأن االنتشار النووي الذي كان‬
‫خاض ًعا لسياسات الردع‪ .‬وكان اآلخر عبارة عن توسيع وتعميق عام ألجندة األمن‬
‫الدويل بعيدًا عن املقاربة التقليدية للسياسة العليا والقضايا العسكرية‪ ،‬لينتقل‬
‫ذاك التوسيع والتعميق نحو القضايا األمنية غري العسكرية أو «غري التقليدية» من‬
‫منظور األمن الدويل‪ .‬وقد قاد هذا إىل التشكيك يف مركزية الدولة باعتبارها الهدف‬
‫املرجعي لألمن‪ .‬إذ مل يقلل انتهاء الحرب الباردة من املخاوف بشأن األمن بقدر ما‬
‫أدى إىل تغيري أسسه‪.‬‬
‫وكام لوحظ يف الفصل السادس‪ ،‬تعود مسألة االنتشار النووي إىل أدبيات‬
‫الخمسينيات من القرن املايض‪ .‬لقد تغريت البلدان املعنية مبرور الوقت‪ ،‬لكن‬
‫الحجج الداعية إىل إبقاء النادي النووي صغ ًريا قدر اإلمكان والسيطرة عىل الروابط‬
‫(٭) للحصول عىل القصة الكاملة واملراجع التي تدعم هذا القسم‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Buzan and Hansen 2009: chs. 6–8.‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫بني التكنولوجيا النووية املدنية (السلمية) والعسكرية ظلت كام هي إىل حد‬
‫كبري‪ .‬وبعد الحرب الباردة‪ ،‬تركزت املخاوف عىل نحو كبري عىل ما وصفته الواليات‬
‫املتحدة بـ «الدول املارقة»‪ ،‬ال سيام كوريا الشاملية؛ وإيران؛ والعراق (يف عهد‬
‫صدام)؛ وكذلك باكستان إىل حد ما‪ .‬وكام لوحظ‪ ،‬كانت الهند عىل وشك أن ُتق َبل‬
‫باعتبارها قوة كربى ومن ثم فطموحها إىل وضع الدول الحائزة لألسلحة النووية‬
‫كان أكرث رشعية‪ .‬وبعد الهجامت التي شنتها القاعدة عىل الواليات املتحدة يف العام‬
‫‪ 2001‬اتسعت املخاوف بشأن االنتشار النووي لتشمل الجامعات اإلرهابية‪ ،‬مام‬
‫أدى مرة أخرى إىل إبراز املناقشات الجارية بشأن اإلرهاب‪ ،‬والتي كانت يف السابق‬
‫ُمت ََض َّمنة ضمن األدبيات األمنية‪.‬‬
‫لقد َت َض َّمن توسيع وتعميق الدراسات األمنية الدولية طر ًقا مختلفة للتفكري‬
‫بشأن األمن (التعميق) ومجموعة واسعة من التهديدات واألشياء املرجعية التي‬
‫جرى التعامل معها عىل أنها قضايا أمنية‪ .‬كانت إحدى املقاربات الرئيسة للتعميق‬
‫هي مدرسة كوبنهاغن التي طبقت مقاربات بنائية لفهم األمن ‪(Buzan, Wæver‬‬
‫وبداًل من معالجة التهديدات مبصطلحات مادية معينة‪،‬‬ ‫)‪ً .and de Wilde, 1998‬‬
‫تطرقت مدرسة كوبنهاغن إىل عملية األَ ْم َننَة (إضفاء الطابع األمني ‪،)securitisation‬‬
‫وتساءلت عن كيف؛ و ِمن طرف َمن؛ وملاذا جرى يف الخطابات بناء بعض األشياء‬
‫باعتبارها تشكل تهديدات‪ ،‬وكيف وملاذا ُق ِبل ذلك عىل هذا النحو من قبل الجامهري‬
‫املعنية باألمر‪ .‬مقاربة أخرى للتعميق كانت تتعلق مبا بعد البنيوية‪ ،‬التي تساءلت‬
‫أيضا إىل‬‫عام إذا كانت الدول تسعى عىل نحو أسايس إىل األمن‪ ،‬أو أنها تحتاج ً‬
‫عنرص من التهديد الخارجي من أجل الحفاظ عىل تكوينها (‪ .)Campbell, 1998‬أما‬
‫البنائيون‪ ،‬فقد أحيوا الفكرة القدمية للجامعات األمنية للنظر إىل الجانب الوضعاين‬
‫لألمن وليس مجرد الرتكيز عىل التهديدات (‪.)Adler and Barnett, 1998‬‬
‫توسيع كب ٌري جدًا للقضايا ا ُملح َّددة من النواحي‬
‫ٌ‬ ‫إىل جانب هذا التعميق‪ ،‬كان مثة‬
‫األمنية‪ .‬فباإلضافة إىل املخاوف التقليدية بشأن األمن السيايس والعسكري‪ ،‬ظهرت‬
‫مناقشات بشأن األمن البيئي واألمن االقتصادي واألمن اإلنساين واألمن الهويايت‬
‫واألمن السيرباين واألمن الصحي وما شابه‪ .‬وإىل جانب التهديدات العسكرية‬
‫واأليديولوجية‪ ،‬جرى أيضا إضافة تهديدات الهجرة وإضفاء الطابع األمني عليها؛‬
‫‪347‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وعدم االستقرار االقتصادي؛ وعدم املساواة؛ وتغري املناخ والتلوث؛ وانتقال األمراض؛‬
‫والهجامت عىل اإلنرتنت وما شابه ذلك‪ .‬وميكن تتبع بعض هذه األجندة العائدة‬
‫إىل املناقشات البيئية واألمنية االقتصادية التي كانت نشطة خالل فرتة السبعينيات‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬خالل التسعينيات فقط أصبحت هذه القضايا وغريها من القضايا غري‬
‫التقليدية ُت َعد سائدة يف الدراسات األمنية الدولية‪ .‬فقد أعطى األمن اإلنساين مكانة‬
‫بارزة لألشخاص باعتبارهم املرجع الرئيس لألمن يف مواجهة مرجعية الدولة(٭)‪ .‬كام‬
‫شككت دراسات ما بعد االستعامرية والدراسات األمنية النقدية يف األمن القومي‬
‫يف العامل الثالث والسياقات األخرى التي كانت فيها الدولة يف كثري من األحيان‬
‫أيضا الدراسات األمنية النسوية يف‬ ‫تشكل التهديد الرئيس ملواطنيها‪ .‬كام شككت ً‬
‫االفرتاضات الذكورية الواردة داخل الدراسات األمنية الدولية السائدة‪ ،‬وسعت إىل‬
‫إعادة إقحام النساء كموضوعات وكأهداف لألمن‪ .‬لقد جاءت عديد من التهديدات‬
‫غري العسكرية يف شكل قضايا املصري املشرتك‪ ،‬ومن ثم و َّلدت منطق األمن املشرتك‬
‫(األمن مع‪ )...‬إىل جانب املنطق التقليدي لألمن القومي (األمن ضد‪ .)...‬وقد ظهرت‬
‫الدراسات األمنية الدولية الجديدة وا ُملج َّددة هذه وتوطدت عىل نحو رئيس خالل‬
‫التسعينيات‪ .‬إذ مثة حدثان كبريان أثرا يف هذا الهيكل الجديد‪ :‬الهجامت اإلرهابية‬
‫عىل الواليات املتحدة يف العام ‪2001‬؛ وصعود الصني واسرتداد روسيا مكانتها‬
‫وظهورهام كقوى كربى منافسة للواليات املتحدة‪.‬‬
‫من املتوقع أن تكون هجامت الحادي عرش من سبتمرب قد سببت ارتفاعا كبريا‬
‫ودامئا لدراسات اإلرهاب‪ ،‬وهو املجال الذي كان حتى أواخر التسعينيات ً‬
‫مجااًل‬
‫هامش ًيا إىل حد ما‪ .‬فقد وضعت الحرب العاملية عىل اإلرهاب الجهات الفاعلة غري‬
‫الحكومية يف قلب التفكري التقليدي بشأن األمن العسكري‪ .‬ونظ ًرا إىل كونها جهات‬
‫فاعلة مستقلة وال تتبع دوال عىل نحو أسايس‪ ،‬فإن التعاطي معها يقع إىل حد كبري‬
‫خارج الطرق التقليدية الخاصة بالتفكري بشأن الردع واألمن القومي‪ .‬وإىل حد ما‬
‫ميكن ربط تلك الجهات الفاعلة غري الحكومية بالدول الراعية‪ ،‬وقد َدع ََم هذا املنطق‬
‫التدخالت الرئيسة التي قادتها الواليات املتحدة يف أفغانستان والعراق‪ .‬فالحرب‬
‫(٭) وبهذا يصبح األمن هو أمن األشخاص وليس أمن الدول‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫العاملية عىل اإلرهاب‪ ،‬مثلها مثل عديد من قضايا أجندة األمن غري التقليدي‪ ،‬متيل‬
‫إىل تفكيك الحدود بني األمن املحيل والدويل‪.‬‬
‫ومثلام حدث مع النظرية الواقعية‪ ،‬فقد أدى صعود الصني وتعايف روسيا كقوى‬
‫كربى منذ بداية القرن الحادي والعرشين إىل زيادة الضغط للعودة إىل أجندة‬
‫الدراسات اإلسرتاتيجية التقليدية الخاصة بالحرب الباردة‪ .‬فاالهتامم القديم للحرب‬
‫يختف متا ًما‪ .‬لكن االهتامم بالردع بعد‬
‫ِ‬ ‫الباردة املتعلق باألمن العسكري والردع مل‬
‫الحرب الباردة كان محصو ًرا إىل حد كبري يف املناطق املتوترة مثل جنوب آسيا‬
‫والرشق األوسط‪ .‬كام استمر أيضا االهتامم بالتقدم املتواصل للتكنولوجيا العسكرية‬
‫طوال الوقت‪ ،‬وخاصة فيام يتعلق بالصواريخ والطائرات والسفن الخفية؛ ومعالجة‬
‫املعلومات واالتصاالت؛ والدفاعات ضد الصواريخ الباليستية‪ .‬بيد أنه جرى تأطري هذا‬
‫االهتامم عىل نحو أسايس ضمن إطار التهديد ا ُملتَأَيت من الدول املارقة الصغرية نسب ًيا‪،‬‬
‫ومن ثم كان اهتام ًما أقل حدة بكثري مام كان عليه خالل الحرب الباردة‪ .‬لقد أدى‬
‫صعود الصني وتعايف روسيا إىل إعادة طرح موضوع املنافسة العسكرية بني القوى‬
‫الكربى عىل أجندة الدراسات األمنية الدولية‪ .‬إن روسيا ليست أكرث من مجرد مصدر‬
‫إزعاج كبري‪ .‬فعىل الرغم من تعافيها إىل حد ما من تدين مستوياتها يف التسعينيات‪،‬‬
‫فإنها ُت َعد قوة آخذة يف التدهور‪ ،‬وإن كانت التزال متتلك إرث التكنولوجيا العسكرية‬
‫املتقدمة من أيام متتعها بوضع القوة العظمى‪ .‬إن منو الصني ُي َعد أهم من روسيا‬
‫بكثري؛ ألنها تشكل قوة صاعدة ذات قدرات تكنولوجية متزايدة‪ ،‬وثروة وإرادة لبناء‬
‫نفسها كالعب عسكري هائل واسع النفوذ‪ .‬وأصبحت الهند ً‬
‫أيضا الع ًبا مهام عىل نحو‬
‫متزايد يف هذه اللعبة النووية الجديدة بني القوى الكربى‪ .‬لقد أعادت هذه التطورات‬
‫مرة أخرى طرح مسألة ردع القوى الكربى املتعاظمة؛ واملخاوف بشأن املنافسة يف‬
‫التقنيات العسكرية املتقدمة عىل أجندة الدراسات األمنية الدولية‪ ،‬وإن كان ذلك‬
‫يتم اآلن جن ًبا إىل جنب مع األجندة األوسع واألعمق التي ظهرت خالل التسعينيات‬
‫مثل قضايا الهجرة؛ والصحة؛ والبيئة؛ واالقتصاد العاملي؛ واألمن السيرباين‪ ،‬حيث ظلت‬
‫هذه القضايا من الشواغل املركزية للدراسات األمنية‪.‬‬
‫نواح عديدة‪ ،‬كانت الدراسات األمنية الدولية التي نشأت بعد‬ ‫لذلك‪ ،‬ومن ٍ‬
‫الحرب الباردة أقل تركيزًا بكثري عىل قضايا الرشق ‪ -‬الغرب‪ ،‬وأكرث تركيزًا عىل قضايا‬
‫‪349‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أيضا موجهة إىل حد ما نحو قضايا الجنوب ‪ -‬الجنوب‬ ‫الشامل ‪ -‬الجنوب‪ .‬كام كانت ً‬
‫من ناحية دراسة الردع النووي عىل املستوى اإلقليمي يف جنوب آسيا والرشق‬
‫األوسط‪ ،‬وكذلك إىل الحروب والتدخالت اإلقليمية ال سيام تلك الحاصلة يف الرشق‬
‫األوسط‪ .‬وقد بدأ األمن اإلقليمي مييز نفسه باعتباره موضوعا متميزا ال يخضع فقط‬
‫ملنافسات القوى الكربى (‪ .)Buzan and Wæver, 2003‬لقد كان للمخاوف بشأن‬
‫االنتشار النووي بعد الحرب الباردة توجهٌ لدراسة قضايا الشامل ‪ -‬الجنوب عىل‬
‫نحو أسايس‪ ،‬متاما كام فعلت الحرب العاملية عىل اإلرهاب وحروب التدخل املرتبطة‬
‫ً‬
‫مرتبطا‬ ‫بها التي متت بقيادة الواليات املتحدة‪ .‬ومل يكن أي من هذين األمرين‬
‫بخطر التصعيد إىل حرب نووية بني القوى الكربى‪ ،‬وتحولت املخاوف املتأتية من‬
‫حرب العصابات إىل قضية أوسع بني الشامل والجنوب تتمثل أساسا يف «الحرب غري‬
‫املتكافئة»‪ .‬صار جزء كبري من األجندة األمنية الواسعة النطاق يشتمل عىل قضايا‬
‫الشامل ‪ -‬الجنوب وقضايا الجنوب ‪ -‬الجنوب‪ :‬الهجرة القادمة من أفريقيا والرشق‬
‫األوسط إىل أوروبا؛ ومن أمريكا الالتينية إىل الواليات املتحدة؛ ومن عديد من‬
‫البلدان يف الجنوب إىل جريانها اآلخرين يف دول الجنوب‪ .‬وصار االحتباس الحراري‬
‫اآلن تسببه الصني بالقدر نفسه الذي تسببه الواليات املتحدة؛ كام صار استقرار‬
‫االقتصاد العاملي يعتمد اآلن عىل مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة ويف جميع‬
‫املناطق؛ وصارت الصحة العاملية أكرث اعتامدًا عىل أحزمة النقل التي تربط جميع‬
‫أنحاء العامل‪ .‬وحتى صعود الصني ميكن رؤيته جزئ ًيا من منظور الشامل ‪ -‬الجنوب‪،‬‬
‫وعىل رغم أن الصني والهند تتمتعان مبكانة قوة كربى‪ ،‬فإن تأطري الشامل ‪ -‬الجنوب‬
‫أصبح أقل فائدة‪ ،‬مام يفسح املجال ملنظور أكرث عاملية بشأن كل من األمن التقليدي‬
‫ابطا حيث صارت الدول النامية تعد ً‬
‫أيضا قوى‬ ‫وغري التقليدي‪ .‬يف عامل أكرث عوملة وتر ً‬
‫كربى‪ ،‬فإن عودة ديناميات أمن القوى الكربى التقليدية لن تعيد الدراسات األمنية‬
‫الدولية إىل تركيزها التقليدي الضيق عىل عامل القوى الكربى البيضاء‪.‬‬

‫‪ - 2 - 3‬الليربالية والليربالية الجديدة واالقتصاد السيايس الدويل‬


‫يف حني أن نهاية الحرب الباردة شكلت صدمة بالنسبة إىل الواقعيني عىل‬
‫اختالف مشاربهم الفكرية وحتى أولئك الذين كانوا منخرطني يف الدراسات األمنية‬
‫‪350‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫صحيحا بالنسبة إىل الليرباليني من جميع األطياف‪ ،‬وخاصة‬ ‫ً‬ ‫الدولية‪ ،‬كان العكس‬
‫أولئك الذين كانوا يهتمون بدراسة االقتصاد السيايس الدويل‪ .‬فالجمع بني القطبية‬
‫األحادية والعوملة‪ ،‬الذي أرشنا إليه يف الفصل السابع‪ ،‬باعتبارهام السمتني الرئيستني‬
‫لفرتة ما بعد الحرب الباردة مبارشة‪ ،‬فتح آفا ًقا كبرية أمام الليرباليني‪ .‬لقد كانت القوة‬
‫العظمى الليربالية الوحيدة يف وضع قوي إلبراز وحامية القيم الليربالية األساسية‬
‫مثل الدميوقراطية واقتصاد السوق وحقوق اإلنسان‪ .‬وقد جلبت العوملة يف ظل‬
‫القوة العظمى الليربالية أفكار السالم الدميوقراطي والعالقات الدولية متعددة‬
‫األطراف إىل الواجهة‪ .‬وعرضت طريقة إلدخال الصني الصاعدة يف نظام القواعد‬
‫واملؤسسات الغريب‪ ،‬وأثارت اآلمال بشأن إمكانية السعي وراء حقوق اإلنسان عىل‬
‫نحو أكرث فعالية مام كان عليه الحال خالل فرتة الحرب الباردة‪ .‬لقد كان لهذه‬
‫اللحظة الليربالية تأثري قوي يف العالقات الدولية خالل التسعينيات‪ ،‬ولكن هذا‬
‫الوضع شهد بعد ذلك توترا عىل نحو متزايد‪.‬‬
‫خالل فرتة التسعينيات عُ زِّزت توليفة «جديد – جديد» ‪ Neo-Neo‬املشار إليها‬
‫يف الفصل السادس‪ ،‬فقد اتفق الليرباليون الجدد والواقعيون الجدد عىل نطاق واسع‬
‫بشأن قطبية القوة؛ واملنهج العقالين؛ واملقاربة املادية لدراسة العالقات الدولية‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬كانت مثة خالفات كبرية قامئة بينهام‪ .‬فالواقعيون مييلون إىل تهميش‬
‫رئيسا (‪Keohane and‬‬ ‫تأثري املؤسسات‪ ،‬بينام يعطي الليرباليون املؤسسات دو ًرا ً‬
‫‪ .)Martin, 1995: 47‬وعىل نح ٍو عام اختلف الواقعيون الجدد والليرباليون الجدد‬
‫بشأن األهمية النسبية للفوىض ‪ ،anarchy‬حيث كان الواقعيون الجدد ينظرون إىل‬
‫«الفوىض باعتبار أنها تضع قيودًا أكرث رصامة عىل سلوك الدولة أكرث مام كان يعتقده‬
‫الليرباليون الجدد» (‪ .)D. Baldwin, 1993: 5‬وقد رأى الواقعيون الجدد أن التعاون‬
‫«يصعب تحقيقه‪ ،‬وأن الحفاظ عليه أصعب‪ ،‬وأنه يعتمد عىل نحو أسايس عىل قوة‬
‫الدولة» (‪ .)Grieco, 1993: 302‬ويف حني شدد الواقعيون الجدد عىل املكاسب‬
‫النسبية التي تشجع عىل املنافسة‪ ،‬أكد الليرباليون الجدد عىل املكاسب املطلقة‬
‫التي ُت َسهل التعاون‪ .‬وعىل عكس الواقعيني الجدد‪ ،‬مل تكن لدى الليرباليني مشكلة‬
‫مع القطبية األحادية التي تتناسب عىل نحو جيد مع أفكارهم بشأن نظرية استقرار‬
‫الهيمنة التي نوقشت يف الفصل السادس‪ .‬فعىل خالف الواقعيني‪ ،‬الذين متنع نظرية‬
‫‪351‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫توازن القوى الخاصة بهم إمكانية حصول األحادية القطبية أو النظر إليها ‪ -‬إن‬
‫حصلت ‪ -‬كظاهرة قصرية وغري مستقرة للغاية‪ ،‬ترى نظرية استقرار الهيمنة رضور َة‬
‫وجود قوة مهيمنة لتوفري املنافع العامة ألجل النظام العاملي‪ .‬لقد عزز فشل توازن‬
‫السلوك الذي حدث خالل التسعينيات وجهة النظر الليربالية‪ .‬ومييل الجانبان إىل‬
‫االختالف بشأن الصني أيضا‪ ،‬حيث يرى الواقعيون أن صعودها يشكل تهديدا حتميا‬
‫للواليات املتحدة‪ ،‬بينام يرى الليرباليون العوملة فرص ًة عظيم ًة لتسهيل صعود الصني‬
‫السلمي ملصلحة الجميع‪ .‬كانت العوملة متوافقة عىل نطاق واسع مع كال املنظورين‪،‬‬
‫وإن كان ذلك بطرق مختلفة‪ :‬كسمة لألنظمة االقتصادية الليربالية املفتوحة؛ ونتيجة‬
‫للقوة والتفوق األمريكيني‪ .‬وكانت كل من الواقعية الجديدة والليربالية الجديدة‬
‫توليان أهمية كبرية للواليات املتحدة‪ ،‬حيث وضعتا هذه القوة العظمى الوحيدة‬
‫يف صلب التحليل‪.‬‬
‫ازدهرت عديد من األدبيات املتميزة خالل الفرتة الليربالية التي أعقبت العام‬
‫‪ .1989‬فظهرت العوملة كمجال منفصل تقري ًبا للدراسة‪ ،‬وذلك جزئ ًيا داخل حقل‬
‫العالقات الدولية وجزئ ًيا خارج هذا التخصص بسبب أنها تجاوزت اإلطار املركزي‬
‫للدولة ‪(Hirst and Thompson, 1996; Sassen, 1996; Clark, 1999; Held‬‬
‫;‪et al., 1999; Keohane and Nye, 2000; Scholte, 2000; Woods, 2000‬‬
‫)‪ .Ripsman and Paul, 2010‬وتوسع االقتصاد السيايس الدويل منذ بداياته يف‬
‫الثامنينيات‪ ،‬ومتكن عىل نحو متزايد من اكتساب عديد من املجالت العلمية (مثل‬
‫مجلة االقتصاد السيايس الدويل) والكتب املدرسية الخاصة به (; ‪Spero, 1990‬‬
‫رئيسا داخل حقل‬ ‫‪ ،)Stubbs and Underhill, 1994‬وأصبح ميثل ً‬
‫مجااًل فرع ًيا ً‬
‫العالقات الدولية‪ .‬ويف الواليات املتحدة تقارب االقتصاد السيايس الدويل مع مقاربة‬
‫عقالنية مهيمنة‪ ،‬أي مدرسة االقتصاد السيايس املفتوح (‪ ،)OEP‬وهي املدرسة التي‬
‫تأثرت بشدة باالقتصاد الكالسييك الجديد ونظرية التجارة الدولية (‪Lake, 2008‬‬
‫‪ .); Oatley, 2011‬س َّببت نهاية الحرب الباردة خسارة أخرى من التنوع‪ ،‬خاصة‬
‫مع انتكاس االقتصاد السيايس الدويل املاركيس‪ .‬وقد نرش روبرت غليبني (‪)2001‬‬
‫نصا جديدًا بعنوان «االقتصاد السيايس العاملي» ‪Global Political Economy‬‬ ‫ً‬
‫وعىل رغم التحول اإليحايئ يف العنوان الرئيس عن عنوان كتابه «االقتصاد السيايس‬
‫‪352‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫للعالقات الدولية» الصادر يف العام ‪ ،1987‬وعىل رغم أن نيته كانت تقديم رسد‬
‫للتغيريات العميقة التي حدثت منذ نرش ذلك الكتاب‪ ،‬فإن روبرت غليبني يؤكد يف‬
‫نصه الجديد موقفه النظري الواقعي املتمركز حول الدولة‪.‬‬
‫لكن مدرسة االقتصاد السيايس املفتوح تعرضت النتقادات ألنها خلقت «ثقافة‬
‫أحادية» أمريكية لالقتصاد السيايس الدويل‪ ،‬تتميز بنزعة اختزالية منهجية ركزت‬
‫عىل مصالح الدولة باعتبارها املتغري التفسريي الرئيس من دون أن تقدم كثريا من‬
‫اإليضاحات عن كيفية بناء املصالح (‪ .)Farrell, 2009‬وقد ظهرت مناهج أخرى‬
‫لالقتصاد السيايس يف الواليات املتحدة‪ ،‬خاصة تلك التي شددت عىل «التفاعل بني‬
‫املصالح املجتمعية واملؤسسات السياسية» (‪ .)Oatley, 2012: 12‬باإلضافة إىل‬
‫العمل النظري األكرث عمومية للباحثني الربيطانيني والكنديني املذكورين يف الفصل‬
‫السادس‪ ،‬قدم ريتشارد هيجوت (‪Richard Higgott Higgott and Stubbs,‬‬
‫‪ )1995‬وجون رافينهيل (‪ )John Ravenhill 2001‬يف أسرتاليا مساهامت يف االقتصاد‬
‫السيايس الدويل من وجهة نظر إقليمية‪ ،‬مع الرتكيز عىل إضفاء الطابع اإلقليمي‬
‫عىل منطقة آسيا واملحيط الهادئ‪ .‬وعىل الرغم من أنهم ‪(Higgott and Watson,‬‬
‫)‪ 2007; Ravenhill, 2007‬رفضوا محاولة بنيامني كوهني ‪(Benjamin Cohen‬‬
‫)‪ 2007, 2008‬للتمييز بني املدارس «األمريكية» و«الربيطانية» يف االقتصاد السيايس‬
‫مفرطا‪ ،‬فقد أدى هذا النقاش إىل تسليط الضوء عىل بعض‬ ‫تبسيطا ً‬
‫ً‬ ‫الدويل باعتبارها‬
‫االختالفات الرئيسة القامئة بني أبحاث االقتصاد السيايس الدويل السائدة يف الواليات‬
‫املتحدة وتلك املوجودة يف أجزاء أخرى من الغرب‪ ،‬خصوصا يف بريطانيا وكندا‬
‫وأسرتاليا‪ .‬يكمن أحد االختالفات الرئيسة‪ ،‬عىل نحو غري مفاجئ‪ ،‬يف املنهجية غري‬
‫الوضعانية لألخرية‪ ،‬والتي تجنبت ولع نظريتها األمريكية باختبار الفرضيات والبحث‬
‫أيضا متعددة التخصصات وأكرث معيارية‬ ‫الكمي‪ .‬إذ كانت املقاربات غري األمريكية ً‬
‫من نظريتها األمريكية (‪ ،)Cohen, 2014: 50–1‬حيث كانت لها قواسم مشرتكة أكرث‬
‫مقاربات غري تلك املقاربات األمريكية السائدة لالقتصاد السيايس الدويل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫مع‬
‫عالو ًة عىل االقتصاد السيايس الدويل أنتجت حقوق اإلنسان أدبيات ليربالية‬
‫واسعة النطاق موازية يف بعض النواحي لتلك األدبيات التي أنتجها األمن اإلنساين‬
‫الذي نوقش سابقا‪ ،‬إذ كان لها غرض ترويجي عىل نحو واضح ;‪(Barkin, 1998‬‬
‫‪353‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫)‪ .Dunne and Wheeler, 1999; Reus-Smit, 2001; Sikkink, 2016‬وقد‬


‫ُط ِّورت أدبيات كثرية حول نظرية السالم الدميوقراطي‪ ،‬والتي ميكن املحاججة بأنها‬
‫أثريت من خالل إحياء مايكل دويل (‪ )Michael Doyle 1986‬للرابطة الليربالية‬
‫الكالسيكية للدميوقراطية والسالم ‪(Ray, 1995, Brown, Lynn-Jones and‬‬
‫)‪ .Miller, 1996; Weart, 1998‬كام تبنى املختصون يف أبحاث السالم ‪(Gleditsch,‬‬
‫)‪ 1992‬أيضا نظرية السالم الدميوقراطي ونرشوها‪ .‬وقد كانت فكرتها األساسية عبارة‬
‫عن ادعاء تجريبي يرى أن الدميوقراطيات ال تخوض حر ًبا بعضها ضد بعض‪ ،‬وكان‬
‫هذا النوع من التفكري مؤث ًرا يف كل من إداريت كلينتون وجورج دبليو بوش يف الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬اللتني سعتا إىل توسيع منطقة الدميوقراطية‪ .‬لقد و َّلدت نظرية السالم‬
‫الدميوقراطي كثريا من الجدل حول ما ميكن اعتباره دميوقراطية‪ ،‬وما ميكن اعتباره‬
‫خوضا للحرب‪ ،‬وما هي اآلليات السببية لذلك (‪ .)Maoz and Russett, 1993‬كام‬ ‫ً‬
‫ا ُّت ِهمت هذه النظرية بأنها ذات مركزية أوروبية لعدم إمكانية تطبيقها يف عديد من‬
‫املناطق األخرى (‪ ،)Friedman, 2000: 228‬كام ا ُّت ِهمت بعدم إمكانية محاسبتها‬
‫كاف عن الحروب االستعامرية ونزوع الدميوقراطيات إىل التدخل يف دول‬ ‫عىل نحو ٍ‬
‫األطراف‪(M. Haas, 1995; Mann, 2001; Barkawi and Laffey, 2001; Ravlo,‬‬
‫)‪.Gleditsch and Dorussen, 2003: 522; Acharya, 2014a‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬رمبا كانت األدبيات الليربالية الرئيسة هي تلك التي ركزت‬
‫عىل نحو عام عىل النظام الليربايل (أو النظام الليربايل املهيمن) الذي كان ُينظر إليه‬
‫باعتبار أنه ظهر نتيج ًة للقطبية األحادية والعوملة‪ .‬لقد كان املدافع الرئيس عن ذلك‬
‫هو جون آيكينبريي ‪(Deudney and Ikenberry, 1999; Ikenberry, 2001,‬‬
‫‪ 2009, 2011) John Ikenberry,‬الذي أكد يف سلسلة من الكتب واملقاالت أن‬
‫النظام الدويل الليربايل الذي أنشأته وقادته الواليات املتحدة مل يكن مفيدًا فقط‪،‬‬
‫بل من املحتمل أن يكون نظاما دامئا ً‬
‫أيضا‪ .‬ومل يقترص النظام الليربايل املؤسيس عىل‬
‫أيضا مصالح الكثريين من خالل توفري القواعد‬ ‫تقييد قوة الواليات املتحدة‪ ،‬بل خدم ً‬
‫واملؤسسات لتحقيق االستقرار يف االقتصاد الرأساميل العاملي ‪(Ikenberry, 2001:‬‬
‫)‪ .29‬وقد اعتقد جون آيكينبريي (‪ )2009 ;15 ,9 :2011‬أن النظام الليربايل خلق‬
‫الرشعية ودعم الجامهري خارج الواليات املتحدة والغرب‪ ،‬ومن ثم سيستمر حتى لو‬
‫‪354‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫تراجعت الواليات املتحدة‪ .‬وجادل بأن النظام الليربايل «من السهل االنضامم إليه‪،‬‬
‫ومن الصعب قلبه» (‪ .)Ikenberry, 2011: 9‬وبرغم ذلك‪ ،‬وعىل الرغم من تخفيه‬
‫وراء عبارات توافقية‪ ،‬فإن قصة النظام الدويل الليربايل هي يف األساس قصة عن نشوء‬
‫وعواقب ورشعية الهيمنة األمريكية‪ .‬كان لالدعاء القائل إن «األنظمة الليربالية التي‬
‫تقودها بريطانيا وأمريكا قد ُبنيت يف جوانب نقدية بشأن التوافق» ‪(Ikenberry,‬‬
‫)‪ 2011: 15‬أصداء مميزة ملفهوم غراميش للهيمنة‪ ،‬لذلك جرى استيعابها بحيث ال‬
‫يجب رؤية فوائدها املفرتضة ليك ُتصدَّق‪ ،‬ويجب أن ُي ْط َلب من املرء أن يقدم الوالء‪.‬‬
‫لكن هذا االدعاء يتجاهل الجوانب املهمة القرسية التي ُت َعد محل نزاع واملتعلقة‬
‫بتاريخ ذلك النظام (‪.)Acharya, 2014d‬‬
‫غري أنه وبعد العقد الذهبي الليربايل الذي شهدته فرتة التسعينيات‪ ،‬بدأ كثري‬
‫من هذا اللمعان الليربايل يفقد بريقه‪ .‬فقد أصبح ُينظر إىل حقوق اإلنسان عىل نحو‬
‫متزايد باعتبار أنها املعيار الجديد لـ «الحضارة» ‪(Donnelly, 1998 ; Buzan, 2014:‬‬
‫)‪ .107‬وتحول السالم الدميوقراطي إىل غطرسة للسلطة وع َْج َرفة ليربالية تجسدت‬
‫يف فكرة «وفاق الدميوقراطيات» التي تطالب بتهميش األمم املتحدة وتحويل إدارة‬
‫املجتمع الدويل العاملي إىل يد حفنة من الدول الدميوقراطية ذات التفكري املامثل‬
‫(‪ .)Ikenberry and Slaughter, 2006‬ففي الواليات املتحدة عىل وجه الخصوص‪،‬‬
‫أصبح مثة ضعف يف القيم والرؤى الليربالية‪ ،‬كان مدفوعًا جزئ ًيا مبتطلبات الحرب‬
‫العاملية عىل اإلرهاب‪ ،‬وجزئ ًيا بسبب تزايد عدم املساواة وعدم االستقرار الناتج عن‬
‫االقتصاد العاملي الليربايل الجديد‪ .‬وهكذا‪ ،‬تحولت ذروة الليربالية التي شهدها عهد‬
‫كلينتون خالل التسعينيات إىل خيانة لحقوق اإلنسان خالل الحرب العاملية عىل‬
‫اإلرهاب التي قادها جورج بوش االبن‪ ،‬لتتحول بعدها يف عهد ترامب إىل معارضة‬
‫رصيحة لكثري من اإلرث األمرييك ذي النزعة املؤسساتية واالقتصادات املفتوحة‪.‬‬
‫وبحلول العام ‪ 2018‬مل تعد الواليات املتحدة الدولة التي تتسيد املستقبل‪ ،‬ومل تعد‬
‫القيم الليربالية ُتفهم باعتبار أنها القيم الغائية الحتمية للمجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫وفيام يتعلق باستدامة أو تقليل الحواجز القامئة بني املركز واألطراف يف حقل‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬قدمت الليربالية سجال مختلطا‪ .‬فقد أكدت نظريات استقرار‬
‫الهيمنة؛ وحقوق اإلنسان؛ و«وفاق الدميوقراطيات»؛ والسالم الدميوقراطي أهمية‬
‫‪355‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫املركز‪ ،‬خاصة مع ما ميكن تسميته بـ «الليربالية الهجومية» التي أعادت إحياء معيار‬
‫«الحضارة»‪ .‬لكن الرتكيز عىل املؤسسات فتح مساحة سياسية مرشوعة لألطراف‪،‬‬
‫كام عززت العوملة واالقتصاد السيايس الدويل عىل نحو مبارش من نظرة ُشمولِية‬
‫للنظام‪ /‬املجتمع الدويل‪ .‬ومع التدهور التدريجي للنظام الليربايل حتى قبل مجيء‬
‫إدارة ترامب‪ ،‬مل يكن هذا يفسح املجال لدول األطراف ألجل إدارة االقتصاد واألمن‬
‫أيضا مساحة‬‫العامليني فقط (‪ ،)Acharya, 2018: 199–206‬ولكن كان يفسح ً‬
‫متزايدة للمنظورات النقدية وأيضا لتلك املنظورات ا ُملتَأتية من األطراف‪ .‬ومع‬
‫صعود الصني والبقية إىل املراتب الوسطى للتنمية‪ ،‬كانت ِبنْية وأهمية املركز ‪-‬‬
‫األطراف تشهد تغريا عىل نحو رسيع‪.‬‬

‫‪ - 2 - 4‬البنائية‬
‫كانت الواقعية والدراسات األمنية الدولية والليربالية يف األساس كلها مقاربات‬
‫تقليدية ومادية لحقل العالقات الدولية‪ ،‬حيث تكيفت تلك املقاربات بدرجات‬
‫متفاوتة من النجاح مع الظروف الجديدة لعامل ما بعد الحرب الباردة‪ .‬وعىل النقيض‬
‫من ذلك كانت البنائية مبنزلة واف ٍد جدي ٍد إىل نظرية العالقات الدولية السائدة‪.‬‬
‫طرحا جديدًا يف حد ذاتها‪ ،‬بل كانت مقاربة قامئة يف النظرية‬ ‫فلم تكن البنائية ً‬
‫االجتامعية جرى تكييفها حدي ًثا لدراسة العالقات الدولية‪ ،‬وقد تم ذلك من طرف‬
‫بعض الباحثني مثل جون روجي ‪John Ruggie‬؛ وفريدريش كراتوتشويل ‪Friedrich‬‬
‫‪Kratochwil‬؛ وألكسندر وندت ‪Alexander Wendt‬؛ ونيكوالس أونوف ‪Nicholas‬‬
‫‪Onuf‬؛ وإميانويل أدلر ‪Emanuel Adler‬؛ وبيرت كاتزنشتاين ‪.Peter Katzenstein‬‬
‫وعىل عكس الواقعية والدراسات األمنية والليربالية‪ ،‬مل تكن البنائية عىل وجه التحديد‬
‫تشكل نظرية للعالقات الدولية‪ .‬وبالنسبة إىل نقادها وكذلك إىل بعض مؤيديها‪،‬‬
‫كانت البنائية ُت َعد عىل نحو أكرب «كنوع من الفلسفة أو نظرية ماورائية‪ ،‬أو منهجية‬
‫بحث إمربيقية» (‪ .)Zehfuss, 2002: 8‬إذ مل تكن نظرية خاصة ألجل حقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬ولكن نظرية ميكن تطبيقها عىل هذا الحقل املعريف‪.‬‬
‫بالنسبة إىل البنائيني ال تتعلق السياسة الدولية بالقوى املادية فقط مثل‬
‫أيضا من خالل عوامل ذاتية ومابني ذاتية مبا يف‬ ‫السلطة والرثوة‪ ،‬ولكنها تتشكل ً‬

‫‪356‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫ذلك األفكار؛ واملعايري؛ والثقافة؛ والهوية‪ .‬إنهم يرون أن العالقات الدولية محكومة‬
‫مبنطق الم ُ َال َء َمة؛ أو اعتبارات الصواب والخطأ‪ ،‬وليس مبنطق العواقب؛ أو حسابات‬
‫التكلفة والفوائد‪ .‬إذ يرفض البنائيون التحيز العقالين (النفعي) واملادي املوجود‬
‫يف الواقعية والليربالية الجديدة املؤسساتية‪ .‬إنهم يرون مصالح وهويات الدول‬
‫ال كمعطى مسبق أو محدد سل ًفا‪ ،‬بل تنشأ وتتغري من خالل عملية تفاعالت‬
‫فظروف مثل الفوىض ‪ anarchy‬وسياسة القوة ليست‬ ‫ٌ‬ ‫متبادلة وتنشئة اجتامعية‪.‬‬
‫سامت دامئة للعالقات الدولية‪ ،‬ولكنها مبنية اجتامع ًّيا وميكن أن يكون لها نتائج‬
‫مختلفة‪ :‬ففي صياغة ألكسندر وندت الشهرية (‪ ،)1992‬فإن «ال َف ْو َىَض ِه َي ِنت َُاج َما‬
‫َت ْصن َُعه الد َول»‪ .‬واملعايري لها حياة خاصة بها‪ ،‬وهي ال تخلق وتعيد تعريف مصالح‬
‫أيضا سلوك الدولة وتشكل هويتها‪ .‬ومن خالل‬ ‫الدولة ومقارباتها فقط‪ ،‬بل تنظم ً‬
‫التفاعل والتنشئة االجتامعية‪ ،‬قد ُت َط ِّور الدول هوية جامعية ُمُتكنها من التغلب‬
‫عىل سياسات القوة واملعضلة األمنية‪.‬‬
‫ومثل جميع بقية املقاربات األخرى لحقل العالقات الدولية‪ ،‬انقسمت البنائية‬
‫برسعة إىل عديد من خطوط التفكري‪ ،‬كان بعضها؛ مثل الخط الذي ميثله ألكسندر‬
‫وندت (‪ ،)1999‬أكرث متركزا حول الدولة‪ ،‬بينام كان البعض اآلخر يركز عىل نح ٍو أكرب‬
‫عىل الجهات الفاعلة غري الحكومية (‪ .)Keck and Sikkink, 1998‬وكانت بعض‬
‫الخطوط األخرى؛ عند كل من تيد هوبف ‪(Ted Hopf 1998; see also: Reus-‬‬
‫)‪ Smit, 2005‬وماجا زيهفوس (‪ )Maja Zehfuss, 2001‬أكرث تقليدية (باستخدام‬
‫الهوية متغريا سببيا)‪ ،‬يف حني كان البعض اآلخر أكرث نقدية (التحقيق يف كيفية ظهور‬
‫الهوية يف املقام األول)‪ .‬لقد اعتمد البنائيون التقليديون مقاربة «علمية» ً‬
‫بداًل من‬
‫املقاربة التفسريية‪ ،‬ومن ثم طمسوا انقسامهم مع النزعة العقالنية‪ .‬وأصبح النقاش‬
‫بني العقالنية (كل من الليربالية الجديدة والواقعية الجديدة) والبنائية نقطة الخالف‬
‫الرئيسة يف نظرية العالقات الدولية خالل التسعينيات ‪(Katzenstein, Keohane‬‬
‫)‪ .and Krasner, 1999: 6‬ولكن مثل «النقاش» السابق بني الواقعية الجديدة‬
‫والليربالية الجديدة‪ ،‬انتهى االنقسام العقالين‪-‬البنايئ برتكيب جزيئ‪ ،‬إما مبحاولة الربط‬
‫بني العقالنية الذرائعية والبناء االجتامعي ‪(Finnemore and Sikkink, 1999:‬‬
‫)‪ ،270, 272; Barkin, 2010: 7–8‬وإما بتحديد موقع البنائية بوصفه طريقا وسطا‬
‫‪357‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بني النزعة العقالنية والنزعة االنعكاسية ‪(Refl ectivism Adler, 1997; Fearon‬‬
‫)‪.and Wendt, 2002: 68; Checkel, 2013: 222–3‬‬
‫خالل التسعينيات‪ ،‬اكتسبت البنائية شعبي ًة برسعة‪ ،‬ومرة أخرى‪ ،‬ميكن ربط هذا‬
‫التطور بالتطورات الحاصلة يف العامل الحقيقي للعالقات الدولية (املامرسة)‪ .‬فقد‬
‫فشلت العالقات الدولية السائدة يف التنبؤ بنهاية الحرب الباردة‪ ،‬وهذا الفشل‪ ،‬جن ًبا‬
‫إىل جنب عدم ظهور توازن محموم ضد الواليات املتحدة‪ ،‬أدى إىل فقدان مصداقية‬
‫النظريات املادية يف نظر الكثريين‪ .‬لقد كان انهيار االتحاد السوفييتي من الداخل‬
‫إىل حد ما يتعلق بانهيار فكرة سياسية أكرث من كونه يتعلق بتغيري يف الظروف‬
‫املادية‪ .‬فعندما انهار‪ ،‬كان االتحاد السوفييتي اليزال ميتلك قوة عسكرية هائلة‪.‬‬
‫وميكن قول اليشء نفسه إىل حد كبري عن استسالم نظام الفصل العنرصي يف جنوب‬
‫أيضا ويف االتجاه املعاكس شهد االتحاد األورويب‬‫أفريقيا‪ ،‬وخالل أوائل التسعينيات ً‬
‫أيضا ظهور سياسات الهوية املكثفة يف دول االتحاد‬ ‫تقدما‪ .‬وقد شهدت التسعينيات ً‬
‫السوفييتي السابق والدول التي خلفت يوغوسالفيا‪ .‬ومل تكشف هذه األحداث عن‬
‫الدور الكبري لألفكار والهويات يف حقل العالقات الدولية فقط‪ ،‬بل أشارت ً‬
‫أيضا إىل‬
‫إمكانية حدوث تغيري سلمي كبري يف املجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫اف أكرب بالجهات الفاعلة‬‫يف البداية‪ ،‬أظهرت البنائية إمكانية واضحة لتأمني اعرت ٍ‬
‫غري الغربية‪ .‬فغال ًبا ما تلجأ الدول الضعيفة التي تفتقر إىل القوة املادية إىل العمل‬
‫املعياري والفاعلية لتحقيق قدر من االستقاللية وإعادة تشكيل سياسات السلطة‪.‬‬
‫ويالحظ دونالد بوشاال (‪ )Donald Puchala 1995: 151‬أنه بالنسبة إىل بلدان‬
‫العامل الثالث‪ ،‬تعترب األفكار واأليديولوجيات أكرث أهمية بكثري من القوة أو الرثوة‪،‬‬
‫ألن «انعدام القوة» و«التوزيع غري املتكافئ لرثوة العامل» هام «ثوابت» تحرك‬
‫الشؤون العاملية‪ .‬تسمح البنائية أيضا بإمكانية التعاون يف غياب املؤسسات الرسمية‬
‫والقانونية القوية‪ .‬إذ ميكن نرش آلياتها السببية الرئيسة للتغيري‪ ،‬وخصوصا األفكار‬
‫واملعايري‪ ،‬من دون منظامت رسمية ذات بريوقراطيات كبرية ودامئة مثل االتحاد‬
‫األورويب (‪ .)Acharya, 2001a, 2009‬وهذا يعني أن البنائية ميكن أن ترصد عديدا‬
‫من أنواع التعاون الدويل واإلقليمي املوجودة يف العامل الثالث‪ .‬الواقع أن رسعان ما‬
‫انترشت هذه املقاربة يف حقل العالقات الدولية داخل األَ ْط َراف‪ ،‬خاصة مع ظهور‬
‫‪358‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫دعاة مؤثرين يف الصني (‪ )Qin, 2009, 2011a, 2016‬وعديد من األماكن أخرى‪.‬‬


‫لكن برغم تحديها لعقالنية الواقعية الجديدة والليربالية الجديدة‪ ،‬مل تستطع‬
‫البنائية أن ترتقي عىل نح ٍو كامل فوق امليل إىل تجاهل الفاعلني غري الغربيني‪ .‬فقد‬
‫أشار أميتاف أشاريا (‪ )2009 ,2004‬إىل ميل النظرية إىل تفضيل العاملية األخالقية‬
‫للفاعلني الغربيني العابرين للحدود يف رشح انتشار املعايري يف السياسة العاملية‪.‬‬
‫ويبدو األمر كأن جميع األفكار الكبرية تأيت من الغرب‪ ،‬وتنقلها عىل نح ٍو أسايس‬
‫الحركات الغربية العابرة للحدود‪ ،‬أما الجهات الفاعلة غري الغربية فهي مجرد متلقية‬
‫خاملة‪ .‬يردد هذا أصداء رؤى املدرسة اإلنجليزية كام يطرحها كالرك (‪ )2007‬وأندرو‬
‫هوريل (‪،)Andrew Hurrell 2007: 111–14; see also Armstrong, 1998‬‬
‫وهي أن الجهات الفاعلة غري الحكومية التي تتزايد يف ملء املجتمع املدين العاملي‬
‫هي يف األساس غربية‪ ،‬وتعمل عىل تعزيز الهيمنة الغربية من خالل إبراز القيم‬
‫الغربية‪ .‬وردًا عىل ذلك‪ ،‬ح َّول أميتاف أشاريا (‪ )2009 ,2004‬تركيز األبحاث املعيارية‬
‫البنائية من سؤال‪« :‬ما إذا كانت األفكار مهمة»‪ ،‬إىل سؤال‪« :‬أفكا ُر َمنْ هي املهمة؟»‪.‬‬

‫‪ - 2 - 5‬املدرسة اإلنجليزية‬
‫عىل عكس الواقعية والدراسات األمنية الدولية والليربالية‪ ،‬مل يكن لنهاية‬
‫الحرب الباردة أي آثار فورية يف املدرسة اإلنجليزية‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬ش َّكلت فرتة‬
‫التسعينيات وما بعدها وقتًا تجاوزت فيه املدرسة اإلنجليزية قاعدتها الرئيسة يف‬
‫ً‬
‫رسوخا عامل ًّيا كمقاربة رئيسة لحقل العالقات‬ ‫املركز ‪ -‬اإلنجليزي وأصبحت أكرث‬
‫ً‬
‫تنظياًم ومتكنت‬ ‫الدولية‪ .‬لقد حدث هذا جزئ ًّيا ألن املدرسة اإلنجليزية أصبحت أكرث‬
‫من تعزيز حضورها عىل نح ٍو واضح يف مؤمترات حقل العالقات الدولية‪ .‬لكن مثة‬
‫أيضا‪ .‬أو ًاًل‪ ،‬أسهم انتشار البنائية داخل الواليات‬
‫تطوران آخران ساعداها يف ذلك ً‬
‫املتحدة يف فتح الطريق أمام املدرسة اإلنجليزية (‪ .)Dunne, 1995‬فالبنائية إىل ح ٍد‬
‫ما خففت من سطوة نظرية املعرفة الوضعانية‪ ،‬مام س َّهل الطريق ألولئك املهتمني‬
‫بالطرق التاريخية والبنيوية االجتامعية لتفكري العالقات الدولية‪ .‬ومنذ العام ‪2003‬‬
‫كان هناك قسم للمدرسة اإلنجليزية داخل جمعية الدراسات الدولية‪ ،‬وأصبحت‬
‫املدرسة اإلنجليزية أكرث قبو ًاًل يف الواليات املتحدة بوصفها مقاربة رئيسة لحقل‬
‫‪359‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫العالقات الدولية‪ ،‬وإن كان عدد من يتبناها قليل‪ .‬أما التطور الثاين فتجسد يف‬
‫االنفتاح والتوسع الرسيع لحقل العالقات الدولية داخل الصني‪ .‬لقد اهتم املجتمع‬
‫األكادميي لحقل العالقات الدولية الذي ُط ِّور حدي ًثا يف الصني باملدرسة اإلنجليزية‬
‫(‪ )Zhang, Y., 2003; Zhang, X., 2010‬وإن كان من طرف عدد قليل‪ ،‬وجاء هذا‬
‫االهتامم نتيجة لثالثة أسباب‪ .‬يتمثل السبب األول يف أن املدرسة اإلنجليزية شجعت‬
‫املقاربات التاريخية والثقافية‪ ،‬حيث كان عديد من الباحثني الصينيني حريصني‬
‫عىل إقحام تاريخهم ونظريتهم السياسية يف حقل العالقات الدولية‪ .‬أما السبب‬
‫الثاين فيتمثل يف أن تسمية «املدرسة اإلنجليزية» قد يبدو أنه ُم َ ِّرَب ٌر إلنشاء مدارس‬
‫وطنية لنظرية حقل العالقات الدولية‪ .‬وعىل الرغم من أنه يصعب وصف املدرسة‬
‫اإلنجليزية بأنها مدرسة وطنية‪ ،‬فإن ذلك مل مينع استخدامها لدعم تطوير ما يسمى‬
‫بـ «املدرسة الصينية» (‪.)Wang and Buzan, 2014; Zhang and Chang, 2016‬‬
‫أما السبب الثالث فقد متثل ببساطة يف أن املدرسة اإلنجليزية مل تكن أمريكية‪ :‬ففي‬
‫حريصا عىل أن يكون‬
‫ً‬ ‫حني أن مجتمع حقل العالقات الدولية الصيني الجديد كان‬
‫يف طليعة نظرية العالقات الدولية‪ ،‬فإنه مل يرغب يف الوقت نفسه يف أن يصبح‬
‫مستعمرة فكرية للواليات املتحدة‪ .‬وبهذا املعنى‪ ،‬أصبحت املدرسة اإلنجليزية‬
‫تشكل جز ًءا من التحدي املتزايد للهيمنة العاملية لحقل العالقات الدولية األمرييك‪.‬‬
‫ومن منظور خارجي‪ ،‬كان حقل العالقات الدولية األمرييك ميثل نوعًا من «املدرسة‬
‫الوطنية»‪ ،‬عىل الرغم من أن مثة قلة من األمريكيني فقط ممن رأوا أنشطتهم‬
‫الخاصة وفق هذا املنظور‪.‬‬
‫مع تزايد االهتامم العاملي باملدرسة اإلنجليزية‪ ،‬حل جيل جديد من الباحثني‬
‫محل اآلباء ا ُمل َؤ ِّس ِسني‪ ،‬حيث حافظ هذا الجيل الجديد عىل بعض التقاليد كام فتح‬
‫بعض اآلفاق الجديدة‪ .‬وقد ظلت مقاربة املدرسة اإلنجليزية الشاملة واملعيارية‬
‫خالل النقاش بشأن النظام ‪ /‬العدالة (التعددية‪ /‬التضامن) وسيلة قوية ومؤثرة للنظر‬
‫نشطا يف النقاشات الواسعة‬ ‫إىل النظام العاملي‪ ،‬وظلت املدرسة اإلنجليزية طرفا ً‬
‫بشأن حقوق اإلنسان خالل فرتة التسعينيات (;‪e.g. Dunne and Wheeler, 1999‬‬
‫)‪ .Wheeler, 2000; Hurrell, 2007‬وكان للمدرسة اإلنجليزية انطالقة جديدة‬
‫تتمثل يف أن املقاربة البنيوية للمجتمع الدويل‪ ،‬ا ُملت ََضمنة بوضوح يف تحليل هيديل‬
‫‪360‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫بول (‪ ،)1977‬قد ُأع ِلن عنها رصاحة و ُو ِضعت جن ًبا إىل جنب املقاربة املعيارية‬
‫للمدرسة (‪ .)Buzan, 2004b; Holsti, 2004‬وعىل األقل جزئ ًّيا خالل استجابتها‬
‫للعمل داخل بيئة حقل العالقات الدولية األمرييك‪ ،‬أصبحت املدرسة اإلنجليزية‬
‫أكرث وعيا من الناحية املنهجية (‪ .)Navari, 2009‬إذ كان لها اهتامم أكرب باستكشاف‬
‫املؤسسات األساسية؛ واملجتمع العاملي؛ واملجتمع الدويل عىل املستوى اإلقليمي؛‬
‫كام كان لها مزيد من االهتامم مبعارضة التفسري ذي املركزية األوروبية بشأن توسع‬
‫املجتمع الدويل إىل النطاق العاملي‪ ،‬والوارد يف األدبيات الكالسيكية(٭)‪ .‬وخالل‬
‫استجابتها للنظام العاملي أحادي القطب املفرتض الذي نشأ خالل التسعينيات‪،‬‬
‫اهتمت املدرسة اإلنجليزية أكرث بالهيمنة والتسلسل الهرمي ;‪(Dunne, 2003‬‬
‫)‪ ،Clark, 2011; Buzan and Schouenborg, 2018‬وهي أحد جوانب املجتمع‬
‫الدويل التي أثارت فضول آدم واتسون ومارتن وايت ‪ ،Martin Wight‬ولكن‬
‫هُ ِّمشت تلك الجوانب داخل املدرسة ملصلحة مقاربة املساواة يف السيادة بالنسبة‬
‫إىل املجتمع الدويل (‪.)Watson, 2001‬‬
‫وفق طرق مختلفة‪ ،‬بدأت املدرسة اإلنجليزية يف استيعاب قضايا وطروحات‬
‫العامل الثالث أكرث مام كانت عليه من قبل‪ .‬فقد ُت ُبنِّيت فكرة املجتمع الدويل عىل‬
‫املستوى اإلقليمي‪ ،‬وخاصة يف أمريكا الالتينية (‪ُ .)Merke, 2011‬وأثريت تساؤالت‬
‫عديدة بشأن مدى مالءمة مقاربة «الوحدات املتشابهة» للمجتمع الدويل نظ ًرا إىل‬
‫االختالفات املهمة جدا بني التاريخ والثقافة والتنمية االقتصادية والسياسية عىل‬
‫مستوى األعضاء (‪ .)Buzan and Schouenborg, 2018‬وقد دفع نقد املركزية‬
‫األوروبية يف قصة التوسع هذه نحو تفسري أكرث عدالة وعاملية بشأن كيفية تشكيل‬
‫املجتمع الدويل ‪(Keene, 2002; Buzan and Little, 2014; Dunne and Reus-‬‬
‫)‪ .Smit, 2017a‬إن مخاوف الجيل األول حيال «الثورة عىل الغرب» مل تستمر‪.‬‬
‫وعىل العكس من ذلك‪ُ ،‬ب ِذل مزيد من الجهد لفهم البنى االجتامعية للعامل الذي‬
‫بسط عليه األوروبيون نفوذهم خالل القرن التاسع عرش ‪(Suzuki, 2009; Suzuki,‬‬
‫)‪ .Zhang and Quirk, 2014‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬ظل تركيز املدرسة اإلنجليزية ُمنص ًّبا‬
‫(٭) للحصول عىل ملخصات ومصادر بشأن كل هذا‪ ،‬انظر‪[ .)Buzan 2014( :‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بداًل من األَ ْط َراف‪ ،‬وكان هذا ينطبق عىل كل من املجتمع‬


‫يف األغلب عىل املَ ْر َكز ً‬
‫الدويل واملجتمع العاملي‪ .‬إن عملها ضد هذا اإلهامل املستمر تجسد يف إعطائها‬
‫تفضيال للقوى الكربى باعتبارهم الصناع واملديرين الرئيسني للنظام الدويل‪ .‬ونظ ًرا‬
‫إىل أن البلدان النامية مثل الهند وخاصة الصني شقت طريقها لرتتقي إىل مصاف‬
‫القوى الكربى‪ ،‬فقد أصبحت تلك القوى‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬تحظى برتكيز كبري يف‬
‫منظورات املدرسة اإلنجليزية (‪.)Zhang, Y., 1998; Zhang, X., 2011a, b‬‬

‫‪ - 2 - 6‬النظريات النقدية‬
‫لطروحات إىل حقل‬
‫ٍ‬ ‫مثل البنائية‪ ،‬كانت النظرية النقدية(٭) عبارة عن استريا ٍد‬
‫العالقات الدولية من خارج التخصص‪ ،‬حيث كانت وبطرق عديدة متثل منهجية أو‬
‫طريقة تفكري بشأن هذا املجال املعريف أكرث من كونها نظرية يف حد ذاتها للعالقات‬
‫الدولية‪ .‬مل تكن النظرية النقدية نظرية فريدة من نوعها خالل فرتة التسعينيات‪ .‬إذ‬
‫كانت لها جذور يف التفكري املاركيس السابق بشأن العالقات الدولية‪ ،‬خصوصا عند‬
‫وأيضا يف مختلف فروع الفلسفة السياسية وعلم االجتامع‪ ،‬وال سيام يف باريس‬ ‫غراميش‪ً ،‬‬
‫تأتية من الجانب الراديكايل ألبحاث السالم‪ .‬لقد‬ ‫وفرانكفورت؛ كام كان لها أيضا جذو ٌر ُم ٌ‬
‫احتلت النظريات النقدية مكانة بارزة يف حقل العالقات الدولية خالل الثامنينيات‪،‬‬
‫وبحلول التسعينيات كانت يف وضع ميكنها من تقديم نفسها باعتبارها بديال جذريا‬
‫لتيار حقل العالقات الدولية السائد يف «النقاش الثالث» الذي شهده هذا التخصص‬
‫(مثة مزيد بشأن هذا النقاش الحقا)‪ .‬وهذا القسم ال يتسع للكشف عن التنوعات‬
‫والتعقيدات التي ال تعد وال تحىص للنظرية النقدية والتي تتشابك مع نظريات ما بعد‬
‫الحداثة؛ وما بعد البنيوية؛ والجوانب األكرث راديكالية من البنائية؛ والدراسات األمنية؛‬
‫والنسوية (‪ .)see Devetak, 1996a‬أما نظرية ما بعد االستعامرية‪ ،‬فهي تحافظ عىل‬
‫مسافة من هذه النظريات النقدية ألسباب ستُنا َقش الح ًقا يف هذا الفصل‪.‬‬
‫كانت النظرية النقدية مدفوعة بالرغبة يف تغيري العامل‪ ،‬وذلك من خالل التفكري‬
‫بشأنه عىل نح ٍو مختلف‪ .‬لقد كان تحديها للتيار السائد تحد ًيا معيار ًّيا وإبستمولوج ًّيا‬
‫(٭) «النظرية النقدية» ‪ ،Critical Theory‬باألحرف العلوية‪ ،‬عادة ما تشري إىل مدرسة فرانكفورت‪ ،‬ولكن هنا‬
‫نستخدم املصطلح لتضمني مجموعة متنوعة من النظريات التي عادة ما توضع باألحرف السفلية يف األدب‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪362‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫(معرفيا)‪ ،‬مع تداخل االثنني بطرق معقدة‪ .‬وكان التوتر والت َباعُ د القائم بني ُمن َِّظري‬
‫حقل العالقات الدولية املهيمنني واملنظرين النقديني أقوى عىل نح ٍو عام من ذلك‬
‫التوتر والت َباعُ د الذي كان قامئا بني ُمن َِّظري حقل العالقات الدولية املهيمنني وا ُملنَظرين‬
‫اتهامات بأن النظريات النقدية «األيديولوجيا البديلة‪ ،‬للتفسري بـ‪/‬‬ ‫ٍ‬ ‫البنائيني‪ ،‬مع‬
‫واالنخراط يف التفكري الرغبوي غري املقيد بالواقع» ‪(Viotti and Kauppi, 2011:‬‬
‫)‪ .336‬رمبا يكون التحدي املعياري ا ُملتأيت من النظرية النقدية قد ُر ِصد عىل نح ٍو‬
‫جيد من خالل متييز روبرت كوكس (‪ )1981: 128–30‬بني حل املشكالت والنظرية‬
‫النقدية‪ ،‬حيث يعمل األول (حل املشكالت) ضمن األصول التقليدية القامئة من‬
‫أجل تحسني تلك املشكالت‪ ،‬بينام يعمد األخري (النظرية النقدية) إىل التشكيك فيها‬
‫والبحث عن بدائل(٭)‪ .‬فنظرية العالقات الدولية‪ ،‬كام وصفها كوكس يف مقولته‬
‫الشهرية (‪« ،)1986: 207‬هي دامئًا لشخص ما ولغرض ما»‪ .‬لقد اعرتض ا ُملنَظرون‬
‫النقديون عىل إقصاء وهيمنة أي مجموعات اجتامعية عىل أساس الجنس؛ والعرق؛‬
‫والجندر؛ والطبقة وما إىل ذلك‪ ،‬وجعلوا من فكرة االنعتاق املتجذرة يف عرص التنوير‬
‫مصدر اهتامم مركزي (‪ .)Devetak, 1996a: 166‬يجادل لينكالتر –‪(1996: 280‬‬
‫)‪ 1‬بأن «املعرفة باملجتمع تكون غري مكتملة إذا كانت تفتقر إىل غاية االنعتاق»؛‬
‫أشكااًل جديدة من املجتمع السيايس التي‬ ‫ً‬ ‫ومن ثم فإن النظرية النقدية «تتصور‬
‫ُت ْج ِري قطيعة مع اإلقصاء غري ا ُمل َرَبر»‪ .‬وعىل عكس املاركسية التقليدية التي ركزت‬
‫عىل القوى االقتصادية التي تشكل التاريخ وهامشية الطبقة العاملة ضمن منط‬
‫اإلنتاج‪ ،‬فإن النظرية النقدية تويل اهتام ًما للمجموعات املستبعدة األخرى من خالل‬
‫«تحليل مجموعة متنوعة من القوى‪ ،‬مبا يف ذلك قوى اإلنتاج‪ ،‬التي تشكل مالمح‬
‫التاريخ البرشي» (‪.)Linklater, 1996: 280‬‬
‫لقد كان التحدي اإلبستمولوجي (املعريف) أوسع نطاقا‪ .‬فقد شكك ا ُملن َِّظ ُرون‬
‫النقديون يف مدى مالءمة املقاربات الوضعانية كأسس لفهم العامل االجتامعي‪.‬‬
‫حيث أنكروا فكرة وجود حقيقة موضوعية يف تلك املقاربات‪ ،‬ومن ثم أنكروا‬
‫«تحليل محاي ٍد سياس ًّيا لواقع خارجي» (‪ .)Linklater, 1996: 295‬لقد رأوا‬ ‫ٍ‬ ‫إمكانية‬
‫(٭) كان متييز آشيل (‪ )6-175 :1980‬بني «العقالنية التقنية» و«العقالنية املناسبة» يضطلع بالعمل نفسه‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪363‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أن املعرفة دامئًا ما تتلون بقيم متأصلة ال مفر منها و«أهداف ومصالح اجتامعية‬
‫موجودة مسب ًقا» (‪ .)Linklater, 1996: 279‬وقد أرادوا مقاربات أكرث شمولية‬
‫وتاريخية وأكرث إنسانية (عىل عكس تلك املتمركزة حول الدولة)‪ ،‬مؤكدين عىل‬
‫املعارضة والتفسري‪ .‬وباالعتامد عىل أعامل ميشيل فوكو‪ ،‬صقل باحثو ما بعد البنيوية‬
‫الجينيالوجيا‪ ،‬وهو «أسلوب من الفكر التاريخي يفضح ويسجل أهمية عالقات‬
‫قصيت من‬ ‫وغ ِّطيت أو ُأ ِ‬
‫السلطة باملعرفة»‪ ،‬و ُيربز «تلك األشياء أو األفكار التي ُد ِفنَت ُ‬
‫العرض يف أثناء كتابة وصنع التاريخ» (‪ .)Devetak, 1996b: 184‬وقد دافع ريتشارد‬
‫آشيل (‪ )1996: 246‬من أجل «ابتكار وتطوير األساليب التفكيكية؛ والجينيالوجية؛‬
‫والتفسريية‪-‬التحليلية وغريها من األساليب» التي عىل الرغم من استشكالها فكرة‬
‫املنهجية‪ ،‬فإنها تتيح استكشا ًفا ُمتعم ًقا وصار ًما ونقدا واع ًّيا لألحداث واألنشطة يف‬
‫وقت واحد‪ ،‬مام يفرض تجاوز حدود اإلمكانية االجتامعية‪.‬‬
‫رمبا كانت النظرية النقدية‪ ،‬مثل البنائية‪ ،‬متثل عىل نح ٍو أسايس استجابة لعدم الرضا‬
‫عن الخصائص املعيارية واإلبستمولوجية (املعرفية) لنظرية العالقات الدولية السائدة‪،‬‬
‫وال سيام الواقعية‪ .‬وكام يتضح من أعامل آشيل وكوكس‪ ،‬فقد كان هذا االستياء موجودًا‬
‫خالل الحرب الباردة‪ .‬ونظ ًرا إىل إخفاقات الواقعية وعدم اتساقها‪ ،‬فقد اكتسبت النظرية‬
‫النقدية نطا ًقا أوسع بعد العام ‪ .1989‬وكام يقول ديفيد كامبل (‪:)2013: 226‬‬
‫«كان الباحثون النقديون غري راضني عن الطريقة التي ظلت بها الواقعية‬
‫‪ -‬وإحيائها يف ذلك الوقت من خالل الواقعية الجديدة ‪ -‬قوية يف مواجهة‬
‫التحوالت العاملية‪ .‬لقد شعر هؤالء الباحثون بأن الواقعية همشت أهمية‬
‫الفواعل والقضايا والعالقات عرب الوطنية الجديدة‪ ،‬وفشلت يف سامع (فضال‬
‫عن تقدير) أصوات الشعوب ووجهات النظر املقصية‪ .‬وعىل هذا النحو‪ ،‬بدأت‬
‫ما بعد البنيوية باهتامم أخالقي لتشمل أولئك الذين تجاهلهم وأقصاهم التيار‬
‫السائد لحقل العالقات الدولية»‪.‬‬
‫أيضا استجاب ًة لألحداث الجارية يف العامل الحقيقي‪.‬‬ ‫لكن النظرية النقدية جاءت ً‬
‫فقد تطورت نظرية روبرت كوكس جزئ ًّيا استجاب ًة‪:‬‬
‫«ألزمة التعددية التي ظهرت خالل الثامنينيات بسبب ميل الواليات املتحدة‬
‫وبعض الدول القوية األخرى إىل رفض األمم املتحدة باعتبارها أداة للعمل الدويل‪،‬‬
‫‪364‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫و َت َحرك هذه الدول نحو األحادية أو الهيمنة الجامعية يف الشؤون االقتصادية‬


‫والسياسية العاملية» (‪.)R. W. Cox, 1981: 137‬‬
‫كان إسهام روبرت كوكس يف النظرية النقدية مميزا (بالنسبة إىل النظريات‬
‫النقدية األخرى باستثناء ما بعد االستعامرية) عرب تسليطها الضوء عىل تهميش‬
‫العامل الثالث‪ .‬حيث يسلط كوكس الضوء عىل تأثري انخفاض املساعدات من‬
‫الدول الغنية إىل الدول الفقرية نتيجة األزمة االقتصادية يف منتصف السبعينيات؛‬
‫واالعتامد املتزايد عىل رشوط املعونة؛ وتحرير السوق الحرة والخصخصة كام تتبعها‬
‫«املؤسسات الرئيسة لالقتصاد العاملي التي يهيمن عليها الغرب» مثل صندوق النقد‬
‫الدويل والبنك الدويل؛ والرصاع بني الشامل والجنوب الناشئ عن مقاومة الهيمنة‬
‫االقتصادية الغربية من طرف دول العامل الثالث التي تعمل من خالل الجمعية‬
‫العامة لألمم املتحدة؛ وفقدان الدعم السوفييتي للعامل الثالث بسبب مشاكله‬
‫الداخلية التي شهدها منذ الثامنينيات (‪ .)R. W. Cox, 1981: 137‬واستمرت هذه‬
‫املخاوف خالل التسعينيات‪ ،‬حيث قدم كل من نظام األحادية القطبية والعوملة‬
‫النوع نفسه من القوة للنظرية النقدية مثلام فعل متا ًما مع الليربالية‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل جعل العامل يبدو أشبه مبا تطرحه نظرياتهم‪ .‬ولكن برصف النظر عن روبرت‬
‫كوكس )‪ ،(see also Cox and Sinclair, 1993, 1996‬مل تركز النظرية النقدية عىل‬
‫نح ٍو عام عىل العامل غري الغريب ومصائب اإلمربيالية واالستعامر‪ .‬ويتمثل نقد ما بعد‬
‫االستعامرية للنظريات النقدية يف أنها التزال ُتركز عىل التنوير األورويب‪ ،‬وأنها نظرية‬
‫أيضا ما بعد‬ ‫بداًل من كونها نسبية (‪ .)Krishna, 1993‬وقد نقدت املاركسية ً‬ ‫عاملية ً‬
‫االستعامرية ألسباب مامثلة (‪ .)Kennedy, 1996: 348; Chibber, 2013‬فعىل حد‬
‫تعبري لينكالتري (‪« ،)1996: 296‬تحافظ النظرية النقدية عىل إميانها مبرشوع التنوير‬
‫وتدافع عن العاملية يف منوذجها للحوار املفتوح ليس فقط بني املواطنني‪ ،‬ولكن عىل‬
‫نح ٍو أكرث جذرية بني جميع أفراد الجنس البرشي»‪.‬‬
‫فرع درايس داخل الدراسات‬ ‫وكام ُذكر سابقا‪ ،‬نجحت النظرية النقدية يف تأسيس ٍ‬
‫األمنية‪ُ ،‬م َر ِّكزة بذلك عىل االنعتاق باعتباره رضور ًّيا لألمن مبعناه العميق‪ ،‬و ُم َركزة‬
‫بداًل من األمن القومي‪ .‬وهو املجال اآلخر الذي مارست فيه املقاربة‬ ‫عىل اإلنسان ً‬
‫النسوية دورا مؤثرا‪.‬‬
‫‪365‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 2 - 7‬النسوية‬
‫مثل النظرية النقدية‪ ،‬اكتسبت النسوية ً‬
‫زخاًم خالل الثامنينيات‪ ،‬وهي الفرتة‬
‫التي شهدت صعود الحركات النسوية يف جميع أنحاء العامل‪ ،‬وظهور النظرية‬
‫النسوية يف العلوم االجتامعية عىل نح ٍو عام‪ .‬شاركت املقاربة النسوية اهتاممات‬
‫النظرية النقدية بشأن االنعتاق؛ ومصادر املعرفة؛ والعالقة بني املعرفة والسلطة؛‬
‫وهيمنة مركزية الدولة يف تفكري حقل العالقات الدولية‪ .‬ومثل النظرية النقدية‬
‫أيضا‪ ،‬جاءت النسوية كرد فعل ضد أوجه القصور واالختالالت والتسلسل الهرمي‬ ‫ً‬
‫والتحيزات التي شابت نظرية العالقات الدولية السائدة (‪.)Sylvester, 1994‬‬
‫لكن النسوية مل تكن عىل نح ٍو كامل جز ًءا من النظرية النقدية‪ .‬حيث توجد‬
‫لدى النسوية خيوط تفكري يف نظريات العالقات الدولية كالليربالية والبنائية‬
‫باإلضافة إىل نظريات ما بعد البنيوية وما بعد االستعامرية (‪Tickner and‬‬
‫‪ .)Sjoberg, 2013‬لقد انصب تركيز النسوية عىل الجندر باعتباره فئة منفصلة‬
‫من التحليل تختلف عن الفئات األخرى مثل العرق والطبقة‪ ،‬ألن الجندر يرسي‬
‫عىل جميع الفئات األخرى‪ .‬وبالنسبة إىل الباحثني النسويني يف حقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬فإن الجندر هو «الطريقة األساسية للداللة عىل عالقات القوة ليس‬
‫فقط يف املنزل‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا يف عامل السياسة الخارجية والعالقات الدولية» ‪(Viotti‬‬
‫)‪ .and Kauppi, 2011: 363‬ووفق النسويني‪ ،‬فإن معظم املعرفة ُتنشأ من ِقبل‬
‫الرجال (‪ .)Tickner and Sjoberg, 2013: 207‬وتهتم نظرية العالقات الدولية‬
‫النسوية بكيفية تأثري هذه العالقة يف نظرية ومامرسة العالقات الدولية‪ .‬ففي‬
‫مقال إِبدا ِعي‪ ،‬دحضت جي‪ .‬آن تيكرن )‪ (J. Ann Tickner 1997: 612‬أولئك‬
‫الذين تساءلوا عام إذا كان «الجندر له عالقة بتفسري سلوك الدول يف النظام‬
‫الدويل» ورفضت االدعاء القائل بأن النسوية ليست معنية بحل مشاكل «العامل‬
‫الحقيقي»‪ ،‬مثل تلك الحاصلة يف البوسنة أو أيرلندا الشاملية‪ ،‬أو مشاكل االنتشار‬
‫النووي‪ .‬وقد أظهرت آن تاونز ‪(Ann Towns 2009: 683; see also Towns,‬‬
‫)‪ 2010‬كيف أنه خالل القرن التاسع عرش «استُبعدت املرأة عىل نطاق واسع من‬
‫السياسة»‪ ،‬و ُربطت أدوار املرأة يف السياسة بـ «الوحشية»‪ ،‬وأصبح إقصاء اإلناث‬
‫من السياسة و«الحضارة» معيا ًرا غري رسمي «للحضارة»‪.‬‬
‫‪366‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫ومثل الليربالية‪ ،‬اكتسبت الحركة النسوية قوتها من االنفتاح الذي حصل خالل‬
‫التسعينيات‪ .‬فقد أتاحت العوملة وإزالة هواجس الحرب الباردة املتعلقة باألمن‬
‫مجااًل أكرب للنظر يف مجموعة واسعة من القضايا والجهات الفاعلة‪.‬‬ ‫القومي والردع ً‬
‫فعىل سبيل املثال‪ ،‬أتاحت هذه الفرتة فرصة أكرب لألصوات النسوية‪ ،‬ال سيام يف‬
‫تشكيل أجندة املؤسسات الدولية واعرتافها بأهمية الجندر يف السياسة العاملية‪.‬‬
‫إذ كانت التحالفات النسوية قادرة عىل الضغط من أجل االعرتاف بحقوق املرأة‬
‫باعتبارها من حقوق اإلنسان‪ ،‬وتحدي االغتصاب والعنف ضد املرأة كأداة حرب‬
‫تتبناها األنظمة والجامعات يف مناطق النزاع (‪ .)True, 2017‬وكمثل النظرية‬
‫النقدية‪ ،‬وبرتديدها لبعض طروحات أبحاث السالم‪ ،‬فتحت الحركة النسوية ً‬
‫مجااًل‬
‫مهاًم يف الدراسات األمنية (‪ .)see Buzan and Hansen, 2009: 208–12‬فقد‬ ‫ً‬
‫اتخذ النسويون نظرة أوسع للرصاع والعنف‪ ،‬مبا يف ذلك «األبعاد االقتصادية وقضايا‬
‫العنف البنيوي»‪ ،‬وركزوا عىل نح ٍو أكرب عىل «عواقب الحرب ً‬
‫بداًل من الرتكيز عىل‬
‫أسبابها» (‪ .)J. A. Tickner, 1997: 625–6‬وقد قدمت لورا سجوبرغ ‪(Laura‬‬
‫)‪ Sjoberg 2012‬حجة طموحة ترى أن التسلسل الهرمي للجندر هو سمة بنيوية‬
‫للسياسة العاملية ميكنه تقديم تفسري أفضل للحرب من ذلك الذي تقدمه البنية‬
‫الفوضوية للنظام الدويل كام يطرحها كنيث والتز‪.‬‬
‫وعىل نح ٍو عام‪ ،‬قدمت وجهات النظر النسوية إسهامات مهمة ليس فقط‬
‫أيضا من‬‫من خالل فضح الطبيعة اإلقصائية لتنظري حقل العالقات الدولية‪ ،‬ولكن ً‬
‫خالل تقديم طرق تفكري تتعلق بكيفية التغلب عىل ذلك التهميش‪ .‬بهذا املعنى‪،‬‬
‫تعمل النسوية بقوة من أجل عبور الحواجز القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ .‬هناك‬
‫مقارنة مثرية لالهتامم بني الطريقة التي مارس بها الجندر والعرق دورا يف العالقات‬
‫الدولية‪ .‬فقبل الهجرات الجامعية يف العرص الحديث عىل وجه الخصوص‪ ،‬كانت‬
‫االختالفات العرقية القامئة بني املجتمعات أقوى بكثري عىل نح ٍو عام من تلك‬
‫االختالفات العرقية القامئة داخل املجتمعات‪ .‬وهكذا كانت العنرصية ً‬
‫عاماًل‬
‫قو ًّيا للغاية يف التمييز بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف خالل الحقبة االستعامرية‪ ،‬والتزال‬
‫الذاكرة املريرة لذلك الوضع متارس دو ًرا قويا يف السياسة العاملية‪ .‬وعىل النقيض‬
‫من ذلك‪ ،‬وكام تالحظ لورا سجوبرغ (‪ ،)laura sjoberg 2012: 7‬فإن السامت‬
‫‪367‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫السلوكية الذكورية والنسوية والتسلسالت الهرمية املرتبطة بها‪ُ ،‬تظهر «أوجه‬


‫تشابه مفاجئة عرب التاريخ املسجل» خصوصا يف الحضارات الكربى‪ .‬وألن امتياز‬
‫الجندر كان ُمُيا َرس عىل نطاق واسع داخل القوى الكربى يف النظام الدويل‪ ،‬فإنه مل‬
‫يخلق بوضوح وضع التاميز بني الدول واملجتمعات التي ز َّودت النزعة العنرصية‬
‫بقدرة تأثري كبري يف املجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫لكن التحدي الذي يواجه األبحاث األكادميية النسوية يكمن يف سد الفجوة بني‬
‫األبحاث األكادميية التي يهيمن عليها الغرب ونظرية ما بعد االستعامرية‪ ،‬مبا يف‬
‫ذلك الحركة النسوية مابعد االستعامرية‪ .‬فبينام جادل بعض النسويني بأنه ميكن‬
‫مصطلحا لجميع أنواع الفاعلني املضطهدين ملساعدتهم عىل‬ ‫ً‬ ‫استخدام النسوية‬
‫االرتقاء (‪ ،)True, 1996‬التزال الفجوة بني العرق والجندر قامئة‪ .‬حيث تأسف كل‬
‫من تيكرن وجايك ترو (‪ )2018: 11‬عىل أنه «يف حني أن مثة مجاالت مزدهرة من‬
‫األبحاث األكادميية بشأن العرق والجندر داخل التخصص املعريف للعالقات الدولية‪،‬‬
‫فإننا ناد ًرا ما نجمع هذه املقاربات جن ًبا إىل جنب تحليل الطبقة االجتامعية‬
‫واالقتصادية بغية الكشف عن تصنيف علمي مختلف للقوة العاملية‪ ،‬يختلف عن‬
‫ذلك التصنيف العلمي املهيمن واملتمركز حول الدولة»‪ .‬الواقع‪ ،‬وكام سيتبني ذلك يف‬
‫مناقشتنا لنظرية ما بعد االستعامرية يف هذا الفصل‪ ،‬أن باحثي ما بعد االستعامرية‬
‫اتهموا الدراسات النسوية الغربية بتهميش دور املرأة داخل األَ ْط َراف‪.‬‬

‫‪ - 2 - 8‬النقاشات الكربى‪ :‬الجزء الثالث‬


‫لقد جسد «النقاش الثالث»(٭) ا ُملعقد لحقل العالقات الدولية إىل حد ما‬
‫الرشخ القائم بني النظرية النقدية ونظرية العالقات الدولية السائدة املوصوفة‬
‫سابقا‪ .‬فقد بدأ هذا النقاش خالل الثامنينيات مع خيبة األمل املتزايدة التي خلفتها‬
‫الواقعية الجديدة والليربالية الجديدة وتوليفة «جديد ‪ -‬جديد»‪ ،‬لكنه امتد إىل‬
‫التسعينيات حينام أصبح له تأثري أكرب من خالل تشجيعه عىل مزيد من التنوع يف‬
‫(٭) يفضل أويل ويفر (‪ )1996‬أن يرى أن مثة مناقشتني منذ الثامنينيات‪ .‬وبرصف النظر عن النقاش الثالث بني‬
‫الوضعانيني وما بعد الوضعانيني‪ ،‬فإنه يدعو إىل االعرتاف بالنقاش الرابع الذي يدور حول املقاربات «االنعكاسية»‪ ،‬مثل‬
‫النظرية النقدية‪ ،‬وما بعد الحداثة‪ ،‬وما بعد البنيوية وبعض أشكال من النسوية والبنائية‪ ،‬ضد الرتكيبة «العقالنية»‬
‫للواقعية الجديدة والليربالية الجديدة‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪368‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫نظرية العالقات الدولية‪ .‬كان أحد الدوافع الرئيسة للنقاش الثالث بني العقالنيني‬
‫واالنعكاسيني هو مقال يوسف البيد (‪ )Yosef Lapid 1989‬يف فصلية الدراسات‬
‫الدولية‪ ،‬والذي «أصبح معيا ًرا ملجموعة متنوعة من املناقشات النظرية واملنهجية‬
‫داخل مجال العالقات الدولية»‪ .‬وعىل الرغم من أن هذا املقال مل يشكل الدعوة‬
‫الوحيدة إىل التشكيك يف أسس واتجاه مجال العالقات الدولية يف حقبة ما بعد‬
‫الحرب الباردة‪ ،‬فإنه متكن من التوفيق بني رسديات «النقاشات الكربى» عن أصول‬
‫هذا املجال الدرايس وتطوره مع الدعوة إىل التنوع والتعددية‪ ،‬وهي الدعوة التي‬
‫لعبت عىل الوتر الحساس لدى الكثريين (‪.)Jackson, 2014‬‬
‫تساءل النقاش الثالث بشأن «تفرد الرؤية الوضعانية‪ ،‬وكشف محدودية نظرية‬
‫املعرفة التجريبية‪ ،‬أو عىل األقل‪ ،‬النطاق الضيق لالدعاءات األنطولوجية التي تسمح‬
‫بها»‪ .‬وكجزء من النقاش‪ ،‬ركز ا ُملن َِّظ ُرون النقديون عىل «عدم حيادية املعرفة وسعوا‬
‫إىل فضح املصالح السياسية التي تقوم عليها الوضعانية‪ ،‬وذلك ألجل تقديم إمكانات‬
‫انعتاقية بديلة» (‪ .)Butler, 2010‬يحاجج ييل فريجسون ‪ Yale Ferguson‬وريتشارد‬
‫مانسباخ (‪ )Richard Mansbach 2014‬بأن تأثري النقاش الثالث كان محدودًا يف‬
‫الواليات املتحدة (مقارنة بأوروبا)(٭)‪ .‬حيث إن هذا النقاش «مل يغري آراء الوضعيني‬
‫يف املجاالت الذين مازالوا يهيمنون عىل عديد من اإلدارات واملجالت الرائدة خاصة‬
‫يف الواليات املتحدة»‪ .‬ولكنه عىل نح ٍو عام‪« ،‬أدى إىل توعية الباحثني عىل نح ٍو كبري‪،‬‬
‫وخاصة الباحثني األصغر سنًا‪ ،‬بدور عوامل مثل املعايري والهويات واألفكار واملبادئ»‪.‬‬
‫لقد و َّلد هذا النقاش الثالث تحو ًاًل نحو األفكار وابتعادا عن املادية‪« .‬ونتيجة لذلك‪،‬‬
‫مل يعد باحثو العالقات الدولية‪ ،‬من غري أولئك الذين مازالوا متمسكني بالوضعانية‬
‫الضيقة‪ ،‬يعتقدون أن «الحقائق تتحدث عن نفسها و ُترص عىل أن نويل مزيدًا من‬
‫الرتكيز عىل املعنى وتفسري األحداث التي ُص ِّفيت من خالل العدسات الذاتية»‪.‬‬
‫لقد قدم النقاش الثالث تأط ًريا لتنويع نظرية العالقات الدولية املوصوفة سابقا‪.‬‬
‫وجعل «الفاعل» أكرث برو ًزا و«سلط الضوء عىل محدودية املنظورات «البنيوية»‬
‫مثل الواقعية الجديدة»‪ .‬كام أعطى صو ًتا ملجموعة متنوعة من املقاربات مبا يف‬
‫(٭) جميع االقتباسات الالحقة يف هذه الفقرة مأخوذة من مقال فريغسون ومانسباخ غري املرقم‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ذلك «التيارات املختلفة للبنائية؛ واملدرسة اإلنجليزية؛ والنظرية املعيارية؛ والنظرية‬


‫النقدية؛ والنظرية النسوية؛ وما بعد الحداثة؛ أو نظرية ما بعد االستعامرية»‪.‬‬
‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن النقاشات الكربى لحقل العالقات الدولية‪ ،‬سواء أكان‬
‫املرء يعتربها ثالثة أم أربعة‪ ،‬مل تقدم شيئًا يذكر لجلب الجنوب العاملي إىل «داخل‬
‫النقاش»‪ ،‬مبعنى أنها مل ترث االنتباه إىل تاريخ وأفكار وفواعل املجتمعات غري الغربية‪.‬‬
‫فوصف ويفر (‪ )1996‬للمناقشة الرابعة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ال يضم نظرية ما بعد‬
‫االستعامرية تحت فئة املقاربات «االنعكاسية»‪ ،‬عىل الرغم من أن نقد أبحاث ما‬
‫بعد االستعامرية لإلقصاء ودعوتها إىل االنعتاق ودفاعها عن االنفتاح اإلبستيمولوجي‬
‫(املعريف) واملنهجي‪ ،‬مل يكن أقل قوة من تلك اإلسهامات التي قدمتها النظرية‬
‫النقدية؛ وما بعد البنيوية؛ والنسوية يف هذا الخصوص‪ .‬سيؤدي هذا «االستبعاد من‬
‫قبل ا ُمل ْستَب َعدين» إىل خيبة أمل ما بعد االستعامرية من النظريات النقدية‪ ،‬ومن ثم‬
‫يقود إىل تحديها (‪.)Krishna, 1993‬‬
‫يف اليابان‪ ،‬وقف تفكري حقل العالقات الدولية بعيدًا إىل حد ما عن هذه‬
‫النقاشات النظرية الجارية يف املركز الغريب‪ .‬إذ مل يتعرض حقل العالقات الدولية يف‬
‫اليابان لصدمة خاصة بعد العام ‪ ،1989‬وظل يركز عىل الجانب التجريبي إىل حد كبري‬
‫(‪ .)Inoguchi, 2007, 2009‬وظل حقل العالقات الدولية الياباين مركزا عىل أفكار‬
‫السياسة‪ ،‬وخاصة املتعلقة بإقليمية منطقة آسيا واملحيط الهادئ‪ .‬لقد تم تحدي‬
‫أهمية النزعة السلمية‪ ،‬حتى عندما حل مفهوم األمن اإلنساين محل املفهوم السابق‬
‫لألمن الشامل‪ ،‬مام عكس التحوالت التي شهدتها السياسة الخارجية اليابانية‪ .‬غري أن‬
‫هذه األفكار مل تتحد إلنتاج مقاربة يابانية متميزة لدراسة حقل العالقات الدولية‪.‬‬
‫حيث افتقرت اليابان إىل «املايض العميق» القابل للتوظيف يف نظرية العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬عىل الرغم من أنه من الالفت لالنتباه أنه كان مثة بعض االهتامم بإحياء‬
‫مدرسة كيوتو (‪.)D. Williams, 2004; Goto-Jones, 2005; Shimizu, 2015‬‬
‫وكام هو الحال مع كارل شميت يف الغرب‪ ،‬بدأت االرتباطات بالفاشية ‪ -‬التي حالت‬
‫دون انخراط بعض مفكري ما بني الحربني ‪ -‬يف الرتاجع‪ ،‬خاص ًة أن بعض أفكار أولئك‬
‫املفكرين التزال أفكارا مهمة‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫‪ - 3‬تفكري حقل العالقات الدولية داخل األطراف‬


‫يف هذا القسم سنتطرق إىل تطور نظرية ما بعد الكولونيالية بعد العام ‪،1989‬‬
‫ثم نراجع التطورات األخرى الحاصلة يف األَ ْط َراف من خالل التطرق إىل كل منطقة‬
‫عىل حدة‪.‬‬

‫‪ - 3 - 1‬ما بعد االستعامرية‬


‫كام حاججنا يف الفصل السادس‪ ،‬ظهر حقل العالقات الدولية األكادميي مابعد‬
‫االستعامري خالل الثامنينيات‪ ،‬أي تقري ًبا يف الوقت نفسه الذي بدأت فيه النظريات‬
‫النقدية تكتسب مكانة بارزة يف حقل العالقات الدولية‪ .‬واألهم من ذلك أن ما بعد‬
‫االستعامرية‪ ،‬مثل النسوية متا ًما‪ ،‬تشرتك يف عديد من جوانب النظرية النقدية (عىل‬
‫سبيل املثال تحدي النظريات العقالنية كالواقعية الجديدة والليربالية الجديدة؛‬
‫والتشكيك يف العالقة بني املعرفة والسلطة وإبرازها؛ والسعي إىل تعزيز قيم العدالة‬
‫والسالم والتعددية يف العامل)‪ ،‬بينام تعد يف الوقت نفسه نظرية متاميزة عنها‪ .‬كان‬
‫بعض باحثي ما بعد االستعامرية ينتقدون بعض املصادر الرئيسة للنظرية النقدية‪.‬‬
‫میشل فوكو لتعاطيه مع «أوروبا‬ ‫فقد تحدت غياتري سبيفاك ‪ِ Gayatri Spivak‬‬
‫ككيان منعزل وذايت اإلنتاج‪ ،‬من خالل إهامل الدور املركزي لإلمربيالية يف صنع‬
‫میشل فوكو‬ ‫أوروبا» (‪ .)Ahmad, 1997: 374‬واتهم إدورد سعيد (‪ِ )1994: 278‬‬
‫أيضا بتقديم منظور‬ ‫ليس فقط «بتجاهل السياق اإلمرباطوري لنظرياته»‪ ،‬ولكن ً‬
‫« ُيعزز هيبة النظام االستعامري» ويجعله «ال يقاوم»‪ .‬كام ينتقد سانكاران كريشنا‬
‫(‪ )1993‬النظرية النقدية لبقائها ذات نزعة مركزية أوروبية أو مركزية غربية‪ ،‬وعدم‬
‫اعرتافها بالعامل غري الغريب‪ .‬وبهذا املعنى‪ ،‬فإن ما بعد االستعامرية تتجاوز النظرية‬
‫النقدية يف جانبها االنعتاقي‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬ففي عنارص قرابتها مع النظرية‬
‫النقدية وكذلك لدى األفراد الذين يتبنون هذه املقاربة‪ ،‬متثل ما بعد االستعامرية‬
‫مهاًم للغاية للحواجز القدمية لحقل العالقات الدولية التي كانت قامئة بني‬ ‫انهيا ًرا ً‬
‫املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪.‬‬
‫مثة موضوع آخر مشرتك بني أبحاث ما بعد االستعامرية والنظرية النقدية وهو‬
‫نقد النزعة العاملية الغربية والتأكيد ً‬
‫بداًل من ذلك عىل النسبية الثقافية‪ .‬غال ًبا ما‬
‫‪371‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تكون النزعة العاملية يف العلوم االجتامعية‪ ،‬وتحديدًا يف حقل العالقات الدولية‪،‬‬


‫تعني إسقاط األفكار والقيم والثقافة الغربية عىل بقية العامل‪ .‬ويف حقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬يتجىل هذا يف كيفية اعتبار أفكار املفكرين األوائل مثل ثيوسيديدس؛‬
‫ونيكوال مكيافيليل؛ وتوماس هوبز؛ وإميانويل كانط؛ وجون لوك؛ وآدم سميث‬
‫قابلة للتطبيق عىل جميع الدول واملجتمعات‪ .‬إن املفاهيم الغربية مثل القانون‬
‫الدويل؛ والدولة القومية؛ واقتصاد السوق هي يف الواقع مفاهيم َم ْب ِنية ‪(Seth,‬‬
‫)‪(2013‬٭)‪ .‬فالنسبية الثقافية‪ ،‬عىل عكس النزعة العاملية‪ ،‬تعرتف باالختالفات القامئة‬
‫عىل مستوى الثقافات؛ حيث تختلف ثقافات أفريقيا وآسيا وأمريكا الالتينية‪ ،‬سواء‬
‫فيام بينها أو باملقارنة مع الغرب‪ .‬وبينام تركز ما بعد االستعامرية عىل الهوية‬
‫والثقافة‪ ،‬فإنها تتجنب «إضفاء الطابع الجوهري» عىل ثقافة معينة ‪(Grovogui,‬‬
‫)‪ .2013: 253‬وبتوظيفها للمقاربات األنرثوبولوجية‪ ،‬تسعى ما بعد االستعامرية‬
‫إىل استدعاء أصوات ا ُمل ْس َت ْع َمرين‪ ،‬ووضعها يف مواجهة رسديات املركزية األوروبية‬
‫السائدة بشأن اإلمربيالية واالستعامر‪ .‬كام تسلط الضوء ليس فقط عىل اآلثار‬
‫أيضا عىل الهيمنة املستمرة‬‫الالحقة للهيمنة االستعامرية الغربية يف املايض‪ ،‬ولكن ً‬
‫للغرب يف الخطاب واملامرسة املعارصين‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬فإن العوملة الحديثة‬
‫والحرب عىل اإلرهاب والتحول الدميوقراطي هي أمثلة عىل هيمنة األفكار الغربية‬
‫أيضا لفكرة «التهجني»‪ ،‬أي فكرة‬ ‫(‪ .)Darby, 2004‬كام تؤسس ما بعد االستعامرية ً‬
‫أيضا طري ًقا ذا اتجاهني‪ ،‬حيث تعيد كل ثقافة‬ ‫أن املواجهة االستعامرية كانت ً‬
‫تشكيل الثقافة األخرى بطرق مهمة‪.‬‬
‫ومثل النظرية النقدية والنسوية‪ ،‬احتلت ما بعد االستعامرية مواقع هامشية‬
‫داخل حقل العالقات الدولية مقارنة بالتيار السائد‪ ،‬لكنها نجحت ً‬
‫أيضا يف إنشاء‬
‫جسور مع املقاربات األخرى‪ .‬فقد ألهمت ما بعد االستعامرية‪ ،‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫النظرية النسوية بنقد قوي للهيمنة الغربية (‪ .)Mogwe, 1994‬كام أن عديدا‬
‫من باحثي النظرية النسوية ما بعد االستعامرية من مثل شاندرا موهانتي‬
‫(٭) مبعنى أنها مبنية اجتامعيا ‪ socially constructed‬كام يذهب إىل ذلك البنائيون‪ ،‬وأنها ليست معطى مسبقا‬
‫أو قبليا كام تقر بذلك النظريات العقالنية‪ ،‬فهي تنشأ اجتامعيا من خالل التفاعل بني الفواعل املجتمعية املختلفة‬
‫التي تسهم يف إنشائها‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫(‪)Chandra Mohanty 1984‬؛ وأيهوا أونغ (‪)Aihwa Ong 2001‬؛ وسوايت‬


‫باراشار (‪)Swati Parashar 2013‬؛ وآنا أجاثانجيلو وأل‪ .‬أتش‪ .‬أم‪ .‬لينغ (‪)2004‬‬
‫قد كشفوا ورفضوا هيمنة باحثات النسوية الغربيات وسوء متثيلهن للمرأة يف‬
‫العامل الثالث من خالل اعتبارهن إياها «سلبية ومتخلفة وتحتاج إىل إنقاذها من‬
‫ِقبل أخواتها البيضاوات املحررات» (‪ ،)Persaud and Sajed, 2018a:8‬متهمني‬
‫إياهن بتجاهل االختالفات يف مواقفهن وخربتهن وردهن عىل القمع‪ .‬إن هذا‬
‫الخط من النسوية يسعى إىل معالجة مشاكل وقضايا ا ُمل َه َّمشني (النساء من‬
‫العامل النامي) داخل ا ُمل َه َّمشني (النساء عىل نح ٍو عام)‪ .‬ويف حني أن هذا االنقسام‬
‫الحاصل بني أنصار النسوية ما بعد االستعامرية الغربيات اليزال قامئا‪ ،‬فإن مقاربة‬
‫«التقاطع»‪ ،‬وهي إسهام رئيس ألبحاث النسويني السود‪ ،‬تقدم طريقة مفيدة‬
‫والجنسا ِنية» ومن ثم‪،‬‬
‫للجمع بني دراسات «العرق؛ والجندر؛ والطبقة؛ والوطنية؛ ِ‬
‫«تحديد واقع املنظورات املتنوعة والحاجة إىل تكوين تحالفات موحدة إلحداث‬
‫تغيري اجتامعي وعاملي» (‪.)Tickner and True, 2018: 11‬‬
‫أيضا واستلهمت من دراسات الفرعية‪ ،‬وهي‬ ‫لقد ألهمت ما بعد االستعامرية ً‬
‫إسهام هندي يرفض التأريخ النخبوي لتجربة الهند مع االستعامر يف كل من الكتابات‬
‫الغربية (يف جامعة كامربيدج) والهندية‪ .‬تؤكد «دراسات الفرعية» فاعلية «التابعني»‬
‫باعتبارهم صناعا ملصريهم ضد كل من اإلطار القانوين واملؤسيس وكذلك الوسائل‬
‫وظفها النظام االستعامري )‪.(Guha, 1982‬‬ ‫األيديولوجية الرمزية والقوة املادية التي َّ‬
‫وهذا يعيد مراجعة التصور املرتبط مبوقف غاياتري سبيفاك (‪ )1985‬بشأن المعقولية‬
‫الصوت التابع (هل يستطيع التابع أن يتكلم؟)‪ .‬فقد انتُقد موقف سبيفاك‪ ،‬الذي قد‬
‫يكون قراءة خاطئة‪ ،‬لتجاهلها العامل الثالث باعتباره فاعال‪ ،‬أو‪ ،‬عىل حد تعبري بينيتا‬
‫باري )‪ ،(Benita Parry cited in Persaud and Sajed, 2018a: 8‬بسبب «الصمم‬
‫املتعمد حيال الصوت املحيل أينام ميكن سامعه»‪ .‬ويف إحدى محاوالت التوليف‬
‫الحديثة املهمة‪ ،‬يجادل راندولف بريسود ‪ Randolph Persaud‬وألينا ساجد ‪(Alina‬‬
‫)‪ Sajed 2018a: 2‬بأنه بالنسبة إىل ما بعد االستعامرية‪« ،‬كان العامل الثالث صان ًعا‬
‫للنظام الدويل بالقدر نفسه الذي كان فيه النظام الدويل صان ًعا للعامل الثالث»‪ .‬وجادل‬
‫مفكرا ما بعد االستعامرية‪ ،‬ديبيش تشاكراباريت )‪(Dipesh Chakrabarty 2000‬‬

‫‪373‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وآشيس ناندي (‪ ،)Ashis Nandy 1995‬بأن «التاريخ» و «املايض» يعتمدان كث ًريا‬


‫عىل فهمنا للحارض‪ ،‬وكذلك عىل إدراكنا «للمستقبل» (ويف السياق نفسه‪ ،‬عىل‬
‫إدراكنا للحداثة)‪ .‬إن األبحاث الحديثة مل تعرتف (‪)Persaud and Sajed, 2018b‬‬
‫أيضا عىل العنارص‬ ‫بهذا التنوع يف فكر ما بعد االستعامرية فقط‪ ،‬بل سلطت الضوء ً‬
‫املشرتكة بني تلك األفكار‪.‬‬
‫يف البداية‪ ،‬مل تكن نظرية ما بعد االستعامرية مهتمة رصاح ًة بالدراسات‬
‫األمنية (‪ .)Persaud, 2018‬ولكن مع اقرتاب الحرب الباردة من نهايتها‪ ،‬بدأت‬
‫ما بعد االستعامرية يف تقديم إسهام كبري يف معالجة املركزية اإلثنية للدراسات‬
‫األمنية الدولية‪ ،‬خاصة فيام يتعلق بإهامل العامل غري الغريب وإهامل تطوير أدوات‬
‫بداًل من مجرد استخدام‬ ‫مفاهيمية للتحليل األمني متأتية من التجربة غري الغربية‪ً ،‬‬
‫التصنيفات الغربية القياسية‪ .‬وتنتقد أعامل محمد أيوب (‪)1995 ,1991 ,1984‬؛‬
‫وإدورد عازار؛ وتشونغ إن مون (‪)Chung-in Moon 1988‬؛ ويزيد صايغ (‪)1990‬‬
‫مفهوم األمن لعدم قدرته عىل استيعاب املشكالت األمنية التي تواجه دول العامل‬
‫الثالث‪ .‬ويجادل أشاريا (‪ )1996‬بأن إسهام مثل هذه األبحاث يف األمن داخل‬
‫األَ ْط َراف ميكن أن يصبح مركزيا إلعادة تعريف مفهوم األمن القومي ويصبح أساسيا‬
‫إلعادة ابتكار مجال الدراسات األمنية الدولية‪ .‬فمثل هذه األعامل ال تقوم عىل‬
‫تأكيدات بشأن التفرد الثقايف للعامل الثالث‪ً .‬‬
‫وبداًل من ذلك‪ ،‬فإنها تحدد «مأزقا»‬
‫محددا يف العامل الثالث‪ ،‬حيث ال تركز االهتاممات األمنية للدول واألنظمة عىل‬
‫حامية السيادة والسالمة اإلقليميني من التهديدات الخارجية‪ ،‬ولكن تركز عىل‬
‫الحفاظ عىل أمن النظام واستقراره السيايس من التهديدات الداخلية (;‪Job, 1991‬‬
‫جانب آخ ٌر من هذه الفئة من األعامل يف محاولة بناء مناذج‬‫‪َ َ .)Ayoob, 1995‬مَت َّثل ٌ‬
‫للسياسة الخارجية واألمن تتناسب مع ظروف العامل الثالث‪ ،‬ال سيام فيام يتعلق‬
‫باألمن الشامل واألمن غري التقليدي واألمن اإلنساين ‪(Sen, 2000; Acharya,‬‬
‫‪2001b; Caballero-Anthony, Emmers and Acharya, 2006; Tadjbakhsh‬‬
‫)‪.and Chenoy, 2007; Caballero-Anthony, 2015‬‬
‫ُي َعدُّ العرق قضية أساسية أكرث متيزًا يف دراسات ما بعد االستعامرية‪ ،‬إذ غال ًبا‬
‫ما يرتبط العرق باالستعامر ‪(Persaud and Walker, 2001; J. M. Hobson,‬‬
‫‪374‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫)‪ .2012; Bell, 2013; Henderson, 2013; Persaud, 2014‬فالعرق مل يحدد أصل‬
‫أيضا الهيكل االقتصادي العاملي‪،‬‬ ‫ومسار املرشوع االستعامري الغريب فقط‪ ،‬بل حدد ً‬
‫وذلك من خالل عرض العاملة املصنفة عىل أساس العرق‪ .‬لقد امتزج االستعامر مع‬
‫العنرصية للتأثري عىل نح ٍو كبري يف التكوين املكاين والدميوغرايف للعامل ‪(Persaud‬‬
‫)‪ .and Walker, 2001‬وكام أوضحنا ذلك‪ ،‬عىل الرغم من بروز أهمية العرق قبل‬
‫العام ‪ ،1945‬فإنه مل يحظ باهتامم كبري يف نظرية العالقات الدولية السائدة بعد‬
‫العام ‪ 1945‬عىل رغم دوره باعتباره «قوة أساسية يف صنع النظام العاملي الحديث»‬
‫(‪ ،)Persaud and Walker, 2001: 374‬حتى إن بعض ا ُملن َِّظرين النقديني من‬
‫مدارس ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية كانوا قد ابتعدوا عن التطرق إىل قضايا‬
‫العرق‪ .‬وقد ركز الفكر ما بعد االستعامري املتأثر باملاركسية (مع استثناءات مثل‬
‫فانون ‪ )Fanon‬عىل البعد االقتصادي‪ ،‬لكن األعامل األخرية من هذا النوع مثل عمل‬
‫أندريه جوندر فرانك ‪ Andre Gunder Frank‬وباري جيلز (‪)Barry Gills 1992‬‬
‫أيضا موضوعًا‬ ‫أعطت مكانة للعرق‪ .‬وأصبحت الطبيعة الجندرية للعالقات العرقية ً‬
‫مهاًم للنسوية مابعد االستعامرية مع تطور رئيس يتمثل يف «التقاطع» بني العرق‬ ‫ً‬
‫والجندر والطبقة (‪.)Persaud and Sajed, 2018a: 8–9‬‬
‫لقد قدمت ما بعد االستعامرية نقدًا لحقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز‪ ،‬كام‬
‫قدمت‪ ،‬وبطرق مختلفة‪ ،‬إسهامات لرأب الصدع الحاصل يف التخصص بني املَ ْر َكز‬
‫واألَ ْط َراف‪ .‬وإىل جانب ذلك‪ ،‬كانت هناك مجموعة متنوعة من تطورات حقل‬
‫العالقات الدولية داخل مناطق مختلفة من األَ ْط َراف والتي كانت تفعل اليشء‬
‫نفسه إىل حد كبري‪ :‬أي متييز حقلها عن حقل العالقات الدولية املطروح داخل‬
‫املَ ْر َكز واالندماج مع حقل العالقات الدولية العاملي‪ .‬ولكن مع زيادة التباعد عن‬
‫الحقبة االستعامرية‪ ،‬وتزايد التباينات عىل مستوى التنمية‪ ،‬أصبحت األَ ْط َراف يف حد‬
‫ذاتها أكرث تشتتًا‪ ،‬سواء من الناحية السياسية أو فيام يتعلق بتطور حقل العالقات‬
‫الدولية‪ .‬حيث صار اإلرث الذي كان يعد مبنزلة مصدر إلهام ملناهضة االستعامر‬
‫ومناهضة العنرصية يشهد مزيدا من التضاؤل‪ ،‬عىل الرغم من أنه اليزال يؤدي‬
‫لأل ْط َراف باإلقليمية يأخذ منحى التمييز‬‫دو ًرا قو ًّيا‪ .‬وقد بدأ االهتامم الطويل األمد َ‬
‫بني آسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية والرشق األوسط بعضها عن بعض كام عن‬
‫‪375‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الغرب‪ .‬وحيث إن الحقل املعريف للعالقات الدولية اتبع مامرستها الفعلية يف العامل‬
‫الحقيقي حيث أصبح أكرث َع ْولَ ِم َّية‪ ،‬فقد تحول الرتكيز ليصبح ُمنص ًّبا عىل نح ٍو أقل‬
‫عىل االغرتاب عن املَ ْر َكز‪ ،‬ويصري ُمنص ًّبا أكرث بشأن كيفية العثور عىل مواقع متميزة‬
‫داخل حقل العالقات الدولية ا ُمل َع ْولَم‪ .‬ففي آسيا‪ ،‬وخاصة يف شامل رشق آسيا‪ ،‬أصبح‬
‫مزيجا مث ًريا لالهتامم‬
‫حقل العالقات الدولية كب ًريا ومزودًا مبصادر جيدة‪ ،‬وأظهر ً‬
‫من تكامله (كحقل معريف) مع حقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز‪ ،‬كام كشف عن‬
‫وجود عمل جاد لتأسيس أمناط متميزة من تفكري حقل العالقات الدولية تعكس‬
‫التاريخ والثقافة املحليني‪ .‬ويف أماكن أخرى من األَ ْط َراف‪ ،‬كان حقل العالقات الدولية‬
‫عمو ًما أقل تزودا باملصادر‪ ،‬ومييل إىل االنجذاب إىل املَ ْر َكز‪ ،‬مع االحتفاظ بالرتكيز عىل‬
‫قضايا السياسة الخارجية املحلية‪.‬‬

‫‪ - 3 - 2‬آسيا‬
‫خالل فرتة ما بعد الحرب الباردة‪ ،‬شهدت «الرسديات الرئيسة» ‪(Alagappa,‬‬
‫)‪ 2011: 204‬عن حقل العالقات الدولية يف آسيا تحوال‪ .‬ففي الهند حدث التحول‬
‫من عدم االنحياز إىل االنفتاح االقتصادي‪ ،‬ثم تحولت هذه الدولة إىل دورها بوصفها‬
‫قوة صاعدة‪ .‬وقد تحولت الرسدية الرئيسة للصني من قصة دولة ضعيفة تحافظ عىل‬
‫الوضع القائم إىل دولة إصالحية وقوة عاملية صاعدة‪ .‬ويف حني أن هذه التحوالت‬
‫قدمت سيا ًقا سياس ًّيا معينًا‪ ،‬فإن تفكري حقل العالقات الدولية داخل معظم آسيا صار‬
‫اختصاصا لألكادمييني أكرث منه‬
‫ً‬ ‫‪ -‬كام كان ساب ًقا يف املَ ْر َكز ‪ -‬يشكل عىل نحو متزايد‬
‫اختصاصا للقادة السياسيني‪ .‬وكجزء من هذا التحول‪ ،‬أصبح حقل العالقات الدولية‬ ‫ً‬
‫يف األَ ْط َراف أكرث متيزًا عن املَ ْر َكز وأكرث ً‬
‫ارتباطا باملقاربات والنقاشات الجارية فيه‪ .‬ويف‬
‫حني أن هناك اهتام ًما متزايدًا بالعمل النظري يف جميع أنحاء اإلقليم (آسيا)‪ ،‬فإنه ال‬
‫توجد أي مدرسة إقليمية ناشئة من ذلك اإلقليم‪ .‬وتتمثل العقبات التي تعرتض نشوء‬
‫مدرسة إقليمية يف الظروف املحلية املتميزة وامليول الفكرية‪ ،‬والتي غال ًبا ما تتشكل‬
‫من خالل األيديولوجيات الوطنية وأطر السياسة الخارجية التي يصوغها الباحثون‬
‫يف مختلف أنحاء اإلقليم‪ ،‬وخاصة يف الصني والهند (‪ .)Alagappa, 2011‬هناك عائق‬
‫آخر يحول دون تطوير مدرسة آسيوية للعالقات الدولية وهو الطبيعة املحدودة‬
‫‪376‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫للتبادل والتفاعل بني الباحثني من مختلف األقاليم الفرعية يف آسيا‪ .‬لذلك فإننا‬
‫سنتطرق عىل نح ٍو رئيس إىل تطورات حقل العالقات الدولية داخل آسيا دولة بدولة‪.‬‬
‫وضوحا يف الصني‪ ،‬حيث كان عىل‬
‫ً‬ ‫لقد كان املسار املزدوج للتاميز والتكامل أكرث‬
‫حقل العالقات الدولية‪ ،‬منذ مثانينيات القرن املايض‪ ،‬إعادة بناء نفسه من الصفر‬
‫تقري ًبا بعد القمع والفوىض التي خلفتها سنوات حكم ماو تيس‪ .‬وكام يرى كني‬
‫ياكينغ (‪ ،)Qin Yaqing 2010, 2011a‬فقد تم ذلك من خالل مسار منهجي متا ًما‬
‫السترياد وترجمة «كالسيكيات» حقل العالقات الدولية وإتقانها ثم محاولة تطوير‬
‫صيغ صينية متميزة من نظرية العالقات الدولية‪ .‬لقد استوعب حقل العالقات‬
‫الدولية الصيني وناقش الواقعية والليربالية والبنائية واملدرسة اإلنجليزية‪ ،‬وأنجب‬
‫دعاة مؤثرين لكل من تلك النظريات(٭)‪ .‬ثم استمر يف تطوير تفكري خاص بهذا‬
‫التخصص استنادًا إىل التاريخ والنظرية الصينيني (‪ ،)e.g. Yan, 2011, 2014‬وإىل‬
‫السلوك والخصائص الثقافية الكونفوشيوسية (‪.)e.g. Qin, 2009, 2011b, 2016‬‬
‫حتى إنه كان مثة بعض األعامل النظرية التي واجهت «النقاشات الكربى» مثل‬
‫النموذج الفكري للتطور االجتامعي لتانغ شيبينغ (‪ ،)Tang Shiping 2013‬الذي‬
‫ُيحاجج بأنه ال توجد نظرية واحدة صالحة يف جميع األوقات‪ ،‬وأن نظريات العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬وخصوصا الواقعية والليربالية‪« ،‬تتناسب مع مراحل مختلفة من التاريخ»‬
‫’‪(Buzan, 2013: 1304; see also the discussion of ‘theoretical pluralism‬‬
‫)‪ .by Eun, 2016‬وأثارت فكرة تطوير «مدرسة صينية» للعالقات الدولية عديدا من‬
‫النقاشات (‪ .)Wang and Buzan, 2014‬وقد عارضها البعض عىل أساس أن نظرية‬
‫العالقات الدولية يجب أن تسعى جاهدة لتكون عاملية وليست خاصة‪ ،‬وأن املدارس‬
‫أيضا خطر االرتباط الوثيق مبراكز السلطة واألمن الوطنيني‪ ،‬وقد بدا‬ ‫الوطنية تثري ً‬
‫خاصا يف الصني‪ ،‬حيث كانت الحكومة االستبدادية‪ ،‬مع القليل من املوانع‬‫هذا خط ًرا ً‬
‫لقمع النقد‪ ،‬تتبنى عىل نحو متزايد الخطاب الكونفوشيويس عن تيانكسيا ‪Tianxia‬‬
‫(كل ما تحت السامء) وعالقات االنسجام لتأطري سياستها الخارجية‪ .‬لقد كان كل من‬
‫‪) Yan Xuetong for Realism, Wang Yizhou for Liberalism, Qin Yaqing for Constructivism,‬٭(‬
‫‪Zhang Xiaoming for the ES.‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪377‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تشني ‪( Yaqing Qin‬العالئقية ‪ ،)Relationalism‬ويان ‪ Yan‬وتانغ ‪( Tang‬الواقعية‬


‫‪ )Realism‬مجتهدين يف تقديم عملهم النظري باعتباره ذا صلة عاملية‪ ،‬وقد ُنرش يف‬
‫الغرب لتأكيد هذه النقطة‪ .‬ومن الناحية اإلمربيقية‪ ،‬كان مثة قد ٌر كب ٌري من أعامل‬
‫حقل العالقات الدولية يف الصني‪ ،‬التي حللت عالقة بكني بالواليات املتحدة عىل‬
‫وجه الخصوص‪ ،‬وموقع الصني كقوة صاعدة داخل املجتمع الدويل العاملي عىل وجه‬
‫أيضا كثري من األعامل بشأن املبادرات واملفاهيم الرئيسة للسياسة‬ ‫العموم‪ .‬كان مثة ً‬
‫الخارجية الصينية‪ ،‬مثل «الصعود السلمي» و«الحزام والطريق» و «نوع جديد من‬
‫مبادرات القوى الكربى»‪.‬‬
‫مل يتعرض حقل العالقات الدولية الهندي إىل العرقلة التي تعرض لها يف‬
‫الصني‪ ،‬ومل يكن لديه كثري من حواجز اللغة التي تفصله عن تفكري حقل العالقات‬
‫الدولية الجاري يف َم ْر َكز العامل الناطق باللغة اإلنجليزية‪ ،‬غري أن حقل العالقات‬
‫أيضا طفرة املصادر املعرفية التي أفادت حقل العالقات‬ ‫الدولية الهندي مل يخترب ً‬
‫الدولية يف الصني‪ ،‬أو انفعال الصني كونها عاملًا ُتجوهل فرتة طويلة‪ .‬وقد ظلت ما‬
‫بعد االستعامرية بارزة يف الهند‪ ،‬كام هو الحال يف الصني ولكن بدرجة أقل‪ ،‬وأظهر‬
‫الباحثون الهنود محاولة متزايدة لالعتامد عىل التقاليد والحضارات الكالسيكية‬
‫لتحدي نظرية العالقات الدولية الغربية واقرتاح مفاهيم ونظريات بديلة أو‬
‫أصلية (‪ .)Shahi and Ascione, 2016‬وكام هو الحال يف الصني‪ ،‬مثة اهتامم‬
‫متزايد بني الباحثني الهنود لالستفادة من النصوص الهندية الكالسيكية مثل‬
‫ملحمة ماهاباهارتا ‪(Mahabharata Narlikar and Narlikar, 2014; Datta-‬‬
‫)‪ Ray, 2015‬واألطروحة العلامنية لتقاليد أرثاشاسرتا ‪(Arthasastra Gautam,‬‬
‫)‪ ،2015‬وذلك ألجل رشح السياسة الخارجية الهندية وخياراتها اإلسرتاتيجية‪ .‬لكن‬
‫مثل هذا الحديث مل يتطور بعدُ ليصبح محاولة واعية لتطوير مدرسة هندية‬
‫لحقل العالقات الدولية (‪ .)Acharya, 2013a‬وكام هو الحال يف الصني‪ ،‬فإن‬
‫«املعرفة التاريخية األصلية» لها أنصارها وخصومها يف الهند ‪(Mishra, 2014:‬‬
‫)‪ .119, 123‬ومن الناحية اإلمربيقية‪ ،‬كتب باحثو العالقات الدولية الهنود‪ ،‬الذين‬
‫غال ًبا ما يتطلعون إىل سياسة الحكومة الهندية‪ ،‬عن أهمية عدم االنحياز؛ وعدم‬
‫االنتشار النووي؛ وعالقات الهند مع جريانها يف جنوب آسيا وخصوصا باكستان؛‬
‫‪378‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫ودور الهند كقوة عاملية صاعدة؛ والتنافس الصيني الهندي؛ كام كتبوا أخ ًريا عن‬
‫منطقة «املحيطني الهندي ‪ -‬الهادئ ‪( Indo-Pacific‬والتي أصبحت أكرث برو ًزا‬
‫مقارنة مع آسيا واملحيط الهادئ ‪.)Asia-Pacific‬‬
‫لقد متكنت البنائية من اكتساب شعبية يف جنوب رشق آسيا‪ ،‬حيث كان‬
‫أيضا بعض االهتامم بتوظيف املصادر التاريخية املحلية كأساس للتنظري‬ ‫هناك ً‬
‫يف حقل العالقات الدولية (‪ .)Chong, 2012; Milner, 2016‬توسع حقل‬
‫العالقات الدولية يف كوريا وتايوان وازدهر بعد العام ‪ ،1989‬لكن كليهام ارتبط‬
‫ارتباطا وثي ًقا بالتفكري األمرييك يف مجال العالقات الدولية‪ ،‬وكليهام كان ً‬
‫مهتاًم‬ ‫ً‬
‫عىل نحو أسايس مبشاكلهام املحلية الكبرية‪ ،‬أي عىل التوايل‪ ،‬بإعادة التوحيد‬
‫والعالقات عرب املضيق )‪ .(Inoguchi, 2009‬كان أحد االستثناءات امللحوظة‬
‫هو نظرية شيه )‪ (Shih 1990; Shih and Yin, 2013‬العالئقية‪ ،‬والتي مثلها‬
‫مثل نظرية تشني تهدف إىل أن تكون سارية عىل املستوى العاملي‪ .‬فالباحثون‬
‫الكوريون األمريكيون مثل ديفيد كانغ )‪ (David Kang 2003, 2005‬وفيكتور‬
‫أيضا يف التفكري‬ ‫تشا (‪ )Victor Cha 1997, 1999, 2000, 2010‬أثروا عامل ًيا ً‬
‫بشأن العالقات الدولية لشامل رشق آسيا‪.‬‬
‫إن ارتياب أليسرت إيان جونستون (‪ )Alastair Iain Johnston 2012‬بشأن‬
‫قيمة العمل النظري القادم من آسيا مل يعد يبدو اآلن مرب ًرا‪ ،‬لكونه يستند إىل معايري‬
‫املركزية األمريكية ملا ميكن اعتباره نظرية‪ .‬لقد كانت التطورات اآلسيوية يف التفكري‬
‫بشأن حقل العالقات الدولية مهمة بالفعل‪ ،‬سواء يف حد ذاتها أو يف الكشف عن‬
‫قيود نظريات العالقات الدولية الغربية‪ ،‬وخاص ًة قابليتها للتطبيق يف آسيا‪ .‬لقد َث ُب َت‬
‫أن التنبؤات الواقعية بانهيار النظام بعد الحرب الباردة يف آسيا كانت خاطئة هناك‬
‫ً‬
‫أشكااًل من اإلقليمية مختلفة متا ًما عن منوذج‬ ‫كام يف أي مكان آخر‪ ،‬وقد طورت آسيا‬
‫االتحاد األورويب‪ .‬وقد بدأ تفكري حقل العالقات الدولية اآلسيوي اآلن يف استكشاف‬
‫األسباب التي متيز العالقات الدولية آلسيا عن تلك املوجودة يف الغرب‪.‬‬
‫ويف أماكن أخرى من األَ ْط َراف‪ ،‬مل يكن هناك يشء حاصل يشبه الجهود‬
‫الصينية لتأسيس مدرسة متميزة‪ ،‬عىل الرغم من وجود أسس ثقافية مختلفة ميكن‬
‫استخدامها لهذا الغرض‪ .‬وقد كان املوضوع الرئيس هو االندماج يف حقل العالقات‬
‫‪379‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الدولية الخاص باملَ ْر َكز‪ ،‬مع محاولة الحفاظ عىل موقف متميز والرتكيز عىل قضايا‬
‫السياسة الخارجية املحلية‪.‬‬

‫‪ - 3 - 3‬أمريكا الالتينية‬
‫شهد حقل العالقات الدولية األكادميي توسعا كبريا يف أمريكا الالتينية‪ ،‬ولكنه‬
‫انجذب عىل نحو متزايد نحو املَ ْر َكز من ناحية التفكري يف املواضيع املتعلقة‬
‫بهذا التخصص‪ .‬فقد عدَّلت دول أمريكا الالتينية منظور سياستها الخارجية عىل‬
‫نحو مختلف لتتوافق مع التغيريات التي عرفها املجتمع الدويل العاملي بعد‬
‫العام ‪ .1989‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬تجاوز وزير الخارجية الربازييل المربييا مفهوم‬
‫الحرب الباردة املتمثل يف «الحكم الذايت من خالل ال َت َباعُ د»‪ ،‬وصاغ مصطلح‬
‫«االستقالل الذايت من خالل التكامل» من أجل توحيد سياسة حكم كاردوسو‬
‫ٌ‬
‫مقاربة أكرث‬ ‫(‪ .)Bernal- Meza, 2016: 8–9‬ومل يكن من املستغرب أن تأيت‬
‫رفضا للنظام الدويل السائد من فنزويال بقيادة هوغو شافيز‪ .‬وقد سلطت فكرة‬ ‫ً‬
‫«تأسيس العصيان»‪ ،‬الواردة يف وثيقة وزارة الخارجية للعام ‪ ،2012‬الضوء عىل‬
‫خضعة‪ ،‬وعن‬ ‫هيكل القوة املهيمن الذي يتألف من دول خاضعة وأخرى ُم ِ‬
‫خضعة من‬ ‫إمكانية توقف األوىل عن كونها دو ًاًل خاضع ًة وأن تصبح دولة ُم ِ‬
‫خالل الوصول إىل «عتبة السلطة»‪ ،‬وهو مفهوم صاغه ساب ًقا مارسيلو جولو‬
‫)‪ .(Bernal-Meza, 2016: Marcelo Gullo 12–13‬لقد سعت مفاهيم أخرى‬
‫يف حقل العالقات الدولية ألمريكا الالتينية إىل إعادة تعريف السياسة الخارجية‬
‫لدولها يف سياق التحول املستمر الحاصل عىل مستوى القوة العاملية‪ ،‬وخاصة مع‬
‫صعود قوى جديدة من األَ ْط َراف عىل املستويني الدويل واإلقليمي‪ .‬ويشار إىل هذا‬
‫يف فكرة «دول األَ ْط َراف الكبرية» التي طورها صامويل بينريو غيامريش ‪(Samuel‬‬
‫)‪ ،Pinheiro Guimarães 2005‬والتي شملت الصني والهند والربازيل‪ .‬وعىل‬
‫الرغم من أن هذه الدول شهدت صعودا‪ ،‬فإنها استمرت يف العمل ضمن «هياكل‬
‫القوة املهيمنة» القامئة‪ ،‬وذلك بهدف تأمني وضعها ودورها‪ .‬كان مثة اهتامم‬
‫أيضا يف مناطق أخرى من‬ ‫متزايد يف املنطقة بفكرة القوة اإلقليمية (الشائعة ً‬
‫األَ ْط َراف)‪ ،‬والتي استخدمت تحرير االقتصاد املحيل والعمل متعدد األطراف‬
‫‪380‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫لتشكيل سياستها الخارجية والتحرك يف هذا العامل ا ُمل َع ْولَم‪ .‬أخ ًريا‪ ،‬فإن املفهوم‬
‫التشييل لـ «عدم التامثل املزدوج» يعني ضمن ًيا العالقة املتزامنة التي تربط‬
‫تشييل باالقتصادات الرئيسة يف العامل‪ ،‬ومع تلك االقتصادات التي تكون قوتها‬
‫النسبية أقل عىل نحو واضح (خصوصا البلدان الشاملية املجاورة‪ ،‬مثل بريو‬
‫وبوليفيا) (‪.)Bernal-Meza, 2016: 24‬‬
‫عىل عكس املفاهيم التي تتمركز حول الدولة الواردة سابقا‪ ،‬فإن فكرة «الواقعية‬
‫الطرفية»‪ ،‬التي طورها عامل السياسة األرجنتيني كارلوس إسكودي ‪،Carlos Escudé‬‬
‫رأت أن الدعوة إىل الحكم الذايت‪ ،‬التي شددت عليها دول أمريكا الالتينية إىل َحد‬
‫اآلن‪ ،‬يجب تقييم منافعها يف مقابل تكاليفها‪ .‬كان كارلوس إسكودي ُمدر ًكا أن‬
‫التبني غري النقدي لألطر النظرية التي ُأنتجت عىل نحو أسايس يف الواليات املتحدة‬
‫يخدم األغراض األيديولوجية للنخب الحاكمة يف تلك البلدان‪ .‬فبينام استُخدمت‬
‫النظرية الواقعية لتربير السياسات الخارجية العدوانية تجاه األَ ْط َراف‪ ،‬فقد أدى‬
‫االعتامد املتبادل إىل املبالغة يف تقدير نطاق عمل تلك األَ ْط َراف‪ .‬ويف عمل صدر‬
‫يف العام ‪ ،1995‬استشكل كارلوس إسكودي «مغالطة التجسيم» الخاصة بالواقعية‬
‫الكالسيكية‪ ،‬أي ميلها إىل اعتبار الدولة كإنسان‪ ،‬مام أدى إىل تأكيدها املصلحة‬
‫الوطنية والقوة‪ ،‬وتفضيلها ملصالح بعض املجموعات عىل حساب اآلخرين‪ ،‬مع‬
‫وبداًل من ذلك‪ ،‬دافع كارلوس إسكودي عن «مقاربة واقعية‬ ‫تجاهل مصالح الناس‪ً .‬‬
‫تتمركز حول املواطن» (‪.)cited in A. B. Tickner, 2003a: 332‬‬
‫ولخص فلورن فراسون كوينز ‪ Florent Frasson-Quenoz‬رؤي ًة ألمريكا‬
‫الالتينية إىل العامل تختلف عن رؤية األوروبيني واألمريكيني‪ ،‬وذلك بنا ًء عىل‬
‫معارضتها املركزية األوروبية ومحاولتها إعادة تعريف املفاهيم وتأسيسها ليك‬
‫تتالءم مع املنظورات الوطنية واإلقليمية‪ .‬وبغض النظر عن أفكار املَ ْر َكز بشأن‬
‫التبعية واالستقاللية وامليل إىل تبني التنظري االستقرايئ‪ ،‬وجد فراسون كوينز‬
‫أنه ال توجد مدرسة فكرية خاصة بأمريكا الالتينية بسبب التقارب الوثيق بني‬
‫هذه املفاهيم والنظرية املاركسية‪ ،‬وبسبب أيضا أن «الخيارات األنطولوجية‪/‬‬
‫املنهجية املختارة يف أمريكا الالتينية ال تختلف عن نظرياتها الغربية» ‪(Frasson-‬‬
‫)‪.Quenoz, 2015: 72‬‬
‫‪381‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 3 - 4‬أفريقيا‬
‫يف أفريقيا‪ ،‬ظل تطوير حقل العالقات الدولية األكادميي ضعي ًفا نسب ًيا وفقريا من‬
‫ناحية املصادر‪ .‬إذ مل يكن مثة جهد جاد إلنشاء «مدرسة أفريقية للعالقات الدولية»‪.‬‬
‫وبداًل من ذلك‪ ،‬كان الجهد الرئيس ُمنصبا عىل تأسيس منظورات ومؤسسات وأصوات‬ ‫ً‬
‫أفريقية يف حقل العالقات الدولية العاملي الناشئ‪ ،‬وذلك بنا ًء عىل االعتقاد بأن‬
‫«األصوات واملساهامت األفريقية يجب أن يكون لها صدى عاملي‪ ،‬وأنه ميكن إقحامها يف‬
‫َم ْر َكز تخصص العالقات الدولية» (‪ .)Bischoff, Aning and Acharya, 2016: 2‬لقد‬
‫استمرت رسدية التهميش‪ ،‬وهي موضوع رئيس يف حقل العالقات الدولية األفريقي‪ ،‬يف‬
‫فرتة ما بعد الحرب الباردة‪ .‬ووفق وجهة النظر هذه‪ ،‬تعمل نظرية العالقات الدولية‬
‫التقليدية عىل تهميش أفريقيا عىل أساس «االفرتاض املتغطرس القائل إنها تفتقر إىل‬
‫سياسة ذات معنى»‪ ،‬وتستخدم أفريقيا باعتبارها «اآلخر ا ُمل َس َّخر لبناء الذات الغربية‬
‫األسطورية» (‪ .)Dunn, 2001: 3‬وعىل نحو متصل‪ ،‬واصل الباحثون األفارقة‪ ،‬كمثل‬
‫أولئك املوجودين يف آسيا وأماكن أخرى‪ ،‬تحدي أهمية مفاهيم ونظريات العالقات‬
‫الدولية الغربية يف أقاليمهم‪ .‬حيث تم تحدي جدوى مفهوم الدولة كوحدة للتحليل‬
‫والحدود الوطنية عىل نحو خاص لعدم عكسها «البنى الحقيقية للسلطة والسيادة‬
‫والحكم» يف أفريقيا‪ ،‬وهي البنى التي تنتمي إىل «أمراء الحرب أو املنظامت غري‬
‫الحكومية أو املجموعات العرقية» (‪.)K. Smith, 2012: 28‬‬
‫وبداًل من الرتكيز عىل الدولة القومية املصطنعة‪ ،‬دعا باحثو العالقات الدولية‬ ‫ً‬
‫األفارقة‪ ،‬كام هو مذكور يف الفصل السادس‪ ،‬إىل مزيد من االهتامم بالتحديات‬
‫االجتامعية واالقتصادية والتحديات املتعلقة بالحوكمة الداخلية وعرب الوطنية التي‬
‫تواجه القارة‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬تحذر كارين سميث ‪ ،Karen Smith‬وهي باحثة من‬
‫جنوب أفريقيا‪ ،‬من رفض املفاهيم الغربية متا ًما‪ .‬مستشهدة يف ذلك باألعامل األخرية‬
‫للباحثني األفارقة بشأن «القوة الوسطى» و«الدول املعزولة» واملفهوم الجامعي‬
‫«أوبونتو» (‪()Ubuntu‬٭)‪ ،‬حيث تحاجج قائلة‪:‬‬
‫(٭) تعود جذور أوبونتو ‪ ubuntu‬إىل الفلسفة األفريقية اإلنسانية‪ ،‬حيث تعترب فكرة املجتمع إحدى اللبنات‬
‫األساسية للمجتمع‪ .‬ومصطلح أوبونتو يشري إىل اإلنسانية املشرتكة‪ ،‬والوحدة‪ ،‬واإلنسانية‪ ،‬وأنا وأنت‪ .‬وكلمة ‪ubuntu‬‬
‫هي مجرد جزء من عبارة مقتطفة من لغة الزولو األفريقية تعني أننا ال نكون برشا إال من خالل اإلحساس بإنسانية‬
‫اآلخرين‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫«ال تحتاج املساهامت النظرية املتأتية من الجنوب العاملي ‪ -‬ويف هذه الحالة‬
‫من أفريقيا ‪ -‬إىل أن تكون مختلفة جذر ًّيا عن النظريات املوجودة ليك تشكل‬
‫فهم أفضل للعالقات الدولية‪ .‬إن إعادة تفسري أو تعديل‬ ‫تقد ًما من حيث خلق ٍ‬
‫األطر القامئة وإدخال مفاهيم جديدة للفهم يحوزان القدر نفسه من األهمية»‬
‫)‪.(K. Smith, 2017: 1‬‬
‫لقد اكتسبت مسألة أفريقيا كجهة فاعلة ‪(Bischoff, Aning and Acharya,‬‬
‫)‪ 2016: 11–17‬أهمية أكرب يف حقبة ما بعد الحرب الباردة‪ ،‬إذ ميكن اعتبارها إجابة‬
‫أفريقية عن االهتامم املتزايد لحقل العالقات الدولية يف كل من أمريكا الالتينية‬
‫وآسيا بشأن دور القوى الصاعدة والقوى اإلقليمية‪ .‬ويعرف ويليام براون ‪(2012:‬‬
‫)‪ 1891‬أفريقيا كجهة فاعلة بأبعاد متعددة‪« :‬بصفتها ً‬
‫فاعاًل دول ًّيا جامع ًّيا؛ كمجموعة‬
‫متواصاًل يستخدمه كل من األفارقة‬ ‫ً‬ ‫من الدول لها تاريخ مشرتك؛ وباعتبارها حضو ًرا‬
‫واألجانب يف السياسة الدولية»‪ .‬كام يجادل براون (‪ )2012: 1902‬بأن «التقدير‬
‫املناسب للجهة الفاعلة يحتاج إىل تحديد كيفية وجود تراكامت املامرسة السابقة‬
‫يف الحقائق اليومية التي تواجه الجهات الفاعلة املعارصة»‪ .‬ويف األدبيات املتعلقة‬
‫بهذه اإلمكانية‪ُ ،‬تع َّرف الجهة الفاعلة األفريقية عىل نطاق واسع لتشمل العنارص‬
‫املادية والفكرية يف العالقات اإلقليمية والدولية‪ ،‬لتغطي املجاالت التي تكون‬
‫فيها مساهامت أفريقيا مرئية وذات صلة عىل نحو خاص‪ ،‬مثل اإلقليمية وإدارة‬
‫األمن وعالقات أفريقيا مع العامل الخارجي‪ .‬ويشري الباحثون األفارقة ‪(van Wyk,‬‬
‫)‪ 2016: 113–17‬إىل أمثلة عن الفاعلية األفريقية‪ ،‬مثل الحملة الدولية ضد الفصل‬
‫العنرصي (التي نجحت يف إعالن الفصل العنرصي جرمي ًة ضد اإلنسانية)‪ ،‬وإعالن‬
‫القارة بأكملها منطق ًة خالية من األسلحة النووية وإنشاء الرشاكة الجديدة من أجل‬
‫التنمية األفريقية‪ ،‬كأمثلة ميكنها أن توفر القيادة يف إنشاء أنظمة دولية مثل عملية‬
‫كيمربيل ‪ Kimberley process‬بشأن املاس الدموي‪ ،‬وعىل نحو أعم مثل املشاركة‬
‫األفريقية يف التجمعات غري الغربية أو بني الجنوب والجنوب مثل الربيكس ‪BRICS‬‬
‫وإبسا ‪( IBSA‬الهند والربازيل وجنوب أفريقيا)‪ .‬وعىل عكس املايض‪ ،‬فإن الخطاب‬
‫الجديد بشأن صفة الفاعلية األفريقية ليس خطابا متمحورا عىل نحو حرصي بشأن‬
‫«الحلول األفريقية للمشاكل األفريقية»‪ .‬بل إنه يغطي مجموعة من «املساهامت‬
‫‪383‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫التي يحدد فيها األفارقة مصطلحات ألجل فهم القضايا‪ ،‬ويضعون الرشوط لطبيعة‬
‫ونطاق املشاركة الخارجية» (‪ .)Bischoff, Aning and Acharya, 2016: 1–2‬وال‬
‫يعتمد املفهوم الجديد للفاعلية األفريقية حرص ًّيا عىل االدعاءات املتعلقة بالتميز‬
‫األفريقي أو االستثنائية األفريقية‪.‬‬
‫لقد كانت النزعة اإلقليمية أحد الجوانب الرئيسة للفاعلية األفريقية‪ .‬فقد‬
‫أدى إنشاء االتحاد األفريقي‪ ،‬الذي حل محل منظمة الوحدة األفريقية‪ ،‬إىل إحياء‬
‫االهتامم األكادميي باإلقليمية األفريقية‪ ،‬وقد َت َقاطع ذلك مع املناقشات العاملية‬
‫الناشئة الح ًقا بشأن التدخل اإلنساين ومسؤولية الحامية‪ .‬يسلط الباحثون األفارقة‬
‫الضوء عىل الفاعلية املعيارية والعملية للبلدان األفريقية من خالل مساهامت‬
‫القادة والديبلوماسيني األفارقة‪ ،‬مثل نيلسون مانديال؛ وثابو مبييك ‪Thabo Mbeki‬؛‬
‫وأولوسيغون أوباسانجو ‪Olusegun Obasanjo‬؛ وبطرس بطرس غايل؛ وكويف عنان؛‬
‫وسامل أحمد سامل؛ ومحمد سحنون؛ وفرانسيس دينق ‪ Francis Deng‬يف إنتاج تحول‬
‫عاملي يف املوقف من العقيدة القدمية لعدم التدخل إىل التدخل اإلنساين ‪(Adebajo‬‬
‫)‪ and Landsberg, 2001; Swart, 2016‬ومسؤولية الحامية (‪.)Acharya, 2013b‬‬
‫وقد كررت هذه األفكار املقرتحات السابقة التي ُنوقشت يف الفصل السادس‪،‬‬
‫مثل اقرتاح نكروما قياد ًة عليا أفريقية ودعوة عيل مزروعي إىل التدخل األفريقي‬
‫الداخيل لتأمني السالم واألمن يف أفريقيا‪ .‬فمحمد سحنون الجزائري‪ ،‬الذي شارك‬
‫يف رئاسة اللجنة الدولية املعنية بالتدخل وسيادة الدول (‪ )ICISS‬التي شكلت‬
‫فكرة املسؤولية عن الحامية‪ ،‬يدَّعي أنه إىل جانب قاعدة عدم الالمباالة بالفظائع‬
‫الجامعية الواردة يف القانون التأسييس لالتحاد األفريقي؛ وكذلك «مفهوم السيادة‬
‫باعتبارها مسؤولية» الذي طوره دينغ الباحث والديبلومايس السوداين الذي أصبح‬
‫مواطنًا من جنوب السودان بعد تشكيل ذلك البلد‪« ،‬شكلت مسؤولية الحامية من‬
‫نواح عديدة مساهم ًة أفريقي ًة يف حقوق اإلنسان» (‪ .)Sahnoun, 2009‬وعىل عكس‬ ‫ٍ‬
‫التجمعات اإلقليمية يف آسيا وأمريكا الالتينية‪ ،‬اضطلع االتحاد األفريقي واملجموعة‬
‫االقتصادية لدول غرب أفريقيا بتدخل جامعي‪ ،‬مام أدى إىل فك االرتباط السابق‬
‫مببدأ عدم التدخل‪ .‬ويف هذ السياق‪ ،‬مل يكن األفارقة ُمتلقني غري فاعلني لهذا املعيار‬
‫العاملي الناشئ‪ ،‬لكنهم كانوا ُم َؤيدين نشطني له‪ .‬ويحاجج كوييس أنينغ وإيدو أفول‬
‫‪384‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫(‪ )120 :2016‬بأنه عىل الرغم من املوارد واإلرادة السياسية املحدودين لدى بعض‬
‫البلدان يف املنطقة‪ ،‬فإن االتحاد األفريقي والجامعة االقتصادية لدول غرب أفريقيا‬
‫أظهروا الفاعلية األفريقية يف األمن اإلقليمي والدويل وكانوا «قادة عامليني يف تبني‬
‫وتفعيل مسؤولية الحامية»‪.‬‬
‫أخ ًريا‪ ،‬لقد ُطرحت أفريقيا باعتبارها مصدرا للتفكري الجديد أو البديل يف حقل‬
‫العالقات الدولية‪« ،‬لخلق لغة جديدة‪ ،‬وطريقة جديدة يف التفكري بشأن هذا‬
‫التخصص املعريف» (‪ .)Dunn, 2001: 6‬ويذهب بعض الباحثني األفارقة إىل حد‬
‫املحاججة بشأن إمكانية وجود أكرث من نظام دويل واحد ‪(Claassen, 2011:‬‬
‫)‪ .182‬وعىل هذا النحو‪ ،‬كان مثة نقاش بشأن نظرية العالقات الدولية األفريقية‬
‫ويِل وماقبل االستعامري‬ ‫َ‬
‫القامئة عىل عودة املثقفني األفارقة إىل الواقع السيايس األ ِ‬
‫حذر من أن هذا قد يؤدي إىل‬ ‫يف أفريقيا جنوب الصحراء الكربى‪ .‬لكن البعض َّ‬
‫«مزيد من التهميش» ألفريقيا (‪ .)Claassen, 2011: 181‬يف حني يرى آخرون أن‬
‫التحدي املتمثل يف أبحاث حقل العالقات الدولية هو إدراك أن هناك عديدا من‬
‫االختالف يف أفريقيا‪ ،‬مام يستلزم انتشار العديد من نظريات العالقات الدولية‬
‫استنادًا إىل «الطرق املتعددة للتفكري التي ميثلها هذا التخصص‪ ،‬والعمل عىل‬
‫التعرف عىل أبعادها التي ال ُت َعد عادة جز ًءا من اإلطار التحلييل» ‪(Cornelissen,‬‬
‫)‪.Cheru and Shaw, 2012: 16‬‬

‫‪ - 3 - 5‬الرشق األوسط‬
‫يف معظم أنحاء العامل العريب‪ ،‬ظل الحقل األكادميي للعالقات الدولية ضعيف‬
‫التطور إما بسبب الفوىض السياسية وإما السيطرة االستبدادية‪ .‬أما خارج العامل‬
‫العريب‪ ،‬فقد تطور هذا الحقل األكادميي عىل نحو كبري يف إرسائيل وتركيا‪ ،‬وحتى إىل‬
‫ً‬
‫متكاماًل إىل حد كبري مع‬ ‫حد ما يف إيران‪ ،‬غري أنه يف تركيا وإرسائيل كان ذلك الحقل‬
‫حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز‪.‬‬
‫وعىل ذلك‪ ،‬رأت فرتة ما بعد الحرب الباردة أن اإلسالم قد يكون مصدرا غن ًيا‬
‫محتمال لتفكري حقل العالقات الدولية يف املنطقة‪ .‬فقد ظل الباحثون منقسمني‬
‫بشأن كيفية «إقحام اإلسالم» داخل هذا التخصص‪ .‬فبعض الباحثني يرفضون‬
‫‪385‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫فكرة نظرية العالقات الدولية اإلسالمية باعتبارها نظرية متميزة بسبب موقفها‬
‫الغامض من مكانة الدولة القومية‪ .‬إذ يحاجج شهرربانو تادجباخش ‪Shahrbanou‬‬
‫‪ Tadjbakhsh‬بأن «النموذج الكالسييك لنظرية العالقات العالقات اإلسالمية ال‬
‫ينسجم مع الدول القومية املوروثة التي تشكلت يف املنطقة نتيجة لالستعامر‬
‫والتحديث»‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن اإلسالم قد « َبنَى رؤيته الخاصة للعالقات الدولية‪ ...‬إن‬
‫أساس مختلف‬ ‫اإلسالم كرؤية للعامل‪ ،‬باعتباره متغريا ثقافيا ودينيا وفكريا‪ ،‬سعى إىل ٍ‬
‫للحقيقة والحياة الجيدة التي ميكن أن تقدم بدائل لنظرية العالقات الدولية‬
‫الغربية» (‪ .)Tadjbakhsh, 2010: 174‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬يجب أن ُينظر إىل نظرية‬
‫العالقات الدولية اإلسالمية عىل أنها «نظرية نسقية‪ ،‬ال تتعلق بكيفية تفاعل الدول‬
‫بعضها مع بعض أو كيفية تأثري النظام يف الدولة‪ ،‬ولكنها‪ ...‬متثل باألحرى مفهو ًما‬
‫للنظام العاملي الذي يركز عىل العالقات بني املسلم‪ /‬العريب وغري املسلم‪ /‬العريب‬
‫وكيف ينبغي ترتيب هذا العامل»‪ .‬إذ تختلف الرؤية اإلسالمية للعامل كث ًريا عن‬
‫املفاهيم املعارصة املوجودة يف حقل العالقات الدولية بحيث ال ميكنها أن تنسجم‬
‫مع النظريات املوجودة‪ .‬ومن ثم يجب التعامل مع اإلسالم «كنموذج فكري خاص‬
‫للنظرية الدولية» (‪.)Turner, 2009‬‬
‫ولكن عىل الرغم من هذا االرتياب‪ ،‬فإنه من املمكن ربط اإلسالم مبفاهيم حقل‬
‫العالقات الدولية وتوظيف الرؤية اإلسالمية للعامل من أجل بناء نظرية إسالمية‬
‫للعالقات الدولية ‪ -‬وهي نظرية مبنية عىل «قوة األفكار مثل اإلميان؛ والعدالة؛‬
‫والسعي نحو الحياة الجيدة؛ واألخالق الدينية‪ ،‬يف مقابل السعي وراء املصالح‬
‫املادية والسلطة يف حد ذاتها» (‪ .)Tadjbakhsh, 2010: 191‬يحاجج شهرربانو‬
‫تادجباخش‪ ،‬الباحث اإليراين يف فرنسا‪ ،‬بأن نظرية العالقات الدولية اإلسالمية‬
‫ميكن أن تستند إىل مصادر كالسيكية مثل القرآن والحديث والسنة واالجتهاد‪،‬‬
‫وإىل األصولية والحداثة وكالهام رجعي ودفاعي؛ وإىل أسلمة املعرفة «كطريق‬
‫ثالث» بني األصولية والحداثة (‪ .)Tadjbakhsh, 2010: 176–7‬ففي حني ُتص َّور‬
‫الفلسفة اإلسالمية يف الغرب عىل أنها غري عقالنية‪ ،‬فإن فكرة االجتهاد ُمُت َّثل كجزء‬
‫من «الالهُ وت اإلسالمي العقالين»‪ ،‬والذي ينص عىل أنه «ال ميكن استيعاب فكرة‬
‫الله إال من خالل العقل البرشي الفردي املجرد» (‪.)Tadjbakhsh, 2010: 178‬‬
‫‪386‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫ففي املايض‪ ،‬كان الفالسفة املسلمون من أمثال الكندي (‪)873-800‬؛ والرازي‬


‫(‪)925-865‬؛ والفارايب (‪)950-873‬؛ وابن سينا (‪)1037-980‬؛ وابن رشد (‪-1126‬‬
‫‪)1198‬؛ والزهراوي (‪ )1013-936‬يتعارضون مع «االعتقاد الكاثولييك يف سلطة‬
‫اإلله» السائد‪ ،‬وشددوا عىل «مركزية الفرد» )‪.(J. M. Hobson, 2004: 178–80‬‬
‫إن اإلسالم ليس املصدر الوحيد املحتمل لتطوير مفاهيم ونظريات حقل‬
‫العالقات الدولية املحيل يف الرشق األوسط‪ .‬فهذه املنطقة ميكنها أن تحذو حذو‬
‫الصني والهند‪ ،‬فضال عىل الغرب‪ ،‬يف النظر إىل الحضارات الكالسيكية‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫املرصية والسومرية والفارسية‪ ،‬كأساس الستخالص نظريات للعالقات الدولية‪ .‬إذ‬
‫اليزال يتعني استغالل هذه اإلمكانات‪ ،‬ودراسة ديبلوماسية العامرنة(٭) من خالل‬
‫توظيف نظرية العالقات الدولية ‪(Cohen and Westbrook, 2000; Scoville,‬‬
‫)‪ُ 2015‬ي َعد ً‬
‫مثااًل واعدًا ملثل هذه الجهود‪.‬‬
‫لقد تطور حقل العالقات الدولية األكادميي بقوة يف تركيا‪ .‬فبينام كانت هذه‬
‫الدولة تركز يف وقت سابق عىل تدريب صانعي السياسات والديبلوماسيني عىل‬
‫حساب تطوير النظرية والتنظري ‪(Aydinli and Mathews, 2009: 209; Turan,‬‬
‫)‪ ،2017: 2‬وجد الباحث سيشكني كوستيم (‪ )2015: 59‬أن دراسة حقل العالقات‬
‫الدولية يف تركيا كانت تبتعد عن هيمنة مقاربات التاريخ الديبلومايس متوجهة «نحو‬
‫تبني النقاشات النظرية الكربى يف املجال الواسع لحقل العالقات الدولية»‪ .‬وتأثر منو‬
‫حقل العالقات الدولية بتأثري الدولة الرتكية التي تسعى إىل الحصول عىل عضوية‬
‫االتحاد األورويب‪ ،‬والتي تستضيف املؤمترات املنعقدة من قبل الجمعيات الدولية‪،‬‬
‫مثل اللجنة العاملية للدراسات الدولية‪ .‬ومثة اهتامم متزايد باإلقليمية وتحول القوة‬
‫العاملية‪ ،‬حيث ُيد َّرس دور القوى الصاعدة مثل تركيا نفسها‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬اليزال كثري‬
‫من حقل العالقات الدولية الرتيك يركز يف األغلب عىل مختلف الجوانب اإلقليمية‬
‫واملواضيعية لعالقات تركيا الخارجية‪ ،‬مع وجود القليل من الرؤى النظرية األصلية‬
‫(‪ ،)Köstem, 2015: 62‬وقد أحرز القليل من التقدم يف اقتحام «النظريات الكربى‬
‫للعالقات الدولية» (‪ .)Turan, 2017: 3‬وعىل ذلك‪ ،‬وكام هو الحال مع الصني‪،‬‬
‫(٭) هي حقبة من حقبات تاريخ اململكة املرصية القدمية‪ ،‬ترجع فرتة هذه الحقبة من القرن الـ ‪ 15‬إىل القرن الـ‬
‫‪ 13‬قبل امليالد‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪387‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أحدث عدد من الباحثني األتراك الذين يعملون داخل البالد وخارجها تأثريات‬
‫مهاًم من تكامل حقل العالقات الدولية بني املَ ْر َكز‬
‫وسمعة دولية كبرية‪ ،‬وكانوا جز ًءا ً‬
‫واألَ ْط َراف‪ .‬وهؤالء يشتملون عىل‪ :‬بهار روميلييل (‪ )Bahar Rumelili 2004‬بشأن‬
‫الهوية؛ وعائشة زاراكول (‪( )Ays ̧e Zarakol 2011, 2014‬التي ُتد ِّرس اآلن يف‬
‫كامربيدج) بشأن الوصم؛ وطوران كاياوغلو (‪ )Turan Kayaoglu 2010a‬بشأن نقد‬
‫«املركزية الويستفالية األوروبية» وخارج الحدود اإلقليمية (‪)Kayaoglu, 2010b‬؛‬
‫ونوري يوردسيفر (‪ )Nuri Yurdusev 2003, 2009‬بشأن املدرسة اإلنجليزية؛‬
‫وبينار بيلجني (‪ )Pinar Bilgin 2004a, b, 2008‬بشأن دراسات ما بعد االستعامرية‬
‫والنسوية واألمن‪.‬‬

‫‪ - 3 - 6‬روسيا ورشق أوروبا ووسطها‬


‫كام ُلوحظ يف الفصل السادس‪ ،‬كان لتطور حقل العالقات الدولية يف االتحاد‬
‫السوفييتي السابق وبلدان الكتلة الشيوعية يف أوروبا الرشقية خالل الحرب الباردة‬
‫سامت مشابهة لتلك املوجودة يف كل من املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ ،‬ولكن القيود السياسية‬
‫التي فرضها الشيوعيون كانت عىل نحو خاص شبيهة بتلك التي سادت يف دول‬
‫األَ ْط َراف االستبدادية‪ .‬ومع سقوط الشيوعية وجد مجتمع حقل العالقات الدولية‬
‫يف املنطقة مساحة أكرب للتعامل مع مجموعة واسعة من املوضوعات والنظريات‪.‬‬
‫واضحا يف االهتامم بـ «العوملة‪...‬‬
‫ً‬ ‫ففي روسيا كان هذا التوسع الذي شهده الحقل‬
‫الجوانب القانونية واالقتصادية للنشاط الدويل ملناطق روسيا؛ التحديات والتهديدات‬
‫الجديدة؛ التكامل األورويب وما إىل ذلك من املواضيع» (‪.)Lebedeva, 2004: 278‬‬
‫ومن الناحية النظرية‪ ،‬وجدت كل من الليربالية والبنائية موطئ قدم لها هناك‪،‬‬
‫وظلت الواقعية مؤثرة للغاية وتحولت إىل اهتامم قوي بالجغرافيا السياسية‪.‬‬
‫وكمثال عىل ذلك‪ ،‬فقد وجدت أطروحة هنتنغتون ‪ Huntington‬بشأن «صدام‬
‫الحضارات» صدى أكرب يف روسيا أكرث مام وجدته أطروحة فوكوياما بشأن «نهاية‬
‫التاريخ» (‪ .)Lebedeva, 2004: 275‬إن التعددية القطبية الناشئة‪ ،‬والتي ميكن‬
‫لروسيا من خاللها استعادة هويتها كعضو قديم يف نظام القوى الكربى األوروبية‪،‬‬
‫قدمت طريقة إلبراز هوي ٍة روسي ٍة متميز ٍة يف مواجهة الغرب‪ .‬ويف حني َق ِب َل بعض‬
‫‪388‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫الباحثني الروس أهمية نظرية العالقات الدولية الغربية‪ ،‬اعتقد البعض اآلخر أنها‬
‫بحاجة إىل تفسري وف ًقا للتقاليد والظروف والهوية الروسية‪ .‬لقد سعى بعض باحثي‬
‫حقل العالقات الدولية الروس إىل استخدام تعددية األقطاب والحضارات كأساس‬
‫لتطوير مقاربة روسية «غري غربية» تجاه العالقات الدولية‪ ،‬أو حتى مدرسة لحقل‬
‫العالقات الدولية (‪ ،)Makarychev and Morozov, 2013: 329, 335‬وهذا يشبه‬
‫إىل حد ما ظهور «املدرسة الصينية للعالقات الدولية» التي ُنوقشت ساب ًقا‪ ،‬ولكنها‬
‫نجاحا‪ .‬إن الخطاب الحضاري والجيوسيايس الصاعد يف حقل‬ ‫كانت مدرسة أقل ً‬
‫العالقات الدولية الروسية يقطع كال االتجاهني‪ ،‬ويخلق يف الوقت نفسه أساسا‬
‫أيضا من تطوير أجندة عاملية أوسع يف أبحاث‬ ‫ملقاربة روسية متميزة ولكنه مينع ً‬
‫حقل العالقات الدولية (‪ .)Makarychev and Morozov, 2013: 339‬وقد ُل ِّخص‬
‫التوتر الكبري القائم داخل مجتمع حقل العالقات الدولية الرويس عىل نحو مناسب‬
‫من طرف أندريه ماكاريشيف ‪ Andrey Makarychev‬وفياتشيسالف موروزوف‬
‫(‪:)Viatcheslav Morozov 2013: 345‬‬
‫«يتميز املجال التخصيص لحقل العالقات الدولية يف روسيا بوجود فجوة واسعة‬
‫بني الباحثني الذين يتعاملون مع روسيا كحالة تحكمها القوانني العامة للتحديث‬
‫واالنتقال إىل الدميوقراطية‪ ،‬وزمالئهم من الباحثني الذين يرصون عىل أن مكانة‬
‫روسيا فريدة من نوعها إىل درجة أنها تتطلب تطوير منصة نظرية مختلفة نوعيا‪.‬‬
‫ويف التحليل األخري‪ ،‬نتج هذا االنقسام من جراء تسييس الخطاب األكادميي‪ ،‬الذي‬
‫أصبح يتمحور بشأن مفهوم الهوية»‪.‬‬
‫باملقارنة مع تحوله الداخيل نسب ًيا يف روسيا‪ ،‬كان حقل العالقات الدولية يف‬
‫دول أوروبا الرشقية والوسطى يف مرحلة ما بعد الشيوعية أكرث تطل ًعا إىل الخارج‪،‬‬
‫وخاصة تجاه الغرب الليربايل‪ ،‬وذلك مبساعدة دخول عديد من الدول إىل حلف‬
‫الناتو واالتحاد األورويب‪ .‬وعىل رغم أن جمعية أوروبا الوسطى والرشقية للدراسات‬
‫الدولية التي ُأنشئت حدي ًثا مع منشورها الرئيس «مجلة العالقات الدولية والتنمية»‬
‫قد أنشأت نقطة محورية ألبحاث حقل العالقات الدولية داخل املنطقة‪ ،‬فإن أبحاثها‬
‫تأثرت عىل نحو كبري بالنظريات واألبحاث الغربية وكذلك بالدعم املايل الغريب‬
‫(‪ .)Drulák, Karlas and Königová, 2009: 243‬وبغض النظر عن هذا الدعم‬
‫‪389‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الخارجي‪ ،‬أو رمبا بسببه‪ ،‬ظلت حالة حقل العالقات الدولية يف املنطقة متخلفة من‬
‫حيث النظرية واملنهج‪ .‬ورمبا أدى االعتامد الخارجي دو ًرا ‪ -‬عىل عكس روسيا – يف‬
‫عدم تطور أبحاث حقل العالقات الدولية يف بلدان أوروبا الوسطى والرشقية‪ ،‬أي أنه‬
‫مل يسهم يف تطوير «أي مفاهيم أو منظورات عامة مناسبة من شأنها أن تشري إىل‬
‫السياق املحيل» (‪.)Drulák, Karlas and Königová, 2009: 258‬‬

‫خالصات‬
‫استنادًا إىل املناقشة التي متت يف الفصول ‪ 2‬و‪ 4‬و‪ 6‬و‪ ،8‬ميكن إجراء ثالث‬
‫مالحظات ختامية بشأن تطور تفكري حقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف‪ :‬بشأن‬
‫التنوع اإلقليمي؛ وبشأن ضعف نسبية التطور النظري للحقل؛ وبشأن النشاط‬
‫البحثي‪ /‬األكادميي‪.‬‬
‫أو ًاًل‪ ،‬مثة قدر كبري من التنوع قائم بني األقاليم ويف داخلها‪ .‬إنه ملن املتوقع‬
‫حدوث تباين بني األقاليم‪ ،‬وذلك نظ ًرا إىل اختالف تاريخها الجغرايف والثقايف‬
‫والسيايس‪ .‬ويف الواقع‪ ،‬ميكن القول إن تفكري حقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف‬
‫يعكس يف املقام األول سيا ًقا إقليم ًيا أو محل ًيا‪ .‬فقد أكدت مناطق مختلفة‬
‫عىل رسديات مركزية مختلفة‪ :‬عىل سبيل املثال‪ ،‬التبعية والهيمنة واالستقاللية‬
‫ألمريكا الالتينية؛ التهميش وصفة الفاعلية ألفريقيا؛ واملايض الحضاري واإلذالل‬
‫االستعامري آلسيا‪ .‬فبالنسبة إىل الرشق األوسط (باستثناء إرسائيل)‪ ،‬كان اإلسالم‬
‫مرتبطا بكل من الحضارات السابقة والظروف‬ ‫ً‬ ‫َمحط تركيز إضايف‪ ،‬وإن كان‬
‫السياسية السابقة يف املنطقة‪ .‬ويف حني أن العالقات الدولية يف آسيا تتطلع‬
‫اآلن عىل نحو متزايد إىل العودة إىل املكانة والقوة‪ ،‬فإن هذا ال ينطبق عىل‬
‫الرشق األوسط العريب‪ ،‬مام يعكس حالة التنمية االقتصادية والقوة اإلسرتاتيجية‬
‫الضعيفة فيه‪ .‬إن التنوع داخل اإلقليم كان تنوعًا عىل طول الخطوط الوطنية‬
‫ودون اإلقليمية‪ .‬ويبدو أن حقل العالقات الدولية ُي َعدُّ أكرث تقد ًما يف الصني‬
‫والهند‪ ،‬وكذلك يف كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وتركيا‪ .‬كام ُيظهر إقليم‬
‫جنوب رشق آسيا اختالفات وطنية أكرب؛ حيث إن سنغافورة تتقدم بال شك‬
‫أيضا زيادة يف‬ ‫مقارنة بجريانها‪ ،‬لكن ماليزيا وتايلند وإندونيسيا والفلبني تشهد ً‬

‫‪390‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫االهتامم بهذا التخصص املعريف‪ .‬ويف الرشق األوسط‪ ،‬يبدو أن مقاربات وطنية‬
‫مميزة إىل حد ما بدأت تظهر يف إيران وتركيا‪ ،‬خاصة بشأن موضوع اإلسالم‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ ،‬مع استثناءات قليلة أبرزها يتأىت من الصني وتركيا‪ ،‬اليزال العمل النظري‬
‫يحا‪ .‬فأمريكا الالتينية مل تتابع ح ًقا مساهمتها النظرية املبكرة واملتميزة لنظرية‬ ‫َش ِح ً‬
‫التبعية‪ ،‬عىل رغم أن التفكري يف حقل العالقات الدولية يف معظم العامل غري الغريب‬
‫كان نظر ًّيا عند نشأته‪ .‬ويف كثري من الحاالت‪ ،‬بدأت دراسات العالقات الدولية بهدف‬
‫تدريب الديبلوماسيني‪ .‬وعندما كانت مثة أفكار نظرية‪ ،‬خاصة عندما يأخذ املرء‬
‫تعري ًفا واس ًعا للنظرية‪ ،‬فقد مرت هذه األفكار من دون أن يالحظها أحد يف الغرب‬
‫ألنها مل تكن تتعلق مبفاهيم ومفردات حقل العالقات الدولية الغريب (مبا يف ذلك‬
‫مصطلحات مثل الواقعية؛ واملثالية؛ والليربالية؛ وتوازن القوى؛ واملعضلة األمنية)‪.‬‬
‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬فإن عديدا من الباحثني من الجنوب العاملي الذين أسهموا يف حقل‬
‫العالقات الدولية يقيمون أساسا يف الغرب‪ .‬أما نظرية ما بعد االستعامرية‪ ،‬التي‬
‫يعتربها البعض خليفة لنظرية التبعية وأن كتابها الرئيسني هم باحثون من الجنوب‬
‫العاملي (عىل الرغم من أن كثريين منهم يف الغرب)‪ ،‬فلم ُت َعد نظرية سائدة يف َم ْر َكز‬
‫حقل العالقات الدولية‪ ،‬عىل الرغم من أنها ُتتداول اآلن بقوة متزايدة يف املناقشات‬
‫النظرية الحاصلة يف الغرب‪ ،‬كام بات لها وجود ملحوظ يف نصوص حقل العالقات‬
‫الدولية الرئيسة خالل اآلونة األخرية‪ .‬ب ْيد أن دراسات حقل العالقات الدولية يف‬
‫الجنوب العاملي كانت يف األغلب مدفوعة باألحداث الجارية واملخاوف املتعلقة‬
‫ً‬
‫ارتباطا‬ ‫بالسياسات واملعرفة النظرية التطبيقية‪ .‬إذ تظهر جميع أقاليم األَ ْط َراف‬
‫وثي ًقا بالسياسة والتطبيق العميل‪ .‬ويف حني أن البعض يف الغرب يأسف لالنقسام‬
‫صحيحا‬
‫ً‬ ‫األكادميي والسيايس الحاصل يف حقل العالقات الدولية‪ ،‬فقد يكون العكس‬
‫يف العديد من مناطق العامل الثالث‪ ،‬وال سيام يف آسيا (‪ .)Acharya, 2014d‬وعىل‬
‫الرغم من بعض االستثناءات امللحوظة‪ ،‬التزال األَ ْط َراف متثل إىل حد كبري ُم ْس َت ْه ِل ًكا‬
‫لنظريات العالقات الدولية الغربية‪.‬‬
‫إن أحد االنتقادات املألوفة لنظرية العالقات الدولية غري الغربية هو أنها مل‬
‫تستطع تجاوز النظريات واملناهج الغربية الحالية‪ ،‬ولكنها ُتقحم عىل نحو بسيط‬
‫وص َف َة الفاعلية املحلية يف مفاهيم وتصنيفات حقل العالقات‬ ‫الثقافة األصلية ِ‬
‫‪391‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الدولية الحديثة واملشتقة من الغرب‪ .‬غري أن نرش نظرية العالقات الدولية الغربية‬
‫يف العامل غري الغريب ناد ًرا ما يطرح إشكالية التبني الكامل لتلك النظريات‪ً .‬‬
‫وبداًل‬
‫من ذلك‪ ،‬فإن حقل العالقات الدولية عىل نحو عام‪ ،‬والنظرية عىل نحو خاص‪،‬‬
‫يتقدمان من خالل عملية «التوطني‪ /‬التبيئة» (‪()Acharya, 2004, 2009‬٭)‪ ،‬حيث‬
‫يختار العلامء املحليون األفكار واملفاهيم األجنبية أو يعدلونها أو يكيفونها ليك‬
‫تتالءم مع الحاجة والسياق املحليني (الوطني واإلقليمي)‪ .‬و ُترصد عملية أخرى ذات‬
‫صلة يف مفهوم التبعية املعيارية‪ ،‬إذ يزاوج باحثو الجنوب العاملي بني املفاهيم‬
‫الثقافية والسياسية األصلية مع املفاهيم املستوردة وذلك ملنحها تأط ًريا أكرث شمولية‬
‫(‪ .)Acharya, 2011b‬وهذا ال يفرس فقط االختالفات القامئة يف «التحوالت النظرية»‬
‫أيضا مساهمة مهمة أو‬ ‫التي توجد بال شك ضمن األقاليم املختلفة‪ ،‬ولكنه يقدم ً‬
‫«فاعلي ًة» لألطراف ُتس ِه ُم يف انتشار حقل العالقات الدولية حول العامل‪ :‬وهو ما ميثل‬
‫حاساًم لبناء حقل عالقات دولية عاملي‪ .‬وكام استنتج كل من تكرن وويفر‬ ‫ً‬ ‫مسا ًرا‬
‫(‪ )2009c:338‬فإنه «من الواضح أن حقل العالقات الدولية يف جميع أنحاء العامل‬
‫يتشكل من ِق َبل حقل العالقات الدولية الغريب‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬فإن الوضع بالتأكيد ال‬
‫ميثل حالة «تطابق» أو «متاثل» عىل وجه التحديد ألن حقل العالقات الدولية الغريب‬
‫ُي َرَت َْج ُم إىل يشء مختلف عندما ينتقل إىل األَ ْط َراف»‪.‬‬
‫شاماًل للنظريات‬ ‫وهذا يعني أن األعامل النظرية يف األَ ْط َراف ال متثل تبن ًّيا ً‬
‫رصيحا أو الدعوة إىل بداية جديدة متا ًما من ناحية‬ ‫ً‬ ‫الغربية من ناحية‪ ،‬وال ً‬
‫رفضا‬
‫أخرى‪ .‬إذ تنجز تلك األعامل مع عمليات تبيئة‪/‬توطني وتفريع وتهجني نظرية‬
‫العالقات الدولية يف العامل غري الغريب كام يحصل مع باحثي الجنوب العاملي‪،‬‬
‫إذ تبدو املفاهيم الغربية لهم يف البداية ذات صلة وحتى جذابة‪ ،‬ثم رسعان ما‬
‫يشعرون بخيبة األمل من مركزيتها األوروبية‪ .‬ويفرس هذا سبب ظهور الكثري من‬
‫التفكري واملامرسات غري الغربيني يف حقل العالقات الدولية عىل أنها هجينة ‪(A.‬‬
‫)‪ B. Tickner, 2009: 33‬أو‪ ،‬بتعبري بيلجن (‪َ ،)2008: 19–20‬ت ْظ َه ُر عىل أنها ُت َك ِّو ُن‬
‫(٭) نحن نفضل كلمة توطني عىل كلمة «الرتجمة» التي ال تنقل من هو املرتجم‪ ،‬أي الفواعل املحلية‪ ،‬وعىل كلمة‬
‫‪ ،vernacularisation‬والتي تعني تحويل اللغة الرسمية إىل اللهجة العامية‪ ،‬التي تركز عىل اللغة بدال من الجوهر‪.‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪392‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫«تقري ًبا اليشء نفسه ولكن ليس متا ًما» من حقل العالقات الدولية الغريب‪ .‬ويف حني‬
‫أنها غري كافية ملواجهة التصور القائل إن الجنوب العاملي هو ُم ْس َت ْه ِل ٌك لنظريات‬
‫العالقات الدولية ا ُمل ْنت ََجة يف الغرب وخاصة يف الواليات املتحدة‪ ،‬فقد أسهمت‬
‫عمليات التبيئة‪ /‬التوطني هذه يف تحول نظري متزايد يف الجنوب العاملي ويف تربير‬
‫مناشدات بعض الباحثني من بلدان الجنوب ‪(Bilgin, 2008; K. Smith, 2012:‬‬
‫)‪ 28–9‬بعدم تجاهل أو استبعاد أهميتهم‪.‬‬
‫لقد ناقشنا مزايا (التعبئة) وعيوب (ضيق األفق‪ ،‬استحواذ الدولة) «املدارس‬
‫الوطنية» لحقل العالقات الدولية يف عديد من األماكن ‪(Acharya and Buzan,‬‬
‫)‪ .2007a‬إن الشاغل الرئيس ألي مدرسة وطنية هو ما إذا كان ميكنها «تجاوز‬
‫ضيق التفكري» (‪ ،)Acharya, 2014c‬أي السفر خارج السياق الوطني أو اإلقليمي‬
‫الذي انبثقت منه يف املقام األول‪ ،‬متا ًما مثل ما فعلت املدرسة اإلنجليزية ومدرسة‬
‫كوبنهاغن (نظرية األمننة ومركبات األمن اإلقليمي)‪ .‬وإذا كانت «املدارس» مفيدة‬
‫فقط لرشح التطورات املتعلقة ببلد أو إقليم معني‪ ،‬فإن انتشارها ينطوي عىل‬
‫مخاطر أكرب لتجزئة هذا التخصص املعريف‪ .‬إن هذا ُيشكل يف الواقع تحديا كبريا‬
‫لتطوير حقل العالقات الدولية العاملي انطالقا من التفكري واملصادر املحليني‪ .‬وكام‬
‫أوضحنا‪ ،‬فإن بعض العلامء الصينيني البارزين يواجهون هذا التحدي‪ ،‬الذي يجب‬
‫أن يكون ذا أهمية كبرية لنظرائهم يف آسيا ومجتمع حقل العالقات الدولية األوسع‪.‬‬
‫إن هذا ال يعني أن حقل العالقات الدولية الغريب وغري الغريب‪ /‬التقليدي والعاملي‬
‫متعارضون‪ ،‬بل يعني أنهم متقاربون ويعزز كل منهام اآلخر‪ .‬وهذا يتامىش مع‬
‫العنرص األسايس لحقل العالقات الدولية العاملي من حيث إنه ال يحل محل نظريات‬
‫العالقات الدولية الحالية ولكنه يسعى إىل إثرائها بضخ مزيد من األفكار واملامرسات‬
‫ا ُملتَأَ ِّتية من العامل غري الغريب‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ ،‬كان مفكرو حقل العالقات الدولية القادمني من األَ ْط َراف يف كثري من‬
‫األحيان باحثني نشطاء‪ .‬إذ مل يسهموا فقط يف نقد اإلمربيالية أو االستعامرية‪ ،‬مثل‬
‫نظرية االستنزاف لناوروجي؛ أو أطروحة جيمس بشأن إنهاء استعامر جزر الهند‬
‫الغربية الربيطانية؛ أو تنظيم حركات مناهضة لالستعامر عىل أساس وطني أو‬
‫إقليمي (أطروحة غاريف بشأن النزعة الوحدوية األفريقية هي مثال رئيس عىل‬
‫‪393‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ذلك)‪ .‬بل أسهموا أيضا يف نقد الفكر الغريب‪ ،‬مبا يف ذلك األيديولوجية املاركسية‬
‫التي كانت تيا ًرا قو ًّيا داخل كل من العامل االستعامري واملستعمرات السابقة ألمريكا‬
‫الالتينية‪ .‬ومن األمثلة عىل أولئك الذين تحدوا املاركسية وعدلوها عىل املستوى‬
‫الفكري‪ ،‬هنالك املفكرون البريوفيون هيا ‪ Haya‬وماريتيغي ‪Mariátegui‬؛ واملفكر‬
‫جيمس من ترينيداد؛ واملفكر مانابيندارا ناث روي ‪ Manabendra Nath Roy‬من‬
‫الهند‪ .‬كام أن بعضا من مفكري األَ ْط َراف رفضوا الشيوعية‪ ،‬حيث يعتقد غاريف أن‬
‫الشيوعية كانت أكرث فائدة للعرق األبيض الذي سيستخدم السود للحصول عىل‬
‫السلطة‪ .‬ومل يعتقد جيمس أن الحركة القومية السوداء كانت بحاجة إىل الدور‬
‫الطليعي لحزب تروسيك ألنها كانت مُنَظمة عىل نحو أفضل وعىل نحو مستقل عنه‪.‬‬
‫ومل يكن عيل مزروعي يرى الشيوعية حلي ًفا للقومية والتقدم‪.‬‬
‫جمع عديد من هؤالء املفكرين عىل نحو مبارش بني النشاط السيايس والقيادة‬
‫مع االستكشافات والتحليالت الفكرية‪ .‬حيث ينتمي غاريف وجيمس ورودين إىل فئة‬
‫الباحثني الناشطني عىل غرار مهامتا غاندي؛ وخوسيه ريزال؛ وجامل الدين األفغاين؛‬
‫وليانج كيتشاو؛ وسون يات سني وغريهم يف حقبة سابقة‪ .‬ويف فئة الباحثني‪-‬القادة‪،‬‬
‫ميكن للمرء أن يضع إريك ويليامز ‪ Eric Williams‬من ترينيداد؛ وتشيدي جاغان‬
‫‪ Chedi Jagan‬من غويانا (الذي تبنى فكرة النظام اإلنساين العاملي)؛ وميخائيل‬
‫مانيل ‪ Michael Manley‬من جامايكا (الذي دافع عن االشرتاكية الدميوقراطية)‪.‬‬
‫لقد شكل هؤالء الباحثون‪-‬القادة أشباهً ا لنهرو وغريه من القادة املفكرين السابقني‪.‬‬
‫أيضا حاالت عديدة للمفكرين الذين أثروا يف القادة‪ ،‬مثل جيمس‬ ‫وكانت هناك ً‬
‫ونكروما‪ ،‬ومزروعي مع نرييري‪ ،‬وعالقة طاغور مع غاندي‪.‬‬
‫مثة جانب آخر لهذه املجموعة يتمثل يف طبيعة وتأثري تفكريهم العابر للحدود‬
‫الوطنية‪ ،‬والحركات التي قادوها‪ .‬لقد تفاعلوا وتعلموا بعضهم من بعض‪ ،‬كام‬
‫انخرطوا يف مناقشات وخالفات مثرية‪ .‬فقد كان روبرت جيمس وجورج بادمور‬
‫أصدقاء خالل مرحلة الطفولة ورشكاء يف الكفاح ضد االستعامر وتأثروا بكتابات‬
‫غاريف‪ .‬ويف الثالثينيات واألربعينيات من القرن املايض‪ ،‬اختلف غاندي ووليام دو‬
‫بويز بشأن فائدة الالعنف كمقاربة ملناهضة لالستعامر‪ .‬ويف عرشينيات القرن‬
‫املايض‪ ،‬اختلف هيا وماريتيغي بشأن مقاربة «الجبهة املتحدة» (التي تجمع جهود‬
‫‪394‬‬
‫حقل العالقات الدولية بعد العام ‪1989‬‬

‫القوى الثورية والربجوازية املتعاطفة) وما إذا كانت الرأساملية ستكون املرحلة‬
‫النهائية أو األوىل من االستعامر يف العامل غري األورويب‪ .‬ويف الثالثينيات من القرن‬
‫املايض‪ ،‬رفض دو بويز قومية غاريف السوداء لكونها كانت متطرفة للغاية‪ ،‬وهو ما‬
‫يرقى إىل امتياز أن السود ال ميكن أن يكونوا متساوين مع البيض‪ ،‬بينام كان غاريف‬
‫وحكم عليه بأنه متحيز ضده بسبب‬ ‫يشك يف قرب دو بويز من العرق األبيض ُ‬
‫تنشئته الكاريبية‪ .‬ويف العام ‪ ،1970‬ناقش عيل مزروعي مع رودين فوائد االستعامر‪،‬‬
‫خاصة اللغة اإلنجليزية‪ ،‬بالنسبة إىل الشعوب األصلية‪.‬‬
‫وفيام يتعلق بالحركات التي قادها هؤالء املفكرون‪ ،‬ميكن التطرق إىل بعض‬
‫األمثلة الرئيسة‪ .‬فقد أطلق غاندي أفكاره وحملته املناهضة لالستعامر يف جنوب‬
‫أفريقيا‪ ،‬قبل االنتقال إىل الهند‪ .‬وقد جمع املؤمتر الدويل األول ملناهضة اإلمربيالية‬
‫واالستعامر‪ ،‬الذي عُ قد يف بروكسل يف العام ‪ ،1927‬العديد من القادة املناهضني‬
‫لالستعامر‪ ،‬ومن بينهم نهرو من الهند‪ ،‬ومحمد حتا من إندونيسيا (نائب رئيس‬
‫الدولة بعد ذلك)‪ ،‬وممثلو املؤمتر الوطني األفريقي وحركة نجم شامل أفريقيا‬
‫الجزائرية الثورية‪ .‬وقد حرض مؤسس حزب الكونغرس الهندي‪ ،‬ناوروجي‪ ،‬املؤمتر‬
‫األفريقي األول يف لندن يف العام ‪ .1900‬وكان مانابندرا ناث روي الهندي هو مؤسس‬
‫الحزب الشيوعي املكسييك‪ .‬وقد تفاعل العديد من املفكرين الكاريبيني واألفارقة‬
‫بعضهم مع بعض ليس فقط يف تلك املناطق‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا يف أوروبا و‪/‬أو الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬حيث درسوا وعملوا هناك أحيا ًنا‪.‬‬
‫وبينام تلقى عديد من هؤالء املثقفني تعليمهم يف الغرب‪ ،‬ودرس بعضهم‬
‫يف جامعات النخبة مثل أكسفورد؛ وكلية لندن لالقتصاد؛ وجامعة هارفارد‪ ،‬كان‬
‫تفكريهم وكتاباتهم تركز دامئًا عىل ظروف املكان وظروف األصل‪ .‬لقد تأثرت‬
‫أفكارهم بالتفكري الغريب‪ ،‬لكنهم غال ًبا ما رفضوا هذا التفكري أو كيفوه مع سياق‬
‫واحتياجات املجتمعات التي أتوا منها‪ .‬خالل إعادة بناء تاريخ حقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬ال نحتاج إذن إىل النظر إىل املايض فقط‪ ،‬ولكن نحتاج ً‬
‫أيضا إىل النظر يف‬
‫تاريخ الحقل عىل نطاق أوسع‪ .‬وبسبب الضعف املؤسيس والتطور األكادميي املتأخر‬
‫يف معظم دول العامل الثالث‪ ،‬فإن تفكري حقل العالقات الدولية كان يضطلع به‬
‫املثقفون العامون والقادة السياسيون أكرث بكثري مام كان يضطلع به األكادمييون‪.‬‬
‫‪395‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وكان األمر نفسه ينطبق عىل تفكري حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز خالل القرن‬
‫التاسع عرش وأوائل القرن العرشين‪ ،‬حيث‪ ،‬كام أوضحنا ذلك من قبل‪ ،‬أصبح حقل‬
‫العالقات الدولية حقال أكادمي ًيا يف األغلب بعد العام ‪ .1945‬وليس من املستغرب‬
‫أن يكون مثة انفصال يف التوقيت التطوري لتفكري حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز‬
‫واألَ ْط َراف‪ ،‬وهذا ال ُي َعدُّ سب ًبا الستبعاد تفكري حقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف من‬
‫تاريخ هذا التخصص املعريف‪.‬‬

‫‪396‬‬
‫احلديثة‬

‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫‪9‬‬

‫النظام العاملي مابعد‬


‫الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫مقدمة‪ :‬املجتمع الدويل العاملي يف تحول‪/‬أزمة‬


‫يف الفصل السابع ناقشنا أنه منذ نحو العام‬
‫‪ ،2008‬بدأ املجتمع الدويل العاملي عىل نح ٍو‬
‫األ َ‬
‫وىَل‬ ‫واضح يف التحرك نحو االنتقال من الصيغة ُ‬
‫وىَل ا ُمل َعدلة التي كان يهيمن عليها‬ ‫والصيغة ُ‬
‫األ َ‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل‬
‫الغرب‪ ،‬إىل الصيغة الثا ِنية ُ‬
‫ال َعالَ ِمي‪ .‬لقد بينا كيفية توسع املَ ْر َكز يف عالقته‬
‫مع األَ ْط َراف حيث بدأت الدول النامية الكبرية‬
‫مثل الصني والهند يف االضطالع بأدوار القوى‬
‫الكربى‪ .‬وكانت الرثوة والقوة والسلطة الثقافية‬
‫تتقسم مبتعد ًة بذلك عن املَ ْر َكز الغريب القديم‬
‫«قد يستمر االستياء التاريخي ضد الغرب‬
‫واليابان‪ .‬وقد تزامن ذلك مع تراجع مطرد‬ ‫فرت ًة طويلة قد تضاهي طول فرتة الهيمنة‬
‫ملكانة الواليات املتحدة كقوة عظمى وحيدة‬ ‫الغربية‪ ،‬وإذا حدث ذلك فسوف يُضعف‬
‫فرص اإلدارة املالمئة ملشاكل املصري املشرتك‬
‫من حيث القدرة املادية واملكانة والسلطة‬ ‫عىل املستوى العاملي»‬

‫‪397‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الفكرية‪ .‬لقد كان املرشوع الليربايل الذي َقدَّم منذ فرتة طويلة أسطورة غائية لهيمنة‬
‫الغرب عىل نح ٍو عام والواليات املتحدة (واألطراف اإلنجليزية) عىل نح ٍو خاص‪،‬‬
‫يعيش أزمة عميقة نتيجة الركود الكبري الذي بدأ يف العام ‪2008‬؛ والتصويت لرتامب‬
‫وخروج بريطانيا من االتحاد األورويب يف العام ‪ .2016‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬بينام أصبحت‬
‫ديناميات املَ ْر َكز أكرب وأكرث هيمنة يف املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬وصارت تلك الخاصة‬
‫باألَ ْط َراف أصغر وأضعف‪ ،‬كان كل من املَ ْر َكز واألَ ْط َراف ينخرطان عىل نح ٍو متزايد‬
‫ضمن مجموعة من املصائر املشرتكة التي متثل تهديدا بالنسبة إىل الجميع‪ .‬وقد‬
‫نشأت كل هذه التغيريات من جراء العمل املستمر للمسارات العميقة التي أطلقتها‬
‫ثورات الحداثة التي نوقشت يف الفصل األول‪ .‬يف األساس‪ ،‬كان التفاوت الكبري يف‬
‫التنمية الذي نشأ يف ذلك الوقت قد بدأ اآلن بالتآكل خاصة مع صعود البقية‪،‬‬
‫وكان التقارب الكبري الحاصل بني أجزاء العامل يتسارع حتى وصل إىل مستويات غري‬
‫مسبوقة من الرتابط العاملي‪ .‬يبدو أنه ليس هنالك شك يف أن التغيريات الحاصلة من‬
‫هذا النوع عىل مستوى املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬لن تؤدي فقط إىل إنشاء مجتمع‬
‫دويل عاملي أكرث تعددية (تعددية مبعنى انتشار أوسع ليس فقط للرثوة والقوة‪،‬‬
‫أيضا إىل تحدي وتغيري طبيعة الحوكمة‬ ‫أيضا للسلطة الثقافية)‪ ،‬بل ستؤدي ً‬ ‫ولكن ً‬
‫العاملية وإدارة القوى الكربى‪.‬‬
‫يف هذا القسم نتناول بالتفصيل مسألة االنتقال‪ /‬األزمة‪ ،‬ثم نراجع املصطلحات‬
‫واملفاهيم التي ميكن للمرء من خاللها استيعاب طبيعة املجتمع الدويل العاملي‬
‫الناشئ يف مرحلة ما بعد الغرب‪ .‬ويوضح القسم التايل االفرتاضات بشأن سبع سامت‬
‫هيكلية رئيسة للمجتمع الدويل العاملي الناشئ واألسباب املنطقية التي تدعم هذه‬
‫الحجة‪ .‬ويقدم القسم الثالث بعض التنبؤات املحددة التي تتطلع إىل املستقبل‪،‬‬
‫وتحلياًل لبعض السامت والديناميات الهيكلية الرئيسة للمجتمع الدويل العاملي يف‬ ‫ً‬
‫فرتة ما بعد الغرب‪ .‬فيام تشري االستنتاجات يف األخري إىل نطاق فاعلية األخري‪.‬‬
‫حتى قبل االضطرابات التي أحدثها خروج بريطانيا من االتحاد األورويب‬
‫ووصول ترامب إىل سدة الحكم يف العام ‪ ،2016‬كان مثة شعو ٌر واسع النطاق‬
‫بأن املجتمع الدويل العاملي كان يعيش فرتة انتقالية كبرية‪ ،‬أو حتى أزمة‪ ،‬خاصة‬
‫مع كون النظام الغريب الطويل األمد صار محارصا من عدة اتجاهات مختلفة‬
‫‪398‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫‪(Zakaria, 2009; Kupchan, 2012; Acharya, 2014d; Buzan and Lawson,‬‬


‫)‪ .2015a, b ; Stuenkel, 2016‬إن صعود الصني والهند و«ال َب ِق َّية» يؤدي عىل نح ٍو‬
‫مطرد إىل تآكل الهيمنة النسبية للغرب‪ ،‬سواء عىل الصعيد املادي أو الفكري‪.‬‬
‫و ُي َعدُّ هذا مسا ًرا عمي ًقا ومستم ًرا إلعادة تعريف هيكل وتوزيع القوة والسلطة‬
‫داخل املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬حيث بدأ هذا املسار مع صعود اليابان يف أواخر‬
‫القرن التاسع عرش‪ ،‬ليعكس التكيف الناجح لثورات الحداثة داخل عديد من‬
‫الدول واملجتمعات‪ .‬ويف حني أن إنهاء االستعامر أزال الجانب السيايس للنظام‬
‫االستعامري الغريب‪ ،‬فإن صعود البقية أدى عىل نح ٍو مطرد إىل تراجع بنية املَ ْر َكز‬
‫‪ -‬األَ ْط َراف االقتصادية والثقافية‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬أصبح اإلرهاب العابر للحدود‬
‫والهجرات الجامعية واالتصاالت الجامعية تشكل عىل ما يبدو هجامت دامئة عىل‬
‫النظام اإلقليمي والسيايس يف فرتة ما بعد االستعامر‪ .‬ففي أجزاء كثرية من األَ ْط َراف‪،‬‬
‫أصبحت تلك الظواهر تهدد دولة ما بعد االستعامر (عىل نح ٍو واضح يف الرشق‬
‫األوسط وأفريقيا)‪ ،‬ويف املَ ْر َكز صارت تلك الظواهر تهدد املجموعة الطويلة األمد‬
‫من النظم األساسية ‪ -‬السيادة‪ ،‬واإلقليمية‪ ،‬والقومية ‪ -‬التي تجعل من الدول أعضا ًء‬
‫يف املجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫أيضا من ِقبل الرأساملية الليربالية الجديدة‬ ‫كانت مجموعة النظم تلك مهددة ً‬
‫املعوملة التي كانت املنترص األكرب يف الحرب الباردة‪ ،‬ولكن يبدو أن ذلك االنتصار‬
‫يعيش اآلن يف أزمة كبرية‪ .‬إذ تقوض الالمساواة رشعيته السياسية‪ ،‬وتعمل العوملة‬
‫والتشغيل اآليل عىل الرتاجع عن النامذج الخاصة بتوزيع الرثوة من خالل التوظيف‬
‫الجامعي‪ُ .‬تهدد هذه األزمة املزدوجة االستقرار السيايس الذي كان مبنزلة املحرك‬
‫األسايس للرثوة والقوة‪ ،‬والذي دفع العامل نحو التقدم طوال القرنني املاضيني‪ .‬إن‬
‫إدمان الرأساملية عىل النمو باعتباره رشطا رضوريا لجعل عدم املساواة مقبو ًاًل‬
‫أيضا باألزمات البيئية التي يبدو أنها تلوح يف األفق القريب‪ ،‬مام يهدد‬ ‫يرتبط ً‬
‫ظروف العمل األساسية لجميع املجتمعات البرشية‪ .‬كام يرتبط ابتكار الرأساملية‬
‫الدؤوب بالطرق املتعددة واملعقدة التي ُت َغ ِّ ُرِّي بها اإلنرتنت العالقات القامئة بني‬
‫الدولة واملجتمع واالقتصاد‪ ،‬والتي يقوم عليها النظام الحايل‪ .‬وعىل نح ٍو تراكمي‪،‬‬
‫أصبح النوع البرشي املرتابط عىل نح ٍو متزايد عىل كوكب أكرث كثافة من أي وقت‬
‫‪399‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫مىض‪ ،‬وصار يواجه مجموعة متنوعة من قضايا املصري املشرتك املتفاقمة التي ترتاوح‬
‫من تغري املناخ واألمراض العاملية؛ مرورا باإلرهاب والتهديدات املتعلقة باإلنرتنت؛‬
‫ووصوال إىل عدم االستقرار يف االقتصاد العاملي واملحيط الحيوي‪ .‬وعىل الرغم من أن‬
‫خطر الحرب بني الدول صار أقل مام كان عليه منذ فرتة طويلة‪ ،‬وأن املجتمع الدويل‬
‫العاملي يتمتع بنظام اقتصادي أعمق من أي وقت مىض‪ ،‬فإن ذلك يبدو غري مستقر‪.‬‬
‫ومن خالل إسقاط العامل الناطق باللغة اإلنجليزية من دوره القيادي الطويل األمد‬
‫يف َم ْر َكز املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬فإن خروج بريطانيا من االتحاد األورويب ووصول‬
‫ً‬
‫انتقااًل كب ًريا نحو املجتمع الدويل‬ ‫ترامب إىل سدة الحكم يزيدان من الشعور بأن‬
‫العاملي مابعد الغريب جا ٍر عىل قدم وساق‪.‬‬
‫إن هذا التهديد ا ُملركب الذي يواجه املجتمع الدويل العاملي الحايل‪ ،‬وا ُملتأيت‬
‫من انتشار الرثوة والقوة والسلطة وتكثيف قضايا املصري املشرتك‪ ،‬ليس باألمر‬
‫الهني‪ .‬فعندما أعادت الحداثة تشكيل العامل خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬كانت قد‬
‫ابطا عىل نح ٍو مكثف قائم عىل االعتامد املتبادل عىل‬ ‫خلقت ألول مرة نظا ًما مرت ً‬
‫نطاق عاملي‪ .‬ونظ ًرا إىل أن طليعة ثورات الحداثة كانت ُمركزة يف الغرب واليابان‪،‬‬
‫للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي كانت ُتهيمن عليها بشدة املؤسسات‬ ‫فإن الصيغة ُ‬
‫األ َ‬
‫وىَل ُ‬
‫واملامرسات واألفكار األوروبية‪ /‬الغربية‪ .‬لقد اضطر دعاة التحديث غري الغربيني‬
‫األوائل‪ ،‬وعىل األخص اليابان‪ ،‬إىل التكيف مع النموذج الغريب من أجل الحصول‬
‫عىل االعرتاف‪ .‬ومنذ ذلك الحني‪ ،‬شهد املجتمع الدويل العاملي عديدا من األزمات‪ ،‬مبا‬
‫يف ذلك الحروب العاملية؛ والركود االقتصادي والكساد؛ وإنهاء االستعامر؛ واستبدال‬
‫النظام اإلمرباطوري بنظام املساواة بني الدول والشعوب‪ .‬لكن من خالل كل هذه‬
‫االضطرابات متكن الغرب عىل نح ٍو عام والغرب الناطق باللغة اإلنجليزية عىل‬
‫نح ٍو خاص من االنتصار يف جميع الحروب الكربى وظل ميثل بحزم َم ْر َكز املجتمع‬
‫الدويل العاملي‪ .‬إن هذه الهيمنة تعني أن الدول ذات النمط الغريب القامئة عىل‬
‫السيادة الشعبية والنزعة اإلقليمية والقومية هي التي تحدد عضوية املجتمع الدويل‬
‫أيضا‪ ،‬عىل األقل يف الغرب بعد العام ‪ ،1945‬أن املجتمع‬ ‫العاملي‪ .‬كان هذا يعني ً‬
‫نجاحا يف القطاع‬‫الدويل العاملي كان لديه أجندة ليربالية غائية تقري ًبا‪ ،‬كانت أكرث ً‬
‫وأيضا يف التوقعات بشأن انتصار الدميوقراطية وحقوق اإلنسان يف نهاية‬ ‫االقتصادي‪ً ،‬‬

‫‪400‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫املطاف‪ .‬وقد تعرضت هذه الغائية الليربالية عىل نح ٍو دوري لتحديات الفاشية كام‬
‫حصل يف سنوات ما بني الحربني‪ ،‬وكذا لتحديات الشيوعية مثلام حدث خالل الحرب‬
‫الباردة‪ .‬ولكن بطريقة ما‪ ،‬كان العامل الناطق باللغة اإلنجليزية هو املنترص دامئًا‪ ،‬مام‬
‫أبقى عىل ق ْيد الحياة مزاعمه بشأن تسيد املستقبل‪ .‬وبحلول أوائل التسعينيات‪ ،‬بدا‬
‫األمر كأن النموذج الليربايل الغريب مل يتبق له أي منافسني جديني‪.‬‬
‫إن هذا املجتمع الدويل العاملي الذي يهيمن عليه الغرب هو النظام الدويل‬
‫الوحيد ‪ -‬الذي عرفناه عىل اإلطالق ‪ -‬املمتد عىل نطاق عاملي‪ ،‬والجزء الذي يهيمن‬
‫عليه الغرب داخل هذا النظام هو الذي يضعف اآلن برسعة‪ .‬فالغرب ال يخرس اآلن‬
‫أيضا الرشعية الفكرية واإلرادة املحلية‬ ‫الهيمنة املادية للقوة والرثوة فقط‪ ،‬بل يخرس ً‬
‫الالزمة ملامرسة الدور القيادي‪ .‬تؤدي أزمة الرأساملية دو ًرا يف هذا األمر‪ ،‬وهناك‬
‫اختالف بشأن النقطة املرجعية لهذا التحول ما إذا كانت تتمثل يف بداية األزمة‬
‫االقتصادية يف العام ‪ 2008‬أو يف خروج بريطانيا من االتحاد األورويب ورفض ترامب‬
‫للرأساملية العاملية يف العام ‪ .2016‬وال توجد أي سوابق لعملية االنتقال‪ /‬التحول‬
‫هذه أو ملا قد يبدو عليه النوع املستقبيل اآلخر من النظام العاملي‪ .‬وحتى اآلن ال‬
‫ميكننا التحدث عنه بصورة دقيقة‪ .‬الواقع أنها أكرث من مجرد عملية انتقال‪ /‬تحول‬
‫مابعد استعامري ألن دول األَ ْط َراف السابقة ال تتمتع باستقاللها السيايس فقط‪،‬‬
‫بل تتمتع عىل نحو متزايد بالرثوة والقوة للتعبري عن ثقافاتها املتعددة والسعي‬
‫وراءها‪ ،‬كام تسعى أيضا وراء مظاملها التاريخية العديدة‪ .‬ومن املحتمل أيضا أال‬
‫يكون انتقاال‪ /‬تحوال مابعد ويستفايل‪ ،‬ألن ُن ُظم املَ ْر َكز املتعلقة بالسيادة واألرايض‬
‫والقومية تبدو يف وضع جيد للبقاء واالزدهار‪ .‬إن هذا االنتقال‪ /‬التحول سيكون بال‬
‫شك مابعد غريب‪ ،‬ليس مبعنى أن الغرب سوف يختفي كام حصل مع روما‪ ،‬ولكنه‬
‫سيصبح مجرد َم ْر َك ٍز واح ٍد من بني عدة َم َرا ِكز للرثوة والقوة والسلطة الثقافية‪.‬‬
‫إن الكثري من النقاش الحاصل بشأن الوضع الحايل يدور يف نطاقات ضيقة‪ .‬فهل‬
‫ستتفوق الصني عىل الواليات املتحدة وتؤدي إىل أزمة عىل مستوى انتقال القوة؟‬
‫وهل سيتعرث االقتصاد العاملي بسبب حالة ركود ناتجة عن الهيكل املايل املنهك‬
‫و‪/‬أو عن طريق ردود الفعل الوطنية املتزايدة ضد التأثريات االجتامعية للعوملة؟‬
‫هل ستؤدي بعض األزمات البيئية‪ ،‬سواء كانت ظاهرة االحتباس الحراري أو ارتفاع‬
‫‪401‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫مستوى سطح البحر أو وباء عامليا‪ ،‬إىل تغيري االفرتاضات الجيوسياسية والجغرافية‬
‫واالقتصادية األساسية؟ يهدف هذا الفصل إىل تحديد مجموعة من االفرتاضات‬
‫املعقولة بشأن جميع السامت الهيكلية الرئيسة التي ستشكل املجتمع الدويل‬
‫العاملي خالل العقود القليلة القادمة‪ ،‬وبذلك سنسعى إىل بناء صورة شاملة ملشهد‬
‫ما بعد الغرب الذي َ ْمَي ُثل أمامنا‪ .‬نحن نعني بامليزات الهيكلية تلك الرتتيبات املادية‬
‫والفكرية واالتجاهات التي يبدو أن تلك امليزات الهيكلية ستتكشف يف إطارها‪ .‬وهي‬
‫مستمدة من مختلف الرؤى النظرية لحقل العالقات الدولية‪ ،‬ولكن ألسباب تتعلق‬
‫باملساحة املتاحة لنا‪ ،‬فإننا لن نتطرق بالتفصيل إىل تلك الرؤى النظرية‪ .‬فأولئك‬
‫الذين يهتمون بنظرية العالقات الدولية سوف ميكنهم مالحظتها بسهولة كافية‪.‬‬
‫أما أولئك الذين ال يستطيعون مالحظتها‪ ،‬فسيكونون قادرين عىل تقييم الحجج‬
‫الواردة بنا ًء عىل ُم َؤهالتهم اإلمربيقية‪ .‬من خالل تحديد مثل هذه الهياكل‪ ،‬نأمل أن‬
‫أساسا ً‬
‫بسيطا نسب ًّيا ميكن للمرء أن‬ ‫نعرض افرتاضاتهم األساسية للتدقيق وأن نخلق ً‬
‫يبني عليه سيناريوهات ما بعد الحقبة الويستفالية التي تأخذ بعني االعتبار التآزر‬
‫والتناقضات املحتملة بني هذه الهياكل وفيام بينها‪ .‬فقط عندما نتمكن من رؤية‬
‫شكل هذه األشياء ميكننا أن نبدأ يف التفكري يف املساحة للفاعلني قد نجدها بداخلها‪.‬‬
‫إن هذا التمرين يفرتض أنه لن يظهر عىل طاولة العالقات الدولية أي يشء ال‬
‫ميكن التنبؤ به من شأنه تغيري قواعد اللعب خالل العقدين أو الثالثة عقود القادمة‪:‬‬
‫ال َت َغري مناخيا كبريا ومفاجئا؛ وال حرب نووية واسعة النطاق؛ وال طاعون عامليا؛ وال‬
‫انهيار هائال لالقتصاد للعاملي أو البنية التحتية؛ وال تحدي للهيمنة البرشية من قبل‬
‫أنظمة الذكاء االصطناعي فائقة الذكاء وما شابه ذلك‪ .‬وكام ناقشنا الحقا‪ ،‬قد تكون‬
‫املخاوف بشأن هذه األشياء متارس دو ًرا كبريا‪ .‬ثم إن استبعادهم ال يعني القول‬
‫بداًل من ذلك‪ ،‬هذا االفرتاض هو لغرض‬ ‫بأنها لن تحدث أو لن تحدث عىل اإلطالق‪ً .‬‬
‫تبسيط رشوط التحليل‪ ،‬ولإلشارة إىل أنه يف حني أن بعض هذه الحقائق من املحتمل‬
‫جدا أن تحدث يف مرحلة ما‪ ،‬وأنها إذا حدثت فمن املحتمل أن تكون يف مرحلة‬
‫أبعد إىل حد ما‪ .‬التفكري يف طبيعة املجتمع الدويل العاملي بعد ظهور أمر واحد غري‬
‫متوقع أو أكرث ُي َعد مترينًا مختل ًفا عن هذا التمرين الذي يعتمد عىل نح ٍو أكرب عىل‬
‫االستقراء‪ ،‬عىل الرغم من أن بعض األفكار هنا قد ُط ِّبقت عليه‪.‬‬
‫‪402‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫نحن‪ ،‬بالطبع‪ ،‬لسنا أول من حاول النظر إىل ما وراء مرحلة االنتقال التي‬
‫نحن فيه اآلن وإيجاد طرق لتسمية الهيكل الجديد الناشئ للمجتمع الدويل‬
‫العاملي‪ .‬فهناك بعض اإلجامع‪ ،‬عىل األقل خارج الدوائر الواقعية‪ ،‬عىل أن الفكرة‬
‫الكالسيكية لتعدد األقطاب غري مالمئة لهذه املهمة‪ .‬وبالتأكيد‪ ،‬سيكون مثة عديد‬
‫من مراكز الرثوة والقوة والسلطة الثقافية‪ ،‬ومن ثم سيكون املجتمع الدويل‬
‫العاملي مبعنى ما متعدد األقطاب‪ .‬ولكن سيكون هناك أيضا عديد من الجهات‬
‫الفاعلة غري الحكومية ضمن املجتمع الدويل العاملي هذا‪ ،‬كام أن بعضها سيعمد‬
‫إىل توظيف كميات مهمة من الرثوة والقوة والسلطة‪ .‬ومن املحتمل أن تظل‬
‫الدول هي الشكل املهيمن للجهات الفاعلة‪ ،‬ولكنها ستكون أكرث تشاب ًكا ضمن‬
‫شبكات الحوكمة العاملية أكرث مام هو ُمت ََضمنٌ يف مصطلح تعددية األقطاب أو‬
‫يف نظام املدرسة اإلنجليزية الخاص بإدارة القوى الكربى ‪(Cui and Buzan,‬‬
‫)‪ .2016‬وحتى مبجرد التفكري يف الدول‪ ،‬فلن يكون املجتمع الدويل العاملي‬
‫الناشئ متعدد األقطاب كام هو مفهوم تقليد ًّيا ألنه يفتقر إىل أي قوى عظمى‬
‫أو أي قوى عظمى طموحة‪ ،‬ولن يتميز برصاع من النوع الواقعي للسيطرة عىل‬
‫النظام بأكمله‪ .‬سيكون هذا نظا ًما عامل ًّيا‪ ،‬لكن من دون قوى عظمى‪ ،‬ويحتوي‬
‫عىل عديد من القوى الكربى وعديد من القوى اإلقليمية‪ .‬لقد ُط ِرح بالفعل‬
‫عديد من العالمات التي ُمُتكن من رصد حداثة هذا الهيكل وتعقيده‪ :‬التعددية‬
‫(‪)plurilateralism Cerny, 1993‬؛ ومتباين األقطاب ‪(heteropolarity Der‬‬
‫)‪Derian, 2003‬؛ وعامل ليس ألحد (‪)no one’s world Kupchan‬؛ و ُم َت َعد ُد‬
‫التعقيد (‪)multinodal Womack, 2014‬؛ وعامل متعدد الوسائط ‪(multiplex‬‬
‫)‪world Acharya, 2014a‬؛ والمركزية العوملة ‪(decentred globalism‬‬
‫)‪Buzan, 2011; Buzan and Lawson, 2014b, 2015a‬؛ والعوملة متعددة‬
‫األشكال)‪(polymorphic globalism Katzenstein, 2012‬؛ والعامل متعدد‬
‫النظم (‪()multi- order world Flockhart, 2016‬٭)‪.‬‬
‫(٭) للحصول عىل مناقشة مفصلة ونقد للمبالغة يف تبسيط نظرية القطبية‪ ،‬انظر‬
‫‪(Buzan 2004b, 2011), (Acharya 2014b: locs. 343–492).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫وبنا ًء عىل عملنا املفاهيمي وأعامل اآلخرين‪ ،‬قررنا طرح مجموعة صغرية‬
‫ومتكاملة من املفاهيم التقليدية التي نعتقد أنها ترصد ما يتكشف اآلن‪« :‬التعددية‬
‫العميقة» ‪ Deep pluralism‬و«التعددية ا ُملتنازع عليها» ‪Contested pluralism‬‬
‫يف مقابل «التعددية الراسخة» ‪ .Embedded pluralism‬نعني بالتعددية العميقة‬
‫رشا للقوة والرثوة والسلطة الثقافية‪ ،‬يوضع ضمن نظام دويل قوي‬ ‫توزي ًعا منت ً‬
‫متكامل ومرتابط‪ ،‬حيث يوجد تحرك كبري نحو املجتمع الدويل العاملي حيث متارس‬
‫فيه كل من الدول والجهات الفاعلة غري الحكومية أدوا ًرا جوهرية‪ .‬ومع استمرار‬
‫التفاوتات عىل مستوى القوة‪ ،‬فإن ذلك النظام ُيقدم عَاملًا ليس دون ُم َه ْي ِم ٍن عاملي‬
‫فقط‪ ،‬بل عَاملا مل تعد فيه فكرة ا ُمل َهي ِمن العاملي تحظى بالرشعية‪ .‬وقد يتميز هذا‬
‫العامل بأيديولوجيات وأنظمة اقتصادية وسياسية مختلفة‪ ،‬مبا يف ذلك بقايا النظام‬
‫الليربايل ‪(Buzan, 2011; Acharya, 2014a, 2017, 2018; Buzan and Lawson,‬‬
‫)‪ .2014b, 2015a‬إن التعددية العميقة تقدم لنا وص ًفا بخصوص إىل أين يأخذنا‬
‫غرْي أننا نحتاج ً‬
‫أيضا‬ ‫الزخم الحايل للمجتمع الدويل العاملي سواء أحببنا ذلك أو ال‪ْ .‬‬
‫مصطلحات لإلشارة إىل ما إذا كان هذا الرشط مفهو ًما و ُيعمل وف ًقا له يف ضوء‬
‫ٍ‬ ‫إىل‬
‫إيجايب أو سلبي‪ ،‬وأين يكمن نطاق الفاعلية والسياسة‪ .‬أما التعددية املتنازع عليها‪،‬‬
‫فتعني أن هناك مقاومة كبرية للواقع املادي والفكري للتعددية العميقة‪ .‬وقد‬
‫أشكااًل مختلفة‪ :‬الدول التي ُتقاوم أدوار ومكانة الجهات الفاعلة غري‬ ‫ً‬ ‫يتخذ هذا‬
‫الحكومية؛ والقوى العظمى السابقة (الواليات املتحدة عىل نح ٍو واضح) الرافضة‬
‫للتنازل عن حقوقها وامتيازاتها الخاصة؛ والقوى الكربى التي ترفض االعرتاف‬
‫إحداها مبكانة األخرى وتلعب بعضها ضد بعض كمنافس أو عدو‪ .‬أما التعددية‬
‫الراسخة‪ ،‬فهي تتكيف مع فكرة روجي (‪ )1982‬عن «الليربالية الراسخة»(٭)‪ .‬تعني‬
‫التعددية الراسخة أن الالعبني الرئيسني يف املجتمع الدويل العاملي ال يتسامحون‬
‫(٭) ميكن أيضا العثور عىل دعم إضايف للتعددية الراسخة يف حجج جون ويليامز (‪ )John Williams 2015‬بشأن‬
‫الحاجة إىل القبول الحقيقي لالختالف والتعايش وعدم التسامح مع التعصب‪ ،‬ووفق فيليبس وشارمان ‪(Phillips‬‬
‫)‪ and Sharman 2015‬فإن الوحدات من مختلف األنواع ميكنها أن تولد النظام بنجاح وعىل نحو دائم مادام لديها‬
‫بعض األهداف غري املتضاربة و‪/‬أو املتوافقة‪ .‬وحتى دفاع هيديل بول الكالسييك (‪ )Bull 1977: 286–7‬عن التعددية‬
‫ضد املخططات األكرث طموحا التي تحاول تجاوز أو تجاهل االنقسامات العميقة يف املجتمع البرشي ميكن قراءتها‬
‫عىل أنها تشري إىل التعددية الراسخة باعتبارها املوقف املرغوب‪ .‬نحن هنا نبني عىل أول محاولة للتوصل إىل أفكار‬
‫التعددية العميقة والتعددية الراسخة عند باري بوزان وسكونربغ (‪[ .)Buzan and Schouenborg 2018‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪404‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫مع االختالفات املادية والثقافية واأليديولوجية وصفة الفاعلية الخاصة بالتعددية‬


‫أيضا كأساس للتعايش(٭)‪ .‬وهناك طريقة‬ ‫العميقة فقط‪ ،‬بل يحرتمونها ويقدرونها ً‬
‫أخرى لرؤية ذلك وهي أن التعددية الراسخة تتعلق بالحفاظ و‪/‬أو تنمية التنوع‬
‫والتميز السيايس والثقايف اللذين ميثالن إرث التاريخ اإلنساين ‪(Jackson, 2000:‬‬
‫)‪ .23‬وهكذا‪ ،‬فإن املوقف املعياري للتعددية الراسخة يرتكز عىل مفهوم أخالقي‬
‫متنوع ثقاف ًّيا وسياس ًّيا‬
‫ٍ‬ ‫عميل لإلدارة املسؤولة والحفاظ عىل مجتمع دويل عاملي‬
‫(‪ .)Jackson, 1990; Cochran, 2008‬وقد تكون التعددية الراسخة مدعومة‬
‫بدرجة من اإلدراك الذايت للمصالح املشرتكة يف التعامل مع مجموعة قضايا املصري‬
‫املشرتك التي ال مفر منها والتي نوقشت يف الفصل السابع‪.‬‬

‫‪ - 1‬افرتاضات معقولة بشأن مستقبل السامت الهيكلية السبعة الرئيسة‬


‫للمجتمع الدويل العاملي‬
‫باالعتامد عىل الرسديات الواردة يف الفصول األول والثالث والخامس والسابع‪،‬‬
‫يحدد هذا القسم افرتاضات بشأن سبع سامت هيكلية رئيسة للمجتمع الدويل‬
‫العاملي الناشئ‪ ،‬واألسباب املنطقية التي تدعم تلك االفرتاضات‪ .‬والقصد من ذلك‬
‫هو توضيح أسس التفكري املسبق يف طبيعة التعددية العميقة وتنفيذها‪ .‬تتمثل‬
‫السامت الهيكلية السبع يف‪ :‬االقتصاد العاملي؛ وتوزيع القوة؛ وطبيعة القوى الكربى؛‬
‫واملعرفة العلمية والتكنولوجيا؛ واملصائر املشرتكة؛ والهياكل املعيارية؛ والرصاع‬
‫والعنف‪ .‬فبعض هذه السامت تتطلب افرت ً‬
‫اضا واحدًا‪ ،‬بينام يتطلب البعض اآلخر‬
‫افرتاضات متعددة‪.‬‬

‫‪ - 1 - 1‬االقتصاد العاملي‬
‫االفرتاض‪ :‬إن نظام السوق الرأساميل العاملي الذي بادرت به الواليات املتحدة‬
‫بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬والذي َتعزز عىل نح ٍو كبري من خالل اإلصالح واالنفتاح‬
‫الصينيني منذ أواخر السبعينيات وانهيار االتحاد السوفييتي يف أوائل التسعينيات‪،‬‬
‫(٭) هناك أوجه تشابه بني هذه الديناميكية وفكرة «نظام األمن التوافقي» الذي اقرتحه أميتاف أشاريا (‪Acharya‬‬
‫‪ )2014b‬لتحليل األمن اآلسيوي‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪405‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫سيستمر كهيكل اقتصادي أسايس‪ ،‬عىل الرغم من مشاكله الحالية‪ .‬وهذا يعني أن‬
‫التجارة والتمويل العامليني سيظالن من السامت الرئيسة لالقتصاد العاملي عىل الرغم‬
‫من أنه قد تكون هناك قيود أكرث مام كانت عليه قبل العام ‪ .2016‬ولن يكون هناك‬
‫انهيار وتراجع مرة أخرى نحو االكتفاء الذايت عىل املستوى الوطني أو اإلقليمي‪.‬‬
‫ومبا أن اقتصاد السوق العاملي ال ميكن أن يشتغل من دون قد ٍر كب ٍري من التنظيم‬
‫واإلدارة‪ ،‬فإن هذا يخلق حتمية قوية للحفاظ عىل درجة كبرية من الحوكمة العاملية‬
‫وإدارة القوى الكربى عىل املستوى العاملي‪ .‬لكن الظروف التكنولوجية والسياسية‬
‫املتغرية تعني أن هياكله ومامرساته ا ُمل َؤسسية ستضطر إىل التكيف والتطور بطرق‬
‫مهمة‪.‬‬
‫التعليل‪ :‬بالنظر إىل األزمة الخطرية للرأساملية املقرتحة سابقا‪ ،‬والوزن السيايس‬
‫املتزايد للشعبوية املناهضة للعوملة التي ميكن اإلشارة إليها بخروج بريطانيا من‬
‫االتحاد األورويب ووصول ترامب إىل سدة الحكم‪ ،‬قد يبدو هذا االفرتاض َعن َ ِْرَتيا إىل‬
‫حد ما‪ .‬وهناك نوعان من األسباب املنطقية وراء ذلك‪ .‬أو ًاًل‪ ،‬تقف الرأساملية العاملية‬
‫باعتبارها الوسيلة األرسع واألكرث فاعلية الكتساب الرثوة والقوة‪ ،‬وال بديل عنها‪.‬‬
‫فقد أدرك دينغ ذلك وألزم به الصني‪ .‬وكال البديلني املعروفني ‪ -‬الرأساملية التفضيلية‬
‫اإلمربيالية؛ واالقتصاديات االستبدادية ‪ُ -‬ج ِّربا وباءا بالفشل‪ ،‬وهام ميثالن مسا ًرا شغل‬
‫معظم القرن العرشين‪ .‬كان الدرس الرئيس املستقى من الحرب العاملية الثانية هو‬
‫أن تفضيل اإلمربيالية الرأساملية التي قسمت العامل إىل مناطق رأساملية إقصائية‬
‫وتنافسية قد أنتج الكثري من الرصاع‪ .‬وحتى الصني‪ ،‬عىل رغم متيزها السيايس والثقايف‬
‫الدفاعي‪ ،‬مل تنظر يف هذا االتجاه‪ .‬وكان الدرس الرئيس املستفاد من الحرب الباردة‪،‬‬
‫والذي دفعه صعود اليابان إىل املركز الثاين‪ ،‬هو أن االقتصادات ا ُمل َو َّجهة‪ ،‬وحتى‬
‫عىل نطاق االتحاد السوفييتي‪ ،‬ال ميكنها منافسة االقتصادات الرأساملية‪ .‬فإذا كانت‬
‫الرثوة والقوة هام الهدفني الرئيسني ملعظم الدول والشعوب (ونفرتض أن هذا‬
‫صحيح يف معظم األماكن وسيظل كذلك)‪ ،‬فال توجد حال ًّيا بدائل جادة لرأساملية‬
‫السوق العاملية‪ .‬إن الرتاجع مرة أخرى إىل شكل من أشكال املركنتيلية الجديدة‪،‬‬
‫ً‬
‫انكامشا اقتصاد ًّيا كب ًريا قد يرتتب‬ ‫حتى عىل املستوى اإلقليمي‪ ،‬من شأنه أن ُي َولِّد‬
‫عليه نشوء سياسات غري عادلة إلعادة التوزيع ستمس الجميع تقري ًبا‪.‬‬
‫‪406‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫أيضا‬‫ثان ًّيا‪ ،‬إن الرأساملية بطبيعتها ليست عرضة لألزمات الدورية فقط‪ ،‬بل إنها ً‬
‫مرنة وقابلة للتكيف‪ .‬فقد نجحت يف البقاء عىل رغم عديد من التنبؤات القائلة‬
‫بأنها يف حالة تدهور أو أزمة نهائية‪ ،‬وهي تتعلم وتتطور باستمرار ألجل االستجابة‬
‫للتغريات التكنولوجية واالجتامعية التي ُت َولِّدها عملياتها‪ .‬إن الرأساملية هي شكل‬
‫من أشكال الثورة الدامئة التي تتفوق حتى عىل أحالم ماو تيس‪ .‬وهذه العملية‬
‫بالتأكيد ليست سلسة‪ ،‬والتكيف مع التغيريات التي ال هوادة فيها قد ال يأيت من دون‬
‫أزمات‪ ،‬وأحيا ًنا تكون تلك األزمات شديدة‪ ،‬ولعل التحديات الحالية املتمثلة يف عدم‬
‫املساواة؛ والهجرة؛ وعدم االستقرار املايل؛ واملشاكل البيئية؛ والعاملة (والبطالة) ُت َعدُّ‬
‫كلها أزمات خطرية وحلولها ليست واضحة‪ .‬إن إغراء تحرير التمويل وتوسيع نطاق‬
‫االئتامن إىل ما بعد املستويات املستدامة هو مشكلة هيكلية للنظام الرأساميل ‪(M.‬‬
‫)‪ .Wolf, 2014‬ولكن الرهان عىل هذا التعليل العقالين هو أن التكيف سيستمر يف‬
‫تجاوز كل من رد الفعل املناهض للعوملة والكارثة النهائية‪.‬‬

‫‪ - 1 - 2‬توزيع القوة‬
‫افرتاض (أ)‪ :‬لقد أصبحت القوة يف النظام‪ /‬املجتمع الدويل أكرث انتشا ًرا‪ .‬من حيث‬
‫الدول‪ ،‬لن يكون هنالك مزيد من القوى العظمى (القوى التي ميثل العامل منطقتها)‪،‬‬
‫ولكن سيكون مثة نظام دويل تهيمن عليه القوى الكربى (املؤثرة يف أكرث من منطقة‬
‫واحدة) والقوى اإلقليمية (املؤثرة عىل نح ٍو أسايس داخل منطقتها األصلية) ‪(Buzan‬‬
‫)‪ .and Wæver, 2003‬وهكذا‪ ،‬سيظل النظام العاملي ُم َع ْولَ ًاًم (اقتصاد ًّيا وبيئ ًّيا) لكنه‬
‫سيصبح المركز ًّيا سياس ًّيا من ناحية القوة والسلطة‪ .‬وبالنظر إىل وجود هيكل مكون‬
‫من عدة قوى كربى‪ ،‬مع عدم وجود قوى عظمى تحاول فرض نظام عاملي‪ ،‬فمن‬
‫املعقول أن نتوقع أن يكون النظام السيايس العاملي الالمركزي إقليم ًّيا عىل نح ٍو‬
‫كبري‪ ،‬مع سيطرة القوى الكربى عىل مجاالتها املحلية‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬ال ينبغي‬
‫التقليل من درجة وجود خالفات داخل معظم املناطق‪ ،‬ومقاوم ٍة قوي ٍة لهيمنة‬
‫القوى املحلية (‪ .)Acharya, 2014b: locs. 1705–804‬لن تواجه املناطق التي‬
‫ال توجد بها قوة كربى محلية (أفريقيا والرشق األوسط) مشكلة الهيمنة املحلية‪،‬‬
‫كاف من دون هيمنة‬ ‫ولكنها ستواجه مشكلة ما إذا كان بإمكانها توفري نظام محيل ٍ‬
‫‪407‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫محلية أو من دون قوة عظمى ُم َتدَخ َلة‪ .‬ومن املحتمل أن يكون للتغيري يف توزيع‬
‫القوة تأثري ضئيل عليهم‪ ،‬حيث سيظل كالهام فوضو ًّيا كام كان منذ إنهاء االستعامر‪.‬‬
‫وسيتعني عىل املناطق التي لديها أكرث من قوة كربى (آسيا) أن تختار بني تعددية‬
‫محلية متنازع عليها تقوم عىل التنافس الداخيل فيام بينها‪ ،‬أو بناء مجتمع دويل‬
‫إقليمي توافقي قائم عىل التعددية الراسخة‪.‬‬
‫التعليل (أ)‪ :‬كانت هناك فرتة طويلة تركزت خاللها القوة يف أيدي عدد صغري‬
‫نسب ًّيا من املجتمعات والدول الغربية عىل نح ٍو أسايس واليابان‪ .‬وقد استند هذا‬
‫الرتكيز إىل التفاوت الهائل يف التطور الذي نتج عن الطريقة التي تكشفت بها ثورات‬
‫الحداثة خالل القرنني التاسع عرش والعرشين‪ .‬ومنذ أواخر القرن التاسع عرش‪ ،‬أنذر‬
‫يحذ حذوها أحد مدة قرن‪ .‬وكام يشري الصعود‬ ‫صعود اليابان بصعود البقية‪ ،‬لكن مل ُ‬
‫األخري للصني والهند وغريهام‪ ،‬فإن هذه الثورات أصبحت متاحة اآلن ملزيد من الدول‬
‫والشعوب‪ ،‬الذين أصبحوا نتيجة لذلك يكتسبون عنارص الرثوة والقوة التي كانت‬
‫محصورة يف السابق يف يد حفنة من الدول‪ .‬ومع تطور هذا املسار أصبحت قوة الدول‬
‫والشعوب يف النظام‪ /‬املجتمع الدويل أكرث انتشا ًرا وأقل تركيزًا‪ .‬ونظ ًرا إىل أن الكثريين‬
‫كانوا يشهدون صعودا‪ ،‬فلن تتمكن القوى الكربى الجديدة من تحقيق تركيزات الرثوة‬
‫والقوة النسبية التي م َّكنت بريطانيا والواليات املتحدة من العمل كقوى عظمى‬
‫عاملية يف األيام التي سبقت انتشار الحداثة‪ .‬كام لن تختفي مراكز القوة القدمية‪ ،‬بل‬
‫ستفقد قوتها النسبية فقط‪ .‬وسيستمر موقع الواليات املتحدة كقوة عظمى أخرية يف‬
‫التآكل‪ ،‬ورمبا سيكون ذلك برسعة كبرية إذا نجح ترامب يف تفكيك الثقة والتحالفات‬
‫واملؤسسات التي تدعم القيادة األمريكية يف املجتمع الدويل العاملي‪.‬‬
‫توزيع أكرث انتشا ًرا للقوة‪ ،‬هناك مجال للمنافسة اإلقليمية‬ ‫ٍ‬ ‫االفرتاض (ب)‪ :‬داخل‬
‫بني القوى الكربى عىل حدود مجاالتها‪.‬‬
‫التعليل (ب)‪ :‬هناك بالفعل مثل هذه املنافسة بني الصني والواليات املتحدة‬
‫يف رشق آسيا؛ وبني الهند والصني يف جنوب وجنوب رشق آسيا؛ وبني روسيا وأوروبا‬
‫يف أوكرانيا ودول البلطيق‪ .‬وهناك مجال للمنافسة بني الصني والهند يف الخليج‬
‫الذي تعتمد كلتاهام عىل نفطه (باإلضافة إىل اليابان)‪ .‬وهذه املنافسة تدور حول‬
‫املجاالت وليس حول الهيمنة عىل املجتمع الدويل العاملي ككل‪.‬‬
‫‪408‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫أيضا بني الدول واملجتمعات‬ ‫االفرتاض (ج)‪ :‬سوف ميارس انتشار القوة دورا ً‬
‫وإن كان ذلك بطرق معقدة‪ ،‬وسيكتسب بعض الفاعلني غري الحكوميني القدرة عىل‬
‫التحدي أو التحالف ليس فقط مع الجهات الفاعلة غري الحكومية األخرى‪ ،‬ولكن‬
‫أيضا مع الدول‪ ،‬سواء كان ذلك داخل الدول أو مع دول أخرى بعيدة‪ .‬وستكون‬ ‫ً‬
‫الدول يف الطرف الضعيف‪ /‬الفاشل من الطيف أكرث عرضة للتحديات القادمة من‬
‫الجهات الفاعلة غري الحكومية‪ .‬من منتصف الطيف حتى الدولة القوية‪ ،‬سيعتمد‬
‫انتشار القوة ‪ -‬ليك يشمل الجهات الفاعلة غري الحكومية وقدرتها عىل تحدي الدولة‬
‫‪ -‬عىل مدى انفتاح أو انغالق تلك الدولة املعنية‪ .‬قد تتحالف الدول القوية عىل نحو‬
‫جهات فاعلة غري حكومية ألجل مجموعة من األغراض ترتاوح بني أغراض‬ ‫ٍ‬ ‫جيد مع‬
‫املساعدة والتنمية إىل أغراض التخريب وزعزعة استقرار الدول واألنظمة والجهات‬
‫رصد هذه النظرة الطبقية للقوة من خالل بعض‬ ‫الفاعلة غري الحكومية األخرى‪ .‬و ُت َ‬
‫املصطلحات املذكورة سابقا يف توصيف النظام العاملي عىل أنه‪ :‬مختلف األقطاب؛‬
‫ومتعدد الوسائط؛ وعامل متعدد النظم؛ وتعددي‪.‬‬
‫التعليل (ج)‪ :‬يؤدي انتشار القوة يف بعض النواحي إىل متكني الدول ضد سكانها‪،‬‬
‫نواح أخرى فإن انتشار القوة ُمُي ِّكن للجهات‬
‫كام هو واضح يف الصني‪ .‬ولكن من ٍ‬
‫الفاعلة غري الحكومية ضد دولها املحلية‪ ،‬وأيضا ضد الدول األخرى والجهات الفاعلة‬
‫األخرى غري الحكومية وكذلك املجتمع الدويل العاملي‪ .‬ويوجد بالفعل سجل طويل‬
‫من الجهات الفاعلة غري الحكومية التي تهاجم دولها املحلية (عىل سبيل املثال‬
‫يف أفغانستان؛ ونيجرييا؛ وتركيا؛ ورسيالنكا؛ والهند؛ والكونغو؛ وعديد من الدول‬
‫العربية) وكذلك األهداف البعيدة (القاعدة والدولة اإلسالمية)‪ .‬إن الجهات الفاعلة‬
‫غري الحكومية تعد ً‬
‫أيضا أكرث تأث ًريا يف الطرق السياسية غري العنيفة‪ ،‬كام هو الحال يف‬
‫الحمالت املتعلقة بالقضايا البيئية وحقوق اإلنسان‪ ،‬ويف تقديم املساعدة واملساعدة‬
‫اإلمنائية واإلغاثة يف حاالت الكوارث‪.‬‬

‫‪ - 1 - 3‬طبيعة القوى الكربى‬


‫افرتاض‪ :‬إن مجموعة القوى الكربى ‪ Great Powers‬التي ستهيمن عىل املجتمع‬
‫الدويل العاملي خالل العقود القادمة سوف تتطلع إىل الداخل إىل درجة قد تصل‬
‫‪409‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫إىل حد «ال َت َو ُّحد» ‪ .Autistic‬عند األشخاص يتمحور ال َت َو ُّحد حول كونه تطغى عليه‬
‫املدخالت القادمة من املجتمع الذي يحيط بهؤالء األشخاص املصابني بال َت َو ُّحد‪ ،‬مام‬
‫يجعل سلوكهم يشار إليه عىل أنه سلوك داخيل أكرث من كونه سلوكا يتشكل من‬
‫خالل التفاعالت مع اآلخرين‪ .‬ويف الدول ميكن فهمه عىل أنه عندما يعتمد رد الفعل‬
‫عىل املدخالت الخارجية عىل نحو أكرب عىل املسارات الداخلية للدولة ‪ -‬مساوماتها‬
‫السياسية املحلية؛ والتنافس الحزيب؛ واسرتضاء الرأي العام (سواء كان قوم ًيا أو‬
‫انعزال ًيا) وما شابه ‪ -‬أكرث من اعتامده عىل العقالنية‪ ،‬والتقييم القائم عىل الحقائق‬
‫واالنخراط مع الدول واملجتمعات األخرى التي تشكل املجتمع الدويل ‪(Senghaas,‬‬
‫)‪ .1974; Buzan, [1991] 2007: 277–81; Luttwak, 2012: 13–22‬وإىل حد ما‪،‬‬
‫يعترب ال َت َو ُّحد بهذا املعنى سمة طبيعية للدولة‪ .‬ومن ضمن بنيتها السياسية أن تأخذ‬
‫العوامل املحلية األولوية القصوى عمو ًما‪ ،‬سواء كان ذلك رضور ًيا لبقاء النظام‪ ،‬أو‬
‫ألن الحكومة ُمصممة بطريقة معينة عىل أن متثل مصالح مواطنيها‪ .‬غري أن القوى‬
‫الكربى ُتحدَّد جزئ ًيا من خالل مسؤولياتها األوسع تجاه ما وصفه واتسون ‪(1992:‬‬
‫)‪« 14‬مصلحة النظام العليا» ‪ ،Raison de système‬والتي ُتع َّرف بأنها «االعتقاد‬
‫الذي يدفع إىل جعل النظام يعمل»‪ .‬وهذا يقف كنقطة مطابقة لفكرة «مصلحة‬
‫الدولة العليا» ‪ ،Raison d’état‬والتي متثل عىل نحو واضح فكرة مركزية للواقعية‪،‬‬
‫وضمن ًيا فكرة مركزية لكثري من نظريات ومامرسات حقل العالقات الدولية الغريب‪.‬‬
‫وإىل الحد الذي تتمتع فيه الدول‪ ،‬وخاصة القوى الكربى‪ ،‬بسياسات خارجية َت َو ُّحدية‬
‫‪ ،Autistic‬فإنها ال تفشل فقط يف دعم «مصلحة النظام العليا»‪ ،‬ولكنها تفقد ً‬
‫أيضا‬
‫االتصال ببيئتها االجتامعية‪ ،‬و ُت ْع َمي عن كيفية تأثري سياساتها وسلوكياتها يف الطريقة‬
‫التي يراها بها اآلخرون ويتفاعلون من خاللها معها‪ .‬ويف مثل هذه الظروف‪ ،‬من‬
‫املرجح أن تسود دورة من اإلجراءات الشائكة ‪ -‬املبالغة يف رد الفعل‪ ،‬ويصبح بناء‬
‫مستحياًل‪ .‬فالجميع ال يرون إال مصالحهم ومخاوفهم و«صوابهم»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الثقة صع ًبا أو‬
‫وهم متجاهلون ملصالح اآلخرين ومخاوفهم و«صوابهم»‪ .‬فإذا تبني أن تشخيص‬
‫ال َت َو ُّحد هذا صحيح‪ ،‬فمن غري املرجح أن نرى قوى كربى مسؤولة‪ .‬وغياب القوى‬
‫الكربى املسؤولة يشري يف ظروف التعددية العميقة إىل وجود مجتمع دويل عاملي‬
‫منقسم إىل حد كبري‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ضعيف ورمبا‬
‫ٍ‬ ‫متنازع عليه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫‪410‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫التعليل‪ :‬سيكون ال َت َو ُّحد قو ًيا عند مجموعة من القوى الكربى الحالية‬


‫واملستقبلية لسببني‪ :‬أو ًاًل‪ ،‬لن تختفي القوى الصناعية الكربى القدمية واملتقدمة‬
‫(الواليات املتحدة؛ واالتحاد األورويب؛ واليابان)‪ ،‬لكنها ستكون منهكة وضعيفة عىل‬
‫الصعيدين املادي والرشعي‪ ،‬وغري قادرة أو غري راغبة عىل نحو متزايد يف تويل زمام‬
‫القيادة‪ .‬وال ميكن أن يكون هناك توضيح أوضح لهذا األمر أكرث من النجاحات‬
‫املفاجئة للعام ‪ 2016‬يف جذب دعم الناخبني لكل من حملة خروج بريطانيا من‬
‫االتحاد األورويب يف اململكة املتحدة‪ ،‬وحملة ترامب «أمريكا أو ًاًل» يف الواليات‬
‫املتحدة‪ .‬إن لدى االتحاد األورويب مؤسسات سياسية خارجية وأمنية ضعيفة عىل أي‬
‫حال‪ ،‬وهي غارقة جدا يف مشاكلها املحلية الخاصة باليورو‪ ،‬والربيكست‪ ،‬والهجرة‪،‬‬
‫وتركيا‪ ،‬وروسيا‪ ،‬بحيث مل يتبق لها كثري من الطاقة الديبلوماسية أو الرشعية ألجل‬
‫«مصلحة النظام العليا»‪ .‬إنها بالكاد تحافظ عىل «مصلحة اإلقليم العليا»‪ .‬أما اليابان‬
‫فهي منشغلة باستعادة وضعها كدولة طبيعية ومحاولة التعامل مع الصعود الرسيع‬
‫للصني التي تبدو ملتزمة بالحفاظ عىل العداء التاريخي ضدها‪ .‬إن القوى الكربى‬
‫الصاعدة (الصني والهند‪ ،‬ورمبا الربازيل) حريصة للغاية عىل املطالبة بوضع القوة‬
‫الكربى‪ ،‬وقد َت ُضخ تلك الدول دماء جديدة ملعسكر القوى الكربى‪ .‬لكن تلك الدول‬
‫مازالت حريصة بالقدر نفسه عىل عدم التخيل عن وضعها باعتبارها دوال نامية‪.‬‬
‫إنها تريد تأكيد ثقافتها الخاصة ضد الهيمنة الطويلة للغرب‪ ،‬وأكرث من ذلك حتى‪،‬‬
‫ال سيام الصني‪ ،‬يزرع النزعة القومية القامئة عىل املظامل التاريخية‪ .‬ولكن يف حني‬
‫أن تلك الدول تعرف ما الذي تعارض‪ ،‬فإن القوى الصاعدة مل ُتظهر حتى اآلن‬
‫سوى قليل من األفكار الواضحة بشأن نوع املجتمع الدويل العاملي البديل الذي‬
‫تريده‪ .‬وهذا املزيج يقودهم إىل إعطاء األولوية لتنميتهم‪ .‬إنهم يجادلون‪ ،‬ليس عىل‬
‫نحو غري معقول‪ ،‬بأن تنميتهم هي مهمة كبرية وصعبة بالنسبة إليهم‪ ،‬وأن تطوير‬
‫مجموعاتهم السكانية الكبرية هو مساهمة كافية يف حد ذاتها بالنسبة إىل املجتمع‬
‫الدويل العاملي‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬فهم يقاومون فكرة منحهم مسؤوليات إدارية‬
‫عاملية أوسع‪ .‬أما روسيا فهي ليست قوة صاعدة‪ ،‬وهي ضعيفة للغاية‪ ،‬وغري شعبية‬
‫للغاية‪ ،‬ومتمركزة حول الذات للغاية‪ ،‬وهي عالقة للغاية يف عقلية إمربيالية لتويل‬
‫دور قيادي عاملي توافقي‪ .‬إن دورة العالقات الشائكة والردود املفرطة هي أعراض‬
‫‪411‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫منطية للتوحد ‪ Autism‬ظاهرة بالفعل يف العالقات بني الواليات املتحدة والصني؛‬


‫ويف عالقات روسيا واالتحاد األورويب؛ ويف عالقات الواليات املتحدة وروسيا‪ ،‬ويف‬
‫عالقات الصني واليابان‪.‬‬

‫‪ - 1 - 4‬املعرفة العلمية والتكنولوجيا‬


‫افرتاض‪ :‬سيستمر الرتاكم والتقدم والتوزيع الرسيع للمعرفة والتكنولوجيا‬
‫العلمية التي انطلقت خالل القرن التاسع عرش عرب طيف واسع‪ .‬وهذا لن يضيف‬
‫فقط املزيد واملزيد من القدرات الجديدة إىل جانب تلك التي متلكتها البرشية‪،‬‬
‫ضغوطا مستمرة‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ومثلام هو حاصل منذ القرن التاسع عرش‪ ،‬سيضع‬ ‫ولكنه ً‬
‫وكبرية عىل الهياكل االقتصادية واالجتامعية والسياسية والقانونية والعسكرية‬
‫واألخالقية‪ .‬وهكذا ستظل البرشية رهينة النفجار املعرفة الذي بدأ خالل القرن‬
‫التاسع عرش‪ ،‬وللثورة االجتامعية التي يبدو أنها ستظل دامئة والتي كانت تقودها‬
‫املعرفة منذ ذلك الحني‪ .‬من الصعب التنبؤ بالشكل والطابع الدقيقني للتغيريات‬
‫االجتامعية التي أحدثتها التقنيات الجديدة‪ .‬فال يكاد يوجد أحد كان يفهم عواقب‬
‫اإلنرتنت عندما بدأت يف الظهور يف التسعينيات‪ .‬وأولئك الذين يفكرون حال ًيا فيام‬
‫يسمى بالتفرد (النقطة التي يظهر فيها شكل من أشكال الذكاء‪ ،‬سواء أكان آل ًيا أم‬
‫بيولوج ًيا‪ ،‬يساوي أو يتفوق عىل اإلنسان املميز) ليس لديهم إجامع حول ما إذا‬
‫كان مثل هذا التطور الذي يتوقعون حدوثه يف العقود القليلة القادمة سيكون‬
‫تطورا حميدا أو كارثيا بالنسبة إىل البرشية ;‪(Mills, 2013; Bostrum, 2014‬‬
‫)‪.Brynjolfsson and McAfee, 2014‬‬
‫التعليل‪ :‬هذا هو النمط الراسخ اآلن بعمق يف معظم الدول واملجتمعات‪،‬‬
‫حيث تعززه عوملة الرأساملية‪ .‬إن السعي إىل تحقيق التقدم بهذه الطريقة مل‬
‫يكن مث ًريا للجدل حتى يف أثناء املواجهات األيديولوجية الكربى مثل الحرب‬
‫هائاًل للغاية بعيدًا عن العقالنية والرثوة‬‫الباردة‪ .‬ويتطلب تعطيله إما تحو ًاًل فكر ًيا ً‬
‫والقوة التي يولدها هذا النمط الراسخ‪ ،‬وإما انهيا ًرا كب ًريا ودامئًا للنظام االجتامعي‬
‫الرضوري لدعمه‪ ،‬وإما أن ينتقل التطوير من منوذج االستقراء إىل منوذج غري‬
‫قابل للتنبؤ به‪ .‬من الناحية النظرية قد تكون احتامالت املعرفة والتكنولوجيا‬
‫‪412‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫متناهية ومحدودة ذات ًيا‪ ،‬ولكن إذا كان هذا هو الحال‪ ،‬فال توجد دالئل عىل‬
‫أننا قريبون من تلك النقطة‪ .‬ففي كل قطاع تقري ًبا من العلوم املادية‪ ،‬بد ًءا‬
‫من الفيزياء وعلم الفلك وصوال إىل التكنولوجيا الحيوية والحوسبة‪ ،‬يستمر‬
‫تطوير املعرفة والتكنولوجيا الجديدة بوترية متسارعة‪ .‬ورسعة وحجم التقدم يف‬
‫تكنولوجيا املعلومات والعلوم املادية وعلم الوراثة الحاصل عىل مدى العقود‬
‫األخرية كفيالن بتوضيح هذه النقطة‪ .‬مثة بالتأكيد مشاعر قوية وقابلة لالستغالل‬
‫سياس ًيا ضد الخرباء‪ .‬ولكن ليس من الواضح عىل اإلطالق أن السياسة املتعلقة‬
‫بالقضايا املعقدة للتكنولوجيا والحوكمة واالقتصاد ستكون أفضل إذا صيغت من‬
‫منظور الجهل‪ ،‬وليس يف ضوء أفضل املعارف املتاحة‪.‬‬

‫‪ - 1 - 5‬املصائر املشرتكة‬
‫االفرتاض‪ :‬كام استُع ِرض ذلك بالتفصيل يف الفصل السابع‪ ،‬ستصبح البرشية عىل‬
‫رضة لقضايا املصائر املشرتكة‪ ،‬التي قد يكون بعضها طبيعيا والبعض‬ ‫نحو متزايد عُ َ‬
‫'‬
‫اآلخر من صنع اإلنسان ‪(Rees, 2003; Bostrum and C irkovic', 2008; N.‬‬
‫)‪ .Wolf, 2011; Mills, 2013; Homer-Dixon et al., 2015‬إن صعود تهديدات‬
‫املصائر املشرتكة غري التقليدية سوف ينافس عىل نحو متزايد هيمنة األجندة األمنية‬
‫والتهديدات العسكرية‪ /‬السياسية التقليدية التي تشكلها الدول واملجتمعات بعضها‬
‫وسع لـ «األمن املشرتك» (األمن مع) سيصبح‬ ‫ضد بعض‪ .‬ونظ ًرا إىل أن هذا املنطق ا ُمل َّ‬
‫أكرث كثافة‪ ،‬سوف يتنافس إذن مع منطق «األمن القومي» (األمن ضد) ‪(Buzan‬‬
‫)‪ .and Hansen, 2009: 187–225; Cui and Buzan, 2016‬كام ستخلق بعض‬
‫ضغوطا مستدامة بالنسبة إىل اإلدارة العاملية‪ ،‬ومن أبرزها‬ ‫ً‬ ‫هذه املصائر املشرتكة‬
‫نجد السوق العاملية؛ وتغري املناخ؛ ومكافحة األمراض؛ وحامية الكواكب من الصخور‬
‫ً‬
‫ضغوطا من أجل التعاون‬ ‫الفضائية‪ .‬لكن البعض من تلك املصائر املشرتكة سيخلق‬
‫وضوحا يف األمن‬
‫ً‬ ‫رصا للتسليح يف منافسات القوى الكربى؛ وعىل نحو أكرث‬ ‫العاملي و ُف ً‬
‫السيرباين؛ والهجرة؛ وصعود الذكاء االصطناعي‪ .‬إن االتجاه املهيمن سيتفاعل بقوة‬
‫مع ما إذا كانت اتجاهات املجتمع الدويل العاملي تتجه نحو التعددية املتنازع عليها‬
‫أو نحو التعددية الراسخة‪.‬‬
‫‪413‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫التعليل‪ :‬نظ ًرا إىل أن الجنس البرشي يحتل كوكبه عىل نحو أكرث كثافة من أي‬
‫وقت مىض‪ ،‬خاصة مع تزايد الرتابط والتنمية وزيادة تعقيدهام عىل خلفية زيادة‬
‫القدرة عىل التفاعل‪ ،‬فإن هذه الحالة تجعل الجنس البرشي من الناحية الهيكلية‬
‫أكرث عرضة ملجموعة املصائر املشرتكة املذكورة سابقا‪ .‬ستنخفض الكثافة املتزايدة‬
‫لالحتالل البرشي للكوكب يف معظم أنحاء العامل باستثناء أفريقيا والرشق األوسط‪،‬‬
‫حيث يبدو أنها ستزداد‪ .‬ولكن مع تقدم انتشار ثورات الحداثة‪ ،‬ستزداد الكثافة‬
‫الناتجة عن التنمية وارتفاع مستويات املعيشة يف كل مكان تقري ًبا‪ .‬وعىل الرغم من‬
‫طموحات إيلون ماسك الستعامر املريخ‪ ،‬فلن يكون هناك حل «خارج الكوكب»‬
‫لهذه املشكلة (الكثافة السكانية) لعقود عديدة‪ ،‬إن مل يكن لألبد‪.‬‬

‫‪ - 1 - 6‬الهياكل املعيارية‬
‫هذه امليزة الهيكلية تتعلق باملجتمع‪ ،‬ومبا أن املجتمع مفهوم متنازع عليه‪،‬‬
‫فإنه يتطلب منا بعض الرشح‪ .‬تتطلب جميع املجتمعات‪ ،‬مبا يف ذلك املجتمعات‬
‫الدولية والعاملية‪ ،‬نوعًا من األساس املعياري أو األخالقي الذي يدعم الهويات التي‬
‫ُت َع ِّرف بها الشعوب نفسها و«اآلخرين»‪ .‬وتحدد هذه الهياكل املعيارية من ُي َ‬
‫عترَب‬
‫عض ًوا رشع ًيا يف املجتمع‪ ،‬وما الذي يعترب سلو ًكا رشع ًيا داخل ذلك املجتمع‪ .‬هنالك‬
‫خالف بشأن أي نوع من املجتمع موجود عىل املستوى العاملي‪ .‬وتقدم املدرسة‬
‫اإلنجليزية حجة مقنعة عن وجود مجتمع دويل (أي مشرتك بني الدول) يحدد‬
‫نفسه وعضويته من خالل مجموعة مشرتكة من النظم األولية التي ترتاوح بني‬
‫السيادة والديبلوماسية إىل القومية واملساواة اإلنسانية ‪(Bull, 1977; Buzan‬‬
‫أيضا مجتمعا من‬‫)‪ .and Schouenborg, 2018‬ومجتمع الدول هذا ميكن اعتباره ً‬
‫املجتمعات‪ ،‬لديه عدد صغري نسب ًيا من األعضاء (نحو ‪ )200‬ومجموعة واضحة نسب ًيا‬
‫من القواعد املحددة واملؤسسات التي يشرتك فيها أعضاؤه من الدول‪ .‬لقد أبدى‬
‫علامء االجتامع اهتام ًما ً‬
‫ضئياًل نسب ًيا مبجتمع ما بني الدول‪ ،‬ولن يقبل كثري منهم‬
‫شكاًل من أشكال املجتمع‪ .‬إن املجتمع العاملي الذي يضم البرشية جمعاء‬ ‫اعتباره ً‬
‫هو أكرث مالءمة للفهم االجتامعي السائد للمجتمع‪ ،‬ولكنه يف املامرسة العملية‬
‫يعد بنا ًء فلسف ًيا أكرث من كونه حقيقة قابلة لإلدراك‪ .‬وعندما يكون البرش أعضاء‬
‫‪414‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫يف املجتمع‪ ،‬فسيكون هناك قليل من التامسك عىل املستوى العاملي مع االعرتاف‬
‫الواسع النطاق بأن جميع البرش متساوون (استبدال االفرتاض القديم عىل أساس‬
‫العرق أو الطبقة أو الجنس أو املكانة التي مل يكونوا عليها‪ ،‬والذي عزز العنرصية‬
‫والعبودية واإلمرباطورية واملكانة املتدنية للمرأة)‪ .‬وبالنظر إىل املنظور العاملي فإن‬
‫الهيكل املعياري للبرشية كأفراد ُم َجزأ بقوة داخل عديد من الهويات الحضارية‬
‫والوطنية والدينية دون العاملية ‪(J. Williams, 2015; Buzan, 2017; Buzan‬‬
‫)‪ .and Schouenborg, 2018‬إن الوسيط بني الديناميات املابني دوالتية املشرتكة‬
‫للمجتمع الدويل العاملي وديناميات الهوية ما بني البرشية للمجتمع هي مجموعة‬
‫معقدة و ُم َرَتَاصة عىل نحو متزايد من الفاعلني غري الحكوميني العابرين للحدود‪،‬‬
‫سواء كانوا مدنيني أو غري مدنيني‪.‬‬
‫ينتج عن هذا التقسيم بني مجتمع دويل من الدول ومجتمع عاملي من الناس‬
‫افرتاضات متناقضة بشدة بشأن الهيكل املعياري للمجتمع الدويل العاملي الناشئ‪.‬‬
‫االفرتاض (أ)‪ :‬إن الهيكل املعياري العاملي ملجتمع الدول أقوى مام كان عليه يف‬
‫أي وقت مىض‪ ،‬وعىل الرغم من بعض خطوط الصدع‪ ،‬فإنه ُيظهر عالمات واضحة‬
‫عىل تعميق وتوسيع نطاق نظمه األولية‪.‬‬
‫التعليل (أ)‪ :‬منذ نهاية الحرب الباردة كان هناك إجامع كبري وواسع النطاق عىل‬
‫مجموعة واسعة من النظم األولية التي تحدد املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬وتشمل هذه‬
‫النظم‪ :‬السيادة؛ واإلقليمية؛ والديبلوماسية؛ والقانون الدويل؛ والسوق؛ والتنمية؛‬
‫والقومية؛ واملساواة اإلنسانية؛ وإدارة القوى الكربى؛ وإىل حد ما الحرب‪ .‬إن اإلجامع‬
‫بشأن رأساملية السوق العاملية هو إجامع ملحوظ‪ ،‬حيث أصبحت اآلن جميع القوى‬
‫الكربى وعديد من القوى اإلقليمية مبعنى ما تشكل قوى رأساملية‪ .‬وميثل هذا‬
‫تضيي ًقا كب ًريا يف النطاق الرتددي األيديولوجي للمجتمع الدويل العاملي منذ الحرب‬
‫الباردة‪ ،‬حيث كانت القضية األساسية هي «الرأساملية أم ال»‪ .‬هذا ال يعني أنه‬
‫ال توجد اختالفات أو خالفات بشأن هذه األشياء‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ :‬بشأن عدم‬
‫التدخل؛ وكيفية إدارة السوق العاملية؛ وكيف يجب أن تشتغل إدارة القوى الكربى‪.‬‬
‫مثة خالفات من حيث املبدأ بشأن حقوق اإلنسان والدميوقراطية‪ ،‬ومن ثم فهي ال‬
‫تعترب ُن ُظ ًاًم عاملي ًة للمجتمع الدويل ‪ .‬ولكن عىل الرغم من هذه الخالفات‪ ،‬فإن هناك‬
‫‪415‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بنية معيارية واسعة وقوية‪ ،‬ويف بعض الجوانب (مثل السيادة؛ اإلقليمية؛ والقومية؛‬
‫والديبلوماسية؛ واملساواة اإلنسانية) تشكل بنية معيارية عميقة للغاية يقوم عليها‬
‫مجتمع ما بني الدول املعارصة‪ .‬إذ متارس بعض جوانب هذه البنية املعيارية‪ ،‬مثل‬
‫القومية واملساواة البرشية‪ ،‬دورا قويا يف املجتمع العاملي أيضا‪ .‬وقد برزت فكرة‬
‫اإلرشاف البيئي‪ ،‬وهي فكرة ترى أن للجنس البرشي مسؤولية جامعية ومصلحة‬
‫ذاتية لرعاية كوكب األرض‪ ،‬أخريا كنظام أويل جديد خالل القرن الحادي والعرشين‪،‬‬
‫متا ًما كام برزت القومية خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬والسوق خالل القرن العرشين‬
‫(‪ .)Falkner, 2016; Falkner and Buzan, 2017‬إن املصائر املشرتكة لديها‬
‫القدرة عىل توليد عنارص من األخالق والثقافة املشرتكة التي تدفع إىل األعىل انطالقا‬
‫من املجتمع العاملي إىل مجتمع بني الدول (‪ .)Clark, 2007‬ويبدو مركز هذه‬
‫البنية املعيارية (السيادة؛ واإلقليمية؛ والقومية) مستق ًرا‪ ،‬لكن االستقطاب السيايس‬
‫املعياري بني املستبدين والدميوقراطيات؛ والتنافس بني القوى الكربى عىل مجاالت‬
‫النفوذ‪ ،‬ميكن أن يحد عىل نحو كبري من تعزيز مجتمع ما بني الدول ‪(Buzan and‬‬
‫)‪.Schouenborg, 2018‬‬
‫انفتاحا‬
‫ً‬ ‫االفرتاض (ب)‪ :‬سيصبح الهيكل املعياري العاملي للمجتمع العاملي أكرث‬
‫وتنوعًا مام كان عليه خالل العقود القليلة املاضية‪.‬‬
‫التعليل (ب)‪ :‬لقد و َّفرت الهيمنة الطويلة للغرب و«معياره الحضاري» الليربايل‬
‫قرشة للثقافة واألخالق العاملية‪ .‬وبدافع من مركز العامل الناطق باللغة اإلنجليزية‪،‬‬
‫أعطى هذا مظهر صعود عامليا لألفكار الليربالية‪ ،‬ا ُملحددة عىل نحو أسايس من ناحية‬
‫املصالح االقتصادية‪ .‬وقد عُ زِّزت هذه القرشة الرقيقة من خالل قوة االدعاء الليربايل‬
‫الغايئ بتسيد املستقبل‪ ،‬والذي عُ زِّز بدوره من خالل الصعود املادي للعامل الناطق‬
‫باللغة اإلنجليزية‪ ،‬وقد أخفت تلك القرشة الرقيقة كثريا من التنوع الثقايف تحتها‪.‬‬
‫إن االنحدار النسبي للغرب يعني أن القوة املادية والسلطة املعنوية أصبحتا أكرث‬
‫انتشا ًرا عرب نطاق أوسع من الجهات الفاعلة‪ .‬وأصبحت حقيقة مجتمع عاملي ملا‬
‫بعد االستعامر مرئية اآلن مع انتشار الحداثة إىل ما وراء مركزها األصيل الصغري‪.‬‬
‫ستبقى القيم الليربالية قوية داخل الغرب‪ ،‬عىل الرغم من أنها تواجه‪ ،‬حتى داخل‬
‫الغرب يف حد ذاته‪ ،‬تحد ًيا خط ًريا ُمتأت ًيا من املنظورات القومية والشعبوية والفاشية‬
‫‪416‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫الجديدة املناهضة للعوملة‪ .‬وستنترش القيم الليربالية عىل نحو أضعف يف أماكن‬
‫أخرى‪ ،‬وستظل مؤثرة عامل ًيا كإحدى الرؤى السياسية الرئيسة‪ .‬لكن صعود البقية‪،‬‬
‫والتأثري الذي يغذيه اإلنرتنت ملجموعة من الجهات الفاعلة غري الحكومية التي ميتد‬
‫عملها عرب الحدود الوطنية‪ ،‬سيعيد متكني مجموعة متنوعة من البدائل األخالقية‬
‫وضوحا يتَأَىت من اإلسالم والكونفوشيوسية‪ً ،‬‬
‫وأيضا من‬ ‫ً‬ ‫الثقافية‪ ،‬وأك ُرث تلك البدائل‬
‫التقاليد املحلية للسلطوية‪ .‬عىل نحو جامعي‪ ،‬سيؤدي ذلك إىل نظام أخالقي‪ /‬ثقايف‬
‫أكرث تعددية‪ .‬ويتضح هذا بالفعل يف تأكيد بكني عىل «الخصائص الصينية»؛ وغرس‬
‫فكرة الهندوتفا(٭) يف الهند؛ وعودة روسيا إىل الهوية السالفية؛ والرتويج لإلسالم‬
‫كنظام أخالقي بديل‪ .‬إن الحامس املبدى حيال العوملة يشهد ضعفا‪ ،‬يف حني أن‬
‫القومية وما ميكن تسميته بالنزعة الحضارية تشهدان عودة‪ .‬وهيمنة سياسات‬
‫الهوية عىل االقتصاد ال متارس دورا يف الصني وروسيا واليابان ومعظم دول آسيا‬
‫فقط‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا يف معاقل الليربالية يف أوروبا والواليات املتحدة‪ .‬ومبعنى ما‪ ،‬يشهد‬
‫املجتمع العاملي عودة إىل حالته التاريخية املتمثلة يف التنوع الثقايف حينام أفسحت‬
‫الحالة االستثنائية للهيمنة الغربية‪ ،‬التي كانت فرتتها قصرية ولكن تأثريها قوي‪،‬‬
‫الطريقَ أمام االنتشار العاملي لثورات الحداثة‪.‬‬

‫‪ - 1 - 7‬النزاع والعنف‬
‫افرتاض (أ)‪ :‬ستظل حرب القوى الكربى الشاملة مقيدة للغاية‪ .‬وميكن أن تحدث‬
‫حرب من خالل حدث عريض أو اإلهامل‪ ،‬ولكن من غري املرجح أن يكون اختيا ًرا‬
‫سياسيا عقالن ًيا بالطريقة التي كان عليها بالنسبة إىل القوى التي بدأت الحربني‬
‫العامليتني األوىل والثانية‪ .‬إن السعي وراء الهيمنة عىل نطاق عاملي من قبل القوى‬
‫الكربى سيستمر يف الضعف كدافع لنزاعات وحروب القوى الكربى‪ .‬وإذا كان ال بد‬
‫من وجود نظام عاملي مبني عىل أساس التعددية الراسخة‪ ،‬فال بد أن يكون نظاما‬
‫(٭) هندوتفا (‪ )Hindutva‬هو الشكل السائد للقومية الهندوسية يف الهند‪ .‬حظي املصطلح بشعبية من قبل مؤسسه‬
‫فيناياك دامودار سافاركار يف العام ‪ .1923‬وتدافع عنها عدة منظامت قومية هندوسية‪ .‬وقد وُصفت حركة هندوتفا‬
‫بأنها حركة «فاشية باملعنى الكالسييك»‪ ،‬حيث تلتزم باملفهوم املتنازع عليه املتمثل يف األغلبية املتجانسة والهيمنة‬
‫الثقافية‪ .‬يعارض البعض التسمية الفاشية‪ ،‬ويشري إىل أن هندوتفا كانت شكال من أشكال «املحافظة» أو «الحكم‬
‫املطلق العرقي»‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪417‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يأيت عن طريق التفاوض ويحظى بالتوافق‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬قد يظل البحث عن‬
‫الهيمنة عىل نطاق إقليمي وتنافس القوى الكربى حول مناطق النفوذ قويا جدا‬
‫داخل املجتمع الدويل العاملي الالمركزي‪.‬‬
‫التعليل (أ)‪ :‬مل تعد الحرب العاملية بني القوى الكربى تقدم خيا ًرا جيدًا‪ ،‬أو‬
‫رمبا أي خيار آخر‪ ،‬لتحقيق مكاسب تفوق الخسائر‪ .‬فقد أصبحت وسائل التدمري‬
‫كبرية للغاية؛ والتكاليف باهظة للغاية؛ ورشعية الكسب اإلقليمي عن طريق‬
‫الغزو منخفضة للغاية؛ واحتامل املقاومة يف األرايض املحتلة مرتفعا للغاية‪.‬‬
‫باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬ويف عامل من القوى الكربى (أي ال توجد فيه قوى عظمى)‪،‬‬
‫لن يكون لدى أي من القوى الكربى القدرة‪ ،‬ورمبا لن يكون لدى أي منها‬
‫الطموح‪ ،‬للمنافسة عىل الهيمنة العاملية‪ .‬وكام تظهر التجربة األمريكية عىل‬
‫مدى العقدين املاضيني‪ ،‬فإن هذه الوظيفة (وظيفة القوة العظمى) تنطوي عىل‬
‫أعباء باهظة التكلفة ومستحيلة عىل نحو متزايد‪ ،‬كام أن كال من وظيفة القوة‬
‫العظمى نفسها ومسؤولية الواليات املتحدة فيها ترتاجع رشعيتهام‪ .‬وكام أرشنا‬
‫سابقا‪ ،‬فإن خطاب القوى الكربى الصاعدة مثل الهند والصني يوضح أنها مرتددة‬
‫يف تحمل مسؤوليات القوة الكربى‪ ،‬فضال عىل مسؤوليات القوى العظمى‪،‬‬
‫مفضلة إعطاء األولوية لتنميتها‪ .‬وضمن هذه األولوية‪ ،‬ال تختلف تلك القوى‬
‫الصاعدة كث ًريا عن الواليات املتحدة إبان فرتة انعزاليتها حتى العام ‪ .1941‬إن‬
‫التنافس الحايل بني الواليات املتحدة والصني‪ ،‬وعىل الرغم من أنه ُيفهم غال ًبا‬
‫عىل أنه يتعلق بالتفوق العاملي‪ ،‬فإنه يدور حول من هي القوة التي ستهيمن‬
‫عىل آسيا‪ .‬هذا يعني أنه قد تسعى القوى الكربى إىل التفوق اإلقليمي‪ ،‬عىل‬
‫الرغم من أنه حيثام توجد أكرث من قوة كربى يف املنطقة فإن الخوف من الحرب‬
‫سيقيد استخدام الحرب الشاملة لتحقيق مثل هذه األهداف‪.‬‬
‫االفرتاض (ب)‪ :‬ستبقى الحروب بني الدول عىل نحو عام نادرة‪ ،‬ومتثل االستثناء‬
‫وليس القاعدة‪ .‬هذا ال يستبعد بأي حال من األحوال حدوث كثري من االختيال‬
‫العسكري الذي قد يدفع نحو سباق التسلح‪.‬‬
‫التعليل (ب)‪ :‬تنطبق هنا الحجج نفسها الخاصة بالتعليل (أ)‪ .‬ويبدو أن بحر‬
‫الصني الجنويب أصبح حالة اختبار لكال االفرتاضني (أ) و(ب)‪.‬‬
‫‪418‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫االفرتاض (ج)‪ :‬ستصبح الحروب بني الدول والجهات الفاعلة غري الحكومية‪،‬‬
‫وبني الجهات املتنافسة غري الحكومية فيام بينها‪ ،‬الشكل الرئيس للعنف «الدويل»‪.‬‬
‫التعليل (ج)‪ :‬لقد كان من الواضح منذ العام ‪ 2001‬وبداية الحرب العاملية‬
‫عىل اإلرهاب أن الجهات الفاعلة غري الحكومية لديها القدرة عىل تجنيد وتدريب‬
‫وتحفيز وتجهيز قوات مقاتلة كبرية‪ .‬وهنالك سجل متزايد من قتالهم بعضهم لبعض‬
‫(عىل نحو رئيس يف الرشق األوسط) ومهاجمة أهداف أبعد يف أوروبا والواليات‬
‫املتحدة‪ .‬إن انهيار النظام السيايس ملا بعد االستعامر يف أجزاء من الرشق األوسط‬
‫وأفريقيا وآسيا‪ ،‬وظهور عديد من الدول الفاشلة وعديد من الدول الضعيفة يف تلك‬
‫األماكن‪ ،‬يوفر فرصا جيدة للجهات الفاعلة العنيفة غري الحكومية إلنشاء قواعد لها‪.‬‬
‫وظهور التنوع األخالقي‪ /‬الثقايف يف سياق االستياء التاريخي املستمر من االستعامر‬
‫ومن اآلثار الكبرية التي خلفتها الهيمنة الغربية‪ ،‬يوفر رشعية قوية للجهاديني‪ .‬كام‬
‫أن االقتصاد املعومل يجعل من السهل عليهم رشاء املعدات والعثور عىل ممولني‪،‬‬
‫سواء من املجتمع املدين وغري املدين أو حتى من بعض الدول‪.‬‬
‫االفرتاض (د)‪ :‬ستظل الديناميات القامئة بني الدول تشكل محركا مهام للنزاع‬
‫اجع نسبيا‪ .‬ستستمر العنرصية يف الرتاجع كمحرك‬ ‫والعنف‪ ،‬وإن كان عىل نحو مرت ٍ‬
‫للنزاع‪ ،‬لكن االختالفات الثقافية يبدو أنها ستظل قوية‪ ،‬خاصة عندما ترتبط بقضايا‬
‫الهجرة‪ .‬وبالنظر إىل التبني الواسع النطاق لرأساملية السوق العاملية‪ ،‬فإن الدوافع‬
‫األيديولوجية سترتاجع أيضا‪ .‬ولكن بالنظر إىل أزمة الرأساملية التي نوقشت سابقا‪،‬‬
‫فقد تصبح الالمساواة االقتصادية دافعا متناميا للنزاع داخل الدول عىل نحو أكرب‬
‫من أن تكون بني الدول‪ .‬وكام هو موضح يف الفصل السابع‪ ،‬تعمل الرأساملية العاملية‬
‫عىل سد الفجوات بني الدول بينام تفتح التفاوتات داخلها‪ .‬ويشري هذا النمط من‬
‫الدوافع إىل أن «العنف والنزاع سيكونان داخل الدول و‪/‬أو عرب الدول‪ ،‬أكرث منه عنفا‬
‫ونزاعا فيام بني الدول»‪.‬‬
‫التعليل (د)‪ :‬ستستمر عديد من الدول يف االستعداد للقتال بشأن القضايا‬
‫اإلقليمية‪ ،‬خاصة عندما ُقدست هذه القضايا من قبل القومية‪ .‬وستتنافس‬
‫الدول أيضا ورمبا تستخدم القوة حيال قضايا الوضع املحيل‪ /‬اإلقليمي‪ .‬لكن‬
‫الرأساملية العاملية تعمل كحاجز ضد استخدام القوة ألسباب اقتصادية‪ ،‬وهكذا‬
‫‪419‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تالىش الزخم املتعلق باملنافسة عىل الهيمنة العاملية‪ .‬فلم تعد االختالفات‬
‫األيديولوجية العميقة مثل تلك التي حدثت خالل القرن العرشين قامئة‪ ،‬عىل‬
‫الرغم من أن االنقسام بني األنظمة االستبدادية والدميوقراطيات ميكن أن يظل‬
‫كبريا‪ .‬وقد ُكبحت الدوافع العنرصية بسبب االلتزام واسع النطاق بعد االستعامر‬
‫بفكرة أن جميع البرش متساوون‪ ،‬لكن ردود الفعل إزاء الهجرة الجامعية يف‬
‫عديد من األماكن تشري إىل أن االختالفات الثقافية‪ ،‬ورمبا الدينية عىل وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬مازالت تحتفظ بأهمية كبرية‪ .‬ويبدو أن سياسة الهوية تعتمد اآلن‬
‫عىل الثقافة أكرث من كونها تستند إىل العرق‪ .‬مل تجد الرأساملية بعدُ إجابة ألقىص‬
‫درجات عدم املساواة‪ ،‬التي ستستمر يف النمو لتصبح أكرث حساسية من الناحية‬
‫السياسية‪ .‬ويبدو الحل التقليدي املتمثل يف الحفاظ عىل منو اقتصادي مطرد‬
‫إلضفاء الرشعية عىل عدم املساواة أضعف وأكرث صعوبة منذ األزمة االقتصادية‬
‫للعام ‪ .2008‬وكام ُيظهر خروج بريطانيا من االتحاد األورويب ووصول ترامب‬
‫إىل سدة الحكم‪ ،‬فإن استجابة القرن التاسع عرش املتمثلة يف الرتويج للقومية‬
‫ملواجهة االختالفات الطبقية قد اليزال لها بعض املنفعة‪ ،‬لكنه يخاطر بتعطيل‬
‫االقتصاد العاملي‪ ،‬الذي يعتمد عليه الجميع يف تحصيل الرثوة والقوة‪ .‬لقد تم‬
‫التنبؤ بزوال الرأساملية بسبب تناقضاتها الداخلية عىل نحو خاطئ ولعدة مرات‪،‬‬
‫مام يشري إىل أنه ال ينبغي ألحد أن يقلل من قدرة التعلم والقدرة عىل التكيف‬
‫التي تتميز بها الرأساملية كنظام‪ .‬لكن إذا حاولت النخب الرثية ترسيخ موقعها‪،‬‬
‫سواء من خالل االستيالء عىل الدولة أو استخدام تقنيات السيطرة أو الرتاجع إىل‬
‫سياسات الجيوب املحمية‪ ،‬فيمكن حينئ ٍذ توقع نشوب النزاع‪.‬‬
‫إذا أخذ املرء هذه املجموعة من االفرتاضات والتعليالت عىل أنها معقولة‪،‬‬
‫فسيكون كل من التآزر والتناقضات بينها واضحني‪ .‬إن هذه التوافقات والتناقضات‬
‫ال تعطي صورة بسيطة‪ ،‬فالرسالة الرئيسة هي أنه يف حني أن القوى الهيكلية القوية‬
‫تؤدي دورا يف كل من االستمرارية والتغيري‪ ،‬فإن تلك القوى كثريا ما ُت ْج َت َذب نحو‬
‫اتجاهني متعاكسني‪ .‬فيا ترى مباذا يخربنا هذا التوتر عن النظرة املستقبلية بخصوص‬
‫املجتمع الدويل العاملي وعن إمكانيات الفاعلية يف الخيارات بني التعددية املتنازع‬
‫عليها والتعددية الراسخة خالل العقود املقبلة؟‬
‫‪420‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫‪ - 2‬النظرة املستقبلية‪ :‬مجتمع دويل عاملي ما بعد غريب‬


‫يدعم هذا التحليل ثالثة تنبؤات بشأن املجتمع الدويل العاملي خالل العقود‬
‫القادمة‪ .‬األول‪ ،‬هو أن املجتمع الدويل العاملي بصدد الدخول يف فرتة َت َحول عميقة‬
‫ومستدامة‪ .‬والثاين هو أن ما هو ناشئ لن يكون أي شكل من أشكال «العودة إىل‬
‫املستقبل»‪ ،‬ولكنه يشء جديد متاما يقف عىل نحو كبري خارج نظريات العالقات‬
‫الدولية السائدة‪ .‬والثالث هو أن املجتمع الدويل العاملي الناشئ سيعرض بنية‬
‫تعددية عميقة بني املستويات اإلقليمية والعاملية‪.‬‬

‫التحول‬
‫‪َ -2-1‬‬
‫من الواضح اآلن أن املجتمع الدويل العاملي يبتعد عن شكله الطويل األمد‬
‫واملتمثل يف كونه بنية َم ْر َكز‪-‬أَ ْط َراف يهيمن عليها الغرب بقيادة الواليات املتحدة‪،‬‬
‫مع َم ْر َكز صغري وأَ ْط َراف كبرية نسبيا‪ .‬إنه يتجه نحو أن يكون شكال يعكس مجموعة‬
‫متنوعة ثقافيا وسياسيا من القوى الكربى واإلقليمية‪ ،‬مع َم ْر َكز ُمتَوسع وأَ ْط َراف‬
‫ُمتقلصة‪ .‬يف الوقت نفسه‪ُ ،‬يعاد تشكيل مركزية الدولة الشاملة الخاصة باملجتمع‬
‫الدويل العاملي من خالل الدور والقوة املتزايدين ملجموعة متنوعة من الجهات‬
‫الفاعلة غري الحكومية املدنية منها وغري املدنية عىل حد السواء‪ ،‬وكذلك من خالل‬
‫الزيادة املستمرة يف القدرة عىل التفاعل واملصائر املشرتكة‪ .‬ستكون الهياكل املادية‬
‫واملعيارية لهذه الصيغة الناشئة‪ ،‬أي الصيغة الثانية للمجتمع الدويل العاملي ما‬
‫بعد الغريب‪ ،‬مختلفة عىل نحو الفت للنظر عن النموذج الغريب العاملي‪ .‬وستكون‬
‫القوة املادية أكرث انتشارا‪ ،‬وستكون الرشعية املعيارية أكرث انتشارا وتكون نابعة من‬
‫ثقافات متعددة‪ ،‬مبا يف ذلك الليربالية‪ ،‬التي لن تصبح هي املهيمنة عليه‪ .‬كام ستكون‬
‫هذه التعددية الثقافية هي واقع الحال ليس فقط بني الدول‪ ،‬ولكن أيضا بني‬
‫الدول ومجموعة واسعة من الجهات الفاعلة غري الحكومية‪ .‬كل هذا يكون مصحوبا‬
‫بتحول سيايس يبتعد عن النزعات األيديولوجية من بني جميع الجهات التي قادت‬
‫الكثري من السياسات الدولية خالل القرن العرشين‪ ،‬ويتجه نحو التوتر الذي حدده‬
‫أولئك الذين ُيفضلون النزعة الداخلية والقومية الحامئية وسياسات الهوية الوطنية‬
‫من ناحية‪ ،‬وأولئك الذين ُي َفضلون املجتمعات املنفتحة والعوملة من ناحية أخرى‪.‬‬
‫‪421‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫إن معظم املجتمعات ممزقة بسبب هذا السؤال‪ ،‬ومن املرجح أن تتأرجح سياساتها‬
‫املحلية بشأنها بطرق يحتمل أن تكون غري مستقرة‪ .‬فروسيا والهند تعتربان منوذجني‬
‫للموقف الذي يتطلع إىل الداخل‪ .‬أما الصني فقد كان أداؤها جيدا من خالل العوملة‬
‫ولكنها تتطلع إىل الداخل عىل نحو عام‪ .‬وباملثل‪ ،‬كان أداء اليابان جيدا من العوملة‪،‬‬
‫لكنها متلك أيضا اهتامما قويا بسياسات الهوية‪ .‬يف حني أن معاقل الليربالية السابقة‬
‫‪ -‬الواليات املتحدة وبريطانيا واالتحاد األورويب ‪ -‬منقسمة بشدة بشأن هذه املسألة‪.‬‬

‫‪ - 2 - 2‬عدم «العودة إىل املستقبل»‬


‫وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن هذه الحركة املتجهة نحو التعددية الثقافية واملادية ليست‬
‫مجرد عودة إىل الوضع السابق الذي كان قامئا خالل عصور ما قبل الحداثة؛ حيث‬
‫كانت الحضارات عبارة عن تطورات شبه مستقلة؛ وكان للعامل عدة َم َراكز للرثوة‬
‫والقوة كان معظمها مرتابطا بعضه مع بعض عىل نحو ضعيف‪ .‬ضمن املجتمع‬
‫الدويل العاملي الناشئ‪ ،‬سيحدث انتشار القوة والرشعية املعيارية يف سياق ترابط‬
‫مستدام وعميق ال مفر منه‪ .‬وهكذا‪ ،‬وبرغم أن الثقافات التي كانت خاضعة للقوة‬
‫الغربية والليربالية خالل القرنني التاسع عرش والعرشين تعود إىل الظهور اآلن‪ ،‬فإنها‬
‫بعيدة كل البعد عن االضطالع بذلك بطريقة مستقلة‪ .‬ففي حني أن القوى الصاعدة‬
‫قد تعيد اكتشاف جذورها الثقافية وتعيد توثيقها‪ ،‬فإنها أيضا تندمج عىل نحو ال‬
‫مفر منه مع أفكار ونظم الحداثة‪ .‬لقد أصبحت الحداثة اآلن منسوجة يف نسيجهم‬
‫االجتامعي واالقتصادي والسيايس‪ ،‬وكام هو الحال بالنسبة إىل الغرب‪ ،‬فهي أساسية‬
‫يف سعيهم وراء الرثوة والقوة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن القوى الصاعدة ُمُتثل اندماجا ثقافيا‬
‫مختلفا متاما عن األشكال التي كانت عليها خالل مرحلة ما قبل الحداثة‪ .‬ومثلام‬
‫تغريت الثقافة الغربية بفعل الحداثة‪ ،‬فإن كل الثقافات األخرى التي تواجه الحداثة‬
‫ستلقى املصري نفسه (‪ .)Katzenstein, 2010: 14–38‬فخارج الغرب‪ ،‬قادت اليابان‬
‫الطريق يف تطوير اندماج مستقر لثقافتها الخاصة مع األفكار واملامرسات الحديثة‪،‬‬
‫وتتقدم الصني وآخرون اآلن عىل نحو جيد عىل املسار نفسه‪ .‬مل ُي َؤ ِد التحديث ومنطق‬
‫التنمية املركبة غري املتكافئة إىل جعل اليابان أو الصني أو الهند مناذج مستنسخة‬
‫عن الغرب؛ فهي بعيدة كل البعد عن ذلك (‪ .)Rosenberg, 2013, 2016‬وقد‬
‫‪422‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫نتج عن ذلك اندماج فريد يختلف عن الغرب ويختلف أيضا فيام بينها بعضها عن‬
‫بعض‪ ،‬حيث يجد كل مجتمع طريقته الخاصة لدمج أفكار ونظم الحداثة يف ثقافته‬
‫الخاصة‪ .‬وهكذا‪ ،‬وعىل الرغم من أن املجتمع الدويل الناشئ قد يكون أكرث تعددية‬
‫ثقافيا مام كان عليه خالل فرتة الهيمنة الغربية‪ ،‬فإنه سيشرتك أيضا يف ركيزة مهمة‬
‫من أفكار ونظم الحداثة كإرث من مساره التكويني‪.‬‬

‫‪ - 2 - 3‬مجتمع دويل عاملي مابعد غريب‪ ،‬متعدد الطبقات‪ ،‬وتعددي عىل‬


‫نحو عميق‬
‫حقيقة أن الضغوط الهيكلية تدفع يف كثري من األحيان يف اتجاهات معاكسة‪،‬‬
‫ستنتج شكال أكرث تعددية وطبقية من املجتمع الدويل العاملي‪ .‬إن رغبة الدول‬
‫والشعوب يف مزيد من التاميز السيايس والثقايف‪ ،‬وإىل حد ما‪ ،‬االقتصادي‪ ،‬ترتبط‬
‫عىل نحو متزايد بتوزيع أكرث انتشارا للقوة والرشعية الثقافية‪ .‬هذا املزيج‪ ،‬جنبا‬
‫َوحد لدى القوى الكربى املحتملة‪ ،‬يشري إىل اتجاه قوي نحو‬ ‫إىل جنب مع ميول الت ُ‬
‫مجتمعات دولية أكرث إقليمية وأكرث متايزا من النواحي الثقافية والسياسية‪ .‬وعىل‬
‫رغم ذلك‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬فإن الهيكل املعياري للمجتمع الدويل العاملي قوي‬
‫نسبيا‪ ،‬ورضورات املصائر املشرتكة‪ ،‬مبا يف ذلك الحفاظ عىل االقتصاد العاملي‪ ،‬تجعل‬
‫قدرا كبريا من التعاون عىل املستوى العاملي أمرا ال مفر منه ما مل تكن الدول‬
‫والشعوب مستعدة لقبول تخفيضات كبرية يف ثرواتها وسلطتها وأمنها‪ .‬إن حقيقة‬
‫وجود قوى قوية تسحب يف اتجاهني متعاكسني‪ ،‬ال تشري فقط إىل أن نطاق الفاعلية‬
‫لكل من الجهات الفاعلة من الدول ومن غري الدول هو نطاق كبري‪ ،‬ولكن تشري‬
‫أيضا إىل أن انتصار أي من االتجاهني – مجتمع دويل عاملي أضعف وأكرث تجزئة‬
‫وإقليمية؛ أو مجتمع دويل عاملي أقوى وأكرث متاسكا وعوملة ‪ -‬قد ال يكون النتيجة‬
‫املرجحة‪ .‬ميكن أن تكون مستويات النظم اإلقليمية والعاملية ذات محصلة صفرية‬
‫كام كانت خالل الثالثينيات‪ ،‬كام ميكنها أن تكون متوافقة مثلام هو مقرتح من قبل‬
‫املناطق االقتصادية كاالتحاد األورويب‪ ،‬والتي ال توفر فقط بديال أو تراجعا عن النظام‬
‫االقتصادي العاملي‪ ،‬ولكن أيضا طريقة لبناء موقف تفاويض أقوى داخل لعبة عاملية‪.‬‬
‫يقدم العامل الذي نواجهه جدلية مختلفة نوعا ما بني املستويني اإلقليمي والعاملي‬
‫‪423‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تختلف عن تلك الجدلية الخاصة بفرتة الثالثينيات أو عن تلك التي يطرحها االتحاد‬
‫األورويب‪ .‬وتشري قوة القوى التي تدفع حاليا إىل كال الخيارين إىل أنه خالل العقود‬
‫القادمة‪ ،‬سيكون الحصول عىل صيغة من كال الخيارين هو النتيجة األكرث ترجيحا‪.‬‬
‫ستكون ا ُمل ِ‬
‫عض َلة بالنسبة إىل العقود القادمة هي كيفية التوفيق بني رضورات تبيئة‪/‬‬
‫توطني التنوع الثقايف الذي تم إحياؤه مع الرضورات العوملية للمصائر املشرتكة‪،‬‬
‫وكيفية االضطالع بذلك يف عامل تعددي بعمق من دون قوة عظمى أو مجموعة‬
‫َم َرا ِكز أو ثقافة أو أيديولوجية مهيمنة‪.‬‬
‫إن ما تشري إليه هذه الضغوط الهيكلية املتناقضة عىل ما يبدو هو مجتمع‬
‫دويل عاملي أكرث طبقية حيث يؤدي فيه التاميز اإلقليمي و‪/‬أو شبه العاملي املدفوع‬
‫بالنزعة الحضارية دورا‪ ،‬جنبا إىل جنب مع مستوى عاملي تعددي تدعمه الحاجة إىل‬
‫التعامل مع املصائر املشرتكة‪ .‬ولحسن الحظ‪ ،‬فإن التفسري التعددي لنظم املجتمع‬
‫نواح عديدة متوافق متاما مع التنوع الثقايف‪ .‬إن السيادة‬‫الدويل العاملي هو من ٍ‬
‫وعدم التدخل واألقاليم والقومية كلها تدعم الحفاظ و‪/‬أو تنمية االختالف والتاميز‬
‫السيايس والثقايف اللذين يشكالن إرث التاريخ البرشي‪ .‬ومن الناحية العملية‪ ،‬سوف‬
‫تنطوي هذه الحركة املزدوجة عىل تحول يف الهدف بني املستويني اإلقليمي والعاملي‪.‬‬
‫فعىل املستوى اإلقليمي‪ ،‬ستصبح الحوكمة أكرث عمومية من أجل دعم التاميز‬
‫السيايس والثقايف‪ .‬وميكن أن تضطلع بذلك القيادة املهيمنة املحلية‪ ،‬مثلام يبدو‬
‫ذلك من خالل االنجراف الحاصل يف املشاريع اإلمربيالية الجديدة لروسيا والصني‪.‬‬
‫أو قد ُي َّضط َلع به عىل نحو أكرث توافقية‪ ،‬كام هو الحال يف االتحاد األورويب‪ ،‬أو كام‬
‫ُلمح إليه من خالل الحديث عن انشقاقات أفريقية عن املحكمة الجنائية الدولية‪.‬‬
‫وبهذا املعنى املحدد‪ ،‬قد يصبح االتحاد األورويب النموذج الذي طاملا أراد أن يكون‬
‫بقد ٍر ما النموذج الذي يوضح كيفية االضطالع بالتاميز اإلقليمي عىل أساس ثقايف‪.‬‬
‫أما عىل املستوى العاملي‪ ،‬فستصبح الحوكمة أقل عمومية وأكرث تركيزا عىل القضايا‬
‫الوظيفية املحددة التي تثريها املصائر املشرتكة‪ .‬وسيضعف املرشوع الغريب للرتويج‬
‫للقيم الليربالية باعتبارها الركيزة العاملية أو «معيار الحضارة» للنظام الدويل عىل‬
‫الصعيد العاملي‪ ،‬حتى لو ظلت تلك القيم قوية داخل الغرب (وهو ما يشري إليه‬
‫وصول ترامب إىل سدة الحكم وخروج بريطانيا من االتحاد األورويب بأنه قد ال يكون‬
‫‪424‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫كذلك) وإىل حد ما يف مكان آخر‪ .‬ولن يحل محلها أي يشء «عاملي» مبعنى النظرة‬
‫الواسعة ملا هو صحيح سياسيا وأخالقيا‪ .‬وسوف تتكشف الحداثة عىل عدة خطوط‬
‫سياسية واجتامعية بدال من خط واحد فقط‪.‬‬
‫إن أولئك املوجودين يف الصني وروسيا وإيران وفرنسا والهند وأماكن أخرى‪ ،‬من‬
‫الذين عارضوا الهيمنة األمريكية‪ /‬الغربية منذ فرتة طويلة ودعوا إىل نظام دويل أكرث‬
‫«تعددية لألقطاب»‪ ،‬سوف يحصلون عىل رغبتهم‪ .‬لكن يف التقليد ا ُمل َخا ِدع املتمثل‬
‫يف قصص «التمنيات»‪ ،‬فلن يحصلوا عىل ما كانوا يتوقعونه‪ .‬ستُرتك األقاليم وعىل‬
‫نحو متزايد لتُدبر أمرها بنفسها يف الرساء والرضاء‪ .‬ويف غياب كل من القوى العظمى‬
‫واأليديولوجيات املهيمنة عامليا‪ ،‬لن يكون املستوى العاملي متعلقا بالنظام السيايس‬
‫واالجتامعي العاملي عىل نحو عام كام كان الحال طوال العقود العديدة املاضية‪.‬‬
‫وبدال من ذلك‪ ،‬سوف يتعلق األمر بسلسلة من االتفاقيات واملؤسسات الوظيفية‬
‫املحددة للتعامل مع قضايا املصري املشرتك التي يعرتف بها الجميع ويقبلونها عىل‬
‫هذا النحو‪ ،‬وال ُيتعامل معها عىل أنها مناطق نزاع سيايس‪ .‬رمبا ُينبئ تراجع املجتمع‬
‫الدويل العاملي إىل مجموعة محدودة من الخصائص الوظيفية بقدرة الواليات‬
‫املتحدة واالتحاد السوفييتي عىل االتفاق عىل عدم انتشار األسلحة النووية حتى يف‬
‫أوج تنافسهام ذي املحصل الصفري‪ .‬ويف اآلونة األخرية‪ ،‬يشري التحول من الخالف إىل‬
‫اإلجامع بشأن تغري املناخ بني كوبنهاغن يف العام ‪ 2009‬وباريس يف العام ‪ 2015‬إىل‬
‫ظهور تعاون وظيفي محدد ضد تهديد مشرتك (‪،)Falkner and Buzan, 2017‬‬
‫وقد بدأت هذه االتفاقية تبدو قوية مبا يكفي للنجاة من معارضة ترامب‪ ،‬ومن ثم‬
‫فهي تضيف مؤرشات أخرى عن تراجع الواليات املتحدة عن وضع القوة العظمى‪.‬‬
‫إن التطور ثنايئ املسار الحاصل عىل طول هذه الخطوط من شأنه أن يرقى‬
‫إىل إعادة تصور جوهرية ملفهوم املجتمع الدويل العاملي‪ ،‬يختلف عن ذلك التصور‬
‫الذي اعتدنا عليه خالل العقود املاضية‪ .‬ومبعنى ما‪ ،‬قد يقطع ذلك االفرتاض‬
‫الليربايل التضامني بأن هناك مجموعة محددة من القيم السياسية واالجتامعية‬
‫العاملية التي يجب عىل الجميع االلتزام بها يف نهاية املطاف‪ .‬سيكون مجتمعا دوليا‬
‫عامليا عميقا وراسخا وتعدديا عىل نحو واضح من الناحية الثقافية والسياسية‪،‬‬
‫لكنه يعتمد عىل ركيزة قوية من املؤسسات األولية املشرتكة‪ ،‬ويخضع لضغوط‬
‫‪425‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تتأىت من مجموعة من مشاكل املصري املشرتك‪ .‬لذلك قد يحتوي عىل عنارص‬


‫تضامن كبرية من حيث الرتتيبات الوظيفية للتعامل مع التهديدات املشرتكة‪.‬‬
‫وسيكون البديل من ذلك هو التعددية العميقة املتنازع عليها والتي تتجاهل فيها‬
‫القوى الكربى التوح ِدية حقيق َة أنها محارصة يف سياق معومل للغاية من االعتامد‬
‫املتبادل واملصائر املشرتكة‪ ،‬وتسعى فقط إىل تحقيق مصالحها الضيقة‪ .‬يف هذه‬
‫الحالة‪ ،‬ميكن أن نتوقع سوء إدارة جدية للمصري املشرتك عىل املستوى العاملي‪،‬‬
‫والكثري من التصارع عىل مجاالت النفوذ اإلقليمية‪.‬‬
‫والسؤال الذي يفرض نفسه هو كيف ميكن أن يتوازن املجتمع الدويل العاملي‬
‫التعددي العميق الناشئ بحيث ميكنه التعامل مع مشاكل املصري املشرتك عىل‬
‫املستوى العاملي وتلبية املطالب املنادية بالتعددية الثقافية داخل املجتمع‬
‫العاملي‪ .‬ستحتاج القوى الكربى الت َوحدية القدمية والجديدة عىل حد السواء إىل‬
‫تحويل تركيزها بعيدا عن تضارب األفكار بشأن الدميوقراطية يف مقابل االستبداد‪،‬‬
‫أو بشأن املبادئ العامة للنظام العاملي‪ .‬سوف تحتاج إىل السعي وراء التسامح‬
‫والتعايش يف عالقتها مبشاريعها السياسية والثقافية األوسع‪ ،‬والرتكيز عىل املجاالت‬
‫الوظيفية املحددة للتعاون عىل املستوى العاملي الرضوري للتعامل مع املصائر‬
‫املشرتكة‪ .‬وإذا كانت الرضورات اإلقليمية متيل إىل االضطراب واملنافسة بني القوى‬
‫الكربى‪ ،‬فإن ذلك من شأنه أن يجعل التمييز بني ما ميكن اعتباره قضية عاملية‬
‫مشرتكة املصري‪ ،‬وبني تلك القضية التي ميكن استخدامها يف املنافسة بني القوى‬
‫الكربى‪ ،‬مسألة أكرث إثارة للجدل‪ .‬فمن الواضح‪ ،‬مثال‪ ،‬أن كويكبا قاتال يف مسار‬
‫تصادم مع األرض س ُيعترب قضية مصري مشرتك وسيتغلب عىل جميع االختالفات‪.‬‬
‫وباملثل‪ ،‬قد يكون من املمكن الحفاظ عىل استقرار التجارة العاملية‪ ،‬والحاجة إىل‬
‫الدفاع ضد وباء عاملي‪ .‬ولكن قد ُينظر إىل قضايا مثل الهجرة؛ واالنتشار النووي؛‬
‫واألمن السيرباين من منظور أكرث ُق ْط ِرية‪ ،‬حيث قد ترض تطورات معينة بالبعض‬
‫وقد تكون يف مصلحة آخرين‪ .‬إن الشك األخري يف أن روسيا كانت سعيدة للغاية‬
‫بإثارة أزمة الجئني يف االتحاد األورويب‪ ،‬سواء كان ذلك صحيحا أو ال‪ ،‬لهو مثال جيد‬
‫عىل كيفية عمل هذا املنطق ال ُق ْط ِري‪ .‬قد يكون لألمن السيرباين املنطق نفسه‬
‫لكونه جزئيا مصريا مشرتكا عامليا‪ ،‬وجزئيا لكونه موردا للنزاع بني القوى املتنافسة‪.‬‬
‫‪426‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫ومن ثم‪ ،‬فإن مدى جودة أو مدى سوء وظائف املجتمع الدويل العاملي سيعتمد‬
‫عىل ما إذا كانت اللعبة ستُل َعب عىل نحو أسايس كتعايش عىل املستوى العاملي‪،‬‬
‫أو ستُل َعب عىل نحو أسايس كمنافسة عىل املستوى اإلقليمي‪.‬‬
‫إن العامل الرئيس يف نطاق الفاعلية بني نتائج التعايش والتنافس هو كيفية‬
‫معالجة مشاكل الذاكرة التاريخية‪ .‬قد تكون إحدى الفوائد املحتملة من تاليش‬
‫الهيمنة الغربية واألمريكية؛ والهيمنة العاملية الليربالية هي تخفيف بعض مشاكل‬
‫رد الفعل واالستياء واملعارضة ملثل هذه الهيمنة التي عاثت استبدادا يف املجتمع‬
‫الدويل العاملي منذ نهاية الحرب الباردة‪ .‬ومع تراجع رشعية القيادة األمريكية‬
‫والغربية‪ ،‬أدى ذلك إىل إضعاف قيادة املجتمع الدويل العاملي من دون وضع أي‬
‫بديل لتلك القيادة‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن تخفيف رد الفعل واالستياء واملعارضة‬
‫سيعتمد عىل تاليش الذكريات التاريخية للتنمر واإلهانة التي التزال تغذي االستياء‬
‫يف مرحلة ما بعد االستعامر‪ ،‬وقد يستغرق ذلك وقتا طويال‪ .‬إن ملثل هذه الذكريات‬
‫فائدة سياسية لألنظمة الحاكمة يف عديد من األماكن‪ ،‬وإقدام الحزب الشيوعي‬
‫الصيني عىل خلق قومية صينية معادية بشدة لليابان ومعادية للغرب ميثل املثال‬
‫الرائد للحكومات التي تزرع (وتشوه) مثل هذه الذكريات ملآربها الخاصة‪ .‬وقد‬
‫فعلت اإلمرباطورية اليابانية هذا حينام كانت يف أوجها‪ ،‬وتلعب روسيا وإيران‬
‫اللعبة نفسها‪ ،‬وميكن للهند أن متيل يف هذا االتجاه عىل رغم أنها مل تفعل ذلك‬
‫حتى اآلن‪ .‬قد يستمر االستياء التاريخي ضد الغرب فرتة طويلة قد تضاهي طول‬
‫فرتة الهيمنة الغربية‪ ،‬وإذا حدث ذلك‪ ،‬فسوف ُيضعف فرص اإلدارة املالمئة ملشاكل‬
‫املصري املشرتك عىل املستوى العاملي‪ ،‬ويؤدي إىل تفاقم الخصومات اإلقليمية‪.‬‬
‫ويف كلتا الحالتني‪ ،‬فإن أحد التنبؤات الثابتة واملحددة هو أن االنتشار العام‬
‫للقوة والسلطة‪ ،‬والدور املتزايد للجهات الفاعلة غري الحكومية جنبا إىل جنب‬
‫مع الدول‪ ،‬سيضع الكثري من الضغط عىل الهيكل الحايل للمنظامت الحكومية‬
‫الدولية‪ .‬وكام يتضح من عدم القدرة عىل ضم أملانيا واليابان إىل مجلس األمن‬
‫الدويل‪ ،‬فإن املجموعة الحالية من املنظامت الحكومية الدولية أصبحت قدمية‬
‫بالفعل حتى يف ظل افرتاض وجود مجتمع دويل عاملي يهيمن عليه الغرب‪ .‬ويف‬
‫املجتمع الدويل العاملي ملا بعد الغرب الذي يتميز بتعددية عميقة و َم ْر َكز ُموسع‪،‬‬
‫‪427‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫ستواجه املنظامت الحكومية الدولية التي تشكلت بعد الحرب العاملية الثانية‬
‫أزمة رشعية متصاعدة إذا مل تتكيف مع التوزيع األكرث انتشارا للرثوة والقوة‪،‬‬
‫ومع املشهد الفكري األكرث تعددية من الناحية الفكرية واألخالقية‪ .‬وكاستجابة‬
‫لبطء التعديل داخل هذه املؤسسات املركزية‪ ،‬رمبا يكون ترويج الصني «للبنك‬
‫اآلسيوي لالستثامر يف البنية التحتية» نذيرا ملا سيكون لعبة تستمر عقودا ألجل‬
‫إعادة تشكيل املنظامت الحكومية الدولية واألنظمة بحيث تتالءم عىل نحو‬
‫أفضل مع ازدواجية النظام العاملي املابعد الغريب الناشئ‪ ،‬ومع التقسيم املتغري‬
‫لألهداف بني املستويني اإلقليمي والعاملي(٭)‪ .‬إن الجانب اإليجايب لهذا‪ ،‬كام جادل‬
‫أوليفر ستوينكل )‪ (Oliver Stuenkel 2016: locs. 434–532‬هو أن الدول‬
‫غري الغربية تدعم عىل نحو أسايس النظام الحايل‪ ،‬لكنها تريد تحسني وضعها‬
‫داخله‪ .‬وستكون املشكلة هي ما إذا كان الغرب عىل نحو عام والواليات املتحدة‬
‫عىل وجه الخصوص يستطيعان إجراء التعديل من أجل التحول من التفكري يف‬
‫أنفسهم عىل أنهم ا ُملزَو ُدون األساسيون للقيادة العاملية والرؤية الليربالية العاملية‪،‬‬
‫إىل فهم أنفسهم عىل أنهم مجرد جزء واحد من مجتمع دويل عاملي تعددي عىل‬
‫نحو عميق يتألف من أقران متاميزين ثقافيا وسياسيا‪ .‬وتشري معارضة الواليات‬
‫املتحدة «للبنك اآلسيوي لالستثامر يف البنية التحتية» حتى يف عهد باراك أوباما‬
‫إىل أن هذا املسار سيكون طويال ومحفوفا بالصعاب‪.‬‬
‫إن منو ما يسمى بـ «الحوكمة العاملية»‪ ،‬حيث تؤدي القوى األقل قوة والجهات‬
‫الفاعلة غري الحكومية أدوارا مهمة يف بناء املعايري واملؤسسات العاملية‪ ،‬من املحتمل‬
‫أن تكون عامال إضافيا يف هذا املسار‪ .‬حتى اآلن‪ ،‬كان ُينظر إىل إدارة القوى الكربى‬
‫تعارض أكرث من كونهام تعمالن معا‪ ،‬حيث يرى‬ ‫ٍ‬ ‫والحوكمة العاملية عىل أنهام يف‬
‫أنصار الحوكمة العاملية إىل حد ما أن إدارة (سوء إدارة) القوى الكربى هي املشكلة‪.‬‬
‫ويف املجتمع الدويل العاملي شديد التعددية‪ ،‬لن تكون إدارة القوى الكربى أو‬
‫الحوكمة العاملية كافية يف حد ذاتها لدعم درجة النظام واإلدارة الالزمني للتعامل‬
‫(٭) للحصول عىل مراجعة تفصيلية بشأن إصالح املنظامت الحكومية الدولية وإعادة تشكيلها‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪(Stuenkel 2016, chs. 4 and 5).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪428‬‬
‫النظام العاملي مابعد الغربي‪ :‬تعددية عميقة‬

‫مع املصائر املشرتكة‪ .‬فإما أن يعملوا معا وإما أن املجتمع الدويل العاملي سيكون‬
‫ضعيفا وسيئ اإلدارة (‪.)Cui and Buzan, 2016‬‬

‫خالصات‬
‫هذه املامرسة يف التطلع إىل املستقبل بالكاد يقدم كرة َبلو ِرية ُتظهر صورة‬
‫مفصلة عن املجتمع الدويل العاملي ما بعد الغريب‪ .‬لكنه يقدم نظرة عامة معقولة‬
‫عن املشهد الطبيعي الذي نتوجه إليه‪ ،‬وعن الديناميات الرئيسة التي تدفع بذلك‪.‬‬
‫إنه يوفر رسام تخطيطيا للمستقبل يستند إىل ُأسس متينة مبا يكفي ليكون مبنزلة‬
‫أساس لكل من املناقشة النظرية والسياسية‪ .‬فنحن نعرض ما ُحدد بشدة وما اليزال‬ ‫ٍ‬
‫مفتوحا‪ ،‬ومن ثم تخصيص مجال معترب للفاعلية‪ .‬نحن ال نحاول أن نكون متفائلني‬
‫أو متشامئني‪ .‬فنحن عىل ثقة بأن مثة شكال من التعددية العميقة هو ما ينتظرنا‪،‬‬
‫ولكن ضمن ذلك‪ ،‬ميكن للقراء أن يتوصلوا إىل استنتاجاتهم الخاصة بشأن إيجابيات‬
‫وسلبيات السعي وراء التعددية املتنازع عليها أو التعددية الراسخة‪ .‬كام أننا مل‬
‫نحاول االنحياز إىل أي جانب خالل عديد من النقاشات الحامسية الدائرة حول‬
‫الصواب والخطأ يف تاريخ العامل‪ .‬فنحن نحاول أن نبني أن الجنس البرشي‪ ،‬سواء‬
‫أحب املرء ذلك أو ال‪ ،‬ينتقل إىل مشهد سيايس وثقايف عاملي مختلف عن املشهد‬
‫الذي كنا فيه منذ القرن التاسع عرش‪ ،‬برغم أنه اليزال مشهدا يتشكل بقوة من‬
‫خالل األخري‪ .‬إن عامل ما بعد الغرب َ ْمَي ُثل اآلن أمامنا‪ .‬إذ ميكننا تحديد عديد من‬
‫ميزاته الرئيسة‪ ،‬ولدينا خيارات بشأن كيف ميكننا محاولة التنقل داخل هذا املشهد‬
‫العاملي الجديد‪.‬‬

‫‪429‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫‪10‬‬

‫نحو حقل عالقات‬


‫دولية عاملي‬

‫مقدمة‬
‫يف هذا الفصل الختامي‪ ،‬نقدم أو ًاًل مالحظات‬
‫موجزة بشأن نتائج الكتاب من حيث صلتها‬
‫بتطور العالقات الدولية كحقل معريف وكمامرسة‪.‬‬
‫ثم نناقش بعض االتجاهات الحديثة يف نظرية‬
‫العالقات الدولية ويف هذا التخصص املعريف‪،‬‬
‫مربزين بذلك اتساع مجال الدراسة هذا‪،‬‬
‫وكذلك املركزية الغربية املستمرة التي التزال‬
‫تطبع األدبيات الخاصة بهذا املجال‪ .‬بعد ذلك‪،‬‬
‫ندرس ظهور حقل العالقات الدولية العاملي‬
‫(واملفاهيم ذات الصلة مثل‪« :‬حقل العالقات‬
‫«ناد ًرا ما يُخترب الطالب الجامعيون‬
‫الدولية غري الغريب» أو «حقل العالقات الدولية‬ ‫‪ -‬الذين يدرسون الواقعية والليربالية‬
‫مابعد الغريب»)‪ .‬سنتطرق إىل العنارص الرئيسة‬ ‫كنظريات عاملية عن العالقات الدولية‬
‫‪ -‬عن ارتباط تلك النظريات بالعنرصية‬
‫لحقل العالقات الدولية العاملي‪ ،‬ونرسم ً‬
‫بعضا‬ ‫الثقافية واإلمربيالية وتربيرها لهام»‬

‫‪431‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫من هذه املناقشات الدائرة بشأنه‪ ،‬والطرق التي ميكن من خاللها متابعته وتعزيزه‪،‬‬
‫ثالث أو إعادة‬
‫تأسيس ٍ‬
‫ٍ‬ ‫والتحديات التي تواجهها كل هذه الجهود‪ .‬نحن ندعو إىل‬
‫تأسيس للتخصص‪ ،‬ليس فقط عىل ُأسس معيارية‪ ،‬ولكن كرضورة لالحتفاظ بجدوى‬ ‫ٍ‬
‫حقل العالقات الدولية يف عاملٍ مابعد غريب ُم َع ْولَم وتعددي عىل نح ٍو عميق‪.‬‬
‫يف الفصل التاسع قدمنا أفكار التعددية املتنازع عليها والتعددية الراسخة‬
‫مفهوم للنظام العاملي مابعد الغريب‪ .‬وإىل الحد الذي يتتبع فيه تفكري حقل‬ ‫ٍ‬ ‫لتصور‬
‫العالقات الدولية واقع العالقات الدولية كمامرسة ‪ -‬وهذا الكتاب يرتكز عىل نح ٍو‬
‫وثيق عىل وجهة نظرنا القائلة بأن هذا هو الحال يف كثري من األحيان ‪ -‬نتوقع قد ًرا‬
‫أكرب من التعددية لحقل العالقات الدولية‪ ،‬سواء يف مجال التخصص نفسه أو يف‬
‫بداًل من التجزئة باملعنى السلبي‪ ،‬عىل الرغم من‬ ‫نظريته‪ .‬نعني بالتعددية االختالف ً‬
‫أن درجة معينة من هذا األخري ال مفر منها‪ .‬لكن االنتقال إىل نظام عاملي مابعد‬
‫واضحا إال خالل العقدين املاضيني‪ ،‬وسيستغرق عدة عقود أخرى‬ ‫ً‬ ‫غريب مل يكن‬
‫للعمل عىل ذلك االنتقال‪ .‬إن هذا ليس ً‬
‫انتقااًل رسي ًعا مثل ذلك الذي صاحب هزمية‬
‫قوى املحور يف العام ‪ 1945‬وانهيار االتحاد السوفييتي داخل ًّيا بعد العام ‪ .1989‬كام‬
‫أن «تحول األفكار» العاملي ا ُملصاحب (‪ )Acharya, 2016‬داخل تخصص العالقات‬
‫أيضا عىل حل املشكلة‪ .‬ويف هذا النطاق الزمني‪ ،‬نأمل أال‬ ‫الدولية سوف يعمل ً‬
‫يتخلف التخصص كث ًريا عن ظهور التعددية العميقة‪ ،‬ورمبا حتى عن توقعها يف‬
‫بعض النواحي‪ .‬إن التقدم باتجاه حقل العالقات الدولية العاملي يحدث بالفعل‬
‫وسوف يتكثف‪ .‬لكنه يواجه عقبات خطرية‪ ،‬ليس أقلها التصاق الهيمنة الغربية‬
‫بهذا التخصص‪ ،‬واستمرار الظروف يف الجنوب العاملي التي تعرقل التحقيق الرسيع‬
‫ملرشوع حقل العالقات الدولية العاملي‪.‬‬
‫تتمثل إحدى النتائج الرئيسة لهذا الكتاب يف أنه عىل الرغم من الجهود املبذولة‬
‫إلدخال تنوع أكرب يف هذا املجال الدرايس‪ ،‬فإن معظم نظريات العالقات الدولية‪،‬‬
‫مع استثناء مهم لنظرية ما بعد االستعامرية‪ ،‬تظل نظريات ذات مركزية غربية‪،‬‬
‫وإن حقل العالقات الدولية اليزال ميثل علم اجتامع غربيا يف األغلب‪ ،‬عىل رغم أنه‬
‫بالتأكيد ليس علم اجتامع أمريكيا عىل نح ٍو حرصي‪ .‬ونتائج بحثنا‪ ،‬مع نتائج أبحاث‬
‫ما بعد االستعامرية ‪(Nandy, [1983] 2009; Dirlik, 1999; Chowdhry and‬‬
‫‪432‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫)‪ Nair, 2004; J. M. Hobson, 2012‬وآخرين ‪(Acharya, 2014b: 25–6; Kuru,‬‬


‫)‪ ،2016‬يرتدد صداها بشأن األبعاد العديدة املستمرة واملتداخلة للهيمنة الغربية‬
‫عىل نظرية العالقات الدولية‪ ،‬حيث تتمثل يف‪:‬‬
‫‪ -‬املركزية األوروبية‪ :‬امليل إىل وضع نظريات للمبادئ واآلليات الرئيسة للنظام‬
‫الدويل بنا ًء عىل األفكار والثقافة والسياسة والتجارب التاريخية واملامرسة العملية‬
‫املعارصة املتعلقة بالغرب (أوروبا الغربية عىل نح ٍو أسايس‪ ،‬ولكن مع بصمة الواليات‬
‫املتحدة الالحقة)‪ .‬باملقابل‪ ،‬ينعكس هذا يف تجاهل واستبعاد وتهميش األفكار‬
‫والثقافة والسياسة والتجارب التاريخية واملامرسة العملية املعارصة غري الغربية‪.‬‬
‫ميكن أن ُيعزى جزء من املركزية األوروبية إىل شعور قوي بالفوقية للنمط الغريب‬
‫ضخم فعاليته من خالل قدرة‬ ‫عىل النمط غري الغريب (‪ .)Acharya, 2000‬حيث ُت َّ‬
‫الغرب عىل التحكم يف متثيل األشياء من أجل تطبيع التسلسالت الهرمية القامئة‪.‬‬
‫‪ -‬العاملية الكاذبة‪ :‬امليل إىل رؤية أو عرض األفكار واملامرسات الغربية عىل أنها‬
‫املعيار العاملي‪ ،‬بينام ُينظر إىل املبادئ واملامرسات غري الغربية عىل أنها خصوصيات‬
‫أو انحرافات أو دونية‪ .‬وكام أوضحنا‪ ،‬متتد هذه املامرسة بد ًءا من االفرتاضات‬
‫الواقعية والليربالية بشأن الدولة‪ ،‬وصوال إىل االفرتاضات النسوية بشأن وضع املرأة‪.‬‬
‫‪ -‬العنرصية‪ :‬اإلغفال املستمر يف الغرب للدور الرئيس الذي تؤديه التسلسالت‬
‫الهرمية العرقية يف االستعامر‪ ،‬واملوروثات املستمرة لهذا يف كل من املامرسات‬
‫الغربية واالستياء والغضب املتولِّد عن ذلك يف دول األطراف‪.‬‬
‫‪ -‬االنفصال‪ :‬عدم االنسجام بني ما ُمُي َّرر بالنسبة إىل نظرية العالقات الدولية‬
‫وتجربة العامل غري الغريب‪ ،‬عىل الرغم من أن العلامء الغربيني ناد ًرا ما يرون أن‬
‫هذا ميثل عقبة أمام بناء النظرية‪ .‬إذ مثة مشاكل جدية بشأن تطبيق نظريات‬
‫النزاع؛ والتعاون؛ وبناء املؤسسات؛ وديناميات انتشار املعايري؛ واإلمرباطورية؛‬
‫والنسوية وما إىل ذلك‪ ،‬والتي تهيمن عىل أدبيات حقل العالقات الدولية‪ ،‬ومن‬
‫ثم عىل غري الغريب‪.‬‬
‫‪ -‬إنكار الفاعلية‪ :‬عدم االعرتاف بفاعلية الدول غري الغربية واملؤسسات اإلقليمية‬
‫والجهات الفاعلة داخل املجتمع املدين يف اإلسهام يف النظام العاملي‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫اإلضافات والتوسعات الجادة للمبادئ واآلليات التي وضعها الغرب‪ .‬وكام ذكرنا يف‬
‫‪433‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫الفصل الثامن‪ُ ،‬ينظر إىل غري الغرب عىل أنهم مستهلكون‪ ،‬وليسوا منتجني‪ ،‬ومتلقون‬
‫بداًل من كونهم مقرتضني نشطني‪ ،‬للمعرفة النظرية‪.‬‬‫سلبيون ً‬
‫متيل هذه املامرسات مجتمعة إىل تجاوز أهمية االختالفات الثقافية‪ ،‬وهو أحد‬
‫األسباب التي تجعل الثقافة والنزعة الثقافية هي الحلبة الرئيسة للدفاع والهجوم‬
‫املضاد ضد الهيمنة الغربية يف كل من العالقات الدولية كحقل معريف والعالقات الدولية‬
‫كمامرسة عملية‪ .‬فكيف ميكن إذن لحقل العالقات الدولية العاملي معالجة هذه القضايا‬
‫من أجل الحفاظ عىل التخصص متامشيا مع النظام العاملي مابعد الغريب الناشئ؟‬

‫‪ - 1‬الهيمنة و«التنوع» يف حقل العالقات الدولية‬


‫بالنظر ورا ًء إىل كيفية تطور نظرية العالقات الدولية يف العقد املايض‪ ،‬سيربز‬
‫عديد من االتجاهات‪ .‬أو ًاًل‪ ،‬يبدو أن االتجاه السائد يف هذا املجال املعريف املتمركز‬
‫حول الغرب‪ ،‬خاصة يف الواليات املتحدة‪ ،‬قد تجاوز «النقاشات الكربى» الدائرة‬
‫بشأن النامذج الفكرية ‪ Paradigms‬وال َّن َزعَات ‪(Isms Jackson and Nexon,‬‬
‫)‪ .2013: 545–8‬إن النقاش الحديث‪ ،‬بني العقالنية (الواقعية والليربالية) من ناحية‬
‫والبنائية من ناحية أخرى‪ ،‬أفسح املجال أمام محاوالت تجسري النموذج الفكري‪،‬‬
‫والتعددية النظرية‪ ،‬واالنتقائية التحليلية ‪(Dunne, Hansen and Wight,‬‬
‫)‪ .2013‬يشكك كاهلر (‪ )1997‬يف فائدة النقاشات الكربى‪ ،‬بينام يقدم جوناس‬
‫هاغامن ‪ Jonas Hagmann‬وتوماس بريستكر ‪(Thomas Biersteker 2014:‬‬
‫)‪ 294–5‬وص ًفا تنقيح ًّيا ملواقعها وتسلسلها‪ .‬وهم يشريون إىل االختالفات القامئة بني‬
‫أوروبا والواليات املتحدة‪ :‬عىل سبيل املثال‪ ،‬وجود تفكري واقعي قوي يف أوروبا خالل‬
‫فرتة ما بني الحربني العامليتني عندما كان حقل العالقات الدولية األمرييك يطغى‬
‫عليه التفكري «املثايل»؛ ثم تحولت تلك املثالية إىل حقل العالقات الدولية األملاين‬
‫بعد الحرب العاملية الثانية عندما كان حقل العالقات الدولية األمرييك يتحول إىل‬
‫الواقعية‪ .‬ويف حني ظل الفرنسيون غري متأثرين بالنقاشات الكربى‪ ،‬كانت هناك‬
‫نقاشات مختلفة جارية يف أماكن مختلفة‪.‬‬
‫ثان ًّيا‪ ،‬إن تالىش االهتامم بالنقاشات «الكربى» أو ما وراء النظرية‪ ،‬كان مصحو ًبا‬
‫بتزايد شعبية «النظريات متوسطة املدى»‪ .‬إذ تحدد مثل هذه األعامل أسئلة البحث‬
‫‪434‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫أو «املعضالت املوجهة نحو قضايا معينة» (‪ )Walt, 2005: 33‬يف الشؤون الدولية‬
‫وترشحها مبساعدة «اآلليات السببية املقبولة عىل نطاق واسع» الخاصة بحقل‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬وهي اآلليات السببية التي تحدد العالقة بني مختلف املتغريات‬
‫(‪ .)Jackson and Nexon, 2013: 548‬تقع األغلبية العظمى من تلك األعامل‬
‫الواردة يف مجالت حقل العالقات الدولية الرئيسة يف الواليات املتحدة ضمن هذه‬
‫الفئة (‪ ،)Jackson and Nexon 2013: 548‬عىل الرغم من أن هذا ال ينطبق كث ًريا‬
‫عىل مجالت حقل العالقات الدولية األوروبية التي يحتفظ معظمها بطيف واسع‬
‫من املقاربات اإلبستمولوجية (املعرفية)‪ .‬ومجالت العالقات الدولية الصاعدة يف‬
‫آسيا تحتوي ً‬
‫أيضا عىل (املجلة الصينية للسياسة الدولية‪ ،‬العالقات الدولية ملنطقة‬
‫آسيا واملحيط الهادئ) مجموعة واسعة من املقاربات النظرية‪ .‬وقد انتُقدت املقاربة‬
‫الوضعية الضيقة لكونها مقيد ًة باالفرتاضات اإلبستمولوجية واألنطولوجية السائدة‬
‫(‪ )Dunne, Hansen and Wight, 2013: 418‬إلنتاج تعميامت مرشوطة أو عرضية‬
‫يف األغلب (‪ )Walt, 2005: 33‬وللرتكيز كث ًريا عىل «املعارف العملية ذات الصلة»‬
‫(‪ )Reus- Smit, 2013: 601–3‬عىل حساب االبتكار النظري‪ .‬ومن هنا يأيت الحديث‬
‫عن «نهاية النظرية الدولية» (‪()Dunne, Hansen and Wight, 2013‬٭)‪.‬‬
‫إن صعود النظرية متوسطة املدى له آثار عديدة بالنسبة إىل أولئك الذين‬
‫يسعون بدفع نظرية العالقات الدولية لالنفتاح عىل العامل غري الغريب‪ .‬فمن ناحية‪،‬‬
‫وسعت هذه النظريات من استخدام نظرية العالقات الدولية عىل نح ٍو عام‪ .‬وقد‬
‫أثارت فضول الباحثني الغربيني بشأن العامل األوسع املكون من عديد من األقاليم‪،‬‬
‫وساعدت يف جذب اهتامم الباحثني غري الغربيني بنظرية العالقات الدولية‪ .‬ومن‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬وإىل الحد الذي تتحدث فيه الكتابات التي تستخدم اختبار الفرضيات‬
‫والنظريات متوسطة املدى عن تحيز وضعاين ساحق يف حقل العالقات الدولية‬
‫(٭) ال يتفق الجميع مع «نهاية النظرية» يف العالقات الدولية‪ .‬يقول كولجان (‪ )Colgan 2016‬إنه يف حني أن التمعن‬
‫بهدوء يف املجالت قد يُظهر الشعبية املتزايدة للنظريات متوسطة املدى واختبار الفرضيات‪ ،‬فإن هذا يتناقض مع ما‬
‫يُد َّرس يف جامعات الواليات املتحدة عىل مستوى الدكتوراه (خصوصا «الندوات امليدانية») التي التزال تهيمن عليها‬
‫القضايا النظرية والتأطريية الكربى‪ .‬ويجادل كريستنسن (‪ )Kristensen 12: 2018‬بأنه بينام يؤكد تحليل االقتباس‬
‫ملقاالت املجالت وجود فجوة آخذة يف االتساع بني العمل القائم عىل النظرية والنمذجة الكمية‪ ،‬فإن هذا األخري ال‬
‫للتخصص»‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫يعد «متجاو ًزا‬

‫‪435‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫األمرييك (‪ ،)Colgan, 2016: 495‬فإنه ليس من املفيد لباحثي الجنوب العاملي‬


‫نرشها يف املجالت الغربية الكربى‪ ،‬ألن هؤالء الباحثني يفضلون عادة املقاربات غري‬
‫الوضعانية‪ .‬فاملفاهيم واآلليات السببية املستخدمة يف صياغة الفرضيات مستمدة‬
‫عىل نح ٍو أسايس من التاريخ والخربة الغربيني‪ .‬وهذا يرسخ تقاليد الهيمنة الغربية‬
‫يف نظرية العالقات الدولية‪.‬‬
‫التطور الثالث يف نظرية العالقات الدولية هو الصعود املستمر للبنائية‪ .‬ففي‬
‫استطالع العام ‪ 2014‬بشأن التدريس والبحث والسياسة الدولية (‪ ،)TRIP‬احتل‬
‫ألكسندر وندت املرتبة األوىل بوصفه «الباحث الذي كان لعمله التأثري األكرب يف‬
‫َ‬
‫أفضل‬ ‫مجال العالقات الدولية خالل العرشين عا ًما املاضية»(٭)‪ .‬وظهرت البنائية‬
‫اختيار بالنسبة إىل النموذج الفكري لحقل العالقات الدولية بنسبة ‪ 22.5‬يف املائة‬
‫تليها الواقعية والليربالية‪ ،‬لكن أعداد أولئك الذين اختاروا «أنا ال أستخدم النموذج‬
‫الفكري» تجاوزت البنائية(٭٭)‪ .‬وهذا يدلل عىل صحة النقطة املذكورة سابقا بشأن‬
‫انخفاض االهتامم بنقاشات النامذج الفكرية‪.‬‬
‫إن صعود البنائية له بعض اآلثار اإليجابية ألولئك امللتزمني مبرشوع أكرث شمولية‬
‫لتخصص حقل العالقات الدولية أو حقل العالقات الدولية العاملي‪ .‬وبسبب افتقار‬
‫البلدان النامية إىل القوة املادية‪ ،‬فإنها غالبا ما تلجأ إىل القوى الفكرية (أي إىل‬
‫عامل األفكار) (‪ ،)Puchala 1995: 151‬وهذا هو املكان الذي تكون فيه البنائية‬
‫مفيدة عىل نح ٍو خاص‪ .‬إن هذا املكان يوفر نطاقا أكرب لرصد دورهم املعياري يف‬
‫السياسة العاملية‪ ،‬مثل التنافس مع املعايري الغربية؛ وإضفاء الطابع املحيل عليها؛‬
‫‪) TRIP survey (2014), https://trip.wm.edu/charts/#/bargraph/385045/ (Accessed 27 June‬٭(‬
‫‪2018). Keohane occupied the top IR scholar spot in the 2009 TRIP survey (www.wm.edu/‬‬
‫‪offices/itpir/_documents/trip/final_trip_report_2009.pdf, accessed 27 June 2018), while Wendt‬‬
‫_‪came first in the 2012 TRIP survey (www.wm.edu/offices/itpir/_documents/trip/ trip_around‬‬
‫‪the_world_2011.pdf, accessed 27 June 2018).‬‬
‫[املؤلفان]‬
‫(٭٭) ُطرح سؤال االستطالع كالتايل‪« :‬أي مام ييل يصف عىل نح ٍو أفضل مقاربتك يف دراسة العالقات الدولية؟ إذا‬
‫كنت ال تعتقد أن عملك يقع ضمن أحد هذه النامذج أو املدارس الفكرية‪ ،‬فالرجاء تحديد الفئة التي يصنف ضمنها‬
‫معظم الباحثني اآلخرين أبحاثك»‪.‬‬
‫‪TRIP survey (2014), https://trip.wm.edu/charts/#/bargraph/385052/ (Accessed 27 June 2018).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪436‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫وخلق معايري جديدة إلصالح وتعزيز النظام العاملي(٭)‪ .‬ثان ًّيا‪ ،‬حققت البنائية تقدما‬
‫يف دراسة الديناميات اإلقليمية وذلك من ِقبل الباحثني الغربيني وغري الغربيني‬
‫‪(see, e.g.Barnett, 1995, 1998on the Middle East; Kacowicz, 2005‬‬
‫‪and Sikkink, 2014on Latin America; Johnston, 1998 and Hemmer‬‬
‫‪and Katzenstein, 2002on East Asia; and Acharya, 2001a, 2004,‬‬
‫)‪2009, 2011bon Southeast Asia and Asian regionalism in general‬‬
‫وقد ركز الكتاب البنايئ املؤثر الذي حمل عنوان «مجتمعات األمن» ‪(Security‬‬
‫)‪ Communities Adler and Barnett, 1998‬إىل حد كبري عىل األقاليم‪ ،‬سواء‬
‫أعاماًل ال تقدر بثمن يف تحفيز‬‫ً‬ ‫يف أوروبا أو خارجها‪ .‬فكل هذه األدبيات كانت‬
‫النقاشات املوجهة بالنظرية والتحليل والتواصل بني الباحثني الغربيني وغري الغربيني‪.‬‬
‫رسا ً‬
‫قياًم بني تقليد دراسات‬ ‫ومع تركيزها عىل الثقافة والهوية‪ ،‬وفرت البنائية ج ً‬
‫املناطق املشهور يف أدبيات حقل العالقات الدولية يف العامل غري الغريب ومراكز حقل‬
‫العالقات الدولية يف الغرب‪ .‬وكام كتب باحث ماليزي يف العالقات الدولية ‪(Karim,‬‬
‫)‪« ،2007‬التفكري يف السياق البنايئ كان أفضل هدية متاحة للباحثني والقادة يف‬
‫املنطقة»‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬التزال البنائية إىل حد كبري مرشوعا ذا مركزية غربية‪.‬‬
‫ففي حني أن البنائية قد تجاوزت امتيازها األويل للمعايري الغربية وأنصار القيم‪،‬‬
‫فإنها استمرت يف إهامل قضايا العرق وحضارات ما قبل الويستفالية يف آسيا والرشق‬
‫األوسط وأماكن أخرى‪ ،‬والتي قد تجلب رؤى جديدة لنظرية العالقات الدولة من‬
‫خارج املصادر املركزية يف الغرب‪ .‬وقد وجدت دراسة حديثة ُتحلل مجموعة بيانات‬
‫واسعة النطاق قامئة عىل املجالت العلمية ‪(Bertucci, Hayes and James, 2018:‬‬
‫)‪ 23‬أنه عىل الرغم من مكانة البنائية باعتبارها البديل النظري الرائد للمقاربة‬
‫العقالنية لدراسة العالقات الدولية يف إطار نطاقها الجوهري والتجريبي‪ ،‬فإن البنائية‬
‫ال تبدو مختلفة كث ًريا عن البدائل العقالنية مثل الواقعية والليربالية‪ .‬ففي جميع‬
‫الحاالت‪ ،‬تركز األبحاث يف املقام األول عىل العمليات والنتائج األمنية التي تحدث يف‬
‫(٭) بشأن الفاعلية املعيارية للجنوب العاملي‪ ،‬انظر الحوكمة العاملية (‪ )2014‬مبساهامت من إريك هيليرن (التنمية‬
‫الدولية)‪ ،‬وكاثرين سيكينك (حقوق اإلنسان)‪ ،‬ومارثا فينيمور وميشيل جوروفيتش (املشاركة العاملية) وأميتاف أشاريا‬
‫(التأثري املعياري للعام ‪ )1955‬املؤمتر اآلسيوي األفريقي يف باندونغ بشأن حقوق اإلنسان والسيادة ونزع السالح‬
‫واألمم املتحدة‪ .‬راجع ً‬
‫أيضا املقاالت يف (‪[ .)Weiss and Roy 2016‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪437‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫منطقة شامل األطليس وأوروبا‪ .‬من الجانب اآلخر‪ ،‬يبدو أن معظم األبحاث العالئقية‬
‫يف شامل رشق آسيا تقوم فقط باتصاالت ضعيفة مع األبحاث الجارية تحت التسمية‬
‫نفسها يف الواليات املتحدة (‪،)Qin, 2009, 2016, 2018; Shih and Yin, 2013‬‬
‫عىل الرغم من أن هذا األمر يشهد اآلن تغيريا (‪.)Qin, 2018‬‬
‫يؤدي هذا إىل الحديث عن االتجاه الرابع الخاص بالعقد املايض‪ ،‬وهو‪ :‬استمرار‬
‫الهيمنة األمريكية والغربية عىل الصعيد املؤسيس وأيضا عىل صعيد وضع األجندة‬
‫النظرية لحقل العالقات الدولية‪ .‬هناك بعض الخالف بشأن وجود أو مدى وجود‬
‫الهيمنة األمريكية‪ .‬حيث يؤكد نورمان باملر (‪ )347 :1980‬أن «العالقات الدولية هي‬
‫مجال بحث دويل‪ ،‬وال يقترص فقط عىل العلوم االجتامعية‪ ،‬وله عديد من الجذور‬
‫واألصول‪ ،‬ولكن ليس جميعها متجذرا يف الواليات املتحدة األمريكية‪ ...‬فالعالقات‬
‫الدولية مل يبتكرها األمريكيون؛ وسيكون من األدق أن نقول إنه مجال «منا من‬
‫فوره»‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن هذا الرأي ال يتوافق مع حقيقة أن عديدا من الباحثني‪،‬‬
‫سواء كانوا أمريكيني أو ال‪ ،‬يعتربون األصول الربيطانية واألمريكية لهذا التخصص أم ًرا‬
‫مفرو ًغا منه ويتجاهلون أصوله األكرث تنوعًا‪ .‬إذ يجادل توين بورتر ‪(Tony Porter‬‬
‫)‪ 2001: 131‬ضد وجود أي هيمنة أمريكية فردية ألنه ال يوجد يشء مشرتك بني‬
‫الباحثني األمريكيني غري جنسيتهم‪ .‬ويتساءل «ما القاسم املشرتك بني كينيث والتز‬
‫وريتشارد أشيل وسينثيا إنلو وكريغ موريف؟»‪.‬‬
‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬ومبا أن حقل العالقات الدولية األمرييك له جذو ٌر أوروبية‬
‫قوية نظ ًرا إىل تأثري باحثني مثل هانز مورغانثو أو كارل دويتش‪ ،‬فإنه ميكن التشكيك‬
‫يف الوسيلة التحليلية املتعلقة بالجنسية يف صياغة هوفامن بشأن «علم االجتامع‬
‫األمرييك»(‪ .)Porter 2001: 137‬لكن هذا يتجاهل حقيقة أن تنوع الفكر واملقاربة‬
‫داخل الواليات املتحدة اليزال محدودًا‪ .‬وعىل املرء أن يسأل عام إذا كان األوروبيون‬
‫املوجودون عىل األرايض األمريكية سيكونون قد أحدثوا تأثريهم لو بقوا يف بلدانهم‬
‫األصلية وما إذا كان ذلك كاف ًّيا لجعل حقل العالقات الدولية أقل متركزًا حول العرق؟‬
‫يف اآلونة األخرية‪ ،‬ظهرت رؤى تنقيحية أكرث تعقيدًا وتنوعًا ألصول حقل العالقات‬
‫الدولية تتحدى صياغة هوفامن‪ .‬إذ يجادل البعض بأن التنوع موجود بالفعل‬
‫(‪ .)Maliniak et al., 2018‬ويقدم علم االجتامع التنقيحي ألدبيات حقل العالقات‬
‫‪438‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫الدولية روايات مختلفة عن أصول هذا التخصص يف أماكن مختلفة؛ حيث يدَّعي هاجامن‬
‫وبريستكر أن «التخصص ُيفهم اليوم أنه تطور يتأىت من سلسلة من املصادر واملؤسسات‬
‫بد ًءا من النظرية السياسية؛ ومرورا باالستعامر واألنرثوبولوجيا؛ ووصوال إىل معهد كولونيال‬
‫إنستيتوت يف هامبورغ أو عصبة األمم يف جنيف» )‪ .(2014: 294–5‬لكن هنا مرة أخرى‪،‬‬
‫ميكن طرح السؤال‪ :‬من ِق َبل َمنْ ُف ِه َم التخصص؟ رمبا ُف ِه َم فقط من ِقبل عدد قليل‬
‫من الباحثني الذين يركزون بالفعل عىل علم اجتامع هذا التخصص‪ ،‬مثل هاجامن‬
‫وبريستكر أنفسهام‪ .‬يجب أن يكون املرء دقي ًقا فيام إذا كانت األغلبية العظمى من‬
‫املدربني واملتدربني عىل دراية بهذه األصول املتنوعة ملوضوعهم أو يأخذونها عىل‬
‫محمل الجد‪ .‬ويف حني أن هاجامن وبريستكر عىل حق يف قولهام إن علم اجتامع‬
‫حقل العالقات الدولية أصبح متشك ًكا يف «فكرة مجتمعات حقل العالقات الدولية‬
‫الوطنية أو القارية املتجانسة»‪ ،‬فإن االدعاء املصاحب لهذا والقائل بأن أدبيات‬
‫هذا التخصص «وسعت نطاق الرتكيز عىل نح ٍو كبري إىل ما وراء الغرب‪ ،‬كام وسعت‬
‫تقييم مامرساته عىل نح ٍو منهجي يف مناطق أخرى من العامل» (‪Hagmann and‬‬
‫‪ُ )Biersteker, 2014: 296‬ي َعدُّ ادعا ًء مبال ًغا فيه‪ ،‬مثلام يتضح ذلك من الدراسات‬
‫االستقصائية األخرية (والتي تتضمن مزيدا الحقا)‪.‬‬
‫وحتى أولئك الذين يتفقون بشأن الهيمنة األمريكية أو الغربية عىل حقل‬
‫العالقات الدولية ال يتفقون فيام إذا كان هذا ُي َعدُّ أمرا جيدًا أو سيئًا‪ .‬فبعد تحرسه‬
‫عىل «الرؤية العاملية املحدودة» لـ «عديد من الباحثني األمريكيني‪ ...‬عندما يتعلق‬
‫األمر بتدريس الطالب الجامعيني أو كتابة الكتب املدرسية»‪ ،‬يعزو فريدريكس‬
‫(‪ )2004 :17‬للهيمنة األمريكية فضل املساعدة يف الحفاظ عىل متاسك هذا املجال‬
‫املعريف‪ .‬وبالنسبة إليه‪« ،‬التوافق بني الهيمنة الفكرية لحقل لعالقات الدولية‬
‫األمرييك وواقع سياسات القوة» يجب أال يكون أم ًرا سيئًا‪ ،‬ألنه «من الطبيعي‬
‫بالنسبة إىل حقل العالقات الدولية األمرييك أن يضع األجندة الفكرية بشأن القوة‬
‫أيضا»‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬فإن «قوة حقل العالقات الدولية األمرييك هي‬ ‫الدولية ً‬
‫مصدر مهم للرشعية ألجل أقسام الجامعات الضعيفة املوجودة يف دول األطراف‪...‬‬
‫هناك إجامع واسع عىل أن حقل العالقات الدولية األمرييك هو املكان الذي يجري‬
‫فيه العمل‪ ،‬ومبعنى ما فإن باحثي العالقات الخارجية يف دول األطراف هم ببساطة‬
‫‪439‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف خدمة مصالحهم الحقيقية أو املتصورة عند اإلشادة بعلم االجتامع األمرييك»‪.‬‬
‫يرى البعض أن نظريات العالقات الدولية الحالية كافية لرشح التطورات يف العامل‬
‫غري الغريب‪ ،‬مثل آسيا‪ ،‬ألنه عىل الرغم من سامتها املميزة‪ ،‬فقد دُمجت هذه األخرية‬
‫عىل نح ٍو تدريجي يف النظام الدويل الحديث املنبثق عن أوروبا و َت َبن َّْت معايريه‬
‫وخصائصه السلوكية (‪ .)Ikenberry and Mastanduno, 2003: 412–23‬ثم هناك‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫جون مريشامير (‪ )2016: 9–147‬الذي مبيله املميز إىل االستفزاز‪ ،‬ال يجد شيئًا خطأ يف‬
‫الهيمنة األمريكية عىل التخصص ألنها هيمنة «حميدة»‪.‬‬
‫ال تعكس وجهة نظر جون مريشامير املطمئنة الرضائية تجارب منع عديد‬
‫من الباحثني يف دول األطراف الذين يحاولون الوصول إىل املجالت والنارشين‬
‫ً‬
‫أشكااًل أكرث دقة‬ ‫الغربيني‪ ،‬حيث تشكل اللغة؛ والثقافة؛ واألسلوب؛ واملوضوع؛‬
‫وغري مبارشة من اإلقصاء‪ .‬سيكون من املثري لالهتامم أن نرى كيف سيؤثر‬
‫انتشار مجالت حقل العالقات الدولية والنارشين املوجودين خارج الغرب يف‬
‫هذا العنرص من الهيمنة الغربية املستمرة‪ .‬وسواء كان املرء يرى أن الهيمنة‬
‫األمريكية داخل حقل العالقات الدولية جيد ًة أو سيئ ًة‪ ،‬فمن املهم أن نالحظ‪،‬‬
‫كام جادلنا يف الفصل الثامن‪ ،‬أن تلك الهيمنة تقف يف بعض النواحي عىل‬
‫ُأسس هشة‪ُ .‬ي َعد حقل العالقات الدولية األمرييك مهيمنًا عىل نح ٍو أسايس عىل‬
‫أسس مادية ألنه كبري (كام يشري الحجم النسبي لـجمعية الدراسات الدولية‪،‬‬
‫رمبا اليزال باحثو ومؤسسات حقل العالقات الدولية األمرييك يشكلون أغلبية‬
‫باحثي ومؤسسات حقل العالقات الدولية عىل املستوى العاملي)‪ ،‬وغني ويوجد‬
‫يف القوة العظمى الوحيدة‪ .‬أما الوضع الفكري لحقل العالقات الدولية األمرييك‬
‫فهو أقل هيمنة‪ ،‬حيث يرفض الكثريون داخل الغرب وخارجه ارتباطه بالعلوم‬
‫السياسية ونظرية املعرفة الوضعانية‪ .‬ونظ ًرا إىل انخفاض الحجم النسبي لحقل‬
‫العالقات الدولية األمرييك وثروته مع صعود هذا الحقل يف أوروبا‪ ،‬واليابان‪،‬‬
‫والصني‪ ،‬والهند‪ ،‬وتركيا وما إىل ذلك‪ ،‬فقد نتوقع تراجع الهيمنة األمريكية عىل‬
‫نح ٍو متناسب عىل رغم ذلك الصعود‪ .‬وسيبدأ حجم وثروة حقل العالقات‬
‫الدولية يف آسيا وأماكن أخرى يف تحدي األساس املادي للهيمنة األمريكية‪ ،‬كام‬
‫سيرشع يف ابتكار خطوط تفكريه الخاصة للتنظري لهذا الحقل‪ ،‬متا ًما كام فعلت‬
‫‪440‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫أوروبا‪ .‬من هذا املنظور‪ ،‬فإن الهيمنة األمريكية هي عقبة ميكن إزالتها من‬
‫طريق التوجه نحو حقل العالقات الدولية العاملي‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬لقد ُح ِّققت بالفعل درجة معينة من التنوع يف التفكري الحايل لحقل‬
‫وضحاًل‪ .‬إن التنوع ليس مجرد مسألة‬ ‫ً‬ ‫العالقات الدولية‪ ،‬لكنه اليزال تنوعا ضعي ًفا‬
‫أيضا بهوية املجموعة‪ :‬من هو املَ ْش ُمول‬
‫توجه نظري أو منهجي‪ .‬بل يتعلق األمر ً‬
‫ومن هو ا ُمل ْس َت ْب َعد‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬استنادًا إىل مراجعته لحالة االقتصاد السيايس‬
‫الدويل‪ ،‬يجادل كوهني (‪ )2014: 132–3‬بأن االقتصاد السيايس الدويل مل يعد منعز ًاًل‬
‫أو ُم َه ْي َمنًا (تهيمن عليه «املدرسة األمريكية»)‪« :‬عرب العامل‪ ،‬تعد خطوط االتصال بني‬
‫الباحثني مفتوحة يف األغلب‪ ...‬لكن الروابط تختلف يف حدتها وتكون غري متساوية‬
‫يف أحسن األحوال‪ .‬ولكن ما هو موجود اآلن ليس تنوعًا مبعنى األخذ والعطاء‬
‫املتبادلني للمعرفة واألفكار بني جامعات االقتصاد السيايس الدويل املختلفة‪ ،‬والذي‬
‫من شأنه أن ميثل النوع املثايل للتنوع القائم عىل «تدفقات املعلومات املتناسقة‬
‫أيضا « ُمستوردين» لها‬‫عىل نح ٍو معقول‪ ،‬مع وجود « ُم َص ِّد ِرين» للمعرفة يكونون ً‬
‫من مصادر أخرى» (‪ .)Holsti, 1985: 13‬وميكن أن ينطبق هذا عىل مجال العالقات‬
‫الدولية ككل‪ .‬إن هذا التنوع العميق اليزال بعيد املنال‪ ،‬ومعالجة هذا الضعف هي‬
‫هدف رئيس لحقل العالقات الدولية العاملي‪.‬‬
‫من الواضح أن مراجعة كل من الدراسات االستقصائية األقدم واألكرث حداثة‬
‫يف هذا املجال تشري إىل أن كثريا من التنوع الذي يطالب به الباحثون الغربيون‬
‫غالبا ما يشري إىل التنوع داخل املَ ْر َكز‪ ،‬وبني النظريات السائدة الثالث‪ :‬الواقعية؛‬
‫والليربالية؛ والبنائية‪ .‬فمنذ ما يقرب من العرشين عا ًما‪ ،‬أشار كاليفي هولستي‪،‬‬
‫مؤلف العمل املشهور عن التنوع التخصص املعريف املقسم ‪(The Dividing‬‬
‫)‪ ،Discipline‬إىل أن «الجوانب النظرية للسياسة الدولية مل تعد يف األغلب‬
‫مرشوعًا أمريك ًّيا» (‪ .)Holsti, 2001: 90‬لكن إشارته إىل «العمل النظري النابض‬
‫«أساسا» لألبحاث الدراسية‬ ‫ً‬ ‫بالحياة» الذي ُيجرى خارج الواليات املتحدة كان‬
‫يف اململكة املتحدة وأوروبا الغربية‪ ،‬مبا يف ذلك الدول اإلسكندنافية‪ ،‬وكذلك‬
‫أسرتاليا وكندا‪ .‬وباملثل‪ ،‬فإن فكرة ويفر (‪ )1998 :688‬عن مجال «أكرث تعددية‬
‫وتواز ًنا» يف حقل العالقات الدولية كانت تدور عىل نح ٍو أسايس حول توقع‬
‫‪441‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫متفائل «للمجتمعات األكادميية التي تتشكل بشأن مراكزها املستقلة الخاصة‬


‫داخل أوروبا»‪ .‬وقد توقع أنه يف الصني فقط قد ميكن تطوير تقليد مستقل لحقل‬
‫العالقات الدولية العاملية (‪ .)Wæver, 1998: 696‬وعىل الرغم من أننا نرى اآلن‬
‫مجتمعات حقل العالقات الدولية الوطنية النابضة بالحياة تظهر ً‬
‫أيضا يف اليابان؛‬
‫وكوريا الجنوبية؛ والربازيل؛ وتايوان؛ وتركيا؛ والهند‪ ،‬فإنها مل تجعل من هذا املجال‬
‫املعريف «تعدد ًّيا ومتواز ًنا» ح ًقا عىل املستوى العاملي‪ .‬إذ تظل الهيمنة األمريكية‬
‫واألوروبية حقيقة من حقائق الحياة‪ .‬واألمر نفسه ينطبق عىل التنوع الذي‬
‫اكتشفه روبرت كروفورد )‪ .(Robert Crawford 2001‬فقد ُر ِبط هذا التنوع‬
‫وضوحا بالرتكيبات الفكرية أكرث من ربطه بـ «الهوية الوطنية» أو‬‫ً‬ ‫عىل نح ٍو أكرث‬
‫«املوقع الخاص بأفراد معينني»‪ ،‬يف حني أن معظم أولئك الذين ميارسون حقل‬
‫العالقات الدولية باملعنى الضيق للكلمة‪ ،‬مييلون إىل التبادل الثقايف ‪ -‬بخصوص‬
‫املناهج والنظريات ‪ -‬مع أحد املراكز املهيمنة (التعليمية) للقوة العاملية (مثل‬
‫أمريكا الشاملية وأوروبا الغربية‪ ،‬وبدرجة أقل‪ ،‬أسرتاليا ونيوزيلندا)‪ ،‬والتي أظهر‬
‫ً‬
‫ملحوظا عىل‪ /‬أو امليل إىل اتباع البنيات األمريكية ‪(Crawford,‬‬ ‫كل منها اعتامدًا‬
‫)‪ .2001: 20‬ومل يكن هناك ما يشري يف أي من هذه الدراسات إىل أي يشء سوى‬
‫املكان الهاميش لدول األطراف يف هذا التخصص املعريف‪.‬‬
‫بعد عقد من الزمان‪ ،‬كشفت دراسة شملت ‪ 12‬مجلة رائدة يف مجال‬
‫العالقات الدولية باإلضافة إىل تحليل لثالثة استطالعات ألعضاء هيئة التدريس‬
‫يف حقل العالقات الدولية «مدى التنوع النظري واملنهجي واإلبستمولوجي‬
‫(املعريف) يف الدراسة األمريكية لـحقل العالقات الدولية»‪ ،‬ووجدت تلك الدراسة‬
‫أن مثة تنوعًا نظر ًّيا متزايدًا (‪ .)Maliniak et al., 2011: 444‬وعىل رغم‬
‫ذلك‪ ،‬فإن التنوع هنا يعني انخفاض أهمية املقاالت األكادميية التي يحركها‬
‫النموذج الفكري؛ وتاليش سطوة النظرية الواقعية ملصلحة النظرية الليربالية؛‬
‫وظهور النظرية البنائية يف أوائل التسعينيات‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬يجب النظر إىل‬
‫التنوع النظري السائد املتزايد مقابل تراجع التنوع املنهجي (املقاربات الكمية‬
‫هي الطريقة األكرث استخدا ًما يف مقاالت املجالت األكادميية) ‪(Maliniak et‬‬
‫)‪ ،al., 2011: 454‬باإلضافة إىل االفتقار إىل التنوع اإلبستمولوجي (املعريف)‬
‫‪442‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫الذي يتجىل يف ندرة املقاربات غري الوضعانية يف مقاالت املجالت األكادميية‬


‫(‪()Maliniak et al., 2011: 456‬٭)‪.‬‬
‫لقد وجدت دراسة بيرت كريستنسن (‪،)Peter Marcus Kristensen 2015‬‬
‫التي متت باستخدام منهجية وبيانات قياس املراجع لتحليل «جغرافيا تخصص‬
‫العالقات الدولية» (‪ )IR‬وال سيام مفهوم حقل العالقات الدولية باعتباره «علام‬
‫اجتامعيا أمريكيا»‪ ،‬أن حقل العالقات الدولية «أقل أمريكية من العلوم االجتامعية‬
‫األخرى»‪ ،‬وكذلك «أقل أمريكية» مام كان عليه يف املايض‪ ،‬عىل األقل مقارنة مبا‬
‫كانت عليه قبل ‪ 45‬عا ًما‪ ،‬وذلك بنا ًء عىل حصة الباحثني األمريكيني يف مقاالت‬
‫املجالت العلمية (‪ .)Kristensen, 2015: 265‬وعىل الرغم من ذلك‪ ،‬خلصت‬
‫تخصصا دول ًّيا ميثل عىل‬
‫ً‬ ‫تخصصا «أقل أمريكية ال يعني بالرضورة‬‫ً‬ ‫الدراسة إىل أن‬
‫نح ٍو أفضل الدول والشعوب والثقافات املوجودة حول العامل» ‪(Kristensen,‬‬
‫)‪ .2015: 259‬وبينام كان مزيد من الباحثني من مزيد من البلدان ينرشون يف‬
‫مجالت العالقات الدولية التي شملها االستطالع‪ ،‬فإن حصة أكرب خمسة منتجني‬
‫(عادة الواليات املتحدة؛ واململكة املتحدة؛ وأملانيا؛ وكندا؛ وأسرتاليا) التزال متثل‬
‫‪ 60‬يف املائة من جميع املقاالت العلمية يف العام ‪( 2010‬مقارنة بنسبة ‪ 84‬يف‬
‫املائة يف العام ‪ ،1970‬و‪ 75‬يف املائة يف العام ‪ ،1980‬و‪ 77‬يف املائة يف العام ‪،1990‬‬
‫و‪ 72‬يف املائة يف العام ‪ .)2000‬وتشري دراسة كريستنسن إىل أنه بني العامني ‪1966‬‬
‫و‪ ،2010‬زادت مشاركة الباحثني من الجنوب العاملي يف املجالت العرش الرائدة‬
‫يف مجال العالقات الدولية عىل نح ٍو طفيف بنحو ‪ 3‬يف املائة‪ .‬ووجد أن «حجة‬
‫هوفامن التزال مقبولة عىل نطاق واسع»‪ ،‬والحظ أن «مشكلة الهيمنة األمريكية»‬
‫أساسا بالتحيز العرقي الذي يتجىل يف اإلميان بالتفوق واملطالبة بالعاملية‬‫تتعلق ً‬
‫(‪ .)Kristensen, 2015: 248–50‬وقد وجد كريستنسن ً‬
‫أيضا أن العالقات الدولية‬
‫ليست «أمريكية بالكامل»؛ مع سيطرة شامل رشق الواليات املتحدة عىل إنتاج‬
‫مقاالت املجالت العلمية )‪.(Kristensen, 2015: 265‬‬
‫(٭) هذه االستنتاجات يف ح ّد ذاتها تعكس مركزية أوروبية‪ .‬فأكرث من نصف املجالت الـ ‪ 12‬املستخدمة يف االستطالع‬
‫كانت أمريكية والبقية تقري ًبا كانت أوروبية‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫تجدر اإلشارة إىل أن هيمنة الواليات املتحدة عىل حقل العالقات الدولية ال‬
‫أيضا يف الكتب املدرسية‬ ‫توجد فقط يف األدبيات النظرية ذات املستوى العايل ولكن ً‬
‫التمهيدية‪ .‬فقد وجد نوسال )‪ )Nossal 2001: 168‬أن «الخصائص «األمريكية»‬
‫نفسها التي نسبها ستانيل هوفامن إىل تخصص العالقات الدولية تنعكس بأكملها يف‬
‫الكتب املدرسية لحقل العالقات الدولية التي ُتستخدم لتعريف الطالب بهذا املجال‬
‫املعريف»‪ .‬كام أن حقل العالقات الدولية األمرييك كان ضيق األفق من حيث نوعية‬
‫تعليم الدكتوراه الذي أنتجته الجامعات األمريكية‪ ،‬والذي أصبح «عقالن ًّيا ووضعان ًّيا‬
‫يف توجهه النظري»‪ .‬وبالنظر إىل طبيعة ضيق األفق األمرييك باعتباره «عقالن ًّيا‪،‬‬
‫ووضعان ًّيا‪ ،‬ومتمركزا حول الواليات املتحدة‪ ،‬وأحادي اللغة‪ ،‬وحديث النرش‪ ،‬و ُك ِتب‬
‫من طرف الرجال»‪ ،‬فإنه مل يتمكن من إظهار «كوزموبوليتانية نظرية» كام يتجىل‬
‫ذلك يف «امل ْيل ا ُملت ََضا ِئل إىل االنخراط يف التقاليد النظرية التي ُط ِّورت خارج أمريكا»‬
‫(‪ .)Biersteker, 2009: 320‬وكل هذا يشري فقط إىل وجود تقدم محدود لحقل‬
‫العالقات الدولية نحو تنوع عاملي أعمق‪.‬‬
‫يف ظل هذه الخلفيات‪ ،‬ليس من املستغرب أن تتزايد األصوات الداعية إىل‬
‫جعل العالقات الدولية أقل متركزًا حول الواليات املتحدة‪ .‬ففي تناقض ملحوظ‬
‫مع منظور «الهيمنة الحميدة»‪ ،‬أصبح الباحثون من الجنوب العاملي واملتعاونون‬
‫معهم والباحثون املتشابهون يف التفكري من الغرب رصيحني عىل نح ٍو متزايد يف‬
‫تسليط الضوء عىل ضيق األفق املستمر ألبحاث العالقات الدولية السائدة ‪(some‬‬
‫‪examples, far from exhaustive, would include: Neuman, 1998; Ling,‬‬
‫;‪2002, 2010; A. B. Tickner, 2003a, b; Chowdhry and Nair, 2004‬‬
‫‪Thomas and Wilkin, 2004; K. Smith, 2006; Acharya and Buzan,‬‬
‫;‪2007a, b, 2010; Bilgin, 2008, 2013; Agathangelou and Ling, 2009‬‬
‫‪Tickner and Wæver, 2009a; Behera, 2010; Shilliam, 2010; Acharya,‬‬
‫)‪.2011a, 2014a; Tickner and Blaney, 2012‬‬
‫لقد كان موضوع اتفاقية جمعية الدراسات الدولية للعام ‪ 2015‬يف مدينة‬
‫نيو أورلينز‪« ،‬العالقات الدولية العاملية والعوامل اإلقليمية»‪ ،‬مبنزلة نقطة محورية‬
‫لتسليط الضوء عىل الهيمنة األمريكية والغربية لحقل العالقات الدولية‪ .‬وقد كان‬
‫‪444‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫استخدام رئيس جمعية الدراسات الدولية ‪ ISA‬الحايل أميتاف أشاريا ملصطلح حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي ‪ً Global IR‬‬
‫بداًل من نظرية العالقات الدولية غري الغربية‬
‫‪ Non-Western IR theory‬استخدا ًما متعمدًا‪ ،‬ويهدف إىل معالجة بعض املخاوف‬
‫التي أثريت ضد هذا األخري‪ ،‬مبا يف ذلك من الباحثني املشتغلني بشأن قضايا الجنوب‬
‫العاملي‪ .‬لقد ُخ ِّصص ما يقرب من ربع العدد اإلجاميل للهيئات والطاوالت املستديرة‬
‫يف اتفاقية نيو أورلينز ملوضوع املؤمتر‪ ،‬والذي سجل ً‬
‫رقاًم قياس ًّيا تاريخ ًّيا وأظهر‬
‫مستوى االهتامم الذي ولدته فكرة حقل العالقات الدولية العاملي بني أعضاء جمعية‬
‫الدراسات الدولية‪ .‬قبل عقد املؤمتر بقليل‪ ،‬أصدر مسح ‪ TRIP‬للعام ‪ 2014‬تقريره‪.‬‬
‫وكان من بني النتائج التي توصل إليها أن أغلبية واضحة من املستجيبني يعتقدون‬
‫أن حقل العالقات الدولية يهيمن عليها األمريكيون والغرب(٭)‪ .‬وعندما سأل مسح‬
‫‪ TRIP‬عام إذا كان حقل العالقات الدولية ميثل تخصصا يهيمن عليه األمريكيون‪،‬‬
‫وافق ‪ 49‬يف املائة ووافق ‪ 11‬يف املائة بشدة‪ ،‬ليصبح املجموع ‪ 60‬يف املائة‪ .‬وعندما‬
‫سأل املسح عام إذا كان حقل العالقات الدولية ميثل تخصصا يهيمن عليه الغرب‪،‬‬
‫كانت النتيجة أن ‪ 53‬يف املائة وافقوا‪ ،‬و‪ 22‬يف املائة وافقوا بشدة‪ .‬ومن ثم‪ ،‬وافق ‪75‬‬
‫يف املائة من إجاميل عدد املستجيبني أو وافقوا بشدة عىل أن حقل العالقات الدولية‬
‫هو تخصص يهيمن عليه الغرب ‪(For details, see Wemheuer-Vogelaar et al.,‬‬
‫)‪ .2016‬وللمرة األوىل‪ ،‬يف مؤمتر نيو أورلينز نفسه‪ ،‬حصل باحث من خارج الغرب‬
‫(الصني)‪ ،‬تانغ‪ ،‬عىل جائزة أفضل كتاب من جمعية الدراسات الدولية (عىل أساس‬
‫مشرتك)‪ ،‬لعمله النظري بعنوان «التطور االجتامعي للسياسة الدولية» ‪The Social‬‬
‫‪.(Tang, 2013) Evolution of International Politics‬‬
‫مل يتبني بعدُ ما إذا كانت هذه نقطة تحول أو مرحلة عابرة‪ .‬وعىل أقل تقدير‪،‬‬
‫يبدو أن هناك وع ًّيا متزايدًا يقطع الفجوة بني الغرب والبقية‪ ،‬ويرى أن نظرية العالقات‬
‫الدولية تحتاج إىل أن تكون أكرث تعبريا عن الجنوب العاملي وأن تأخذ اتجاه حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي )‪ .(Eun, 2016; Dunne and Reus-Smit, 2017‬رمبا يكون‬
‫قسم مسح ‪ TRIP‬للعام ‪ 2014‬العينة بحيث تلقى املستجيبون السؤال إما بالهيمنة األمريكية وإما الهيمنة‬ ‫(٭) َّ‬
‫الغربية (والتصدي الح ًقا لهذه الهيمنة) وإما الهيمنة الغربية‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪445‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫أفضل ما ميكن قوله هو إنه سواء ُ ِ‬


‫اعرُتف به يف الواليات املتحدة أو ال‪ ،‬فإن التحدي‬
‫العاملي لحقل العالقات الدولية األمرييك ذي املرجعية الذاتية واإلبستمولوجية‬
‫(املعرفية) الضيقة يزداد قوة‪ .‬وكام هو الحال يف العامل الحقيقي‪ ،‬ترتاجع رشعية الهيمنة‬
‫األمريكية عىل نح ٍو حاد حتى مع بقاء قوتها املادية مهيمنة‪ .‬ومن املثري لالهتامم أن‬
‫نظرية العالقات الدولية املتصاعدة يف آسيا‪ ،‬كمثل نظريات أوروبا‪ ،‬غالبا ما تقف خارج‬
‫مفتوحا‪ .‬قد تجلب‬
‫ً‬ ‫التيار األمرييك السائد‪ ،‬و ُتبقي ً‬
‫مجااًل أوسع من املقاربات النظرية‬
‫أيضا بعض‬‫القوى الصاعدة التنوع إىل تفكري حقل العالقات الدولية‪ ،‬لكنها قد تعزز ً‬
‫االدعاءات الكونية لنظرية العالقات الدولية الغربية‪ .‬وليس هنالك شك‪ ،‬عىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬يف أن الواقعية ستحظى دامئًا بجاذبية قوية لدى القوى الكربى الصاعدة ألنها‬
‫تقدم طريقة‪ ،‬كام هو الحال مع القوى الكربى الحالية‪ ،‬لتفضيل موقعهم عىل البقية‬
‫(‪ .)Simpson, 2004‬إن قوة الواقعية يف الصني جديرة باملالحظة يف هذا الصدد‪ ،‬ورمبا‬
‫ينذر ذلك بالسوء (‪.)Shambaugh, 2013: 26–44‬‬

‫‪ - 2‬أصول حقل العالقات الدولية العاملي‬


‫تستجيب فكرة «حقل العالقات الدولية العاملي» إىل االستياء املتزايد بني باحثي‬
‫العالقات الدولية يف جميع أنحاء العامل بشأن الحالة الحالية لتخصصهم املعريف‪.‬‬
‫وعىل الرغم من شعبيته املتزايدة يف جميع أنحاء العامل‪ ،‬فإن حقل العالقات الدولية‬
‫يقدم امتيازا للتاريخ واألفكار واملامرسات والقيادة الغربية‪ ،‬بينام يهمش التاريخ‬
‫واألفكار واملامرسات املوجودة عند البقية‪ .‬ويطمح حقل العالقات الدولية العاملي‬
‫إىل تكافؤ الفرص‪ ،‬وتطوير تخصص معريف شامل وعاملي حقيقي يعكس ح ًقا التنوع‬
‫املتزايد لباحثي العالقات الدولية واهتامماتهم الفكرية‪ .‬لقد التزم كالنا(٭) بتطوير‬
‫منظورات تاريخية عاملية وشاملة بشأن العالقات الدولية‪ ،‬وكالنا قد اكتسب وع ًّيا‬
‫وفهاًم عميقني ملشكلة املركزية الغربية يف حقل العالقات الدولية ‪(Buzan and‬‬ ‫ً‬
‫‪Little, 2000; Buzan, 2011; Acharya, 2014a, b; Buzan and Lawson,‬‬
‫)‪.2014a, b, 2015a‬‬
‫(٭) أي مؤلفي هذا الكتاب‪ :‬أميتاف أشاريا وباري بوزان‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪446‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫يف العام ‪ 2007‬نرشنا ندوة بشأن العالقات الدولية ملنطقة آسيا واملحيط‬
‫الهادئ‪« ،‬ملاذا ال توجد نظرية عالقات دولية غري غربية؟»‪ .‬هناك‪ ،‬ويف كتاب الحق‬
‫(‪ ،)Acharya and Buzan, 2010‬طرحنا ذلك السؤال كتح ٍد لباحثي حقل العالقات‬
‫الدولية اآلسيويني للحصول عىل أصواتهم وتاريخهم يف املناقشات العاملية بشأن‬
‫كيفية التفكري يف حقل العالقات الدولية‪ ،‬سواء من أجلهم أو من أجل رضورة التطور‬
‫ناقشت هذه املشاريع أسباب عدم وجود حقل‬ ‫ْ‬ ‫املتوازن للتخصص املعريف‪ .‬وقد‬
‫عالقات دولية غري غريب أو حقل عالقات دولية عاملي‪ .‬باختصار ترتاوح تلك األسباب‬
‫بدءا من ميزة السبق األول للباحثني الغربيني‪ ،‬مرورا بالتدريب املكثف للباحثني‬
‫اآلسيويني (واألكرث عمو ًما غري الغربيني) يف الواليات املتحدة والوضع املهيمن‬
‫للباحثني الغربيني واملنشورات واملؤسسات الغربية يف حقل العالقات الدولية؛ وصوال‬
‫إىل االعتقاد السائد بأن حقل العالقات الدولية الغريب قد اكتشف الطريق الصحيح‬
‫لفهم العالقات الدولية أو اإلجابات الصحيحة أللغاز ومشاكل زمننا الحايل‪ ،‬وهذا‬
‫باإلضافة إىل نقص خطري يف املوارد املؤسسية ومشكلة اللغة اإلنجليزية بوصفها لغة‬
‫مهيمنة عىل حقل العالقات الدولية‪ .‬هناك ً‬
‫أيضا قضية القبول غري النقدي للنظرية‬
‫الغربية؛ وانعدام الثقة ملن يواجه ا ُملن َِّظرين الغربيني؛ واالحرتام األعمى للباحثني‬
‫القادمني من املؤسسات الغربية املرموقة؛ واالنخراط السيايس الزائد لباحثي‬
‫العالقات الدولية يف جامعات العامل النامي‪ .‬وقد أظهرت متابعة ذلك اإلصدار أن‬
‫هذا العمل كان له صدى وتأثري خارج املنطقة (‪.)Acharya and Buzan, 2017‬‬
‫وهدفنا يف هذا الكتاب هو تجديد التحدي الذي يواجه باحثي العالقات الدولية‬
‫عىل نطاق أوسع وإعادة تركيز ذلك التحدي‪ ،‬آملني أن يسهم ذلك يف بناء حقل‬
‫عالقات دولية عاملي‪.‬‬
‫لقد أثارت فكرة نظرية العالقات الدولية غري الغربية الجدل‪ .‬فالبعض يفضل‬
‫تسمية املرشوع الجديد بـ «ما بعد الغريب» (‪ ،)Shani, 2008: 723‬مع أجندة أكرث‬
‫راديكالية للتنصل من حقل العالقات الدولية «الغريب» وإزاحته‪ .‬وبالنسبة إلينا‪،‬‬
‫تفرتض فكرة ما بعد الغرب نهاية الهيمنة الغربية كحقيقة موضوعية أو كطموح‬
‫معياري‪ ،‬وال ُي َعد أي منهام دقي ًقا أو مفيدًا لغرض جعل نظرية العالقات الدولية‬
‫أكرث شمو ًاًل‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬كام تالحظ بيلجني‪ ،‬فإن فكرة األبحاث غري الغربية‬
‫‪447‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف حقل العالقات الدولية ال تعني الخضوع السلبي ملعرفة التخصص التي ُأنشئت‬
‫عن طريق الغرب‪ .‬فام ميكن اعتباره غري غريب ال ينشأ بالرضورة من «التغريب‬
‫الغايئ»‪ ،‬وتلك التي ال تبدو مختلفة جذر ًّيا ولكن يبدو أنها مؤطرة ضمن فئات‬
‫ومفاهيم نظرية العالقات الدولية الغربية ال ميكن رفضها وكأنها «زوجات ستيبفورد‬
‫الروبوتية»(٭) بالنسبة إىل حقل العالقات الدولية الغريب‪ .‬وتخلص بلجني إىل أن مثل‬
‫هذا املوقف «يرفض فاعلية الباحثني غري الغربيني» ويصورهم عىل أنهم محاكون‬
‫من دون تفكري» (‪.)Bilgin, 2008: 13‬‬
‫يف هذا السياق توصل كل منا إىل تقدير بعض األفكار الرئيسة ملا بعد‬
‫االستعامرية‪ ،‬إذ نقف إىل جانب حملتها الرامية إىل استعادة التوازن اإلدرايك ضد‬
‫املركزية األوروبية‪ ،‬وإعادة غري الغرب إىل تاريخ العامل عىل نحو كامل‪ ،‬وإبراز التأثري‬
‫املستمر لكل من التهجني الثقايف واالستياء املستمر من االستعامر والعنرصية يف حقل‬
‫العالقات الدولية‪ .‬وعىل رغم ذلك فإننا ال نقبل بالرضورة كل الطروحات السياسية‬
‫والفلسفية واللغوية ملا بعد االستعامرية‪ ،‬ونحن ندرك اعتامدها اإلشكايل عىل كل‬
‫من اللغات األوروبية والفالسفة الغربيني (ما بعد الحداثة)‪ .‬وإذا كانت أطروحة‬
‫إدورد سعيد الرئيسة‪ ،‬كام قال دان كينيدي (‪ ،)Dane Kennedy 1996: 347‬ترى‬
‫أن «تفكيك أمناط الهيمنة الغربية يتطلب تفكيك هياكل املعرفة الغربية»‪ ،‬فليس‬
‫من الواضح عىل اإلطالق أن ما بعد االستعامرية قد حققت هذا الهدف‪.‬‬
‫ً‬
‫حاساًم من‬ ‫لقد خدمت تسمية «نظرية العالقات الدولية غري الغربية» ً‬
‫غرضا‬
‫خالل توليدها للنقاش الذي لفت االنتباه إىل ضيق أفق حقل العالقات الدولية‪.‬‬
‫وأحد االنتقادات التي أخذناها بعني االعتبار يف العدد الخاص بالعالقات الدولية‬
‫للعام ‪ 2007‬بخصوص قضية آسيا واملحيط الهادئ الخاصة‪ ،‬والذي أصبح أكرث برو ًزا‬
‫(٭) زوجات ستيبفورد ‪ Stepford Wives‬هو عنوان رواية للمؤلف األمرييك إيرا ليفن ‪ Ira Levin‬نرشت يف العام‬
‫‪ ،1972‬وتحولت إىل فيلم يف العام ‪ ،1975‬وأعيد إنتاجه يف العام ‪ .2004‬تدور الرواية حول سكان جدد لضاحية‬
‫أمريكية‪ ،‬يالحظون أن الزوجات يف الضاحية يف منتهى الخضوع والطاعة ألزواجهن‪ ،‬وعندما ُّ‬
‫يشكون يف األمر‪،‬‬
‫يكتشفون أن الزوجات عبارة عن روبوتات آلية ‪ Robots‬من صنع األزواج‪ .‬والهدف من تحويل الزوجات إىل روبوتات‬
‫هو جعل الزوجات تقبل حياة الضواحي اململة الرتيبة وتقبل ترك األزواج لهن فرتات طويلة للعمل يف املدينة‪ ،‬مع‬
‫الطاعة املطلقة من دون نقاش طبعاً وتنفيذ األوامر‪ .‬وقد صار مصطلح «زوجات ستيبفورد» جزءا من الثقافة العامة‬
‫وأصبح يستخدم لإلشارة إىل الخضوع التام‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬

‫‪448‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫منذ ذلك الحني‪ ،‬هو أن العوملة وتقارب الدخل يجعالن الفئات الغربية وغري الغربية‬
‫والتمييز بني املركز واألطراف أقل أهمية‪ ،‬خاصة يف عرص القوى الصاعدة مثل الصني‬
‫والهند‪ .‬ومثلام أوضحت الفصول السابقة لهذا الكتاب‪ ،‬فقد كان هناك تقدم حقيقي‬
‫من التاميز والفصل الكيل تقري ًبا بني املركز واألطراف يف العالقات الدولية كحقل‬
‫معريف وكمامرسة خالل القرن التاسع عرش‪ ،‬يتجه نحو عمليات التقاطع واالندماج‬
‫الجوهرية بينهام خالل القرن الحادي والعرشين‪ .‬ظلت عديد من مكونات حقل‬
‫العالقات الدولية يف طور التكوين منذ القرن التاسع عرش‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وعىل الرغم‬
‫آخذ يف التوسع وأن الحواجز التي تفصله عن األطراف آخذ ٌة يف التآكل‪،‬‬ ‫من أن املركز ٌ‬
‫فإن هذه الفروق التزال لها بعض الفائدة‪ .‬إذ يظل مصطلح «الغرب» مفيدًا سياسيا‬
‫وثقافيا لكل من القوى الصاعدة يف تحديد هويتها‪ ،‬ومفيدا أيضا لألمم الغربية (يف‬
‫أيضا كام رأينا يف أزمة أوكرانيا‪ ،‬يف‬ ‫التعامل ليس فقط مع غري األوروبيني‪ ،‬ولكن ً‬
‫التعامل مع مجتمعات روسيا وأوروبا الرشقية)‪.‬‬
‫ولكن يف حني أن فكرة حقل العالقات الدولية العاملي هي امتداد ملفهومنا‬
‫عن حقل العالقات الدولية غري الغريب‪ ،‬فإنها تتجاوزه ألسباب معيارية و َذ َرا ِئ ِعية‪.‬‬
‫ال ميكن أن يكون مرشوع جعل حقل العالقات الدولية حقال عامليا مجرد محادثة‬
‫بني ذوي التفكري املامثل‪ ،‬سواء كانوا من التيار السائد لحقل العالقات الدولية أو‬
‫من بدائله النقدية وما بعد االستعامرية‪ .‬نحن نرفض فكرة االختيار الصفري بني‬
‫حقل العالقات الدولية السائد ومنافسيه النقديني والثقافيني‪ .‬فكل األطراف لديها‬
‫الكثري لتقدمه‪ ،‬وال أحد يحتكر الحقيقة أو البصرية‪ .‬والعامل الحقيقي الذي ُيبنَى من‬
‫خالل التعددية العميقة يحتاج إىل وجود حقل عالقات دولية عاملي يعكس ويفهم‬
‫هذا الهيكل‪ ،‬سواء من حيث التاريخ الذي أنشأه‪ ،‬أو من حيث املوروثات السياسية‬
‫املتأتية من ذلك التاريخ والتي تستمر يف تشكيل السياسة العاملية‪ .‬إن كشف‬
‫التفاعل بني العالقات الدولية باعتبارها حقال معرفيا والعالقات الدولية باعتبارها‬
‫مامرسة عملية‪ ،‬وكيف انتقلت األشياء من التاميز الشديد بني املركز واألطراف نحو‬
‫زيادة التكامل بينهام‪ ،‬كان هو هدفنا يف هيكلة هذا الكتاب كام فعلنا‪ .‬واعتبا ًرا من‬
‫وقت كتابة هذا الكتاب‪ ،‬أصبحت األجزاء املك ِّونة لحقل العالقات الدولية العاملي‬
‫وضوحا‪ ،‬وصارت املهمة هي تجميع تلك األجزاء م ًعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أكرث‬
‫‪449‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫من املرجح أن يفشل حقل العالقات الدولية العاملي إذا مل يجتذب أكرب قدر من‬
‫الباحثني‪ ،‬مبا يف ذلك النقاد وأولئك الذين ينتمون إىل التيار الغريب السائد‪ .‬وتكمن‬
‫املشكلة يف كيفية ابتكار حقل العالقات الدولية العاملي واالستمرار يف التعامل مع‬
‫أولئك الذين متدرسوا داخل تقاليد حقل العالقات الدولية الحايل‪ ،‬وذلك يف حوار‬
‫ذي أهمية ثنائية االتجاه (‪ .)Acharya, 2011a‬إن التسميات مهمة جدا‪ .‬وال يرفض‬
‫حقل العالقات الدولية العاملي مصطلحات «غري غريب» أو «ما بعد غريب»‪ ،‬لكنه‬
‫ينظر إليها «كجزء من تح ٍّد أوسع إلعادة تصور حقل العالقات الدولية باعتباره‬
‫تخصصا عامل ًّيا» (‪ .)Acharya, 2014a: 649‬حيث يتجاوز حقل العالقات الدولية‬ ‫ً‬
‫العاملي التمييز بني الغريب وغري الغريب أو أي فئات ثنائية مامثلة وحرصية عىل نحو‬
‫متبادل‪ .‬ويف حني أن هذه الفئات قد تستمر كرشوط مالمئة‪ ،‬فإنها تفقد أهميتها‬
‫التحليلية يف عامل حقل العالقات الدولية العاملي‪ ،‬فحقل العالقات الدولية العاملي‬
‫يتجاوب مع املحاوالت الرامية إىل جعل التخصص أكرث شمو ًاًل‪ ،‬ويكمله من خالل‬
‫تحقيق «العوملة الثقافية(٭) ما وراء الغرب» ‪(worlding beyond the West‬‬
‫)‪.Tickner and Wæver, 2009a‬‬
‫يف هذه املرحلة يجب تقديم بعض التوضيحات بشأن فكرة حقل العالقات‬
‫الدولية العاملي‪ .‬أو ًاًل‪ ،‬إن حقل العالقات الدولية العاملي ليس نظرية أو ً‬
‫منهجا‪ ،‬إنه‬
‫إطا ٌر للتحقيق وتحليل العالقات الدولية بكل تنوعها‪ ،‬خصوصا مع االعرتاف الواجب‬
‫بتجارب وأصوات وفاعلية الشعوب واملجتمعات والدول غري الغربية التي هُ ِّمشت‬
‫حتى اآلن يف التخصص‪ .‬إن فكرة حقل العالقات الدولية العاملي تحث املجتمع‬
‫العلمي لحقل العالقات الدولية عىل تجاوز األصول األمريكية والغربية وهيمنتها عىل‬
‫التخصص‪ ،‬واعتناق قدر أكرب من التنوع‪ ،‬ال سيام من خالل التعرف عىل أماكن وأدوار‬
‫ومساهامت الشعوب واملجتمعات غري الغربية (‪ .)Acharya, 2014a‬و ُيستَمد حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي من مجموعة واسعة من التفاعالت البرشية‪ ،‬مع أصولها‬
‫(٭) العوملة الثقافية‪ /‬ورلدلينغ ‪ :worlding‬هي كلمة مشتقة من كلمة ‪( world‬العامل) وهي أحد املصطلحات‬
‫الرئيسة التي يستخدمها أصحاب نظرية ما بعد االستعامرية وتعني العملية التي يُجلب من خاللها شخص أو‬
‫أرسة أو ثقافة أو شعب إىل املجتمع العاملي األورويب‪ /‬الغريب املهيمن‪ .‬وهذه الكلمة تختلف باملعنى عن كلمة‬
‫‪( globalization‬العوملة) والتي تعني جعل اليشء – وليس بالرضورة أن يكون مجتمع أو ثقافة البرش – عامليا حيث‬
‫ترتكز العوملة عىل الجانب االقتصادي أكرث من الجانب االجتامعي‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫وأمناطها وفروقها املتعددة‪ ،‬من أجل تحدي عالمات الحدود الحالية لـحقل العالقات‬
‫الدولية التي وضعتها األبحاث األمريكية والغربية املهيمنة‪ ،‬كام يسعى إىل تشجيع‬
‫الفهوم واملقاربات الجديدة لدراسة السياسة العاملية‪ .‬إنه مبنزلة إطار للنهوض بحقل‬
‫العالقات الدولية نحو تخصص شامل وعاملي ح ًّقا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن أجندة أبحاث‬
‫حقل العالقات الدولية العاملي تدعو الباحثني إىل اكتشاف أمناط ونظريات ومناهج‬
‫جديدة من تواريخ العامل؛ وتحليل التغريات الحاصلة عىل مستوى توزيع القوة‬
‫واألفكار بعد أكرث من مائتي عام من الهيمنة الغربية؛ واستكشاف العوامل اإلقليمية‬
‫ً‬
‫تكاماًل‬ ‫يف تنوعها الكامل وترابطها؛ واالنخراط يف املوضوعات واملناهج التي تتطلب‬
‫عمي ًقا وموضوع ًّيا للمعرفة املتخصصة ودراسات املناطق؛ ودراسة كيفية تداول‬
‫األفكار واملعايري بني املستويني العاملي واملحيل؛ والتحقيق يف التعلم املتبادل بني‬
‫الحضارات والذي يوجد عنه دليل تاريخي أكرث من ذلك املوجود بخصوص «صدام‬
‫الحضارات» (‪.)Acharya, 2014a‬‬
‫ثان ًيا‪ ،‬ال ميكن لحقل العالقات الدولية العاملية أن َي ُح َّل ‪ -‬وال هو معني بذلك‬
‫أساسا ‪ -‬النقاشات القامئة بني «النامذج الفكرية» و«ال َّنزَعات» املختلقة لحقل‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬والتي‪ ،‬كام أرشنا ساب ًقا‪ ،‬أخذ كل واحد منها مساره املختلف‪.‬‬
‫منوذجا فكر ًيا ميكن وضعه جن ًبا إىل جنب‬
‫ً‬ ‫إن حقل العالقات الدولية العاملي ليس‬
‫مع املقاربات النظرية األخرى‪ .‬فحقل العالقات الدولية العاملي يدعو إىل التوليف‪/‬‬
‫الرتكيب أكرث مام يدعو إىل اختيار مقاربة واحدة عىل حساب األخرى‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ ،‬ال يتوقع مصطلح حقل العالقات الدولية العاملي أن ينخرط املجتمع‬
‫املعريف لحقل العالقات الدولية يف محادثة عاملية واحدة بشأن النظرية أو املنهج‪.‬‬
‫إذ يجب أن تحدث املحادثات العاملية عرب الحدود الوطنية واإلقليمية‪ ،‬كام هو‬
‫الحال مع االتفاقيات التي تنظمها جمعية الدراسات الدولية ‪ ،ISA‬واللجنة العاملية‬
‫للدراسات الدولية ‪ ،WISC‬والجمعية األوروبية للدراسات الدولية ‪ .EISA‬نحن‬
‫بالتأكيد نشجع مزيدا من مثل هذه الحوارات‪ .‬لكن حقل العالقات الدولية العاملي‬
‫ال يقترص عىل حوار عاملي واحد‪ ،‬مثلام يفرس البعض موقفنا عن طريق الخطأ ‪(see‬‬
‫)‪ .Maliniak et al, 2018: 34‬بل إن حقل العالقات الدولية العاملي يشعر باالرتياح‬
‫حيال عديد من املحادثات املتوازية التي تجريها املجموعات التي يشرتك أعضاؤها‬
‫‪451‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف موقف نظري أو منهجي أو إبستمولوجي (معريف) معني (‪ .)Lake, 2011‬وعىل‬


‫رغم ذلك‪ ،‬فإن ما يهم بالنسبة إىل حقل العالقات الدولية العاملي ليس عدد‬
‫قىَص من كل منها‪ .‬وإذا ُأجريت محادثات متعددة‬ ‫املحادثات الجارية‪ ،‬ولكن من ُي َ‬
‫داخل مجموعات إقصاء متبادلة‪ ،‬سواء كانت من الغرب أو من البقية‪ ،‬فسيكون‬
‫هذا العمل كاملعتاد‪ :‬حقل عالقات دولية تقليديا وليس حقل عالقات دولية عامليا‪.‬‬
‫إن التنوع النظري واملنهجي هو ا ُمل َر َّحب به دامئًا يف حقل العالقات الدولية العاملي‪،‬‬
‫وليس اإلقصاء املتبادل‪.‬‬
‫يف أثناء الدفع بفكرة حقل العالقات الدولية العاملي‪ ،‬نحن نتفق عىل أن حقل‬
‫العالقات الدولية الحايل «ال ُينصف تطور نظرية العالقات الدولية يف أجزاء أخرى‬
‫من العامل» (‪ .)Friedrichs, 2004:14‬لكن األساس املنطقي لحقل العالقات الدولية‬
‫العاملي ليس له أساس معياري فقط؛ أي تعزيز اإلشامل وتجنب املركزية العرقية‪ ،‬بل‬
‫أيضا إىل التغلب عىل االنقسام القائم بني الغرب والعامل غري الغريب‪ .‬وكام أوضحنا‬ ‫ميتد ً‬
‫أيضا أسبابا واقعية قوية الحتضان حقل العالقات‬ ‫يف فصول هذا الكتاب‪ ،‬فإن مثة ً‬
‫الدولية العاملي‪ُ .‬تظهر فصول مامرسة العالقات الدولية تحول القوة العاملية املرتبطة‬
‫ببلدان مثل الصني والهند‪ ،‬والتي ُت َعد حضارات رئيسة وقوى عاملية مستقبلية‪ .‬وهذا‬
‫االتجاه نحو التعددية العميقة هو بحد ذاته عميق وال ميكن إيقافه‪ .‬وقد أظهرت‬
‫فصول حقل العالقات الدولية العوملة املستمرة لدراسة العالقات الدولية حول‬
‫العامل‪ .‬ويف هذا السياق يطمح ستيف سميث (‪ )Steve Smith 2008: 727–8‬إىل‬
‫تخصص معريف أقل سيطرة أمريكية‪« :‬إذا ظلت العالقات الدولية ً‬
‫علاًم اجتامعيا‬
‫أمريكيا ضي ًقا‪ ،‬فإن املخاطر تكمن يف أنها لن تكون ذات صلة مبخاوف أجزاء كبرية‬
‫من سكان العامل‪ ،‬واألكرث إشكالية من ذلك أنها قد تصبح عىل نحو متزايد جز ًءا‬
‫من مسار الهيمنة األمريكية»‪ .‬وخالل السنوات التي أعقبت كتابته لهذه الجملة‬
‫أصبحت الهيمنة األمريكية قضية متناقصة مقارنة بكيفية التعامل مع التعددية‬
‫العميقة الناشئة التي ال هيمنة عليها‪ .‬لكن وجهة نظره بشأن خطر أن يصبح حقل‬
‫العالقات الدولية غري ذي صلة إذا فشل يف تطوير منظور أوسع وأكرث عاملية‪ ،‬تظل‬
‫وجهة نظر قوية‪ .‬فإذا بقي حقل العالقات الدولية يف األغلب غربيا‪ ،‬فسوف يصبح‬
‫ضيق األفق عىل نحو متزايد وغري متناغم مع النظام العاملي الناشئ ملا بعد الغرب‪.‬‬
‫‪452‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫‪ - 3‬أبعاد حقل العالقات الدولية العاملي‬


‫إن «العاملية» يف «حقل العالقات الدولية العاملي» ليست مجرد تعبري جغرايف‬
‫أو موضوعي (قضية مناطق)‪ .‬بالطبع‪ ،‬فإن ملصطلح «عاملي» يف معناه القامويس‬
‫داللة عىل «االرتباط بالعامل بأرسه» و«يتعلق أو يشمل كل يشء‪ ،‬أو مجموعة من‬
‫أيضا كونيا وشامال (لكل من‬ ‫األشياء»(٭)‪ .‬كام ميكن أن يعني مصطلح «عاملي» ً‬
‫الجهات الفاعلة وقضايا املناطق) أو يف جميع أنحاء العامل‪ .‬بيد أننا معنيون هنا مبا‬
‫أيضا مفهوم بني الذات ينقل الرتابط والروابط‬ ‫هو أكرث من ذلك‪ .‬إن العاملية هي ً‬
‫بني الجهات الفاعلة؛ مثل الدول واملجتمعات‪ ،‬وبني املناطق؛ مثل األقاليم والنظام‬
‫أيضا النظر إىل أصول ومعاين املفاهيم واملامرسات من خالل‬ ‫العاملي‪ .‬وهو يعني ً‬
‫االنتباه إىل تواريخها ومظاهرها املستقلة واملقارنة واملرتابطة‪ ،‬كام يعني عىل نحو‬
‫خاص سد الفجوة بني الفهم السائد والفهم املهمل ملفاهيم ونظريات العالقات‬
‫الدولية‪.‬‬
‫ويف رأينا‪ ،‬يدور تنظري ومامرسة حقل العالقات الدولية العاملي حول سبعة أبعاد‬
‫رئيسة(٭٭)‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن حقل العالقات الدولية العاملي يقوم عىل التعددية الكونية‪ :‬ال «تنطبق‬
‫عىل كل يشء»‪ ،‬ولكنها تعرتف وتحرتم تنوع الجنس البرشي‪.‬‬
‫‪ - 2‬إنه ُمتَأَ ِّصل يف تاريخ العامل‪ ،‬وليس فقط يف التاريخ اليوناين الروماين أو‬
‫األورويب أو األمرييك‪ ،‬ويحرتم الزمن والسياق التاريخي‪.‬‬
‫‪ - 3‬إنه يستوعب نظريات ومناهج حقل العالقات الدولية املوجودة ً‬
‫بداًل من أن‬
‫يحل محلها‪ ،‬ويهتم بكل من األسباب والنتائج املادية والفكرية‪ /‬املعيارية‪.‬‬
‫‪ - 4‬إنه يدمج يف حقل العالقات الدولية دراسة األقاليم والنزعة اإلقليمية‬
‫ودراسات املناطق‪.‬‬
‫‪ - 5‬إنه يتحاىش املفاهيم والنظريات التي تقوم فقط عىل االستثنائية أو الثقافة‬
‫الوطنية‪.‬‬
‫‪) https://en.oxforddictionaries.com/definition/global (Accessed 6 October 2018).‬٭(‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬
‫(٭٭) هذا القسم مقتبس عىل نح ٍو كبري من ‪[ .))Acharya 2014a‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪453‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ - 6‬إنه يعرتف بأشكال متعددة من الفاعلية تتجاوز الدولة والقوة املادية‪ ،‬مبا‬
‫يف ذلك املقاومة والعمل املعياري وال ُبنى املحلية للنظام العاملي‪.‬‬
‫‪ - 7‬إنه يستجيب للعوملة املتزايدة يف العامل‪ ،‬ليس فقط من حيث انتشار الرثوة‬
‫أيضا من حيث الرتابط املتزايد واملصائر املشرتكة‪.‬‬ ‫والقوة والسلطة الثقافية‪ ،‬ولكن ً‬
‫رشح موجز لكل من هذه األبعاد‪:‬‬ ‫وفيام ييل ٌ‬
‫أو ًاًل وقبل كل يشء‪ ،‬يدعو حقل العالقات الدولية العاملي إىل ٍ‬
‫فهم جدي ٍد للعاملية‬
‫الش ُمولِية‪ ،‬فاملعنى السائد للعاملية يف العالقات الدولية اليوم هو التجانس‪،‬‬ ‫أو ُّ‬
‫ً‬
‫ارتباطا وثي ًقا بعاملية التنوير‪ .‬وكام‬ ‫ويحمل معنى «ينطبق عىل الجميع»‪ .‬إنه يرتبط‬
‫قال روبرت كوكس (‪« :)2002: 53‬يف التنوير‪ ،‬املعنى العاملي يعني الصواب يف كل‬
‫أيضا جانب مظلم‪:‬‬ ‫زمان ومكان ‪ -‬منظور الحقيقة املتجانسة»‪ .‬وكان لهذه العاملية ً‬
‫قمع التنوع‪ ،‬وتربير اإلمربيالية الغربية من خالل إضفاء الطابع العاملي عىل «معيار‬
‫الحضارة» األورويب‪ .‬ويف منهج ونظرية العالقات الدولية‪ ،‬وضع حقل العالقات‬
‫الدولية الغريب املعيار العاملي الذي استُخدم وسيل ًة لوضع املعايري‪ ،‬كام مارس دور‬
‫حارس البوابة بالنسبة إىل التخصص‪ُ ،‬م َه ِمشا بذلك الرسديات واألفكار واملنهجيات‬
‫البديلة‪.‬‬
‫بدياًل للعاملية يقوم عىل «فهم واحرتام التنوع‬‫يقدم كوكس (‪ )2002: 53‬مفهو ًما ً‬
‫يف عامل دائم التغري»‪ .‬حيث ترفض هذه العاملية االنقسام الخاطئ واملستوحى من‬
‫السياسة بني العاملية والنسبية‪ .‬إن نقيض العاملية املتجانسة ليس النسبية‪ ،‬بل‬
‫تخصصا‬
‫ً‬ ‫التعددية؛ ألن العاملية التعددية تنظر إىل حقل العالقات الدولية باعتباره‬
‫عامل ًيا له أسس متعددة‪ .‬لكن هذه ليست تعددية مثل تلك التي ُف ِهمت يف الكتابات‬
‫الحديثة بشأن نظرية العالقات الدولية ‪(for a survey of the literature on‬‬
‫)‪ .pluralism, see Dunne, Hansen and Wight, 2013; Eun, 2016‬إن التعددية‬
‫يف حقل العالقات الدولية العاملي ال تعني النسبية‪ ،‬أو قبول مجموعة متنوعة من‬
‫النظريات للتعايش‪ ،‬أو السعي إىل الوحدة أو التوليف بني النظريات‪ ،‬أو السعي وراء‬
‫«االنتقائية التحليلية»‪ ،‬كام أنها ليست فقط ما يسميه تيم دن ‪ Tim Dunne‬وليني‬
‫هانسن ‪ Lene Hansen‬وكولني وايت (‪ )Colin Wight 2013: 416‬بـ «التعددية‬
‫التكاملية» التي «تقبل وتحافظ عىل صحة مجموعة واسعة من املنظورات النظرية‬
‫‪454‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫وتحتضن التنوع النظري كوسيلة لتوفري رؤى أكرث شمو ًاًل ومتعددة األبعاد للظواهر‬
‫املعقدة»‪ .‬إن التعددية يف حقل العالقات الدولية العاملي ال تقبل وتحافظ عىل‬
‫النظريات املوجودة كام هي‪ ،‬ولكنها تتوقع منها واجب االعرتاف مبكانة وأدوار‬
‫ومساهامت الشعوب واملجتمعات غري الغربية‪ .‬وبهذا املعنى‪ ،‬فإن حقل العالقات‬
‫الدولية العاملي يقوم يف الحقيقة أكرث حول التعددية داخل النظريات‪ ،‬وليس فقط‬
‫حول التعددية فيام بينها‪.‬‬
‫عىل الرغم من أن حقل العالقات الدولية لديه ادعاءات بأنه يدور حول جميع‬
‫األزمنة واألمكنة‪ ،‬فإنه يف الواقع ميثل تعبريا ضيق األفق إىل حد ما عن الفرتة القصرية‬
‫يف تاريخ العامل حينام كان الغرب هو املهيمن‪ .‬وكام ورد يف املقدمة‪ ،‬كان سيبدو‬
‫التخصص مختل ًفا متا ًما لو أنه اب ُت ِكر يف الصني أو يف الهند أو يف العامل اإلسالمي‪ .‬ومع‬
‫رشوع فرتة الهيمنة الغربية يف االنحسار‪ ،‬يحتاج حقل العالقات الدولية اآلن إىل‬
‫االبتعاد عن هذا التحيز الضيق من خالل دمج منظورات من التاريخ والنظريات‬
‫السياسية األخرى‪ .‬إن حقل العالقات الدولية العاملي يضع مفاهيم ونظريات‬
‫العالقات الدولية يف سياقها‪ ،‬ويحدد معانيها املتنازع عليها والطارئة‪ ،‬وذلك ً‬
‫بداًل‬
‫من افرتاض أنها مفاهيم ونظريات عاملية‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬تقدم الكتب املدرسية‬
‫لحقل العالقات الدولية أفكار السيادة وعدم التدخل كابتكارات أوروبية ورثتها‬
‫ببساطة مجتمعات ما بعد االستعامر‪ .‬وعىل رغم ذلك‪ ،‬فإن هذه الرؤية املوحدة‬
‫تتجاهل التفسريات املختلفة للسيادة يف مناطق مختلفة من العامل‪ ،‬ليس فقط بني‬
‫أيضا بني مختلف املناطق غري األوروبية ‪(see Acharya,‬‬ ‫أوروبا وبقية العامل‪ ،‬ولكن ً‬
‫)‪ .2011a‬وباملثل‪ ،‬غال ًبا ما ُتقدَّم اإلقليمية عىل أنها من أصل أورويب‪ ،‬عىل الرغم من‬
‫أنها ظهرت يف أمريكا الالتينية قبل مائة عام من الجامعة االقتصادية األوروبية‪ ،‬كام‬
‫أنه غال ًبا ما ُينظر إىل اإلقليمية األوروبية عىل أنها أم جميع ال َّن َزعَات اإلقليمية‪ .‬وبينام‬
‫يقال إن العوملة نشأت مع توسع أوروبا وحركة التجارة الحرة من قبل الربيطانيني‬
‫ثم الواليات املتحدة‪ ،‬فإن األصول الحقيقية للعوملة تكمن يف أنظمة التجارة متعددة‬
‫الثقافات التي ربطت بني أوراسيا وأفريقيا أكرث من ألفي عام‪ .‬وقد اشتملت «طرق‬
‫الحرير» هذه عىل أنظمة متطورة يف األرض ويف املحيط الهندي‪ ،‬ومل يسيطر عليها‬
‫األوروبيون حتى القرن التاسع عرش‪ .‬كام يتضمن جزء كبري من هذا التاريخ ظهور‬
‫‪455‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫اإلسالم من القرن الثامن فصاعدًا‪ ،‬فحينام كان الغرب منعز ًاًل خالل العصور الوسطى‪،‬‬
‫متكن العامل اإلسالمي من ربط طرق التجارة من إسبانيا إىل آسيا‪ .‬وقد تضمن هذا‬
‫النظام ترتيبات متطورة لحامية مجتمعات الشتات التجارية الخارجية‪ .‬وتتجاهل‬
‫نصوص حقوق اإلنسان عىل نحو روتيني مثل هذه األمثلة عىل حامية سالمة وكرامة‬
‫الفرد من العقوبة القاسية والظاملة من ِقبل الحاكم يف املجتمعات األخرى عرب‬
‫التاريخ‪ .‬إن توسيع جينيالوجيا (أنساب) املفاهيم الرئيسة لحقل العالقات الدولية‬
‫عرب مصادر متعددة ويف أوقات مختلفة‪ ،‬سيكون من ثم عنرصا حاسام يف حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي‪ ،‬وهو عنرص ميتد إىل زمن أبعد بكثري من القرنني اللذين‬
‫غطاهام هذا الكتاب‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ ،‬واتباعًا لقضية العاملية التعددية‪ ،‬يدعو حقل العالقات الدولية العاملي‬
‫رسوخا يف تاريخ العامل ً‬
‫بداًل من التاريخ‬ ‫ً‬ ‫إىل أن يكون حقل العالقات الدولية أكرث‬
‫الغريب‪ ،‬ويف األفكار واملؤسسات واملنظورات الفكرية ومامرسات كل من املجتمعات‬
‫الغربية وغري الغربية‪ .‬إن التاريخ العاملي ال يعني فقط إيجاد منظور شامل عىل‬
‫مستوى الكوكب والبرشية‪ ،‬ولكن يعني ً‬
‫أيضا إقحام التواريخ املحلية‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫التاريخ الغريب يف حد ذاته‪ .‬حيث يعرتف حقل العالقات الدولية العاملي بأصوات‬
‫وخربات وقيم جميع األشخاص يف جميع أنحاء العامل‪ .‬لكن «إقحام البقية» ال يعني‬
‫ببساطة استخدام العامل غري الغريب كأرضية اختبار إلعادة التحقق من نظريات‬
‫العالقات الدولية املوجودة بعد إجراء بعض التعديالت واإلضافات‪ ،‬كام أنه ال يعني‬
‫محاولة استبدال «العاملية» ضيقة األفق للتاريخ الغريب ببعض «العاملية» ضيقة‬
‫األفق بالقدر نفسه استنادًا إىل تاريخ بعض الحضارات األخرى‪ .‬إذ يجب أن يكون‬
‫حقل العالقات الدولية العاملي مسارا ذا اتجاهني‪ .‬يتمثل التحدي الرئيس لنظريات‬
‫ومنظري العالقات الدولية يف العامل يف تطوير املفاهيم واملقاربات من السياقات‬
‫غري الغربية وف ًقا لرشوطها الخاصة‪ ،‬وتطبيقها ليس فقط محليا‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا يف‬
‫سياقات أخرى‪ ،‬مبا يف ذلك السياق العاملي األوسع‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬من املهم دراسة‬
‫السياسة العاملية التي امتدت عىل مدى ‪ 5‬آالف عام والتي تركت خاللها عديد من‬
‫الحضارات واإلمرباطوريات واملجتمعات بصامتها وآثارها‪ ،‬حيث ظهرت واختفت‬
‫عديد من أشكال العالقات الدولية األخرى‪ .‬وال يقترص حقل العالقات الدولية عىل‬
‫‪456‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫املركزية األوروبية فقط‪ ،‬فهو يحد حني تتجاهل السياسة العاملية‪ /‬حقل العالقات‬
‫الدولية تراثهام العاملي وحرص نفسيهام يف األحداث واألفكار التي تعود إىل بضع‬
‫مئات من السنني املاضية (‪ .)Buzan and Little, 2000‬ويصدق هذا عىل نحو‬
‫خاص عندما يعيد التخصص التحرك نحو التعددية العميقة‪ ،‬ليعيد قوة عديد من‬
‫الحضارات التي تجاوزها الغرب لفرتة وجيزة‪.‬‬
‫عند إقحام التاريخ من املهم تجنب إشكاليتني شائعتني‪ :‬األوىل هي التاريخانية‬
‫‪ ،Historicism‬أو اإلميان باستمرارية التاريخ‪ ،‬أو أن التاريخ يعيد نفسه‪ .‬والثانية هي‬
‫«مركزية الزمن» ‪( Tempocentrism‬أخذ الحارض املتجدد واستقراؤه بالرجوع يف‬
‫الزمن) (‪ ،)Lawson and Hobson, 2008: 430‬أو إبراز خلفيات املفاهيم الحديثة‬
‫مثل السيادة؛ والسلطة؛ واملعايري؛ وحقوق اإلنسان؛ والدميوقراطية؛ وتوازن القوى‬
‫ألجل تأسيس التامثل واالستمرارية والعاملية لتلك املفاهيم والنظريات الحديثة‪ .‬إذ‬
‫من املهم أن ندرك أن بعض هذه املفاهيم قد ال تنطبق عىل حاالت املايض بالشكل‬
‫نفسه وعرب الثقافات‪ .‬إن التمعن بعناية يف التاريخ يخدم غرضني رئيسني‪ ،‬الغرض‬
‫األول هو البحث عن أوجه التوازي؛ والتقريب؛ والتشابه؛ واالختالفات؛ والتنوع يف‬
‫املفاهيم املركزية املستخدمة يف دراسة العالقات الدولية‪ .‬وهذا يسمح لنا بإجراء‬
‫فحص نقدي بشأن ما إذا كانت بعض املفاهيم والنظريات عاملية ح ًقا أم ال‪ .‬قد‬
‫ال تكون املفاهيم التي اكت ُِشفت عىل هذا النحو هي نفسها متا ًما املصطلحات‬
‫املستخدمة حال ًيا‪ ،‬ولكنها قد تساعدنا يف التأكد من مدى عاملية املقوالت الحديثة‪،‬‬
‫مثل السلطة؛ والفوىض ‪anarchy‬؛ والنظام؛ واملؤسسات؛ واألمن؛ والهيمنة؛‬
‫واإلمرباطورية؛ والسيادة؛ والرفاهية‪ ،‬وإضافة االختالفات إليها‪ .‬الغرض الثاين هو‬
‫تحديد أو اكتشاف مفاهيم ومقاربات جديدة متا ًما للنظرية واملامرسة والتي ُأه ِملت‬
‫أو ُأخ ِفيت عن األنظار بسبب املركزية األوروبية‪ .‬ورمبا تقدم األعامل الحالية حول‬
‫التاريخ والفلسفة السياسية الصينيني آماال واعدة ملثل محاولة االكتشاف هذه‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ُ ،‬ي َض ِّمن حقل العالقات الدولية العاملي معرفة حقل العالقات الدولية‬
‫الحايل مبا يف ذلك النظريات واملناهج واالدعاءات العلمية التي نعرفها بالفعل‪،‬‬
‫بداًل من أن يحل محلها‪ .‬إنه ال يسعى إىل استبدال املعرفة الحالية التي‬ ‫وذلك ً‬
‫يهيمن عليها الغرب يف حد ذاته‪ ،‬ولكنه يسعى فقط إىل إزاحة هيمنته عليها من‬
‫‪457‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫خالل وضعها يف سياق عاملي أوسع‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يتخذ حقل العالقات الدولية العاملي‬
‫مقارب ًة تعددية للنظرية واملنهج‪ ،‬إذ يحتضن حقل العالقات الدولية العاملي كاًّلًّ‬
‫من االتجاه السائد (الواقعية؛ والليربالية؛ واملدرسة اإلنجليزية وبعض صيغ البنائية)‬
‫واملقاربات النقدية‪ ،‬وهو محايدٌ حيال النزوات النظرية واملنهجية للباحثني‬
‫وتفضيالتهم‪ .‬وعىل عكس بعض النظريات النقدية وأبحاث ما بعد االستعامرية‪،‬‬
‫ال يرفض حقل العالقات الدولية العاملي النظريات السائدة ولكنه يتحدى ضيق‬
‫األفق لديها ويحثها عىل قبول األفكار والخربات واألفكار القادمة من العامل غري‬
‫الغريب‪ .‬فجميع النامذج الفكرية وال َّن َزعَات لها مكانتها يف حقل العالقات الدولية‬
‫العاملي‪ ،‬حيث يرى األخري النظريات كام يرى عاملو الطبيعة العدسات‪ :‬حيث إن كل‬
‫عدسة (مثل عدسات الضوء الطبيعي؛ واألشعة تحت الحمراء؛ واألشعة السينية)‪،‬‬
‫متا ًما مثل كل نظرية للعالقات الدولية‪ ،‬تجعل بعض جوانب املوضوع أكرث حدة‬
‫ووضوحا‪ ،‬مع إخفائها للجوانب األخرى‪ .‬يحتاج املحلل إىل عديد من العدسات‪ ،‬فكل‬ ‫ً‬
‫منها يكشف جز ًءا من الحقيقة‪ .‬وبعض التطورات عىل هذا املنوال واضحة بالفعل‪.‬‬
‫إن نظريات العالقات الدولية ال تكاد تكون متجانسة أو غري متغرية عندما يتعلق‬
‫األمر بالتعامل مع العامل غري الغريب‪ .‬فقد كانت بعض النظريات‪ ،‬وخاصة ما بعد‬
‫االستعامرية والنسوية‪ ،‬يف طليعة الجهود املبذولة للتعرف عىل األحداث والقضايا‬
‫والفواعل والتفاعالت الحاصلة خارج الغرب واستخالص رؤى نظرية منها إلثراء‬
‫دراسة العالقات الدولية‪ .‬وباملثل‪ ،‬بدأت املدرسة اإلنجليزية يف أخذ دور وخربة دول‬
‫األطراف بعني االعتبار عىل نحو أكرب لدراسة توسع وتطور املجتمع الدويل عىل نحو‬
‫عام‪ ،‬وبناء املؤسسات األولية وتطورها عىل وجه الخصوص‪ .‬وحتى الواقعية‪ ،‬التي‬
‫تتقدم دامئًا عىل الليربالية يف استخالص رؤى من العامل غري الغريب‪ ،‬أضافت متغريات‬
‫جديدة ‪ -‬الواقعية الكالسيكية الجديدة؛ والواقعية الدفاعية ‪ -‬جعلت الواقعية أكرث‬
‫صل ًة بالعامل غري الغريب‪ .‬وكام هو مذكور يف الفصل الثامن‪ ،‬كانت البنائية مهمة عىل‬
‫نحو خاص يف فتح مساحة لألبحاث حول العامل غري الغريب بسبب تشديدها عىل‬
‫الثقافة والهوية‪ .‬أما االعتامد االقتصادي املتبادل؛ واملؤسسات املتعددة األطراف؛‬
‫رطة؛ ومسارات النظام التي تحددها الليربالية وتنص عليها‪ ،‬فكلها تجعل‬ ‫وال َد َم ْق َ‬
‫هذه النظرية أكرث قابلية للتطبيق عىل العامل غري الغريب‪.‬‬
‫‪458‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫تجادل كارين سميث (‪ ،)2017: 1‬يف مقال حديث‪ ،‬بأن حقل العالقات‬
‫الدولية العاملي ال ميكن فصله متا ًما عن حقل العالقات الدولية الغريب‪ .‬وتؤكد أن‬
‫«املساهامت النظرية املتأتية من الجنوب العاملي‪ ...‬ال تحتاج إىل أن تكون مختلفة‬
‫جذر ًيا عن النظريات املوجودة»‪ .‬ومن ثم فإن «إعادة التفسريات أو التعديالت‬
‫لألطر القامئة‪ ...‬ميكن أن تساعدنا ليس يف فهم العالقات الدولية عىل نحو أفضل يف‬
‫جزء معني من العامل فقط‪ ،‬ولكن ميكنها يف الواقع أيضا تقديم رؤى أكرب للتخصص‬
‫ككل»‪ .‬ال يعارض حقل العالقات الدولية العاملي املحاكاة‪ /‬التقليد مادام يصقل‬
‫ويدحض ويطور النظريات املوجودة‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬ال يرتك حقل العالقات‬
‫وبداًل من ذلك فإنه يحث ا ُملن َِّظرين‬
‫الدولية العاملي النظريات السائدة كام هي‪ً .‬‬
‫عىل إعادة التفكري يف افرتاضاتهم وتوسيع نطاق تحقيقاتهم‪ .‬فبالنسبة إىل الواقعية‪،‬‬
‫يتمثل التحدي يف النظر إىل ما وراء الرصاعات التي تسببها املصلحة الوطنية وتوزيع‬
‫القوة واالعرتاف باملصادر األخرى للفاعلية‪ ،‬مبا يف ذلك الثقافة واألفكار واملعايري التي‬
‫تجعل الدول والحضارات ال تتصادم بل تتبنى وتتعلم بعضها من بعض‪ .‬وبالنسبة‬
‫إىل الليرباليني‪ ،‬هناك تح ٍّد مامثل للنظر إىل ما وراء الهيمنة األمريكية باعتبارها نقطة‬
‫انطالق للتحقيق يف التعددية واإلقليمية وأشكالها املؤسسية‪ .‬كام تحتاج الليربالية‬
‫أيضا إىل االعرتاف باالختالفات املهمة يف السلوك التعاوين املوجودة يف السياقات‬ ‫ً‬
‫املحلية املختلفة‪ ،‬بحيث ال يوجد منوذج واحد للتكامل أو التفاعالت ميكن أن يفرس‬
‫جميعها أو معظمها‪ .‬وبالنسبة إىل البنائية‪ ،‬اليزال تقييم األشكال املختلفة للفاعلية‬
‫يف إنشاء ونرش األفكار واملعايري ميثل تحد ًيا كب ًريا‪ .‬أما املدرسة اإلنجليزية فتحتاج إىل‬
‫تعزيز تصورها وفهمها للمجتمع العاملي وتفاعله مع مجتمع الدول‪.‬‬
‫لقد جادلنا بأن حقل العالقات الدولية العاملي يجب أن يتبنى التعددية النظرية‬
‫واملنهجية‪ ،‬وأن يقحم كال من النظريات النقدية والنظريات السائدة (العقالنية)‪.‬‬
‫أيضا أن بعض النظريات‪ ،‬مثل ما بعد االستعامرية؛ والنسوية؛ وخاصة‬ ‫لكننا نعتقد ً‬
‫النسوية املابعد االستعامرية والنسوية من ذوي البرشة السوداء مع مساهمتهام‬
‫القوية يف فكرة «التقاطع» (‪ ،)Persaud and Sajed, 2018b‬ميكن اعتبارها من‬
‫النظريات «الطليعية»‪ ،‬ألنها أسهمت بالفعل يف الجهود املبذولة لتوسيع حقل‬
‫العالقات الدولية إىل ما وراء الغرب‪ .‬ويف ضوء قصة العالقات الدولية التي رسدناها‬
‫‪459‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف هذا الكتاب‪ ،‬ميكن اعتبار هذه النظريات الطليعية عىل أنها ُت ْق ِحم إىل حقل‬
‫العالقات الدولية مناهضة االستعامر والعنرصية واملنظورات اإلقليمية‪ /‬الثقافية‬
‫التي تطورت أو ًاًل يف األطراف‪ ،‬ولكنها كانت فرت ًة طويل ًة مقصي ًة من حقل العالقات‬
‫الدولية داخل املركز‪ .‬هناك حاجة إىل مزيد من العمل لرسم عالقة أوثق بني‬
‫األبحاث النسوية ومابعد االستعامرية وحقل العالقات الدولية العاملي‪ .‬ولكن ما‬
‫هو واضح أن حقل العالقات الدولية العاملي يستمد اإللهام واألفكار من النضال‬
‫املشرتك ألبحاث النسوية وما بعد االستعامرية ضد إقصائهام وتهميشهام التاريخي‬
‫العميق الجذور الذي تم من طرف أبحاث حقل العالقات الدولية‪ .‬وميكن ملا بعد‬
‫االستعامرية وحقل العالقات الدولية العاملي تكييف الكتابات القوية للباحثني‬
‫النسويني (‪ ،)2018: 1‬واالدعاء عىل نحو مربر أن دول األطراف‪ ،‬مثل النساء‪« ،‬مل‬
‫تتأخر يف القدوم إىل حقل العالقات الدولية‪ ،‬بل إن حقل العالقات الدولية هو الذي‬
‫َق ِد َم متأخرا إىل دول األطراف»‪.‬‬
‫إن لدى حقل العالقات الدولية العاملي مكانا لجميع النظريات وهو مفتوح‬
‫للباحثني القادمني من الجنوب والشامل‪ .‬ولكن ال يرى جميع الباحثني خارج التيار‬
‫السائد الحاجة إىل حقل عالقات دولية عاملي خو ًفا من أنه قد يرض بخصائصهم‪ .‬قد‬
‫يكون بعض ا ُملن َِّظرين النقديني‪ ،‬مبا يف ذلك باحثو ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية‪،‬‬
‫متعاطفني بالفعل مع حقل العالقات الدولية العاملي‪ ،‬لكنهم مازالوا يفضلون الحفاظ‬
‫كاف مع‬‫عىل هوية منفصلة‪ ،‬أو متميزة‪ ،‬أو عىل األقل عدم االنخراط عىل نحو ٍ‬
‫«العاملي»‪ .‬هناك أوجه تشابه مهمة بني ما بعد االستعامرية وحقل العالقات الدولية‬
‫العاملي‪ ،‬فكالهام يربز ويرفض النظريات األوروبية املركزية لحقل العالقات الدولية‪،‬‬
‫ويؤكد كالهام فاعلية العامل الثالث‪ ،‬كام يؤكدان عىل األصول املتعددة للنظام الدويل‬
‫الحديث‪ ،‬رافضني هيمنة املنظورات التي متيز أصله األورويب‪ /‬الويستفايل‪ .‬لكن‬
‫حقيقة أن حقل العالقات الدولية العاملي ال يرفض النظريات السائدة الحالية ولكنه‬
‫يتحداها لتكون أكرث مراعاة لألفكار غري الغربية ومزاعم الفاعلية‪ ،‬هي نقطة اختالف‬
‫رئيسة بني حقل العالقات الدولية العاملي وما بعد االستعامرية‪ .‬فعىل عكس األخرية‪،‬‬
‫ال يقدم حقل العالقات الدولية نفسه بديال ألي نظرية معينة‪ ،‬ولكنه يدعو جميع‬
‫النظريات إىل التخيل عن مركزيتها األوروبية‪ .‬ويشرتك عديد من الباحثني النسويني‬
‫‪460‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫مع حقل العالقات الدولية العاملي يف االهتامم بالفئات املهمشة‪ .‬كام يتامىش التوتر‬
‫بني النسويني الغربيني ونسويي ما بعد االستعامرية مع رؤية األخرية للمدرسة‬
‫النسوية الغربية عىل أنها مهيمنة وإقصائية لهويات الجنوب العاملي‪ً ،‬‬
‫وأيضا يتامىش‬
‫مع هدف حقل العالقات الدولية العاملي املتمثل يف تحدي العاملية الزائفة وإلغاء‬
‫ضيق األفق املوجود يف نظرية العالقات الدولية‪.‬‬
‫راب ًعا‪ ،‬أن يكون لديك حقل عالقات دولية عاملي كتسمية للتخصص ال يعني‬
‫التقليل من أهمية املناطق واألقاليم‪ ،‬أو التقليل من أهمية مساهمة دراسات‬
‫وبداًل من ذلك‪ ،‬يعطي حقل العالقات الدولية العاملي مركز الصدارة‬ ‫املناطق‪ً .‬‬
‫أيضا ال يتحرك بال هوادة‬‫لألقاليم‪ .‬ويف حني أن العامل مل يكن مقسام إىل أقاليم‪ ،‬فهو ً‬
‫نظر إىل األقاليم باعتبارها كيانات مادية أو خرائطية أو‬ ‫نحو عاملية سلسة‪ .‬مل يعد ُي َ‬
‫نظر إليها باعتبارها مساحات ديناميكية هادفة ومبني ًة‬ ‫ثقافية ثابتة‪ ،‬ولكن أصبح ُي َ‬
‫اجتامع ًيا‪ .‬إن اإلقليمية اليوم هي أقل متركزا حول اإلقليم الجغرايف والدولة‪ ،‬إذ‬
‫تشتمل عىل مجموعة متزايدة االتساع من الفاعلني والقضايا‪ .‬ورمبا يكون االنقسام‬
‫التقليدي بني اإلقليمية والعاملية آخ ًذا يف االنهيار‪ .‬وال تتعلق دراسة األقاليم بكيفية‬
‫تنظيم األقاليم ذات ًيا ملساحاتها االقتصادية والسياسية والثقافية فقط‪ ،‬ولكنها تتعلق‬
‫أيضا بكيفية ارتباطها بعضها ببعض وتشكيل النظام العاملي‪ .‬باإلضافة إىل ذلك ُي َعد‬ ‫ً‬
‫الرتكيز عىل األقاليم أم ًرا أساس ًيا لتكوين تكامل وثيق بني املقاربات التخصصية‬
‫ودراسات إقليمية(٭)‪.‬‬
‫حتاًم عىل درجة من التاميز‬‫خامسا‪ ،‬عىل الرغم من أن التعددية العاملية تنطوي ً‬ ‫ً‬
‫الثقايف والنسبية‪ ،‬فإنه ال ميكن أن يستند حقل العالقات الدولية العاملي الحقيقي‬
‫إىل االستثنائية الثقافية وضيق األفق‪ .‬إن االستثنائية ‪ Exceptionalism‬هي امليل إىل‬
‫تقديم خصائص مجموعة اجتامعية عىل أنها متجانسة وفريدة من نوعها عىل نحو‬
‫جامعي ومتفوقة عىل تلك الخصائص الخاصة باآلخرين‪ ،‬إذ غال ًبا ما تدعم االدعاءات‬
‫باالستثنائية االدعاءات الكاذبة للعاملية مثل «معيار الحضارة» الغريب املفروض عىل‬
‫(٭) بشأن منطق اإلقليمية يف املجتمع الدويل العاملي انظر‪:‬‬
‫‪(Buzan and Schouenborg 2018: ch. 4).‬‬
‫[املؤلفان]‪.‬‬

‫‪461‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بقية العامل خالل الحقبة االستعامرية يف القرنني التاسع عرش والعرشين‪ .‬وقد كان‬
‫املثال السابق لالستثنائية هو نظام الجزية الصيني الكالسييك‪ ،‬وأحدث مثال عىل ذلك‬
‫هو فكرة إنشاء رابطة أو مجموعة من الدميوقراطيات لتحل محل األمم املتحدة‪.‬‬
‫غال ًبا ما ترتبط مثل هذه االدعاءات باألجندات السياسية املحلية وأغراض النخبة‬
‫الحاكمة‪ ،‬كام هو واضح يف مفاهيم مثل «القيم اآلسيوية» و«الخصائص الصينية»‪،‬‬
‫والتي غال ًبا ما ترتبط بالسلطوية‪ .‬وغال ًبا ما ُت َ ِّرَبر االستثنائية يف حقل العالقات الدولية‬
‫هيمنة القوى الكربى عىل الضعفاء‪ ،‬حيث ميكن أن ترتبط االستثنائية األمريكية‪،‬‬
‫التي تبدو حميدة وشائعة يف الداخل‪ ،‬مببدأ مونرو ونزعة التدخل العاملية التي‬
‫تخدم مصالحها الذاتية‪ .‬ويوضح أحد خطوط خطاب النزعة الوحدوية اآلسيوية يف‬
‫اليابان قبل الحرب‪ ،‬والذي تأسس عىل شعار «آسيا لآلسيويني»‪ ،‬هذا املوقف ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫والجهود املبذولة الستحضار نظام الجزية الصيني الفريد كأساس ملدرسة صينية‬
‫جديدة لحقل العالقات الدولية لهي جهود حاملة إلمكانيات مامثلة‪ .‬ويف حني أن‬
‫تطوير املدارس الوطنية لحقل العالقات الدولية ميكن أن يوسع ويرثي التخصص‪،‬‬
‫فإنه إذا كان يعتمد عىل نحو أسايس عىل االستثنائية فإنه سيتحدى إمكانيات حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي‪ .‬وقد كان كاهلري (‪ )1993: 412‬محقا يف قوله إن «تزايد‬
‫ضيق األفق الوطني ال يبرش بالخري بالنسبة إىل التطور املستقبيل للتخصص»‪.‬‬
‫إن حقل العالقات الدولية العاملي يسمح لنا إذن بالكشف عن التحيزات وضيق‬
‫األفق (الخفية أحيا ًنا) واملركزية العرقية يف نظريات العالقات املوجودة‪ .‬فبينام تقدم‬
‫الكتب املدرسية لحقل العالقات الدولية انتقادات للنظريات الرئيسة‪ ،‬فإنها ناد ًرا‬
‫ما تسلط الضوء عىل افرتاضاتهم املتمركزة حول العرق‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ناد ًرا‬
‫خرَب الطالب الجامعيون ‪ -‬الذين يدرسون الواقعية والليربالية كنظريات عاملية‬ ‫ما ُي َ‬
‫عن العالقات الدولية ‪ -‬عن ارتباط تلك النظريات بالعنرصية الثقافية واإلمربيالية‬
‫وتربيرها لهام‪ .‬فقد دعم بعض أكرب الفالسفة املؤسسني لليربالية؛ مثل جون لوك‪،‬‬
‫اإلمربيالية األوروبية؛ عىل نحو مبارش أو غري مبارش‪ ،‬باسم الكفاءة والتجارة الحرة‪.‬‬
‫أما آخرون‪ ،‬مثل آدم سميث؛ وال سيام كانط‪ ،‬فقد رفضوا اإلمربيالية الغربية لكنهم‬
‫افرتضوا عاملية معيارية توقعت أن تتطور الشعوب األصلية إىل معايري أوروبية‪ .‬ولن‬
‫مينح كانط سيادة غري مرشوطة لغري األوروبيني ما مل يتخلوا عن «الوحشية الخارجة‬
‫‪462‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫عن القانون» وقبلوا بهذه املعايري‪ .‬وتشمل أسس الواقعية النظريات الجيوسياسية‬
‫ملاكيندر وماهان‪ ،‬والتي دعت إىل تحالف غريب أنجلوساكسوين وهجومها ملنع‬
‫التهديد الرببري األصفر (أو الخطر األصفر) من االنتقال إىل عتبة الغرب‪ .‬ويف اآلونة‬
‫األخرية رفضت النظرية الليربالية للسالم الدميوقراطي تناول الحروب االستعامرية‪،‬‬
‫يف حني اعتربت الواقعية البنيوية أن الثنائية القطبية متثل «سال ًما طويل األمد»‬
‫بسبب غياب الحرب يف أوروبا‪ ،‬مع تجاهل النزاعات والخسائر العديدة يف العامل‬
‫النامي خالل الحرب الباردة‪ .‬وقد أعطت البنائية قليال من االعرتاف بوضع املعايري‬
‫من ِقبل البلدان النامية‪ ،‬والتنافس بني األنظمة املعيارية املختلفة‪ .‬إن النقطة ذات‬
‫الصلة هي عدم التوافق بني النظريات املوجودة ‪ -‬املستمدة من سياق غريب مهيمن‬
‫‪ -‬وواقع العامل غري الغريب‪ .‬وهناك كثري من األمثلة عىل ذلك‪ ،‬مبا يف ذلك التطبيق‬
‫املحدود لنظريات التكامل اإلقليمي خارج أوروبا الغربية‪ ،‬والتي غال ًبا ما ُتت ََجاهل‬
‫يف نصوص العالقات الدولية األكرث مبي ًعا‪ .‬تشمل األمثلة األخرى قيود مفهوم األمن‬
‫القومي (الذي ُط ِّور عىل نحو أسايس يف الواليات املتحدة) للتغلب عىل املعضلة‬
‫األمنية للعامل الثالث‪ ،‬والرتكيز يف نظرية التنمية الدولية (املطورة يف الواليات املتحدة‬
‫وأوروبا) عىل النمو االقتصادي عىل حساب احتياجات التنمية البرشية‪.‬‬
‫سادسا‪ ،‬إن حقل العالقات الدولية العاملي يأخذ مفهو ًما واس ًعا للفاعلية‪ .‬فقد‬ ‫ً‬
‫نفت عديد من نظريات العالقات الدولية ادعاءات الفاعلية للمجتمعات غري‬
‫نظر إىل الفاعلية يف العالقات الدولية يف‬ ‫الغربية‪ .‬ومنذ وقت ليس ببعيد‪ ،‬كان ُي َ‬
‫املقام األول من منظور «معيار الحضارة»‪ ،‬حيث كان العنرص الحاسم هو قدرة‬
‫الدول عىل الدفاع عن سيادتها؛ وشن الحرب؛ والتفاوض بشأن املعاهدات؛ وفرض‬
‫االمتثال؛ وإدارة ميزان القوة؛ وبناء إمرباطوريات عىل حساب شعوب «غري‬
‫متحرضة»‪ .‬لقد تجاهلت هذه الصياغة العنرصية والوقحة‪ ،‬التي تخدم املصالح‬
‫الذاتية وغري التاريخية ا ُملصوغة من قبل القوى االستعامرية األوروبية‪ ،‬حقيق َة أن‬
‫األشكال املعقدة من فن الحكم كانت موجودة يف عديد من الحضارات غري الغربية‬
‫املبكرة‪ .‬وبينام اعتربت نظريات العالقات الدولية السائدة ما يسمى بالعامل الثالث أو‬
‫الجنوب العاملي أنه هاميش بالنسبة إىل األلعاب التي تخوضها الدول‪ ،‬فقد ازدهرت‬
‫بعض النظريات النقدية يف الواقع بسبب هذا التهميش املفرتض‪ .‬لقد انتقدوا بحق‬
‫‪463‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫النظريات السائدة الستبعادها الجنوب‪ ،‬لكنهم أجروا استكشافا ضئيال‪ ،‬عىل األقل‬
‫يف البداية‪ ،‬ألشكال بديلة من الفاعلية يف الجنوب‪ ،‬خاصة بعد إدراك أن الفاعلية قد‬
‫تخاطر بتقويض الجزء املركزي من رسديتهم‪.‬‬
‫ويف حني أن التفاوتات العاملية يف القوة املادية لن تختفي‪ ،‬فإننا بحاجة إىل‬
‫تبني رؤية أوسع للفاعلية يف العالقات الدولية تتجاوز القوة العسكرية والرثوة‪.‬‬
‫إن الفاعلية هي فاعلية مادية وفكرية‪ ،‬إنها ليست من اختصاص القوي‪ ،‬ولكنها‬
‫ميكن أن تظهر كسالح يف يد الضعيف‪ .‬إذ ميكن مامرسة الفاعلية يف الفضاء عرب‬
‫ً‬
‫أشكااًل‬ ‫الوطني العاملي وكذلك عىل املستويني اإلقليمي واملحيل‪ .‬كام ميكنها أن تتخذ‬
‫متعددة (‪ .)Acharya, 2018:12–23‬إذ ميكن أن تصف أعامل املقاومة وتضفي‬
‫الطابع املحيل عىل املعايري واملؤسسات العاملية‪ .‬تعني الفاعلية ً‬
‫أيضا بناء قواعد‬
‫ومؤسسات جديدة عىل املستوى املحيل لدعم وتعزيز النظام العاملي ضد نفاق‬
‫وهيمنة القوى الكربى‪ .‬فالفاعلية تعني وضع تصور وتنفيذ مسارات جديدة للتنمية‬
‫واألمن والعدالة البيئية‪.‬‬
‫مثة أمثلة كثرية عىل هذه الفاعلية‪ ،‬عىل الرغم من تجاهلها من ِقبل أبحاث‬
‫حقل العالقات الدولية السائد‪ .‬فقد جرت إعادة تعريف السيادة وتوسيعها يف مؤمتر‬
‫شكاًل من اإلقليمية للحفاظ عىل‬‫آسيا وأفريقيا يف باندونغ‪ .‬حيث خلقت أفريقيا ً‬
‫حدود ما بعد االستعامر‪ .‬وكان نهرو‪ ،‬أول رئيس وزراء للهند‪ ،‬أول من اقرتح حظر‬
‫التجارب النووية‪ .‬وبعض أعامل الفاعلية هذه ليست مهمة فقط ملناطق محددة أو‬
‫للجنوب نفسه‪ ،‬ولكنها مهمة للحوكمة العاملية ككل‪ .‬و ُتظهر األبحاث الحديثة أن دول‬
‫رئيسا يف صياغة‬
‫أمريكا الالتينية وآسيا (الصني والهند) وأوروبا الرشقية مارست دو ًرا ً‬
‫مؤسسات بريتون وودز ‪.(Helleiner, 2014) Bretton Woods institutions‬‬
‫وميكن إرجاع أصول وتعزيز معايري حقوق اإلنسان ونزع السالح الحديثة إىل‬
‫الجهود التي تبذلها دول أمريكا الالتينية وآسيا وأفريقيا يف الدفاع عن هذه املعايري‬
‫(‪ .)Sikkink, 2014, 2016; Acharya, 2016: 1160–1‬وقد جاءت أفكار التنمية‬
‫البرشية واألمن اإلنساين من رائدي اقتصاديي التنمية يف جنوب آسيا محبوب الحق‬
‫وأمارتيا سن (‪ ،)Acharya, 2016: 1162–3; 2018: 137–41‬وبينام ُتنسب فكرة‬
‫«مسؤولية الحامية» عاد ًة إىل اللجنة الدولية املعنية بالتدخل وسيادة الدول برعاية‬
‫‪464‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫كندا‪ ،‬كام هو موضح يف الفصل الثامن‪ ،‬فإنها تدين بالكثري إىل القادة والديبلوماسيني‬
‫األفارقة‪ .‬وضمن مفاوضات تغري املناخ نرى البلدان النامية تقدم فكرة معيار‬
‫«املسؤولية املشرتكة ولكن املتباينة» (‪ .)Acharya, 2018: 195–7‬وباستخدام هذا‬
‫اإلطار األوسع للفاعلية‪ ،‬ميكننا أن نجد أن الجنوب كان له صوت‪ ،‬وأن «التابع ميكنه‬
‫التكلم بالفعل» والترصف حتى لو تجاهلتهم نظريات العالقات الدولية‪ .‬و ُي َعدُّ‬
‫دمج هذه العنارص يف روايات نصوص العالقات الدولية الخاصة باالقتصاد السيايس‬
‫العاملي؛ واألمن العاملي؛ والبيئة العاملية أم ًرا بالغ األهمية‪ ،‬وذلك ألجل الحد من‬
‫التحيز الغريب وتطوير رسدية عاملية لحقل العالقات الدولية(٭)‪.‬‬
‫ساب ًعا وأخ ًريا‪ ،‬إن حقل العالقات الدولية العاملي يستجيب للعوملة املتزايدة‬
‫يف العامل مبعنى شامل‪ .‬فالعوملة مبعنى زيادة الرتابط واالعتامد املتبادل هي اتجاه‬
‫طويل األجل ال ُيظهر أي عالمة عىل الضعف‪ .‬ولكن هناك خطني مهمني للتغيري‬
‫نظم عىل نح ٍو‬ ‫ينطبقان عىل نح ٍو متزايد عىل هذه العملية األضيق‪ .‬األول‪ ،‬هو أنها ُت َّ‬
‫متناقص عىل أساس املَ ْر َكز واألَ ْط َراف‪ ،‬وأكرث عىل أساس التعددية العميقة‪ .‬لذا‪ ،‬بينام‬
‫يشهد عرص الهيمنة الغربية نهايته‪ ،‬أصبح كل من املحرك الدافع للعوملة واملسؤولية‬
‫عن عواقبها أكرث عاملية يف الحجم‪ .‬ثان ًيا‪ ،‬أن الكثافة املتزايدة وشدة الرتابط واالعتامد‬
‫املتبادل تؤدي اآلن عىل نح ٍو واضح إىل ظهور مجموعة من املصائر املشرتكة التي‬
‫نوقشت يف الفصل السابع‪ ،‬والتي تنخرط فيها البرشية جمعاء وتكون املسؤولية‬
‫عنها جامعية‪ .‬والكيفية التي يلعب بها جانب املصري املشرتك للعوملة هذا يف البنية‬
‫السياسية األكرث انتشا ًرا للتعددية العميقة لهي مسألة رئيسة بالنسبة إىل حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي‪.‬‬

‫‪ - 4‬األجندة البحثية لحقل العالقات الدولية العاملي‬


‫قام أميتاف أشاريا (‪ )2014a‬بتحديد ومناقشة عنارص معينة من األجندة‬
‫البحثية لحقل العالقات الدولية العاملي‪ .‬ومن دون الخوض يف التفاصيل‪ ،‬ميكن‬
‫تلخيصها عىل النحو التايل‪:‬‬
‫(٭) ملزيد من املناقشة بشأن فعالية الجنوب العاملي‪ ،‬انظر القسم الخاص بالحوكمة العاملية (‪[ .)2014‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪465‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫‪ -‬اكتشاف أمناط ونظريات ومناهج جديدة من تواريخ العامل‪.‬‬


‫‪ -‬تحليل التغريات الحاصلة عىل مستوى توزيع القوة واألفكار بعد أكرث من‬
‫مائتي عام من الهيمنة الغربية‪.‬‬
‫‪ -‬استكشاف العوامل اإلقليمية يف تنوعها الكامل وترابطها‪.‬‬
‫ً‬
‫تكاماًل جوهر ًّيا وموضوع ًّيا‬ ‫‪ -‬التعامل مع املوضوعات واملناهج التي تتطلب‬
‫للمعرفة املتخصصة ودراسات املناطق‪.‬‬
‫‪ -‬دراسة كيفية تداول األفكار واملعايري بني املستويني العاملي واملحيل‪.‬‬
‫‪ -‬التحقيق يف التعلم املتبادل بني الحضارات‪ ،‬والذي يوجد منه دليل تاريخي‬
‫أكرث مام يوجد بشأن «صدام الحضارات»‪.‬‬
‫ويف حني أن هذه املوضوعات الستة قد تكون نقطة انطالق جيدة للمحادثات‬
‫واملناقشات الرضورية لتوسيع نطاق هذا التخصص‪ ،‬فهي ليست مواضيع شاملة بأي‬
‫بداًل من ذلك‪« ،‬يجب أن تظل فكرة حقل العالقات الدولية العاملي‬ ‫حال من األحوال‪ً .‬‬
‫مظلة واسعة ومفتوحة للمنافسة؛ والتفسري؛ والتوضيح؛ والتوسيع» ‪(Acharya,‬‬
‫)‪.2014a: 652‬‬
‫مثة طريقة أخرى للنهوض مبرشوع حقل العالقات الدولية العاملي تتمثل يف النظر‬
‫يف املصادر املوجودة يف عديد من املناطق والتي من املمكن أن تساعد يف عملية‬
‫التنظري‪ .‬وبنا ًء عىل عملنا السابق (‪ ،)Acharya and Buzan, 2007a, b; 2010‬هناك‬
‫خمسة مصادر مفيدة لتطوير مزيد من نظرية العالقات الدولية العاملية‪ :‬التقاليد‬
‫الدينية والفلسفية الكالسيكية؛ وتفكري حقل العالقات الدولية املرتبط بالشخصيات‬
‫التاريخية والدينية والسياسية والعسكرية؛ وتفكري حقل العالقات الدولية لقادة ما‬
‫بعد االستعامر املعارصين؛ وعمل باحثي العالقات الدولية املعارصين النقديني من‬
‫منظور عاملي؛ واألفكار املستمدة من مامرسات السياسة العاملية‪.‬‬
‫أو ًاًل‪ ،‬إن التقاليد الكالسيكية مبا يف ذلك الفلسفة الدينية مثل البوذية؛‬
‫والهندوسية؛ والكونفوشيوسية؛ واإلسالم واليهودية؛ واملسيحية؛ والفروع املختلفة‬
‫داخل هذه التقاليد الكالسيكية؛ وكذا األديان الالحقة مثل السيخية‪ ،‬قد توفر‬
‫رؤى ذات صلة بنظرية العالقات الدولية‪ .‬وهذا‪ ،‬عىل أي حال‪ ،‬قد يثري أسئلة‬
‫إبستيمولوجية (معرفية)‪ .‬فحقل العالقات الدولية العاملي يحتضن التعددية يف‬
‫‪466‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫املنهج ونظرية املعرفة‪ .‬لكننا نريد تقديم حالة خاصة ملزيد من التوسع يف املقصود‬
‫بعلم العالقات الدولية من خالل دمج رؤى من أديان العامل‪ .‬يقبل حقل العالقات‬
‫الدولية العاملي املقاربات الوضعانية‪ ،‬لكنه يرفض بشدة اعتبارها أنها تشكل‬
‫السبيل الوحيد الصالح ملعرفة حقل العالقات الدولية‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن‬
‫بداًل‬ ‫ً‬
‫تفضياًل للمقاربة الكالسيكية ً‬ ‫مراجعتنا لحقل العالقات الدولية اإلقليمية ُتظهر‬
‫من املقاربة الوضعانية التي متيز حقل العالقات الدولية األمرييك‪ .‬ويؤكد باتريك‬
‫ثاديوس جاكسون ‪ Patrick Thaddeus Jackson‬أنه «ليك نكون غري غربيني ح ًقا‪،‬‬
‫نحتاج إىل طرق إلنتاج نظرية ليست عرضة للطريقة التي ينتج من خاللها كل من‬
‫كينغ وكيوهان وفريبا النظرية»(٭)‪ .‬إن ما هو مهم إذن ليس فقط محتوى حقل‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬ولكن طرق عمل هذا الحقل‪ .‬ويكمن جزء من اإلجابة يف توسيع‬
‫مفهومنا ملا تعنيه فلسفة العلوم إىل جانب توسيع مفهومنا ملا يعنيه حقل العالقات‬
‫الدولية يف الواقع‪ .‬ويقدم جاكسون (‪ )2010‬حجة قوية للتعددية يف حقل العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬خاصة فيام يتعلق بفهمنا ملا يشكل «العلوم»‪ .‬ومن خالل فعل ذلك‪ ،‬يوجه‬
‫رضبة قوية ملزاعم أولئك الذين وجدوا أنه من املالئم رفض التجارب واألصوات غري‬
‫الغربية باعتبارها «مادة من دراسات املناطق» أو أنها «غري علمية»‪.‬‬
‫أيضا عىل أن «ترك السؤال العلمي جانبا ال‬ ‫لكن جاكسون (‪ )2010: 196‬أرص ً‬
‫مجااًل يسري فيه كل يشء»‪ .‬فاملعرفة العلمية بالنسبة‬ ‫يعني بالرضورة أننا ندخل ً‬
‫إليه لها ثالثة «مكونات أساسية» ال غنى عنها‪ :‬يجب أن تكون نسقية؛ ويجب أن‬
‫تكون قادرة عىل قبول النقد العام (ويفرتض املرء معالجة ذلك بنجاح)؛ و«يجب‬
‫أن يكون الغرض منه إنتاج املعرفة الدنيوية» (‪ .)Jackson, 2010: 193‬لكن عىل‬
‫املرء أن يكون حذ ًرا هنا‪ .‬فقد يكون أن قد ًرا كب ًريا مام قد يجلبه املرء إىل نظرية‬
‫العالقات الدولية من العامل غري الغريب «معرفة دنيوية»‪ .‬لكن املصادر األخرى ميكن‬
‫أن تكون من املعرفة الدينية والثقافية والروحية التي قد ال تكون ُم َؤهلة بدقة‬
‫لتكون مثل «هذه املعرفة الدنيوية»‪ .‬إذ قد يكون يف تلك املعارف تقاطع غامض بني‬
‫العلم والروحانية أو قد تجمع بني املادي والروحاين‪ .‬وهكذا‪ ،‬يقرتح جورجيو شاين‬
‫(٭) تعليقات بشأن إطالق نظرية العالقات الدولية غري الغربية‪ ،‬بقلم أميتاف أشاريا وباري بوزان‪ ،‬الجامعة األمريكية‪،‬‬
‫واشنطن العاصمة‪ 3 ،‬مايو ‪ .2010‬كانت اإلشارة إىل غاري كينغ وروبرت كيوهان وسيدين فريبا (‪[ .)1994‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪467‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫(‪ )2008: 722‬العقيدة السيخية أو األمة اإلسالمية باعتبارها مصادر لنظرية حقل‬
‫العالقات الدولية مابعد الغريب‪ ،‬ألن هذه املفاهيم تقدم «مفهو ًما ً‬
‫بدياًل للعاملية»‬
‫‪ -‬ورمبا مفهو ًما أكرث «تضامنية» للمجتمع الدويل ‪ -‬عن تلك التي يقدمها حقل‬
‫العالقات الدولية الويستفايل الغريب‪ .‬ميكن قول اليشء نفسه عن املفهوم الصيني‬
‫لـ «تيانكسيا» ‪( Tianxia‬كل ما تحت السامء)‪ .‬كام تقدم الهندوسية ً‬
‫مثااًل آخر أيضا‪.‬‬
‫فملحمة ماهابهاراتا الهندوسية عبارة عن رسد ماورايئ للحرب العادلة والظاملة؛‬
‫والتحالفات والخيانات؛ واملصالح الشخصية واألخالق؛ والحكم الصالح والسيئ(٭)‪.‬‬
‫أما البهاغافاد غيتا(٭٭)‪ ،‬فتحتوي بداخلها عىل أفكار بشأن مامرسة الحرب يف شكل‬
‫مناشدات اللورد كريشنا للمحارب أَ َر ُجو َنا‪« :‬إذا رفضت خوض هذه الحرب العادلة‪،‬‬
‫فستكون إذن تتهرب من واجبك وتفقد سمعتك» (الفصل ‪ ،2‬فقرة ‪)33‬؛ «القادة‬
‫املحاربون الذين كانوا يحرتمونك سيحتقرونك اآلن‪ ،‬معتقدين أن الخوف هو الذي‬
‫دفعك إىل الخروج من املعركة» (الفصل ‪ ،2‬فقرة ‪)35‬؛ «مت‪ ،‬وستظفر بالجنة؛‬
‫انترص وستتمتع بسيادة األرض‪ ،‬لذلك قف؛ أَ َر ُجو َنا؛ عاز ًما عىل القتال» (الفصل ‪،2‬‬
‫فقرة ‪ .)Kaushik, 2007: 55–7( )37‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فإن عدم االمتناع عن الحرب‬
‫يتوافق مع منطق الفعل الصالح الذي هو يف الوقت نفسه «دنيوي» (رشف؛ عار؛‬
‫قوة) ُ‬
‫و«أخروي» (عدم قابلية الروح للتدمري)‪.‬‬
‫ُتقدم الفلسفة البوذية‪ ،‬التي مل تحظ عمل ًّيا بأي اهتامم من باحثي حقل‬
‫مثااًل آخر‪ .‬فالداالي الما ‪(Dalai Lama‬٭٭٭٭) الحايل‬ ‫العالقات الدولية(٭٭٭)‪ً ،‬‬
‫يستكشف العالقة بني العلم والفلسفة البوذية‪ .‬حيث تقبل الفلسفة البوذية‬
‫وتوظف التجريبية العلمية‪ ،‬وخاصة «املالحظة املبارشة» و«االستدالل املنطقي»‬
‫أيضا إىل (‪[ .)Cohen and Westbrook 2008‬املؤلفان]‪.‬‬ ‫(٭) ميكن أن ينظر املرء ً‬
‫(٭٭) ُتعد الكتاب الهندي املقدس يف الديانة الهندوسية‪ ،‬وهي الحوار الذي جرى بني السيد أو الرب املبارك كريشنا‬
‫وأرجونا قبل بداية الحرب بني الكاورافاس والباندافاس‪ ،‬وهام فرعان من أرسة بهاراتا التي كانت تحكم يف ذلك‬
‫الوقت‪ .‬البهاغافاد غيتا هي عبارة عن ‪ 700‬بيت أو آية تقع يف مثانية عرش فص ًال‪ ،‬ويعود تاريخها إىل قرابة األلفية‬
‫الثالثة قبل امليالد‪ .‬كلمة بهاغافاد تعني الرب أو اإللهي‪ ،‬وترمز إىل السيد كريشنا الذي يقدسه الهندوس بوصفه مظهرا‬
‫من مظاهر إله‪ ،‬بينام تعني كلمة غيتا املغنَّاة أو القصيدة أو األنشودة‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬
‫(٭٭٭) باستثناء إعجاب تشان وماندافيل وبليكر (‪[ .)Chan, Mandaville and Bleiker 2001‬املؤلفان]‪.‬‬
‫(٭٭٭٭) الداالي الما هو لقب يعطى ألعىل رجل ديني يف الديانة البوذية التبيتية تشابة لقب البابا يف الديانة‬
‫املسيحية والكلمة هي باألصل من أحد أفرع اللغة املونغولية وتعني املحيط الكبري‪[ .‬املحرر]‪.‬‬

‫‪468‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫(أي أن املعرفة «ميكن أن ُتعطى ظاهر ًّيا أو ميكن استنتاجها»)‪ ،‬لكنها تتعاون مع‬
‫العلم يف بعض األجزاء عندما يتعلق األمر بطريقة ثالثة؛ «السلطة املوثوقة»‪ .‬وتؤمن‬
‫الفلسفة البوذية بـ «املستوى اإلضايف للحقيقة‪ ،‬والذي قد يظل ً‬
‫غامضا بالنسبة إىل‬
‫العقل غري املستنري»‪ .‬ويشتمل هذه عىل «قانون الكارما»(٭)‪ ،‬و«االستشهاد بالكتاب‬
‫املقدس مصدرا صحيحا عىل نح ٍو خاص للسلطة‪ ،‬أو تعاليم بوذا‪ ،‬التي أثبتت بالنسبة‬
‫إىل البوذيني أنها ميكن االعتامد عليها يف فحص طبيعة الوجود والطريق إىل التحرر»‬
‫)‪ .(Dalai Lama, 2005: 28–9‬وعىل الرغم من أن أطروحة قابلية التكذيب‬
‫‪ falsification thesis‬لكارل بوبر ‪ Karl Popper‬ستجعل الفجوة بني املنهج العلمي‬
‫والبوذية أوسع من خالل استبعاد «عديد من األسئلة التي تتعلق بوجودنا البرشي»؛‬
‫مبا يف ذلك األخالق والروحانية‪ ،‬فإن «معيار قابلية التكذيب» يتوافق مع مبدأ‬
‫«نطاق النفي» للبوذية التبتية‪ ،‬والذي يسلط الضوء عىل الفرق بني «ما مل ُيعرث‬
‫عليه» وما « ُو ِج َد أنه غري موجود» (‪ .)Dalai Lama, 2005: 35‬ليس من الصعب أن‬
‫نرى أن «املستوى اإلضايف للحقيقة» قد ينطبق عىل نح ٍو جيد عىل معظم املذاهب‬
‫الدينية األخرى‪ ،‬مثل السنة اإلسالمية والحديث أو بهاغافاد غيتا الهندوسية‪ .‬وبينام‬
‫يجادل الداالي الما بأن العلم يستبعد أسئلة امليتافيزيقا واألخالق‪ ،‬فإن كل نظرية‬
‫العالقات الدولية (عىل الرغم من أن ذلك يختلف وفق الصيغ) ال تفعل ذلك‪.‬‬
‫فهل ميكننا إقحام هذه األفكار ضمن معرفة حقل العالقات الدولية إذا حرصنا‬
‫أنفسنا يف إجراء استقصاء يرص عىل الفصل الصارم بني هذا الدنيوي واألخروي‪ ،‬وبني‬
‫املادي والروحي؟ ميكننا بالطبع‪ ،‬وبوعي ذايت‪ ،‬تضمني عنارص مثل املعرفة الكتابية‪،‬‬
‫والتي قد ال تجتاز بسهولة اختبار الدنيوية‪ ،‬ونطلق عليها العنارص غري العلمية‬
‫لنظرية العالقات الدولية‪ .‬ولكن قد يعني هذا نقلهم إىل مرتبة الدرجة الثانية‪،‬‬
‫حيث إن تسمية «علمي»‪ ،‬كام يشري جاكسون‪ ،‬تحمل قد ًرا كب ًريا من الهيبة والتأثري‬
‫التخصيص يف نظرية العالقات الدولية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن اإلرصار عىل العلم يخاطر‬
‫(٭) الكارما ‪ karma‬مصطلح مشتقٌّ من الكلمة السنسكريت ّية كرمان‪ ،‬والتي تعني العمل‪ .‬وقانون الكارما هو القانون‬
‫والترصفات والن َّيات التي يقوم بها‬
‫ُّ‬ ‫السبب والنتيجة‪ ،‬بحيث ّإن األعامل‬ ‫السببي العاملي‪ ،‬ويُعنى هذا القانون مببدأ َّ‬
‫ويتبنّاها األشخاص يف الوقت الحارض‪ُ ،‬تحدِّد و ُت ِّ‬
‫فرِّس منط وطبيعة األعامل والحياة املستقبل َّية يف بُعدها األخالقي‪ ،‬فكل‬
‫لسبب ما يف الوقت الحايل‪ ،‬وكل ما هو حارض‪ ،‬هو نتيجة‬ ‫ٍ‬ ‫ما هو مستقبيل – والدة جديدة ‪ - Samsara‬هو نتيجة‬
‫يوجه معتقديه إىل العيش حياة أخالق َّية‪[ .‬املرتجم]‪.‬‬ ‫ألسباب حصلت يف املايض‪ ،‬ومن ثم َّ‬
‫فإن قانون الكارما ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫تراكم ّية‬

‫‪469‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫بتهميش قد ٍر كب ٍري من مصادر معرفة حقل العالقات الدولية التي تكون غري علمية‬
‫كل ًّيا أو جزئ ًّيا أو التي ال ميكن إثبات تقاربها مع العلم عىل نح ٍو واضح‪.‬‬
‫ثان ًّيا‪ ،‬باإلضافة إىل األديان‪ ،‬فإن لدى العامل غري الغريب أمثلة وفرية من الشخصيات‬
‫التاريخية الدينية والسياسية والعسكرية التي فكرت يف حقل العالقات الدولية‪.‬‬
‫ومن هؤالء صن تزو ‪ ،Sun Tzu‬وهان فيزي ‪ ،Han Feizi‬وكونفوشيوس من الصني؛‬
‫وأشوكا ‪ ،Ashoka‬وكوتيليا ‪ ،Kautilya‬ونغارجونا ‪( Nagarjuna‬فالسفة من الديانة‬
‫البوذية يف الهند خالل القرنني األول والثاين) من الهند‪ .‬إن األمر املثري لالهتامم عىل‬
‫نح ٍو خاص هو أنها تضمنت تنوعًا يف التفكري واملقاربة داخل املجتمعات والثقافات‬
‫نفسها وحتى خالل الفرتات الزمنية نفسها‪ .‬وحقيقة أنه ميكن للمرء أن يجد خالل‬
‫كاًل من السياسة الواقعية‬ ‫فرتة قصرية نسب ًّيا من العرص الكالسييك لشامل الهند ً‬
‫عند كوتيليا (‪ )Arthasastra‬واالستقامة عند أشوكا (‪ ،)Dharma‬كام ميكن للمرء‬
‫أن يجد يف الصني خالل فرتة ما قبل ساللة تشني املذاهب املعارصة للواقعية عند‬
‫هان فيزي‪ ،‬واقرتاحات الفيلسوف األخالقي كونفوشيوس‪ ،‬هي حقيقة تشري إىل‬
‫أنه من الخطأ مبكان تصوير الحضارات الرشقية عىل أنها سرتة للتقييد الفلسفي‪.‬‬
‫والواقع أنها ضمت تعدد األفكار واملقاربات للسياسة والعالقات الدولية‪ .‬ويف العامل‬
‫اإلسالمي ويف الرشق األوسط‪ ،‬نجد من األمثلة البارزة للمفكرين ابن سينا (عامل‬
‫فاريس موسوعي معروف يف الغرب باسم ‪ ،)Avicenna‬وأيضا املفكرين من الفالسفة‬
‫العرب بني القرنني التاسع والثاين عرش مثل الكندي (الذي عمل يف بيت الحكمة يف‬
‫بغداد يف القرن التاسع‪ ،‬حيث ُترجم عديد من النصوص الفلسفية والعلمية اليونانية‬
‫املهمة إىل العربية)؛ والفارايب‪ ،‬وابن رشد (يعرف عند الغرب بـ ‪ .)Averroës‬ومن‬
‫خالل الرتجامت إىل العربية والرشوح التي قدموها‪ ،‬مل يحافظ هؤالء وغريهم من‬
‫العلامء املسلمني عىل املعرفة فقط‪ ،‬بل قدموا ً‬
‫أيضا قد ًرا كب ًريا من املعرفة الفلسفية‬
‫اليونانية املنسية أو املفقودة يف نسخها اليونانية األصلية بعد سقوط اإلسكندرية‬
‫واعتناق األباطرة الرومان دينا جديدا‪ .‬الح ًقا‪ ،‬قبل النهضة األوروبية وعند بدايتها‪،‬‬
‫ستُرتجم هذه النصوص واملعارف العربية يف إسبانيا اإلسالمية إىل الالتينية وكذا‬
‫إىل فرنسية العصور الوسطى‪ ،‬وستؤثر ليس فقط يف تفكري الالهوتيني املسيحيني‬
‫مثل توماس األكويني‪ ،‬ولكن ً‬
‫أيضا ستؤثر يف العقالنية األوروبية الحديثة املبكرة يف‬
‫‪470‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫باريس وجامعات أكسفورد‪ .‬ويوجد بالفعل نوع من أدبيات نظرية سياسية ثانوية‬
‫بشأن هؤالء املفكرين‪ ،‬والتي ميكن إقحامها يف مجال العالقات الدولية‪ .‬فقد كان‬
‫ابن خلدون (‪1406-1332‬م) عىل القدر نفسه من األهمية بني املفكرين اإلسالميني‪،‬‬
‫حيث أثرت نظريته الديناميكية للتفاعل بني املجتمعات املستقرة والبدوية كمحرك‬
‫للتاريخ يف أعامل املؤرخني العثامنيني يف القرن السابع عرش مثل كاتب شلبي؛ وأحمد‬
‫جودت باشا؛ ومصطفى نعيمة؛ واستشهد به الباحث املعارص يف حقل العالقات‬
‫الدولية روبرت كوكس (‪.)1992b‬‬
‫ثال ًثا‪ ،‬تفكري ومقاربة املفكرين والقادة السياسيني يف العامل املستع َمر‪ .‬كام ذكرنا‬
‫بالتفصيل يف الفصول السابقة‪ ،‬كانت األفكار والحركات القومية املناهضة لالستعامر‬
‫وال َن َزعَات الوحدوية اإلقليمية؛ سواء تلك املتأتية من النشطاء السياسيني أو الباحثني‬
‫(أو كليهام)‪ ،‬مصد ًرا رئيسا للتفكري يف حقل العالقات الدولية املوجود يف كل منطقة‪.‬‬
‫إن حقيقة أن بعض هذه الرشاكات شكلت رشاكات يف األفكار (مثل تلك التي‬
‫كانت بني تاغور وأوكاكورا) أو الحركات أو يف كليهام‪ ،‬تجعل تفكريهم أكرث أهمية‬
‫كأسس لحقل العالقات الدولية العاملي‪ .‬ومن املهم أن نالحظ أنه‪ ،‬كام يف املايض‬
‫الكالسييك‪ ،‬كان التفكري الدويل يف العرص الحديث يف العامل غري الغريب بالكاد موحدًا‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬قد يجد املرء يف اليابان أفكا ًرا‪ ،‬أحيا ًنا متباينة وأحيا ًنا متكاملة‪،‬‬
‫بشأن العالقات الدولية من أواخر القرن التاسع عرش حتى فرتة ما بعد الحرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬خاصة عند شيجريو تاباتا ‪Shigejiro Tabata‬؛ ويوشيكازو ساكاموتو‬
‫‪Yoshikazu Sakamoto‬؛ وماساتاكا كوساكا ‪Masataka Kosaka‬؛ وماساميتيش‬
‫روياما ‪Masamichi Royama‬؛ وأكريا أوساوا ‪Akira Osawa‬؛ ونيشيدا كيتارو‬
‫‪Nishida Kitaro‬؛ وكيسابورو يوكوتا ‪Kisaburo Yokota‬؛ وهيكوماتسو كاميكاوا‬
‫‪Hikomatsu Kamikawa‬؛ وكوتارو تاناكا ‪Kotaro Tanaka‬؛ وكاورو ياسوي‬
‫‪ Kaoru Yasui‬وشيجريو تاباتا (‪ )Shimizu et al., 2008‬وباملثل‪ ،‬يجب عىل‬
‫األكادمييني الباحثني عن مصادر مهمة ولكن متباينة لتفكري حقل العالقات الدولية‬
‫يف الهند دراسة كتابات بانيكار ‪K. M. Panikkar‬؛ وسيرس غوبتا؛ وأبادوراي ‪A.‬‬
‫‪Appadorai‬؛ ورانا ‪A. P. Rana‬؛ وبانديوبادياي ‪،Jayantanuja Bandyopadhyaya‬‬
‫وأشيش ناندي (‪.)Ashis Nandy Mallavarapu‬‬
‫‪471‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫املصدر الرابع الذي ميكن أن يستمد منه التفكري والتنظري العاملي يف حقل‬
‫العالقات الدولية هو أعامل هؤالء الباحثني املعارصين الذين انخرطوا يف نظرية‬
‫العالقات الدولية الغربية وتحدوها يف معظم الحاالت ومن مواقع مختلفة حول‬
‫العامل‪ .‬وتشمل القامئة‪ ،‬عىل سبيل املثال ال الحرص‪ ،‬محمد أيوب (الواليات املتحدة)؛‬
‫وأرلني تيكرن (كولومبيا) ؛ وبينار بيلجني (تركيا)؛ وبهجت كوراين (مرص)؛ ونافنيتا‬
‫تشادها بيهريا (الهند)؛ وكانتي باجباي (الهند)؛ وتاكايش إنوغوتيش (اليابان)؛ وتشني‬
‫ياكينغ (الصني)؛ ويان شوتونغ (الصني)؛ وتانغ شيبينغ (الصني)؛ وسيبا غروفوغوي‬
‫(الواليات املتحدة)؛ وأيضا ل‪ .‬ش‪ .‬لينغ (الواليات املتحدة)؛ وراندولف بريسود‬
‫(الواليات املتحدة)؛ وسانكاران كريشنا (الواليات املتحدة)؛ ورويب شيليام (الواليات‬
‫املتحدة)؛ وديانا تويس (األرجنتني)؛ وإيفلني جوه (أسرتاليا)؛ وأوليفر ستوينكيل‬
‫(الربازيل)؛ وسوايت باراشار (السويد)؛ وشاندرا موهانتي (الواليات املتحدة)؛‬
‫ويونغجني زانغ (اململكة املتحدة)؛ وشوجو سوزويك (اململكة املتحدة) وواندي نايت‬
‫أيضا تضمني‪ :‬جي أن تينكر (الواليات املتحدة)؛ وجايك ترو (أسرتاليا)؛‬‫(كندا)‪ .‬ونود ً‬
‫وأندرو هوريل (اململكة املتحدة)؛ ولويس فايست (اململكة املتحدة)؛ وبيرت‬
‫كاتسينستني (الواليات املتحدة)؛ ودفيد كانغ (الواليات املتحدة)؛ وإريك هااليرن‬
‫(كندا)؛ ويت‪.‬يف‪ .‬بول (كندا)؛ وأندرو فيليبس (أسرتاليا)‪ .‬القامئة بعيدة كل البعد عن‬
‫كونها شاملة وال تنصف االختالفات بني هؤالء الباحثني وتعقيد تفكريهم‪ ،‬لكنها‬
‫تشري إىل أن حقل العالقات الدولية العاملي هو بالفعل مرشوع ناشئ مبساهامت‬
‫من علامء من الرشق والغرب والشامل والجنوب‪ .‬وحقيقة أن بعض هؤالء مثل‬
‫محمد أيوب؛ وسيبا غروفوغوي؛ أندي نايت؛ وسانكاران كريشنا؛ راندولف بريسود‬
‫كانوا يف األصل من الجنوب العاملي ولكنهم انتقلوا إىل الواليات املتحدة لن يجعل‬
‫مساهمتهم أقل شأنا بالنسبة إىل الفكر غري الغريب؛ فيمكن للمرء يف الواقع أن يجادل‬
‫العاملنْي الغريب‬
‫ْ‬ ‫بأن مساهمتهم تستفيد من األفكار التي تأيت مع كونهم جز ًءا من‬
‫أيضا هو أن بعض الباحثني‪ ،‬مثل أرلني تيكرن أوليفر‬‫وغري الغريب(٭)‪ .‬واملثري لالهتامم ً‬

‫(٭) قد نضيف أن أحد املؤلفني الحاليني‪ ،‬أميتاف أشاريا‪ ،‬واملقيم اآلن ً‬


‫أيضا يف الواليات املتحدة‪ ،‬نشأ يف الهند‪ ،‬وقد‬
‫أمىض جز ًءا كب ًريا من حياته األكادميية يف آسيا (سنغافورة والصني)‪ ،‬بينام كان يشغل منصب عضو هيئة التدريس زائر‬
‫يف جنوب أفريقيا وتايلند واليابان‪ ،‬وهو مواطن كندي‪[ .‬املؤلفان]‪.‬‬

‫‪472‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫ستوينكيل‪ ،‬قد انتقلوا من الغرب إىل مواقعهم الحالية يف العامل الجنويب‪ .‬وقد احتفظ‬
‫العديد من هؤالء الباحثني بروابط وثيقة مع بلدانهم األصلية‪ ،‬أو يركز عملهم جزئ ًّيا‬
‫عىل األقل عىل بلدانهم‪ /‬مناطقهم األصلية‪ ،‬كام حافظوا عىل روابط وثيقة مع أفكار‬
‫ومؤسسات تلك املناطق‪ .‬ويعكس عمل عديد من هؤالء الباحثني الظروف التاريخية‬
‫والراهنية للجنوب العاملي‪ ،‬وخصوصا بلدانهم‪ /‬مناطقهم األصلية‪.‬‬
‫ويف حني أن القاسم املشرتك ألعاملهم يتمثل يف الدعوة إىل مزيد من الفهم‬
‫وتضمني األفكار واملقاربات غري الغربية‪ ،‬فإن هؤالء الباحثني يسعون وراء مجموعة‬
‫متنوعة من االهتاممات واملقاربات النظرية‪ .‬مع األخذ بعني االعتبار أن تصنيف‬
‫مفرطا يف التبسيط‬‫كتاباتهم ضمن «املعسكرات» النظرية السائدة ميكن أن يكون ً‬
‫والتضليل‪ ،‬واليزال بإمكان املرء أن يقدم بعض التعميامت املعقولة‪ .‬و ُيع ِّرف كل‬
‫من بريسود؛ وشليا؛ ولينج؛ وبيلجني؛ وكريشنا؛ وغروفوجي أنفسهم بوضوح بأنهم‬
‫ينتمون إىل مدرسة ما بعد االستعامرية‪ .‬كام أن تينكر وبيهايرا ينتميان عموما‬
‫إىل مدرسة ما بعد االستعامرية‪ .‬أما تفكري تشني فهو أساسا تفكري بنايئ (وإن كان‬
‫متأث ًرا بشدة بالثقافة الصينية يف قيادته للمدرسة الصينية للعالقات الدولية)‪ ،‬بينام‬
‫يرفض مواطنه يان‪ ،‬الذي يستمد أفكاره عىل قدم املساواة من الثقافة الصينية‪،‬‬
‫فكرة املدرسة الصينية ويطلق عىل نظريته «الواقعية األخالقية»‪ .‬وقد طور تانغ‬
‫مقارب ًة انتقائي ًة «تطوري ُة اجتامعي ًة»‪ ،‬بحيث تنسجم مع الفهم البنايئ لحقل‬
‫لعالقات الدولية‪ .‬أما باجباي؛ وإنوغيش؛ وستونكيل؛ ونايت‪ ،‬فهم أقرب إىل الليربالية‪،‬‬
‫بينام طور أيوب مقاربة أطلق عليها «الواقعية الفرعية»‪ .‬يف حني يرتبط هوريل‬
‫وسوزويك وزانغ باملدرسة اإلنجليزية‪ .‬إن هذا االختالف هو السمة املميزة ملرشوع‬
‫حقل العالقات الدولية العاملي الذي يحتضن التعددية النظرية‪ ،‬مبا يف ذلك نظريات‬
‫العالقات الدولية القامئة والنظريات التي تتحداها‪ .‬إذ يجب عىل املهتمني مبرشوع‬
‫حقل العالقات الدولية العاملي االعتامد عىل‪ /‬وإقحام املفكرين والقادة واملساهامت‬
‫املتأتية من مختلف التقاليد النظرية واملنهجية‪.‬‬
‫أيضا عىل‬ ‫قد يعتمد املصدر الخامس لتفكري حقل العالقات الدولية العاملي ً‬
‫املامرسة العملية‪ ،‬وخاصة األمناط الواسعة وطويلة األجل للعالقات والتفاعالت وبناء‬
‫املؤسسات الجارية يف أجزاء مختلفة من العامل‪ُ .‬يعد االعتامد عىل املامرسة لبناء‬
‫‪473‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫النظرية أم ًرا شائ ًعا يف أبحاث حقل العالقات الدولية الغريب‪ .‬ومن ثم‪ ،‬كان الوفاق‬
‫األورويب هو األساس لألدبيات املتمحورة حول «األنظمة األمنية»‪ ،‬وكان االتحاد‬
‫األورويب هو نقطة االنطالق الرئيسة للمؤسسات الليربالية الجديدة‪ ،‬بينام قدم نظام‬
‫ميزان القوى األورويب الكالسييك قد ًرا كب ًريا من التنظري بشأن انتقال القوة (كونه اآلن‬
‫ينطبق عىل صعود الصني) وديناميكيات التحالف وأدبيات «أسباب الحرب»‪ .‬ومن‬
‫هنا فإن السؤال املطروح‪« :‬إذا كان من املمكن تحويل السياسة اإلقليمية ألوروبا‬
‫وشامل األطليس إىل نظري ٍة للعالقات الدولية‪ ،‬فلامذا ال ميكن تحويل السياسة‬
‫أيضا إىل نظري ٍة للعالقات الدولية؟» (‪.)Acharya, 2015‬‬ ‫اإلقليمية اآلسيوية ً‬
‫مجااًل رئيسا ور ً‬
‫اسخا يف تفكري‬ ‫وكام أوضحنا يف الفصول السابقة‪ُ ،‬ت َعد اإلقليمية ً‬
‫ومامرسة العالقات الدولية يف أجزاء كثرية من الجنوب العاملي‪ .‬من املفهوم جيدًا‬
‫اآلن أن مناطق العامل املختلفة تتبع مسارات مختلفة للتعاون اإلقليمي ‪(Acharya‬‬
‫)‪ .and Johnston, 2007‬و ُت َعد مقاربات التعاون اإلقليمي يف آسيا وأمريكا الالتينية‬
‫وأفريقيا والرشق األوسط جميعها طر ًقا مهمة لتوسيع دراسات العالقات الدولية‬
‫وتطوير نظريتها‪ .‬وهنا‪ ،‬كام هو الحال مع أفكار ومقاربات املفكرين الكالسيكيني‬
‫والقوميني من ذوي النزعة الوحدوية اإلقليمية‪ ،‬فإن األعامل املقارنة مفيدة عىل نح ٍو‬
‫خاص‪ .‬وبينام َت ُعدُّ كل منطقة نفسها أن لديها مسارات ومقاربات فريدة أو مميزة‪،‬‬
‫أيضا بعض أوجه التشابه بينها‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ُ ،‬ي َعدُّ اتخاذ القرار‬ ‫مثة يف الواقع ً‬
‫باإلجامع مامرس ًة عاملية للمؤسسات اإلقليمية متعددة األطراف‪ ،‬عىل الرغم من أنها‬
‫تكتسب بالفعل أسطورة معينة عن التميز يف سياقات محلية ويجري االعرتاف بها‬
‫وقبولها عىل هذا النحو‪.‬‬

‫‪ - 5‬املحاذير واملخاطر‬
‫مثة بالطبع محاذير ومخاطر مرتبطة بحقل العالقات الدولية العاملي والتي‬
‫تتطلب مزيدًا من االهتامم والنقاش‪ .‬والستدعاء مقولة روبرت كوكس مرة أخرى‬
‫(‪« ،)1981: 128‬النظرية هي دامئًا لشخص ما ولغرض ما»‪ ،‬ملن هو‪ ،‬إذن‪ ،‬حقل‬
‫العالقات الدولية العاملي وألي غرض جاء؟ من بني املخاوف األخرى املتعلقة بحقل‬
‫العالقات الدولية العاملي‪ ،‬فإن ما ييل جدير باملالحظة عىل نح ٍو خاص‪:‬‬
‫‪474‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫‪ -‬خطر الرتكيز حرص ًّيا أو عىل نح ٍو أسايس عىل الدول غري الغربية األقوى واألكرث‬
‫ثرا ًء باملوارد‪ :‬الهند؛ والصني؛ والربازيل؛ وجنوب أفريقيا؛ وتركيا وما إىل ذلك‪ ،‬حيث‬
‫تتقدم أبحاث حقل العالقات الدولية عىل نح ٍو أرسع مع إهامل البلدان األضعف‬
‫يف العامل النامي‪ .‬وظهور املدرسة الصينية لحقل العالقات الدولية لهو ٌ‬
‫مثال شاهدٌ‬
‫عىل هذا االحتامل‪.‬‬
‫‪ -‬إمكانية تكرار األفكار الغربية أو إعادة إنتاجها مع تعديالت طفيفة‪ .‬وقد‬
‫ينتهي األمر بـحقل العالقات الدولية العاملي إىل عوملة نظريات ومفاهيم حقل‬
‫العالقات الدولية التقليدي‪ ،‬عىل الرغم من ملء املحتوى الجديد من خالل جمع‬
‫أيضا تساؤالت بشأن املزاعم االنعتاقية لحقل‬ ‫املفاهيم حول العامل‪ .‬وقد يثري هذا ً‬
‫العالقات الدولية العاملي‪.‬‬
‫‪ -‬صعوبة دراسة جميع األمم والحضارات وقضايا املناطق يف إطار واحد‪ ،‬خاصة‬
‫مع االختالفات الثقافية والسياسية واالقتصادية الكبرية القامئة بني املجتمعات‬
‫واملناطق‪.‬‬
‫‪ -‬خطر جعل حقل العالقات الدولية واس ًعا للغاية‪ ،‬مام يقلل من قيمته التحليلية‬
‫ويجعل بناء النظرية أم ًرا صع ًبا‪.‬‬
‫‪ -‬من خالل التطلع إىل بناء رسدية مشرتكة والسعي إىل إنهاء إقصاء البقية‪ ،‬قد‬
‫يرصف حقل العالقات الدولية العاملي االنتباه عن أشكال االستبعاد األخرى واألكرث‬
‫تحديدًا‪ ،‬مثل الجنس والعرق‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫إن هذه املخاطر ليست بالهينة‪ ،‬وإبقاؤها يف بؤرة الرتكيز من شأنه أن يساعد‬
‫باحثي حقل العالقات الدولية العاملي عىل تجنبها‪.‬‬
‫ومتاش ًيا مع فكرتنا عن التعددية الراسخة‪ ،‬ال نرى حقل العالقات الدولية العاملي‬
‫كمثل االنفجار العظيم ‪big bang‬؛ إذ من املرجح أن ينبض بالحياة خالل العقود‬
‫املقبلة بعد بذل عديد من املجهودات‪ .‬ويتمثل أحد جوانب ظهور هذا الحقل‬
‫العاملي يف الحساسية املتزايدة تجاه الجنوب العاملي املوجودة يف الكتب املدرسية‬
‫الجامعية؛ واألجندة البحثية؛ وبرامج التدريس والتدريب يف البلدان املركزية يف‬
‫الغرب‪ .‬واألهم من ذلك‪ ،‬هو الجهود املبذولة إلنهاء استعامر حقل العالقات الدولية‬
‫يف أماكن مختلفة كانت حتى اآلن محرومة من التعرف عليها ومن اإلدالء بصوتها‪.‬‬
‫‪475‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫يف هذا السياق‪ُ ،‬ت َعدُّ املؤسسات املحلية والرشاكات واملنشورات مهمة جدا‪ .‬والتزال‬
‫منظامت الدراسات الدولية الغربية تسيطر عليها وجهات النظر التقليدية والتزال‬
‫ُتدار من قبل قيادة غربية عىل نح ٍو أسايس‪ ،‬وبعضها فقط ممن يراعي ذلك كان‬
‫قد أبدى تعاطفا مع عامل ما بعد الغرب‪ .‬ومن غري املرجح أن يتغري هذا الوضع‬
‫برسعة‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬ومع استمرار تقدم دراسة العالقات الدولية حول العامل‪،‬‬
‫سيشهد التيار الغريب السائد مقاومة متزايدة ألساطريه التأسيسية ً‬
‫ورفضا لرسدياته‬
‫السائدة‪ .‬وال ُينذر هذا التنوع والتعددية بـ «نهاية حقل العالقات الدولية» باعتباره‬
‫تخصصا أو نظرية‪ ،‬بل يؤسس حقال جديدًا يعتمد عىل مبدأ «العاملية التعددية»‬
‫التي نوقشت سابقا‪ .‬ومقاربة حقل العالقات الدولية العاملي ُمُتثل طريقة مهمة‬
‫للميض ُقد ًما نحو تخصص كان ُينظر إليه تقليد ًّيا عىل أنه «علم اجتامعي أمرييك»‬
‫ُيهمش العامل النامي‪ .‬ونحن نأمل يف أن يوضح هذا الكتاب بقوة تأثري اإلمكانات‬
‫التحويلية للجهود املحلية يف املشهد األكرب لحقل العالقات الدولية العاملي‪.‬‬

‫خالصات‬
‫ليك يصبح عامل ًّيا‪ ،‬يجب عىل حقل العالقات الدولية أن يبذل جهدًا كب ًريا إلعادة‬
‫تأسيس نفسه مرة أخرى‪ .‬وكام أوضحنا‪ ،‬فإن التأسيسني األول والثاين لهذا التخصص‬
‫الحديث حدثا خالل حقبة ذروة الهيمنة الغربية‪ .‬لقد جرى كال التأسيسني األول‬
‫والثاين يف املَ ْر َكز‪ ،‬واشتمال عىل تطورات مؤسسية تركزت عىل نح ٍو رئيس يف الدول‬
‫الناطقة باللغة اإلنجليزية‪ .‬وقد عكست كل من مؤسسات حقل العالقات الدولية‬
‫وموضوعاتها ونظريتها مصالح ووجهات نظر القوى املركزية املهيمنة‪ .‬وهكذا ُش ِّكل‬
‫حقل العالقات الدولية بقوة من خالل كل من قضايا ومامرسات العالقات الدولية‬
‫التي ُحدِّدت إىل حد كبري من قبل القوى الكربى الغربية‪ ،‬ومن خالل رؤية تاريخ‬
‫العامل عىل أساس أنه امتداد للتاريخ األورويب‪ .‬ولإلجابة عن سؤال روبرت كوكس الذي‬
‫ُأثري يف القسم السابق‪ ،‬فقد ُص ِّمم حقل العالقات الدولية عىل نح ٍو مؤسيس ونظري‬
‫ومن حيث نظرته إىل التاريخ من ِق َبل دول املَ ْر َكز وألجلها‪ .‬فمنذ تأسيسه‪ ،‬عكس‬
‫هذا التخصص املعريف‪ ،‬واليزال‪ ،‬السياق الذي وضعته تلك البلدان‪ ،‬والذي متظهر يف‬
‫مجتمع دويل عاملي استعامري وشبه استعامري ُم َؤسس عىل ثنائية املَ ْر َكز ‪ -‬األَ ْط َراف‬
‫‪476‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫شديدة الفصل‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن منظورات واهتاممات دول املَ ْر َكز متجذرة بعمق يف‬
‫هذا التخصص‪ .‬إن قول هذا ال يعني إجراء نقد معياري بقدر ما هو مالحظة تاريخية‬
‫وبنيوية‪ .‬ويف ظل ظروف تأسيسه‪ ،‬كان سيكون من املدهش أن يتخذ حقل العالقات‬
‫الدولية منذ نشأته ً‬
‫شكاًل عامل ًّيا حقيق ًّيا باملعنى الذي نطلق عليه هنا‪ .‬وبالنسبة إىل‬
‫حقل العالقات الدولية‪ ،‬ليس من املستغرب أن يعكس التخصص األكادميي الظروف‬
‫االجتامعية املحيطة به‪ ،‬خاصة خالل مراحل تكوينه‪ .‬ولذا‪ ،‬فإن النقطة ال تكمن يف‬
‫نقد مايض هذا الحقل املعريف‪ ،‬بقدر ما تكمن يف اإلشارة إىل املكان الذي يجب أن‬
‫ينتقل إليه انطالقا من هنا‪ ،‬وذلك من أجل الخروج من خصوصيات تأسيسه‪.‬‬
‫لقد كانت موضوعاتنا الرئيسة يف هذا الكتاب هي إضفاء الطابع املؤسيس‬
‫أيضا باسم «التفكري يف العالقات الدولية») والتاريخ‪ ،‬وميكننا‬ ‫والنظرية (ويعرف ً‬
‫تلخيصها والتطلع إىل األمام ضمن هذه املصطلحات‪.‬‬
‫وكام أوضحنا يف الفصول السابقة‪ ،‬فإن عملية إضفاء الطابع املؤسيس عىل حقل‬
‫العالقات الدولية عىل مدى عدة عقود حتى اآلن مل تنرش التخصص خارج املَ ْر َكز‬
‫أيضا شبكات وهياكل عاملية حقيقية‪ .‬لقد نجحت هذه التطورات‬ ‫فقط‪ ،‬بل بنت ً‬
‫يف تآكل الفصل املبكر لـحقل العالقات الدولية الخاص باألَ ْط َراف عن ذلك املوجود‬
‫يف املَ ْر َكز‪ .‬وهناك الكثري مام يجب فعله قبل فعل أي يشء‪ ،‬مثل تكافؤ الفرص يف‬
‫جميع أنحاء العامل‪ ،‬ب ْيد أن تطورات حقل العالقات الدولية يف الصني وتركيا وأمريكا‬
‫رحب بهذه التطورات‬ ‫الالتينية وأماكن أخرى تتحرك يف االتجاه الصحيح‪ .‬حيث ُي َّ‬
‫املؤسسية عىل نح ٍو عام‪ ،‬ودعمها إىل حد ما‪ ،‬من قبل مجتمعات حقل العالقات‬
‫الدولية يف املَ ْر َكز‪ ،‬وقد ُد ِمجت يف املؤسسات العاملية‪ ،‬و ُينظر إليها عمو ًما عىل أنها‬
‫فرصة لتوسيع التخصص أكرث من كونها متثل أي نوع من التهديد‪ .‬من الناحية‬
‫سلسا نسب ًّيا‪ ،‬عىل‬
‫املؤسسية‪ ،‬يبدو الطريق نحو حقل العالقات الدولية العاملي ً‬
‫رغم أنه طويل‪ .‬ورمبا تكون العقبة الرئيسة هي كيفية الجمع بني مجتمعات حقل‬
‫العالقات الدولية يف الدول االستبدادية ‪ -‬حيث ُتخرتَق املنظامت األكادميية عىل‬
‫نح ٍو كبري من ِقبل الحكومات ‪ -‬مع املنظامت املوجودة يف الدول الدميوقراطية التي‬
‫تتمتع بقدر أكرب من االستقالل الذايت باعتبارها منظامت عضوية مستقلة‪ .‬وتعد‬
‫الصني هي النموذج الحايل الواضح لهذه اإلشكالية‪.‬‬
‫‪477‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫إن القصة مع نظرية العالقات الدولية تشبه إىل حد ما قصة املؤسسات‪ .‬لقد‬
‫فتحت دول األطراف نفسها أمام بعض التنظري املتأيت من دول املركز‪ ،‬بينام يف‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬أتاحت دول املركز بعض املجال لتفكري ما بعد االستعامرية‪ .‬ومرة‬
‫أخرى‪ ،‬فالوضع ال يكاد يكون وضعا متواز ًنا‪ ،‬وهناك الكثري للنهوض به‪ .‬لقد وجدت‬
‫نظرية ما بعد االستعامرية‪ ،‬جن ًبا إىل جنب مع النظريات النقدية األخرى‪ ،‬مكانة‬
‫هامشية داخل حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز‪ .‬وهذا التهميش م َّثل مصدر شكوى‪،‬‬
‫أيضا كان عالمة عىل التقدم حتى أنه ُأ ِّسس االعرتاف مبكانته‪ .‬والتزال الجهود‬
‫لكنه ً‬
‫املبذولة يف الصني وأماكن أخرى إلقحام تاريخها ونظرياتها السياسية ضمن التخصص‬
‫يف مرحلة مبكرة‪ ،‬وهي موضع ترحيب عىل نح ٍو عام‪ .‬أما فيام يتعلق مبا إذا كان‬
‫ُينظر إىل مثل هذه التطورات أو س ُينظر إليها عىل أنها تهديد‪ ،‬فهو سؤال مثري‬
‫لالهتامم ويصعب الرد عليه أكرث مام هو عليه الحال يف قضية املأسسة‪ .‬قد ينظر‬
‫البعض إىل ما بعد االستعامرية عىل أنها تهديد‪ ،‬سواء عىل أساس «العلم» أو بسبب‬
‫الحمل السيايس الذي يحمله عديد من مؤيديها‪ .‬لكن هذا ال مييزها بقوة عن‬
‫خطوط التفكري األخرى للنظرية النقدية‪ ،‬حيث تكون التوترات والخالفات قامئة إىل‬
‫حد كبري داخل املَ ْر َكز‪ .‬وكمثل ما بعد االستعامرية‪ ،‬يأيت عديد من هؤالء ً‬
‫أيضا مع‬
‫حموالت سياسية وطبقة سميكة من املصطلحات اللغوية الذاتية والصياغة التي‬
‫يصعب عىل الغرباء اخرتاقها‪ .‬ومرة أخرى‪ ،‬تسري تلك التوجهات يف االتجاه الصحيح‬
‫نحو وجود حقل عالقات دولية أكرث عاملية‪ ،‬لكن الطريق أمامنا طويل ووعر‪ ،‬وقد‬
‫يكون صخر ًّيا يف بعض األماكن‪ .‬فقد صار حقل العالقات الدولية يف املركز متنوعًا من‬
‫الناحية النظرية‪ ،‬ولذا فإن هذا الباب يظل مفتوح نسب ًّيا ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫رمبا تشكل مسألة التاريخ أعمق وأصعب عقبة أمام حقل العالقات الدولية‬
‫العاملي‪ .‬فهو ال يحتاج إىل الخروج من «سجن علم السياسة» فقط ‪(Rosenberg,‬‬
‫أيضا إىل الخروج من ضيق نظرته للتاريخ املبنية عىل املركزية‬ ‫)‪ ،2016‬ولكن يحتاج ً‬
‫األوروبية‪ .‬سيكون من األمور الحاسمة يف اتخاذ هذه الخطوة الكبرية التساؤل‬
‫القوي عن األسطورة القوية القائلة بأنه نظ ًرا إىل أن التاريخ الغريب أصبح املحرك‬
‫الرئيس لتاريخ العامل خالل القرنني التاسع عرش والعرشين‪ ،‬فمن املربر قراءة كل من‬
‫املستقبل واملايض البعيد من خالل تلك العدسة‪ .‬من الواضح أن حجة قراءة املايض‬
‫‪478‬‬
‫نحو حقل عالقات دولية عاملي‬

‫ماقبل الحدايث مبصطلحات مركزية أوروبية هي حجة ضعيفة عىل نح ٍو واضح‪ ،‬لكنها‬
‫مع ذلك ُت َعدُّ حجة راسخة بقوة‪ .‬ونظ ًرا إىل التأثري االستثنايئ للغرب يف إنشاء أول‬
‫مجتمع دويل عاملي حديث‪ ،‬فهناك مزيد مام ميكن قوله إلعطاء املركزية األوروبية‬
‫مهاًم يف التفكري بشأن املستقبل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وكام ناقشنا يف الفصل التاسع‪ ،‬يف‬ ‫دو ًرا ً‬
‫عامل تسوده التعددية العميقة‪ ،‬فإن التعددية الثقافية املدعومة بالرثوة والقوة تعيد‬
‫تشكيل املجتمع الدويل العاملي برسعة‪ .‬إن أسطورة الغائية الليربالية العاملية تفسح‬
‫املجال ليشء أكرث انتشا ًرا‪ .‬ستعيد التعددية العميقة تشكيل املجتمع الدويل العاملي‬
‫بطرق مهمة للغاية‪ .‬لكن التعددية العميقة نفسها ستظل تتشكل إىل حد كبري‬
‫من خالل اإلرث الغريب‪ .‬وللتعامل مع هذا التحول‪ ،‬ال يريد حقل العالقات الدولية‬
‫يب عن نظره التاريخ الغريب‪ ،‬ولكنه يحتاج إىل ترسيخ هذا التاريخ‬ ‫العاملي أن ُي َغ َ‬
‫املعني ضمن منظور تاريخي أعمق للعامل‪ .‬وكام ذكرنا سابقا‪ ،‬يحتاج حقل العالقات‬
‫الدولية العاملي إىل تجسيد التعددية العاملية وأن يرتكز عىل تاريخ عاملي حقيقي‪.‬‬
‫إن ما يظهر كحقيقة للعامل هو‪ ،‬من ناحية‪ ،‬توليفة جديدة بني تعدد الحضارات‬
‫والثقافات التي هي إرث املايض العميق للبرشية‪ ،‬وهو‪ ،‬من ناحية أخرى‪ ،‬حالة‬
‫الحداثة والرتابط والعوملة التي هي إرث الحداثة والهيمنة الغربية خالل القرنني‬
‫التاسع عرش والعرشين‪ .‬فقط عندما يكون حقل العالقات الدولية قاد ًرا عىل‬
‫توسيع منظوره التاريخي‪ ،‬سيكون يف وضع يسمح له بفهم والتنظري لهذا التوليف‬
‫العاملي رسيع االنتشار بني الثقافة والحداثة‪ .‬إن أسباب التفاؤل بشأن تحطيم هذا‬
‫الرتكيز املتجذر بعمق عىل التاريخ الغريب هو‪ ،‬وكام جادلنا يف هذا الكتاب‪ ،‬بسبب‬
‫كون حقل العالقات الدولية ظل دامئًا نظا ًما مر ًنا وقاد ًرا عىل التكيف برسعة مع‬
‫التغيريات التي قدمها موضوعه املضطرب‪ .‬وكام أوضحنا‪ ،‬فإن تطور حقل العالقات‬
‫نواح عديدة أحداث وهياكل مامرسة العالقات الدولية عرب عدة‬ ‫الدولية قد اتبع من ٍ‬
‫فرتات‪ .‬ومع اقرتاب هذه الحقبة الغريبة من الهيمنة الغربية الضيقة عىل املجتمع‬
‫الدويل العاملي من نهايتها‪ ،‬يحتاج حقل العالقات الدولية اآلن إىل أداء هذه الحيلة‬
‫مرة أخرى‪ .‬لقد خدم حقل العالقات الدولية بالفعل وتكيف مع حقبتني متميزتني‬
‫للم ْج َت َمع الدُ َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري‬ ‫للعالقات الدولية كمامرسة‪ :‬الصيغة ُ‬
‫األ َ‬
‫وىَل ُ‬
‫للم ْج َت َم ِع ال َد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي بني‬ ‫وىَل ا ُمل َعدلة ُ‬ ‫ال َغ ْر ِيِب حتى العام ‪ ،1945‬والصيغة ُ‬
‫األ َ‬

‫‪479‬‬
‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬

‫العامني ‪ 1945‬و‪ 2008‬تقري ًبا‪ .‬واآلن الصيغة الثانية للمجتمع الدويل العاملي آخذة‬
‫يف الظهور برسعة‪ .‬ستكون الصيغة الثانية للمجتمع الدويل العاملي مابعد الغربية؛‬
‫خروجا كب ًريا‬
‫ً‬ ‫مبعنى أن الغرب مل يعد هو من يحدد املركزية الرائدة‪ ،‬ومن ثم سيكون‬
‫جدًا عن الرشوط التي حددت حقل العالقات الدولية منذ نشأته‪ .‬وستكون صيغةً‬
‫تعددي ًة عميق ًة؛ مبعنى وجود عدة مراكز رئيسة للرثوة والقوة والسلطة الثقافية‪،‬‬
‫بعضها جديد وبعضها قديم‪ .‬لقد أصبح العامل ح ًقا واحدًا مرة أخرى‪ ،‬ليس فقط‬
‫باملعنى الذي تفهمه عادة «العوملة»‪ ،‬ولكن مبعنى أن الحداثة أصبحت يف آن واحد‬
‫متعددة الثقافات‪ ،‬وقامئة عىل النوع البرشي عىل نطاق واسع‪ ،‬وال متثل فقط امتيا ًزا‬
‫السرْي مع هذا التدفق‪،‬‬
‫ألقلية صغرية‪ .‬إن حقل العالقات الدولية العاملي يحتاج إىل ْ‬
‫واالستمرار يف تقدمه الذي ال يستهان به بالفعل نحو إقحام تفكري كل من املَ ْركزَ‬
‫واألَ ْط َراف بشأن العالقات الدولية ضمن إطار مؤسيس نظري وتاريخي وعاملي واحد‪.‬‬

‫‪480‬‬
‫ببليوغرافيا‬
Withe
‫ببليوغرافيا‬
Abdulghani, Roeslan (1964) The Bandung Spirit, Jakarta: Prapantja.
Abernathy, David B. (2000) The Dynamics of Global Dominance, New Haven,
CT: Yale University Press.
Acharya, Amitav (1996) ‘The Periphery As the Core: The Third World and
Security Studies’, in Keith Krause and Michael Williams (eds.), Critical
Security Studies, Minneapolis: University of Minnesota Press, 299–327.
(2000) ‘Ethnocentrism and Emancipatory IR Theory’, in Samantha Arnold
and J. Marshall Bier (eds.), (Dis)placing Security: Critical Re-evaluations of the
Boundaries of Security Studies, Toronto: Centre for International and Security
Studies, York University, 1–18.
(2001a) Constructing a Security Community in Southeast Asia: ASEAN and the
Problem of Regional Order, London: Routledge.
(2001b) ‘Human Security: East versus West’, International Journal, 56:3,
442–60.
(2004) ‘How Ideas Spread: Whose Norms Matter? Norm Localization and
Institutional Change in Asian Regionalism’, International Organization, 58:2,
239–75.
(2009) Whose Ideas Matter? Agency and Power in Asian Regionalism, Ithaca, NY:
Cornell University Press.
(2011a) ‘Dialogue and Discovery: In Search of International Relations
Theories Beyond the West’, Millennium, 39:3, 619–37.
(2011b) ‘Norm Subsidiarity and Regional Orders: Sovereignty, Regionalism,
and Rule-making in the Third World’, International Studies Quarterly, 55:1,
95–123.
(2013a) ‘Imagining Global IR Out of India’, Keynote speech to Annual
International Studies Conference, 10–12 December, Jawaharlal Nehru
University, New Delhi, India.
(2013b) ‘The R2P and Norm Diffusion: Towards a Framework of Norm
Circulation’, Global Responsibility to Protect, 5:4, 466–79.
(2014a) ‘Global International Relations (IR) and Regional Worlds: A New
Agenda for International Studies’, International Studies Quarterly, 58:4,
322 647–59.
(2014b) The End of American World Order, Cambridge: Polity Press.
(2014c) ‘International Relations: A Dying Discipline’, World Policy Blog, 2
May, www.worldpolicy.org/blog/2014/05/02/international-studies-dying-
322 discipline
References
(Accessed 27 May 2018).
(2014d) ‘International Relations Theory and the Rise of Asia’, in Saadia
Pekkanen, John Ravenhill and Rosemary Foot (eds.), The Oxford Handbook 321
of
the International Relations of Asia, Oxford: Oxford University Press, 120–37.
(2015) ‘Identity without Exceptionalism: Challenges for Asian Political
and International Studies’, Asian Political and International Studies Review
1, 1–11.
(2016) ‘Idea-shift: How Ideas from the Rest Are Reshaping Global Order’,
Third World Quarterly, 37:7, 1156–70.
(2017) East of India, South of China: Sino-Indian Encounters in Southeast Asia,
New Delhi: Oxford University Press.
(2018) Constructing Global Order: Agency and Change in World Politics,
Cambridge: Cambridge University Press.
Acharya, Amitav and Barry Buzan (2007a) ‘Why Is There No Non-Western
International Relations Theory? An Introduction’, International Relations of
the Asia-Pacific, 7:3, 287–312.
(eds.) (2007b) ‘Why Is There No Non-Western International Relations Theory?
Reflections on and from Asia’, International Relations of the Asia-Pacific,
483 special issue, 7:3, 285–470.
(eds.) (2010) Non-Western International Relations Theory: Perspectives on and
beyond Asia, London: Routledge.
(2017) ‘Why Is There No Non-Western International Relations Theory? Ten
Years On’, International Relations of the Asia-Pacific, 17:3, 341–70.
Third World Quarterly, 37:7, 1156–70.
(2017) East of India, South of China: Sino-Indian Encounters in Southeast Asia,
New Delhi: Oxford University Press.
(2018) Constructing Global Order: Agency and Change in World Politics,
Cambridge: Cambridge University Press.
Acharya, Amitav and Barry Buzan (2007a) ‘Why Is There No Non-Western
International Relations Theory? An Introduction
‫العاملية‬’, International Relations
‫العالقات الدولية‬ ‫تشكيل‬ of
the Asia-Pacific, 7:3, 287–312.
(eds.) (2007b) ‘Why Is There No Non-Western International Relations Theory?
Reflections on and from Asia’, International Relations of the Asia-Pacific,
special issue, 7:3, 285–470.
(eds.) (2010) Non-Western International Relations Theory: Perspectives on and
beyond Asia, London: Routledge.
(2017) ‘Why Is There No Non-Western International Relations Theory? Ten
Years On’, International Relations of the Asia-Pacific, 17:3, 341–70.
Acharya, Amitav and Alastair Iain Johnston (eds.) (2007) Crafting Cooperation:
Regional International Institutions in Comparative Perspective, Cambridge:
Cambridge University Press.
Adachi, Mineichiro and Charles De Visscher (1923) ‘Examen de l’organisation
et des statuts de la Société des Nations’, Annuaire de l’Institut de droit inter-
national, 30, 22–64.
Adebajo, Adekeye and Chris Landsberg (2001) ‘The Heirs of Nkrumah: Africa’s
New Interventionists’, Pugwash Occasional Papers, 2:1, 17 pp.
Adem, Seifudein (2017) ‘Was Ali Mazrui Ahead of His Time’, in Kimani Njogu
and Seifudein Adem (eds.), Perspectives on Culture and Globalization: The
Intellectual Legacy of Ali A. Mazrui, Nairobi: Twaweza Communications,
243–59.
Adler, Emanuel (1997) ‘Seizing the Middle Ground: Constructivism in World
Politics’, European Journal of International Relations, 3:3, 319–63.
Adler, Emanuel and Michael Barnett (eds.) (1998) Security Communities,
Cambridge: Cambridge University Press.
Agathangelou, Anna M. and L. H. M. Ling (2004) ‘The House of IR: From
Family Power Politics to the Poisies of Worldism’, International Studies
Review, 6:4, 21–49.
(2009) Transforming World Politics: From Empire to Multiple Worlds, London:
Routledge.
323 Ahmad, Aijaz (1997) ‘Postcolonial Theory and the “Post-” Condition’, in Leo
Panitch (ed.), Ruthless Criticism of All that Exists, The Socialist Register 1997,
London: Merlin Press, 353–81.
Ahrari, M. Ehsan (2001) ‘Iran, China and Russia: The Emerging Anti-US
Nexus?References
’, Security Dialogue, 32:4, 453–66. 323

Alagappa, Muthiah (2011) ‘International Relations Studies in Asia:


Distinctive Trajectories’, International Relations of the Asia-Pacific, 11:2,
193–230.
Albert, Mathias and Barry Buzan (2017) ‘On the Subject Matter of International
Relations’, Review of International Studies, 43:5, 898–917.
Allinson, Jamie C. and Alexander Anievas (2010) ‘The Uneven and Combined
Development of the Meiji Restoration: A Passive Revolutionary Road to
Capitalist Modernity’, Capital & Class, 34:3, 469–90.
Ambrosio, Thomas (2001) ‘Russia’s Quest for Multipolarity: A Response to US
Foreign Policy’, European Security, 10:1, 45–67.
Amin, Samir (1972) ‘Underdevelopment and Dependence in Black Africa:
Origins and Contemporary Forms’, Journal of Modern African Studies, 10:4,
503–24.
Anderson, Benedict (2006) Imagined Communities: Reflections on the Origin and
Spread of Nationalism, London: Verso.
Angell, Norman (1909) The Great Illusion (Original title: Europe’s Optical
Illusion), London: Simpkin, Marshall, Hamilton, Kent & Co.
Aning, Kwesi and Fiifi Edu-Afful (2016) ‘African Agency in R2P: Interventions
by African Union and ECOWAS in Mali, Cote D’ivoire, and Libya’,
International Studies Review, 18:1, 120–33.
Antonius, George ([1938] 2001) The Arab Awakening: The Story of the Arab 484
National Movement, London: Routledge.
Appadorai, A. (1979) ‘The Asian Relations Conference in Perspective’, Inter-
national Studies, 18:3, 275–85.
Ariga, Nagao (1896) La guerre sino-japonaise au point de vue du droit international,
Foreign Policy’, European Security, 10:1, 45–67.
Amin, Samir (1972) ‘Underdevelopment and Dependence in Black Africa:
Origins and Contemporary Forms’, Journal of Modern African Studies, 10:4,
503–24.
Anderson, Benedict (2006) Imagined Communities: Reflections on the Origin and
Spread of Nationalism, London: Verso.
Angell, Norman (1909) The Great Illusion (Original title: Europe’s Optical
‫ببليوغرافيا‬
Illusion), London: Simpkin, Marshall, Hamilton, Kent & Co.
Aning, Kwesi and Fiifi Edu-Afful (2016) ‘African Agency in R2P: Interventions
by African Union and ECOWAS in Mali, Cote D’ivoire, and Libya’,
International Studies Review, 18:1, 120–33.
Antonius, George ([1938] 2001) The Arab Awakening: The Story of the Arab
National Movement, London: Routledge.
Appadorai, A. (1979) ‘The Asian Relations Conference in Perspective’, Inter-
national Studies, 18:3, 275–85.
Ariga, Nagao (1896) La guerre sino-japonaise au point de vue du droit international,
Paris: A. Pedone.
Armstrong, David (1998) ‘Globalization and the Social State’, Review of
International Studies, 24:4, 461–78.
Ashley, Richard K. (1980) The Political Economy ofWar and Peace, London: Frances
Pinter.
(1996) ‘The Achievements of Poststructuralism’, in Steve Smith, Ken Booth
and Marysia Zalewski (eds.), International Theory: Positivism and Beyond,
Cambridge: Cambridge University Press, 240–53.
Ashworth, Lucian M. (2002) ‘Did the Realist–Idealist Great Debate Really
Happen? A Revisionist History of International Relations’, International
Relations, 16:1, 33–51.
(2008) ‘Feminism, War and the Prospects of International Government –
Helena Swanwick and the Lost Feminists of Interwar International
Relations’, Limerick Papers in Politics and Public Administration, 2, 18 pp.
(2013) ‘Mapping a New World: Geography and the Interwar Study of Inter-
national Relations’, International Studies Quarterly, 57:1, 138–49.
(2014) A History of International Thought: From the Origins of the Modern State
to Academic International Relations, London: Routledge.
324
(2017) ‘Women of the Twenty Years Crisis: The Women’s International League
for Peace and Freedom (WILPF) and the Problem of Collective Security’,
Paper for the BISA Conference, Brighton, 14–16 June.
Ashworth, William (1975) A Short History of the International Economy since 1850,
324 3rd edn.,
References
London: Longman.

Axline, W. Andrew (1977) ‘Underdevelopment, Dependence, and Integration:


The Politics of Regionalism in the Third World’, International Organization,
31:1, 83–105.
Aydin, Cemil (2007) The Politics of Anti-Westernism in Asia, New York: Columbia
University Press.
Aydinli, Ersel and Julie Mathews (2008) ‘Periphery Theorising for a Truly
Internationalised Discipline: Spinning IR Theory out of Anatolia’, Review of
International Studies, 34:4, 693–712.
(2009) ‘Turkey: Towards Homegrown Theorizing and Building a Disciplinary
Community’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International
Relations Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 208–22.
Ayoob, Mohammed (1984) ‘Security in the Third World: The Worm about to
Turn’, International Affairs, 60:1, 41–51.
(1986) ‘Regional Security and the Third World’, in Mohammed Ayoob (ed.),
Regional Security in the Third World: Case Studies from Southeast Asia and the
Middle East, London: Croom Helm, 3–27.
(1991) ‘The Security Problematic of the Third World’, World Politics, 43:2,
257–83.
(1995) The Third World Security Predicament: State Making, Regional Conflict,
and the International System, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Azar, Edward and Chung-in Moon (eds.) (1988) National Security in the Third
485 World, Aldershot: Edward Elgar.
Bailey, S. H. (1932) The Framework of International Society, London: Longmans,
Green, and Co.
Bairoch, Paul (1981) ‘The Main Trends in National Economic Disparities since
the Industrial Revolution’, in Paul Bairoch and Maurice Lévy-Leboyer
Ayoob, Mohammed (1984) ‘Security in the Third World: The Worm about to
Turn’, International Affairs, 60:1, 41–51.
(1986) ‘Regional Security and the Third World’, in Mohammed Ayoob (ed.),
Regional Security in the Third World: Case Studies from Southeast Asia and the
Middle East, London: Croom Helm, 3–27.
(1991) ‘The Security Problematic of the Third World’, World Politics, 43:2,
257–83. ‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬
(1995) The Third World Security Predicament: State Making, Regional Conflict,
and the International System, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Azar, Edward and Chung-in Moon (eds.) (1988) National Security in the Third
World, Aldershot: Edward Elgar.
Bailey, S. H. (1932) The Framework of International Society, London: Longmans,
Green, and Co.
Bairoch, Paul (1981) ‘The Main Trends in National Economic Disparities since
the Industrial Revolution’, in Paul Bairoch and Maurice Lévy-Leboyer
(eds.), Disparities in Economic Development since the Industrial Revolution,
London: Macmillan, 3–17.
(1982) ‘International Industrialization Levels from 1750–1980’, Journal of
European Economic History, 11:2, 269–333.
Baldwin, David (ed.) (1993) Neorealism and Neoliberalism: The Contemporary
Debate, New York: Columbia University Press.
Baldwin, Richard (2016) The Great Convergence, Cambridge, MA: Belknap Press.
Banks, Michael (1985) ‘The Inter-Paradigm Debate’, in Margot Light and John
R. Groom (eds.), International Relations: A Handbook of Current Theory,
London: Frances Pinter, 7–26.
Barkawi, Tarak and Mark Laffey (eds.) (2001) Democracy, Liberalism, and
War: Rethinking the Democratic Peace Debate, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Barkin, J. Samuel (1998) ‘The Evolution of the Constitution of Sovereignty and
the Emergence of Human Rights Norms’, Millennium, 27:2, 229–52.
(2010) Realist Constructivism: Rethinking International Relations Theory,
Cambridge: Cambridge University Press.
325 Barnett, Michael (1995) ‘Sovereignty, Nationalism, and Regional Order in the
Arab States System’, International Organization, 49:3, 479–510.
(1998) Dialogues in Arab Politics, New York: Columbia University Press.
Barone, Charles A. (1985) Marxist Thought on Imperialism: Survey and Critique,
References
Armonk, NY: M. E. Sharpe. 325

Batabyal, Rakesh (2015) JNU: The Making of a University, New Delhi: Harper
Collins.
Bayly, Martin J. (2017a) ‘Imagining New Worlds: Forging “Non-Western”
International Relations in Late Colonial India’, British Academy Review,
30, 50–3.
(2017b) ‘Global at Birth: The Multiple Beginnings of International Relations’,
Unpublished manuscript, 28 pp.
Bayly, Susan (2004) ‘Imagining “Greater India”: French and Indian Visions of
Colonialism in the Indic Mode’, Modern Asian Studies, 38:3, 703–44.
Behera, Navnita Chadha (2007) ‘Re-imagining IR in India’, International
Relations of the Asia-Pacific, 7:3, 341–68.
(2009) ‘South Asia: A “Realist” Past and Alternative Futures’, in Arlene B.
Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the
World, Abingdon: Routledge, 134–57.
(2010) ‘Re-imagining IR in India’, in Amitav Acharya and Barry Buzan (eds.),
Non-Western International Relations Theory: Perspectives on and beyond Asia,
London: Routledge, 92–116.
Belich, James (2009) Replenishing the Earth: The Settler Revolution and the Rise of
the Anglo-World, 1783–1939, New York: Oxford University Press.
Bell, Duncan (2007) The Idea of Greater Britain: Empire and the Future of World
Order, 1860–1900, Princeton: Princeton University Press.
(2013) ‘Race and International Relations: Introduction’, Cambridge Review of
International Affairs, 26:1, 1–4.
Bell, Sydney Smith (1859) Colonial Administration of Great Britain, London:
Longman, Brown, Green, Longmans and Roberts.
Benedick, Richard E. (1991) Ozone Diplomacy: New Directions in Safeguarding the486
Planet, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Bernal-Meza, Raúl (2016) ‘Contemporary Latin American Thinking on
International Relations: Theoretical, Conceptual and Methodological
Contributions’, Revista Brasileira de Politica Internacional, 59:1, 1–32.
Non-Western International Relations Theory: Perspectives on and beyond Asia,
London: Routledge, 92–116.
Belich, James (2009) Replenishing the Earth: The Settler Revolution and the Rise of
the Anglo-World, 1783–1939, New York: Oxford University Press.
Bell, Duncan (2007) The Idea of Greater Britain: Empire and the Future of World
Order, 1860–1900, Princeton: Princeton University Press.
(2013) ‘Race and International Relations: Introduction’, Cambridge Review of
‫ببليوغرافيا‬
International Affairs, 26:1, 1–4.
Bell, Sydney Smith (1859) Colonial Administration of Great Britain, London:
Longman, Brown, Green, Longmans and Roberts.
Benedick, Richard E. (1991) Ozone Diplomacy: New Directions in Safeguarding the
Planet, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Bernal-Meza, Raúl (2016) ‘Contemporary Latin American Thinking on
International Relations: Theoretical, Conceptual and Methodological
Contributions’, Revista Brasileira de Politica Internacional, 59:1, 1–32.
Bertucci, Mariano E., Jarrod Hayes and Patrick James (2018) ‘Constructivism
in International Relations: The Story So Far’, in Patrick James, Mariano E.
Bertucci and Jarrod Hayes (eds.), Constructivism Reconsidered: Past, Present
and Future, Ann Arbor, MI: University of Michigan Press, 15–31.
The Bhagavad-Gita (1986) Translated by Barbara Stoler Miller, New York:
Bantam Dell.
Biersteker, Thomas (2009) ‘The Parochialism of Hegemony: Challenges for
“American” International Relations’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver
(eds.), International Relations Scholarship around the World, Abingdon:
Routledge, 308–27.
Bilgin, Pinar (2004a) Regional Security in the Middle East: A Critical Perspective,
London: Routledge.
326
(2004b) ‘International Politics of Women’s (In)security: Rejoinder to Mary
Caprioli’, Security Dialogue, 35:4, 499–504.
(2008) ‘Thinking Past “Western” IR?’, Third World Quarterly, 29:1, 5–23.
(2013) References
326 ‘Pinar Bilgin on Non-Western IR, Hybridity, and the One-
Toothed Monster called Civilization’, Theory Talks (forum), 20 December,
www.files.ethz.ch/isn/175508/Theory%20Talk61_Bilgin.pdf (Accessed 23
September 2016).
Bischoff , Paul-Henri, Kwesi Aning and Amitav Acharya (2016) ‘Africa in Global
International Relations: Emerging Approaches to Theory and Practice, an
Introduction’, in Paul-Henri Bischoff , Kwesi Aning and Amitav Acharya
(eds.), Africa in Global International Relations: Emerging Approaches to Theory
and Practice, London: Routledge, 1–21.
Bloch, Ivan (1898) La Guerre Future (English title: Is War Now Impossible?)
Paris: Guillaumin et C. Editeurs.
Booth, Ken (1975) ‘The Evolution of Strategic Thinking’, in John Baylis, Ken
Booth, John Garnett and Phil Williams, Contemporary Strategy: Theories and
Policies, London: Croom Helm, 22–49.
(1996) ‘75 Years On: Rewriting the Subject’s Past – Reinventing its Future’,
in Steve Smith, Ken Booth and Marysia Zalewski (eds.), International
Theory: Positivism and Beyond, Cambridge: Cambridge University Press,
328–39.
Bostrum, Nick (2014) Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies, Oxford: Oxford
University Press.
Bostrum, Nick and Milan M. Ćirkovic ́ (eds.) (2008) Global Catastrophic Risks,
Oxford: Oxford University Press.
Bouchet, Nicolas (2013) ‘Bill Clinton’, in Michael Cox, Timothy J. Lynch and
Nicolas Bouchet (eds.), US Foreign Policy and Democracy Promotion: From
Theodore Roosevelt to Barack Obama, Abingdon: Routledge, 159–77.
Bowden, Brett (2009) The Empire of Civilization: The Evolution of an Imperial
Idea, Kindle edn, Chicago: University of Chicago Press.
Bowman, Isaiah (1921) The New World: Problems in Political Geography, Yonkers-
on-Hudson, NY: World Book Company.
Brewin, Christopher (1995) ‘Arnold Toynbee, Chatham House, and Research in
a Global Context’, in David Long and Peter Wilson (eds.), Thinkers of the
Twenty Years’ Crisis: Inter-War Idealism Reassessed, Oxford: Clarendon Press,
487 277–301.
Bridgman, Raymond L. (1905) World Organization, Boston: Ginn & Co.
Brodie, Bernard (1946) The Absolute Weapon: Atomic Power and World Order,
New York: Harcourt Brace.
Brown, Michael E., Sean M. Lynn-Jones and Steven E. Miller (1996) Debating
Bouchet, Nicolas (2013) ‘Bill Clinton’, in Michael Cox, Timothy J. Lynch and
Nicolas Bouchet (eds.), US Foreign Policy and Democracy Promotion: From
Theodore Roosevelt to Barack Obama, Abingdon: Routledge, 159–77.
Bowden, Brett (2009) The Empire of Civilization: The Evolution of an Imperial
Idea, Kindle edn, Chicago: University of Chicago Press.
Bowman, Isaiah (1921) The New World: Problems in Political Geography, Yonkers-
on-Hudson, NY: World Book Company. ‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬
Brewin, Christopher (1995) ‘Arnold Toynbee, Chatham House, and Research in
a Global Context’, in David Long and Peter Wilson (eds.), Thinkers of the
Twenty Years’ Crisis: Inter-War Idealism Reassessed, Oxford: Clarendon Press,
277–301.
Bridgman, Raymond L. (1905) World Organization, Boston: Ginn & Co.
Brodie, Bernard (1946) The Absolute Weapon: Atomic Power and World Order,
New York: Harcourt Brace.
Brown, Michael E., Sean M. Lynn-Jones and Steven E. Miller (1996) Debating
the Democratic Peace, Cambridge, MA: MIT Press.
Brown, Philip Marshall (1923) International Society: Its Nature and Interests,
New York: Macmillan Company.
Brown, William (2012) ‘A Question of Agency: Africa in International Politics’,
Third World Quarterly, 33:10, 1889–908.
Brownlie, Ian ([1966] 1998) Principles of Public International Law, New York:
Oxford University Press.
Brynjolfsson, Eric and Andrew McAfee (2014) The Second Machine Age: Work,
327
Progress and Prosperity in a Time of Brilliant Technologies, New York: W.
W. Norton.
Buell, Raymond Leslie (1925) International Relations, New York: Henry Holt.
, Nikolai (1916) Imperialism and World Economy, London: Martin
BukharinReferences 327
Lawrence.
Bull, Hedley (1966) ‘International Theory: The Case for a Classical Approach’,
World Politics, 18:3, 361–77.
(1977) The Anarchical Society: A Study of Order in World Politics, London:
Macmillan.
(1984) ‘The Revolt against the West’, in Hedley Bull and Adam Watson (eds.),
The Expansion of International Society, Oxford: Oxford University Press,
217–28.
Bull, Hedley and Adam Watson (1984a) ‘Introduction’, in Hedley Bull and
Adam Watson (eds.), The Expansion of International Society, Oxford: Oxford
University Press, 1–9.
(eds.) (1984b) The Expansion of International Society, Oxford: Oxford University
Press.
Burchill, Scott and Andrew Linklater (2013) ‘Introduction’, in Scott Burchill,
Andrew Linklater, Richard Devetak, Jack Donnelly, Terry Nardin,
Matthew Paterson, Christian Reus-Smit and Jacqui True (eds.), Theories of
International Relations, 5th edn., New York: Macmillan Palgrave, 1–31.
Butler, Dell Marie (2010) ‘What Is at Stake in the Third Debate and Why Does
It Matter for International Theory?’, E-International Relations, 16 January,
www.e- ir.info/ 2010/ 01/ 16/ what- is- at- stake- in- the- third- debate- and- why-
does-it-matter-for-international-theory/ (Accessed 27 May 2018).
Buzan, Barry (1973) ‘The British Peace Movement from 1919 to 1939’, London
University, PhD thesis.
(1983) People, States and Fear, Brighton: Wheatsheaf Books.
([1991] 2007) People, States and Fear, Colchester: ECPR Press.
(2004a) The United States and the Great Powers, Cambridge: Polity Press.
(2004b) From International to World Society? English School Theory and the Social
Structure of Globalisation, Cambridge: Cambridge University Press.
(2006) ‘Will the “Global War on Terrorism” Be the New Cold War?’,
International Affairs, 82:6, 1101–18.
(2011) ‘A World Order without Superpowers: Decentred Globalism’,
International Relations, 25:1, 1–23.
(2012) ‘The South Asian Security Complex in a Decentering World Order:
Reconsidering Regions and Powers Ten Years On’, International Studies, 48:1,
1–19.
(2013) ‘Review of The Social Evolution of International Politics,’ International
Affairs, 89:5, 1304–5.
488
(2014) An Introduction to the English School of International Relations, Cambridge:
Cambridge University Press.
(2017) ‘Revisiting World Society’, International Politics, 55:1, 125–40.
(2004a) The United States and the Great Powers, Cambridge: Polity Press.
(2004b) From International to World Society? English School Theory and the Social
Structure of Globalisation, Cambridge: Cambridge University Press.
(2006) ‘Will the “Global War on Terrorism” Be the New Cold War?’,
International Affairs, 82:6, 1101–18.
(2011) ‘A World Order without Superpowers: Decentred Globalism’,
International Relations, 25:1, 1–23.
‫ببليوغرافيا‬
(2012) ‘The South Asian Security Complex in a Decentering World Order:
Reconsidering Regions and Powers Ten Years On’, International Studies, 48:1,
1–19.
(2013) ‘Review of The Social Evolution of International Politics,’ International
Affairs, 89:5, 1304–5.
(2014) An Introduction to the English School of International Relations, Cambridge:
Cambridge University Press.
(2017) ‘Revisiting World Society’, International Politics, 55:1, 125–40.
(2018) ‘Nuclear Weapons and Deterrence in the Post-Western World Order’,
International Security Studies, 1, 53–73 (in Chinese).
(forthcoming) ‘The Dual Encounter: Parallels in the Rise of China (1978–)
and Japan (1868–1945)’, in Takashi Inoguchi (ed.), Sage Handbook of Asian
328 Foreign Policy.
Buzan, Barry and Lene Hansen (2009) The Evolution of International Security
Studies, Cambridge: Cambridge University Press.
Buzan, Barry and Eric Herring (1998) The Arms Dynamic in World Politics,
328 References
Boulder, CO: Lynne Rienner.
Buzan, Barry and George Lawson (2014a) ‘Rethinking Benchmark Dates in
International Relations’, European Journal of International Relations, 20:2,
437–62.
(2014b) ‘Capitalism and the Emergent World Order’, International Affairs,
90:1, 71–91.
(2015a) The Global Transformation: History, Modernity and the Making of
International Relations, Cambridge: Cambridge University Press.
(2015b) ‘Twentieth Century Benchmark Dates in International Relations: The
Three World Wars in Historical Perspective’, International Security Studies
(Beijing), 1:1, 39–58.
(2018) ‘The English School: History and Primary Institutions as Empirical
IR Theory?’, in William R. Thompson (ed.), The Oxford Encyclopedia of
Empirical International Relations Theories, New York: Oxford University
Press, 783–99.
Buzan, Barry and Richard Little (2000) International Systems in World History:
Remaking the Study of International Relations, Oxford: Oxford University Press.
(2010) ‘The Historical Expansion of International Society’, in Robert
Allen Denemark (ed.), The International Studies Encyclopedia, Chichester:
Wiley-Blackwell.
(2014) ‘The Historical Expansion of International Society’ in Cornelia Navari
and Daniel M. Green (eds.), Guide to the English School in International
Studies, Chichester: Wiley-Blackwell, 59–75.
Buzan, Barry and Laust Schouenborg (2018) Global International Society: A New
Framework for Analysis, Cambridge: Cambridge University Press.
Buzan, Barry and Ole Wæver (2003) Regions and Powers: The Structure of
International Security, Cambridge: Cambridge University Press.
Buzan, Barry, Ole Wæver and Jaap de Wilde (1998) Security: A New Framework
for Analysis, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Caballero-Anthony, Mely (ed.) (2015) An Introduction to Non-Traditional Security
Studies, London: Sage.
Caballero-Anthony, Mely, Ralf Emmers and Amitav Acharya (eds.) (2006), Non-
Traditional Security in Asia: Dynamics of Securitisation, London: Ashgate.
Calhoun, Craig (2017) ‘Nation and Imagination: How Benedict Anderson
Revolutionized Political Theory’, ABC, 9 May, www.abc.net.au/religion/art-
icles/2017/05/09/4665722.htm (Accessed 27 May 2018).
Campbell, David (1998) Writing Security: United States Foreign Policy and Politics
of Identity, 2nd and revised edn., Manchester: Manchester University Press.
(2013) ‘Poststructuralism’, in Tim Dunne, Milja Kurki and Steve Smith
489 (eds.), International Relations Theories: Discipline and Diversity, 3rd edn.,
Oxford: Oxford University Press, 223–46.
Cardoso, Fernando and Enzo Faletto (1972) Dependency and Development in
Latin America, Berkeley and Los Angeles: University of California Press.
Carozza, Paolo G. (2003) ‘From Conquest to Constitutions: Retrieving a Latin
Caballero-Anthony, Mely (ed.) (2015) An Introduction to Non-Traditional Security
Studies, London: Sage.
Caballero-Anthony, Mely, Ralf Emmers and Amitav Acharya (eds.) (2006), Non-
Traditional Security in Asia: Dynamics of Securitisation, London: Ashgate.
Calhoun, Craig (2017) ‘Nation and Imagination: How Benedict Anderson
Revolutionized Political Theory’, ABC, 9 May, www.abc.net.au/religion/art-
icles/2017/05/09/4665722.htm (Accessed 27 May 2018).
‫العاملية‬ ‫تشكيل العالقات الدولية‬
Campbell, David (1998) Writing Security: United States Foreign Policy and Politics
of Identity, 2nd and revised edn., Manchester: Manchester University Press.
(2013) ‘Poststructuralism’, in Tim Dunne, Milja Kurki and Steve Smith
(eds.), International Relations Theories: Discipline and Diversity, 3rd edn.,
Oxford: Oxford University Press, 223–46.
Cardoso, Fernando and Enzo Faletto (1972) Dependency and Development in
Latin America, Berkeley and Los Angeles: University of California Press.
Carozza, Paolo G. (2003) ‘From Conquest to Constitutions: Retrieving a Latin
American Tradition of the Idea of Human Rights’, Human Rights Quarterly,
329
25:2, 281–313.
Carpenter, Ted Galen (1991) ‘The New World Disorder’, Foreign Policy, 84,
24–39.
Carr, E. H. ([1939] 2016) The Twenty Years’ Crisis, 1919–1939, London: Palgrave
References 329
Macmillan.
(1946) The Twenty Years’ Crisis, 1919–1939: An Introduction to the Study of
International Relations, 2nd edn., London: Macmillan.
(1964) The Twenty Years’ Crisis, 1919–1939: An Introduction to the Study of
International Relations, 2nd edn., New York: Harper & Row.
Carvalho, Benjamin de, Halvard Leira and John Hobson (2011) ‘The Big Bangs
of IR: The Myths That Your Teachers Still Tell You about 1648 and 1919’,
Millennium, 39:3, 735–58.
Castle, David Barton (2000) ‘Leo Stanton Rowe and the Meaning of Pan-
Americanism’, in David Sheinin (ed.), Beyond the Ideal: Pan Americanism in
International Affairs, Westport, CT: Praeger, 33–44.
Cerny, Phil (1993) ‘ “Plurilateralism”: Structural Differentiation and Functional
Conflict in the Post-Cold War World Order’, Millennium, 22:1, 27–51.
Césaire, Aimé (1955) Discourse on Colonialism, translated by J. Pinkham,
New York: Monthly Review Press.
Cha, Victor D. (1997) ‘Realism, Liberalism, and the Durability of the US–South
Korean Alliance’, Asian Survey, 37:7, 609–22.
(1999) ‘Engaging China: Seoul–Beijing Detente and Korean Security’,
Survival, 41:1, 73–98.
(2000) ‘Abandonment, Entrapment, and Neoclassical Realism in Asia: The
United States, Japan and Korea’, International Studies Quarterly, 44:2,
261–91.
(2010) ‘Powerplay: Origins of the US Alliance System in Asia’, International
Security, 34:3, 158–96.
Chakrabarty, Dipesh (2000) Provincializing Europe: Postcolonial Thought and
Historical Difference, Princeton: Princeton University Press.
Chan, Stephen, Peter G. Mandaville and Roland Bleiker (eds.) (2001) The Zen
of International Relations: IR Theory from East to West, New York: Palgrave.
Chatterjee, M. N. (1916) ‘The World and the Next War: An Eastern Viewpoint’,
Journal of Race Development, 6:4, 388–407.
Chatterjee, Partha (1993) The Nation and Its Fragments: Colonial and Postcolonial
Histories, Princeton: Princeton University Press.
Checkel, Jeffrey (2013) ‘Theoretical Pluralism in IR: Possibilities and Limits’, in
Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons (eds.), Handbook of
International Relations, 2nd edn., London: Sage, 220–41.
Chibber, Vivek (2013) ‘How Does the Subaltern Speak?’, Jacobin, 21 April,
www.jacobinmag.com/2013/04/how-does-the-subaltern-speak (Accessed
17 May 2018).
Chong, Alan (2012) ‘Premodern Southeast Asia as a Guide to International
Relations between Peoples: Prowess and Prestige in ‘‘Intersocietal Relations’’
in the Sejarah Melayu’, Alternatives, 37:2, 87–105.
(2017) ‘Empire of the Mind: José Rizal and Proto-nationalism in the
490
Philippines’, in Pinar Bilgin and L. H. M. Ling (eds.), Asia in International
Relations: Unlearning Imperial Power Relations, London: Routledge, 160–71.
Chowdhry, Geeta and Sheila Nair (eds.) (2004) Power, Postcolonialism, and
International Relations: Reading Race, Gender, and Class, London: Routledge.
Christensen, Jens (1998) ‘Internettets Verden’ [The World of the Internet],
Checkel, Jeffrey (2013) ‘Theoretical Pluralism in IR: Possibilities and Limits’, in
Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons (eds.), Handbook of
International Relations, 2nd edn., London: Sage, 220–41.
Chibber, Vivek (2013) ‘How Does the Subaltern Speak?’, Jacobin, 21 April,
www.jacobinmag.com/2013/04/how-does-the-subaltern-speak (Accessed
17 May 2018).
‫ببليوغرافيا‬
Chong, Alan (2012) ‘Premodern Southeast Asia as a Guide to International
Relations between Peoples: Prowess and Prestige in ‘‘Intersocietal Relations’’
in the Sejarah Melayu’, Alternatives, 37:2, 87–105.
(2017) ‘Empire of the Mind: José Rizal and Proto-nationalism in the
Philippines’, in Pinar Bilgin and L. H. M. Ling (eds.), Asia in International
Relations: Unlearning Imperial Power Relations, London: Routledge, 160–71.
Chowdhry, Geeta and Sheila Nair (eds.) (2004) Power, Postcolonialism, and
330 International Relations: Reading Race, Gender, and Class, London: Routledge.
Christensen, Jens (1998) ‘Internettets Verden’ [The World of the Internet],
Samvirke, 4 (April), 106–12.
330 , Jose
Cintra Thiago (1989) ‘Regional Conflicts: Trends in a Period of Transition’,
References
Adelphi Papers, 29:237, 94–108.
Claassen, Casper Hendrik (2011) ‘The Africanist Delusion: In Defence of the
Realist Tradition and the Neo-Neo Synthesis’, Journal of Politics and Law,
4:1, 181–7.
Clark, Ian (1997) Globalization and Fragmentation: International Relations in the
Twentieth Century, Oxford: Oxford University Press.
(1999) Globalization and International Relations Theory, Oxford: Oxford
University Press.
(2007) International Legitimacy and World Society, Oxford: Oxford University
Press.
(2011) Hegemony in International Society, Oxford: Oxford University Press.
Clausewitz, Carl von ([1832] 1968) On War, Harmondsworth: Penguin.
Clodfelter, Michael (2002) Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Reference to
Casualty and Other Figures, 1500–2000, 2nd edn., London: McFarland & Co.
Cochran, Molly (2008) ‘The Ethics of the English School’, in Christian Reus-
Smit and Duncan Snidal (eds.), The Oxford Handbook of International
Relations, Oxford: Oxford University Press, 286–97.
Cohen, Benjamin J. (2007) ‘The Transatlantic Divide: Why Are American and British
IPE so Different?’, Review of International Political Economy, 14:2, 197–219.
(2008) International Political Economy: An Intellectual History, Princeton:
Princeton University Press.
Cohen, Benjamin (2014) International Political Economy, Cheltenham, UK:
Edward Elgar.
Cohen, Raymond and Raymond Westbrook (2000) Amarna Diplomacy: The
Beginnings of International Relations, Baltimore: Johns Hopkins University
Press.
(eds.) (2008) Isaiah’s Vision of Peace in Biblical and Modern International
Relations: Swords into Plowshares, New York: Palgrave.
Colgan, Jeff D. (2016) ‘Where Is International Relations Going? Evidence from
Graduate Training’, International Studies Quarterly, 60:3, 486–98.
Collins, Michael (2011) Empire, Nationalism and the Postcolonial World, London:
Routledge.
Copeland, Dale (2010) ‘Realism and Neorealism in the Study of Regional
Conflict’, Paper presented at conference on ‘When Regions Transform’,
McGill University, 9 April.
Cornelissen, Scarlett, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw (2012) ‘Introduction:
Africa and International Relations in the 21st Century: Still Challenging
Theory?’, in Scarlett Cornelissen, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw
(eds.), Africa and International Relations in the 21st Century, Basingstoke:
Palgrave, 1–17.
Cox, Michael (2001) ‘Introduction’, in E. H. Carr (ed.), The Twenty Years Crisis,
Basingstoke: Palgrave, ix–ixxxii.
Cox, Robert W. (1980) ‘The Crisis of World Order and the Problem of
International Organization’, International Journal, 35:2, 370–95.
(1981) ‘Social Forces, States and World Order: Beyond International Relations
491 Theory’, Millennium, 10:2, 126–55.
(1986) ‘Social Forces, States, and World Orders: Beyond International
Relations Theory’, in Robert O. Keohane (ed.), Neorealism and Its Critics,
New York: Columbia University Press, 204–54.
Cornelissen, Scarlett, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw (2012) ‘Introduction:
Africa and International Relations in the 21st Century: Still Challenging
Theory?’, in Scarlett Cornelissen, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw
(eds.), Africa and International Relations in the 21st Century, Basingstoke:
Palgrave, 1–17.
Cox, Michael (2001) ‘Introduction’, in E. H. Carr (ed.), The Twenty Years Crisis,
Basingstoke: Palgrave, ix–ixxxii. ‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬
Cox, Robert W. (1980) ‘The Crisis of World Order and the Problem of
International Organization’, International Journal, 35:2, 370–95.
331 (1981) ‘Social Forces, States and World Order: Beyond International Relations
Theory’, Millennium, 10:2, 126–55.
(1986) ‘Social Forces, States, and World Orders: Beyond International
Relations Theory’, in Robert O. Keohane (ed.), Neorealism and Its Critics
References 331,
New York: Columbia University Press, 204–54.
(1987) Production, Power and World Order: Social Forces in the Making of History,
New York: Columbia University Press.
(1992a) ‘Multilateralism and World Order’, Review of International Studies,
18:2, 161–80.
(1992b) ‘Towards a Post-Hegemonic Conceptualization of World Order:
Reflections on the Relevancy of Ibn Khaldun’, in James Rosenau and Ernst-
Otto Czempiel (eds.), Governance without Government: Order and Change in
World Politics, Cambridge: Cambridge University Press, 132–59.
(1993) ‘Production and Security’, in David Dewitt, David Haglund and John
Kirton (eds.), Building a New Global Order: Emerging Trends in International
Security, Toronto: Oxford University Press, 141–58.
(2002) ‘Universality in International Studies’, in Frank P. Harvey and Michael
Brecher (eds.), Critical Perspectives in International Studies, Ann Arbor,
MI: University of Michigan Press, 45–55.
Cox, Robert and Timothy J. Sinclair (1996) Approaches to World Order,
Cambridge: Cambridge University Press.
Cox, Wayne S. and Kim Richard Nossal (2009) ‘The “Crimson World”: The
Anglo Core, the Post-Imperial Non-Core, and the Hegemony of American
IR’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 287–307.
Crawford, Robert M. A. (2001) ‘International Relations as an Academic
Discipline: If It’s Good for America, Is It Good for the World?’, in Robert
A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.), International Relations – Still
an American Social Science? Toward Diversity in International Thought,
New York: State University of New York Press, 1–23.
Cui, Shunji and Barry Buzan (2016) ‘Great Power Management in International
Society’, The Chinese Journal of International Politics, 9:2, 181–210.
Cumings, Bruce (1984) ‘The Origins and Development of the North East
Asian Political Economy: Industrial Sectors, Product Cycles, and Political
Consequences’, International Organization, 38:1, 1–40.
Curtin, Philip D. (2000) The World and the West: The European Challenge and the
Overseas Response in the Age of Empire, Cambridge: Cambridge University
Press.
Dalai Lama (2005) The Universe in a Single Atom: The Convergence of Science and
Spirituality, New York: Morgan Road Books.
Darby, Phillip (2004) ‘Pursuing the Political: A Postcolonial Rethinking of
Relations International’, Millennium, 33:1, 1–32.
Datta-Ray, Deep K. (2015) The Making of Indian Diplomacy: A Critique of
Eurocentrism, Oxford: Oxford University Press.
Davenport, Andrew (2011) ‘Marxism in IR: Condemned to a Realist Fate?’,
European Journal of International Relations, 19:1, 27–48.
Davies, Thomas (2013) NGOs: A New History of Transnational Civil Society,
London: Hurst.
Deloffre, Maryam Zarnegar (2014) ‘Will AFRICOM’s Ebola Response Be
Watershed Moment for International Action on Human Security?’, The
Washington Post, 29 September.
Der Derian, James (2003) ‘The Question of Information Technology’, Millennium,
32:3, 441–56.
492
Eurocentrism, Oxford: Oxford University Press.
Davenport, Andrew (2011) ‘Marxism in IR: Condemned to a Realist Fate?’,
European Journal of International Relations, 19:1, 27–48.
Davies, Thomas (2013) NGOs: A New History of Transnational Civil Society,
London: Hurst.
332
Deloffre, Maryam Zarnegar (2014) ‘Will AFRICOM’s Ebola Response Be
Watershed Moment for International Action on Human Security?’, The
‫ببليوغرافيا‬
Washington Post, 29 September.
Der
332Derian , James (2003) ‘The Question of Information Technology’, Millennium,
References
32:3, 441–56.
Deudney, Daniel H. (2007) Bounding Power, Princeton: Princeton University
Press.
Deudney, Daniel and G. John Ikenberry (1999) ‘The Nature and Sources of
Liberal International Order’, Review of International Studies, 25:2, 179–96.
Deutsch, Karl W. (1961) ‘Security Communities’, in James Rosenau (ed.),
International Politics and Foreign Policy: A Reader in Research and Theory,
New York: Free Press, 98–105.
Deutsch, Karl W. and J. David Singer (1969) ‘Multipolar Power Systems and
International Stability’, in James N. Rosenau (ed.), International Politics
and Foreign Policy: A Reader in Research and Theory, New York: Free Press,
315–24.
Devetak, Richard (1996a) ‘Critical Theory’, in Scott Burchill and Andrew
Linklater (eds.), Theories of International Relations, New York: St Martin’s
Press, 145–78.
(1996b) ‘Postmodernism’, in Scott Burchill and Andrew Linklater (eds.),
Theories of International Relations, New York: St Martin’s Press, 179–209.
de Wilde, Jaap (1991) Saved from Oblivion: Interdependence Theory in the First
Half of the 20th Century – A Study on the Causality between War and Complex
Interdependence, Aldershot, Hampshire: Dartmouth Publishing.
Dibb, Paul (1986) The Soviet Union: The Incomplete Superpower, Basingstoke:
Palgrave.
Dickinson, G. Lowes (1916) The European Anarchy, London: G. Allen & Unwin.
Dikötter, Frank (2011) Mao’s Great Famine, Kindle edn., London: Bloomsbury.
(2016) The Cultural Revolution: A People’s History, 1962–1976, New York:
Bloomsbury Press.
Dirlik, Arif (1999) ‘Is There History after Eurocentrism? Globalism, Post-
colonialism, and the Disavowal of History’, Cultural Critique, 42, 1–34.
Dominguez, Jorge I. (2007) ‘International Cooperation in Latin America: The
Design of Regional Institutions by Slow Accretion’, in Amitav Acharya and
Alastair Iain Johnston (eds.), Crafting Cooperation: Regional International
Institutions in Comparative Perspective, Cambridge: Cambridge University
Press, 83–128.
Donnelly, Jack (1998) ‘Human Rights: A New Standard of Civilization?’,
International Affairs, 74:1, 1–23.
(2000) Realism and International Relations, Cambridge: Cambridge University
Press.
Dougherty, James E. and Robert L. Pfalzgraff , Jr. (1997) Contending Theories of
International Relations: A Comprehensive Survey, New York: Longman.
Douhet, Giulio ([1921] 1998) The Command of the Air,Tuscaloosa, AL: University
of Alabama Press.
Doyle, Michael (1986) ‘Liberalism and World Politics’, American Political Science
Review, 80:4, 1151–69.
Dreyer, June Teufel (2016) Middle Kingdom and Empire of the Rising Sun: Sino-
333 Japanese Relations, Past and Present, New York: Oxford University Press.
Drulák, Petr, Jan Karlas and Lucie Königová (2009) ‘Central and Eastern
Europe: Between Continuity and Change’, in Arlene B. Tickner and
Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the World
Ole References 333
,
Abingdon: Routledge, 242–60.
Duara, Prasenjit (2003) Sovereignty and Authenticity: Manchukuo and the East
Asian Modern, Kindle edn., Lanham, MD: Rowman and Littlefield.
Du Bois, W. E. B. ([1940] 1992) The Dusk of Dawn: An Essay toward an
Autobiography, New Brunswick, NJ: Transaction Publishers.
493
Duffy, Charles A. and Werner J. Feld (1980) ‘Whither Regional Integration
Theory’, in Gavin Boyd and Werner J. Feld (eds.), Comparative Regional
Systems: West and East Europe, North America, the Middle East, and Developing
Countries, New York: Pergamon Press, 497–521.
Dunn, Kevin (2001) ‘Introduction: Africa and International Relations Theory’,
333

References 333

‫العاملية‬Manchukuo
Duara, Prasenjit (2003) Sovereignty and Authenticity: ‫العالقات الدولية‬
and the‫تشكيل‬
East
Asian Modern, Kindle edn., Lanham, MD: Rowman and Littlefield.
Du Bois, W. E. B. ([1940] 1992) The Dusk of Dawn: An Essay toward an
Autobiography, New Brunswick, NJ: Transaction Publishers.
Duffy, Charles A. and Werner J. Feld (1980) ‘Whither Regional Integration
Theory’, in Gavin Boyd and Werner J. Feld (eds.), Comparative Regional
Systems: West and East Europe, North America, the Middle East, and Developing
Countries, New York: Pergamon Press, 497–521.
Dunn, Kevin (2001) ‘Introduction: Africa and International Relations Theory’,
in Kevin Dunn and Timothy Shaw (eds.), Africa’s Challenge to International
Relations Theory, New York: Palgrave, 1–8.
Dunne, Tim (1995) ‘The Social Construction of International Society’, European
Journal of International Relations, 1:3, 367–89.
(1998) Inventing International Society: A History of the English School, London:
Macmillan.
(2003) ‘Society and Hierarchy in International Relations’, International
Relations, 17:3, 303–20.
Dunne, Tim and Christian Reus-Smit (eds.) (2017) The Globalization of
International Society, Oxford: Oxford University Press.
Dunne, Tim and Nicholas J. Wheeler (1999) Human Rights in Global Politics,
Cambridge: Cambridge University Press.
Dunne, Tim, Lene Hansen and Colin Wight (2013) ‘The End of International
Relations Theory?’, European Journal of International Relations, 19:3, 405–25.
Eagleton, Clyde (1932) International Government, New York: Ronald Press
Company.
The Economist (2009) ‘Raúl Prebisch: Latin America’s Keynes’, 5 March, www
.economist.com/node/13226316 (Accessed 27 May 2018).
Elam, J. Daniel (2017) ‘Anticolonialism’, Global South Studies: A Collective
Publication with The Global South, https://globalsouthstudies.as.virginia.edu/
key-concepts/anticolonialism (Accessed 18 May 2018).
Engelbrecht, H. C. and F. C. Hanighen (1934) Merchants of Death: A Study
of the International Armaments Industry, New York: Dodd, Mead and
Company.
EU (2016) Syrian Refugees, http://syrianrefugees.eu (Accessed 7 October 2017).
EUISS (2012) Global Trends 2030 – Citizens in an Interconnected and Polycentric
World, Paris: EUISS, http://espas.eu/orbis/sites/default/files/espas_files/
about/espas_report_ii_01_en.pdf , (Accessed 27 May 2018).
Eun, Yong-Soo (2016) Pluralism and Engagement in the Discipline of International
Relations, Singapore: Palgrave Macmillan.
Eurostat (2017) ‘Gini Coefficient of Equivalised Disposable Income – EU-SILC
Survey’, http://appsso.eurostat.ec.europa.eu/nui/show.do?dataset=ilc_di12
(Accessed 4 October 2017).
Falkner, Robert (2016) ‘The Paris Agreement and the New Logic of International
334 Climate Politics’, International Affairs, 92:5, 1107–25.
Falkner, Robert and Barry Buzan (2017) ‘The Emergence of Environmental
Stewardship as a Primary Institution of Global International Society’,
334 European Journal of International Relations, doi: 10.1177/1354066117741948.
References
Fanon, Frantz (1965) The Wretched of the Earth, New York: Grove Press.
Farrell, Henry (2009) ‘What’s Wrong with International Political Economy’, The
Monkey Cage, 4 March, http://themonkeycage.org/2009/03/whats_wrong_
with_international/ (Accessed 27 May 2018).
Fearon, James and Alexander Wendt (2002) ‘Rationalism v. Constructivism: A
Skeptical View’, in Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons
(eds.), Handbook of International Relations, London: Sage, 52–72.
Fenby, Jonathan (2013) The Penguin History of Modern China: The Fall and Rise
of a Great Power 1850 to the Present, London: Penguin.
Ferguson, Yale H. and Richard W. Mansbach (2014) ‘Reflections on the “Third 494
Debate” ’, Symposium, 20 March, www.isanet.org/Publications/ISQ/Posts/
ID/312/Reflections-on-the-Third-Debate, (Accessed 27 May 2018).
Fierke, Karin M. (1999) ‘Dialogues of Manoeuvre and Entanglement: NATO,
Russia and the CEECs’, Millennium, 28:1, 27–52.
334 References

Farrell, Henry (2009) ‘What’s Wrong with International Political Economy’, The
Monkey Cage, 4 March, http://themonkeycage.org/2009/03/whats_wrong_
with_international/ (Accessed 27 May 2018).
Fearon, James and Alexander Wendt (2002) ‘Rationalism v. Constructivism: A
Skeptical View’, in Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons
‫ببليوغرافيا‬
(eds.), Handbook of International Relations, London: Sage, 52–72.
Fenby, Jonathan (2013) The Penguin History of Modern China: The Fall and Rise
of a Great Power 1850 to the Present, London: Penguin.
Ferguson, Yale H. and Richard W. Mansbach (2014) ‘Reflections on the “Third
Debate” ’, Symposium, 20 March, www.isanet.org/Publications/ISQ/Posts/
ID/312/Reflections-on-the-Third-Debate, (Accessed 27 May 2018).
Fierke, Karin M. (1999) ‘Dialogues of Manoeuvre and Entanglement: NATO,
Russia and the CEECs’, Millennium, 28:1, 27–52.
Finnemore, Martha and Kathryn Sikkink (1999) ‘International Norm Dynamics
and Political Change’, in Peter J. Katzenstein, Robert O. Keohane and
Stephen D. Krasner (eds.), Exploration and Contestation in the Study of World
Politics, Cambridge, MA: MIT Press, 247–77.
Flockhart, Trine (2016) ‘The Coming Multi-Order World’, Contemporary Security
Policy, 37:1, 3–30.
Foot, Rosemary and Andrew Walter (2011) China, the United States and Global
Order, Cambridge: Cambridge University Press.
Foreman-Peck, James (1982) A History of the World Economy: International
Economic Relations since 1850, Brighton: Wheatsheaf .
Frank, Andre Gunder (1966) ‘The Development of Underdevelopment’, Monthly
Review, 18:4, 17–34.
(1971) Capitalism and Underdevelopment in Latin America, London: Penguin.
Frank, Andre Gunder and Barry K. Gills (1992) ‘The Five Thousand Year Old
World System: An Interdisciplinary Introduction’, Humboldt Journal of
Social Relations, 18:1, 1–79.
Fraser, C. Gerald (1989) ‘C. L. R. James, Historian, Critic and Pan-Africanist, Is
Dead at 88’, New York Times, 2 June, www.nytimes.com/1989/06/02/obitu-
aries/ c- l- r- james- historian- critic- and- pan- africanist- is- dead- at- 88.html
(Accessed 27 May 2018).
Frasson-Quenoz, Florent (2015) ‘Latin American Thinking in International
Relations Reloaded’, Oasis, 23, 53–75.
Friedman, Edward (2000) ‘Immanuel Kant’s Relevance to an Enduring Asia-
Pacific Peace’, in Edward Friedman and Barrett L. McCormick (eds.),
What If China Doesn’t Democratize? Implications for War and Peace, Armonk,
NY: M. E. Sharpe, 224–58.
Friedrichs, Jörg (2004) European Approaches to International Relations Theory: A
House with Many Mansions, London and New York: Routledge.
Friedrichs, Jörg and Ole Wæver (2009) ‘Western Europe: Structure and
Strategy at the National and Regional Levels’, in Arlene B. Tickner and
Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the World,
335 Abingdon: Routledge, 261–86.
Fukuyama, Francis (1992) The End of History and the Last Man, London: Penguin.
Fukuzawa, Yukichi ([1875] 2009) Bunmeiron no Gairyaku (An Outline of a Theory
of Civilization
References ), translated by David A. Dilworth and G. Cameron Hurst335 III,
New York: Columbia University Press.
Fuller, J. F. C. (1945) Armament and History: The Influence of Armament on
History from the Dawn of Classical Warfare to the End of the Second World War,
New York: C. Scribner’s Sons.
Funtecha, Henry F. (2008) ‘Rizal as a Political Scientist’, 14 August, http://
knightsofrizal.org/?p=354 (Accessed 27 May 2018).
Gaddis, John Lewis (1986) ‘The Long Peace: Elements of Stability in the Post-
War International System’, International Security, 10:4, 99–142.
(1992/3) ‘International Relations Theory and the End of the Cold War’,
International Security, 17:3, 5–58.
Galtung, Johan (1971) ‘A Structural Theory of Structural Imperialism’, Journal
of Peace Research, 8:2, 81–117.
495
Ganguli, Birendranath (1965) Dadabhai Naoroji and the Drain Theory, New York:
Asia Publishing House.
Gao, Bai (2013) ‘From Maritime Asia to Continental Asia: China’s Responses
to the Challenge of the Trans-Pacific Partnership’, 22 pp., https://fsi.fsi.stan-
ford.edu/sites/default/files/evnts/media/Gao.TPP_paper.pdf (Accessed 18
History from the Dawn of Classical Warfare to the End of the Second World War,
New York: C. Scribner’s Sons.
Funtecha, Henry F. (2008) ‘Rizal as a Political Scientist’, 14 August, http://
knightsofrizal.org/?p=354 (Accessed 27 May 2018).
Gaddis, John Lewis (1986) ‘The Long Peace: Elements of Stability in the Post-
War International System’, International Security, 10:4, 99–142.
(1992/3) ‘International Relations Theory and the End
‫العاملية‬ of the
‫الدولية‬ Cold ‫تشكيل‬
‫العالقات‬ War’,
International Security, 17:3, 5–58.
Galtung, Johan (1971) ‘A Structural Theory of Structural Imperialism’, Journal
of Peace Research, 8:2, 81–117.
Ganguli, Birendranath (1965) Dadabhai Naoroji and the Drain Theory, New York:
Asia Publishing House.
Gao, Bai (2013) ‘From Maritime Asia to Continental Asia: China’s Responses
to the Challenge of the Trans-Pacific Partnership’, 22 pp., https://fsi.fsi.stan-
ford.edu/sites/default/files/evnts/media/Gao.TPP_paper.pdf (Accessed 18
October 2017).
Garver, John W. (2016) China’s Quest: The History of the Foreign Relations of the
People’s Republic of China, New York: Oxford University Press.
Gautam, Pradeep Kumar (2015) ‘Kautilya’s Arthasastra: Contemporary Issues
and Comparison’, IDSA Monograph Series no. 47, New Delhi: Institute of
Defence Studies and Analysis.
Geis, Anna (2013) ‘The “Concert of Democracies”: Why Some States Are More
Equal than Others’, International Politics, 50:2, 257–77.
Gill, Stephen (1991) American Hegemony and the Trilateral Commission,
Cambridge: Cambridge University Press.
Gill, Stephen and David Law (eds.) (1988) The Global Political Economy: Perspectives,
Problems, and Policies, Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Gilpin, Robert (1975) US Power and the Multinational Corporation: The Political
Economy of Foreign Direct Investment, New York: Basic Books.
(1981) War and Change in World Politics, Cambridge: Cambridge University
Press.
(1987) The Political Economy of International Relations, Princeton: Princeton
University Press.
(2001) Global Political Economy: Understanding the International Economic
Order, Princeton: Princeton University Press.
Gleditsch, Nils Petter (1992) ‘Democracy and Peace’, Journal of Peace Research,
29:4, 369–76.
Global Governance (2014) ‘Principles from the Periphery: The Neglected
Southern Sources of Global Norms’, Global Governance, special section,
20:3, 359–417.
Goebel, Michael (2015) Anti-Imperial Metropolis: Interwar Paris and the Seeds of
Third World Nationalism, Cambridge: Cambridge University Press.
Gong, Gerrit W. (1984) The Standard of ‘Civilisation’ in International Society,
336 Oxford: Clarendon Press.
(2002) ‘Standards of Civilization Today’, in Mehdi Mozaffari (ed.),
Globalization and Civilizations, London: Routledge.
Gordon
336 , Lincoln
References(1961) ‘Economic Regionalism Reconsidered’, World Politics,
13:2, 231–53.
Goto-Jones, Christopher S. (2005) Political Philosophy in Japan: Nishida, The
Kyoto School and Co-Prosperity, Abingdon: Routledge.
Grant, A. J. (1916) ‘War and Peace since 1815’, in A. J. Grant, Arthur Greenwood,
J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart (eds.), An Introduction to
International Relations, London: Macmillan, 1–36.
Grant, A. J., Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart
(1916) An Introduction to International Relations, London: Macmillan.
Gray, Colin S. (2012) War, Peace and International Relations: An Introduction to
Strategic History, 2nd edn., Kindle edn., London: Routledge.
Gray, Jack (2002) Rebellions and Revolutions: China from the 1800s to 2000,
Oxford: Oxford University Press.
Greenwood, Arthur (1916) ‘International Economic Relations’, in A. J. Grant,
Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart (eds.), An
Introduction to International Relations, London: Macmillan, 66–112.
Greenwood, Ted, Harold A. Feiverson and Theodore B. Taylor (1977) Nuclear 496
Proliferation: Motivations, Capabilities and Strategies for Control, New York:
McGraw-Hill.
Grieco, Joseph M. (1993) ‘Understanding the Problem of International
Cooperation: The Limits of Neoliberal Institutionalism and the Future of
International Relations, London: Macmillan, 1–36.
Grant, A. J., Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart
(1916) An Introduction to International Relations, London: Macmillan.
Gray, Colin S. (2012) War, Peace and International Relations: An Introduction to
Strategic History, 2nd edn., Kindle edn., London: Routledge.
Gray, Jack (2002) Rebellions and Revolutions: China from the 1800s to 2000,
Oxford: Oxford University Press.
‫ببليوغرافيا‬
Greenwood, Arthur (1916) ‘International Economic Relations’, in A. J. Grant,
Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart (eds.), An
Introduction to International Relations, London: Macmillan, 66–112.
Greenwood, Ted, Harold A. Feiverson and Theodore B. Taylor (1977) Nuclear
Proliferation: Motivations, Capabilities and Strategies for Control, New York:
McGraw-Hill.
Grieco, Joseph M. (1993) ‘Understanding the Problem of International
Cooperation: The Limits of Neoliberal Institutionalism and the Future of
Realist Theory’, in David Baldwin (ed.), Neorealism and Neoliberalism: The
Contemporary Debate, New York: Columbia University Press, 301–38.
Grovogui, Siba N. (2013) ‘Postcolonialism’, in Tim Dunne, Milja Kurki and
Steve Smith (eds.), International Relations Theories: Discipline and Diversity,
3rd edn., Oxford: Oxford University Press, 247–65.
Grunberg, Isabelle (1990) ‘Exploring the Myth of Hegemonic Stability’,
International Organization, 44:4, 431–77.
Guardian Datablog (2012) Developing Economies to Eclipse West by 2060, OECD
Forecasts, www.guardian.co.uk/global-development/datablog/2012/nov/09/
developing-economies-overtake-west-2050-oecd-forecasts (Accessed 27
May 2018).
Guha, Ranajit (1982) Subaltern Studies: Writings on South Asian History and
Society, vol. 1, New Delhi: Oxford University Press.
Guimarães, Samuel Pinheiro (2005) Cinco Siglod de Periferia, Buenos Aires:
Prometeo.
Gusterson, Hugh (1999) ‘Nuclear Weapons and the Other in the Western
Imagination’, Cultural Anthropology, 14:1, 111–43.
Guzzini, Stefano (ed.) (2013) The Return of Geopolitics in Europe?, Cambridge:
Cambridge University Press.
Haas, Ernst B. (1964) Beyond the Nation State, Stanford: Stanford University Press.
(1973) ‘The Study of Regional Integration: Reflections on the Joys and Anguish
of Pretheorising’, in Richard A. Falk and Saul H. Mendlovitz (eds.), Regional
Politics and World Order, San Francisco: W. H. Freeman, 103–31.
337
(1975) The Obsolescence of Regional Integration Theory, Berkeley: Institute of
International Studies, University of California.
Haas, Michael (1995) ‘When Democracies Fight One Another, Just What Is the
Punishment
Referencesfor Disobeying the Law?’, Paper presented at the 91st annual
337
meeting of the American Political Science Association, August, Chicago.
(2016) International Relations Theory: Competing Empirical Paradigms, Lanham,
MD: Lexington Books.
Hacke, Christian and Jana Puglierin (2007) ‘John H. Herz: Balancing Utopia
and Reality’, International Relations, 21:3, 367–82.
Hagmann, Jonas and Thomas J. Biersteker (2014) ‘Beyond the Published
Discipline: Toward a Critical Pedagogy of International Studies’, European
Journal of International Relations, 20:2, 291–315.
Hagström, Linus (2015) ‘The “Abnormal” State: Identity, Norm/Exception and
Japan’, European Journal of International Relations, 21:1, 122–45.
Halliday, Fred (1999) Revolutions and World Politics, Basingstoke: Palgrave.
Hansen, Lene and Helen Nissenbaum (2009) ‘Digital Disaster, Cyber Security,
and the Copenhagen School’, International Studies Quarterly, 53:4,
1155–75.
Hansen, Roger D. (1969) ‘Regional Integration: Reflections on a Decade of
Theoretical Efforts’, World Politics, 21:2, 242–71.
Harootunian, H. D. (2002) ‘Postcoloniality’s Unconscious/Area Studies’ Desire’,
in Masao Miyaoshi and H. D. Harootunian (eds.), Learning Places: The
Afterlives of Area Studies, Durham, NC: Duke University Press, 150–74.
Hashmi, Sohail H. (2009) ‘Islam, the Middle East and the Pan-Islamic
497 Movement’, in Barry Buzan and Ana Gonzalez-Pelaez (eds.), International
Society and the Middle East, Basingstoke: Palgrave, 170–200.
Heatley, David P. (1919) Diplomacy and the Study of International Relations,
Oxford: Clarendon Press.
Heeren, A. H. L. (1834) A Manual of the History of the Political System of Europe
Halliday, Fred (1999) Revolutions and World Politics, Basingstoke: Palgrave.
Hansen, Lene and Helen Nissenbaum (2009) ‘Digital Disaster, Cyber Security,
and the Copenhagen School’, International Studies Quarterly, 53:4,
1155–75.
Hansen, Roger D. (1969) ‘Regional Integration: Reflections on a Decade of
Theoretical Efforts’, World Politics, 21:2, 242–71.
Harootunian, H. D. (2002) ‘Postcoloniality’s Unconscious/ Area Studies’
‫الدولية العاملية‬ ‫العالقات‬Desire
‫تشكيل‬’,
in Masao Miyaoshi and H. D. Harootunian (eds.), Learning Places: The
Afterlives of Area Studies, Durham, NC: Duke University Press, 150–74.
Hashmi, Sohail H. (2009) ‘Islam, the Middle East and the Pan-Islamic
Movement’, in Barry Buzan and Ana Gonzalez-Pelaez (eds.), International
Society and the Middle East, Basingstoke: Palgrave, 170–200.
Heatley, David P. (1919) Diplomacy and the Study of International Relations,
Oxford: Clarendon Press.
Heeren, A. H. L. (1834) A Manual of the History of the Political System of Europe
and Its Colonies, From Its Formation at the Close of the Fifteenth Century, to Its
Re-establishment upon the Fall of Napoleon, Oxford: D. A. Talboys.
Held, David, Anthony McGrew, David Goldblatt and Jonathan Perraton (1999)
Global Transformations, Cambridge: Polity Press.
Helleiner, Eric (2014) ‘Southern Pioneers of International Development’, Global
Governance, 20:3, 375–88.
(2017) ‘The Latin American Origins of Bretton Woods’, in Matias E.
Margulis (ed.), The Global Political Economy of Raúl Prebisch, New York:
Routledge, 78–94.
Helleiner, Eric and Antulio Rosales (2017) ‘Toward Global IPE: The Overlooked
Significance of the Haya-Mariátegui Debate’, International Studies Review,
19:4, 667–91.
Hemmer, Christopher and Peter J. Katzenstein (2002) ‘Why Is There No NATO
in Asia? Collective Identity, Regionalism, and the Origins of Multilateralism’,
International Organization, 56:3, 575–607.
Henderson, Errol (2013) ‘Hidden in Plain Sight: Racism in International
Relations Theory’, Cambridge Review of International Affairs, 26:1, 71–92.
Higgott, Richard and Richard Stubbs (1995) ‘Competing Conceptions of
338
Economic Regionalism: APEC versus EAEC in the Asia Pacific’, Review of
International Political Economy, 2:3, 516–35.
Higgott, Richard and Matthew Watson (2007) ‘All at Sea in a Barbed Wire Canoe:
338 Professor Cohen’s Transatlantic Voyage in IPE’, Review of International
References
Political Economy, 15:1, 1–17.
Hirst, Paul and Grahame Thompson (1996) Globalisation in Question, Cambridge:
Polity Press.
Hobden, Stephen and Richard Wyn Jones (2008) ‘Marxist Theories of
International Relations’, in John Baylis, Steve Smith and Patricia Owens
(eds.), Globalization of World Politics: An Introduction to International Relations,
4th edn., Oxford: Oxford University Press, 142–59.
Hobson, J. A. (1902) Imperialism: A Study, New York: James Pott & Co.
(1915) Towards International Government, London: G. Allen & Unwin.
Hobson, John M. (2004) The Eastern Origins of Western Civilization,
Cambridge: Cambridge University Press.
(2010) ‘Back to the Future of Nineteenth Century Western International
Thought?’, in George Lawson, Chris Armbruster and Michael Cox (eds.),
The Global 1989, Cambridge: Cambridge University Press, 23–50.
(2012) The Eurocentric Origins of International Relations: Western International
Theory, 1760–2010, Cambridge: Cambridge University Press.
Hodges, Michael (1978) ‘Integration Theory’, in Trevor Taylor (ed.), Approaches
and Theory in International Relations, London: Longman, 237–56.
Hoffmann, Stanley (1977) ‘An American Social Science: International Relations’,
Daedalus, 106:3, 41–60.
(1991) ‘Watch Out for a New World Disorder’, International Herald Tribune,
26 February.
Hollis, Martin and Steve Smith (1990) Explaining and Understanding International
Relations, Oxford: Clarendon Press.
Holsti, Kalevi J. (1985) The Dividing Discipline: Hegemony and Diversity in
International Relations Theory, Boston: Allen and Unwin.
(2001) ‘Along the Road to International Theory in the Next Millennium: Four
498
Travelogues’, in Robert A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.),
International Relations – Still an American Social Science? Toward Diversity in
International Thought, New York: State University of New York Press, 73–99.
(2004) Taming the Sovereigns: Institutional Change in International Politics,
Theory, 1760–2010, Cambridge: Cambridge University Press.
Hodges, Michael (1978) ‘Integration Theory’, in Trevor Taylor (ed.), Approaches
and Theory in International Relations, London: Longman, 237–56.
Hoffmann, Stanley (1977) ‘An American Social Science: International Relations’,
Daedalus, 106:3, 41–60.
(1991) ‘Watch Out for a New World Disorder’, International Herald Tribune,
26 February.
‫ببليوغرافيا‬
Hollis, Martin and Steve Smith (1990) Explaining and Understanding International
Relations, Oxford: Clarendon Press.
Holsti, Kalevi J. (1985) The Dividing Discipline: Hegemony and Diversity in
International Relations Theory, Boston: Allen and Unwin.
(2001) ‘Along the Road to International Theory in the Next Millennium: Four
Travelogues’, in Robert A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.),
International Relations – Still an American Social Science? Toward Diversity in
International Thought, New York: State University of New York Press, 73–99.
(2004) Taming the Sovereigns: Institutional Change in International Politics,
Cambridge: Cambridge University Press.
Holsti, Ole R. (2014) ‘Present at the Creation’, Address at the annual meeting
of ISA/West, Pasadena, CA, September 27, www.isanet.org/Portals/0/
Documents/Institutional/Holsti_ISA_West.pdf (Accessed 27 May 2018).
Homer-Dixon, Thomas, Brian Walker, Reinette Biggs, Anne-Sophie Crépin,
Carl Folke, Eric F. Lambin, Garry D. Peterson, Johan Rockström, Marten
Scheffer, Will Steffen and Max Troell (2015) ‘Synchronous Failure: The
Emerging Causal Architecture of Global Crisis’, Ecology and Society, 20:3, 6.
Hopf , Ted (1998) ‘The Promise of Constructivism in International Relations
Theory’, International Security, 23:1, 171–200.
Howard, Michael (1981) War and the Liberal Conscience, Oxford: Oxford
University Press.
339 Howland, Douglas (2016) International Law and Japanese Sovereignty, New York:
Palgrave Macmillan.
Hosoya,Yuichi (2009) ‘Kokusaiseijishi no keifugaku – sengo Nihon no Ayumi wo
chushin ni’ [On the Genealogy of International Political History: Postwar
References 339
Japan’s Path and Before), in Nihon Kokusai Seiji Gakkai [Japan Association
of International Relations] ed., Rekishi no nakano kokusaiseiji [Historical
Approaches to International Politics], Tokyo: Yuhikaku.
Hula, Erich (1942) Pan-Americanism: Its Utopian and Realistic Elements,
Washington, DC: American Council on Public Affairs.
Huntington, Samuel P. (1991) ‘America’s Changing Strategic Interests’,
Survival, 33:1, 3–17.
(1999) ‘The Lonely Superpower’, Foreign Affairs, 78:2, 35–49.
Hurrell, Andrew (2007) On Global Order: Power, Values and the Constitution of
International Society, Oxford: Oxford University Press.
Hurrell, Andrew and Ngaire Woods (1995) ‘Globalization and Inequality’,
Millennium, 24:3, 447–70.
Ikenberry, G. John (2001) After Victory: Institutions, Strategic Restraint, and the
Rebuilding of Order after Major Wars, Princeton: Princeton University Press.
(2009) ‘Liberal Internationalism 3.0: America and the Dilemmas of Liberal
World Order’, Perspectives on Politics, 7:1, 71–86.
(2011) Liberal Leviathan: The Origins, Crisis, and Transformation of the American
World Order, Princeton: Princeton University Press.
Ikenberry, G. John and Michael Mastanduno (2003) ‘Conclusion: Images of
Order in the Asia-Pacific and the Role of the United States’, in G. John
Ikenberry and Michael Mastanduno (eds.), International Relations Theory
and the Asia-Pacific, New York: Columbia University Press, 421–39.
Ikenberry, G. John and Anne-Marie Slaughter (2006) Forging a World of Liberty
under Law: US National Security in the 21st Century, Princeton: Princeton
Project Papers, Woodrow Wilson School of Public and International Affairs.
Inoguchi, Takashi (2007) ‘Are There Any Theories of International Relations in
Japan?’, International Relations of the Asia-Pacific, 7:3, 369–90.
(2009) ‘Japan, Korea, and Taiwan: Are One Hundred Flowers about to
Blossom?’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 86–102.
499
Inter-Agency Network on Women and Gender Equality (1999) ‘Final
Communiqué, Women’s Empowerment in the Context of Human Security’,
7–8 December, ESCAP, Bangkok, Thailand, www.un.org/womenwatch/
ianwge/collaboration/finalcomm1999.htm (Accessed 2 June 2018).
International Institute for Strategic Studies (1971) The Military Balance, vol. 71,
Ikenberry and Michael Mastanduno (eds.), International Relations Theory
and the Asia-Pacific, New York: Columbia University Press, 421–39.
Ikenberry, G. John and Anne-Marie Slaughter (2006) Forging a World of Liberty
under Law: US National Security in the 21st Century, Princeton: Princeton
Project Papers, Woodrow Wilson School of Public and International Affairs.
Inoguchi, Takashi (2007) ‘Are There Any Theories of International Relations in
Japan?’, International Relations of the Asia-Pacific, 7:3‫الدولية‬
‫العاملية‬ , 369–90‫العالقات‬
. ‫تشكيل‬
(2009) ‘Japan, Korea, and Taiwan: Are One Hundred Flowers about to
Blossom?’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 86–102.
Inter-Agency Network on Women and Gender Equality (1999) ‘Final
Communiqué, Women’s Empowerment in the Context of Human Security’,
7–8 December, ESCAP, Bangkok, Thailand, www.un.org/womenwatch/
ianwge/collaboration/finalcomm1999.htm (Accessed 2 June 2018).
International Institute for Strategic Studies (1971) The Military Balance, vol. 71,
London: International Institute for Strategic Studies.
IOM (International Organization for Migration) (2014) Afghanistan Migration
Profile, https://publications.iom.int/system/files/pdf/mp_afghanistan_0.pdf
(Accessed 7 October 2017).
(2015) Global Migration Flows, www.iom.int/world-migration (Accessed 7
October 2017).
(2017) Global Migration Trends 2015 Factsheet, http://publications.iom.int/
system/files/global_migration_trends_2015_factsheet.pdf (Accessed 7
340 October 2017).
Ireland, Alleyne (1899) Tropical Colonization: An Introduction to the Study of the
Subject, New York: Macmillan & Co.
Jackson, Gregory and Richard Deeg (2006) ‘How Many Varieties of Capitalism?
340 References
Comparing the Comparative Institutional Analyses of Capitalist Diversity’,
Köln, Max Planck Institute for the Study of Societies, Discussion Paper 06/
2, 48 pp.
Jackson, Patrick Thaddeus (2010) The Conduct of Inquiry in International
Relations: Philosophy of Science and Its Implications for the Study of World
Politics, Oxford: Routledge.
(2014) ‘The “Third Debate” 25 Years Later’, Symposium, 20 March, www.
isanet.org/ Publications/ ISQ/ Posts/ ID/ 297/ The- Third- Debate- 25- Years-
Later [Unpaginated essay] (Accessed 27 May 2018).
Jackson, Patrick Thaddeus and Daniel H. Nexon (2013) ‘International Theory in
a Post-Paradigmatic Era: From Substantive Wagers to Scientific Ontologies’,
European Journal of International Relations, 19:3, 543–65.
Jackson, Robert H. (1990) ‘Martin Wight, International Theory and the Good
Life’, Millennium, 19:2, 261–72.
(2000) The Global Covenant: Human Conduct in aWorld of States, Oxford: Oxford
University Press.
James, C. L. R. (1933) The Case for West-Indian Self Government, London:
Hogarth Press.
([1937] 2017) World Revolution, 1917–1936: The Rise and Fall of the Communist
International, Durham, NC: Duke University Press.
([1938] 1989) The Black Jacobins: Toussaint L’Ouverture and the San Domingo
Revolution, 2nd edn., New York: Vintage Books.
Jansen, Jan C. and Jürgen Osterhammel (2017) Decolonization: A Short History,
Princeton: Princeton University Press.
Jansen, Marius B. (2000) The Making of Modern Japan, Cambridge, MA: Belknap
Press.
Jervis, Robert (1994) ‘Hans Morgenthau, Realism, and Scientific Study of
International Politics’, Social Research, 61:4, 853–76.
(1999) ‘Realism, Neoliberalism, and Cooperation: Understanding the Debate’,
International Security, 24:1, 42–63.
Joas, Hans (2003) War and Modernity, translated by Rodney Livingstone,
Cambridge: Polity Press.
Job, Brian L. (ed.) (1991) The (In)security Dilemma: National Security of Third
World States, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Johnston, Alastair Iain (1998) Cultural Realism: Strategic Culture and Grand
Strategy in Chinese History, Princeton: Princeton University Press. 500
(2012) ‘What (If Anything) Does East Asia Tell Us about International
Relations Theory?’, Annual Review of Political Science, 15, 53–78.
Joll, James (1982) ‘The Ideal and the Real: Changing Concepts of the
International System, 1815–1982’, International Affairs, 58:2, 210–24.
Press.
Jervis, Robert (1994) ‘Hans Morgenthau, Realism, and Scientific Study of
International Politics’, Social Research, 61:4, 853–76.
(1999) ‘Realism, Neoliberalism, and Cooperation: Understanding the Debate’,
International Security, 24:1, 42–63.
Joas, Hans (2003) War and Modernity, translated by Rodney Livingstone,
Cambridge: Polity Press.
‫ببليوغرافيا‬
Job, Brian L. (ed.) (1991) The (In)security Dilemma: National Security of Third
World States, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Johnston, Alastair Iain (1998) Cultural Realism: Strategic Culture and Grand
Strategy in Chinese History, Princeton: Princeton University Press.
(2012) ‘What (If Anything) Does East Asia Tell Us about International
Relations Theory?’, Annual Review of Political Science, 15, 53–78.
Joll, James (1982) ‘The Ideal and the Real: Changing Concepts of the
International System, 1815–1982’, International Affairs, 58:2, 210–24.
Jomini, Antoine-Henri ([1838] 1854) The Art of War, translated by Major O. F.
Winship and Lieut. E. E. McLean, New York: G. P. Putnam.
Kacowicz, Arie M. (2005) The Impact of Norms in International Society: The
341 Latin American Experience, 1881–2001, Notre Dame, IN: Notre Dame
University Press.
(2009) ‘Israel: The Development of a Discipline in a Unique Setting’, in
Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship
References 341
around the World, Abingdon: Routledge, 191–207.
Kahler, Miles (1993) ‘International Relations: An American Social Science or
an International One’, in Linda B. Miller and Michael Joseph Smith (eds.),
Ideas and Ideals: Essays on Politics in Honor of Stanley Hoffmann, Boulder,
CO: Westview Press, 395–414.
(1997) ‘Inventing International Relations: International Relations after
1945’, in Michael W. Doyle and G. John Ikenberry (eds.), New Thinking in
International Relations Theory, Boulder, CO: Westview Press, 20–53.
Kang, David C. (2003) ‘Getting Asia Wrong: The Need for New Analytical
Frameworks’, International Security, 27:4, 57–85.
(2005) ‘Hierarchy in Asian International Relations: 1300–1900’, Asian
Security, 11:1, 53–79.
Kang, Yuwei ([1935] 1958) Da Tong Shu/Ta T’ung Shu (The Great Harmony),
translated by Laurence G. Thompson, London: George Allen & Unwin.
Kaplan, Morton A. (1966) ‘The New Great Debate: Traditionalism vs. Science
in International Relations’, World Politics, 19:1, 1–20.
Kapoor, Ilan (2002) ‘Capitalism, Culture, Agency: Dependency versus
Postcolonial Theory’, Third World Quarterly, 23:4, 647–64.
Kapstein, Ethan B. and Michael Mastanduno (eds.) (1999) Unipolar Politics,
New York: Columbia University Press.
Karim, Azhari (2007) ‘ASEAN: Association to Community: Constructed in
the Image of Malaysia’s Global Diplomacy’, in Abdul Razak Baginda
(ed.), Malaysia’s Foreign Policy: Continuity and Change, Singapore: Marshall
Cavendish, 109–32.
Karl, Rebecca (1998) ‘Creating Asia: China in the World at the Beginning of
Twentieth Century’, The American Historical Review, 103:4, 1096–118.
Katzenstein, Peter J. (2010) ‘A World of Plural and Pluralist Civilizations: Multiple
Actors, Traditions and Practices’, in Peter J. Katzenstein (ed.), Civilizations
in World Politics, London: Routledge, 1–40.
(2012) ‘Many Wests and Polymorphic Globalism’, in Peter J. Katzenstein
(ed.), Anglo-America and Its Discontents: Civilizational Identities beyond West
and East, London and New York: Routledge, 207–47.
Katzenstein, Peter J., Robert O. Keohane and Stephen D. Krasner (eds.)
(1999) Exploration and Contestation in the Study of World Politics, Cambridge,
MA: MIT Press.
Kaushik, Ashok (ed.) (2007) Srimad Bhagavad Gita, English translation by Janak
Datta, 7th edn., New Delhi: Star Publications.
Kawata, Tadashi and Saburo Ninomiya (1964) ‘The Development of the Study
of International Relations in Japan’, The Developing Economies, 2:2, 190–204.
Kayaoğlu, Turan (2010a) Legal Imperialism: Sovereignty and Extraterritoriality in
501 Japan, Ottoman Empire and China, Cambridge: Cambridge University Press.
(2010b) ‘Westphalian Eurocentrism in International Relations Theory’,
International Studies Review, 12:2, 193–217.
Keck, Margaret and Kathryn Sikkink (1998) Activists beyond Borders: Advocacy
Networks in International Politics, Ithaca, NY: Cornell University Press.
(ed.), Anglo-America and Its Discontents: Civilizational Identities beyond West
and East, London and New York: Routledge, 207–47.
Katzenstein, Peter J., Robert O. Keohane and Stephen D. Krasner (eds.)
(1999) Exploration and Contestation in the Study of World Politics, Cambridge,
MA: MIT Press.
Kaushik, Ashok (ed.) (2007) Srimad Bhagavad Gita, English translation by Janak
Datta, 7th edn., New Delhi: Star Publications .
‫العاملية‬ ‫تشكيل العالقات الدولية‬
Kawata, Tadashi and Saburo Ninomiya (1964) ‘The Development of the Study
of International Relations in Japan’, The Developing Economies, 2:2, 190–204.
Kayaoğlu, Turan (2010a) Legal Imperialism: Sovereignty and Extraterritoriality in
Japan, Ottoman Empire and China, Cambridge: Cambridge University Press.
(2010b) ‘Westphalian Eurocentrism in International Relations Theory’,
International Studies Review, 12:2, 193–217.
342
Keck, Margaret and Kathryn Sikkink (1998) Activists beyond Borders: Advocacy
Networks in International Politics, Ithaca, NY: Cornell University Press.
Kedourie, Eli (2018) ‘Jamāl al-Dı n ̄ al-Afghānı ̄’, Encyclopaedia Britannica, 2
342 March, www.britannica.com/biography/Jamal-al-Din-al-Afghani (Accessed
References
27 May 2018).
Keeley, James F. (1990) ‘Toward a Foucauldian Analysis of Regimes’, International
Organization, 44:1, 83–105.
Keene, Edward (2002) Beyond the Anarchical Society, Cambridge: Cambridge
University Press.
Keenleyside, T. A. (1982) ‘Nationalist Indian Attitudes towards Asia: A
Troublesome Legacy for Post-Independence Indian Foreign Policy’, Pacific
Affairs, 55:2, 210–30.
Keith, A. Berriedale (1924) The Constitution, Administration and Laws of the
Empire, London: W. Collins Sons & Co.
Kennedy, Dane (1996) ‘Imperial History and Post-Colonial Theory’, Journal of
Imperial and Commonwealth History, 24:3, 345–63.
Keohane, Robert O. (1984) After Hegemony: Cooperation and Discord in the World
Political Economy, Princeton: Princeton University Press.
(1989) International Institutions and State Power: Essays in International Relations
Theory, Boulder, CO: Westview Press.
Keohane, Robert O. and Lisa L. Martin (1995) ‘The Promise of Institutionalist
Theory’, International Security, 19:1, 39–51.
Keohane, Robert O. and Joseph S. Nye (1977) Power and Interdependence: World
Politics in Transition, Boston: Little, Brown.
(2000) ‘Globalization: What’s New? What’s Not? (And So What)’, Foreign
Policy, 118, 104–19.
Kerr, P. H. (1916) ‘Political Relations between Advanced and Backward
Peoples’, in A. J. Grant, Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr
and F. F. Urquhart, An Introduction to the Study of International Relations,
London: Macmillan, 141–82.
Kindleberger, Charles P. (1973) The World in Depression, 1929–39, London: Allen
Lane.
King, Gary, Robert O. Keohane and Sidney Verba (1994) Designing Social
Inquiry: Scientific Inference in Qualitative Research, Princeton: Princeton
University Press.
Kissinger, Henry (2011) On China, London: Allen Lane.
Knutsen, Torbjørn (2016) A History of International Relations Theory, 3rd edn.,
Manchester: Manchester University Press.
Kohli, Atul (2004) State-Directed Development: Political Power and Industrialization
in the Global Periphery, Cambridge: Cambridge University Press.
Kokubun, Ryosei, Yoshihide Soeya, Akio Takahara and Shin Kawashima (2017)
Japan–China Relations in the Modern Era, London: Routledge.
Koskenniemi, Martti (2001) The Gentle Civilizer of Nations: The Rise and Fall of
International Law, 1870–1960, Cambridge: Cambridge University Press.
Köstem, Seçkin (2015) ‘International Relations Theories and Turkish International
Relations: Observations Based on a Book’, All Azimuth, 4:1, 59–66.
Koyama, Hitomi and Barry Buzan (2018) ‘Rethinking Japan in Mainstream
International Relations’, International Relations of the Asia-Pacific, lcy013,
doi: 10.1093/irap/lcy013, 25 May, 1–28 (Accessed 27 June 2018).
Kramer, Martin (1993) ‘Arab Nationalism: Mistaken Identity’, Daedalus, 122:3, 502
171–206.
Krasner, Stephen (1976) ‘State Power and the Structure of International Trade’,
World Politics, 28:3, 317–43.
in the Global Periphery, Cambridge: Cambridge University Press.
Kokubun, Ryosei, Yoshihide Soeya, Akio Takahara and Shin Kawashima (2017)
Japan–China Relations in the Modern Era, London: Routledge.
Koskenniemi, Martti (2001) The Gentle Civilizer of Nations: The Rise and Fall of
International Law, 1870–1960, Cambridge: Cambridge University Press.
Köstem, Seçkin (2015) ‘International Relations Theories and Turkish International
Relations: Observations Based on a Book’, All Azimuth, 4:1, 59–66.
‫ببليوغرافيا‬
Koyama, Hitomi and Barry Buzan (2018) ‘Rethinking Japan in Mainstream
International Relations’, International Relations of the Asia-Pacific, lcy013,
343 doi: 10.1093/irap/lcy013, 25 May, 1–28 (Accessed 27 June 2018).
Kramer, Martin (1993) ‘Arab Nationalism: Mistaken Identity’, Daedalus, 122:3,
171–206.
Krasner, Stephen
References(1976) ‘State Power and the Structure of International Trade 343’,
World Politics, 28:3, 317–43.
Krippendorff , Ekkehart (1989) ‘The Dominance of American Approaches in
International Relations’, in Hugh C. Dyer and Leon Mangasarian (eds.),
The Study of International Relations: The State of the Art, Basingstoke:
Palgrave, 28–39.
Krishna, Sankaran (1993) ‘The Importance of Being Ironic: A Postcolonial View
on Critical International Relations Theory’, Alternatives, 18:3, 385–417.
Kristensen, Peter Marcus (2015) ‘Revisiting the “American Social Science” –
Mapping the Geography of International Relations’, International Studies
Perspectives, 16:3, 246–69.
(2018) ‘International Relations at the End: A Sociological Autopsy’,
International Studies Quarterly, sqy002, doi: 10.1093/isq/sqy002, 3 May,
1–10 (Accessed 27 June 2018).
Kuga, Katsunan ([1893] 1968) Gensei oyobi Kokusa Ron (On the International),
in Kuga Katsunan Zenshu (Collected Complete Works of Kuga Katsunan),
Tokyo: Misuzu Shobo, 123–81.
Kupchan, Charles A. (2012) No One’s World: The West, the Rising Rest, and the
Coming Global Turn, New York: Oxford University Press.
Kuru, Deniz (2016) ‘Historicising Eurocentrism and Anti-Eurocentrism in IR: A
Revisionist Account of Disciplinary Self-Reflexivity’, Review of International
Studies, 42:2, 351–76.
(2017) ‘Who F(o)unded IR: American Philanthropists and the Discipline of
International Relations in Europe’, International Relations, 31:1, 42–67.
Kuryla, Peter (2016) ‘Pan-Africanism’, Encyclopaedia Britannica, www
.britannica.com/topic/Pan-Africanism (Accessed 30 March 2018).
Ladwig III, Walter C. (2009) ‘Delhi’s Pacific Ambition: Naval Power, “Look
East”, and India’s Emerging Influence in the Asia-Pacific’, Asian Security,
55:2, 87–113.
Lake, David A. (2008) ‘International Political Economy: A Maturing
Interdiscipline’, in Donald A. Wittman and Barry R. Weingast (eds.), The
Oxford Handbook of Political Economy, Oxford: Oxford University Press,
757–77.
(2011) ‘Why “Isms” are Evil: Theory, Epistemology, and Academic Sects
as Impediments to Understanding and Progress’, International Studies
Quarterly, 55:2, 465–80.
Lapid,Yosef (1989) ‘The Third Debate: On the Prospects of International Theory
in a Post-positivist Era’, International Studies Quarterly, 33:3, 235–54.
Lawrence, T. J. (1919) The Society of Nations: Its Past, Present, and Possible Future,
New York: Oxford University Press.
Lawson, George (2012) ‘The Eternal Divide? History and International
Relations’, European Journal of International Relations, 18:2, 203–26.
Lawson, George and John M. Hobson (2008) ‘What Is History in International
Relations?’, Millennium, 37:2, 415–35.
Layne, Christopher (1993) ‘The Unipolar Illusion: Why Other Great Powers
Will Rise’, International Security, 17:4, 5–51.
(2006) ‘The Unipolar Illusion Revisited: The Coming End of the United
States’ Unipolar Moment’, International Security, 31:2, 7–41.
League of Arab States (1955) The Report of the Arab League on the Bandung
Conference, Cairo: League of the Arab States.
503
Lawson, George (2012) ‘The Eternal Divide? History and International
Relations’, European Journal of International Relations, 18:2, 203–26.
Lawson, George and John M. Hobson (2008) ‘What Is History in International
Relations?’, Millennium, 37:2, 415–35.
Layne, Christopher (1993) ‘The Unipolar Illusion: Why Other Great Powers
344
Will Rise’, International Security, 17:4, 5–51.
(2006) ‘The Unipolar Illusion Revisited: The Coming
‫العاملية‬ End‫العالقات‬
‫الدولية‬ of the United
‫تشكيل‬
States’ Unipolar Moment’, International Security, 31:2, 7–41.
League of
344 Arab States (1955) The Report of the Arab League on the Bandung
References
Conference, Cairo: League of the Arab States.
Lebedeva, Marina M. (2004) ‘International Relations Studies in the USSR/
Russia: Is There a Russian National School of IR Studies?’, Global Society,
18:3, 263–78.
Lenin, Vladimir Ilyich ([1916] 1975) Imperialism: The Highest Stage of Capitalism,
Peking: Foreign Languages Press.
Leonard, Thomas (2000) ‘The New Pan Americanism in US–Central American
Relations, 1933–1954’, in David Sheinin (ed.), Beyond the Ideal: Pan
Americanism in International Affairs, Westport, CT: Praeger, 95–114.
Levy, Jack S. (1989) ‘The Causes of Wars: A Review of Theories and Evidence’, in
Philip E. Tetlock, Jo L. Husbands, Robert Jervis, Paul C. Stern and Charles
Tilly (eds.), Behavior, Society and Nuclear War, vol. 1, New York: Oxford
University Press, 209–333.
Liddell Hart, Basil (1946) The Revolution in Warfare, London: Faber & Faber.
Lindberg, Leon N. and Stuart A. Scheingold (1971) Regional Integration: Theory
and Research, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Ling, L. H. M. (2002) Postcolonial International Relations: Conquest and Desire
between Asia and the West, London: Palgrave.
(2010) ‘Journeys beyond the West: World Orders and a 7th-Century, Buddhist
Monk’, Review of International Studies, 36:S1, 225–48.
Linklater, Andrew (1996) ‘The Achievements of Critical Theory’, in Steve Smith,
Ken Booth and Marysia Zalewski (eds.), International Theory: Positivism and
Beyond, Cambridge: Cambridge University Press, 279–98.
(2001) ‘Marxism’, in Scott Burchill, Richard Devetak, Andrew Linklater,
Matthew Paterson, Christian Reus-Smit and Jacqui True, Theories of
International Relations, 2nd edn., Basingstoke: Palgrave, 129–54.
Little, Richard (2008) ‘The Expansion of the International Society in Heeren’s
Account of the European States-System’, SPAIS Working Paper no. 07–08,
University of Bristol, 20 pp.
Little, Richard and Mike Smith (1980) Perspectives on World Politics, London:
Routledge.
Lobell, Steven E., Norrin M. Ripsman and Jeffrey W. Taliaferro (eds.) (2009)
Neoclassical Realism, the State, and Foreign Policy, New York: Cambridge
University Press.
Lockey, Joseph Byrne (1920) Pan-Americanism: Its Beginnings, New York:
Macmillan.
Long, David (1995) ‘Conclusion: Inter-War Idealism, Liberal Internationalism,
and Contemporary International Theory’, in David Long and Peter Wilson
(eds.), Thinkers of the Twenty Years’ Crisis: Inter-War Idealism Reassessed,
Oxford: Clarendon, 302–28.
(2006) ‘Who Killed the International Studies Conference?’, Review of
International Studies, 32:4, 603–22.
Long, David and Brian C. Schmidt (2005) ‘Introduction’, in David Long and
Brian C. Schmidt (eds.), Imperialism and Internationalism in the Discipline of
345 International Relations, Albany: SUNY Press, 1–21.
Long, David and Peter Wilson (eds.) (1995) Thinkers of the Twenty Years’
Crisis: Inter-War Idealism Reassessed, Oxford: Clarendon Press.
James (1877) ‘Le problème final du droit international’, Revue de droit
Lorimer, References 345
international et de législation comparée, 9:2, 161–205.
(1884) The Institutes of the Law of Nations: A Treatise on the Jural Relations of
Separate Political Communities, Edinburgh and London: William Blackwood
and Sons.
Lu, Peng (2014) ‘Pre-1949 Chinese IR: An Occluded History’, Australian Journal
of International Affairs, 68:2, 133–55. 504
Luttwak, Edward N. (2012) The Rise of China vs. the Logic of Strategy, Cambridge,
MA: Belknap Press.
Lynch, Timothy J. (2013) ‘George W. Bush’, in Michael Cox, Timothy J. Lynch
and Nicolas Bouchet (eds.), US Foreign Policy and Democracy Promotion: From
345

References 345

(1884) The Institutes of the Law of Nations: A Treatise on the Jural Relations of
‫ببليوغرافيا‬
Separate Political Communities, Edinburgh and London: William Blackwood
and Sons.
Lu, Peng (2014) ‘Pre-1949 Chinese IR: An Occluded History’, Australian Journal
of International Affairs, 68:2, 133–55.
Luttwak, Edward N. (2012) The Rise of China vs. the Logic of Strategy, Cambridge,
MA: Belknap Press.
Lynch, Timothy J. (2013) ‘George W. Bush’, in Michael Cox, Timothy J. Lynch
and Nicolas Bouchet (eds.), US Foreign Policy and Democracy Promotion: From
Theodore Roosevelt to Barack Obama, Abingdon: Routledge, 178–95.
MacCalman, Molly (2016) ‘A. Q. Khan Nuclear Smuggling Network’, Journal of
Strategic Security, 9:1, 104–18.
Mace, Gordon (1986) ‘Regional Integration’, World Encyclopedia of Peace,
Oxford: Pergamon Press, 323–5.
MacFarlane, S. Neil (1993) ‘Russia, the West and European Security’, Survival,
35:3, 3–25.
McGann, James G. (2018) ‘2017 Global Go To Think Tank Index Report’,
TTCSP Global Go To Think Tank Index Reports, 13.
Mackinder, Halford ([1904] 1996) ‘The Geographical Pivot of History’, in
Halford Mackinder, Democratic Ideals and Reality, Washington, DC: National
Defence University, 175–94.
(1919) Democratic Ideals and Reality: A Study in the Politics of Reconstruction,
London: Constable and Co.
McKinlay, Robert and Richard Little (1986) Global Problems and World Order,
London: Frances Pinter.
Mackintosh-Smith, Tim (2002) The Travels of Ibn Battutah, London: Picador.
McNally, Christopher (2013) ‘How Emerging Forms of Capitalism Are
Changing the Global Economic Order’, East-West Center: Asia-Pacific
Issues, no. 107.
Maddison, Angus (2001) The World Economy: A Millennial Perspective, Paris:
Development Centre of the Organisation for Economic Co-operation and
Development.
Mahan, Alfred Thayer (1890) The Influence of Sea Power upon History, 1660–1783,
Boston: Little, Brown.
Makarychev, Andrey and Viatcheslav Morozov (2013) ‘Is “Non-Western Theory”
Possible? The Idea of Multipolarity and the Trap of Epistemological
Relativism in Russian IR’, International Studies Review, 15:3, 328–50.
Makdisi, Karim (2009) ‘Reflections on the State of IR in the Arab Region’, in
Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship
around the World, Abingdon: Routledge, 180–90.
Malaquias, Assis (2001) ‘Reformulating International Relations Theory: African
Insights and Challenges’, in Kevin Dunn and Timothy Shaw (eds.), Africa’s
Challenge to International Relations Theory, New York: Palgrave, 11–28.
346 Maliniak, Daniel, Amy Oakes, Susan Peterson and Michael J. Tierney (2011)
‘International Relations in the US Academy’, International Studies Quarterly,
55:2, 437–64.
Maliniak
346 Daniel, Susan Peterson, Ryan Powers and Michael J. Tierney
,References
(2018) ‘Is International Relations a Global Discipline? Hegemony,
Insularity and Diversity in the Field’, Security Studies, doi: 10.1080/
09636412.2017.1416824 (Accessed 27 June 2018).
Mallavarapu, Siddharth (2009) ‘Development of International Relations
Theory in India: Traditions, Contemporary Perspectives and Trajectories’,
International Studies, 46:1–2, 165–83.
(2018) ‘The Sociology of International Relations in India: Competing
Conceptions of Political Order’, in Gunther Hellman (ed.), Theorizing
Global Order: The International, Culture and Governance, Frankfurt: Campus
505 Verlag GmbH, 142–71.
Mani, V. S. (2004) ‘An Indian Perspective on the Evolution of International
Law’, in B. S. Chimni, Miyoshi Masahiro and Surya P. Subedi (eds.), Asian
Yearbook of International Law, 2000, vol. 9, Leiden: Brill, 31–78.
Mann, Michael (2001) ‘Democracy and Ethnic War’, in Tarak Barkawi and Mark
346 References

Insularity and Diversity in the Field’, Security Studies, doi: 10.1080/


09636412.2017.1416824 (Accessed 27 June 2018).
Mallavarapu, Siddharth (2009) ‘Development of International Relations
Theory in India: Traditions, Contemporary Perspectives and Trajectories’,
International Studies, 46:1–2, 165–83. ‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬
(2018) ‘The Sociology of International Relations in India: Competing
Conceptions of Political Order’, in Gunther Hellman (ed.), Theorizing
Global Order: The International, Culture and Governance, Frankfurt: Campus
Verlag GmbH, 142–71.
Mani, V. S. (2004) ‘An Indian Perspective on the Evolution of International
Law’, in B. S. Chimni, Miyoshi Masahiro and Surya P. Subedi (eds.), Asian
Yearbook of International Law, 2000, vol. 9, Leiden: Brill, 31–78.
Mann, Michael (2001) ‘Democracy and Ethnic War’, in Tarak Barkawi and Mark
Laffey (eds.), Democracy, Liberalism, and War: Rethinking the Democratic Peace
Debate, Boulder, CO: Lynne Rienner, 67–85.
Maoz, Zeev and Bruce Russett (1993) ‘Normative and Structural Causes of
the Democratic Peace, 1946–1986’, American Political Science Review, 87:3,
624–38.
Marder, Arthur J. (1961) From the Dreadnought to Scapa Flow: The Royal Navy in
the Fisher Era, 1904–1919, vol. 1, The Road toWar 1904–1914, Oxford: Oxford
University Press.
Marshall, Peter J. (2001) The Cambridge Illustrated History of the British Empire,
Cambridge: Cambridge University Press.
Marx, Karl ([1852] 1963) The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte,
New York: International Publishers.
Marx, Karl and Friedrich Engels ([1848] 2010) Manifesto of the Communist
Party, www.marxists.org/archive/marx/works/download/pdf/Manifesto.pdf
(Accessed 24 May 2017).
Maull, Hanns W. (1990) ‘Germany and Japan: The New Civilian Powers’, Foreign
Affairs, 69:5, 91–106.
Mayall, James (1990) Nationalism and International Society, Cambridge: Cambridge
University Press.
Mazrui, Ali (1967) Towards a Pax Africana: A Study of Ideology and Ambition,
Chicago: University of Chicago Press.
(1986) The Africans: A Triple Heritage, Boston: Little, Brown.
Mearsheimer, John J. (1990) ‘Back to the Future: Instability in Europe after the
Cold War’, International Security, 15:1, 5–55.
(1994/5) ‘The False Promise of International Institutions’, International
Security, 19:3, 5–49.
(2001) The Tragedy of Great Power Politics, New York: W. W. Norton & Co.
(2016) ‘Benign Hegemony’, International Studies Review, 18:1, 147–9.
Meinecke, Friedrich (1908) Weltbürgertum und Nationalstaat: Studien zur Genesis
des deutschen Nationalstaates (Cosmopolitanism and the Nationstate: Studies
in the Beginning of the German Nationstates), Munich: R. Oldenbourg.
347 Merke, Federico (2011) ‘The Primary Institutions of Latin American Regional
Interstate Society’, Paper for IDEAS Latin America Programme, LSE, 27
January, 38 pp.
Micklethwait , John and Adrian Wooldridge (2014) The Fourth Revolution: 347
References The
Global Race to Reinvent the State, New York: Penguin Press.
Mill, John Stuart (1848) Principles of Political Economy, London: John
W. Parker.
(1874) Dissertations and Discussions: Political, Philosophical, and Historical,
New York: Henry Holt & Co.
Miller, Lynn H. (1973) ‘The Prospects for Order through Regional Security’, in
Richard A. Falk and Saul H. Mendlovitz (eds.), Regional Politics and World
Order, San Francisco: W. H. Freeman, 50–77.
Mills, David (2013) Our Uncertain Future: When Digital Evolution, GlobalWarming
and Automation Converge, San Diego: Pacific Beach Publishing.
Milner, Anthony (2016) ‘Searching for Non-Western Perspectives on
“International Relations”: Malay/Malaysia’, Unpublished paper.
Mishra, Atul (2014) ‘Indigenism in Contemporary IR Discourses in India: A 506
Critique’, Studies in Indian Politics, 2:2, 119–35.
Mishra, Pankaj (2012) From the Ruins of Empire: The Revolt against the West and
the Remaking of Asia, London: Farrar, Straus and Giroux.
Mogwe, Alex (1994) ‘Human Rights in Botswana: Feminism, Oppression, and
W. Parker.
(1874) Dissertations and Discussions: Political, Philosophical, and Historical,
New York: Henry Holt & Co.
Miller, Lynn H. (1973) ‘The Prospects for Order through Regional Security’, in
Richard A. Falk and Saul H. Mendlovitz (eds.), Regional Politics and World
Order, San Francisco: W. H. Freeman, 50–77.
Mills, David (2013) Our Uncertain Future: When Digital Evolution, GlobalWarming
‫ببليوغرافيا‬
and Automation Converge, San Diego: Pacific Beach Publishing.
Milner, Anthony (2016) ‘Searching for Non-Western Perspectives on
“International Relations”: Malay/Malaysia’, Unpublished paper.
Mishra, Atul (2014) ‘Indigenism in Contemporary IR Discourses in India: A
Critique’, Studies in Indian Politics, 2:2, 119–35.
Mishra, Pankaj (2012) From the Ruins of Empire: The Revolt against the West and
the Remaking of Asia, London: Farrar, Straus and Giroux.
Mogwe, Alex (1994) ‘Human Rights in Botswana: Feminism, Oppression, and
“Integration” ’, Alternatives, 19:2, 189–93.
Mohanty, Chandra T. (1984) ‘Under Western Eyes: Feminist Scholarship and
Colonial Discourses’, Boundary, 2, 333–58.
Molyneux, Maxine and Fred Halliday (1984) ‘Marxism, the Third World and the
Middle East’, MERIP Reports, no. 120, January, 18–21.
Morgan, Kenneth O. (2012) ‘Alfred Zimmern’s Brave New World’, 12 March,
www.cymmrodorion.org/alfred-zimmerns-brave-new-world/ (Accessed 27
May 2018).
Morgenthau, Hans J. (1948) Politics among Nations: The Struggle for Power and
Peace, New York: A. A. Knopf .
(1967) Politics among Nations: The Struggle for Power and Peace, 4th edn.,
New York: Knopf .
Morley, Felix (1932) The Society of Nations: Its Organization and Constitutional
Development, Washington, DC: The Brookings Institution.
Mulgan, Geoff (2013) The Locust and the Bee, Princeton: Princeton University
Press.
Murphy, R. Taggart (2014) Japan and the Shackles of the Past, Oxford: Oxford
University Press.
Nandy, Ashis ([1983] 2009) The Intimate Enemy: Loss and Recovery of Self under
Colonialism, New Delhi: Oxford University Press.
(1995) ‘History’s Forgotten Doubles’, History and Theory, 34:2, 44–66.
Naoroji, Dadabhai (1901) Poverty and Un-British Rule in India, London: Swan
Sonnenschein.
Narlikar, Amrita and Aruna Narlikar (2014) Bargaining with a Rising India: Lessons
from the Mahabharata, Oxford: Oxford University Press.
Nath, Sathya and Sohini Dutta (2014) ‘Critiques of Benedict Anderson’s
Imagined Communities’, Cultural Studies (blog), http://culturalstudiesblog
.blogspot.nl/2014/08/critiques-of-benedict-andersons.html (Accessed 17
348 May 2018).
Navari, Cornelia (2009) Theorising International Society: English School Methods,
Basingstoke: Palgrave.
Nehru
348 , Jawaharlal
References([1946] 2003) The Discovery of India, 23rd impression, New
Delhi: Oxford University Press.
Neuman, Stephanie (ed.) (1998) International Relations Theory and the Third
World, New York: St Martin’s Press.
Nossal, Kim Richard (2001) ‘Tales that Textbooks Tell: Ethnocentricity and
Diversity in American Introductions to International Relations’, in Robert
A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.), International Relations – Still
an American Social Science? Toward Diversity in International Thought,
New York: State University of New York Press, 167–86.
Nye, Joseph S. (1968) ‘Central American Regional Integration’, in Joseph
S. Nye (ed.), International Regionalism: Readings, Boston: Little, Brown,
377–429.
(1988) ‘Neorealism and Neoliberalism’, World Politics, 40:2, 235–51.
Oatley, Thomas (2011) ‘The Reductionist Gamble: Open Economy Politics in
the Global Economy’, International Organization, 65:2, 311–41.
(2012) International Political Economy, 5th edn., Boston: Longman.
507
OECD (2011) Divided We Stand: Why Inequality Keeps Rising, www.oecd.org/els/
soc/49499779.pdf (Accessed 4 October 2017).
Ofuho, Cirino Hiteng (2009) ‘Africa: Teaching IR Where It’s Not Supposed
to Be’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 71–85.
A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.), International Relations – Still
an American Social Science? Toward Diversity in International Thought,
New York: State University of New York Press, 167–86.
Nye, Joseph S. (1968) ‘Central American Regional Integration’, in Joseph
S. Nye (ed.), International Regionalism: Readings, Boston: Little, Brown,
377–429.
(1988) ‘Neorealism and Neoliberalism’, World‫العاملية‬
Politics, ‫الدولية‬
40:2, 235– 51. ‫تشكيل‬
‫العالقات‬
Oatley, Thomas (2011) ‘The Reductionist Gamble: Open Economy Politics in
the Global Economy’, International Organization, 65:2, 311–41.
(2012) International Political Economy, 5th edn., Boston: Longman.
OECD (2011) Divided We Stand: Why Inequality Keeps Rising, www.oecd.org/els/
soc/49499779.pdf (Accessed 4 October 2017).
Ofuho, Cirino Hiteng (2009) ‘Africa: Teaching IR Where It’s Not Supposed
to Be’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 71–85.
Okakura, Kakuzō (1903) The Ideals of the East with Special Reference to the Art of
Japan, London: J. Murray.
(1904) The Awakening of Japan, New York: Century Co.
([1906] 1912) The Book of Tea, New York: Duffield & Company.
Olson, William C. (1972) ‘The Growth of a Discipline’, in Brian Porter (ed.),
The Aberystwyth Papers: International Politics 1919–1969, London: Oxford
University Press, 3–29.
Olson, William and A. J. R. Groom (1991) International Relations Then and
Now: Origins and Trends in Interpretation, London: Routledge.
Olson, William and Nicholas Onuf (1985) ‘The Growth of the Discipline
Reviewed’, in Steve Smith (ed.), International Relations: British and American
Perspectives, Oxford: Blackwell, 1–28.
Ong, Aihwa (2001) ‘Colonialism and Modernity: Feminist Re-presentations of
Women in Non-Western Societies’, in K. K. Bhavnani (ed.), Feminism and
Race, New York: Oxford University Press, 108–20.
Osterhammel, Jürgen (2014) The Transformation of the World: A Global History of
the Nineteenth Century, translated by Patrick Camiller, Princeton: Princeton
University Press.
Ó Tuathail, Gearóid (1996) Critical Geopolitics: The Politics of Writing Global
Space, Minneapolis: University of Minnesota Press.
(1998) ‘Introduction’ and ‘Imperialist Geopolitics’, in Gearóid Ó Tuathail,
Simon Dalby and Paul Routledge (eds.), The Geopolitics Reader, London:
Routledge, 1–43.
Ó Tuathail, Gearóid, Simon Dalby and Paul Routledge (eds.) (1998) The
349 Geopolitics Reader, London: Routledge.
Paine, S. C. M. (2012) The Wars for Asia, 1911–1949, New York: Cambridge
University Press.
The Japanese Empire: Grand Strategy from the Meiji Restoration to349
(2017) References the
Pacific War, New York: Cambridge University Press.
Palmer, Norman D. (1980) ‘The Study of International Relations in the United
States: Perspectives of Half a Century’, International Studies Quarterly, 24:3,
343–64.
Pant, Harsh V. (2009) ‘The US–India Nuclear Pact: Policy, Process, and Great
Power Politics’, Asian Security, 5:3, 273–95.
Parashar, Swati (2013) ‘Feminist (In)securities and Camp Politics’, International
Studies Perspectives, 13:4, 440–3.
Parry, Benita (1987) ‘Problems in Current Theories of Colonial Discourse’,
Oxford Literary Review, 9:1–2, 27–58.
Pasha, Mustapha Kamal (2013) ‘The “Bandung Impulse” and International
Relations’, in Sanjay Seth (ed.), Postcolonial Theory and International
Relations: A Critical Introduction, New York: Routledge, 144–65.
Paul, T. V. (2010) ‘State Capacity and South Asia’s Perennial Insecurity
Problems’, in T. V. Paul (ed.), South Asia’s Weak States: Understanding the
Regional Insecurity Predicament, Stanford: Stanford University Press, 3–27.
Pearton, Maurice (1982) The Knowledgeable State: Diplomacy,War and Technology
since 1830, London: Burnett Books.
Pempel, T. J. (2011) ‘Japan’s Search for the “Sweet Spot”: International
508
Cooperation and Regional Security in Northeast Asia’, Orbis, 55:2, 255–73.
Persaud, Randolph B. (2014) ‘Points on Race and Global IR’, [Personal email],
20 August.
(2018) ‘Security Studies, Postcolonialism, and the Third World’, in Randolph
B. Persaud and Alina Sajed (eds.), Race, Gender and Culture in International
Oxford Literary Review, 9:1–2, 27–58.
Pasha, Mustapha Kamal (2013) ‘The “Bandung Impulse” and International
Relations’, in Sanjay Seth (ed.), Postcolonial Theory and International
Relations: A Critical Introduction, New York: Routledge, 144–65.
Paul, T. V. (2010) ‘State Capacity and South Asia’s Perennial Insecurity
Problems’, in T. V. Paul (ed.), South Asia’s Weak States: Understanding the
Regional Insecurity Predicament, Stanford: Stanford University Press, 3–27.
‫ببليوغرافيا‬
Pearton, Maurice (1982) The Knowledgeable State: Diplomacy,War and Technology
since 1830, London: Burnett Books.
Pempel, T. J. (2011) ‘Japan’s Search for the “Sweet Spot”: International
Cooperation and Regional Security in Northeast Asia’, Orbis, 55:2, 255–73.
Persaud, Randolph B. (2014) ‘Points on Race and Global IR’, [Personal email],
20 August.
(2018) ‘Security Studies, Postcolonialism, and the Third World’, in Randolph
B. Persaud and Alina Sajed (eds.), Race, Gender and Culture in International
Relations: Postcolonial Perspectives, London: Routledge, 155–79.
Persaud, Randolph B. and Alina Sajed (2018a) ‘Introduction: Race, Gender
and Culture in International Relations’, in Randolph B. Persaud and Alina
Sajed (eds.), Race, Gender and Culture in International Relations: Postcolonial
Perspectives, London: Routledge, 1–18.
(2018b) Race, Gender, and Culture in International Relations: Postcolonial
Perspectives, Abingdon: Routledge.
Persaud, Randolph B. and R. B. J.Walker (2001) ‘Race in International Relations’,
Alternatives, 26:4, 373–6.
Pettersson, Therése and Peter Wallensteen (2015) ‘Armed Conflicts, 1946–
2014’, Journal of Peace Research, 52:4, 536–50.
Phillips, Andrew (2011) War, Religion and Empire, Cambridge: Cambridge
University Press.
Phillips, Andrew and J. C. Sharman (2015) International Order in Diversity: War,
Trade and Rule in the Indian Ocean, Cambridge: Cambridge University
Press.
Pieke, Frank N. (2016) Knowing China: A Twenty-First Century Guide,
Cambridge: Cambridge University Press.
Pines, Yuri (2012) The Everlasting Empire: The Political Culture of Ancient China
and Its Imperial Legacy, Princeton: Princeton University Press.
350 Poku, Nana K. (2013) ‘HIV/AIDS, State Fragility, and United Nations Security
Council Resolution 1308: A View from Africa’, International Peacekeeping,
20:4, 521–35.
Porter, Tony
350 (2001) ‘Can There Be National Perspectives on Inter(national)
References
Relations?’, in Robert A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.), International
Relations – Still an American Social Science? Toward Diversity in International
Thought, New York: State University of New York Press, 131–47.
Potter, Pitman B. (1922) An Introduction to the Study of International Organization,
New York: Century.
Prabhu, Jaideep (2017) ‘The Roots of Indian Foreign Policy’, 4 March,
https:// jaideepprabhu.org/ 2017/ 03/ 04/ the- roots- of- indian- foreign- policy/
(Accessed 27 May 2018).
Prasad, Bimla (1962) The Origins of Indian Foreign Policy: The Indian National
Congress and World Affairs, 1885–1947, Calcutta: Bookland.
Preston, Paul (2000) ‘The Great Civil War: European Politics, 1914–1945’, in T.
C. W. Blanning (ed.), The Oxford History of Modern Europe, Oxford: Oxford
University Press, 153–85.
PricewaterhouseCoopers (2015) ‘The World in 2050: Will the Shift in Global
Economic Power Continue?’, www.pwc.com/gx/en/issues/the-economy/
assets/world-in-2050-february-2015.pdf (Accessed 27 May 2018).
Puchala, Donald J. (1984) ‘The IntegrationTheorists and the Study of International
Relations’, in Charles W. Kegley and Eugene R. Wittkopf (eds.), The Global
Agenda: Issues and Perspectives, New York: Random House, 185–201.
(1995) ‘Third World Thinking and Contemporary Relations’, in Stephanie
Neuman (ed.), International Relations Theory and the Third World, New York:
St Martin’s Press, 131–57.
Puntambekar, S. V. (1939) ‘The Role of Myths in the Development of Political
509 Thought’, Indian Journal of Political Science, 1:2, 121–32.
Qin, Yaqing (2009) ‘Relational and Processual Construction: Bringing Chinese
Ideas into International Relations Theory’, Social Sciences in China, 30:4,
5–20.
(2010) ‘Why Is There No Chinese International Relations Theory?’, in
PricewaterhouseCoopers (2015) ‘The World in 2050: Will the Shift in Global
Economic Power Continue?’, www.pwc.com/gx/en/issues/the-economy/
assets/world-in-2050-february-2015.pdf (Accessed 27 May 2018).
Puchala, Donald J. (1984) ‘The IntegrationTheorists and the Study of International
Relations’, in Charles W. Kegley and Eugene R. Wittkopf (eds.), The Global
Agenda: Issues and Perspectives, New York: Random House, 185–201.
(1995) ‘Third World Thinking and Contemporary ‫العاملية‬Relations ’, in Stephanie
‫العالقات الدولية‬ ‫تشكيل‬
Neuman (ed.), International Relations Theory and the Third World, New York:
St Martin’s Press, 131–57.
Puntambekar, S. V. (1939) ‘The Role of Myths in the Development of Political
Thought’, Indian Journal of Political Science, 1:2, 121–32.
Qin, Yaqing (2009) ‘Relational and Processual Construction: Bringing Chinese
Ideas into International Relations Theory’, Social Sciences in China, 30:4,
5–20.
(2010) ‘Why Is There No Chinese International Relations Theory?’, in
Amitav Acharya and Barry Buzan (eds.), Non-Western International Relations
Theory: Perspectives on and beyond Asia, London: Routledge, 26–50.
(2011a) ‘Development of International Relations Theory in China: Progress
through Debate’, International Relations of the Asia-Pacific, 11:2, 231–57.
(2011b) ‘Rule, Rules and Relations: Towards a Synthetic Approach to
Governance’, The Chinese Journal of International Politics, 4:2, 117–45.
(2016) ‘A Relational Theory of World Politics’, International Studies Review,
18:1, 33–47.
(2018) A Relational Theory of World Politics, Cambridge: Cambridge University
Press.
Rahe, Paul (2013) ‘Progressive Racism’, National Review, April 11, www
.nationalreview.com/article/345274/progressive-racism-paul-rahe (Accessed
21 November 2017).
Rajab, Ahmed (2014) ‘Ali Mazrui Obituary’, The Guardian, 20 October, www
.theguardian.com/profile/ahmed-rajab (Accessed 27 May 2018).
Ratzel, Friedrich (1901) Der Lebensraum: Eine biogeographische Studie, Tübigen:
351 Verlag der H. Laupp’schen Buchhandlung.
Ravenhill, John (2001) APEC and the Construction of Pacific Rim Regionalism,
Cambridge: Cambridge University Press.
(2007) ‘In Search of the Missing Middle’, Review of International Political
References 351
Economy, 15:1, 18–29.
Ravlo, Hilde, Nils Petter Gleditsch and Han Dorussen (2003) ‘Colonial War and
the Democratic Peace’, Journal of Conflict Resolution, 47:4, 520–48.
Ray, James Lee (1995) Democracy and International Conflict: An Evaluation of the
Democratic Peace Proposition, Columbia, SC: University of South Carolina Press.
Rees, Martin (2003) Our Final Century, London: William Heinemann.
Rehman, Iskander (2009) ‘Keeping the Dragon at Bay: India’s Counter-
Containment of China in Asia’, Asian Security, 5:2, 114–43.
Rehn, Elisabeth and Ellen Johnson Sirleaf (2002) Progress of theWorld’sWomen 2002,
vol. 1. Women,War and Peace: The Independent Experts’Assessment on the Impact of
Armed Conflict onWomen andWomen’s Role in Peace-Building, Technical Report.
United Nations Development Fund for Women – UNIFEM: New York.
Reinsch, Paul (1900) World Politics at the End of the Nineteenth Century As
Influenced by the Oriental Situation, New York: Macmillan.
(1902) Colonial Government: An Introduction to the Study of Colonial Institutions,
New York: Macmillan.
(1911) Public International Unions – Their Work and Organization: A Study in
International Administrative Law, Boston: Ginn & Co.
Reus-Smit, Christian (1999) The Moral Purpose of the State, Princeton: Princeton
University Press.
(2001) ‘Human Rights and the Social Construction of Sovereignty’, Review of
International Studies, 27:4, 519–38.
(2005) ‘Constructivism’, in Scott Burchill, Andrew Linklater, Richard
Devetak, Jack Donnelly, Matthew Paterson, Christian Reus-Smit and Jacqui
True, Theories of International Relations, 3rd edn., Basingstoke: Palgrave.
(2013) ‘Beyond Metatheory?’, European Journal of International Relations, 19:3,
589–608.
510
Ricardo, David (1817) On the Principles of Political Economy and Taxation, London:
John Murray.
Rich, Paul (1995) ‘Alfred Zimmern’s Cautious Idealism: The League of Nations,
International Education, and the Commonwealth’, in David Long and
Peter Wilson (eds.), Thinkers of the Twenty Years’ Crisis: Inter-War Idealism
International Administrative Law, Boston: Ginn & Co.
Reus-Smit, Christian (1999) The Moral Purpose of the State, Princeton: Princeton
University Press.
(2001) ‘Human Rights and the Social Construction of Sovereignty’, Review of
International Studies, 27:4, 519–38.
(2005) ‘Constructivism’, in Scott Burchill, Andrew Linklater, Richard
Devetak, Jack Donnelly, Matthew Paterson, Christian Reus-Smit and Jacqui
‫ببليوغرافيا‬
True, Theories of International Relations, 3rd edn., Basingstoke: Palgrave.
(2013) ‘Beyond Metatheory?’, European Journal of International Relations, 19:3,
589–608.
Ricardo, David (1817) On the Principles of Political Economy and Taxation, London:
John Murray.
Rich, Paul (1995) ‘Alfred Zimmern’s Cautious Idealism: The League of Nations,
International Education, and the Commonwealth’, in David Long and
Peter Wilson (eds.), Thinkers of the Twenty Years’ Crisis: Inter-War Idealism
Reassessed, Oxford: Clarendon, 79–99.
Richardson, Neil R. (1989) ‘The Study of International Relations in the United
States’, in Hugh C. Dyer and Leon Mangasarian (eds.), The Study of
International Relations: The State of the Art, London: Macmillan, 281–95.
Riemens, Michael (2011) ‘International Academic Cooperation on International
Relations in the Interwar Period: The International Studies Conference’,
Review of International Studies, 37:2, 911–28.
Ripsman, Norrin M. and T. V. Paul (2010) Globalization and the National Security
State, New York: Oxford University Press.
Rosecrance, Richard N. (1969) ‘Bipolarity, Multipolarity, and the Future’, in
James N. Rosenau (ed.), International Politics and Foreign Policy: A Reader in
Research and Theory, New York: Free Press, 325–35.
352 Rosenberg, Justin (2013) ‘Kenneth Waltz and Leon Trotsky: Anarchy in the
Mirror of Uneven and Combined Development’, International Politics, 50:2,
183–230.
352 ‘International Relations in the Prison of Political Science’, International
(2016)References
Relations, 30:2, 127–53.
Royama, Masamichi (1928) Kokusai Seiji to Kojusai Gyösei (International Politics
and International Administration), Tokyo: Ganshödö Shoten.
(1938) Sekai no Hankyoku yo Nippon no Sekai Seisaku (The Changing World and
Japan’s World Policy), Tokyo: Ganshödö Shoten.
Ruggie, John G. (1982) ‘International Regimes, Transactions, and Change:
Embedded Liberalism in the Postwar Economic Order’, International
Organization, 36:2, 379–415.
(1993) Multilateralism Matters: The Theory and Praxis of an Institutional Form,
New York: Columbia University Press.
Rumelili, Bahar (2004) ‘Constructing Identity and Relating to Difference:
Understanding the EU’s Mode of Differentiation’, Review of International
Studies, 30:1, 27–47.
Rummel, Rudolph J. (1991) China’s Bloody Century: Genocide and Mass Murder
since 1900, New Brunswick, NJ: Transaction Publishers.
Sagan, Scott and Kenneth Waltz (1995) The Spread of Nuclear Weapons: A Debate,
New York: Norton.
Sahnoun, Mohamed (2009) ‘Africa: Uphold Continent’s Contribution to
Human Rights, Urges Top Diplomat’, allAfrica.com, 21 July, http://allafrica
.com/stories/200907210549.html?viewall=1 (Accessed 16 July 2013).
Said, Edward W. (1978) Orientalism, New York: Pantheon.
(1994) Culture and Imperialism, New York: Vintage Books.
Sakai, Tetsuya (2008) ‘The Political Discourse of International Order in Modern
Japan: 1868–1945’, Japanese Journal of Political Science, 9:2, 233–49.
Sandole, Dennis J. D. (1985) ‘Textbooks’, in Margot Light and A. J. R. Groom
(eds.), International Relations: A Handbook of Current Theory, London: Pinter,
214–21.
Santos, Matheus F. A. et al., (2015) ‘Ebola: An International Public Health
Emergency’, International Archives of Medicine, 8:34, http://imed.pub/ojs/
index.php/iam/article/view/1085 (Accessed 27 June 2018).
Sariolghalam, Mahmood (2009) ‘Iran: Accomplishments and Limitations in IR’,
511 in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship
around the World, Abingdon: Routledge, 158–71.
Sarkar, Benoy Kumar (1916) The Beginning of Hindu Culture As World-Power (AD
300–600), Shanghai: Commercial Press.
(1919) ‘Hindu Theory of International Relations’, American Political Science
(1994) Culture and Imperialism, New York: Vintage Books.
Sakai, Tetsuya (2008) ‘The Political Discourse of International Order in Modern
Japan: 1868–1945’, Japanese Journal of Political Science, 9:2, 233–49.
Sandole, Dennis J. D. (1985) ‘Textbooks’, in Margot Light and A. J. R. Groom
(eds.), International Relations: A Handbook of Current Theory, London: Pinter,
214–21.
Santos, Matheus F. A. et al., (2015) ‘Ebola: ‫العاملية‬
An International Public Health
‫العالقات الدولية‬ ‫تشكيل‬
Emergency’, International Archives of Medicine, 8:34, http://imed.pub/ojs/
index.php/iam/article/view/1085 (Accessed 27 June 2018).
Sariolghalam, Mahmood (2009) ‘Iran: Accomplishments and Limitations in IR’,
in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship
around the World, Abingdon: Routledge, 158–71.
Sarkar, Benoy Kumar (1916) The Beginning of Hindu Culture As World-Power (AD
300–600), Shanghai: Commercial Press.
(1919) ‘Hindu Theory of International Relations’, American Political Science
Review, 13:3, 400–14.
(1921) ‘The Hindu Theory of the State’, Political Science Quarterly, 36:1,
79–90.
Sassen, Saskia (1996) Losing Control? Sovereignty in an Age of Globalization,
New York: Columbia University Press.
Sayigh, Yezid (1990) ‘Confronting the 1990s: Security in Developing Countries’,
The Adelphi Papers, 30: 251, 3–76.
Schell, Orville and John Delury (2013) Wealth and Power: China’s Long March to
the Twenty-First Century, London: Little, Brown.
353 Schmidt, Brian C. (1998a) The Political Discourse of Anarchy: A Disciplinary
History of International Relations, Albany: State University of New York
Press.
(1998bReferences
) ‘Lessons from the Past: Reassessing the Interwar Disciplinary History 353
of International Relations’, International Studies Quarterly, 42:3, 433–59.
(2002) ‘On the History and Historiography of International Relations’, in
Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons (eds.), Handbook of
International Relations, London: Sage, 3–22.
(2005) ‘Paul S. Reinsch and the Study of Imperialism and Internationalism’,
in David Long and Brian Schmidt (eds.), Imperialism and Internationalism in
the Discipline of International Relations, Albany: State University of New York
Press, 43–69.
Scholte, Jan Aart (2000) Globalization: A Critical Introduction, Basingstoke: Palgrave.
Schuman, Frederick Lewis (1933) International Politics: An Introduction to the
Western State System, New York: McGraw Hill.
Schwarzenberger, Georg (1951) Power Politics: A Study of International Society,
London: Stevens and Sons.
Scoville, Priscila (2015) ‘Amarna Letters’, Ancient History Encyclopedia, 6
November, www.ancient.eu/Amarna_Letters/ (Accessed 27 May 2018).
Seeley, John Robert (1883) The Expansion of England: Two Courses of Lectures,
London: Macmillan.
Sen, Amartya (2000) ‘Why Human Security?’, Speech at the ‘International
Symposium on Human Security’, Tokyo, 28 July, www.ucipfg.com/
Repositorio/ MCSH/ MCSH- 05/ BLOQUE- ACADEMICO/ Unidad- 01/
complementarias/3.pdf (Accessed 27 May 2018).
Senghaas, Dieter (1974) ‘Towards an Analysis of Threat Policy in International
Relations’, in Klaus von Beyme (ed.), German Political Studies, London: Sage,
59–103.
Sergounin, Alexander (2009) ‘Russia: IR at a Crossroads’, in Arlene B. Tickner
and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the World,
Abingdon: Routledge, 223–41.
Seth, Sanjay (2013) ‘Postcolonial Theory and the Critique of International
Relations’, in Sanjay Seth (ed.), Postcolonial Theory and International
Relations: A Critical Introduction, New York: Routledge, 15–31.
Seton-Watson, Hugh (1972) ‘The Impact of Ideology’, in Brian Porter (ed.),
The Aberystwyth Papers: International Politics 1919–1969, London: Oxford
University Press, 211–37.
Shahi, Deepshikha and Gennaro Ascione (2016) ‘Rethinking the Absence of
Post-Western International Relations Theory in India: Advaitic Monism as
an Alternative Epistemological Resource’, European Journal of International
512
Relations, 22:2, 313–34.
Shambaugh, David (2013) China Goes Global: The Partial Power, Kindle edn.,
Oxford: Oxford University Press.
Sergounin, Alexander (2009) ‘Russia: IR at a Crossroads’, in Arlene B. Tickner
and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the World,
Abingdon: Routledge, 223–41.
Seth, Sanjay (2013) ‘Postcolonial Theory and the Critique of International
Relations’, in Sanjay Seth (ed.), Postcolonial Theory and International
Relations: A Critical Introduction, New York: Routledge, 15–31.
Seton-Watson, Hugh (1972) ‘The Impact of Ideology’, in Brian Porter (ed.),
‫ببليوغرافيا‬
The Aberystwyth Papers: International Politics 1919–1969, London: Oxford
University Press, 211–37.
Shahi, Deepshikha and Gennaro Ascione (2016) ‘Rethinking the Absence of
Post-Western International Relations Theory in India: Advaitic Monism as
an Alternative Epistemological Resource’, European Journal of International
Relations, 22:2, 313–34.
Shambaugh, David (2013) China Goes Global: The Partial Power, Kindle edn.,
Oxford: Oxford University Press.
Shani, Giorgio (2008) ‘Toward a Post-Western IR: The Umma, Khalsa Panth,
and Critical International Relations Theory’, International Studies Review,
10:4, 722–34.
Shepard, Ben (2012) ‘From the Ruins of Empire by Pankaj Mishra – Review’,
The Guardian, 4 August, www.theguardian.com/books/2012/aug/05/ruins-
empire-pankaj-mishra-review (Accessed 27 May 2018).
354 Shih, Chih-yu (1990) The Spirit of Chinese Foreign Policy: A Psychocultural View,
New York: St Martin’s Press.
Shih, Chih-yu and Yin Jiwu (2013) ‘Between Core National Interest and a
354 Harmonious World: Reconciling Self-Role Conceptions in Chinese Foreign
References
Policy’, The Chinese Journal of International Politics, 6:1, 59–84.
Shilliam, Robbie (ed.) (2010) International Relations and Non-Western
Thoughts: Imperialism, Colonialism and Investigations of Global Modernity,
London: Routledge.
(2013) ‘Intervention and Colonial-Modernity: Decolonising the Italy/Ethiopia
Conflict through Psalms 68:31’, Review of International Studies, 39:5, 1131–47.
Shimazu, Naoko (1998) Japan, Race and Equality: The Racial Equality Proposal of
1919, London: Routledge.
Shimizu, Kosuke (2015) ‘Materializing the “Non-Western”: Two Stories of
Japanese Philosophers on Culture and Politics in the Inter-War Period’,
Cambridge Review of International Affairs, 28:1, 3–20.
Shimizu, Kosuke, Josuke Ikeda, Tomoya Kamino and Shiro Sato (2008) ‘Is
There a Japanese IR? Seeking an Academic Bridge through Japanʼs History
of International Relations’, Afrasian Centre for Peace and Development Studies,
Ryukoku University, Japan.
Shirk, Susan (2007) China: Fragile Superpower, Kindle edn., Oxford: Oxford
University Press.
Sikkink, Kathryn (2014) ‘Latin American Countries As Norm Protagonists
of the Idea of International Human Rights’, Global Governance, 20:3,
389–404.
(2016) ‘Human Rights’, in Amitav Acharya (ed.), Why Govern: Rethinking
Demand and Progress in Global Governance, Cambridge: Cambridge
University Press, 121–37.
Simpson, Gerry (2004) Great Powers and Outlaw States: Unequal Sovereigns in the
International Legal Order, Cambridge: Cambridge University Press.
Sims, Richard (2001) Japanese Political History since the Meiji Restoration, 1868–
2000, New York: Palgrave.
Singer, P. W. and Allan Friedman (2014) Cybersecurity and Cyberwar,
Oxford: Oxford University Press.
Sjoberg, Laura (2012) ‘Gender, Structure, and War: What Waltz Couldn’t See’,
International Theory, 4:1, 1–38.
Skidelsky, Robert (2009) Keynes: The Return of the Master, London: Allen Lane.
Smith, Adam (1776) An Inquiry into the Nature and Causes of theWealth of Nations,
London: W. Strahan and T. Cadell.
Smith, Derek D. (2006) Deterring America: Rogue States and the Proliferation of
Weapons of Mass Destruction, Cambridge: Cambridge University Press.
Smith, Karen (2006) ‘Can It Be Home-Grown: Challenges to Developing IR
513 Theory in the Global South’, Paper presented to the 47th Annual Convention
of the International Studies Association, San Diego, March 22–25.
(2012) ‘African As an Agent of International Relations Knowledge’, in
Scarlett Cornelissen, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw (eds.), Africa and
International Relations in the 21st Century, Basingstoke: Palgrave, 21–35.
Singer, P. W. and Allan Friedman (2014) Cybersecurity and Cyberwar,
Oxford: Oxford University Press.
Sjoberg, Laura (2012) ‘Gender, Structure, and War: What Waltz Couldn’t See’,
International Theory, 4:1, 1–38.
Skidelsky, Robert (2009) Keynes: The Return of the Master, London: Allen Lane.
Smith, Adam (1776) An Inquiry into the Nature and Causes of theWealth of Nations,
London: W. Strahan and T. Cadell. ‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬
Smith, Derek D. (2006) Deterring America: Rogue States and the Proliferation of
Weapons of Mass Destruction, Cambridge: Cambridge University Press.
Smith, Karen (2006) ‘Can It Be Home-Grown: Challenges to Developing IR
Theory in the Global South’, Paper presented to the 47th Annual Convention
of the International Studies Association, San Diego, March 22–25.
(2012) ‘African As an Agent of International Relations Knowledge’, in
Scarlett Cornelissen, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw (eds.), Africa and
International Relations in the 21st Century, Basingstoke: Palgrave, 21–35.
(2017) ‘Reshaping International Relations: Theoretical Innovations from
Africa’, All Azimuth, 1–12.
355
Smith, Sheila A. (2015) Intimate Rivals: Japanese Politics and a Rising China,
New York: Columbia University Press.
Smith, Steve (2000) ‘The Discipline of International Relations: Still an American
Social Science?’, British Journal of Politics and International Relations, 2
References :3,
355
374–402.
(2008) ‘Six Wishes for a More Relevant Discipline of International Relations’,
in Christian Reus-Smit and Duncan Snidal (eds.), The Oxford Handbook of
International Relations, Oxford: Oxford University Press, 725–32.
Snidal, Duncan (1985) ‘The Limits of Hegemonic Stability Theory’, International
Organization, 39:4, 579–614.
Snyder, Jack (2004) ‘One World, Rival Theories’, Foreign Policy, 145, 52–62.
Snyder, Michael R. (2014) ‘Security Council Response to Ebola Paves Way
for Future Action’, The Global Observatory, https://theglobalobservatory.
org/2014/12/security-council-response-ebola-action/ (Accessed 26 June
2018).
Song, Xinning (2001) ‘Building International Relations Theory with Chinese
Characteristics’, Journal of Contemporary China, 10:26, 61–3.
Spero, Joan E. (1990) The Politics of International Economic Relations, New York:
St Martin’s Press.
Spivak, Gayatri C. (1985) ‘Can the Subaltern Speak? Speculations on Widow-
Sacrifice’, Wedge, 7/8, 120–30.
Spruyt, Hendrik (1998) ‘A New Architecture for Peace? Reconfiguring Japan
among the Great Powers’, The Pacific Review, 11:3, 364–88.
Spykman, Nicholas (1942) America’s Strategy in World Politics: The United States
and the Balance of Power, New York: Harcourt, Brace and Company.
Stockholm International Peace Research Institute (1979) SIPRI Yearbook 1979,
London: Taylor & Francis.
Stoddard, Lothrop (1923) The Rising Tide of Color against White World-Supremacy,
London: Chapman and Hall.
Strange, Susan (1986) Casino Capitalism, Oxford: Basil Blackwell.
(1988) States and Markets, London: Pinter.
Stubbs, Richard and Geoffrey Underhill (1994) Political Economy and the
Changing Global Order, Toronto: McClelland and Stewart.
Stuenkel, Oliver (2016) Post-Western World: How Emerging Powers Are Remaking
Global Order, Cambridge: Polity Press.
Subrahmanyam, K. (1993) ‘Export Controls and the North-South Controversy’,
Washington Quarterly, 16:2, 135–44.
Sun, Yat-sen (1922) The International Development of China, New York: G.P.
Putnam’s Sons.
(1941) China and Japan: Natural Friends – Unnatural Enemies; A Guide for
China’s Foreign Policy, Shanghai: China United.
Suzuki, Shogo (2005) ‘Japan’s Socialization into Janus-Faced European
International Society’, European Journal of International Relations, 11:1,
137–64.
(2009) Civilization and Empire: China and Japan’s Encounter with European
International Society, London: Routledge. 514
Suzuki, Shogo,Yongjin Zhang and Joel Quirk (eds.) (2014) International Orders in
the Early Modern World: Before the Rise of the West, London: Routledge.
Swart, Gerrie (2016) ‘An Emerging, Established or Receding Normative Agent?
Probing the African Union’s Recent Response to and Intervention in Libya’,
Subrahmanyam, K. (1993) ‘Export Controls and the North-South Controversy’,
Washington Quarterly, 16:2, 135–44.
Sun, Yat-sen (1922) The International Development of China, New York: G.P.
Putnam’s Sons.
(1941) China and Japan: Natural Friends – Unnatural Enemies; A Guide for
China’s Foreign Policy, Shanghai: China United.
Suzuki, Shogo (2005) ‘Japan’s Socialization into Janus-Faced European
‫ببليوغرافيا‬
International Society’, European Journal of International Relations, 11:1,
137–64.
(2009) Civilization and Empire: China and Japan’s Encounter with European
International Society, London: Routledge.
Suzuki, Shogo,Yongjin Zhang and Joel Quirk (eds.) (2014) International Orders in
the Early Modern World: Before the Rise of the West, London: Routledge.
356 Swart, Gerrie (2016) ‘An Emerging, Established or Receding Normative Agent?
Probing the African Union’s Recent Response to and Intervention in Libya’,
in Paul-Henri Bischoff , Kwesi Aning and Amitav Acharya (eds.), Africa in
356 Global International Relations: Emerging Approaches to Theory and Practice,
References
London: Routledge, 121–43.
Sylvester, Christine (1994) Feminist Theory and International Relations in a
Postmodern Era, Cambridge: Cambridge University Press.
Tadjbakhsh, Shahrbanou (2010) ‘International Relations Theory and the
Islamic Worldview’, in Amitav Acharya and Barry Buzan (eds.), Non-
Western International Relations Theory: Perspectives on and beyond Asia,
London: Routledge, 174–96.
Tadjbakhsh, Shahrbanou and Anuradha M. Chenoy (2007) Human Security:
Concepts and Implications, London: Routledge.
Tagore, Rabindranath ([1917] 2002) Nationalism, New Delhi: Rupa and Co.
Takahashi, Sakuye (1899) Cases on International Law during the China–Japanese
War, Cambridge: Cambridge University Press.
Tang, Shiping (2013) The Social Evolution of International Politics, Oxford: Oxford
University Press.
Tankha, Brij and Madhavi Thampi (2005) Narratives of Asia: From India, Japan
and China, Calcutta: Sampark.
Teschke, Benno (2008) ‘Marxism’, in Christian Reus-Smit and Duncan Snidal
(eds.), Oxford Handbook of International Relations, Oxford: Oxford University
Press, 163–87.
Teune, Henry (1982) ‘The International Studies Association’, based on a paper
prepared for the 1982 ISA Leadership Meeting, University of South Carolina,
www.isanet.org/Portals/0/Documents/Institutional/Henry_Teune_The_ISA_
1982.pdf (Accessed 27 May 2018).
Thomas, Caroline and Peter Wilkin (2004) ‘Still Waiting after All These Years:
“The Third World” on the Periphery of International Relations’, British
Journal of Politics and International Relations, 6:2, 241–58.
Tickner, Arlene B. (2003a) ‘Hearing Latin American Voices in International
Relations Studies’, International Studies Perspectives, 4:4, 325–50.
(2003b) ‘Seeing IR Differently: Notes from the Third World’, Millennium,
32:2, 295–324.
(2009) ‘Latin America: Still Policy Dependent after All These Years?’, in
Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship
around the World, Abingdon: Routledge, 32–52.
Tickner, Arlene B. and David L. Blaney (2012) Thinking International Relations
Differently, Abingdon: Routledge.
(2013) Claiming International, Abingdon: Routledge.
Tickner, Arlene B. and Ole Wæver (2009a) (eds.) International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge.
(2009b) ‘Introduction: Geocultural Epistemologies’, in Arlene B. Tickner
and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the World,
Abingdon: Routledge, 1–31.
(2009c) ‘Conclusion: Worlding Where the West Once Was’, in Arlene B.
Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the
World, Abingdon: Routledge, 328–41.
Tickner, J. Ann (1997) ‘You Just Don’t Understand: Troubled Engagements between
515 Feminists and IR Theorists’, International Studies Quarterly, 41:4, 611–32.
Tickner, J. Ann and Laura Sjoberg (2013) ‘Feminism’, in Tim Dunne, Milja
Kurki and Steve Smith (eds.), International Relations Theories: Discipline and
Diversity, 3rd edn., Oxford: Oxford University Press, 205–22.
(2013) Claiming International, Abingdon: Routledge.
Tickner, Arlene B. and Ole Wæver (2009a) (eds.) International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge.
(2009b) ‘Introduction: Geocultural Epistemologies’, in Arlene B. Tickner
and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the World,
Abingdon: Routledge, 1–31.
(2009c) ‘Conclusion: Worlding Where the ‫العاملية‬ West Once‫الدولية‬
Was’,‫العالقات‬ ‫تشكيل‬
in Arlene B.
Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the
World, Abingdon: Routledge, 328–41.
357 Tickner, J. Ann (1997) ‘You Just Don’t Understand: Troubled Engagements between
Feminists and IR Theorists’, International Studies Quarterly, 41:4, 611–32.
Tickner, J. Ann and Laura Sjoberg (2013) ‘Feminism’, in Tim Dunne, Milja
and Steve Smith (eds.), International Relations Theories: Discipline 357
KurkiReferences and
Diversity, 3rd edn., Oxford: Oxford University Press, 205–22.
Tickner, J. Ann and Jacqui True (2018) ‘A Century of International Relations
Feminism: From World War I Women’s Peace Pragmatism to the Women,
Peace and Security Agenda’, International Studies Quarterly, sqx091,
doi: 10.1093/isq/sqx091, 12 April, 1–13.
Tieku, Thomas Kwasi (2013) ‘Theoretical Approaches to Africa’s International
Relations’, in Tim Murithi (ed.), Handbook of Africa’s International Relations,
London: Taylor and Francis, 11–20.
Tikly, Leon (2001) ‘Postcolonialism and Comparative Education Research’,
in Keith Watson (ed.), Doing Comparative Education Research: Issues and
Problems, Oxford: Symposium Books, 245–64.
Tiryakian, Edward A. (1999) ‘War: The Covered Side of Modernity’, International
Sociology, 14:4, 473–89.
Tocqueville, Alexis de ([1835] 2006) Democracy in America, New York: Harper
Perennial Modern Classics.
Topik, Steven C. and Allen Wells (2012) Global Markets Transformed, 1870–1945,
Cambridge, MA: Belknap Press.
Totman, Conrad (2005) A History of Japan, 2nd edn., Malden, MA: Blackwell,
Kindle edn.
Towns, Ann E. (2009) ‘The Status of Women As a Standard of “Civilization” ’,
European Journal of International Relations, 15:4, 681–706.
(2010) Women and States: Norms and Hierarchies in International Society,
Cambridge: Cambridge University Press.
Toye, John F. J. and Richard Toye (2003) ‘The Origins and Interpretation of the
Prebisch-Singer Thesis’, History of Political Economy, 35:3, 437–67.
Treitschke, Heinrich von (1899–1900) Politik, Leipzig: S. Hirzel.
True, Jacqui (1996) ‘Feminism’, in Scott Burchill and Andrew Linklater
(eds.), Theories of International Relations, New York: St Martin’s Press,
210–51.
(2017) ‘Feminism and Gender Studies in International Relations Theory’,
Oxford Research Encyclopedias, doi: 10.1093/acrefore/9780190846626.013.46,
http:// inter nationalstudies.oxfordre.com/ view/ 10.1093/ acrefore/
9780190846626.001.0001/acrefore-9780190846626-e-46 (Accessed 27 June
2018).
Trueblood, Benjamin F. (1899) The Federation of the World, Boston: Houghton,
Mifflin and Co.
Tudor, Daniel (2012) Korea: The Impossible Country, Tokyo: Tuttle Publishing.
Turan, İlter (2017) ‘Progress in Turkish International Relations’, All Azimuth,
1–6, doi: 10.20991/allazimuth.328455.
Turner, John (2009) ‘Islam As a Theory of International Relations?’, E-International
Relations, 3 August, www.e-ir.info/2009/08/03/islam-as-a-theory-of-inter
national-relations/ (Accessed 27 May 2018).
Tyner, James A. (1999) ‘The Geopolitics of Eugenics and the Exclusion of Philippine
Immigrants from the United States’, Geographical Review, 89:1, 54–73.
UN (2016) International Migration Report 2015. ST/ESA/SER.A/375 www.un.org/
en/development/desa/population/migration/publications/migrationreport/
docs/MigrationReport2015_Highlights.pdf (Accessed 7 October 2017).
UNCTAD (2015) World Investment Report, 2015, Geneva, UNCTAD http://
unctad.org/en/PublicationsLibrary/wir2015_en.pdf (Accessed 27 May 2018).
516
Turner, John (2009) ‘Islam As a Theory of International Relations?’, E-International
Relations, 3 August, www.e-ir.info/2009/08/03/islam-as-a-theory-of-inter
national-relations/ (Accessed 27 May 2018).
Tyner, James A. (1999) ‘The Geopolitics of Eugenics and the Exclusion of Philippine
Immigrants from the United States’, Geographical Review, 89:1, 54–73.
358 UN (2016) International Migration Report 2015. ST/ESA/SER.A/375 www.un.org/
en/development/desa/population/migration/publications/migrationreport/
‫ببليوغرافيا‬
docs/MigrationReport2015_Highlights.pdf (Accessed 7 October 2017).
UNCTAD
358 (2015) World Investment Report, 2015, Geneva, UNCTAD http://
References
unctad.org/en/PublicationsLibrary/wir2015_en.pdf (Accessed 27 May 2018).
UNDP (2013) Human Development Report 2013. The Rise of the South: Human
Progress in a Diverse World, New York: UNDP.
UNDP (2016) Human Development Report, http://hdr.undp.org/en/content/
income-gini-coefficient (Accessed 4 October 2017).
University of British Columbia (2005) Human Security Report 2005: War and
Peace in the 21st Century, New York: Oxford University Press.
Urquhart, F. F. (1916) ‘The Causes of Modern Wars’, in A. J. Grant, Arthur
Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart, An Introduction
to International Relations, London: Macmillan, 37–65.
van Wyk, Jo-Annsie (2016) ‘Africa in International Relations: Agent, Bystander
or Victim’, in Paul-Henri Bischoff , Kwesi Aning and Amitav Acharya (eds.),
Africa in Global International Relations: Emerging Approaches to Theory and
Practice, London: Routledge, 108–20.
Vasquez, John (1993) The War Puzzle, Cambridge: Cambridge University Press.
Vigezzi, Brunello (2005) The British Committee on the Theory of International
Politics (1954–1985): The Rediscovery of History, Milan: Edizzioni Unicopli.
Viotti, Paul R. and Mark V. Kauppi (2011) International Relations Theory, 5th
edn., New York: Longman.
Vitalis, Robert (2000) ‘The Graceful and Generous Liberal Gesture: Making Racism
Invisible in American International Relations’, Millennium, 29:2, 331–56.
(2005) ‘Birth of a Discipline’, in David Long and Brian Schmidt (eds.),
Imperialism and Internationalism in the Discipline of International Relations,
Albany: State University of New York Press, 159–81.
(2010) ‘The Noble American Science of Imperial Relations and Its Laws of
Race Development’, Comparative Studies in Society and History, 52:4, 909–38.
(2015) WhiteWorld Order, Black Power Politics: The Birth of American International
Relations, Ithaca, NY: Cornell University Press.
Vogel, Ezra F. (1980) Japan As Number 1: Lessons for America, New York: Harper
Collins.
Wæver, Ole (1996) ‘The Rise and Fall of the Inter-Paradigm Debate’, in Steve
Smith, Ken Booth and Marysia Zalewski (eds.), International Theory:
Positivism and Beyond, Cambridge: Cambridge University Press, 149–85.
(1997) ‘Figures of International Thought: Introducing Persons Instead
of Paradigms?’, in Iver B. Neumann and Ole Wæver (eds.), The Future of
International Relations: Masters in the Making?, London: Routledge, 1–37.
(1998), ‘The Sociology of a Not So International Discipline: American
and European Developments in International Relations’, International
Organization, 52:1, 687–727.
Wæver, Ole, Barry Buzan, Morten Kelstrup and Pierre Lemaitre (1993) Identity,
Migration and the New Security Agenda in Europe, London: Pinter.
Waldau, Gabriel and Tom Mitchell (2016) ‘China Income Inequality among
World’s Worst’, Financial Times, 14 January, www.ft.com/content/3c521faa-
baa6-11e5-a7cc-280dfe875e28 (Accessed 26 June 2018).
Wallace, Michael and J. David Singer (1970) ‘Intergovernmental Organization in
the Global System, 1816–1964: A Quantitative Description’, International
Organization, 24:2, 239–87.
Wallerstein, Immanuel (1974) The Modern World-System, vol.1: Capitalist
Agriculture and the Origins of the European World-Economy in the Sixteenth
Century, London: Academic Press.
(1979) The CapitalistWorld-Economy, Cambridge: Cambridge University Press.

517
359

References ‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬


359

(1983) Historical Capitalism with Capitalist Civilization, London: Verso.


(1984) The Politics of the World-Economy, Cambridge: Cambridge University
Press.
Walsh, Edmund A. (1922) The History and Nature of International Relations,
New York: Macmillan.
Walt, Stephen M. (1998) ‘International Relations: One World, Many Theories’,
Foreign Policy, 29–46.
(2005) ‘The Relationship between Theory and Policy in International
Relations’, Annual Review of Political Science, 8, 23–48.
Waltz, Kenneth N. (1964) ‘The Stability of a Bipolar World’, Daedalus, 93:3,
881–909.
(1979) Theory of International Politics, Reading, MA: Addison-Wesley.
(1993) ‘The Emerging Structure of International Politics’, International
Security, 18:2, 44–79.
Wang, Jiangli and Barry Buzan (2014) ‘The English and Chinese Schools of
International Relations: Comparisons and Lessons’, The Chinese Journal of
International Politics, 7:1, 1–46.
Wang, Zheng (2008) ‘National Humiliation, History Education, and the
Politics of Historical Memory: Patriotic Education Campaign in China’,
International Studies Quarterly, 52:4, 783–806.
(2012) Never Forget National Humiliation: Historical Memory in Chinese Politics
and Foreign Relations, Kindle edn., New York: Columbia University Press.
Watson, Adam (1992) The Evolution of International Society, London: Routledge.
(2001) ‘Foreword’ to ‘Forum on the English School’, Review of International
Studies, 27:3, 467–70.
Weart, Spencer R. (1998) Never at War: Why Democracies Will Not Fight One
Another, New Haven, CT: Yale University Press.
Weinstein, Franklin ([1976] 2007) Indonesian Foreign Policy and the Dilemmas of
Dependence: From Sukarno to Suharto, Singapore: Equinox Publishing.
Weiss, Thomas G. (2013) Global Governance: Why? What? Whither?, Cambridge:
Polity Press.
Weiss, Thomas G. and Pallavi Roy (eds.) (2016) ‘The UN and the Global South,
1945 and 2015: Past as Prelude?’, Third World Quarterly, special issue, 37:7,
1147–297.
Wemheuer-Vogelaar, Wiebke, Nicholas J. Bell, Mariana Navarrete Morales and
Michael J. Tierney (2016) ‘The IR of the Beholder: Examining Global IR
Using the 2014 TRIP Survey’, International Studies Review, 18:1, 16–32.
Wendt, Alexander (1992) ‘Anarchy Is What States Make of It: The Social
Construction of Power Politics’, International Organization, 46:2, 391–425.
(1999) Social Theory of International Politics, Cambridge: Cambridge University
Press.
Westad, Odd Arne (2007) The Global Cold War: Third World Interventions and the
Making of Our Time, Cambridge: Cambridge University Press.
(2012) Restless Empire: China and the World since 1750, Kindle edn., London:
Bodley Head.
360 Wheaton, Henry ([1836] 1866) Elements of International Law, 8th edn., London:
Sampson Low, Son & Co.
Wheeler, Nicholas J. (2000) Saving Strangers: Humanitarian Intervention in
360 International Society, Oxford: Oxford University Press.
References
Wight, Martin (1977) Systems of States, Leicester: Leicester University Press.
Willetts, Peter (1978) Non-Aligned Movement: Origins of a Third World Alliance,
London: Continuum.
Williams, David (2004) Defending Japan’s PacificWar: The Kyoto School Philosophers
and Post-White Power, Abingdon: Routledge
518
Williams, Eric ([1944] 1994) Capitalism and Slavery, Chapel Hill, NC: University
of North Carolina Press.
Williams, John (2015) Ethics, Diversity, and World Politics: Saving Pluralism From
Itself?, Oxford: Oxford University Press.
Williams, Michael C. (2005) The Realist Tradition and the Limits of International
360

360 References

‫ببليوغرافيا‬
Willetts, Peter (1978) Non-Aligned Movement: Origins of a Third World Alliance,
London: Continuum.
Williams, David (2004) Defending Japan’s PacificWar: The Kyoto School Philosophers
and Post-White Power, Abingdon: Routledge
Williams, Eric ([1944] 1994) Capitalism and Slavery, Chapel Hill, NC: University
of North Carolina Press.
Williams, John (2015) Ethics, Diversity, and World Politics: Saving Pluralism From
Itself?, Oxford: Oxford University Press.
Williams, Michael C. (2005) The Realist Tradition and the Limits of International
Relations, Cambridge: Cambridge University Press.
(2013) ‘In the Beginning: International Relations Enlightenment and the
Ends of International Relations Theory’, European Journal of International
Relations, 19:3, 647–65.
Wilson, Peter (1998) ‘The Myth of the First Great Debate’, in Tim Dunne,
Michael Cox and Ken Booth (eds.), The Eighty Years’ Crisis: International
Relations 1919–1999, Review of International Studies, 34:Special Issue, 1–15.
Witt, Michael A. (2010) ‘China: What Variety of Capitalism?’, Singapore,
INSEAD Working Paper 2010/88/EPS, 15 pp.
Wohlforth, William C. (1999) ‘The Stability of a Unipolar World’, International
Security, 24:1, 5–41.
(2009) ‘Unipolarity, Status Competition, and Great Power War’, World Politics,
61:1, 28–57.
Wolf , Martin (2014) The Shifts and the Shocks: What We’ve Learned – and Have
Still to Learn – from the Financial Crisis, London: Penguin.
Wolf , Nathan (2011) The Viral Storm: The Dawn of a New Pandemic Age,
New York: Times Books.
Womack, Brantly (2014) ‘China’s Future in a Multinodal World Order’, Pacific
Affairs, 87:2, 265–84.
Wood, James (2008) ‘Calvo Doctrine’, in Jay Kinsbruner and Erick D. Langer
(eds.), Encyclopedia of Latin American History and Culture, vol. 2, 2nd edn.,
Detroit: Charles Scribner’s Sons, 46–7.
Woods, Ngaire (ed.) (2000) The Political Economy of Globalization, Basingstoke:
Macmillan.
Woolf , Leonard (1916) International Government, Westminster: Fabian Society.
World Bank (2016) Poverty and Prosperity 2016/Taking on Inequality, Washington,
DC: World Bank, https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/
10986/25078/9781464809583.pdf (Accessed 4 October 2017).
WHO (2014) ‘Ebola Situation Report: 31 December 2014’, Ebola Situation Reports,
31 December, http://apps.who.int/ebola/en/status-outbreak/situation-reports/
ebola-situation-report-31-december-2014 (Accessed 27 May 2018).
(2016) ‘Latest Ebola Outbreak Over in Liberia; West Africa Is at Zero, but
New Flare-ups Are Likely to Occur’, WHO Media Centre, 14 January, www
.who.int/mediacentre/news/releases/2016/ebola-zero-liberia/en/ (Accessed
361 27 May 2018).
Wright, Quincy (1955) The Study of International Relations, New York: Appleton-
Century-Crofts.
Yahuda, Michael (2014) Sino-Japanese Relations after the Cold War: Two Tigers
References 361
Sharing a Mountain, London: Routledge.
Yalem, Ronald J. (1979) ‘Regional Security Communities’, in George W. Keeton
and George Schwarzenberger (eds.), The Year Book of International Affairs
1979, London: Stevens, 217–23.
Yan, Xuetong (2011) Ancient Chinese Thought, Modern Chinese Power, Princeton:
Princeton University Press.
(2014) ‘From Keeping a Low Profile to Striving for Achievement’, The Chinese
Journal of International Politics, 7:2, 153–84.
Yanaihara, Tadao ([1926] 1963) Shokumin oyobi Shokuminn Seisaku (Colony
519 and Colonial Policy) in Yanaihara Tadao Zenshu (Collected Complete Works of
Yanaihara Tadao), vol. 1, Tokyo: Iwanami Shoten.
Yurdusev, A. Nuri (2003) International Relations and the Philosophy of History: A
Civilizational Approach, Basingstoke: Palgrave.
(2009) ‘The Middle East Encounter with the Expansion of European
References 361

Yalem, Ronald J. (1979) ‘Regional Security Communities’, in George W. Keeton


and George Schwarzenberger (eds.), The Year Book of International Affairs
1979, London: Stevens, 217–23.
Yan, Xuetong (2011) Ancient Chinese Thought, Modern Chinese Power, Princeton:
Princeton University Press. ‫تشكيل العالقات الدولية العاملية‬
(2014) ‘From Keeping a Low Profile to Striving for Achievement’, The Chinese
Journal of International Politics, 7:2, 153–84.
Yanaihara, Tadao ([1926] 1963) Shokumin oyobi Shokuminn Seisaku (Colony
and Colonial Policy) in Yanaihara Tadao Zenshu (Collected Complete Works of
Yanaihara Tadao), vol. 1, Tokyo: Iwanami Shoten.
Yurdusev, A. Nuri (2003) International Relations and the Philosophy of History: A
Civilizational Approach, Basingstoke: Palgrave.
(2009) ‘The Middle East Encounter with the Expansion of European
International Society’, in Barry Buzan and Ana Gonzalez-Pelaez (eds.),
International Society and the Middle East: English School Theory at the Regional
Level, Basingstoke: Palgrave, 70–91.
Zakaria, Fareed (2009) The Post-American World and the Rise of the Rest, London:
Penguin.
Zarakol, Ayşe (2011) After Defeat: How the East Learned to Live with the West,
Cambridge: Cambridge University Press.
Zarakol, Ayşe (2014) ‘What Made the ModernWorld Hang Together: Socialisation
or Stigmatisation?’, International Theory, 6:2, 311–32.
Zehfuss, Maja (2001) ‘Constructivism and Identity: A Dangerous Liaison’,
European Journal of International Relations, 7:3, 315–48.
(2002) Constructivism in International Relations: The Politics of Reality,
Cambridge: Cambridge University Press.
Zhang, Feng (2012a) ‘Debating the “Chinese Theory of International Relations”:
Toward a New Stage in China’s International Studies’, in Fred Dallmayr
and Zhao Tingyang (eds.), Contemporary Chinese Political Thought: Debates
and Perspectives, Lexington, KY: University Press of Kentucky, 67–88.
(2012b) ‘China’s New Thinking on Alliances’, Survival, 54:5, 129–48.
Zhang, Xiaoming (2010) English School of International Relations: History, Theory
and View on China, Beijing: People’s Press (in Chinese).
(2011a) ‘A Rising China and the Normative Changes in International Society’,
East Asia, 28:3, 235–46.
(2011b) ‘China in the Conception of International Society: The English
School’s Engagements with China’, Review of International Studies, 37:2,
763–86.
Zhang, Yongjin (1998) China in International Society since 1949, Basingstoke:
Macmillan.
(2003) ‘The “English School” in China: A Travelogue of Ideas and Their
Diffusion’, European Journal of International Relations, 9:1, 87–114.
Zhang, Yongjin and Teng-chi Chang (eds.) (2016) Constructing a Chinese
School of International Relations: Ongoing Debates and Sociological Realities,
Abingdon: Routledge.
Zimmern, Alfred (1936) The League of Nations and the Rule of Law, London:
Macmillan.

520
‫املؤلفان يف سطور‬

‫أميتاف أشاريا‬

‫■ أستاذ متميز يف كلية الخدمة الدولية بالجامعة األمريكية بواشنطن العاصمة‪.‬‬


‫■ تشمل كتبه الحديثة‪« :‬بناء النظام العاملي» (كامربيدج‪)2018 ،‬؛ «نهاية النظام‬
‫العاملي األمرييك» (‪ ،)2014‬وكتابه السابق مع باري بوزان «نظرية العالقات الدولية‬
‫غري الغربية‪ :‬وجهات نظر حول آسيا وما وراءها (‪.»)2010‬‬
‫■ حصل عىل جوائز الباحث املتميز من التجمع الجنويب العاملي لرابطة الدراسات‬
‫الدولية (‪ ،)2015‬وكذا من قسم املنظامت الدولية (‪.)2018‬‬

‫باري بوزان‬

‫■ أستاذ فخري يف كلية لندن لالقتصاد؛ قسم العالقات الدولية‪ ،‬وأستاذ فخري‬
‫يف جامعات كوبنهاغن وجيلني والجامعة الصينية للشؤون الخارجية‪ ،‬وزميل يف‬
‫األكادميية الربيطانية‪.‬‬
‫■ تشمل مؤلفاته األخــرة‪« :‬املجتمع الدويل العاملي» مع لوست سكوينبورغ‬
‫(كامربيدج‪ ،)2018 ،‬و«التحول العاملي» مع جورج لوسون (كامربيدج‪ ،)2015 ،‬وهو‬
‫الكتاب الذي فاز يف العام ‪ 2017‬بجائزة فرانشيسكو جوتشيارديني ألفضل كتاب يف‬
‫العالقات الدولية التاريخية‪.‬‬

‫‪521‬‬
‫املرتجم يف سطور‬

‫عمار بوعشة‬

‫■ باحث يف العلوم السياسية والعالقات الدولية بجمعية الباحثني حول أفريقيا‪.‬‬


‫■ ُي َح ِّرِّض لشهادة الدكتوراه يف العلوم السياسية والعالقات الدولية‪.‬‬
‫■ حاصل عىل درجة املاجستري يف العالقات الدولية‪.‬‬
‫■ حاصل عىل درجة الليسانس يف العلوم السياسية‪.‬‬
‫■ شارك يف العديد من املؤمترات املحلية والدولية‪.‬‬
‫■ له عدد من املقاالت والدراسات املنشورة‪.‬‬
‫■ راجع ود ّقق مجموعة من األعامل ا ُملرتجمة منها‪« :‬علم النفس الديني»‪ ،‬دار نرش‬
‫جامعة حمد بن خليفة‪ ،‬الدوحة ‪ُ ( 2020‬مرتجام عن اللغة الرتكية)‪« ،‬بني عاملني‪:‬‬
‫بناء الدولة العثامنية» ( ُمرتجام عن اللغة اإلنجليزية)‪ ،‬املركز العريب لألبحاث دراسة‬
‫السياسات‪ ،‬الدوحة ‪.2022‬‬
‫■ ترجم عددا من األعامل منها‪« :‬تاريخ الفكر املعارص يف تركيا» (مرتجام عن اللغة‬
‫الرتكية)‪ ،‬يصدر قريبا عن سلسلة ترجامن‪ ،‬املركز العريب لألبحاث دراسة السياسات‪.‬‬

‫‪522‬‬
‫سلسلة عـالـَم املعرفة‬

‫«عامل املعرفة» سلسلة كتب ثقافية تصدر يف مطلع كل شهر ميالدي عن املجلس الوطني للثقافة‬
‫والفنون واآلداب ‪ -‬دولة الكويت ‪ -‬وقد صدر العدد األول منها يف شهر يناير من العام ‪.1978‬‬
‫تهدف هذه السلسلة إىل تزويد القارئ مبادة جيدة من الثقافة تغطي جميع فروع املعرفة‪،‬‬
‫وكذلك ربطه بأحدث التيارات الفكرية والثقافية املعارصة‪ .‬ومن املوضوعات التي تعالجها تأليفا‬
‫وترجمة‪:‬‬
‫‪ - 1‬الدراسات اإلنسانية‪ :‬تاريخ ـ فلسفة ‪ -‬أدب الرحالت ‪ -‬الدراسات الحضارية ‪ -‬تاريخ األفكار‪.‬‬
‫‪ - 2‬العلوم االجتامعية‪ :‬اجتامع ‪ -‬اقتصاد ‪ -‬سياسة ‪ -‬علم نفس ‪ -‬جغرافيا ‪ -‬تخطيط ‪ -‬دراسات‬
‫اسرتاتيجية ‪ -‬مستقبليات‪.‬‬
‫‪ - 3‬الـدراســات األدبيـة واللغويـة‪ :‬األدب العـربـي ‪ -‬اآلداب العامليـة ‪ -‬علـم اللغة‪.‬‬
‫‪ - 4‬الدراسات الفنية‪ :‬علم الجامل وفلسفة الفن ‪ -‬املرسح ‪ -‬املوسيقى ‪ -‬الفنون التشكيلية‬
‫والفنون الشعبية‪.‬‬
‫‪ - 5‬الدراســات العلمية‪ :‬تاريــخ العلـــم وفلســـــفته‪ ،‬تبسيط العلــوم الطبيـــعية (فيــزياء‪،‬‬
‫كيمــياء‪ ،‬علم الحــياة‪ ،‬فلك) ـ الرياضــيات التطبيــقية (مع االهتــامم بالجــوانب اإلنسانية لهــذه‬
‫العــلوم)‪ ،‬والدراسات التكنولوجية‪.‬‬
‫أما بالنسبة إىل نرش األعامل اإلبداعية ـ املرتجمة أو املؤلفة ـ من شعر وقصة ومرسحية‪ ،‬وكذلك‬
‫األعامل املتعلقة بشخصية واحدة بعينها فهذا أمر غري وارد يف الوقت الحايل‪.‬‬
‫وتحرص سلسلة «عامل املعرفة» عىل أن تكــون األعمـال املرتجــمة حديثة النرش‪.‬‬
‫وترحب السلسلة باقرتاحات التأليف والرتجمة املقدمة من املتخصصني‪ ،‬عىل أال يزيد حجمها‬
‫عىل ‪ 350‬صفحة من القطع املتوسط‪ ،‬وأن تكون مصحوبة بنبذة وافية عن الكتاب وموضوعاته‬
‫وأهميته ومدى جدته ويف حالة الرتجمة ترسل نسخة مصورة من الكتاب بلغته األصلية كام ترفق‬
‫مذكرة بالفكرة العامة للكتاب‪ ،‬وكذلك يجب أن تد ّون أرقام صفحات الكتاب األصيل املقابلة للنص‬
‫املرتجم عىل جانب الصفحة املرتجمة‪ ،‬والسلسلـة ال ميكنهـا النظـر فـي أي ترجمـة ما مل تكن‬
‫مستوفية لهذا الرشط‪ .‬واملجلس غري ملزم بإعادة املخطوطات والكتب األجنبية يف حالة االعتذار عن‬
‫عدم نرشه‪ .‬ويف جميع الحاالت ينبغي إرفاق سرية ذاتية ملقرتح الكتاب تتضمن البيانات الرئيسية‬
‫عن نشاطه العلمي السابق‪.‬‬
‫ويف حال املوافقة والتعاقد عىل املوضوع ــ املؤلف أو املرتجم ــ ترصف مكافأة للمؤلف مقدارها‬
‫ألفا دينار كويتي‪ ،‬وللمرتجم مكافأة مبعدل ثالثني فلسا عن الكلمة الواحدة يف النص األجنبي (وبحد أقىص‬
‫مقداره ألفان وخمسامئة دينار كويتي)‪.‬‬

‫‪523‬‬
‫رﺳﻮم اﻻﺷﱰاك ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻨﺴﺨﺔ اﻟﻮرﻗﻴﺔ ﻣﻦ اﻹﺻﺪارات اﻟﺪورﻳﺔ ﻟﻠﻤﺠﻠﺲ اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﻔﻨﻮن واﻵداب‬

‫إﺑﺪاﻋﺎت ﻋﺎﳌﻴﺔ‬ ‫ﻣﻦ اﳌﴪح اﻟﻌﺎﳌﻲ‬ ‫اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﺎﳌﻴﺔ‬ ‫ﻋﺎمل اﻟﻔﻜﺮ‬ ‫ﻋﺎمل اﳌﻌﺮﻓﺔ‬ ‫اﻟﺒﻴﺎن‬

‫‪ 5‬د‪.‬ك‪.‬‬ ‫‪ 5‬د‪.‬ك‪.‬‬ ‫‪ 6‬د‪.‬ك‪.‬‬ ‫‪ 6‬د‪.‬ك‪.‬‬ ‫‪ 15‬د‪.‬ك‪.‬‬ ‫داﺧﻞ دوﻟﺔ اﻟﻜﻮﻳﺖ‬

‫‪$ 25‬‬ ‫‪$ 25‬‬ ‫‪$ 25‬‬ ‫‪$ 25‬‬ ‫‪$ 60‬‬ ‫دول ﻣﺠﻠﺲ اﻟﺘﻌﺎون ﻟﺪول اﻟﺨﻠﻴﺞ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‬

‫‪$ 15‬‬ ‫‪$ 15‬‬ ‫‪$ 15‬‬ ‫‪$ 15‬‬ ‫‪$ 30‬‬ ‫داﺧﻞ اﻟﺪول اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ‬

‫‪$ 30‬‬ ‫‪$ 30‬‬ ‫‪$ 30‬‬ ‫‪$ 25‬‬ ‫‪$ 60‬‬ ‫ﺑﻘﻴﺔ دول اﻟﻌﺎمل‬

‫ﺗﺪﻓﻊ رﺳﻮم اﻻﺷﱰاك ﻣﻦ ﺧﺎرج دوﻟﺔ اﻟﻜﻮﻳﺖ ﺑﺎﻟﺪوﻻر اﻷﻣﺮﻳيك‪.‬‬


‫ﻗﻴﻤﺔ اﻻﺷﱰاك ﺗﺸﻤﻞ أﺟﻮر اﻟﺸﺤﻦ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻟﱪﻳﺪ اﻟﺤﻜﻮﻣﻲ اﳌﺴﺠﻞ‪.‬‬

‫ﻟﻼﻃﻼع ﻋﲆ ﻛﺸﻒ وﻛﻼء اﻟﺘﻮزﻳﻊ وﻧﻘﺎط اﻟﺒﻴﻊ اﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻟﻬﻢ‪ ،‬اﻟﺮﺟﺎء ﻣﺴﺢ رﻣﺰ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ اﻟﺘﺎﱄ‪:‬‬ ‫ميﻜﻨﻜﻢ اﻻﺷﱰاك ﻋﱪ ﻣﺴﺢ رﻣﺰ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ اﻟﴪﻳﻌﺔ اﻟﺘﺎﱄ‪:‬‬

‫‪524‬‬
‫إشعار‬
‫لالطــاع علــى قائمــة كتــب السلســلة انظــر عدد‬
‫ديســمرب (كانــون األول) مــن كل ســنة‪ ،‬حيــث توجد‬
‫قائمة كاملة بأسماء الكتب املنشورة‬
‫يف السلسلة منذ يناير ‪.1978‬‬

‫‪525‬‬
Withe

526
‫عددنا املقبـل‬

‫نهاية النسيان‬
‫التنشئة بني وسائط التواصل االجتماعي‬

‫‪The End of Forgetting‬‬


‫‪Growing Up with Social Media‬‬

‫تأليف‪ :‬كيت آيكهورن‬


‫ترجمة‪ :‬عبد النور خراقي‬

‫يتناول هذا الكتاب تأثري وسائط التواصل االجتامعي الحديثة يف تاريخ البرش‪،‬‬
‫وخاصة يف مرحلة الطفولة واملراهقة؛ حيث إن هذه الوسائط أعطت ‪ -‬وألول مرة‬
‫‪ -‬األطفال واملراهقني الحق يف توثيق ذواتهم وإبرازها من منظورهم الشخيص دون‬
‫وجود رقيب يتحكم مبثل هذه املعلومات‪.‬‬
‫لكن هذا التوثيق يحول دون النسيان؛ وهو ما يثبت الكتاب أهميته لنمو‬
‫األطفال واملراهقني منوا سليام؛ فمن دون النسيان قد تتعرقل رحلة اإلنسان يف‬
‫اكتشاف ذاته بسبب خوفه من تكرار املواقف املحرجة السابقة‪ ،‬والتي توثقها‬
‫وسائل التواصل لتبقى ماثل ًة أمامه‪.‬‬

‫‪527‬‬
528

You might also like