Professional Documents
Culture Documents
تشكيل العلاقات الدولية العالمية PDF
تشكيل العلاقات الدولية العالمية PDF
ﻳﻨﺎﻳﺮ 2023
502
سلسلة شهرية يصدرها
اجمللس الوطني للثقافة
والفنون واآلداب
أسسها
أحمد مشاري العدواين
د .فـــــؤاد زكريــــــا
املشرف العام
األمني العام
مستشار التحرير
أ .د .محمد غانم الرميحي
rumaihimg@gmail.com
هيئة التحرير
أ .جاسـم خالد السعــدون
ترسل االقرتاحات عىل العنوان التايل: أ .خليل عيل حيدر
السيد األمني العام د .سعداء سعد الدعاس
للمجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب أ .د .طارق عبداملحسن الدويسان
ص .ب - 28613 :الصفاة أ .د .عيل زيد الزعبي
الرمز الربيدي 13147 أ .د .مرسل فالح العجمي
دولة الكويت أ .منصور صالح العنزي
أ .د .ناجي سعود الزيد
هاتف)965( 22431704 :
www.kuwaitculture.org.kw مديرة التحرير
عالية مجيد الرصاف
التنضيد واإلخراج والتنفيذ والتصحيح اللغوي
a.almarifah@nccalkw.com
وحدة اإلنتاج يف املجلس الوطني
سكرتيرة التحرير
ISBN 978 - 99906 - 0 - 728 - 4 هلل فوزي املجيبل
العنوان األصلي للكتاب
By
Amitav Acharya and Barry Buzan
Cambridge University Press
6
احملتويات
11 قائمة االختصارات
19 املقدمة
الفصل األول:
الفصل الثاين:
الفصل الثالث:
الفصل الرابع:
7
الفصل اخلامس:
الفصل السادس:
الفصل السابع:
الفصل الثامن:
8
الفصل التاسع:
الفصل العاشر:
481 ببليوغرافيا
9
قائمة االختصارات
Withe
قائمة االختصارات
13
تشكيل العالقات الدولية العاملية
14
قائمة االختصارات
15
تشكيل العالقات الدولية العاملية
16
قائمة االختصارات
17
مقدمة
مقدمة
األهداف واملقاربات
يتم َّثل أحد الدوافع الرئيسة لتأليف هذا
الكتاب يف محاولة انتهاز ما يعتربه كث ٌري من
الباحثني يف حقل العالقات الدولية ،IRوليس
كلهم« ،الذكرى املئوية» لتأسيس هذا التخصص
َ
حلول العام .2019إنها املعريف ،والتي توافق
«األسطورة» ا ُمل َؤ ِّس َسة طويلة األمد لحقل
العالقات الدولية التي ُتد َّرس عىل نطاق واسع
يف الدورات التمهيدية ،والتي تحولت يف العام
1919إىل مجال دراسة رسمي بوصف ذلك
استجابة للكارثة التي خ َّلفتها الحرب العاملية
األوىلُ .ت َص ِّو ُر هذه «األسطورة» حقل العالقات
الدولية باعتباره جاء استجابة ملشكلة ملحة
تتعلق بكيفية فهم إشكالية السلم والحرب
يف مجتمع الدول (سرناجع عىل نحو ُمستفيض «إن ما نهدف إليه ،حيثام أمكن ذلك، َّ
هو تقديم نظرة عامة واسعة النطاق
هذه «األسطورة» والنقاش الدائر بشأنها يف عن بعض املوضوعات الرئيسة واملراكز
ا ُمل َؤ َّس ِس َّية لحقل العالقات الدولية
الفصل الثاين)َّ .إن مثل هذه الذكريات السنوية املوجودة يف مناطق خارج أوروبا
فرص جديرة بالتوقف عندها الكبرية لهي ٌ وأمريكا الشاملية»
19
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وتقييمها ومراجعة ما ُأنجز وما مل ُينجز ،والتفكري ،انطالقا من ذلك ،يف املكان الذي
يجب التوجه إليه.
يتم ّثل الدافع اآلخر ،والذي ال َي ِق ُّل أهمية عن سابقه ،يف التفكري بشأن
النقاشات املتزايدة عن طبيعة حقل العالقات الدولية ونطاقه ،خصوصا تلك
النقاشات ا ُملتَأَ ِّت َية من أولئك الذين يشعرون بأن هذا املجال املعريف ظل ،وعىل
مدى فرتة طويلة ،خاض ًعا ملركزية أوروبية ضيقة األفق ،وأنه يحتاج إىل إظهار
الشمولِ ّية .فعىل رغم ّأن مثل هذه الكتابات كانت مطروحة قدر أكرب من ُ
بعض الوقت ،فإنها شهدت تزايدا كبريا خالل العقد املنرصم .وعىل رغم ذلك،
ال توجد أي دراسة موحدة تضع تفكري حقل العالقات الدولية يف نطاقٍ أوسع
إن جهدنا هذا يأيت لِ َت َت ُّب ِع تطور هذا الحقل واتجاهاته خارج السياق الغريبَّ .
بوصفه محاول ًة لذلك الغرض ،عىل الرغم من أنه ال ميكننا يف هذا الكتاب أن
نضطلع بأكرث من مجرد تبيان بعض املعامل املفقودة أو ا ُمل ْه َملة يف التفكري غري
الغريب لحقل العالقات الدولية ،والتي من شأنها أن تضفي عىل هذا الحقل
ملسة أكرث عاملية .وإذا ما قار َّنا ذلك مع ما هو موجود يف اململكة املتحدة أو
الواليات املتحدة األمريكية ،فإن مثة يف اللغة اإلنجليزية عددا قليال جدًا من
األدبيات أو املعلومات عن أصول حقل العالقات الدولية وتطوره خارج السياق
الغريب .تبدأ معظم األعامل ا ُملن َْجزَة بشأن تأريخ حقل العالقات الدولية باعتباره
تخصصا خارج السياق الغريب بعد الحرب العاملية الثانية (انظر عىل سبيل املثال ً
.)Tickner and Wæver, 2009aوقد اقترصت تلك األعامل عىل نحو خاص
عىل تقديم معلومات سطحية عن الجامعات ومراكز التعليم واملناهج والكتب
املدرسية يف مجال العالقات الدولية خارج أوروبا والواليات املتحدة .إن هدفنا
يف هذا الكتاب ليس تقديم رواية شاملة عن ظهور حقل العالقات الدولية خارج
السياق الغريب ،بل إن ما نهدف إليه ،حيثام أمكن ذلك ،هو تقديم نظرة عامة
واسعة النطاق عن بعض املوضوعات الرئيسة واملراكز ا ُمل َؤ َّس ِس َّية لحقل العالقات
الدولية املوجودة يف مناطق خارج أوروبا وأمريكا الشاملية.
لقد ُصمم هذا الكتاب ليكون جز ًءا من ال َت َف ُّك ِر يف الذكرى املئوية لتأسيس حقل
العالقات الدولية ،وللمساهمة يف هذا النقاش عرب طرق رئيسة ثالث:
20
مقدمة
امللخص والحجة
تتمثل قصتنا إجامال يف أن تطور حقل العالقات الدولية اِق َت َفى ،يف الواقع،
أ َثر طبيعة العالقات الدولية ومامرساتها عىل نحو لصيق .بالنظر إىل أن حقل
العالقات الدولية كانت له دامئًا روابط قوية باألحداث الجارية وعملية صنع
السياسة الخارجية ،فإن هذا االرتباط ليس هو اليشء املفاجئ يف حد ذاته عىل
نحو خاص(٭٭٭) .وتكمن فائدة هذا االرتباط بالنسبة إىل أغراضنا البحثية يف
متكيننا من تطوير نظرة ثاقبة دقيقة بشأن متى وكيف وملاذا اكتسب حقل
العالقات الدولية ِبنْيتَه املركزية الغربية املشهورة .عىل الرغم من املبالغة يف
التبسيط فإن القول بأن التيار السائد لنظرية العالقات الدولية املعارصة ليس
أكرث بكثري من أن يكون تجريدا مستمدا من التاريخ الغريب ا ُملتداخل مع النظرية
السياسية الغربية يظل قوال صحيحا عىل نحو عام .فالواقعية هي فكرة تجريدية
(٭) يرمز املؤلف إىل العالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا بالحرفني الكبريين « ،»IRبينام يرمز إىل العالقات الدولية
بوصفها مامرس ًة بالحرفني الصغريين « .»irراجع قامئة االختصارات[ .املحرر].
(٭٭) وهكذا تختلف مقاربتنا عن مقاربة شميدت ( - )1998التي نأمل أن تكون مقاربة مكملة لها -واآلخرين
الذين يحاولون استكشاف أصول حقل العالقات الدولية وجذوره من خالل فحص خطابات هؤالء العلامء يف إطار
هذا التخصص[ .املؤلفان].
(٭٭٭) للحصول عىل حجة مفصلة بشأن كيفية تأسيس نظرية العالقات الدولية وتاريخ العامل ،انظرLawson :
2012و .Buzan and Lawson 2018ولالطالع عىل عمل آخر يتخذ مقاربة مشابهة لربط مامرسة العالقات الدولية
مبسألة التفكري بشأنها ،انظر ([ .)Knutsen 2016املؤلفان].
21
تشكيل العالقات الدولية العاملية
َتتَأَ َّىَّت من ميزان القوة األورويب للقرن الثامن عرش ،من السلوك املقرتن بالقرنني
السادس عرش والسابع عرش ،وبالطبع ،من النظرية السياسية اليونانية القدمية.
أما الليربالية ،فهي فكرة تجريدية َتتَأَ َّىَّت من املنظامت الحكومية الدولية للقرنني
التاسع عرش والعرشين ،ومن نظريات االقتصاد السيايس .ويف حني أن املاركسية
تعد تجريدا من فرع آخر ينبثق من نظريات القرنني التاسع عرش والعرشين
األوروبية املتعلقة باالقتصاد السيايس وعلم االجتامع التاريخي ،فإن املدرسة
اإلنجليزية عبارة عن تجريد ينبثق من السلوك الديبلومايس األورويب يف القرن
التاسع عرش ومن تقليد أورويب طويل للنظرية القانونية القامئة عىل افرتاض أن
كل قانون؛ مبا يف ذلك القانون الدويل ،يستلزم وجود مجتمع .ومن الواضح أن
ال ِبنَائية ليست تجريدا منبث ًقا من املامرسة الغربية ،ولكنها نظرية ُمستمدة من
فلسفة املعرفة الغربية .لقد ُبني حقل العالقات الدولية -إىل حد بعيد -عىل
افرتاض أن التاريخ الغريب والنظرية السياسية الغربية هام تاريخ العامل ونظريته
السياسية ً
أيضا.
إنه ملن السهولة مبكان الكشف عن مغالطة هذا االفرتاض ،وذلك من خالل
التساؤل عن الشكل الذي كانت ستبدو عليه نظرية العالقات الدولية لو ُط ِّور
بداًل من العامل الغريب .فالصني ،عىل سبيل هذا التخصص املعريف يف مكان آخر ً
ٌ
ونظرية سياسية مختلفان جذر ًيا عن التاريخ والنظرية السياسية املثال ،لديها ٌ
تاريخ
الغربيني .ففي حني أن التفكري واملامرسة الغربيني قد انجذبوا أكرث نحو قضايا
السيادة؛ واإلقليمية؛ والفوىض الدولية (international anarchy٭)؛ والحرب؛
واملجتمع الدويل ،فقد ُو ِّجهت النظرية واملامرسة الصينيان عىل نحو كبري نحو قضايا
الوحدة؛ والتسلسل الهرمي؛ وتيانكسيا ( Tianxiaكل ما تحت السامء)؛ وعالقات
جسدت الحرب والديبلوماسية الج ْز َية (tribute system relations٭٭) .لقد َّ
نظام ِ
والتجارة يف النظام الصيني مامرسات وفهو ًما مختلف ًة متا ًما عن تلك املوجودة يف
(٭) الفوىض أو الالسلطوية :anarchyوهي إحدى األفكار يف الفلسفة السياسية وتعني باختصار وجود مجتمع من
دون وجود دولة أو حكم يتحكم يف سلوك األشخاص يف هذا املجتمع[ .املحرر].
(٭٭) للحصول عىل مراجعة ممتازة بشأن كيف وملاذا ترصف وفكر النظام الصيني بتلك الطريقة ،انظر (Pines
[ .)2012املؤلفان].
22
مقدمة
الغرب ،وأدى ما ُيصطلح عىل تسميته اآلن بـ «القوة الناعمة» دو ًرا كبريا جدا يف
ذلك .كان ادعاء الصني بأنها ُمُتثل «اململكة الوسطى» تأكيدًا عىل التفوقني الثقايف
واملادي عىل حد السواء ،وأن املامرسة والتفكري الصينيني ال ينسجامن عىل نحو
مريح مع املفاهيم الغربية مثل :القوة الكربى واإلمرباطورية والهيمنة .ولو أن حقل
العالقات الدولية انبثق من التاريخ اإلسالمي ونظريته السياسية ،لرمبا كان سريكز
بداًل من نظام الدول اإلقليمية ذات السيادة .وكام ُتظهر أكرث عىل املجتمع العاملي ً
رحالت ابن بطوطة يف القرن الرابع عرش ،فقد امتد مجتمع العامل اإلسالمي من
إسبانيا إىل الصني؛ وعربه كان ميكن للفرد السفر عىل نحو أكرث أو أقل أمانا ،وكان
ُيعرتف مبكانته واحرتامه عىل طول الطريق (.)Mackintosh-Smith, 2002
لقد ظهرت خالل العقود القليلة املاضية أدلة أخرى عىل أن التاريخ الغريب
كاف بقية العامل ،خصوصا مع والنظرية السياسية الغربية ال ميثالن عىل نحو ٍ
اكتساب دراسة حقل العالقات الدولية شعبية يف جميع أنحاء العامل .إذ ُتظهر
األبحاث الجارية يف حقل العالقات الدولية يف كل من أمريكا الالتينية وأفريقيا
انفصااًل متزايدًا بني مفاهيم حقل العالقات ً والرشق األوسط وجنوب رشق آسيا
الدولية السائدة ا ُملط َّورة يف الغرب -مبا يف ذلك مفاهيم الدولة القومية ،والقوة،
واملؤسسات واملعايري -والحقائق التي ُيدركها ويحللها الباحثون املحليون يف
تلك املناطق املختلفة.
وبالنظر إىل أن حقل العالقات الدولية ُي ْف َرَت ُض أن يكون من أكرث العلوم االجتامعية
عَالَ ِم َّي ًة ،فكيف ظهرت فيه إذن هذا ال ِب ْن َية غري املتوازنة؟ ميكن العثور عىل اإلجابة
الخاصة بهذا السؤال وإدراك الكيفية التي ميكن عن طريقها أن يعيد حقل العالقات
الدولية التوازن لنفسه يف الصلة الكامنة بني العالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا
والعالقات الدولية بوصفها مامرسة عملية خالل القرنني املاضيني .فخالل القرن التاسع
عرش وحتى الحرب العاملية األوىلُ ،ن ِّظمت ،وعىل نحو مك َّثف ،طبيعة العالقات
الدولية ومامرساتها من خالل عالقة غري متكافئة بحدة بني َم ْر َك ٍز Coreصغ ٍري نسب ًيا
اف Peripheryكبرية ولكنها ضعيفة نسب ًيا .يتمثل املَ ْر َكز ولكنه قوي جدًا ،وأَ ْط َر ٍ
أساسا يف العامل الغريب باإلضافة إىل اليابان ،وقد كانت مامرساته َت ْن َبني عىل الفصل
رِّضة» التي ش َّكلت املجتمع الدويل ،واملجتمعات َ ْ
«الرَب َب ِر َّية» الجامد بني «الد َولِ ا ُملت ََح ِّ َ
23
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أو «ال َه َم ِج َّية» التي ُيتعامل معها يف األغلب بدرجات من التبعية االستعامرية وال
ُتعترب جزءا من املجتمع الدويل .لقد كان تطور حقل العالقات الدولية خالل هذه
الفرتة أكرب بكثري مام تشري إليه األسطورة ا ُمل َؤ ِّسسة العائدة إىل العام .1919حيث
ُط ِّور معظم ُأسس حقل العالقات الدولية الحديث قبل العام ،1914وانعكس هذا
التط ُّور الحاصل يف «حقل العالقات الدولية قبل تقعيده بوصفه تخصصا معرفيا»
عىل اهتامماته ومفاهيمه ،ليصبح ممثال لنظرة دول املَ ْر َكز (الغرب) تقريبا .وعىل
الرغم من صدمة الحرب العاملية األوىل داخل املَ ْر َكز ،فإن ال ِبنية االستعامرية غري
املتكافئة للغاية لعالقة املَ ْر َكز -األَ ْط َراف انتقلت إىل فرتة بني الحربني العامليتني
من دون تغيري كبري .الواقع أن صدمة الحرب وضعت مسألة سالم القوى الكربى
والحرب يف مركز اهتاممات العالقات الدولية سواء باعتبارها حقال معرفيا أو مامرسة
تأسيس وتسمي ٍةٍ عملية .فمنذ العام 1919شهد حقل العالقات الدولية أول عملية
تهميشا لدول األَ ْط َراف ،وهَ َو ًسا بحرب القوى الكربى ً رسمية له ،وقد َع َكس ذلك
ظل الحقل يركز عىل نحو كام توحي بذلك أسطورة التأسيس للعام .1919وقد َّ
شبه كامل عىل اهتاممات الحرب/السلم ووجهات النظر األيديولوجية املنقسمة
همش ًة داخل اإلمرباطوريات الخاصة بدول املَ ْر َكز الغريب ،مع بقاء دول األَ ْط َراف ُم َّ
الغربية واليابانية .وطوال هذه الفرتة من الهيمنة الكلية لدول املَ ْر َكز ،كانت اآلراء
حقاًل معرف ًيا /مامرس ًة تتطور داخل دول األَ ْط َراف.بشأن العالقات الدولية باعتبارها ً
ونظ ًرا إىل أن عديدا من تلك اآلراء كانت مدفوع ًة بنزعة مناهضة االستعامر ،فقد
ُتجوهلت أو هُ ِّمشت إىل ح ّد بعيد يف خطابات املركزية الغربية املتعلقة بحقل
العالقات الدولية .إذ استُبعدت املستعمرات إىل حد بعيد من املجتمع الدويل يف حد
ذاته ،ومل ُت َش ِّكل تلك املستعمرات جز ًءا كب ًريا من اهتاممات حقل العالقات الدولية
خالل هذه الفرتة ً
أيضا.
خالل حقبة الحرب الباردة /إنهاء االستعامر ،وحتى العام ،1989كان بنا ُء
«املركز -األطراف» ذو الطابع املتطرف هذا ،والخاص بالعالقات الدولية بوصفها
حقال معرفيا/مامرس ًة ،قد رشع بالتغري .فبعد الحرب العاملية الثانية ،ويف الفرتة
الواقعة بني منتصف األربعينيات ومنتصف السبعينيات من القرن املنرصم ،أدى
إنهاء االستعامر إىل الدفع بدول األَ ْط َراف بأكملها تقري ًبا نحو عضوية رسمية يف
24
مقدمة
املجتمع الدويل بحيث تكون عىل قدم املساواة من ناحية السيادة .يف الوقت
تأسيس ثانية ،مع ٍ نفسه خضع حقل العالقات الدولية لِام عُ دَّ يف الواقع عملية
زيادات هائلة يف حجم الطابع ا ُمل َؤ َّس ِيِس ا ُمل ْضفى عىل هذا التخصص املعريف .لقد
أدى مسار نزع الرشعية عن االستعامرية وعدم املساواة بني البرش إىل تحوالت
رئيسة يف العالقات الدولية ،وكانت لذلك انعكاسات إىل حد ما عىل حقلها املعريف.
كام أصبح العامل الثالث ودراسات التنمية يشكالن جز ًءا من الربنامج الدرايس
لحقل العالقات الدولية ،وبدأت أفكا ٌر من العامل الثالث؛ مثل نظرية التبعية وما
بعد االستعامرية ،يف اقتحام التيار السائد لهذا التخصص .لكن العالقات الدولية
بوصفها حقال معرفيا ،وإىل حد ما بوصفها مامرسة ،ظلت عىل رغم ذلك ُمركزة
عىل نحو كبري عىل اهتاممات ورؤى املَ ْر َكز الغريب .وقد حدث هذا جزئ ًيا بعد
العام 1947بسبب استمرار هاجس حرب القوى الكربى الذي هيمن عىل فرتة
ضخ ِم هذا الهاجس بسبب خطر نشوب حرب نووية بني بني الحربني العامليتني ،و َت ُّ
القوتني العظميني املتنافستني .فالحرب النووية العاملية قد ال تدمر الحضارة فقط،
بل البرشية جمعاء ،ولذلك كان االهتامم مبثل هذه القضايا ُيشكل أولوية ُم َ َّرَب َر ًة.
والحال أن دول األَطْرَاف؛ عىل رغم تَحَرُّرِهَا سياسيًا عىل نحو رسمي ،ظ ّلت ضعيفة
من الناحية االقتصادية وخاضع ًة لقوى املَ ْر َكز ،أي خاضع ًة للدول الغربية واليابان
عىل نحو أسايس .وعىل الرغم من أن العامل الثالث كان لديه بعض هامش املناورة
اخرُتق بش ّدة من خالل منافسة الحرب الباردة الدائرة بني يف السياسة العاملية ،فإنه ُ
الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي .لذلك ،وعىل رغم أن حقل العالقات الدولية
دمج دول األَ ْط َراف ضمن اهتامماته البحثية ،فإنه اضطلع بذلك وفق منظور دول
فإن ِمنظار هذا الحقل املعريف ا ُمل َو َّجه إىل العامل املَ ْر َكز عىل نحو أسايس ،ومن ثم ّ
الثالث وأحداثه لن يتم إال من خالل عدسات القوى الكربى وأجندتها .يعكس
أيضا الهيمنة الفردية للواليات املتحدة داخل حقل العالقات الدولية هذا التوجه ً
أيضا من حيث السيطرة عىل التمويل ليس من حيث األرقام الهائلة فقط ،ولكن ً
واملجالت والجمعيات األكادميية واملناقشات النظرية الحاصلة يف َم ْر َكز هذا املجال
املعريف .ولذلك ،ليس من املستغرب أن يعكس حقل العالقات الدولية األمرييك
(التخصص املعريف) العالقات الدولية للواليات املتحدة األمريكية (املامرسة) :أي
25
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أنه يعكس اهتاممات الواليات املتحدة ومصالحها بشأن الحرب الباردة واالقتصاد
العاملي واالصطفاف األيديولوجي للعامل الثالث.
لن يبدأ هذا االختالل بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف يف العالقات الدولية بوصفها حقال
معرفيا /مامرس ًة يف االنهيار حتى نصل إىل عامل ما بعد العام ،1989أي يف فرتة
ما بعد نهاية الحرب الباردة وإنهاء االستعامر .فخالل فرتة التسعينيات ُحوفظ
عىل عدم التوازن هذا فرتة وجيزة ،بينام حاولت العالقات الدولية بوصفها
حقال معرفيا ومامرس ًة استكشاف عواقب ظهور نظام القطبية األحادية بزعامة
الواليات املتحدة وعوملة العامل .لكن ذلك الوضع رسعان ما انهار تحت ضغوط
مثااًل عىل ما يسميه فريد مختلفة .وكان صعود الصني ،وبدرجة أقل الهند وغريهاً ،
«ص ُعو ِد ال َب ِق َّية» .the rise of the restوبحلولزكريا ) (Fareed Zakaria 2009بـ ُ
أوائل القرن الحادي والعرشين ،كانت فجوة الرثوة والقوة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف؛
والتي جاءت نتيج ًة إلرث التنمية غري املتكافئة واملشرتكة التي أَ ْف َضت إليها ثورات
الحداثة خالل القرن التاسع عرش ،تتآكل عىل نحو واضح .إذ حولت الواليات املتحدة
اهتامماتها األمنية يف البداية نحو مجموعة من «الدُ َولِ املَا ِر َقة» يف العامل الثالث،
ثم حولته ،بعد العام ،2001نحو اإلرهاب العاملي الذي تعود جذوره يف األغلب إىل
األولنْي من القرن الحادي والعرشين ،وخاصة بعد دول العامل الثالث .خالل العقدين ْ
األزمة االقتصادية التي بدأت يف العام ،2008كان الصعود الصيني يلوح يف األفق
عىل نحو متزايد باعتباره التحدي الرئيس لهيمنة الواليات املتحدة عىل العالقات
الدولية .ويف الوقت نفسه شهد حقل العالقات الدولية توس ًعا ،حيث ُأضفي عليه
الطابع ا ُمل َؤ َّس ِيِس يف عديد من البلدان .وقد احتفظت الواليات املتحدة بهيمنتها يف
الجانب املعريف للعالقات الدولية أكرث منه يف الجانب املامريس العميل ،غري أنها
نواح عديدة خاصة عىل مستوى كانت تواجه تحد ًيا من ِقبل أوروبا وآسيا من ٍ
نظرية العالقات الدولية؛ واملؤسسات؛ والجمعيات األكادميية؛ واملجالت العلمية
(.)Acharya and Buzan, 2007a, b, 2017; Buzan and Hansen, 2009
ظل حقل العالقات الدولية الغريب مبنظوره املَ ْر َك ِزي هو ا ُملسيطر .لكن عديدا من َّ
املنظورات األخرى كانت تحاول -وعىل نحو متزايد -إقحام تواريخها وفلسفاتها
األسس التاريخية والفلسفية لحقل العالقات الدولية. الخاصة ُبغية توسيع ُ
السياسية ّ
26
مقدمة
وبحلول العام ،2017كان من الواضح -عىل نحو متزايد -أن الهيمنة العاملية
للغرب عىل العالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا/مامرس ًة بدأت يف التاليش .حيث
ظهر نظام عاملي ما بعد غريب مل يعد يشكل فيه الغرب املَ ْر َكز الوحيد أو املهيمن
عىل الرثوة والقوة والرشعية الثقافية .وعىل رغم ذلك فإن إرث الهيمنة الغربية؛
خصوصا يف الحقل املعريف للعالقات الدولية ،استمر فرتة أطول مام كان عليه يف
العامل الحقيقي للعالقات الدولية بوصفها مامرسة.
وألخذ صورة عامة عن تطور ا ُمل ْج َت َم ِع ِ
الدويِل ال َعالَ ِمي Global International
بتحقيب لفرتة زمنية واسعة ٍ ) Society (GISعىل مدى القرنني املاضيني ،سنستعني
األ َ
وىَل طوره باري بوزان Buzanوسكوينبورغ )« :(Schouenborg 2018الصي َغة ُ
الدويِل ال َعالَ ِمي» ،version 1.0 GISوهي مبنزلة التأسيس األول ِ للم ْج َت َم ِع
ُ
للعالقات الدولية الحديثة بوصفها مامرسة ،irالذي أخذ شكل االستعامر الغريب
وىَلاأل َ الصي َغة ُ
(من القرن التاسع عرش حتى العام )1945؛ «التعديل األول عىل ِ
الدويِل ال َعالَ ِمي» ،version 1.1 GISوالذي يش ِّكل ا ُملراجعة الرئيسة ِ للم ْج َت َم ِع
ُ
األوىل التي أنهت االستعامر ولكنها حقبة التزال تشهد هيمنة دول املَ ْر َكز بحيث
الصي َغة شكاًل غرب ًيا عامل ًيا ()2008-1945؛ ظهور «التعديل الثاين عىل ِ تأخذ ً
الدويِل ال َعالَ ِمي» version 1.2 GISبعد العام ،2008ويف هذا ِ للم ْج َت َم ِع
األوىل ُ
التعديل ستفسح الهيمنة الغربية الطريق عىل نحو متزايد أمام االنتقال إىل
شكل تعددي عميق يتضمن عديدا من مراكز الرثوة والقوة والرشعية الثقافية.
سنستخدم هذا املسار التاريخي للعالقات الدولية بوصفها مامرسة ،irمن
حيث العالقة املتغرية بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف ،ليكون انطالقة للتفكري يف الطريق
الذي يحتاج حقل العالقات الدولية IRإىل سلوكه اآلن ليك يصبح أكرث عَالَ ِم َّي ًة
«ص ُعو َد ال َب ِق َّية» .وهذا يعني من بني أمور أخرى إيالء مزيد من بحيث يعكس ُ
االهتامم للتاريخ عىل الصعيد املحيل باإلضافة إىل التاريخ الغريب ،وأيضا تاريخ
العامل الذي ُروِيَ من منظور عاملي .إن التفكري يف العالقات الدولية انطالقا من
ثقافات اآلخرين وتواريخهم يحتاج إىل أن ُيقحم يف كل من الرسديات التاريخية
ومسارات التنظري .إذ يجب عىل تلك الرسديات التاريخية أن تأخذ بعني االعتبار
املظامل التاريخية ا ُملوجهة ضد دول املَ ْر َكز القديم (الغرب) والتي التزال موجودة
27
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف كثري من دول األَ ْط َراف القدميةُ ،مستمرة بذلك يف تسميم العالقات الدولية
بوصفها حقال معرفيا وتشويهها بوصفها مامرسة عملية.
ومن أجل الوقوف عىل التطور العاملي للعالقات الدولية بوصفها حقال معرفيا،
سنعتمد النظرة الواسعة نفسها ملا ُي َعدُّ «تفك ًريا بشأن حقل العالقات الدولية»،
متا ًما مثلام فعلنا يف عملنا السابق (.)Acharya and Buzan 2007a, b, 2010
ً
نشاطا للقادة لقد كان التفكري بشأن العالقات الدولية يف مراحله األوىل ُيشكل
السياسيني واملثقفني العامني بقدر ما كان يشكل أيضا ً
نشاطا لألكادمييني .الواقع
نشاطا أكادمي ًيا أساسيا ،حتى يف الغرب ،إال بعد أن حقل العالقات الدولية مل يصبح ً
العام ،1945لينتقل بعد ذلك التاريخ إىل العامل الثالث .سنتناول هذا التفكري غري
األكادميي بشأن حقل العالقات الدولية عىل محمل الجد بوصفه جزءا من تاريخ
هذا التخصص املعريف ،و ُنظهر كيف شكل هذا ال َت ْف ِك ُري التطورات األكادميية الالحقة
كل من دول املَ ْر َكز ودول األَ ْط َراف .وضمن حقل العالقات الدولية األكادميي يف ٍّ
أيضا نظرة موسعة ملا ميكن اعتباره الذي تطور منذ الحرب العاملية الثانية ،سنقدم ً
ستفيضا عن هذا املوضوع. ً «نظرية» .إذ سيتضمن الفصل الثاين نقاشا ُم
إن لكل هذا تبعات عىل كيفية تدريس هذا الحقل املعريف وكيفية إضفاء
نقاشا لكامل تخصص الطابع املؤسيس عليه .نحن نأمل أن يفتح هذا الكتاب ً
العالقات الدولية بخصوص كيف وملاذا يحتاج هذا الحقل إىل االنتقال من
حقاًل معرف ًيا ذا خاصية َم ْر َكزية غربية أنجلوساكسونية يف األساس ،إىل أن كونه ً
حقاًل معرف ًّيا عامل ًّيا ح ًّقا ،ومن هنا َتأَ َّىَّت ُمصطلح «حقل ال َع َال َقات الدولية
يصبح ً
ال َعالَ ِمي» (.)Global IR Acharya 2014a
الحجة املوضحة أعاله يف شكل خمسة أزواج من الفصولُ ،يغطي لقد ُنظمت ُ
كل زوج منها فرتة زمنية واحدة :فرتة القرن التاسع عرش حتى العام 1919؛ فرتة
1945-1919؛ فرتة 1989-1945؛ فرتة ،2017-1989لنتطلع بعدها إىل فرتة ما
بعد العام .2017يتناول الفصل األول ا ُملتكون من جزأين التاريخ الدويل ملامرسة
العالقات الدولية irاملتعلقة بتلك الفرتة ،ويوضح الفصل الثاين تطور العالقات
تخصصا معرف ًّيا IR؛ وكيف ارتبط هذا التطور بتاريخ عرصه .وكام ً الدولية باعتبارها
لوحظ أعاله ،فإن حجتنا تتمثل يف أن أحداث تاريخ العامل وضعت كثريا من األجندة
28
مقدمة
خاضع
ٌ البحثية التي يتناولها حقل العالقات الدولية .إن حقل العالقات الدولية
أيضا طريقا ذا اتجاهني .فحقلإىل حد ما لتأثري األحداث الجارية .غري أنه يشكل ً
العالقات الدولية يحاول التحكم يف هذا الواقع ا ُملتَغري ،وإعطاء األولوية لبعض
املسائل عىل حساب مسائل أخرى ،وإضافة تسميات ومفاهيم مثل القطبية الثنائية
والعوملة واملجتمع الدويل ،وهي أشياء تؤثر بدورها يف كيفية فهم الناس للعامل الذي
يعيشون فيه ،ومن ثم فهي ُت َش ِّكل طريقة َت َ ُّ
رَص ِفهم.
29
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
1
مقدمة
إذا كان حقل العالقات الدولية بوصفه تخصصا
معرفيا IRقد بدأ يف الظهور يف العام 1919مثلام
تؤكد ذلك األسطورة ا ُملتعا َرف عليها ،فإننا سنظل
بحاجة إىل الرجوع إىل القرن التاسع عرش لرنى كيف
ساهم التاريخ الدويل يف صياغة الت ََش ُّك ِل األويل لهذا
الحقل .الواقع أن ،وكام سنحاجج بذلك يف الفصل
الثاين ،جذور حقل العالقات الدولية ليست وحدها
هي التي متتد إىل أعامق القرن التاسع عرش ،ولكن
أيضا مامرسة التفكري الحديث املرتبطة بهذا مثة ً
الحقل املعريف ،مام يعني أننا بحاجة إىل فهم أحداث
القرن برمته من أجل فهم َنشأة هذا الحقل املعريف. «دعمت النزعة القومية مسار االنتقال
يكشف هذا الفصل عن أربعة مواضيع أساسية من وضعية الرعية إىل وضعية املواطن،
ومن النزعة الساللية يف الحكم إىل
متاميزة ولكنها مرتابطة فيام بينها بشكل وثيق: السيادة الشعبية»
31
تشكيل العالقات الدولية العاملية
- 1 - 1املشهد الفكري
من الناحية الفكرية ،متكنت ثورات الحداثة من إزاحة األسس املفاهيمية
للعامل الزراعي التقليدي .لقد هيمنت أفكار الدين والنزعة الساللية
dynasticism؛ املرتابطني أحدهام باآلخر بشكل وثيق ،عىل الرشعية السياسية
حتى القرن التاسع عرش ،مام جعل من اإلِ ْق ِلي ِمية فكرة مائعة إىل حد ما ،ومن
اإلمرباطورية ً
شكاًل سياس ًيا جذا ًبا ومستمرا يف كثري من األحيان .وقد استُكمل هذا
بالتفكري االقتصادي الذي هيمنت عليه املريكانتيلية :mercantilismوهي الفكرة
القائلة بأن التصدير بالنسبة إىل أي دولة أفضل بكثري من االسترياد ،وأن الرقابة
حصل عليها عن طريق املصادرة املبارشة إذا لزم االحتكارية عىل العرض ،والتي ُي َ
األمر ،أفضل من التجارة املفتوحة .كانت السيادة ،عىل األقل يف أوروبا ،فكرة
ً
ارتباطا وثي ًقا باملَ ِلك ،ومن ثم بالنظام الساليل .وكان راسخة ،لكنها كانت مرتبطة
(٭) يجب عىل القراء الراغبني يف مزيد من التفاصيل ومراجع أعمق الرجوع إىل هذا العمل[ .املؤلفان].
)(Bary Buzan and George Lowsan 2015a
32
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
هذا نظا ًما من املفرتض أن َت ْع ِر َف فيه الطبقات والرتب املختلفة مواقعها داخل
املجتمعات ،ومن ثم املكوث يف تلك املواقع .وهكذا ،كانت الفرصة تتشكل أساسا
عن طريق الحق ا ُملكتسب باملولد.
خالل القرن التاسع عرش الطويل ( ،)1914-1776أفسح هذا النظام من
األفكار واملامرسات املجال عىل نحو متزايد ألربع أيديولوجيات تقدمية :الليربالية؛
واالشرتاكية؛ والقومية؛ والعنرصية العلمية .لقد غريت هذه األيديولوجيات األربع
معاين الحرب؛ واإلقليمية؛ والطبقة؛ والرشعية السياسية؛ والسيادة؛ والقانون؛ والهوية
الفردية والجامعية ،والتجارة .ودعمت تلك األيديولوجيات العالقات الدولية الحديثة،
وأعادت تعريف ما كانت تهتم به تلك العالقات ،كام أعادت تعريف من ميارسها
وكيف ميارسها .وخلفت هذه األيديولوجيات األربع العديد من التناقضات يف داخلها
وفيام بينها ،وأيضا مع األفكار التقليدية التي كانت َت ِحل َمحلها .حيث شكل العمل
ببعض هذه التناقضات ُمحر ًكا رئيسا للحروب العاملية الثالث يف القرن العرشين.
ارتبطت الليربالية بربيطانيا ،املجتمع الرائد لثورات الحداثة .وقد تطورت إىل شكل
حزمة ُمعقدة من املفاهيم التي تعود جذورها إىل فكرتني مركزيتني :أن حقوق الفرد
يجب أن تكون ركيزة املجتمع والسياسة؛ وأن آلية األسواق املفتوحة نسب ًيا يجب أن
تكون املبدأ األسايس إلدارة االقتصاد .وكانت هاتان الفكرتان تدعم إحداهام األخرى
إىل حد أن األسواق استلزمت أن يكون لألفراد الحق يف حيازة أمالك خاصة وحرية
االبتكار والتفاعل ،وأن تلك الفردانية بدورها ستتعزَّز يف املقابل من خالل آلية األسواق
واملِ ْل ِكية الخاصة .وليك تشتغل هذه الحزمة عىل الصعيدين االقتصادي والسيايس،
يجب أن يكون األفراد متعلمني .سيصبح الرعايا مواطنني يتمتعون ،وعىل نحو جامعي،
بالحق يف تقرير املصري .وسيتمخض كل هذا عن َت ْر ِكيز عىل مفاهيم الجديروقراطية
بداًل من الرتكيز عىل مفهوم الحق ا ُملكتسب باملولد.(Meritocracy٭) والعقالنية ً
وهكذا ،هاجمت الليربالية العديد من أسس النظام التقليدي .فقد قوضت
كتسب باملولد وال ِبني َة الطبقي َة الجامدة،
َ اطية الحق ا ُملالفردانية والجديروقر ُ
ُ
(٭) مرييتوقراطية أو جديروقراطية وتعني حكم الجدارة ،وهو نظام إداري وسيايس ُتسند فيه التكليفات
واملسؤوليات إىل األفراد عىل أساس «استحقاقهم» القائم عىل ذكائهم وشهاداتهم ودرجة تعليمهم وكفاءتهم ،التي
ُتقاس عن طريق التقييم أو االختبارات[ .املرتجم].
33
تشكيل العالقات الدولية العاملية
و َدعَت األفراد إىل السعي إىل الرثوة والسلطة وف ًقا لقدراتهم .وق َّوضت الرتكيبة
أيضا؛ إىل جانب الحق يف تقرير املصري، نفسها (الفردانية والجديروقراطية) ً
الساللية والدور السيايس للدين .فقد دفعت النزعة الفردانية كال من النزعة ُ
بالتوجه نحو السيادة الشعبية :مبعنى أن ِم ْل ِكية الدولة تكون من ِقبل الشعب
وليس من ِقبل املَ ِل ْك .ومن املحتمل أن تكون هذه الفكرة قد سحبت بعض
الدعائم من تحت بساط الرشعية اإلمرباطورية ،عىل الرغم من أن املامرسات
الليربالية ،وخاصة فيام تعلق بالجديروقراطية ،استوعبت بسهولة اإلمربيالية
أيضا نحوالجديدة ألواخر القرن التاسع عرش .كام دفعت النزعة الفردانية ً
استيعاب الدين أو خصخصته وتقليص دوره يف السياسة .إن األفكار الليربالية
بشأن السوق تتعارض بشكل مبارش مع املريكانتيلية ،حيث تتطلع إىل جعل
السعي وراء الرثوة والتنمية ُم َبارا ًة إيجابيةً ،
بداًل من كونها ُم َبارا ًة صفرية .وقد
أيضا بعض الدعائم الفكرية من تحت بساط الرشعية اإلمرباطورية. سحب هذا ً
وبرغم أن الفردانية الليربالية مرتبطة اآلن بالدميوقراطية ،فإن هذا مل يكن
كذلك خالل القرن التاسع عرش ،إذ كان أي تفكري يف منح الناس حق التصويت
يشرتط بشدة وجود ِم ْل ِك َية ومؤهالت تعليمية ،كام كان ال يحق للنساء التقدم
للتصويت؛ إذ إن أولئك الرجال الذين أثبتوا «جدارتهم» هم فقط من ميلكون
حق التصويت.
أما االشرتاكية فقد ظهرت بوصفها رد فعل عىل تجاوزات مامرسات
الرأساملية الليربالية .وهي تتشارك يف الكثري من النقاط مع الليربالية ،مبا يف
ذلك الن ُفور من النزعة الساللية يف الحكم والدين والحق ا ُملكتسب باملولد .لقد
أيضا حل النظام الطبقي ،وتعليم الناس ،وتشجيع العقالنية، أراد االشرتاكيون ً
والسامح بالتنقل بني الطبقات ،ونقل الناس من وضعهم بوصفهم رعايا ليك
يصبحوا مواطنني .غري أن االشرتاكيني كانوا حريصني عىل الجامعة الوطنية أكرث
بداًل من الجدارة ،وعىل قيادة الدولة من اهتاممهم بالفردانية ،وعىل املساواة ً
بداًل من آلية السوق .لقد نظروا إىل املِ ْل ِكية الخاصة والسوق عىل أنهام لالقتصاد ً
متثالن وسيلتني لالستغالل وليستا وسيلتني للتمكني .ويف حني رأى الليرباليون
أن مثة انسجا ًما بني املصالح ،ركز االشرتاكيون عىل مسائل االستغالل والرصاع
34
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
ناشئة ،حيث واجهت يف البداية صعوبة يف متييز نفسها عن الهوية الربيطانية من
تلك النواحي(٭) .فمن خالل ابتكارها لهوية جامعية قوية ،مل تقدم القومية فقط
طري ًقا للتغلب عىل ال َّن َزعَات املحلية وخلق مجتمع واسع النطاق مثلام تتطلبه
ثقاًل مواز ًنا للسياسات الطبقية الجديدة املثرية أيضا ًالثورة الصناعية ،بل قدمت ً
لالنقسام التي فتحتها الثورة الصناعية ،كام قدمت الطرق الليربالية واالشرتاكية
للتعامل مع تلك السياسات .إذ ميكن للقومية من الناحية التجارية أن متيض يف
أيضا أن تسري من أي من االتجاهني ،سواء أكان اتجاها ليرباليا أم حامئيا ،وميكنها ً
الناحية السياسية يف أي اتجاه ،أي أن بإمكانها دعم األنظمة الدميوقراطية كام ميكنها
دعم األنظمة السلطوية ً
أيضا.
لقد أصبحت العنرصية العلمية Scientific Racismتوج ًها أيديولوج ًيا قو ًيا
للحداثة بني منتصف القرن التاسع عرش ومنتصف القرن العرشين .وكام يشري
دونكان بيل )« :(2013: 1خالل العقود القليلة األوىل من القرن العرشين ،كان
العرق ُي َعد عىل نطاق واسع وعىل نحو رصيح وحدة أنطولوجية أساسية للسياسة،
ورمبا الوحدة األساسية عىل اإلطالق» .نشأت العنرصية العلمية بشكل أسايس من
مزيج مكون من ثالثة أشياء :املخططات التصنيفية التي كانت تحدد علم األحياء؛
وانتقال مبدأ «البقاء لألصلح» من علم األحياء إىل املجتمع (الداروينية االجتامعية)؛
واملواجهات غري املتكافئة عىل نحو كبري التي كانت تحدث بشأن العامل بني الدول
«الرَب َب ِر َّية» أو «ال َه َم ِج َّية» .فرؤية تلك الجامعات
رِّضة» والشعوب َ ْ األوروبية «ا ُملت ََح ِّ َ
رضة ،ورؤيتها لبقية الجامعات األخرى عىل أنها َب ْر َب ِر َّية البرشية لنفسها عىل أنها ُمت ََح َ
مل تكن باليشء الجديد .لكن هذه املامرسة القدمية والعاملية إىل حد ما كانت تستند
أساسا إىل أحكام بشأن الثقافة ودرجة التحرض .وضمن هذا الشكل من التمييز ،كان ً
مثة مجال للحراك االجتامعي .إذ ميكن للناس الرفع من مستوى ثقافتهم أو تبني
ثقافة مجموعة أكرث حضارة .لقد أسهمت العنرصية «العلمية» بشكل أو بآخر يف
تعطيل هذا التنقل .فإذا كانت الدونية والتفوق شيئني وراثيني ،فحينئ ٍذ تكون مثة
وض ٍع ً
تسلساًل هرم ًيا عرق ًيا مع َ َمَت ُ إمكانية ضئيلة أو معدومة للتحسن ،وتكون النتيجة
(٭) يُقصد من نواحي اللغة والثقافة والعرق والتاريخ املشرتك[ .املرتجم].
36
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
- 1 - 2املشهد املادي
من الناحية املادية ،كان لثورات الحداثة ثالثة تأثريات با ِرزة عىل العالقات
غرَّيت قدرة التفاعل داخل النظام الدويل من خالل تقليص الوقت الدولية .أو ًاًل؛ َّ
والتكلفة واملخاطر املتعلقة بنقل البضائع واألشخاص واملعلومات عرب جميع أنحاء
غرَّيت الوحداتُ ،منشئة بذلك ً
طاقاًم مألو ًفا من الفواعل الحديثة يف العامل .ثان ًيا؛ َّ
مرسح السياسة العاملية .ثال ًثا؛ أدخلت التغيري التكنولوجي الرسيع باعتبارها سمة
دامئة للنظام الدويل مع تأثريات كبرية يف العالقات االقتصادية والعسكرية.
بدأ مسار االندماج األول للعامل خالل القرن التاسع عرش .حيث أدت البواخر
والسكك الحديد الجديدة ،إىل حد بعيد ،دورا حاسام يف تحطيم معظم الحواجز
التاريخية للمسافة والجغرافيا .فخالل بداية ذلك القرن كان من املمكن أن يستغرق
األمر ما يقارب العام إلرسال أي يشء (سلع؛ أو أشخاص؛ أو معلومات) من لندن إىل
أسرتاليا ،مع وجود خطر كبري يتمثل يف إمكانية ضياع كل يشء عىل طول الطريق.
(٭) كانت الفاشية ببساطة ً
مزيجا من القومية والعنرصية «العلمية»[ .املؤلفان].
37
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وقد عكست هذه الرشكات عرب الوطنية األفكار الليربالية عن التجارة واألسواق
واالستثامر وعززتها ،وأدت دو ًرا كب ًريا يف توطيد اقتصاد رأساميل عاملي.
وتعترب املنظامت الحكومية الدولية Intergovernmental Organizations
دعامة أخرى من دعامات املجتمع الدويل العاملي التي ترسخت يف ذلك
الوقت .فخالل الربع األخري من القرن التاسع عرش بدأت املنظامت الحكومية
الدولية يف تلبية املطالب الوظيفية للتنسيق والتشغيل البينيني الناتجني عن
الزيادات الهائلة يف التدفقات العاملية للتجارة واالتصاالت ،واالنتشار الرسيع
للتكنولوجيات الجديدة مثل السكك الحديد والتلغراف .ونظرا إىل القاعدة
العامة لتقسيم السيادة يف ا ُمل ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ْ
االس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب يف ذلك
الوقت ،فقد كانت السمة املثرية لالهتامم لتطور املنظامت الحكومية الدولية
تتمثل يف نجاح بعض الدول غري الغربية؛ مبا يف ذلك بعض الدول الواقعة تحت
الحكم االستعامري ،يف الحصول عىل العضوية فيها ،حيث شكل ذلك صيغة
رَّس ذلك من خالل الرتكيز الكبري عىل اإلدارة مهمة من االعرتاف الديبلومايس .و ُي َف َّ ُ
بداًل من السيادة الرسمية يف تلك االتحادات الدولية للقرن الوظيفية الفعلية ً
التاسع عرش (.)Howland, 2016: 2
واألمثلة التالية تدل عىل أبعاد ذلك:
-االتحاد الدويل لالتصاالت (تأسس يف العام :)1865انضمت إليه تركيا يف العام
1866؛ ومرص 1876؛ وإيران 1868؛ والهند 1868؛ واليابان 1879؛ وتايالند 1883؛
ورسيالنكا (1896٭).
-االتحاد الربيدي العاملي (تأسس يف العام :)1874انضمت إليه مرص عام
1875؛ وتركيا 1875؛ والهند 1876؛ وإندونيسيا 1877؛ وإيران 1877؛ واليابان
1877؛ وليبرييا 1879؛ وتايالند 1885؛ وتونس 1888؛ وكوريا 1900؛ والجزائر 1907؛
وإثيوبيا 1908؛ والصني (1914٭٭).
39
تشكيل العالقات الدولية العاملية
40
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
القامئة للدفاع عن قضايا محددة مثل تلك التي تسعى إىل تحسني رفاهية الحيوان،
وتعزيز الفنون وإضفاء الطابع الرسمي عىل املوضوعات األكادميية بدءا من علم
النبات ووصوال إىل األنرثوبولوجيا .وشهد النصف األخري من القرن التاسع عرش
من ًوا إضاف ًيا يف نشاط املنظامت غري الحكومية الدولية .حيث تشكلت مجموعات
الحركة العاملية استجاب ًة لحالة عدم املساواة التي خ َّلفتها نزعة التصنيع والكساد
األول للعرص الصناعي (الكساد الكبري) .أما املنظمة الدولية للرياضة فقد تضمنت
اللجنة األوملبية الدولية ،التي تأسست يف العام 1894إلحياء األلعاب اليونانية
شكل حديث .كام ظهرت يف الربع األخري من القرن التاسع عرش حركة القدمية يف ٍ
عرب وطنية من أجل الدفاع عن حق املرأة يف التصويت .وشهدت الفرتة التي
أيضا ظهور حركات السالم النسائية .إذ أعرب تلت نهاية الحرب العاملية األوىل ً
املؤمتر الدويل للمرأة الذي انعقد يف الهاي يف العام 1915عن معارضته الشديدة
للقومية وتجارة األسلحة ،ودعا إىل استبدال مقاربة توازن القوى بدعوة الدول
إىل ال ِو َفاق فيام بينها ،وإنشاء قوة دولية لتحل محل الجيوش الوطنية ،والعمل
عىل معالجة املظامل االقتصادية التي تسبب نشوب الرصاعات .وقد كانت هذه
املطالب مبنزلة مقدمة قوية ألجندة األمم املتحدة بشأن املرأة والسالم واألمن يف
فرتة ما بعد الحرب الباردة (.)Tickner and True, 2018: 2– 5
يف ذروة ما قبل الحرب العاملية األوىل ،كان مثة نحو 400منظمة غري حكومية
دولية نشطة حول العامل (Davies, 2013: 65– 76; Osterhammel, 2014:
.)505– 12إن املجتمع املدين العاملي ،الذي يعد سمة من السامت التي ُيحتفى
بها يف القرن العرشين ،تعود جذوره إىل القرن التاسع عرش الطويل .حيث كانت
حركة مناهضة العبودية رائدة يف أنشطة الضغط التي تضطلع بها املنظامت غري
الحكومية الدولية التي كانت تحاول التأثري يف معايري ومامرسات مجتمع الدول،
وقد تنبأ دعاة حركة السالم الحارضون يف مؤمترات الهاي بدمج املنظامت الحكومية
الدولية الحالية يف مسارات الديبلوماسية متعددة األطراف ( .)Buzan, 2017إن
كال من التفكري الجديد يف أيديولوجيات التقدم ،والتكامل املادي واالجتامعي للعامل
الناتج عن التحسينات الهائلة يف القدرة عىل التفاعل ،يعكسان حقيقة أن هذه
املجموعة الجديدة من الفواعل كانت مرتبطة بعضها ببعض من خالل ديناميات
41
تشكيل العالقات الدولية العاملية
هذه األرقام ،فإن التقدم التكنولوجي ،باالقرتان مع التوزيع غري املتكافئ للغاية
لثورات الحداثة األخرى ،قد ُأسس للتمييز والفصل بني البلدان املتقدمة والبلدان
النامية ،وهو التمييز الذي اليزال ُيعد سمة رئيسة للعالقات الدولية ،حيث استولت
مجموعة صغرية من الدول عىل معظم الرثوة والقوة التي أنتجتها ثورات الحداثة،
و ُو ِّظفت هذه امليزة من أجل إنشاء نظام ُم َكونٍ من مر َكز -أطراف ،تضع فيه دول
املر َكز القواعد وف ًقا ملصالحها الخاصة ،و ُتستَغل يف هذا النظام دول األطراف التي
غال ًبا ما تكون دو ًاًل ُم ْس َت ْع َم َرة .كام أعطت التقنيات الجديدة أيضا مضمو ًنا ( ُمحتَوى)
لفكرة التقدم ا ُملتجسد يف األيديولوجيات الجديدة.
كان للتغري التكنولوجي الرسيع واملستمر تأثري كبري أيضا يف العالقات
العسكرية .فمن الواضح أنه م َّهد الطريق لنشوء فجوة هائلة يف منط القوة بني
دول املركز الحديثة ودول األَ َطراف ا ُملتخلفة .وكام أظهرت بريطانيا للصني يف
العام ،1840فإن أولئك الذين ميتلكون النمط الصناعي الحديث للقوة لديهم
قدرات تكنولوجية واقتصادية وتنظيمية جعلت من السهل عليهم عمو ًما هزمية
أولئك الذين مازالوا يعتمدون عىل قدرات النمط الزراعي للقوة .لقد أدى ذلك
إىل تعزيز ِبنْية املَركز -األَ ْط َراف من خالل خلق فجوة كبرية عىل مستوى القوة
يصعب ردمها .وباإلضافة إىل ذلك ،و َّفرت البيئة التكنولوجية الجديدة املؤهالت
زعجا للغاية للعالقات الالزمة لدول املركز لتكون قوى كربى ،كام أضافت ً
عاماًل ُم ً
القامئة بني القوى الكربى داخل املركز يتمثل يف سباق التسلح الصناعي .خالل
العصور الكالسيكية ،كانت القوة الكربى تتطلب عددًا كب ًريا من السكان وخزانة
كبرية وقيادة جيدة إىل حد معقول .والتكنولوجيا العسكرية لتلك العصور مل
تكن تختلف كث ًريا بني الكيانات السياسية املجاورة .ولكن مبجرد أن بدأت نزعة
التصنيع يف العمل ،فقد بدأت جودة ونوعية األسلحة التي ميكن أن تعتمد عليها
دولة ما يف امليدان العسكري تكتيس أهمية بالغة ،كام بدأت تظهر أهمية ما
شكل هذا إذا كان بإمكان الدولة ُصنع مثل هذه األسلحة بنفسها أم ال .حيث َّ
حلقة مفرغة مستمرة؛ ألن جودة األسلحة املوجودة مثل البنادق واملدافع كانت
تشهد تحسنا طوال الوقت ،وكانت أنواع جديدة من األسلحة؛ أحيا ًنا تحويلية
(مثل املدافع الرشاشة والغواصات والطائرات) ،تظهر طول الوقت أيضا .عىل
43
تشكيل العالقات الدولية العاملية
هذا األساس ،أصبح من الرضوري وعىل نحو متزايد أن تتصدر القوى الكربى
طليعة التنمية .لقد شهدت القوى الكربى التقليدية مثل الصني ،واإلمرباطورية
العثامنية ،وروسيا تراجعا إىل حد ما ،يف حني كانت الدول التي حققت نجاحات
عىل صعيدي التحديث والتصنيع ،مثل بريطانيا وأملانيا والواليات املتحدة
واليابان ،تشهد صعودا.
ومثلام يتضح من خالل السباق البحري غري املعروف كثريا بني بريطانيا
وفرنسا خالل منتصف القرن التاسع عرش ،والسباق املشهور جدًا بني بريطانيا
وأملانيا يف الفرتة التي سبقت الحرب العاملية األوىل ،فقد س َّبب سباق التسلح
الصناعي نشوء حالة من انعدام األمن العسكري الكيل بني القوى الكربى .حيث
كان يجب عىل كل واحدة من تلك القوى التخوف من أنه إذا مل تستمر يف
سباق التسلح ،فإن اآلخرين قد ينرشون أسلحة متفوقة قد تؤدي إىل هزميتها
الرسيعة والحاسمة .فإذا نرشت فرنسا أسطوال من السفن الحربية البخارية قبل
بريطانيا ،فلن تتمكن بريطانيا من الدفاع عن نفسها ضد غزو الجيش الفرنيس
املتفوق .كان مثة تآزر بني التقدم التكنولوجي العسكري والتقدم املدين ،كام
هو الحال يف استخدام السكك الحديد والبواخر والتلغراف لتحويل الخدمات
غرَّيت هذه التقنيات الجديدة عىل نحو اللوجيستية للعمليات العسكرية .حيث َّ
والح َك ِم املكتسبة
مستمر طبيعة الحرب ،مام قلل من قيمة كثري من املعارف ِ
من الرصاعات السابقة.
وعىل الرغم من أن القوى االستعامرية سعت -إىل حد بعيد -إىل إبقاء األسلحة
الحديثة بعيد ًة عن أيدي رعاياها ا ُمل ْس َت ْع َم ِرين ،فإنه كان مثة ً
أيضا امتداد للرأساملية
إىل املجال العسكري يف شكل تجارة لألسلحة .لقد أراد مصنعو األسلحة بيع أسلحتهم
ليس فقط لحكوماتهم ،بل أرادوا أيضا ترويجها قدر اإلمكان وعىل نطاق واسع -يف
مسارات تقييم أسباب الحرب التي أعقبت الحرب العاملية األوىل أكسبهم ذلك لقب
« ُتجار املَ ْوت» ( .)Engelbrecht and Hanighen, 1934بدأت التطورات الجديدة
يف مجال األسلحة بالدفع نحو الجهود الساعية إىل السيطرة عىل أنواع معينة من
التقنيات العسكرية .وقد احتوت اتفاقية جنيف األوىل يف العام 1864واتفاقيات
الهاي الح ًقا يف العامني 1899و 1907عىل سلسلة من تدابري الحد من األسلحة التي
44
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
تطورت بفعل التقنيات العسكرية الجديدة .ففي النزاعات بني «الدول ا ُملت ََح ِّرِّضة»،
ُح ِظر الرصاص الذي ُي َف ِّج ُر الجسم (بنا ًء عىل اتفاقية سابقة بشأن عدم استخدام
الرصاصة املتفجرة املسامة «الدوم دوم» dum dumيف مؤمتر سانت بطرسربغ يف
وح ِظر القصف من أنواع مختلفة من الطائرات واستخدام الغازات العام ُ ،)1868
كأسلحة .كام ُق ِّيد أيضا نرش األلغام والطوربيدات.
سببت أيضا الزيادة الرسيعة واملستمرة يف عدد ونوع األسلحة ويف قدرتها
التدمريية وتكلفتها ،نشو َء املعضلة الدفاعية The Defence Dilemma (Buzan,
) .[1991] 2007: 217– 33وقد شكلت هذه ظاهرة جديدة تختلف عن املعضلة
األمنية The Security Dilemmaاملألوفة الناشئة عن الخوف من الهزمية بالسالح
دت الخوف من الهزمية من خالل املوجود يف أيدي اآلخرين .فاملعضلة الدفاعية َت َح ْ
الخوف من املنافسة العسكرية (بسبب تكلفتها ونوعية تحريكها) والخوف من
الحرب (ألن التكاليف املتزايدة والتدمري مقرتنان بتعبئة املجتمع عىل نحو متزايد،
مام يعني أن املجتمعات قد ُت َد َّم ُر من خالل هذه العملية ،بغض النظر عام إذا كانوا
قد كسبوا أو خرسوا الحرب) .وعىل رغم ذلك ،فإن املعضلة الدفاعية مل تكتسب
زخاًم فعل ًيا حتى بداية الحرب العاملية األوىل ،والتي سنتطرق إليها فيام بعد. ً
45
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وسلوكاتها .لتأخذ املجتمعات شكل القواعد واملؤسسات املشرتكة التي هُ ويا ِتها ُ
ُتحدد الهوية والعضوية والسلوك املرشوع .قبل القرن التاسع عرش كان باإلمكان
العثور عىل مجتمعات دولية فرعية عاملية مميزة يف أماكن مختلفة .فقد كان مثة
مجتمع ويستفايل دويل يف أوروبا يقوم عىل سيادة الساللة الحاكمة؛ ومجتمع دويل
يف املحيط الهندي يقوم عىل التجارة بني مزيج من الكيانات مبا يف ذلك املدن
التجارية واإلمرباطوريات والرشكات األوروبية املستأجرة؛ ومجتمع دويل هرمي يف
رشق آسيا يقوم عىل نظام الجزية الصيني (; Suzuki, Zhang and Quirk, 2014
.)Phillips and Sharman, 2015وخالل القرن التاسع عرش توسع املجتمع الدويل
األورويب ليشمل النطاق العاملي ،وقد تغري هو يف حد ذاته بسبب ثورات الحداثة
واملواجهات التي كانت قامئة مع املجتمعات الدولية األخرى.
كان مثة ثالثة عوامل رئيسة تقف وراء ظهور الصيغة األوىل للمجتمع الدويل
العاملي :إنشاء اقتصاد َم ْر َكز -أطراف عاملي يتمركز يف أوروبا؛ وخلق فجوة كبرية
عىل مستوى القوة بني دول التحديث وال َب ِقية يف أثناء املرحلة األوىل من الحداثة؛
والثورات التي أوجدت مجموعة من الدول الجديدة يف األمريكتني والتي سيطر
عليها املهاجرون القادمون من أوروبا.
لقد أدى إنشاء اقتصاد عاملي متكامل إىل جعل األوروبيني يعتمدون عىل مصادر
متنوعة من اإلمداد واألسواق العاملية ،مام أدى إىل نشوء حاجة قوية إىل تنظيم
وتوحيد السلوك عرب مجموعة واسعة من الثقافات ومستويات مختلفة من التنمية.
وكام يشري جرييت و .جونغ ) ،(Gerrit W. Gong 1984: 7– 21كانت الحاجة
األوروبية إىل الوصول إىل (التجارة؛ والتبشري؛ والسفر) هي التي دفعت الجوانب
الوظيفية ملا أصبح يعرف باسم «معيار الحضارة» (لحامية الحياة ،وحرية وممتلكات
األوروبيني يف البلدان األخرى) ،ومن ثم املطالبة بإقليمية أكرب وعالقات غري متكافئة،
وجدت فجوة حيث إن السكان املحليني ال يستطيعون أو ال ميكنهم توفريها .لقد ُأ ِ
كبرية ودامئة عىل صعيد القوة بني تلك الدول واملجتمعات التي كانت تتصدر طليعة
الحداثة ،وتلك املجتمعات التي مل ُمُتَ ِّكن يف نهاية املطاف من هم يف الطليعة من
السيطرة املبارشة عىل البقية ،إذا ما رغبوا يف ذلك .وقد ُأشري إىل هذا التطور من
خالل هزمية بريطانيا السهلة للصني يف العام .1840بعد ذلك شهدت موجة جديدة
46
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
من اإلمربيالية استيالء القوى األوروبية والواليات املتحدة واليابان عىل مساحات
شاسعة من أفريقيا وآسيا ،حيث متكنت من إخضاع القوى الكربى السابقة التي
فشلت يف التصالح مع الحداثة؛ مثل الصني واإلمرباطورية العثامنية .وأخ ًريا ،متكنت
ثورات أواخر القرن الثامن عرش وأوائل القرن التاسع عرش يف األمريكتني ضد الحكم
االستعامري من إضافة أعضاء جدد إىل املجتمع الدويل العاملي الناشئ .حيث ش َّكلت
مزيجا من الثقافة األوروبية والثورية ،وبحلول تسعينيات هذه الدول الجديدة ً
القرن التاسع عرش ،أصبحت الواليات املتحدة يف حد ذاتها قوة كربى.
ليس من الصحيح متا ًما اعتبار أن إنشاء املجتمع الدويل العاملي كان مجرد توسيع
للمجتمع الدويل األورويب ليشمل الصعيد العاملي .فاملجتمع الدويل األورويب يف حد ذاته
كان قد تلقى خالل مسار َت َش ُّك ِله ُمد َْخ َال ٍت من آسيا والعامل اإلسالمي ،ومن ثم كان يشهد
اندماجا يف بعض النواحي .وبحلول القرن التاسع عرش كان هذا االندماج يف ً بالفعل
حد ذاته مير بثورات الحداثة ،أي مير مبسار عاملي مرة أخرى ،وقد أصبح قو ًيا مبا يكفي
للسيطرة عىل بقية العامل .حيث هيمن هذا التوسع عىل املجتمعات الدولية ما قبل
الحديثة التي كانت موجودة يف أجزاء أخرى من العامل .ومن خالل مسارات االستعامر
وإصالح املواجهة ،حاول األوروبيون -وقد نجحوا يف ذلك إىل حد ما -إعادة تشكيل
العامل وفق تصورهم السيايس واالقتصادي والثقايف ،وإن كان األخري بشكل أقل(٭).
كانت هذه الصيغة األوىل من املجتمع الدويل العاملي صيغة جديدة ليس
أيضا من ناحية َت َش ُّك ِل قواعدها ومعايريها
من ناحية كونها عاملي ًة فقط ،ولكن ً
ومؤسساتها .إذ مل يكن عديد من أجزاء هذه الصيغة األوىل أوروبي ًة عىل وجه
اليِل ،عىل سبيل املثال ،كانت ً
شكاًل شائ ًعا من أشكال الس ِ التحديد .فنزعة الحكم ُّ
الحكم لدى عديد من الثقافات .وباملثل كان مبدأ عدم املساواة بني البرش نظاما
شائعا يف عديد من املجتمعات ُي َرَبر املامرسات بدءا من العبودية والتمييز بني
الجنسني وصوال إىل اإلمرباطورية .لقد أدت األفكار املسيحية والليربالية يف أوروبا،
(٭) األدبيات الرئيسة بشأن توسع املجتمع الدويل تشمل:
Bull and Watson, 1984b; Gong, 1984; Watson, 1992; Keene, 2002; Buzan and Little, 2010; Dunne
and Reus-Smit, 2017.
[املؤلفان].
47
تشكيل العالقات الدولية العاملية
إىل حد ما ،إىل تقويض مبدأ عدم املساواة بني البرش ،خصوصا تلك الحمالت
الناجحة التي ُق ِّيدت ملكافحة العبودية يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش.
لكن تصاعد «العنرصية العلمية» و«الداروينية االجتامعية» خالل القرن التاسع
عرش أبقت إىل حد كبري عىل وضع عدم املساواة بني البرش عىل ما هو عليه،
ووظفته كمسوغ رئيس لرشعنة اإلمربيالية واالستعامر والتمييز بني األجناس َّ
أيضا نظاما واسع االنتشار يف معظم ( .)Towns, 2009, 2010وقد كانت الحرب ً
املجتمعات ،مع وجود قيود قليلة نسب ًيا تتعلق باألسباب ا ُمل ِ
وج َبة للحرب ،و َق َبولٍ
َام بأن للغازي الحق يف التملك. ع ٍ
رمبا كانت السمة الرئيسة للصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي هي أنه
ُق ِّسم بشكل هرمي بني َمر َك ٍز ُم َت َمي ٍز مع مجموعة واحدة من القواعد التي ِصي َغت
اف خاضع ٍة تنطبق عليها مجموعة أخرى مختلفة من القواعد. عىل مقاسه ،وأَ ْط َر ٍ
إنه ملن املعقول تسمية ذلك باملجتمع الدويل العاملي االستعامري الغريب ،ألن
املَركز coreكان غرب ًيا عىل نحو أسايس ،عىل الرغم من أن اليابان أثبتت أن
عضوية ذلك املَركز كانت مفتوحة ألولئك الذين ميكنهم تلبية ِم ْع َيار الحضارة.
وسيأيت الحديث عن هذا بالتفصيل يف القسم التايل .داخل املركز ،كانت قواعد
ومؤسسات املجتمع الدويل مأخوذة إىل حد كبري من املجتمع الدويل الوستفايل،
ولكنها كانت تتكيف مع االحتياجات واألفكار الجديدة للحداثة (Buzan, 2014:
.)113– 33وكام ُلوحظ أعاله ،فقد انتقلت السيادة من الساللة الحاكمة إىل
الشعب مع إحساس أقوى باملساواة القانونية ،وأصبح القانون الدويل أقل تجذرا
يف القانون الطبيعي ( ُو ِضع من ِقبل الله ،واكتشفه البرش باستخدام العقل)،
وأكرث رسوخا يف القانون الوضعي (أي القانون الذي ُو ِضع من ِق َبل البرش كقواعد
ُم َت َف ٍق عليها لتنظيم اللعبة السياسية) .وانتقلت الديبلوماسية من كونها مدفوعة
مبصالح الساللة الحاكمة والتسلسل الهرمي ،لتكون متعددة األطراف عىل نحو
متزايد وتعكس املصالح الوطنية والحاجة إىل إيجاد عنارص للتعاون يف نظام دويل
ابطا .لقد جعل املركز األورويب النزعة القومية َت ِح ُّل َم َحل الساللة أكرث تعقيدًا وتر ً
الحاكمة باعتبارها أساسا للرشعية السياسية .كام عزز املركز األورويب ميزان القوى
باعتباره مبدأ أساسيا لتسيري عالقات القوى الكربى ،وأضفى الطابع الرسمي عىل
48
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
ذلك من خالل نظام «الوفاق األورويب»(٭) .لبضعة عقود خالل القرن التاسع
عرش ،أضفى «الوفاق األورويب» الطابع املؤسيس عىل إدارة القوى الكربى ،ومنح
القوى الكربى حقو ًقا ومسؤوليات خاصة فوق تلك التي متتلكها الدول العادية
انتقاصا كب ًريا عىل مستوى املساواة يف السيادة .فقد ً ذات السيادة ،مام شكل
حاولت بريطانيا ،باعتبارها قوة صناعية رائدة ،الرتويج للسوق بوصفه نظاما
للمجتمع الدويل العاملي .لكن ،ويف حني أن هذا قد حقق بعض النجاح ،فإنه
أعطى ميزة كبرية للتجارة والصناعة الربيطانيتني ،حيث جرت مواجهتهام من
طرف النزعة الحامئية الصناعية الناشئة يف معظم قوى املركز األخرى .أما بالنسبة
إىل الواليات املتحدة األمريكية ،فقد كانت جزئ ًيا خارج هذا املجتمع املركزي ألنها
بداًل من ذلك سياسة العزلة السياسية ،بينام تجنبت سياسة توازن القوى ،واتبعت ً
ظلت منخرطة يف معظم املسارات األخرى.
لقد ُح ِرمت دول األطراف من املساواة يف السيادة ،حيث كانت خاضعة بدرجات
ترتاوح بني الدمج الكامل وسيادة السلطة الحرضية -من خالل املحميات التي
تتمتع ببعض السيادة املحلية -إىل السيادة التي لديها قدر معقول من الحكم الذايت
أيضا من املساواة العرقية والثقافية تحت ذريعة املحيل .كام ُحرمت دول األطراف ً
منطق «الداروينية االجتامعية» و«معيار الحضارة» .كام ُأعيد تشكيل اقتصادات
الدول ا ُمل ْس َت ْع َم َرة لتلبية املوارد التي تحتاج إليها مراكز الحوارض ،وأيضا من أجل
العمل كأسواق أسرية ملنتجاتها .ففي أماكن مثل الهند ،أدت هذه التبعية ملصالح
املراكز الحرضية إىل تراجع كبري يف مستوى التصنيع؛ لذلك ،ويف حني كان مثة داخل
املركز ما وصفه عىل نحو رائع هيديل بول (« )1977باملجتمع الفوضوي ذي السيادة
املتساوية» ،كان مثة يف األطراف ِب ْن َي ٌة هَ َر ِم ٌية من السيادة ا ُملن َق ِسمة ،حيث تعرضت
دولها لالستغالل والعنرصية والتدخل من ِق َبل دول املركز.
(٭) م َّثل الوفاق األورويب Concert of Europeتوازن القوة األورويب من خالل مرحلتني ،املرحلة األوىل من 1815
إىل بداية الستينيات من القرن ذاته ،وأما املرحلة الثانية فمن بداية الثامنينيات من القرن التاسع عرش وإىل العام
.1914هيمنت عىل املرحلة األوىل للوفاق األورويب ،والتي تعرف بنظام املؤمترات Congress Systemأو نظام
فيينا Vienna Systemوذلك بعد مؤمتر فيينا ( ،)1814-1815قوى أوروبا العظمى وهي :بروسيا وروسيا وبريطانيا
وفرنسا والنمسا .واستعمل أكرث أعضاء الوفاق األورويب اعتداال ،والذين كانوا أيضا أعضاء التحالف املقدس ،هذا
النظام ملعارضة الحركات الثورية وإضعاف القوى القومية ودعم توازن القوى[ .املرتجم].
49
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف املقابل ،وجدت دول األطراف نفسها؛ سواء كان ذلك عن قصد أو من دون
قصد ،يف ُم َو َاج َه ٍة مع املصادر املادية والفكرية للحداثة .من الناحية الفكرية ،فإن
األيديولوجيات األربع «للتقدم» التي ُنوقشت أعاله مستمدة بشكل شبه حرصي
من السياق الغريب ومن نقاشاته الفكرية والسياسية .إذ ناد ًرا ما قام املفكرون
الغربيون املدافعون عن تلك األيديولوجيات بأي محاولة لالستفادة من أفكار
مامثلة أو متوافقة معها ُمتَأَت َية من العامل غري الغريب .لقد رأوا أفكارهم معيارا عامليا
لـ «الحضارة» ا ُملتجذرة يف التاريخ األورويب وفواعله ،والتي ميكن أن تنهض وترتقي
بظروف دول األطراف إذا تعلمت هذه «املجتمعات غري املتحرضة» تلك األفكار
واستوعبتها عىل نحو صحيح .من الناحية املادية ،حصلت دول األطراف إىل َحد
معني فقط عىل بعض االلتزام من القوى االستعامرية لتعزيز التنمية فيها والدفع
بالشعوب ا ُملتخلفة ليك تصبح قادرة عىل تلبية معيار الحضارة .فلرمبا َف َقدَت الهند
صناعاتها يف النسيج والصلب وهَ ْي َبتها الثقافية والعرقية واستقاللها ،لكنها حصلت
بالفعل عىل السكك الحديد وتذوقت آالت وأفكار الدولة العقالنية الحديثة.
ضمن املجتمع الدويل العاملي هذا ،كانت القوى األوروبية مسكونة بالخوف
من الثورة عىل الرغم من قوتها وثرواتها الهائلة .ففي دول املركز ،كان الخوف
َيتَأَىت من الثورات الناشئة عن التحوالت الرسيعة للحداثة .وكام لوحظ أعاله ،فقد
احتوت األيديولوجيات األربع للتقدم التي أطلقتها الحداثة عىل تناقضات ليس مع
أيضا عىل تناقضات النزعة الساللية يف الحكم والتقاليد الدينية فقط ،ولكن احتوت ً
فيام بينها .لقد كان الخوف َيتَأَىت جزئ ًيا من إمكانية صدام السالالت الحاكمة
التقليدية؛ خاصة يف روسيا وبروسيا والنمسا واملجر ،مع الثورات الشعبوية والقومية
والجمهورية مثل تلك التي أطاحت بالنظام املليك الفرنيس يف العام .1789وكام
يذهب إىل ذلك ج .جرانت ) ،(1916: 12فإن القوى الكربى ،ال سيام الرجعية منها،
« ُتركت الثورة الفرنسية عىل أعصابها» .كام كان الخوف َيتَأَىت ،يف جزء منه ،من
النخب الرأساملية الليربالية ذات الديناميات الطبقية الجديدة التي أطلقتها نزعة
التصنيع وحشدها املؤمنون باالشرتاكية .حيث أدت االضطرابات الثورية ،مثل تلك
التي حدثت يف العام ،1848إىل عدم ارتياح النخب األوروبية يف مواقعها .وكذلك
كان األمر بالنسبة إىل احتامل حدوث ثورات يف املستعمرات األفريقية واآلسيوية.
50
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
فقد شكلت ثورات االستقالل يف األمريكتني خطرا مثل الذي شكله التمرد ضد
رشكة الهند الرشقية يف جنوب آسيا يف العامني 1857و .1858ويف حني أن الثورات
يف األمريكتني أنتجت دو ًاًل تحت قيادة النخب البيضاء ،كان العنرصيون قلقني
من أن التمردات يف املستعمرات غري البيضاء ستمكن لـ «الساللة األدىن» .وقد
أدى مثل هذا التفكري إىل ظهور الخطاب العنرصي عن «الخطر األصفر» ،واألمر
الزجري بـ «ترك الصني تنام».
وقد ألقى هذا التوتر الحاصل داخل املركز ،حتى خالل ذروة عظمة عهده
اإلمرباطوري ،بظالله عىل ظهور الحركات املناهضة لالستعامر يف كل من آسيا
وأفريقيا والعامل العريب وأماكن أخرى خالل أواخر القرن التاسع عرش وأوائل
القرن العرشين.
ففي الهند تأسس حزب املؤمتر الوطني الهندي يف العام ،1885الذي يراه البعض
«أول حركة قومية حديثة صاعدة يف اإلمرباطورية غري األوروبية» (Marshall,
) .2001: 179وكان من بني ُمؤسسيه أالن أوكتافيان هيوم؛ وهو موظف حكومي
بريطاين ،وداداباي ناوروجي Dadabhai Naoroji؛ وهو مدرس هندي سنتطرق
إىل الحديث عنه مرة أخرى يف الفصل الثاين .نشأت الحركة املناهضة لالستعامر يف
الهند وأماكن أخرى من مصادر مختلفة كان من بينها َت َصاعُ د النزعة القومية .لكن
القومية مل تكن مجرد مسألة إنشاء «مجتمعات ُمت ََخ َّي َلة» ( )Anderson, 2006من
طرف النُّخب املحلية .فمن املؤكد أن بعض العوامل التي حددها أندرسون ،مثل
تأثريات التجانس للبريوقراطيات االستعامرية املركزية ،وإنشاء واستخدام لغة وطنية
من ِق َبل القوة االستعامرية ،وانتشار وسائط الطباعة ،مارست كلها دو ًرا يف الجمع
بني ُأ َناس من مجموعات عرقية مختلفة .غري أن القومية يف العامل االستعامري ظهرت
يف األساس كمقاومة للحكم والهيمنة األجنبيني ،وبعبارة أخرى؛ جاءت القومية نتيجة
ثانوية ،وليس سببا للمقاومة ضد االستعامر ،عىل الرغم من أن االثنني سارا جن ًبا إىل
جنب ،وكان ُي َعزز كل منهام اآلخر.
وبينام يتحدث أندرسون عن األصول «الك ِري ُيولية» للقومية ،التي تفرس التفاعل
بني التأثري األورويب ودور النخب املحلية يف تطوير املجتمع ا ُملت ََخ َّيل لألمة ،فقد
تعرض تفسريه النتقادات بسبب اعتبار القومية فكرة عاملية ميكنها أن تتالءم مع
51
تشكيل العالقات الدولية العاملية
السياقات االستعامرية املختلفة ،وأيضا بسبب تجاهله «املكان ا ُمل َركب للتابعني يف
هذه القصة ،ال سيام مكان السكان األصليني املحارصين داخل الحكم االستعامري»
( .)Calhoun, 2017عالوة عىل ذلك ،ال ميكن تفسري انتشار القومية وتأثرياتها يف
املستعمرات عىل أنه انتشار معياري لفكرة أوروبية عاملية بشكل افرتايض (Nath
َ « )and Dutta, 2014ت َع َل َم ْت َها» الن َُّخ ُب التي درست وعملت يف أوروبا قبل العودة
بداًل من ذلك ،وكام يحاجج بارثا شاترجي ( ،)1993فإن تطور القومية إىل أوطانهاً .
أشكااًل عديدة ،ففي حني أن القوميني ً والنضاالت املناهضة لالستعامر اتخذت
املحليني رمبا يكونون قد تبنوا الجوانب املادية للحداثة الغربية ،لكنهم احتفظوا
أيضا مبعتقداتهم الثقافية والروحية يف بناء القومية .باختصار ،لقد طور العامل غري ً
الغريب أنواعًا مختلفة من األفكار واملقاربات التي تقف وراء النضاالت املناهضة
لالستعامر وف ًقا للسياق والحاجة املحليني :إنها حالة كالسيكية من التوطني النشط
والتكويني (ً ،)Acharya, 2004
بداًل من كونها تبن ًيا شامال وسلبيا لـفكرة أجنبية من
ِق َبل القادة واملجتمعات املحليني.
لقد كان لظهور القومية العربية يف أواخر القرن التاسع عرش وأوائل القرن
العرشين جذور علامنية ودينية عىل حد سواء ،وكانت تلك النزعة موجهة ضد
الحكم العثامين وكذلك ضد اإلمربيالية الغربية ،عىل الرغم من أنها كانت موجهة
أكرث ضد الغرب يف البلدان العربية يف شامل أفريقيا .وباستثناء املغرب ،كان جزء كبري
من الرشق األوسط الحديث خالل القرن التاسع عرش وأوائل القرن العرشين يقبع؛
عىل األقل اسم ًيا ،تحت الحكم العثامين .لفرتة طويلة َق ِب َل العرب بالحكم العثامين،
وذلك بفضل دينهم املشرتك ،وكذلك بفضل قوة وسلطة اإلمرباطورية العثامنية التي
فرصا للحكام العرب املحليني كان بإمكانها أن تتحدى الغرب عىل أبواب فيينا وتوفر ً
للعمل يف البالط العثامين .لكن ذلك تغري مع انهيار اإلمرباطورية العثامنية يف القرن
التاسع عرش .فبينام وقعت انتفاضات محلية ضد القوى االستعامرية الغربية؛ مثل
الثورة التي قادها األمري عبدالقادر يف الجزائر يف أربعينيات القرن التاسع عرش ،فإن
البداية الحقيقية للقومية األكرث اتساعًا يف العامل العريب ميكن إرجاعها إىل «النهضة
العربية» خالل القرن التاسع عرش ( .)Kramer, 1993وقد شكلت العلامنية أحد
مصادر تلك الحركة ،حيث ُت ُز ِّع َم ْت حركة النهضة من طرف املسيحي اللبناين ُجرجي
52
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
زيدان وجهود العرب املسيحيني الليرباليني من أجل تكييف اللغة العربية وسيل ًة
لنرش الحداثة الغربية من خالل التعليم واألدب .كام شكل الدينُ أيضا أحد مصادر
تلك الحركة ،وقد انعكس يف رغبة العرب املسلمني يف االبتعاد عن القيادة الثقافية
بداًل من ذلك ،كحامل للواء مايض العثامنية املتدهورة ،ورسم الحضارة العربيةً ،
أيضا مصد ٌر سيايس للقوميةاإلسالم املجيد ومستقبله ( .)Kramer, 1993كان مثة ً
العربية ،التي وجدت أقوى تعبري لها عندما أبرم حسني بن عيل ،رشيف مكة ،اتفا ًقا
مع بريطانيا يف العام 1915من أجل الثورة ضد العثامنيني مقابل الحصول عىل
الدعم الربيطاين الستقالل املرشق العريب .غري أن الربيطانيني عقدوا صفقة مع فرنسا
(اتفاقية سايكس بيكو )1916لتقسيم املنطقة فيام بينهم ومل يفوا بالتزاماتهم.
وباإلضافة إىل ذلك ،أدى وعد بلفور الربيطاين يف العام ،1917الذي دعا إىل إنشاء
وطن قومي لليهود يف فلسطني ،إىل تفاقم الشكوك حول بريطانيا وغ َّذى نزعة
مناهضة االستعامر لدى العرب ،والتي ستجد تعب ًريا لها بصورة أكمل بعد الحرب
العاملية األوىل.
أيضا مبجموعة متنوعة من ويف أفريقيا ْاختَص َت َصاعُ د نزعة مناهضة االستعامر ً
اإلسرتاتيجيات واملقاربات التي تعكس حجم وتنوع القارة .ففي حني أن الدول
الساحلية؛ التي كانت عىل اتصال باألوروبيني يف وقت سابق (منذ القرن الخامس
عرش) ،كانت يف البداية أكرث تكي ًفا مع الحكم االستعامري ،فإن املجتمعات الداخلية
غري املسيحية؛ والتي أصبحت عىل اتصال مع األوروبيني الح ًقا عىل نحو أكرث
سطحية ،طورت إىل نضاالت ذات طابع أكرث عسكرية .لقد كانت النضاالت ضد
االستعامر أكرث عُ ن ًفا يف مستعمرات املستوطنني األوروبيني يف رشق أفريقيا وشاملها؛
مثل كينيا والجزائر اللتني كانتا ُتح َكامن من طرف األوروبيني عىل نحو مبارش ،مقارنة
باملستعمرات غري االستيطانية يف الساحل الغريب؛ مثل نيجرييا والكامريون .توسع
الحكم االستعامري األورويب يف أفريقيا عىل نحو كبري بعد مؤمتر برلني ()1885–1884
أيضا النضاالت قسم أفريقيا بني القوى األوروبية املختلفة .وقد ألهم هذا ً الذي َّ
القامئة ضد االستعامر والتي كانت تهدف إىل منع مزيد من االستغالل ملوارد أفريقيا
واإلطاحة بالحكم األورويب .وعىل رغم أن البعض من تلك النضاالت اتخذ طاب ًعا
عسكر ًيا ،فإن إثيوبيا فقط هي التي متكنت من هزمية قوة أوروبية؛ إيطاليا يف
53
تشكيل العالقات الدولية العاملية
العام ،1896لتظل مستقلة خالل تلك الفرتة .وقد تضمنت تلك النضاالت املناهضة
لالستعامر خالل أوائل القرن العرشين مترد ماجي ماجي يف تنجانيقا يف العام
1905؛ وثورات مدغشقر يف العامني 1904و 1905والعام 1915؛ وثورات املهدي يف
السودان ()1904-1900؛ وثورة أرض الصومال ()1920-1895؛ وثورة إجبا يف نيجرييا
يف العام (1918٭) .ويف أثناء مواجهة القوة األوروبية املتفوقة ،لجأ األفارقة أحيا ًنا إىل
خصوصا يف املستعمرات الفرنسية والبلجيكية ً الهجرة الجامعية املوسمية أو الدامئة،
واألملانية والربتغالية ،تاركني وراءهم املناطق التي كان الحكم االستعامري ينتهج
حكاًم قمع ًّيا عىل نحو خاص ،لينتقلوا إىل مناطق أكرث أما ًنا نسب ًّيا .وكان لظهور فيها ً
وسائل اإلعالم املطبوعة دور مساعد للحركات املناهضة لالستعامر يف أفريقيا.
عىل الرغم من االنقسامات وغياب األمن ،فإن الصيغة األوىل للمجتمع
الدويل العاملي متكنت من وضع أسس ما نسميه اآلن بالحوكمة العاملية Global
(Governance٭٭) .وكام لوحظ أعاله ،فقد أصبح لكل من املجتمع املدين العاملي
الذي أخذ شكل منظامت غري حكومية دولية؛ واملَ ْأ َس َس َة الجديدة ملجتمع ما بني
الدول الذي أخذ شكل منظامت حكومية دولية دامئة ،أدوار بارزة خالل القرن
التاسع عرش ،وقد شهدت الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي أيضا ضم بعض
األعضاء من دول األَ ْط َراف.
54
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
55
تشكيل العالقات الدولية العاملية
صناعية دامئة قبل الحرب العاملية األوىل (Bairoch, 1982: 288; Maddison,
.)2001 ; R. Baldwin, 2016وعىل الرغم من أن اليابان رشعت يف مسار
التحديث متأخرة مقارنة بفرنسا وأملانيا والواليات املتحدة ،فإنها كانت جز ًءا
من مجموعة فرعية ثالثة من املرحلة األوىل للتحديثيني إىل جانب كل من
روسيا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا واملجر .وعىل عكس معظم البلدان غري الغربية
األخرى وكذا بعض الدول الغربية والسيام تلك الواقعة يف أوروبا الرشقية
وإيبرييا ،كانت اليابان تتمتع بظروف محلية مواتية نسب ًّيا س َّهلت مسار تحولها
إىل حداثة صناعية ( .)Maddison, 2001: 27, 38, 46حيث كان لديها اقتصاد
تجاري متطور ،بينام شكلت ِب ْن َيتُها الطبقية ودميوغرافيتها ونظام ملكية األرايض
فيها رشوطا مواتية للتحديث (Curtin, 2000: 156–71; Totman, 2005:
،)locs. 8028–56; Allinson and Anievas, 2010: 479–85بحيث ابتكر
ماجا ُمتَوا ِز ًنا بني التقاليد (اإلمرباطور وشينتو)
مصلحو حركة امليجي يف اليابان اِ ْن ِد ً
والحداثة ،ورسعان ما أقاموا دولة عقالنية حديثة بإمكانها أن ُت َهذب النزعة
القومية ،وتسعى وراء التصنيع ،وتقاوم السيطرة األجنبية (Jansen, 2000: chs.
.)11– 12; Totman, 2005: locs. 8198– 429
ومبجرد أن رشعت اليابان يف مسار الحداثة حتى تحركت القيادة اليابانية
سرْي األمور يف الدول الغربية،
برسعة .فقد أرسلوا بعثات إىل الخارج ملراقبة كيفية ْ
واستوردوا ِب ُحرية الخرباء من الخارج للمساعدة يف جميع جوانب التحديث .إذ
رسعان ما أدرك اليابانيون أن التحديث الغريب كان تطو ًرا حدي ًثا ،ومن ثم فإن
فجوة التنمية ليست كبرية أو ال ميكن التغلب عليها كام قد تبدو للوهلة األوىل
( .)Jansen, 2000: locs. 5364–438وخالل الفرتة املمتدة بني العامني 1870
و ،1913لحقت اليابان عىل نطاق واسع مبعدالت النمو يف أوروبا الغربية بالنسبة
إىل السكان والناتج املحيل اإلجاميل ونصيب الفرد من الناتج املحيل اإلجاميل
( .)Maddison, 2001:126ليتضاعف الناتج املحيل اإلجاميل الياباين ثالث مرات
خالل هذه الفرتة مقارنة بأملانيا وروسيا ،وأفضل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا،
كام تضاعف نصيب الفرد من الناتج املحيل اإلجاميل متجاو ًزا عىل نحو طفيف
املعدل يف أوروبا الغربية (.)Maddison, 2001: 129, 206, 261, 264– 5
56
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
وارتفع متوسط العمر املتوقع يف اليابان خالل هذه الفرتة مثلام حدث يف
دول املَ ْر َكز األخرى ،ولكنه مل يتجاوزها (;Topik and Wells, 2012: 602– 3
.)Osterhammel, 2014: 170– 2وعىل عكس دول العامل الثالث األخرى،
احتفظت اليابان إىل حد كبري بحصتها يف التصنيع العاملي بني العامني 1800
و .)Bairoch, 1982: 294, 296( 1913وخالل الفرتة نفسها ارتفع مستوى
التصنيع للفرد فيها (مع األخذ باعتبار اململكة املتحدة يف العام 1900هي
األعىل درجة يف مستوى التصنيع للفرد بنسبة )100من 7إىل ،20وبني العامني
1820و ،1913ظلت حصة اليابان من الناتج املحيل اإلجاميل العاملي ثابتة إىل
حد ما عند نحو 3يف املائة حيث حافظت عىل وتريتها لتكون يف طليعة الدول
ا ُمل َصنِّعة ( .)Maddison, 2001: 127, 263وبحلول العام ،1913احتلت اليابان
املرتبة الثامنة من حيث إجاميل اإلنتاج الصناعي ،وذلك بنسبة 20يف املائة من
املستوى الربيطاين و 17يف املائة من املستوى األملاين (.)Bairoch, 1982: 284
وكام تظهر البيانات ،من الواضح أن اليابان كانت جز ًءا ضمن مجموعة
أوائل التحديثيني للقرن التاسع عرش ،عىل الرغم من كونها كانت غري غربية
عىل نحو عميق .ومثل كل أولئك الذين اتبعوا القيادة الربيطانية ،استجابت
اليابان للضغط الخارجي الذي فرضه الشكل العام الجديد للحداثة ،وكان لديها
الحظ واملهارة المتالك وخلق ظروف محلية مواتية للدخول يف مسار الحداثة.
وفضال عىل النامذج الربيطانية ،كان لديها أيضا مناذج ميكن االعتامد عليها.
فقد كانت تتساوى مع التحديثيني املتأخرين يف املرحلة األوىل ،وتركت وراءها
تلك الدول األوروبية التي فشلت يف االستجابة بفعالية للتحديات التي فرضتها
الحداثة .لقد استَحدَثت اليابان اِد َماجها املتميز بني الثقافة والحداثة ،وأصبحت
منوذجا للدولة التنموية اآلسيوية .إن فكرة أن اليابان كانت جز ًءا ال يتجزأ
ً متثل
من املرحلة األوىل من التحديث هي األساس الذي يجب أن ُيفهم عىل أساسه
موقعها يف العالقات الدولية .وعىل هذا األساس ،رسعان ما أصبحت اليابان
متثل النموذج املحيل للتحديث يف شامل رشق آسيا ،حتى أنها انتزعت اعرتاف
اإلصالحيني الصينيني بها (.)Koyama and Buzan, 2018
57
تشكيل العالقات الدولية العاملية
(٭) يحدث لدى الكثريين التباس يف ترجمة مصطلح ،Great Powerإذ يرتجم عادة إىل «القوة العظمى» ،ويبدو
أن هذا خطأ شائع يف أدبيات العالقات الدولية العربية .فاألصح من الناحية العلمية هي ترجمته إىل قوة كربى .و َّمثة
ثالثة مفاهيم مفتاحية يف هذا الخصوص .القوة اإلقليمية ،Regional powerوهي القوة التي يكون نفوذها مقترصا
عىل إقليمها (مثل نفوذ اململكة العربية السعودية ،أو تركيا ،أو إيران يف منطقة الرشق األوسط ،وهي كلها تعدُّ قوى
إقليمية يف املنطقة) .القوة الكربى ،Great Powerوهي القوة التي يتخطى نفوذها وتأثريها إقليمها ليكون لها تأثري
ونفوذ يف مناطق بعيدة محددة (مثل تأثري فرنسا يف أفريقيا ،وتأثري بريطانيا يف الرشق األوسط) .القوة العظمى
،Superpowerوهي القوة التي يكون كل العامل مجاال ملصالحها ونفوذها وتأثريها ،وال تحوز وضع القوة العظمى
اليوم سوى الواليات املتحدة األمريكية ،خصوصا بعد انهيار االتحاد السوفييتي الذي شكل القوة العظمى الوحيدة
املنافسة خالل فرتة الحرب الباردة[ .املرتجم].
58
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
واألمريكية السهلة نسب ًيا عىل الصني واإلمرباطورية العثامنية وأجزاء كثرية من
منوذجا لحركات التحديث ومناهضة ً أفريقيا .وبذلك أعطت اليابان األمل وقدمت
االستعامر يف جميع أنحاء العامل .فالشعب غري األبيض ميكنه أن يصبح بالفعل
تجسدت «الصحوة» ،التي عززتها هزمية اليابان لروسيا، قوة كربى ناجحة .وقد َّ
يف الثورات القومية ضد «الت ََخ ُّلف» يف إيران والصني واإلمرباطورية العثامنية ،كام
تجسدت كذلك يف التيار الفكري لـ «النزعة الوحدوية اآلسيوية» Pan-Asianism
التي احتوت عىل أصوات قيادية كالشاعر البنغايل رابندرانات طاغور ،واستطاعت
أن تجتذب جمهو ًرا كب ًريا ( .)Collins, 2011وقد سعى األتراك الشباب (تركيا
الفتاة)(٭) إىل جعل الدولة العثامنية «يابان الرشق األدىن» ،مشيدين بإرصارها
وتشكيلها لـ «حداثة آسيوية» عىل نحو متميز ( .)Aydin, 2007: 78كام كان ُيطلق
عىل أولئك التحديثيني املحيطني باإلمرباطور يف إثيوبيا خالل أوائل القرن العرشين
اسم «اليابانيون» ).Japanisers (Westad, 2007: 253
- 3 - 3العنرصية
لقد متثلت مساهمة اليابان األخرى باعتبارها القوة الكربى الوحيدة غري البيضاء
يف مواجهة القوى الكربى األخرى يف قضية العنرصية خالل مفاوضات فرساي خالل
للم ْج َت َمع
العام .1919كانت محاولة اإلصالح هذه ملا كان يعترب مبنزلة نظام رئيس ُ
الدُ َو ِيِل االِ ْس ِت ْع َاَم ِري ُتشكل بالنسبة إىل اليابان مصلحة ذاتية عىل نحو أسايس :إذ
كانت تتعلق مبكانة اليابانيني ،وليس مببدأ العنرصية يف حد ذاته .وكام تحاجج
الباحثة ناوكو شيامزو ( ،)1998فإن قضية عدم املساواة العرقية هددت مكانة
اليابان كقوة كربى والتي اكتسبتها بشق األنفس ،وذلك من خالل وضعها يف مرتبة
عرقية أدىن من القوى البيضاء ،ووضعها جن ًبا إىل جنب مع رعايا املستعمرات من
غري البيض .لقد ُر ِّسخت هذه اإلهانة من ِقبل سياسات الهجرة املعادية لليابانيني
واآلسيويني يف الواليات املتحدة وكندا وأسرتاليا .فمن دون االعرتاف مبساواتهم بني
الناس ،كيف ميكن لليابان تجنب النظر إليها باعتبارها قوة كربى من الدرجة الثانية؟
(٭) تركيا الفتاة أو األتراك الشباب هام اسامن للحركة السياسية نفسها التي قادت الثورة إلسقاط الحكم
العثامين[ .املحرر].
59
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وكام تحاجج ناوكو شيامزو ،كانت نتيجة ذلك أن اليابان كانت «قوة متعجرفة لكنها
غري آمنة ،رافضة ،لكنها حساسة تجاه الرأي العام الدويل» (Shimazu, 1998: loc.
.)138وحتى يف هذه الرشوط الضيقة ،فشلت اليابان يف التغلب عىل العنرصية التي
قام عليها النظام االستعامري الغريب عندما رفضت القوى الغربية سعيها ليك تكون
متساوية من الناحية العرقية ( .)Clark, 2007:83–106لقد نتج عن هذه اإلهانة
تحول معا ٍد للغرب يف السياسة اليابانية التي أرست أسس التنافس الجيوسيايس
خالل سنوات بني الحربني ( .)Zarakol, 2011: 166–73ويقدم كونراد تومتان
ابطا مث ًريا لالهتامم ،وهو أن هذا الحرمان ( )locs. 8960–82 :2005يف هذا الصدد ر ً
لليابان من وجود منفذ لفائض سكانها قد غ َّذى مربرات بناء اإلمرباطورية من قبل
اليابان ألجل حل هذه املشكلة بطريقة مختلفة .وعىل الرغم من مقاربتها القامئة
عىل املصلحة الذاتية وفشل تلك املقاربة ،شنت اليابان عىل األقل أول تح ٍد كبري
للم ْج َت َمع الدُ َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب.
للتسلسل الهرمي العرقي ُ
والواليات املتحدة تبحث جميعها عن «مكان لها تحت الشمس» ،ومل يكن بإمكانها
فعل ذلك إال عىل حساب القوى االستعامرية الحالية.
لقد استُقطبت ِبنْية القوة األوروبية يف شكل كتلتني ،غري أن كال من التحالف
الثاليث (أملانيا والنمسا واملجر وإيطاليا) والوفاق الثاليث (بريطانيا وفرنسا وروسيا)
جاءا نتاجا لتوازن القوى ،وليسا نتيج ًة للتحالفات األيديولوجية .فقد كانت
اليابان متحالفة مع بريطانيا ،وظلت الواليات املتحدة تتبنى «نزعة انعزالية»
منفصلة بذلك عن التوازن األورويب ،وتحالفت اإلمرباطورية العثامنية مع أملانيا
عند اندالع الحرب .وتؤكد الرواية التقليدية ألسباب الحرب العاملية األوىل دور
التحالفات غري املرنة وسباق التسلح الصناعي والتخطيط العسكري الصارم
والديبلوماسية الرسية .كانت بريطانيا وأملانيا قد أمضتا أكرث من عقد من الزمان
قبل العام 1914يف خضم سباق تسلح بحري باهظ ،حيث هدد ذلك التوسع
البحري األملاين التفوق البحري لربيطانيا ( .)Marder, 1961كانت أملانيا قلقة من
وترية التحديث الرويس الذي ميكن أن يغري من التوازن العسكري القائم بينهام
يف املستقبل غري البعيد .نظ ًرا إىل ِبنْية التحالف هذه ،كان عىل أملانيا؛ إذا أرادت
تجنب حرب عىل جبهتني ،هزمية روسيا برسعة قبل أن يتمكن الروس من تعبئة
جيشهم الكبريُ .أضيف إىل هذا الجو املشحون ُش ُعو ٌر بـ «القومية ذات النزعة
ورَش َعن ٌَة للحرب
الداروينية االجتامعية» بشأن التنافس ليك تكون األمة املتفوقةْ َ ،
باعتبارها أداة للسياسة .مل تقدم حروب القوى الكربى يف أواخر القرن التاسع
عرش أي تحذيرات جدية بشأن تكلفة ودمار ما سيأيت ،وكانت جميع القوى
تتوقع وتستعد لحصول حرب أخرى تكون قصرية وحادة(٭).
(٭) لقد قدمت الحرب األهلية األمريكية ( ،)1865-1861بخسائرها الكبرية وطول مدتها وتقنياتها الغريبة مثل
املدافع الحديد والغواصات ،بعض اإلنذارات بالحرب العاملية األوىل ،لكن دروسها تم تجاهلها من طرف حروب القوى
الكربى الحديثة التي هيمنت عليها الرسعة والتنقل .حشدت الحرب األهلية األمريكية نصف الذكور األمريكيني
البيض ،وقد فقد ثلث هؤالء حياتهم،
Belich, 2009: 331; see also C. S. Gray, 2012: ch. 4.
كام قدم مترد تايبينغ يف الصني ( )1871-1850تحذي ًرا آخر مل يُلتفت إليه .ونتيجة للحرب املطولة بني العامني 1850
و ،1873فقد ما يقرب من 20إىل 30مليون شخص حياتهم ،ورمبا يصل العدد إىل 66مليو ًنا ،وانخفض عدد سكان
الصني ككل من 410ماليني إىل 350مليون نسمة،
Phillips, 2011: 185; Fenby, 2013: 19; Schell and Delury, 2013: 45; Osterhammel, 2014: 120–1, 547–51
[املؤلفان].
61
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ش َّكل ال َت َغرُّيُّ ُ يف وترية وحجم وتكلفة حروب القوى الكربى إحدى نتائج الحداثة
الصناعية التي كشفت عنها الحرب العاملية األوىل .إذ مل تكن الحرب العاملية األوىل
حرب إنتاج فقط (من يستطيع إنتاج أكرب عدد من القوات واألسلحة) ،بل كانت
ً
أشكااًل وظرو ًفا أيضا حر ًبا لالبتكار التكنولوجي .فقد أوجدت التقنيات الجديدة ً
الح َك ِم اإلسرتاتيجية والعسكرية التقليدية ِح َك ًاًم
جديدة للحرب ،مام جعل كثريا من ِ
بالية .وعىل الرغم من أن بعض جوانب هذه الديناميات كانت موجودة يف حروب
القرن التاسع عرش يف أمريكا الشاملية وآسيا ،فإن الحرب العاملية األوىل كانت أول
رصاع كبري أدت فيه الغواصات والطائرات والدبابات واملدافع الرشاشة واألسلحة
الكيميائية أدوا ًرا قيادية .عىل األرض ،خلقت القوة النارية الجديدة مأز ًقا دمو ًيا
طويل األمد عىل الجبهة الغربية مل ُي ْك َرَس إال من خالل تطوير أساليب األسلحة
املشرتكة للحرب ،مبا يف ذلك الدبابات ( .)C. S. Gray, 2012: chs. 6–7أما يف البحر،
فقد اقرتبت الغواصات من االنتصار يف معركة األطليس ألجل أملانيا.
عىل أي حال ،فإن ما ميكن اعتباره أول حرب حديثة شاملة بني القوى الصناعية
الكربى كان حد ًثا مدم ًرا وصاد ًما للغاية .فقد سببت الحرب العاملية األوىل إسقاط
اإلمرباطوريات ،وإفالس القوى الكربى ،وإثارة الثورات وإنتاج مستويات غري مسبوقة
من املوت والدمار .وبالنسبة إىل الكثريين ،بدا أن الحرب الصناعية قد استنفدت
الدول التي حاربتهاُ ،مهددة بتدمري الحضارة األوروبية نفسها .كان شعار «الحرب
ألجل إنهاء الحرب» محاولة يائسة لتصور وتربير الرصاع الذي كان يبدو أن مدته
وتكاليفه وخسائره تفوق بكثري أيا من األسباب األولية لخوض الحرب .فقد بلغ
عدد الضحايا نحو 15مليو ًنا ،أي نحو أربعة أضعاف عدد ضحايا الحروب الثورية
الفرنسية والنابليونية ( ،)Clodfelter, 2002أو ازداد إىل الضعف نظراً إىل الزيادة
يف عدد السكان بالنسبة إىل نصيب الفرد خالل القرن املنرصم (Maddison, 2001:
.)241وباستثناء الواليات املتحدة واليابان ،كانت الحرب مبنزلة كارثة حلت عىل
جميع الدول التي شاركت فيها .وعىل الرغم من أن االنتصار كان أفضل من الخسارة،
فقد ُأزيلت إمرباطوريتان (العثامنية والنمساوية املجرية) من الخريطة ،وخضعت
اإلمرباطورية الثالثة (الروسية) لثورة اجتامعية .من بني «ا ُملنترصين» ،عانت بريطانيا
وفرنسا خسائر فادحة و ُم َصا َد َرة لالقتصادُ ،وأ ْض ِع َفت رشعية إمرباطورياتهام من
62
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
(٭) قاتل أكرث من مليون فرد من الجيش الهندي من أجل بريطانيا يف الحرب العاملية األوىل ،كام فعل عدد مامثل
من القوات القادمة من املناطق ذات السيادة البيضاء ونحو 150ألف جندي من املستعمرات األخرى (Abernathy,
[ .)2000: 112املؤلفان].
63
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وعىل رغم ذلك ،وبخالف هذه ال َت ِب َعات الكبرية الثالث ،مل تفعل الحرب العاملية
للم ْج َت َم ِع ال َد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ،وعىل للصي َغة ُ
األ َ
وىَل ُ األوىل كثريا لتغيري ال ِبنْية األساسية ِ
هذا األساس صنفها باري بوزان وجورج لوسون ( )2014aباعتبارها تاريخا مرجعيا
ثانويا لحقل العالقات الدولية .حيث ظلت ِبنْية القوة متعددة األقطاب ،ومل تتغري
رسعت الحرب من انحدار بريطانيا و َبرَّشَّ َ ْت -لكنها مل متثل قامئة القوى الكربى كث ًرياَّ .
ذلك -بتحولٍ يف انتقال القوة والقيادة من أوروبا إىل أمريكا الشاملية .لقد أحدثت
فقط تغيريات هامشية يف توزيع القوة(٭) ،بينام مل ُتحدث أي تغيريات تقري ًبا يف
مبادئ التنظيم االجتامعي .وباستثناء اإلمرباطورية العثامنية ،شكلت دول األَ ْط َراف
عىل نحو أسايس هد ًفا سلب ًيا يف الحرب :أي أن دول األَ ْط َراف اقترص دورها فقط عىل
للمنترصين .وقد ظلت النظم توفري املوارد للقوى الحرضية ،وش َّكلت غنائم محتملة ُ
للم ْج َت َم ِع ال َد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي؛ وأبرزها االستعامر/اإلمربيالية وعدم
وىَل ُ للصي َغة ُ
األ َ األساسية ِ
عجلت الحرب بزوال النزعة الساللية كشكل املساواة البرشية ،قامئة إىل حد كبري .وقد َّ
رشعي للحكم ،وعززت النزعة القومية .كام أضعفت ،ولكنها مل تدمرَ ،ز ْع َم أوروبا
بتمثيل «معيار الحضارة» .إن نجاح كل من التعبئة الجامهريية للحرب كنموذج
للحكم االشرتايك والثورة يف روسيا (يف مقابل فشلها يف أملانيا) عزز مكانة االشرتاكية.
لكن األخرية مل تفعل شيئًا ُيذكر لحل التوترات القامئة بني الليربالية واالشرتاكية
والعنرصية العلمية ،ودفعت بهم فقط إىل الواجهة لتُحل تلك التوترات يف العقود
طموحا -لتطورات ً الالحقة .وحتى عصبة األمم مل تعدو كونها مجرد امتداد -وإن كان
يف املنظامت الحكومية الدولية الدامئة التي بدأت قبل عدة عقود.
خالصات
لقد ش َّكل القرن الذي أفىض إىل الحرب العاملية األوىل مرحلة تحولية عىل نحو
عميق .إذ إن يف هذه الحقبة تغري كل يشء تقري ًبا يف العالقات الدولية ،ونشأت
خاللها معظم سامت العالقات الدولية املعارصة .فقد ظهرت قوى فكرية ومادية
قوية جديدة أزاحت جان ًبا األمناط القدمية لإلنتاج ،والتدمري ،والقوة ،والحكم.
(٭) يقصد توزيع القوة داخل النظام الدويل[ .املرتجم].
64
العامل حتى العام :1919تشكيل العالقات الدولية احلديثة
ُوأنشئ ألول مرة اقتصاد عاملي مرتابط عىل نحو وثيق .ولكن يف ظل الظروف التي
كان فيها التمييز العنرصي واالستعامر اليزاالن أم ًرا سائدًا خالل تلك الحقبة ،اتخذ
ذلك وبجالء شكل املَ ْر َكز-األَ ْط َراف ،وانعكس يف ا ُمل ْج َت َمع الدُ َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري
ال َغ ْر ِيِب .باختصار ،لقد ظهر إىل الوجود ألول مرة نظام ومجتمع دويل عاملي وحديث.
عند نهاية هذه الحقبة أرسلت حرب ضخمة موجات صدمة عرب النظام
الدويل مام جعله ضعي ًفا لكنه مل يتغري يف معظم النواحي عىل نحو أسايس.
لقد خ َّلفت هذه الحرب صدمتني كبريتني .متثلت إحداهام يف إطالق العنان
للتناقضات ا ُملتأصلة يف أيديولوجيات التقدم يف ساحة السياسة الدولية .وقد كان
تجسد يف التوترات التي كانت قامئة بني مثة نذي ٌر بذلك خالل القرن التاسع عرش َّ
الحكومات امللكية والجمهورية ،غري أن الحرب العاملية األوىل أفسحت الطريق
أمام منافسة أيديولوجية ثالثية بني االشرتاكية والفاشية والدميوقراطية الليربالية،
مع إزاحة الم َ َل ِك َيات إىل الخلف .وبهذا ،انتهت إىل حد كبري املرحلة األوىل من
الرصاع السيايس للحداثة الذي كان قامئا بني النزعة الساللية والسيادة الشعبية.
وكانت املرحلة الثانية؛ التي حددتها الرصاعات داخل أيديولوجيات التقدم ،تشهد
تجسدت الصدمة الكبرية األخرى يف رشعية وصالحية حرب القوى بداياتها .لقد َّ
الكربى باعتبارها أداة للسياسة .كام سببت املعضلة الدفاعية إيجاد حالة مل تكن
موجودة من قبل من الخوف واالنزعاج من اللجوء إىل الحرب .حيث كان لهذا
املنعطف نتائج كبرية عىل العالقات الدولية كمامرسة يف فرتة بني الحربني ،وأيضا
عىل تأسيس حقل العالقات الدولية كمجال أكادميي معرتف به.
65
احلديثة
2
مقدمة
يف العام 1789صاغ جريميي بينثام مصطلح
«دويل» internationalلإلشارة إىل املعامالت
القانونية القامئة بني امللوك .وعىل رغم ذلك ،فإن
تاريخ تأسيس مجال أو تخصص حقل العالقات
الدولية املعارص (تتنوع اآلراء بشأن ذلك) يرجع
اتفاقا إىل العام ،1919عندما ُأنشئ أول الكرايس
الجامعية ومراكز التفكري الخاصة به ،وأصبحت
«العالقات الدولية» متثل تسمية واحدة من بني
عدة تسميات (الدراسات الدولية ،والسياسة
الدولية ،والسياسة العاملية) ملجال معني من
الدراسة(٭) .والسؤال املطروح يف هذا الفصل «إن حقل العالقات الدولية مل ينشأ من
العدم يف العام ،1919حيث مل يكن
(٭) هذا النقاش بشأن التسمية اليزال مستمرا اليوم .وملناقشة تغليف
والدة جديدة بقدر ما كان إعادة ٍ
معنى هذه التسميات املختلفة ،انظر Albert and Buzan وإعادة إطالقٍ لألفكار واملامرسات التي
)[ .(2017: 900-1املؤلفان]. كانت مستمرة فرتة طويلة»
67
تشكيل العالقات الدولية العاملية
هو ماذا حدث خالل الـ 130عا ًما التي تفصل بني هذين التاريخني ( 1789و،)1919
وكيف يرتبط ذلك بكل من التاريخ الذي ُكشف عنه يف الفصل األول واللحظة
التكوينية املفرتضة يف العام 1919؟ وفيام ييل سنقسم املناقشة إىل ثالثة أقسام
رئيسة .يغطي القسم األول ذلك «التفكري والبحث» داخل دول املركز ،وهو ما يطلق
عليه اليوم اسم حقل العالقات الدولية ،حيث مل يكن يحمل هذه التسمية خالل
ذلك الوقت .وباملنظور نفسه ،يبحث القسم الثاين عن حقل العالقات الدولية قبل
تقعيده بوصفه تخصصا معرفيا ،وذلك من خالل اآلراء واألفكار املتعالية القادمة من
دول األطراف .يف حني يبحث القسم الثالث يف النقاش الدائر بشأن تاريخ التأسيس
( ،)1919وكيف يرتبط ذلك مبا حدث من قبل.
يتأسس هذا الفصل عىل ُحجتني رئيستني ،تتمثل أوالهام يف أن حقل العالقات
الدولية مل يظهر إىل الوجود يف العام 1919باعتباره رد فعل محددا عىل أهوال
الحرب العاملية األوىل .يتحمل إدوارد هاليت كار )E. H. Carr (1946: 1–2
بعض املسؤولية يف الدعاية ألسطورة التأسيس للعام ،1919مؤكدًا أنه مل تكن مثة
أي دراسة ُمن َِّظ َمة للشؤون الدولية الراهنة قبل العام ،1914سواء يف الجامعات
أو يف الدوائر الفكرية عىل نطاق أوسع ...فالسياسة الدولية كانت من اختصاص
الديبلوماسيني .وقد كان كوينيس رايت )ُ (1955: 26مخطئًا عىل نحو طفيف يف
وجهة نظره القائلة إنه ال ميكن َتتَبع تخصص العالقات الدولية ككل قبل الحرب
العاملية األوىل عندما عمدت الجهود املبذولة لتنظيم العامل من خالل عصبة األمم
إىل إجراء فحص أكرث منهجية للتخصصات املساهمة يف تنظيم العامل مثل القانون
الدويل والسياسة الدولية واالقتصاد الدويلُ .حجتنا هي أن األسس الرئيسة لحقل
العالقات الدولية؛ من حيث أجندته البحثية واملقاربات النظرية ملوضوع بحثه ،قد
ُو ِضعت خالل عدة عقود قبل العام .1919لقد غطى «حقل العالقات الدولية»
الذي ازدهر خالل القرن التاسع عرش مجموعة واسعة من املوضوعات بدءا من
األيديولوجيا السياسية والقانون الدويل واملنظامت الحكومية الدولية والتجارة
الدولية؛ مرورا باإلمربيالية واإلدارة االستعامرية ونظرية العرق ،وصوال إىل الجغرافيا
السياسية والدراسات الحربية .وكام يالحظ أويل ويفر ذلك بذكاء ) (1997: 8فإنه:
«بعد االطالع عىل مقال رانيك عن القوى الكربى ،وأعامل كل من كالوزفيتز ،وبنثام،
68
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
ورمبا كوبدن وأخ ًريا كانط ،فإنه ،باستثناء الشكل والغطاء العلمي ،من الصعب أن
ُت َفاجأ بالكثري يف حقل العالقات الدولية للقرن العرشين».
الحجة الثانية هي أن كل هذا التفكري بشأن العالقات الدولية ميثل تقري ًبا رؤية
مجموعة صغرية من الدول الصناعية التي كانت تتصدر طليعة الحداثة ،وخاصة
بريطانيا والواليات املتحدة .لقد كان حقل العالقات الدولية للقرن التاسع عرش
ميثل إىل حد كبري رؤية للعامل تعكس اهتاممات قوى املركز ،عىل الرغم من أننا
أيضا بعض البوادر املبكرة للتفكري الحديث بشأن حقل العالقات الدولية نالحظ ً
خارج السياق الغريب .فصدمة الحرب العاملية األوىل س َّهلت نوعًا ما من إعادة طرح
هذه األجندة بطريقة ضيقة وأكرث تركيزًا .فكان حقل العالقات الدولية الجديد
مهووسا بصدمة الحرب العاملية األوىل وكيفية منع ً الذي تأسس يف العام 1919
حدوث مثل هذه الكارثة مرة أخرى .كام أراد معرفة األسباب التي تقف وراء تلك
الحرب ،وعقد الكثري من اآلمال عىل املنظامت الحكومية الدولية؛ ال سيام عصبة
األمم ،ومراقبة التسلح ونزع السالح ،التي ميكن أن تكون وسائل للحل .باختصار،
ك َّرس حقل العالقات الدولية الجديد نفسه إلشكالية كربى ونبيلة ،أال وهي إشكالية
الحرب والسلم ،كام ثبت نظرته بثبات نحو املستقبل .ومن خالل االضطالع بذلك،
كام سنكشف يف الفصل الرابع ،استمر هذا املسار الجديد يف تهميش واستبعاد العامل
االستعامري من حقل العالقات الدولية.
من املثقفني واملهنيني العامني .إذ كانوا ميارسون يف األغلب أشياء أخرى (االقتصاد،
ودراسات الحرب ،والقانون ،واالقتصاد السيايس ،والعلوم السياسية ،والفلسفة ،وعلم
الوراثة البرشية ،وما إىل ذلك) ،وهي تخصصات امتدت إىل املجال الدويل .إن هياكل
التفكري هذه تحتوي عىل عنارص من نظرية العالقات الدولية باملعنى البنيوي (كيف
يسري العامل يف الوا ِقع) وباملعنى املعياري (كيف يجب أن يسري).
أيضا عىل تفكري حقل العالقات ومثلام سنبني ذلك ،تنطبق هذه اإلشكاالت ً
الدولية داخل دول األطراف خالل هذه الفرتة وما بعدها .ومن َثم فإن مقاربتنا ُتثري
أسئل ًة واجهناها يف عمل سابق بشأن ما هو حقل العالقات الدولية ،وعىل نحو أكرث
تحديدًا ،ما الذي ميكن اعتباره نظرية للعالقات الدولية؟ حيث أرشنا إىل:
«االنقسام بني الفهم الوضعاين الصعب للنظرية ا ُملهيمن يف الواليات املتحدة،
والفهوم االنعكاسية األكرث ليونة للنظرية املوجودة عىل نطاق أوسع يف أوروبا
( .)Wæver, 1998يستخدم عديد من األوروبيني مصطلح النظرية ألي يشء ينظم
املجال املعريف عىل نحو منهجي ،ويصمم األسئلة ويؤسس مجموعة متامسكة
وصارمة من املفاهيم والتصنيفات املرتابطة فيام بينها .وعىل رغم ذلك ،فإن التقليد
األمرييك ا ُملهيمن يتطلب عادة تعريف تلك النظرية مبصطلحات وضعانية :إنه
شكل عميل ،ثم يحدد ويرشح العالقات القامئة بني األسباب يحدد املصطلحات يف ٍ
والنتائج .يجب أن يحتوي هذا النوع من النظرية -أو أن يكون قاد ًرا عىل توليد -
فرضيات ذات طبيعة سببية قابلة لالختبار .لقد ُر ِصدت هذه االختالفات يف متييز
هوليس وسميث ( )1990املستخدم عىل نطاق واسع بني الفهم والتفسري .إذ لديهام
(هوليس وسميث) جذور إبستيمولوجية (املعرفية) وأنطولوجية (الوجودية)
تتجاوز االنقسام الرصيح بني أوروبا والواليات املتحدة ،وبالطبع ميكن العثور عىل
أنصار للموقف «األورويب» يف الواليات املتحدة ،وأنصار للموقف «األمرييك» يف
أوروبا .يف كال الشكلني ،تدور النظرية حول التجريد بعيدًا عن حقائق األحداث
اليومية يف محاولة للعثور عىل أمناط وتجميع أحداث م ًعا يف شكل مجموعات
وطبقات من األشياء» (.)Acharya and Buzan, 2010: 3–4
ستحرضا رميوند آرون ،نظريات ً لقد ش َّبه ستانيل هوفامن )ُ ،(1977: 52م
العالقات الدولية بنظريات «السلوك غري املحدد التي ميكن أن تضطلع بأكرث من
70
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
ال يتعني عىل املرء أن يكون واقع ًيا ليدرك أو يقبل بأن جزءا كبريا من حقل
العالقات الدولية املعارص هو تجريد َيتَأَىت من املامرسة .وكام الحظنا يف املقدمة،
فإن جزءا كبريا من نظرية العالقات الدولية املعارصة هو مجرد تجريد َيتَأَىت من
التاريخ الغريب .إذ غال ًبا ما تتبع النظرية املامرسة ،أي أنها تتبع تطورات العامل
الحقيقي .ومن َثم فإن أفكار القادة السياسيني أو ُر َؤاهُ م للعامل ،سواء يف الغرب
أو عند ال َب ِقية ،يجب اعتبارها مبنزلة تفك ٍري يف العالقات الدولية أو حتى نظرية
كاف. للعالقات الدولية ،إذا كانت قوية ومؤثرة ومعممة أو قابلة للتعميم بشكل ٍ
فكل صانع سياسة ،سواء اعرتف بذلك أو ال ،لديه منوذج عقيل يفكر ويعمل من
َاص
ابطا ال َمن َ خالله يف مجال السياسة .ومثلام ُيحاجج ستيفن والت ،فإن «مثة ر ً
منه بني عامل النظرية املجرد والعامل الحقيقي للسياسة .وحتى صانعو السياسات
الذين يحتقرون النظرية يجب أن يعتمدوا عىل أفكارهم الخاصة (غال ًبا ما تكون
سرْي العامل ،ألجل فهم عاصفة املعلومات التي تجتاحنا غري مذكورة) بشأن كيفية ْ
يوم ًيا» ( .)Walt, 1998: 29ومع أخذ هذا الفهم يف الحسبان ،فإننا س ُن َقا ِر ُب ما
ُي َعد تفكريا بشأن حقل العالقات الدولية يف كل من املركز واألطراف ،سواء يف تلك
الفرتات الزمنية أو يف الفرتات الالحقة.
ً
وشاماًل. مسحا منهج ًيا
يف املساحة املتاحة لنا هنا ،ال ميكننا أن نجعل هذا ً
إن هدفنا هو إظهار الخطوط العريضة ألنواع تفكري حقل العالقات الدولية التي
كانت جارية .وتقف وراء االضطالع بذلك ثالثة مربرات :أو ًاًل ،نريد أن نثبت عىل
نحو مقنع أن حقل العالقات الدولية مل ينشأ من العدم يف العام ،1919حيث مل
تغليف وإعادة إطالقٍ لألفكار واملامرسات ٍ يكن والدة جديدة بقدر ما كان إعادة
التي كانت مستمرة فرتة طويلة .وكام ُيظهر ويليام أولسون وجون غروم (1991:
) ،37–55فإن عديدا من املوضوعات الرئيسة لحقل العالقات الدولية الحديث بدءا
من الواقعية والليربالية ،مرورا بحركات السالم ،وصوال إىل الثورة ،كانت جميعها
تؤدي دو ًرا يف القرن التاسع عرش .لقد قام لوسيان أسوورث ) (2014: loc. 7بتمييز
رائع بني حقل العالقات الدولية الحديث والتفكري األويل لهذا الحقل« :يف حني أن
مسألة كيفية التعامل مع الغرباء من املجتمعات األخرى كانت ثابتة طوال تاريخ
البرشية ،بيد أنه يف القرون األخرية فقط أصبحت مسألة «العالقات الخارجية»
72
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
(وخاصة اإلمربيالية والحرب) مسألة ملحة بالنسبة إىل جميع قطاعات املجتمع يف
جميع أنحاء العامل» .ثان ًيا ،نريد أن نظهر مدى عمق هذه الرؤية الحديثة الناشئة
من املركز ،لنقوم بتمييز حاد بني حقل العالقات الدولية باعتبارها عالقات قامئة
رضة» داخل املجتمع الدويل من ناحية ،والعالقات االستعامرية بني الدول «ا ُملت ََح َ
«الرَب َب ِرية» و«ال َه َم ِجية» من
رضة» والشعوب واملجتمعات َ ْ القامئة بني الدول «ا ُملت ََح َ
ناحية أخرى .ثال ًثا ،نريد اإلعداد ُلحجة تكون واردة يف فصول الحقة مفادها أن
حقل العالقات الدولية «الجديد» ملا بعد العام 1919أصبح ضي ًقا نسب ًيا يف تركيزه.
حيث ُش ِّكل من خالل تأثري الحرب العاملية األوىل ،أي من خالل هواجس دول املركز
املتعلقة بالحرب والسلم ،والديناميات العسكرية لسباق التسلح الصناعي القائم
بني القوى الكربى.
يف إطار التعامل مع هذه األدبيات الواسعة الخاصة بـ «حقل العالقات قبل
تقعيده باعتباره تخصصا معرفيا» ،من املفيد محاولة تقدير سياق العرص .لقد أدى
التطور غري املتكافئ للغاية للحداثة الصناعية ،أو ًاًل يف بريطانيا ثم داخل حفنة من
الدول الغربية األخرى واليابان ،إىل فتح فجوة هائلة عىل صعيدي القوة والتنمية
بني دول املركز وال َب ِقية .لقد كان من الصعب سد هذه الفجوة ،ورسعان ما م َّكن
الرتكيز الهائل للرثوة والقوة يف َم ْر َك ٍز صغ ٍري من السيطرة عىل األطراف .عاشت حفنة
من املجتمعات املتموضعة يف طليعة الحداثة نوعًا من النشوة لقدرتها الجديدة
عىل َت َس ُّيد الطبيعة واستغاللها ،و َفت ِْح موارد ال حدود لها من الرثوة والقوة .وقد رأوا
أنفسهم ممثلني لطليعة الحضارة والتقدم .وعىل الرغم من أن هذا قد يبدو أم ًرا
مستهجنًا بالنسبة إلينا اآلن ،فإنه ليس من املستغرب أن هذه الفجوة الضخمة بني
الصفر ،أو «ا ُملت ََحرض» (عىل نحو أسايس من البيض) َ ْ
و«الرَب َب ِري» و«ال َه َم ِجي» (من ُّ
السمر أو السود) اكتسبت إيحاءات عنرصية قوية(٭) .إذ كان من السهل والفعال
من الناحية السياسية ربط الحضارة بالعرق األبيض ،وتربير؛ خالل هذه العملية،
تفوق ا ُملهمة الحضارية واإلمرباطورية عىل «السالالت األدىن».
(٭) كانت اليابان ،التي كانت ً
أيضا من أوائل التحديثيني ،متثل دامئًا مشكلة لهذه الصيغة العنرصية .انظر (،2018
[ .)Koyama and Buzanاملؤلفان].
73
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وبالنسبة إىل أولئك الذين كانوا ميارسون التفكري بشأن العالقات الدولية يف ذلك
الوقت ،فإن هذا التطور الهائل وفجوة القوة س َّلطا الضوء عىل قضيتني )1( :إشكالية
كيفية تعامل القوى الكربى الرائدة بعضها مع بعض يف عرص الحداثة الصناعية
وتزايد االعتامد املتبادل واملنافسة اإلمرباطورية )2( ،إشكالية كيفية ارتباط الدول
واملجتمعات املتصدرة لطليعة الحداثة بالشعوب املتخلفة من «األعراق األدىن» .وقد
تراوحت الخيارات هنا بدءا من اإلبادة ،مرورا باالستغالل اإلمرباطوري ،وصوال إىل
شكل من أشكال الوصاية اإلمرباطورية يف فنون الحضارة .وكام يحاجج ديفيد لونج
وبريان شميدت ( ،)2005كان النقاش الرئيس يف حقل العالقات الدولية املبكر يدور
حول التوتر القائم بني اإلمربيالية والنزعة األممية .إن اختفاء هذه املرحلة التكوينية
لحقل العالقات الدولية إىل حد كبري من وعي حقل العالقات الدولية املعارص يرجع
وأيضا إىل العنرصية الصارخة ا ُملتأصلة
جزئ ًيا إىل أسطورة التأسيس للعام ً ،1919
يف كثري من أدبيات ما قبل العام - 1914ويف الواقع ما قبل العام .1939ولهذا
السبب التزال أعامل املفكرين ا ُمل َؤسسني الرئيسني لحقل العالقات الدولية من أمثال
بول راينش ً Paul S. Reinsch
أعاماًل غري معروفة إىل حد كبري (Schmidt, 2005:
) .45–6; L. Ashworth, 2014: 107–9ولرصد االستمرارية الهائلة بني اهتاممات
حقل العالقات الدولية يف القرن التاسع عرش وحقل العالقات الدولية املعارص،
من الرضوري اخرتاق حدود العام 1919ومواجهة حقيقة أن العنرصية و«معيار
الحضارة» كانا أساسيني بالنسبة إىل حقل العالقات الدولية ،وعىل الرغم من قمعهام
أو تناسيهام عىل نحو كبري ،فإنهام اليزاالن يشكالن عنارص مؤثرة (.)Vitalis, 2005
إن املكان الواضح لبدء التمعن يف حقل العالقات الدولية قبل تقعيده باعتباره
تخصصا يتجسد يف األيديولوجيات األربع للتقدم التي نوقشت يف الفصل السابق:
الليربالية؛ واالشرتاكية؛ والقومية والعنرصية العلمية .ففي حني أن العنرصية العلمية
قد خرجت عن النسق باعتبارها مقاربة سائدة واضحة للعالقات الدولية ،غري أن
العنرصية الضمنية مل تختف بأي حال من األحوال من العالقات القامئة بني الشامل
والجنوب .والتزال الليربالية واالشرتاكية والقومية تشكل أجزاء واضحة جدًا من
الخطابات املعيارية والبنيوية لحقل العالقات الدولية .لقد احتوت جميع هذه
األيديولوجيات األربع عىل خيوط رئيسة من التفكري الحديث لحقل العالقات الدولية
74
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
عىل املستويني البنيوي واملعياري ،وغال ًبا ما كانت هذه الخيوط منسوجة م ًعا بطرق
مختلفة حول موضوعات اإلمربيالية والداروينية االجتامعية التي سيطرت عىل
تفكري القرن التاسع عرش حيال السياسة العاملية .ش َّكلت هذه األيديولوجيات األربع
مزيجا معقدا .وكانت هذه األيديولوجيات األربع؛ يف جزء منها ،مبنزلة ُم َحر َك ٍ
ات
للحداثة التي ش َّكلت طريقة فهم األشياء ،وش َّكلت؛ يف جزء آخر ،رد فعل عىل
الحداثة يحاول تأطري واقع جديد كان قد بدأ بالفعل .وقد حدث هذا املسار املعقد
جن ًبا إىل جنب بالتزامن مع ظهور الرأي العام ووسائل اإلعالم بوصفها قوى اجتامعية
وسياسية خالل العقود الالحقة من القرن التاسع عرش (Buzan and Lawson,
) .2015aوفيام يتعلق بظهور التفكري بشأن حقل العالقات الدولية ،ميكننا تجميع
هذه األيديولوجيات يف شكل مجموعة من األزواج :فقد كانت الليربالية واالشرتاكية
نواح عديدة مبنزلة استجابات متجانسة وكوزموبوليتانية لعامل يشهد عوملة من ٍ
بشكل مكثف خالل القرن التاسع عرش .كام كانت القومية والعنرصية «العلمية»
أيضا دوافع ضيقتي األفق ،مام مييز الردود الناشئة تجاه العوملة نفسها .لكنهم مثلوا ً
واستجابات للتكثيف املوازي املتعلق بالتكامل االجتامعي والسيايس الذي كان
يحصل خالل تشكيل الدول العقالنية الحديثة.
- 1 - 1الليبريالية واالشرتاكية
نواح كثرية ،يختلف املنظور
كام يالحظ ِف ِريد هاليداي )« :(1999: 73–5من ٍ
قلياًل عن منظور الليرباليني اآلخرين يف النصف األول منالدويل ملاركس وإنجلز ً
القرن التاسع عرش» .فقد كانت كلتا املجموعتني من املفكرين عىل دراية كبرية
باإلنشاء الرسيع وغري املسبوق القتصاد السوق العاملي الذي كان يحدث حولهام،
وتلخيصا لكل هذا
ً وكانت كلتاهام تفهم هذا عىل أنه مسار كوزموبوليتاين ُمتعومل.
يف نهاية هذه الفرتة ،أشار آرثر غرينوود ) (1916: 77إىل أن إنشاء اقتصاد عاملي
قد حل نسب ًيا محل االقتصادات التي كانت تتمتع باالكتفاء الذايت يف عصور ما قبل
الحداثة ،مام أدى إىل توتر نسقي بني التجارة الحرة والنزعة الحامئية ،وأشار إىل
الحاجة إىل «منظمة سياسية تتحكم يف النشاط االقتصادي العاملي الذي تطور يف
العرص الحديث» .يحاجج هاليداي ) (1999: 80بأن هذه النظرة الكوزموبوليتانية
75
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كانت مشابهة لتلك التي ُرصدت من خالل «االعتامد املتبادل» و«العوملة» يف
نقاشات حقل العالقات الدولية خالل فرتة السبعينيات والثامنينيات من القرن
العرشين .فالعوملة املعارصة ،وعىل الرغم من كونها ليربالية عىل نحو أسايس من
أيضا أن الرأساملية ُتشكل قو ًة لتحقيق التجانس عىل ناحية املنظور ،فإنها ترى ً
نطاق عاملي؛ إذ تخرتق الدولة عىل نحو متزايد؛ تشتبك معها و ُتهمشها(٭).
ويشري هاليداي ) (1999: 164–72عمو ًما إىل الرؤية الكوزموبوليتنانية لليرباليني
خالل القرن التاسع عرش ،ورغبتهم يف استبدال السيادة الشعبية بالنزعة الساللية
يف الحكم باعتبارها حلوال للحرب واملريكانتلية (املذهب التجاري) .فقد أدى ظهور
الفهوم الليربالية لالقتصاد؛ وعىل وجه الخصوص فكرة أن كال من االزدهار والسالم
ينشآن من خالل السعي وراء التجارة الحرة ،إىل تعزيز الفكرة القائلة إن مثل هذه
أيضا إىل تغيري العالقات بني تلك الدول اإلصالحات السياسية داخل الدول ستؤدي ً
بشكل مفيد .من بعض مخاطر التبسيط املفرط ،إمكانية تلخيص محتوى حقل
العالقات الدولية املتعلق بليربالية القرن التاسع عرش عىل أنه مزيج متآزر من السالم
نوحا للحرب من الدميوقراطي (الدول الواقعة تحت السيادة الشعبية ستكون أقل ُج ً
الم َ َل ِكيات) والتجارة الحرة (حيث ستقلل األسواق العاملية من الحوافز لالستيالء
عىل األرايض ألسباب اقتصادية)ُ .ج ِّسدت هذه األفكار يف كل من سلسلة الكتابات
الليربالية الكالسيكية والنشاط السيايس املبارش ،وليس من قبيل املصادفة أن معظم
هذا كان يرتكز يف بريطانيا ،الدولة األكرث تقد ًما عىل طريق الحداثة الصناعية .لقد
الكتاب ،بدءا من آدم سميث ( ،)1776مرورا بديفيد ريكاردو أرىس مجموعة من ُ
( ،)1817وصوال إىل جون ستيوارت ميل ( )1848أسس تخصص االقتصاد الدويل
الحديث ،وأسسوا لنظرة ليربالية للعالقات الدولية .تضمنت أفكارهم مفاهيم
الفردانية ،واليد الخفية(٭٭) ،والنفعية ،وتقسيم العمل ،وامليزة املقارنة ،وعمليات
(٭) للحصول عىل مراجعة ممتازة بشأن تأثري ثورات الحداثة والشعور بالتحول العاملي عىل مجموعة واسعة من
كتّاب القرن التاسع عرش ،انظر ([ .)Deudney 2007: chs. 7–8املؤلفان].
(٭٭) اليد الخفية Invisible hand هي استعارة ابتكرها االقتصادي آدم سميث ،ورشح مبدأها يف كتابه «ثروة
األمم» وكتب أخرى ،حيث يرى أن الفرد الذي يهتم مبصلحته الشخصية يسهم أيضا يف ارتقاء مصلحة مجتمعه ككل
من خالل مبدأ «اليد الخفية» ،حيث يرشح بأن العائد العام للمجتمع هو مجموع عوائد األفراد .فعندما يزيد العائد
الشخيص لفرد ما ،فإنه يسهم يف زيادة العائد اإلجاميل للمجتمع[ .املرتجم].
76
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
السوق املفتوحة نسب ًيا لألسواق داخل الدول وفيام بينها .وقد شن نشطاء سياسيون
مثل ريتشارد كوبدن وجون برايت حملة ضد السياسات املريكانتلية ،مثل قوانني
الذرة يف بريطانيا (التي ألغيت يف العام ()1846٭) ،وذلك ملصلحة التجارة الحرة عىل
الصعيد الدويل ( .)L. Ashworth, 2014: 75–9وهكذا ،كانت النظرية الليربالية
للعالقات الدولية يف القرن التاسع عرش ُتبرش بأن السيادة الشعبية باإلضافة إىل
طوياًل نحو القضاء عىل ويالت الحرب يف السياسة شوطا ً التجارة الحرة ستقطع ً
العاملية .وكانت لهذه النظرة بالتأكيد عنارص كوزموبوليتانية وعوملية قوية ،لكنها
أيضا مع الدولة ،وإىل حد ما ،مع القومية. كانت نظرة قد تكون متوافقة ً
لقد كان تبني االشرتاكيني للعوملة الكوزمبوليتانية أقوى ،وهذا املوقف يذهب
إىل حد ما نحو تفسري سبب اعتبار تأثري املاركسية املبكرة ضعيفا عىل نحو عام يف
حقل العالقات الدولية كام هو مفهوم اآلن .يقدم أندرو لينكاليرت )(2001: 131–9
رشحا ُمتَبرصا لتفسري سبب ذلك .ففي رسديته ،أعطى كارل ماركس وأتباعه األولوية ً
للرأساملية الصناعية والدينامية الجديدة للطبقة التي كانت ُتولدها ،ولهذا السبب
ُأه ِمل مخططهم لألشياء ،ودفع إىل الهامش ُكال من الدولة والقومية .لقد رأوا
الرأساملية باعتبارها كوزمبوليتانية وعوملية هائلة تربط جميع شعوب العامل م ًعا
بشكل أعمق وأوثق أكرث من أي وقت مىض .وضمن هذا اإلطار ،ميكن أن تكون
العنارص التقليدية وا ُملجزأة مثل الدولة والقومية عنارص مؤقت ًة وغري مهمة نسب ًيا.
إن القوة ا ُمل َهيمنَة وا ُملتجانسة للرأساملية الصناعية ست َُض ِّمنُ و ُتد ِم ُج الجميع قري ًبا،
تأصاًل يف الفهم وتفرض عىل الجميع املنطق املهيمن للرصاع الطبقي الذي كان ُم ً
املاركيس للرأساملية.
ويف حني تبني أن التفكري املاركيس كان ُمخطئًا بشأن أهمية الدولة والقومية،
ومن ثم تباعد عن التيار السائد يف تفكري حقل العالقات الدولية ،فاليزال من املمكن
اعتباره صيغ ًة مبكر ًة ومتبرص ًة من بعض النواحي ملا ميكن أن يسمى اآلن َف ْه ًاًم
ُم َع ْولَ ًاًم لحقل العالقات الدولية .لقد رشح فالدميري لينني ([ )1975 ]1916اإلمربيالية
(٭) هي سياسات حامئية ،كانت عبارة عن قوانني من التعريفات الجمركية وغريها من القيود التجارية املفروضة
عىل املواد الغذائية والحبوب املستوردة (الذرة) التي فرضت يف بريطانيا العظمى بني العامني 1815و .1846وقد
ُصممت للحفاظ عىل أسعار الحبوب مرتفعة ملصلحة املنتجني املحليني[ .املرتجم].
77
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كنوع من اللحظات األخرية من عمر القومية قبل أن تفسح املجال لعامل أكرث عوملة.
وقد اشتُهر بتفسري ديناميات الرأساملية عىل أنها تؤدي إىل املنافسة للتقسيم ومن
ثم إعادة تقسيم األرايض والشعوب واملوارد واألسواق يف العامل .لقد ربط هذه
أساسا بالقومية والدولة ،واعتربها «أعىل مراحل الرأساملية» (أي الدينامية الطبقية ً
املرحلة األخرية) ،وأطلق عليها اسم اإلمربيالية ،واستخدمها لرشح الحرب العاملية
األوىل .لقد كان هذا ،إىل جانب فكرة نيكوالي بوخارين ( )1916عن اندماج رأس
املال والدولة ،أقرب ما توصلت إليه املاركسية املبكرة لربط فهمها للعوملة بتحليالت
العالقات الدولية التقليدية الخاصة بسياسات القوة بني الدول.
يف حني كان مثة بعض أوجه التشابه الالفتة للنظر يف وجهات النظر الليربالية
واالشرتاكية بشأن العالقات الدولية ،مل يكن مثة الكثري لالختيار بينهام من حيث
موقفهام من العالقات بني «ا ُملت ََحرض» َ ْ
و«الرَب َب ِري» .ويؤكد تشابه مواقفهم عىل مدى
انتشار املوقف الهرمي العميق عن األسس العرقية والثقافية تجاه الشعوب «األدىن»
داخل املجتمع الدويل االستعامري ( .)J. M. Hobson, 2012: ch. 2لنقارن بني
النصوص التالية ،النص األول للمفكر الليربايل جون ستيوارت ميل ،والثاين من بيان
الحزب الشيوعي ملاركس وإنجلز:
«إن افرتاض أن العادات الدولية نفسها ،وقواعد األخالق الدولية نفسها ،ميكن
أن تحصل بني أمة متحرضة وأخرى ،وبني األمم املتحرضة والربابرة ،لهو خطأ جسيم
وال ميكن ألي رجل دولة أن يقع فيه ،إال أن يكون مع أولئك الذين ينتقدون رجال
الدولة من موقع آمن وغري مسؤول».
من بني األسباب العديدة التي تقف وراء عدم إمكانية تطبيق القواعد نفسها
عىل مواقف مختلفة متا ًما ،يعد السببان التاليان من بني األكرث أهمية .يف املقام
األول ،تنطوي قواعد األخالق الدولية العادية عىل مبدأ املعاملة باملثل .لكن الربابرة
لن يردوا وفق هذا املبدأ؛ إذ ال ميكن االعتامد عليهم ملراقبة أي قواعد .فال عقولهم
قادرة عىل بذل مثل هذا الجهد العظيم ،وال إرادتهم تتمتع مبا فيه الكفاية لفعل
ذلك تحت تأثري دوافع مختلفة .يف املقام التايل ،فإن الدول التي التزال بربرية
مل تتجاوز الفرتة التي من املرجح أن يكون من مصلحتها غزوها وإخضاعها من
ِقبل األجانب .فاالستقالل والجنسية؛ وهام شيئان رضوريان جدًا لنمو وتطور
78
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
شعب أحرز تقد ًما أكرث يف مسار اإلصالح ،يشكالن عموما عوائق أمام شعوبهم .إن
الواجبات املقدسة التي تدين بها األمم املتحرضة تجاه استقالل وجنسية بعضهم
رشا معينًا،البعض ليست ملزمة تجاه أولئك الذين تشكل الجنسية واالستقالل لهم ً
أو؛ يف أفضل األحوال ،خ ًريا مشكوكا فيه.
إن وصف أي سلوك مهام كان تجاه شعب بربري بأنه انتهاك لقانون األمم،
ُيظهر فقط أن من يتحدث بهذه الطريقة مل يفكر يف املوضوع قط .قد يكون هذا
انتها ًكا للمبادئ األخالقية العظيمة ،لكن الربابرة ليست لديهم حقوق كأمة باستثناء
الحق يف مثل هذه املعاملة التي قد تناسبهم ليك يصبحوا أمة يف أقرب وقت ممكن.
وحكم بربري هي القواعد إن القوانني األخالقية الوحيدة للعالقة بني ُح ْكم حضاري ُ
العاملية لألخالق بني اإلنسان واإلنسان» (.)Mill, 1874: vol. 3, 252–3
وبهذه الطريقة ،متكن املفكرون الليرباليون من مواءمة التزامهم بالفردانية
مبنظور عنرصي بشأن العالقات الدولية واإلمرباطورية.
وباملثل ،كان التفكري املاركيس يف هذا الوقت تفكريا ذا مركزية غربية ،حيث
رأى الحداثة الصناعية والرأساملية باعتبارها قوى تقدمية بعمق .وعىل الرغم من
رسالتها الثورية ،فإن املاركسية كانت متثل رؤية للعامل ُمتَأَ ِّتي ًة من مركز غريب ُم َهي ِمن،
ينظر إىل أطراف « َبر َب ِرية» سلبية.
«أو ًاًل ،أسعار املنتجات الصناعية املنخفضة وا ُملتدنية التي نتجت عن العاملة
اآللية دمرت عىل نحو كامل؛ ويف جميع بلدان العامل ،النظام القديم لإلنتاج أو
الصناعة القامئة عىل اليد العاملة .وبهذه الطريقةُ ،أجربت جميع البلدان شبه الرببرية
التي كانت حتى اآلن غريبة إىل حد ما عن التطور التاريخي وكانت صناعتها قامئة
عىل اإلنتاج ،عىل الخروج عىل نحو عنيف من عزلتها .لقد اشرتوا السلع األرخص مثنًا
من اإلنجليز وسمحوا لعاملتهم املنتجة بالتحطم .أما البلدان التي مل تشهد تقد ًما
منذ آالف السنني -عىل سبيل املثال :الهند – فقد ُأح ِدثت فيها ثورة بكل ما تحمله
الكلمة من معنى ،وحتى الصني هي اآلن يف طريقها إىل الثورة .لقد وصلنا إىل نقطة
اخرُتعت يف غضون عام واحد آلة جديدة يف إنجلرتا تحرم ماليني العامل حيث ُ
الصينيني من مصادر رزقهم .وبهذه الطريقة ،جعلت الصناعة الضخمة جميع سكان
األرض يف اتصال بعضهم مع بعض ،ودمجت جميع األسواق املحلية يف سوق عاملية
79
تشكيل العالقات الدولية العاملية
إن انتشار مثل هذه اآلراء يشري بقوة إىل تأثري األيديولوجيتني األخريني للتقدم:
القومية والعنرصية «العلمية».
81
تشكيل العالقات الدولية العاملية
82
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
أنها تشكل تهديدا لنقاء العرق األبيض من خالل الهجرة أو متازج األجيال (J. M.
) .Hobson, 2010: 29–30; 2012لقد اختلف مؤيدو اإلمربيالية إذن من حيث
مستويات التفويض املمنوحة للرشق .إذ كان بعض «العنرصيني الدفاعيني» مثل
هربرت سبنرس وويليام غراهام سمرن مناهضني لإلمربيالية ألنهم اعتقدوا أنها
ستعوق التطور التلقايئ للرشق .يف حني كان آخرون مثل جيمس بلري وديفيد ستار
مناهضني لإلمربيالية ،ليس ألنهم اعتقدوا أن الرشق ميكن أن يتطور عىل نحو
مستقل ،ولكن ألن الرشق ال ميكن أن يتطور عىل اإلطالق بسبب دونيته العرقية،
الكتَّاب رْض َنة» كانت ُم َاَم َر َس ًة عقيمة .عالوة عىل ذلك ،كان ُ ومن ثم فإن « ُم ِهم َة َ
الح ْ َ
مثل تشارلز بريسون ولوثروب ستودارد مهتمني أكرث بحامية البيض من «الخطر
األصفر» الرببري يف عملية منح مستوى عالٍ جدًا من التفويض للرشق ،وإن كان
تفويضا «رجعيا» و«متوحشا» ( .)J. M. Hobson, 2012: 8كام كان مثة توجهٌ
آخر للعنرصية ضد اإلمربيالية يتلخص يف فكرة أن الرشق ميكن أن يتطور من تلقاء
نفسه ،لكنه سيتبع مسار التطور والتقدم الذي كان قد حدده الغرب .فقد كان لدى
الرشق «تفويض مشتق» ( ،)J. M. Hobson, 2012: 6والذي من املمكن أن تقمعه
اإلمربيالية الغربية ،مام يجعله شيئا غري مرغوب فيه .ولذلك ليس من املستغرب أن
تكون إحدى املجالت األوىل لحقل العالقات الدولية ،والتي تأسست يف العام ،1910
تسمى بـ «مجلة تطور العرق».
وحتى التوتر الذي أصبح اآلن مألوفا بني الحتميات االقتصادية ا ُمل َفض َلة
للهجرة وبني ردود الفعل االجتامعية والسياسية الناشئة ضدها ،تأسس خالل
القرن التاسع عرش:
«لقد اعتاد العامل املهاجر عىل العيش يف مستوى معييش منخفض .كان عىل
استعداد لقبول أجور أقل بكثري من أجور العامل األبيض .لقد كان خارج النقابات
العاملية .وكان عادة ينتمي إىل الطبقة العاملة وهي األكرث تخل ًفا عىل اإلطالق،
واألقل عُ رضة لالندماج يف الحضارة األوروبية .وقد أصبح ،من ثم ،يشكل تهديدًا
خط ًريا بالنسبة إىل الطبقة العاملة البيضاء التي رأت يف الغرباء تهديدا آلفاقهم يف
العمل املستقر ،ليس لسبب آخر سوى أنهم يستطيعون العيش مبستوى أقل بكثري،
وميكنهم تحمل قبول أجر أقل بكثري .عالوة عىل ذلك ،كان العامل ُم َرافقا أو ُمتَا َب ًعا
83
تشكيل العالقات الدولية العاملية
من طرف التاجر ،والتاجر اآلسيوي مل يكن يعمل يف العادة ساعات أطول فقط ،بل
كان راض ًيا عن األرباح القليلة املتأتية بخالف التاجر األبيض .لذلك كان مييل إىل
أيضا من الزبائن البيض .وهكذا الحصول عىل العمالء ليس فقط من زمالئه ،ولكن ً
عاىن التاجر األبيض وكذلك العامل األبيض» (.)Kerr, 1916: 175
لكن هذه األيديولوجيات األربع مل تكن بأي حال من األحوال متثل التفكري
الوحيد لحقل العالقات الدولية الذي كان جار ًيا خالل القرن التاسع عرش .فقد كان
مثة عديد من الخيوط الفكرية األخرى التي ُنسجت من خاللها وإىل جانبها الواقعية؛
والجغرافيا السياسية؛ والدراسات الحربية واإلسرتاتيجية؛ واإلدارة االستعامرية
واإلمربيالية؛ والقانون الدويل واملنظامت الحكومية الدولية.
- 1 - 3الواقعية
صناًم لنسبها الفكري الطويل الذي يعود إىل ثوقيديدس(٭).
لطاملا صنعت الواقعية ً
بهذا املعنى ،فإن املفكرين الواقعيني ال يرون بالتأكيد أنفسهم عىل أنهم بدأوا
التفكري بشأن العالقات الدولية يف العام .1919وعىل الرغم من ذلك ،ويف حني أنهم
يسرتشدون بهوبز ومكيافيليل كأسالف لهم ،فإنهم مييلون إىل نسيان ذلك الجزء
من جذورهم الذي يكمن يف الواقعية األملانية الواضحة خالل القرن التاسع عرش،
والتي تعود إىل كل من هايرنيش فون تريتشيك ( )1900-1899وتلميذه فريدريش
مينييك ( .)Wæver, 1997: 8( )1908لقد كانت رؤية فون تريتشيك لسياسات
القوة باعتبارها الحقيقة األساسية للعالقات الدولية ،رؤي ًة مشوبة بشدة بالداروينية
االجتامعية والعنرصية .حيث كانت رؤيته متجد الحرب ك َو ِظي َفة لألمة ،كام كانت
ملتزم ًة متا ًما بالرصاع األملاين ضد اإلمرباطورية الربيطانية .أما فريدريش مينييك،
أيضا مشوب ًة بالعنرصية وملتزم ًة بالنزعة التوسعية األملانية(٭٭).
فقد كانت رؤيته ً
(٭) 395( Thucydidesق.م 460 -ق.م) مؤرخ إغريقى شهري ،صاحب كتاب «تاريخ الحرب البيلوبونيسية» .ويعتربه
املجتمع املعريف للعلوم السياسية والعالقات الدولية أ ًبا من آباء مجال العالقات الدولية ملا كتبه من ترشيح للعالقات
بني أثينا وإسربطة يف أثناء الحرب بينهام ( 405ق.م – 431ق.م) ،ومالمح فلسفته الواقعية يف تناول الرصاعات بني
القوى والدول ،حيث يراها منظرو العالقات الدولية حال ًيا نواة للمدرسة الواقعية يف العالقات الدولية[ .املرتجم].
(٭٭) للحصول عىل ملخص قصري عن الواقعية األملانية ،انظر ( .)Deudney 2007: 70–3وللحصول عىل ملخص عن
تأثري الداروينية يف السياسة ،انظر ([ .)Carr 1946: 46–50املؤلفان].
84
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
ومثلام الحظ مايكل ويليامز ( ،)2005فإن التقليد األملاين بشأن سياسة القوة ش َّكل؛
عىل الرغم من إهامله من ِقبل حقل العالقات الدولية ،مصد ًرا قو ًيا للتفكري الواقعي
خالل القرن العرشين ،ال سيام أنه ُنقل هذا التقليد عرب فون تريتشيك إىل ُكتاب
آخرين مؤثرين يف حقل العالقات الدولية من أمثال فريدريك نيتشه ،ماكس فيرب
وهانز مورغنثاو(٭).
- 1 - 4الجغرافيا السياسية
تعترب الجغرافيا السياسية قريبة جدًا من الواقعية من ناحية تركيزها عىل سياسة
القوة ،لكنها تختلف عنها عىل وجه التحديد يف دوافعها الجغرافيةِ .صيغ مصطلح
ناشئ سعى إىل الدفع نحو فكري ٍهيكل ٍ ٍ لضبطالجغرافيا السياسية يف العام َ 1899
التزاوج بني الجغرافيا والسياسة ،والنظر إىل تاريخ العامل عىل أنه مدفوع بتبسيط
كبري يربط املوقع الجغرايف بالقوة العاملية .إن استخدام ا ُملحددات البنيوية الهائلة
بعضا من تلك والبسيطة قد أعطى الجغرافيا السياسية كنظرية للعالقات الدولية ً
الجاذبية نفسها التي ستتمتع بها الواقعية الجديدة الح ًقا لثامنية عقود .متتلك
أيضا أوجه تشابه أخرى مع عوامل الجذب املوجودة يف الواقعية الجغرافيا السياسية ً
الجديدة ،ليس أقلها نظرتها الشاملة إىل العامل باعتباره نظاما واحدا .وألن اإلمربيالية
الجديدة التي أقدمت بحلول تسعينيات القرن التاسع عرش عىل تحويل العامل إىل
نظام واح ٍد فعل ًيا ،كانت جميع أجزائها معروفة ومرتابطة إىل حد ما ،فقد عُ د ذلك
منظو ًرا قو ًيا جاء يف الوقت املناسب .لقد ركزت الجغرافيا السياسية الكالسيكية
ً
ارتباطا وثي ًقا إىل حد كبري عىل التنافس بني القوى الكربى ،ومن ثم فهي مرتبطة
باألشكال السائدة اليوم للقومية ذات النزعة الداروينية االجتامعية وباإلمربيالية
وأيضا بفرضية تفوق العرق األبيض والحضارة الغربية عىل جميع الشعوب
والثقافات األخرى .فخالل هذه الفرتة عمو ًما ،مل ينظر املفكرون الجيوسياسيون إىل
(٭) مل يذكر مورجنثاو ( )1967ال هايرنيش فون تريتشيك وال فريدريش مينييك .كام يعطي كنيث والتز ()1979
إشارة عابرة إىل مينييك .أما جون مريشامير ( )2001فال يذكر أ ًيا منهام .من بني النصوص الواقعية الرائدة ،مثة فقط
إدوارد كار ( )9-88 ،49 ،15-14 :1946من يعطي إشارة عادلة عن كليهام .يف حني يقدم كل من دونيل ()2000
وميشيل ويليامز ( )2005إشارات عابرة فقط عن مينييك[ .املؤلفان].
85
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الفوىض الدولية عىل أنها مشكلة ،ولكن رأوها عىل أساس أنها مجرد بيئة تتطلب
وجود قدرة وطنية إذا أرادت األمم أن تعيش وتتطور (L. Ashworth, 2014:
.)106– 7وقد كانت هذه الرؤية ،كغريها من معظم الرؤى السائدة حول العالقات
الدولية خالل تلك الفرتة ،رؤي ًة َتتَأَ َىَت من دول املَ ْر َكز.
لقد مثل كل من األملاين فريدريك راتزل والربيطاين هالفورد ماكيندر الشخصيات
الرئيسة لحقل الجغرافيا السياسية خالل أواخر القرن التاسع عرش (L. Ashworth,
،)2014: 98–102عىل الرغم من أن أعاملهام كان لها تأثري سيايس أكرب يف سنوات
ما بني الحربني أكرث مام كان عليه يف الفرتة التي سبقت الحرب العاملية األوىل .كانت
املساهمة الرئيسة لفريدريك راتزل ( )1901تتمثل يف فكرة املجال الحيوي املرتبط
ً
مرتبطا عىل عضوي لألمة ( .)Ó Tuathail, 1998: 4وعىل رغم أن عمله كان ٍ مبفهوم
ٍ
َ
نح ٍو خاص بأملانيا ،وكان متواف ًقا مع تفكري الواقعيني األملان ،فإنه كانت له ِصلة أكرب
بعامل الداروينية االجتامعية الذي يضم قوى إمربيالية كربى متنافسةُ ،وأ ً
ماًم وأعرا ًقا
مهتاًم كثريا بحقوق السكان األصليني. تتنافس للسيطرة عىل األرايض ،ومل يكن عمال ً
كان عمل هالفورد ماكيندر ([ ،)1996 ]1904وال سيام فكرته عن «قلب األرض»
أو «محور االرتكاز» ،أكرث انتشا ًرا عىل الصعيد العاملي ،عىل رغم أنه سعى إىل أن
عماًل تسرتشد به إسرتاتيجية اإلمرباطورية الربيطانية (Ó Tuathail, 1998: 4, يكون ً
) .15–18وقد كانت املقولة املأثورة ملاكيندر ) (1919: 194تتمثل يف أن:
من يتحكم يف رشق أوروبا يسيطر عىل قلب األرض؛
ومن يتحكم يف قلب األرض يسيطر عىل جزيرة العامل؛
ومن يتحكم يف جزيرة العامل يسيطر عىل العامل؛
لقد وضعت هذه الفكرة روسيا ،ورمبا أملانيا ،يف مركز القوة العاملية .فنظرة
إحساسا بأن النظام الدويل كان يتجه بحلول أواخر القرن ً ماكيندر الشاملة أعطته
التاسع عرش نحو إغالق إقليمي وسيايس ،مع عدم وجود مساحات «مل يطالب بها
أحد» .وقد تبنى لينني هذه الفكرة فيام بعدُ ([ )1975 ]1916كتفسري لإلمربيالية
واملنافسة الرضورية بشأن إعادة تقسيم األرايض ،وأيضا كمرحلة أزمة بالنسبة إىل
الرأساملية .قدم ماكيندر نظرية واقعية عنرصية كانت هجومية-إمربيالية بطبيعتها،
النسل .ووفق تعبري جيمس تايرن ني ْ مزجت بني الجغرافيا السياسية وعلم َت ْحس ِ
86
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
عايشوها عىل أنها أوقات سالم عىل نح ٍو خاص .وعىل رغم ُميض 40عا ًما من السالم
بعد الحرب الفرنسية -الربوسية يف العام ،1870فإن أوروبا متيزت بسباقات التسلح
الرَب والبحر ،وبالتنافس االستعامري يف الخارج ويف الجوار القريب ،وبالتنافس يف َ
يف منطقة البلقان .وعىل الرغم من ذلك ،مل تشكل تلك األحداث الراهنية املحور
الرئيس لهذه الكالسيكيات التي ترجع جميعها إىل القرن املايض ،والتي ُكتبت كلها
من طرف ضباط عسكريني محرتفني .فقد بحث كل من كتاب «عن الحرب» «On
»Warلكارل فون كالوزوفيتز ( )1832وكتاب «فن الحرب» «»The Art of War
ألنطوان هرني جوميني ([ ،)1854 ]1838عىل نح ٍو أسايس يف الحروب النابليونية
( .)see C. S. Gray, 2012: ch. 2وعىل رغم أن كالوزفيتز َكتَب قبل اندالع الثورة
يف مجال التكنولوجيا العسكرية ،فإنه استوعب العنارص السياسية الجديدة للحرب
التي جلبتها الثورة الفرنسية والقومية ،كام استوعب غاياتها أيضا -أي عقالنية
الحداثة ( .)Booth, 1975: 23–9أما كتاب ماهان عن «تأثري القوة البحرية عىل
التاريخ» (1890) 1660-1783 The Influence of Sea Power upon History
فقد كان دراسة ُمستمدة من الهيمنة البحرية الربيطانية يف عرص ِ َ
الرِشاع .ومل تسجل
هذه املقاربة ،التي كانت حبيسة ألفكار املايض ،عىل نح ٍو كبري التغيريات الهائلة يف
التكنولوجيا العسكرية التي حدثت خالل القرن التاسع عرش ،لكن هذا الضعف مل
مينع هذا العمل من امتالك بعض السامت والخاصيات الخالدة.
احتوى عمل ماهان عىل عنارص من الجغرافيا السياسية ،سواء يف ربطه للقوة
البحرية بالقوة الربية ،أو يف قبوله افرتاضات الداروينية االجتامعية (Ó Tuathail,
) .1998: 4, 18; L. Ashworth, 2014: 103–5وقد حث عىل بناء القوة البحرية
التي تتضمن السيطرة عىل البحار من خالل بناء قدرات دفاعية بحرية وإسرتاتيجية
قوية ،والسيطرة عىل نقاط االختناق اإلسرتاتيجية يف أجزاء مختلفة من العامل .كان
أحد األهداف هو منع الرشق من الحصول عىل أي موطئ قدم .فامهان كان،
مثله مثل ماكيندر ،قل ًقا بشأن صعود االعتامد املتبادل العاملي أو «تقريب العامل»
( ،)J. M. Hobson, 2012: 125ألن ذلك سيعمل عىل تقليل املسافة بني الغرب
والرشق .كام دعا إىل بناء قاعدة أمريكية قوية يف هاواي الحتواء صعود الصني.
ووفق وجهة نظر جون هوبسون ) ،(2012: 124 – 30فقد كانت الحلول التي
88
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
قدمها ماكيندر وماهان تهدف إىل إجهاض صعود الرشق يف مهده ،وذلك من خالل
مشاريع إمربيالية عنرصية وعدوانية.
وبحلول نهاية القرن كان مثة عددٌ قليل فقط من الناس ممن توقعوا عىل نح ٍو
صحيح ما كانت تفعله الثورة التكنولوجية بالقدرات العسكرية .وكان من أبرز
هؤالء املفكرين إيفان بلوخ ( )1898ونورمان أنجيل ( .)1909نهض إيفان بلوخ
بحساب مفصل (ستة مجلدات) لتأثريات القوة النارية املتزايدة ،وجادل بأنه ال ٍ
ميكن كسب حرب شاملة ،وأن األخرية قد تدمر املجتمعات التي تشنها (Pearton,
) .1982: 137–9كام توقع أيضا نشوء املعضلة الدفاعية ،وقد اقرتبت الحرب العاملية
األوىل من إثبات وجهة نظره .أما نورمان أنجيل فقد رافع ألجل نسخة مبكرة من
أطروحة االعتامد املتبادل املعارصة التي تقول إن الحرب يف ظل الظروف الحديثة مل
تعد تخدم املصالح االقتصادية للمجتمع .فبالنسبة إىل املجتمعات الصناعية ،دمرت
الحرب ثروات أكرث من تلك التي أوجدتها ألنها عطلت التجارة العاملية التي تعتمد
الحجج عىل نطاق واسع التوجه الليربايل عليها الرثوة والقوة .وقد دعمت هذه ُ
املتعلق باالعتامد املتبادل .إذ مل يعد بإمكان الدول أن تكتسب ثرو ًة من خالل
االستيالء عىل أرايض وموارد بعضها البعض كام فعلت خالل القرنني السابع عرش
والثامن عرش (de Wilde, 1991: 61–90; Howard, 1981: 70–1; L. Ashworth,
منظرو الحرب هؤالء؛ وعىل نح ٍو غري مفاجئ، ) .2014: 116–19ومرة أخرى ،ر َّكز ِّ
عىل العالقات القامئة بني القوى الكربى املَ ْر َكزية.
تحت عنوان اإلدارة االستعامرية .وكانت األسئلة املطروحة بشأن كيف يجب أن
ترتبط القوى الحرضية بالشعوب املستعمرة -سواء أكانت تلك الشعوب من
السكان األصليني أم من املستوطنني -تشكل أسئل ًة سابقة للقرن التاسع عرش.
غري أن القرن التاسع عرش شهد تحو ًاًل كب ًريا يف كيفية مامرسة اإلمربيالية .فخالل
هذه الفرتة تولت معظم القوى األوروبية املسؤولية املبارشة عن مستعمراتها
بداًل من الرشكات املستأجرة التي غال ًبا ما مثلث طليعة اإلمربيالية األوروبية. ً
وكام ُذكر أعاله ،قام مفكرو العالقات الدولية يف أواخر القرن التاسع عرش بتمييز
حاد بني عالقات الدول «ا ُملت ََحرِّضِّ َة» القامئة فيام بينها ،والعالقات القامئة بني تلك
«الرَب َب ِر َّية» .وقد انعكس هذا التمييز منذ
رِّضة» والدول والشعوب َ ْ الدول «ا ُملت ََح ِّ َ
تسعينيات القرن التاسع عرش يف األدبيات املتنامية بشأن اإلدارة االستعامرية
( .)Schmidt, 1998 a: 136–40ففي أول اجتامع لجمعية العلوم السياسية
األمريكية يف العام ُ 1904صنِّفت «اإلدارة االستعامرية» واحدا من الفروع األساسية
اسية (.)Vitalis, 2010 للع ُلوم ِ
الس َي ِ الخمسة ُ
وميكن العثور عىل رؤية متبرصة بخصوص التفكري بشأن هذه املسألة (واللغة التي
ُو ِصفت بها!) يف مقال كرير ( )1916بشأن «العالقات السياسية القامئة بني الشعوب
املتقدمة والشعوب املتخلفة» Political Relations between Advanced and
.Backward Peoplesكان كرير يدافع عىل نح ٍو أسايس عن رضورة الحكم االستعامري
للتعامل مع املشكالت التي خلقتها املواجهات القامئة بني الشعوب وعىل مستويات
مختلفة جدًا من التطور .لقد كان منظوره -الذي يوضح التيارات املتداخلة لذلك
العرص والتي تبدو غريبة اآلن – عبار ًة عن مزيج من اإلمربيالية الليربالية والعنرصية
«العلمية» ،ومداف ًعا عن حتمية اإلدارة االستعامرية ،باإلضافة إىل دفاعه عن نوع من
الفصل العنرصي ملنع األعراق من االختالط (.)Kerr, 1916: 174–9
ؤسفة عىل الدوام بعد ظهور التاجر املتحرض بني الشعوب جاءت النتائج ا ُمل ِ
املتخلفة ...إن األفراد الذين انخرطوا يف التجارة كانوا قد ولجوا فيها من دون أي
فكرة عن مساعدة األعراق املتخلفة ،لقد انخرطوا يف التجارة بهدف مرشوع جني
األرباح من عملية التبادل التجاري العادية واملفيدة ماد ًيا ...إنها قاعدة عامة ...أنه
كاف بني مستويات حضارة شعبني ،فإن القوة األكرث حضارة عندما يكون مثة فرق ٍ
91
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ستسعى إىل مصلحة العدالة واإلنسانية ،لتتدخل و ُتنظم بأي حال من األحوال
آثار العالقة القامئة بني االثنني ...ويجب عىل األشخاص األكرث تقد ًما الذين تدخلوا
ملصلحة الحضارة والحرية والتقدم ،أن يديروا الحكم من أجل تعزيز تلك الغايات
نفسها (.)Kerr, 1916: 144–5, 163, 166
وكام هو الحال مع معظم منظورات حقل العالقات الدولية األخرى السائدة
يف ذلك الوقت ،كانت رؤية كرير َتتَأَىَّتَّ من املَ ْر َكز ،حيث كانت تتالءم مع النظرة
املستقبلية لـ «معيار للحضارة» كام حددها جونغ ( ،)1984: 24–53, 64–93الذي
الحظ أن حاجة األوروبيني للوصول إىل (التجارة؛ والتبشري؛ والسفر) كانت هي
التي حددت الجوانب الوظيفية لـ «معيار الحضارة» (ألجل حامية الحياة والحرية
واملمتلكات من خالل تبادل االلتزامات املتبادلة يف القانون) .وإذا مل يتمكن السكان
املحليون من توفري هذا أو مل يرغبوا يف ذاك ،فقد يؤدي ذلك إىل مطالب أوروبية
بعالقات غري متكافئة خارج الحدود اإلقليمية (.)Gong, 1984: 24–53
ويف حني أن طريقة تفكري حقل العالقات الدولية هذه كانت تويل اهتامما لدول
األَ ْط َراف ،فإنها اضطلعت بذلك من منظور دول املَ ْر َكز ،وبطريقة فصلت دراسة
العالقات القامئة بني الدول «ا ُملت ََحرِّضِّ َة» فيام بينها ،عن العالقات القامئة بني الدول
«الرَب َب ِرية».
رضة» والدول َ ْ«ا ُملت ََح َ
الفصل األول ،حيث كان يغذي كل منها اآلخر .إن ما ميكن اعتباره النص الرائد بشأن
املنظامت الحكومية الدولية ( )Reinsch, 1911كان قد ُكتب قبل الحرب العاملية
األوىل بفرتة طويلة ( .)Schmidt, 1998a: 118فإذا كانت الدول التزال ترغب يف
خوض الحرب ،فإن بإمكانها فعل ذلك بالتأكيد .ولكن إذا أرادت الدول السعي
وراء التجارة والسالم ،فإن املجال األكرث كثافة من أي وقت مىض وا ُملتَض ِّمن القواعد
واللوائح الدولية املتعلقة بالتجارة والنقل واالتصاالت ،سيساعد يف تنسيق السلوكات
بني الدول (َ .)Koskenniemi, 2001 ; Davies, 2013ع َكس ظهور القانون الدويل
الوضعي الهيمنة املتزايدة ألوروبا ،ألن القانون الوضعي كان يف األساس قانو ًنا
أوروب ًيا .إن امل ْيل داخل تقليد القانون الطبيعي ملعاملة (معظم) غري األوروبيني عىل
ربط القانون الوضعي مع التسلسل الهرمي الذي يوفره أنهم متساوون استُب ِدل به ُ
«معيار الحضارة» ( .)Gong, 1984: 5–32وبهذا املعنى ،احتوى القانون الوضعي
عىل غرض مزدوج :ترتيب السلوك بني املتساوين السياديني داخل املَ ْر َكز؛ وتنظيم
«االختالف» بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف عىل الصعيد العاملي ( .)Shilliam, 2013فخالل
مواجهاتهام مع القوى األوروبية منذ منتصف القرن التاسع عرش ،لجأت كل من
الصني واليابان إىل الكتابات الغربية بشأن القانون الدويل والديبلوماسية ملحاولة
إيجاد أفضل السبل للرد عىل القوى املستبدة التي وصلت إىل أراضيها (Suzuki,
).2009: 69–85; Howland, 2016
وبحلول العام 1906أصبح القانون الدويل موضوعًا متميزًا بدرجة كافية ،وذلك
لوجود الجمعية األمريكية للقانون الدويل ،واملجلة األمريكية للقانون الدويل .وقد
تركزت اهتاممات القانون الدويل عىل تدوين القانون العريف والتحكيم وإنشاء
محاكم العدل الدولية وإضفاء الطابع املؤسيس عىل الديبلوماسية متعددة األطراف
( .)Schmidt, 1998a: 110وبحلول أواخر القرن التاسع عرش كان القانون الدويل
جز ًءا من مامرسة العالقات الدولية وكذا جزءا من التفكري الجاري بشأنهام.
لقد أدى القانون الدويل إىل التوجه بسهولة نحو فكرة املجتمع الدويل ،ألنه إذا
كان مثة قانون دويل فيجب أن يعكس ذلك وجود مجتمع دويل ،ألن القانون؛ وخاصة
القانون الوضعي ،ال ميكن أن يوجد خارج املجتمع .يحاجج شميدت ()1998a:124
أنه بحلول أواخر القرن التاسع عرش حدد التفكري القانوين والسيايس األمرييك بشأن
93
تشكيل العالقات الدولية العاملية
رضة» ،وقدالعالقات الدولية عىل نح ٍو واضح وجو َد مجتمع دويل بني الدول «ا ُملت ََح َ
األممية .Internationalismيف موضع آخر وضع نقاش ُرصد هذا يف مصطلح ُ
املؤرخ األملاين هريمان لودفيج هريين ( )1834بشأن أنظمة الدول فكرة املجتمع
الدويل التي التُقطت الح ًقا من ِقبل املفكرين داخل تقليد املدرسة اإلنجليزية
( ،)Keene, 2002 ; Little, 2008وكان مصطلح املجتمع الدويل جوهر ًيا يف
نقاشات القانون الدويل التي تعود إىل القرن التاسع عرش (Schwarzenberger,
.)1951الواقع أن توربيورن كنوتسن )ُ (2016: 2يحاجج بأن جيمس لورميري
( )1884 ،1877ابتكر إىل حد كبري مفهوم «املجتمع الفوضوي» ،ولكن ُنيس عمله
الرائد .كان مجتمع الدول هذا قامئًا عىل تزايد االعتامد املتبادل واملصالح املشرتكة
بشأن السالم والتجارة والنقل واالتصاالت .وكانت النزعة األممية واضحة عىل نح ٍو
متزايد يف كل من القامئة املتزايدة للمنظامت الحكومية الدولية ومؤمترات الهاي،
وعىل هذا األساس شجعت األممية التفكري واالقرتاحات بشأن صيغ ما من املنظامت
الحكومية الدولية يف جميع أنحاء العامل بغية التخفيف من آثار الفوىض .وبحلول
ذلك الوقت ظهر ً
أيضا التفكري يف الفدرالية العاملية :بنيامني تروبلود ( )1899ورميوند
بريدغامن (.)Schmidt, 1998a: 112( )1905
وكبقية املنظورات املتعلقة بحقل العالقات الدولية ،كان كل هذا التفكري
محاطا باإلمربيالية والعنرصية ،وقد مثل مرة أخرى وعىل نح ٍو حاسم رؤية للعامل ً
ُمتَأَ ِّتي ًة من املَ ْر َكز.
- 1 - 8خالصات
ال ميكن أن يكون مثة شك يف أنه خالل العقود التي سبقت الحرب العاملية األوىل
متنام ،خطاب جوهري ومنهجي بشأن العالقات الدولية .الواقع ط ِّور ،وعىل نح ٍو ٍ
أن توربيورن كنوتسن (()2016٭) تتبع التفكري النظري بشأن العالقات الدولية منذ
سقوط اإلمرباطورية الرومانية .كان هذا الخطاب الحديث األول لحقل العالقات
أساسا يف بريطانيا والواليات املتحدة ،وكان يشتمل عىل اهتاممات
الدولية متموضعا ً
(٭) للحصول عىل مزيد انظر ( )Olson and Groom 1991:1-15و( .)Dougherty and Pfalzgraff 1997: 6-11
[املؤلفان].
94
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
القرن التاسع عرش عىل نح ٍو أسايس :تفوق (أو عدم تفوق) الشعوب البيضاء
والغرب؛ وكيفية إدارة العالقات بني الشعوب األكرث واألقل «تحرضا»؛ ودور الجغرافيا
السياسية يف تشكيل النظام الدويل؛ وصواب اإلمربيالية وأخطائها؛ والتمسك املتزايد
مبفاهيم السيادة الشعبية وتقرير املصري؛ وعالقة التجارة الحرة والحامئية بالرصاع
الدويل؛ واملخاطر والعواقب املتزايدة للتكنولوجيا العسكرية؛ وقدرة القانون الدويل
واملؤسسات الحكومية الدولية عىل التخفيف من حدة الحرب .ليس من املستغرب
أن يشكل القرن التاسع عرش حقبة ثري ًة جدًا من التفكري بشأن العالقات الدولية.
وكام أوضحنا يف الفصل األول ،كانت العقود الواقعة بني العامني 1840و1914
مشبعة بتحوالت هائلة مدفوعة بانتشار الحداثة يف كل من الدول واملجتمعات،
وبتحول يف توازنِ َما شكل الحياة االقتصادية والسياسية واالجتامعية بعيدًا عن
العوامل املحلية؛ ومتج ًها نحو العوامل الدولية .خالل معظم القرن العرشين كان
الدافع الرئيس وراء تطور حقل العالقات الدولية هو الحرب والخوف من الحرب.
غري أن القرن التاسع عرش متيز ،عىل األقل بالنسبة إىل دول ومجتمعات املَ ْر َكز،
بسالم طويل األمد ،وداخل تلك املجتمعات املركزية تطور تفكري حقل العالقات
الدولية .ومن ثم ،فإن الدوافع الرئيسة لتفكري العالقات الدولية خالل القرن التاسع
عرش متثلت يف االقتصاد السيايس العاملي الجديد للحداثة؛ وميزان القوى الجديد؛
واملجتمع الدويل العنرصي االستعامري الجديد وغري املتكافئ إىل حد كبري والذي
ينبني عىل ثنائية املَ ْر َكز – األَ ْط َراف التي سببت خل َقها الفجو ُة الهائل ُة عىل مستوى
القوة والتنمية بني أولئك الذين يقودون ثورات الحداثة ،وأولئك الذين تركتهم
قوى التحديث يقبعون يف الخلف .لقد كان التفكري بشأن حقل العالقات الدولية
خالل القرن التاسع عرش ،بتعبري روبرت كوكس ،يتم من ِق َب ِل قوى املَ ْر َكز وألجلها،
مع اختزال األَ ْط َراف إىل حد كبري إىل موضوع – أي أن التفكري بشأن حقل العالقات
الدولية خالل القرن التاسع كام وصفه عىل نح ٍو لطيف كل من كارفالو واليرا
وهوبسون ،أصبح ُمُيثل «قصة الجانب الغريب»(٭).
(٭) ميكن املحاججة بأن الفضاء الفكري الذي انتقل إليه حقل العالقات الدولية خالل أواخر القرن التاسع عرش قد
نشأ بسبب فشل تخصص علم االجتامع الناشئ يف التعامل عىل نحو فعال مع قضية الحرب (;Tiryakian, 1999
[ .)Joas, 2003املؤلفان].
95
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وعىل رغم أن هذه التطورات مل تكن قد تق َّعدت بعدُ يف شكل تخصص أو مجال
من مجاالت حقل العالقات الدولية ،فإن مثة عالمات واضحة عىل إضفاء الطابع
ا ُمل َؤسيس من ناحية الكتب واملجالت والدورات الجامعية .فثمة العديد من كتب
حقل العالقات الدولية التي ُكتبت خالل هذه الفرتة ،من مثل:
-هرني ويتون ([ )1866 ]1836عنارص القانون الدويل.
Henry Wheaton ([1836] 1866) Elements of International Law.
-جيمس لورمير ( )1884معاهد قانون األمم :رسالة يف العالقات القانونية
للمجتمعات السياسية املنفصلة.
James Lorimer (1884) the Institutes of the Law of Nations: A
Treatise on the Jural Relations of Separate Political Communities.
-أليني إريالند ( )1899االستعامر املداري :مقدمة لدراسة هذه املسألة.
Alleyne Ireland (1899) Tropical Colonization: An Introduction to
the Study of the Subject.
-بنجامني ف .تروبلود ( )1899فدرالية العامل.
Benjamin F. Trueblood (1899) the Federation of the World.
-بول راينش ( )1900السياسة العاملية يف نهاية القرن التاسع عرش املتأثرة
بالوضع الرشقي.
Paul Reinsch (1900) World Politics at the End of the Nineteenth
Century as Infl uenced by the Oriental Situation.
-بول راينش ( )1902الحكم االستعامري :مقدمة لدراسة النظم االستعامرية.
Paul Reinsch (1902) Colonial Government: An Introduction to
the Study of Colonial Institutions.
-رميون ل .بريدجامن ( )1905املنظمة العاملية.
Raymond L. Bridgman (1905) World Organization.
-بول راينش ( )1911النقابات الدولية العامة -عملها وتنظيمها :دراسة يف
القانون اإلداري الدويل.
Paul Reinsch (1911) Public International Unions –Their Work
96
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
أيضا محو ًرا مؤث ًرا ملجموعة من املفكرين النسويني كمجموعة ضغط ،ولكنها أصبحت ً
خالل سنوات ما بني الحربني ( .)L. Ashworth, 2017ورمبا يكون الغائب األكرث
وضوحا خالل هذه الفرتة هو الجمعيات ذات العضوية األكادميية ا ُمل َؤ َّس َس ُة بشأن
ً
حقل العالقات الدولية.
- 2 - 1اليابان
بالنظر إىل ما ناقشناه يف الفصل األول بشأن كون اليابان شكلت جز ًءا من املرحلة
العامة األوىل للحداثة وأيضا قوة كربى بحلول العام ،1902فليس من املستغرب أن
98
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
نجد تطورات حقل العالقات الدولية فيها قبل الحرب العاملية األوىل مشابه ًة إىل ح ٍد ما
لتلك املوجودة يف الغرب ،أي أنها شكلت بوادر واضحة لظهور مجال دراسة منهجي.
وكام الحظ تيتسويا ساكاي ) ،(2008: 234–7كانت اليابان ُمدركة متا ًما ملوقعها الغريب
كونها كانت موجودة جزئ ًيا يف املجتمع الدويل االستعامري ،ولكنها كانت تطمح ً
أيضا إىل
االنضامم إىل املجتمع الفوضوي للقوى الغربية الكربى .إذ الحظ أنه بحلول العام 1893
منهجي عن حقل العالقات الدولية يف اليابان ( .)Kuga [1893] 1968لقد ٌ كان مثة نص
كان محامو اليابان الدوليون نشطني يف ديبلوماسيتها بشأن الحرب الصينية -اليابانية
حيث نرشوا عديدا من الكتب عنها ) .(Ariga, 1896; Takahashi, 1899ويف العام
ُ 1897أ ِّسست الرابطة اليابانية للقانون الدويل .و ُترجمت أعامل الكاتب األمرييك يف
حقل العالقات الدولية بول رينش ) (1900، 1902برسعة ،وقد أثرت تلك األعامل
يف التفكري الياباين بشأن اإلمربيالية واإلدارة االستعامرية .وقد احتوى عمل يوكيتيش
فوكوزاوا ) Yukichi Fukuzawa ([1875] 2009بشأن الحضارة املقارنة وحاجة
أيضا عىل عنارص من حقل العالقات الدولية(٭) .و ُقدمت دورات اليابان إىل التحديث ً
بشأن التاريخ الديبلومايس يف عديد من الجامعات اليابانية قبل الحرب العاملية األوىل
( .)Hosoya, 2009: 22–3ومثلام هو الحال خالل مسار تطورها عىل نحو عام،
كانت اليابان رسيعة يف اللحاق بركب التفكري الغريب بشأن حقل العالقات الدولية،
خصوصا يف جانب القانون الدويل ،كام كانت رسيعة يف إنشاء رؤيتها الخاصة املتعلقة
بهذا الحقل (.)Howland, 2016
وبسبب نجاحها املبكر يف مجال التنمية عىل وجه التحديد ،كانت اليابان أول
من واجه معضلة التحديث /التغريب .لقد لخص آر تاغارت موريف )(2014: 63
برباعة مدى التحدي الذي كانت تواجهه اليابان ،ومن ثم جميع دول وشعوب
األَ ْط َراف ،والذي فرضه عليهم مبدأ «معيار الحضارة»:
«لقد واجه قادة حركة امليجي ثالث مهامت عاجلة ومتشابكة .كان يستوجب
ادع لإلمربيالية الغربية .كام جيشا قو ًيا مبا يكفي ليكون مبنزلة ر ٍعليهم أن يبنوا ً
(٭) نحن ممتنون لتاكسيش انوغويش وهيتومي كوياما لنصائحهام بشأن هذه املصادر .هنا ،نضع اليابان يف النقاش
الذي كان دائرا يف األَ ْط َراف ألنها كانت تنتمي إليه فقط إىل غاية نهاية هذه الفرتة ،وبعد هزميتها للصني وروسيا،
أصبحت اليابان مقبولة عىل نحو واضح كجزء من املَ ْر َكز[ .املؤلفان].
99
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كان يستوجب عليهم تجميع رأس املال والتكنولوجيا الالزمني لتحويل بالدهم إىل
قوة صناعية متطورة مبا يكفي لتجهيز هذا الجيش .وكان يستوجب عليهم كذلك
إرساء املؤسسات الالزمة ليس فقط إلنجاز تلك املهامت األخرى ،ولكن أيضا إلقناع
الغرب بأن اليابان قد راكمت املتطلبات األساسية للعضوية يف نادي الدول التي
يجب أخذها عىل محمل الجد .مل يكن ذلك يعني فقط وجود جيش جدير بالثقة
ُ -ي َفضل أن يتجىل ذلك يف االنتصارات خالل الحروب اإلمربيالية التي ُشنت عىل
أيضا وجود مؤسسات مثل الربملانات واملحاكم ،والبنوك،اض ضعيفة -ولكن يعني ً أر ٍ
والزواج األحادي ،واالنتخابات ،ومن الناحية املثالية ،والكنائس املسيحية ،فضال عىل
التآ ُلف واإلملام بالطرق واملظاهر الغربية يف أمور مثل الهندسة املعامرية واللباس
واألعراف الجنسية وآداب املائدة .فقط من خالل حكمهم كقادة يحاكون عن اقتناع
أمة إمربيالية حديثةَ ،مَتكن هؤالء الرجال من إقناع الغرب مبراجعة املعاهدات غري
املتكافئة ،ومن ثم استعادة السيطرة من األوروبيني عىل نظام التعريفة الجمركية
وأيضا عىل األجهزة األمنية يف بالدهم».
تناول املفكرون اليابانيون ،املطلعون عىل الغرب وأيضا عىل ثقافتهم الخاصة،
قضايا حقل العالقات الدولية .فقد حاجج مقال افتتاحي شهري يف العام 1885كان
منسو ًبا إىل فوكوزاوا ،بأن اليابان يجب أن تغادر آسيا وتنضم إىل الغرب (Jansen,
) .2000: loc. 6450; Dreyer, 2016: 44أما أوكاكورا تينشني Okakura
أيضا باسم كاكوزو) ،وهو باحث ياباين بارز آخر ،فقد كان ( Tenshinاملعروف ً
مدر ًكا متا ًما املفارقات املتعلقة باملكانة الدولية لبالده .وقد كتب عن هذا بقوة يف
كتابه «كتاب الشاي» Book of Teaالذي ُنرش ألول مرة يف العام (cited 1906
):in Suzuki, 2005: 137
«يف األيام التي كانت تنخرط فيها اليابان يف أعامل سلمية ،اعتاد الغرب التفكري
فيها باعتبارها دولة غري متحرضة .ومنذ أن بدأت اليابان يف قتل اآلالف من الناس يف
ساحات القتال مبنشوريا ،أطلق عليها الغرب اسم دولة متحرضة».
لقد أسهم أوكاكورا أيضا يف بناء رؤية للنزعة الوحدوية اآلسيوية Pan-
Asianismالتي كان لها صدى ً
أيضا يف جنوب آسيا كام سرنى ذلك الحقا .وباعتبارها
دولة تحديثية مبكرة ناجحة ارتقت برسعة إىل مصاف القوى العاملية الكربى ،نظر
100
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
كثريون ،وليس فقط اليابانيون ،إىل اليابان باعتبارها قائدا طبيعيا آلسيا (Okakura,
) .1903, 1904وعىل أي حال ،فقد رأى أوكاكورا اليابان أفضل حضارة آسيوية ،ألنها
«عكست وتعكس الوعي اآلسيوي برمته» (.)Tankha and Thampi, 2005: 60
كام أن رؤيته للوحدة اآلسيوية ضد الغرب كانت متثل رؤية ثقافية:
«إن آسيا واحدة .تقسمها جبال الهياماليا فقط إلبراز حضارتني عظيمتني؛
الحضارة الصينية ذات النزعة الشيوعية للكونفوشيوسية؛ والحضارة الهندية ذات
النزعة الفردانية للفيدا .ولكن حتى الحواجز الثلجية ال ميكنها أن تعطل للحظة
واحدة ذلك االمتداد الواسع من الحب املطلق والعاملي ،وهو املرياث الفكري
املشرتك لكل عرق آسيوي ،إذ ُ َمُيكنهم من إنتاج جميع الديانات الكربى يف العامل،
ومييزهم عن تلك الشعوب البحرية يف البحر األبيض املتوسط ودول البلطيق ،تلك
الشعوب التي تحب اإلسهاب يف الحديث والبحث عن وسائل الحياة ،ال الغاية منها»
(.)Okakura, 1903: 1
وبعيدًا عن اليابان ،كان تفكري حقل العالقات الدولية خالل هذه الفرتة يتجسد
عىل نحو أقل يف شكل دراسة أكادميية منظمة ،كام كان ،مثله مثل كثري من تفكري
حقل العالقات الدولية املعارص يف الغرب خالل القرن التاسع عرش (عىل سبيل
ً
ارتباطا وثي ًقا بقضايا السياسة ً
مرتبطا املثال :التجارة الحرة؛ ومناهضة العبودية)،
العامة وتفكري السياسيني واملفكرين العامني.
- 2 - 2أمريكا الالتينية
إن أمريكا الالتينية ،وهي متثل اليوم أوىل املناطق يف «الجنوب العاملي» Global
Southالتي خرجت من االستعامر األورويب ،مل تكن «غري غربية» باملعنى نفسه
التي كانت عليه اليابان والشعوب واألنظمة السياسية األخرى يف آسيا وأفريقيا ،ومل
تكن أيضا تشكل قوة كربى صاعدة .وعىل الرغم من أنها حققت إنهاء االستعامر
يف أواخر القرن الثامن عرش وأوائل القرن التاسع عرش؛ ومن ثم أصبحت عض ًوا يف
املجتمع الدويل ،فإن دولها كانت التزال تشكل جز ًءا من األَ ْط َراف يف معنيني :لقد
كانوا يقبعون عىل نح ٍو متزاي ٍد تحت ظل الهيمنة اإلقليمية للواليات املتحدة ،وكانوا
مثل بقية املستعمرات من الناحية االقتصادية ،يشكلون موردا للسلع األساسية
101
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بداًل من أن يكونوا هم أنفسهم يسريون عىل مسار املتوجهة نحو املَ ْر َكز ا ُملصنع ً
التحديث .حيث كانوا رعايا ما يسمى بـ «اإلمرباطورية غري الرسمية» .وانطالقا من
هذا املنظور ،ليس من املستغرب أن يركز تفكري أمريكا الالتينية خالل هذه الفرتة
عىل نحو أسايس عىل الدفاع عن الحق يف املساواة يف السيادة ،ومن ثم الرتكيز عىل
أيضا عنرص قوي من الدفاع عن مبدأ عدم التدخل كنتيجة طبيعية لذلك .كان مثة ً
عنارص النزعة اإلقليمية الوحدوية األمريكية ،Pan-American regionalismعىل
الرغم من أن هذه النزعة قد متزقت بسبب غرضني ُم َتنَا ِزعني.
يف البداية ،ظهرت النزعة الوحدوية األمريكية Pan-Americanismيف القرن
التاسع عرش من أجل بناء التعاون بني دول النصف الغريب للكرة األرضية ،وقد
نشأت بقيادة الواليات املتحدة ( .)Lockey, 1920وعىل الرغم من أن أصول النزعة
الوحدوية األمريكية تعود إىل النصف األول من القرن التاسع عرش ،فإن املؤمتر
الدويل األول بشأن الدول األمريكية كان قد عُ قد يف العام .1890والجدير بالذكر أن
هذا كان قبل عقد من انعقاد مؤمتر الهاي األول .وعىل ذلك ،فقد واجهت النزعة
الوحدوية األمريكية مفارقة .فمن ناحية ،كانت حرك ًة مثالي ًة لتعزيز التعاون بني
الدول حتى أنها استثارت الح ًقا مقارنات مع عصبة األمم بسبب ِبنْيتها القانونية.
ومن ناحية أخرى ،كانت حركة اضطلعت بها دول أمريكا الالتينية ملواجهة الهيمنة
األمريكية ومبدأ مونرو .فبسبب وجود القوة املهيمنة داخل هذه الحركة ،فإن
النزعة الوحدوية األمريكية تختلف إذن عن الحركات الوحدوية القومية األخرى
التي نشأت كرد فعل عىل نحو أسايس عىل الهيمنة الخارجية ،عىل رغم أنها تشبه
أيضا قوة مهيمنة داخلية .كانت العالقات بني رشق آسيا ،حيث كانت اليابان ً
األمريكيني بهذا املعنى مرشوطة «باستغالل وسوء استغالل اإلمكانيات السياسية»
املتاحة للواليات املتحدة بحكم موقعها املهيمن ( .)Hula, 1942: 22وعىل الرغم
من هذه اإلشكالية ،فإن النزعة الوحدوية األمريكية تطورت لتعكس مفاهيم
«تضامن أمريكا الالتينية» ،وقد كانت بطبيعتها معادية للهيمنة عىل غرار الحركات
الوحدوية القومية األخرى يف جميع أنحاء العامل.
وعىل رغم أن معايري املساواة يف السيادة وعدم التدخل هي معايري بارزة يف
جميع أنحاء العامل ،فإن املساهامت املبكرة ألمريكا الالتينية لها أهمية خاصة،
102
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
ألن هذه املعايري ظهرت هناك أو ًاًل قبل االنتقال إىل أجزاء أخرى من العامل .وبينام
تم التأكيد عىل مبدأ السيادة يف صلح وستفاليا للعام ،1648فإن مبدأ عدم
يحظ بذلك .ومن أبرز معايري أمريكا الالتينية كان مثة مبدأ الحيازة التدخل مل َ
الجارية ( ،)uti possidetis jurisأو احرتام الحدود املوروثة .وقد أصبح هذا
املعيار؛ الذي يحرتم الحدود اإلدارية لإلمرباطورية اإلسبانية« ،إطا ًرا للرشعية
املحلية والدولية خل ًفا للعبور الدموي من اإلمرباطورية إىل الدول األمريكية التي
خلفتها» ( .)Dominguez, 2007: 90من الواضح أن هذا املعيار دعم وأسهم
يف معيار السالمة اإلقليمية العاملية ،أو ما يسميه إيان براونيل ([)1998 ]1966
«إنشاء ونقل السيادة اإلقليمية» .يتمثل معيا ٌر آخر ألمريكا الالتينية يف «عدم
التدخل املطلق يف مجتمع نصف الكرة الغريب» كمبدأ مجرد وكوسيلة لتحدي
عقيدة مونرو األمريكية .وقد تطورت هذه القاعدة تحت راية النزعة الوحدوية
األمريكية ،وجاءت استجابة إزاء ما ُيتصور أنه نفاق ُم َه ْي ِم ٍن إقليمي يف التعامل
مع جريانه الجنوبيني (.)Castle, 2000 ; Leonard, 2000
كان أبرز األمثلة عن تفكري أمريكا الالتينية بشأن مبدأ عدم التدخل يتمثل
يف مذهبي كالفو ودراغو ،إذ إن كليهام ُطرح من قبل هؤالء األرجنتينيني .يرتبط
األول بالديبلومايس واملؤرخ كارلوس كالفو ،الذي أفصح يف العام 1868عن مذهبه
القائل إن «سلطة تسوية نزاعات االستثامر الدولية مستقرة يف حكومة البلد الذي
يوجد فيه هذا االستثامر» ( .)Wood, 2008: 46–7كان هذا املذهب ُم َوج ًها ضد
التدخل يف الشؤون الداخلية لدول أمريكا الالتينية املامرس من ِقبل القوى األجنبية
(األوروبية والواليات املتحدة) ،إذ أصبح سمة أساسية للدساتري واملعاهدات يف
أمريكا الالتينية .كام ظل مذهب كالفو مذهبا قانونيا ،وقد ُأخذ به إىل أبعد من ذلك
من خالل مذهب دراغو ،الذي طرحه وزير الخارجية األرجنتيني لويس ماريا دراغو
يف العام ،1902والذي تحدى من خالله املوقف األمرييك واألورويب القائل إن لهام
الحق يف التدخل إلجبار الدول عىل الوفاء بديونها السيادية (Dominguez, 2007:
) .92إذ يحظر هذا املذهب التدخل العسكري عىل وجه التحديد .وبناء عىل هذه
األسس ،يشري جريي سيمبسون ( )2004: 126-59إىل التمثيل القوي ألمريكا الالتينية
يف الدفاع عن املساواة يف السيادة ضد الهيمنة اإلقليمية للواليات املتحدة يف مؤمتر
103
تشكيل العالقات الدولية العاملية
- 2 - 3الصني
عىل رغم أن الصني؛ وعىل عكس الهند ،مل تكن ُم ْس َت ْع َمرة عىل نحو رسمي،
اخرُتقت بشدة من طرف قوى خارجية مبا يف ذلك اليابان .ويف ذلك الوقت، فإنها ُ
مل تكن مثة يف الصني دراسة أكادميية منهجية لحقل العالقات الدولية ميكن التعرف
عليها ،وذلك ألسباب ليس أقلها االضطراب املستمر الناجم عن تفاعل ساللة تشينغ
املتدهورة مع الضغط األجنبي املتزايد .لكن ،كان مثة عنارص متناثرة من تفكري
النزعة الوحدوية اآلسيوية كام لوحظ يف الفصل األول ،وبحلول أواخر القرن التاسع
عرش ،كان عديد من اإلصالحيني الصينيني يركزون عىل اليابان ،ويفكرون مل ًيا يف
كيفية إنقاذ الصني من أن ُتبتلع من طرف اإلمربياليني األجانب.
رمبا كان أبرز عمل مرتبط بحقل العالقات الدولية يف الصني يف ذلك الوقت
هو كتاب كانع يووي Kang Yuweiاملوسوم بـ «االنسجام الكبري» (The Great
) .Harmony [1935] 1958لقد ارتبط كانغ يووي بقوة بالحركة اإلصالحية التحديثية
يف الصني خالل نهاية القرن التاسع عرشُ .كتبت النسخ األوىل من كتابه يف العامني
1884و ،1885و ُنرش جزء منها يف العام .1913لقد جمعت ُحجة كانغ بني الحداثة
والتقاليد .إن تركيزها عىل فكرة االنسجام وعامل موحد بال حدود يعكس األفكار
الكونفوشيوسية ،ولكن يبدو أن كثريا من محتواها بشأن إزالة حدود الطبقة والعرق
واألمة والجنس وغريه من األشياء ،يجد له جذورا يف النزعة االشرتاكية الطوباوية.
كان ليانغ تشيتشاو ) Liang Qichao (1873-1929أحد أبرز أتباع كانغ يووي؛
وهو صحايف ومفكر من أواخر ساللة تشينغ .لقد سعى ،مثله مثل كانغ ،إىل إعادة
104
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
تفسري الكونفوشيوسية للصني ،لكن مشاعره كانت تعيش نوعا من التضارب من خالل
جسد
الرغبة يف محاكاة الغرب مع الحفاظ عىل القيم والهوية الثقافية التقليدية .لقد َّ
ليانغ تشيتشاو رغبة املثقفني الصينيني إبان تلك الفرتة يف إصالح وتحديث بلدهم
للتغلب عىل اإلذالل الوطني والتهديد املادي القادم من اليابان والغرب ،ب ْيد أنه فشل
يف التوفيق بني الدميوقراطية والقيم الصينية التقليدية (.)Mishra, 2012: 123–215
وخالل زيارة للواليات املتحدة يف العام ،1903أصيب ليانغ بخيبة أمل من الدميوقراطية
األمريكية بعد أن شاهد عنرصيتها وفسادها وانعدام املساواة فيها (.)Shepard, 2012
كان سون يات سني ( )SunYat-senأحد املنفيني الصينيني إىل اليابان ،وقد كان
بصدد تطوير «رؤية آسيوية قامئة عىل الدولة ومعادية لإلمربيالية» ،غري أنه كان
مثة أشكال أخرى من اإلقليمية بني املثقفني الصينيني متجذرة يف املامرسات غري
املرتكزة عىل الدولة ويف التعددية الثقافية غري الشوفينية -القومية (Karl, 1998:
.)1096–7كان أحد األمثلة عىل هذه اإلقليمية البديلة هو أنشطة منظمة غري
معروفة تسمى جمعية التضامن اآلسيوي ،التي تأسست يف طوكيو يف العام 1907
من طرف مفكرين صينيني واشرتاكيني يابانيني ومنفيني قادمني من الهند وفيتنام
والفلبني .كان أحد الجوانب املثرية لالهتامم يف هذه النزعة اإلقليمية هو االعرتاف
املمنوح «للفلبيني األول» خوسيه ريزال ) ،José Rizal (1896-1861باعتباره
«القومي اآلسيوي املثايل الذي يجب أن تتعلم منه الصني واآلسيويون اآلخرون»
( .)Karl, 1998: 1106وعىل الرغم من أن ريزال معروف عىل نحو كبري بأنه بطل
وحدة عرق املاليو ،فإن رسالته كانت قد اعتمدت عىل التنوع غري املرتكز عىل
الدولة الخاص بفكرة اإلقليمية اآلسيوية .والح ًقا يف هذا الفصل ،سيكون مثة مزيد
من األفكار بشأن النزعة القومية عند ريزال.
- 2 - 4الهند
كام هي الحال يف كثري من مناطق العامل غري الغريب ا ُملستع َمر ،مل تكن مثة
دراسة منهجية لحقل العالقات الدولية يف الهند ،ولكن كان مثة تفكري نشط بشأن
هذا الحقل بني املثقفني العامني ،حيث كان تفكريا يتعلق أساسا مبناهضة االستعامر
وأفكار النزعة الوحدوية اآلسيوية .ولعل أبرز تلك األفكار فكرة الدمج بني الحداثة
105
تشكيل العالقات الدولية العاملية
والتقاليد التي طرحها طاغور(٭) ،والذي أصبح أول حائز جائزة نوبل يف األدب يف
آسيا يف العام .1913لقد متركزت مساهمة طاغور يف الفكر الدويل بشأن نقده
خيطا آخر من تفكريه اهتم بالنزعة الوحدوية الصارم ورفضه القومية ،يف حني أن ً
اآلسيوية .لقد أدار حملة ذات نزعة وحدوية آسيوية ومناهضة للنزعة للقومية
تعود جذورها يف األساس إىل النزعة البوذية ،ومن املفارقات أن طاغور رأى اليابان
باعتبارها متثل القوة الرائدة يف آسيا .بالنسبة إىل طاغور ،كام رصح بذلك خالل
جولته يف الواليات املتحدة يف شتاء العامني 1916و ،1917فإن «فكرة األمة هي
واحدة من أقوى أدوية التخدير التي اخرتعها اإلنسان ...تحت تأثري أَ ْب ِخ َر ِت َها ميكن
أن يحمل كل الناس برنامجها املنهجي للبحث األكرث رضاوة عن الذات ،من دون
أن يدركوا عىل األقل انحرافها األخالقي» ( .)Tagore, [1917] 2002: 98مل تكن
مناهضة طاغور للقومية يف الوقت الذي أصبحت فيه القومية جز ًءا ال يتجزأ
من النظام الرئيس للمجتمع الدويل العاملي ( )Mayall, 1990فكرة غريب ًة متا ًما.
فاملؤرخ الربيطاين أرنولد توينبي Arnold Toynbee؛ مدير الدراسات يف املعهد
املليك للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) من العام 1924إىل العام ،1954دان ً
أيضا
القومية« :قوميتنا الغربية الحديثة ...هي عودة إىل عبادة الذات الوثنية للقبيلة»
(.)cited in Brewin, 1995: 280
يعتقد طاغور أن القومية مل تسبب فقط نشوب رصاع دويل ،ولكنها سببت
أيضا القمع املحيل ،أو قمع الفردانية التي اعتربها واحدة من املساهامت الرئيسة ً
للمجتمعات الغربية .وفيام يتعلق بالرصاع الدويل ،ح َّذر طاغور خالل زيار ٍة لليابان
يف العام 1916من أن القومية ولدت املنافسة ،أو عقلية «البقاء لألصلح» ،أو نسخة
متطرفة من مبدأ املساعدة الذاتية« :ساعد نفسك ،وال تكرتث أبدا ملا يحدثه هذا
لآلخرين» ( .)Tagore, [1917] 2002: 33كام ح َّذر طاغور اليابان من تقليد الغرب،
أيضا قمعي ًة وعسكري ًة .وذ َّكر الجمهور بأنه «حيثام خشية أن تصبح هي األخرى ً
(٭) روبندرونات طاغور )1981-Rabindranath Tagore (1941فيلسوف وشاعر هندي مشهور ،كان له أثر كبري
يف التأثري يف التفكري والتقاليد الهندية .قدم طاغور للرتاث اإلنساين عديدا من القصائد الشعرية ،والروايات األدبية،
إضافة إىل عرشات الكتب واملقاالت واملحارضات يف الفلسفة والدين والرتبية والسياسة والقضايا االجتامعية .وقد نال
جائزة نوبل يف اآلداب للعام 1913ليكون بذلك أول أديب رشقي ينالها[ .املرتجم].
106
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
َت ُس ْد الروح القوميةُ ،يع َّلم كل الناس منذ الصغر الكراهية والطموحات بجميع أنواع
الوسائل ،وذلك من خالل صناعة أنصاف الحقائق واألكاذيب يف التاريخ ،والتشويه
املستمر لألعراق األخرى ...وهكذا ،تختمر يف أذهانهم باستمرار فكرة خطر الرش
تجاه الجريان واألمم األخرى من غري دولهم» ( .)Tagore, [1917] 2002: 35لقد
عمى للبصرية تجاه القانون األخالقي القائل إن
رأى طاغور القومية باعتبارها متثل ً
«اإلنسان يصبح أكرث صد ًقا كلام أدرك نفسه من خالل اآلخرين» .عالوة عىل ذلك،
«إن األمم التي تزرع برصامة العمى األخالقي كعبادة القومية؛ ستنهي وجودها
مفاجئ وعنيف» ( .)Tagore, [1917] 2002: 34وفيام يتعلق بتأثري القومية ٍ مبوت
ٍ
يف الحرية الفردية ،أشار طاغور خالل جولته يف الواليات املتحدة إىل أنه «ال يسعنا
إال أن نعرتف باملفارقة القائلة إنه بينام تسري روح الغرب تحت راية الحرية ،فإن أمة
الغرب تصوغ سالسلها الحديد من التنظيم ،سالسل تنظيم هي األكرث قسوة واألقل
قابلية للكرس التي ُصنِّعت طوال تاريخ اإلنسان» (.)Tagore, [1917] 2002: 78
أيضا كتابات عن موقع الهند ا ُملست َغل يف االقتصاد الدويل لقد كان مثة ً
لإلمرباطورية الربيطانية ،مثل «نظرية االستنزاف» لدادبهي ناوروجي Dadabhai
.Naorojiففي كتابه «الفقر والحكم غري الربيطاين يف الهند» Poverty and Un-
British Rule in Indiaالذي ُنرش يف العام ،1901حاول ناوروجي أن يفحص عىل
وخ ُل َص إىل أن معظم ثروة الهند كانت نحو إحصايئ الربح القومي الصايف للهندَ ،
« ُتستنزف» من ِقبل بريطانيا ،وذلك من خالل تثبيط تطور الصناعة يف الهند ،ومن
خالل جعل املستعمرة تدفع التكاليف املدنية واإلدارية الهائلة التي ينطوي عليها
مناهض
ٍ الحفاظ عىل اإلمرباطورية ( .)Ganguli, 1965مل ينخرط ناوروجي يف نشاط
لالستعامر ،بل كان مرشوعه يهدف إىل إجراء دراسة علمية .وعىل رغم ذلك ،فإنه
من الصحيح القول إن نظرية ناوروجي أعطت دفعة لحركة االستقالل الهندية
بسبب رفضها للحكم الربيطاين ،حتى لو كان ذلك يف الجانب االقتصادي فقط.
ٌ
مصطلحات مثل« :الرشق األدىن» و«الرشق األوسط» بـ «اإلقليم» .Regionلقد كانت
و«الرشق األقىص» و«جنوب آسيا» و«جنوب رشق آسيا» عبارة عن بناءات استعامرية
ُأنشئت لخدمة األغراض اإلسرتاتيجية والجيوسياسية للقوى اإلمربيالية ،وخاصة بريطانيا
العظمى .وعىل سبيل املثال ،فاملنطقة املمتدة من أفغانستان يف الغرب إىل إندونيسيا
يف الرشق ُمقسمة اآلن إىل جنوب آسيا وجنوب رشق آسيا ،مع ميامنار (بورما) التي
ُتعد مبنزلة خطٍ فاصل .وعىل رغم ذلك ،مل تكن هذه املفاهيم اإلقليمية لجنوب آسيا
وجنوب رشق آسيا قد تشكلت بعد يف مطلع القرن العرشين .والواقع ،ستظهر جنوب
رشق آسيا كفكرة إقليمية مميزة عىل نحو رئيس بعد إنشاء قيادة جنوب رشق آسيا
من ِقبل القوى املتحالفة خالل الحرب العاملية الثانية ( .)Acharya, 2013a:38وقد
ُأشري إىل املنطقة تاريخ ًيا من ِقبل عديد من العلامء الغربيني باسم الهند الكربى ،وهو
مصطلح من شأنه أن يلهم القوميني الهنود يف منطقة كالكوتا Calcuttaفيام بعد
خالل عرشينيات القرن املنرصم لتشكيل جمعية الهند الكربى تحت الرعاية الروحية
لرابندرانات طاغور (.)Keenleyside, 1982 ; S. Bayly, 2004
كان جزء كبري من املنطقة املعروفة اليوم باسم الرشق األوسط يقبع تحت
السيادة العثامنية خالل هذه الفرتة ،وكان هناك يف تلك املنطقة جزء نسبي من
التفكري بشأن العالقات الدولية .فالنزعة الوحدوية العربية Pan-Arabismمل تظهر
حتى الحرب العاملية األوىل ،ولكن كان هناك بعض من التفكري يف العالقات الدولية
كحقل معريف ضمن السياق اإلسالمي .ففكرة الخالفة اإلسالمية املوحدة ُت َعد فكرة
قدمية ( .)Hashmi, 2009: 172–3ويوفر التمييز يف املصادر الرشعية اإلسالمية
أساسا للتفكري يف العالقات
الكالسيكية (وليس القرآن) بني دار اإلسالم ودار الحرب ً
الدولية وإن مل يكن ذلك داخل دار اإلسالم ،ألنه من املفرتض أن تكون هناك دولة
إسالمية واحدة فقط ( .)Tadjbakhsh, 2010: 176–84لقد ظهرت فكرة الوحدة
مناهض لالستعامر عىل وجه التحديد ،وحصل ذلك داخل ٍ اإلسالمية يف سياقٍ
اإلمرباطورية العثامنية خالل أواخر القرن التاسع عرش كطريقة ملواجهة التعديات
األوروبية عىل العامل اإلسالمي .وقد دعا السلطان العثامين عبد الحميد الثاين ألجل
شكل من أشكال الوحدة اإلسالمية يف ظل اإلمرباطورية العثامنية لتقوية املقاومة
ضد الغرب ،غري أن هذه الفكرة مل تصل إىل أي مكان.
108
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
الفلبينيني الذين مل يقبلوا بالفلبني القابعة تحت االستعامر اإلسباين كرشط طبيعي،
وكان لديهم الشجاعة للوقوف ضده.
أما فيام يتعلق بأفريقيا جنوب الصحراء ،فقد كانت هي األخرى غري غربية
أيضا ،وكانت تقبع بقوة يف قبضة االستعامر .وباملقارنة مع الصني والهند ،كانت ً
هذه املنطقة تفتقر عىل نحو واسع إىل مؤسسات وتقاليد التعليم العايل الرسمي
بخالف تلك البنى التي وفرتها القوى االستعامرية .وعىل ذلك ،عُ قد املؤمتر
األفريقي األول يف لندن يف العام ،1900وحظي حينها باهتامم دويل كبري .خالل
تلك املرحلة ،استفادت النزعة الوحدوية األفريقية Pan-Africanismعىل
نحو كبري من صالتها بحركة من أجل تحرير السود يف الواليات املتحدة ،وتأثري
القادة األمريكيني السود مثل وليام إدوارد دو بويز .W. E. B. Du Boisومل
تقترص مؤمترات الوحدة األفريقية عىل مناهضة االستعامر أو التمييز العنرصي
فقط ،بل تبنت اهتاممات وقضايا أكرب يف العالقات الدولية .ففي خطابه يف
مؤمتر العام ،1900أعلن وليام إدوارد دو بويز:
«ال تدع العامل يأخذ خطوة إىل الوراء عىل درب ذلك التقدم البطيء ولكن
الواثق ،ذلك التقدم الذي رفض عىل التوايل السامح لروح الطبقة؛ روح الطبقة
االجتامعية أو روح االمتياز أو الوالدة ،بالحرمان من الحياة والحرية والسعي
وراء السعادة؛ روح البرشية املناضلة .فال يجب أن يكون اللون أو العرق
سمة من سامت التمييز بني الرجال البيض والسود بغض النظر عن القيمة أو
القدرة»(٭).
إن هذا مؤرش واضح إىل أن املؤمتر تبنى قضية أوسع من مجرد حقوق السود
أو العرق ،وقدم تلميحات ألفكار املساواة والحرية عىل املستوى الدويل .ومن املثري
لالهتامم أن املؤمتر األفريقي األول يف العام 1900قد حرضه ناوروجي ،مبتكر
«نظرية االستنزاف» لإلمربيالية الربيطانية.
110
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
وعىل رغم ذلك ،مثة سببان جوهريان يفرسان استمرار أسطورة العام 1919؛
سيِس ،وصدمة الحرب العاملية األوىل .من الواضح يتمثالن يف :إضفاء الطابع ا ُمل َؤ ِ
تخصصا
ً أن حقل العالقات الدولية كان يف طريقه إىل أن يصبح ُم َ ْأَم َس ًسا باعتباره
حقاًل للدراسة قبل العام .1914لكن هذا مل يحدث إال يف العام .1919 أكادمي ًيا أو ً
وبعد ذلك ،وعندما انطلق سباق املَ ْأ َس َسة هذا بالفعل ،تكررت هذه الظاهرة مرة
أخرى بعد الحرب العاملية الثانية .لقد متثلث األحداث األكرث تكرا ًرا يف :تأسيس
قسم السياسة الدولية وكريس وودرو ويلسون Woodrow Wilsonيف السياسة
الدولية يف جامعة أبرييستويث Aberystwythيف العام ،1919وإنشاء اثنني من
مراكز التفكري يف حقل العالقات الدولية؛ املعهد املليك للشؤون الدولية يف لندن
Royal Institute of International Affairs in Londonيف العام 1920ومجلته
لـ «الشؤون الدولية» International Affairsيف العام 1922؛ ومجلس العالقات
الخارجية Council on Foreign Relationsيف نيويورك يف العام .1921وقد
ُأنشئ مزيد من كرايس وأقسام ومعاهد حقل العالقات الدولية طوال سنوات ما بني
الحربني ،وسنوضح ذلك يف الفصل الرابع.
وعىل رغم ذلك ،كانت موجة املَ ْأ َس َسة هذه مدفوعة إىل حد كبري بصدمة
الحرب العاملية األوىل ،ومن دون تأثري تلك الحرب كان من شبه املؤكد أنها مل تكن
لِت َْحدُ َث بهذه الرسعة أو بالطريقة نفسها .واليزال من املمكن رؤية عمق تأثري
رف بها قسم السياسة الدولية يف جامعة الحرب العاملية األوىل بالطريقة التي ُي َع ُ
أبرييستويث نفسه اليوم:
«لقد تأسس القسم يف العام 1919كرد فعل عىل أهوال الحرب العاملية األوىل
التي فقد فيها ماليني األشخاص حول العامل حياتهم .وقد مثل مرشوعًا معيار ًيا بهدف
فهم ديناميات السياسة العاملية من أجل تجاوز الحرب يف نهاية املطاف»(٭).
مل تكن الحرب العاملية األوىل هي الحرب األوىل التي تم خوضها عىل نطاق
عاملي :فقد حققت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية ذلك .والواقع ،كانت
شامل شمل مجموعة كاملة من القوى الصناعية ٍ الحرب العاملية األوىل أول رص ٍاع
) www.aber.ac.uk/en/interpol/about/ (Accessed 28 May 2017).٭(
[املؤلفان].
112
حقل العالقات الدولية حتى العام :1919إرساء األسس
الكربى .وقد تم خوض تلك الحرب بأسلحة عىل عكس تلك املستخدمة يف الحروب
السابقة ،حيث كانت أسلحة باهظة الثمن ومدمرة وصعبة املواجهة عىل نحو كبري
أكرث مام كان متوق ًعا .إن تلك الدول التي دخلت يف الحرب العاملية األوىل بدرجة من
الحامس الدارويني االجتامعي إلثبات أنها الدولة املتفوقة كام فعل البعض ،خرجت
منها يف األغلب ،إذا نجت بالفعل ،برعب شديد من أي تكرا ٍر للحرب .وكام وصفنا
ذلك يف الفصل األول ،بدت الحرب وكأنها تهدد وجود الحضارة األوروبية ،وتركت
الشعور بالخوف الشديد من الحرب (ما نسميه باملعضلة الدفاعية) واسع االنتشار.
وأثارت التساؤل بشأن الديبلوماسية ،وأيضا بشأن الحكمة من السامح بتطوي ٍر ال
نهاية له عىل مستوى التسلح بغرض السيطرة عىل العالقات بني القوى الكربى.
لقد كان تأثري هذه االعتبارات الطاغية هو الذي شكل حقل العالقات الدولية
الناشئ كام يظهر من تعريف قسم السياسة الدولية لنفسه يف جامعة أبرييستويث.
ومثلام حاجج جيمس جول ( ،)1982فقد دمرت الحرب العاملية األوىل جميع
خيوط التفكري الثالثة للقرن التاسع عرش بشأن كيفية ترويض الحرب :ثقة
املحافظني مبيزان القوى؛ إميان الليرباليني باآلثار الوسيطة للتجارة الحرة والدساتري؛
وإميان االشرتاكيني بأن التضامن الطبقي سوف يتفوق عىل القومية .وحتى آمال
أولئك الذين اعتقدوا ،مثل بلوخ ،أن الخوف من استخدام أسلحة جديدة مدمرة
من شأنه أن يردع الحرب مل تتحقق ( .)Pearton, 1982: 137–9وكام يحاجج
بوزان ولوسون (:)2015a: 62– 3
«انطالقا من عرشينيات القرن املايض فصاعدًا ،كان حقل العالقات الدولية
يركز عىل نحو شبه مستحوذ عىل الحارض واملستقبل القريب اللذين ُحددا إىل حد
النشوء أطلق حقل العالقات الدولية كبري من منظور عالقات القوى الكربى .هذا ُ
ً
حارضا كانت اهتامماته األساسية تتمثل يف النظام /الالنظام باعتباره تخصصا معرف ًيا
املتعلق بالقوى الكربى وكيفية فهم الظروف التي قد تؤدي إىل نشوب الحرب أو
تعزيز السلم .لقد عزز انكشاف القرن العرشين بانقساماته األيديولوجية العميقة
والتحسينات املستمرة يف قوى التدمري مركزية هذين االهتاممني التوأمني .ويف
ظل هذه الظروف ،كان من السهل إغفال العامل ملا قبل العام 1914بخالف كونه
فقط مادة للمناقشات بشأن أسباب الحرب واحتامالت تخفيفها ...ويف عامل القرن
113
تشكيل العالقات الدولية العاملية
العرشين ،كان األمر األكرث أهمية هو كيفية احتواء اندالع الحرب بني القوى الكربى
املستقطبة أيديولوج ًيا».
خالصات
عىل الرغم من كل أفكار حقل العالقات الدولية التي جاءت من َقبل ،فإن
فبداًل من النظر إىل «منالحرب العاملية األوىل وضعت حدا لها عىل نحو أو بآخرً .
أين أَ َتت ،ركز حقل العالقات الدولية نظرته بثبات نحو املستقبل ،وعىل املشكلة
النبيلة لكيفية منع الحرب وإحقاق السالم .لقد أصبحت الحاجة إىل إدارة الفوىض
الدولية لعالقات القوى الكربى وسباق التسلح واالقتصاد العاملي من أجل منع حرب
إلحاحا
ً أخرى هي األولوية املهيمنة للنظام «الجديد» .وما أصبح ينتظرنا بدا أكرث
بكثري من القضايا االستعامرية التي ُتركت عىل الجانب .إن توازن القرن التاسع عرش
يف حقل العالقات الدولية بني إدارة دول املَ ْر َكز من ناحية ،وإدارة العالقات األساسية
لدول األَ ْط َراف من ناحية أخرى ،أفسح املجال إىل حد كبري أمام املخاوف بشأن
إدارة العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز .كان سالم القوى الكربى الطويل يف َم ْر َكز القرن
التاسع عرش هو الذي أطاحت به الحرب ،وكان ذلك يحتاج إىل اهتامم عاجل .فقد
أدت الحرب العاملية األوىل إىل اضطراب العالقات االستعامرية ،ولكن ليس بالطرق
التي كانت تتطلب اهتام ًما فور ًيا .وقد بدا النظام االستعامري قو ًيا يف العام 1919
كام كان يف العام ،1914ومن ثم صار من املمكن الدفع به نحو الخلف وإبقاؤه
منفصاًل إىل حد كبري عن دراسة العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز.
ً
114
احلديثة
3
العامل :1945-1919
الصيغة األوىل للمجتمع
الدويل العاملي
مقدمة
رمبا ميكن النظر إىل الحرب العاملية األوىل
باعتبارها الجولة األوىل من أزمة نسقية للحداثة
عىل نطاق عاملي .ومثلام سنبني يف فصول
الحقة ،احتلت الجوالت الالحقة من هذه األزمة
(الحرب العاملية الثانية ،والحرب الباردة وإنهاء
االستعامر ،و«صعود ال َب ِقية») معظم فرتة القرن
العرشين .وكام ورد يف الفصل األول ،كانت
أسباب الحرب العاملية األوىل متأصلة عىل نحو
عام يف زعزعة استقرار عالقات القوى الكربى
التي سببتها الحداثة ،وخاصة يف زعزعة استقرار «رمبا بدت الفاشية ،التي ظهرت خالل
عرشينيات القرن املايض ،كأنها أيديولوجية
العالقات العسكرية الناجمة عن كل من النزعة جديدة لكنها مل تكن كذلك ،إذ كانت
القومية وديناميات سباق التسلح الصناعي .ومل مجرد اندماج بني العنرصية «العلمية»
والقومية ضمن صيغة متطرفة خاصة من
تكن الحرب ناتجة عىل نحو كبري عن رصاعات الداروينية االجتامعية»
115
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أيديولوجية حول أشكال الحكم ،أو أزمة اقتصادية ناجمة عن الحداثة ،عىل الرغم
كاًل من سنوات مامن أن كلتيهام كانت لهام عواقب وخيمة .يغطي هذا الفصل ً
بني الحربني التي ش َّكلت محاولة فاشلة الستعادة وتحسني املجتمع الدويل الخاص
باملركز منذ ما قبل العام ،1914كام يغطي فرتة الحرب العاملية الثانية التي جاءت
نتيجة لذلك الفشل.
يلتقط القسم التايل املوضوعات الرئيسة من الفصل األول ،ويتطرق إىل مسألة
االستمرارية وعدم االستمرارية مع فرتة ما قبل العام .1914نحن نحاجج بأن الحرب
العاملية األوىل كانت مجرد أزمة جزئية للحداثة ،وأن عواقبها مل تغري عىل نحو أسايس
بنية الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي عىل الرغم من أنه كانت لها عواقب
وخيمة يف بعض النواحي .تبحث األقسام الالحقة يف املوضوعات الرئيسة للسياسة
الدولية يف فرتة ما بني الحربني العامليتني والحرب العاملية الثانية ،وتجد أن األخرية
شكلت أزمة عاملية أكرب بكثري من األوىل .ونحن نتبنى الحجة القائلة بأن الحربني
العامليتني األوىل والثانية والحرب الباردة؛ باإلضافة إىل مرحلة إنهاء االستعامر ،مل
تكن أحدا ًثا منفصلة ً
فعاًل ،ولكنها م َّثلت مراحل يف أزمة أكرث شمو ًاًل تكشفت من
عواقب التحول الشامل الذي شهدته العالقات الدولية والذي و َّلدته ثورات الحداثة
يف القرن التاسع عرش (.)Buzan and Lawson, 2015b
ومع زيادة القدرة عىل التفاعل ،استمر العامل يف التقارب برسعة .إذ ميكن للمرء
اآلن الطريان إىل عديد من الوجهات ،أو استخدام القصف من الطائرات كوسيلة
رخيصة للسيطرة عىل رجال القبائل املتمردين يف املواقع االستعامرية البعيدة .لقد
أيضا وسيلة جامهريية جعلت اإلذاعة االتصاالت العاملية فورية إىل حد ما ،وفتحت ً
جديدة وقوية .كام أصبحت محركات االحرتاق الداخيل والكهرباء واملواد الكيميائية
تتصدر طليعة الصناعة .باإلضافة إىل اإلنجازات املبكرة يف سعة التفاعلُ ،أضيف
اإلنتاج الضخم واالستخدام الواسع النطاق للسيارات والطائرات وأجهزة الراديو .أما
يف القطاع العسكري ،فقد ُطبق املزيج نفسه من التحسينات واالبتكارات ،حيث
ُح ِّسنت أشياء مثل الغواصات وحامالت الطائرات والغازات السامة والدبابات
دخلت ابتكارات جديدة مثل واملقاتالت والقاذفات والسونارات عىل نحو كبريُ ،وأ ِ
الرادار .فالثورة الدامئة يف الشؤون العسكرية التي انطلقت يف القرن التاسع عرش
ظلت مستمرة بال هوادة.
وعىل النقيض من ذلك ،استمر املشهد الفكري ليكون تحت سيطرة
األيديولوجيات األربع نفسها للتقدم التي ظهرت خالل القرن التاسع عرش .فقد
تطورت تلك األيديولوجيات مع الزمن ،لكنها مل تحمل يف طياتها شيئا جديدًا
جوهر ًيا يذكر .فلم تكن الحرب العاملية األوىل ناجم ًة عن املنافسات األيديولوجية
بشأن أشكال الحكم ،عىل الرغم من أن القومية شكلت ً
عاماًل مهام يف نشوبها
وعجلت بزوال النزعة الساللية للحكم باعتبارها الشكل الرئيس للرشعية السياسية.
لكن الحرب مل تفعل الكثري ملعالجة أو حل التناقضات القامئة بني أيديولوجيات
التقدم .أدت تلك األيديولوجيات إىل تآكل اإلمرباطورية خاصة داخل أوروبا ،وإن
كان ذلك قد حصل يف الخارج عىل نحو أقل بكثري .رمبا بدت الفاشية ،التي ظهرت
خالل عرشينيات القرن املايض ،كأنها أيديولوجية جديدة لكنها مل تكن كذلك .إذ
كانت مجرد اندماج بني العنرصية «العلمية» والقومية ضمن صيغ ٍة متطرف ٍة خاص ٍة
من الداروينية االجتامعية.
وعىل رغم أن الحرب العاملية األوىل مل تفعل شيئًا يذكر لحل التناقضات
رئيسا األيديولوجية للحداثة ،فإنها فعلت الكثري لرتكيزها عىل نحو أكرب وجعلها ً
عاماًل ً
يف العالقات بني القوى الكربى ،وذلك من خالل ربطها بسلطة الدولة يف دول املركز.
117
تشكيل العالقات الدولية العاملية
قبل العام 1914مل متارس أيديولوجيات التقدم دو ًرا كب ًريا يف تحديد العالقات بني
القوى الكربى ،ويرجع ذلك جزئ ًيا إىل أن الساللة الحاكمة كانت التزال مؤثرة للغاية.
وبعد العام 1919أصبحت أيديولوجيات التقدم تشكل ً
عاماًل مركز ًيا يف عالقات
القوى الكربى ،بل ميكن املحاججة بأنها شكلت العامل األسايس .فقد كانت النزعة
القومية قوية يف كل مكان ،وح َّلت محل الساللة الحاكمة باعتبارها األساس الرئيس
للدولة .وكانت ألشكال الليربالية بالفعل سلطة دولة يف بريطانيا والواليات املتحدة
وفرنسا ،وقد أدى هذا التقارب األيديولوجي دو ًرا ما خالل الحرب .كانت الخطوة
األوىل لتحدي الليربالية وصعودها تتمثل يف الثورة البلشفية يف روسيا يف العام .1917
إذ مل تؤ ِد هذه الخطوة إىل إخراج روسيا من الحرب العاملية األوىل فقط ،بل جعلتها
أيضا ُم َم ِّثلة لفكرة عاملية بديلة من االقتصاد السيايس للحداثة .لقد أقام االتحاد ً
السوفييتي دولة /مجتم ًعا شمول ًيا واقتصادًا موج ًها ضد الرأساملية الفردية والليربالية
الدميوقراطية الخاصة بالغرب .ورسعان ما تح َّولت هذه الثنائية األيديولوجية إىل
ثالوث مع استيالء الفاشيني عىل إيطاليا خالل عرشينيات القرن املايض ،وعىل أملانيا
وإسبانيا واليابان خالل الثالثينيات من القرن نفسه(٭) .كام قدمت الفاشية فكرة
بديلة عن االقتصاد السيايس للحداثة ،ولكنها كانت فكرة ض ِّيقة األفق وليست
عاملية ،حيث كانت تجمع بني الدولة /املجتمع الشمويل ورأساملية الدولة ،مع
إضافة جرعة كبرية من الداروينية االجتامعية العنرصية .وهكذا ،باإلضافة إىل الشد
والجذب الطبيعي عىل مستوى ميزان القوى ،ظلت عالقات القوى الكربى خالل
سنوات ما بني الحربني مدفوعة باملنافسة األيديولوجية القامئة بني نزعتني كونيتني
متناقضتني ،وباملنافسة األيديولوجية القامئة بني كل واحدة من تلك األيديولوجيات،
وأيضا مبجموعة من القوميني املتطرفني ضيقي األفق. ً
وبطريقة أبطأ وأكرث دقة ،بدأت أيديولوجيات التقدم هذه يف الرتشيح والتآكل
داخل ِبن َية املركز -األطراف الخاصة باملجتمع الدويل العاملي االستعامري .لقد
شككت األفكار القومية بشأن السيادة الشعبية التي ُد ِفع بها من طرف الرئيس
(٭) لقد كانت اليابان حكومة عسكرية باإلضافة إىل إمرباطور -إله أكرث من كونها فاشية عىل النمط الغريب (Sims,
) .2001: 179–85; Totman, 2005: chs. 15–16لكنها كانت تتناسب مع الصيغة الفاشية ،وارتبطت بأملانيا وإيطاليا
يف تحالف املحور يف العام [ .1940املؤلفان].
118
العامل :1945-1919الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي
ويلسون يف رشعية الحكم االستعامري .وكذلك فعل الليرباليون فيام يتعلق بحقوق
اإلنسان الفردية وتقرير املصري للشعوب وحرية األسواق .وصار من املمكن استخدام
األفكار العنرصية لبناء تسلسل هرمي يزيح فيه اليابانيون والصينيون واألفارقة
يض عن القمة .فقد قدمت األفكار االشرتاكية أدوات ثورية ليس فقط وغريهم ال ِب َ
أيضا لإلطاحة بالحكومات اإلمربيالية .وهكذا ،كان مثة - ملحاربة الرأساملية ،ولكن ً
خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني -تجمع معني من الزخم يف الحركات املناهضة
لالستعامر يف دول األطراف.
كانت أمريكا الالتينية (باستثناء منطقة البحر الكاريبي) بالفعل مستقلة رسم ًيا،
ولكنها خالل القرن العرشين شهدت إحيا ًء لنزعة مناهضة االستعامر .وتوق ًعا للتطور
الواسع إلنهاء االستعامر بعد العام ُ ،1945أعيدت صياغة نزعة مناهضة االستعامر
تلك لتكون نزعة تسعى إىل إنهاء التبعية االقتصادية والسياسية أكرث من كونها
مطل ًبا لالستقالل الرسمي .ففي بريو تأثر القومي البريويف خوسيه كارلوس مارياتغي
José Carlos Mariáteguiبكل من املهامتا غاندي وماو تيس تونغ باإلضافة إىل
ليون تروتسيك وفالدميري لينني وأنطونيو غراميش والثوار األيرلنديني .ورمبا كانت
الحركة املناهضة لالستعامر يف الهند هي األكرث اتساعًا وتأث ًريا عرب الحدود بني هذه
الحركات خالل تلك الفرتة ،لكنها مل تكن حركة فردية .قاد غاندي ،الذي عاد إىل
الهند يف العام 1915بعد أن قاد حملته «الالعنف» (ساتياغراها ،Satyagraha
أو «حب الحقيقة») ضد العنرصية البيضاء يف جنوب أفريقيا ،إذ كان مذهبه يف
الالعنف مصدر إلهام لنيلسون مانديال ومارتن لوثر كينج .ولكن عىل الرغم من
التأثري املهيمن لغاندي ،فإن الفكر واملقاربة الهنديني ملناهضة االستعامر مل يكونا
ينتميان إىل نوع واحد .إذ كانت املقاربات األخرى ثورية وبارزة عىل نحو خاص يف
منطقة البنجاب (مع الثوري بهجت سينغ) والبنغال (واملفكر أوروبيندو غوش)،
(أطلق عليه الربيطانيون لقب «إرهايب»)؛ والقومية الهندوسية (التي دافعت عنها
حركة هندوتفا بزعامة يف دي سافاركار(٭) ،وهي الحركة الناشئة يف عرشينيات القرن
(٭) هندوتفا hindutvaهو الشكل السائد للقومية الهندوسية يف الهند .حظي املصطلح بشعبية منذ إطالقه من قبل
مؤسسه فيناياك دامودار سافاركار يف العام .1923وقد تبناها حزب بهاراتيا جناتا كأيديولوجية رسمية له يف العام .1989
تزعم هندوتفا أن «الهندوس» يجب أن يهيمنوا عىل الهند ،وأن عىل الدولة أن تكون ذات هوية «هندوسية»[ .املرتجم].
119
تشكيل العالقات الدولية العاملية
املايض) .عالوة عىل ذلك ،ويف تح ٍد لنهرو ،دعا سوبهاس شاندرا بوس إىل التعاون
مع القوى الفاشية لترسيع استقالل الهند .وهكذا ،بدأ البعض عىل األقل يف دول
األطراف يف توقع اقتطاع دور يف توازن القوى داخل دول املركز.
ويف أفريقيا ،تراوحت املقاومة ضد االستعامر بني مقاطعة التجارة الخاصة
باملنتجات االستعامرية ،والكفاح املسلح الرصيح .ففي أفريقيا الناطقة باإلنجليزية
-غانا ونيجرييا وكينيا وأوغندا وتنزانيا وجنوب أفريقيا -تشكلت الحركات املناهضة
لالستعامر يف عرشينيات القرن املايض ،عىل الرغم من أنها مل تصبح قوية إال بعد
الحرب العاملية الثانية .وحصل هذا يف حني كان الوضع يف أفريقيا الناطقة بالفرنسية
مختل ًفا .وعىل عكس الربيطانيني الذين اعتربوا مستعمراتهم حضارات منفصلة وأقل
مزيجا من الحكم املبارش وغري املبارش ،عَد الفرنسيون مستعمراتهم جز ًءاشأ ًنا واتبعوا ً
من الحضارة الفرنسية ،واتبعوا سياسة الدمج الرسمي يف األمةُ .قسمت الحركات
املناهضة لالستعامر يف أفريقيا الناطقة بالفرنسية إىل أولئك الذين قبلوا بالهوية
الثقافية الفرنسية لكنهم طالبوا باملساواة الرسمية ،وأولئك الذين رفضوا الدمج
ملصلحة االستقالل والهوية مع الثقافة والقيم األفريقية األصلية .وكانت معظم تلك
الحركات توجد يف فرنسا نفسها وليس يف املستعمرات ،وهو وضع مل يتغري إال بعد العام
.Goebel, 2015 ; Elam, (2017) 1945وقد كان الحتالل قوات موسوليني إثيوبيا
يف العامني 1935و 1936تأثري مضاعف يف تأجيج القومية األفريقية .حيث أصبحت
هزمية إثيوبيا للغزو اإليطايل يف العام 1896رمزًا للمقاومة األفريقية لالستعامر.
خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني ،اتخذت القومية العربية طاب ًعا معاد ًيا
حساًم ،وذلك عىل عكس «النهضة العربية» التي كانت سائدة للغرب عىل نحو أكرث ً
يف القرن املايض ،والتي كانت موجه ًة سياس ًيا ضد الحكم العثامين ولكنها سعت
ثقاف ًيا إىل التعلم من الغرب (عىل األقل جزء منها بقيادة العرب املسيحيني) .وكان
لهذا عالقة كبرية بإنشاء االنتداب الربيطاين والفرنيس يف ظل عصبة األمم بعد الحرب
العاملية األوىل ،خاصة مع حصول بريطانيا عىل االنتداب عىل العراق وفلسطني
ورشق األردن ،وفرنسا عىل لبنان وسورية .لقد د َّمر هذا االنتداب أي آمال فورية
الستقالل العرب ،وأدى وعد بلفور الربيطاين ،الذي يتصور إنشاء وطن لليهود ،إىل
مزيد من املعارضة لالستعامر الغريب.
120
العامل :1945-1919الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي
وعىل رغم ذلك ،مل تولِّد هذه التطورات خالل هذه الفرتة ً
ضغطا كاف ًيا لالستقالل
من شأنه تهديد ِبنية الحكم اإلمرباطوري الغريب والياباين ملا وراء البحار .لذلك ،وفيام
يتعلق ببنية املجتمع الدويل العاملي ،استمرت سنوات ما بني الحربني إىل حد كبري
مع الصيغة األوىل للنظام االستعامري الغريب الذي ُأنشئ خالل القرن التاسع عرش.
ُبذلت جهود كبرية لرتميم هذا النظام وتعزيزه ال سيام من خالل ترميم االقتصاد
العاملي ومتابعة سياسة الحد من التسلح وبناء هيكل دائم للمنظامت الحكومية
الدولية العاملية .غري أن االنقسامات الحاصلة بني القوى الكربى؛ والتي كانت تقوم
جزئ ًيا عىل أسس أيديولوجية وجزئ ًيا بسبب االنتقام والقيادة الضعيفة ،ق َّوضت هذا
املرشوع .وسنتطرق ملزيد عن هذا املوضوع يف القسم التايل.
إن النقطة األساسية التي يجب توضيحها هنا هي أن الحرب العاملية األوىل
مل يكن لها تأثري كبري يف ِبنية املجتمع الدويل العاملي .إذ كان تأثريها الرئيس ،كام
لوحظ ،يتمثل يف دفع االنقسامات األيديولوجية إىل صدارة عالقات القوى الكربى.
غرَّيت توزيع القوة من خالل تدمري اإلمرباطوريتني كام أن الحرب العاملية األوىل َّ
النمساوية املجرية والعثامنية ،وخفض مرتبة أملانيا ،وإضعاف بريطانيا وفرنسا،
وتقوية الواليات املتحدة واليابان .ولكن بخالف ذلك ،ظلت السامت الرئيسة
للصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي االستعامري الغريب عىل حالها .فقد صارت
بنية املركز -األطراف ونظام االستعامر موضع تساؤل عىل نحو أكرث ً
قلياًل من قبل،
أيضا نظام العنرصية (عدم لكنهام ظال يشكالن بني ًة ونظا ًما رشعيني .وكذلك فعل ً
املساواة البرشية) الذي دعم النزعة االستعامرية واحتضنته القوى الفاشية كعقيدة
لها ودعم لتطلعاتها اإلمربيالية .إن التغيريات الحاصلة عىل مستوى توزيع القوة
كانت التزال تحافظ عىل ِبنية متعددة األقطاب عىل نحو عام .وعىل رغم وجود
بعض التغيريات يف املواقع داخل إطار القطبية التعددية ،فإن أوروبا ظلت املحور
املركزي لسياسات القوة ،مع استمرار متوقع اليابان والواليات املتحدة عىل الحواف.
مل تكن مثة تغيريات جوهرية يف املبادئ التنظيمية للمجتمع الدويل العاملي،
فالسيادة ا ُملقسمة ،واإلقليمية ،والقومية ،والديبلوماسية ،وميزان القوى ،والقانون
الدويل والحرب كلها مل تتغري إىل حد كبري .وحتى نظام عصبة األمم كان أصل ًيا
فقط يف نطاق طموحاته :فلم تكن فكرة املنظامت الحكومية الدولية الدامئة فكرة
121
تشكيل العالقات الدولية العاملية
(٭) تعتمد هذه املناقشة عىل نحو كبري عىل[ .Koyama and Buzan, 2018 :املؤلفان].
122
العامل :1945-1919الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي
الخاصة املرتبطة بحركة امليجي .وكام يرى جان يانسن ويورغن أوسرتهاميل
)« :Jan Jansen and Jürgen Osterhammel (2017: 61كانت اليابان القوة
االستعامرية الوحيدة قبل العام 1945التي رأت فرصة يف تقوية املدينة الكربى
من خالل مخطط إضفاء الطابع الصناعي عىل أطراف اإلمرباطورية» .ويتفق بروس
كامينغز Bruce Cumingsمع هذا الطرح )« :(1984: 12–13قبل العام 1945
وطنت الصناعات الثقيلة كانت اليابان من بني القوى اإلمرباطورية القليلة جدًا التي َّ
الحديثة يف مستعمراتها :الصلب؛ واملواد الكيميائية؛ ومنشآت الطاقة الكهرومائية
يف كوريا ومنشوريا؛ وإنتاج السيارات فرتة من الوقت الحقا .وبحلول العام 1945
كان لدى كوريا بنية تحتية صناعية ،وعىل رغم انحيازها الشديد نحو املصالح
الحرضية ،فإنها كانت من بني األفضل تطو ًرا يف العامل الثالث» .كام ُيظهر أتول
كوهيل ) (2004: 25–61بالتفصيل كيف أن الحكم االستعامري الياباين كان أكرث
اخرتا ًقا وتحدي ًثا من الربيطانيني والفرنسيني ،حيث أعاد تشكيل الزراعة الكورية،
وح َّول الهياكل الطبقية والسياسية وإلغاء العبودية ،وأسهم يف خلق اقتصاد حديث
موجه إىل التصدير مع إيجاد قطاع صناعي كبري .ويروي براسونجيت دوارا ()2003
قصة مامثلة عن منشوريا ،حيث يكشف أن الهجرة الداخلية الكبرية من الصني إىل
منشوريا ،والتي كانت مستمرة منذ تسعينيات القرن التاسع عرش ،استمرت عىل
قدم وساق خالل فرتة االحتالل الياباين .وبينام قاوم بعض الصينيني استيالء اليابان
عىل السلطة ،انجذب كثريون نحو الفرص االقتصادية املتزايدة وفرصة الهروب من
فوىض أمراء الحرب .وعىل الرغم من أن تلك كانت من دون شك دو ًاًل استعامرية
َقه ِرية وقمعية ،فإن اليابان نجحت يف استاملة قطاعات كبرية من مجتمعات هذه
املستعمرات ،خصوصا يف كوريا ( .)Tudor, 2012: 19وقد حصلت تايوان ً
أيضا عىل
بنية تحتية كبرية للنقل والتنمية الصناعية .فاليابان تعاملت مع تايوان ،مثل كوريا،
نواح عديدة عىل أنها جزء منها ،مبا يف ذلك توسيع نظامها التعليمي الشامل من ٍ
ليشمل السكان ( .)J. Gray, 2002: 456ومن املؤكد أن استغالل اليابان ملستعمراتها
ومحاولتها تجاوز ثقافتهم وهويتهم و َّلد معارض ًة ،ولكن مع كل ذلك مارس الكوريون
مهاًم يف استعامر اليابان ويف تحديث كل من بلدهم ومنشوريا ،وبني العامني دو ًرا ً
1910و 1940حققت كل من كوريا وتايوان متوسط منو للناتج املحيل اإلجاميل أعىل
123
تشكيل العالقات الدولية العاملية
من اليابان بنسبة 3.36يف املائة ،ومنت القدرة التصنيعية لكوريا بنسبة 10يف املائة
سنو ًيا (.)Cumings, 1984: 2
عىل رغم استعامرها وهزميتها يف نهاية املطاف ،فإن االنتصارات املبكرة لليابان
عىل الواليات املتحدة وبريطانيا وفرنسا والهولنديني خالل عامي 1941و1942
حطمت مرة أخرى أسطورة القوة البيضاء يف آسيا ،وم َّهدت الطريق عىل نحو كبري
إلنهاء االستعامر الذي أعقب تلك املرحلة (.)Westad, 2007: 88–9
حققت محاولة إنعاش االقتصاد العاملي بعض النجاح خالل عرشينيات القرن
املايض ،حيث تعافت التجارة العاملية إىل حد ما بعد الحرب ،وكانت إعادة إنشاء
معيار الذهب باعتباره أساساً لنظام مايل عاملي أم ًرا ً
فعااًل إىل حد ما .وقد انهار نظام
القرن التاسع عرش هذا خالل الحرب العاملية األوىل ،ولكن بحلول أواخر العرشينيات
من القرن املايض عادت عديد من الدول إليه مجددا.
كانت النجاحات الرئيسة يف الحد من التسلح تتمثل يف معاهدة واشنطن
البحرية ( )1922وبروتوكول جنيف ( )1928الذي يحظر استخدام األسلحة الكياموية
والبيولوجية يف الحروب .وقد تناول كالهام القضايا الناشئة عن الحرب العاملية
األوىل :أي سباق التسلح البحري الذي سبق الحرب والذي كان مسؤو ًاًل عنها جزئ ًّيا؛
واستخدام األسلحة الكيميائية يف أثناء الحرب .وحددت معاهدة واشنطن ِن َسب
السفن الرأساملية بني القوى البحرية الخمس الرئيسة ،وسمحت بإلغاء البوارج عىل
نطاق واسع وأوقفت إىل حد كبري برامج البناء البحري الطموحة التي كانت التزال
تأت من الحرب .كام أعاد بروتوكول جنيف فعل ًّيا فرض حظر ُو ِضع تتمتع بزخم ُم ٍّ
عمل تحضرييٌّ خالل أيضا ٌ
ألول مرة يف مؤمترات الهاي قبل نشوب الحرب .كان مثة ً
العرشينيات من القرن املايض ألجل مؤمتر عاملي لنزع السالح ،وذلك لتنفيذ الوعود
التي جرى التعهد بها يف معاهدة فرساي .ويف العام 1925قطعت معاهدة لوكارنو
بعض األشواط نحو تطبيع العالقات مع أملانيا ،وتأكيد التسوية اإلقليمية للحرب.
دعاًم واس ًعا لحظر الحرب كأداة رشعية ويف العام 1928نال ميثاق كيلوغ برييان ً
لسياسة الدولة ،وقد ُأرفق هذا امليثاق بالقانون العام للتسوية السلمية للمنازعات
الدولية .كان هذا ُي َعد مثاليا حتى يف ذلك الوقت .لكنه عكس الصدمة التي سببتها
الحرب العاملية األوىل والخوف الذي و َّلدته من تكرار مثل هذا الحدث ،كام قدم
أساسا لقوانني الحرب وجرامئها التي ستأيت الحقا.
ً
خالل ثالثينيات القرن العرشين انهارت إىل حد كبري العنارص األساسية املرتبطة
بهذه املحاولة الرامية إىل تقوية املجتمع الدويل العاملي .لقد ُأض ِعفت عصبة األمم
منذ البداية ،وتم ذلك بشكل رئيس من خالل استخدام حق النقض ضد عضوية
وأيضا بسبب السالم العقايب ضد الواليات املتحدة من ِقبل االنعزاليني األمريكينيً ،
أملانيا التي مل ُتق َبل عضويتها يف عصبة األمم حتى العام .1926وقد انسحبت عدة
126
العامل :1945-1919الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي
دول يف أمريكا الالتينية من عصبة األمم خالل عرشينيات وثالثينيات القرن املايض.
كام انسحبت القوى الفاشية الكربى خالل الثالثينيات من القرن نفسه :انسحبت
اليابان يف العام 1933بسبب رفض اآلخرين االعرتاف بدولتها العميلة يف مانشوكو؛
وانسحبت أملانيا يف العام 1933ظاهر ًيا بسبب فشل مؤمتر عصبة األمم لنزع
السالح؛ وانسحبت إيطاليا يف العام 1937بسبب العقوبات املفروضة عليها بسبب
غزوها إلثيوبيا؛ كام ُط ِرد االتحاد السوفييتي يف العام 1939بسبب غزو فنلندا.
فشلت عصبة األمم يف الصمود باعتبارها آلية إلدارة األمن الجامعي ،وذلك بسبب
ضعف وانقسام قيادة القوى الكربى من جهة ،وبسبب التوقعات غري الواقعية
والقدرات الضعيفة إلنفاذ القرارات من جهة أخرى .مل يكن الرأي العام مساملًا عىل
الصعيد العاملي كام كان مأمو ًاًل ،إذ إنه أ َّيد يف بعض البلدان السياسات القومية
العدوانية .فاملصالح املتباينة القامئة بني القوى الكربى رسعان ما دمرت أي فرصة
لإلجامع الذي كان ميكن أن يكون رضوريا لتحقيق األمن الجامعي.
إن الوهن نفسه الذي أصاب عصبة األمم عىل إثر غياب الواليات املتحدة أ َّثر
أيضا يف االقتصاد العاملي .فقد كانت بريطانيا ضعيفة اقتصاد ًّيا بسبب الحرب إىل ً
درجة أنها مل تكن قادرة عىل استئناف القيادة املالية والتجارية ،بينام كانت الواليات
املتحدة؛ التي ق َّوتها الحرب مال ًّيا وصناع ًّيا عىل نحو كبري ،غري راغبة سياس ًّيا يف تويل
الدور القيادي ( .)Kindleberger, 1973: 28, 292وأدى انهيار السوق يف العام
1929يف الواليات املتحدة برسعة إىل التوجه نحو النزعة الحامئية وانهيار التجارة
العاملية ومعيار الذهب ،حتى أن بريطانيا ُأجربت عىل الخروج من معيار الذهب
يف العام ،1931والتخيل عن التجارة الحرة يف العام W. Ashworth, 1975:( 1932
.)chs. 8–9; Foreman- Peck, 1982: chs. 7–8; Gilpin, 1987: 127 – 31
لقد تالىش ذلك الزخم الذي كان يقف وراء كل من سياسة الحد من التسلح
وحظر الحرب خالل ثالثينيات القرن العرشين .فاملؤمتر العاملي لنزع السالح
الذي انعقد يف العام ،1932انهار برسعة يف العام ،1933ويرجع ذلك جزئ ًّيا إىل
تعقيدات التمييز بني األسلحة الهجومية والدفاعية ،وجزئ ًّيا إىل أملانيا التي رفضت
قبول القيود العسكرية املستمرة والدونية بينام رفض اآلخرون نزع السالح إىل
مستواها .وقد بدأت الحكومة النازية الجديدة يف برلني يف إعادة التسليح ،وحذا
127
تشكيل العالقات الدولية العاملية
اآلخرون حذوها .وجرى التخيل عن القيود املفروضة عىل أعداد وأنواع األسلحة،
تسلح يشبه إىل حد ما ذلك الذي سبق الحرب العاملية األوىل .وعىل ٍ وبدأ ُ
سباق
الرغم من الخوف من الحرب الذي اليزال قو ًّيا داخل الدول الساعية إىل الحفاظ
عىل الوضع القائم ،فإن الخوف من الهزمية أطلق العنان لدينامية األسلحة
الصناعية والتحسينات النوعية والكمية الرسيعة عىل نحو كبري .مل يسبب حظر
الحرب سوى التخيل عن إعالن الحرب عندما غزت دول مثل إيطاليا واليابان
بلدانا أخرى .وقد ُق ِّوضت الحركات السلمية القوية يف أماكن مثل بريطانيا عندما
أجربت أحداث مثل الحرب األهلية اإلسبانية عديدا من دعاة السالم االشرتاكيني
عىل االختيار بني مساملتهم ومعارضتهم للفاشية.
باختصار ،وبحلول منتصف الثالثينيات من القرن العرشين ،كانت محاولة إعادة
بناء نظام ما قبل الحرب تشهد تراجعا تاما .فقد كانت عصبة األمم تشهد فشال
واضحا يف منع القوى الكربى من غزو البلدان األخرى ،كام كانت أملانيا تكرس القيود
والعقوبات املفروضة عليها مبوجب معاهدة فرساي .وانهار االقتصاد العاملي ،مع
التخيل عن معيار الذهب ورفع الحواجز الجمركية يف كل مكان تقري ًبا .ودخلت
جميع القوى الكربى عىل نحو متزايد يف لعبة صفرية بغرض محاولة إنشاء تكتالت
اقتصادية ذات اكتفاء ذايت .كانت محاولة كبح دينامية األسلحة تتهاوى ،ورشعت
القوى الكربى واحدة تلو األخرى يف برامج إعادة التسلح .حيث بدت فكرة إمكانية
حظر الحرب ساذج ًة بشكل ميؤوس منه ،وازداد االحتفاء بالحرب بني القوى الفاشية
باعتبارها تشكل مصري األمة.
ُتفرس القيادة الضعيفة للمجتمع الدويل العاملي ً
بعضا من هذا االنهيار ،ولكن
التآزر القوي بني إقحام األيديولوجيا يف عالقات القوى الكربى ،والضغط الذي ال
هوادة فيه لدينامية األسلحة الصناعية يقدمان تفسريا أشمل .فقد أدى التقسيم
األيديولوجي ثاليث االتجاهات إىل جعل ميزان القوى وتوازن التهديد والحسابات
أمورا صعبة ومعقدة للغاية .هل كانت الدميوقراطيات الليربالية مهددة أكرث من ِقبل
الشيوعية أم من ِقبل الفاشية؟ وهل كانت الفاشية مهددة أكرث من ِقبل الشيوعية
أم من ِقبل الدميوقراطية الليربالية؟ وهل كان الشيوعيون أكرث عرضة للتهديد من
ِقبل الفاشيني أم من ِقبل الدميوقراطيات الليربالية؟ ويف ظل هذه الظروف ،هل
128
العامل :1945-1919الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي
ميكن أن يكون عدو عدوي صديقي؟ مل يكن ملثل هذه األسئلة إجابات واضحة
تؤدي إىل إجامع سهل .ومام زاد من تعقيد هذه الحسابات ،كانت تلك التغيريات
الرسيعة الحاصلة يف التوازن العسكري الذي أحدثته مسارات إعادة التسلح األملانية
واليابانية والسوفييتية ،وردود الفعل الناشئة تجاهها يف فرنسا وبريطانيا والواليات
املتحدة .مل تكن هذه التغيريات كمي ًة فقط (عدد الطائرات والسفن والدبابات
أيضا .وكانت األجيال الجديدة من األسلحة أكرث والقوات) ،بل كانت تغيريات نوعية ً
فاعلية من األجيال القدمية ،وكانت لبعض األشياء الجديدة متا ًما ،مثل الرادار ،القدرة
عىل تغيري اللعبة متا ًما.
لقد ش َّكل انهيار االقتصاد العاملي والسباق ألجل بناء تكتالت اقتصادية ذات
اكتفاء ذايت متغريا إضافيا إىل هذا الجو املشحون .حيث أعادت هذه الحركة التجارية
عىل نحو أسايس تأسيس الصلة بني االزدهار والسيطرة عىل األرض .وبذلك ،زادت من
حدة التوترات القامئة داخل املركز بني القوى الساعية إىل الحفاظ عىل الوضع القائم
والقوى الساعية إىل تغيري ذلك الوضع .كانت القوى «التي متلك» ،مثل بريطانيا
وفرنسا والواليات املتحدة ،من أوائل التحديثيني الذين كانت لديهم بالفعل مجاالت
نفوذ و/أو إمرباطوريات ميكن تحويلها إىل تكتالت اقتصادية .وكانت القوى «التي
ال متلك» ،مثل أملانيا وإيطاليا واليابان وروسيا ،يف وقت الحق من دعاة التحديث
«مَت ُّلك» (أو يف حالة أملانيا وروسيا إعادة َ َمَت ُّلك) إمرباطورياتهم
الذين احتاجوا إىل َ َ
الخاصة حتى ال ُيط َردوا .يف ظل هذه الظروف ،كان تحقيق األمن الجامعي شيئا
مستحياًل .إن منطق «تقريب العامل» الذي استخدمه بعض املحللني الجيوسياسيني ً
لرشح الحرب العاملية األوىل كان يعمل عىل نحو أكرث كثافة يف الفرتة التي سبقت
الحرب العاملية الثانية .وبحلول الثالثينيات من القرن العرشين كان هذا املزيج قد
أشعل رشارة نزعة إمربيالية تنافسية إلعادة تقسيم األطراف االستعامرية من ِقبل
قوى املركز الكربى التي وضعت العامل بثبات عىل طريق الحرب العاملية الثانية.
كام ميكن اعتبار الحربني م ًعا نوعًا من الحرب األهلية األوروبية (Preston, 2000:
) .153–4إذ كان مثة فيهام كثري من االستمرارية وأوجه الشبه .ومرة أخرى ،كانت
أملانيا تتموضع يف قلب اإلشكالية األوروبية .فالحرب العاملية األوىل مل تحل مشكلة
قوة أملانيا يف قلب أوروبا ،وال استيائها من وضعها داخل املجتمع الدويل العاملي.
والواقع أن التسوية القاسية يف فرساي أدت إىل تفاقم الحالة األخرية ،إذ ساعدت يف
متهيد الطريق أمام ظهور النزعة الفاشية االنتقامية يف أملانيا .لقد اتخذت تحالفات
شكاًل مشاب ًها متا ًما لتلك التي كانت موجودة خالل الحربالحرب العاملية الثانية ً
العاملية األوىل ،مع اصطفاف بريطانيا وفرنسا وروسيا والواليات املتحدة يف نهاية
املطاف ضد أملانيا وإيطاليا ومختلف بقايا اإلمرباطورية النمساوية املجرية .وأدى
فشل محاولة تعزيز املجتمع الدويل العاملي خالل عرشينيات القرن املايض إىل إطالق
ديناميات التنمية والتسلح نفسها التي زعزعت استقرار عالقات القوى الكربى قبل
الحرب العاملية األوىل .حيث زادت روسيا وأملانيا واليابان برسعة من قوتها الصناعية
والعسكرية ،وكانت أسلحة جديدة مثل القاذفات ُتنبئ بجعل الحرب جديدة
أيضا ،مثلها مثل الحرب ومختلفة متا ًما عن سابقاتها .كانت الحرب العاملية الثانية ً
العاملية األوىل ،حد ًثا اختص به املركز إىل حد كبري ،حيث كانت دول األطراف تعترب
مبنزلة مصدر إمداد لها ،مبا يف ذلك األعداد الكبرية من القوات ،وأيضا مبنزلة هدف
للمنافسة بني القوى الكربى .وقد ظلت القومية ذات النزعة الداروينية االجتامعية
متارس تأثريا قويا يف سلوك العالقات الدولية وتأطريها ،واتخذت الفاشية ً
شكاًل أكرث
تطر ًفا مام كانت عليه قبل العام .1914
كانت مثة بعض االختالفات عىل مستوى التحالفات ،حيث انضمت اليابان إىل
بداًل من االنضامم إىل بريطانيا ،وبقيت تركيا عىل الحياد ،ومل تنشق قوى املحور ً
إيطاليا عن أملانيا يف بداية الحرب .لكن هذا االختالف كان طفي ًفا نسب ًّيا مقارنة
باختالفني اثنني آخرين :األيديولوجيا والنطاق .ففي حني أن الحرب العاملية األوىل
رشا بني القوى الكربى بشأن توازن القوى والقومية، كانت يف األساس رصاعًا مبا ً
كانت الحرب العاملية الثانية ،يف النهاية ،متثل معركة بشأن األيديولوجيا :ما
هي صيغة االقتصاد السيايس للحداثة التي كانت ستصبغ املستقبل؟ ويف
حني أن القومية انترصت إىل حد كبري يف كل مكان ،فإن التناقضات املتأصلة
130
العامل :1945-1919الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي
يف األيديولوجيات الثالثة األخرى للتقدم خالل القرن التاسع عرش مل تكن قد
ُح َّلت بعد .فقد كانت االشرتاكية والليربالية والفاشية مبنزلة ورثة رشعيني لثورات
الحداثة .وبحلول الثالثينيات من القرن العرشين كان الجميع منغمسني بقوة يف
منافسة القوى الكربى ،وذلك سع ًيا إىل حل املشكالت القامئة بينهم عن طريق
القتال .من جهة ،كانت هناك األيديولوجية الفاشية الضيقة األفق التي هددت
بجلب التسلسالت الهرمية االستعامرية الخاصة بالعرق والهيمنة اإلمربيالية إىل
داخل املركز .ومن جهة أخرى ،كانت هناك أيديولوجيتان كونيتان؛ الرأساملية
الليربالية والشيوعية الشمولية ،حيث وعدتا بتقديم رؤى مختلفة لكيفية تنظيم
الجنس البرشي ككل بغية امليض قد ًما بالحداثة .وقد حدث هذا االصطفاف عن
طريق املصادفة .يف العام 1939حاولت اليابان مهاجمة االتحاد السوفييتي لكنها
هُ زمت ،وعقدت سال ًما معه واتجهت جنو ًبا ضد الواليات املتحدة .ويف العام
1941كرس هتلر اتفاقه مع ستالني ومل يغ ُز االتحاد السوفييتي فقط ،بل أعلن
أيضا.الحرب عىل الواليات املتحدة ً
كانت الحرب العاملية الثانية أكرب بكثري من حيث النطاق والشدة من الحرب
العاملية األوىل .لقد كانت ،يف الواقع ،اندماجا لحربني إقليميتني :واحدة يف أوروبا
كانت متثل الجولة الثانية من الحرب العاملية األوىل ،واألخرى يف شامل رشق آسيا.
وقد جاءت هذه األخرية نتيج ًة ل َت َباعُ د اليابان عن الواليات املتحدة وبريطانيا خالل
سنوات ما بني الحربني املوصوفة أعاله ،ومحاولتها بناء معقل إقليمي لها يف رشق
آسيا بإمكانه أن يصمد أمام الضغط الغريب .بدأت حرب رشق آسيا هذه بشكل
جدي يف العام 1937مع غزو اليابان للصني ،واندمجت مع الحرب األوروبية يف
العام 1941عندما هاجمت اليابان الواليات املتحدة واغتنم هتلر هذه الفرصة
إلعالن الحرب عىل الواليات املتحدة .وعىل الرغم من طبيعتها العاملية املندمجة،
فإن الحرب العاملية الثانية ظلت تتمحور حول أوروبا .كانت أملانيا أكرث قوة وتهديدًا
من اليابان؛ ألنها كانت متلك إمكانية توحيد املركز الصناعي ألوروبا بأكمله وتصبح
قوة عظمى عاملية .إذ مل يكن لدى اليابان ال النية وال القدرة عىل غزو الواليات
املتحدة ،مبا يهدد عىل نحو أسايس بإعادة انتداب املستعمرات الغربية الضعيفة يف
آسيا واملحيط الهادئ ملصلحتها.
131
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أدى هذا االندماج بني حربني إقليميتني إىل حرب عاملية حقيقية ذات رهانات
إمربيالية أكرب بكثري .فخالل الحرب العاملية األوىل ،كان الرشق األوسط فقط هو
الذي يشكل محل نزاع خطري ،مهام كانت األحالم الواسعة التي قد تكون لدى
أملانيا بشأن إخراج الربيطانيني من الهند .ويف أماكن أخرى ،كام هو الحال يف أفريقيا
ورشق آسيا ،كان تطهري املستعمرات األملانية مسألة ثانوية نسب ًّيا .لكن خالل الحرب
العاملية الثانية ،مل يكن الرشق األوسط وشامل أفريقيا فقط عىل املحك ،ولكن
أيضا اإلمرباطوريات االستعامرية يف جنوب وجنوب رشق آسيا .عىل مدى كانت مثة ً
بعض الوقت ،هددت أملانيا وإيطاليا موقع بريطانيا يف البحر املتوسط ومرص ،كام
وسعت األسلحة الجديدة سيطرت اليابان عىل جنوب رشق آسيا وهددت الهند .لقد َّ
حسنة نطاق العمليات العسكرية ،وباستثناء الواليات املتحدةُ ،جلبت الجبهة وا ُمل َّ
الداخلية عىل نحو مكثف إىل الرصاع ،خصوصا من خالل القصف العنيف للمدن.
وميكن من خالل التمعن يف األرقام املامثلة للضحايا ،رؤية بعض األفكار املتعلقة
باالختالف يف كل من النطاق الواسع والتقنيات الجديدة اللذين أنتجتهام حرب
القوى الكربى :نحو 15مليون قتيل خالل الحرب العاملية األوىل ،و 41مليون قتيل
خالل الحرب الثانية (.)Clodfelter, 2002
وبسبب هذه االختالفات كانت عواقب الحرب العاملية الثانية أكرب بكثري
من عواقب الحرب األوىل .وكام يحاجج بوزان ولوسون ( ،)2014aفإن مجموعة
األحداث التي كانت دائرة خالل الحرب العاملية الثانية تستحق املكانة التي تتمتع
بها باعتبارها تاريخا مرجعيا أوليا لحقل العالقات الدولية ،يف حني أن الحرب العاملية
األوىل ُتصنف فقط باعتبارها تاريخا مرجعيا ثانويا .لقد أسهمت الحرب العاملية
األوىل عىل نحو طفيف نسب ًّيا يف تغيري سواء البنية املادية أو املعيارية للمجتمع
غرَّيت الحرب العاملية الثانية الكثري .فبعد العام 1919استمرتالدويل العاملي ،بينام َّ
الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي .وبعد العام 1945كانت التغيريات كبرية
مبا يكفي لتربير تسمية ما أنتجته الحرب بالصيغة األوىل ا ُمل َعدَّلة للمجتمع الدويل
العاملي .وقد تجسدت النتائج الرئيسة للحرب العاملية الثانية فيام ييل:
-إزاحة فرنسا وأملانيا وإيطاليا واليابان ،والحقا ،بريطانيا من أعىل سلم
ترتيب القوى.
132
العامل :1945-1919الصيغة األوىل للمجتمع الدويل العاملي
-وصول األسلحة النووية وما يرتتب عىل ذلك من عودة املعضلة الدفاعية
عىل نحو أكرث حدة (الخوف من الحرب يفوق الخوف من الهزمية) .وقد عزز وضع
التكنولوجيا العسكرية الذي ُت ُو ِّصل إليه بحلول العام 1945فكرة أن الحرب كانت
غري منطقية ،ألنه سيكون من املستحيل التمييز بني املنترصين والخارسين؛ حيث
أوجدت األسلحة النووية ألول مرة إمكانية انتحار األنواع البرشية .وكام حدث بعد
الحرب العاملية األوىل؛ ولكن هذه املرة بقوة أكرب ،كانت الفكرة السارية تتمثل يف
أن نشوب حرب جديدة من شأنه أن يهدد وجود الحضارة برمتها ،وأن اإلشكالية ال
تكمن يف كيفية خوض مثل هذه الحرب ،ولكن يف كيفية إيقافها لكيال تتكرر مرة
أخرى.
خالصات
لقد حددت نتيجة الحرب العاملية الثانية السامت الرئيسة التي كانت تهيمن
عىل العالقات الدولية حتى نهاية الثامنينيات من القرن العرشين:
-تنافس أيديولوجي ومادي مكثف وعىل نطاق عاملي بني القوتني العظميني.
-صعود الصني بوصفها زعيام سياسيا ثالثا يف لعبة القوة واأليديولوجيا الكربى.
-دينامية غري مقيدة إىل حد كبري بالنسبة إىل األسلحة من شأنها أن تستمر يف
ضخ أسلحة جديدة و ُم َح َّسنة يف النظام الدويل ،مام يخلق زعزعة مستمرة لعالقات
القوتني العظميني.
-إشكالية كبرية للغاية بشأن كيفية التعامل مع التأثري الهائل لألسلحة النووية
يف أهداف ومامرسات الحرب.
-كيفية التكيف مع تفكك النزعة االستعامرية ،والتضاعف الرسيع لعضوية
املجتمع الدويل العاملي الذي وصل إىل ثالثة أضعاف ،حيث إن معظم األعضاء
الجدد كانوا ضعفاء عىل الصعيدين السيايس واالقتصادي ،وبعيدين عن استيعاب
ثورات الحداثة وإدماجها يف شؤونهم الداخلية .فبعد نزع الرشعية عن االستعامر،
كيف ميكن إذن للواقع االقتصادي -الذي اليزال غري متسا ٍو إىل حد كبري وينبني عىل
ثنائية املركز /األطراف الخاصة بالصيغة األوىل املعدلة للمجتمع الدويل العاملي -أن
يدار يف إطار نظام تنمية جديد؟
134
احلديثة
4
مقدمة
لقد حاججنا يف الفصل الثاين بأنه طوال
القرن التاسع عرش وخالل الحرب العاملية األوىل،
كان مثة قد ٌر كب ٌري من التفكري والتنظري الذي من
شأنه ،وفقا ملعايري اليوم ،أن ُي َعد حقال للعالقات
الدولية .لقد َتركز كثري من هذا التفكري والتنظري
يف بلدان املَ ْر َكز عَا ِكسا تصوراتها واهتامماتها؛
مبا يف ذلك التمييز القوي بني العالقات القامئة
رِّضة» داخل بني الدول والشعوب «ا ُملت ََح ِّ َ
املجتمع الدويل ،والعالقات القامئة بني الشعوب
رِّضة» وتلك الشعوب التي استعمرتها. «ا ُملت ََح ِّ َ
لقد أدى التفكري من منظور التسلسل الهرمي «إن الحرب ومؤمتر السالم للعام 1919
وإنشاء عصبة األمم كانت كلها مرتبطة
العرقي والتنموي دورا مركزيا يف كثري من هذا ارتباطا وثيقا بظهور حقل العالقات
الحقل قبل أن ُي َق َّعد .وكان مثة بعض املؤرشات الدولية كتخصص معريف»
135
تشكيل العالقات الدولية العاملية
سيِس عليه من حيث الكتب واملجالت والدورات املبكرة عىل إضفاء الطابع ا ُمل َؤ ِ
الجامعية ،إذ إن معظمها تطور فقط يف العقد أو العقدين السابقني للحرب العاملية
قليل من بلدان املَ ْر َكز واليابان .كان مثة تفكري بشأن حقل العالقات األوىل داخل عد ٍد ٍ
الدولية يف األَ ْط َراف أيضا ،حيث كان الكثري منه مدفوعا بنزعة مناهضة االستعامر
والعنرصية (البيضاء) ،حيث مل يتخذ بعدُ هذا التفكري شكال أكادمييا .ومل يكن «لحقل
العالقات الدولية قبل تقعيده» تسمية جامعية بعدُ ،لكن التفكري املعني به كان
قد غطى كثريا من أجندة حقل العالقات الدولية املعارص .واختتمنا الفصل بالقول
سسة للعام 1919كانت يف أفضل األحوال متثل نصف الحقيقة. إن «األسطورة» ا ُمل َؤ َ
صحيح أنه بدءا من العام 1919أصبح حقل العالقات الدولية مجاال للدراسة يعتمد ٌ
ْ
عىل الوعي الذايت ،واكتسب درجة كبرية من املَأ َس َسة .وإنه من الصحيح أيضا أن
صدمة الحرب العاملية األوىل أعادت توجيه تركيز أولويات هذا املجال الجديد نحو
اإلشكالية األساسية ا ُملتمثلة يف الحرب والسلم بني القوى الكربى يف عامل تسوده
االنقسامات األيديولوجية الحادة .لكن ليس من الصحيح التسليم بأن التفكري
املنهجي والتنظري ألجل حقل العالقات الدولية الحديث كان قد بدأ يف العام .1919
مثلام ُحوجج يف الفصل الثالث ،فإنه عىل رغم أن الحرب العاملية األوىل عطلت
أشياء كثرية ،فإنها مل تحطم بنية املجتمع الدويل العاملي االستعامري أو التسلسالت
الهرمية العرقية والتنموية التي قام عليها .وألن العالقات الدولية كمامرسة ظلت
للم ْج َت َمع الد َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب ،فقد كانت
داخل إطار الصيغة األوىل ُ
االختالفات الرئيسة التي كانت قامئة بشأن العالقات الدولية باعتبارها حقال معرفيا
تكمن يف إضفاء الطابع ا ُملؤسيس عليه ،ويف هَ َو ِس دول املَ ْر َكز بإشكالية الحرب
والسلم بني القوى الكربى .يف الواقع ،لقد أدت صدمة الحرب إىل زيادة تهميش
االهتامم بعالقات املَ ْر َكز -األَ ْط َراف كجزء من العالقات الدولية سواء باعتبارها حقال
معرفيا أو مامرسة .فخالل سنوات ما بني الحربني العامليتني ،كان مثة ،إذن ،استمرارية
كبرية للغاية مع أجندة تفكري حقل العالقات الدولية ملا قبل العام ،1914وكان هذا
صحيحا سواء يف داخل املَ ْر َكز أو األَ ْطراف .لذلك ،ميكننا استخدام ال ِبنية العامة نفسها
يف هذا الفصل مثلام فعلنا يف الفصل الثاين ،وذلك ألجل التمعن يف تفكري حقل
العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز ،ثم داخل األَ ْط َراف .بيد أننا سننظر أوال إىل إضفاء
136
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
الطابع املؤسيس عىل هذا الحقل املعريف يف جميع أنحاء العامل ،وهو ما ميثل جوهر
االدعاء التأسييس للعام .1919
- 1 - 1املَ ْر َكز
ليس مثة شك يف أن الحرب العاملية األوىل أثارت تغيريا طفيفا يف دراسة حقل
العالقات الدولية ،حيث أسهمت يف صعوده كمجال دراسة رسمي معرتف به ،أو
حتى كتخصص أكادميي (تباينت اآلراء بشأن هذا األمر يف ذلك الوقت ،كام هي
الحال اآلن ،بني تفسريات ضيقة وأخرى أوسع) .ومل تحدث هذه املأسسة وإضفاء
الطابع الرسمي عىل خلفية حرب مدمرة ومكلفة للغاية فقط ،ولكن أيضا عىل
خلفية مؤمتر فرساي للسالم وتشكيل عصبة األمم .وهكذا ،كان إنشاء حقل العالقات
الدولية متشابكا مع املشاعر املناهضة للحرب ومع اآلمال املعقودة عىل عصبة األمم
الجديدة كضامن للسالم العاملي ،وهو ما تبلور يف شكل قوي من النزعة املثالية .لقد
أدَّى صعود الرأي العام ووسائل اإلعالم منذ أواخر القرن التاسع عرش دورا متزايدا
يف العالقات الدولية كحقل معريف وكمامرسة ،خصوصا بعد العام ،1919وكان عنرصا
كبريا يف املشاريع «الطوباوية» للسالم العاملي واألمن الجامعي (Seton- Watson,
) .1972مل تظهر الرغبة يف إخراج العالقات الدولية من أيدي الديبلوماسيني واملهنيني
إال بعد الحرب العاملية األوىل .حيث يالحظ إدوارد كار ( )1964 :2أن تغري املزاج،
مع «التحريض» ضد املعاهدات الرسية ش َّكل «أول أعراض املطالبة بتعميم السياسة
الدولية التي َّبرَّشت مبيالد علم جديد» .كام يردد كل من مايكل بانكس ()1985 :10
وإيكهارت كريبندورف ( )1989 : 34وجهة النظر املألوفة القائلة إن الحرب ومؤمتر
السالم للعام 1919وإنشاء عصبة األمم كانت كلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بظهور
حقل العالقات الدولية كتخصص معريف.
137
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ومثلام لوحظ يف الفصل الثاين ،كانت الخطوة الرمزية األوىل إلضفاء الطابع
املؤسيس عىل العالقات الدولية هي منح كريس وودرو ويلسون يف السياسة الدولية
يف جامعة أبرييستويث يف العام .)Booth, 1996: 328, 330( 1919وقد كان الهدف
من تأسيس هذا القسم الجديد هو «إصالح عائلة األمم املمزقة»(٭) وترسيخ دعم
عصبة األمم .مثة كثري من الدالئل لدعم الرأي القائل إن اململكة املتحدة كان لها
دور مهم ،إن مل يكن األهم ،يف نشأة العالقات الدولية الحديثة مثلها مثل الواليات
املتحدة .فبعد تأسيس قسم السياسة الدولية يف جامعة أبرييستويث ،تأسس املعهد
املليك للشؤون الدولية؛ الذي يشار إليه عادة باسم تشاتام هاوس ،يف العام 1920
( )Olson, 1972وبدأ يف نرش مجلته «الشؤون الدولية» يف العام .1922وتأسس
كريس إرنست كاسل للعالقات الدولية يف العام 1924يف كلية لندن لالقتصاد ،وكان
فيليب نويل بيكر هو أول من شغل هذا املنصبَ .ت ِب َع ذلك قسم كامل للعالقات
الدولية يف الكلية نفسها يف العام ،1927حيث أصبح كريس إرنست كاسل هو كريس
مونتاج بريتون بدءا من العام (1936٭٭) .ويف العام ُ 1930أنشئ كريس مونتاج
بريتون للعالقات الدولية يف جامعة أكسفورد.
كان إضفاء الطابع املؤسيس عىل العالقات الدولية خالل سنوات ما بني الحربني
العامليتني يف الواليات املتحدة أكرث غزارة ،وقد اشتمل ذلك عىل إنشاء أقسام ومعاهد
ومراكز فكر يف العالقات الدولية.
ففي العام 1918تأسست رابطة عصبة األمم الحرة لدعم ُم ُثل ويلسون عن
«السالم العادل» ،وكان من بني مؤسسيها جون فوسرت داالس وإليانور روزفلت.
وشهد العام 1921إنشاء مجلس العالقات الخارجية الذي تأسس مبهمة «تحمل
عقد مؤمتر مستمر بشأن املسائل الدولية التي تؤثر يف الواليات املتحدة ،من خالل
الجمع بني الخرباء يف فن الحكم والتمويل والصناعة والتعليم والعلوم»(٭٭٭) .وكان
) www.aber.ac.uk/en/interpol/about/history/ (Accessed 29 September 2017).٭(
)http://blogs.lse.ac.uk/internationalrelations/201726/04//foundation-and-history-of-the-٭٭(
international-relations-department/ (Accessed 29 September 2017).
[املؤلفان].
) www.cfr.org/who-we-are (Accessed 29 September 2017).٭٭٭(
[املؤلفان].
138
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
مجلس العالقات الخارجية «منزال شقيقا» لشاتام هاوس بلندن ،وباملثل عمل كمركز
فكر ُم َوجه للسياسة (َ .)Olson, 1972: 13ت ِب َع ذلك يف العام 1923إعادة تشكيل
رابطة عصبة األمم الحرة لتصبح جمعية السياسة الخارجية ،والتي كانت تقدمية
إىل حد ما وكانت مبنزلة بديل ملجلس العالقات الخارجية ذي التوجه املحافظ
( .)Vitalis, 2005: 175واشتملت املنشورات الرئيسة الصادرة عن الجمعية عىل
تقارير السياسة الخارجية؛ ونرشة السياسة الخارجية؛ وسلسلة العناوين الرئيسة.
سلكت الجامعات طريق معاهد البحث يف هذا املوضوع .ففي العام 1919
أطلقت جامعة جورجتاون مدرسة والش إدموند للخدمة الخارجية ،كام ُأسست
لجنة العالقات الدولية بجامعة شيكاغو يف العام 1928من قبل كوينيس رايت
وهانز مورغنثاو ،و َتزْعُ م أنها «أقدم برنامج دراسات عليا يف أمريكا يف الشؤون
الدولية»(٭) .تبع ذلك يف العام 1930إنشاء جامعة برينستون ملدرستها للشؤون
(س ِميت الحقا باسم وودرو ويلسون يف العام .)1948وتأسست العامة والدولية ُ
كلية فليترش للقانون والديبلوماسية بجامعة تافتس يف العام .1933ويف العام
1935تأسس معهد ييل للدراسات الدولية بقيادة نيكوالس سبيكامن Nicholas
Spykmanوفريدريك دون (Frederick Dunn٭٭) ،ويف العام ُ 1936أنشئت كلية
الدراسات العليا لإلدارة العامة يف جامعة هارفارد .وقد تأسست كلية الدراسات
الدولية املتقدمة يف العام 1943يف واشنطن العاصمة (أصبحت جزءا من جامعة
جونز هوبكنز يف العام .)1950يالحظ شميدت ( )1998a: 155–7أنه بحلول
أوائل الثالثينيات من القرن العرشين يف الواليات املتحدة ،كان هناك 204مقررات
جامعية بشأن العالقات الدولية ،و 67بشأن املنظمة الدولية ،و 196بشأن القانون
الدويل ،والعديد من الكتب املدرسية لحقل العالقات الدولية لالختيار من بينها.
وكان من املعامل البارزة األخرى إنشاء معهد عالقات املحيط الهادئ يف العام
1925يف هونولولو؛ «أول مركز دراسات إقليمي رسمي يف الواليات املتحدة»
) https://cir.uchicago.edu/content/about (Accessed 29 September 2017).٭(
[املؤلفان].
(٭٭) ُأغ ِلق املعهد يف العام 1951بعد هروب جامعي للكلية إىل برينستون بعد مواجهة مشاكل مع رئيس جامعة
ييل الجديد[ .املؤلفان].
139
تشكيل العالقات الدولية العاملية
عديد من البلدان ،وازداد عدد املشاركني يف املؤمتر إىل أكرث من مائة .ك َّرس املؤمتر
السنوي للدراسات الدولية ( )ISCكثريا من وقته ملحاولة تحديد نطاق ومحتوى
تخصص العالقات الدولية الجديد .وعىل رغم أن هذا املؤمتر عُ ِّلقَ خالل الحرب
العاملية الثانية ،فإنه ُأعيد إحياؤه من جديد فرتة وجيزة بعد ذلك ،لينتهي يف العام
.)Long, 2006 ; Riemens, 2011( 1954كان للمؤمتر السنوي للدراسات الدولية
دور رائد يف إضفاء الطابع املؤسيس عىل حقل العالقات الدولية األكادميي الذي
انطلق خالل الخمسينيات من القرن العرشين .وكان هذا املؤمتر السنوي خاضعا
لهيمنة أمريكية /أوروبية /أصحاب البرشة البيضاء عىل نحو أسايس ،مع وجود
هيئات وطنية يف عضويته ،عىل الرغم من أنه كان يضم مندوبني من الهند والصني
ومرص واليابان وتركيا كانوا قد شاركوا فيه أيضا (.)Riemens, 2011: 920
إن التطور املثري لالهتامم يف كل هذا يكمن يف دور املؤسسات األمريكية يف
متويل مسارات املأسسة املبكرة لحقل العالقات الدولية ( .)Kuru, 2017كان لهذه
املؤسسات نظرة عاملية ليربالية عىل نطاق واسع ،وكانت تعارض االنعزالية األمريكية
وأرادت تعزيز «مقاربة هندسية» عملية يف العلوم االجتامعية –(Kuru, 2017: 50
) .3لقد مول كل من روكفلر وكارنيجي اجتامعات املؤمتر السنوي للدراسات الدولية
( :)ISCمول كارنيجي كرايس حقل العالقات الدولية يف برلني وباريس يف منتصف
عرشينيات القرن املايض؛ بينام مول روكفلر معهد السياسة الخارجية يف هامبورغ
يف العام 1923ومعهد ييل للدراسات الدولية يف العام .1935وهكذا ،يف الوقت
الذي ابتعدت فيه السياسة األمريكية عن املسؤوليات الدولية ،كانت املؤسسات
الرأساملية األمريكية تفعل بالعكس.
وعىل رغم تطور مسار مأسسة حقل العالقات الدولية ،مل يكن مثة اتفاق بشأن
اسم هذا التخصص املعريف .فكان كريس جامعة أبرييستويث ُيسمى بكريس «السياسة
الدولية» وليس «العالقات الدولية» .آخرون مثل إدوارد كار وهانز مورغنثاو،
استخدموا أيضا مصطلح «السياسة الدولية» ،وكان مصطلح «الدراسات الدولية»
يؤدي دورا قويا أيضا .حيث عُ د حقل العالقات الدولية فرعا من العلوم السياسية
كام هو واضح يف الواليات املتحدة (Schmidt, 1998a: 55; L. Ashworth,
) ،2014: 13; Kuru, 2017: 46ومثلث مصطلحات «السياسة الدولية» و«السياسة
141
تشكيل العالقات الدولية العاملية
العاملية» التسميات األكرث وضوحا .كام حملت بعض الكتب املبكرة مصطلح
«العالقات الدولية» يف عناوينها ،مثل كتاب غرانت وآخرين «مقدمة لدراسة
العالقات الدولية» Introduction to the Study of International Relations
) ،(1916وكتاب ديفيد باليفري هيتيل «الديبلوماسية ودراسة العالقات الدولية»
) ،Diplomacy and the Study of International Relations (1919وكتاب
إدموند والش «تاريخ وطبيعة العالقات الدولية» The History and Nature of
) .International Relations (1922تناولت هذه الكتب مواضيع متنوعة مبا يف
ذلك االقتصاد والتاريخ والقانون ،لكنها ركزت عىل نحو خاص عىل الديبلوماسية.
وقد كتب الباحث األمرييك رميوند ليزيل بويل Raymond Leslie Buellيف العام
1925كتابا بعنوان «العالقات الدولية» ،International Relationsورمبا كان
أول كتاب مدريس عن العالقات الدولية .وخالل ذلك الوقت ،كان هذا الكتاب
املدريس األمرييك يعد األكرث مبيعا ،حيث كان مخصصا ألحد فروع علم السياسة،
أي العالقات الدولية ( .)Vitalis, 2005: 159كام أن نص فريدريك لويس شومان
Frederick Schumanيف العام 1933جاء أيضا تحت عنوان «السياسة الدولية»
(.)Schmidt, 1998a: 213
َ -1-2
األ ْط َراف
مل نتمكن من العثور عىل دليل ملأسسة حقل العالقات الدولية يف أمريكا
الالتينية أو أفريقيا أو الرشق األوسط ،عىل الرغم من أن هذه قد تكون فرصة
بحثية لآلخرين .وعىل رغم ذلك ،كانت مثة تطورات مهمة جارية يف اليابان ،وبدرجة
أقل يف الهند والصني ،ورمبا أيضا يف أماكن أخرى .لقد الحظنا أعاله أن مندوبني من
الهند والصني ومرص واليابان وتركيا شاركوا يف املؤمتر السنوي للدراسات الدولية
( ،)ISCوهذه الحقيقة تشري إىل أن تلك البلدان كان لديها َم ْأ َس َسة ِبدَا ِئية لحقل
العالقات الدولية .واملنطق نفسه ينطبق عىل مؤمترات «معهد عالقات املحيط
الهادئ» التي عُ قدت يف اليابان ( )1929والصني ( .)1931يستشهد مايكل رمينز
) Michael Riemens (2011: 925بدراسة لعصبة األمم ُصنفت فيها اليابان يف
الطبقة الثانية من الدول (بعد بريطانيا والواليات املتحدة يف الدرجة األوىل ،وإىل
142
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
جانب أسرتاليا وفرنسا وإيطاليا وكندا) ،من حيث الجودة وعمق وإضفاء الطابع
املؤسيس عىل دراسات حقل العالقات الدولية الخاص بها؛ وجاءت الهند يف املرتبة
الثالثة بني اليابان والصني؛ فيام احتلت الصني املرتبة الرابعة ،مام يعني أن بعض
خرباء العالقات الدولية «األفراد» كانوا نشطني يف هذا املجال ،ولكن مع القليل من
املأسسة أو دونها.
ويف اليابان كان مثة مؤسسات ُت َد َّر ُس فيها «السياسة الدولية» ،مثل كلية وكريس
جامعة طوكيو (التي كانت ُتسمى آنذاك جامعة طوكيو اإلمرباطورية) والتي تأسست
يف العام 1924؛ وجامعة واسيدا Waseda Universityالتي قدمت مقررا دراسيا يف
العام .)Kawata and Ninomiya, 1964:193–4( 1932ويف الهند كان أول معهد
مخصص لدراسة حقل العالقات الدولية هو املعهد الهندي للشؤون الدولية الذي
شكلته الحكومة الربيطانية يف ثالثينيات القرن العرشين .وعىل رغم ذلكُ ،أنشئ هذا
املعهد و ُك ِّون من طرف أعضاء من السلطات االستعامرية .وكان رد النخبة املثقفة
الهندية هو إنشاء مركز فكر ُسمي باملجلس الهندي للشؤون العاملية ( )ICWAيف
نواح عديدة نشأةالعام ،1943والذي كام أوضحنا يف الفصل السادس شكل من ٍ
تطور تخصص العالقات الدولية يف الهند.
إن قصة حقل العالقات الدولية بني الحربني العامليتني يف الصني مثرية للجدل
والتزال خاضعة للبحث .يتخذ معظم الباحثني؛ الذين يتتبعون تأريخ حقل العالقات
الدولية يف الصني ،يف العام 1949كنقطة انطالق لهم (Song, 2001 ; Zhang, F.,
.)2012aغري أنهم تجاهلوا حقيقة وجود حقل للعالقات الدولية يف الصني خالل
فرتة ما قبل الشيوعية .إذ إن معظم الباحثني الصينيني ال يدركون بعدُ هذا اإلرث.
إن تطور العالقات الدولية يف الصني يف فرتة ما قبل الحرب العاملية الثانية محجوب
بالتطورات السياسية ملا بعد الثورة الشيوعية للعام .1949حيث ُيحاجج لو بينج
( Lu Peng )2014بأن مجال الدراسات الدولية كان راسخا يف الصني خالل فرتة
النظام القومي وذلك مبساعدة الباحثني الذين مترسوا يف الغرب ،ولكن بعد الثورة
الشيوعية ،تخىل الباحثون عن ذلك اإلرث .لقد اتبع حقل العالقات الدولية يف
الصني قبل العام 1949موضوعات ومقاربات؛ من قبيل القانون والتنظيم الدوليني،
كانت شائعة يف الغرب ،مع وجود جامعات مثل جامعة تسينغهوا University
143
تشكيل العالقات الدولية العاملية
( Tsinghuaالتي أصبحت ُتسمى بعد ذلك بجامعة تسينغهوا الوطنية)؛ وجامعة
بكني؛ وجامعة سانت جون يف شنغهاي (أسسها مساعدون أمريكيون يف العام
1879ولكن أغلقتها الحكومة يف العام ،)1952حيث أخذت هذه الجامعات زمام
املبادرة يف هذا املجال .يف تلك الجامعات كان مثة تركيز واضح عىل دراسة مكانة
الصني يف العامل وعالقات الصني مع العامل ،مع العلم أن تخصص العالقات الدولية
ظل منفصال عن السياسة الصينية الداخلية ،عىل رغم وجوده يف أقسام العلوم
السياسية (.)Lu, 2014
144
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
بأي سلطة أعىل منها كان السبب األكرث أهمية لنشوء الحرب» (Schmidt, 1998b:
) .444لقد كان «الطوباويون» ُمدركني متاما جانب سياسة القوة يف حقل العالقات
الدولية ،وكانوا يحاولون إيجاد طرق للسيطرة عليها وإدارتها (Long and Wilson,
) .1995 ; Wilson, 1998; L. Ashworth, 2002وعىل رغم ذلك ،يوضح بيرت
ويلسون ( )1998أنه عىل الرغم من تعرضه النتقادات شديدة عندما ُنرش للمرة
األوىل يف العام ،1939فإن كتاب إدوارد كار «أزمة العرشين سنة» The Twenty
Years’ Crisisطرح نقاشا قويا كان له تأثري كبري يف ذلك الوقت ،وأيضا يف فرتة ما
بعد العام .1945وكبقية كل هذه األساطري ،مل يكن النقاش املثايل -الواقعي بال
عواقب أو من دون قيمة .ومثلام أشار إىل ذلك سكوت بورشيل Scott Burchill
وأندرو لينكالتر ) Andrew Linklater (2013: 9فإن «أسطورة النقاش الكبري
بني الواقعيني واملثاليني أعطت للتخصص املعريف للعالقات الدولية هويته خالل
السنوات التي أعقبت الحرب العاملية الثانية» .ومن ثم فإن النقاش الكبري األول ُي َعد
بناء لحقل العالقات الدولية بعد العام 1945أكرث من كونه متثيال ملا حدث خالل
سنوات ما بني الحربني العامليتني (.)L. Ashworth, 2014: 134–7
ولفهم هذا «النقاش الكبري األول» ،من املهم مرة أخرى أن نأخذ بعني االعتبار
الصلة القامئة بني العالقات الدولية كمامرسة؛ وحقلها املعريف .لقد نشأ التخصص
املعريف الجديد لحقل العالقات الدولية يف أعقاب كارثة الحرب العاملية األوىل
التي أطاحت باإلمرباطوريات؛ وسببت إفالس األمم؛ ودمرت جيال من الشباب.
لقد جرى خوض الحرب (يف النهاية) من قبل بريطانيا والواليات املتحدة تحت
شعار «الحرب ألجل إنهاء الحرب» ،وكان حقل العالقات الدولية الجديد مدفوعا
عىل نحو كبري بهذا الهدف .لقد سعى إىل فهم أسباب الحرب العاملية األوىل من
خالل الديبلوماسية الرسية وسباق التسلح وتوازن القوى .وخالل لعبة الشوطني
التي كانت قامئة يف أثناء فرتة ما بني الحربني العامليتني (انظر الفصل الثالث)،
هيمنت عىل النصف األول اآلمال املعلقة عىل عصبة األمم إليجاد إمكانية لحل
إشكالية الحرب عن طريق التحكم يف األسلحة؛ وتنوير الرأي العام واملؤسسات
الحكومية الدولية .يف الشوط الثاين ،وعندما كانت هذه اآلمال تتداعى ،أعادت
حقائق سياسات القوة تأكيد نفسها من جديد .وبينام مل يكن مثة «نقاش كبري»
145
تشكيل العالقات الدولية العاملية
عىل هذا النحو خالل هذه الفرتة ،كان هناك بالتأكيد مجموعة واسعة من اآلراء
بشأن كيفية التعامل مع إشكالية الفوىض يف أعقاب الحرب العاملية األوىل.
تراوحت تلك اآلراء بدءا من أولئك اآلملني أن يشكل الرأي العام قوة جديدة
يف مواجهة الحرب؛ ومرورا بأولئك الذين ع َّلقوا اآلمال عىل قدرة املؤسسات
الحكومية الدولية القوية يف التوسط إليجاد حلول ألسباب الحرب؛ ووصوال إىل
أولئك الذين كانوا يتطلعون إىل توازن القوى عىل الرغم من فشله خالل العام
.1914وخالل العرشينيات من القرن العرشين ،كان ألولئك الذين ينتمون إىل
الطرف الليربايل من هذا الطيف (وحتى االشرتايك إىل حد ما) سيطرة عىل حقل
العالقات الدولية(٭) .وكام ُذكر عن السري ألفريد زميرن Sir Alfred Zimmern؛
أول حائز كريس وودرو ويلسون يف أبرييستويث والباحث الذي كان ميثل الهدف
الرئيس النتقادات إدوارد كار ،قوله:
«لقد كان مثة حالة هلع عُ ِّ َرِّب عنها عن طريق إنشاء كريس وودرو ويلسون
للسياسة الدولية يف كلية جامعة ويلز أبرييستويث يف العام ،1919وهو أول كريس
جامعي عىل اإلطالق يف العامل .يكشف هذا الكريس الجامعي بوضوح كيف أن
النزعة التفاؤلية والنزعة املثالية العاملية الجديدة الشجاعة املرتبطة بالفرتة املبارشة
التي أعقبت الحرب؛ ركزتا عىل إنشاء عصبة األمم الجديدة يف مؤمتر باريس للسالم
يف العام .1919وقد عكست تسمية الكريس بعد ويلسون حقيقة أن فكرة عصبة
األمم كانت يف الواقع فكرة أنجلو-أمريكية» (.)Morgan, 2012
جسد ألفريد زميرن مثاال جيدا عن التفاعل العميق الدائم بني مفكري حقل َّ
العالقات الدولية وأولئك الذين كانوا يدافعون عن عصبة األمم ويروجون لها .فخالل
وجمع الجدل الذي الثالثينيات أصبحت األصوات الواقعية املتعالية أقوى من قبلَّ .
أحدثه إدوارد كار الليرباليني معا تحت مسمى ُّ
«الطو َبا ِويني» و«املثاليني» ،والذين،
كام الحظ ويلسون ( ،)1998: 1كانوا أكرث بقليل من «فئة واقعية سيئة االستغالل».
(٭) وكام يشري لوسيان أشوورث ( :)Lucian Ashworth 2014: 147–71كانت املواقف تجاه عصبة األمم أكرث
تعقيدا من أي انقسام بسيط بني اليسار واليمني .فقد كان عديد من املحافظني من املؤيدين األقوياء لعصبة األمم،
كام عارضها كثريون يف اليساريني .إذ إنه من املستحيل استخالص أي انقسام بسيط بني الواقعيني /املثاليني من
السياسة الفعلية لليوم[ .املؤلفان].
146
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
كان تأثري عمل إدوارد كار بعد العام 1945أكرث مام كان عليه خالل سنوات
ما بني الحربني العامليتني ،وقد فعل هذا العمل الكثري لتأسيس وجهة نظر واقعية
مفادها أن املشاريع «الطوباوية» للسيطرة عىل الحرب كانت حمقاء وخطرية .لكن
تجسد يف بعض النواحي طبيعة حقل العالقات فكرة «النقاش الكبري األول» كانت ِّ
الدولية الجديد ،خصوصا أنه يشتبك مع اإلشكالية التي كشفت عنها الحرب العاملية
األوىل واملتمثلة يف أن التصنيع جعل الحرب مكلفة ومدمرة للغاية بحيث ال ميكنها
أن تكون أداة عادية لسياسات القوى الكربى .لقد ُأسس حقل العالقات الدولية يف
وقت كان مثة شعو ٌر قوي بني النخب والجمهور بأن العامل (أو عىل نحو أكرث دقة
الحضارة الغربية) كان يف أزمة ،مع وجود فرص حقيقية لحصول كارثة أو إنشاء
نظام عاملي جديد ( .)L. Ashworth, 2014: 138مثة الكثري من الكتابات بشأن نقد
إدوارد كار للنزعة الطوباوية (ومختلف تفسرياتها الخطأ) إىل درجة أنه ليس من
الرضوري يف هذا السياق إعادة النظر فيها بيشء من التفصيل (.)M. Cox, 2001
حيث تم فيها تحدي تصنيف إدوارد كار باعتباره واقعيا ُم َ
عرَتَفا به .فإدوارد كار كان
ينتقد يف بعض األحيان النزعة الواقعية بقدر ما كان ينتقد النزعة املثاليةُ ،محاججا
بأن «االنحدار املفاجئ من قمة اآلمال الحكيمة للعقد األول [ ]1929-1919نحو قاع
اليأس الكئيب للعقد الثاين [ ]1939-1929كان عالمة عىل التحول «من الطو َبا ِوية
التي مل تأخذ بعني االعتبار الواقع إال قليال ،إىل الواقع الذي استُبعد فيه ،وعىل نحو
صارم ،كل عنرص من عنارص تلك الطو َبا ِوية» (.)Carr, [1939] 2016: 207
ففي نقده للطو َبا ِوية ،استهدف إدوارد كار عىل نحو خاص مبدأ «انسجام
املصالح» ،ومذهب التجارة الحرة واملؤسسات الدولية التي كانت متثلها آنذاك عصبة
األمم وعقيدتها األساسية لألمن الجامعي .إذ حاجج بأنه قد ُأعيد من خالل كتابات
«الطو َبا ِو َيني» ،من أمثال نورمان أنجيل ،Norman Angellتقديم عقيدة «دعه
يعمل» التي ع َّفى عليها الزمن بعد الحرب العاملية األوىل يف شكل مبدأ «انسجام
املصالح» ( ،)Carr, [1939] 2016: 49خصوصا يف الواليات املتحدة .وقد عُ د هذا
غري عميل بل وخطريا .شدد إدوارد كار عىل تبني النزعة الواقعية بديال من ذلك.
وعىل الرغم من أن عمله م َّثل عىل نحو أسايس رفضا للمثالية الويلسونية التي َن َّبأت
بالكثري عن تطور العالقات الدولية يف فرتة ما بني الحربني العامليتني ،فإنه كان يعتقد
147
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أن السياسة هي مزيج من القوة واألخالق .إذ ميكن املغاالة يف درجة االختالف بني
النزعتني املثالية والواقعية :فهام مل يتضمنا اختالفات جوهرية بشأن الرؤية للعامل.
وخالل التفسريات /إعادة التفسريات الحديثة ُأعيد تصنيف السري ألفريد زميرن
باعتباره « ِم َثاليا َح ِذرا» ،وهو الذي اختلف مع /وانتقد الطوباويني واالشرتاكيني األكرث
تطرفا من أمثال هارولد السيك ،Harold Laskiومل يتجاهل أهمية القوة وأولوية
القوى الكربى ،واعرتف بحدود وإخفاقات عصبة األمم (.)Rich, 1995
إن معظم األمثلة التي قدمها إدوارد كار عن مغالطات النزعة الطو َبا ِوية
ومنطق النزعة الواقعية مستمدة من التجربة األوروبية .فحجته القائلة بأن
نظرية العالقات الدولية املبكرة كانت مثالية يف جزء منها ألنها نشأت يف البلدان
الناطقة باللغة اإلنجليزية (الواليات املتحدة واململكة املتحدة) التي مل «تستفد»
مطلقا من الحرب ( ،)Carr, [1939] 2016: 50قد تبدو حجة موضع اعرتاض
ورفض ملن هم خارج الغرب .فقد رأى ضحايا االستعامر الغريب أن بريطانيا
وكذلك القوى االستعامرية األخرى يف أوروبا قد استفادت عىل نحو كبري من
الحروب االستعامرية.
ضمن هذا الهوس بشأن كيفية التعامل مع إشكالية حرب القوى الكربى،
استمرت جميع املوضوعات واملقاربات التي م َّيزت حقل العالقات الدولية قبل العام
1914يف أداء دورها .ومل يكن هذا أمرا مفاجئا نظرا إىل أن العديد من الشخصيات
الرئيسة يف حقل العالقات الدولية قبل العام 1914ظلت نشطة خالل سنوات ما بني
الحربني :جون أتكينسون هوبسون؛ وهالفورد ماكندر Mackinder؛ ونورمان أنجيل
وغريهم ( .)L. Ashworth, 2014: 137وإىل الحد الذي كانت فيه «املثالية» ليربالية
يف األساس كام يوحي هجوم إدوارد كار عىل أفكار االنسجام الطبيعي للمصالح،
كان النقاش الكبري يدور حول التوتر املستمر القائم بني «عوملة» النزعة الليربالية
و«املصلحة الوطنية» كام تطرحها النزعة الواقعية .فبعد الحرب العاملية األوىل كان
ُينظر إىل املنطق الواقعي عىل اعتبار أنه ميثل مشكال أكرث من كونه ميثل الحل،
مام سمح للتفكري الليربايل بعقد من الهيمنة .ولكن عندما أصبحت مقاربة الحرب
أكرث وضوحا خالل الثالثينيات من القرن العرشين ،انعكست تلك املواقف وبلغت
ذروتها يف الجدال الذي أثاره إدوارد كار.
148
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
لقد أدى الدافع الذي يقف وراء بروز «املثالية» الليربالية خالل عرشينيات
القرن العرشين إىل إنشاء منظمة دولية كمجال فرعي متميز لحقل العالقات
الدولية مثلام تطور يف الواليات املتحدة واململكة املتحدة يف فرتة ما بني الحربني
العامليتني .وقد ِصيغ العمل يف املنظمة الدولية بلغة مثالية ومعيارية ،وغالبا ما
اشتمل عملها عىل دراسات وتحليالت متع ِّمقة لعمل ووظائف املنظامت الدولية،
مع الرتكيز األسايس عىل عصبة األمم .الواقع ،يجادل بيتامن بنيامني بوتر Pitman
) B. Potter (1922يف كتابه املوسوم بـ «مقدمة لدراسة املنظمة الدولية» An
،Introduction to the Study of International Organizationبأن املنظمة
الدولية التي ُتص ِّورت عىل أنها «إجراء لتسهيل التنسيق واالنسجام الدويل بني
الدول» تختلف عن السياسة الدولية أو القانون الدويل عىل وجه التحديد ،وذلك
بسبب توجهها املثايل ( .)Schmidt, 1998b: 449–52إن عدد الكتب التي تبحث
يف آفاق «حكومة دولية» ،ولكنها أيضا تناشدها عىل نحو غري مبارش ،مثل كتب
هوبسون «نحو حكومة عاملية» Towards International Government
)(1915؛ وليونارد وولف « Leonard Woolfالحكومة العاملية» International
)Government (1916؛ وكاليد إغلتون « Clyde Eagletonالحكومة العاملية»
) ،International Government (1932كانت كتبا شاهدة عىل الخط املثايل
يف املنظمة الدولية .وباملثل ،ظل مفهوم املجتمع الدويل قويا خالل هذه الفرتة.
ومن بني الكتب التي تناولت هذه املقاربة يوجد :توماس جوزيف لورانس T. J.
« Lawrenceمجتمع األمم :ماضيه وحارضه ومستقبله املمكن» The Society
)of Nations: Its Past, Present and Possible Future (1923؛ وفيليب
مارشال براون « Philip Marshall Brownاملجتمع الدويل :طبيعته ومصالحه»
)International Society: Its Nature and Interests (1923؛ وس.ش بييل
« S. H. Baileyإطار املجتمع الدويل» The Framework of International
)Society (1932؛ وفيليكس موريل « Felix Morleyمجتمع األمم :تنظيمه
وتطوره الدستوري» The Society of Nations: Its Organization and
)Constitutional Development (1932؛ وألفريد زميرن «عصبة األمم وسيادة
القانون» ).The League of Nations and the Rule of Law (1936
149
تشكيل العالقات الدولية العاملية
عىل الرغم من اإلهامل الذي شاب إىل حد ما الروايات املتعلقة بالنقاش الكبري،
فإن العنرصية «العلمية» والقومية والجغرافيا السياسية مارست جميعها دورا يف
ذلك النقاش ،لينحاز معظمها إىل جانب سياسات القوة الواقعية .غالبا ما كانت
العنرصية والجغرافيا السياسية تعزز كل منهام األخرى مثلام حصل قبل العام .1914
فقد وصلت العنرصية «العلمية» إىل ذروتها خالل هذه الفرتة ال سيام يف الدول
الفاشية ،إذ اندمجت مع القومية املفرطة .وظل موقف التسلسالت الهرمية العرقية
ملا قبل العام 1914؛ والذي كان يحدد العالقات القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف ،من دون
تغيري إىل حد كبري .كام كان التطور الجديد ينحرص يف تكثيف السياسات العرقية
داخل املَ ْر َكز ،ولكن هذه املرة مع متييز للبيض داخل التسلسالت الهرمية العرقية
وتصنيفهم إىل أعراق آرية والتينية وسالفية .لقد أعاد الكتاب املهتمون بقضايا العرق
والسياسة العاملية ،مثل لوثروب ستودارد ) ،Lothrop Stoddard (1923: 12إحياء
النقطة التي ُرصدت يف الفصل األول ،والتي ترى أن انتصار اليابان عىل روسيا يف العام
1905كان يعني أن «أسطورة األبيض الذي ال ُيقهر قد فقدت بريقها ومصداقيتها».
وكام يالحظ روبرت فيتاليس ) ،Vitalis (2005: 159–60فقد كان مثة «طوفان من
الكتابات الجديدة وعمليات التنظري يف عرشينيات القرن املايض بشأن كل من العرق
والحرب العرقية» .وقد كتب إدوارد دو بويز ،الذي تطرقنا إليه يف الفصل الثاين بصفته
أحد دعاة النزعة الوحدوية األفريقية( ،عىل سبيل املثال يف مجلة الشؤون الخارجية)
عن العرق يف العالقات الدولية (ُ .)Vitalis, 2005: 172– 3يقدم إدوارد دو بويز
نظرة متبرصة مثرية لالهتامم بشأن انتشار العنرصية يف ذلك الوقت .وباعتباره طالبا
يف جامعة هارفارد ،كان عليه أن يكتب يف وقت الحق« :مل يكن من السهل عىل طالب
الشؤون الدولية املد َّرب يف املؤسسات البيضاء ومن طرف األيديولوجية األوروبية أن
يتبع العمل املخفي جزئيا املتعلق باملكائد الدولية ،والذي كان يحول اإلمرباطوريات
االستعامرية إىل خطر املنافسة املسلحة عىل األسواق واملواد الرخيصة والعاملة
الرخيصة .إن املستعمرات مازالت تعني االرتقاء باملستويني الديني واالجتامعي يف
الدعاية الحالية» .Du Bois, [1940] 1992: 232
يايِل قبل العام 1919وظلت مرِب ِ
كانت الجغرافيا السياسية أيضا مؤثرة يف التفكري ا ِإل ِ
كذلك حتى نهاية الحرب العاملية الثانية (.)L. Ashworth, 2013; Guzzini, 2013
150
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
ففي أملانيا التقط كارل هاوسهوفر Karl Haushoferأعامل كل من ماكيندر وراتزيل ملا
قبل العام 1914بشأن نظرية قلب األرض وليبنرساوم (مساحة املعيشة) ور َّكب بينهام.
إذ أسس مجلة الجغرافيا السياسية Zeitschrift für Geopolitikيف العام ،1924
وكان له بعض التأثري يف تفكري هتلر بشأن اإلسرتاتيجية الكربى ألملانيا (Ó Tuathail,
.)1998: 4, 19– 27; J. M. Hobson, 2012: 154–9; L. Ashworth, 2014:203–6
نشطا مع تبني رؤية تعتمد عىل نحو أقل عىل الحتمية الجغرافية وقد ظل ماكيندر ً
يف كتابه للعام 1919الذي حمل عنوان «املثل الدميوقراطية والواقع» Democratic
.Ideals and Realityيف كتاب آيسايا بومان IsaiahBowmanاملؤثر يف الواليات
املتحدة والصادر يف العام 1921واملوسوم بـ «العامل الجديد :إشكاليات يف الجغرافيا
السياسية» ُ ،The New World: Problems in Political Geographyم ِزج ً
أيضا بني
العوامل املادية والعوامل الفكرية يف فهم السياسة العاملية .كام ط َّور كل من آيسايا
انفتاحا
ً بومان وديرونت ويتلييس Derwent Whittleseyجغرافيا سياسية أكرث
ملواجهة النسخة األملانية ،ولتمهيد الطريق أمام اإلسرتاتيجية الكربى ذات التوجه
العاملي للواليات املتحدة ملا بعد العام (L. Ashworth, 2014: 141–7, 1945
أيضا ،التقط نيكوالس سبيكامن ( )1942أفكار ) .206–9ويف الواليات املتحدة ً
الحتمية الجغرافية وموضوع األرض يف مواجهة القوة البحرية من كل من ماكيندر
وماهان ،وذلك بغية الدفاع عن جيوبوليتيك الرميالند (حافة األرض) ضد مقاربة
«قلب األرض» القارية ملاكيندر ،وأن الواليات املتحدة ال ينبغي أن تعود إىل النزعة
االنعزالية بعد الحرب العاملية الثانية ( .)L. Ashworth, 2014: 206–13وقد تأثر
كل من نيكوالس سبيكامن وكارل هاوسهوفر باألفكار ا ُملتَأتية من الجغرافيا السياسية
والنزعة العنرصية «العلمية» ملا قبل العام 1914واملرتبطة بحامية األعراق البيضاء
واستخدام االحتواء اإلمرباطوري ملنع «الخطر األصفر» من االستيالء عىل الغرب .مل ير
املفكرون اآلخرون التهديد نفسه قاد ًما من الرشق كام فعل ماكيندر وماهان .حيث
يصف جيمس تايرن ( )1999: 58العلامء الجيوسياسيني مبا يف ذلك هوسوفر وراتزل
ورودولف كيلني Rudolf Kjellénبأنهم يطرحون «نظرية الدولة العضوية» ،بسبب
الرتكيز عىل املساحة التي تتطلبها الدولة للبقاء ،وذلك عىل عكس نظرية «تحسني
النسل» ملاكيندر وماهان.
151
تشكيل العالقات الدولية العاملية
مثة مثال آخر عىل التأثري السائد للنزعة العنرصية يتجسد عند وودرو ويلسون.
إن النظرة التقليدية لتطور حقل العالقات الدولية ُت َص ِّو ُر وودرو ويلسون باعتباره
بطال للمثالية وتقرير املصري والقيم الحرة .لكن وودرو ويلسون ،وعىل الرغم من
نشطا لسياسات العرق والتفوق األبيض عىل مؤهالته الليربالية ،فإنه كان داعي ًة ً
الصعيدين املحيل والدويل ( .)Vitalis, 2005: 168و ُيحاجج بول راهي ()2013
وجون هوبسون ( )2012: 167–75بأن وودرو ويلسون مل يكن تقدم ًّيا كام يصوره
تأريخ حقل العالقات الدولية ،ولكنه يف الحقيقة كان عنرص ًّيا بشدة .لقد كان تقرير
املصري الويلسوين طريقة أخرى للتعبري عن «الحاجة إىل مهمة حضارية إمربيالية
غربية يف الرشق البدايئ» ( .)J. M. Hobson, 2012: 168ومل يرغب الليرباليون مثل
وودرو ويلسون يف غرس التغيري بل أرادوا الحفاظ عىل الوضع القائم ،مثلام ينعكس
ذلك يف تصميم وعمل عصبة األمم .حيث كان نظام االنتداب الخاص بعصبة األمم
يف األساس عبارة عن استعامر باسم آخر .وكان أقوى مؤرش عىل عنرصية ويلسون
عىل املستوى الدويل يتمثل يف جهوده املستمرة لرفض إدراج بند املساواة العرقية
لليابان يف مؤمتر باريس للسالم .وعىل الصعيد املحيل سعى ويلسون إىل تربير
األنشطة العنرصية للبيض يف الجنوب؛ مبا يف ذلك نشاطات منظمة كو كلوكس
كالن(٭) ،مش ًريا إىل أنه ليس لديهم خيار كبري بسبب «التحرر املفاجئ واملطلق
للزنوج» ( .)cited in J. M. Hobson, 2012: 171وقد ح َّدد جيمس تايرن ()1999
كيف استبعدت الواليات املتحدة ،مبا يف ذلك خالل عهد ويلسون ،الفلبينيني من
الهجرة بسبب االختالف العرقي .لقد ب َّرر وودرو ويلسون ً
أيضا استعامر الفلبني،
بحجة أن األمريكيني ميكنهم تعليم الفلبينيني كيفية الحكم ،وتوفري إمكانية
تقرير املصري بعد تلقينهم هذه التعاليم الرضورية عن أسلوب الحكم الغريب
املتفوق (.)J. M. Hobson, 2012: 172–3
لقد فشلت مقاربة «النقاشات الكربى» لدراسة العالقات الدولية يف إدراك أنه
خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني أسهمت العنرصية والجغرافيا السياسية يف
(٭) باإلنجليزية Ku Klux Klanواختصارا تدعى أيضا ،KKKهي جامعة عنرصية متطرفة برزت بعد الحرب
األهلية بالواليات املتحدة ،قامت عىل اإلميان بتفوق العرق األبيض ونفذت هجامت دامية ضد السود واملتعاطفني
معهم عىل مدى 151عاما[ .املرتجم].
152
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
استمرار منط تفكري حقل العالقات الدولية ملا قبل العام ،1914كونهام كانتا مؤثرتني
ومعززتني إحداهام لألخرى .وباإلضافة إىل ذلك ،كانت كلتاهام تتموضع داخل إطار
املركزية األوروبية العامة لحقل العالقات الدولية ،وكانتا ملتزمتني بها .إذ ُيحاجج
جون هوبسون ( )2012بأن جميع نظريات العالقات الدولية ،بغض النظر عن أي
جانب من النقاشات كانت ترافع ألجله ،كانت تركز عىل الحفاظ عىل األفكار والقيم
الغربية ونرشها .حيث اتخذت هذه املركزية الغربية بسهولة محتوى عنرصيا .وقد
كان هوبسون محقا متا ًما يف َعدِّة مفكري العنرصية «العلمية» والجغرافيا السياسية
جز ًءا من «استمرارية قوية بني النظرية الدولية ملا قبل العام 1914وخليفتها يف فرتة
ما بني الحربني» (.)J. M. Hobson, 2012: 15
تعد االشرتاكية ،التي احت ُِضنت بعد العام 1917داخل قوة كربى ،جزءا آخر
ُم ْه َم ًاًل يف النقاش الكبري .ومثلام يالحظ لوسيان أشوورث ( ،)2014: 7كان مثة
«نقاش محتدم يف حقل العالقات الدولية يف الثالثينيات من القرن العرشين بشأن
دور الرأساملية كسبب للحرب» .فقد رفض عديد من االشرتاكيني النضال من أجل
خطا واحدًا من النزعة السلمية املناهضة للحرب خالل هذه وشكلوا ًّالرأساملية َّ
الفرتة .الواقع أن اليسار كان مجزأ متا ًما يف موقفه تجاه عصبة األمم ،حيث عارضها
البعض باعتبارها متثل أدا ًة للرأساملية ،يف حني عارض آخرون أي فكرة عن قوة
جيش أو رشطة دوليني ،بينام أراد آخرون إصالحها وتقويتها للمساعدة يف ترويض
السياسة الدولية ( .)L. Ashworth, 2014: 159–71وإىل الحد الذي أ َّثرت فيه
ابط آخرأيضا ر ٌ
أهداف السياسة الخارجية لستالني يف التفكري يف اليسار ،كان مثة ً
بني مامرسة العالقات الدولية وحقلها املعريف .فقد كانت سياسة ستالني تسعى إىل
منع اليابان وأملانيا من التحالف ضد االتحاد السوفييتي .ولالضطالع بذلك ،شجع
فرنسا وبريطانيا عىل التحالف ضد أملانيا ،وشجع اليابان عىل التورط يف الصني
وعىل أن تكون عىل خالف مع الواليات املتحدة (Paine, 2012: loc. 5672,
).2017: 149–56
أيضا استمرارية ألدبيات متميزة عن الحرب والدراسات اإلسرتاتيجية. كان مثة ً
ً
حاصاًل يف فرتة حيث سيطر املهنيون العسكريون عىل تلك األدبيات متاما مثلام كان
ما قبل العام .1914و َمَتثل االختالف يف أنه خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني
153
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كان هنالك تركيز أكرب عىل التقنيات الجديدة للدبابات والطائرات بوصفها طرقا
الستعادة القدرة عىل الحركة املرتبطة باألعامل الحربية .فقد دافع باسيل ليدل
هارت ) Basil Liddell Hart (1946عن حرب األسلحة املختلطة ،واكتشف جون
فريدريك فولر ) J. F. C. Fuller (1945الحرب املدرعة (وكلتاهام ال ُت ِقطتا من قبل
األملان كأساس لفكرة الحرب الخاطفة) .وكتب جوليو دوهيت Giulio Douhet
) ([1921] 1998عن القوة الجوية يف كتابه الكالسييك «قيادة القوة الجوية» The
.Command of the Airويف إشارة إىل ما سيحدث بعد العام (Buzan and 1945
أعامل ُأ ِعدت من طرف مدنيني يف هذا السياق؛ مل ٌ ) ،Hansen, 2009كان مثة ً
أيضا
أيضا عىل تنحرص فقط يف الدعاية املكثفة ألجل منظامت السالم ،ولكن اشتملت ً
أعامل األكادمييني مثل أعامل فيليب نويل بيكر Philip Noel- Bakerبشأن نزع
السالح وتجارة األسلحة ).Buzan, (1973
مثة نقطة أخرى تستحق التطرق إليها بشأن حقل العالقات الدولية لفرتة ما
بني الحربني ،وهي تشابك السياسة الدولية باالقتصاد الدويل .وكام يالحظ لوسيان
واع إىل حد كبري ،و َيتَأَىت ً
أساسا أشورث ( ،)2014: 253–4كان هذا املزج طبيع ًيا وغري ٍ
من حقل العالقات الدولية لفرتة ما قبل العام .1914وقد عُ ِّرِّب عن هذا املزج يف
أعامل ُكتَّاب عديدين من أمثال نورمان أنجيل؛ وكارل بوالين؛ وديفيد ميرتاين؛ وألربت
أوتو هريشامن.
إن أحد خطوط التفكري الجديدة التي مل تكن موجودة يف حقل العالقات
الدولية قبل الحرب العاملية األوىل و َتأَسس خالل سنوات ما بني الحربني َ َمَت َّثل يف
النزعة النسوية .رمبا يرجع تاريخ هذه النزعة إىل كتيب هيلينا سوانويك Helena
Swanwickللعام 1915بعنوان «النساء والحرب» Women and Warوالذي
ُكتب ملصلحة «اتحاد الرقابة الدميوقراطية» (UDC L. Ashworth, 2008, 2014:
)ُ .125–6يحاجج لوسيان أشوورث ( )2017بوجود حركة نسوية مؤثرة مبكرة يف
العالقات الدولية ،كانت تتمحور حول «الرابطة النسائية الدولية للسالم والحرية»
.WILPFفقد ط َّورت الكاتبات املرتبطات بهذه الحركة رؤية «لألمومة» بشأن
الحرب واألمن الجامعي ،بحجة أن النساء بوصفهن مانحات للحياة كان لهن منظو ٌر
ُمختلف عن منظور الرجال بشأن هذه القضايا .وقد ُق ِبل هذا املوقف وتأثريه يف
154
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
خطابات حقل العالقات الدولية اليوم .إن تجاهل هذا التطور النسوي املبكر يف
ٌ
حديث أكرث مام حقل العالقات الدولية جعل الحركة النسوية تبدو كأنها تطو ٌر
تبدو عليه يف الواقع.
وعىل الرغم من كل اختالفاتهم العديدة ،فإن مفكري حقل العالقات الدولية
لفرتة ما بني الحربني العامليتني كانوا متشابهني عىل نحو أسايس يف التعامل مع
اإلمربيالية ليس باعتبارها القضية املركزية لحقل العالقات الدولية ولكن باعتبارها
َع َرضا جانبيا ،ومل يقدموا سوى رفض جزيئ أو مرشوط لها .وقد م َّثل هذا نوعًا آخر
من العمى الذي أصاب فهم «النقاش الكبري» لحقل العالقات الدولية يف فرتة ما بني
الحربني العامليتني .إن نقد إدوارد كار الالذع للطوباوية قد طال اإلمربيالية أيضا،
لكنه َع َك َس روح العرص ومل يعتربها قضية مركزية .إذ اعترب إدوارد كار اإلمربيالية
عىل نحو أسايس مثاال عىل النفاق الطوباوي أو نقدا ألطروحة «انسجام املصالح»
املثالية ،وليس رشا أخالقيا بحد ذاته .ففي رأيه«ُ ،أ ِّسس انسجام املصالح من خالل
تضحية األفارقة واآلسيويني غري األَك َفاء» ( .)Carr, 1964:49وعىل رغم ذلك ،مل
تكن الزاوية االستعامرية زاوية مركزية ،بل كانت زاوية هامشية يف جميع ادعاءاته
وجهة ضد النزعة الطوباوية .لقد عارض كثري من اليساريني ،من أمثال هرني ا ُمل َّ
نويل برايلسفورد ،H. N. Brailsfordوبعض الليرباليني اإلمربيالية ،ولكن نظ ًرا
إىل التأثري القوي للحرب العاملية األوىل ،كان مثة اهتامم أكرب يف هذه األوساط
بشأن العالقة القامئة بني الرأساملية من ناحية ،والحرب والفاشية من ناحية أخرى،
أكرث من االهتامم باإلمربيالية ( .)L. Ashworth, 2014: 213–21وبالنظر إىل تأثري
العنرصية «العلمية» والجغرافيا السياسية يف العالقات الدولية يف فرتة ما بني الحربني
العامليتني ،وربط كلتيهام باإلمربيالية ،فإن روبرت فيتاليس ( )2015 ,2005كان مح ًّقا
جزئ ًّيا يف دحض وجهة النظر القائلة إن العالقات الدولية أهملت اإلمربيالية يف ذلك
الوقت .حيث يحاجج بأن العالقات بني األعراق واإلدارة االستعامرية كانت من
االهتاممات املركزية لعلامء حقل العالقات الدولية األمريكيني .وكام كان عليه الحال
قبل العام ،1914استمرت اإلدارة االستعامرية يف كونها فرعًا ًّ
مهاًّم للدراسة ،ولكن
أيضا ومثلام كانت قبل العام ،1914مل ُتعترب جز ًءا من حقل العالقات الدولية ،بل ً
كانت تشكل مجاال منفصال عنه .وقد تطرق آرثر برييديل كيث (Arthur )1924
155
تشكيل العالقات الدولية العاملية
خالصات
خالصة القول أنه من املفهوم عمو ًما أن تخصص حقل العالقات الدولية قد نشأ
خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني ألجل هدف محدد مت َّثل يف منع اندالع حرب
نسب عاملية أخرى واسعة النطاق قد تكون مدمرة ومنهكة .ويف هذا السياقُ ،ي َ
تأسيس له الغرض املعياري املتمثل يف تجنب ٍ إىل حقل العالقات الدولية يف أول
الحرب وتحسني ظروف الناس يف جميع أنحاء العامل لجعله مكا ًنا أفضل للعيش.
وتتجسد هذه الرؤية يف أسطورة النقاش الواقعي /املثايل .إن أيا من هذه األساطري
صحيحا .فحقل العالقات الدولية خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني كان ً ليس
أكرث تعقيدًا واتساعًا وتعددًا للتخصصات مام توحي به صيغة «النقاش الكبري»،
وكام بني كل من بريان شميدت ( )Schmidt 1998bولوسيان أشوورث (Lucian
) Ashworth 2014عىل نح ٍو مفصل ،فقد كان أقل استقطا ًبا بني املعسكرين
«املثايل» و«الواقعي» .تصوير النزعة املثالية للناس عىل أنها نزعة غري مجدية ،كانت
خدعة ناجحة قام بها الواقعيون إىل حد كبري بعد العام (Kahler, 1997: 1945
أيضا حقل العالقات الدولية خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني ) .27لقد مت َّيز ً
بكثري من االستمرارية مع حقل العالقات الدولية ملا قبل العام ،1914وعىل
األخص مع االفرتاضات األساسية املرتبطة باملركزية الغربية؛ واإلمربيالية؛ والجغرافيا
السياسية؛ واالقتصاد السيايس الدويل؛ والتسلسل الهرمي العرقي ،وهي االفرتاضات
156
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
التي ظلت من دون تغيري إىل حد كبري .عقب صدمة الحرب العاملية األوىل ،ومع
التجربة العظيمة لـعصبة األمم يف مواجهتها ،ليس من املستغرب أن ُيظهر حقل
خاصا بـاملنظامت الحكومية الدولية العالقات الدولية يف فرتة ما بني الحربني اهتام ًما ً
باعتبارها طريقة ممكنة إلدارة إشكالية الفوىض يف النظام الدويل .لذلك ،كان لدى
اث وجذو ٌر قامتان باإلضافة إىل اإلرث اإليثاري لفهم حقل العالقات الدولية مري ٌ
الحرب والسعي إىل السالم .كان حقل العالقات الدولية و«النظرية الدولية» عىل
نحو عام متشابكني بشكل ال ينفصم مع مرشوع النهوض باألفكار الغربية وحاميتها،
مام أدى إىل ظهور املركزية األوروبية يف أحسن األحوال ،وظهور الجغرافيا السياسية
وجهة ضد العنرصية والعنرصية «العلمية» يف أسوئها .وقد انبثقت االنتقادات ا ُمل َّ
واإلمربيالية من منظور معياري ومن وجهة نظر ا ُمل ْض َط َهدين من القادة واملفكرين
القوميني داخل املستعمرات .وش َّكلت تلك املساهامت األسس األصلية ملرشوع حقل
العالقات الدولية العاملي الذي يدور حوله هذا الكتاب.
157
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أوجدتها الحرب العاملية األوىل ،متيزت فرتة ما بني الحربني بعالقة قوية عىل نحو
خاص بني النظرية واملامرسة حتى داخل املركز .إنه ملن املستحيل فهم أصول
وتشعبات النقاش املثايل الواقعي من دون إمعان النظر يف املناقشات السياسية
املحيطة بنقاط وودرو ويلسون األربع عرشة؛ وعصبة األمم؛ وميثاق كيلوغ برييان؛
والجهود املبذولة لنزع السالح وما شابه ذلك .وقد جرى تأطري النقد الواقعي
للمثالية بقوة يف إطار نقد التوقعات بشأن عصبة األمم وإخفاقاتها .مل يكن ألفريد
نخرطا بعمق يف أيضا ُم ً
زميرن مؤل ًفا لكتاب مهم عن عصبة األمم فقط ،بل كان ً
وأيضا ميثل الرتويج لفكرة عصبة األمم ،وذلك باعتباره مسؤو ًاًل حكوم ًّيا بريطان ًّيا ً
جزءا من املجموعة املنارصة للمنظمة .كان اليشء نفسه يحصل يف السياق غري
الغريب .فبالقدر نفسه ،تأثرت أفكار القادة القوميني والحركات واملؤسسات التي
ألهموها بحقائق الحياة الدولية كام عاينوها بآمالها وآالمها .حيث تركت أفكار
أيضا إر ًثا ثر ًّيا
الحركات القومية واملناهضة لالستعامر يف سنوات ما بني الحربني ً
وطويل األمد أ َّثر يف سلوك السياسة الخارجية والتفاعالت العاملية واإلقليمية للحرب
الباردة وحقبة إنهاء االستعامر بعد العام .1945الواقع أن تلك األفكار ش َّكلت
واستمرت يف تشكيل معتقدات ومامرسات السياسات الخارجية للقوى الصاعدة
مثل الصني والهند .وإذا كان مثة أي يشء مثري لالنتباه ،فهو عودتهم ،ألن هذه الدول
أصبحت أكرث قوة وتأث ًريا يف املرسح العاملي.
لقد انبثقت حركة عدم االنحياز ،التي تأسست رسم ًّيا يف بلغراد يف العام ،1961
عن مؤمتر آسيا وأفريقيا يف باندونغ يف العام ،1955والذي تأثر بدوره باملؤمتر الدويل
األول ضد اإلمربيالية واالستعامر الذي عُ قد يف بروكسل يف العام (Prasad, 1927
رئيسا) .1962: 79–99وكان الهندي جواهر الل نهرو Jawaharlal Nehruمشار ًكا ً
يف املؤمترات الثالثة :بروكسل وباندونغ وبلغراد .وقد استلهمت املنظامت اإلقليمية
مثل «منظمة الوحدة األفريقية» من ا ُملثل العليا للنزعة الوحدوية األفريقية
وحركات التحرر يف أوائل القرن العرشين ،مبا يف ذلك فرتة ما بني الحربني العامليتني.
مل يكن تفكري حقل العالقات الدولية داخل األطراف خالل سنوات ما بني الحربني
أيضا عىل أفكار بشأن النزعة األممية يدور حول مناهضة االستعامر فقط ،بل احتوى ً
والنظام العاملي والتنمية الدولية والتعاون والعدالة .ليمتد إىل ما هو أبعد من
158
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
معاداة اإلمربيالية ،عىل الرغم من أن األخرية ش َّكلت يف األغلب موضوعًا تنظيم ًّيا
مركز ًّيا بالنسبة إليهم .فقد كان لحقل العالقات الدولية خالل فرتة ما بني الحربني
أصول متعددة وعاملية وليس أصو ًاًل غربية فقط ،وهذا مهم لفهم كيفية وصول
هذا الحقل إىل شكله الحايل ،وإىل أين يجب أن يتجه انطالقا من ذلك .وكام فعلنا
يف الفصل الثاين ،سنتعامل مع تفكري حقل العالقات الدولية يف األطراف من حيث
الدول واملناطق الرئيسة.
- 3 - 1اليابان
إن تصنيف اليابان لوضعها داخل املركز أو داخل األطراف خالل هذه الفرتة
يعد مسألة صعبة .وسنعمد إىل ترك هذه الدولة يف األطراف جزئ ًّيا ألن اليابان كانت
تسري عىل مسار مختلف عن الغرب حيث إنها كانت مستفيدة عىل نحو معترب
من الحرب العاملية األوىل؛ وذلك بسبب أنه كان اليزال يتعني عليها النضال ضد
مسألة العرق التي ُطرحت ضدها من طرف الغرب .لقد تطور تفكري حقل العالقات
الدولية يف اليابان انطالقا من جذوره التي تعود إىل ما قبل العام (Kawata 1914
) .and Ninomiya, 1964: 190; Sakai, 2008: 237–44وقد تأثر الفكر الدويل
لليابان بشدة بنظرية الدولة األملانية Staatslehreوبالتقاليد املاركسية (Inoguchi,
) .2007تتوافق األبحاث اليابانية املبكرة بشأن حقل العالقات الدولية مع صعود
اليابان كقوة كربى ساعية إىل فهم مكانة اليابان يف العامل ،ولكن تلك األبحاث مل
تكن تتمركز حول اليابان عىل نحو تام .فقد كان مثة عمل عن السياسة العاملية
وأيضا عن اإلدارة االستعامرية (]Yanaihara, [1926 (ً )Royama, 1928, 1938
.)1963وعىل غرار الغرب ،درس الباحثون اليابانيون يف هذه الفرتة موضوعات
مثل القانون الدويل؛ واملنظمة الدولية؛ والتاريخ الديبلومايس؛ والتكامل اإلقليمي؛
واالقتصاد السيايس الدويل (Kawata and Ninomiya, 1964; Inoguchi,
) .2007حتى أن تاكايش إنوغوتيش ( )Takashi Inoguchi 2007, 379–80كان
ُي َع ِّرف نيشيدا كيتارو Nishida Kitaroبأنه « ِبن َِايِئ ُمتَأَصل» ،وذلك بسبب تركيزه
عىل مسألة الهوية .كام كان لليابان حضور يف النظام القانوين الدويل ،وبخاصة
مع مينيشريو أداتيش ،Mineichiro Adachiالباحث القانوين الدويل الذي كان
159
تشكيل العالقات الدولية العاملية
رئيسا لقضاة املحكمة الدامئة للعدل الدويل (الهاي) ،والذي كتب ديبلوماس ًّيا ثم ً
أيضا عن عصبة األمم ( .)Adachi and De Visscher, 1923كان اليزال يتعني عىل ً
اليابان مواجهة إشكالية ردود الفعل العنرصية تجاه «الخطر األصفر»(٭) الصادرة
عن الغرب ،حيث استجابت لذلك بفلسفة مدرسة كيوتو عن «قوة ما بعد البيض»
( .)D. Williams, 2004; Shimizu, 2015وقد كان لعنرصية «الخطر األصفر»
وأيضا ضد استقبال اليابان مفعولها ضد كل من الهجرة اليابانية إىل األمريكتنيً ،
عضوا جديدا يف نادي القوى الكربى (.)Shimazu, 1998
خالل الثالثينيات من القرن العرشين ،تح َّول الرتكيز نحو «اإلقليمية ا ُمل َهي ِمنة»
حيث انسحبت اليابان من عصبة األمم وبدأت يف اتباع رؤيتها الخاصة بشأن «مجال
االزدهار املشرتك يف رشق آسيا الكربى»(٭٭) بقيادة اليابان (Acharya, 2017:
) .6–7لقد كان صعود آسيا مساو ًيا لصعود اليابان .حيث تبنت اليابان النزعة
الوحدوية اآلسيوية ملواجهة الهيمنة الغربية ،ولكن يف تلك العملية راهنت عىل
املطالبة باالعرتاف مبركزيتها وإمرباطوريتها ،عىل اعتبارها الدولة الحديثة الوحيدة يف
آسيا ( .)Koyama and Buzan, 2018وقد أدت الهيمنة املتزايدة لهذه السياسات
اإلمربيالية يف النهاية إىل تأخري منو حقل العالقات الدولية األكادميي الذي ُق ِمع من
طرف السلطات (.)Kawata and Ninomiya, 1964: 194
- 3 - 2الصني
بينام أصبحت العالقات الدولية ً
مجااًل دراسيا ُمزده ًرا يف الصني منذ تسعينيات
القرن العرشين ،ظل باحثو العالقات الدولية الصينيون ،كام ُذكر أعاله ،متحفظني
(٭) الخطر األصفر :yellow perilهو استعارة ألوان عنرصية تعترب جزءا ال يتجزأ من نظرية كره األجانب .يلمح هذا
الغرب ،وأن تلك الشعوب تشكل خطرا قادما من الرشق عىل التعبري العنرصي إىل االزدياد السكا ّين يف آسيا كام يتصوره ُ
العامل الغريب .حيث ميزج هذا املصطلح بني املخاوف الغربية بشأن جنسه ،ومخاوفه العنرصية من اآلخر املختلف.
ويذهب املؤرخون عىل تفسري هذه املقولة بأنها رمبا تنرصف إىل الشعب الياباين بسبب تقدمه الرسيع وال سيام يف
النصف الثاين من القرن العرشين[ .املرتجم].
نظرت ور َّوجت له حكومة وجيش (٭٭) مجال االزدهار املشرتك لرشق آسيا الكربى :هو عبارة عن مفهوم َّ
اإلمرباطورية اليابانية يف فرتة حكم اإلمرباطور شووا خالل نهاية ثالثينيات القرن املنرصم ،حيث إن اليابان روجت
لوحدة ثقافية واقتصادية للعرق الرشق آسيوي .كام أعلنت نيتها إلنشاء اكتفاء ذايت تحت شعار «كتلة الدول اآلسيوية
بقيادة يابانية خالية من القوى الغربية»ُ ،وأعلن عنه يف خطاب إذاعي لوزير الشؤون الخارجية الياباين آنذاك هاتشريو
أريتا ،وكان الخطاب بعنوان «الوضع الدويل وموقف اليابان» ،وذلك بتاريخ 29يونيو [ .1940املرتجم].
160
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
بشأن االعرتاف بإرث تطور حقل العالقات الدولية يف الصني قبل العام .1949وف ًقا
لألسطورة ا ُمل َؤ َّس َسة الحالية ،يقال إن العالقات الدولية الصينية بدأت يف منتصف
الستينيات تقري ًبا .فعىل سبيل املثالُ ،ي َق ِّسم زهانغ فانغ Zhang Fengتاريخ حقل
العالقات الدولية يف الصني إىل أربع مراحل .كانت املرحلة األوىل من العام 1949إىل
تخصصا أكادمي ًّيا بعدُ ،
ً العام ،1963عندما مل يكن حقل العالقات الدولية قد شكل
وكان البحث العلمي محظو ًرا .حيث «كانت الدراسة الدولية مرادفة إىل حد كبري
لتحليل السياسات يف شكل تقارير أو مشورة سياسية تتضمن رشوحا» (Zhang,
) .F., 2012a: 69إن «منط التفاعل بني السلطة واملعرفة» ا ُمل َحدد ()Lu, 2014:133
الذي أوقف منو حقل العالقات الدولية الصيني خالل الخمسينيات ليس شيئًا فريدًا
بالنسبة إىل العامل غري الغريب ،عىل الرغم من التحول السيايس الثوري يف الصني
وتأثري الثورة الثقافية باإلضافة إىل القيود السياسية املستمرة املفروضة عىل األوساط
خاص يف كيف وملاذا استمر حقل العالقات األكادميية الصينية ،قد يكون له تأث ٌري ٌ
الدولية الصيني يف رفض االعرتاف بأصوله التي تعود إىل ما قبل العام .1949لقد
سعى الحكم الشيوعي إىل فرض رسديته الخاصة عىل الشؤون الدولية ،وهي الرسدية
التي تحداها الباحثون بنوع من املخاطرة .حيث ُندِّد ببعض الباحثني البارزين
بعد مراجعاتهم يف العام 1957للتخصصات األكادميية .إن «الذاكرة الصامتة» ملا
قبل الحرب يف الصني ،كام يقول الباحث لوو بانغ ) ،(Lu Peng 2014: 149ظلت
مهمة ألسباب سياسية ،والتزال كذلك ،ألنها تشهد أن العالقات الدولية غري الغربية
عاماًل رئيسا ،وليس موجودة ولكنها غري مرئية ،وأن الظروف املحلية ميكن أن تكون ً
فقط الظروف الدولية أو الهيمنة الغربية عىل حقل العالقات الدولية .كام يشري
أيضا إىل أن تطور حقل العالقات الدولية غري الغريب قد ُش ِّكل من خالل مصدرين: ً
أفكار السكان األصليني (خصوصا القادة القوميني) ،واألكادمييني ا ُملدَر ِبني يف الغرب.
وعىل نحو أقل اتسا ًما بالطابع الرسمي ،كان سون يات سني Sun Yat-sen
رئيسا للفكر الدويل يف الصني .فقد كانت النزعة األممية عنده تتسم ميثل مصد ًرا ً
بالكوزموبوليتانية واملركزية الصينية .وقد دافع عن التعاون مع اليابان ودول
أخرى يف آسيا ،لكنه شدد عىل تفوق التقاليد الصينية يف فن الحكم واإلدارة.
حيث شدد سون يات سني عىل املجد املايض آلسيا ومل يتحدث عن «الصني
161
تشكيل العالقات الدولية العاملية
واليابان فقط ،بل تحدث أيضا عن كل الشعوب يف رشق آسيا ...موحدين م ًعا
الستعادة الوضع السابق آلسيا» ( .)Sun, 1941: 144ولكن ،وليك يحدث ذلك،
كان عىل دول آسيا أو ًاًل التخلص من ْنرْي االستعامر والحصول عىل االستقالل .كان
سون يات سني ( )1941: 144يأمل يف حدوث ذلك ألنه رأى «أدلة ملموسة عن
تقدم الفكرة القومية يف آسيا» .وعىل رغم ذلك ،فإن النزعة الوحدوية اآلسيوية
أيضا هرمية كتلك املوجودة عند اليابان .لقد استدعى سني عند سني كانت ً
الج ْز َية الصيني (Chinese tributary system٭) ،مش ًريا
( )1941: 146نظام ِ
إىل أن «الدول األضعف ...احرتمت الصني باعتبارها دولة متفوقة وأرسلت تكر ًميا
سنو ًّيا للصني بإرادتها ،والسامح لهم بذلك يعترب تكرميا مرشفا بالنسبة إىل هذه
الج ْز َية
الدول» .ويؤكد سني عىل الطبيعة الطوعية للعالقات القامئة يف نظام ِ
الصيني ،بحجة أن الصني يحكمها «الحق» ،أي أنها محكومة مببادئ الصداقة
واملعاملة باملثل ،وليس مببادئ «القوة».
لقد كان الهدف األوسع للنزعة الوحدوية اآلسيوية عند سون يات سني هو
«إنهاء معاناة الشعوب اآلسيوية و ...مقاومة عدوان الدول األوروبية القوية»
) ،(Sun, 1941: 151مام كشف عن وجود خيط قوي مناهض لالستعامر ،وهو
القاسم املشرتك الساري يف عروق الفكر الدويل داخل العامل غري الغريب .لقد
حرصت كتابات سني ( )1941: 151عىل تضمني اليابان .والواقع أنه ميكن للمرء
أن يرى أن تلك الكتابات كانت تستهدف اليابان ،عىل رغم أن تلك الدولة
«أصبحت عىل دراية بأصول حكم القوة الخاص بالحضارة الغربية» .وقد أكد
سني ( )1941: 151أنها «تحتفظ بخصائص الحضارة الرشقية املرتبطة بحكم
مفتاحا لضامن قطف مثار الحركة الوحدوية اآلسيوية .لقدً الحق» ،وأنها كانت
تحدث سني عن الفضائل اآلسيوية ،ولكن عىل نح ٍو ما كان يتصادم بأتم معنى
الكلمة مع كل من االستعامر األورويب والياباين .كام حث اليابان عىل عدم تطوير
(٭) كان نظام الجزية (العطايا) هو النظام الصيني التقليدي إلدارة العالقات الخارجية .وفقا للمامرسة املعتادة،
ُمُينح األجانب إذنا إلقامة التجارة واالتصال مع الصني برشط أن يُظهر حكامهم أو مبعوثو حكامهم خضوعهم لألباطرة
الصينيني من خالل دفع الجزية لهم شخصيا .إذ يقدم هؤالء الحكام أو املبعوثون الجزية التي عادة ما تكون عبارة عن
عطايا من املنتجات والسلع املحلية الثمينة ،وكانوا عىل ذلك يؤدون أيضا طقس الطاعة املسمى «كوتاو» ،Kowtow
ويعني فعل االنحناء تجاه اإلمرباطور الصيني كنوع من االحرتام العميق[ .املرتجم].
162
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
- 3 - 3الهند
من املحتمل أن يكون اإلنجاز املميز لنظرية حقل العالقات الدولية األكادميي
يف الهند هو إنجاز الباحث بينوي كومار ساركار Benoy Kumar Sarkar (M. J.
) .Bayly, 2017aففي العام 1919نرش «النظرية الهندوسية للعالقات الدولية»
يف مجلة العلوم السياسية األمريكية .حيث ح َّلل عددا من املفاهيم الهندية؛ مبا يف
ذلك مفهوم مجال التأثري Mandala؛ ومفهوم السيادة العاملية ،Sarva-Bhauma
163
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وذلك باالعتامد عىل أعامل الكتاب الكالسيكيني مثل كاوتيليا؛ ومانو؛ وشوكورا؛ ونص
ماهابهاراتا (Mahabharata٭) .من ضمن تلك املفاهيم ادعى بينوي كومار أن:
«مفهوم السيادة «الخارجية» كان ر ً
اسخا يف الفلسفة الهندوسية للدولة .إذ مل
يحلل املفكرون الهندوس مفهوم السيادة فقط الرتباطه بالعنارص املكونة للدولة
الواحدة .بل أدركوا ً
أيضا أن السيادة ال تكتمل إال إذا كانت خارجية وداخلية عىل
حد السواء؛ أي حينام تتمكن الدولة من مامرسة سلطتها الداخلية من دون عوائق
ُتفرض عليها من ِقبل الدول األخرى ،بحيث متارس سلطتها عىل نحو مستقل عن تلك
الدول» (.)Sarkar, 1919: 400
لقد كتب ساركار (ً )1921
مقااًل آخر يف «فصلية العلوم السياسية» Political
Science Quarterlyجاء تحت عنوان «النظرية الهندوسية للدولة» Hindu
،Theory of the Stateحيث قارن فيه املفاهيم الهندية لـ «حالة الطبيعة»(٭٭)
164
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
الكتابات عىل التقاليد الهندية ،فإنها كانت أيضا مستقلة إىل حد كبري عن النقاشات
مساهامت رئيس ٍة خاصة بحقل العالقات
ٍ الغربية .قد تكون هذه املنشورات أول
الدولية ُك ِت َبت من طرف هندي ،وواحدا من أوىل الجهود الحديثة لتطوير نظرية
أصلية غري غربية لحقل العالقات الدولية.
وكام يحاجج مارتن باييل ( ،)2017bانخرط بعض باحثي حقل العالقات الدولية
الهنود يف نقاشات حقل العالقات الدولية الغريب .حيث ح َّول م.ن .تشاترجي M.
)ُ « N. Chatterjee (1916مدَو َنات دراسات السالم الغربية ،مبا يف ذلك العائدة
إىل كل من نورمان أنجيل وفيكتور هوغو وجون برايت وكوبدين وكانط ،لتكون
يف مواجهة القوى األوروبية املتحاربة التي من املفرتض أنها أمم متحرضة» (M. J.
) .Bayly, 2017b: 22وصاغ بونتامبيكار ) S. V. Puntambekar (1939خطوط
تفكري واقعية ومثالية وطوباوية لفكر حقل العالقات الدولية خالل الوقت نفسه
الذي ق َّدم فيه إدوارد كار هو اآلخر إسهاماته يف هذا املجال.
يف الجانب األقل أكادميية كان مثة كثري من األعامل التي َخ َل َفت عمل
روبندرونات طاغور الذي نوقشت أفكاره يف الفصل الثاين .فجواهر الل نهرو ،الزعيم
الصاعد يف املؤمتر الوطني الهندي ،تبنى نزعة مناهضة االستعامر مع جرعة قوية
من النزعة األممية .وقد اتخذ بعض املفكرين الهنود موق ًفا نسب ًّيا ،حيث سلطوا
الضوء عىل الفرق القائم بني الفكر الغريب والرشقي ،بل أكد البعض منهم عىل
الطبيعة األكرث شمو ًاًل نسب ًّيا للفكر الرشقي .وكغريهم من املفكرين اآلخرين يف آسيا،
شددوا عىل التمييز بني النزعة الروحانية الرشقية والنزعة املادية الغربية .ورأى أحد
ومقاربات رشقية ،بل حتى إىل هيمنتها،ٍ تلك املواقف أن العامل بحاجة إىل أفكا ٍر
وذلك لعالجه من ويالت املنافسة والحرب .فقد ذهب بانديت كريشنا كانت
ماالفيا ،Pandit Krishna Kant Malaviyaخالل مناقشات الجمعية الترشيعية
الهندية يف العام ،1936إىل القول إن «هيمنة الرشق متثل العالج الوحيد لجميع
العلل يف هذا العامل»« .نحن بحبنا للسالم وروحانيتنا وحسن نياتنا تجاه الجميع،
ال ميكننا إال أن نحقق السالم عىل هذه األرض» (cited in Keenleyside, 1982:
ً
اعتدااًل ،ودافع عن فكرة التآزر بني ) .211لكن البعض اآلخر من املفكرين كان أكرث
الرشق والغرب .ففي العام 1933حاجج الفيلسوف الهندي (ورئيس الهند الح ًقا)
165
تشكيل العالقات الدولية العاملية
166
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
- 3 - 4أمريكا الالتينية
لقد رصدنا يف الفصل الثاين اإلسهامات املميزة ألمريكا الالتينية خالل القرن
التاسع عرش بشأن اإلقليمية؛ واملساواة يف السيادة؛ وعدم التدخل .وخالل سنوات
ما بني الحربني العامليتني ،نشأت مفاهيم رئيسة أخرى أصبحت اآلن أساسية يف
حقل العالقات الدولية و ُمتأصلة يف الحركة الوحدوية األمريكية .Pan-American
ولعل أهمها مفهوم كيان الدولة املعلن ا ُملتضمن يف اتفاقية مونتفيديو بشأن حقوق
وواجبات الدول ،والتي ُتبنيت يف مؤمتر البلدان األمريكية يف مونتيفيديو يف العام
.1933لقد ُقننت هذه االتفاقية ضمن إطار القانون الدويل ،ورمبا بفضلها أصبحت،
وألول مرة ،املكونات التعريفية للدولة يف العالقات الدولية تتكون من :الشعب؛
واألرايض؛ والحكومة؛ واالعرتاف .وقد أدى تأييد أمريكا الالتينية يف النهاية إىل تخيل
الواليات املتحدة رسميا ،إن مل يكن دامئا من الناحية العملية ،عن مبدأ مونرو يف
العام 1933وقبول عدم التدخل كمبدأ أسايس يف عالقاتها مع املنطقة .وبعد فرتة
يكتس معيار عدم التدخل قوة يف أمريكا الالتينية فقط ،بل انترش أيضا يف قليلة مل ِ
أجزاء أخرى من العامل ،وال سيام يف آسيا ما بعد إنهاء االستعامر.
ويف حني تشتهر أمريكا الالتينية بتطوير نظرية التبعية Dependency Theory
يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية ،يسلط إريك هيليرن وأنتوليو روساليس
) Antulio Rosales (2017الضوء عىل املساهامت السابقة األكرث عمومية وا ُملتأتية
من هذه املنطقة ،وهي املساهامت التي تدور حول قضايا املركزية األوروبية؛
واإلمربيالية؛ والتبعية؛ والتعاون اإلقليمي خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني .كام
أن أعامل اثنني من املفكرين البريوفيني ،فيكتور راؤول هايا دي ال توري Víctor
) Raúl Haya de la Torre (1895-1979وخوسيه كارلوس مارياتغي ال شريا José
) ،Carlos Mariátegui La Chira (1894-1930كانت تكتيس أهمية خاصة .لقد
شعر فيكتور راؤول هايا بأن األفكار السياسية يف أمريكا الالتينية استُعريت من
أوروبا من دون إيالء اعتبار كبري لسياق ورشوط أمريكا الالتينية (أو ما أسامه
«إندوأمريكا» .)Indoamericaورفض الرأي القائل إن األفكار األوروبية؛ مبا يف
ذلك املاركسية التي كان يؤمن بها ،كانت أفكارا عاملية كام ادَّعى أنصارها ،فاألجزاء
املختلفة من العامل طورت رؤى مختلفة للعامل تعكس رشوطها وتواريخها املحليتني.
169
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بسط يف بيئتنا للمذاهب ومن ثم فإنه «من الرضوري إدراك أن التطبيق الشامل وا ُمل َّ
الفكرية األوروبية وقواعد التفسري تلك يجب أن ُيخضعا لتعديالت عميقة» (cited
) .in Helleiner and Rosales, 2017:673أما فيكتور راؤول هايا فقد كان تفكريه
ينزع إىل اإلقليمية ،حيث دعا إىل القومية االقتصادية «ألمريكا الالتينية» التي تضم
السكان األصليني ا ُملهمشني .وعالوة عىل ذلك ،فقد تحدى فرضية لينني القائلة إن
اإلمربيالية هي أعىل مراحل الرأساملية .ويف حني أن هذا قد يكون هو الحال يف
أوروبا ،فقد كانت هذه متثل املرحلة األوىل بالنسبة إىل أمريكا الالتينية .غري أنه
اعرُتض عىل هذا الرأي من طرف مارياتغي Mariáteguiالذي قبل مبوقف لينني. ُ
طور كالهام صيغا مبكرة من نظرية التبعية ،لكن مارياتغي كان مهتام عىل لقد َّ
نحو خاص باعتامد البريو الشديد عىل صادرات السلع التي تسيطر عليها املصالح
األجنبية؛ ومن ثم تع ُّرضها للتقلبات يف أسعار السلع األساسية .وذهب مارياتغي إىل
أبعد من فيكتور راؤول هايا ليقول إن فكر التنمية االشرتاكية يف املناطق يجب أن
يدمج قيم الشعوب األصلية للمنطقة ،ومن ثم إضافة مزيد من السياقات والفواعل
املحليتني إىل مفاهيم التنمية يف أمريكا الالتينية .لكن مارياتغي عارض تفضيل
فيكتور راؤول هايا لـ «جبهة موحدة» من الثوار والعنارص الربجوازية ملحاربة
اإلمربيالية .كان موقف مارياتغي مشابها ملوقف املفكر املاركيس الدويل والناشط
من الهند مانابندرا ناث روي ) - Manabendra Nath Roy (1887-1954الذي
كان ُمؤسسا للحزب الشيوعي املكسييك والذي تحدى سابقا موقف لينني -الذي
عُ ِّرِّب عنه يف العام ،1920والقائل بتطوير تحالف واسع النطاق مناهض لإلمربيالية.
كانت هذه األفكار واملناقشات مبنزلة بواكري للتطور الالحق لتفكري حقل العالقات
الدولية ألمريكا الالتينية ،مبا يف ذلك؛ عىل سبيل املثال ال الحرص ،نظرية التبعية .وكام
الحظ كل من هيليرن وروزاليس ( ،)2017: 671فإن رفض فيكتور راؤول هايا للنزعة
العاملية «األحادية» األوروبية وحساسيته تجاه التغريات والتكيفات اإلقليمية ُي ِعدَّان
مقدمة قوية ألفكارنا الخاصة بإضفاء الطابع املحيل والعاملي التعددي عىل حقل
العالقات الدولية العاملي .Global IR
لقد ظهر مفهوم التنمية الدولية عىل نحو ملموس يف أمريكا الالتينية .ففي
الثالثينيات من القرن املايض ط َّورت دول أمريكا الالتينية أفكارا بشأن التنمية،
170
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
وسعت إىل إنشاء بنك البلدان األمريكية IABلتسهيل تدفق األموال من الواليات
املتحدة ألغراض تنمية تلك البلدان .ويف الوقت الذي ُولد فيه بنك البلدان األمريكية
ميتا ،أ َّثرت املقرتحات الخاصة به بالتأكيد يف املسودات األمريكية األولية ملؤسسات
بريتون وودز التابعة لصندوق النقد الدويل IMFوالبنك الدويل لإلنشاء والتعمري
(البنك الدويل) ( .)Helleiner, 2014يف الواقع ،يوضح هياليرن كيف كانت دول
أمريكا الالتينية ،إىل جانب الصني والهند ،من املساهمني الرئيسني يف مؤمتر بريتون
وودز للعام .1944
إن املجال اآلخر الذي شملته مساهمة أمريكا الالتينية يف العالقات الدولية متثل
يف حقوق اإلنسان .فخالل مناقشة املعامل الرئيسة ملساهمة أمريكا الالتينية يف مسائل
حقوق اإلنسان ،تستحرض كاثرين سيكينك )Kathryn Sikkink (2016:122–33
مؤمتر البلدان األمريكية بشأن إشكاالت الحرب والسالم للعام ،1945والذي حرضته
19دولة من أمريكا الالتينية ،وعُ قد يف مدينة مكسيكو سيتي .بعد ثالث سنوات،
وقعت 21دولة؛ مبا يف ذلك الواليات املتحدة ،عىل اإلعالن األمرييك لحقوق وواجبات
اإلنسان يف العاصمة الكولومبية بوغوتا يف أبريل ،1948وذلك قبل سبعة أشهر من
إقرار اإلعالن العاملي لحقوق اإلنسان يف 10ديسمرب .1948وعىل الرغم من أن
هذه املبادرات يف أمريكا الالتينية جاءت خالل سنوات ،1948-1945أوال يف الفرتة
التي سبقت صياغة ميثاق األمم املتحدة يف العام 1945ثم صياغة اإلعالن العاملي
لحقوق اإلنسان يف العام ،1948فإن باولو كاروزا Paolo Carozzaيجادل (2003:
) 282, 311بأنها عكست «فرتة طويلة من التقاليد العميقة لفكرة حقوق اإلنسان
يف املنطقة» ،والتي تطورت من خالل نضاالت املنطقة ضد الغزو اإلسباين والثورات
الجمهورية الليربالية يف القارة ،وأيضا من خالل الدستور املكسييك للعام ،1917
الذي ر َّكز بقوة عىل مسألة الحقوق االجتامعية واالقتصادية .يجادل كاروزا (2003:
) 311–12كذلك بأن التفكري املتطور يف أمريكا الالتينية بشأن حقوق اإلنسان «كان
عامليا بقوة يف توجهه ،إذ كان ينبني عىل املساواة يف الكرامة للجميع» .لقد متكنت
إذن دول أمريكا الالتينية من إنتاج «لغة حقوق دستورية مع تكريس قوي لفكريت
الحرية واملساواة».
171
تشكيل العالقات الدولية العاملية
- 3 - 5الرشق األوسط
خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني ،كانت النزعة الوحدوية اإلسالمية Pan-
Islamismوالنزعة الوحدوية العربية « Pan-Arabismنزعتني» رئيستني ،أو
خطوطا فكرية يف الرشق األوسط تتفاعل عىل نحو وثيق مع النزعة القومية
لتشكيل الفكر واملامرسة الدوليني يف العامل العريب .رمبا تشرتك النزعة الوحدوية
اإلسالمية والنزعة الوحدوية العربية يف أهداف مامثلة تتعلق بتعزيز إنهاء
االستعامر ،لكن النزعة الوحدوية العربية كانت ظاهرة أكرث علامنية .ظهرت فكرة
العرب كأمة ،عىل الصعيدين الثقايف والسيايس ،عىل نحو أسايس خالل الحرب
العاملية األوىل ،وظلت مع الثورة العربية ضد اإلمرباطورية العثامنية .وكان من
أبرز املدافعني عنها يف تلك املرحلة حسني بن عيل ،رشيف مكة ،الذي حصل عىل
دعم بريطاين ضد العثامنيني ودافع عن «دولة عربية موحدة متتد من حلب إىل ٍ
عدن»(٭) .ولكن بسبب اعتامده عىل الدعم الربيطاين ،قلل حسني بن عيل من
أهمية الجوانب الدينية للنزعة الوحدوية العربية .فقد أظهرت النزعة الوحدوية
العربية تقاربا مع النمط الغريب العلامين .ومارس املفكرون اللبنانيون والسوريون
دورا رئيسا يف تطوير هذه النزعة ،حيث تأثروا بالفكر الغريب وباملؤسسات
الغربية ،مثل الكلية الربوتستانتية السورية (الجامعة األمريكية يف بريوت الحقا)
) .(Antonius, [1938] 2001وخالل ثالثينيات القرن العرشين اكتسبت النزعة
الوحدوية العربية قوة فكرية أكرب ،حيث تأثرت باملاركسية .وكان تأسيس حزب
«البعث» أو «النهضة» يف األربعينيات عىل يد ميشيل عفلق وصالح الدين البيطار
نقطة بارزة أخرى يف تاريخ الحركة القومية العربية ،عىل الرغم من أنه مل يصبح
فعاال للغاية .ومن الالفت للنظر أن االهتامم بالوحدوية العربية ظل ضعيفا يف
مرص ،عىل الرغم من أهميتها التاريخية كمركز فكري وسيايس يف العامل العريب.
فقد كانت القومية املرصية ،وليس النزعة الوحدوية العربية ،هي املحور املهيمن
للقومية يف ثالثينيات وأربعينيات القرن العرشين يف مرص .وعىل ذلك ،ستربز مرص
) The two “isms” of the Middle East’, Aljazeera News, www.aljazeera.com/focus/arabuni٭(
ty/2008200852518534468346/02/.html (Accessed 5 October 2018).
[املؤلفان].
172
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
كمصدر لصيغة أكرث نضالية ودولية من النزعة الوحدوية العربية بعد الحرب
العاملية الثانية ،وذلك تحت قيادة جامل عبدالنارص.
لقد ُرفض التأثري الغريب يف النزعة الوحدوية العربية ولونها العلامين من طرف
النزعة الوحدوية اإلسالمية التي قدمت نفسها بديال .إذ كانت األخرية تقف يف
مواجهة املشاريع القومية بسبب اختالف قاعدة الهوية .فقد أدى إلغاء تركيا
الخالفة يف العام 1924إىل حدوث انقسام سيايس بشأن من قد يرث اللقب ،مام
أدى إىل إضعاف النزعة الوحدوية اإلسالمية مقارنة بالعهد العثامين (Hashmi,
) .2009:181–6وعىل النقيض من النزعة الوحدوية العربية ،كانت الوحدوية
اإلسالمية قلقة بشأن تآكل القيم اإلسالمية ،ورفضت مسارات التغريب والنزعة
العلامنية .وكان من أبرز نقاط تطورها تأسيس جامعة اإلخوان املسلمني عىل يد
املرصي حسن البنا يف العام .1928
كان الهدف املشرتك للنزعتني الوحدويتني العربية واإلسالمية هو رفض الدولة
القومية الوستفالية .وسيؤدي هذا إىل رصاعات سياسية كبرية ونزاعات إقليمية
يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية ،وهو ما سيشكل الفكر واملقاربة الدوليني
يف الرشق األوسط ،عىل رغم أن فكرة الدولة القومية ستظل مرنة وستسود عىل
التيارات الوحدوية بشقيها العريب واإلسالمي (.)Barnett, 1995
- 3 - 6أفريقيا والكاريبي
كام هو مذكور يف الفصل الثاين ،اختلفت النزعة الوحدوية األفريقية عن الحركات
الوحدوية القومية األخرى من ناحية أن دافعها األويل مل َ
يتأت من قادة قارة أفريقيا،
بل من األمريكيني األفارقة يف الواليات املتحدة ومنطقة البحر الكاريبي .لقد استمر
إدوارد دو بويز يف كونه ميثل شخصية مهمة .وكان دو بويز مهتام بشأن «إشكالية
اللون» التي مل تكن إشكالية داخلية بالنسبة إىل الواليات املتحدة فقط ،بل كانت
ُتشكل إشكالية كبرية بالنسبة إىل العامل بأرسه؛ مبا يف ذلك األفارقة داخل أفريقيا.
لقد أكد زعامء الوحدوية األفريقية منذ عرشينيات القرن العرشين ،من أمثال
ماركوس غاريف Marcus Garveyاملولود يف جامايكا ( ،)1940-1887عىل املايض
الجامعي والخربة املشرتكة للسود عىل جانبي املحيط األطليس .كام دافع غاريف عن
173
تشكيل العالقات الدولية العاملية
174
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
الدعوة إىل تنظيم حركة تحرير السود عىل نحو مستقل عن الحزب الشيوعي
الرتوسيك الطليعي .كام أن كتاب جيمس الذي جاء تحت عنوان «اليعاقبة السود»
) ،The Black Jacobins ([1938] 1989فاليزال ميثل رسدا كالسيكيا لدراسة
ماركسية لثورة العبيد يف هايتي يف تسعينيات القرن الثامن عرش .مثة عمل آخر
مهم يف هذه الفرتة أال وهو كتاب «الرأساملية والعبودية» Capitalism and
Slaveryإلريك ويليامز ) ،Eric Williams ([1944] 1994الذي أصبح أول رئيس
وزراء لرتينيداد وتوباغو من العام 1962إىل العام .1981حيث درس هذا العمل
كيفية مساهمة العبودية يف عملية الرتاكم الرأساميل الهائل يف بريطانيا والثورة
الصناعية ،وجادل بأن إلغاء بريطانيا النهايئ لتجارة الرقيق عرب املحيط األطليس يف
العام 1807والعبودية يف العام 1833مل يكن مدفوعا باملخاوف اإلنسانية ،ولكن
بأسباب اقتصادية ،خاصة أن االقتصاد الصناعي الربيطاين مع منو اعتامده عىل
العمل املأجور ،جعل العبودية غري فعالة اقتصاديا وزائدة عىل الحاجة.
- 3 - 7خالصات
لقد كانت نزعة مناهضة االستعامر موضوعا ودافعا ُمشرتكا لكثري من تفكري
حقل العالقات الدولية يف األطراف .كان هذا صحيحا عىل نحو خاص يف تلك
األماكن التي كانت التزال ُمستعمرة أو ُمخرتقة بشدة من طرف القوى الغربية،
وغالبا ما كان ذلك ُمتشابكا مع مزيج من اإلقليمية والنزعة الوحدوية ،والتي
ميكن أن يكون له عالقة معقدة بالقومية .ميكن للنزعة الوحدوية القومية أن
تكمل الحركات القومية ذات القاعدة الضيقة من خالل توفري إطار دعم ملناهضة
االستعامر .ولكن حتى يف حالة وجود نوع من التجانس العرقي (مثل أفريقيا)
أو القومي (مثل العامل العريب) أو الثقايف (مثل أمريكا الالتينية والعامل اإلسالمي)،
فإن النزعة الوحدوية القومية والدولة القومية ميكن أن تقعا يف توتر .مل تتضمن
النزعة الوحدوية اآلسيوية أي عامل تجانس واضح عىل اإلطالق باستثناء جغرافيا
مشرتكة ضخمة ومتنوعة ،ورغب ٍة يف االنعتاق من الهيمنة الغربية .لقد كانت
هذه الحركات الوطنية واإلقليمية ،مثلها مثل معظم فروع حقل العالقات الدولية
الغريب لفرتة ما بني الحربني العامليتني ،ذات خاصية معيارية /مثالية .لكنهم كانوا
175
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ضد اإلمربيالية ،وليس ضد حرب القوى الكربى .لقد احتلت اإلمربيالية بالنسبة إىل
املثقفني يف املستعمرات املكانة نفسها التي احتلتها إشكالية الحرب لدى باحثي
حقل العالقات الدولية الغربيني خالل سنوات ما بني الحربني العامليتني .ومل تكن
النزعة الوحدوية القومية يف فرتة ما بني الحربني تتعلق بقضية التحرر فقط ،بل
كانت أيضا متثل رؤية لكيفية تنظيم العامل .وحتى يف هذه املرحلة املبكرة ،كانت
مثة بدايات اهتامم بفكرة التنمية ،كام لوحظ ذلك يف أمريكا الالتينية والصني.
ليس من املستغرب أن يكون لدى مفكري الدول غري الغربية خالل فرتة ما بني
الحربني وما قبلها الكثري ليقولوه بشأن فكرة التنمية الدولية ،والتي كان يشء
منها سابقا للتفكري الغريب بشأن هذا املوضوع .فلم تكن أفكار العامل غري الغريب
متوافقة دامئا مع األفكار الغربية ،بل كانت يف الواقع تتعارض معها .وقد حصل
هذا جزئيا ألن تلك األفكار كانت معادية لالستعامر بطبيعتها وأصلها .حيث
احتوت تلك الحركات عىل مواقف متنوعة؛ مبا يف ذلك املثالية والواقعية .وغالبا ما
بديل منها .لكن يف بعض شددت عىل التحرر الثقايف عن الثقافة الغربية وإيجاد ٍ
األحيان ،وعىل نحو أكرث وضوحا مع النزعة الوحدوية اآلسيوية اليابانية -وإىل حد
ما مع الصينية -اقرتحت تلك الحركات الهيمنة اإلقليمية كمضاد رضوري للهيمنة
الغربية .فبالنسبة إىل األطراف ،ميكن رؤية االهتامم طويل األمد باملساواة يف
السيادة؛ وعدم التدخل؛ وحقوق اإلنسان؛ ومناهضة الهيمنة يف أمريكا الالتينية -
مثلام سيصبح أكرث عمومية بعد إنهاء االستعامر بعد العام 1945-كوضع متابع ٍة
طبيعي يتأىت من نزعة مناهضة االستعامر.
إن معظم النصوص الغربية الحالية بشأن العالقات الدولية تتجاهل هذه
األفكار اإلقليمية والقومية كمصدر للعالقات الدولية .ومن املثري لالهتامم أن
نرصد املواقف التي ُأبديت تجاه تلك األفكار من نص كان واسع االستخدام يف
فرتة ما بني الحربني ُكتب من طرف رميون ليزيل بويل ( ،)1925: 91الذي ساوى
بني هذه األفكار والعنرصية؛ أو «القومية العرقية» ،ومن ثم اعتربها أفكارا رجعية
أو ذات مركزية عرقية .إن هذا االعرتاف بالعرق كقوة مهمة يف العالقات الدولية
وفكر ما قبل الحرب العاملية األوىل وفرتة ما بني الحربني ُيعد شيئا مهام ،مام
يشري إىل أن حقل العالقات الدولية مل ينشأ فقط نتيجة لالنقسام املثايل والواقعي
176
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
القائم يف الغرب فقط ،ولكن نشأ أيضا نتيجة لالنقسام العنرصي واالقتصادي
والسيايس القائم بني الغرب والبقية .ومن املثري لالهتامم أيضا أن بويل بالكاد
مييز بني مثل هذه الحركات يف أوروبا (مثل النزعة الوحدوية الجرمانية؛ أو
النزعة الوحدوية السالفية؛ أو مفاهيم التفوق اآلري والتوتوين والشاميل) والنزعة
الوحدوية القومية يف العامل غري الغريب (كام هو الحال يف آسيا وأفريقيا وأمريكا
الالتينية والعامل العريب) .حيث ال مييز بني الدوافع الرجعية والتحررية التي
فرقت بينهام .يف الواقع ،لقد ُم ِّثل كل من التيارات الرجعية والتحررية يف معظم
الحركات الوحدوية القومية .وحتى اليابان؛ التي طورت نسخة متطرفة من النزعة
الوحدوية منذ أواخر القرن التاسع عرش تحت غطاء النزعة الوحدوية اآلسيوية
(وشعار آسيا لآلسيويني)َ ،ط َّورت رؤية أكرث تحررية كتلك التي مثلها أوكاكورا
تينشني وآخرون.
يرى بويل ( )1925: 92الحركات الوحدوية القومية يف الغرب كمصدر رص ٍاع،
أكرث أهمية من الرصاع الناجم عن أسباب اقتصادية أو سياسية بحتة ،ومن ثم
توقع حدوث «رصاع الحضارات» عىل منط هنتنغتون .وفيام يتعلق بـ «الحركات
الوحدوية القومية امللونة يف العامل» ،التي ضم إليها الوحدوية األفريقية؛
واإلسالمية؛ والعربية؛ والطورانية (الرتكية)؛ واآلسيوية ،فبينام كان العرق مهام يف
إنشائها ،مل يكن لدى هؤالء كثري لدعم أنفسهم باستثناء «االستياء املشرتك تجاه
اإلمربيالية األوروبية واألمريكية؛ واستغالل الرجل األبيض» (.)Buell, 1925: 93
كان بويل يعتقد أن هذه الحركات سوف تتالىش مبجرد إزالة مصادرها الخارجية،
أي زوال اإلمربيالية والهيمنة .ويف حني أن بويل ُيع ِّرف اإلمربيالية عىل نحو صحيح
عىل أنها مصدر رئيس لهذه الحركات الوحدوية القومية ،فإن العوامل املحفزة
وتأثريها كان يف الواقع متعدد األبعاد وأطول أمدا مام توقعه .فتلك الحركات
مل تحت ِو عىل رؤى بشأن تنظيم العامل واإلقليم فقط ،بل وفرت أيضا األساس
لتطوير معايري توجيه السلوك للعالقات الدولية يف فرتة ما بعد االستعامر ،كام
و َّفرت األفكار التي قامت عليها التأسيسات الالحقة لحركات عاملية مهمة مثل
مؤمتر باندونغ يف العام 1955؛ وحركة عدم االنحياز يف ستينيات القرن العرشين
(.)Acharya, 2009, 2011a
177
تشكيل العالقات الدولية العاملية
خالصات
خالل فرتة ما بني الحربني العامليتني أصبح حقل العالقات الدولية ُمأمسسا إىل
حد كبري باعتباره تخصصا أكادمييا عىل نحو أسايس يف الغرب؛ خاصة يف البلدان
الناطقة باللغة اإلنجليزية ،وأيضا ُمأمسسا إىل حد ما عىل الصعيد العاملي .وعىل
ذلك ،فقد احتفظ حقل العالقات الدولية بكثري من االستمراريات مع سابقه يف
القرن التاسع عرش .ومتاشيا مع املامرسة الفعلية يف العالقات الدولية ،اشتملت تلك
االستمراريات عىل فصل حاد جدا بني حقل العالقات الدولية داخل املركز؛ الذي
كان يركز إىل حد كبري عىل رؤى وإشكاليات دول املركز ،وحقل العالقات الدولية
داخل األطراف؛ والذي كان مدفوعا عىل نحو أسايس بنزعة مناهضة االستعامر.
كان هناك أيضا كثري من االستمرارية يف األنواع الرئيسة للموضوعات واملقاربات
والنظريات يف حقل العالقات الدولية ،مبا يف ذلك الليربالية؛ واالشرتاكية؛ والواقعية؛
والعنرصية «العلمية»؛ والقومية؛ واملنظمة الدولية؛ االقتصاد السيايس الدويل؛
والجغرافيا السياسية داخل املركز؛ ومناهضة االستعامر واإلقليمية داخل األطراف.
كام ظلت اإلدارة /التنمية االستعامرية موضوعا لكل من املركز واألطراف عىل
حد السواء ،وإن كان ذلك وفق منظورات مختلفة .لقد كانت معظم املوضوعات
والنظريات الرئيسة التي ستشكل حقل العالقات الدولية بعد العام 1945
موجودة بالفعل ،وكان بعضها؛ خاصة النسوية واالقتصاد السيايس الدويل،
تعمل عىل نحو كامل ،ولن تظهر مرة أخرى يف مرحلة ما بعد العام 1945حتى
السبعينيات .أيضا ،وعىل الرغم من املأسسة األكادميية لحقل العالقات الدولية
داخل كل من املركز واألطراف ،ظلت هناك عنارص غري أكادميية كبرية جدا تشارك
يف النقاشات القامئة بشأن هذا الحقل ،مبا يف ذلك املفكرون العامون؛ ومنظامت
منارصة القضايا املختلفة؛ والخطابات السياسية.
مل ُتبالغ الروايات ا ُملتعارف عليها لحقل العالقات الدولية خالل فرتة ما بني
الحربني يف هيمنة النزعة املثالية فقط ،ولكنها بالغت أيضا يف االختالفات القامئة بني
املثاليني والواقعيني ،بينام كانت ُتخفي تلك االختالفات القامئة داخل كل معسكر
( .)Long, 1995: 302–3; L. Ashworth, 2014متنح هذه الروايات أيضا امتيازا
للمركز وتتجاهل إىل حد كبري تفكري حقل العالقات الدولية داخل األطراف .مع
178
حقل العالقات الدولية :1945-1919التأسيس األول للتخصص املعريف
األخذ بعني االعتبار أن هذا األخري ُيظهر أن أصول حقل العالقات الدولية كانت
أكرث تنوعا وتعقيدا .ففي بعض الحاالت ،تتبعت املساهامت غري الغربية االتجاهات
السائدة يف الغرب ،ويف حاالت أخرى ُط ِّورت عىل نحو مستقل .وعىل سبيل املثال،
فإن انتقادات طاغور للقومية واإلمربيالية تسبق نظريتي توينبي وهوبسون عن
اإلمربيالية .لقد أرست فرتة ما بني الحربني العامليتني األساس ملقاربات التبعية وما
بعد االستعامرية يف حقل العالقات الدولية التي شقت طريقها إىل حقل العالقات
الدولية داخل املركز مبجرد أن بدأ مسار إنهاء االستعامر يف كرس الفصل القائم
بني املركز واألطراف ،وتعطيل استبعاد املركز لألطراف من العالقات الدولية كحقل
معريف وكمامرسة.
إن إجراء تحقيق عاملي بشأن أصول حقل العالقات الدولية سيحيلنا إىل حقيقة
سجل يف النصوص املتاحة يف هذا التخصص املعريف؛ مبا يف وجود تنوع وتعقيد مل ُي َّ
ذلك تلك النصوص التي سعت إىل التشكيك يف فكرة النقاش األول .أوال ،إن تصنيفات
مثل النقاش املثايل -الواقعي أو النزعة املثالية ،والنزعة الطوباوية والنزعة الواقعية،
تعترب مفرطة يف التبسيط بحيث ال تتناسب مع تنوع طرق التفكري واألساليب التي
ميكن أن تشكل مصدرا لحقل العالقات الدولية عىل نحو رشعي .كام أنها لن تتناسب
بسهولة مع التصنيفات الثورية أو ما بعد االستعامرية مثلام أصبحت معروفة عليه
خالل تطور هذا التخصص بعد الحرب العاملية الثانية .فجواهر الل نهرو ،الذي
ُينظر إليه عموما يف الغرب عىل أنه ذو نزعة مثالية (وهي التسمية التي رفضها)
أو حتى ذو نزعة ليربالية عاملية ،انجذب لفرتة وجيزة نحو النزعة املاركسية ،ورفض
تحالفات القوى الكربى.
لقد تجاوز الفكر الدويل خالل فرتة ما بني الحربني النقاش املثايل والواقعي .ففي
حني أن عديدا من املفكرين والقادة غري الغربيني اتفقوا مع «املثاليني» الغربيني بشأن
البشاعة األخالقية واملخاطر الجسدية للحرب ،فقد اتفقوا أيضا مع أولئك الواقعيني
الذين رأوا النفاق ا ُملتجسد يف النزعة الليربالية الغربية /املثالية عندما يتعلق األمر
باالستعامر يف العامل غري الغريب .فهم مل يتقبلوا منظور «انسجام املصالح» الذي
انتقده إدوارد كار .كام أنهم مل يتقبلوا الرؤية املثالية لفرتة ما بني الحربني القائلة
إن الحرب ميكن منعها من خالل االعتامد املتبادل أو من خالل املؤسسات يف ظل
179
تشكيل العالقات الدولية العاملية
غياب الجهود الالزمة للقضاء عىل االستعامر .كان املثاليون والواقعيون الغربيون
أكرث اهتامما بإشكالية الحرب بني الدول الغربية؛ وإشكالية الفوىض الدولية؛ وعىل
نحو أقل ،باإلمربيالية .يف حني أن املفكرين يف العامل غري الغريب كانوا مهتمني يف املقام
األول باإلمربيالية واالستعامر .هذا ال يعني أنهم مل يكونوا مهتمني مبسألة السالم
العاملي ،لكنهم مل يؤمنوا بإمكانية تحقيق السالم أو النظام العاملي ببساطة عن
طريق القضاء عىل الحرب بني القوى األوروبية .إذ إن ذلك سيتطلب أيضا معالجة
قضايا اإلمربيالية ،ويف بعض الحاالت معالجة قضايا القومية أيضا.
180
احلديثة
5
مقدمة
يرصد هذا الفصل قصة التاريخ الدويل بدءا
من التاريخ الذي توقفنا عنده يف الفصل الثالث
عىل مشارف نهاية الحرب العاملية الثانية .لقد
جادلنا هناك بأن الحرب العاملية الثانية أنتجت
عديدا من التغيريات الرئيسة املعيارية واملادية
يف ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ،ومبا يكفي لِ ُي َع َّد
مبنزلة انتقال من الصيغة األوىل من ا ُمل ْج َت َمع
االس ِت ْع َاَم ِري الذي ُأنشئ
الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ال َغ ْر ِيِب ْ
خالل القرن التاسع عرش ،واستمر بعد الحرب
العاملية األوىل ،إىل الصيغة األوىل ا ُمل َعدَّلة من
«كان يُنظر إىل الرأساملية الغربية عىل
ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ال َغ ْر ِيِب بعد العام .1945 نطاق واسع يف العامل الثالث عىل أنها
بداًل من الصيغة نحن نسميه بالصيغة املعدلةً ، استمرار مبارش لعدم املساواة واالستغالل
االستعامريني ،وأنها متثل تهديدًا للسيادة
الثانية ،ألنه وعىل الرغم من أن التغيريات التي املكتسبة حدي ًثا لدول العامل الثالث»
181
تشكيل العالقات الدولية العاملية
طالته كانت كثرية وكبرية ،فإنها كانت تغيريات يف النظام /املجتمع وليست تغيريات
عىل مستوى الصيغة ككل .فقد كانت العالقات الدولية التزال قامئة عىل شكل نظام
من الدول ،وبقي عديدٌ من املؤسسات الرئيسة املحددة لذلك النظام عىل حاله.
لخص القسم التايل بإيجاز االستمرارية وعدم االستمرارية بدءا من ا ُمل ْج َت َمع ُي ُ
الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ملا قبل العام .1945يف حني يتطرق القسم الذي يليه مبزيد من
التفصيل إىل املوضوعات الرئيسة للصيغة األوىل ا ُمل َعدَّلة من ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي
خالل الفرتة املمتدة من العام 1945إىل العام :1989أي خالل فرتة الحرب الباردة
وإنهاء االستعامر.
حالة مناسبة لفعل ذلك(٭) .فقد كانت الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي أكرب
املنترصين يف الحرب العاملية الثانية ،ورسعان ما برزا كمركزين مهيمنني للقوة
العسكرية واملنافسة األيديولوجية .أصبحت خطوط وقف إطالق النار بينهام يف
أوروبا وشامل رشق آسيا هي الحدود التي ترسم النظام العاملي الجديد .كان هذا
تشكياًل بني الرشق والغرب عُ ِّرف بأنه منافسة أيديولوجية عاملية بني الرأساملية ً
وجه بشأن من سيهيمن الدميوقراطية الليربالية واالقتصاد الشيوعي الشمويل ا ُمل َّ
عىل مستقبل الحداثة .إن تطوير ترسانات كبرية من األسلحة النووية ،وأنظمة
اإليصال بعيدة املدى الالزمة لنقلها عرب مسافات عابرة للقارات ،م َّيز برسعة هاتني
«القوتني العظميني» Superpowersعن بقية «القوى الكربى» .Great Powersأما
املجموعة التقليدية من القوى الكربى فقد تراجعت جميعها إىل املرتبة الثانية من
القوى الكربى ،أو تراجعت إىل ما هو أسوأ .لقد احتُلت أملانيا واليابان و ُنزع سالحهام
خضعتا للقوتني العظميني .ويف حني أنهام استعادتا برسعة قوتيهام االقتصادية، ُوأ ِ
فإنهام فقدتا إىل حد كبري ليس اإلرادة السياسية والرشعية الدولية فقط ،بل فقدتا
أيضا االستقالل السيايس ليك تصبحا قوتني كربيني كاملتنيُ .ح َّلت املشكلة األملانية ً
من خالل تقسيم البالد بني املعسكرين السوفييتي واألمرييك .وكانت بريطانيا ً
أيضا
من بني املنترصين ،ومارست عىل مدى فرتة وجيزة دو ًرا باعتبارها قوة عظمى ثالثة
،third superpowerولكن رسعان ما تحولت إىل مجرد قوة كربى بسبب ضعفها
االقتصادي وفقدانها لإلمرباطورية .أما فرنسا فقد كافحت للتغلب عىل هزميتها
وإعادة تأكيد وضعها باعتبارها قوة كربى .وتراجعت مكانة أوروبا من كونها متثل
مركز السياسة العاملية وتوازن القوى إىل كونها متثل محطة رئيسة للتنافس بني
القوتني العظميني .وتحول الرتكيز الرئيس للقوى املتبقية يف أوروبا الغربية من
حجة ضد استخدام مصطلح القطبية الثنائية .متيز نظرية القطبية فقط بني القوى العظمى والبقية. (٭) ّمثة أيضا ّ
إنها تتجاهل التمييز بني القوى العظمى Superpowersوالقوى الكربى ،Great Powersوالذي ميكن املحاججة بأنه
يظل ذا تأثري كبري عىل كيفية عمل املجتمع الدويل العاملي باتباع هذا التفكري .كان للمجتمع الدويل العاملي خالل فرتة
الحرب الباردة قوتان عظميان وعدة قوى كربى :الصني ،والجامعة األوروبية ،وميكن إضافة اليابان .لقد تكرر الخطأ
نفسه بعد انهيار االتحاد السوفييتي .حيث ُأعلن عن األحادية القطبية عىل نطاق واسع ،ولكن الواقع كان الهيكل
الدويل يتشكل من قوة عظمى واحدة وأربع قوى كربى .هناك فرق بنيوي هائل بني نظام يحوي فقط قوى عظمى
وقوى صغرى أو إقليمية ،ونظام توجد فيه قوى كربى تقف بني القوة (القوى) العظمى والبقية .ملزيد بشأن هذا
املوضوع انظر[ .)Buzan 2004a( :املؤلفان].
183
تشكيل العالقات الدولية العاملية
مامرسة دور اإلمرباطوريات العاملية إىل محاولة إيجاد طريق للتكامل اإلقليمي،
وإبقاء الواليات املتحدة يف منظمة حلف شامل األطليس (الناتو) ألجل حاميته.
وأصبحت اليابان حلي ًفا تاب ًعا ألمريكا وقاعدة أمامية لها يف غرب املحيط الهادئ.
لكن بينام ُتقدم القطبية الثنائية قصة قوية ،فإنها مل تكن القصة الوحيدة يف هذا
املشهد والتي حددت تلك الحقبة ،وقد ال تكون أيضا القصة الرئيسة التي شوهدت
خالل هذا التاريخ الطويل .إن القصة الكبرية األخرى متثلت يف قصة إنهاء االستعامر
بني الشامل والجنوب .ويف حني أن القطبية الثنائية حددت القوتني العظميني
ومعسكراتهام؛ كام حددت األيديولوجيتني املتنافستني بشأن مستقبل الحداثة،
فإن إنهاء االستعامر حدد عاملًا ثال ًثا؛ وموق ًفا لعدم االنحياز ،خارج الهيكل ثنايئ
تفضيل
ٍ القطبُ .تقدم القطبية الثنائية عىل نحو أسايس قصة القوى املَ ْر َكزية ،مع
لأل ْط َراف .ويتامىش هذا مع قصة القوى الكربى منذ فرتة ما بني وتهميش َ
ٍ لل َم ْر َكز
الحربني العامليتني ،حيث كان مثة تركيز رئيس عىل املنافسة بني القوى الكربى ،كام
أن االستعامر املستمر سمح بإلغاء دور األَ ْط َراف يف العالقات الدولية إىل حد كبري.
للم ْج َت َم ِع
وىَل ُ ولكن منذ العام 1945أدى إنهاء االستعامر إىل تغيري صورة الصي َغة ُ
األ َ
الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي بطريقة جذرية .فقد ُنزعت الرشعية عن العنرصية واالستعامر
كنظم للمجتمع الدويل العاملي ،ورسعان ما تضاعفت عضويته لثالثة أضعاف مع
إضافة أكرث من مائة دولة جديدة ذات سيادة يقع معظمها يف أفريقيا وآسيا ،وتحول
االس ِت ْع َاَم ِري إىل الصيغة األوىل ا ُمل َعدَّلة مننظام ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ال َغ ْر ِيِب ْ
ا ُمل ْج َت َمع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ال َغ ْر ِيِب :لقد ظل املجتمع الدويل خاض ًعا لثنائية املَ ْر َكز-
لأل ْط َراف اآلناألَ ْط َراف من حيث املواقع االقتصادية املهيمنة والتابعة ،ولكن أصبح َ
صوتها ومكانتها السياسية الخاصة .لقد ُق ِّسم اآلن االقتصاد السيايس العاملي بشكل
مضاعف :الرشق والغرب ،والشامل والجنوب .وبعد العام 1945انهار الفصل الحاد
بني العالقات الدولية التي كانت قامئة فيام بني دول املَ ْر َكز «املتحرض»؛ والعالقات
رض واألَ ْط َراف ا ُمل ْس َت ْع َمرة ،واندمج
االستعامرية التي كانت قامئة بني املَ ْر َكز ا ُملت ََح َ
هذان العنرصان بشكل متزايد يف قصة واحدة.
ويف حني أن هذه القصص ا ُملتَأَ ِتية من الرشق والغرب والشامل والجنوب
أيضا روابطها .فقد قصصا متميز ًة لها دينامياتها ونتائجها ،بيد أنها قصص لها ً ُمُتثل ً
184
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
تنافست القوتان العظميان وحلفاؤهام عىل النفوذ والحلفاء داخل العامل الثالث،
ورأوا نجاحاتهم وإخفاقاتهم هناك كمؤرشات عىل من كان يربح ومن يخرس الرصاع
األيديولوجي الكبري الدائر بينهام .يف االتجاه اآلخر ،أدت دول العامل الثالث دور
القوتني العظميني إحداهام ضد األخرى من أجل تعظيم نفوذهام يف الوصول إىل
املوارد االقتصادية والعسكرية .أما الصني فقد متوقعت بشكل محرج يف كل من
قصص الرشق والغرب والشامل والجنوب .كام ترصفت كأنها قوة كربى تجاه العامل
الثالث أكرث من كونها عض ًوا فيه ،عىل الرغم من أنها كانت دولة نامية .وأصبحت
عىل نحو متزايد متثل العجلة الثالثة داخل بنية القوة واأليديولوجيا ثنائية القطب.
- 2 - 1املَ ْر َكز
مثة موضوعان رئيسان سيطرا عىل العالقات الدولية لدول املَ ْر َكز بني العامني
1945و ،1989وميزاها عن فرتة ما بني الحربني العامليتني :التحول من التوزيع
متعدد األقطاب إىل التوزيع الثنايئ القطب للقوة ،والثورة يف الشؤون العسكرية؛
عجل بحصوله ظهور األسلحة النووية.
وهو التحول الذي َّ
وكام أشار ألكسيس دي توكفيل )Alexis de Tocqueville ([1835] 2006
يف كتابه «الدميوقراطية يف أمريكا» ،Democracy in Americaفإن روسيا
وأمريكا كانتا تربزان كقوتني عمالقتني من شأنهام أن تهيمنا عىل العامل يو ًما ما
185
تشكيل العالقات الدولية العاملية
عىل الرغم من أنهام كانتا تتبعان ُطر ًقا مختلفة متا ًما للتنمية .ويف العام 1945
تحققت تنبؤات دي توكفيل الجيوسياسية .فقد حطمت الحرب القوى الكربى
التقليدية األخرى وخفضت من مرتبة كل منها .حيث تعرضت أملانيا واليابان
للهزمية والسحق واالحتالل .وتعرضت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا للرضر والنضوب
والتأرجح عىل شفا اإلفالس .يف حني أن الواليات املتحدة مل تترضر ،وصارت مهيمنة
عىل األصعدة املالية والصناعية والعسكرية والسياسية .أما االتحاد السوفييتي
فقد تعرض ألرضار جسيمة من الناحية االقتصادية سببت له خسائر فادحة ،لكنه
ظل قو ًيا عىل الصعيدين العسكري والسيايس .إذ كان يف حالة احتالل دائم ألوروبا
الرشقية وأملانيا الرشقية ومنشوريا عىل مدى فرتة كافية مكنته من نهب الصناعة
التي وطنتها اليابان هناك.
لقد متيز هذا التحول يف القطبية بظهور املصطلح الجديد «القوى العظمى»
(superpowers٭) ،لكن القطبية الثنائية كانت أكرث بكثري من مجرد ترتيب مادي
جديد للقوة .فعىل الرغم من االختالفات األيديولوجية القوية القامئة بينهام،
فإن الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي تعاونا يف النهاية من أجل هزمية
الفاشية .وقد أدى نجاح هذا املرشوع إىل تحويل الثالثية األيديولوجية لفرتة
ما بني الحربني إىل ثنائية أبسط ولكن أكرث كثافة ،إذ انحرست بني الرأساملية
الدميوقراطية من جهة؛ واالقتصاد الشمويل املوجه من جهة أخرى .كان السؤال
الذي اليزال قامئا يتمحور حول ماهية الشكل الذي سيتخذه االقتصاد السيايس
للحداثة ،لكن الخيارات التي كانت مطروحة تراجعت اآلن إىل خيارين اثنني –
يتموقعان عىل طريف نقيض .كام مكن القضاء عىل الفاشية من إقصاء الصيغة
الضيقة والعنرصية للحداثة من تلك املنافسة القامئة بني الرأساملية واالقتصاد
الشمويل .رمبا كانت الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي يتموضعان عىل طريف
نقيض من الطيف األيديولوجي ،ولكن عىل عكس القوى الفاشية ،كان كالهام
ميثل أيديولوجيات تشمل الجميع .من حيث املبدأ ،ميكن ألي شخص أن يقبل أو
ُيقبل ،يف أسلوب الحياة واالقتصاد السيايس لكل منهام ،كام أن كليهام كان يعتقد
(٭) حازت هذا الوضع دولتان اثنتان فقط بعد الحرب العاملية الثانية ،هام الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي.
[املرتجم].
186
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
أنه ميتلك مستقبل الحداثة .لقد أدى هذا إىل جعل التنافس بينهام يأخذ طاب ًعا
تنافس ًيا صفر ًيا عىل نحو حاد ،ورسعان ما أظهر نفسه ليس فقط يف القطبية
أيضا يف استقطاب دول املَ ْر َكز الثنائية القامئة بني القوتني العظميني ،ولكن ً
ضمن تحالفني (حلف الناتو مقابل حلف وارسو) واقتصادين (منظمة التعاون
االقتصادي والتنمية ( )OECDواالتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية
والتجارة ( )GATTوصندوق النقد الدويل ،IMFيف مواجهة مجلس املساعدة
االقتصادية املتبادلة).
امتلك االتحاد السوفييتي ميزة أيديولوجية متثلت يف :أنه برغم احتالل روسيا
الطويل آلسيا الوسطى ،ومحاولة ستالني بعد الحرب كسب موطئ قدم له يف تركيا
وإيران وليبيا ( ،)Westad, 2007: 57–66مل تربط دول العامل الثالث شكلها الحدايث
مع االستعامر ،بل عىل النقيض من ذلك ،كان ُينظر إىل الرأساملية الغربية عىل
نطاق واسع يف العامل الثالث عىل أنها استمرار مبارش لعدم املساواة واالستغالل
االستعامريني ،وأنها متثل تهديدًا للسيادة املكتسبة حدي ًثا لدول العامل الثالث .وعىل
رغم ذلك ،كانت كلتا القوتني العظميني مناهضة لالستعامر عىل طريقتها .حيث
عارضت كلتاهام اإلمربيالية القدمية للقوى األوروبية واليابان ،مام م َّثل تحو ًاًل
أيديولوج ًيا كب ًريا يف شخصية ونظرة القوى املهيمنة يف املَ ْر َكز مقارنة بسنوات ما بني
الحربني .فقد منحت الواليات املتحدة االستقالل ملستعمراتها يف الفلبني يف العام
.1946ولكن بالنظر إىل أن كلتا القوتني العظميني اتبعتا بنشاط صيغ اإلمرباطورية
غري الرسمية؛ وذلك بح ًثا عن عمالء وقواعد ومحميات ،كان مثة نوع من النفاق
البسيط يف موقفهام املناهض لالستعامر ،وال سيام عند الجانب السوفييتي نظ ًرا إىل
احتالله العسكري والسيايس اإلمرباطوري ا ُملقنَّع ألوروبا الرشقية بعد العام .1945
مهاًم ألنه كان إحدى القوى العديدة التي أسقطت غري أن خطابه كان عنرصا ً
االستعامر والعنرصية كنظم للمجتمع الدويل العاملي.
عىل الرغم من بساطتها الجذابة ومالءمتها السطحية ،كانت القطبية الثنائية
-كام لوحظ سابقا -دامئًا طريقة غري دقيقة إىل حد ما لتحديد بنية املَ ْر َكز .حيث
مل تقترص القطبية الثنائية عىل استبعاد مجموعة من القوى القدمية التي كانت
التزال «كربى» إن مل تكن «عظمى» (أوروبا الغربية واليابان) ،ولكنها استبعدت
187
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أيضا الصني الصاعدة التي بدت /وكانت تترصف عىل نحو متزايد مثل «القطب» ً
الثالث يف النظام الدويل .وعندما أعادت أملانيا واليابان بناء اقتصاداتهام ،وبدأتا
يف منافسة (ويف حالة اليابان تجاوزت) اقتصاد االتحاد السوفييتي ،بدأ التمييز بني
«القوة الكربى» Great powerو«القوة العظمى» Superpowerيف التاليش .فقد
أصبحت أملانيا واليابان «قوى مدنية هائلة» ( ،)Maull, 1990أما بريطانيا وفرنسا
فأصبحتا متتلكان أسلحة نووية وبعض القدرة عىل القيام بعمليات عسكرية عىل
أيضا رؤية الظهور املطرد للمجموعة املستوى العاملي .لقد تجاهلت القطبية الثنائية ً
االقتصادية األوروبية EECباعتبارها نوعا جديدا من القوة عىل املرسح العاملي.
وحتى بني الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي ،فإن التكافؤ الذي توحي به
كلتا القوتني العظميني مل يصمد أمام ال َت َف ُّحص الدقيق لذلك ( .)Dibb, 1986رمبا
كان التكافؤ ُمرب ًرا أكرث من الناحية العسكرية .وبرغم أن االتحاد السوفييتي كان يف
كثري من األحيان يتموضع وراء الواليات املتحدة من الناحية التكنولوجية ،فإنه سعى
بقوة إىل الحصول عىل التكافؤ العسكري معها والحفاظ عليه .يف البداية ،تم ذلك
من خالل االستمرار يف التعبئة بعد الحرب ،بينام رسعان ما رسحت الواليات املتحدة
قواتها الحربية الضخمة واستندت إىل احتكارها لألسلحة النووية .لقد اخترب االتحاد
السوفييتي سالحه النووي يف العام ،1949وبدا فرت ًة من الوقت خالل الخمسينيات
من القرن العرشين أنه كان رائدًا يف أنظمة إطالق الصواريخ .يف حني أجربت الحرب
الكورية ( )1953–1950الواليات املتحدة عىل إعادة التعبئة ،ومن تلك النقطة
فصاعدًا ،انخرط االثنان يف سباق تسلح شامل لألسلحة التقليدية والنووية ،وأنظمة
التوصيل الخاصة باألخرية .لقد نجح االتحاد السوفييتي يف تحقيق التكافؤ النووي
مع الواليات املتحدة خالل السبعينيات .كام احتفظ بقوات برية أكرب من الغرب
خالل الحرب الباردة ،ولكن برغم توسعه البحري ،فإنه مل يحقق القدرة عىل العمل
كقوة بحرية عاملية مامثلة للواليات املتحدة .إذ كان عىل االتحاد السوفييتي أن
يعمل بجد للحفاظ عىل التكافؤ العسكري .وقد كان تعلي ًقا ُمنص ًفا القول بأنه يف
حني كان لدى الواليات املتحدة مجمع صناعي عسكري ،كان االتحاد السوفييتي إىل
حد ما مجم ًعا صناع ًيا عسكر ًيا يف حد ذاته (.)Buzan and Hansen, 2009: 76–7
إذ مل ينتج اقتصاد االتحاد السوفييتي سوى القليل من السلع األساسية ،وكان عليه
188
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
أن ينفق نسبة أكرب من ناتجه املحيل اإلجاميل الصغري عىل الدفاع من أجل مواكبة
الواليات املتحدة(٭).
لقد كان االدعاء السوفييتي بأنه يحوز وضع القوة العظمى superpowerادعاء
واهيا يف القطاع االقتصادي .فخالل الخمسينيات والستينيات من القرن العرشين ،بدا
االدعاء السوفييتي جيدًا .إذ منحه التعايف من الحرب معدل منو قويا ،وبدا االقتصاد
منافسا ذا مصداقية للرأساملية الغربية من حيث عديد من األشياء مثل ً املوجه
إنتاج الصلب والطاقة .إن التفاخر الشهري لنيكيتا خروتشوف Nikita Khrushchev
والذي جسدته عبارته «سوف ندفنكم»(٭٭) وذلك خالل زيارته إىل أمريكا يف أوائل
الستينيات ،مل يكن تهديدًا عسكر ًيا ولكنه كان تهديدا يتعلق بإنتاج السلع االستهالكية.
لقد ُمنحت هذه املصداقية ليس فقط من خالل اإلنجازات السوفييتية يف التكنولوجيا
أيضا من خالل النجاحات املبكرة يف سباق الفضاء ،والذي العسكرية واإلنتاج ،بل ً
شكل إطالق القمر االصطناعي سبوتنيك يف العام 1957إيذا ًنا ببدايته .ولكن بحلول
واضحا .فقد فشل االقتصاد
سبعينيات القرن العرشين أصبح خواء تفاخر خروتشوف ً
السوفييتي يف إنتاج الكثري من السلع االستهالكية ،وبخالف القطاع العسكري ،فشل يف
االبتكار ومواكبة التقدم التكنولوجي يف قطاعات أخرى .وبحلول أواخر السبعينيات
أصبحت اليابان متثل ثاين أكرب اقتصاد(٭٭٭) ،حيث أذهلت العامل بابتكاراتها يف مجال
(٭) نظرا إىل املستوى العايل من الرسية السوفييتية ،وصعوبة تفسري اإلحصائيات التي نرشها عىل املأل ،كان ّمثة كثري
من الجدل بشأن كيفية حساب كل من الناتج املحيل اإلجاميل السوفييتي واإلنفاق العسكري .تشري اإلحصاءات التي
قدمها املعهد الدويل للدراسات اإلسرتاتيجية ( )62 :1971إىل أنه بني العامني 1951و ،1970تفوقت الواليات املتحدة
بانتظام عىل االتحاد السوفييتي عىل مستوى الدفاع مبا يرتاوح بني الربع والثلث .ويشري معهد ستوكهومل الدويل
ألبحاث السالم ( )9-36 :1979إىل أن الفجوة كانت أشبه بالثلث إىل النصف ،وأن االتحاد السوفييتي ينفق بانتظام
ما بني 1يف املائة و 3يف املائة من ناتجه املحيل اإلجاميل عىل الدفاع ،أكرث مام أنفقته الواليات املتحدة[ .املؤلفان].
(٭٭) هي عبارة استخدمها رئيس الوزراء السوفييتي نيكيتا خروتشوف ،بينام كان يلقي خطابا .وقد ُترجمت هذه
العبارة يف األصل إىل اللغة اإلنجليزية عىل نحو حريف من قبل مرتجم خروتشوف الشخيص فيكتور سخدروف .و ُف ِّرِّس
ذلك عند عديد من األمريكيني بأنه مبنزلة تهديد نووي ،وهو ما كاد يسبب أزمة بني البلدين .ولكن نيكيتا خروتشوف
كان يشري إىل مقولة مجازية ماركسية يف الفصل األول من بيان الحزب الشيوعي «إن الربجوازية هم حفارو قبورهم
الخاصة ،حيث إن سقوطها وانتصار الربوليتاريا أمران حتميان» .واملقصود بعبارة «سوف ندفنكم» يف ترصيح رئيس
الوزراء السوفييتي نيكيتا خروتشوف ،هو أن الطبقة الرأساملية الربجوازية هي التي ستنهي نفسها بنفسها وسوف
تنترص عليها الشيوعية[ .املرتجم].
) United Nations National Accounts Main Aggregates Database: all countries for all years,٭٭٭(
https://unstats.un.org/unsd/snaama/dnllist.asp (Accessed 5 July 2017).
[املؤلفان].
189
تشكيل العالقات الدولية العاملية
190
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
األحزاب السياسية املاركسية قوية يف أجزاء كثرية من أوروبا الغربية ،كام كانت
الحركات الثورية املستوحاة من املاركسية شائعة يف أمريكا الالتينية.
لكن اللمعان السيايس األويل لالتحاد السوفييتي رسعان ما بدأ يف التالىش .فالقمع
القايس الذي مارسه تجاه االنتفاضات يف بولندا واملجر ()1956؛ وتشيكوسلوفاكيا
( ،)1968جعله يبدو كأنه إمرباطورية أكرث من كونه منب ًعا لإللهام األيديولوجي ،كام
أدى التحول إىل املواجهة األيديولوجية مع الصني يف أواخر الخمسينيات إىل تقسيم
الوالءات الشيوعية يف جميع أنحاء العامل .ومنذ سبعينيات القرن املايض أصبح
واضحا عىل نحو متزايد ،مام قوض مزاعمه بت ََس ُّيدأداؤه االقتصادي الضعيف نسب ًيا ً
مستقبل الحداثة .لقد كانت قيادته عبارة عن خالفة غري ملهمة ألعضاء الحزب
القدامى ،كام أن غزوه أفغانستان يف العام ،1979والحرب التي استمرت عقدًا من
الزمان بعد ذلك ،جعلته يبدو مرة أخرى قو ًة إمربيالي ًة يف نظر الكثريين حول العامل
الثالث .وبرصف النظر عن بعض اإلنجازات البارزة يف الرياضة والثقافة العالية،
وباهتا عند مقارنته بثقافة البوب واألزياء والرتفيهبدا املجتمع السوفييتي رماد ًيا ِ
الجامهريي والنقاش املفتوح والنزعة االستهالكية الوافرة يف املجتمعات الرأساملية.
لقد كان االنهيار الرسيع لإلمرباطورية السوفييتية يف أوروبا الرشقية؛ فور أن رفع
ميخائيل جورباتشوف خطر التدخل ،مبنزلة الرضبة القاضية للمعقولية السياسية
السوفييتية ،ورسعان ما َت ِب َع ذلك تفكك االتحاد السوفييتي نفسه.
وبحلول منتصف الثامنينيات أصبح من الواضح عىل نطاق واسع أن االتحاد
السوفييتي قد خرس الحرب الباردة ،أو ،عىل العكس من ذلك ،أن االقتصاد السيايس
للرأساملية كان يفوز بتلك الحرب .وعىل نحو متزايد ،ظلت ترسانته النووية الضخمة
والتكافؤ النووي الواسع مع الواليات املتحدة ميثل األساس الوحيد املتبقي ملزاعم
االتحاد السوفييتي بأنه ُي َعدُّ قو ًة عظمى.
باملقارنة مع االتحاد السوفييتي ،كانت الواليات املتحدة يف الواقع ُت َعد قوة
عظمى كاملة الطيف .حيث كانت جميع قواتها املسلحة ،وليس فقط أسلحتها
فعاًل بامتداد عاملي .لقد أظهرت الواليات املتحدة هذه القدرة النووية ،تتمتع ً
عىل نطاق واسع خالل الحرب العاملية الثانية ،وعاودت فعل ذلك مرة أخرى مع
انتشارها العسكري يف أوروبا واليابان ،وكذا مع الحروب البعيدة التي خاضتها يف
191
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كوريا وفيتنام .وبفضل شبكة قواعدها يف جميع أنحاء العامل ،ونرش أساطيلها يف
عديد من املحيطات وقدرتها الهائلة عىل النقل البحري والجوي ،أصبح بإمكان
الواليات املتحدة يف كثري من األحيان أن تتحرك عسكريا يف كل من العامل الثالث
وجميع أطراف املعسكر الشيوعي .أما من الناحية االقتصادية ،فقد كانت الواليات
املتحدة متثل مركز النظام املايل والتجاري الذي شمل جميع االقتصادات الرأساملية
كاًل من منظمة الكربى ،والذي تغلغل بعمق يف بلدان العامل الثالث .ويف حني أن ً
التعاون االقتصادي والتنمية؛ والجات GATT؛ وصندوق النقد الدويل مثلام هو
مقرتح فيام سبق ،ميكن اعتبارها أدوات للمعسكر االقتصادي الغريب ،رمبا كان ُينظر
إليها بشكل أفضل عىل أنها تشكل مؤسسات لالقتصاد العاملي اختارت دول املعسكر
الشيوعي إقصاء نفسها منها .ومع ضعف اقتصاد االتحاد السوفييتي ،أصبحت
وضوحا .إن كون النظام االقتصادي ً الطبيعة العاملية للنظام االقتصادي الغريب أكرث
) ٭
واضحا بالتأكيد لدينغ شياو بينغ عندما قرر
(
الغريب ميثل النظام العاملي ،كان شيئا ً
يف أواخر السبعينيات أن الصني يجب أن تنضم إليه.
إن أولئك الذين كانوا يسعون يف العامل الثالث إىل الحد من االستغالل االقتصادي
وتحسني تنميتهم الخاصة مل يكن لديهم أدىن شك يف أنهم مازالوا يتحركون داخل
خاضع ملنطق بنية املَ ْر َكز -األَ ْط َراف ،وأنهم كانوا يفعلون ذلك من
ٍ اقتصاد عاملي
موقع تبعية مجحف .لقد اشتكوا من رشوط التبادل التجاري القائم بني املَ ْر َكز
الصناعي واألَ ْط َراف التي تزوده باملواد ،ووجدوا أنفسهم عالقني يف مختلف األزمات
(الديون والنفط) التي ابتليت بها األنظمة الرأساملية .تأثرت العديد من دول العامل
الثالث بشدة من جراء ارتفاع أسعار النفط خالل السبعينيات ،وال سيام يف أمريكا
الالتينية ،وذلك بسبب أزمة الديون املتفاقمة خالل فرتة الثامنينيات .وعىل الرغم
من هذا االضطراب السائد وبعض التقلبات املحلية ،فإن االقتصاد األمرييك ظل
قو ًيا و ُم ْب َت ِك ًرا و ُم ْزد َِه ًرا خالل فرتة الحرب الباردة .ومع تعايف أوروبا واليابان خالل
الخمسينيات والستينيات من القرن املايض ،خرست الواليات املتحدة هيمنتها
(٭) دينغ شياو بينغ ( 22أغسطس 1904ـ 19فرباير )1997سيايس ِّ
ومنظر وقائد صيني ،يف عهد رئاسته للبالد ،قاد
الصني (بني العامني 1978و )1992نحو تبني اقتصاد السوق .توىل قيادة الحزب الشيوعي الصيني بعد إطاحته بهوا
جيو فينج الذي كان خليفة ماو تيس تونغ كزعيم للحزب الشيوعي الصيني وجمهورية الصني الشعبية [املرتجم].
192
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
االقتصادية املتطرفة التي كانت تتمتع بها يف العام ،1945لكنها ظلت متثل املَ ْر َكز
الذي ربط النظام االقتصادي الدويل الليربايل بعضه ببعض .ومبا أن النمور اآلسيوية،
وأيضا الصني منذ العام ،1978ازدهرت يف ظل التطور الرأساميل ،فإن الواليات ً
املتحدة ،وعىل عكس االتحاد السوفييتي بحلول الثامنينيات ،كان اليزال بإمكانها أن
تدعي عىل نحو معقول أنها متتلك مستقبل الحداثة.
أيضا أيديولوجية ومجتمع جذابان بالنسبة إىل لقد كان للواليات املتحدة ً
كثريين .ومثل االتحاد السوفييتي ،بدأ األمر بفضل كبري من كون أمريكا كانت القوة
الرئيسة التي تقف وراء هزمية الفاشية .ومع استقطاب عامل ما بعد الحرب رسي ًعا
نصبت الواليات املتحدة نفسها حصنا نحو معركة أيديولوجية ذات محصل صفريَّ ،
ومدافعا عام يسمى بـ «العامل الحر» .من الناحية األيديولوجيةَ ،ق َّد َمت الواليات
املتحدة النزعة الفردية؛ والرأساملية؛ والدميوقراطية؛ وحقوق اإلنسان ،يف مواجهة
النزعة الجامعية؛ واالقتصاد املوجه؛ واالستبداد؛ وأولوية الحزب /الدولة التي قدمتها
الكتلة الشيوعية .وكمجتمع ،عرضت الواليات املتحدة فكرة الحراك االجتامعي:
يجب أن يكون لألفراد الحق يف االزدهار وف ًقا ملواهبهم وعملهم الشاق ،وليس عىل
أساس الحق املكتسب باملولد أو عىل أساس الوالء األيديولوجي .وعىل الرغم من
العنرصية املستمرة داخل املجتمع األمرييك ،فإن فكرة الحراك االجتامعي متكنت
من جذب ماليني املهاجرين إىل الواليات املتحدة سعيا وراء «الحلم األمرييك».
وبينام أثارت السياسة الخارجية األمريكية معارض ًة قوية يف كل من الغرب والعامل
الثالث ،فإن املجتمع األمرييك ظل جذا ًبا .رمبا يكون الناس قد تظاهروا ضد حرب
فيتنام والتدخالت األمريكية األخرى ،وكذا ضد سياسات الواليات املتحدة بشأن
األسلحة النووية والردع ،لكنهم مازالوا يرتدون سرتات أمريكية ،ويبدون إعجابهم
بالقادة األمريكيني ا ُمللهمني مثل جون كينيدي ومارتن لوثر كينغ ،وغال ًبا ما يرغبون
يف الهجرة إىل الواليات املتحدة.
من ناحية املَ ْر َكز ،كانت القطبية الثنائية حقيقي ًة ولكنها كانت غري متساوية،
وباستثناء القطاع العسكري ،كانت بقية القطاعات تشهد حالة عدم تكافؤ عىل
نحو متزايد .لقد ُرصدت هذه الصورة عىل نحو جيد من طرف إيان كالرك (2011:
) ،123–46الذي جادل بأن الواليات املتحدة كانت مهيمنة عىل نطاق واسع فقط
193
تشكيل العالقات الدولية العاملية
داخل الغرب ،حيث كانت قادرة عىل توفري األمن والسيطرة عىل االنتشار النووي
وإنشاء نظام اقتصادي ليربايل .وعىل رغم ذلك ،فقد قدمت هيمنتها من منظور
عاملي عىل أنها متثل هيمنة كونية ،وقد حققت بعض النجاح يف قبول هذا الرأي.
ومؤسسات متعددة
ٍ مامرسات
ٍ فالواليات املتحدة مارست إىل حد كبري دورا يف خلق
األطراف ،وحدَّدت قوتها الخاصة مبا يكفي لجعل هذا االدعاء يبدو حقيق ًيا ،برغم
أن قيادتها للعامل كانت دامئًا موضع نزاع من طرف الكتلة الشيوعية وعديد من دول
العامل الثالث .انطالقا من هذا املنظور ،من السهل أن نرى كيف أصبحت القطبية
األحادية Unipolarityخالل التسعينيات ُمُتثل املصطلح البديل من القطبية
الثنائية Bipolarityلتوصيف البنية القاعدية للنظام الدويل ،وهو موضوع سنعود
إىل مناقشته يف الفصل السابع.
لقد مت َّثل املوضوع الرئيس الثاين للعالقات الدولية داخل املَ ْر َكز خالل هذه
عجلت األسلحة النووية بظهورها .فمنذ الفرتة يف ثورة الشؤون العسكرية التي َّ
أول تجربة نووية ُأجريت يف العام ،1945كان تطوير التكنولوجيا الخاصة بكل
من األسلحة نفسها وأنظمة إيصالها يتم بطريقة رسيعة للغاية .وكام هو الحال
مع التغريات الرسيعة التي كانت حاصلة عىل مستوى التقنيات البحرية يف أواخر
القرن التاسع عرش ،أدَّت هذه الدينامية الصناعية /العلمية /العسكرية إىل زعزعة
استقرار العالقات بني القوى الرائدة .جزئ ًيا ،كانت تلك التقنيات مهيأة للتطور
الرسيع ،وجزئ ًيا تطورت برسعة ألن القوتني العظميني وغريهام ضخت موارد
هائلة لتحقيق ذلك .حيث إن القوة التفجريية للرؤوس الحربية النووية قفزت من
مستوى قياسها بآالف األطنان من مادة «يت إن يت» ( TNTثاليث نيرتو التولوين)
إىل مستوى قياسها مباليني األطنان ،متجاوز ًة برسعة الحد األقىص لحجم االنفجار
الذي ميكن ألي شخص أن يفكر فيه لالستخدام العسكري .كام أن زيادة دقة
اإليصال جعلت الرؤوس الحربية الكبرية غري رضورية .وبحلول الستينيات من
القرن العرشين ،كان من املمكن إيصال هذه األسلحة بالصواريخ إىل أي مكان عىل
الكوكب يف غضون 30دقيقة .وبحلول السبعينيات من القرن نفسه ،تقلص مستوى
دقة إصابة الصواريخ من بضعة كيلومرتات؛ مثلام كانت عليه خالل الخمسينيات،
إىل بضعة أمتار .وارتفعت أعداد الرؤوس الحربية النووية التي نرشتها القوتان
194
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
العظميان إىل عرشات اآلالف ،مام جعل قوة التدمري؛ التي كانت نادرة يف املايض،
غرِّي بسهولة مناخ الكوكب وتقيض عىل جميع أشكال متاحة اآلن مبستويات قد ُت ِّ
الحياة عىل ظهر األرض.
كان للقوة التدمريية غري العادية لألسلحة النووية تأثريان كبريان يف العالقات
خم منطق الدولية داخل املَ ْر َكز خالل هذه الفرتة .أو ًاًل ،أدت عىل نحو كبري إىل َت َض ِ
املعضلة الدفاعية ورضورة تجنب حرب القوى الكربى ،وهي املعضلة التي بدأت
بعد الحرب العاملية األوىل .ثان ًيا ،جعلت من رضورة انتشار األسلحة النووية داخل
دائرة صغرية جدًا من القوى الكربى أم ًرا حتم ًيا تتبناه كلتا القوتني العظميني عىل
الرغم من عمق خالفاتهام األخرى .وحتى من دون األسلحة النووية ،فإن املوت
الهائل والدمار وتكلفة الحرب العاملية الثانية مثلث كلها عوامل من شأنها أن تعزز
املعضلة الدفاعية .لقد خرس الخارسون يف الحرب العاملية الثانية أكرث مام خرسوه
يف الحرب العاملية األوىل ،كام أن كثريا من املنترصين عانوا بشدة مرة أخرى .غري أن
املنترصين كانوا قد كسبوا الحرب بطريقة مهمة ،حتى إن بعضهم؛ مثل الواليات
واضحا حتى بالنسبة إىل املفكرين األوائل (مثل نرصا كب ًريا .إن ما كان ً
املتحدة ،حقق ً
برنارد برودي) بشأن أهمية األسلحة النووية هو أن أي حرب شاملة قد تنشب
بني القوتني العظميني باستخدام أعداد كبرية من األسلحة النووية لن ينتج عنها أي
منترص مبا قد تحمله كلمة االنتصار من معنى .لقد كان املأزق الذي طرحته الثورة
النووية يكمن يف كيفية تجنب نشوب مثل هذه الحرب ،وذلك مع االستمرار يف
خوض رص ٍاع أيديولوجي ذي محصلة صفرية بشأن من س ُيشكل مستقبل الحداثة.
وقد كان حل هذا املأزق يتمثل يف الردع ،والسعي وراء «حرب» يجب أن تكون
بداًل من كونها حر ًبا «ساخنة».«باردة» ً
كان الردع هو املنطق املحدد للعالقات النووية بني القوتني العظميني .وكان
الهدف منه هو إقناع الجانب اآلخر بأنه ال توجد ظروف ميكنه فيها الهجوم أو ًاًل
بسيطا يف حد ذاته ً وعدم التعرض لرضبة مدمرة يف مقابل ذلك .كان هذا املبدأ
ظروف تتغري فيها برسعة ٍ مبا فيه الكفاية ،ولكن تنفيذه عىل نحو معقول يف ظل
التقنيات ذات الصلة؛ والتي قد يتعني يف إطارها اتخاذ قرارات تتعلق بالحياة أو
املوت يف غضون بضع دقائق ،كان ذلك املبدأ بعيدًا جدًا عن كونه شيئا بسيطا.
195
تشكيل العالقات الدولية العاملية
اجم» واملتعلقة
إن تعقيدات التسلسل الكبري ملنطق «إذا هاجمت؛ فإنك إذن َس ُت َه َ
باالستفزاز واالستجابة ،قد أنتجت أدبيات واسعة بشأن منطق الردع (for a
) .review of it seeBuzan and Hansen, 2009: 66–100وقد أدت الحاجة
إىل تغطية جميع حاالت الطوارئ إىل تكديس ترسانات ضخمة ومتنوعة من
األسلحة النووية .وباإلضافة إىل كونه ُمك ِل ًفا عىل نحو مخيف ،فإن نظام الردع هذا
حادث (قراءة الرادار الخاطئة ٍ يحمل يف طياته مخاطر حقيقية تتمثل يف أن أي
للصواريخ القادمة) أو سوء تقدير (أحد الجانبني يخطئ يف املنطق أو يرى نقطة
ضعف حيث قد تنجح الرضبة األوىل) قد يسبب اندالع حرب نووية .يف هذه
الحالة ،نجح «توازن الرعب» ،عىل الرغم من وجود مناسبات اختُربت فيها عىل
نحو مؤمل وخطري خصوصا يف أثناء أزمة الصواريخ الكوبية يف العام 1962؛ عندما
أمىض العامل عدة أيام عىل شفا حرب نووية.
ومع كبح إمكانية نشوب حرب نووية بني القوتني العظميني ،فتح منطق الردع
الطريق أمام الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي ملواصلة رصاعهام بوسائل أخرى:
املنافسة االقتصادية؛ البحث عن أصدقاء وحلفاء حول العامل؛ تخريب أصدقاء
وعمالء وحلفاء الطرف اآلخر حيثام أمكن ذلك؛ وأحيا ًنا استخدام النزاعات املحلية
كفرصة لخوض حروب محدودة .ونظ ًرا إىل أن القطبية الثنائية كانت غري متكافئة،
فقد نشأت الحرب الباردة عىل أساس أنها لعبة احتواء ،حيث حاولت الواليات
املتحدة منع االتحاد السوفييتي من تحقيق أي اخرتاق إضايف يف املجتمع الدويل
العاملي الغريب .من جانبه ،حاول االتحاد السوفييتي كرس االحتواء وزيادة نفوذه
األيديولوجي حيثام أمكنه فعل ذلك .لقد جعل املأزق النووي من الخطورة للغاية
عىل الواليات املتحدة أن تحاول بأي طريقة عسكرية كربى دحر املجال السوفييتي.
وقد حافظ الردع إىل حد كبري عىل خطوط وقف إطالق النار منذ العام ،1945مام
أدى إىل تحويل املنافسة القامئة بني القوتني العظميني نحو قطاعات ومناطق أخرى.
وكام ذكرنا ساب ًقا ،انترصت الواليات املتحدة وحلفاؤها يف نهاية املطاف يف
املنافسة االقتصادية ،وكذا يف عملية استنزاف رشعي ِة املرشوع األيديولوجي لالتحاد
السوفييتي .لقد نجح كال الجانبني يف البحث عن أصدقاء وعمالء وحلفاء ،عىل
نجاحا خالل فرتة الحرب الباردة .وكان نظام رغم أن الواليات املتحدة كانت أكرث ً
196
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
التحالف الغريب ُمُيثل تحال ًفا توافق ًيا أكرث من كونه تحال ًفا قرس ًيا ،يف حني كان النظام
السوفييتي مييل إىل االتجاه املعاكس يف بناء تحالفاته .فقد خرس االتحاد السوفييتي
الصني برسعة ،لكنه نجح يف الحفاظ عىل صداقة توافقية مع الهند .بينام ُأ ِّكد الوزن
التوافقي للتحالفات األمريكية من خالل استمرارها بعد سقوط االتحاد السوفييتي.
نجاحا كب ًريا عرب الحروب بالوكالة .حيث تورطتومل تحقق أي من القوتني العظميني ً
الواليات املتحدة عىل نحو مكلف يف فيتنام خالل السبعينيات ،أي هُ زمت عىل نحو
مهني ُوأجربت عىل االنسحاب من هناك يف العام .1975أما االتحاد السوفييتي فقد
تورط خالل الثامنينيات يف مستنقع أفغانستان الذي كلفه الكثري ،إذ هُ زم هو أيضا
هناك عىل نحو مهني ُوأجرب عىل االنسحاب يف العامني 1988و .1989وقد دعمت
كلتا القوتني العظميني عمالءهام عىل نحو مكلف يف الرشق األوسط ،ولكن من
دون اكتساب كثري من النفوذ للتأثري يف سلوكهم .إذ انفجر استثامر أمريكا يف إيران؛
كحليف رئيس ،يف وجهها يف العام ،1979وخرس االتحاد السوفييتي مرص بعد العام
.1973كام أدت تدخالتهام يف الحروب األهلية يف أفريقيا إىل رفع مستوى إراقة
الدماء عىل املستوى املحيل ،لكنها مل تتمكن من إعادة تشكيل املنطقة عىل نحو
دائم ملصلحة أي من الجانبني .وحتى النجاح الكبري الذي حققه االتحاد السوفييتي
يف ضم كوبا الثورية إىل معسكره ،أدى فيام بعد إىل نشوب أزمة الصواريخ املزعجة
يف العام ،1962والتي أعقبتها تبعية باهظة الثمن .كام أنتج تدخل ومنافسة القوتني
العظميني يف العامل الثالث تهديدًا بزعزعة استقرار عالقة الردع األساسية القامئة
بينهام .إذ كان مثة خوف من أن الرصاعات التي تشمل العمالء ،ال سيام يف الرشق
األوسط ،قد تخرج عن نطاق السيطرة وتدفع بالقوتني العظميني نحو مواجهة
مبارشة غري مرغوب فيها .وقد أصبح االهتامم بهذا الشأن يشكل جز ًءا من تفكري
الردع املتعلق بكيفية التحكم يف التصعيد من مستويات منخفضة إىل مستويات
أعىل من الرصاع ،وهو ما قد يؤدي إىل ضغوطٍ ال ميكن وقفها من شأنها أن تدفع إىل
استخدام األسلحة النووية.
يف إطار مسألة املعضلة الدفاعية وتجنب الحرب ،مثة إشكالية تتعلق بكيفية
وقف انتشار األسلحة النووية .كان واجب منع االنتشار يتعلق جزئ ًيا بوضع القوة
العظمى؛ ألن الرتسانات النووية الكبرية كانت عالمة رئيسة لهذا الوضع .لقد
197
تشكيل العالقات الدولية العاملية
تسامحت القوتان العظميان ،حتى إنهام ساعدتا إىل حد ما ،حفنة من حلفائهام
الرئيسني عىل امتالك أسلحة نووية :بريطانيا وفرنسا والصني .هذه الدول من
املرتبة الثانية الحائزة أسلحة النووية ،أبقت ترسانتيهام صغرية ،مام سمح
للقوتني العظميني باالحتفاظ برتساناتهام الكبريتني كعالمة عىل وضعهام .عالوة
عىل ذلك ،عارضت القوتان العظميان عىل نحو عام االنتشار النووي ،وخالل
الستينيات أنشأتا عىل نحو مشرتك نظا ًما ملنع هذا االنتشار .فمن خالل التحكم يف
التكنولوجيا النووية والتجارة ،وفصل االستخدامات العسكرية عن االستخدامات
املدنية للتكنولوجيا النوويةُ ،صمم هذا النظام لجعل من الصعب عىل الدول األقل
قوة أن متتلك أسلحة نووية .باإلضافة إىل ذلك ،استخدمت القوتان العظميان؛
وخاصة الواليات املتحدة ،تقنية توفري «مظلة نووية» (الردع املمتد extended
)deterrenceلحلفائهام من أجل تقليل حوافز عمالئهام وحلفائهام الرامية إىل
الحصول عىل أسلحة نووية خاصة بهم.
كانت مسألة عدم انتشار األسلحة النووية تتعلق جزئ ًيا مبصلحة القوتني
العظميني يف الدفاع عن وضعهام الخاص ،وذلك بغية تجنب التعقيدات التي
قد يسببها انتشار األسلحة النووية عىل استقرار عالقة الردع النووي املعقدة
والحساسة القامئة بينهام .لكن هذه املسألة كانت ً
أيضا تتعلق جزئ ًيا مبصالح
الدول غري الحائزة أسلحة النووية .فقد كان مثة قبول واسع النطاق لفكرة أنه
كلام زاد عدد الدول التي متلك األسلحة النووية ،زاد احتامل استخدام تلك
األسلحة ،سواء عن طريق املصادفة أو التخطيط .ومل يكن اندالع الحرب النووية
يصب يف مصلحة أي طرف عىل نحو واضح ،لذا كانت تلك الحجة تتمتع ببعض
القوة ،وإن كانت رشعيتها تتعرض باستمرار للضغط من خالل فرض التمييز بني
الدول الحائزة أسلحة النووية والدول غري الحائزة يف معاهدة عدم انتشار األسلحة
النووية .حيث ألزمت تلك املعاهدة الدول الحائزة أسلحة النووية بالسعي إىل
نزع السالح النووي ،وهو التزام كانوا يتشدقون به ،لكنهم مل يوفوا به عىل نحو
جدي .لقد قبلت عديد من الدول غري الحائزة أسلحة النووية بنظام عدم انتشار
األسلحة النووية ألنها مل تكن تريد تحمل التكلفة واملخاطر التي قد تنجر عن
امتالك أسلحة نووية إذا كان جريانها قد قرروا فعل اليشء نفسه .غري أن هذا
198
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
النظام مل يؤ ِد دوره عىل أكمل وجه .فقد رسبت بعض الدول الحائزة أسلحة
النووية من املرتبة الثانية التكنولوجيا إىل أطراف ثالثة :فرنسا إىل إرسائيل ،والصني
إىل باكستان ،ومن باكستان إىل عدة أماكن أخرى يف العامل اإلسالمي .كام متكنت
بعض الدول النامية (الهند والربازيل واألرجنتني وجنوب أفريقيا وكوريا الشاملية
وإيران) مبرور الوقت من بناء خرباتها النووية .وعىل رغم ذلك ،ومن خالل زيادة
التكاليف وتقليل الحوافز ،يكاد يكون من املؤكد أن نظام عدم االنتشار أبطأ
انتشار األسلحة النووية عىل نحو كبري .حيث سهل ذلك عىل أملانيا واليابان قبول
وضع الدول غري الحائزة أسلحة النووية ،كام س َّهل أيضا عىل دول مثل السويد
وسويرسا وكوريا الجنوبية وتايوان اتخاذ قرار عدم امتالك أسلحة نووية(٭).
- 2 - 2األطراف
كان املوضوع الرئيس للعالقات الدولية بالنسبة إىل دول األَ ْط َراف يتمثل يف
إنهاء االستعامر .ففي العقود الثالثة التي تلت العام ،1945حقق الجزء األكرب من
العامل االستعامري استقالله السيايس ،وأنجزت الحركات املناهضة لالستعامر التي
ُنوقشت يف الفصول السابقة ما كانت تصبو إليه .لقد فعلوا ذلك من خالل طرق
مختلفة ،سالكني مسارات عنيفة وسلمية عىل حد السواء ،وبحلول العام 1975
انتهى االستعامر باعتباره بنية سياسية رسمية للعالقات غري املتكافئة بني املَ ْر َكز
واألَ ْط َراف .بعد الحرب العاملية الثانية اتخذت القومية العربية طاب ًعا أكرث عسكرية،
وكان الجزء األكرب منها ُموج ًها ضد دولة إرسائيل ا ُملش َّكلة حدي ًثا .وكام ذهب إىل ذلك
مارتن كرامر ( ،)1993: 184فإن القومية العربية ،التي كانت «معادية لإلمربيالية»
بعد العام ،1920أصبحت «ثورية» بعد العام .1948ولكن يف آسيا كانت النضاالت
اختالطا ،حيث كانت الرصاعات املسلحة هي لسان الحال يف ً ضد االستعامر أكرث
إندونيسيا وفيتنام وبورما (خاصة يف أثناء وقت الحرب) ،بينام اتخذ القوميون املاليو
اعتدااًل وديبلوماسية .لقد منح استقالل الهند يف العام 1947دفعة ً مقارب ًة أكرث
(٭) ّمثة مؤلفات واسعة ومستمرة بشأن االنتشار النووي .للحصول عىل ملحات عامة ،انظر:
Feiverson and Taylor 1977, Sagan and Waltz 1995, Buzan and Hansen 2009: 114–17.
[املؤلفان].
199
تشكيل العالقات الدولية العاملية
قوية للمسارات السياسية والديبلوماسية الرامية لالستقالل .ومع ن ْيل عديد من
الدول اآلسيوية استقاللها بعد الحرب العاملية الثانية مبارشة؛ مبا يف ذلك الهند
وباكستان ()1947؛ ورسيالنكا ()1948؛ وبورما ()1948؛ وإندونيسيا (التي أعلنت
استقاللها يف العام 1945ولكن مل يعرتف بها الهولنديون إال يف العام .)1949واحتلت
أفريقيا مركز الصدارة يف النضاالت املوجهة ضد االستعامر ،وكانت غانا يف العام
1957أول دولة من جنوب الصحراء الكربى تنال االستقالل .لقد اشتملت العوامل
التي أسهمت يف دعم جهود مناهضة االستعامر يف أفريقيا عىل :ميثاق األطليس
للعام 1941الذي اعرتف بحق تقرير املصري للدول التي دعمت دول الحلفاء (لكن
الواليات املتحدة أرادت تطبيقه عامل ًيا)؛ إضعاف القوى االستعامرية األوروبية؛ إلهام
وتأثريات االستقالل التي حصلت عليها الدول اآلسيوية يف األربعينيات؛ استخدام
الجمعية العامة لألمم املتحدة لتعبئة الضغط الديبلومايس؛ الرأي العام الدويل؛
ومعايري حقوق اإلنسان والحق يف تقرير املصري.
وبهدف تشكيل الحركات املناهضة لالستعامر ،سارت القومية ومناهضة
االستعامر والنزعة اإلقليمية جن ًبا إىل جنب .ففي أوروبا الغربية بعد الحرب
العاملية الثانية ،كان ُينظر إىل اإلقليمية باعتبارها وسيلة رضورية لرتويض لعنة
القومية التي ُح ِّملت ِو ْزر نشوب حربني عامليتني .لكن القادة يف العامل غري الغريب
طوال القرن العرشين نظروا إىل اإلقليمية من خالل منظور معاكس متا ًما .إذ
كانت أدا ًة مفيدة لتحقيق االستقالل الوطني والسيادة التي فقدوها ملصلحة
الغرب .وهذا ما يفرس االختالف األسايس القائم بني منوذج اإلقليمية الخاص
باملجموعة االقتصادية األوروبية /EECاالتحاد األورويب EUوتلك النامذج
اإلقليمية املوجودة يف العامل الثالث؛ مبا يف ذلك جامعة الدول العربية التي ُأنشئت
يف العام 1945؛ ومنظمة الوحدة األفريقية التي ُأنشئت يف العام 1963؛ ورابطة
دول جنوب رشق آسيا ASEANالتي تأسست يف العام .1967لقد رأى عديد من
القادة القوميني اإلقليمية عىل أنها وسيلة لدفع مسار إنهاء االستعامر ليس فقط
أيضا إلنهاء االستعامر عىل نحو عام .فقد كانت هذه العالقة يف بلدانهم ،ولكن ً
واضحة عىل نحو خاص يف الصلة القامئة بني النزعة الوحدوية األفريقية والنضاالت
الجارية ضد االستعامر يف أفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي .كام أن هذه العالقة
200
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
أيضا يف دعم الهند الستقالل إندونيسيا يف مؤمتر العالقات اآلسيوية ستكون واضحة ً
الثاين ( )ARCيف نيودلهي يف العام ،1949وكذلك يف مؤمتر آسيا -أفريقيا للعام
1955يف باندونغ ،والذي دفع بقوة نحو إنهاء ما تبقى من االستعامر خصوصا
يف أفريقيا .ومثلام كان الحال مع املجموعة االقتصادية األوروبية ،كانت فكرة
اإلقليمية يف العامل الثالث تدور حول الحد من الرصاع اإلقليمي وخلق مواقف
أقوى يف السياسة العاملية .وعىل عكس املجموعة االقتصادية األوروبية ،عزَّزت
هذه املنظامت النزعة القومية؛ ومبادئ السيادة وعدم التدخل.
وكام الحظ جانسون وأسرتهاميل )،Jansen and Osterhammel (2017: 1
كان إنهاء االستعامر مبنزلة تحول فكري وسلويك هائل للصيغة األوىل من ا ُمل ْج َت َمع
نظم العالقات الدولية إىل غاية العام الد َو ِيِل ال َعالَ ِمي ا ِال ْس ِت ْع َاَم ِري ال َغ ْر ِيِب الذي َّ
ونهاية للتسلسل الهرمي ٌ :1945فقد كان مثة «اختفا ٌء لإلمرباطورية كشكل سيايس،
العرقي كأيديولوجيا سياسية مقبولة عىل نطاق واسع وكمبدأ هيكيل للنظام
وىَل ا ُمل َعدلة ُ
للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي ،انخرط العامل العاملي» .يف إطار الصي َغة ُ
األ َ
االستعامري السابق يف البنية الثنائية القطب للحرب الباردة تحت مسمى «العامل
الثالث» الجديد .فهذه البلدان تتمتع اآلن بالحرية السياسية لتشق طريقها الخاص
يف السياسة العاملية ،لكنها ،وكام أشار ماركس ) ([1852] 1963: 1عىل نحو معروف،
كانت تقوم بذلك ليس يف إطار ظروف من اختيارهم .لقد انتزع قادة وشعوب
العامل الثالث استقاللهم السيايس أو ُم ِن ُحوا إياه .لكن دولهم كانت يف األغلب دو ًاًل
فقرية ومتخلفة ،مع اقتصادات ضعيفة ظلت تعتمد عىل نحو كبري عىل املرتوبوالت
metropolesالسابقة(٭) .إذ غال ًبا ما كانت سياساتهم الداخلية مضطربة وغري
مستقرة ،وغال ًبا ما أدت أفكار القومية وتقرير املصري التي دعمت نضالهم من أجل
ن ْيل االستقالل إىل زعزعة استقرار الدول املتعددة األعراق والثقافات التي ُب ِن َيت
بعد االستقالل .لقد احتفظت معظم تلك البلدان بحدودها االستعامرية ،وناد ًرا
ما ُرسمت عىل أساس أي فكرة تأخذ بعني االعتبار مفهوم األمة ،خاصة يف بلدان
أفريقيا .وكام الحظ جانسون وأسرتهاميل ( :)2017: 177فإن «ما يقرب من 40يف
(٭) يقصد باملصطلح البلدان االستعامرية التي كانت متثل قلب الصناعة يف العامل[ .املرتجم].
201
تشكيل العالقات الدولية العاملية
املائة من طول جميع الحدود الدولية اليوم كانت قد ُرسمت يف األصل من طرف
بريطانيا العظمى وفرنسا» .لقد كان االفتقار إىل وجود شعوب موحدة ،وما يرتتب
عىل ذلك من مشكالت االنفصال و/أو النضال من قبل مجموعات مختلفة للسيطرة
َوطنًا .وعىل الرغم من أن تلك الدول مل تعد تؤدي دور الغنائم يف عىل الدولة ،أمرا ُمت ِّ
املنافسات االستعامرية القامئة بني القوى الكربى البعيدة ،فإنها كانت دوال خاضعة
للمنافسة األيديولوجية والعسكرية العاملية القامئة بني القوتني العظميني بشأن
طريقة تنمية تلك الدول وتحالفاتها السياسية .ومثلام يالحظ أود أرن ويستيد
) ،(Odd Arne Westad 2007: 5فإنه ميكن اعتبار الحرب الباردة «واحدة من
املراحل النهائية للسيطرة األوروبية عىل العامل».
لذلك ،وبينام كان قادة العامل الثالث يجلسون أخ ًريا عىل طاولة املجتمع الدويل
العاملي كأنداد متساويني من ناحية السيادة ،كانوا ميلكون أورا ًقا تفاوضية ضعيفة.
ومن بعض النواحي ،كانوا يلعبون لعبة مألوفة تتعلق بعالقات املَ ْر َكز-األَ ْط َراف،
نواح أخرى ،كانت حيث أصبح لديهم اآلن عىل األقل صوت مستقل .ولكن من ٍ
تلك اللعبة جديدة بالنسبة إليهم ،حيث شكلت القطبية الثنائية والحرب الباردة
مجموعة مختلفة متا ًما من التحديات والفرص عن تلك التي كانت موجودة إبان
الحقبة االستعامرية .حيث كان عىل قادة وشعوب العامل الثالث أن يتعاملوا مع
قضايا متعددة وعىل عدة جبهات مختلفة.
فعىل الصعيد املحيل ،كان عىل قادة وشعوب العامل الثالث السعي إىل ترسيخ
دولهم الجديدة والعمل عىل استقرارها ،وإيجاد اتجاه سيايس وإسرتاتيجية تنموية
متكنهم من دخول مسار التحديث يف أرسع وقت ممكن من أجل تلبية تطلعات
الشعوب والقادة نحو الرثوة والقوة ( .)Westad, 2007: 90وقد اختلفت مناذج
التنمية الرأساملية واالشرتاكية التي قدمتها (سواء كانت تدعمها أو تعارضها)
القوتان العظميان عىل نحو صارخ :فقد جاءت الرأساملية مبساعدة غربية ،لكنها
ارتبطت بسهولة باملامرسات االستعامرية االستغاللية التي أثارت استياء شديدا .يف
حني بدت االشرتاكية وكأنها تنسجم مع رغبة عديد من قادة العامل الثالث الرامية
إىل سلوك طريق بسيط ورسيع وسلطوي نحو تحقيق التنمية (Westad, 2007:
) .91–3ونظ ًرا إىل الشعوب املجزأة التي كانت متثل اإلرث السيايس بالنسبة إىل
202
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
عديد من دول ما بعد االستعامر ،كان أمن النظام ضد املنافسني الداخليني بالنسبة
إىل عديد من قادة العامل الثالث يشكل مشكلة أكرب نسبيا من املخاوف املتعلقة
بالتهديدات القادمة من الجريان .ونظ ًرا إىل كونها كانت ضعيفة يف األغلب كدول
وكقوى ،مل تكن دول العامل الثالث عمو ًما يف وضع ميكنها من تهديد جريانها عسكر ًيا.
لكن موثوقية حرب العصابات؛ التي ُط ِّبقت خالل بعض نضاالت إنهاء االستعامر،
شكلت رادعًا معقو ًاًل ضد أي تهديد باالحتالل .وقد كان مثة بعض االستثناءات
بخصوص ذلك ،خاصة يف الرشق األوسط وجنوب آسيا ،حيث رأت عديد من الدول
الجديدة أن جريانها يشكلون تهديدات عسكرية وسياسية وجودية بالنسبة إليهم.
عىل الصعيد اإلقليمي ،كان عىل دول العامل الثالث إقامة عالقات اقتصادية
سياسات للعمل داخل مناطقهم. ٍ وسياسية وأمنية مع جريانها املستقلني حدي ًثا ،ووضع
كان هذا األمر ميثل يف األغلب تحديا .حيث إن عديدا من املناطق الجديدة ُولِدَت
داخل بؤر الرصاع ( .)Buzan and Wæver, 2003فقد تحتَّم عىل منطقة جنوب
آسيا ،عىل سبيل املثال ،أن تنتقل من كونها مركزًا ُم َو َّحدًا لإلمرباطورية الربيطانية
إىل كونها ُم َر َّك ًبا أمن ًيا إقليم ًيا ُم َمز ًقا بسبب الدين والتاريخ .كام انتقلت منطقة
الرشق األوسط من السيطرة العثامنية إىل االنقسام إىل مستعمرات ومناطق انتداب
أوروبية بعد الحرب العاملية األوىل؛ ثم إىل كونها ُم َر َّك ًبا أمن ًيا إقليم ًيا شديد الرصاع
ُم َق َّس ًاًم عىل ُأسس دينية وعرقية وسياسية عديدة .وغال ًبا ما كان لدى املستعمرات
السابقة داخل منطقة ما القليل من العالقات االقتصادية ملنحها مصلحة مشرتكة،
وكان كثري من تلك املستعمرات السابقة تسعى إىل إذكاء النزاعات السياسية والدينية
والثقافية والحدودية لوضع تلك املناطق عىل خالف بعضها مع بعض .ومن املفارقات
أن إحدى اإلسرتاتيجيات املقبولة عىل نطاق واسع للتعامل مع التحديات املحلية
واإلقليمية كانت املوافقة عىل إبقاء الحدود االستعامرية من دون تغيري .وقد أنتجت
دول العامل الثالث ،وبدعم من منظومة األمم املتحدة يف كثري من األحيان ،عديدا
من املنظامت الحكومية الدولية اإلقليمية وشبه اإلقليمية وفوق اإلقليمية ليس فقط
أيضا منظمة الدول األمريكية ()1948؛ ومنظمة التعاون تلك املذكورة أعاله ،ولكن ً
اإلسالمي ()1969؛ واملجموعة االقتصادية لدول غرب أفريقيا ()1975؛ ومجلس
التعاون الخليجي ()1981؛ ورابطة جنوب آسيا للتعاون اإلقليمي (.)1985
203
تشكيل العالقات الدولية العاملية
عىل الصعيد العاملي ،كان عىل الدول الجديدة التي تنتمي للعامل الثالث أن
أيضا دورا يف لعبة السياسة العاملية التي تهيمن عليها اآلن القوتان العظميان. تؤدي ً
أيضا ،مارست املنظامت الحكومية الدولية دو ًرا ً
حاساًم يف متكني وعىل هذا املستوى ً
دول العامل الثالث من تأدية دور نشط يف الديبلوماسية ،وتزويدها عىل األقل ببعض
الطرق التي ميكن من خاللها استغالل كرثة أعدادها للتعويض عن ضعفها االقتصادي.
وىَل ا ُمل َعدَّلة ُ
للم ْج َت َم ِع الدويل ال َعالَ ِمي تآز ٌر مهم وبهذا املعنى ،كان مثة يف الصي َغة ُ
األ َ
قائم بني التزام الواليات املتحدة بتعزيز الديبلوماسية متعددة األطراف واملنظامت ٌ
الحكومية الدولية من ناحية ،وبني حاجة العامل الثالث إىل الدخول يف لعبة السياسة
العاملية ومحاولة التأثري فيها من ناحية أخرى .بطبيعة الحال ،مل تكن الواليات
املتحدة مهتمة عىل نحو مبارش بتعزيز تأثري العامل الثالث .بل أرادت إنشاء نظام
مستقر ومواصلة رصاعها ضد الشيوعية ،وكانت مستعدة إىل حد ما لربط قوتها
باملؤسسات القامئة من أجل االضطالع بذلك .وعىل رغم ذلك ،فقد و َّفرت منظومة
األمم املتحدة منتدىً وإطا ًرا أخالق ًيا ميكن لدول العامل الثالث أن تبدي آراءها من
خالله .حيث إنها زودتهم؛ عىل األقل يف الجمعية العامة ،مبنتدى تحظى فيه كرثتهم
بأهمية عندما يتعلق األمر بالفوز باألصوات.
لقد ش َّكل إنشاء نظام شامل من املنظامت الحكومية الدولية أهمية أساسية
للم ْج َت َم ِع الدَويل ال َعالَ ِمي أكرث مام ُأدرك
وىَل ا ُمل َعدلة ُ بالنسبة إىل وظيفة الصي َغة ُ
األ َ
مبارشة .وكام يجادل باري بوزان وريتشارد ليتل ) ،(2010: 317–18فإن التوسع
الكبري يف عدد الدول الذي نتج عن إنهاء االستعامرَ ،خ َلقَ نوعًا من األزمة بالنسبة
إىل املامرسات الديبلوماسية الثنائية املعتادة .إذ كان من املستحيل؛ خاصة بالنسبة
إىل البلدان الفقرية سواء بسبب التكلفة أو بسبب عدم وجود عدد كاف من
األشخاص املدربني ،أن يكون لكل دولة سفارة يف عاصمة كل دولة أخرى .ومن ثم
فإن املنظامت الحكومية الدولية اإلقليمية والعاملية ليست مجرد منتديات مفيدة
ملناقشة املشكالت الجامعية ،بل تشكل آليات أساسية لرتكيز الديبلوماسية بطريقة
ُمُتَ ِّكن البلدان الفقرية من أداء دورها عىل أكمل وجه.
وعىل رغم ذلك ،فإن عديدا من دول العامل الثالث أصبحت تنظر إىل بعض
املؤسسات الدولية عىل أنها أدوات لإلكراه يف أيدي الشامل؛ ُتسهم يف تفاوت القوى
204
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
وج ُه نحو خدمة األهداف اإلسرتاتيجية األمريكية .ومن األمثلة يف النظام الدويل؛ و ُت َّ
الواضحة عىل ذلك قدرة صندوق النقد الدويل عىل فرض التكيف الهيكيل يف أفريقيا
عىل الرغم من تكاليفه البرشية والسياسية الهائلة .لقد كان تقييم روبرت كوكس
للمؤسسات الدولية ينم عن ذلك ،خاصة عند النظر إليها من منظور دول العامل الثالث:
«ميكن اآلن إعادة تعريف املنظمة الدولية باعتبارها عملية إضفاء الطابع املؤسيس
عىل الهيمنة .حيث تعمل املؤسسات الدولية عىل تعميم املعايري املناسبة لبنية القوة
العاملية ،وتحافظ بنية القوة هذه عىل نفسها من خالل دعم تلك املؤسسات .وبهذا
املعنى ،فإن املؤسسات هي كوابح للحفاظ عىل الوضع القائم» (R. W. Cox, 1980:
.)377وردا عىل ذلك ،سعت دول العامل الثالث إىل إنشاء مؤسسات تكون أكرث ً
دعاًم
ملصالحها وتطلعاتها .فعىل املستوى العاملي طوروا ثالث مؤسسات .حيث سخرت
مجموعة الـ )1964( 77قوتها التصويتية يف املنظامت الحكومية الدولية واملفاوضات
العاملية متعددة األطراف بشأن قضايا مثل قانون البحار وانتشار األسلحة النووية.
كام أن مؤمتر األمم املتحدة للتجارة والتنمية ) UNCTAD (1964اعرتض عىل
هيمنة الغرب عىل املؤسسات املالية العاملية (صندوق النقد الدويل ،البنك الدويل،
الجات) وسعى إىل تعويض خلل التوازن ذاك .أما حركة عدم االنحياز ( ،)1961فقد
حاولت خلق مساحة سياسية خارج نطاق القطبية األيديولوجية للقوتني العظميني.
خالل السبعينيات من القرن املايض اضطلعت مجموعة صغرية من الدول
ا ُملصدِّرة للنفط بإيجاد واستغالل رافعة اقتصادية قوية ميكن استخدامها ضد الغرب.
فمن خالل تقييد العرض ،متكنوا من استخدام منظمة البلدان املصدرة للنفط
(أوبيك) لزيادة أسعار النفط عىل نحو كبري .وقد سمح لهم املجال السيايس واألمني
الذي فتحته املنافسة بني القوتني العظميني بامليض ُقدما يف ذلك .وعىل رغم ذلك،
تبني أن نجاحهم كان ملرة واحدة فقط ،إذ أخفق ُمصدرو السلع األساسية اآلخرون
يف بناء كارتالت ناجحة مامثلة ،وأدى ارتفاع أسعار النفط إىل إلحاق كثري من الرضر
بالبلدان النامية األخرى التي اضطرت إىل استرياده ومل تستطع التعامل مع ارتفاع
األسعار بالسهولة نفسها التي ميكن أن تتعامل بها البلدان الغنية.
نجاحاَّ ،
وظفت دول العامل الثالث أورا ًقا أخالقية ،وذلك باستخدام وعىل نحو أكرث ً
اإلطار املعياري ا ُملت ََضمن يف الوثائق التأسيسية ملنظومة األمم املتحدة ويف بيانات
205
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أهدافها ا ُملسطرة .ومبا أن مسار إنهاء االستعامر ظل غري مكتمل ،فقد ضغطوا بال
هوادة من أجل حلحلة القضايا املتبقية .بالتوازي عىل رغم ذلك ،اضطلعوا ،وبال
كلل ،بحمالت مستمرة ضد العنرصية ،وأدُّوا عىل نحو خاص دورا ضد نظام الفصل
العنرصي يف جنوب أفريقيا ،واتهموا إرسائيل باتباع سياسات استعامرية وعنرصية
ضد الفلسطينيني .كام عزز لويب العامل الثالث من مسألة املساعدة والتنمية ليك
تكون مسألة حقوق ،ودافع عن سيادته املكتسبة حدي ًثا ضد كل أشكال التدخل
القدمية والجديدة.
عىل الرغم من الحرب الباردة ،نجحت دول العامل الثالث يف فتح مساحة سياسية
كبرية لها .وعىل الرغم من اخرتاق هذه املساحة بشدة من طرف ديناميات تنافس
القوتني العظميني خالل مرحلة الحرب الباردة ،فإنهم استخدموا أيضا التقسيم الثنايئ
القطب لخلق أوراق نفوذ للمساومة عىل كل يشء بدءا من املساعدات ووصوال إىل
مناهضة العنرصية .رمبا كانت الحرب الباردة «واحدة من املراحل النهائية للسيطرة
األوروبية عىل العامل» ،ولكن باملقارنة مع الفرتة االستعامرية الغربية ،كانت أيضا
متثل وعىل نحو كبري مرحلة تحرر .وعىل رغم ذلك ،كان الشغل الشاغل ملعظم
دول العامل الثالث هو السعي وراء مسار التحديث والتنمية ،وهنا ُقوبلت اآلمال
الكبرية التي صاحبت مسار إنهاء االستعامر بخيبات أمل مريرة .لقد افرتض كثريون،
سواء من الطرف املستع َمر أو الطرف املستع ِمر السابق ،أن االستقالل باإلضافة إىل
املساعدة من شأنه أن يحل برسعة مشكلة التخلف .يف هذه الحالة نجح عددٌ قليل
فقط من النمور اآلسيوية (كوريا الجنوبية ،وتايوان ،وسنغافورة) يف االنتقال الكامل
نحو الحداثة الصناعية ،يف حني حكم عىل معظم التجارب التي تبنت إسرتاتيجيات
التنمية االشرتاكية واالكتفاء الذايت و/أو «استبدال الواردات» بالفشل الذريع.
ففي معظم أنحاء أفريقيا وآسيا وأمريكا الالتينية ،تعطلت التنمية بسبب مزيج
مختلف من الرصاع؛ والك ِلبتوقراطية(٭)؛ واأليديولوجية املضللة؛ والبريوقراطية؛
(٭) الك ِلبتوقراطية :Kleptocracyتعني حكم اللصوص ،وهو نوع من الحكم يستخدم قادته الفاسدون السلطة
السياسية لالستيالء عىل ثروة شعوبهم؛ عادة عن طريق اختالس أو رسقة األموال عىل حساب عموم السكان .وهذا
املصطلح مر َّكب من مقطعني باللغة اإلغريقية؛ أولهام «ك ِلبتو» ( )Kleptoمبعنى لص ،وثانيهام «قراط» ()cracy
مبعنى حكم[ .املرتجم].
206
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
والفساد؛ والحكم الهش؛ وسوء التعليم؛ وسوء الصحة .لقد كافحت الدول الضعيفة
يف العامل الثالث للحفاظ عىل استقاللها يف مواجهة عوملة التمويل واإلنتاج يف االقتصاد
العاملي .حيث وجدوا أنفسهم منخرطني يف رصاع غري متكافئ ليس فقط مع الدول
القوية والقوى املتموقعة يف الشامل ،ولكن أيضا مع الرشكات عرب الوطنية القوية
والهياكل التجارية واملالية العاملية التي مل يكن لديهم نفوذ أو سيطرة عليها(٭) .إن
ما كان الفتا يف هذه الفرتة مل يكن نجاح تنمية العامل الثالث ،ولكن كيف تعافت
تلك البلدان الصناعية التي دمرتها الحرب عىل نحو رسيع وشامل .إذ رسعان ما
أصبحت اليابان وأملانيا من عاملقة الصناعة الحديثة مرة أخرى؛ وازدهر الغرب ككل
( .)Westad, 2007: 91يف حني مل تنحرس الهوة بني البلدان املتقدمة والنامية ،بل
كانت تتسع يف عديد من األماكن وعىل كثري من األصعدة.
كانت عملية إعادة بناء مجتمع حديث بالفعل أسهل بكثري من تطوير
قياس بني االثنني سيكون قياسا خاطئا .وكام جادل مجتمع مل ُيحدَّ ث بعد ،وأي ٍ
بعض املفكرين االستعامريني ،ومثلام ُض ِّمن يف نظام انتداب عصبة األمم ،مل يكن
كل أولئك الذين حصلوا عىل االستقالل مستعدين للحكم الذايت يف ظل الظروف
شديدة االخرتاق واملتطلبة لسياسات العامل الحديث .وكام يف الفرتات السابقة،
تطلبت التنمية خوض غامر ثورات الحداثة مع الحفاظ عىل االستقرار السيايس،
ومل تكن هذه مهمة سهلة خصوصا مع االنتقال من وضع السيطرة االستعامرية
إىل االستقالل .لقد تحول التزام القوى االستعامرية برفع مسؤوليتها إىل مستوى
«معيار الحضارة» إىل التز ٍام بتقديم املساعدة وتعزيز التنمية .لكن مجموع
الحاالت والظروف كانت واسعة للغاية ،وكانت أماكن البداية غري املتكافئة للغاية
يف السباق من أجل التنمية تقابلها درجات نجاح متفاوتة للغاية .ففي أحد
طريف الطيف ،كانت هنالك النمور اآلسيوية مثل كوريا وتايوان ،والتي حدِّثت
مجتمعاتها بالقوة ،ولكن عىل نحو فعال ،من طرف اليابان عندما كانت تشكل تلك
الدول إحدى مستعمراتها .كام نجحت هذه الدول القليلة ،مبا يف ذلك سنغافورة،
(٭) من أجل ملحة عامة مفيدة عن التطورات يف االقتصاد العاملي خالل هذه الفرتة انظر:
Gilpin 1987, Hurrell and Woods 1995, Stubbs and Underhill 1994.
[املؤلفان].
207
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف التطور برسعة ،وإن كان ذلك يحصل يف األغلب يف ظل أنظمة سلطوية .ويف
منتصف الطيف كانت توجد دول مثل الهند ،التي لديها حكومات فعالة عىل
نحو معقول ،وكانت تحوي بعض عنارص التصنيع والحداثة .وقد كان ذلك مزيجا
مع َّقدا من النجاحات واإلخفاقات مع بعض التقدم نحو التحديث ،ولكنه كان
تقدما بطيئا وغري مكتمل .ففي الهند وأماكن أخرى ظلت عديد من املناطق
الريفية للبالد زراعية إىل حد كبري وتعيش حالة ما قبل الحداثة .ويف الطرف اآلخر
من الطيف كانت هناك عديد من البلدان يف أفريقيا ،حيث مل يكن من املتوقع أن
ُيحدث مسار إنهاء االستعامر أي يشء مثل ما أحدثه يف السابق ،حيث كان إرث
الحدود االستعامرية صعبا عىل نحو خاص ،وكانت تلك البلدان تفتقر يف كثري من
األحيان إىل املوارد التعليمية واالجتامعية والبريوقراطية واملالية الرضورية لتسيري
دولة حديثة .بل إن بعض هذه املوارد قد تراجعت مقارنة مبستوى التطور الذي
كانت عليه أيام االستعامر ،حيث كان النظام السيايس أقل رسوخا وكانت ظروف
االستثامر أسوأ ،كام أن تلك البلدان عجزت عن الحفاظ عىل بعض البنى التحتية
املوروثة مثل السكك الحديد .وحتى بعض النجاحات التي ُحققت عىل مستوى
التنمية ،مثل تحسني الرعاية الصحية والسيطرة عىل األمراض ،كانت لها عواقب
تجسدت يف شكل املعدالت العالية للنمو السكاين.يصعب حلها َّ
إن اإلشكالية التي واجهها املسؤولون االستعامريون بشأن كيفية إيجاد طرق
عادلة ومستقرة وتقدمية لربط االقتصادات الصناعية القوية باالقتصادات الضعيفة
وغري الحديثة مل ُتحل عن طريق إنهاء االستعامر .لقد ُطرحت تلك اإلشكالية عىل
أنها مهمة طويلة وصعبة للغاية .ففي حني أنه كان من املمكن مع نهاية تلك الفرتة
تخيل أن العامل كله سوف يتطور يوما ما عىل نحو متسا ٍو ،فقد أصبح من الصعب
أو املستحيل تخيل أن هذا سيحدث إما برسعة وإما عىل نحو متسا ٍو .ويف أحسن
األحوال كانت ستكون عملية طويلة وممتدة ،إذ تتحرك خاللها مجموعة من الدول
لالنتقال من حالة الدول النامية إىل حالة الدول املتطورة ،والتي قد تقيض فيها هذه
الدول وقتا طويال يف منطقة وسط بني الحالتني (أي بني حالتي التخلف والتطور).
كان من غري الصواب من الناحية السياسية التعبري عن مثل هذه األفكار ،ولكن كان
هذا هو ما أشارت إليه كل تجارب إنهاء االستعامر /حقبة الحرب الباردة.
208
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
الدويل العاملي االستعامري الغريب إىل املجتمع الدويل العاملي الغريب .وعىل الرغم
من أن عالقات القوة والرثوة ومستويات التنمية من ناحية التحديث ظلت غري
متكافئة للغاية ،فإن العالقات القانونية والسياسية أصبحت قامئة عىل أساس
املساواة يف السيادة ،وذلك عىل نحو فعال وعىل مستوى عاملي .أما ما كان ُيعدُّ يف
عالقات رسمي ًة لعدم املساواة ،فقد أصبحت
ٍ القرن املايض أو القرون التي سبقته
اآلن متساوية رسمية؛ وإن كان مع بقاء كثري من عدم املساواة غري الرسمية .إذ
ُقيض عىل العنرصية عىل نحو رسمي -وإىل حد كبري عىل نحو غري رسمي -كأساس
لتحديد العالقات السياسية والقانونية.
عىل هذا األساس ،أدَّى التنافس بني القوتني العظميني خالل فرتة الحرب الباردة
دورا يف العامل الثالث الجديد .فبالنسبة إىل الواليات املتحدة واالتحاد السوفييتي،
أصبح العامل الثالث يشكل ساحة رئيسة خاضوا فيها رصاعهم .لقد عرضوا وعىل نحو
مذهل إسرتاتيجيات مختلفة للتحديث ،وقد أصبحت قدرتهم عىل جذب العمالء
والحلفاء ،وتشكيل االقتصاد السيايس للتحديث يف العامل الثالث ،عالمة مهمة عىل
كيفية أدائهم خالل تلك املنافسة الشاملة .وقد تقاطعت مصالح القوتني العظميني
هذه مع عديد من خطوط الصدع داخل دول العامل الثالث وبينها ،مام أدى إىل
تدخالت تنافسية شملت املساعدات وإمدادات األسلحة وأحيانا الدعم السيايس
والعسكري املبارش إىل طرف معني أو آخر .وباإلضافة إىل تسجيل بعض املكاسب
األيديولوجية إحداهام عىل حساب األخرى ،كانت القوتان العظميان مهتمتني أيضا
باهتاممات القوى الكربى مثل الوصول إىل املوارد (مثل النفط يف الرشق األوسط
وأفريقيا ،واليورانيوم يف الكونغو البلجيكية السابقة) والقواعد (عىل سبيل املثال
يف الفلبني ،وكوبا ،والخليج ،والشام ،واملحيط الهندي) .ويف ظل ظروف الحرب
الباردة ،كان من الصعب عىل دول العامل الثالث تجنب اخرتاق القوتني العظميني
يف عالقاتهام املحلية واإلقليمية .متيل كل واحدة من القوتني العظميني إىل تفسري
العامل الثالث ليس من ناحية الديناميات املحلية ،ولكن من خالل رؤية األحداث
ومن خالل منظور مكائد منافستها األخرى .عندما انخرطت القوتان العظميان عىل
نحو مبارش يف رصاعات العامل الثالث ،كام فعلت الواليات املتحدة يف فيتنام وكام
فعل االتحاد السوفييتي يف أفغانستان ،حاول كل منهام جعل تدخل اآلخر صعبا
210
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
ومؤملا قدر اإلمكان ،وذلك من خالل تأليب وتشجيع جميع أشكال املعارضة املحلية
ضده .كان معنى كلمة «الباردة» يف الحرب الباردة هو أن الواليات املتحدة واالتحاد
السوفييتي ال ميكنهام املخاطرة بالدخول يف حرب معا عىل نحو مبارش .ففي الشامل
تعني كلمة «الباردة» سباق التسلح وخلق مواجهات عسكرية وسياسية يف أوروبا
وشامل رشق آسيا .أما يف الجنوب فقد كانت تعني كلمة «الباردة» منافسة واسعة
النطاق عرب القطاعات العسكرية والسياسية واالقتصادية ،واالستعداد للدخول يف
حروب بالوكالة.
وهكذا حولت الحرب الباردة االلتزام االستعامري للقوى املرتوبولية ،والقائل إن
القوى االستعامرية ترقى مبسؤولياتها إىل «معيار الحضارة» ،إىل رص ٍاع أيديولوجي
عاملي بشأن أفضل وأرسع طريق للتحديث والتنمية .قبل العام 1945كان مدى
جودة أو سوء تنفيذ االلتزام االستعامري هذا متنوعا عىل نحو كبري ،ومل يكن يسري
عىل نحو جيد يف كل األماكن .لقد س َّيست الحرب الباردة مسألة التنمية ،مام أدى
إىل زيادة موارد املساعدة املتاحة لها ،ورفع مستويات الخالف والنزاع واالرتباك
بشأن كيفية استخدام تلك املوارد .وقد تقاطع هوس العامل الثالث بتحقيق التنمية
مع النقاط األيديولوجية للقوتني العظميني الرامية إلعادة تشكيل دور املنظامت
الحكومية الدولية يف السياسة العاملية .وبينام حاولت عصبة األمم إدارة عالقات
القوى الكربى من خالل مقاربة األمن الجامعي ،فإن الحرب الباردة رسعان ما
أبعدت األمم املتحدة عن هذه الوظيفة .وبدال من ذلك ،ومع إنهاء االستعامر،
أصبحت منظومة األمم املتحدة تشكل املنتدى الرئيس لسياسات الشامل والجنوب
بشأن التنمية؛ واالنتشار النووي؛ وإدارة االقتصاد العاملي؛ ومجموعة من القضايا
األخرى .أما بالنسبة إىل العامل الثالث ،فقد كان نظام األمم املتحدة ميثل املنتدى
املفضل ألنه كان املكان الوحيد الذي تتمتع فيه دوله بقوة سياسية وأخالقية.
خالل هذه الفرتة ،ظلت دول األطراف ضعيفة ومعتمدة عىل دول املركز إىل حد
كبري .فقد ثبت أن مسار التنمية ،بغض النظر عن الطريق الذي سلكته ،كان أبطأ
وأكرث صعوبة وأقل استقرارا مام كان متوقعا .إذ متكنت حفنة من النمور اآلسيوية
فقط من الدخول يف مسار الحداثة .وبنهاية الحرب الباردة ،ومع استثناء كبري يتعلق
بالصني والنمور اآلسيوية ،ظلت الفجوات القامئة بني الدول املتقدمة والدول النامية
211
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كام كانت عليه يف البداية .وبينام أعادت الدول التي دمرتها الحرب يف املركز بناء
نفسها برسعة ،ظل معظم العامل الثالث يقبع يف حالة التبعية االقتصادية .لقد أعاد
العامل الثالث الجديد تشكيل السياسة الدولية من بعض النواحي املهمة ،ليس أقلها
تحويل الغاية الرئيسة من املنظامت الحكومية الدولية ووظائفها .فخالل هذه
الفرتة أصبحت العالقات الدولية عاملية حقا ،مبعنى أن جميع الشعوب -أو عىل
نحو أكرث دقة جميع الحكومات -أصبحت تشارك اآلن فيها عىل نحو مستقل .لكن
املجتمع الدويل العاملي كان اليزال يقبع تحت سيطرة الغرب ،وكان العامل الثالث
ضعيف داخل االقتصاد العاملي لبنية املركز -األطراف .ومع زوال ٍ وضع
اليزال يف ٍ
االتحاد السوفييتي ،فقد العامل الثالث نفوذه ضد الغرب.
مثة ميزة أخرى لهذا التطور ال تتعلق فقط بهذه الفرتة ،ولكنها تتعلق أيضا
مبا قبلها وما بعدها .يتعلق ذلك بالطريقة التي ُيتَذكر بها التاريخ -و ُينىس -عىل
نحو مختلف يف الشامل والجنوب .فمعظم الشعوب والحكومات يف الشامل تتذكر
هذه الفرتة عىل نحو أسايس عىل أنها «حقبة الحرب الباردة» ،وتفكر يف إنهاء
كعرض جانبي لذلك .وبالنظر إىل الوراء عىل ٍ االستعامر -إذا فكروا يف األمر أصال -
نحو أعمق ،فهم أصال بالكاد يتذكرون الحقبة االستعامرية ودور بلدانهم فيها .وإذا
كانوا يتذكرون ذلك بالفعل ،فإن هذا يكون مرفوقا يف األساس بتوهج فخور بأمجاد
وموروثات املايض(٭) .وبرصف النظر عن حفنة من املؤرخني واليساريني ،فقد نسوا
إىل حد كبري مدى تواطؤ دولهم ومجتمعاتهم يف قضايا العنرصية ،ومدى العنف
والقسوة التي ارتكبوها من خالل املامرسة اإلمرباطورية .عىل النقيض من ذلك ،فإن
معظم الشعوب والحكومات يف الجنوب ،وخاصة يف أفريقيا وآسيا ،تتذكر عىل نحو
أسايس هذه الفرتة عىل أنها فرتة التحرر وإنهاء االستعامر .إن ذكراهم عن االستعامر
والعنرصية السابقة والعنف واإلهانة التي لحقت بهم التزال قوية ،وغالبا ما ُتصقل
و ُيعاد إنتاجها عىل نحو نشط .وقد س َّهل التفاوت االقتصادي املستمر بني الشامل
والجنوب من إعادة إنتاجها ،متاما كام فعلت حاجة حكومات العامل الثالث إىل العثور
(٭) تعدُّ الواليات املتحدة استثناء هنا ألنها كانت قوة استعامرية صغرية نسبيا قبل العام .1945كانت تجربتها
«االستعامرية» داخلية إىل حد كبري بسبب استرياد العبيد األفارقة؛ والعنرصية املرتبطة بذلك؛ واملشكلة املستمرة
لكيفية التعامل مع قضية العرق يف السياسة الداخلية األمريكية[ .املؤلفان].
212
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
عىل طرف آخر غريها لتلقي اللوم عليه بسبب فشلها يف تحقيق التنمية الرسيعة.
لقد ظهر هذا االنفصال بني النسيان يف الدول املتحرضة املستعمرة واالستياء التي
مازالت تتذكره دول األطراف ما بعد االستعامر ،كميزة رئيسة للسياسة العاملية خالل
هذه الفرتة ،وترددت أصداؤه بقوة من هناك يف قضايا ترتاوح بدءا من املساعدة
ورشوط التجارة ،مرورا مبسائل حقوق اإلنسان وحفظ السالم ،ووصوال إىل عدم
التدخل واإلرهاب.
(٭) قرن اإلهانة :century of humiliationهو وصف يطلق عىل فرتة تدخل القوى األجنبية ،من بينها روسيا
واليابان ،يف الصني ما بني العامني 1839و[ .1949املرتجم].
213
تشكيل العالقات الدولية العاملية
214
العامل بعد العام :1945عصر احلرب الباردة وإنهاء االستعمار
تريد أن تؤدي دورا من أجل قيادة العامل الثالث ،أم أنها كانت واحدة من القوى
الكربى التي تتنافس عىل الهيمنة األيديولوجية والسياسية داخل العامل الثالث.
وعىل الرغم من فقرها ،فإن الصني قدمت يف ظل حكم ماو تيس مساعدات
سخية لعديد من دول العامل الثالث ( .)Fenby, 2013: 423ويف بعض األحيان،
تدخلت الصني بال رحمة يف شؤون جريانها يف جنوب رشق وجنوب آسيا ،ودعمت
األنظمة والحركات الثورية ،وساعدت باكستان عىل أن تصبح دولة حائزة أسلحة
نووية وذلك من أجل إثارة املشكالت للهند .ويف أحايني أخرى سعت إىل إقامة
عالقات منسجمة .وبشأن االنتقال من موقف الدفاع عن الوضع القائم إىل
املوقف التعدييل ،تحولت الصني من كونها ثورية متفانية يف تغيري /تعديل
الوضع القائم يف عهد ماو ،إىل تقديم نفسها عىل أنها قوة ساعية إىل الحفاظ عىل
الوضع القائم وعىل االستقرار يف ظل حكم دينغ.
وبإلقاء نظرة إىل املايض ،ومع التطلع نحو املستقبل ،بدأت ثورة دينغ بالفعل
تبدو كأنها حدث أكرث أهمية من زوال االتحاد السوفييتي.
خالصات
عند التمعن يف هذه الفرتة من منظور تاريخي طويل ،قد ُينظر إىل مسار إنهاء
االستعامر عىل أنه السمة املميزة الرئيسة لها ،مع حلول انتصار الرأساملية (وإن
مل يكن الدميوقراطية) كسمة يف املرتبة الثانية .قد تبدو الحرب الباردة عىل نحو
كبري كأنها مجرد حلقة أخرى يف مشهد متغري باستمرار لسياسات القوى الكربى .إن
القطبية يف حد ذاتها قد ال تبدو ذات أهمية خاصة .فثمة شيئان مميزان يستشفان
من الحرب الباردة .أوال ،تبدو تلك الحرب مهمة ألنها كانت جولة رئيسة يف لعبة
217
تشكيل العالقات الدولية العاملية
218
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
6
مقدمة
يرصد هذا الفصل قصة تخصص العالقات
الدولية منذ املرحلة التي توقفنا عندها يف
الفصل الرابع .سنستخدم البنية نفسها تقري ًبا
للتمعن يف تفكري حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز
ويف األَ ْط َراف ،وملحاولة رسم صورة عن مسار
مأسسة هذا الحقل داخل كال الجانبني .سوف
نعمد إىل تسجيل االستمرارية حيثام وجدت،
ولكن كام يشري العنوان الفرعي لهذا الفصل،
سنكون مهتمني أكرث برصد االختالفات القامئة
بني الجانبني .يرى كريبندورف Krippendorff
) (1989: 34أن العام 1945م َّثل التأسيس الثاين «ال ميكن أن توجد يف الدول االستبدادية
لـحقل العالقات الدولية باعتباره تخصصا معرفيا، دراسة للعالقات الدولية أو للسياسة
الخارجية إال باعتبارها تفسريا وتربيرا
تأسيسا «أكرث جدية» مام كان عليه ً بل إنه ش ّكل لسياسة الدولة»
219
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف العام .1919ونحن نتفق مع هذا الطرح .وبالنظر إىل حجتنا العامة القائلة إن
حقل العالقات الدولية يعكس مامرسة العالقات الدولية ،فإن هذا ليس شيئًا مفاجئًا
ألن الحرب العاملية الثانية ،وكام جادلنا يف الفصل الخامس ،متيزت بتحول مهم يف
للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي مامرسة العالقات الدولية ،حيث انتُقل من الصي َغة ُ
األ َ
وىَل ُ
وىَل ا ُمل َعدَّلة ُ
للم ْج َت َم ِع األ َ الذي ُأنشئ ألول مرة خالل القرن التاسع عرش ،إىل الصي َغة ُ
وىَل ا ُمل َعدلة الد ْويِل ال َعالَ ِمي .وقد متثلت التغيريات الرئيسة التي حددت الصي َغة ُ
األ َ ِ
َ
للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعال ِمي فيام ييل:
ُ
• التحول من نظام دويل متعدد األقطاب يحوي عديدا من القوى الكربى إىل
نظام دويل ثنايئ القطب يحوي قوتني عظميني فقط ،حيث تسعى كل واحدة منهام
إىل الرتويج أليديولوجية عاملية شاملة منافسة.
• أدى إدخال األسلحة النووية وأنظمة اإليصال العابرة للقارات إىل تعميق حاد
للمعضلة الدفاعية واملخاوف بشأن الحرب.
• َنزْعُ رشعية العنرصية واالستعامر ،و َت َضاعُ ف عضوية املجتمع الدويل العاملي
ثالث مرات ،حيث أدى إنهاء االستعامر إىل ظهور املستعمرات السابقة باعتبارها
تشكل األَ ْط َراف الجديدة للعامل الثالث ،أي «البلدان النامية».
لقد أدى التغريان األول والثاين من هذه التغيريات إىل دفع الواليات املتحدة
نحو صدارة العالقات الدولية ،وذلك بسبب أنها تحولت من االنعزالية إىل املشاركة
العاملية ،وألنها أيضا أصبحت متثل القوة النووية الرائدة .فالجمع بني التنافس
العاملي الثنايئ القطب املكثف املدفوع أيديولوج ًيا مع توافر قدرات األسلحة
النووية القادرة عىل تدمري العامل ،أدى إىل زيادة هَ َو ِس حقل العالقات الدولية
داخل املَ ْر َكز ،وهو الحقل املعريف الذي ُأنشئ بالفعل خالل سنوات ما بني الحربني،
حيث تأثر بعالقات القوى الكربى والحرب .لقد كان إنهاء االستعامر ميثل تحو ًاًل
جذر ًيا للغاية يف العالقات السياسية القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف ،وعىل رغم ذلك مل
يؤثر هذا التحول كث ًريا يف اهتاممات القوى الكربى املتعلقة بتفكري حقل العالقات
الدولة يف املَ ْر َكز .وكام الحظ كل من أرلني تينكر Arlene Ticknerوأويل ويفر
) ،Ole Wæver (2009b: 7فإن االهتامم بالعالقات بني الرشق والغرب سيطر عىل
حقل العالقات الدولية خالل هذه الفرتة ،مام دفع االهتامم بالعالقات بني الشامل
220
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
والجنوب والعالقات بني الجنوب والجنوب إىل الهامش .لقد أدى إنهاء االستعامر
إىل إضعاف موضوعات مناهضة االستعامر والعنرصية يف تفكري حقل العالقات
وبداًل من ذلك ،تحولت الدولية داخل األَ ْط َراف ،ولكن ذلك مل يكن عىل نح ٍو كبريً .
معارضة االستعامر القديم إىل معارض ٍة لالستعامر الجديد الناتج عن عدم املساواة
االقتصادية واملركزية األوروبية والعنرصية الخفية التي طبعت جزءا كبريا من تفكري
حقل العالقات الدولية الغريب.
«تأسيس ثانٍ » بعد العام 1945
ٌ تستند فكرة أن حقل العالقات الدولية كان له
إىل عديد من التطورات التي سنستكشفها مبزيد من التفصيل فيام ييل:
هائل ملأسسة حقل العالقات الدولية من نواحي التدريس واألبحاث وسع ٌ • َت ٌ
واملنشورات.
• زوال مؤمتر الدراسات الدولية ISCالذي كان يتمركز حول عصبة األمم،
وظهور جمعيات أكادميية مستقلة مرتبطة بحقل العالقات الدولية.
ملحوظ -يف املَ ْر َكز عىل وجه الخصوص -لحقل العالقات الدولية من
ٌ • َت َح ُو ٌل
كونه ميثل موضوعًا فكر ًيا وسياس ًيا واسعا إىل موضوع يغلب عليه الطابع املهني
والنظري واألكادميي (.)L. Ashworth, 2014: 256
• إِغفال أو رفض الكثري مام حدث من قبل.
• الظهور الرسيع للمجاالت التخصصية الفرعية الجديدة ،وأبرزها الدراسات
اإلسرتاتيجية ،مع تركيزها عىل املشكالت الفريدة من نوعها التي تطرحها األسلحة
النووية.
• بدايات االعرتاف داخل املَ ْر َكز بتفكري حقل العالقات الدولية القادم من
األَ ْط َراف.
ميكن تفسري معظم هذه التغيريات من خالل تحول مركز ثقل العالقات الدولية
كحقل معريف وكمامرسة إىل الواليات املتحدة .وباعتبارها قوة عظمى منخرطة عىل
الصعيد العاملي وزعيمة للعامل الغريب ،كان لدى الواليات املتحدة حاجة ُم ِلحة ملعرفة
مزيد عن العالقات الدولية .لقد كان لديها بالفعل ُأسس قوية مكتسبة من فرتة
ما بني الحربني للبناء عليها ،وهي متلك اآلن الحافز واألشخاص واملال لفعل ذلك.
لقد أفسح التقليد العميل الطويل األمد يف العلوم االجتامعية األمريكية الطريق
221
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أمام نفسه لبلوغ هذه الحاجة الجديدة ،وبسبب الكمية وإىل حد ما النوعية التي
حظي بها حقل العالقات الدولية األمرييك ،أصبحت الواليات املتحدة عىل نحو
إنتاجا وتأث ًريا يف هذا التخصص املعريف .يجادل كريبندورف رسيع ،متثل الدولة األكرث ً
( )33 :1989بأن حقل العالقات الدولية باعتباره تخصصا معرفيا يف الواليات
املتحدة نشأ بوصفه مبادرة حكومية ليس فقط ألجل إنتاج البحوث ذات الصلة
تأهياًل عال ًيا وا ُمل َك َّلفني
ً بالسياسات ،بل ً
أيضا لتدريب املوظفني الحكوميني املؤهلني
بفهم العامل الخارجي .وقد تراجعت بريطانيا إىل املركز الثاين ،بينام خضعت أملانيا
واليابان للتأثريات األمريكية .ومل يكن لالتحاد السوفييتي تأثري كبري يف تفكري حقل
العالقات الدولية بخالف ذلك التأثري الذي كان جاريا داخل كتلته ،حيث وقع ذلك
التفكري ضحية للواقع كام هو موضح يف الفصل الرابع ،أيْ أنه «ال ميكن أن توجد
يف الدول االستبدادية دراسة للعالقات الدولية أو للسياسة الخارجية إال باعتبارها
تفسريا وتربيرا لسياسة الدولة» (Olson and Groom, 1991: 74–5; see also
) .Sergounin, 2009ومن املثري لالهتامم أن الصني يف ظل حكم ماو تيس تونغ
أصبحت تشكل استثناء إىل حد ما بالنسبة إىل هذه القاعدة.
أدى تحول مركز ثقل العالقات الدولية إىل الواليات املتحدة بعد العام 1945
مبعنى ما إىل تكريس وتعزيز الهيمنة الحالية للعامل الناطق باللغة اإلنجليزية عىل
هذا التخصص املعريف املوروث عن سنوات ما بني الحربني العامليتني .ولكن ،يف حني
أن هذا التحول جلب عديدا من املزايا كالتمويل األمرييك لباحثي حقل العالقات
أيضا ببعض الخصائص األمريكية إىل مركز الصدارة. الدولية األجانب ،غري أنه دفع ً
مرتبطا بشدة ً وكام لوحظ بالفعل ،كان حقل العالقات الدولية يف الواليات املتحدة
بالعلوم السياسية (Schmidt, 1998a: 55; L. Ashworth, 2014: 13; Kuru,
) ،2017: 46وخالل أيامه األوىل كتخصص أكادميي ،كان حقل العالقات الدولية
عىل نح ٍو عام ُمدمجا كتخصص داخل أقسام العلوم السياسية (Richardson,
) .1989: 287–8حيث كانت هذه امليزة سائدة طوال فرتة الحرب الباردة والتزال
كذلك حتى يومنا هذا .كانت إحدى النتائج الرئيسة لهذا االرتباط هي أن حقل
العالقات الدولية األمرييك ظل ُم َر َّكزًا عىل نح ٍو ضيق لفهم املوضوع عىل أنه
مجموعة فرعية من املجال السيايس ،وكان مييل بشدة إىل األساليب «العلمية»
222
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
الرسمية .مل يكن هذا االرتباط القوي بني حقل العالقات الدولية والعلوم السياسية
صحيحا عىل نح ٍو عام يف أي مكان آخر .فجذور العالقات الدولية يف بريطانيا تعود ً
إىل التاريخ والقانون الدويل والنظرية السياسية ،بينام كانت له روابط قوية يف
القارة األمريكية مع علم االجتامع.
يف وصفه الشهري لـحقل العالقات الدولية بأنه «علم اجتامعي أمرييك» ،حدد
هوفامن ( )1977ثالثة عوامل ُم َؤ َّس ِس َية أدت إىل أن يحمل هذا الحقل طاب ًعا أمريك ًيا
مميزًا ،وذلك «مل يكن موجودًا يف ال َو ْق ِت َن ْف ِسه يف هذا الحقل يف أي مكان آخر».
وضوحا بني العامل األكادميي وعامل السلطة (نظام
ً متثل العامل األول يف «الرابط األكرث
الحكم الداخيل والخارجي) ،الذي مكن األكادمييني والباحثني ليس فقط من ولوج
أيضا من ولوج مطابخها» .كان العامل الثاين ،واملتعلق ممرات السلطة ولكن مكنهم ً
باألول ،يتمثل يف «املبادالت القامئة بني مطابخ السلطة والصالونات األكادميية» ،أو
االرتباط الوثيق ،كام قد يقول البعض ،بني العامل األكادميي وعامل السياسة .وقد شكلت
الجامعات العامل ا ُمل َؤ َّس ِيِس الثالث لكونها كانت «مرنة» بسبب تنوعها الخاص ،وهو
ما ضمن وجود املنافسة والتخصص ،وأظهر الغياب شبه الكامل للقوانني الجامدة؛
والتقاليد شبه اإلقطاعية؛ واالعتامد املايل؛ والروتني الفكري الذي غال ًبا ما كان يشل
الجامعات األوروبية يف فرتة ما بعد الحرب» (.)Hoffmann, 1977: 49–50
وعىل رغم ذلك ،فرض التفوق األمرييك معايريه عىل نح ٍو طاغ عىل بقية
التخصص املعريف بعد العام .1945وكام أشار إىل ذلك تيكنري وويفر (2009c:
ُ « :)329ت َعدُّ صيغة حقل العالقات الدولية األمرييك حالة محلية فريدة للتخصص،
كام ُت َعدُّ يف الوقت نفسه عنرصا ُمك ِّو ًنا ال يتجزأ من أي حالة عاملية أخرى».
وعىل رغم ذلك ،بينام حددت الواليات املتحدة معيار حقل العالقات الدولية
عامل ًّيا وذلك من خالل حجمها النسبي وقدرتها عىل التحكم يف املوارد (املالية؛
أيضا القول بأن واملؤسسات األكادميية؛ واملجالت املرموقة) ،كان من الصحيح ً
االختيار العقالين واملناهج الكمية التي سيطرت عىل نح ٍو متزايد عىل حقل
العالقات الدولية األمرييك كانت شبه غائبة متا ًما يف بقية العامل« :إنه ملن الالفت
للنظر كيف أن الصيغ السائدة حال ًّيا من حقل العالقات الدولية األمرييك ال تنتقل
عرب العامل» ).(Tickner and Wæver, 2009a: 5, 339; Maliniak et al., 2018
223
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كام أدى إضفاء الطابع املهني األكادميي عىل حقل العالقات الدولية وف ًقا للمعايري
األمريكية إىل تعميق استبعاد حقل العالقات الدولية غري األكادميي الخاص
باألَ ْط َراف من املناقشات التخصصية الجارية يف املَ ْر َكز« :مثة القليل فقط من
املساهامت املتأتية من خارج املَ ْر َكز معرتف بها بوصفها طرقا مرشوعة للتفكري يف
السياسة الدولية» (.)Tickner and Wæver, 2009b: 3
أيضا بالتفوق ً
مرتبطا ً رمبا كان ا ِإلغفال الرئيس الذي حصل يف التخصص
األمرييك يف حقل العالقات الدولية .فبينام نشأ حقل العالقات الدولية قبل الحرب
العاملية الثانية بدرجة ما من التنوع؛ مبعنى وجود اهتاممات مواضيعية مختلفة
وبتوجه معني متعدد التخصصات ،أصبح هذا الحقل بعد الحرب العاملية الثانية
ضي ًقا وأقل تعددية عىل نح ٍو ملحوظ .فبعد أن ازدهرت خالل القرن التاسع عرش
وسنوات ما بني الحربنيُ ،نزعت الرشعية عن الجغرافيا السياسية بعد الحرب
العاملية الثانية ،وغرقت يف طي النسيان بسبب ارتباطها بالفاشية ،مام سمح
أيضا يشكلون جز ًءا من تراثها .وقد كان لبقية الغرب بأن يتناسوا أنهم كانوا ً
هذا االنقطاع عمي ًقا لدرجة أن الجغرافيا السياسية (عىل نح ٍو أسايس يف شكل
الجغرافيا السياسية النقدية) مل تعاود الظهور مرة أخرى يف حقل العالقات الدولية
األنجلو-أمرييك إال خالل فرتة التسعينيات (Ó Tuathail, 1996; Ó Tuathail,
) .Dalby and Routledge, 1998; Guzzini, 2013وباملثل ،فإن الخط الواعد
للفكر النسوي الذي انفتح خالل فرتة ما بني الحربني مل يعاود هو اآلخر الظهور
أيضاُ .وأس ِقط االقتصاد السيايس الدويل -باستثناء نظرية حتى التسعينيات ً
التبعية (التي سوف نتحدث عنها الحقا) التي كانت فكرة غري غربية بامتياز -من
اهتاممات حقل العالقات الدولية بعد العام ،1945بحيث ركز التخصص خالل
تلك الفرتة عىل ا ُملشكالت األمنية للحرب الباردة ،ومل يظهر االقتصاد السيايس
الدويل مرة أخرى حتى نشوب األزمات النفطية واملالية التي أثرت يف الواليات
املتحدة خالل سبعينيات ومثانينيات القرن العرشين .لقد شكل كل من االستيعاب
العام لـحقل العالقات الدولية من ِقبل العلوم السياسية يف الواليات املتحدة؛
و َف ْص ُل هانز مورغانثو للمجال السيايس باعتباره الرتكيز املنفصل لدراسة حقل
العالقات الدولية ،خطوتني رئيستني إلسكات صوت االقتصاد السيايس الدويل مدة
224
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
- 1 - 1املركز
من نواح عديدة ،اتبع مسار مأسسة حقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز ً
منطا
مشاب ًها لذلك املسار الذي كان عليه خالل سنوات ما بني الحربني .فداخل تلك
البلدان التي ُأ ِّسس فيها أو ُأنشئ حقل عالقات دولية ،كان مثة زيادة عامة يف عدد
األماكن التي تد ِّرس هذا املجال الدرايس؛ ويف عدد املجالت ومراكز الفكر املهتمة به؛
توسع
ويف عدد األشخاص الذين ينهضون بالتدريس والبحث فيه ،كام كان مثة أيضا ٌ
عىل مستوى إنشاء جمعيات أكادميية مرتبطة بهذا التخصص .كان هذا التوسع
ملحوظا يف األماكن التي تطور فيها حقل العالقات الدولية بالفعل خالل سنوات ما ً
حاصل يف بلدان أخرى .ومتاشيا مع ٌ توسع
أيضا ٌ بني الحربني وما قبلها ،ولكن كان مثة ً
حجمها وثروتها وأدوارها العاملية الجديدة ،فقد قادت الواليات املتحدة عىل نح ٍو
رئيس هذه التطورات عىل كربى املستويات يف معظم النواحي.
هذا التطور املهم بالفعل لحقل العالقات الدولية والذي نوقش يف الفصل الرابع،
استمر يف الجامعات ومراكز األبحاث األمريكية ،واكتسب زخام أكرب يف فرتة ما بعد
الحرب (العاملية الثانية) .وكام يشري نورمان باملر ( ،)348 :1980فإن «الدورات
املتعلقة بالعالقات الدولية ...انترشت يف الكليات والجامعات األمريكية ،مع تزايد
االعرتاف والقبول بالعالقات الدولية باعتبارها مجاال للدراسة» .و ُقدِّر أنه اعتبا ًرا من
العام 1980كانت مثة «زيادة مبقدار خمسة أضعاف يف عدد املقررات الدراسية
يف العالقات الدولية» مقارنة بثالثينيات القرن املايض .وعىل نح ٍو ملحوظ كان مثة
ارتفاع يف كل من املقررات عىل مستوى البكالوريوس والدراسات العليا .وبرصف
النظر عن أقسام العلوم السياسية ،توافرت مقررات يف دراسة العالقات الدولية
أو ذات صلة بها من خالل تخصصات التاريخ واالقتصاد ،وأصبحت أقسام وبرامج
الدراسات اإلقليمية متوافرة يف الجامعات ،وكذلك يف كليات القانون واألعامل .فقد
ظهرت مدارس منفصلة للعالقات الدولية؛ مثل كلية الشؤون الدولية والعامة يف
كولومبيا (تأسست يف العام )1946؛ وكلية الخدمة الدولية يف الجامعة األمريكية
()1957؛ ومدرسة مامثلة يف دنفر (كلية الدراسات العليا للدراسات الدولية يف العام
أيضا الكتب .)1964ونتيج ًة طبيعي ًة لنمو األقسام والدورات الجامعية ،انترشت ً
املدرسية والجمعيات واملجالت العلمية الخاصة بالعالقات الدولية يف الواليات
226
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
املتحدة أكرث من أي دولة أخرى .إذ إن أغلبية الكتب املدرسية الخاصة بـحقل
العالقات الدولية التي يستخدمها طالب هذا التخصص عىل جميع املستويات ويف
جميع أنحاء العاملُ ،تنرش يف الواليات املتحدة(٭).
يقدم ِن ِيل ريتشاردسون عدة أسباب وراء الزيادة الكبرية يف اهتامم الطالب
الجامعيني بحقل العالقات الدولية يف الواليات املتحدة :من بينها موقف رونالد
ريغان «البارز» يف السياسة الخارجية؛ وأرباب العمل الذين يبحثون عن خريجي
الجامعات الذين يحوزون معرفة بالشؤون الدولية؛ وتغري سياق العالقات الدولية
أيضا مراعاة الزيادة عىل مستوى خريجي ( .)Richardson, 1989: 288–9يجب ً
الدكتوراه يف الحقل كام يجب أن تؤخذ بعني االعتبار امليزات النوعية لربامج
الدراسات العليا التي تجذب اهتامم طالب الدراسات العليا -تلك الربامج التي
كانت «فريدة من نوعها يف سعيها لتحقيق التوازن بني الرصامة األكادميية والتدريب
العميل واملهني املناسب ملجموعة متنوعة من الوظائف يف القطاعني العام والخاص»
(.)Richardson, 1989: 290
لقد حدثت توسعات مؤسسية مامثلة يف أماكن أخرى ،وإن كان حصل ذلك عىل
نح ٍو رئيس يف العامل الناطق باللغة اإلنجليزية ويف أماكن مثل الدول اإلسكندنافية حيث
كانت اللغة اإلنجليزية قوية باعتبارها لغة ثانية .ويف بريطانيا انترش حقل العالقات
الدولية رسي ًعا لينتقل إىل معظم الجامعات ،مع أقسام مخصصة يف جامعة سيتي،
وسانت أندروز ،ووارويك ،وكييل ،وبرادفورد (دراسات السالم) .كام حصلت توسعات
مامثلة يف أسرتاليا (مع الجامعة الوطنية األسرتالية بوصفها مركزا خاصا) ،وكندا (معظمها
يف أقسام العلوم السياسية) ونيوزيلندا ) .(Cox and Nossal, 2009:295–301وقد
اكتسبت الدول اإلسكندنافية مكانة مهمة يف حقل العالقات الدولية ،مع الرتكيز عىل
نح ٍو خاص عىل أبحاث السالم ) .(Friedrichs and Wæver, 2009وكانت أبحاث
أيضا تشكل القوة الرائدة لحقل العالقات الدولية يف أملانيا خالل ذلك الوقت. السالم ً
ويف اليابان وكوريا لقد توسع تدريس حقل العالقات الدولية ً
أيضا ،مبا يف ذلك الرتكيز
القوي عىل أبحاث السالم ،ولكن يف ظل غياب أقسام للعلوم السياسية يف اليابان ،ظلت
) See Sandole (1985) for a review of post-1945 textbooks.٭(
[املؤلفان].
227
تشكيل العالقات الدولية العاملية
228
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
وتنمية الشعور بالهوية؛ واملشاركة بني أعضاء التخصص عىل نح ٍو عام .م َّولت تلك
الجمعيات نفسها من خالل رسوم العضوية؛ وأرباح املؤمترات؛ والدعم املقدم من
طرف املؤسسات؛ والدخل املتأيت من املجالت التي يصدرونها .وقد ترافقت زيادة
عدد هذه الجمعيات جن ًبا إىل جنب مع التوسع العام الذي شهده حقل العالقات
الدولية داخل الجامعات بوصفه موضوعا للدراسة والبحث ،حيث تجاوزت برسعة
حجم العضوية الصغرية نسب ًيا التي ميزت مؤمتر الدراسات الدولية ( .)ISCوبحلول
أواخر التسعينيات كان لدى الرابطة اليابانية للعالقات الدولية أكرث من ألفي عضو؛
وبلغ عدد أعضاء الجمعية الربيطانية للدراسات الدولية أكرث من ألف عضو بحلول
العام 2006؛ وزاد أعضاء جمعية الدراسات الدولية من 200عضو يف العام 1959
إىل أكرث من ألفي عضو بحلول نهاية الحرب الباردة(٭).
كانت جمعية الدراسات الدولية ISAبال شك هي األكرب واألكرث ثرا ًء واألكرث
تأث ًريا بني جمعيات حقل العالقات الدولية األكادميية الجديدة تلك ،وقد روى قصتها
الخاصة كل من هرني تيون ) Henry Teune (1982وأويل هولستي Ole Holsti
) (2014ومايكل هاس ) .Michael Haas (2016فقد سعت جمعية الدراسات
الدولية إىل االقتصار عىل العلوم السياسية و ُو ِّسعت الحتضان بعض من التخصصات
املتعددة ،ومبعنى ما كانت تتحدى إذن االرتباط املؤسيس الوثيق والطويل األمد
(فضال عىل االرتباط املعريف واملنهجي) القائم بني العالقات الدولية والعلوم
أيضا ً
سؤااًل السياسية يف الواليات املتحدة .لقد أثار حجم جمعية الدراسات الدولية ً
دامئًا عن مسألة التدويل .فعىل عكس معظم جمعيات حقل العالقات الدولية
األكادميية األخرى ،مل ُي ْظ ِهر اسم جمعية الدراسات الدولية أي انتامء وطني ،مام
مفتوحا أمام احتامل أن تكون ،أو أنها ستكون ،مبنزلة هيئة عاملية .مثة
ً ترك الباب
بالطبع يشء من التأثري األمرييك لهذا النوع من الغموض العاملي ،فعىل سبيل املثال،
ميكن التفكر فيام يسمى بـ «بطولة العامل» للعبة البيسبول وهي إىل حد كبري لعبة
أمريكية .لقد سمحت جمعية الدراسات الدولية بالعضوية بالنسبة إىل الكنديني
وبعدهم لألوروبيني ،ومنذ السبعينيات (عىل الرغم من أن التوقيت الدقيق لذلك
) www.isanet.org/ISA/About-ISA/Data/Membership (Accessed 18 September 2017).٭(
[املؤلفان].
229
تشكيل العالقات الدولية العاملية
غري واضح) قبلت بالعضوية القادمة من خارج أمريكا الشاملية .قد يكون التخلف
النسبي لتكنولوجيا االتصال يف ذلك الوقت قد أعاق مشاركة علامء الجنوب العاملي
يف جمعية الدراسات الدولية خالل سنواتها األوىل (املعلومات بشأن مشاركة علامء
الجنوب العاملي يف اتفاقيات جمعية الدراسات الدولية نادرة للغاية) .ومع اقرتاب
نهاية الثامنينيات بدا أن جمعية الدراسات الدولية رشعت يف حملة للتوسع يف
أوروبا .حيث أثار ذلك معارض ًة ،خاصة من بريطانيا ،مام أدى بدوره إىل إعادة
تشكيل كبرية للمشهد املؤسيس لجمعيات حقل العالقات الدولية األكادميية ،وهي
قصة سنتعرض لها يف الفصل الثامن.
قد يدعم الحجم النسبي لـجمعية الدراسات الدولية وثروتها وانفتاحها عىل
املشاركة َز ْع َم مايكل هاس ( )2016: 10أن «علامء الجمعية األمريكيني دشنوا
مجال دراسة دوليا ح ًقا» .ولكن كام لوحظ سابقا ،فإن اقرتاح جمعية الدراسات
الدولية للمقاربة األمريكية تجاه العالقات الدولية ،خاصة بعد أن بدأت الثورة
السلوكية «العلمية» يف الستينيات ،مل يلق رواجا كبريا يف بقية العامل .وكام يجادل
هاس ) ،(2016: 10فإن مؤسيس جمعية الدراسات الدولية:
«بحثوا عن نظريات أو مناذج معرفية قامئة عىل البحث التجريبي الذي يتضمن
اختبار االقرتاحات (النظريات متوسطة املدى) التي من شأنها إعامل املفاهيم
املتأتية من املقرتحات املشتقة من النظريات الكلية يف شكل فرضيات منخفضة
املستوى .لقد عُ رفوا باسم «الس ُلوكيون» behavioralistsوميكن العثور عليهم يف
جامعات ميشيغان؛ ونورثويسرتن؛ وستانفورد؛ وييل .لقد سعوا إىل استبدال أبحاث
العالقات الدولية التقليدية وتقديم توجيه سيايس قائم عىل البحث العلمي».
إذا كانت جمعية الدراسات الدولية باعتبارها منظمة قد أعطت دفعة قوية
للسعي األمرييك املتميز وراء «علم» العالقات الدولية وساهمت يف الثورة «السلوكية»
التي مست هذا التخصص املعريف ،فإن هذه الرغبة والرتكيز مل تتقاسمهام أوروبا
أو املناطق النامية األخرى ،كام هو واضح يف النقاش الدائر بني هيديل بول ()1966
ومورتن كابالن ( .(see also Tickner and Wæver, 2009a) )1966ومن ثم قد
تكون جمعية الدراسات الدولية خالل بدايتها قد عمقت الهوة بني «علم االجتامع
األمرييك» وتطوير مجال العالقات الدولية يف بقية العامل ،مبا يف ذلك الجنوب العاملي.
230
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
توسع كب ٌري يف عدد دوريات العالقات الدولية (Palmer,ٌ لقد رافق كل هذا
،)1980: 349–50وشكلت الواليات املتحدة مقر عديد منها ،ولكن عديدا منها ً
أيضا
كان موجودا يف أوروبا وبقية العامل الناطق باللغة اإلنجليزية .وقد ارتبط بعضها
بأقسام أو معاهد جامعية (مجلة الشؤون الدولية Journal of International
[ Affairsجامعة كولومبيا]1947 ،؛ والسياسة العاملية [ World Politicsجامعة
برينستون]1948 ،؛ ومجلة مريشون للدراسات الدولية Mershon International
[ Studies Reviewجامعة أوهايو]1957 ،؛ ومجلة العالقات الدولية International
[ Relationsجامعة أبريستويث]1960 ،؛ ومجلة الدراسات اآلسيوية Asian Survey
[معهد دراسات رشق آسيا يف جامعة كاليفورنيا ،بريكيل]1961 ،؛ ومجلة األلفية
[ Millenniumمعهد لندن لالقتصاد]1971 ،؛ ومجلة األمن الدويل International
[ Securityجامعة هارفارد]1976 ،؛ مجلة كامربيدج للشؤون الدولية Cambridge
[ Review of International Affairsجامعة كامربيدج .)]1986 ،وقد كان بعض
املجالت منتس ًبا إىل مراكز أبحاث ومعاهد بحثية مستقلة (املجلة األسرتالية للشؤون
الدولية ،Australian Journal of International Affairsالتي كان مسامها يف
األصل [ Australian Outlookاملعهد األسرتايل للشؤون الدولية]1946 ،؛ واملجلة
الدولية [ International Journalاملجلس الكندي الدويل ومركز بيل جراهام للتاريخ
الدويل املعارص]1946 ،؛ ومجلة حل النزاعات Journal of Conflict Resolution
[ مجتمع علم السالم]1957 ،؛ ومجلة أوربيس [ Orbisمعهد تحليل السياسة
الخارجية]1957 ،؛ ومجلة النجاة [ Survivalاملعهد الدويل للدراسات اإلسرتاتيجية،
]1959؛ ومجلة أبحاث السالم [ Journal of Peaceمعهد أبحاث السالم أسلو،
]1964؛ ومجلة الحوار األمني Security Dialogueوالتي كانت يف األصل تحمل
اسم نرشة مقرتحات السالم [ معهد أبحاث السالم أسلو]1970 ،؛ ومجلة السياسة
الخارجية [ Foreign Policyأندرو كارنيغي للسالم الدويل .]1970 ،كام ُأنشئ بعض
تلك املجالت عن طريق الجمعيات األكادميية الجديدة لحقل العالقات الدولية
مثل :السياسات الدولية ]Kokusai Seiji [JAIR، 1957؛ و َفص ِلية الدراسات الدولية
[ International Studies Quarterlyجمعية الدراسات الدولية ]ISA، 1959؛
ومجلة التعاون والنزاع [ Cooperation and Conflictجمعية الدراسات الدولية
231
تشكيل العالقات الدولية العاملية
سيضطلع بقيادة دراسة القضايا الفرعية يف الشؤون العاملية ،بينام أنشأت األكادميية
أيضا عددًا من معاهد دراسات املناطق ألجل دراسة مناطق مختلفة من العامل؛ ً
مبا يف ذلك معهد أفريقيا ()1959؛ ومعهد أمريكا الالتينية ()1961؛ ومعهد الرشق
األقىص ()1966؛ ومعهد الواليات املتحدة األمريكية وكندا ( .)1967كام ُأجريت
دراسة قضايا االقتصاد والسياسة يف البلدان الشيوعية األخرى يف معهد اقتصاد
النظام االشرتايك العاملي ( .)Lebedeva, 2004: 264–5( )1960وقد أظهر هذا
واضحا نحو دراسات املناطق يف تطوير حقل العالقات الدولية يف االتحاد ً توج ًها
السوفييتي ،وهو ما شهدته أيضا بعض البلدان النامية ،وال سيام الهند .ولكن عىل
عكس الهند كانت دراسة حقل العالقات الدولية يف االتحاد السوفييتي مقيد ًة
بفرض حظر رسمي عىل النصوص باللغة اإلنجليزية القادمة من الغرب ،والرقابة
الرسمية وعدم االتصال بالباحثني الغربيني .حيث أثر هذا عىل نح ٍو خاص يف
األبحاث الدراسية يف نظرية العالقات الدولية .وقد واجه تطوير حقل العالقات
الدولية يف بلدان أوروبا الوسطى والرشقية ( )CEEقيودًا متشابهة من حيث املوارد
واأليديولوجية ،وكان توجهه البحثي يف األغلب تجريب ًيا وليس نظر ًيا وبقي عىل
نح ٍو عام حقال متخل ًفا ) .(Drulák, Karlas and Königová, 2009: 243ويف
بعض النواحي ،تأثرت أبحاث العالقات الدولية يف بلدان أوروبا الوسطى والرشقية
بالنموذج األملاين ،الذي يعطي الكثري من السلطة لرؤساء املؤسسات وكبار األساتذة
يف املنشورات العلمية ).(Drulák, Karlas and Königová, 2009: 257
خالل فرتة ،1989-1945ومهام كانت األسس النظرية التي كان يحتوي عليها
مزيجا من املاركسية
حقل العالقات الدولية يف االتحاد السوفييتي ،فقد كان يشكل ً
اللينينية و«الواقعية» .وينظر البعض إىل الواقعية عىل أنها كانت الخط الفكري
أيضا يعد املهيمن ،كونها كانت تتمركز حول الدولة .وإذا كان األمر كذلك ،فهذا ً
سمة من سامت حقل العالقات الدولية يف جميع أنحاء األَ ْط َراف .لكن هذا الخط
الواقعي داخل االتحاد السوفييتي تطور من دون تأثري مبارش كبري من الباحثني
الغربيني من املدرسة الواقعية والواقعية املحدثة ،وذلك بسبب عدم توافر كتاباتهم
( .)Lebedeva, 2004: 268من شأن وجهة النظر الواقعية الضمنية هذه أن ُت ِّ
فرِّس
صعود الجغرافيا السياسية يف حقل العالقات الدولية يف مرحلة ما بعد االتحاد
233
تشكيل العالقات الدولية العاملية
السوفييتي الرويس ،حتى عندما تحولت األبحاث هناك لتأخذ طاب ًعا أكرث نظرية
وتبنت مجموعة متنوعة من املقاربات النظرية.
َ -1-2
األ ْط َراف
من األصعب بكثري تتبع التطور املؤسيس لحقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف.
فمن ضمن ما متكنا من العثور عليه ،مل يكن مثة ذلك القدر الكبري عند مقارنته
باملَ ْر َكز .فمن ناحية التدريس والبحثُ ،د ِّرست دورات حقل العالقات الدولية
يف تركيا (جامعة أنقرة) يف الخمسينيات ،وكان هناك قسم للعالقات الدولية يف
جامعة الرشق األوسط التقنية بحلول العام .1984ويف إرسائيل كانت الجامعة
العربية تستصدر شهادات يف العالقات الدولية بحلول العام ،1946وقد ُأنشئ
قسم مستقل للعالقات الدولية يف العام .1969ويف الهند أدت التطورات التي
نوقشت يف الفصل الرابع إىل تشكيل املدرسة الهندية للدراسات الدولية يف العام
،1955والتي أطلقت يف العام 1959مجلة الدراسات الدولية ،وهي واحدة من
أوليات املجالت األكادميية الصادرة باللغة اإلنجليزية واملتخصصة يف العالقات
الدولية يف آسيا والعامل الثالث (فصلية الهند ،India Quarterlyوهي مجلة أكرث
توج ًها نحو السياسات ،بدأت يف النرش يف العام 1954تحت رعاية املجلس الهندي
للشؤون العاملية .)ICWAويف العام 1969انضمت املدرسة الهندية للدراسات
الدولية إىل جامعة جواهر الل نهرو ا ُملنشأة حدي ًثا بوصفها مدرسة للدراسات
الدولية ( .)Batabyal, 2015: 137–63أما يف الصني فقد أخضعت اإلصالحات
التعليمية يف العام 1952التعليم العايل إىل الحزب الشيوعي الصيني ،مام أدى
إىل إلغاء العلوم السياسية من املناهج الدراسية ،وتفكيك حقل العالقات الدولية
باعتباره موضوعا متامسكا .ويف العام 1963أمر الحزب الشيوعي الصيني بتقوية
دراسة العالقات الدولية وإنشاء أقسام العالقات الدولية يف جامعات بكني ورينمني
Renminوفودان ،Fudanلكن تلك األقسام كانت يف خدمة احتياجات السياسة
الخارجية للصني عىل نح ٍو أسايس ،وكان حقل العالقات الدولية هناك مؤطرا إىل
حد كبري ضمن إطار األيديولوجية املاركسية ) .(Lu, 2014:133–4, 144–9ويف
أفريقيا ُأنشئ أول كريس للعالقات الدولية يف العام 1977يف الجامعة النيجريية
234
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
• هل استمر هذا الحقل يف عكس اهتاممات ووجهات نظر دول املَ ْر َكز،
وتهميش دول األَ ْط َراف؟
كام ذكرنا ساب ًقا ،كانت التطورات الرئيسة الحاصلة يف العالقات الدولية بوصفها
مامرسة تتمظهر يف القطبية الثنائية؛ والحرب الباردة؛ واألسلحة النووية من جهة،
ويف إنهاء االستعامر من جهة أخرى .لقد مارست كل من القطبية الثنائية والحرب
الباردة واألسلحة النووية دورا كبريا يف التأثري يف العالقات الدولية كحقل معريف
وكمامرسة داخل دول املً ْر َكز ،يف حني مل يتمكن مسار إنهاء االستعامر من فعل
ذلك .حيث أدى إنهاء االستعامر ،وكام سنوضح ذلك يف القسم التايل ،دو ًرا قو ًيا
أيضا التناقض، يف حقل العالقات الدولية داخل دول األَ ْط َراف .سوف نستكشف ً
املذكور سابقا ،بني الهيمنة األمريكية عىل حقل العالقات الدولية ومامرسة العالقات
الدولية كحقل معريف من ناحية ،وتنوع ومتايز تفكري حقل العالقات الدولية داخل
دول املَ ْر َكز من ناحية أخرى .سنبدأ بالتطرق إىل التنوع واالختالف القائم داخل
املَ ْر َكز .حيث يبحث القسم الفرعي التايل يف ادعاء هوفامن بشأن حقل العالقات
الدولية باعتباره «علم اجتامع أمريكيا» .وتتناول األقسام الفرعية الالحقة بإيجاز
التطورات السائدة يف الواقعية ،والدراسات اإلسرتاتيجية ،وأبحاث السالم ،والليربالية،
واملاركسية ،واملدرسة الربيطانية باعتبارها متثل الوجه الجديد لحقل العالقات
الدولية املعاد تأسيسه ،والذي ،كام هو موضح سابقا ،أغفل أو أبعد جان ًبا الكثري مام
كان يضمه هذا التخصص خالل السنوات التي سبقت العام .1939
الواليات املتحدة يف تقعيد حقل العالقات الدولية داخل إطار العلوم السياسية.
لكن هذا مل يكن الحال عىل نح ٍو عام يف أماكن أخرى .ففي فرنسا وأملانيا ارتبطت
ارتباطا وثي ًقا بعلم االجتامع .ويف بريطانيا وبقية العامل الناطقً العالقات الدولية
باللغة اإلنجليزية ،باستثناء كندا ،غال ًبا ما كان حقل العالقات الدولية ُمن ََّظ ًاًم حول
ذاته ،وله جذوره الرئيسة يف التاريخ والقانون الدويل والنظرية السياسية .ويف اليابان
مل يكن هناك أقسام للعلوم السياسية ،غري أن حقل العالقات الدولية مل يتطور هناك
مع أقسام مستقلة أخرى ( .)Inoguchi, 2009: 94وكام يرى يورج فريدريش Jörg
Friedrichsوأويل ويفر ( ، )Ole Wæver 2009: 262كانت وضعية تفكري حقل
العالقات الدولية يف املركز خالل هذه الفرتة تتمثل يف أن« :جميع مجتمعات حقل
العالقات الدولية يف أوروبا الغربية تقف يف وجه التيار األمرييك املهمني داخل عالقة
املَ ْر َكز -األَ ْط َراف» .وعىل رغم ذلك ،وكام هو مذكور سابقا ،مل يكن مثة اهتامم كبري
يف أوروبا أو اليابان باملناهج «العلمية» للواليات املتحدة ،حيث يرى واين كوكس
Wayne Coxوكيم ريتشارد نوسال ( )Kim Richard Nossal 2009: 303أن
الدول األخرى للعامل الناطق باللغة اإلنجليزية ،مبا يف ذلك كندا ،كانت تشكل املصدر
الرئيس لتحدي نظرية املعرفة العقالنية الوضعية التي ُي َف ِّض ُلها حقل العالقات
الدولية األمرييك .ويف إطار التعامل مع موقعهم الهاميش داخل العالقة القامئة
بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف ،طورت مجتمعات حقل العالقات الدولية األوروبية ثالث
إسرتاتيجيات مختلفة للتكيف :االعتامد األكادميي عىل الذات (فرنسا)؛ والتهميش
املستقيل (إيطاليا وإسبانيا)؛ والتعاون البحثي متعدد املستويات (دول الشامل
واملناطق الناطقة بالهولندية واألملانية) (.)Friedrichs and Wæver, 2009: 262
ومن الغريب أن األسلوب األكادميي الياباين القائم عىل الوصف الكثيف ينسجم عىل
نح ٍو أكرب مع األَ ْط َراف فيام يتعلق بتقسيم العمل الذي الحظه كل من تينكر وأويل
ويفر ( ،)2009c: 335حيث يضطلع املَ ْر َكز بعملية التنظري يف حني ال تفعل األَ ْط َراف
ذلك .لقد أنتجت أوروبا وبقية العامل الناطق باللغة اإلنجليزية نظري ًة ،ولكن ليس
دامئًا النظرية نفسها التي كان األمريكيون يتبعونها.
كان مثة بعض الوحدة القامئة حول «النقاشات الكربى» بني أوروبا وأمريكا،
وكذلك كان مثة قدر كبري من القواسم املشرتكة بشأن «النامذج الفكرية» الرئيسة
237
تشكيل العالقات الدولية العاملية
للواقعية والليربالية واملاركسية .وهذا يحيلنا إىل أن اليابان مل تهتم كث ًريا بـ «النقاشات
الكربى» ،واضطلعت إىل حد كبري بتأسيس مرجعي ذايت يف التفكري بشأن حقل
العالقات الدولية ،متا ًما كام فعلت فرنسا (Inoguchi, 2009: 90; Friedrichs and
) .Wæver, 2009: 263–4, 267–8ونظ ًرا إىل تركيز حقل العالقات الدولية داخل
املَ ْر َكز عىل العالقات بني الرشق والغرب وقضايا األمن النووي ،فليس من املستغرب
أن توفر القضايا والنظريات األمنية (الدراسات اإلسرتاتيجية) أرضية مشرتكة ،ولكن
كانت أبحاث السالم عىل رغم ذلك أكرث برو ًزا باعتبارها مقاربة لألمن يف كل من
أوروبا واليابان أكرث مام كانت عليه يف الواليات املتحدة .كانت املاركسية أيضا أكرث
برو ًزا يف التفكري بشأن العالقات الدولية يف كل من أوروبا واليابان أكرث مام كانت
أيضا بتطوير «املدرسة عليه يف الواليات املتحدة .وقد اضطلع املَ ْر َكز -اإلنجليزي ً
اإلنجليزية» أو مقاربة «املجتمع الدويل» لنظرية العالقات الدولية ،وهي بديل
اجتامعي عن املقاربات الواقعية املادية والليربالية السائدة التي كانت مهيمنة
داخل الواليات املتحدة .خالل هذه الفرتة ،مل ُتخرتق أوروبا وال اليابان عىل نح ٍو كبري
من ِقبل حاميل شهادات الدكتوراه الذين تكونوا يف الواليات املتحدة مثلام حدث
مع كوريا ،حيث إن األخرية أقدمت عىل هيكلة نفسها عىل نح ٍو أكرب وف ًقا لنموذج
العلوم السياسية واملقاربة املنهجية الرسمية للعالقات الدولية السائدة بالواليات
املتحدة ( .)Cox and Nossal, 2009: 300–1; Inoguchi, 2009: 95–7مل يكن
هناك كثري من عبور حاميل درجات الدكتوراه بني الواليات املتحدة وبقية املَ ْر َكز
كاًل من الواليات املتحدة اإلنجليزي واليابان (كوريا هي االستثناء) ،عىل الرغم من أن ً
واملَ ْر َكز -اإلنجليزي ص َّدرا حاميل درجات الدكتوراه إىل أماكن أخرى .وكام أوضح
ويفر ( )1998منذ فرتة طويلة ،وبينام كان تفكري الواليات املتحدة املرتبط بحقل
العالقات الدولية ُيقرأ عىل نطاق واسع يف بقية املَ ْر َكز ،ظلت الواليات املتحدة يف
حد ذاتها معزولة نسب ًيا عن تفكري حقل العالقات الدولية القادم من أوروبا أو
اليابان أو ذلك التفكري القادم من األَ ْط َراف .ويف حني أنه من السهل اتهام الواليات
انعكاسا دقي ًقا.
ً املتحدة بالهيمنة والعزلة ،غري أن أيا من تلك االتهامات ال ُي َعد
حيث ُت َعد الواليات املتحدة مهيمنة عىل نح ٍو أسايس ألنها متثل جز ًءا كب ًريا من حقل
العالقات الدولية يف املجمل العام .وهي ليست مهيمنة سواء من الناحية املعرفية
238
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
أو املوضوعية .وعىل الرغم من حقيقة أن الواليات املتحدة كانت معزولة ،فإنها
ليست أقل من اليابان أو فرنسا أو إيطاليا يف هذا الشأن؛ إذ يعود االستياء من عزلة
الواليات املتحدة إىل حجمها النسبي أكرث من كونه استياء مبن ًيا عىل املبدأ.
تطوير نوع من دراسة حقل العالقات الدولية التي اعتربها علمية ،ليس باملعنى
املنهجي كام هو الحال مع املناهج السلوكية أو العقالنية الالحقة التي ظهرت
يف حقل العالقات الدولية منذ الستينيات ،ولكن مبعنى أنها تتميز عن الن َزعَات
الطوباوية أو املثالية .ومل ينتبه هوفامن كث ًريا إىل تطور دراسة البحث العلمي يف
أماكن أخرى ،حيث مل يذكر سوى األسرتايل هيديل بول Hedley Bullوالباحث
الفرنيس بيري هاسرن Pierre Hassnerو«مساهامتهام الفردية الرائعة» ،والتي يف
رأيه مل «تتمكن من تقعيد تخصص معريف» ( .)Hoffmann, 1977: 49بالنسبة إىل
هوفامن ،كان صعود الواليات املتحدة ،الذي ظهر من خالل النمو االقتصادي الرسيع
يف الداخل ونجاح السياسة الخارجية يف الخارج ،قو ًة تأسيسي ًة تدعم صعود حقل
العالقات الدولية والهيمنة األمريكية عىل مجال الدراسة هذا« :لقد امتزج االهتامم
بشأن السلوك األمرييك يف العامل مع دراسة العالقات الدولية ...كانت دراسة السياسة
الخارجية للواليات املتحدة تعني دراسة النظام الدويل .ودراسة النظام الدويل ال
ميكنها إال أن تحيل املرء إىل دراسة دور الواليات املتحدة» (.)Hoffmann, 1977: 47
وقد شاركه هانز مورغنثاو ( )1948: 8هذا الشعور« :إن التفكري يف السياسة
الدولية يف الواليات املتحدة ،مع اقرتابنا من منتصف القرن العرشين ،يعني إذن
التفكري يف املشكالت التي تواجه السياسة الخارجية األمريكية يف عرصنا» .فمن خالل
أيضا بنجاح االقتصاد روابطه بالعلوم السياسية ،تأثر حقل العالقات الدولية األمرييك ً
باعتباره علام ،وسعى إىل محاكاة االقتصاد يف محاولة منه ليك يصبح أكرث «مهنية».
لقد أشار هوفامن إىل بعض امليول البارزة األخرى يف حقل العالقات الدولية األمرييك
مثل البحث عن اليقني والحارض (الخوف من التاريخ) وتجاهل الضعيف بسبب
الرتكيز عىل القطبية الثنائية.
لقد كان حقل العالقات الدولية األمرييك هو املهيمن ألنه كان كب ًريا وغن ًّيا
ومتمركزًا داخل القوة الرائدة يف الغرب .وليس مثة شك يف أن أسلوب التفكري األمرييك
يف الواقعية والليربالية والدراسات اإلسرتاتيجية ش َّكل عمو ًما القاطرة بالنسبة إىل كثري
من تفكري حقل العالقات الدولية يف أماكن أخرى من املركز .غري أن حقل العالقات
الدولية األمرييك مل يكن مهيمنا من الناحية املعرفية؛ ألن قلة آخرين شاركوا الهوس
األمرييك بشأن «العلم» الذي ُيفهم عىل أنه منهج وضعي .كام أنه كان بعيدا عىل
240
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
- 2 - 3الواقعية
بالنسبة إىل مراقبي السياسة العاملية ،فإن بروز الواقعية Realismيف فرتة ما
بعد الحرب العاملية الثانية ش َّكل أمرا مثريا للسخرية ،إن مل يكن أمرا مح ًريا .لقد كان
أمرا مثريا للسخرية ألن فرتة الحرب ( )1945-1939كانت ً
أيضا فرتة لبناء املؤسسات
العاملية عىل نحو مكثف ،مبا يف ذلك صندوق النقد الدويل والبنك الدويل ،وهي
املؤسسات التي متخض عنها مؤمتر سان فرانسيسكو يف العام 1945الذي وضع
مسودة ميثاق األمم املتحدة .وكل هذا كان يجب أن يجعل من سنوات ما بعد
الحرب املبكرة «لحظ ًة ليربالي ًة» يف نظرية العالقات الدولية ،حيث إن النظرية
الليربالية كانت قد قدمت كثريا من اإلسهامات بشأن فكرة «النظام الدويل الليربايل»
بعد الحرب ( ،)Deudney and Ikenberry, 1999; Ikenberry, 2011وأيضا
بشأن نظام املؤسسات املتعددة األطراف الذي ُأنشئ مببادر ٍة وتوجي ٍه أمرييك،
ووفرت بذلك منافع عامة عاملية يف األمن واالستقرار واالنفتاح االقتصادي .وكام
الحظ لوسيان أشوورث ( ،)2014: 237–9مل تكن الواقعية مهيمنة عىل الفور يف
حقل العالقات الدولية األمرييك بعد العام ،1945لكنها كانت تعد لبنة أساسية
من لبناته خالل أواخر األربعينيات والخمسينيات (أي بداية الحرب الباردة) .فلم
يكن هناك أي «انتصار» واضح للواقعيني يف «النقاش الكبري» املفرتض خالل سنوات
ما بني الحربني .وإذا كان مثة يشء يذكر ،فهو أن تفكري حقل العالقات الدولية
يف أثناء الحرب العاملية الثانية وبعدها مبارشة ،وخاصة يف الواليات املتحدة ،كان
محضا ،مبعنى أنه كان يتطلع مرة أخرى إىل املؤسسات الدولية لتعزيز تفكريا مثال ًيا ً
السالم .وكام يجادل مايكل ويليامز ( ،)2013فإن العديد من الشخصيات الرئيسة يف
الواقعية األمريكية ،مثل هانز مورغنثاو؛ ورينهولد نيبوهر Reinhold Niebuhr؛
(٭) تحدت أبحاث السالم يف أوروبا الدراسات اإلسرتاتيجية عىل أسس معيارية ،ولكنها ،وعىل وجه الخصوص يف
منوذجا للمنهجية الكمية والوضعانية التي
ً الدول اإلسكندنافية (انظر مجلة أبحاث السالم) ،غال ًبا ما شكلت ً
أيضا
كانت شائعة يف الواليات املتحدة ولكنها رفضت إىل حد كبري يف بقية حقل العالقات الدولية األورويب[ .املؤلفان].
241
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ووالرت ليبامن؛ وجون هريز كانوا يف الواقع يحاولون تجاوز إشكالية الواقعية أو
الطوباوية التي دشنها إدوارد كار ،وذلك من خالل تطوير رؤية وسطية (see also
.)Hacke and Puglierin, 2007لقد أرادوا إنقاذ الليربالية من الطوباوية ،وإنقاذ
الواقعية من القيود املنهجية لعلم السياسة األمرييك ،والتي اعتقدوا أنها منهجية ال
تستطيع بالرضورة التعامل مع الدراسة املعيارية للسياسة.
لكن املحدودية الواضحة لألمم املتحدة يف الحفاظ عىل السالم ،جن ًبا إىل جنب
مع اندالع جوانب قواعد اللعب الالحقة وتصعيدها التي أنتجتها القطبية الثنائية
خالل الحرب الباردة واملتمثلة يف الردع وإدارة األزمات (خصوصا بعد أزمة الصواريخ
طابع أكرث مادية ،كام غ َّذت الح ًقا صعودالكوبية) ،غ َّذت نوعًا من الواقعية ذات ٍ
الواقعية الجديدة .إن بروز الواقعية خالل الحرب الباردة مل يشكل بالطبع أمرا مح ًريا.
ً
فبداًل من املؤسسات املتعددة األطراف والنظام الليربايل ،كان املوضوع األسايس للعالقات
الدولية منذ أواخر األربعينيات يتمحور حول القطبية الثنائية والتنافس بني القوتني
العظميني .لقد بدت الحرب الباردة كأنها تربر االفرتاضات األساسية للواقعية القائلة إن
الفوىض ،أو غياب أي شكل أعىل من السلطة فوق الدولة ،هو السمة األساسية للنظام
الدويل؛ وأن العالقات الدولية هي لعبة ذات محصل صفري تؤدي فيها املؤسسات
وبداًل من ذلك ،فإن مفتاح النظام الدويل هو الحفاظ عىل الدولية دو ًرا هامش ًّياً .
توازن القوى ،مع تحديد القوة عىل نحو أسايس من الناحية االقتصادية والعسكرية.
ويف الطبعة الثانية من كتاب «السياسة بني األمم» Politics Among Nationsالذي
قساًم عن «املبادئ الستة للواقعية السياسية» ُنرش يف العام ،1954أضاف مورغنثاو ً
التي ُينظر إليها باعتبارها بيانا واضحا عن السياسة الواقعية(٭) .ومهام كانت نياته يف
سياق الحرب الباردةُ ،قرئ هذا العمل أساسا عىل أنه بصدد تقديم حجة لدعم مقاربة
سياسة القوة يف مامرسة العالقات الدولية وكذا يف حقلها املعريف.
(٭) املبدأ الرابع عىل نح ٍو خاص« :تؤكد الواقعية أنه يجب فلرتة املبادئ األخالقية العاملية من خالل الظروف
امللموسة للزمان واملكان ،ألنه ال ميكن تطبيقها عىل ترصفات الدول يف صياغتها العاملية املجردة» .واملبدأ الخامس:
«ترفض الواقعية السياسية تحديد التطلعات األخالقية ألمة معينة من خالل القوانني األخالقية التي تحكم الكون».
هذه االقتباسات مأخوذة من الطبعة الرابعة لكتاب ) Morgenthau، (1967: 9-10وقد ورد ذكر إضافة فصل
بعنوان «نظرية واقعية للسياسة الدولية» يف مقدمة الطبعة الثانية للعام ،1954والتي ُأعيد نرشها ً
أيضا يف كتاب
،Morgenthau 1967الفصل الثاين عرش[ .املؤلفان].
242
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
ويف حني أن الواقعية الكالسيكية ملورغنثاو كان لها تأثري كبري ،فإنها مل تكن
النظرية السائدة للحرب الباردة أو للقطبية الثنائية ،بل املوضوعات الرئيسة لحقل
العالقات الدولية األمرييك ،التي جاءت مع ظهور الواقعية الجديدة .حيث شددت
هذه النسخة من الواقعية ،التي ابتكرها كينيث والتز يف السبعينيات ،عىل أهمية
أيضا باسم الخصائص الهيكلية للنظام الدويل ،وخاصة توزيع القوة (املعروف ً
القطبية) ،كعامل محدد رئيس للنزاع وشكل النظام .لقد قللت الواقعية الجديدة
من أهمية تأثري حالة الطبيعة البرشية (التي أكد عليها الواقعيون الكالسيكيون)
وتأثري السياسات املحلية واإلقليمية يف العالقات الدولية .ونظ ًرا إىل أن مفهوم بنية
النظام يشري إىل توزيع القدرات بني الوحدات ،فإن تلك الوحدات التي احتلت
الدرجات العليا يف مصفوفة القوة هي فقط التي ميكنها التأثري يف بنية النظام
الدويل ،وذلك بنا ًء عىل سلوكها النزاعي أو التعاوين .لقد وضع التبسيط املادي
وهمش كل املتطرف للقطبية القوتني العظميني يف مركز نظرية العالقات الدولية َّ
أيضا يشتمل القوى األخرى .ومل يقترص األمر عىل دول العامل الثالث فقط ،بل أصبح ً
عىل أوروبا واليابان ،وقد أصبحت تلك الدول ببساطة متثل ساحة معركة خاضت
فيها القوتان العظميان لعبة القوة واأليديولوجيا ذات املحصل الصفري .كان مثة
نقاشات كبرية مطروحة بشأن نظرية القطبية واالستقرار النسبي من عدمه ،وأيضا
بشأن النظام ثنايئ القطب يف مقابل النظام متعدد األقطاب ،ولكنها مل تكن نقاشات
حاسمة ; (Deutsch and Singer, 1969; Rosecrance, 1969; Gilpin, 1981
واضحا للغاية هو أن الواقعية الجديدة
) .Levy, 1989; Gaddis, 1992/ 93ما كان ً
همشت املعضالت األمنية والديناميات املحلية للعامل الثالث ،مام جعلها ومناقشاتها َّ
ُينظر إليها باعتبارها أداة للتنافس بني القوتني العظميني .لقد جاءت األدلة التاريخية
املستخدمة لدعم حجج كال الجانبني من تطور نظام الدول األورويب .وقد تجاهلت
هذه التعميامت عىل مستوى النظام عواقب إنهاء االستعامر وظهور العامل الثالث
ودورهام يف الحفاظ عىل النظام الدويل .الواقع ،أنه من خالل تجاهل العالقة القامئة
بني الشامل والجنوب كعامل يف النسق النظامي ،حافظت الواقعية الجديدة عىل
استبعاد األطراف من اهتاممات حقل العالقات الدولية السائد ،حيث كان االستبعاد
ُي َعد سمة من سامت الحقل منذ القرن التاسع عرش .ففي املوقف النظري لكنيث
243
تشكيل العالقات الدولية العاملية
والتز ،مل يكن معدل حدوث نزاعات الحرب الباردة يف العامل الثالث يتحدى االستقرار
األسايس لألنظمة الدولية ثنائية القطب ما دام التوازن األسايس ومركزه اإلسرتاتيجي
األورويب خاليني من الحروب .وقد سعى عدد قليل من الباحثني إىل إعادة تأكيد
أهمية املستوى اإلقليمي ،واستقالليته عن املستوى العاملي ثنايئ القطب (Buzan,
) ،1983; Ayoob, 1986لكن التبسيط الكبري للواقعية الجديدة اجتاح عمو ًما كل
يشء قبل أن يظهر التأكيد عىل أهمية املستوى اإلقليمي.
(٭) مل يكن املفكرون االسرتاتيجيون املدنيون مجهولني يف فرتات سابقة ،وال سيام أنجيل ( )Angell 1909وبلوخ
([ .)Bloch 1898املؤلفان].
244
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
السابقة التي َقدمت قليال من الحكمة أو اإلرشاد .طوال فرتة الحرب الباردة
كان عىل التفكري املتعلق بنظرية الردع مواكبة التطورات الرسيعة والقاسية
الحاصلة عىل مستوى تكنولوجيا األسلحة النووية وأنظمة إيصالها .لقد عارضت
أبحاث السالم عىل نطاق واسع الدراسات اإلسرتاتيجية ،إذ استندت يف مجملها
إىل وجهة النظر القائلة إن األسلحة النووية تشكل خط ًرا غري مقبول عىل بقاء
اإلنسان ،ومن ثم يجب التخلص منها .ويف حني أن الدراسات اإلسرتاتيجية كانت
تعمل عىل نحو أسايس عىل إثراء وتحسني السياسات الدفاعية التي تتضمن
ارتباطا بالحركات الشعبية النشطة ً األسلحة النووية ،كانت أبحاث السالم أكرث
التي أرادت التخلص من األسلحة النووية .فبالنسبة إىل معظم باحثي السالم
شكلت األسلحة النووية يف حد ذاتها تهديدًا أكرث من التهديد الذي قد تشكله َّ
القوة العظمى املعادية .لقد كانت الدراسات اإلسرتاتيجية هي املهيمنة يف الدول
التي متتلك أسلحة نووية (الواليات املتحدة وبقية دول العامل الناطق باللغة
اإلنجليزية وفرنسا [بطريقتها الخاصة طبعا]) ،بينام هيمنت أبحاث السالم يف
شكلت عىل نحو أكرب الخطوط األمامية ألي حرب نووية تلك البلدان التي َّ
قد تنشب بني القوتني العظميني (الدول اإلسكندنافية وأملانيا واليابان)(٭) .أما
عنرصا مهاًّمًّ يف
ً يف اليابان ،ونظ ًرا إىل نبذها الدستوري للحرب ،كانت املساملة
أيضا بفكرة األمن الشامل دراسات حقل العالقات الدولية الياباين ،حيث ُربطت ً
(األمن اإلنساين الح ًقا) .غري أن هذه األفكار مل تتحد إلنتاج مقاربة يابانية مميزة
لدراسة العالقات الدولية.
كانت نظرية الردع شبه مهووسة بالرشق والغرب يف اهتامماتها ،لكن كان مثة
استثناءان أقحامها يف عالقات الشامل والجنوبَ .مَتثل االستثناء األول يف الخوف من
أن النزاعات القامئة يف العامل الثالث قد تجتذب القوتني العظميني إىل مستنقعها،
ومن ثم قد تؤدي إىل تصعيد يقود إىل نشوب حرب نووية عاملية ،وكان هذا األمر
يتعلق عىل نحو خاص بالرشق األوسط ،وقد كان ذلك جز ًءا من الطبيعة العامة
لحقل العالقات الدولية داخل املركز الذي كان ينظر إىل األطراف باعتبارها ساحة
(٭) ميكن العثور عىل الباحثني يف قضايا السالم واإلسرتاتيجيني عىل طريف النقيض من هذا االنقسام .وللحصول عىل
نظرة شاملة بشأن هذه األدبيات وتطورها ،انظر[ .)Buzan and Hansen 2009( :املؤلفان].
245
تشكيل العالقات الدولية العاملية
للتنافس بني القوتني العظميني(٭) .كان االستثناء اآلخر يتمثل يف االنتشار النووي
ورغبة كلتا القوتني العظميني يف إبقاء النادي النووي صغ ًريا قدر اإلمكان .فقد كانت
سياسة منع انتشار األسلحة النووية هذه تستهدف جزئ ًيا دول املركز ذات القدرة
النووية (عىل نحو أسايس أملانيا واليابان والسويد وسويرسا) ،ولكنها كانت تستهدف
عىل نحو أسايس دول العامل الثالث .وقد خدمت سياسة منع انتشار األسلحة النووية
نوعا ما وضع القوتني العظميني اللتني كانتا يف حاجة إىل متييز نفسيهام كنا ٍد خاص
يتموضع فوق البقية ،وإلضفاء مصداقية عىل تلك السياسة كانوا يدَّعون أن انتشار
األسلحة النووية سيزيد من فرص استخدامها .إن كرثة الدول التي متتلك أسلحة نووية
أيضا عنرص تحيز يف يعني وجود احتاملية أكرب لنشوب حرب نووية .ولكن كان مثة ً
الدعم األسايس لسياسة عدم انتشار األسلحة النووية .حيث كان العنرص األسايس يف
نظرية الردع رشطا ألن يفكر أولئك الذين يسيطرون عىل األسلحة النووية بعقالنية
يف إمكانية استخدامها من عدم استخدامها ،وكان مثة بالتأكيد اتجاه يف التفكري
وراء منع االنتشار قائم عىل افرتاض أن عديدا من دول العامل الثالث مل تتمتع بعد
بجودة القيادة أو الحكم لتلبية هذا املعيار (أي معيار العقالنية) .ومل ُيت َ َّ
َنَب هذا الرأي
من قبل عديد من اإلسرتاتيجيني النوويني الغربيني فقط ،ولكن كام تؤكد الدراسة
اإلثنوغرافية التي أجراها هيو جوسرتسون ) Hugh Gusterson’s (1999ملخترب
لورانس ليفرمور ،قد جرى تبني ذلك الرأي من طرف عديد من العلامء النوويني
أيضا .وقد وصف اإلسرتاتيجي الهندي سوبراهامنيام ومصممي األسلحة األمريكيني ً
) Subrahmanyam (1993هذا التوجه بأنه «عنرصي».
مثة رابط آخر بني الشامل والجنوب يف هذه األدبيات متحور حول الحروب
التي خاضها الشامل يف الجنوب ،وتدخالت دول املركز يف الجنوب عىل نحو عام.
فقد كانت معظم هذه األدبيات مفيدة ،وكانت تتأىت من منظور الشامل يف سياق
(٭) لقد استُبعد العامل الثالث حتى يف هذا السياق .واستخدم مرشوع «متالزمات الحرب» يف جامعة ميشيغان،
بقيادة ،Singer and Smallكمعايري لتعريف الحرب التي استبعدت الحروب اإلمربيالية واالستعامرية .ونتيجة
لذلك ،كام يالحظ فاسكيز ،ويف حني أن مجموعة بيانات املرشوع التي أعدت للحروب بني الدول من العام 1816إىل
ذلك الوقت ( - )1972والتي تشمل «الدول القومية» -كانت بيانات نهائية ،فإن البيانات الخاصة بالحروب «غري
النظامية» ،أي الحروب االستعامرية ،ظلت «غري مكتملة عىل نح ٍو يرىث له بالنسبة إىل الكيانات غري الوطنية ...التي
عادة ما مثلوا ضحايا خالل هذه الفرتة التاريخية» ([ .)Vasquez, 1993: 27املؤلفان].
246
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
تنافس القوتني العظميني يف العامل الثالث .كام كانت تتمحور حول حرب العصابات
وكيفية مواجهتها ،وحول مخاطر التصعيد عندما كانت القوتان العظميان تدعامن
األطراف املتعارضة ،وكانت تدور أيضا حول الحرب املحدودة ،مع كل قيودها عىل
األسلحة والتكتيكات عىل عكس أسلوب الحروب األكرث شمولية وغري املقيد الذي
عرفته الحرب العاملية الثانية .ويف هذا السياق ش َّكلت األطراف إىل حد كبري موضوعًا
يف الرصاع املهيمن القائم بني القوتني العظميني.
- 2 - 5الليربالية
مع بداية الحرب الباردة كان مجال حقل العالقات الدولية الليربايل الذي يركز
عىل املنظامت الحكومية الدولية العاملية مقيدًا بشدة؛ لذلك رمبا ال يكون مفاجئًا
أن قد ًرا كب ًريا من النظرية الليربالية بعد الحرب ر َّكز عىل التكامل اإلقليمي (Nye,
.)1988: 239لقد ُقدِّمت النقطة املرجعية األكرث أهمية لهذه النظرية من طرف
نجاحا للتكامل اإلقليمي املجموعة االقتصادية األوروبية ،والتي كانت املثال األكرث ً
واملجتمع األمني الذي ظهر يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية .وقد اشتملت
األمثلة األخرى عىل كندا والواليات املتحدة ،وأوروبا وأمريكا الشاملية ،والواليات
املتحدة واليابان .يف املقابل ،كانت مثل هذه التجمعات غري موجودة فعل ًّيا يف العامل
الثالث ،باستثناء محدود اشتمل عىل رابطة أمم جنوب رشق آسيا ASEANوالجزء
الجنويب ألمريكا الالتينية.
كانت نظرية التكامل اإلقليمي تشكل جزئ ًيا عبو ًرا من فرتة ما بني الحربني
إىل فرتة ما بعد العام َ 1945ت َج َّسد يف شكل النظرية الوظيفية Functionalism
لديفيد ميرتاين ) .David Mitrany (L. Ashworth, 2014: 221–5وقد
متحورت األدبيات الواسعة املتعلقة بنظرية التكامل اإلقليمي (E. Haas, 1964,
1973; Hansen, 1969; Lindberg and Scheingold, 1971; Puchala,
) 1984; Mace, 1986إىل حد كبري حول املدرسة املؤثرة للوظيفية الجديدة
Neofunctionalismبقيادة إرنست هاس ،Ernst Haasومتحورت إىل حد أقل،
حول النزعة عرب الوطنية (االتصالية) ،التي كان ُم َؤيدُ هَ ا الفكري الرئيس كارل
دويتش ) .Karl Deutsch (Puchala, 1984: 186ولكن كان مثة «اتفاق ضئيل»
247
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بشأن كيفية تعريف املتغري التابع (التكامل) ،أو بشأن ما إذا كان ُي َعد «عملي ًة أو
رشطا» (.)Hodges, 1978: 237ً
ففي حني افرتضت كال املقاربتني تخفي ًفا تدريج ًيا لسيادة الدولة ،فإن املقاربة
الوظيفية الجديدة ُ Neofunctionalistت َص ِّو ُر أن التبادالت والتعاون بني الدول
تبدأ بقضايا «السياسة الدنيا» أو تلك القضايا ذات الحساسية السياسية األقل (مثل
التجارة وإدارة املوارد) ،والتي ميكن أن يكون لها تأث ُري «االمتداد /االنتشار» ،مام
يؤدي إىل تعاونٍ سيايس وأمني أكرب وأكرث اتساعًا .وقد ركزت املقاربة عرب الوطنية
(االتصالية) عىل زيادة االتصاالت االجتامعية التي تؤدي إىل قيام «الجامعة األمنية»،
حيث تتميز العالقات داخلها بـ «غياب الحرب أو وجود استعدادات ُمن ََّظ َمة مهمة
بني أعضائها ملجابهة الحرب أو العنف عىل نطاق واسع» (;Deutsch, 1961: 99
.)see also Yalem, 1979: 217ميكن أن يجري «دمج» الجامعات األمنية من خالل
الدمج السيايس الرسمي للوحدات املشاركة ،أو من خالل الحفاظ عىل «التعددية»،
بحيث يظل األعضاء يف هذه الحالة مستقلني رسم ًيا .وبينام تجاهلت املقاربة عرب
الوطنية (االتصالية) دور املؤسسات يف مسار التوحيد السيايس ،فإن املؤسسات
ستكون ذات أهمية مركزية بالنسبة إىل الوظيفيني الجدد .Neofunctionalists
عىل الرغم من أن بعض التجمعات دون اإلقليمية يف العامل الثالث؛ مثل جامعة
رشق أفريقيا والسوق املشرتكة ألمريكا الوسطى ،سعت يف البداية إىل محاكاة
الجامعة االقتصادية األوروبية ،فإن جهودها باءت بالفشل .ويف حني أن الوظيفيني
الجدد Neofunctionalistsتصوروا «امتدادًا /انتشا ًرا» من التكامل االقتصادي
إىل التعاون السيايس واألمني ،فقد تبني أن تجربة العامل الثالث كانت معكوسة
متا ًما؛ إذ كان التفاهم والتعاون السياسيان يشكالن رشطا أساسيا للتكامل االقتصادي
( .)Axline, 1977: 103وعىل نحو عام أثبت التكامل االقتصادي اإلقليمي يف العامل
غموضا من حيث الهدف، ً الثالث أنه «بدايئ أكرث مام هو عليه يف أوروبا ،وأكرث
وغري واضح من حيث املحتوى» ( ،)Gordon, 1961: 245مام أثار تساؤالت بشأن
إمكانية تطبيق نظريات التكامل اإلقليمي يف العامل الثالث (Duffy and Feld,
)ُ .1980: 497ي ِقر إرنست هاس ( )1973: 117أن «تطبيق [منوذجه الوظيفي
الجديد] Neofunctionalist modelعىل العامل الثالث ...كان كاف ًيا فقط للتنبؤ
248
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
بدقة بصعوبات وإخفاقات التكامل اإلقليمي ،بينام مت َّكن منوذجه يف الحالة األوروبية
من تحقيق بعض التنبؤات اإليجابية الناجحة».
من خالل بحثه املكثف بشأن التكامل اإلقليمي يف أمريكا الالتينية وأفريقيا،
َخ ُل َص جوزيف ناي Joseph Nyeإىل أن أسباب فشل التكامل يف العامل الثالث لها
عالقة كبرية بالظروف املحلية :القيادة األبوية؛ واملؤسسات السياسية والبريوقراطية
الضعيفة التي تكون عُ رضة لالستيالء العسكري؛ والتفاوت االقتصادي؛ وغياب
مجموعات املصالح املنظمة؛ والفجوات الثقافية بني املناطق الحرضية والريفية؛
كاف ( .)Nye, 1968: 381–2ولكن رمبا ونقص القوى العاملة ا ُملدَربة عىل نحو ٍ
كان السبب الحقيقي وراء عدم انطالق التكامل اإلقليمي يف العامل الثالث؛ عىل
غرار املجموعة االقتصادية األوروبية ،هو التفضيل املعياري لقادة ما بعد االستعامر
الرامي إىل اإلبقاء عىل السيادة غري منقوصة .ففي حني سعت النزعة اإلقليمية يف
أوروبا الغربية إىل نقل السياسة الدولية اإلقليمية إىل ما وراء الدولة القومية،
سعى أنصار اإلقليمية من غري الغربيني -بعد قرون من الحكم االستعامري -
إىل إنشاء وتوحيد الدول القومية مهام كان تصورها مصطنعا .ومن ثم ،وعىل
عكس املجموعة االقتصادية األوروبيةُ ،و ِّظ َفت منظمة الوحدة األفريقية والجامعة
بداًل من كونها أداة للتكامل اإلقليمي» العربية باعتبارها «أداة لالستقالل الوطني ً
( ،)Miller, 1973: 58وتبنت صيغة موسعة من مبدأ عدم التدخل.
منذ منتصف السبعينيات من القرن املايض كان مثة تحول واضح يف تركيز نظرية
العالقات الدولية الليربالية نحو الليربالية الجديدة ﺍﻤﻟﺅﺴﺴﺎﺘﻴﺔ واالعتامد املتبادل.
لقد اعرتف إرنست هاس ( )1975 :6بأن التكامل اإلقليمي أصبح نظرية «بالية»
يف مواجهة الروابط االقتصادية اآلخذة يف االتساع والتي أصبحت عاملية من حيث
النطاق والتأثري .وابتدا ًء من سبعينيات القرن املايض عندما أزاح خطاب االعتامد
املتبادل مفهوم التكامل اإلقليميَ ،تحدت الليربالية الجديدة ﺍﻤﻟﺅﺴﺴﺎﺘﻴﺔ وفرعها
املعروف (نظرية النظم) الهيمنة التقليدية للنموذج الواقعي /الواقعي الجديد.
وعىل عكس الليربالية الكالسيكية ،التي اتخذت وجهة نظر حميدة عن حالة الطبيعة
البرشية ،تقبلت الليربالية الجديدة ﺍﻤﻟﺅﺴﺴﺎﺘﻴﺔ الفرضية الواقعية القائلة إن النظام
الدويل فوضوي ،وإن الدول هي الفواعل األساسية؛ إن مل تكن الفواعل الوحيدة ،يف
249
تشكيل العالقات الدولية العاملية
تراجع الهيمنة األمريكية؛ ألنها استمرت يف تقديم فوائد مثل مشاركة املعلومات
وخفض تكاليف املعامالت ،وألن إنشاء مؤسسات جديدة ُي َعد أكرث صعوبة من
إصالح املؤسسات القدمية يف عامل «ما بعد الهيمنة» .ولكن يف حني ميكن اتهام
نظريات التكامل اإلقليمي بالنزعة األوروبية ،فإن الليربالية الجديدة املؤسساتية هي
باألحرى تتمحور حول أمريكا .وقد اعرتف كيوهان بـ «الطابع األمرييك املميز الذي
ُو ِضع يف مجال العالقات الدولية»ُ ،معرت ًفا بكيفية تشكيل ذلك ملساهمته النظرية.
كام أقر يف حاشية أحد الفصول «نظرية السياسة العاملية» قائال:
«من املحدودية املؤسفة لهذا الفصل أن نطاقه يقترص عىل األعامل املنشورة
باللغة اإلنجليزية وعىل نحو أسايس يف الواليات املتحدةُ .أ ْد ِر ُك أن هذا يعكس
املركزية األمريكية لألبحاث الدراسية يف الواليات املتحدة ،وأنا آسف لذلك .لكني
لست متمكنًا مبا يكفي من األعامل املنشورة يف مكان آخر للتعليق عليها بذكاء»
(.)Keohane, 1989: 67, note 1
تعنَّي عىل النظريات املؤسساتية أن تقوله بشأن دور كان مثة القليل جدا مام َّ
دول األطراف باعتبارها مساهام يف تطور التعددية واألفكار التي يقوم عليها هذا
التطور .لقد تغاىض التفكري الليربايل عن فاعلية العامل الثالث .وميكن قول اليشء
نفسه عن الفهوم العامة املتعلقة بالتعددية والحوكمة العاملية .فعىل سبيل املثال،
مل يحت ِو أحد أكرث الكتب تأث ًريا بشأن التعددية ( )Ruggie, 1993عىل فصل واحد
يتناول التعددية يف العامل الثالث ،حيث يرى التعددية عىل أنها طريقة أمريكية
مميزة لتنظيم املجتمع الدويل العاملي.
وعىل الرغم من انتشار أعاملٍ بشأن االعتامد املتبادل واألنظمة خالل
الثامنينيات ،فإنها كانت ُتعنى يف األغلب بالعالقات القامئة بني الدول الغربية .وكام
الحظ روبرت كوكس:
«نظرية النظام لديها الكثري لتقوله عن التعاون االقتصادي بني مجموعة السبعة
( )G-7والتجمعات األخرى للبلدان الرأساملية املتقدمة فيام يتعلق باملشكالت
املشرتكة بينها .ويف املقابل ،ليس لديها الكثري لتقوله عن محاوالت تغيري هيكل
االقتصاد العاملي ،عىل سبيل املثال ،املطالبة يف العامل الثالث بنظام اقتصادي دويل
جديد .New International Economic Orderالواقع أن األنظمة ُصممت
251
تشكيل العالقات الدولية العاملية
لتحقيق االستقرار يف االقتصاد العاملي ،حيث إن لها تأثريا ،كام أكد كيوهان يف عمله،
يف منع الدول وردعها عن الرشوع يف االبتعاد الجذري عن العقيدة االقتصادية؛ عىل
سبيل املثال من خالل االشرتاكية» (.)R. W. Cox, 1992a: 173
مل ُي ِع ْر ُمنظرو الليربالية املؤسساتية اهتام ًما كب ًريا للمؤسسة التعاونية الرئيسة
يف العامل الثالث خالل فرتة الحرب الباردة؛ وحركة عدم االنحياز(٭) .عالوة عىل
بداًل من أن تنشئ -أن األنظمة خرية وطوعية ذلك فإن هذه النظريات «تفرتض ً -
وتعاونية ورشعية» ( ،)Keeley, 1990: 90وهو افرتاض مشكوك فيه للغاية عندما
يتأمل املرء ،كام هو مذكور يف الفصل الخامس ،الطبيعة اإلقصائية لبعض األنظمة
والدور القرسي لبعض املؤسسات املتعددة األطراف مثلام تدركه دول العامل الثالث.
وعىل رغم ذلك ،فإن تركيز الليربالية عىل هيمنة الواليات املتحدة وفوائدها يف توفري
املنافع العامة مثل التجارة الحرة؛ واملؤسسات الدولية؛ واألمن الجامعي ،قد وضع
نظام هَ يمن ٍة ليربايل عاملي َح ِميد ،والذي سيصبح بار ًزا بعد نهاية
األساس لفكرة ِ
الحرب الباردة (س ُينا َقش ذلك يف الفصل الثامن).
لقد شهدت فرتة الثامنينيات ً
جداًل بني الواقعية الجديدة والليربالية الجديدة.
كاف (D. Baldwin, 1993: وقد ُل ِّخصت النقاط الرئيسة بشأن خالفهم عىل نحو ٍ
)4–8; S. Smith, 2000: 381بحيث ال يتطلب منا هذا السياق مزيدًا من التفصيل
فيها .عىل نحو عام ،وعىل الرغم من اعتقادهم يف دور الفوىض ،anarchyفإن
الواقعيني الجدد أخذوا القيود التي تفرضها تلك الفوىض عىل سلوك الدولة بجدية
أكرب ،مع تسليط الضوء عىل إمكانية التعاون الدويل وتأثري األنظمة واملؤسسات
الدولية التي يعرتف بها الليرباليون الجدد عىل أساس املصلحة الذاتية الوطنية .عىل
هذا النحو ،شدد الواقعيون الجدد عىل أهمية املخاوف بشأن املكاسب النسبية عىل
حساب تلك املتعلقة باملكاسب املطلقة .وعىل الرغم من أن كليهام أدرك أهمية
التفاعل بني االقتصاد واألمن ،فإن الواقعيني الجدد يولون اهتام ًما ملخاوف األمن
القومي ،بينام كان الليرباليون الجدد يؤكدون عىل الرفاهية االقتصادية .بالنسبة إىل
الواقعيني الجدد ،فإن القدرات املادية وتوزيعها سيكون أكرث أهمية من النيات أو
(٭) لقد شكل ويليتس استثناء ([ .)Willetts 1978املؤلفان].
252
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
املصالح أو املعلومات .لكن االختالفات يف هذا النقاش كانت تتعلق بدرجة اإلميان
بالفوىض anarchyوالتعاون ،اللذين ميكن التوفيق بينهام مع التالعب باملفاهيم.
لقد تجلت هذه األرضية املشرتكة فيام يسمى برتكيبة «جديد -جديد» .Neo-Neo
وكام يوضح أويل ويفر ( ،)1996: 163فإن كليهام «يشرتكان يف برنامج بحث عقالين»،
أي مفهوم العلم ،كام أن لدى كليهام استعدادا مشرتكا للعمل عىل أساس الفوىض
( anarchyكنيث والتز) والتحقيق يف تطور التعاون وما إذا كانت للمؤسسات أي
أهمية تذكر (روبرت كيوهان).
وسيواصل جيلبني كتابة أحد النصوص األكرث توظي ًفا يف االقتصاد السيايس (Gilpin,
.)1987حيث ظل تصنيف جيلبني لنظريات االقتصاد السيايس الدويل إىل قومية؛
وليربالية؛ وماركسية ،تصني ًفا مؤث ًرا :وكانت مقاربة جيلبني الخاصة ،كام سيصوغ ذلك
الح ًقا ،تتمثل يف الواقعية املتمركزة حول الدولة ( .)Gilpin, 2001بيد أنه ظهرت
بدائل للمقاربة األمريكية يف أماكن أخرى ،خاصة يف اململكة املتحدة وكندا .وباملقارنة
مع االتجاه السائد لفكر االقتصاد السيايس الدويل يف الواليات املتحدة ،تبنت سوزان
سرتانج وجهة نظر أكرث انتقادية بشأن عمل االقتصاد العاملي ،مؤكدة عىل تقلب رأس
املال املايل الدويل ( )Strange, 1986والتحدي الذي ميثله صعود األسواق العاملية
لسلطة الدولة ( .)Strange, 1988ويف كندا ط َّور روبرت كوكس ( )1987وستيفن جيل
( )Gill and Law, 1988; see also Gill, 1991مقاربة ماركسية جديدة وغرامشية
لالقتصاد السيايس الدويل.
- 2 - 7املاركسية
مل يكن لتفكري حقل العالقات الدولية القادم من الكتلة السوفييتية أي تأثري
تقري ًبا يف تفكري حقل العالقات الدولية يف املركز الغريب واليابان .غري أن املاركسية
كانت إطا ًرا مؤث ًرا للتفكري يف العلوم االجتامعية عىل نحو عام -وكذلك يف العالقات
الدولية – باعتباره شكال من أشكال النظرية النقدية (انظر قسم «النظريات
النقدية» يف الفصل الثامن) .لقد ش َّكلت املاركسية خط تفكري مهام بالنسبة إىل
حقل العالقات الدولية يف اليابان حتى الستينيات ( )1960عىل األقل (Inoguchi,
) .2009:88–90ويف بريطانيا ط َّورت جامعة ساسكس تقليدًا لحقل العالقات
الدولية املاركيس ،ونظم باحثو العالقات الخارجية املهيمنون؛ مثل روبرت ماكينالي
وريتشارد ليتل ( ،)1986مقاربة النموذج الفكري الخاص باملوضوع تتمحور حول
النامذج الليربالية واالشرتاكية والواقعية للنظام العاملي .وقد كان العلامء املتأثرون
باملاركسية مثل إدوارد كار؛ وروبرت كوكس؛ وفريد هاليداي؛ وإميانويل والرشتاين
ميثلون شخصيات مهمة يف العالقات الدولية .مل يكن من غري املألوف بالنسبة إىل
القراء وأيضا بالنسبة إىل الكتب املدرسية أن تتضمن مناقشات بشأن املقاربات
املاركسية تجاه العالقات الدولية ،وخاصة يف مجال االقتصاد السيايس الدويل :عىل
254
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
سبيل املثال أعامل ليتل وسميث ()1980؛ وجيلبني ( .)1987وقد استمر التفكري
املاركيس يف املعاناة من تهميش الدولة ،ولكن كانت لديه أشياء مفيدة ليقولها عن
الرأساملية واالستغالل (ومن ثم االستعامر الجديد) ،وكان من حيث املبدأ ،وإىل
انفتاحا عىل إشكاليات ومنظورات العامل الثالث مام
ً حد ما من حيث املامرسة ،أكرث
كانت عليه الواقعية أو الليربالية.
إنه ملن اإلنصاف القول إن التأثري األكرث أهمية للامركسية يف العالقات الدولية كان
غري مبارش ،أي أنه كان يتم من خالل نظريات مثل نظرية التبعية؛ والنظم العاملية؛
واألدبيات الغرامشية الجديدة؛ وإىل حد أقل ،مقاربة ما بعد االستعامرية تجاه
العالقات الدولية .قد يكون لهذا عالقة مبا يتحرس عليه بعض الباحثني من أنه «قصور
اب الفكر املاركيس التقليدي ( )Teschke, 2008: 166أو «ازدواجيته جيوسيايس» َش َ
تجاه السيايس ،ونفيه واستبقاءه يف آن واحد» ) .(Davenport, 2011: 42لكن
العنارص الرئيسة للفكر املاركيس واللينيني؛ وخاصة دور القوى االقتصادية يف تشكيل
السياسة واألمن؛ ومكانة الالمساواة والالعدالة؛ والهيمنة؛ واحتامل املقاومة والتحول
يف السياسة العاملية ،دُمجت كلها ضمن مجموعة من املفاهيم البديلة للسياسة
العاملية .كانت املاركسية مؤثرة عىل نحو خاص يف تحدي املفاهيم املتمركزة حول
الدولة يف نظريات العالقات الدولية السائدة والتصوير الحميد للرتابط الرأساميل
بالليربالية ( ،)Davenport, 2011: 35السيام من خالل تقديم مفهوم بديل للهيمنة
من خالل مفاهيم اإلكراه واملوافقة ( .)R. W. Cox, 1987عالوة عىل ذلك أ َّثرت
الدراسة املاركسية املستوحاة من غراميش يف املناقشات املعرفية ،وأحد أهم األمثلة
عىل ذلك هو جملة روبرت كوكس الشهرية القائلة إن «النظرية هي دامئًا لشخص ما
ولغرض ما» ،وكذا متييزه بني «حل املشكالت» و «النظرية النقدية» (R. W. Cox,
) .1981: 128–30إن األول (حل املشكالت) ،والذي يشمل الواقعية والليربالية
واملدرسة اإلنجليزية (وبعض صيغ البنائية) ،يقبل النظام الحايل ويسعى إىل اإلصالح
والتغيري ضمن معايريه الحالية ،وذلك جنبا إىل جنب «مع العالقات االجتامعية
السائدة وعالقات القوة واملؤسسات التي ُين ََّظم يف ُأطرها» (R. W. Cox, 1981:
) .128وعىل النقيض من ذلك ،تدعو «النظرية النقدية» إىل التشكيك يف النظام
القائم ومؤسساته .إذ يتعلق األمر بكيفية ظهورهم (النظام القائم ومؤسساته)
255
تشكيل العالقات الدولية العاملية
و«كيف وما إذا كانوا يف طور التغيري» ( ،)R. W. Cox, 1981: 129ومن ثم السعي
من أجل تحولهم الجذري .وبينام تساعد «مقاربات حل املشكالت» عىل «رشعنة
نظام غري عادل وخطري للغاية» ،تحاول «النظرية النقدية» «تحدي النظام السائد
من خالل البحث عن العمليات االجتامعية التي ميكن أن تؤدي إىل التغيري االنعتاقي؛
وتحليلها ودعمها حيثام أمكن ذلك» (.)Hobden and Wyn Jones, 2008: 151
لقد ناقشنا نقد روبرت كوكس للمؤسسات الليربالية ،وسوف نناقش نظرية التبعية
ونظريات النظم العاملية الح ًقا يف هذا الفصل.
- 2 - 8املدرسة اإلنجليزية
بدأ العمل عىل املدرسة اإلنجليزية يف أواخر الخمسينيات ( )1950عندما
م َّولت مؤسسة روكفلر اجتامعات اللجنة الربيطانية بشأن نظرية السياسة
الدولية .ومنذ مرحلة مبكرة تباينت املدرسة اإلنجليزية عن تفكري حقل
العالقات الدولية الجاري يف الواليات املتحدة .لقد كان جوهر االختالف هو
أن التفكري األمرييك؛ الواقعي والليربايل ،كان يركز عىل نحو أسايس عىل فكرة
النظام الدويل ،بينام تط َّورت املدرسة اإلنجليزية عىل نحو أسايس بشأن فكرة
املجتمع الدويل(٭) .فالتفكري الن ُُّظمي يرشح العالقات الدولية من خالل منظور
مادي وميكانييك :توازن القوى؛ والقطبية؛ واالعتامد املتبادل وما شابه .يف حني
أن التفكري من منظور املجتمع الدويل يرشح العالقات الدولية مبصطلحات أكرث
ُمج َت َم ِعية واجتامعية ،مثل القواعد؛ والقيم؛ واملؤسسات؛ املشرتكة التي ُت َك ِّون
مجتمع الدول .بهذا املعنى ،توقعت املدرسة اإلنجليزية تطور ما كان سيصبح
نظرية بنائية (وأثرت يف أحد دعاتها البارزين؛ ألكسندر وندت Alexander
وضوحا من نظرية ً .)Wendtلقد م َّثلت عىل نحو عام مقاربة معيارية أكرث
وبداًل من طرح التحليالت الواقعية ً العالقات الدولية األمريكية السائدة.
والليربالية عىل أنها أضداد ،تتخذ املدرسة اإلنجليزية مقارب ًة أكرث شمو ًاًل ،حيث
(٭) للحصول عىل نظرة عامة شاملة عن التاريخ واألفكار واألدبيات الخاص باملدرسة اإلنجليزية ،انظر:
(Dunne 1998), (Vigezzi 2005), (Buzan 2014).
[املؤلفان].
256
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
ترى مامرسة العالقات الدولية كنقاش مستمر ومتغري باستمرار بني رضورات
النظام (هذا الطرح ميثله الجناح التعددي داخل املدرسة اإلنجليزية) وتلك
الرضورات الخاصة بالعدالة (الجناح التضامني) .ليست الفكرة يف أن ينترص أي
من الطرفني يف هذا النقاش ،بل إن ما هو عىل املحك هو تحقيق توازن بينهام
يجعل أفضل الظروف متاحة يف الوقت املناسب .ومثل الواقعيني األمريكيني
األوائل الذين جرت مناقشتهم أعاله ،ميكن فهم املدرسة اإلنجليزية عىل أنها
محاولة إما لتجاوز /أو اختيار معارضة إدوارد كار املتموضعة بني الواقعية ٌ
والطوباوية .فاملدرسة اإلنجليزية ال تحتوي عىل علم غايئ ،وتقبل بفكرة أن
املجتمع الدويل يشهد مدا وجز ًرا ،وأنه يف حالة تطور مستمر.
أيضا عىل مقاربة بنيوية قوية ;(Bull, 1977 غري أن املدرسة اإلنجليزية تحتوي ً
) .Holsti, 2004; Buzan, 2004bفهي ترى املؤسسات األولية -مجموعة من
القواعد واملامرسات الثابتة التي تتطور مبرور الوقت -باعتبارها الهيكل االجتامعي
للمجتمع الدويل .ففي أعامل املدرسة اإلنجليزية الكالسيكية خالل هذه الفرتة
كانت املؤسسات األولية الرئيسة التي ُنوقشت هي :السيادة؛ واإلقليمية؛ وتوازن
القوى؛ والحرب؛ والديبلوماسية؛ والقانون الدويل وإدارة القوى العظمى .وقد أضاف
جيمس مايول ) James Mayall (1990ظهور القومية خالل القرن التاسع عرش.
لقد ُف ِهمت هذه املؤسسات األولية عىل أنها ا ُمل َك ِّو َنة لكل من أعضاء املجتمع الدويل
(السيادة +اإلقليمية +القومية = الدولة الحديثة) والسلوك املرشوع داخل ذلك
املجتمع (قواعد بشأن كيفية تواصل الدول وإدارة النظام والقتال بعضها ضد بعض).
وميكن تتبع تلك املؤسسات األولية من حيث الظهور والتطور ،ويف بعض األحيان
من حيث االضمحالل والزوال .لقد َم َّيزت املدرسة اإلنجليزية إذن بني مجتمع الدول
أيضا باسم املجتمع الدويل) ،واملجتمع العاملي للبرشية جمعاء ،الذي يعد (املعروف ً
أكرث افرتاضية ،ولكنه مهم من الناحية املعيارية.
لقد كانت املدرسة اإلنجليزية عىل نح ٍو ملحوظ أكرث تاريخية من نظريات
العالقات الدولية األخرى السائدة يف ذلك الوقت .إذ كان لها تركي ٌز خاص عىل
كيفية تطور وتوسع املجتمع الدويل العاملي الذي انبثق مع إنهاء االستعامر من
أصاًل ،والذي تط َّور يف حد ذاته منذ فرتة العصور الوسطى مجتمع دويل أورويب ً
257
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف أوروبا وبدأ يف الظهور عىل نحو حديث بحلول العام (Wight, 1977; 1648
) .Bull and Watson, 1984a; Watson, 1992لقد ساعدت هذه املقاربة
التاريخية كث ًريا يف التفريق بني املدرسة اإلنجليزية والواقعية الجديدة (التي
أخضعت أهمية التاريخ لعاملية قواعد سياسة القوة) والليربالية (التي مل يكن
لها تاريخ طويل ،ومل ترغب يف إعادة النظر يف فشل «الطوباوية» املفرتض خالل
سنوات ما بني الحربني) .ولكن فيام يتعلق بالعامل الثالث فإن املدرسة اإلنجليزية،
مثلها مثل نظرية العالقات الدولية الغربية األخرى يف ذلك الوقتُ ،تصنَّف ضمن
إطار املركزية األوروبية .فقد هَ َّمش التفكري الكالسييك للمدرسة اإلنجليزية
فرَّس املجتمع الدويل األورويب عىل العامل الثالث بثالث طرق :حيث إنه ،أو ًاًلَّ ،
أنه تطور أصيل ُف ِرض الحقا عىل بقية العامل .ومثة بعض القوة لهذا الطرح من
ناحية مسارات االستعامر وإنهاء االستعامر ،لكن القصة الكالسيكية للمدرسة
اإلنجليزية تجاهلت عىل نح ٍو أسايس املدخالت القادمة من بقية العامل نحو
أوروبا يف أثناء مراحل تكوينها .ثان ًيا ،تبنت املدرسة اإلنجليزية الكالسيكية ،مثلها
مثل الواقعية الجديدة ،وجهة نظر «الوحدات املتشابهة» للدول والتي ترى أن
الدول متشابهة يف الشكل والوظيفة واملساواة يف السيادة ،وال تفرق بينها إال
مبعيار القوة الذي مييز القوى الكربى عن البقية .وقد خلق هذا متييزا مزدوجا
ضد دول العامل الثالث :مبا أن أيا من دول العامل الثالث مل تكن تشكل قوة كربى،
قصيت إذن من إدارة القوى الكربى .كام تجاهلت املدرسة اإلنجليزية فقد ُأ ِ
االختالفات الهائلة يف السياسات املحلية والدولية التي نتجت عن كون هذه
الدول دو ًاًل ما بعد استعامرية؛ وغال ًبا ما كانت دوال مصطنعة؛ وكانت يف األغلب
وجهفقرية ومتخلفة .ثال ًثا ،كان الرد الرئيس للمدرسة اإلنجليزية الكالسيكية ا ُمل َّ
تجاه إنهاء االستعامر يتمثل يف الخوف بشأن إضعاف املجتمع الدويل من خالل
دخول عديد من الدول الجديدة التي كانت ضعيفة وفقرية وال تشارك الثقافة
الغربية .إن تحليل هيديل بول ( )1984للثورة ضد الغرب اعرتف عىل األقل بقوة
املشاعر املناهضة لالستعامر هناك ،وفتح الطريق أمام العامل الثالث للمطالبة
بالعدالة .غري أن املدرسة اإلنجليزية رأت يف األغلب أن إنهاء االستعامر ميثل
مشكلة ألنه أَ ْض َع َف النظام القائم من خالل تقويض متاسكه الثقايف (الغريب).
258
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
259
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الجمعيات األكادميية اليابانية والغربية الجديدة ،وظل ذلك عىل حاله حتى فتحت
هذه الجمعيات أبوابها ألجل مشاركة أوسع.
ترك ضعف وحداثة حقل العالقات الدولية األكادميي داخل دول األطراف
مفتوحا للقادة السياسيني املؤثرين لالضطالع بإسهام كبري يف التفكري بشأن ً املجال
حقل العالقات الدولية .وقد منح إنهاء االستعامر القادة السياسيني يف األَ ْط َراف
أصوا ًتا أعىل وأكرب نطا ًقا للعمل .حيث طرح بعض هؤالء القادة أفكا ًرا بشأن النظام
اإلقليمي والدويل .وعىل سبيل املثال ،فإن أونغ سان Aung Sanمن بورما ،الذي
تعاون يف البداية مع اليابانيني ،رفض الح ًقا فكرة تكتالت القوى الكربى (مثل
مجال االزدهار املشرتك لرشق آسيا الكربى الياباين) باعتباره وسيلة لتحقيق السالم
والرفاهية اإلقليميني .ودعا يف مقابل ذلك إىل التعاون اإلقليمي عىل أساس املساواة
يف السيادة واالعتامد املتبادل ،ومن ثم كرر طرح املوضوعات القدمية لتفكري حقل
العالقات الدولية الخاص باألَ ْط َرافُ ،م َت َوق ًعا بذلك ظهور مبادئ اإلقليمية يف كثري من
دول األَ ْط َراف يف فرتة ما بعد الحرب العاملية الثانية ،مبا يف ذلك تلك التي طورتها
رابطة دول جنوب رشق آسيا التي تأسست يف العام .1967وخالل الستينيات قدَّم
سوكارنو Sukarnoاإلندونييس تصو ًرا راديكال ًّيا للرصاع القائم بني الشامل والجنوب
من خالل املحاججة بأن االنقسام الرئيس للعامل مل يكن من خالل الحرب الباردة،
ولكن من خالل الرصاع بني «القوى القدمية القامئة» و«القوى الجديدة الصاعدة»،
حيث تتألف «القوى القدمية القامئة» من القوى االستعامرية الغربية التي التزال
تهدد الدول املستقلة حدي ًثا من خالل قواعدها العسكرية واستغاللها االقتصادي .يف
حني تضم «القوى الجديدة الصاعدة» القوات املتحالفة ضد االستعامر واالستعامر
الجديد ،مبا يف ذلك «املحور املناهض لإلمربيالية» يف إندونيسيا؛ وكمبوديا؛ وفيتنام
الشاملية؛ وجمهورية الصني الشعبية؛ وكوريا الشاملية ](Weinstein, [1976
أيضا أمثلة عىل انتشار األفكار اإلقليمية بشأن السيادة ) .2007:167كان مثة ً
واملساواة واالعتامد االقتصادي عىل الذات يف عديد من املناطق .فكوامي نكروما
،Kwame Nkrumahالذي ُم ِنع من حضور مؤمتر باندونغ يف العام 1955من ِقبل
بريطانيا ا ُمل ْس َت ْع ِم َرة لغانا ،تبنى مبادئ مؤمتر باندونغ (مثل االمتناع عن الدخول يف
التكتالت اإلقليمية التي تقودها القوى الكربى ،واالعتامد االقتصادي عىل الذات) يف
261
تشكيل العالقات الدولية العاملية
تنظيم أول تجمع رسمي للدول األفريقية املستقلة حدي ًثا :أي مؤمتر الدول األفريقية
املستقلة يف أكرا Accraيف 22-15أبريل .1958وقد عُ قد مؤمتر الحق يف أديس
أبابا يف العام ،1960حيث طور مبادئ إنهاء االستعامر؛ والسيطرة عىل األسلحة؛
والسيطرة عىل املوارد الطبيعية؛ ووضع بعض األسس إلنشاء منظمة الوحدة
األفريقية يف مايو .1963
بينام ظل إنهاء االستعامر غري مكتمل من أواخر األربعينيات إىل منتصف
السبعينيات ،كان بإمكان هؤالء القادة عىل األقل االستمرار يف موضوعات مناهضة
االستعامر والعنرصية منذ سنوات ما بني الحربني وما قبلها .ومع تحول االستعامر
الرسمي إىل مجرد تاريخ ،تحول الخطاب أكرث نحو معارضة االستعامر الجديد ،ال
سيام بخصوص أشكال التفاوتات االقتصادية والتنموية التي ظلت قامئة فرتة طويلة
بعد أن نالت معظم الشعوب االستقالل السيايس .لقد ظلت مناهضة العنرصية
موضوعًا قو ًّيا ،ال سيام ضد نظام الفصل العنرصي يف جنوب أفريقيا وضد إرسائيل،
وكالهام ُينظر إليه من قبل معظم دول العامل الثالث عىل أنهام دولتان استعامريتان.
ويف الرشق األوسط تبنى جامل عبدالنارص وأعاد تنشيط فكرة الوحدوية العربية
املتأتية من سنوات ما بني الحربني .ويف الهند كان ألفكار نهرو بشأن عدم االنحياز
واملنطقة غري اإلقصائية تأثري كبري يف مقاربات السياسة الخارجية للعامل الثالث،
وعىل األخص حركة عدم االنحياز ،عىل الرغم من أنها مل تحظ باهتامم كبري يف
املناقشات النظرية لحقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز (.)Behera, 2009:143
وقد كان ألفكار غاندي بشأن املقاومة الالعنفية تأثري عميل وفكري يف جميع أنحاء
العامل ،مام ألهم مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديال .وقد تردد صدى أفكار ماو تيس
تونغ بشأن السياسة االشرتاكية والتنمية عىل نطاق واسع بني تيارات أقىص اليسار يف
عديد من األماكن .وكانت «نظريته للعوامل الثالثة» منذ منتصف السبعينيات متثل
مرشوعًا سياس ًّيا ضد هيمنة القوتني العظميني (العامل األول) وطريقة لفهم ديناميات
السياسة العاملية عىل نح ٍو عام (()Garver, 2016:327–8٭) .لقد ط ّور ماو تيس
(٭) كان تصنيف ماو للعوامل الثالثة مختل ًفا عن النموذج القيايس ،الذي كانت فيه الدول الغربية املتقدمة هي
العامل األول ،والكتلة االشرتاكية باعتبارها العامل الثاين ،والدول املتخلفة باسم العامل الثالث .اتفق مخطط ماو مع هذا
بالنسبة إىل العامل الثالث ،ولكن كان العامل الثاين هو الدول املتقدمة بخالف القوتني العظميني[ .املؤلفان].
262
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
أيضا؛ جن ًبا إىل جنب مع تيش جيفارا وريجيس دوبريه ،Régis Debrayفكرة تونغ ً
حرب العصابات وروجوا لها ومارسوها كإسرتاتيجية يستخدمها الضعفاء عسكر ًّيا
ضد القوة العسكرية -ما ُيطلق عليه اليوم «الحرب غري املتكافئة».
عىل نح ٍو عام ،وكام هو موضح سابقا ،استمرت نظرية العالقات الدولية السائدة
داخل املَ ْر َكز يف الرتكيز عىل القطبية الثنائية وا ُملشكالت الغربية وعالقات القوى
الكربى .وعىل الرغم من أن إنهاء االستعامر م َّثل أحد التطورات الرئيسة التي
حددت مامرسة العالقات الدولية ملا بعد العام ،1945فإن الديناميات املتغرية يف
عالقات املَ ْر َكز -األَ ْط َراف لقيت اعرتا ًفا خافتا يف نظرية العالقات الدولية .كانت
العالمة الرئيسة للتغيري ،كام أرشنا يف الفصل الرابع ،تتمثل يف ظهور منظورين بشأن
العالقات الدولية قادمني من األَ ْط َراف من أجل تحدي النقاشات الجارية داخل
املَ ْر َكز :نظرية التبعية؛ ونظرية ما بعد االستعامرية .لقد نشأت نظرية التبعية يف
أمريكا الالتينية ،وهي املنطقة التي شهدت إنهاء االستعامر يف وقت مبكر بكثري
مقارنة بآسيا أو أفريقيا أو الرشق األوسط .وعىل رغم ذلك ،فإن الدول األخرية،
وخاصة يف آسيا ،ميكن أن تدعي أنها متثل مرحلة والدة نظرية أخرى غري غربية
لحقل العالقات الدولية :أيْ نظرية ما بعد االستعامرية .وبينام يرى الباحثون عمو ًما
أن نظرية ما بعد االستعامرية قد جاءت بعد نظرية التبعية ،فإنه ميكن املحاججة
بأن جذورها الفكرية والعملية قد ُوضعت يف وقت سابق .إن لكل من نظرية
التبعية ونظرية ما بعد االستعامرية نقاط منشأ متشابهة ،حيث يربط كالهام
املستعمرات بالقوى االستعامرية السابقة مبعنى سلبي(٭).
263
تشكيل العالقات الدولية العاملية
خالل مواجهات ثقافية وإعادة تشكيل متبادلة(٭) .كمقاربة أكادميية للتفكري يف
حقل العالقات الدولية ،تنتمي ما بعد االستعامرية عىل نح ٍو أسايس إىل فرتة مابعد
العام ،1989ب ْيد أنها شهدت بعض البدايات املهمة خالل الحرب الباردة .يتعلق
كثري من اإللهام املبكر ملقاربة ما بعد االستعامرية بالتفاعل بني عامل املامرسة والعامل
األكادميي لحقل العالقات الدولية ،وإعادة التقييم الذي اضطلع بها األكادمييون
ملؤمتر آسيا وأفريقيا للعام 1955يف باندونغ .لقد اعتنقت ما بعد االستعامرية مؤمتر
باندونغ باعتباره واحدا من لحظاتها التأسيسية .وعىل حد تعبري مصطفى باشا ،يف
حني أن مؤمتر باندونغ رمبا مل يحقق جميع أهدافه السياسية أو االقتصادية املعلنة،
فإنه ميثل «لحظة حرجة يف القصة العاملية التي ُرُسدت بإيعاز من حقل العالقات
الدولية» (.)Pasha, 2013: 146, emphasis original
جاء مؤمتر باندونغ نتيج ًة للمؤمترين من «مؤمتر العالقات اآلسيوية» ،ARC
اللذ ْين عُ ِقدَا يف نيودلهي خالل العامني 1947و .1949وقد تناول جدول أعامل
مؤمتر العام 1947مثاين قضايا شملت :الحركات الوطنية من أجل الحرية؛ وا ُملشكالت
العرقية؛ والهجرة داخل آسيا؛ واالنتقال من االقتصاد االستعامري إىل االقتصاد
الوطني؛ والزراعة؛ وإعادة اإلعامر؛ والتنمية الصناعية؛ و ُمشكالت العمل والخدمات
االجتامعية؛ وا ُملشكالت الثقافية ،ووضع املرأة والحركات النسائية (Appadorai,
) .1979يف حني ُربط املؤمتر الثاين ملؤمتر العالقات اآلسيوية عىل نح ٍو خاص مبطلب
استقالل إندونيسيا عن الحكم الهولندي ( .)Acharya, 2009: 34–5وذهب مؤمتر
باندونغ إىل أبعد ما ذهب إليه مؤمتر العالقات اآلسيوية ،حيث مل ينحرص هدفه
يف «مواصلة النضال من أجل التعميم الكامل لالستقالل الوطني» ،بل تعدى ذلك
ليهدف إىل «صياغة وتأسيس معايري معينة إلدارة العالقات الدولية الحالية ،وصياغة
أدوات التطبيق العميل لتلك القواعد» ( .)Abdulghani, 1964: 72, 103كان
هدف مؤمتر باندونغ هو التوصل إىل «اتفاق بشأن املبادئ العامة» للسلوك يف
الشؤون الدولية ( .)League of Arab States, 1955: 23لقد كان مبنزلة تحول
من معارضة االستعامر إىل محاولة الظفر مبكانٍ للعامل الثالث ضمن املجتمع الدويل
(٭) وهذا يشمل قصة أصحاب البرشة السمراء يف الواليات املتحدة ،الذين ارتبطت عبوديتهم باالستعامر والعنرصية،
والذين ارتبط نضالهم من أجل التحرر بالنزعة الوحدوية األفريقية ،كام هو موضح يف الفصول السابقة[ .املؤلفان].
264
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
العاملي .وقد اعترب املشاركون يف مؤمتر باندونغ إعالن السالم العاملي «أهم قرار»،
ألنه حدد «املبادئ التي تنظم عالقاتهم بعضهم مع بعض؛ وكذا عالقاتهم مع العامل
بأرسه» (.)League of Arab States, 1955:151
بعد مؤمتر باندونغ وصل التحرك نحو الوعي املتزايد يف بلدان العامل الثالث؛
والسعي إىل تحقيق مشاركة أكرب والتعبري عن رأي يف املجتمع الدويل العاملي؛ إىل
ذروته يف الستينيات والسبعينيات مع تأسيس حركة عدم االنحياز يف العام ،1961
ووصل إىل حد الدعوة الالحقة إىل النظام االقتصادي الدويل الجديد وتشكيل
نشاطات مجموعة الـ .77لقد أثارت حرب فيتنام والتدخالت األخرى التي ِقيدَت
من قبل الواليات املتحدة ،ال سيام يف أمريكا الالتينية خالل الستينيات والسبعينيات
من القرن املايض ،التساؤل عام إذا كانت الواليات املتحدة تترصف كقوة إمربيالية
جديدة ( .)Viotti and Kauppi, 2011:211وخالل فرتة السبعينيات ُق ِّوضت اآلمال
املعقودة بشأن مزيد من املشاركة والتعاون بني الشامل والجنوب ،مام أدى إىل
تفاقم إدراك الالعدالة والالمساوة يف االقتصاد الرأساميل الدويل (.)Darby, 2004:2
وقد شكلت كل هذه األحداث عوامل مهمة يف إثارة نظرية العالقات الدولية ما
بعد االستعامرية.
لقد جاء الباحثون ا ُمل َؤ ِّس ُسون ملا بعد االستعامرية من مثل فرانتز فانون Frantz
Fanon؛ وإدوارد سعيد(٭)؛ وغاياتري شاكرافوريت سبيفاك Gayatri Chakravorty
Spivak؛ وهومي بابا Homi Bhabha؛ ونغوغي وا ثيونغو Ngugi wa Thiong’o
من مجموعة متنوعة من املهن والتخصصات ،وكانوا مؤثرين يف عمل أولئك الذين
أقحموا منظور مابعد االستعامرية ضمن حقل العالقات الدولية .لقد تجسدت
بعض الحجج الرئيسة ملا بعد االستعامرية يف رفض إميي سيزير Aimé Césaire
) (1955مهم َة االستعامر «الحضارية» املزعومة ،وعمل فرانتز فانون ( )1965بشأن
التأثري الالإنساين لالستعامر ،و َف ْض ِح إدوارد سعيد ( )1978لـ «االسترشاق» وتصويره
للم ْس َت ْع َمر عىل أنه دوين؛ وغريب؛ و ُمس َت ِبد؛ وصويف مثلام تطرحه األعامل األدبية
ُ
(٭) أحد أهم املفكرين يف القرن العرشين وعمل أستاذا جامعيا للنقد األديب واألدب املقارن يف جامعة كولومبيا يف
الواليات املتحدة ،ومن أهم أعامله كتاب االسترشاق ،وقد نرشت له سلسلة «عامل املعرفة» كتابا بعنوان «إدورد سعيد:
أماكن الفكر» ،العدد الرقم ،492مارس [ .2022املحرر].
265
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الغربية .فقد اكتشف كتاب « ُم َع َّذ ُبو األرض» لفرانتز فانون ( )1965كيف أن
االستعامر فرض عىل رعاياه شعو ًرا بالتبعية؛ ودوني ٍة سياسية ونفسية واقتصادية
واجتامعية عميقة إىل درجة أنه ال ميكن معالجتها إال من خالل اللجوء إىل العنف.
وسعى كتاب «االسترشاق» إلدوارد سعيد ( )1978إىل إظهار إىل أي مدى أن ما
كان وما أصبح ُيعرف باسم «الغرب» ،اشتُق إىل حد كبري من «اآلخر» يف «الرشق»
(«الغرب» هو كل يشء ،يف حني أن «الرشق» ال يشء وال ميكن أن يكون أي يشء،
ويسعى الغرب من خالل اإلمربيالية إىل ضامن تحقيق تلك النبوءة).
نظ ًرا إىل أن فكر مابعد االستعامرية َيتَأَىت من مجموعة متنوعة من املنظورات
األدبية واملاركسية والغرامشية ،وكذا من مجموعة من مفكري ما بعد الحداثة،
فقد انتُقد باعتباره «غري رشعي نظر ًّيا» ( .)Kennedy, 1996: 347–8ونظ ًرا إىل
التأثري الثقيل لعلامء األدب ،مثل إدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك ،فإن ارتباط ما
بعد االستعامرية مع حقل العالقات الدولية ُي َعدُّ ضعي ًفا إىل حد ما من قبل علامء
التخصص التقليديني ،عىل الرغم من عمل حقل العالقات الدولية مابعد االستعامري
بقوة عىل تحديد موقع نظرية ما بعد االستعامرية ضمن املناقشات الجارية داخل
التخصص .وبسبب أصولها يف دراسات األدب ،فإن ما بعد االستعامرية ،عىل عكس
نظرية التبعية ،غال ًبا ما ُتظهر الرتكيز عىل القوى الفكرية التي ُت َشكل املجتمع،
وذلك عىل حساب القوى املادية .فنظرية التبعية «هي يف األساس نظرية اقتصادية
للتخلف ال تفسح املجال بسهولة لتحليل قضايا العرق والثقافة واللغة والهوية»
( .)Tikly, 2001:251وعىل رغم ذلك ،فإن هذه القضايا تعد من بني االهتاممات
املركزية ملا بعد االستعامرية ،فهي ُت َعد ناشئة جزئ ًّيا عن املوضوعات الهوياتية
يف األدب القادم من املستعمرات السابقة ،وجزئ ًّيا تعد ناشئة من جذور ما بعد
االستعامرية يف دراسات املناطق ،والتي أصبحت يف بعض النواحي متثل خل ًفا لها
(.)Harootunian, 2002
بوصفها فكرة سياسية ،تنظر ما بعد االستعامرية إىل أصول النظام الدويل
الحديث ليس بدءا من العام ،1648أو بدءا من صلح وستفاليا ،ولكن بدءا من
العام ،1498مع «اكتشاف» كولومبوس العامل الجديد .وتحاجج ما بعد االستعامرية
بأنه نظ ًرا إىل أن املعرفة املتعلقة بالنظام الدويل والنظام العاملي قد ُأن ِتجت عىل نح ٍو
266
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
كبري خالل فرتة التوسع والهيمنة االستعامرية الغربيني ،فإن هذا اإلنتاج للمعرفة
يجب أن يكون موضع تساؤل واستشكال ( .)Grovogui, 2013:249ومن ثم ،فإن
أنصار ما بعد االستعامرية يشككون ،عىل أقل تقدير ،يف اإلثنوغرافيا واألنرثوبولوجيا
االستعامرية ،ويف الواقع ،يف أي نظرة كونية متولدة عن الغرب ،مبا يف ذلك الرأساملية
واملاركسية ( .)Chibber, 2013حيث يهتم أنصار ما بعد االستعامرية عىل نح ٍو
خاص بكيفية تقبل حقل العالقات الدولية للمعرفة السائدة من دون إخضاعها
للتمحيص النقدي الصارم.
- 3 - 2نظرية التبعية
فهم مادي للبنية االقتصادية الدولية ،و ُتسلط الضوءتستند نظرية التبعية إىل ٍ
عىل عدم املساواة القامئة بني االقتصادات الغربية املتقدمة واالقتصادات املتخلفة أو
النامية يف العامل الثالث .تجادل نظرية التبعية بأن تقسيم البنية االقتصادية الدولية
إىل « َم ْر َكز» و«أَ ْط َراف» يجعل من دول األَ ْط َراف تعتمد عىل نح ٍو أسايس عىل دول
املَ ْر َكز ،كام يجعلها تعاين عائقا مزمنا يف رشوط التجارة.
ُط ِّورت الجوانب االقتصادية األساسية لألفكار التي ارتبطت بنظرية التبعية يف
ثالثينيات وأربعينيات القرن املايض من قبل االقتصادي األرجنتيني راؤول بريبيش
،Raúl Prebischقبل أن تصبح مسألة التبعية متثل قضية يف السياسة الدولية.
كانت أفكار بريبيش مؤثرة عىل نح ٍو خاص يف املرسح الدويل ألنه شغل منصب
رئيس اللجنة االقتصادية ألمريكا الالتينية إبان تشكيلها يف العام ،1948وحولها
إىل منصة انطالقٍ ألفكاره .بعد ذلك ،انتقل بريبيش ليصبح أول مدير عام ملؤمتر
األمم املتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) ،حيث تصدر األصوات الداعية إىل النظام
االقتصادي الدويل الجديد ( .)The Economist, 2009لقد حولت ِص َي ٌغ الحقة
من نظرية التبعية ،وخاصة عمل فرناندو كاردوسو Fernando Cardosoوإنزو
قلياًل من االهتاممات االقتصادية البحتة نحوفاليتو ) ،Enzo Faletto (1972الرتكيز ً
االهتامم مبقاربة االقتصاد السيايس .بهذا املعنى ،توقعت نظرية التبعية عودة ظهور
االقتصاد السيايس الدويل يف حقل العالقات الدولية الغريب السائد خالل السبعينيات
والثامنينيات .كان لنظرية التبعية ،خاصة يف أعاملها الالحقةِ ،ص َي ٌغ ماركسية ملحوظة.
267
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وكان بعض هذا مؤث ًرا يف االقتصاد السيايس الدويل السائد ،عىل الرغم من أن األخري
كان لديه الكثري من امليول الليربالية .لقد كانت التنمية والتخلف والتبعية ،وفق
كاردوسو وفاليتو ،ناتجة عن تأثريات البنية االقتصادية والسياسية الدولية .وباالبتعاد
أيضا تحليلعن الحجج االقتصادية البحتة ،اعتقد كاردوسو وفاليتو أنه من الرضوري ً
القوى االجتامعية واأليديولوجيات .وبرصف النظر عن العلامء واملهنيني املذكورين
سابقا والقادمني من أمريكا الالتينية ،فإن من ضمن املساهمني الرئيسني اآلخرين
يف أدبيات نظرية التبعية كان مثة أندري غوندر فرانك Andre Gunder Frank
) ،(1966, 1971الذي ركز عىل االقتصاد السيايس املاركيس؛ وكذا سمري أمني (،)1972
الباحث املاركيس املرصي الفرنيس الذي كرس أعامله لتحليل أفريقيا من ضمن عديد
من املناطق األخرى .كام ترتبط نظرية التبعية أيضا بنظرية يوهان غالتونغ Johan
Galtungالبنيوية لإلمربيالية ( .)1971حيث سعى غالتونغ إىل تسليط الضوء ليس
عىل الالمساواة القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف عىل املستوى الدويل فقط ،ولكن ً
أيضا
عىل الالمساواة القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف داخل الدول نفسها .يعرف غالتونغ
اإلمربيالية بأنها «نظام يقسم الجامعات ويربط بعض األجزاء بعضها ببعض يف
إطار عالقات انسجام املصالح ،كام يربط أجزاء أخرى بعضها ببعض يف إطار عالقات
تنازع أو تضارب املصالح ( .)Galtung, 1971: 81, emphasis originalوقد ط َّور
غالتونغ هذه النظرية بهدف تحقيق «التحرر» من «العنف البنيوي».
كان الرتكيز األويل لنظرية التبعية ضي ًقا للغاية ،حيث إنها ركزت فقط عىل
الجوانب االقتصادية للتبعية .وباالعتامد عىل تجربة أمريكا الالتينية ،وتحديدًا
األرجنتني ،جادل راؤول بريبيش بأن دول األطراف ال ميكنها أن تتطور أبدًا ألنها
كانت تعتمد عىل صادرات املواد الخام كمصدر للدخل ،بينام كانت دول املركز
تعتمد عىل التصنيع .مل يكن من املرجح أن يتغري هذا العائق النسبي القتصاديات
أمريكا الالتينية يف ظل النظام الليربايل الغريب الذي فرض التجارة الحرةً .
وبداًل من
ذلك دعا بريبيش إىل حامية االقتصادات الوطنية لألطراف من خالل تبني سياسات
توطني التصنيع كبديل عن الواردات .وكام يشري إريك هيليرن ،يعتقد بريبيش أن دول
األطراف «بحاجة إىل عزل نفسها عن الصدمات القوية املتأتية من البلدان الصناعية،
كام أنها بحاجة إىل إيجاد خيارات سياسية لتعزيز التصنيع والتنمية االقتصادية
268
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
املدعومة من طرف الدولة» ( .)Helleiner, 2017: 89كان هذا مطلو ًبا لحامية
الصناعات الناشئة وللسامح بتوطني التصنيع املحيل .وقد َخ ُل َص بريبيش إىل هذا
االستنتاج من خالل مالحظته القائلة بأن «سعر املنتجات األولية مييل إىل االنخفاض
بالنسبة إىل أسعار السلع املصنعة (التي تجسد إنتاجية أعىل) ،ومن ثم فإن البلدان
الصناعية تستفيد من التجارة أكرث مام تستفيد الدول النامية» (The Economist,
) 2009لذلك ،كان التغيري البنيوي مطلو ًبا بغية تحقيق التنمية االقتصادية .وقد
توصل االقتصادي الربيطاين األملاين املولد هانز سينجر Hans Singerإىل االستنتاج
نفسه عىل نح ٍو مستقل ،وأصبحت أفكارهم ُتعرف باسم أطروحة «بريبيش سينجر»
(.)Toye and Toye, 2003
اكتسبت نظرية التبعية مكانة بارزة يف حقل العالقات الدولية يف وقت كانت
هناك مخاوف سائدة بني دول العامل النامي بشأن االفتقار إىل التنمية االقتصادية
بعد مرحلة إنهاء االستعامر .فخالل السبعينيات والثامنينيات ،أدت ُمشكالت
ديون صندوق النقد الدويل والبنك الدويل التي واجهتها عديد من دول العامل
الثالث ،وخصوصا يف أفريقيا ،إىل تفاقم هذه املخاوف بسبب الرشوط القاسية
املفروضة .ورأى منظرو التبعية أن هذه ُت َعدُّ قضية بنيوية ،حيث مارست القوى
شكاًل من أشكال االستعامر الجديد من خالل فرض التبعية االستعامرية السابقة ً
االقتصادية ،وذلك عىل عكس الحكم االستعامري املبارش .وبلغ تأثري نظرية التبعية
يف الشؤون الدولية ذروته يف العام 1974عندما اعتمدت الجمعية العامة لألمم
املتحدة اإلعالن الرامي إلنشاء النظام االقتصادي الدويل الجديد ،وكان الكثري من
الزخم املؤيد لذلك يأيت من مؤمتر األمم املتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) .ويف
ناجحا من ناحية تنفيذ البنود
حني أن النظام االقتصادي الدويل الجديد مل يكن ً
الواردة فيه ،فإنه كان ً
مهاًم ألنه عرب عن مخاوف العامل النامي بشأن اآلثار السيئة
للتجارة الحرة املفروضة.
َ
بعد حامسها األويل الذي بلغ ذروته خالل السبعينياتَ ،تط َّو َرت نظرية
التبعية إىل نظري ٍة للنظم العاملية ،والتي تشرتك يف جميع خصائص األوىل تقري ًبا
مع وجود اختالفات مهمة .ترتبط نظرية النظم العاملية عىل نح ٍو وثيق بأعامل
إميانويل والرشتاين )،Immanuel Wallerstein (1974, 1979, 1983, 1984
269
تشكيل العالقات الدولية العاملية
حيث كان له موضوع بنيوي قوي لالقتصاد السيايس الدويل مبني عىل التفاعل
الدينامييك بني املَ ْر َكز ،وشبه األَ ْط َراف ،واألَ ْط َراف .لقد عكست نظريته صدى كل
من املقاربات املاركسية والليربالية لالقتصاد السيايس الدويل ،وأصبحت نظرية
مؤثرة يف العلوم االجتامعية والتاريخ .وكانت نظريته متوافق ًة عىل نطاق واسع
مع نظرية التبعية ولكن كان لها تاريخ أكرب ونطاق نظري خاص .إن نظرية النظم
العاملية كانت نظري ًة بنيوي ًة ومادي ًة ،ركزت أساسا عىل املَ ْر َكز واألَ ْط َراف .ويف حني
ركزت نظرية التبعية يف املقام األول عىل التأثريات قصرية املدى للعامل الثالث،
وتحديدًا أمريكا الالتينية ،فإن نظرية النظم العاملية متركزت عىل بنية وعالقات
االقتصاد الدويل مبعناه العاملي الحقيقي.
كان أحد االنتقادات الرئيسة املوجهة إىل نظرية التبعية هو تركيزها املفرط،
حتى الحرصي ،عىل القضايا االقتصادية .إذ حالت نزعتها املادية دون دمج قضايا
العرق والجنس يف تحليالتها .وهكذا ،وبرغم تركيزها عىل األمم املهمشة يف العامل،
أو األَ ْط َراف ،فإن هذه النظرية مل تصلح لتحليل أنواع أخرى من التهميش ،مثل
الجامعات املهمشة داخل الدول .كام مل يسمح الرتكيز البنيوي لنظرية التبعية
بالتنظري بشأن دور النخب داخل دول األَ ْط َراف ،وتحديدًا اهتاممهم وعملهم تجاه
الحفاظ عىل العالقات االقتصادية غري املتكافئة مع املَ ْر َكز الغريب .مثة نقد آخر
يتمثل يف الفاصل القائم بني النظرية والتطبيق .ففي حني اكتسبت الدعوة إىل
وزخاًم كبريين خالل فرتة السبعينيات ،أثبتت ً إنشاء اقتصاد دويل جديد انكشا ًفا
بنود تلك املبادرة أنها غري قابلة للتطبيق و ُتركت من دون إنفاذ .وعندما أصبح
بداًل من ذلك سياسات تتعارض مع رئيسا للربازيل تراجع عن نظريته ون َّفذ ً
كاردوزو ً
كتاباته ذات التوجه االشرتايك ( .)Viotti and Kauppi, 2011: 202رمبا يكون أكرب
انتقاد موجه إىل نظرية التبعية هو تركيزها عىل البنية االقتصادية يف وقت معني من
التاريخ وكذلك يف مناطق معينة من العامل ،مام حال دون تعميم استنتاجاتها .فعىل
سبيل املثال ،عندما بدأت اقتصادات رشق آسيا يف الصعود انطالقا من السبعينيات،
وشهدت من ًوا اقتصاد ًّيا رسي ًعا يف الثامنينيات وأوائل التسعينيات ،فهي مل تحقق ذلك
عن طريق استبدال الواردات ،ولكن عن طريق ترويج الصادرات ،حيث جعلت
هذه الظاهرة نظرية التبعية تفقد كثريا من أهميتها.
270
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
منذ فرتة الثامنينيات ،انتقل الكثري من الزخم يف التنظري بشأن العامل غري
الغريب إىل نظرية النظم العاملية وما بعد االستعامرية .وعىل رغم ذلك ،كان
لنظرية التبعية تأثري كبري .يبدو أنها كانت أول نظرية لحقل العالقات الدولية
َتتَأَىت من األَ ْط َراف ل ُت ْق ِحم نفسها داخل املَ ْر َكز وتسهم يف النقاشات الدائرة فيه.
بحيث أسهمت يف إيجاد نظرية النظم العاملية كام أسهمت يف إعادة إدخال
االقتصاد السيايس الدويل الح ًقا ضمن حقل العالقات الدويل داخل املَ ْر َكز،
وتناولها من ِقبل باحثني أساسيني مؤثرين من أمثال غالتونغ .وكام يجادل
ميشيل بانكس ( ،)1985: 18فإن البنيوية ،مبا يف ذلك اإلمربيالية« ،كانت تلوح
يف األفق دامئًا يف ظالل حقل العالقات الدولية» طوال فرتة تكوينها .وكام ناقشنا
يف الفصلني الثاين والرابع ،فإن حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز تعمد تهميشها
«س ِّلط الضوء عليها» يف حقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز،
بالفعل .ولكن أخ ًريا ُ
وذلك من خالل أعامل ُمن َِّظ ِري التبعية يف فرتة الستينيات والسبعينيات .لقد
كان هناك تقسيم معني للعمل بني نظرية التبعية وما بعد االستعامرية .وكام
يالحظ إيالن كابور ( ،)2002: 647–8فإن «نظرية التبعية تتبنى منظو ًرا بنيو ًّيا
واجتامع ًّيا اقتصاد ًّيا ،وترى أن اإلمربيالية والتنمية مرتبطتان بتكشف الرأساملية،
يف حني ُتفضل نظرية ما بعد االستعامرية تبني منظور ثقايف مابعد بنيوي ،وربط
اإلمربيالية وصفة الفاعلية بالخطاب وسياسة التمثيل» .وسيناقش الفصل الثامن
نظرية ما بعد االستعامرية بتفصيل أكرب.
- 3 - 4آسيا
تعاين دراسة تطور حقل العالقات الدولية يف اآلسيوي بعض ُمشكالت التنوع
املوجودة داخل اإلقليم واالختالفات املوجودة يف األقاليم األخرى ،وإن كان ذلك
حاصال عىل نطاق أعىل ،خاص ًة بسبب حقيقة أن القوى الثالث الرئيسة املحتضنة
لحقل العالقات الدولية ،وهي اليابان والهند والصني ،متكنت من تطوير مجال
الدراسة هذا بطرق مختلفة ومتميزة ( )Alagappa, 2011ومن دون أي روابط
بعضها مع بعض .باإلضافة إىل ذلك ،كانت اليابان تشكل جز ًءا من َم ْر َكز حقل
العالقات الدولية أكرث من كونها تشكل جز ًءا من األَ ْط َراف ،كام أن تطوير حقل
أيضا عملية ديناميكية ،تستجيب للسياسات العالقات الدولية يف هذه البلدان ُي َعد ً
املحلية املتغرية والتيارات الجيوسياسية التي تواجه الدولة.
ففي الهند كانت «الرسدية الرئيسة» لحقل العالقات الدولية هي عدم
االنحياز ،عىل الرغم من أن الهند انضمت الح ًقا إىل سياسات السعي وراء األمن
باملعنى التقليدي ( .)Alagappa, 2011: 204ويف الصني كانت الرسدية الرائجة
تتمركز عىل موقعها كدولة اشرتاكية تتامهى مع العامل النامي .ومن املفارقات
أن مجتمع حقل العالقات الدولية يف الهند ،عىل الرغم من دور الدولة باعتبارها
َارِصة للتضامن بني دول العامل الثالث ،فشل يف مؤسسا لحركة عدم االنحياز و ُمن ِ
بناء مفهوم عدم االنحياز بوصفه مساهمة نظرية قوية لحقل العالقات الدولية
متأتية من العامل غري الغريب ( .)Mallavarapu, 2009كان هذا عىل عكس ما كان
يحدث يف الصني ،حيث ميكن اعتبار نظرية العوامل الثالثة ملاو تيس تونغ (املوضحة
سابقا) مساهم ًة صيني ًة يف حقل العالقات الدولية ( .)Alagappa, 2011ولكن
خالل معظم هذه الفرتة كان حقل العالقات الدولية األكادميي الصيني إما يقبع
تحت سيطرة أيديولوجية صارمة للحزب ،وإما يتموضع بجانب معظم الحياة
الجامعية املحاطة بفوىض الثورة الثقافية.
ويف حني أن بعض النظريات الغربية ،خاصة الواقعية الكالسيكية ،كانت مؤثرة
يف كل من الهند والصني ،فإن ما بعد االستعامرية واملقاربات املستوحاة من دراسات
التبعية كانت شائعة عىل نح ٍو كبري يف الهند ،إذ ميكن أن تكون األخرية متثل أهم
مساهمة للهند يف نظرية العالقات الدولية .وعىل رغم ذلك ،يرفض بعض الباحثني
272
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
الهنود البارزين يف هذا التخصص فكرة وجود أي مقاربة هندية متميزة لحقل
العالقات الدولية (.)Mallavarapu, 2009: 166; Behera, 2010: 92
خالل فرتة الحرب الباردة ،أسهم املفكرون /الباحثون الهنود يف أفكار النظام
العاملي والعدالة من وجهة نظر التجربة الهندية .لكن هذه املساهامت مل تشكل
أيضا ،مع بعض مخاطر التبسيط متجانسا للنظام العاملي .قد يكون من املمكن ً
ً ً
فهاًم
املفرط ،وصف سيرس جوبتا Sisir Guptaبأنه «واقعي صارم»؛ وأيضا َن ْع ُت أرجون
أبادوراي A. Appadoraiبأنه ليربايل أممي؛ وجواهر الل نهرو باعتباره ليربال ًّيا
واقع ًّيا؛ وآشيس ناندي Ashis Nandyباعتباره مؤيدًا ملا بعد االستعامرية .لقد
وجد سيدهارث ماالفارابو )« Siddharth Mallavarapu (2018: 169–70انتقائية
كبرية يف الطريقة التي ُوضعت بها نظرية للنظام يف ساحة تفكري حقل العالقات
الدولية الهندي ...سيكون يف غري محله إسناد أو فرض أي وجهة نظر جوهرية
أو أحادية للنظام السيايس تنبع من الهند» .ويف الوقت نفسه« ،غال ًبا ما كانت
وجهات النظر هذه يف حوار بعضها مع بعض إما عن طريق التأييد وإما عن طريق
النقد» ( .)Mallavarapu, 2018:170عالوة عىل ذلك ،اكتشف سيدهارث ماالفارابو
وجود روح معيارية قوية كميزة مشرتكة لهذه املساهامت الهندية (Mallavarapu,
) .2018: 170أما نافنيتا بيهارا ،Navnita Chadha Beheraفرافع ألجل إنشاء
مواقع بديلة لبناء املعرفة ،وهو ما ميكن النهوض به من خالل توظيف وجهات نظر
مختلفة ،كطريقة لبناء حقل عالقات دولية جديد .إذ يجب أن يعتمد الحقل عىل
تأكيدات ما بعد الوضعية بشأن الثقافة والهوية (.)Behera, 2007: 355
- 3 - 5أمريكا الالتينية
خالل السبعينيات والثامنينيات ،أفسح اهتامم أمريكا الالتينية بنظرية التبعية
املجال أمام االستقالل الذايت ،مستمدًا بذلك من الواقعية الكالسيكية أفكارها بشأن
دور النخب السياسية ودور السلطة .واالستقالل الذايت ،كام توضح ذلك أرلني تكرن
( ،)33 :2009كان ُينظر إليه عىل أنه «رشط مسبق لتحقيق التنمية الداخلية وبناء
إسرتاتيجية سياسة خارجية ناجحة ...كآلية للحامية من اآلثار الضارة للتبعية عىل
املستوى املحيل ،ومن مستوى الداخل إىل الخارج كأداة لتأكيد املصالح اإلقليمية
273
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف النظام الدويل» .كان التفكري املعريف الربازييل مؤثرا عىل نح ٍو خاص يف تطوير
مفهوم االستقالل الذايت .وكنظرائهم يف األقاليم األخرى ،وجد باحثو حقل العالقات
الدولية يف أمريكا الالتينية أن نظريات العالقات الدولية املستوردة ناقصة يف رشح
الواقع املحيل ،ولكن ً
بداًل من التخيل عنها متا ًما ،قاموا ب َت ْب ِي َئ ِت َهاَ /ت ْو ِطي َن ًها .وقد أدى
ذلك إىل ظهور ما تسميه أرلني تكرن بنموذج أمريكا الالتينية «الهجني» (A. B.
) ،Tickner, 2009: 33حيث ُتجسد أعامل هيليو جاغواريب Helio Jaguaribe
وخوان كارلوس بويج Juan Carlos Puigهذا التوليف أو «التهجني» ،أو «الدمج
اإلبداعي» ملبادئ حقل العالقات الدولية التقليدي يف التحليالت اإلقليمية للعالقات
الدولية ،مام يؤدي إىل «اندماج املفاهيم املتأتية من نظريات التبعية والواقعية
واالعتامد املتبادل ...التي أصبحت أساسية لتحليل القضايا العاملية يف عديد من دول
املنطقة» (.)A. B. Tickner, 2003a: 331
(٭ ) - 3 - 6أفريقيا
كام هو الحال يف املناطق األخرى ،اعتمد حقل العالقات الدولية األفريقي
َت ْك ِييف وال َت َكيف مع مفاهيم ونظريات حقل العالقات الدولية الغريب .لقد انتقد
باحثو حقل العالقات الدولية يف أفريقيا جنوب الصحراء الكربى ( )SSAالخطوط
املهيمنة لحقل العالقات الدولية الغريب ،مثل تركيبة «جديد -جديد» .Neo-Neo
ومن وجهة نظر ما« ،فإن توليفة «جديد – جديد» مل تفشل فقط يف رشح الحقائق
السياسية الدولية يف أفريقيا جنوب الصحراء الكربى ،بل كانت تسمح باستغالل
أيضا وتضفي الرشعية عىل سياسة االستغالل من خالل التأكيد عىل سياسةاملنطقة ً
القوة» ( .)Claassen, 2011:182لقد جمع باحثو العالقات الدولية األفارقة
بني نظريات التحديث والتبعية ووجهات نظر الدولة .ففي ِحجاجه ضد طبيعة
مركزية الدولة يف نظرية العالقات الدولية الحديثة ،يشري أسيس ماالكياس Assis
(٭) نحن ندرك حقيقة أن مصادرنا الخاصة بأفريقيا تعود عىل نح ٍو أسايس إىل فرتة ما بعد الحرب الباردة .إن قد ًرا
كب ًريا من أبحاث حقل العالقات الدولية يف أفريقيا حديث العهد نسب ًّيا ،ال سيام باملقارنة مع أمريكا الالتينية وآسيا،
ولكن كام هو الحال مع مصادر أبحاث حقل العالقات الدولية والنقاش الدائر بشأن مناطق أخرى والكثري منها
حديث العهد نسب ًّيا ،فهي تغطي املوضوعات الرئيسة للحقل مثلام تطور خالل الحرب الباردة[ .املؤلفان].
274
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
) Malaquias (2001: 27إىل أن الدولة أو الجهات الفاعلة دون الدولة يجب أن
بداًل من الدولة الوستفالية.تكون وحدة تحليل حقل العالقات الدولية األفريقي ً
كام أن االنقسام بني أولئك الذين يفضلون اإلطار العاملي القائم عىل الغرب
أيضا أبحاث وأولئك الذين يفضلون اإلطار السياقي القائم عىل أفريقيا قد ميز ً
حقل العالقات الدولية يف املنطقة ( .)Ofuho, 2009: 74كانت أبحاث حقل
العالقات الدولية األفريقي منذ البداية أكرث توج ًها نحو التحديات التي تواجه
القارة ،مثل الرصاع والعرق؛ وأزمات الالجئني؛ واألمن؛ والفساد وسوء الحكم؛
ونقص الدميوقراطية والعسكرة واالنقالبات؛ والفقر والتخلف ،واملجاعة واألمن
الغذايئ؛ وفريوس نقص املناعة البرشية /اإليدز؛ واملساعدات الدولية وأزمات
الديون؛ والجندر والقضايا البيئية؛ واإلرهاب؛ والبنية التحتية املنهارة؛ واالنتهاكات
الجسيمة لحقوق اإلنسان ( .)Ofuho, 2009: 76وهنا ،كام هو الحال يف املناطق
األخرىُ ،ت َعدُّ فائدة نظريات العالقات الدولية الغربية مصدر اهتامم كبري بالنسبة
إىل علامء حقل العالقات الدولية.
كان الرتكيز الثاين لحقل العالقات الدولية األفريقي ،عىل غرار املناطق األخرى
يف األطرافُ ،من َْص ًّبا عىل األفكار اإلقليمية التي شددت عىل أهمية التضامن والعمل
الوحدوي األفريقي .ووفق توماس تيكو ) ،ThomasTieku (2013:15قد يعزو املرء
ذلك إىل االعتقاد السائد بني الحكام األفارقة بأن السلوك السليم يرتكز عىل «الشعور
بالوحدة والدعم تجاه األفارقة اآلخرين ،عىل األقل يف األماكن العامة» .وعىل الرغم
من أهمية القومية ومعيار السالمة اإلقليمية ،متيل الكتابات األفريقية بشأن حقل
العالقات الدولية إىل تأكيد رؤية جامعية للعامل ،وهي الرؤية التي غال ًبا ما ُتتجاهَ ل
يف الكتابات الغربية عن أفريقيا ( .)Tieku, 2013:16وقد أدت هذه النظرة العاملية
إىل ظهور مقرتحات من أجل السالم واألمن ،مثل دعوة نكروما Nkrumahإىل
قيادة عليا أفريقية ( )Adebajo and Landsberg, 2001لتأمني السالم واألمن يف
أفريقيا من دون املساعدة أو التدخل الخارجيني.
كان عيل مزروعي أحد املساهمني الرئيسني يف تفكري حقل العالقات الدولية
األفريقي خالل أواخر فرتة الحرب الباردة ،إذ ميكن وصفه بأنه ُمر ِّكب املفاهيم
وا ُملفكر الهجني العظيم يف أفريقيا .ومن ثم سنتطرق إليه عىل نح ٍو منفصل يف
275
تشكيل العالقات الدولية العاملية
هذا السياق ،عىل رغم أن البعض قد يعتقد أنه ينتمي إىل فئة الفكر مابعد
االستعامري الذي نوقش سابقا .عىل الرغم من تأثره بالنزعة الوحدوية األفريقية
( ،)Mazrui, 1967غري أن عيل مزروعي ( )1986أكد عىل الرتاث األفريقي الثاليث:
الثقافة األفريقية األصلية؛ واإلسالم؛ والنرصانية .من الناحية األيديولوجية ،متوضع
عيل مزروعي خارج املاركسية والرأساملية .وعىل عكس أول حكام أفريقيا بفرتة
مابعد االستعامر مثل الجزائري أحمد بن بلة والتنزاين جوليوس نرييري ،مل ير عيل
مزروعي االشرتاكية باعتبارها بديال أفضل من التطور الرأساميل .لكنه اعرتف ً
أيضا
بأمراض الرأساملية ،ويف حجة شهرية ضد املثقف الغاين الداعي إىل الوحدوية
األفريقية والرت رودين ،Walter Rodneyدعا إىل املزج بني الرأساملية الليربالية
والقيم األفريقية ( .)Rajab, 2014قد ُي َفرس هذا االعتقاد يف التهجني سبب دعمه
رَسية ،)familyhood لربنامج جوليوس نرييري الخاص بـ «أوجاما» ُ Ujamaa
(األ َ ِ
وهو مفهوم يجمع بني املبادئ االشرتاكية والقيم األفريقية .كان مزروعي من أشد
منتقدي إرسائيل ،وقد روج ملفهوم «أفرابيا» ،Afrabiaأي اندماج أفريقيا والعامل
العريب ( .)Rajab, 2014وقد أدت أعامل مزروعي ،مع اعرتافه بالتنوع الثقايف
والحضاري وفهمه التعددي لأليديولوجيا والهوية ومقاربات التنمية ،ببعض
الباحثني إىل اعتبارها مقدمة لفكرة حقل العالقات الدولية العاملي ،وهي الفكرة
التي تقود كتابنا (.)Adem, 2017: 247
- 3 - 7الرشق األوسط
خالل الحرب الباردة ظل تطوير حقل العالقات الدولية يف جميع أنحاء الرشق
األوسط ضعي ًفا من الناحية النظرية ويركز عىل القضايا العملية /السياسية وتدريب
الديبلوماسيني .ففي تركيا ركزت دراسة هذا الحقل تحت إرشاف املَ ْكتَب الم ُ ْل ِيِك
( Mekteb-i Mülkiyeمدرسة القرص ،أو املدرسة الحكومية) -التي تأسست يف
العام 1859ولكنها اندمجت مع جامعة أنقرة يف العام - 1950عىل نح ٍو كبري عىل
التاريخ الديبلومايس والقانون الدويل ( .)Aydinli and Mathews, 2008حيث
سيطرت الواقعية ا ُمل َطبقة عىل املشكالت العملية عىل كل محاولة للتأطري النظري.
ويف العامل العريب ،كام بني كريم مقديس ( ،)2009: 183عُ ِّرفت دراسة حقل العالقات
276
حقل العالقات الدولية :1989-1945التأسيس الثاين للتخصص املعريف
خالصات
بحلول نهاية الحرب الباردة ،بدأ حقل العالقات الدولية يف نرش مقاربة أكادميية
ُمتَأَ ِّتية من املَ ْر َكز نحو األَ ْط َراف ،أي أصبح يشكل تخصصا معرفيا أكرث رسمية .لكن
هذا التخصص املعريف ظل يهيمن عليه الغرب عىل نح ٍو كبري ،وذلك بسبب هيمنة
قوة املَ ْر َكز واهتاممات األخري بشأن القطبية الثنائية واألسلحة النووية ،باإلضافة إىل
مجموعة من العوامل األخرى مثل املوارد املحدودة لدى الباحثني يف دول األَ ْط َراف
وعدم اهتاممهم بالنظرية واملنهج ،وتوجههم إىل حد كبري نحو السيايس والتجريبي
(وهو ما سيناقش يف الفصل العارش).
وعىل رغم ذلك ،كانت مثة بدايات تفاعل حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز مع
نظريه يف األَ ْط َراف ،وذلك مبساعدة ظهور نظرية التبعية ونظرية النظم العاملية،
واالستجابات األساسية التي قدمتها تلك النظريات ،وتأثريها يف دراسات التنمية
واالقتصاد السيايس الدويل .ولكن ،ظلت ما بعد االستعامرية خالل هذه الفرتة
متثل يف األغلب حوا ًرا بني الباحثني املتشابهني يف التفكري القادمني من األَ ْط َراف.
277
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وعىل الرغم من أن نظرية العالقات الدولية يف الغرب مل تكن كتلة واحدة ،وأنه
بحلول الثامنينيات كانت الواقعية والليربالية ومتغرياتها قد بدأت بالفعل يف مواجهة
تحديات قادمة من النسوية والنظريات النقدية األخرى (سنناقش هذه التحديات
يف الفصل الثامن ،حيث ظهرت تلك النظريات خالل التسعينيات) ،كانت نظرية
أساسا إىل بناء التجربة الغربية مبصطلحات عاملية .وعىل العالقات الدولية موجهة ً
الرغم من أن إنهاء االستعامر كان تغي ًريا كب ًريا يف مامرسة العالقات الدولية ،وجز ًءا
رئيسا من التحول من الصيغة األوىل إىل الصيغة األوىل املعدلة للمجتمع الدويل
العاملي ،فإنه ظل خالل هذه املرحلة األوىل هامش ًّيا إىل حد كبري يف كل من مامرسة
العالقات الدولية ويف حقلها املعريف .من املؤكد أن دول األَ ْط َراف أصبحت تتمتع اآلن
باالستقالل وبصوت سيايس أكرب .لكنها مل تكن متلك ثروة وال قوة من الناحية املادية.
من ناحية دول املَ ْر َكز ،بدا األمر أقل أهمية بكثري من اللعبة الصفرية الكبرية التي
طبعت املنافسات األيديولوجية والنووية خالل الحرب الباردة .وعىل رغم ذلك ،بدأ
الوضع يشهد تغريا .حيث بدأ جزء من حقل العالقات الدولية القادم من األَ ْط َراف
يف فرض نفسه داخل املَ ْر َكز ،وكان هذا االتجاه ينتعش عىل نح ٍو ملحوظ خالل فرتة
التسعينيات وما بعدها عندما تحول تركيز حقل العالقات الدولية من التنافس
األيديولوجي واألسلحة النووية نحو الرتابط والعوملة وحقوق اإلنسان واالقتصاد
السيايس الدويل.
278
احلديثة
7
مقدمة
يغطي هذا الفصل الفرتة املمتدة بدءا من
نهاية الحرب الباردة ،مرو ًرا باألزمة االقتصادية
التي بدأت يف العام ،2008وصوال إىل وقت
كتابة هذا الكتاب ( .)2018-2017ميثل أول
عقدين من هذه الفرتة ،أي التسعينيات ومعظم
وىَل ا ُمل َعدلة أوائل هذه األلفية ،ذروة الصي َغة ُ
األ َ
الدويِل ال َعالَ ِمي التي بدأت يف ُّ
التشكل للم ْج َت َمع ِ
ُ
بعد الحرب العاملية الثانية .أما العقد الثالث
لتلك الفرتة فقد شهد بدايات انتقال املجتمع
الدويل العاملي من بنيته العاملية الغربية يف
صيغتها األوىل املعدلة نحو البنية املابعد غربية «كان تعايف روسيا تحت حكم بوتني بدءا
يف صيغتها الثانيةُ .يلخص القسم التايل بإيجاز من العام 2000كاف ًيا لتمكينها من البدء
يف فرض نفسها داخل إقليمها والقتال ضد
استمرارية وعدم استمرارية املجتمع الدويل الواليات املتحدة والغرب»
279
تشكيل العالقات الدولية العاملية
العاملي املتشكل خالل فرتة الحرب الباردة /إنهاء االستعامر .ويتناول القسم الذي
الدويِل وىَل ا ُمل َعدلة ُ يليه مبزيد من التفصيل املوضوعات الرئيسة للصي َغة ُ
األ َ
للم ْج َت َمع ِ
ال َعالَ ِمي ،وكيف أن تلك املواضيع مارست أدوارا يف تنامي وترية التحول نحو الصي َغة
الدويِل ال َعالَ ِمي املابعد غريب.
للم ْج َت َمع ِ
الثا ِنية ُ
281
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الهائلة من األسلحة النووية وأنظمة اإلطالق التي تراكمت لدى كل منهام .وحتى
االنتشار النووي بدا كأنه تحت السيطرة ،حيث اسرتدت روسيا فائض ترساناتها
النووية من بعض الدول التي َخ َل َف ْت َها ،وأبرزها أوكرانيا وجنوب أفريقيا ،حني فككت
الرتسانة النووية الصغرية التي بناها نظام الفصل العنرصي هناك .وقد عُ زِّز التبسيط
الكبري لألحادية القطبية املتمحورة حول الواليات املتحدة عندما انفجرت الفقاعة
االقتصادية لليابان ،أما التكهنات الشائعة لفرتة وجيزة القائلة بأن اليابان قد تتفوق
عىل الواليات املتحدة ،فقد صارت يف طي النسيان.
مارست مركزية الدولة الخاصة بالقطبية األحادية دو ًرا غري ًبا إىل حد ما
مع العوملة التي أصبحت الطريقة املشهورة األخرى لرؤية عامل ما بعد الحرب
الباردة ;(Hirst and Thompson, 1996; Clark, 1997; Armstrong, 1998
) .Held et al., 1999فقد ابتعدت العوملة من فهم العالقات الدولية عىل أنها
مجرد نظام من الدول ،وعمدت إىل النظر إىل العالقات الدولية بوصفه نظاما من
التدفقات التي تجسد عديدا من أنواع الفواعل مبا يف ذلك الدول .ويكمن جوهر
العوملة يف تتبع الروابط املتزايدة واالعتامد املتبادل بني الدول والشعوب عىل
نطاق عاملي .ومبا أن االقتصاد كان القطاع الرائد يف مثل هذه الروابط ومسارات
االعتامد املتبادل ،فإن منظور العوملة يفضل الديناميات االقتصادية عىل السياسية.
فهو مييل إىل رؤية الدول والشعوب منخرطة عىل نحو متزايد يف شبكات االعتامد
االقتصادي املتبادل التي تنسجها الرشكات عرب الوطنية واملنظامت الحكومية
الدولية .هذه الروابط االقتصادية ،وحينام ُتضاف إىل املصائر املشرتكة مثل قضايا
البيئة واألمراض العاملية ،وأيضا إىل مجموعة متنامية من املنظامت الدولية غري
الحكومية والرشكات عرب الوطنية التي تربط الناس م ًعا عرب حدود الدولة ألجل
مجموعة متنوعة من األهداف ،ستشري إىل نظام عاملي غري إقليمي تكون فيه
الدول أقل صلة بقضايا السياسة ،وتنجرف فيه السياسة العاملية نحو الحوكمة
العاملية ).(Held et al., 1999; Weiss, 2013
وحتى لو كان املرء يرى العوملة عىل أنها كانت مسارا طويل األمد ،فقد بدا أنه ال
جدال يف أن األحادية القطبية خالل التسعينيات ،وألنها كانت تقودها قوة ليربالية،
حكاًم أكرث حرية من أي وقت مىض .ميكن اآلن إطالق العنان فقد أعطت للعوملة ً
283
تشكيل العالقات الدولية العاملية
لرأس املال ضمن نظام مقيد بالقواعد ،يدمج اإلنتاج عىل نطاق عاملي؛ ويعمق
الرتابط بني الجميع ضمن إطار التجارة والتمويل العامليني .لقد ر َّوجت الدول
الليربالية الرائدة للعوملة االقتصادية (عىل الرغم من أن األخرية تتعلق برأس املال
والسلع أكرث مام تتعلق بالعاملة) عىل الرغم من أنها أضعفت سيطرتهم املحلية
واإلقليمية .كانت الصفقة هي التجارة يف النظام االقتصادي الذايت لألسواق العاملية
من أجل الحصول عىل معدالت منو أعىل ،وقد ُق ِبلت هذه الصفقة حتى من قبل
الحزب الشيوعي الصيني .كانت الفكرة التي ربطت بني العوملة والقطبية األحادية
هي فكرة استقرار الهيمنة :النظرية القائلة إن االقتصاد العاملي الليربايل كان يعمل
عىل نحو أفضل عندما كانت هناك قوة ليربالية رائدة قوية مبا يكفي للسيطرة عىل
الساحة؛ وتوفري األمن؛ وتعزيز ودعم املؤسسات الالزمة لحكم التجارة والتمويل
العامليني حتى يظل االقتصاد العاملي مستق ًرا (Kindleberger, 1973; Gilpin,
) .1981, 1987وقد أشارت العوملة إىل زيادة االعتامد املتبادل يف توليد الرثوة ،ومن
ثم ،إىل التقليل من َجد َوى الحرب والقوة العسكرية (.)Keohane and Nye, 1977
وعىل نحو أقل وضوحا ،أشارت إىل صعود املصائر املشرتكة كعامل متزايد يف السياسة
العاملية .وأوضح مثال لذلك هو املصري املشرتك لجميع الذين انخرطوا يف االقتصاد
الرأساميل العاملي؛ واالعتامد عىل أدائه السلس من أجل تحقيق الرثوة والرفاهية .أما
املثال األقل وضوحا فقد كان يتمثل يف املصري املشرتك للعيش عىل كوكب يتعرض
لضغوط متزايدة بسبب مطالب األعداد البرشية املتزايدة ومستويات املعيشة.
كانت كل من القطبية األحادية والعوملة تسريان يف مصلحة الواليات املتحدة،
ومل يكن من املفاجئ أن تحظيا بشعبية هناك .وقد ُق ِب َلتا عىل نطاق واسع يف
أماكن أخرى ،وإن مل يكن دامئًا بحامس ،كام َّ
شكلتا أيضا يف كثري من األحيان أشياء
كان يجب معارضتها .لفت الرتكيز عىل هذين املفهومني االنتباه بعيدًا عن حقيقة
أيضا .إذ اعترب البعض تفكك االتحاد السوفييتي؛ أن عرص إنهاء االستعامر قد انتهى ً
وأيضا تحرير دوله الست التابعة ألوروبا وظهور روسيا والدول 14التي خلفته؛ ً
الرشقية ،أنها الجولة األخرية من مسار إنهاء االستعامر .لكن آخرين (Jansen
) ،and Osterhammel, 2017: 1 3–22وعىل الرغم من اعرتافهم بأن كال من
إنهاء االستعامر يف العامل الثالث وما بعد االتحاد السوفييتي ينطويان عىل نزع
284
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
الرشعية عن مامرسة الحكم األجنبي ،فإنهم رأوا حالة ما بعد االتحاد السوفييتي
مختلفة عن تفكيك اإلمرباطوريات التي توجد فيها مرتوبوالت مركزية هيمنت
عىل أطراف العامل الثالث .ومع انهيار ما يسمى بـ «العامل الثاين»(٭) .بعد العام
1989أصبح املجتمع الدويل العاملي أكرث انقسا ًما بني مركز العامل األول الذي
يضم االقتصادات الصناعية املتقدمة ،وأطراف العامل الثالث املكون من البلدان
النامية .ضمن هذا السياق كانت الصني مبدئيا التزال تتموضع عىل نحو غامض
يف مكان وسط بني املركز واألطراف.
ضمن هذا اإلطار ،املركز-األطراف ،الذي هيمن عليه تحالف القوة العظمى
الليربالية (الواليات املتحدة) وحلفائها من قوى كربى أخرى (االتحاد األورويب
واليابان) ،ليس من املستغرب أن يكون مثة إعادة إحياء لـ «معيار الحضارة» بعد
العام ،1990عىل الرغم من عدم استخدام نفس لغة الحقبة االستعامرية تلك .إذ
تح َّول «معيار الحضارة» إىل مصطلحات ليربالية أكرث تهذيبا متظهرت يف مصطلحات
حقوق اإلنسان ،والحكم «الرشيد» (أي الدميوقراطية) واملرشوطية .حيث الحظ
الكتاب كيف أصبحت فكرة حقوق اإلنسان متثل «معيا ًرا جديدًا عديد من ُ
للحضارة» (Gong, 1984: 90–3; 2002 ; Donnelly, 1998; Jackson, 2000:
287–93; Keene, 2002: 122– 3, 147– 8; Clark, 2007: 183; Bowden,
) .2009كام عكست املامرسات املرتبطة بالرتويج إلجامع واشنطن Washington
(Consensus٭٭) قبل األزمة املالية للعام 2008مواقف «معيار الحضارة» .وكذلك
فعلت تلك الفكرة التي برزت يف الواليات املتحدة خالل التسعينيات والعقد األول
من القرن الحادي والعرشين ،حيث أكدت أن «عُ ْص َبة» الدميوقراطيات يجب أن
تؤكد مسؤوليتها اإلدارية عىل املجتمع الدويل ;(Ikenberry and Slaughter, 2006
) .Geis, 2013مل يعكس هذا تقليدًا طويل األمد للسياسة الخارجية األمريكية فقط،
(٭) يُقصد به املعسكر الشيوعي أو املعسكر الرشقي ،وهي مجموع الدول الداخلة تحت نطاق االتحاد السوفييتي،
أو تلك البلدان التي كانت تتميز بتبني االقتصاد املوجه[ .املرتجم].
(٭٭) إجامع واشنطن هو مسودة طرحها االقتصادي األمرييك من أصل بريطاين جون وليامسون يف العام 1989
لتكون عالجا ووصفا من عرشة بنود للدول الفاشلة التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية وكيفية تنويع
اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية ،باإلضافة إىل دعوته البنك الدويل وصندوق النقد الدويل لتبني هذه البنود.
[املرتجم].
285
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أيضا سياسة الواليات املتحدة بعد الحرب الباردة املتمثلة يف توسيع مجالبل عكس ً
الدميوقراطية التي بدأها بيل كلينتون ،واستمر فيها بطريقة أكرث عدوانية جورج
دبليو بوش (.)Bouchet, 2013; Lynch, 2013
ولكن ما بدا يف البداية أنه انفتاح نحو تحقيق الغائية الليربالية ،رسعان
ما تحول إىل يشء أكرث تعقيدًا وتحد ًيا .فبعد نهاية الحرب األيديولوجية بني
الرشق والغرب ،انهار التوتر السائد عامل ًيا بني الشيوعية الشمولية والليربالية
الدميوقراطية اللتني هيمنتا عىل املجتمع الدويل العاملي ملدة نصف قرنً .
وبداًل
من ذلك ،كان مثة عودة إىل القومية والدين والنعرة الحضارية وسياسات الهوية.
ممزوجا باستياء ما بعد فرتة االستعامر ،ويف بعض ً غال ًبا ما كان هذا املركب
األحيان كان مصحو ًبا بالعنف الشديد .يف بعض النواحي ويف بعض األماكن
ظهر اإلسالم ليحل محل الشيوعية كقطب فكري مضاد للمرشوع الليربايل.
ويف أماكن أخرى ،وعىل األخص يف الصني وروسياُ ،ق ِبلت الرأساملية ولكن ليس
الدميوقراطية ،مام خلق مرة أخرى انقسا ًما سلطو ًيا /دميوقراط ًيا داخل العامل
الرأساميل .وقد بدأ صعود الصني الرسيع نحو الرثوة والقوة يف التشكيك يف
الهيمنة الغربية عىل نحو أكرث برو ًزا مام كان عليه صعود اليابان سابقا .ورسعان
ما ساءت عملية التصالح املأمول بني الغرب وروسيا ،وبدأت القوى الصاعدة يف
فرض نفسها ضد الهيمنة الغربية .وهو ما أثبت وعىل نحو رسيع خطأ غطرسة
فوكوياما الليربالية بشأن «نهاية التاريخ».
286
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
- 2 - 1املركز
خالل فرتة الحرب الباردة ،كانت موضوعات القطبية الثنائية للقوتني العظميني
والتطور الرسيع لألسلحة النووية يهيمنان عىل املركز .وبعد العام 1989تالىش
االهتامم بشأن األسلحة النووية وحروب القوى العظمى ،عىل الرغم من أن املخاوف
بشأن االنتشار النووي ووقوعه يف أيدي الدول األخرى ظلت قوي ًة (Buzan and
) .Hansen, 2009: 239–43لقد أفسحت «القطبية الثنائية» الطريق أمام «القطبية
األحادية» ،ولكن مثلام حاججنا يف الفصل الخامس بأن القطبية الثنائية فشلت
يف االستيالء عىل جزء كبري من بنية املجتمع الدويل العاملي فرتة الحرب الباردة،
فلم تكن األحادية القطبية متثل وص ًفا دقي ًقا للبنية الدولية فرتة ما بعد الحرب
الباردة .إن فكرة التفريق الفردي بني القوى العظمى وجميع الدول األخرى أهملت
ببساطة كثريا من األشياء .لقد كان التوصيف األفضل للمجتمع الدويل العاملي بعد
العام 1989هو وجود القوة العظمى األوحد (الواليات املتحدة) ،وعديد من القوى
الكربى (االتحاد األورويب ،والصني ،وروسيا ،وميكن القول بدرجة أكرب اليابان والهند)
وأعداد كبرية جدًا من القوى اإلقليمية (مثل الربازيل وإندونيسيا ،وإيران ،ونيجرييا،
وباكستان ،وجنوب أفريقيا ،وتركيا) ;(Layne, 1993, 2006; Huntington, 1999
) .Buzan and Wæver, 2003; Buzan, 2004aلو كانت الواليات املتحدة تشكل
القوة العظمى الوحيدة يف عامل ليس فيه قوى كربى ويحتوي فقط عىل قوى إقليمية،
لكانت بالفعل غري مقيدة نسب ًيا .ولكن مع وجود مجموعة من القوى الكربى يف
أيضا ،وإحداها الصني التي كانت قوة صاعدة برسعة ،كانت الواليات املتحدة اللعبة ً
تتمتع مبركز مهيمن لكنه بعيد عن القيادة .وعىل رغم ذلك ،خالل التسعينيات ويف
أعقاب انتصار الرأساملية يف الحرب الباردة ،كان لألحادية القطبية بعض املصداقية.
فقد دعمت اآلمال والخطط الليربالية لتوسيع املجال الدميوقراطي الليربايل ،وعززت
انجرا ًفا ً
قاتاًل نحو النزعة االنفرادية داخل الواليات املتحدة والتي تبلورت يف عهد
إدارة بوش االبن (.)2009-2001
يف غضون هيمنة القطبية األحادية ،كان مثة خطاب يدعو إىل نظام عاملي
«متعدد األقطاب» تبنته كل من روسيا والصني وفرنسا وإيران والهند وغريها من
الدول املعارضة لهيمنة الواليات املتحدة (.)Ahrari, 2001; Ambrosio, 2001
287
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كانت لهذه القوى أسباب مختلفة متا ًما تقف وراء تبني تلك الدعوة للتعددية
القطبية ،عىل الرغم من أن أيا منها مل يكلف نفسه عناء وضع أي رؤية متامسكة
أو تصور بشأن أي نوع من املجتمع الدويل العاملي كانوا يريدونه .كان القاسم
املشرتك أنهم يريدون مزيدا من االستقاللية و /أو مزيدا من املكانة والصوت
ألنفسهم وملناطقهم داخل املجتمع الدويل العاملي .يف حالة البعض ،ال سيام روسيا
والصني وإيران والهند ،كان النص الضمني غري املخفي هو أنهم يريدون مزيدًا من
النفوذ داخل مناطقهم ،وتقليل الخضوع للقواعد والتدخالت األمريكية .ويف حني
أن القطبية األحادية كتوصيف لبنية املجتمع الدويل العاملي رمبا تكون قد أربكت
املشهد أكرث مام أوضحته ،فإنها ظلت صحيحة عىل األقل حتى العام ،2008ذلك
أن عالقات جميع القوى الكربى مع الواليات املتحدة كانت أكرث أهمية من عالقاتها
بعضها مع بعض .وعىل هذا األساس ،من املجدي يف هذا القسم الفرعي أن نراجع
بإيجاز كال من هذه العالقات الثنائية للقوى العظمى مع الواليات املتحدة؛ ألن
مثل هذه املراجعة ال تكشف فقط الحقيقة املختفية وراء االدعاء القائل باألحادية
القطبية ،ولكنها تكشف ً
أيضا اآللية الكامنة وراء التآكل املستمر لذلك االدعاء.
سنبدأ بأولئك األكرث معارضة للواليات املتحدة (روسيا والصني) ،ثم نتطرق إىل أولئك
املتحالفني معها (أوروبا واليابان) ،وننتهي مع الهند ،وهي قوة صاعدة حاولت فرتة
طويلة سلوك مسا ٍر أكرث حيادية.
- 2 - 2روسيا
إن قصة العالقات الروسية -األمريكية هي لعبة ذات شقني ،يغطي الشق
األول منها فرتة الضعف الرويس يف أعقاب انهيار االتحاد السوفييتي يف العام
،1991بينام يركز الشق الثاين عىل انتعاش روسيا يف العقدين األول والثاين من
هذا القرن .خالل التسعينيات كانت روسيا تعيش حالة فوىض سياسية واقتصادية،
حاولت خاللها العثور عىل صيغة انتقال من الشيوعية إىل شكل من أشكال
الدميوقراطية والرأساملية .لقد انهار اقتصادها وقوتها العسكرية ،وكانت قيادتها
السياسية ضعيفة .وقد حافظت املفاوضات الجارية مع الواليات املتحدة بشأن
تخفيضات األسلحة النووية عىل بعض الوهم الخاص بتمتعها بوضعها السابق كقوة
288
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
عظمى ،لكن موقف روسيا كان ضعي ًفا ألنها ال تستطيع اآلن تحمل أعباء حتى تلك
األسلحة التي متتلكها .لقد فقدت روسيا مجال نفوذها يف أوروبا الرشقية يف العام
،1989وكان من الواضح منذ البداية أن أتباعها السابقني ،ويف الواقع حتى بعض
األجزاء املكونة لالتحاد السوفييتي السابق ،سيصطفون إىل جانب الغرب .شهدت
فرتة التسعينيات وأوائل العقد األول من القرن الحادي والعرشين إعادة تنظيم
هائلة ملناطق النفوذ بني «الناتو» /االتحاد األورويب وروسيا ;(MacFarlane, 1993
) .Fierke, 1999فقد توحدت أملانيا مرة أخرى يف العام ،1989مام أدى إىل انضامم
أملانيا الرشقية السابقة إىل كل من «الناتو» واالتحاد األورويب .وبعد اضطالعها
باالستعدادات الالزمة ،انضمت بولندا وجمهورية التشيك واملجر إىل «الناتو» يف
العام 1999؛ وانضمت إستونيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا والتفيا
وليتوانيا يف العام 2004؛ وألبانيا وكرواتيا يف العام .2017كام انضمت جمهورية
التشيك وإستونيا واملجر والتفيا وليتوانيا وبولندا وسلوفاكيا إىل االتحاد األورويب
يف العام 2004؛ وبلغاريا ورومانيا يف العام .2007وقد انسحبت الواليات املتحدة
من معاهدة الصواريخ املضادة للصواريخ الباليستية مع روسيا يف العام ،2002ثم
بدأ «الناتو» يف التحرك نحو تثبيت دفاعات صاروخية كانت ظاهر ًيا موجهة ضد
إيران ،لكن روسيا عارضتها بشدة عىل أساس أنها ق َّوضت قدراتها الردعية .ويف ظل
نظام القطبية األحادية األمرييك ،كانت روسيا الضعيفة بالكاد متمسكة بوضعها
كقوة كربى .فقد تراجع نفوذها ،ومل تتلقَ املساعدة االقتصادية املتوقعة من الغرب،
وتوغلت مغازلة «الناتو» مع أوكرانيا وجورجيا لتصل عىل نحو أعمق إىل مجال
النفوذ التقليدي لروسيا.
بدأ الشق الثاين للعالقات الروسية -األمريكية مع بداية القرن الحادي والعرشين،
حيث بدأت روسيا ،املستفيدة من طفرة السلع التي يغذيها منو الصني ،يف استعادة
بعض قوتها تحت قيادة فالدميري بوتني .كان هدفها هو أن تكون دولة رأساملية
استبدادية ممزوجة بنظرة قومية متزايدة معادية للغرب متعلقة بالسياسات
العامة .وبينام استعادت روسيا بعض قوتها السابقة ،مل تكن بالتأكيد تشكل «قوة
صاعدة» مثل الصني أو الهند عىل الرغم من إدراجها ضمن دول الربيكس BRICS
(الربازيل؛ وروسيا؛ والهند؛ والصني؛ وجنوب أفريقيا) .إذ كانت يف أحسن األحوال
289
تشكيل العالقات الدولية العاملية
متثل قوة تشهد تعافيا ،وظلت إىل حد كبري ُمصدرة للسلع األساسية ،وعرضة عىل
نحو خاص لتقلبات السوق يف أسعار النفط .وعىل عكس الصني ،كانت رأسامليتها
ضحلة وغري قادرة ح ًقا عىل توليد الرثوة والقوة كاقتصاد حديث متكامل .لقد كان
عدد سكانها يتقلص ،وعىل النقيض من العام 1945حينام كانت محاطة بجريان
ضعفاء ،أصبحت اآلن محاطة بدول صار معظمها يبيل َب َال ًء َح َسنًا -حتى أفضل
مام كانت تفعله روسيا نفسها -يف التعامل مع الحداثة بطرق كانت أكرث فعالية يف
توليد الرثوة والقوة.
وعىل رغم ذلك ،كان تعايف روسيا تحت حكم بوتني بدءا من العام 2000كاف ًيا
لتمكينها من البدء يف فرض نفسها داخل إقليمها والقتال ضد الواليات املتحدة
تجسدت األخرية يف والغرب .لقد استخدمت الوسائل العسكرية والفكرية ،وقد َّ
تصاعد نزعتها القومية وإعادة تعريف هويتها خارج إطار الغرب (وهذا من شأنه
أن يعيد تشكيل التفكري الرويس يف حقل العالقات الدولية ،كام سيناقش ذلك يف
الفصل الثامن) .ومل تكن روسيا متلك القوة الكافية ليك تتحدى الغرب اقتصاد ًيا أو
سياس ًيا ،بل كانت متلك قوة كافية وعىل نحو محدود فقط يف الجانب العسكري.
لكنها كانت قوية مبا يكفي لتصبح مصدر إزعاج كبري ،وقد رشعت يف ذلك مبجرد
أن ُأتيحت لها الفرصة .كان أحد أجزاء القتال الرويس ضد الغرب هو إرباك توسع
«الناتو» /االتحاد األورويب يف مجال نفوذ روسيا السابق والعمل عىل زعزعة استقرار
ذلك التوسع .وفعلت روسيا ذلك من خالل عديد من األعامل مثل الهجوم السيرباين
يف العام 2007عىل إستونيا؛ واستئناف جس النبض العسكري املنتظم لدفاعات
«الناتو» من قبل قواتها الجوية والبحرية؛ والتدخل الخفي يف السياسات األوروبية
من خالل دعم األحزاب السياسية اليمينية املتطرفة .جزء آخر من هذا القتال كان
أكرث حزما ،وقد متثل يف العمل عىل وقف أي توسع إضايف لحلف شامل األطليس/
االتحاد األورويب رشقا .حيث غزت روسيا جورجيا يف العام ،2008وفصلت عنها
أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ،ورسخت هيمنتها اإلسرتاتيجية يف القوقاز.
أقدمت روسيا عىل خطوة أكرب بكثري يف العام ،2014عندما غزت جزئ ًيا
أوكرانيا وضمت شبه جزيرة القرم .لقد أقدمت روسيا عىل فعل ذلك بالتنسيق مع
االنفصاليني املوالني لروسيا يف رشق أوكرانيا ،مام خلق حالة من عدم اليقني املستمر
290
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
بشأن ما إذا كانت روسيا تريد إضعاف البالد أو تفتيتها أو تهيئة الظروف التي ميكن
من خاللها دمج أوكرانيا ككل ضمن االتحاد الرويس .كان ُينظر إىل هذه الخطوة
يف الغرب عىل أنها انتهاك كبري لحرمة الحدود كمبدأ عام للمجتمع الدويل العاملي.
وقد أدت إىل تدهور حاد يف عالقات روسيا مع الغرب .حيث ُطردت روسيا من
مجموعة الثامين ،النادي االقتصادي للقوى الرأساملية الرائدة ،والتي كانت روسيا
عض ًوا فيها منذ العام .1998باإلضافة إىل ذلك ،فرض الغرب عقوبات ضد روسيا ،كام
زاد حلف شامل األطليس من نشاطه يف أوكرانيا .الواقع أن أوكرانيا أصبحت موضوع
شد وجذب بني «الناتو» وروسيا .ومن خالل هذه الخطوة ،قطعت روسيا عىل نحو
أسايس العالقات مع أوروبا التي كانت قد أقيمت خالل التسعينيات ،ووضعت
نفسها مرة أخرى كقوة معادية تهدد «الناتو» ،وخاصة دول البلطيق واالتحاد
األورويب .لقد دفع هذا االنقطاع بروسيا إىل تعميق عالقاتها مع الصني ،حيث شكلت
عىل نحو متزايد رشي ًكا صغ ًريا يف مرشوع بكني املناهض لهيمنة الواليات املتحدة.
وقد واصلت روسيا هذا املسار عرب تدخل تصعيدي كبري يف الحرب األهلية السورية
يف العام 2015لدعم حكم األسد .كام ُيعتقد عىل نطاق واسع أنها حاولت التأثري
يف االنتخابات الرئاسية األمريكية العام ،2016وهو موضوع تحقيقات جارية حتى
وقت كتابة هذا الكتاب(٭).
لقد كان ضعف روسيا ألكرث من عقد بعد نهاية الحرب الباردة جز ًءا مام جعل
املجتمع الدويل العاملي يبدو أحادي القطب .إن تعافيها خالل العقد األول من
(٭) انتهت التحقيقات يف العام 2019بنرش تقرير مولر ،املعروف يف الدوائر الرسمية يف أمريكا باسم «تقرير عن
التحقيق يف التدخل الرويس يف االنتخابات الرئاسية للعام ،»2016وهو تقرير رسمي يوثق نتائج واستنتاجات تحقيق
املستشار القانوين الخاص روبرت مولر يف الجهود الروسية للتدخل يف انتخابات الواليات املتحدة الرئاسية للعام ،2016
ويف مزاعم التآمر أو التنسيق بني حملة دونالد ترامب الرئاسية والحكومة الروسية ،وادعاءات تتهم ترامب بعرقلة سري
العدالة ،وكذلك «يف أي أمور نشأت أو قد تنشأ مبارشة من التحقيق» .وكان النائب العام للواليات املتحدة وليام بار
ووزارة العدل األمريكية قد أصدرا نسخة ُم َن ّقحة من التقرير املكون من 448صفحة يف 18أبريل .2019ويتضمن
التقرير مجلدين :املجلد األول (يتكون من الصفحات )207-1يركز عىل التدخل الرويس واملسائل التي تتعلق بالتآمر،
واملجلد الثاين (يتكون من الصفحات )448-208ملناقشة العرقلة املحتملة لسري لعدالة .خلص التقرير إىل أن التدخل
الرويس يف االنتخابات الرئاسية للعام 2016قد حدث «بطريقة شاملة ومنتظمة» و«انتهك القانون الجنايئ األمرييك»،
ورسد طريقتني حاولت روسيا عن طريقهام التأثري يف نتائج االنتخابات :أوال ،عن طريق حملة شنتها وكالة أبحاث
اإلنرتنت ( )IRAالروسية عىل وسائل التواصل االجتامعي من أجل «تضخيم الخالف السيايس واالجتامعي» ،وثان ًّيا عن
طريق «القرصنة اإللكرتونية» أو اخرتاق حواسيب حملة هيالري كلينتون الرئاسية ومنظامت الحزب الدميوقراطي
األمرييك وإطالق رسائل الربيد اإللكرتوين الخاصة بهام يف توقيت حساس من الحملة االنتخابية[ .املرتجم].
291
تشكيل العالقات الدولية العاملية
القرن الحادي والعرشين ،وموقفها القوي عىل نحو متزايد ضد الواليات املتحدة
والغرب ،وتحولها إىل بناء رشاكة إسرتاتيجية مع الصني باعتبارها تشكل مفتاح
عالقتها الدولية ،مثلث كلها أجزاء من منط يؤرش إىل ظهور حقبة ما بعد الغرب.
- 2 - 3الصني
يف الفصل الخامس وصفنا الصني بأنها الغريب الغامض الذي ال ينسجم عىل
نحو مريح مع ِص َيا َغة القطبية الثنائية أو ِص َيا َغة العامل الثالث .فبمجرد أن تعافت
الصني من االنتكاسة املؤقتة للعام ،1989رسعان ما جعلها منوها االقتصادي املطرد
والرسيع جدا ليس فقط واحدة من القوى الكربى يف النظام «األحادي القطب»،
أيضا وعىل نحو متزايد الطرف الذي يعتقد أنه من املرجح أن ولكن جعل منها ً
يتحدى الواليات املتحدة عىل الصعيدين املادي والسيايس .لقد خلق هذا ازدواجية
غريبة يف العالقات بني الواليات املتحدة والصني .فمن ناحية ،أصبح البلدان مرتبطني
اقتصاد ًيا عىل نحو متزايد .حيث فتحت الواليات املتحدة أسواقها أمام الصني ،مام
سمح للزعيم الصيني دنغ وخلفائه باتباع إسرتاتيجية منو ناجحة للغاية تقودها
الصادرات .وهكذا ،أصبحت الصني أحد املستفيدين الرئيسني من العوملة من خالل
قدرتها عىل ربط اقتصادها باألنظمة التجارية واملالية التي تقودها الواليات املتحدة.
وقد عُ ِّوض العجز التجاري الذي نتج عن هذا األمر بالنسبة إىل الواليات املتحدة
من خالل مشرتيات الصني الضخمة من سندات الخزانة األمريكية (Shirk, 2007:
) 25; Foot and Walter,188 2011: 18والواردات الصينية الرخيصة التي أدت إىل
خفض تكاليف االستهالك وإبقاء معدالت التضخم منخفضة .وعىل رغم أن الصني
منافسا للواليات املتحدة ،فقد أبرمت واشنطن مع بكني النوع نفسه من ً شكلت
الصفقة االقتصادية التي أبرمتها واشنطن مع حليفتها اليابان خالل الحرب الباردة.
من ناحية أخرى ،وفيام يتعلق بالعالقات السياسية واإلسرتاتيجية ،كان مثة أوجه
تشابه مثرية لالهتامم بني اليابان يف فرتة ما بني الحربني العامليتني والصني ما بعد
حكم ماو تيس تونغ يف كيفية ارتباطهام بالواليات املتحدة .فقد أرادت كل من
اليابان بني الحربني العامليتني والصني املعارصة التفوق يف آسيا ،ومل تستطيعا تجنب
التنافس مع الواليات املتحدة التي كانتا تعتمدان عليها اقتصاد ًيا ،والتي كانت ً
أيضا
292
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
رئيسا يف املنطقة ( .)Buzan, forthcomingخالل هذه الفرتة تحركت الصني الع ًبا ً
بوضوح للتموضع داخل املركز ،حيث إنها تتشارك حسابات القوى الكربى األخرى
وضوحا للواليات
ً نفسها ،فنموها االقتصادي الهائل جعلها املنافس املحتمل األكرث
املتحدة .وقد ابتعدت عن األطراف مع انطالق تطورها ،عىل رغم استمرارها يف
تعريف نفسها بطرق عديدة عىل أنها دولة نامية .من الصحيح عمو ًما القول إن
السياسة يف الصني مدفوعة يف املقام األول باالعتبارات السياسية املحلية ،ومن
أوضحها رغبة الحزب الشيوعي الصيني وحاجته إىل سحق أي تحديات قد تواجه
بقاءه يف السلطة إىل األبد .وقد أدى هذا العامل املحيل إىل ظهور ازدواجية غريبة
يف العالقات الصينية -األمريكية .فقد احتاج الحزب الشيوعي الصيني إىل النمو
االقتصادي لتعزيز رشعيته بعد أن ُت ُخ ِّيِّل عن الحرب الطبقية واالقتصاد املاركيس،
مام جعله يعتمد عىل النظام االقتصادي العاملي لواشنطن .لكن الحزب الشيوعي
أيضا إىل النزعة القومية لتعزيز الوحدة الوطنية يف أثناء االضطرابات الصيني احتاج ً
التي رافقت التحول االقتصادي ،مام م َّهد الطريق لعالقة سياسية متوترة ورسيعة
االنفعال مع الواليات املتحدة .من جهتها ،كان موقف الواليات املتحدة ممز ًقا بالقدر
نفسه ،حيث رحبت بالصني باعتبارها إضافة رئيسة لالقتصاد العاملي الرأساميل،
لكنها أبدت قلقا إزاءها كمنافس اقتصادي وعسكري /سيايس ،وعىل نحو متزايد
كمنافس لتفوق واشنطن العاملي.
ومن األمثلة الواضحة عىل هذه االزدواجية الفوضوية هو املسار الذي أدخل
الصني إىل منظمة التجارة العاملية يف ديسمرب ،2001ومن ثم أضفى الطابع
الرسمي عىل اندماجها يف النظام االقتصادي الغريب .كانت الصني قد تقدمت
بطلب ألول مرة يف العام ،1995وهو العام الذي ح َّلت فيه منظمة التجارة
العاملية محل اتفاقية الجات (حيث كانت الصني مراق ًبا) .إذ كانت الصني تأمل
ؤس ًسا يف منظمة التجارة العاملية ،لكن القوى الغربية واليابان أن تكون عض ًوا ُم ِّ
عرقلت ذلك ،حيث طالبت مبزيد من اإلصالحات لالقتصاد الصيني الذي اليزال
يتمتع بحامئية وإدارة للدولة كبريين .وقد ض َّيعت إدارة كلينتون فرصة التوصل
إىل اتفاق يف أوائل العام ،1999وعمدت إىل إذالل رئيس الوزراء الصيني تشو
رونغجي Zhu Rongjiخالل هذا املسار .كان عىل واشنطن أن تقبل بصفقة
293
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أقل فائدة مع الصني يف وقت الحق من العام نفسه ،بعد أن أدى قصف الواليات
املتحدة لسفارة الصني يف بلغراد إىل مزيد من توتر العالقات بني البلدين (Shirk,
) .2007: 192, 228–31كانت عملية االنضامم إىل منظمة التجارة العاملية صعبة
وشاقة بالنسبة إىل الصني ،مام تطلب منها فتح اقتصادها عىل نحو أكرب من معظم
البلدان النامية األخرى ،وأيضا إصالح عديد من املؤسسات واملامرسات قبل أن
تتمكن من االنضامم ) .(Shirk, 2007: 132; Westad, 2012: loc. 6179وقد
كان االنضامم إىل منظمة التجارة العاملية خطوة رئيسة للدفع باإلصالحات التي
أقدمت عليها الصني أيضا يف انفتاحها ،حيث ألزمتها بنظام تجاري عاملي متعدد
األطراف ،ومنحتها دفعة كبرية بالنسبة إىل اقتصادها وتنميتها.
وعىل الرغم من النتيجة الناجحة ،كان مثة متسع كبري من االختالفات يف
وجهات النظر بشأن هذه العملية برمتها .فقد رأت الواليات املتحدة نفسها عىل
أنها استوعبت بسخاء قوة صاعدة غري ليربالية من خالل السامح لها بالدخول إىل
النظام التجاري واملايل العاملي (;Shirk, 2007: 25; Kissinger, 2011: 487–503
.)Westad, 2012: locs. 5962, 6150وكان موقف الصني منقسام ،حيث اعتنق
البعض االلتزام بالعوملة باعتبارها ستعزز إصالحات الصني وسعيها وراء الرثوة والقوة.
وعىل رغم ذلك ،رأى صينيون آخرون من ذوي النزعة القومية أن الصني تعرضت
للتخويف من أجل تقديم تنازالت حينام كانت التزال ضعيفة ،وأنه قد ُف ِرض عليها
أمر مل يكن من صنعها .كان هناك استياء كبري يف الصني بشأن طول ورشوط عملية
انضاممها ،حيث قارنها البعض باإلهانة التي تعرضت لها الصني بسبب «املطالب
الواحد والعرشين» التي طرحتها اليابان خالل الحرب العاملية األوىل (Shirk, 2007:
) .230كان من نتائج انضامم الصني زيادة العجز التجاري األمرييك مع الصني إىل
درجة أنه أصبح «متفج ًرا سياس ًيا» يف السياسة الداخلية للواليات املتحدة (Shirk,
) .2007: 249ومع ازدياد قوة الصني ،زاد ذلك الشعور القومي باالستياء من إجبار
بكني عىل اتباع قواعد مل تشارك يف إيجادها .لقد انضمت الصني إىل منظمة التجارة
العاملية كاقتصاد غري سوقي ،وهو األمر الذي عرضها لعديد من االدعاءات بتسببها
يف الكساد ( .)Shirk, 2007: 276–7; Shambaugh, 2013:160وعندما انتهت
هذه الحالة تلقائ ًيا يف العام 2016فتحت نزاعًا مستم ًرا بني ادعاء الصني القائل إنه
294
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
يجب التعامل معها اآلن باعتبارها اقتصا َد سوق ،و َز ْع ِم الواليات املتحدة واالتحاد
تستوف هذا املعيار بعد.
ِ األورويب أن الصني مل
واضحا عىل نحو أكرب ً لقد كان التنافس الحاد بني الصني والواليات املتحدة
يف سلسلة من املشاحنات يف القطاعني العسكري واإلسرتاتيجي .وعىل الرغم من
إسقاط الخطاب الثوري من السياسة الخارجية للصني ملا بعد حكم ماو تيس ،فإنه
كان مثة كثري من االستمرارية يف الشد والجذب العسكري /اإلسرتاتيجي الذي م َّيز
العالقات األمريكية -الصينية طوال فرتة حكم ماو تيس .ومبجرد زوال االتحاد
السوفييتي ،رسعان ما تبدد ذلك الجو الذي ساد خالل السبعينيات والثامنينيات،
عندما تحالفت الصني والواليات املتحدة ضد االتحاد السوفييتي .وظلت التوترات
بني الواليات املتحدة والصني بشأن تايوان سمة دامئة ،متا ًما كام فعلت تحالفات
الواليات املتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية .كانت للصني مشكلة تاريخية خاصة
بها مع اليابان ،ووجد الحزب الشيوعي الصيني أن نرش القومية املعادية لليابان بني
الشعب الصيني من خالل برامج مستدامة «للتعليم الوطني» كانت طريقة مفيدة
للتوفيق بني انقسامات التاريخ السيايس املحيل للصني ،وسد الفجوة بني حزب
الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني يف معارضتهام املشرتكة لإلمربيالية اليابانية
( .)Wang, 2008, 2012وكان موقف بكني منقسام بشأن ما إذا كان التحالف بني
الواليات املتحدة واليابان أم ًرا جيدًا (ألنه ق َّيد أي إحياء للنزعة العسكرية اليابانية)
أو سيئًا (ألنه كان جز ًءا من مؤامرة أمريكية الحتواء صعود الصني)َ .ت َلت ذلك
اشتباكات معقدة انجذبت فيها الواليات املتحدة إىل الخالفات الصينية -اليابانية
بشأن جزر سينكاكو /دياويو ،والتزمت فيها اليابان عىل نحو متزايد بدعم الواليات
املتحدة يف الدفاع عن تايوان.
وقد متظهرت االحتكاكات العسكرية /اإلسرتاتيجية الرئيسة بني الواليات املتحدة
والصني خالل هذه الفرتة فيام ييل:
-مضيق تايوان .1996بعد خالف وقع بني الواليات املتحدة والصني (وداخل
الواليات املتحدة) يف العام 1995بشأن منح تأشرية للرئيس التايواين يل تنغ هوي،
أجرت الصني تجارب صاروخية قبالة سواحل تايوان يف العامني 1995و ،1996كان
بعضها قريبا مبا يكفي لتعطيل عمليات الشحن يف موانئ تايوان ،وقد كان يهدف
295
تشكيل العالقات الدولية العاملية
جزئ ًيا إىل تخويف الناخبني يف انتخابات تايوان يف العام .1996ردت الواليات املتحدة
بإرسال حاملتي طائرات إىل املنطقة ،وإبحار إحداهام عرب مضيق تايوان .خرست
الصني هذه األزمة .ومل ُتظهر الواليات املتحدة تفو ًقا بحر ًيا فقط ،بل زادت شعبية يل
تنغ هوي ،وتعمقت العالقات األمنية بني الواليات املتحدة واليابان وتايوان.
-تفجري السفارة يف بلغراد .1999يف مايو 1999قصفت الواليات املتحدة السفارة
الصينية يف بلغراد خالل حربها الجوية ضد رصبيا .كان هناك كثري من الغضب
الشعبي الصيني -بتشجيع من الحكومة الصينية -حيال الفعل والوفيات .مل ُمُتنح
استهداف تم عن طريق الخطأ إال القليل من املصداقية يف ٍ املزاعم األمريكية بشأن
الصني .ويف نهاية املطافُ ،س ِّوي هذا الحادث ديبلوماسيا مع دفع الواليات املتحدة
تعويضات عن األرضار التي لحقت بالسفارة الصينية والقتىل والجرحى ،ودفعت
الصني تعويضات للواليات املتحدة عن األرضار التي لحقت بسفارتها يف بكني نتيجة
لالحتجاجات الشعبية التي مل يج ِر احتواؤها من قبل الرشطة.
-حادث الطائرة يف أبريل ،2001التي اصطدم بها مقاتل صيني كان يضايق
طائرة استخبارات أمريكية من طراز EP-3فوق بحر الصني الجنويب ،مام أسفر
عن مقتل الطيار املقاتل وإلحاق الرضر بالطائرة ،EP-3مام اضطرها إىل الهبوط
االضطراري يف جزيرة هاينان .احتجزت الصني طاقم الطائرة أكرث من أسبوع ،وأعادت
فقط الطائرة EP-3املفككة يف يوليوُ .س ِّويت هذه القضية ديبلوماس ًيا بعد اإلدالء
ببعض الخطابات الساخنة.
-بناء جزيرة يف بحر الصني الجنويب من طرف الصني ،واألزمة مستمرة منذ العام
2010حتى اآلن .يف العام 2010أعادت الصني تعريف بحر الصني الجنويب كمصلحة
وطنية أساسية ميكن مقارنتها بتايوان .ومن العام 2014إىل العام 2016كان هناك
بناء صيني رسيع لعديد من الجزر االصطناعية يف جزر سرباتيلُ ،د ِمجت الح ًقا.
وعرب مزيج من الحوافز االقتصادية والديبلوماسية القرسية ،ا ُّت ِهمت الصني باتباع
سياسة ف ِّرق تسد تجاه رابطة دول جنوب رشق آسيا (آسيان) فيام يتعلق بقضية
رئيسا)
بحر الصني الجنويب ،حيث انحازت كمبوديا والفلبني (بعد انتخاب دوترييت ً
إىل جانب الصني .لقد َّأجلت الصني إبرام مدونة سلوك ملزمة بشأن بحر الصني
الجنويب مع رابطة دول جنوب رشق آسيا بحجة أن التوقيت مل يكن مناسبا ،مشري ًة
296
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
إىل عدم وجود وحدة داخل الرابطة .وقد بدأت الواليات املتحدة عمليات حرية
املالحة قبالة الجزر من أكتوبر ،2015مع اإلبحار املنتظم لسفنها الحربية عرب املياه
التي تطالب بها الصني اآلن ،ولكن الواليات املتحدة مل تعرتف بها .ويف يوليو 2016
حكمت محكمة اتفاقية األمم املتحدة لقانون البحار يف قضية رفعتها الفلبني ضد
مطالبات صينية يف بحر الصني الجنويب ،لكن الصني رفضت هذا الحكم ،وعمدت
إىل مالطفة الحكومة الفلبينية حتى هدأت والتزمت الصمت بشأن هذه القضية.
-منطقة الحظر الجوي .2013يف نوفمرب من هذا العام فرضت الصني منطقة
متييز للدفاع الجوي ADIZعىل نحو صارم وغري معتاد عىل معظم بحر الصني
الرشقي ،مبا يف ذلك الجزر سينكاكو /دياويو املتنازع عليها مع اليابان .مل تعرتف
الواليات املتحدة مبنطقة متييز الدفاع الجوي تلك وحلقت طائرتان من طراز B-52
عرب املنطقة يف نوفمرب ،عىل الرغم من تكيف الخطوط الجوية التجارية إىل حد كبري
مع هذا الوضع الجديد.
عىل الرغم من هذه االحتكاكات ،كان هناك بعض التعاون بني الواليات املتحدة
والصني ،ال سيام يف املحادثات السداسية األطراف بشأن املشكلة النووية لكوريا
الشاملية بني العامني 2003و .2009لكن الصينيني كانوا ،وعىل نحو متزايد ،يفضلون
سلوك طريقهم الخاص .لقد تعاونوا مع روسيا يف مجلس األمن التابع لألمم املتحدة
للدفاع عن أنفسهم ضد الضغط الغريب عىل نحو عام ،وللتغطية عىل التدخالت
الروسية يف أوكرانيا وسورية ،ولعرقلة استخدام الغرب سلطة مجلس األمن إلضفاء
الرشعية عىل تدخالته .لقد بدأوا يف تأسيس منظامت حكومية دولية خاصة بهم
تركز عىل الصني لتحدي الهيمنة الغربية يف املجتمع الدويل العاملي ،وعىل األخص
منظمة شنغهاي للتعاون SCOالتي تأسست يف العام ،2001ومجموعة الربيكس
BRICSالتي تأسست يف العامني 2009و ،2010والبنك اآلسيوي لالستثامر يف البنية
التحتية AIIBالذي تأسس يف العام .)Stuenkel, 2016: locs. 2974–3202( 2014
تضم منظمة شنغهاي للتعاون الصني وروسيا وأربع دول من آسيا الوسطى ،مع
انضامم الهند وباكستان يف العام .2017وتضم مجموعة الربيكس الصني وروسيا
والهند والربازيل وجنوب أفريقيا كنوع من التجمع املضاد للغرب .و ُت َعد الصني هي
كاًل من بنك التنميةاالقتصاد املهيمن إىل حد بعيد يف هذه املجموعة ،التي أنشأت ً
297
تشكيل العالقات الدولية العاملية
298
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
للواليات املتحدة (Gao, 2013; Pieke, 2016: 164–5; Stuenkel, 2016: locs.
) .3985–4041وبرغم أن الصينيني قد ال يتقبلون هذه املقارنة ،فإنه من املمكن
رؤية بعض أوجه الشبه بني مبادرة الحزام والطريق واإلسرتاتيجية القارية لليابان
خالل الثالثينيات واألربعينيات من القرن املايض ،والتي حملت عنوان «مجال
االزدهار املشرتك لرشق آسيا» .إذ إن كلتيهام تهدف إىل تقديم نفسها باعتبارها
تشكل جوهر االقتصاد القاري يف آسيا القادر عىل الوقوف ضد الواليات املتحدة.
- 2 - 4أوروبا واليابان
ميكن رسد قصص أوروبا واليابان يف عالقتهام بالواليات املتحدة بإيجاز ألنها
تدور عىل نحو أسايس حول استمرار العالقات التي شكلتها الحرب الباردة .فقد
متكن كل من حلف «الناتو» والواليات املتحدة واليابان من الصمود عىل الرغم من
نهاية الحرب الباردة.
وكام لوحظ سابقا ،لقد توسع «الناتو» ليس فقط يف مجال النفوذ السوفييتي
السابق يف أوروبا الرشقية ،ولكن أيضا يف أجزاء من االتحاد السوفييتي السابق
نفسه .ونجح هذا التحالف يف إعادة توجيه نفسه باعتباره وسيلة للتضامن من
أجل شامل األطليس والرأساملية الدميوقراطية الليربالية ،وظل نشطا بطرق متنوعة.
مل يكن «الناتو» مشاركا يف «تحالف الراغبني» بقيادة الواليات املتحدة الذي رد عىل
غزو العراق للكويت ( .)1991-1990لكن بريطانيا وفرنسا كانتا عضوين رئيسني يف
ذلك التحالف ،كام شارك أيضا عديد من أعضاء «الناتو» اآلخرين .وقدمت الواليات
املتحدة بدورها الدعم العسكري من خالل «الناتو» يف التدخالت يف البوسنة
) ،(1994-1992ويف العام 1999يف كوسوفو ،حيث كشف تفكك يوغوسالفيا
الفوضوي اعتامد أوروبا العسكري املستمر عىل الواليات املتحدة .وقد استند حلف
«الناتو» إىل املادة ( 5الدعم املتبادل لعضو تعرض للهجوم) ردا عىل هجوم 11
سبتمرب اإلرهايب عىل الواليات املتحدة يف العام ،2001ودعم الواليات املتحدة يف
الغزو الالحق ألفغانستان .كام توىل قيادة قوة املساعدة األمنية الدولية من العام
2003إىل العام .2014ب ْيد أن الغزو األمرييك الثاين للعراق يف العام 2003سبب
انقسامات عميقة داخل «الناتو» ،حيث دعمت بريطانيا وبولندا الواليات املتحدة
299
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بقوة ،أما فرنسا وأملانيا ،إىل جانب روسيا ،فقد عارضوا بشدة الغزو األمرييك.
باإلضافة إىل ذلك ،أقدم «الناتو» عىل مهمة تدريبية يف العراق يف الفرتة من العام
2004إىل العام .2011ومنذ العام ،2009دعم أيضا عمليات مكافحة القرصنة يف
خليج عدن واملحيط الهندي .وقد كان «الناتو» نشطا مرة أخرى يف التدخل يف ليبيا
يف العام 2011وفرض منطقة حظر جوي ،حيث متوقعت الواليات املتحدة خالل
تلك العملية يف املقعد الخلفي وتوىل األوروبيون زمام املبادرة .لقد كان «الناتو»
متورطا أيضا يف أوكرانيا ويف تعقيدات العالقات بني أوكرانيا وروسيا منذ بداية القرن،
وذلك عندما أصبحت عضوية أوكرانيا املحتملة يف الحلف قضية سياسية .وكام ُذكر
سابقا ،أصبح هذا السؤال أكرث إلحاحا بعد الهجوم الرويس عىل أوكرانيا يف العام
،2014واليزال ميثل نقطة خالف حادة بني «الناتو» وروسيا.
لقد ألقى االرتباك بظالله عىل مستقبل التحالف بسبب الخطاب غري املتسق
للغاية للرئيس ترامب وسياسة «أمريكا أوال» .حيث ندد ترامب يف بعض األحيان
بحلف شامل األطليس وأشاد به يف أحايني أخرى ،مام أثار الشكوك بشأن استمرار
التزام الواليات املتحدة باملادة الخامسة من ميثاق الحلف .ويف العامني 2017
و ،2018عارض األوروبيون بشدة انسحاب ترامب من املعاهدة النووية مع إيران،
والتي مارست كل من أملانيا وفرنسا وبريطانيا واالتحاد األورويب وكذلك روسيا دورا
رئيسا يف التفاوض بشأنها .وأدى خروج ترامب يف العام 2018من االتفاق إىل فتح
رشخ يف التحالف عرب األطليس يف وقت أصبح يشكل فيه العدو القديم لحلف شامل
األطليس ،وروسيا ،مجددا مصدر قلق أمني لألوروبيني وللواليات املتحدة عىل حد
السواء.
إن قصة التحالف بني الواليات املتحدة واليابان متشابهة مع سابقتها ،لكنها
كانت أبسط .وعىل عكس «الناتو» ،الذي كانت انشغاالته يف األصل تدور حول
التهديد القادم من االتحاد السوفييتي ،كان التحالف األمرييك الياباين منذ االنتصار
الشيوعي يف العام 1949يستهدف الصني .فبعد الحرب الباردة كانت الصني تشهد
صعودا رسيعا ،وكانت تزرع يف الوعي القومي الصيني كراهية تاريخية حيال اليابان.
لقد مرت اليابان بحرب باردة مريحة إىل حد ما ،إذ كانت معزولة يف موقف ميكن
وصفه بنقطة الغرانج بني االتحاد السوفييتي والصني من جهة ،والواليات املتحدة
300
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
من جهة أخرى .كان عىل الواليات املتحدة حاميتها ،وقد حققت اليابان مكاسب
اقتصادية ،سواء من خالل الحروب األمريكية يف كوريا وفيتنام ،أو من خالل إبقاء
نفقاتها الدفاعية منخفضة نسبيا عند 1يف املائة من الناتج املحيل اإلجاميل .لكن
بعد الحرب الباردة انهار هذا املوقف املعزول ،مام جعل اليابان أكرث انكشافا،
وتتملكها مخاوف بشأن ما إذا كانت الواليات املتحدة ستسعى إىل استيعاب الصني
عىل حساب اليابان.
لذلك ،ركزت اليابان عىل الحفاظ عىل التحالف الثنايئ مع الواليات املتحدة.
وعززت عىل نحو مطرد وتدريجي التزامها بالتحالف من خالل بناء قوة بحرية
وخفر سواحل ذات قدرات عالية ،ووضع موارد كبرية يف تقنيات الدفاع الصاروخي
الباليستي التي تقودها الواليات املتحدة ،واالبتعاد تدريجيا عن القيود التي
يفرضها التفسري الصارم للامدة التاسعة من دستورها ;(Pempel, 2011: 266–73
وسعت اليابان ببطء الطرق التي ميكن من )(Hagström, 2015:130–2٭) .إذ َّ
خاللها استخدام قواتها املسلحة ،وزادت من قدرتها عىل العمل املشرتك مع القوات
األمريكية يف غرب املحيط الهادئ .من جانبها ،أكدت الواليات املتحدة أن املعاهدة
تغطي جزر سينكاكو /دياويو ،التي تسيطر عليها اليابان وتطالب بها الصني .لقد
مرت اليابان بأوقات عصيبة خالل فرتة التسعينيات ،عندما رأى البعض يف الواليات
املتحدة اليابان أنها منافسة أكرث من كونها حليفة ،ولكن مبجرد أن أقلع صعود
الصني ،أصبحت عالقات اليابان مع الواليات املتحدة أكرث مرونة حيث احتلت
الصني عىل نحو متزايد دور القوة املنافسة يف أعني الواليات املتحدة .كام أدى تزايد
املخاوف بشأن الربنامج النووي لكوريا الشاملية منذ أوائل التسعينيات إىل توفري
مصلحة مشرتكة بني اليابان والواليات املتحدة .وقد تعزز هذا أخريا مع اقرتاب
كوريا الشاملية من الحصول عىل القدرة عىل دعم تهديداتها الصاخبة واملتكررة
برضب الواليات املتحدة يف حد ذاتها برضبات نووية .لكن اليابان ،وعىل غرار عديد
(٭) هي إحدى مواد دستور اليابان الرئيسة التي أضيفت يف العام 1947واملعنية بالحروب واالبتعاد عن النزاعات
املسلحة أو املشاركة يف الحروب بالنسبة إىل اليابان .يف نصها تتخىل الدولة رسميا عن حق السيادة يف القتال وتهدف
أيضا عىل أنه لتحقيق هذه األهداف ،لن يحا َفظ عىل القوات
إىل سالم دويل قائم عىل العدالة والنظام .وتنص املادة ً
املسلحة ذات اإلمكانات الحربية .وقد أضيف هذا البند بضغوط أمريكية[ .املرتجم].
301
تشكيل العالقات الدولية العاملية
من الدول اآلسيوية األخرى ،تواجه معضلة املصالح االقتصادية واألمنية املتباينة،
حيث تعتمد مصالحها االقتصادية أكرث عىل الصني ،يف حني تعتمد مصالحها األمنية
عىل الواليات املتحدة .وقد أدى إلغاء الرشاكة عرب املحيط الهادئ ( )TPPمن قبل
الرئيس ترامب إىل تفاقم هذه املعضلة من خالل تدمري الركيزة االقتصادية الرئيسة
ملحور الواليات املتحدة يف آسيا .وإىل جانب املوقعني اآلخرين ،تحاول اليابان إحياء
اتفاقية الرشاكة عرب املحيط الهادئ من دون الواليات املتحدة ،عىل أمل أن تبقيها
مفتوحة لعضوية الواليات املتحدة إذا اتخذت قيادة أمريكا بعد ترامب وجهة نظر
مختلفة .وتثري التهديدات املتأتية من كوريا الشاملية والصني ،وتناقض ترامب بشأن
التزامات الواليات املتحدة ،أيضا سؤاال لليابان بشأن ما إذا كان عليها أن تحذو حذو
بريطانيا وفرنسا يف الحصول عىل أسلحتها النووية الخاصة.
- 2 - 5الهند
خالل الحرب الباردة ،كانت الهند عىل نحو واضح تشكل قوة إقليمية وجزءا
من العامل الثالث .لكن مع إصالحاتها االقتصادية التي قادتها يف أوائل التسعينيات،
وتجاربها لألسلحة النووية يف العام ،1998وعضويتها يف الربيكس ،انتقلت الهند
برسعة إىل مصاف القوى الكربى .وبذلك حافظت عىل يشء من تقاليدها الحيادية
كمو ِّرد رئيس لألسلحة ،واتخذت الخاصة بالحرب الباردة .لقد أبقت عىل روسيا ُ
وجهة نظر حذرة من صعود الصني يف الشامل ،حيث كان لديها نزاعات حدودية
نشطة ،وتنافس عىل القوة أكرث عمومية يف جنوب ورشق آسيا (Ladwig, 2009
) .; Rehman, 2009 ; Buzan, 2012منذ أواخر التسعينيات ،واصلت الواليات
املتحدة تعزيز عالقاتها مع الهند ( ،)Paul, 2010: 17–18وهذا يعني أن رغبة
الهند يف أن ُتقبل قو ًة كربى عىل املستوى العاملي قد حققت تقدما كبريا .وقد
ُحل وضع الهند باعتبارها دولة حائزة أسلحة نووية إىل حد كبري من خالل اتفاقها
النووي املدين مع الواليات املتحدة يف العام ،2005وم َّثل هذا تعزيزا رئيسا ملطالبتها
باالعرتاف بها كقوة كربى ( .)Pant, 2009: 276وبحلول العام ،2017كانت الواليات
املتحدة تعمل علنا عىل ترسيخ العالقات مع الهند باعتبارها دميوقراطية زميلة (قيم
مشرتكة -ومن املفارقات ،أنه عامل مل تحصل الهند من خالله عىل كثري من التقدير
302
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
من الواليات املتحدة خالل الحرب الباردة) وكقوة توازن ضد الثقل املتزايد للصني
يف آسيا .لكن الهند لديها مصلحة يف الت ََح ُّوط ضد الصني أكرث من اهتاممها باملوازنة
الرصيحة ضدها .وما مل تصبح الصني أكرث عدوانية ضدها عىل نحو علني ،يبدو
من املرجح أن تستمر الهند يف أداء دور وسطي .ومثل عديد من الدول اآلسيوية
األخرى ،فهي ال تريد االنجرار إىل الحرب الباردة بني الواليات املتحدة والصني.
وعىل رغم ذلك ،فهي ال تريد مواجهة الضغط الصيني وحدها .حيث إن جزءا من
إسرتاتيجيتها كان تنمية رشاكات إسرتاتيجية مع اليابان وفيتنام وأسرتاليا ودول أخرى
يف املنطقة تتطلع إىل الت ََح ُّوط ضد الصني.
باختصار ،يف إطار بنية القوة العظمى الواحدة وعديد من القوى الكربى،
كانت القوى الكربى منقسمة عىل نحو متزايد فيام إذا كانت يجب عليها أن
تدعم الواليات املتحدة أو تعارضها .لقد تحركت الصني وروسيا عىل نحو واضح
يف اتجاه املعارضة ،وعززتا ذلك يف شكل رشاكة إسرتاتيجية .وقد دعا البعض يف
الصني إىل التخيل عن سياسة «عدم التحالفات» لتعميق هذه العالقة (Zhang,
) .F., 2012b ; Yan, 2014ويف وقت كتابة هذا الكتاب ،مل يكن من الواضح بعد
مدى الرضر الذي ستلحقه إدارة ترامب بإضعاف تحالفات الواليات املتحدة مع
اليابان وأوروبا .فال اليابان وال أوروبا كانتا ترغبان يف مثل هذا االنقطاع ،لكن كان
فضلت الحفاظ عىل عىل كلتيهام التفكري يف إمكانية حدوث ذلك .أما الهند ،فقد َّ
استقالليتها آخذة موقفا وسطا مادامت الظروف سمحت لها بذلك .ومع إحراق
الواليات املتحدة يف عهد ترامب بقايا رأس املال االجتامعي الدويل الذي تراكم
لديها منذ العام ،1945بدا أن املَ ْر َكز ينجرف نحو نظام ال يضم قوى عظمى
وعديدا من القوى الكربى .التزال الواليات املتحدة تشكل القوة العظمى ،ولكن
يبدو أنها بصدد فقدان ليس فقط القوة املادية النسبية ،ولكن أيضا اإلرادة من
أجل االستمرار فرتة أطول باعتبارها القوة العظمى .أما الصني فقد كانت تزداد
قوة ،ولكن كان لديها القليل من رأس املال السيايس ،ومع ازدياد عدد الدول
الكبرية أيضا ) (Zakaria, 2009; Stuenkel, 2016أصبحت القوة منترشة للغاية
بحيث ال تسمح ألي دولة بأن تكون قوة عظمى (Buzan, 2011; Kupchan,
) .2012; Buzan and Lawson, 2015a: 273–304وعىل عكس ما حدث خالل
303
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الحرب الباردة ،أصبحت القوى الرئيسة اآلن كلها رأساملية ،مام أدى إىل تضييق
النطاق الرتددي األيديولوجي للمجتمع الدويل العاملي إىل حد كبري .غري أن هذا
التقارب االقتصادي مل ينتج عنه أي تقارب سيايس بشأن الدميوقراطية الليربالية.
وبدال من ذلك ،ظهرت عدة أنواع من الرأساملية ضمن الرتتيبات السياسية التي
ترتاوح يف جميع املجاالت من الدميوقراطية الليربالية إىل السلطوية الشديدة
(Jackson and Deeg, 2006; Witt, 2010; McNally, 2013; Buzan and
) ،Lawson, 2014bوسنتعرض ملزيد عن كل هذا يف الفصل التاسع.
إىل جانب هذا التفريق يف القوة والتشابك معها ،كان هناك طمس ،أو حتى
انهيار ،للحدود القامئة بني املركز واألطراف ،والتي كانت سابقا حدودا واضحة إىل
حد ما .وكام هو مبني يف الفصل األول ،ظهرت تلك الحدود خالل القرن التاسع
عرش عندما نجحت مجموعة صغرية من الدول (أوروبا الغربية وأمريكا الشاملية
وروسيا واليابان) يف استيعاب ثورات الحداثة ،حيث فتحت تلك الدول فجوة قوة
كبرية بينها وبني اآلخرين .ويف فرتة ما بني الحرب العاملية األوىل ونهاية الحرب
الباردة ،اضطلعت حفنة من الدول الصغرية إىل حد ما -النمور اآلسيوية :كوريا
الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة -بهذه القفزة وانضمت إىل املَ ْر َكز ،عىل
الرغم من أن الصني كانت تستجمع قوتها بوضوح لالنضامم إليهم أيضا .ولكن منذ
تسعينيات القرن املايض ،بدأت الدول التي كانت التزال مصنفة رسميا من قبل
األمم املتحدة كدول نامية يف التحرك نحو صفوف القوى الكربى ،وباألخص الصني
والهند .وعىل نطاق أوسع ،بدأت القوى الصاعدة تؤدي عىل املرسح العاملي دورا
ليس باعتبارها دوال من العامل الثالث تنشط ضد املَ ْر َكز انطالقا من األَ ْط َراف ،بل
تنشط باعتبارها دوال من املَ ْر َكز .إحدى العالمات املبكرة عىل هذا الخلط األكرث
عمومية بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف كان قبول املكسيك وكوريا الجنوبية يف منظمة التعاون
االقتصادي والتنمية – OECDالنادي الخاص بالدول املتقدمة -خالل منتصف
التسعينيات .ومتثلت العالمة األخرى يف تشكيل مجموعة العرشين G20يف العام
،1999يف أعقاب األزمة املالية ( )1998-1997يف رشق آسيا .وباإلضافة إىل الدول
الغربية املعتادة واليابان ،ضمت مجموعة العرشين األرجنتني؛ والربازيل؛ والصني؛
والهند؛ وإندونيسيا؛ واملكسيك؛ وروسيا؛ واململكة العربية السعودية؛ وجنوب
304
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
ووسع النادي ليشمل الدول الصاعدة متوسطة أفريقيا؛ وكوريا الجنوبية؛ وتركياِّ ،
الدخل .ولكن ،رمبا جاءت نقطة التحول الرئيسة يف هذا التطور يف وقت مبكر بعد
اندالع األزمة االقتصادية العاملية يف العام ( 2008والتي يوجد مزيد بشأنها الحقا).
ففي العام ،2009حلت مجموعة العرشين محل مجموعة الثامين باعتبارها املنتدى
الرئيس إلدارة االقتصاد العاملي .ويف العام ،2010حاولت الربازيل وتركيا التوسط
يف صفقة نووية مع إيران .ويف العامني 2009و 2010قدمت دول الربيكس نفسها
كمجموعة ديبلوماسية نشطة.
ميكن جزئيا فهم هذه التغيريات من منظور قصري األجل عىل أنها عواقب
للعوملة والليربالية الجديدة التي تدمج االقتصاد العاملي عىل نحو أكرث إحكاما .ضمن
هذا اإلطار ،ميكن أيضا فهمها باعتبارها استجابات حيال األزمات املالية النسقية
التي تعد سمة دورية لألنظمة الرأساملية ،والتي تتطلب مشاركة أوسع إذا كان
س ُيتَعامل معها بنجاح .كام ميكن فهمها أيضا من منظور أطول كمرحلة مهمة يف
تطور الحداثة التي انطلقت خالل القرن التاسع عرش .إن التقسيم الحاد األويل بني
املَ ْر َكز واألَ ْط َراف الذي نشأ يف ذلك الوقت ،والذي استمر طوال القرن العرشين ،انهار
أخريا حيث كانت مزيد ومزيد من الدول واملجتمعات تجد طرقا لها نحو الحداثة،
وغالبا ما كانت طرقا قابلة لالستيعاب واالستمرار داخل ثقافاتها .وهذا يعني أن
دعاة التحديث األوائل ،الغرب وروسيا واليابان ،بدأوا يفقدون املركز املهيمن يف
العامل الذي احتلوه منذ القرن التاسع عرش .وضمن هذا السياق ،أشاروا أيضا إىل
تآكل القطبية األحادية األمريكية ،وهي عملية تسارعت بفعل النزعة االنفرادية
للرئيسني بوش االبن ودونالد ترامب.
وإذا كان املَ ْر َكز يشهد توسعا ،فإن هذا يعني أن الديناميات الرئيسة للعالقات
الدولية كانت تبتعد عن االقتصاد السيايس العاملي الخاص ببنية املَ ْر َكز -األَ ْط َراف،
موسع كان الغرب يسيطر ٍ وأصبحت تدور عىل نحو متزايد بشأن ديناميات َم ْر َك ٍز
عليه عىل نحو متناقص ( .)Buzan and Lawson, 2015a: 270وإذا كان املَ ْر َكز
وديناميته يشهدان توسعا ،فإن ذلك يعني بالرضورة أن األطراف كانت تتقلص من
حيث الحجم واألهمية.
305
تشكيل العالقات الدولية العاملية
- 2 - 6األطراف
كان لنهاية الحرب الباردة تأثري متباين يف األمن يف العامل الثالث .فمن ناحية،
بدا أنه خلق ظروفا أكرث مالءمة لالستقرار والتنمية .لقد كان الحدث التحويل عىل
نحو خاص هو النهاية السلمية لنظام الفصل العنرصي يف جنوب أفريقيا ،حيث
بدأت املفاوضات منذ العام 1990وتبعها انتخاب نيلسون مانديال رئيسا للبالد يف
العام .1994وشملت التطورات األخرى تسوية النزاعات اإلقليمية للحرب الباردة يف
جنوب أفريقيا؛ وجنوب آسيا؛ وأمريكا الوسطى؛ وجنوب رشق آسيا؛ وهي األقاليم
التي شهدت تدخال مبارشا أو غري مبارش من طرف القوتني العظميني .وشملت هذه
اتفاقيات جنيف يف العام 1988التي أدت إىل االنسحاب السوفييتي من أفغانستان
(اكتمل يف العام ،)1989واتفاقيات نيويورك يف العام 1988التي تنص عىل استقالل
ناميبيا واتفاقية تشابولتيبيك يف العام 1992إلنهاء الرصاع يف السلفادور .ويف جنوب
رشق آسيا ،أدت اتفاقية باريس للسالم يف العام 1991إلنهاء الحرب األهلية يف
كمبوديا إىل ظهور أكرب مهمة لبناء السالم تابعة لألمم املتحدة خالل الفرتة من العام
1992إىل العام ،1993وذلك إلدارة انتقال البالد السلمي إىل الدميوقراطية.
من الناحية السلبية ،كانت نهاية الحرب الباردة مبنزلة رضبة للعامل الثالث
مبعنى أنها أزالت مصدر متاسكه السيايس الرئيس (عدم االنحياز) ،وق َّلصت من
هامش املناورة السياسية التي أوجدته منافسة القوتني العظميني .كام أدى عدم
وضوح الحدود الفاصلة مع املَ ْر َكز الناتج عن صعود البقية إىل تقليل االهتامم
املشرتك للعامل الثالث بقضايا التنمية .ويف حني ظلت بعض دول العامل الثالث فقرية
و ُتدار بطريقة سيئة ،كان البعض اآلخر يجد له طريقا نحو الرثوة والقوة ،ويطرق
أبواب النوادي االقتصادية للقوى الكربى داخل املركز .ومع صعود الصني والهند،
كان الثقل الدميوغرايف للعامل يتحول من الدول املتخلفة إىل البلدان ذات الدخل
املتوسط واملرتفع .وقد ظل خطاب مناهضة االستعامر والتنمية قويا ،لكن إنهاء
االستعامر أصبح اآلن حقيقة من حقائق حقبة سابقة ،وشيئا مل تختربه عىل نحو
شخيص نسبة متزايدة برسعة من سكان العامل الثالث .وكام وجد آخرون يف العامل
الثالث مسارات تنمية قابلة للتطبيق ،أصبح من الصعب عىل نحو متزايد عىل
أولئك الذين ُت ِر ُكوا يف الخلف االستمرار يف إلقاء اللوم عىل االستعامر كسبب لفقرهم
306
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
وحكمهم غري الكفؤ -عىل الرغم من أن ذلك مل مينع عديدا من قادة العامل الثالث
من االستمرار يف االضطالع بذلك .كانت العوملة تضع الجميع يف القارب نفسه،
وكحركة سياسية ،أصبح العامل الثالث من ثم ِظال ملا كان عليه يف السابق .وعىل
رغم ذلك ،ظلت املشاعر املعادية للغرب من الناحية الفكرية قوية داخل املجتمع
األكادميي والنشط ،مع موجة جديدة من أدبيات حقل العالقات الدولية ملا بعد
وسعت تركيزها لتشمل قضايا العنرصية االستعامر ( ُنوقشت يف الفصل الثامن) َّ
والتهميش االقتصادي والتمييز بني الجنسني وما إىل ذلك.
لقد تحولت الحروب إىل كونها تقع داخل الدول أكرث من كونها تنشب فيام
بينها ،وذلك تحت تأثري كل من الليربالية الجديدة والفساد وعدم املساواة .مل
يضع إنهاء الحرب الباردة حدا للتدخالت املتأتية من املَ ْر َكز ،ولكنه أزال عنرص
التنافس األيديولوجي والعسكري :اآلن صارت التدخالت غربية عىل نحو أسايس
(مثة مزيد بشأن هذا الحقا) .رمبا كانت املشكلة الرئيسة يف العامل الثالث هي
عدد الدول الضعيفة والفاشلة املوجودة داخله .فخالل حقبة الحرب الباردة
وإنهاء االستعامر ،كان التوقع العام هو أن الدول الجديدة ،ومبساعد ٍة من
املَ ْر َكز ،ستحل بطريقة ما مشكلة إيجاد عالقة مستقرة مع الحداثة .وقد تعزز
هذا االفرتاض من خالل املنافسة بني القوتني العظميني لنرش أيديولوجياتهام
ومناذجهام التنموية يف العامل الثالث ( .)Westad, 2007ومع بداية عرص القطبية
األحادية والعوملة وصعود البقية ،أصبح من الواضح أكرث من أي وقت مىض أنه
يف حني أن بعض دول ما بعد االستعامر متكنت ،بدرجات متفاوتة من النجاح،
من إدارة هذا التحول ،فإن مثة دوال أخرى كثرية مل تتمكن من تحقيق ذلك.
حيث ظهرت مجموعة من الدول الضعيفة والفاشلة التي ال يبدو أنها قادرة عىل
الحكم أو تطوير نفسها بنجاح يف ظل الظروف الصعبة للغاية التي أوجدتها
الرأساملية العاملية .وقد اشتملت الدول الضعيفة يف العامل الثالث عىل تشاد؛
والعراق ما بعد صدام حسني؛ وليبرييا؛ ومايل؛ وسرياليون؛ مع البوسنة وأوكرانيا
يف أوروبا كحاالت إضافية .واشتملت الدول الفاشلة عىل أفغانستان؛ وجمهورية
الكونغو الدميوقراطية؛ وهاييتي؛ والصومال؛ وجنوب السودان؛ واليمن .وقد
كشف الربيع العريب ( )2013-2011هشاشة واسعة النطاق يف الرشق األوسط،
307
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ُأطيح بالحكومات يف مرص؛ وليبيا؛ واليمن؛ وتونس ،و ُد ِفعت ليبيا وسورية إىل
أتون حروب أهلية وحشية حولتهام إىل وضع الدولة الفاشلة.
لقد كشفت النزاعات يف حقبة ما بعد الحرب الباردة أوجه ضعف النساء يف
األطراف كضحايا لالغتصاب والتعذيب والعبودية الجنسية يف مناطق النزاع ،كام
وسعت تلك النزاعات أجندة إدارة األمن العاملي .فعىل سبيل املثال ،اغتُصب ما بني َّ
250ألفا و 500ألف امرأة خالل اإلبادة الجامعية يف رواندا يف العام (Rehn 1994
) .and Sirleaf, 2002: 9وتشتهر مناطق النزاع بزيادة حادة يف العنف املنزيل ضد
املرأة وكذلك االتجار بالنساء .وتشكل النساء واألطفال عددا كبريا جدا من الالجئني
الفارين من مناطق النزاع ،إذ ُيجندون أيضا كمقاتلني يف أثناء النزاعات .ففي الرصاع
اإلثيويب الذي أدى إىل استقالل إريرتيا يف العام ،1993ش َّكلت النساء أكرث من ربع
املقاتلني .كام نرش «منور التاميل» ،الحركة التي ُق ِ َ
يِض عليها اآلن ،عددا كبريا من النساء
كمقاتالت وقائدات وفرق انتحارية .تصبح النساء أهدافا لالغتصاب والعنف الجنيس
ليس فقط ألنهن ميثلن رمزا اجتامعيا وثقافيا ،ولكن ميكن أيضا مامرسة العنف
ضدهن كإسرتاتيجية متعمدة من قبل أطراف النزاع بهدف تقويض النسيج االجتامعي
لخصومهم .كان من نتائج هذه األعامل الوحشية تزايد االهتامم بدور املرأة يف السالم
واألمن ( .)Rehn and Sirleaf, 2002: 63فقد حددت هيئة تابعة لألمم املتحدة
خمسة مجاالت تربط املرأة بأجندة السالم واألمن )1( :العنف ضد النساء والفتيات؛
( )2عدم املساواة بني الجنسني يف السيطرة عىل املوارد؛ ( )3عدم املساواة بني الجنسني
يف السلطة وصنع القرار؛ ( )4حقوق اإلنسان للمرأة؛ ( )5واالعرتاف بالنساء (والرجال)
بوصفهم فاعلني وليسوا ضحايا (Inter Agency Network on Women and
) .Gender Equality, 1999: 1وقد شكل اعتامد مجلس األمن الدويل للقرار 1325
بشأن املرأة والسالم واألمن يف العام 2000عالمة فارقة يف الدفع باإلجراءات الالزمة
ملعالجة هذه القضايا .كام أثرت هذه التطورات يف جدول أعامل الدراسات األمنية
والدراسات النسوية ،وهو ما س ُيناقش يف الفصل الثامن.
عىل رغم استمرار العنف ،فإن النظرة إىل األمن واالستقرار يف دول األَ ْط َراف
مل تكن نظرة قامتة فقط .وكان االنحدار العام للنزاعات املسلحة يف دول األطراف
هو السبب الرئيس الذي جعل الفرتة األولية التي تلت الحرب الباردة تشهد
308
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
يف العام ،1989واستمر ذلك مع املنتدى اإلقليمي لرابطة أمم جنوب رشق آسيا يف
العام 1994؛ وقمة رشق آسيا يف العام 2005؛ ومنظمة شنغهاي للتعاون يف العام
وسعت النزعة اإلقليمية يف األَ ْط َراف من نطاقها إىل ما وراء التجارة .2001وقد َّ
واألمن ملواجهة التحديات العابرة للحدود الوطنية مثل األزمات املالية وتغري املناخ،
وذلك عىل الرغم من النتائج املتباينة التي حققتها.
عىل الرغم من ثرواتها املتباينة من حيث االستقرار والتعاون ،ومواجهة التأثري
غري املتكافئ للعوملة ،ظلت األَ ْط َراف أساسية بالنسبة إىل سياسات املجتمع الدويل
العاملي بسبب الطرق التي تربط عربها العوملة املَ ْر َكز واألَ ْط َراف يف إطار مجموعة
متنوعة من املصائر املشرتكة املتزايدة األهمية .فقد تراجع العامل الثالث عن دوره
باعتباره فاعال جامعيا ،ولكن هذا يرجع إىل أن عديدا من أعضائه كانوا ينتقلون إىل
املَ ْر َكز كجزء من صعود البقية .وظلت العوملة قوية ،ولكنها تعمقت واتسعت أيضا
باعتبارها سمة بنيوية رئيسة للمجتمع الدويل العاملي .وبعد تسعينيات القرن املايض،
ضعفت القطبية األحادية ،وبدا أن املجتمع الدويل العاملي يتحول عىل نحو متزايد
من كونه يتشكل من قوة عظمى واحدة وعديد من القوى الكربى ،إىل كونه يتشكل
من عديد من القوى الكربى ،وإن كان بعضها أقوى بكثري من القوى األخرى .يف هذا
السياق ،كانت التفاعالت واالعتامد املتبادل بني األَ ْط َراف واملَ ْر َكز ،وعدم وضوح الحدود
الفاصلة بينهام ،هي التي تحدد عىل نحو متزايد أجندة املجتمع الدويل العاملي يف
القرن الحادي والعرشين .وعىل الرغم من أن بعض التنافسات الجيوسياسية العميقة
التزال قامئة بني القوى الكربى ،كام ذكرنا سابقا ،فإنها كانت مصحوبة عىل نحو متزايد
مبجموعة من تهديدات املصري املشرتك التي تتطلب وجود عمل جامعي.
املَا ِر َقة» لتوصيف كوبا؛ وإيران؛ والعراق؛ وليبيا؛ وكوريا الشاملية ،واستخدمت
الرَش» يف السياق نفسه .وقد شعرت تلك إدارة بوش الالحقة مصطلح « ِم ْح َو ُر َ
الدول فعال بتهديد الواليات املتحدة خالل ذروة األحادية القطبية التي انفردت
تسع إىل امتالك أسلحة نووية ،لكن اآلخرين بها واشنطن .وعىل رغم أن كوبا مل َ
فعلوا ذلك .وبحلول العام 2003تخلت ليبيا عن محاولتها تطوير برنامج أسلحة
نووية ،لكن كوريا الشاملية وإيران والعراق مل تقم بذلك ،واستخدمت باكستان
خوفها من الهند املجاورة كذريعة إلجراء تجارب أسلحة نووية يف العام .1998
إن قصة باكستان تتمحور حول كيف أدار عبد القدير خان ،األب الروحي لربنامج
األسلحة النووية الباكستاين ،شبكة السوق السوداء يف مجال التكنولوجيا النووية
خالل فرتة الثامنينيات والتسعينيات .و ُيعتقد أنه مرر ُخططا وتقنيات نووية مهمة
إىل إيران؛ وكوريا الشاملية؛ وليبيا؛ ورمبا أيضا إىل جنوب أفريقيا؛ والعراق .حيث
ُربطت شبكة خان بالعمل مع الوسطاء والرشكات يف أكرث من 20دولة .وقد اعتُقل
ُوأغ ِل َقت شبكته يف العام .)MacCalman, 2016( 2004وكانت خدعة السالح
النووي لصدام حسني جزءا من مقدمة غزو العراق الذي قادته الواليات املتحدة
واإلطاحة بنظامه يف العام ،2003عىل الرغم من عدم العثور عىل دليل يشري إىل
وجود برنامج أسلحة نووية َح ِقي ِقي.
ومن ثم فإن الحالتني الرئيستني الجاريتني للدول «املارقة» التي تطمح إىل وضع
الدول الحائزة أسلحة نووية هام إيران وكوريا الشاملية .لقد ُكشف عن الربنامج
النووي اإليراين يف العام ،2002ويف العامني 2005و 2006تبني أنه ينتهك الضامنات
الدولية وتعرضت إيران إثر ذلك لعقوبات من قبل مجلس األمن الدويل .نجحت
إيران يف الحصول عىل التكنولوجيا والخربة الكافيني لتقصري مهلها لتصبح قادرة
سنوات من املفاوضات املعقدة بخصوص ذلك، ٌ عىل صنع أسلحة نووية .وتعاقبت
ويف العام ُ 2015أبرم اتفاق نووي بني إيران من جهة ،والواليات املتحدة؛ والصني؛
وروسيا؛ وبريطانيا؛ وفرنسا؛ وأملانيا؛ واالتحاد األورويب من جهة أخرى ،وهو ٌ
اتفاق
تعلق مبوجبه إيران برنامجها لألسلحة يف مقابل رفع العقوبات املفروضة عىل طهران
بسبب انتهاكاتها املتكررة السابقة .ويف وقت كتابة هذا الكتاب ،كان الرئيس ترامب
قد رفض هذه الصفقة ،لكنها كانت التزال قامئة.
312
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
أما قضية كوريا الشاملية فقد ذهبت إىل أبعد من ذلك بكثري .أصبحت كوريا
الشاملية محل اشتباه يف العامني 1992و 1993نتيجة عمليات التفتيش التي
اضطلعت بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية .وقد أدرج بوش االبن كوريا الشاملية
ضمن «محور الرش» يف خطابه يف العام ،2002ويف العام 2003أعلنت بيونغ يانغ
انسحابها من معاهدة عدم انتشار األسلحة النووية .ويف أكتوبر 2006أجرت كوريا
الشاملية أول تجربة نووية لها .وقد اضطلعت بذلك بعد فرتة طويلة من املحادثات
السداسية واملساومات التي جرت فيام بينهم ،حيث إن كل الجهود التي بذلتها
الصني؛ واليابان؛ وروسيا؛ والواليات املتحدة؛ وكوريا الجنوبية يف منع ذلك باءت
بالفشل .يف العام 2009أجرت بيونغ يانغ تجربتها النووية الثانية ،وأجرت يف الوقت
نفسه تجارب صاروخية منتظمة .وقد بدت الصني غري مبالية عىل نحو مثري للفضول
بهذا التطور ،أو عىل األقل غري راغبة يف اتخاذ إجراءات جادة ضد حليفها الكوري
الشاميل ،عىل الرغم من أن استفزازات بيونغ يانغ وخطابها التحرييض يهدد بحدوث
أزمة عسكرية كبرية مع الواليات املتحدة ،وإمكانية زرع شعو ٍر لدى اليابان وكوريا
الجنوبية بأنهام مجربتان يف النهاية عىل امتالك وسائل الردع النووية الخاصة بهام.
لطاملا اتبعت اليابان سياسة الردع «املرتاخية» :التهديد بالحصول عىل أسلحة نووية
برسعة كبرية إذا شعرت بتهديد عسكري خطري .إذ إن لديها كل القدرات التي متكنها
من تجميع أسلحة نووية قابلة لإلطالق ،ورمبا يكون ذلك يف غضون بضعة أشهر فقط
( .)Buzan and Herring, 1998: 50–1, 172–3وقد استمرت المباالة الصني حيال
هذا الوضع حتى وقت كتابة هذا الكتاب ،وخالل ذلك الوقت كانت كوريا الشاملية
عىل وشك امتالك أسلحة نووية ميكن أن تصل إىل األرايض األمريكية .وكام ُذكر سابقا،
تعرضت اليابان وكوريا الجنوبية لضغوط متزايدة من التهديدات والقدرات النووية
لكوريا الشاملية ،وقد تعززت تلك الضغوط بشكوك بشأن ضامن الواليات املتحدة
للدفاع عنهام وذلك نتيجة لضعف موقف واشنطن أمام كوريا الشاملية ،واملواقف
املتناقضة داخل إدارة الرئيس ترامب بشأن ضامنات التحالف .مل يكن من الواضح يف
وقت كتابة هذا الكتاب ما إذا كان أي تطور جوهري سينبثق من املحادثات الجارية
بني ترامب وكيم جونغ أون ،عىل الرغم من أن احتامالت نزع السالح النووي الكامل
لكوريا الشاملية كنتيجة لهذه املحادثات تستدعي شكوكا كبرية.
313
تشكيل العالقات الدولية العاملية
- 2 - 9اإلرهاب
كان موضوع اإلرهاب بالتأكيد مطروحا عىل أجندة األمن الدويل خالل الحرب
الباردة وخالل التسعينيات ،وهو موضوع يرتبط عىل نحو أسايس بالنزاعات الدائرة
يف العامل اإلسالمي .ولكن حتى أحداث العام ،2001كان هذا املوضوع ميثل اهتامما
هامشيا نسبيا بالنسبة إىل أجندة األمن الدويل (Buzan and Hansen, 2009:
.)227–55ومنذ هجامت 2001عىل نيويورك وواشنطن من ِقبل تنظيم القاعدة،
أصبحت ما تسمى بـ «الحرب العاملية عىل اإلرهاب» ( )GWOTتشكل املحور
الرئيس لألمن العاملي ( .)Buzan, 2006ومن املفارقات أن تنظيم القاعدة تعود
جذوره إىل حرب الواليات املتحدة بالوكالة ضد االتحاد السوفييتي يف أفغانستان
خالل الثامنينيات عندما س َّلحت الواليات املتحدة ودعمت امليليشيات اإلسالمية
املتطرفة ضد االحتالل السوفييتي ( .)Westad, 2007: 353–7كانت الدالئل
املبكرة عىل نشاط ونوايا تنظيم القاعدة تتمثل يف تفجري مركز التجارة العاملي يف
نيويورك يف العام 1993؛ وتفجري السفارتني األمريكيتني يف تنزانيا وأوغندا يف العام
1998؛ والهجوم عىل السفينة الحربية األمريكية املدمرة كول يف عدن يف العام
.2000وقد أدت هجامت العام 2001إىل غزو الواليات املتحدة أفغانستان يف العام
2001؛ وغزو العراق يف العام ،2003وسنتعرض لذلك الحقا بيشء من التفصيل.
كام أن موضوع اإلرهاب مرتبط باالنتشار النووي والهجرة واألمن السيرباين واإلدارة
االقتصادية العاملية .لقد قتلت الواليات املتحدة أخريا أسامة بن الدن يف مايو 2011
يف مخبأه يف باكستان ،الحليف املفرتض للواليات املتحدة .لكن تنظيم القاعدة يف
ذلك الوقت كان قد أنشأ بالفعل خليفة له ،أي تنظيم «الدولة اإلسالمية» (داعش).
بدأ تنظيم الدولة اإلسالمية كفرع من تنظيم «القاعدة» يف العام ،1999حيث
شارك يف الحرب األهلية يف العراق يف أعقاب الفوىض السياسية يف ذلك البلد التي
خلفها الغزو األمرييك يف العام 2003واالحتالل األمرييك الالحق .وقد برز تنظيم
«الدولة اإلسالمية» يف حد ذاته يف العام 2014عندما نجح يف تجنيد جنود وأنصار
من عديد من دول الغرب والعامل اإلسالمي ،مستغال يف ذلك فوىض الدول الضعيفة
والحروب األهلية القامئة .حيث سيطر التنظيم عىل مساحات شاسعة من العراق
وسورية ،وربط بني الحروب األهلية القامئة يف هذين البلدين .وعىل أثر ذلك ،بدأ
314
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
هذا العدد من الضحايا .كان اإلرهاب يشكل تهديدا لجميع البلدان ،واألولوية التي
ُأوليت لهذا املوضوع كانت تتعلق بقدر كبري بإمكانية حدوث رضر أكرب بكثري إذا
استحوذ اإلرهابيون العدميون عىل أسلحة الدمار الشامل .وهكذا ترادفت املخاوف
بشأن االنتشار النووي واإلرهاب جنبا إىل جنب إىل حد ما .ومن املحتمل أن اإلرهاب
كان ميثل تهديدا للمجتمعات الدميوقراطية أكرث من املجتمعات االستبدادية ،ألن
املجتمعات الدميوقراطية واجهتها املعضلة الرهيبة املتمثلة يف كيفية حامية سكانها
من دون املساس باالنفتاح الذي دافعوا عنه ،وكذا كيفية عدم التحول إىل دول
بوليسية .أما املجتمعات االستبدادية التي كانت بالفعل دوال بوليسية ،فلم تكن
هذه املعضلة مطروحة لديها ،عىل رغم أنه كان عليها التخوف حيال أن اإلرهاب قد
ُيقوض مصداقية إحساسها بالسيطرة ،ومن ثم قد ُيقوض رشعيتها.
- 2 - 10الهجرة
مل تكن الهجرة قضية رئيسة بالنسبة إىل دول املَ ْر َكز خالل الحرب الباردة ،ولكن
منذ التسعينيات فصاعدا أصبحت تشكل مصدر قلق سيايس متزايدا ،خاصة بالنسبة
إىل أوروبا والواليات املتحدة .كانت الهجرة بعد الحرب الباردة مدفوعة بعوامل
مختلفة ،ترتاوح بدءا من املهاجرين االقتصاديني التقليديني الذين يتطلعون إىل
تحسني آفاقهم من خالل االنتقال من البلدان الفقرية إىل الدول الغنية ،ووصوال
إىل طالبي اللجوء الفارين من الحرب أو املجاعة أو القمع .من ناحية بنية املَ ْر َكز-
األَ ْط َراف ،كان الناس من املستعمرات السابقة يشقون طريقهم نحو القوى املرتوبولية
السابقة التي استعمرتهم كمهاجرين اقتصاديني :من جنوب آسيا والكاريبي إىل
اململكة املتحدة؛ واألفارقة والعرب إىل فرنسا .لقد عملت روابط اإلمرباطورية غري
الرسمية بالطريقة نفسها ،حيث توجه األتراك إىل أملانيا واتجه األمريكيون الالتينيون
إىل الواليات املتحدة .أما االتحاد األورويب فقد أوجد قضية الهجرة الخاصة به من
خالل الجمع بني انفتاح سوقه املوحدة والتوسع نحو البلدان الفقرية نسبيا يف جنوب
رشق أوروبا رشقها .وعىل الرغم من أن الهجرة من املَ ْر َكز إىل األَ ْط َراف جذبت قدرا
أكرب من االهتامم ،فإنه كان مثة أيضا عديد من الهجرات بني الجنوب والجنوب.
فالالجئون من النزاعات ،عىل سبيل املثال ،يفرون عىل نحو أسايس إما إىل داخل
316
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
بلدانهم (نازحني داخليا) وإما إىل البلدان املجاورة التي غالبا ما تشبههم ثقافيا.
وكام سجلت ذلك األمم املتحدة ( :)2016: 16فإن «أغلبية املهاجرين الدوليني الذين
منشؤهم آسيا ( 60يف املائة ،أو 62مليون شخص)؛ وأوروبا ( 66يف املائة ،أو 40
مليون شخص)؛ وأوقيانوسيا ( 59يف املائة ،أو مليون شخص)؛ وأفريقيا ( 52يف املائة،
أو 18مليون شخص) ،يعيشون يف بلد آخر داخل مناطقهم األصلية الرئيسة».
ُوأدرجت قضية الهجرة ضمن األجندة األمنية يف أوروبا فور انتهاء الحرب الباردة
عندما أشعل تفكك يوغوسالفيا السابقة حروبا صغرية ولكنها كانت قاسية (Wæver
) .et al., 1993فقد شهدت أوائل التسعينيات توجه نحو 300ألف الجئ إىل شامل
أوروبا .وقد أشارت أزمة كوسوفو يف أواخر التسعينيات إىل أنه بحلول العام 2000
رمبا كان هناك مليونا شخص من أصل بلقاين داخل االتحاد األورويب ،عىل الرغم من
عودة عديد من الكوسوفيني إىل مناطقهم يف وقت الحق.
ظلت قضية الهجرة مطروحة ضمن األجندة األوروبية بسبب سلسلة الحروب
والتدخالت التي أعقبت ذلك يف إطار الحرب العاملية عىل اإلرهاب .فقد بدأ منط
جديد من الالجئني العائدين من أفغانستان بعد الغزو والحرب السوفييتية خالل
الثامنينيات ،واستمر ذلك مع نظام طالبان القمعي خالل التسعينيات .حيث كان
إليران وباكستان الحصة األكرب من هؤالء الالجئني .وبد ًءا من العام 2014كان اليزال
هناك نحو 2.5مليون أفغاين يف إيران وباكستان .أما البلدان األخرى التي تضم
أكرث من 50ألف أفغاين فقد اشتملت عىل أملانيا؛ وطاجيكستان؛ واململكة املتحدة؛
والواليات املتحدة؛ باإلضافة إىل كندا بـ 48ألف أفغاين ( .)IOM, 2014ويف العام
2014بدأ عدد طالبي اللجوء األفغان الذين وصلوا إىل أوروبا يف التسارع ،حيث
ارتفع عىل نح ٍو حاد إىل ما يقرب من ثالثة أرباع مليون يف العامني 2015و،2016
مام سبب أزمة خصوصا يف اليونان حيث َت َركز الجزء األكرب من هؤالء الوافدين
( .)EU, 2016( )2015-2014كام أدى الغزو والعنف الداخيل إىل موجة من الهجرة
من العراق يف العام .2006واعتبا ًرا من العام 2015كان ما يقرب من 1.5مليون
عراقي يعيشون يف الخارج ،أي ما يقرب من 4يف املائة من السكان .حيث توزعوا
عىل نطاق واسع يف كل من دول جوار العراق (أكرث من نصف مليون)؛ ويف أوروبا
(ما يقرب من نصف مليون ،معظمهم يف بلدان شامل أوروبا)؛ وأمريكا الشاملية
317
تشكيل العالقات الدولية العاملية
(ما يقرب من ربع مليون) ( .)IOM, 2015ومنذ اندالع الحرب األهلية يف سورية يف
العام ،2011قدرت مفوضية األمم املتحدة السامية لشؤون الالجئني ()UNHCR
أن 4.8مليون سوري قد فروا إىل تركيا ولبنان واألردن ومرص والعراق ،وأن 6.6
مليون نزحوا داخل ًّيا داخل سورية .يف حني قدم نحو مليون منهم طلب لجوء إىل
أوروبا ،حيث تلقت من بينهم أملانيا أكرث من 300ألف طلب؛ والسويد 100ألف
( .)EU, 2016وقد ش َّكل السوريون واألفغان والعراقيون أكرث من 88يف املائة من
زيادة عدد الوافدين إىل اليونان بعدد يصل إىل نحو مليون شخص يف العام 2015
( .)IOM, 2017: 12وإذا ما متعنا يف قضية الهجرة عىل نح ٍو إجاميل ،برغم أن عدد
األشخاص املقيمني يف بلد آخر غري بلد ميالدهم بلغ 244مليو ًنا يف العام 2015
بزيادة قدرها 41يف املائة منذ العام ،2000فإن املهاجرين كنسبة من سكان العامل
كان مستواهم ثابتًا إىل حد ما عند نحو 3يف املائة عىل مدى العقدين املاضيني
( .)IOM, 2017: 5كانت نسبة الهجرة من الجنوب إىل الجنوب أعىل بقليل من
الهجرة من الجنوب إىل الشامل ،وقد بلغ حجم الهجرة من الشامل إىل الشامل نحو
ثلثي الحجم ،أما الهجرة من الشامل إىل الجنوب فم َّثلت ُسبع حجم الهجرة القادمة
من الجنوب إىل الشامل ( .)IOM, 2017: 7لقد استضافت املناطق النامية 86يف
املائة من الالجئني يف العامل ( 12.4مليون شخص) ،وهي أعىل قيمة منذ أكرث من
عقدين .وقد قدمت أقل البلدان منوا اللجوء إىل 3.6مليون الجئ ،أو 25يف املائة
من املجموع العاملي .ويف العام 2014أصبحت تركيا الدولة التي تستضيف أكرب عدد
من الالجئني يف جميع أنحاء العامل باستقبالها 1.6مليون الجئ؛ تليها باكستان (1.5
مليون)؛ ولبنان ( 1.2مليون)؛ وجمهورية إيران اإلسالمية (مليون)؛ وإثيوبيا واألردن
( 0.7مليون لكل منهام) .ويأيت أكرث من نصف ( 53يف املائة) الالجئني وفق املفوضية
السامية لألمم املتحدة لشؤون الالجئني من ثالثة بلدان فقط :سورية ( 3.9مليون)؛
وأفغانستان ( 2.6مليون)؛ والصومال ( 1.1مليون) (.)UN, 2016: 9
لقد كان للهجرة مكاسب واضحة :حيث إن «التحويالت التي يرسلها املهاجرون
الدوليون إىل عائالتهم يف بلدانهم األصلية بلغت 581مليار دوالر أمرييك يف العام
،»2015وقد ذهب معظم هذا املبلغ إىل االقتصادات املنخفضة واملتوسطة الدخل
التي بلغت تدفقات التحويالت إليها ثالثة أضعاف املساعدات األجنبية التي تلقتها
318
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
هذه البلدان يف العام نفسه ( .)IOM, 2017: 15ولكن عندما كانت التدفقات
ضغوطا هائلة عىل املجتمعات املستقبلة.ً كبرية ومفاجئة ومستمرة ،خلقت
فبحلول العام 2015كان االتحاد األورويب يتصدى لضغوط تدفقات املهاجرين عرب
البحر األبيض املتوسط .ويف العام 2016ش َّكل الخوف من الهجرة قضية مهمة يف
التصويت لخروج بريطانيا من االتحاد األورويب يف اململكة املتحدة؛ ويف انتخاب
ترامب يف الواليات املتحدة .كان للهجرة أيضا روابط قوية بالحرب والتدخل يف كل
من املَ ْر َكز واألَ ْط َراف .فاملخاوف بشأن اآلثار املرتتبة عىل الهوية من جراء التدفقات
الجامعية لألشخاص القادمني من ثقافات مختلفة ساهمت يف إثارة قضايا الهوية،
حيث قوت شوكة الشعبويني اليمينيني يف العديد من البلدان الغربية .كام ترتبط
ارتباطا وثي ًقا باإلرهاب ،حيث مثة خوف من أن يكون هنالك ضمن تدفقات الهجرة ً
طالبي اللجوء واملهاجرين ألسباب اقتصادية ،إرهابيون مختبئون مصممون عىل
مهاجمة البلدان املضيفة من الداخل.
- 2 - 11التدخالت
صار من الواضح اآلن أن التدخالت تشكل قضية رئيسة أخرى متشابكة بني
املَ ْر َكز واألَ ْط َراف ،خاصة مع تداعيات االنتشار النووي واإلرهاب والهجرة .يف البداية،
كان هناك تحول من التدخالت التنافسية التي كانت سائدة إبان الحرب الباردة،
إىل التدخالت التي قادها الغرب خالل التسعينيات والعقد األول من القرن الحادي
والعرشين .لكن هذا النمط األخري من التدخل عاد عىل نحو متزايد إىل سابق
وضوحا يف سورية بعد العامً عهده ليأخذ طابع التدخل التنافيس ،وكان هذا أكرث
.2011كانت هذه التدخالت تتم أحيا ًنا عىل أسس تتعلق باألمن القومي ضد الدول
«املارقة» التي كان ُيعتقد أنها تهدد الغرب (يف البداية أفغانستان والعراق) ،بينام
كانت تتم يف أحايني أخرى عىل أسس تتعلق بانتهاكات األمن اإلنساين ألشخاص
آخرين يف أثناء الحروب األهلية (يوغوسالفيا السابقة؛ وليبيا؛ وسورية؛ وبعض
التدخالت ً
أيضا يف أفغانستان؛ والعراق يف مرحلة ما بعد الغزو).
لقد أدى تفكك يوغوسالفيا إىل عدة دول يف العام 1991إىل نشوب حرب يف
كرواتيا بني الرصب والكروات يف العامني 1991و .1992وعندما انفصلت البوسنة
319
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف كابول ،واضطلع «الناتو» بدور متزايد يف العملية برمتها .ولكن بعد ذلك ،وفيام
يشبه إعادة التجربة السوفييتية يف أفغانستان خالل الثامنينيات ،وجدت الواليات
املتحدة نفسها متورطة يف مستنقع باهظ الثمن وغري مثمر عمقت من خطورته
الحكومات الضعيفة والفاسدة وغري الفعالة يف كابول ،وكذلك حركات التمرد القبلية
واإلسالمية التي كانت متحمسة ومسلحة جيدًا وتحظى بدعم خارجي .ومثل االتحاد
السوفييتي ،كانت الواليات املتحدة قادرة عىل كسب املعارك ،لكنها مل تتمكن من
خلق إما حكومة قادرة عىل حكم البالد بأكملها عىل نح ٍو رشعي ،وإما تأسيس جيش
أفغاين قادر عىل كسب الحرب أو السيطرة عىل األرايض .لقد شنت حركة طالبان
وجامعات أخرى معظمها إسالمي ،حرب عصابات دامئة وفعالة ضد قوات «الناتو»
والحكومة األفغانية يف كابول .وقد كان مبقدورهم شن هجامت يف أي مكان تقري ًبا،
حيث نجحوا يف احتالل أجزاء كبرية من البالد .وعىل الرغم من اإلنهاء الرسمي
لتدخل «الناتو» يف العام ،2014فإن هذه الحرب التزال مستمرة عىل نح ٍو مؤمل
وباهظ الثمن ،مع عدم وجود خروج واضح للقوات األمريكية التي لن تقبل بعودة
البالد تحت حكم طالبان.
بعد أن هزمت صدام يف العامني 1990و ،1991ولكن مل تطح به ،عاودت
ً
مرتبطا الواليات املتحدة الكرة يف العام .2003وكان السبب املنطقي لهذا التدخل
بكل من الحرب العاملية ضد اإلرهاب واألسلحة النووية العراقية املزعومة ،عىل
الرغم من عدم إثبات أي تهمة بخصوصهام عىل اإلطالق .وقد هُ زم جيش صدام
حسني برسعة عىل يد تحالف تقوده الواليات املتحدة واململكة املتحدة ،ل ُي َّ
حل
الح ًقا .لقد أدت الحكومات العراقية الضعيفة إىل تفاقم االنقسامات بني الشيعة
والسنة ،وخلقت شكو ًكا بشأن ما إذا كان ميكن الحفاظ عىل الدولة العراقية موحدة،
أو تقسيمها إىل مناطق سنية وشيعية وكردية .كانت سلطة التحالف املؤقتة التي
حكمت البالد يف العامني 2003و 2004غري كفؤة إىل حد كبري ،كام أن حظرها
ألعضاء حزب البعث من الحكومة زود املتمردين بإمدادات مفيدة من املجندين
املدربني املقصيني .وعىل الفور تقري ًبا ،بدأ مترد عنيف ضد القوات األمريكية والقوات
املتحالفة يف النمو املتزايد .حافظت زيادة القوات األمريكية يف العام 2007عىل
الصمود ،ب ْيد أنه يف العام 2011تال ذلك الصمود نوع من التاليشُ ،أعيد عىل أثره
321
تشكيل العالقات الدولية العاملية
االشتباك مع هجوم الدولة اإلسالمية بد ًءا من العام .2014لقد عمقت الحرب عداء
الواليات املتحدة إليران ،التي دعمت الجانب الشيعي يف كل من العراق وسورية،
مام أضاف إىل املشهد ُبعدًا آخر للمشاركة األمريكية الشاملة يف الرشق األوسط
إىل جانب إرسائيل واململكة العربية السعودية .لقد تم دعم وتسليح العراق تحت
حكم صدام من قبل الغرب واالتحاد السوفييتي ضد إيران خالل الثامنينيات يف
أعقاب ثورة الخميني اإلسالمية يف إيران يف العام .1979وانعكس التفاؤل األمرييك
الساذج بخصوص عملية التحول الدميوقراطي يف اسم العملية العسكرية ضد صدام:
«عملية حرية العراق» .وكذلك يف حجم قوة االحتالل الصغرية نسب ًّيا التي اعتقد
وزير الدفاع دونالد رامسفيلد Donald Rumsfeldأنها ستكون كافية بعد اإلطاحة
بصدام .لكن رسعان ما تبخر ذلك األمل مع بداية مواجهة املتمردين املسلحني
املتعددين؛ والسياسات الوطنية املتشعبة واالستبدادية يف كثري من األحيان؛ والنفوذ
الواسع لإلسالميني املسلحني واالستبداديني .وبرغم أن حرب العراق وقعت تحت
ذريعة مكافحة اإلرهاب وعدم انتشار األسلحة النووية ،فإنه ميكن إثبات أنها أدت
إىل تفاقم كلتا املشكلتني عىل نح ٍو كبري .حيث أصبحت العراق مبنزلة مكان تجنيد
وأرض تدريب للجامعات اإلرهابية ،كام ساعدت الحرب أيضا يف إقناع القيادة
الكورية الشاملية بأنه من األفضل الترسيع من وترية برنامج األسلحة النووية إذا
أرادوا تجنب مصري صدام.
أيضا عىل قيادة تدخل يف الحرب األهلية الليبية يف العام .2011 أقدم «الناتو» ً
وقد كانت حملة جوية عىل نح ٍو أسايس ،وشملت دو ًاًل غري أعضاء يف «الناتو» مثل
قطر واإلمارات العربية املتحدة والسويد .وقد دعمت جامعة الدول العربية فرض
منطقة حظر جوي ألسباب إنسانية .كان الهدف األصيل الذي فوضته األمم املتحدة
يف قرار مجلس األمن الدويل الرقم 1973إنسان ًّيا ،لكن انتهى الحلف «الناتو» بالسعي
إىل تغيري النظام واإلطاحة مبعمر القذايف .وقد امتنعت روسيا والصني عن التصويت
عىل القرار ،1973وانتقدت الح ًقا التدخل النتهاكه فكرة مسؤولية الحامية ()R2P
واستخدامه ذريع ًة لتغيري النظام.
إن العودة إىل منط التدخل التنافيس الذي تنبأ به هذا االنقسام ،ظهر أيضا خالل
الحرب األهلية السورية التي أثارها الربيع العريب يف العام .2011إذ رسعان ما تطور
322
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
القمع الحكومي القايس للمتظاهرين إىل رصاع وحيش متعدد الجوانب .فقد دعمت
إيران وميليشيا حزب الله املدعومة من طهران حكومة األسد التي تلقت أيضا دعام
روسيا .وأقدمت الواليات املتحدة ودول أخرى عىل دعم بعض الجامعات املناهضة
لألسد التي تلقت بدورها دعام تركيا .قاتلت مجموعة متنوعة من امليليشيات
كاًل من الحكومة وبعضها بعضا ،حيث كان بعضها يتطلع إىل العرقية والدينية ً
استبدال الحكومة ،يف حني كان البعض اآلخر ،مثل األكراد ،يبحث عن الحكم الذايت
والسيطرة عىل أراضيه .وقد أدى انهيار وقف إطالق النار الذي توسطت فيه األمم
املتحدة يف العام 2012إىل حرب أهلية واسعة النطاق بحلول العام ،2013خاصة
ً
اعتدااًل والدولة اإلسالمية من جهة، مع نشوب القتال بني القوات املتمردة األكرث
والقتال بني جميع تلك القوات املعارضة والحكومة من جهة أخرى .وقد شن تنظيم
الدولة اإلسالمية هجو ًما كب ًريا يف سورية يف العام ،2013وبحلول العام 2014متكن
تنظيم الدولة اإلسالمية من السيطرة رمبا عىل ثلث األرايض السورية وعىل جزء كبري
من نفطها .ويف العام 2014اشتبكت تركيا ضد تنظيم الدولة اإلسالمية واألكراد،
وبدأت الواليات املتحدة شن رضبات جوية ضد تنظيم الدولة اإلسالمية .وعىل رغم
ذلك ،نجحت الدولة اإلسالمية يف السيطرة عىل أراضيها وتوسيعها يف العام .2015
ليعقب ذلك تدخل رويس من خالل رضبات جوية يف سبتمرب 2015ضد تنظيم
الدولة اإلسالمية وامليليشيات األخرى املناهضة لألسد .كام شنت فرنسا من جهتها
رضبات جوية ضد تنظيم الدولة اإلسالمية ردا عىل الهجامت اإلرهابية يف باريس،
وأقدمت بريطانيا أيضا عىل شن رضبات جوية .لقد احتوى هذا الرصاع الفوضوي
عىل نح ٍو غري عادي عىل عنارص من حرب بالوكالة بني الواليات املتحدة وروسيا
عىل الرغم من تعاونهام بشأن هدنة فاشلة إىل حد كبري يف العام .2016أما تركيا
فقد أقدمت عىل غزو سورية يف أغسطس 2016ملواجهة كل من الدولة اإلسالمية
واألكراد .ويف العام 2017شنت الواليات املتحدة هجامت جوية مبارشة عىل قوات
الحكومة السورية ردا عىل استخدام األسلحة الكياموية .لقد ارتبطت الحرب األهلية
السورية بالعراق عرب مكاسب تنظيم الدولة اإلسالمية عىل األرض؛ حيث استوىل
ً
مستغاًل يف تنظيم الدولة اإلسالمية عىل املوصل وعىل أجزاء أخرى كثرية يف العراق،
ذلك االنقسام السيايس بني السنة والشيعة يف عراق ما بعد صدام .وبحلول العام
323
تشكيل العالقات الدولية العاملية
2015سيطر تنظيم الدولة اإلسالمية عىل مناطق كبرية من غرب العراق ورشق
سورية ،وش َّكل منطقة متامسكة مع عاصمة الخالفة املزعومة يف الرقة .ليعقب ذلك
هجامت مضادة كبرية قيدت ضد التنظيم أدت إىل تآكل معظم سيطرته بحلول
أواخر العام ،2017مبا يف ذلك خسارته للموصل يف يوليو .2017
324
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
ويف العام 2008حدثت أزمة مالية أكرب بكثري وأطول وأكرث من ناحية التداعيات.
فقد انترشت هذه األزمة املالية من أزمة الرهن العقاري يف الواليات املتحدة يف
العام ،2007لترتك العديد من البنوك تحتفظ مببالغ كبرية من السندات املالية
منخفضة القيمة أو عدمية القيمة مبا يكفي لجعل تلك البنوك مفلسة .وكانت
ً
انكامشا حادا يف السيولة يف النظام املرصيف عىل نح ٍو عام ،وانخفاضا حادا النتيجة
يف اإلقراض .وقد تبع انهيار بنك ليامن براذرز يف العام 2008عديد من عمليات
وحزم التحفيز الضخمة املمولة من طرف الدولة .ويف العام 2008 اإلنقاذ البنكية ُ
أطلقت الصني حزمة تحفيز بقيمة 586مليار دوالر ،تلتها بعد فرتة وجيزة يف العام
2009حزمة تحفيز أمريكية بقيمة 787مليار دوالر ( .)Skidelsky, 2009: 18وقد
أدى االنكامش العام يف النشاط االقتصادي إىل الركود الكبري ( )2012-2008وأزمة
الديون األوروبية ذات الصلة ( )2014-2009داخل منطقة اليورو ،والتي أثرت عىل
نح ٍو رئيس يف اليونان والربتغال وأيرلندا وإسبانيا وقربص .حيث سبب ذلك بطالة
شديدة وفرض قيو ٍد مالية ،وتطلب من الحكومات اللجوء إىل التيسري الكمي الهائل
واستدامة أسعار الفائدة املنخفضة.
من نواح كثرية ،كانت هذه أزمة كالسيكية للتحرير املايل .إن إغراء تحرير
التمويل موجود باستمرار يف النظام ألنه يسمح بتوسيع مقدار االئتامن الذي ميكن
االستفادة منه من أي مخزون معني من رأس املال .فمزيد من االئتامن يزيد من
احتامالت االستثامر واالستهالك والنمو التي تغذيها تلك املوارد اإلضافية .ومادام
الناس يعتقدون أن نظام االئتامن مستقر ،فإن املوارد اإلضافية الناتجة عن توسيع
االئتامن حقيقية وقابلة لالستخدام .يكمن الخطر يف أنه ال أحد يعرف إىل أي
مدى ميكن دفع مثل نسبة املديونية هذه ،وال أحد يريد أن يكون أول من يخرج
من نشاط مربح للغاية .ولكن عندما تصبح النسبة بني رأس املال الفعيل ومقدار
االئتامن املمنوح منه عالية جدًا ،تنكرس الثقة ،مام يسبب حدوث انهيار داخيل
هائل ورسيع ومؤلِم للسيولة واالئتامن .إن االبتكارات املالية املعقدة والقروض
املحفوفة باملخاطر وجني األرباح املفرتس ُت َق ِّوض مصداقية النظام ،وبعض املحفزات
(يف حالة العام ،2008إخفاق الرهن العقاري الثانوي يف الواليات املتحدة) يكشف
الفقاعة ويسبب انهيا ًرا رسي ًعا للثقة .لقد أوضح كل من روبرت سكيدلسيك )
325
تشكيل العالقات الدولية العاملية
لعدم املساواة بني البلدان عىل نح ٍو مطرد من 0.80يف العام 1988إىل 0.65يف
العام ،2013بينام ارتفع عىل نح ٍو حاد يف حالة عدم املساواة داخل البلدان خالل
التسعينيات ،وكان مييل إىل االستقرار يف العقد األول من القرن الحادي والعرشين.
وكام أفادت منظمة التعاون االقتصادي والتنمية (« :)2011: 22معامل جيني» ...بلغ
متوسط 0.29يف دول منظمة التعاون االقتصادي والتنمية يف منتصف الثامنينيات.
وعىل رغم ذلك ،بحلول أواخر العقد األول من القرن الحادي والعرشين ،ارتفع بنسبة
10يف املائة تقري ًبا ليصل إىل 0.316بوصة .وقد ذكرت صحيفة «فاينانشيال تاميز»
( )Waldau and Mitchell, 2016أن «معامل جيني» للصني كان ،0.3مرتفعا إىل
نحو 0.49خالل الثامنينيات ،وأعىل عىل نح ٍو ملحوظ من الرقم املامثل للواليات
املتحدة ( .)0.41بينام كان «معامل جيني» لروسيا يف العام 2013هو ،0.40وللهند
.)UNDP, 2016( 0.34بالنسبة إىل دول االتحاد األورويب البالغ عددها 27دولة،
كان معامل جيني للعام 2016هو .)Eurostat, 2017( 3.1وقد بدأ صعود البقية
(٭) عامل جيني (نسبة إىل عامل اإلحصاء اإليطايل كورادو جيني) من املقاييس املهمة واألكرث شيوعا يف قياس عدالة
توزيع الدخل القومي[ .املرتجم].
326
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
يف سد فجوة عدم املساواة القامئة بني حفنة الدول املتقدمة والدول املتخلفة ،والتي
انفتحت خالل القرن التاسع عرش .لكن داخل عديد من البلدان ،وعىل األخص
الواليات املتحدة والصني وروسيا ،توسعت فجوة عدم املساواة بني األثرياء والبقية
عىل نح ٍو حاد.
مجتمعة معا ،أدت حوادث الركود الكبري الذي بدأ يف العام 2008واالنهيار
الظاهري للعقد االجتامعي للرأساملية الذي انعكس يف ارتفاع عدم املساواة إىل فتح
أزمة الرشعية .لقد ترافقت اللحظات االفتتاحية يف هذه األزمة مع التصويت عىل
خروج بريطانيا من االتحاد األورويب وانتخاب ترامب يف العام .2016وبدا أن التقدم
الرسيع يف تطوير الذكاء االصطناعي ( )AIوتطبيقه عىل اإلنتاج سيوسع هذه األزمة
أكرث من خالل تآكل رشعية الرأساملية داخل البلدان (إضافة الخوف من البطالة
الدامئة إىل االستياء السائد نتيجة عدم املساواة) ،وفيام بينها (مام يهدد النمط
الراسخ لتنمية األَ ْط َراف من خالل العاملة الرخيصة والنمو الذي يقوده التصدير).
- 2 - 13اإلرشاف البيئي
رمبا تكون اإلدارة البيئية هي القضية النهائية املشرتكة املصري ،والتي تربط بني
املَ ْر َكز واألَ ْط َراف .وبغض النظر عن االختالفات القامئة عىل مستوى الرثوة والقوة
والثقافة ،فإن جميع البرش يتشاركون يف كوكب واحد ،وإذا تغريت تلك البيئة املادية
بطرق معينة أو ترضرت فإننا جمي ًعا سنعاين عواقب ذلك .تأيت التهديدات لبيئة
الكوكب بأشكال عديدة ،قد يكون بعضها طبيعي (الزالزل ،والرباكني ،والصخور
الفضائية ،والدورات املناخية ،واألوبئة) وقد يكون بعضها ناتجا عن اإلنسان (الشتاء
النووي ،واألمراض ا ُمل َه ْند ََسة ،وتلوث األرض والبحر والجو) .كام أن بعض القضايا
األخرى هي عبارة عن مزيج من هذا وذلك ،كام هو الحال عند مامرسات الزراعة
البرشية ،عىل سبيل املثال إنشاء تجمعات كبرية من الحيوانات ،مام يؤدي إىل
ترسيع تطور البكترييا والفريوسات ،وزيادة إمكانية انتقالها من الحيوانات إىل البرش
(مثل إنفلونزا الطيور وإنفلونزا الجامل) .لقد اكتسب البرش قدرات للتعامل مع
بعض التهديدات الطبيعية ،ولكن يف الوقت نفسه ،بدأت أنشطتهم يف الهندسة
الجغرافية للكوكب بطرق غري مقصودة وغال ًبا ما تكون ضارة .وتشمل التأثريات
327
تشكيل العالقات الدولية العاملية
تطبيق أهداف االنبعاثات الطوعية عىل الجميع .وقد استُبدل بهذا الحل مجموعة
التزامات أكرث مرونة وطوعية من أجل تحصيل قبول عاملي أكرث ملسؤولية الترصف.
وعىل غرار االستجابة تجاه استنفاد طبقة األوزون يف أواخر الثامنينيات عندما حظر
بروتوكول مونرتيال إنتاج املواد الكيميائية املستنفدة لألوزون (،)Benedick, 1991
أدى صعود اإلرشاف البيئي إىل وضع نظام أسايس للمجتمع الدويل العاملي ،حيث
أشار هذا النظام إىل أنه عند مواجهة قضايا املصري املشرتك امللحة ،فإن املجتمع
الدويل ميكنه أن يقدم استجابات جامعية مهمة عىل الرغم من االختالفات السياسية
واالقتصادية والثقافية القامئة بني أعضائه.
إن للسيطرة العاملية عىل األمراض تاريخا طويال ،ولكن يف العام 2000حصل حدث
بارز عندما أقر مجلس األمن الدويل ألول مرة بالصلة القامئة بني الصحة واألمن من
خالل إعالن أن جائحة فريوس نقص املناعة البرشية /اإليدز تشكل «خطرا عىل األمن
واالستقرار» ،وذلك يف القرار الرقم .(Poku, 2013: 529; Deloffre, 2014) 1308
ومنذ نهاية الحرب الباردة ،أدت زيادة القدرة عىل التفاعل؛ خاصة مع اندماج الصني
والدول التي خلفت االتحاد السوفييتي السابق يف االقتصاد العاملي ،إىل جعل الناس
يف كل مكان أكرث اتصاال وقربا بعضهم من بعض من خالل التجارة والسفر والهجرة،
وهو ما أثار مخاوف عاملية بشأن مكافحة األمراض .ومنذ التسعينيات كان احتامل
أن تؤدي إنفلونزا الطيور إىل ظهور سالالت قادرة عىل إصابة الناس عىل نطاق واسع
نشطا خاصة يف رشق آسيا .فقد ظهرت حاالت إصابة بني البرش من ميثل احتامال ً
حني إىل آخرُ ،وأع ِدمت عىل نح ٍو دوري أعداد كبرية من الطيور املصابة .ونظ ًرا إىل
السهولة التي ميكن أن تنترش بها اإلنفلونزا ،ومعدالت الوفيات املرتفعة املرتبطة
ببعض سالالتها ،يظل هذا األمر يشكل مصدر قلق .إذ يكاد يكون من املؤكد أن
أشخاصا أكرث مام قتلت
ً جائحة اإلنفلونزا التي أعقبت الحرب العاملية األوىل قتلت
الحرب نفسها(٭).
(٭) جائحة إنفلونزا 1918أو ما عرف باإلنفلونزا اإلسبانية ،هي جائحة إنفلونزا قاتلة انترشت يف أعقاب الحرب
ٌ
خبيث ومدم ٌر من فريوس اإلنفلونزا العاملية األوىل يف أوروبا والعامل وخ َّلفت ماليني القتىل ،وسبب هذه الجائح َة نوعٌ
(أ) من نوع فريوس «اإلنفلونزا أ» ،H1N1ومتيز الفريوس برسعة العدوى ،حيث تقدر اإلحصائيات الحديثة أن نحو
500مليون شخص أصيبوا بالعدوى ،وتشري التقديرات املتحفظة إىل وفاة ما بني 50مليون شخص إىل 100مليون من
جراء اإلصابة باملرض أي ما يعادل ضعف املتوفني خالل الحرب العاملية األوىل[ .املرتجم].
329
تشكيل العالقات الدولية العاملية
عىل الرغم من عدم وجود تفيش وبايئ مبقياس العامني 1918و ،1920فإنه
كانت هناك عدة أحداث كافية للحفاظ عىل مستوى املخاوف الجامعية .ففي
العامني 2002و 2003كان هناك انتشار ملتالزمة الجهاز التنفيس الحادة الوخيمة
(سارس) ،خاصة يف الصني ،مع وجود عدة آالف من الحاالت ومئات الوفيات .ويف
تفش صغرياململكة العربية السعودية ( )2014وكوريا الجنوبية ( )2015كان هناك ٍ
ملتالزمة الرشق األوسط التنفسية ،واملعروفة ً
أيضا باسم إنفلونزا اإلبل .ويف الفرتة
من العام 2013إىل العام ،2016كان هناك انتشار كبري جدًا ملرض فريوس اإليبوال
يف غرب أفريقيا .وقد أىت التحذير األول بشأن تفيش هذا املرض من منظمة الصحة
العاملية ( )WHOيف مارس ،2014عىل الرغم من عدم اتخاذ إجراءات حاسمة
من قبل املجتمع الدويل العاملي يف ذلك الوقت .واتضح أنه أكرب انتشار للفريوس
واألطول واألشد تعقيدًا منذ اكتشافه يف العام .1976وعندما بلغت األزمة ذروتها
يف سبتمرب ،2014وصلت الحاالت األسبوعية إىل ما يقرب من 1000حالة (WHO,
.)2014; Santos et al., 2015وعندما أعلنت منظمة الصحة العاملية رسميا انتهاء
جائحة إيبوال يف 14يناير ،2016كانت األزمة قد استمرت نحو عامني ،أصيب
خاللها أكرث من 28600شخص بالفريوس وفقد أكرث من 11300شخص حياتهم،
كان معظمهم يف غينيا وليبرييا وسرياليون ( .)WHO, 2016كانت هناك استجابة
دولية كبرية الحتواء املرض ،حيث أرسلت الواليات املتحدة والصني أفرادًا عسكريني
للعمل جن ًبا إىل جنب مع جهات فاعلة غري حكومية مثل منظمة أطباء بال حدود.
كام اعتمد مجلس األمن الدويل القرار الرقم 2177يف 18سبتمرب ،2014الذي أعلن
أن تفيش فريوس إيبوال يف أفريقيا يشكل «تهديدًا للسلم واألمن الدوليني» ،مام دفع
إىل إضفاء الطابع األمني عىل الصحة (أمننة القطاع الصحي) بعمق وعىل مستوى
غري مسبوق ( .)Snyder, 2014وعىل الرغم من أن الجنس البرشي مل يخضع بعد
قاس يف القرن الحادي والعرشين بشأن هذا املصري املشرتك ،فإن وجوده الختبار ٍ
ُ
معرتف به يف الشبكة العاملية لإلنذار بتفيش األمراض والتصدي لها التي أنشئت يف
العام 2000من أجل ربط عديد من املنظامت العامة والخاصة التي تعمل عىل
مراقبة األوبئة واالستجابة لتهديداتها.
330
العامل بعد العام « :1989األحادية القطبية» ،العوملة وصعود البقية
- 2 - 14األمن السيرباين
لقد أضحت قضية املصري املشرتك أكرث تعقيدًا إىل حد ما تحت عنوان األمن
السيرباين ( .)Hansen and Nissenbaum, 2009إن األمن السيرباين معقد ألنه
ميثل مصريا مشرتكا أو باألحرى قضية أمنية مشرتكة (إىل الحد الذي يعتمد فيه
االقتصاد العاملي والشبكات االجتامعية العاملية عىل األداء الفعال لإلنرتنت باعتبارها
نظاما عامليا) ،ومصريا قابال للتجزئة أو قضية أمن قومي (إىل حد امتالك كل من
الدول والجهات الفاعلة غري الحكومية الوسائل والحوافز ملهاجمة بعضها بعضا عرب
اإلنرتنت ،مام يؤدي إىل حدوث اضطرابات مستهدفة) .إن جانب األمن القومي
يجعل من الحرب السيربانية مصدر قلق بالغ (.)Singer and Friedman, 2014
وقد كانت إستونيا؛ وجورجيا؛ وإيران؛ والواليات املتحدة؛ والصني من بني الدول
العديدة التي عانت مثل هذه الهجامت ،التي غال ًبا ما تكون هجامت يصعب
تحديد مصدرها ،إذ إنها قد تأيت من دول أخرى أو من جهات فاعلة غري حكومية.
إن األمن السيرباين نشأ كقضية مصري مشرتك بسبب الطريقة التي ظهرت بها
اإلنرتنت لتحل محل التلغراف والهاتف والراديو ،لتشكل بذلك مرحلة تالية من
االتصاالت املتكاملة عامل ًّيا .لقد وفرت اإلنرتنت اتصاالت عالية الحجم وعالية الرسعة
ومنخفضة التكلفة ،كام وفرت إمكانية الوصول إىل املعلومات ألعداد كبرية من الناس
حول العامل .بد ًءا من مرافق االتصاالت العسكرية يف الستينيات ،أصبحت اإلنرتنت
تشكل شبكة مهمة من الشبكات خالل الثامنينيات ،لتنطلق يف مجال االتصاالت
الجامهريية مع إدخال صفحات الويب العاملي يف العام .1993رمبا كان نحو 150
مليون شخص عىل اتصال باإلنرتنت بحلول أواخر التسعينيات (Christensen,
) .1998وتشري التقديرات إىل أن أكرث من ملياري شخص كانوا متصلني باإلنرتنت
بحلول العام ،2013وأن حركة اإلنرتنت كانت تنمو مبعدل 50يف املائة سنو ًّيا
( .)Mulgan, 2013: 46مل تزد اإلنرتنت من نطاق أو رسعة االتصال عرب الوسائل
اإللكرتونية السابقة .ولكن من خالل خفض التكاليف ،ساهمت اإلنرتنت يف زيادة
غرَّيتنسبة الوصول إىل االتصاالت وحجمها ،وباالعتامد عىل طرق ال تعد وال تحىص َّ
املحتوى والغرض من االتصال .ومن خالل ذلك ،زادت اإلنرتنت من مدى انتشار
ثورة االتصاالت وعمقها وتأثريها بطرق ميكن اعتبارها تحولية للرشوط اإلنسانية .إن
331
تشكيل العالقات الدولية العاملية
اإلنرتنت اآلن تعد موردا عامليا سيكون لخسارته تأثري كبري .لكنها ً
أيضا تعترب سلعة
قابلة للتجزئة وال يرتبط استخدامها فقط بسري االقتصاد العاملي واملجتمع العاملي،
ولكن استخدامها صار يرتبط ً
أيضا باإلرهاب والهجرة وانتشار األسلحة النووية.
من املؤكد أن التنمية االقتصادية يف األَ ْط َراف متفاوتة عىل نح ٍو ملحوظ وستظل
تشهد تفاوتا .وعىل رغم ذلك ،يشهد العامل «صعودًا لل َب ِقية» (;Zakaria, 2009
)Acharya, 2014b:27–31عىل الصعيد االقتصادي عىل نح ٍو أكرث عمومية .فوف ًقا
لربنامج األمم املتحدة اإلمنايئ ( ،)UNDP, 2013: 2ارتفعت حصة الجنوب العاملي
من الناتج املحيل اإلجاميل العاملي من 33يف املائة يف العام 1980إىل 45يف املائة
يف العام .2010وخالل الفرتة نفسها ارتفعت حصته من التجارة العاملية للبضائع
من 25يف املائة إىل 47يف املائة .وتقدر منظمة التعاون االقتصادي والتنمية أن
الجنوب العاملي ميكن أن ميثل 57يف املائة من الناتج املحيل اإلجاميل العاملي بحلول
العام .)Guardian Datablog, 2012( 2060كام ينعكس صعود ال َب ِقية يف الكثافة
املتزايدة للتفاعالت بني الجنوب والجنوب .فوف ًقا لربنامج األمم املتحدة اإلمنايئ
( ،)2013: 2قفزت التجارة بني بلدان الجنوب من أقل من 8يف املائة من تجارة
البضائع العاملية يف العام 1980إىل أكرث من 26يف املائة يف العام .2011ويقدر مؤمتر
األمم املتحدة للتجارة والتنمية ( )2015: 5, 8–9أن تدفقات االستثامر األجنبي
املبارش بني بلدان الجنوب تشكل اآلن أكرث من ثلث التدفقات العاملية .كام وجد
املؤمتر أنه يف العام ،2015أصبحت الرشكات متعددة الجنسيات القادمة من آسيا
النامية (باستثناء اليابان) أكرب مجموعة استثامرية يف العامل ألول مرة ،حيث متثل
ما يقرب من ثلث اإلجاميل العاملي .وقد منا االستثامر الخارجي من قبل الرشكات
متعددة الجنسيات الصينية عىل نح ٍو أرسع من التدفقات الوافدة إىل البالد ،حيث
وصل إىل مستوى جديد بلغ 116مليار دوالر.
رمبا تكون األزمة االقتصادية للعام 2008مبنزلة التاريخ املعياري لنقطة التحول
وىَل ا ُمل َعدلة ُ
للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي (الغريب) والصيغة ال َثا ِنية بني الصيغة ُ
األ َ
للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي (املابعد الغريب) ،حيث ينحدر كل من الواليات املتحدة ُ
واالتحاد األورويب إىل أزمة عميقة ،وتشعر الصني وروسيا وتركيا وغريها بثقة أكرب
وعىل نح ٍو ملحوظ .لقد أضعفت األزمة االقتصادية الغرب ماد ًّيا ،هذا باإلضافة إىل
أيضا .إن تزايد عدم أن األيديولوجية الليربالية التي كانت تدعم قوته قد تآكلت ً
املساواة قاد إىل التساؤل عن مدى توافق الرأساملية والدميوقراطية ،أما مامرسات
الواليات املتحدة يف الحرب العاملية ضد اإلرهاب فقد قوضت من قدرتها عىل
333
تشكيل العالقات الدولية العاملية
التحدث عن حقوق اإلنسان .وميكن القول إن الواليات املتحدة يف عهد ترامب بدأت
تشبه االتحاد السوفييتي يف الحرب الباردة يف سنواته املتدهورة :قوي ًة عسكر ًّيا ،عىل
رغم أنها غري قادرة عىل استخدام هذه القوة لتحقيق تأثري جيد .كام أنها صارت أقل
إثارة لإلعجاب عىل نح ٍو متزايد اقتصاد ًّيا واجتامع ًّيا وسياس ًّيا /أيديولوج ًّيا.
إن ما لدينا اآلن هو مجتمع دويل عاملي مبركز ُم َت َوسع ،مع َم ْر َكز غريب متآكل
وأَ ْط َراف متقلصة .لقد بدأت الغا ِئية الليربالية تفقد مصداقيتها ،وتشري األصوات
املؤيدة لرتامب ولخروج بريطانيا من االتحاد األورويب إىل أزمة تلوح يف األفق ستمس
الرأساملية والدميوقراطية داخل املَ ْر َكز .إن االفرتاض الليربايل القائل بأن الدميوقراطية
هي املرافقة الطبيعية والحتمية للرأساملية مل يعد افرتاضا ذا مصداقية ،وقد صار
الحزب الشيوعي الصيني يتحدى ذلك الطرح علنًا .إن االنفتاح عىل أنواع مختلفة
من الرأساملية سيقود عىل نح ٍو طبيعي نحو فتح النقاشات ،وتقديم أمثلة ملموسة
جديدة بشأن أفضل السبل إلدارة املفاضالت بني الحرية والسيطرة ،واملصالح
والحقوق الفردية والجامعية ،واالزدهار وعدم املساواة ،واالنفتاح واملرونة يف مقابل
االستقرار .ليس من الواضح أنه سيكون هناك تقارب عىل منوذج واحد «أفضل»
لالقتصاد السيايس ،أو أن مثل هذا التقارب إذا حدث ،فسيكون متوافقا مع الخطوط
الكالسيكية لليربالية الدميوقراطية .وإذا كان مثة من تقارب ،فيبدو أنه أقرب إىل
أن يأخذ مكانا وسطا يف منتصف الطيف .فبينام فتحت الصني والهند وغريهام
اقتصاداتهام ومجتمعاتهام إىل حد ما ،أجربت األزمة االقتصادية وسياسات الهجرة
القوى الليربالية التقليدية عىل إعادة تأكيد مزيد من سيطرة الدولة .ويف هذا املزيج
تكتسب مجموعة القضايا العابرة للحدود ذات املصري املشرتك املوضحة سابقا
أهمية عىل القضايا التقليدية املشرتكة بني الدول.
وسيعمد الفصل التاسع إىل رصد هذه الخيوط ويفحص كيف ميكنها أن تتكشف
خالل العقود القادمة يف ظل مجتمع دويل عاملي تحدده التعددية العميقة.
334
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
8
مقدمة
يف الفصل السادس حاججنا بأن حقل
لتأسيس ثانٍ .حيث اتسع
ٍ العالقات الدولية خضع
وتعمق إضفاء الطابع املؤسيس عليه؛ وأصبحت
الواليات املتحدة ُمُتثل مركز هذا التخصص
املعريف (عىل الرغم من فشلها يف تحقيق الهيمنة
الفكرية عليه)؛ ُوأغ ِفل كثري من أفكاره العائدة
إىل ما قبل العام 1945؛ وأصبح هذا التخصص
أكرث أكادميية ،مع مزيد من التقسيم الفرعي
إىل مواضيع ومقاربات متخصصة .لقد ظل
حقل العالقات الدولية ُيركز عىل نحو أسايس
«من املتوقع أن تكون هجامت الحادي
عىل مخاوف دول املركز ،وكان أقل تأث ًرا بإنهاء عرش من سبتمرب قد س َّببت ارتفاعا كبريا
االستعامر وأكرث اهتامما بالتنافس النووي القائم ودامئا لدراسات اإلرهاب ،وهو املجال
الذي كان حتى أواخر التسعينيات ً
مجااًل
بني القوتني العظميني .ولكن كان مثة بعد ذلك هامش ًيا إىل حد ما»
335
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بعض عالمات التكامل بني تفكري حقل العالقات الدولية يف املركز واألطراف ،حيث إن
إنهاء االستعامر أضفى الرشعية عىل املنظورات املناهضة لالستعامر والعنرصية والتي
كانت ساب ًقا تشكل أفكارا معزولة داخل األطراف .تطرقنا أيضا إىل هيمنة النظرية
الواقعية الجديدة والليربالية الجديدة (وتوليفة جديد -جديد) ،وناقشنا مجموعة
متنوعة من النظريات املنافسة لهام ،حيث كان بعضها أكرث نقدًا (املاركسية ،وأبحاث
السالم ،وما بعد االستعامرية ،ونظرية التبعية) وبعضها اآلخر كان أكرث أرثوذكسية
(املدرسة اإلنجليزية ،واالقتصاد السيايس الدويل الليربايل).
ويف هذا الفصل سنتتبع َت َف ُّح َص هذه القصص و ُنضيف إليها بعض املقاربات
والتقسيامت الفرعية الجديدة الواردة ضمن هذا التخصص مثل النظرية النقدية؛
والنظرية النسوية؛ والنظرية البنائية .ويف سياق اإلسهاب يف تفصيل تطور تخصص
العالقات الدولية ،سنأخذ بعني االعتبار مناقشة الفصل السابع املتعلقة بالعوملة
املتزايدة للسياسات العاملية التي أثارتها نهاية القطبية الثنائية وما يسمى بـ «لحظة
القطبية األحادية» للواليات املتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدةُ .ت َعد هذه
الفرتة أبسط من الناحية األيديولوجية ألن الرأساملية (وليس الدميوقراطية) انترصت
أيضا بتحوالت معقدة عىل مستوى القوة يف الحرب الباردة ،لكن هذه الفرتة تتميز ً
العاملية .فقد ظلت الواليات املتحدة مهيمن ًة فرت ًة وجيزة وكانت تحالفاتها التزال
قوية ،ولكن بعد ذلك واجهت واشنطن تحديات متزايدة ُمتَأ ِّتي ًة من القوى الكربى
األخرى ،كام واجهت أيضا تحديات ارتبطت بسياساتها الداخلية .وأصبح العامل
الثالث أضعف من الناحية الجامعية ،لكن بعض أعضائه ،ال سيام الصني والهند،
كانوا ينتقلون إىل نادي القوى الكربى ،حيث ستتحالف الصني وروسيا ضد الواليات
املتحدة .وستبدأ الحدود التي كانت واضحة ساب ًقا بني املركز واألطراف تشهد حالة
من الضبابية وعدم الوضوح .وميتزج مع كل هذا ظهور تحديات عرب وطنية معقدة
مثل اإلرهاب؛ والجرمية؛ وحقوق اإلنسان؛ والهجرة؛ وكذلك مجموعة من املصائر
املشرتكة ا ُمل ِلحة مبا يف ذلك عدم االستقرار يف االقتصاد العاملي؛ ومجموعة متنوعة
من التهديدات البيئية.
عىل الرغم من أن العام 1989مل ُي ِرِش إىل حدوث تحول يف املجتمع الدويل
العاملي باملدى نفسه الذي حدث يف العام ،)Buzan and Lawson, 2014a( 1945
336
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
فإننا نجادل بأنه خالل العقد األول من القرن الحادي والعرشين بدأ هنالك تحول
وىَل ا ُمل َعدلة إىل الصي َغة الثا ِنية للمجتمع الدويل العاملي .فالهيمنة من الصي َغة ُ
األ َ
الغربية عىل املجتمع الدويل العاملي واملستمرة منذ القرن التاسع عرش بدأت
ُتستبدَل عىل نحو واضح من خالل توزيع أكرث انتشا ًرا للرثوة والقوة والسلطة
الثقافية ،وهي ِب ْن َية صنفناها عىل أنها متثل تعددية عميقة (والتي سنتعرض لها
مبزيد من التفصيل يف الفصل التاسع) .ويف حني ال ميكن للمرء دامئًا إنشاء عالقة
مبارشة أو وثيقة بني التحوالت العاملية وبروز النظريات املخالفة ،ميكننا بالتأكيد
تتبع تأثري تطورات مامرسة العالقات الدولية يف تفكري حقلها املعريف ،وذلك جزئ ًيا
من حيث نوع القضايا التي تحتل مركز الصدارة؛ وجزئ ًيا من حيث كيفية تحدى
تطورات العامل الحقيقي ملختلف املقاربات النظرية؛ وجزئ ًيا من حيث من يضطلع
بعملية التنظري وأين يتم ذلك .ولعل األهم من وجهة نظرنا هو كيف أن صعود
تحدُ لتؤدي إىل تآكلالدول غري الغربية والعوملة املتزايدة للمجتمع الدويل العاملي َت ِ
الحدود القامئة بني املركز واألطراف يف العالقات الدولية كمامرسة وأيضا يف حقلها
املعريف .وقد فتح هذا بدوره مساحة لألصوات التي تنادي بتعددية أكرب ضمن هذا
التخصص املعريف ،وتأجيج املطالبة بحقل العالقات الدولية العاملي الذي يتجاوز
النظريات النقدية السابقة ليصل إىل استيعاب األصوات املابعد استعامرية التي
ظلت مهملة حتى اآلن .وعىل الرغم من أننا نجادل بأن ِبنْية املركز -األطراف آخذة
يف االنهيار ،فإننا ،ومن أجل االستمرارية ،سنحافظ عىل ال ِبنْية نفسها كام تم ذلك
مع الفصول السابقة :أي كام تم مع تلك الفصول املتعلقة بإضفاء الطابع املؤسيس
وتفكري حقل العالقات الدولية يف املركز ويف األطراف.
- 1املأسسة
يف الفصل السادس جادلنا بأن التوسع الكبري يف مأسسة حقل العالقات الدولية
عنرصا أساس ًيا يف قضية التأسيس الثاين لهذا التخصص املعريف.
بعد العام 1945كان ً
فقد ُأنشئ النمط الرئيس للجمعيات األكادميية واملجالت العلمية ومراكز الفكر
والتدريس الجامعي الخاصة بحقل العالقات الدولية خالل فرتة الحرب الباردة،
واليزال ذلك املسار مستم ًرا حتى اليوم .ولكن حتى العام 1989كانت تطورات
337
تشكيل العالقات الدولية العاملية
املأسسة تلك حاصلة داخل املركز إىل حد كبري ،مع وجود قليل من املأسسة فقط
داخل األطراف .إن ما حصل من ناحية التأسيس منذ العام 1989اشتمل يف األساس
وتعميق لهذا النمط ،وامتداده إىل ما وراء املركز ليصل إىل األطراف،
ٍ توسيع
ٍ عىل:
وتآكل عىل نحو كبري للحدود املؤسسية القامئة بني املركز واألطراف.
ٍ
وحيثام ُأريس بالفعل الطابع املؤسيس استمر حقل العالقات الدولية يف االتساع
والتعميق ،سواء داخل املركز أو خارجه .وبينام كانت الواليات املتحدة تضم عديدا
من الجمعيات األكادميية ،فقد ُأنشئت عديد من الجمعيات الجديدة يف أوروبا
الرشقية والغربية ،وما ال يقل عن 15جمعية أخرى خارج الغرب ،خاصة يف آسيا
وأمريكا الالتينية (انظر الجدول .)8-1
338
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
ظلت جمعية الدراسات الدولية ( ISAألمريكا الشاملية) هي األكرب واألكرث ثرا ًء
إىل حد بعيد ،حيث استمرت عىل ذلك الحال حتى العام .1989إذ ارتفع عدد فروع
جمعية الدراسات الدولية التي لديها اهتامم مبوضوع أو مقاربات العالقات الدولية
إىل 30فرعًا بحلول العام ،1917مام يدل عىل توسيع نطاق االهتامم املتعلق بحقل
العالقات الدولية(٭) .وقد زادت عضوية جمعية الدراسات الدولية لتصل إىل 7آالف
بحلول العام (2017٭٭).
339
تشكيل العالقات الدولية العاملية
كام ُأطلق ما ال يقل عن 16مجلة جديدة ،مام م َّكن أوروبا وآسيا من البدء يف
تحدي احتكار أمريكا شبه الكامل ملجالت العالقات الدولية املرموقة التي تسيطر
عىل الجوانب الفكرية للتخصص (انظر الجدول .)8-2
الجدول ( :)8-2مجالت العالقات الدولية الجديدة
الجهة النارشة سنة النرش اسم املجلة م
/ 1991 مجلة دراسات األمن 1
/ 1994 2مجلة االقتصاد السيايس الدويل
مجلة الدراسات الدولية
جامعة سيول الوطنية 1994 3
واإلقليمية
الجمعية األملانية للعلوم السياسية – قسم
1994 مجلة العالقات الدولية 4
العالقات الدولية
املجلس األكادميي لألمم املتحدة 1995 الحوكمة العاملية 5
الفريق الدائم املعني بالعالقات الدولية،
املجلة األوروبية للعالقات
واالتحاد األورويب للبحوث السياسية 1995 6
الدولية
والجمعية األوروبية للدراسات الدولية
جمعية الدراسات الدولية -تويل املسؤولية
1999 مجلة الدراسات الدولية 7
من مركز مريشون
مجلة العالقات الدولية آلسيا
الجمعية اليابانية للعالقات الدولية 2001 8
واملحيط الهادئ
جامعة ييل 2005 مجلة ييل للشؤون الدولية 9
/ 2005 مجلة األمن اآلسيوي 10
مركز دراسة املجتمعات النامية 2005 مجلة بدائل 11
جمعية الدراسات الدولية 2005 مجلة تحليل السياسة الخارجية 12
معهد العالقات الدولية ،جامعة تسينغهوا 2006 املجلة الصينية للسياسة الدولية 13
مجلة علم االجتامع السيايس
جمعية الدراسات الدولية 2007 14
الدويل
جمعية الدراسات الدولية 2009 مجلة النظرية الدولية 15
جمعية الدراسات الدولية الربيطانية 2016 16املجلة األوروبية لألمن الدويل
340
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
341
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الدولية» .WISCيف الوقت نفسه فإن ذلك يعني أن جمعية الدراسات الدولية ،برغم
حجمها ووزنها الهائلني ،أصبحت يف بعض النواحي هيئة عاملية بحكم الواقع .فقد
أصبحت مؤمتراتها السنوية هي املكان األكرث مالءمة إلقامة الشبكات العاملية ،وقد
بذلت جمعية الدراسات الدولية قصارى جهدها للتعاون مع فروعها األخرى وعقد
بعض مؤمتراتها العديدة يف مناطق أخرى ،مبا يف ذلك آسيا وأمريكا الالتينية .واعتبا ًرا
من العام 2018كان لدى جمعية الدراسات الدولية نحو 75منظمة رشيكة مع وجود
نحو ثلث تلك املنظامت يف آسيا وأمريكا الالتينية والرشق األوسط وأفريقيا(٭) .يف حني
تضم اللجنة العاملية للدراسات الدولية 24منظم ًة عضوا مبا يف ذلك جمعية الدراسات
توزيع مامثل عرب القارات(٭٭) .وبالتعاون م ًعا ،وبطرقهام املختلفة ،فإنٍ الدولية ،مع
جمعية الدراسات الدولية ISAواللجنة العاملية للدراسات الدولية WISCأصبحتا
تخصصا معرف ًيا
ً متثالن الوجه العام ملدى تقدم حقل العالقات الدولية يف جعل نفسه
عامل ًيا .ومن بعض النواحي ،نفذت هاتان املنظمتان عملية الربط بني املركز واألطراف،
والتي بدأت مع مؤمتر الدراسات الدولية ISCخالل فرتة ما بني الحربني العامليتني.
342
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
يف الفصل السادس تطرقنا ملوضوع التنوع والتاميز يف تفكري حقل العالقات
الدولية داخل املركز .ستستمر تلك العملية خالل هذه الفرتة ،وتندمج عىل نحو
متزايد مع انهيار الحواجز القامئة بني حقل العالقات الدولية يف املركز وحقل
العالقات الدولية يف األطراف .أحد العنارص املهمة يف ذلك هو تطور اإلنرتنت الذي
ومتاحا عىل نطاق أوسعً جعل االتصال يف جميع أنحاء العامل أرخص وأرسع وأسهل
منذ التسعينيات .وعىل الرغم من أن اإلنرتنت كانت متمركزة يف املركز يف البداية،
فإنها رسعان ما أصبحت عاملية ،مام س َّهل االتصال األكادميي والتعاون عرب حدود
املركز -األطراف .وبرغم أن الواليات املتحدة ظلت أكرب مركز لحقل العالقات
الدولية والتزال مؤثرة للغاية ،فإن ذروة قوة الواليات املتحدة يف ظل القطبية
األحادية والعوملة خالل التسعينيات مل تكن مصحوبة بالهيمنة الفكرية األمريكية
وبداًل من ذلك اتسعت وتعمقت أنواع التحديات القوية يف حقل العالقات الدوليةً .
التي تواجه توليفة «جديد -جديد» ( )Neo-Neoوالتفسريات الوضعية لـ «العلم»
أيضا تتأىت عىل نحو متزايد ليس فقط داخل املركز ،ولكن صارت تلك التحديات ً
من األطراف ،والواقع أنها صارت مطروحة بقوة داخل الواليات املتحدة نفسها.
وفيام ييل سنبدأ بالتمعن يف كيفية تكيف التوليفة الجديدة والدراسات األمنية
مع عامل ما بعد الحرب الباردة ،ثم نتطرق إىل النظريات املنافسة لها سواء كانت
من النظريات القدمية (املدرسة اإلنجليزية ،وأبحاث السالم) أو الجديدة (النظرية
البنائية ،والنظرية النسوية ،والنظرية النقدية) .لنختتم الفصل بإلقاء نظرة عىل
الجولة الثالثة من «النقاشات الكربى» لحقل العالقات الدولية.
- 2 - 1الواقعية
بعد فشلهم يف التنبؤ بنهاية الحرب الباردة ،دخل الواقعيون الجدد فرتة التسعينيات
بطريقة ما من الباب الخلفي .ومع زوال االتحاد السوفييتي ،كانوا ليواجهوا أمامهم
واق ًعا يشهد تحو ًاًل من نظام ثنايئ القطب إىل نظام أحادي القطب .غري أن نظريتهم
مل يكن لها مكان الستيعاب الهيكل أحادي القطب ،إذ إنه؛ وف ًقا للمنطق الواقعي،
يجب أن مينع ميزان القوى حدوث مثل هذا التحول يف النظام .وبحكم الرضورة،
كان عليهم أن يروا هذه القطبية األحادية كلحظة انتقالية قصرية تتبعها عودة
343
تشكيل العالقات الدولية العاملية
حتمية إىل نظام متعدد األقطاب ( .)Layne, 1993, 2006 ; Waltz, 1993مل ُت َف ِّرق
أيضا بني القوى العظمى Superpowersوالقوى نظرية القطبية الواقعية الجديدة ً
الكربى ،Great Powersووجدت نفسها يف وضع ضعيف لتصور العامل الذي كانت
الواليات املتحدة التزال متثل فيه القوة العظمى لكنها تعمل جن ًبا إىل جنب عديد
من القوى الكربى .وقد رأى عديد من الواقعيني الجدد أن التعددية القطبية أقل
استقرا ًرا وأكرث خطورة من القطبية الثنائية ،ولذلك توقعوا عاملًا أكرث اضطرا ًبا ،خاصة
بالنسبة إىل أوروبا والجنوب العاملي (Gaddis, 1986: 103–4; Cintra, 1989:
) 96–7; Mearsheimer, 1990; Hoffmann, 1991: 6وبعبارة كاربنرت ()1991
التي ُأعي َد استخدامها كث ًريا ،توقع الواقعيون الجدد «اختالل العامل الجديد» .ولكن
مع تعاظم «وقت» أحادية القطب األمريكية واستمرارها ،أصبح عديد من الواقعيني
الجدد ،بطريقة ما ،مرتاحني لفكرة ِبنْية القوة أحادية القطب عىل الرغم من حقيقة
أنها دمرت ميزان القوى باعتباره املنطق الدافع لنظريتهم ;(Huntington, 1999
).Kapstein and Mastanduno, 1999; Wohlforth, 1999
أيضا بعض االختالفات الداخلية .بقيادة جون مريشامير لقد أظهرت الواقعية ً
) John Mearsheimer (2001: 402اتخذ «الواقعيون الهجوميون» ،الذين ينظرون
إىل الدول باعتبار أنها تسعى دامئا إىل تعظيم قوتها ،موق ًفا مخالفا يف مواجهة
«الواقعيني الدفاعيني» مثل كينيث والتز ،Kenneth Waltzوروبرت جريفيس
) ،Robert Jervis (1994, 1999وجاك سنايدر ،Jack Snyderالذين أكدوا أن
الدول تسعى دامئا إىل تعظيم أمنها .وقد كان هذا املوقف مدفوعًا بصعود الصني،
حتاًم إىل الرصاع بني الصني والوالياتالتي رأى الواقعيون الهجوميون أنه سيقود ً
املتحدة ،ومن ثم أشاروا إىل مخاطر انخراط الواليات املتحدة مع الصني من أجل
إدخالها يف االقتصاد العاملي .لقد كان الواقعيون الهجوميون متشككني أيضا بشأن
املؤسسات الدولية ،وذلك بحجة أنها:
انعكاسا لتوزيع القوة يف العامل .إنها تستند إىل حسابات ً ُ«مُتثل يف األساس
املصلحة الذاتية للقوى الكربى ،وليس لها تأثري مستقل يف سلوك الدولة؛ لذلك يعتقد
الواقعيون أن املؤسسات ليست سببا مهام للسالم ،وأن لها أهمية هامشية فقط»
(.)Mearsheimer, 1994/ 95: 5
344
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
345
تشكيل العالقات الدولية العاملية
346
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
بني التكنولوجيا النووية املدنية (السلمية) والعسكرية ظلت كام هي إىل حد
كبري .وبعد الحرب الباردة ،تركزت املخاوف عىل نحو كبري عىل ما وصفته الواليات
املتحدة بـ «الدول املارقة» ،ال سيام كوريا الشاملية؛ وإيران؛ والعراق (يف عهد
صدام)؛ وكذلك باكستان إىل حد ما .وكام لوحظ ،كانت الهند عىل وشك أن ُتق َبل
باعتبارها قوة كربى ومن ثم فطموحها إىل وضع الدول الحائزة لألسلحة النووية
كان أكرث رشعية .وبعد الهجامت التي شنتها القاعدة عىل الواليات املتحدة يف العام
2001اتسعت املخاوف بشأن االنتشار النووي لتشمل الجامعات اإلرهابية ،مام
أدى مرة أخرى إىل إبراز املناقشات الجارية بشأن اإلرهاب ،والتي كانت يف السابق
ُمت ََض َّمنة ضمن األدبيات األمنية.
لقد َت َض َّمن توسيع وتعميق الدراسات األمنية الدولية طر ًقا مختلفة للتفكري
بشأن األمن (التعميق) ومجموعة واسعة من التهديدات واألشياء املرجعية التي
جرى التعامل معها عىل أنها قضايا أمنية .كانت إحدى املقاربات الرئيسة للتعميق
هي مدرسة كوبنهاغن التي طبقت مقاربات بنائية لفهم األمن (Buzan, Wæver
وبداًل من معالجة التهديدات مبصطلحات مادية معينة، )ً .and de Wilde, 1998
تطرقت مدرسة كوبنهاغن إىل عملية األَ ْم َننَة (إضفاء الطابع األمني ،)securitisation
وتساءلت عن كيف؛ و ِمن طرف َمن؛ وملاذا جرى يف الخطابات بناء بعض األشياء
باعتبارها تشكل تهديدات ،وكيف وملاذا ُق ِبل ذلك عىل هذا النحو من قبل الجامهري
املعنية باألمر .مقاربة أخرى للتعميق كانت تتعلق مبا بعد البنيوية ،التي تساءلت
أيضا إىلعام إذا كانت الدول تسعى عىل نحو أسايس إىل األمن ،أو أنها تحتاج ً
عنرص من التهديد الخارجي من أجل الحفاظ عىل تكوينها ( .)Campbell, 1998أما
البنائيون ،فقد أحيوا الفكرة القدمية للجامعات األمنية للنظر إىل الجانب الوضعاين
لألمن وليس مجرد الرتكيز عىل التهديدات (.)Adler and Barnett, 1998
توسيع كب ٌري جدًا للقضايا ا ُملح َّددة من النواحي
ٌ إىل جانب هذا التعميق ،كان مثة
األمنية .فباإلضافة إىل املخاوف التقليدية بشأن األمن السيايس والعسكري ،ظهرت
مناقشات بشأن األمن البيئي واألمن االقتصادي واألمن اإلنساين واألمن الهويايت
واألمن السيرباين واألمن الصحي وما شابه .وإىل جانب التهديدات العسكرية
واأليديولوجية ،جرى أيضا إضافة تهديدات الهجرة وإضفاء الطابع األمني عليها؛
347
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وعدم االستقرار االقتصادي؛ وعدم املساواة؛ وتغري املناخ والتلوث؛ وانتقال األمراض؛
والهجامت عىل اإلنرتنت وما شابه ذلك .وميكن تتبع بعض هذه األجندة العائدة
إىل املناقشات البيئية واألمنية االقتصادية التي كانت نشطة خالل فرتة السبعينيات.
ولكن ،خالل التسعينيات فقط أصبحت هذه القضايا وغريها من القضايا غري
التقليدية ُت َعد سائدة يف الدراسات األمنية الدولية .فقد أعطى األمن اإلنساين مكانة
بارزة لألشخاص باعتبارهم املرجع الرئيس لألمن يف مواجهة مرجعية الدولة(٭) .كام
شككت دراسات ما بعد االستعامرية والدراسات األمنية النقدية يف األمن القومي
يف العامل الثالث والسياقات األخرى التي كانت فيها الدولة يف كثري من األحيان
أيضا الدراسات األمنية النسوية يف تشكل التهديد الرئيس ملواطنيها .كام شككت ً
االفرتاضات الذكورية الواردة داخل الدراسات األمنية الدولية السائدة ،وسعت إىل
إعادة إقحام النساء كموضوعات وكأهداف لألمن .لقد جاءت عديد من التهديدات
غري العسكرية يف شكل قضايا املصري املشرتك ،ومن ثم و َّلدت منطق األمن املشرتك
(األمن مع )...إىل جانب املنطق التقليدي لألمن القومي (األمن ضد .)...وقد ظهرت
الدراسات األمنية الدولية الجديدة وا ُملج َّددة هذه وتوطدت عىل نحو رئيس خالل
التسعينيات .إذ مثة حدثان كبريان أثرا يف هذا الهيكل الجديد :الهجامت اإلرهابية
عىل الواليات املتحدة يف العام 2001؛ وصعود الصني واسرتداد روسيا مكانتها
وظهورهام كقوى كربى منافسة للواليات املتحدة.
من املتوقع أن تكون هجامت الحادي عرش من سبتمرب قد سببت ارتفاعا كبريا
ودامئا لدراسات اإلرهاب ،وهو املجال الذي كان حتى أواخر التسعينيات ً
مجااًل
هامش ًيا إىل حد ما .فقد وضعت الحرب العاملية عىل اإلرهاب الجهات الفاعلة غري
الحكومية يف قلب التفكري التقليدي بشأن األمن العسكري .ونظ ًرا إىل كونها جهات
فاعلة مستقلة وال تتبع دوال عىل نحو أسايس ،فإن التعاطي معها يقع إىل حد كبري
خارج الطرق التقليدية الخاصة بالتفكري بشأن الردع واألمن القومي .وإىل حد ما
ميكن ربط تلك الجهات الفاعلة غري الحكومية بالدول الراعية ،وقد َدع ََم هذا املنطق
التدخالت الرئيسة التي قادتها الواليات املتحدة يف أفغانستان والعراق .فالحرب
(٭) وبهذا يصبح األمن هو أمن األشخاص وليس أمن الدول[ .املرتجم].
348
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
العاملية عىل اإلرهاب ،مثلها مثل عديد من قضايا أجندة األمن غري التقليدي ،متيل
إىل تفكيك الحدود بني األمن املحيل والدويل.
ومثلام حدث مع النظرية الواقعية ،فقد أدى صعود الصني وتعايف روسيا كقوى
كربى منذ بداية القرن الحادي والعرشين إىل زيادة الضغط للعودة إىل أجندة
الدراسات اإلسرتاتيجية التقليدية الخاصة بالحرب الباردة .فاالهتامم القديم للحرب
يختف متا ًما .لكن االهتامم بالردع بعد
ِ الباردة املتعلق باألمن العسكري والردع مل
الحرب الباردة كان محصو ًرا إىل حد كبري يف املناطق املتوترة مثل جنوب آسيا
والرشق األوسط .كام استمر أيضا االهتامم بالتقدم املتواصل للتكنولوجيا العسكرية
طوال الوقت ،وخاصة فيام يتعلق بالصواريخ والطائرات والسفن الخفية؛ ومعالجة
املعلومات واالتصاالت؛ والدفاعات ضد الصواريخ الباليستية .بيد أنه جرى تأطري هذا
االهتامم عىل نحو أسايس ضمن إطار التهديد ا ُملتَأَيت من الدول املارقة الصغرية نسب ًيا،
ومن ثم كان اهتام ًما أقل حدة بكثري مام كان عليه خالل الحرب الباردة .لقد أدى
صعود الصني وتعايف روسيا إىل إعادة طرح موضوع املنافسة العسكرية بني القوى
الكربى عىل أجندة الدراسات األمنية الدولية .إن روسيا ليست أكرث من مجرد مصدر
إزعاج كبري .فعىل الرغم من تعافيها إىل حد ما من تدين مستوياتها يف التسعينيات،
فإنها ُت َعد قوة آخذة يف التدهور ،وإن كانت التزال متتلك إرث التكنولوجيا العسكرية
املتقدمة من أيام متتعها بوضع القوة العظمى .إن منو الصني ُي َعد أهم من روسيا
بكثري؛ ألنها تشكل قوة صاعدة ذات قدرات تكنولوجية متزايدة ،وثروة وإرادة لبناء
نفسها كالعب عسكري هائل واسع النفوذ .وأصبحت الهند ً
أيضا الع ًبا مهام عىل نحو
متزايد يف هذه اللعبة النووية الجديدة بني القوى الكربى .لقد أعادت هذه التطورات
مرة أخرى طرح مسألة ردع القوى الكربى املتعاظمة؛ واملخاوف بشأن املنافسة يف
التقنيات العسكرية املتقدمة عىل أجندة الدراسات األمنية الدولية ،وإن كان ذلك
يتم اآلن جن ًبا إىل جنب مع األجندة األوسع واألعمق التي ظهرت خالل التسعينيات
مثل قضايا الهجرة؛ والصحة؛ والبيئة؛ واالقتصاد العاملي؛ واألمن السيرباين ،حيث ظلت
هذه القضايا من الشواغل املركزية للدراسات األمنية.
نواح عديدة ،كانت الدراسات األمنية الدولية التي نشأت بعد لذلك ،ومن ٍ
الحرب الباردة أقل تركيزًا بكثري عىل قضايا الرشق -الغرب ،وأكرث تركيزًا عىل قضايا
349
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أيضا موجهة إىل حد ما نحو قضايا الجنوب -الجنوب الشامل -الجنوب .كام كانت ً
من ناحية دراسة الردع النووي عىل املستوى اإلقليمي يف جنوب آسيا والرشق
األوسط ،وكذلك إىل الحروب والتدخالت اإلقليمية ال سيام تلك الحاصلة يف الرشق
األوسط .وقد بدأ األمن اإلقليمي مييز نفسه باعتباره موضوعا متميزا ال يخضع فقط
ملنافسات القوى الكربى ( .)Buzan and Wæver, 2003لقد كان للمخاوف بشأن
االنتشار النووي بعد الحرب الباردة توجهٌ لدراسة قضايا الشامل -الجنوب عىل
نحو أسايس ،متاما كام فعلت الحرب العاملية عىل اإلرهاب وحروب التدخل املرتبطة
ً
مرتبطا بها التي متت بقيادة الواليات املتحدة .ومل يكن أي من هذين األمرين
بخطر التصعيد إىل حرب نووية بني القوى الكربى ،وتحولت املخاوف املتأتية من
حرب العصابات إىل قضية أوسع بني الشامل والجنوب تتمثل أساسا يف «الحرب غري
املتكافئة» .صار جزء كبري من األجندة األمنية الواسعة النطاق يشتمل عىل قضايا
الشامل -الجنوب وقضايا الجنوب -الجنوب :الهجرة القادمة من أفريقيا والرشق
األوسط إىل أوروبا؛ ومن أمريكا الالتينية إىل الواليات املتحدة؛ ومن عديد من
البلدان يف الجنوب إىل جريانها اآلخرين يف دول الجنوب .وصار االحتباس الحراري
اآلن تسببه الصني بالقدر نفسه الذي تسببه الواليات املتحدة؛ كام صار استقرار
االقتصاد العاملي يعتمد اآلن عىل مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة ويف جميع
املناطق؛ وصارت الصحة العاملية أكرث اعتامدًا عىل أحزمة النقل التي تربط جميع
أنحاء العامل .وحتى صعود الصني ميكن رؤيته جزئ ًيا من منظور الشامل -الجنوب،
وعىل رغم أن الصني والهند تتمتعان مبكانة قوة كربى ،فإن تأطري الشامل -الجنوب
أصبح أقل فائدة ،مام يفسح املجال ملنظور أكرث عاملية بشأن كل من األمن التقليدي
ابطا حيث صارت الدول النامية تعد ً
أيضا قوى وغري التقليدي .يف عامل أكرث عوملة وتر ً
كربى ،فإن عودة ديناميات أمن القوى الكربى التقليدية لن تعيد الدراسات األمنية
الدولية إىل تركيزها التقليدي الضيق عىل عامل القوى الكربى البيضاء.
صحيحا بالنسبة إىل الليرباليني من جميع األطياف ،وخاصة ً الدولية ،كان العكس
أولئك الذين كانوا يهتمون بدراسة االقتصاد السيايس الدويل .فالجمع بني القطبية
األحادية والعوملة ،الذي أرشنا إليه يف الفصل السابع ،باعتبارهام السمتني الرئيستني
لفرتة ما بعد الحرب الباردة مبارشة ،فتح آفا ًقا كبرية أمام الليرباليني .لقد كانت القوة
العظمى الليربالية الوحيدة يف وضع قوي إلبراز وحامية القيم الليربالية األساسية
مثل الدميوقراطية واقتصاد السوق وحقوق اإلنسان .وقد جلبت العوملة يف ظل
القوة العظمى الليربالية أفكار السالم الدميوقراطي والعالقات الدولية متعددة
األطراف إىل الواجهة .وعرضت طريقة إلدخال الصني الصاعدة يف نظام القواعد
واملؤسسات الغريب ،وأثارت اآلمال بشأن إمكانية السعي وراء حقوق اإلنسان عىل
نحو أكرث فعالية مام كان عليه الحال خالل فرتة الحرب الباردة .لقد كان لهذه
اللحظة الليربالية تأثري قوي يف العالقات الدولية خالل التسعينيات ،ولكن هذا
الوضع شهد بعد ذلك توترا عىل نحو متزايد.
خالل فرتة التسعينيات عُ زِّزت توليفة «جديد – جديد» Neo-Neoاملشار إليها
يف الفصل السادس ،فقد اتفق الليرباليون الجدد والواقعيون الجدد عىل نطاق واسع
بشأن قطبية القوة؛ واملنهج العقالين؛ واملقاربة املادية لدراسة العالقات الدولية.
وعىل رغم ذلك ،كانت مثة خالفات كبرية قامئة بينهام .فالواقعيون مييلون إىل تهميش
رئيسا (Keohane and تأثري املؤسسات ،بينام يعطي الليرباليون املؤسسات دو ًرا ً
.)Martin, 1995: 47وعىل نح ٍو عام اختلف الواقعيون الجدد والليرباليون الجدد
بشأن األهمية النسبية للفوىض ،anarchyحيث كان الواقعيون الجدد ينظرون إىل
«الفوىض باعتبار أنها تضع قيودًا أكرث رصامة عىل سلوك الدولة أكرث مام كان يعتقده
الليرباليون الجدد» ( .)D. Baldwin, 1993: 5وقد رأى الواقعيون الجدد أن التعاون
«يصعب تحقيقه ،وأن الحفاظ عليه أصعب ،وأنه يعتمد عىل نحو أسايس عىل قوة
الدولة» ( .)Grieco, 1993: 302ويف حني شدد الواقعيون الجدد عىل املكاسب
النسبية التي تشجع عىل املنافسة ،أكد الليرباليون الجدد عىل املكاسب املطلقة
التي ُت َسهل التعاون .وعىل عكس الواقعيني الجدد ،مل تكن لدى الليرباليني مشكلة
مع القطبية األحادية التي تتناسب عىل نحو جيد مع أفكارهم بشأن نظرية استقرار
الهيمنة التي نوقشت يف الفصل السادس .فعىل خالف الواقعيني ،الذين متنع نظرية
351
تشكيل العالقات الدولية العاملية
توازن القوى الخاصة بهم إمكانية حصول األحادية القطبية أو النظر إليها -إن
حصلت -كظاهرة قصرية وغري مستقرة للغاية ،ترى نظرية استقرار الهيمنة رضور َة
وجود قوة مهيمنة لتوفري املنافع العامة ألجل النظام العاملي .لقد عزز فشل توازن
السلوك الذي حدث خالل التسعينيات وجهة النظر الليربالية .ومييل الجانبان إىل
االختالف بشأن الصني أيضا ،حيث يرى الواقعيون أن صعودها يشكل تهديدا حتميا
للواليات املتحدة ،بينام يرى الليرباليون العوملة فرص ًة عظيم ًة لتسهيل صعود الصني
السلمي ملصلحة الجميع .كانت العوملة متوافقة عىل نطاق واسع مع كال املنظورين،
وإن كان ذلك بطرق مختلفة :كسمة لألنظمة االقتصادية الليربالية املفتوحة؛ ونتيجة
للقوة والتفوق األمريكيني .وكانت كل من الواقعية الجديدة والليربالية الجديدة
توليان أهمية كبرية للواليات املتحدة ،حيث وضعتا هذه القوة العظمى الوحيدة
يف صلب التحليل.
ازدهرت عديد من األدبيات املتميزة خالل الفرتة الليربالية التي أعقبت العام
.1989فظهرت العوملة كمجال منفصل تقري ًبا للدراسة ،وذلك جزئ ًيا داخل حقل
العالقات الدولية وجزئ ًيا خارج هذا التخصص بسبب أنها تجاوزت اإلطار املركزي
للدولة (Hirst and Thompson, 1996; Sassen, 1996; Clark, 1999; Held
;et al., 1999; Keohane and Nye, 2000; Scholte, 2000; Woods, 2000
) .Ripsman and Paul, 2010وتوسع االقتصاد السيايس الدويل منذ بداياته يف
الثامنينيات ،ومتكن عىل نحو متزايد من اكتساب عديد من املجالت العلمية (مثل
مجلة االقتصاد السيايس الدويل) والكتب املدرسية الخاصة به (; Spero, 1990
رئيسا داخل حقل ،)Stubbs and Underhill, 1994وأصبح ميثل ً
مجااًل فرع ًيا ً
العالقات الدولية .ويف الواليات املتحدة تقارب االقتصاد السيايس الدويل مع مقاربة
عقالنية مهيمنة ،أي مدرسة االقتصاد السيايس املفتوح ( ،)OEPوهي املدرسة التي
تأثرت بشدة باالقتصاد الكالسييك الجديد ونظرية التجارة الدولية (Lake, 2008
.); Oatley, 2011س َّببت نهاية الحرب الباردة خسارة أخرى من التنوع ،خاصة
مع انتكاس االقتصاد السيايس الدويل املاركيس .وقد نرش روبرت غليبني ()2001
نصا جديدًا بعنوان «االقتصاد السيايس العاملي» Global Political Economy ً
وعىل رغم التحول اإليحايئ يف العنوان الرئيس عن عنوان كتابه «االقتصاد السيايس
352
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
للعالقات الدولية» الصادر يف العام ،1987وعىل رغم أن نيته كانت تقديم رسد
للتغيريات العميقة التي حدثت منذ نرش ذلك الكتاب ،فإن روبرت غليبني يؤكد يف
نصه الجديد موقفه النظري الواقعي املتمركز حول الدولة.
لكن مدرسة االقتصاد السيايس املفتوح تعرضت النتقادات ألنها خلقت «ثقافة
أحادية» أمريكية لالقتصاد السيايس الدويل ،تتميز بنزعة اختزالية منهجية ركزت
عىل مصالح الدولة باعتبارها املتغري التفسريي الرئيس من دون أن تقدم كثريا من
اإليضاحات عن كيفية بناء املصالح ( .)Farrell, 2009وقد ظهرت مناهج أخرى
لالقتصاد السيايس يف الواليات املتحدة ،خاصة تلك التي شددت عىل «التفاعل بني
املصالح املجتمعية واملؤسسات السياسية» ( .)Oatley, 2012: 12باإلضافة إىل
العمل النظري األكرث عمومية للباحثني الربيطانيني والكنديني املذكورين يف الفصل
السادس ،قدم ريتشارد هيجوت (Richard Higgott Higgott and Stubbs,
)1995وجون رافينهيل ( )John Ravenhill 2001يف أسرتاليا مساهامت يف االقتصاد
السيايس الدويل من وجهة نظر إقليمية ،مع الرتكيز عىل إضفاء الطابع اإلقليمي
عىل منطقة آسيا واملحيط الهادئ .وعىل الرغم من أنهم (Higgott and Watson,
) 2007; Ravenhill, 2007رفضوا محاولة بنيامني كوهني (Benjamin Cohen
) 2007, 2008للتمييز بني املدارس «األمريكية» و«الربيطانية» يف االقتصاد السيايس
مفرطا ،فقد أدى هذا النقاش إىل تسليط الضوء عىل بعض تبسيطا ً
ً الدويل باعتبارها
االختالفات الرئيسة القامئة بني أبحاث االقتصاد السيايس الدويل السائدة يف الواليات
املتحدة وتلك املوجودة يف أجزاء أخرى من الغرب ،خصوصا يف بريطانيا وكندا
وأسرتاليا .يكمن أحد االختالفات الرئيسة ،عىل نحو غري مفاجئ ،يف املنهجية غري
الوضعانية لألخرية ،والتي تجنبت ولع نظريتها األمريكية باختبار الفرضيات والبحث
أيضا متعددة التخصصات وأكرث معيارية الكمي .إذ كانت املقاربات غري األمريكية ً
من نظريتها األمريكية ( ،)Cohen, 2014: 50–1حيث كانت لها قواسم مشرتكة أكرث
مقاربات غري تلك املقاربات األمريكية السائدة لالقتصاد السيايس الدويل.
ٍ مع
عالو ًة عىل االقتصاد السيايس الدويل أنتجت حقوق اإلنسان أدبيات ليربالية
واسعة النطاق موازية يف بعض النواحي لتلك األدبيات التي أنتجها األمن اإلنساين
الذي نوقش سابقا ،إذ كان لها غرض ترويجي عىل نحو واضح ;(Barkin, 1998
353
تشكيل العالقات الدولية العاملية
تراجعت الواليات املتحدة .وجادل بأن النظام الليربايل «من السهل االنضامم إليه،
ومن الصعب قلبه» ( .)Ikenberry, 2011: 9وبرغم ذلك ،وعىل الرغم من تخفيه
وراء عبارات توافقية ،فإن قصة النظام الدويل الليربايل هي يف األساس قصة عن نشوء
وعواقب ورشعية الهيمنة األمريكية .كان لالدعاء القائل إن «األنظمة الليربالية التي
تقودها بريطانيا وأمريكا قد ُبنيت يف جوانب نقدية بشأن التوافق» (Ikenberry,
) 2011: 15أصداء مميزة ملفهوم غراميش للهيمنة ،لذلك جرى استيعابها بحيث ال
يجب رؤية فوائدها املفرتضة ليك ُتصدَّق ،ويجب أن ُي ْط َلب من املرء أن يقدم الوالء.
لكن هذا االدعاء يتجاهل الجوانب املهمة القرسية التي ُت َعد محل نزاع واملتعلقة
بتاريخ ذلك النظام (.)Acharya, 2014d
غري أنه وبعد العقد الذهبي الليربايل الذي شهدته فرتة التسعينيات ،بدأ كثري
من هذا اللمعان الليربايل يفقد بريقه .فقد أصبح ُينظر إىل حقوق اإلنسان عىل نحو
متزايد باعتبار أنها املعيار الجديد لـ «الحضارة» (Donnelly, 1998 ; Buzan, 2014:
) .107وتحول السالم الدميوقراطي إىل غطرسة للسلطة وع َْج َرفة ليربالية تجسدت
يف فكرة «وفاق الدميوقراطيات» التي تطالب بتهميش األمم املتحدة وتحويل إدارة
املجتمع الدويل العاملي إىل يد حفنة من الدول الدميوقراطية ذات التفكري املامثل
( .)Ikenberry and Slaughter, 2006ففي الواليات املتحدة عىل وجه الخصوص،
أصبح مثة ضعف يف القيم والرؤى الليربالية ،كان مدفوعًا جزئ ًيا مبتطلبات الحرب
العاملية عىل اإلرهاب ،وجزئ ًيا بسبب تزايد عدم املساواة وعدم االستقرار الناتج عن
االقتصاد العاملي الليربايل الجديد .وهكذا ،تحولت ذروة الليربالية التي شهدها عهد
كلينتون خالل التسعينيات إىل خيانة لحقوق اإلنسان خالل الحرب العاملية عىل
اإلرهاب التي قادها جورج بوش االبن ،لتتحول بعدها يف عهد ترامب إىل معارضة
رصيحة لكثري من اإلرث األمرييك ذي النزعة املؤسساتية واالقتصادات املفتوحة.
وبحلول العام 2018مل تعد الواليات املتحدة الدولة التي تتسيد املستقبل ،ومل تعد
القيم الليربالية ُتفهم باعتبار أنها القيم الغائية الحتمية للمجتمع الدويل العاملي.
وفيام يتعلق باستدامة أو تقليل الحواجز القامئة بني املركز واألطراف يف حقل
العالقات الدولية ،قدمت الليربالية سجال مختلطا .فقد أكدت نظريات استقرار
الهيمنة؛ وحقوق اإلنسان؛ و«وفاق الدميوقراطيات»؛ والسالم الدميوقراطي أهمية
355
تشكيل العالقات الدولية العاملية
املركز ،خاصة مع ما ميكن تسميته بـ «الليربالية الهجومية» التي أعادت إحياء معيار
«الحضارة» .لكن الرتكيز عىل املؤسسات فتح مساحة سياسية مرشوعة لألطراف،
كام عززت العوملة واالقتصاد السيايس الدويل عىل نحو مبارش من نظرة ُشمولِية
للنظام /املجتمع الدويل .ومع التدهور التدريجي للنظام الليربايل حتى قبل مجيء
إدارة ترامب ،مل يكن هذا يفسح املجال لدول األطراف ألجل إدارة االقتصاد واألمن
أيضا مساحةالعامليني فقط ( ،)Acharya, 2018: 199–206ولكن كان يفسح ً
متزايدة للمنظورات النقدية وأيضا لتلك املنظورات ا ُملتَأتية من األطراف .ومع
صعود الصني والبقية إىل املراتب الوسطى للتنمية ،كانت ِبنْية وأهمية املركز -
األطراف تشهد تغريا عىل نحو رسيع.
- 2 - 4البنائية
كانت الواقعية والدراسات األمنية الدولية والليربالية يف األساس كلها مقاربات
تقليدية ومادية لحقل العالقات الدولية ،حيث تكيفت تلك املقاربات بدرجات
متفاوتة من النجاح مع الظروف الجديدة لعامل ما بعد الحرب الباردة .وعىل النقيض
من ذلك كانت البنائية مبنزلة واف ٍد جدي ٍد إىل نظرية العالقات الدولية السائدة.
طرحا جديدًا يف حد ذاتها ،بل كانت مقاربة قامئة يف النظرية فلم تكن البنائية ً
االجتامعية جرى تكييفها حدي ًثا لدراسة العالقات الدولية ،وقد تم ذلك من طرف
بعض الباحثني مثل جون روجي John Ruggie؛ وفريدريش كراتوتشويل Friedrich
Kratochwil؛ وألكسندر وندت Alexander Wendt؛ ونيكوالس أونوف Nicholas
Onuf؛ وإميانويل أدلر Emanuel Adler؛ وبيرت كاتزنشتاين .Peter Katzenstein
وعىل عكس الواقعية والدراسات األمنية والليربالية ،مل تكن البنائية عىل وجه التحديد
تشكل نظرية للعالقات الدولية .وبالنسبة إىل نقادها وكذلك إىل بعض مؤيديها،
كانت البنائية ُت َعد عىل نحو أكرب «كنوع من الفلسفة أو نظرية ماورائية ،أو منهجية
بحث إمربيقية» ( .)Zehfuss, 2002: 8إذ مل تكن نظرية خاصة ألجل حقل العالقات
الدولية ،ولكن نظرية ميكن تطبيقها عىل هذا الحقل املعريف.
بالنسبة إىل البنائيني ال تتعلق السياسة الدولية بالقوى املادية فقط مثل
أيضا من خالل عوامل ذاتية ومابني ذاتية مبا يف السلطة والرثوة ،ولكنها تتشكل ً
356
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
ذلك األفكار؛ واملعايري؛ والثقافة؛ والهوية .إنهم يرون أن العالقات الدولية محكومة
مبنطق الم ُ َال َء َمة؛ أو اعتبارات الصواب والخطأ ،وليس مبنطق العواقب؛ أو حسابات
التكلفة والفوائد .إذ يرفض البنائيون التحيز العقالين (النفعي) واملادي املوجود
يف الواقعية والليربالية الجديدة املؤسساتية .إنهم يرون مصالح وهويات الدول
ال كمعطى مسبق أو محدد سل ًفا ،بل تنشأ وتتغري من خالل عملية تفاعالت
فظروف مثل الفوىض anarchyوسياسة القوة ليست ٌ متبادلة وتنشئة اجتامعية.
سامت دامئة للعالقات الدولية ،ولكنها مبنية اجتامع ًّيا وميكن أن يكون لها نتائج
مختلفة :ففي صياغة ألكسندر وندت الشهرية ( ،)1992فإن «ال َف ْو َىَض ِه َي ِنت َُاج َما
َت ْصن َُعه الد َول» .واملعايري لها حياة خاصة بها ،وهي ال تخلق وتعيد تعريف مصالح
أيضا سلوك الدولة وتشكل هويتها .ومن خالل الدولة ومقارباتها فقط ،بل تنظم ً
التفاعل والتنشئة االجتامعية ،قد ُت َط ِّور الدول هوية جامعية ُمُتكنها من التغلب
عىل سياسات القوة واملعضلة األمنية.
ومثل جميع بقية املقاربات األخرى لحقل العالقات الدولية ،انقسمت البنائية
برسعة إىل عديد من خطوط التفكري ،كان بعضها؛ مثل الخط الذي ميثله ألكسندر
وندت ( ،)1999أكرث متركزا حول الدولة ،بينام كان البعض اآلخر يركز عىل نح ٍو أكرب
عىل الجهات الفاعلة غري الحكومية ( .)Keck and Sikkink, 1998وكانت بعض
الخطوط األخرى؛ عند كل من تيد هوبف (Ted Hopf 1998; see also: Reus-
) Smit, 2005وماجا زيهفوس ( )Maja Zehfuss, 2001أكرث تقليدية (باستخدام
الهوية متغريا سببيا) ،يف حني كان البعض اآلخر أكرث نقدية (التحقيق يف كيفية ظهور
الهوية يف املقام األول) .لقد اعتمد البنائيون التقليديون مقاربة «علمية» ً
بداًل من
املقاربة التفسريية ،ومن ثم طمسوا انقسامهم مع النزعة العقالنية .وأصبح النقاش
بني العقالنية (كل من الليربالية الجديدة والواقعية الجديدة) والبنائية نقطة الخالف
الرئيسة يف نظرية العالقات الدولية خالل التسعينيات (Katzenstein, Keohane
) .and Krasner, 1999: 6ولكن مثل «النقاش» السابق بني الواقعية الجديدة
والليربالية الجديدة ،انتهى االنقسام العقالين-البنايئ برتكيب جزيئ ،إما مبحاولة الربط
بني العقالنية الذرائعية والبناء االجتامعي (Finnemore and Sikkink, 1999:
) ،270, 272; Barkin, 2010: 7–8وإما بتحديد موقع البنائية بوصفه طريقا وسطا
357
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بني النزعة العقالنية والنزعة االنعكاسية (Refl ectivism Adler, 1997; Fearon
).and Wendt, 2002: 68; Checkel, 2013: 222–3
خالل التسعينيات ،اكتسبت البنائية شعبي ًة برسعة ،ومرة أخرى ،ميكن ربط هذا
التطور بالتطورات الحاصلة يف العامل الحقيقي للعالقات الدولية (املامرسة) .فقد
فشلت العالقات الدولية السائدة يف التنبؤ بنهاية الحرب الباردة ،وهذا الفشل ،جن ًبا
إىل جنب عدم ظهور توازن محموم ضد الواليات املتحدة ،أدى إىل فقدان مصداقية
النظريات املادية يف نظر الكثريين .لقد كان انهيار االتحاد السوفييتي من الداخل
إىل حد ما يتعلق بانهيار فكرة سياسية أكرث من كونه يتعلق بتغيري يف الظروف
املادية .فعندما انهار ،كان االتحاد السوفييتي اليزال ميتلك قوة عسكرية هائلة.
وميكن قول اليشء نفسه إىل حد كبري عن استسالم نظام الفصل العنرصي يف جنوب
أيضا ويف االتجاه املعاكس شهد االتحاد األورويبأفريقيا ،وخالل أوائل التسعينيات ً
أيضا ظهور سياسات الهوية املكثفة يف دول االتحاد تقدما .وقد شهدت التسعينيات ً
السوفييتي السابق والدول التي خلفت يوغوسالفيا .ومل تكشف هذه األحداث عن
الدور الكبري لألفكار والهويات يف حقل العالقات الدولية فقط ،بل أشارت ً
أيضا إىل
إمكانية حدوث تغيري سلمي كبري يف املجتمع الدويل العاملي.
اف أكرب بالجهات الفاعلةيف البداية ،أظهرت البنائية إمكانية واضحة لتأمني اعرت ٍ
غري الغربية .فغال ًبا ما تلجأ الدول الضعيفة التي تفتقر إىل القوة املادية إىل العمل
املعياري والفاعلية لتحقيق قدر من االستقاللية وإعادة تشكيل سياسات السلطة.
ويالحظ دونالد بوشاال ( )Donald Puchala 1995: 151أنه بالنسبة إىل بلدان
العامل الثالث ،تعترب األفكار واأليديولوجيات أكرث أهمية بكثري من القوة أو الرثوة،
ألن «انعدام القوة» و«التوزيع غري املتكافئ لرثوة العامل» هام «ثوابت» تحرك
الشؤون العاملية .تسمح البنائية أيضا بإمكانية التعاون يف غياب املؤسسات الرسمية
والقانونية القوية .إذ ميكن نرش آلياتها السببية الرئيسة للتغيري ،وخصوصا األفكار
واملعايري ،من دون منظامت رسمية ذات بريوقراطيات كبرية ودامئة مثل االتحاد
األورويب ( .)Acharya, 2001a, 2009وهذا يعني أن البنائية ميكن أن ترصد عديدا
من أنواع التعاون الدويل واإلقليمي املوجودة يف العامل الثالث .الواقع أن رسعان ما
انترشت هذه املقاربة يف حقل العالقات الدولية داخل األَ ْط َراف ،خاصة مع ظهور
358
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
- 2 - 5املدرسة اإلنجليزية
عىل عكس الواقعية والدراسات األمنية الدولية والليربالية ،مل يكن لنهاية
الحرب الباردة أي آثار فورية يف املدرسة اإلنجليزية .وعىل رغم ذلك ،ش َّكلت فرتة
التسعينيات وما بعدها وقتًا تجاوزت فيه املدرسة اإلنجليزية قاعدتها الرئيسة يف
ً
رسوخا عامل ًّيا كمقاربة رئيسة لحقل العالقات املركز -اإلنجليزي وأصبحت أكرث
ً
تنظياًم ومتكنت الدولية .لقد حدث هذا جزئ ًّيا ألن املدرسة اإلنجليزية أصبحت أكرث
من تعزيز حضورها عىل نح ٍو واضح يف مؤمترات حقل العالقات الدولية .لكن مثة
أيضا .أو ًاًل ،أسهم انتشار البنائية داخل الواليات
تطوران آخران ساعداها يف ذلك ً
املتحدة يف فتح الطريق أمام املدرسة اإلنجليزية ( .)Dunne, 1995فالبنائية إىل ح ٍد
ما خففت من سطوة نظرية املعرفة الوضعانية ،مام س َّهل الطريق ألولئك املهتمني
بالطرق التاريخية والبنيوية االجتامعية لتفكري العالقات الدولية .ومنذ العام 2003
كان هناك قسم للمدرسة اإلنجليزية داخل جمعية الدراسات الدولية ،وأصبحت
املدرسة اإلنجليزية أكرث قبو ًاًل يف الواليات املتحدة بوصفها مقاربة رئيسة لحقل
359
تشكيل العالقات الدولية العاملية
العالقات الدولية ،وإن كان عدد من يتبناها قليل .أما التطور الثاين فتجسد يف
االنفتاح والتوسع الرسيع لحقل العالقات الدولية داخل الصني .لقد اهتم املجتمع
األكادميي لحقل العالقات الدولية الذي ُط ِّور حدي ًثا يف الصني باملدرسة اإلنجليزية
( )Zhang, Y., 2003; Zhang, X., 2010وإن كان من طرف عدد قليل ،وجاء هذا
االهتامم نتيجة لثالثة أسباب .يتمثل السبب األول يف أن املدرسة اإلنجليزية شجعت
املقاربات التاريخية والثقافية ،حيث كان عديد من الباحثني الصينيني حريصني
عىل إقحام تاريخهم ونظريتهم السياسية يف حقل العالقات الدولية .أما السبب
الثاين فيتمثل يف أن تسمية «املدرسة اإلنجليزية» قد يبدو أنه ُم َ ِّرَب ٌر إلنشاء مدارس
وطنية لنظرية حقل العالقات الدولية .وعىل الرغم من أنه يصعب وصف املدرسة
اإلنجليزية بأنها مدرسة وطنية ،فإن ذلك مل مينع استخدامها لدعم تطوير ما يسمى
بـ «املدرسة الصينية» (.)Wang and Buzan, 2014; Zhang and Chang, 2016
أما السبب الثالث فقد متثل ببساطة يف أن املدرسة اإلنجليزية مل تكن أمريكية :ففي
حريصا عىل أن يكون
ً حني أن مجتمع حقل العالقات الدولية الصيني الجديد كان
يف طليعة نظرية العالقات الدولية ،فإنه مل يرغب يف الوقت نفسه يف أن يصبح
مستعمرة فكرية للواليات املتحدة .وبهذا املعنى ،أصبحت املدرسة اإلنجليزية
تشكل جز ًءا من التحدي املتزايد للهيمنة العاملية لحقل العالقات الدولية األمرييك.
ومن منظور خارجي ،كان حقل العالقات الدولية األمرييك ميثل نوعًا من «املدرسة
الوطنية» ،عىل الرغم من أن مثة قلة من األمريكيني فقط ممن رأوا أنشطتهم
الخاصة وفق هذا املنظور.
مع تزايد االهتامم العاملي باملدرسة اإلنجليزية ،حل جيل جديد من الباحثني
محل اآلباء ا ُمل َؤ ِّس ِسني ،حيث حافظ هذا الجيل الجديد عىل بعض التقاليد كام فتح
بعض اآلفاق الجديدة .وقد ظلت مقاربة املدرسة اإلنجليزية الشاملة واملعيارية
خالل النقاش بشأن النظام /العدالة (التعددية /التضامن) وسيلة قوية ومؤثرة للنظر
نشطا يف النقاشات الواسعة إىل النظام العاملي ،وظلت املدرسة اإلنجليزية طرفا ً
بشأن حقوق اإلنسان خالل فرتة التسعينيات (;e.g. Dunne and Wheeler, 1999
) .Wheeler, 2000; Hurrell, 2007وكان للمدرسة اإلنجليزية انطالقة جديدة
تتمثل يف أن املقاربة البنيوية للمجتمع الدويل ،ا ُملت ََضمنة بوضوح يف تحليل هيديل
360
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
بول ( ،)1977قد ُأع ِلن عنها رصاحة و ُو ِضعت جن ًبا إىل جنب املقاربة املعيارية
للمدرسة ( .)Buzan, 2004b; Holsti, 2004وعىل األقل جزئ ًّيا خالل استجابتها
للعمل داخل بيئة حقل العالقات الدولية األمرييك ،أصبحت املدرسة اإلنجليزية
أكرث وعيا من الناحية املنهجية ( .)Navari, 2009إذ كان لها اهتامم أكرب باستكشاف
املؤسسات األساسية؛ واملجتمع العاملي؛ واملجتمع الدويل عىل املستوى اإلقليمي؛
كام كان لها مزيد من االهتامم مبعارضة التفسري ذي املركزية األوروبية بشأن توسع
املجتمع الدويل إىل النطاق العاملي ،والوارد يف األدبيات الكالسيكية(٭) .وخالل
استجابتها للنظام العاملي أحادي القطب املفرتض الذي نشأ خالل التسعينيات،
اهتمت املدرسة اإلنجليزية أكرث بالهيمنة والتسلسل الهرمي ;(Dunne, 2003
) ،Clark, 2011; Buzan and Schouenborg, 2018وهي أحد جوانب املجتمع
الدويل التي أثارت فضول آدم واتسون ومارتن وايت ،Martin Wightولكن
هُ ِّمشت تلك الجوانب داخل املدرسة ملصلحة مقاربة املساواة يف السيادة بالنسبة
إىل املجتمع الدويل (.)Watson, 2001
وفق طرق مختلفة ،بدأت املدرسة اإلنجليزية يف استيعاب قضايا وطروحات
العامل الثالث أكرث مام كانت عليه من قبل .فقد ُت ُبنِّيت فكرة املجتمع الدويل عىل
املستوى اإلقليمي ،وخاصة يف أمريكا الالتينية (ُ .)Merke, 2011وأثريت تساؤالت
عديدة بشأن مدى مالءمة مقاربة «الوحدات املتشابهة» للمجتمع الدويل نظ ًرا إىل
االختالفات املهمة جدا بني التاريخ والثقافة والتنمية االقتصادية والسياسية عىل
مستوى األعضاء ( .)Buzan and Schouenborg, 2018وقد دفع نقد املركزية
األوروبية يف قصة التوسع هذه نحو تفسري أكرث عدالة وعاملية بشأن كيفية تشكيل
املجتمع الدويل (Keene, 2002; Buzan and Little, 2014; Dunne and Reus-
) .Smit, 2017aإن مخاوف الجيل األول حيال «الثورة عىل الغرب» مل تستمر.
وعىل العكس من ذلكُ ،ب ِذل مزيد من الجهد لفهم البنى االجتامعية للعامل الذي
بسط عليه األوروبيون نفوذهم خالل القرن التاسع عرش (Suzuki, 2009; Suzuki,
) .Zhang and Quirk, 2014وعىل رغم ذلك ،ظل تركيز املدرسة اإلنجليزية ُمنص ًّبا
(٭) للحصول عىل ملخصات ومصادر بشأن كل هذا ،انظر[ .)Buzan 2014( :املؤلفان].
361
تشكيل العالقات الدولية العاملية
- 2 - 6النظريات النقدية
لطروحات إىل حقل
ٍ مثل البنائية ،كانت النظرية النقدية(٭) عبارة عن استريا ٍد
العالقات الدولية من خارج التخصص ،حيث كانت وبطرق عديدة متثل منهجية أو
طريقة تفكري بشأن هذا املجال املعريف أكرث من كونها نظرية يف حد ذاتها للعالقات
الدولية .مل تكن النظرية النقدية نظرية فريدة من نوعها خالل فرتة التسعينيات .إذ
كانت لها جذور يف التفكري املاركيس السابق بشأن العالقات الدولية ،خصوصا عند
وأيضا يف مختلف فروع الفلسفة السياسية وعلم االجتامع ،وال سيام يف باريس غراميشً ،
تأتية من الجانب الراديكايل ألبحاث السالم .لقد وفرانكفورت؛ كام كان لها أيضا جذو ٌر ُم ٌ
احتلت النظريات النقدية مكانة بارزة يف حقل العالقات الدولية خالل الثامنينيات،
وبحلول التسعينيات كانت يف وضع ميكنها من تقديم نفسها باعتبارها بديال جذريا
لتيار حقل العالقات الدولية السائد يف «النقاش الثالث» الذي شهده هذا التخصص
(مثة مزيد بشأن هذا النقاش الحقا) .وهذا القسم ال يتسع للكشف عن التنوعات
والتعقيدات التي ال تعد وال تحىص للنظرية النقدية والتي تتشابك مع نظريات ما بعد
الحداثة؛ وما بعد البنيوية؛ والجوانب األكرث راديكالية من البنائية؛ والدراسات األمنية؛
والنسوية ( .)see Devetak, 1996aأما نظرية ما بعد االستعامرية ،فهي تحافظ عىل
مسافة من هذه النظريات النقدية ألسباب ستُنا َقش الح ًقا يف هذا الفصل.
كانت النظرية النقدية مدفوعة بالرغبة يف تغيري العامل ،وذلك من خالل التفكري
بشأنه عىل نح ٍو مختلف .لقد كان تحديها للتيار السائد تحد ًيا معيار ًّيا وإبستمولوج ًّيا
(٭) «النظرية النقدية» ،Critical Theoryباألحرف العلوية ،عادة ما تشري إىل مدرسة فرانكفورت ،ولكن هنا
نستخدم املصطلح لتضمني مجموعة متنوعة من النظريات التي عادة ما توضع باألحرف السفلية يف األدب[ .املؤلفان].
362
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
(معرفيا) ،مع تداخل االثنني بطرق معقدة .وكان التوتر والت َباعُ د القائم بني ُمن َِّظري
حقل العالقات الدولية املهيمنني واملنظرين النقديني أقوى عىل نح ٍو عام من ذلك
التوتر والت َباعُ د الذي كان قامئا بني ُمن َِّظري حقل العالقات الدولية املهيمنني وا ُملنَظرين
اتهامات بأن النظريات النقدية «األيديولوجيا البديلة ،للتفسري بـ/ ٍ البنائيني ،مع
واالنخراط يف التفكري الرغبوي غري املقيد بالواقع» (Viotti and Kauppi, 2011:
) .336رمبا يكون التحدي املعياري ا ُملتأيت من النظرية النقدية قد ُر ِصد عىل نح ٍو
جيد من خالل متييز روبرت كوكس ( )1981: 128–30بني حل املشكالت والنظرية
النقدية ،حيث يعمل األول (حل املشكالت) ضمن األصول التقليدية القامئة من
أجل تحسني تلك املشكالت ،بينام يعمد األخري (النظرية النقدية) إىل التشكيك فيها
والبحث عن بدائل(٭) .فنظرية العالقات الدولية ،كام وصفها كوكس يف مقولته
الشهرية (« ،)1986: 207هي دامئًا لشخص ما ولغرض ما» .لقد اعرتض ا ُملنَظرون
النقديون عىل إقصاء وهيمنة أي مجموعات اجتامعية عىل أساس الجنس؛ والعرق؛
والجندر؛ والطبقة وما إىل ذلك ،وجعلوا من فكرة االنعتاق املتجذرة يف عرص التنوير
مصدر اهتامم مركزي ( .)Devetak, 1996a: 166يجادل لينكالتر –(1996: 280
) 1بأن «املعرفة باملجتمع تكون غري مكتملة إذا كانت تفتقر إىل غاية االنعتاق»؛
أشكااًل جديدة من املجتمع السيايس التي ً ومن ثم فإن النظرية النقدية «تتصور
ُت ْج ِري قطيعة مع اإلقصاء غري ا ُمل َرَبر» .وعىل عكس املاركسية التقليدية التي ركزت
عىل القوى االقتصادية التي تشكل التاريخ وهامشية الطبقة العاملة ضمن منط
اإلنتاج ،فإن النظرية النقدية تويل اهتام ًما للمجموعات املستبعدة األخرى من خالل
«تحليل مجموعة متنوعة من القوى ،مبا يف ذلك قوى اإلنتاج ،التي تشكل مالمح
التاريخ البرشي» (.)Linklater, 1996: 280
لقد كان التحدي اإلبستمولوجي (املعريف) أوسع نطاقا .فقد شكك ا ُملن َِّظ ُرون
النقديون يف مدى مالءمة املقاربات الوضعانية كأسس لفهم العامل االجتامعي.
حيث أنكروا فكرة وجود حقيقة موضوعية يف تلك املقاربات ،ومن ثم أنكروا
«تحليل محاي ٍد سياس ًّيا لواقع خارجي» ( .)Linklater, 1996: 295لقد رأوا ٍ إمكانية
(٭) كان متييز آشيل ( )6-175 :1980بني «العقالنية التقنية» و«العقالنية املناسبة» يضطلع بالعمل نفسه[ .املؤلفان].
363
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أن املعرفة دامئًا ما تتلون بقيم متأصلة ال مفر منها و«أهداف ومصالح اجتامعية
موجودة مسب ًقا» ( .)Linklater, 1996: 279وقد أرادوا مقاربات أكرث شمولية
وتاريخية وأكرث إنسانية (عىل عكس تلك املتمركزة حول الدولة) ،مؤكدين عىل
املعارضة والتفسري .وباالعتامد عىل أعامل ميشيل فوكو ،صقل باحثو ما بعد البنيوية
الجينيالوجيا ،وهو «أسلوب من الفكر التاريخي يفضح ويسجل أهمية عالقات
قصيت من وغ ِّطيت أو ُأ ِ
السلطة باملعرفة» ،و ُيربز «تلك األشياء أو األفكار التي ُد ِفنَت ُ
العرض يف أثناء كتابة وصنع التاريخ» ( .)Devetak, 1996b: 184وقد دافع ريتشارد
آشيل ( )1996: 246من أجل «ابتكار وتطوير األساليب التفكيكية؛ والجينيالوجية؛
والتفسريية-التحليلية وغريها من األساليب» التي عىل الرغم من استشكالها فكرة
املنهجية ،فإنها تتيح استكشا ًفا ُمتعم ًقا وصار ًما ونقدا واع ًّيا لألحداث واألنشطة يف
وقت واحد ،مام يفرض تجاوز حدود اإلمكانية االجتامعية.
رمبا كانت النظرية النقدية ،مثل البنائية ،متثل عىل نح ٍو أسايس استجابة لعدم الرضا
عن الخصائص املعيارية واإلبستمولوجية (املعرفية) لنظرية العالقات الدولية السائدة،
وال سيام الواقعية .وكام يتضح من أعامل آشيل وكوكس ،فقد كان هذا االستياء موجودًا
خالل الحرب الباردة .ونظ ًرا إىل إخفاقات الواقعية وعدم اتساقها ،فقد اكتسبت النظرية
النقدية نطا ًقا أوسع بعد العام .1989وكام يقول ديفيد كامبل (:)2013: 226
«كان الباحثون النقديون غري راضني عن الطريقة التي ظلت بها الواقعية
-وإحيائها يف ذلك الوقت من خالل الواقعية الجديدة -قوية يف مواجهة
التحوالت العاملية .لقد شعر هؤالء الباحثون بأن الواقعية همشت أهمية
الفواعل والقضايا والعالقات عرب الوطنية الجديدة ،وفشلت يف سامع (فضال
عن تقدير) أصوات الشعوب ووجهات النظر املقصية .وعىل هذا النحو ،بدأت
ما بعد البنيوية باهتامم أخالقي لتشمل أولئك الذين تجاهلهم وأقصاهم التيار
السائد لحقل العالقات الدولية».
أيضا استجاب ًة لألحداث الجارية يف العامل الحقيقي. لكن النظرية النقدية جاءت ً
فقد تطورت نظرية روبرت كوكس جزئ ًّيا استجاب ًة:
«ألزمة التعددية التي ظهرت خالل الثامنينيات بسبب ميل الواليات املتحدة
وبعض الدول القوية األخرى إىل رفض األمم املتحدة باعتبارها أداة للعمل الدويل،
364
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
- 2 - 7النسوية
مثل النظرية النقدية ،اكتسبت النسوية ً
زخاًم خالل الثامنينيات ،وهي الفرتة
التي شهدت صعود الحركات النسوية يف جميع أنحاء العامل ،وظهور النظرية
النسوية يف العلوم االجتامعية عىل نح ٍو عام .شاركت املقاربة النسوية اهتاممات
النظرية النقدية بشأن االنعتاق؛ ومصادر املعرفة؛ والعالقة بني املعرفة والسلطة؛
وهيمنة مركزية الدولة يف تفكري حقل العالقات الدولية .ومثل النظرية النقدية
أيضا ،جاءت النسوية كرد فعل ضد أوجه القصور واالختالالت والتسلسل الهرمي ً
والتحيزات التي شابت نظرية العالقات الدولية السائدة (.)Sylvester, 1994
لكن النسوية مل تكن عىل نح ٍو كامل جز ًءا من النظرية النقدية .حيث توجد
لدى النسوية خيوط تفكري يف نظريات العالقات الدولية كالليربالية والبنائية
باإلضافة إىل نظريات ما بعد البنيوية وما بعد االستعامرية (Tickner and
.)Sjoberg, 2013لقد انصب تركيز النسوية عىل الجندر باعتباره فئة منفصلة
من التحليل تختلف عن الفئات األخرى مثل العرق والطبقة ،ألن الجندر يرسي
عىل جميع الفئات األخرى .وبالنسبة إىل الباحثني النسويني يف حقل العالقات
الدولية ،فإن الجندر هو «الطريقة األساسية للداللة عىل عالقات القوة ليس
فقط يف املنزل ،ولكن ً
أيضا يف عامل السياسة الخارجية والعالقات الدولية» (Viotti
) .and Kauppi, 2011: 363ووفق النسويني ،فإن معظم املعرفة ُتنشأ من ِقبل
الرجال ( .)Tickner and Sjoberg, 2013: 207وتهتم نظرية العالقات الدولية
النسوية بكيفية تأثري هذه العالقة يف نظرية ومامرسة العالقات الدولية .ففي
مقال إِبدا ِعي ،دحضت جي .آن تيكرن ) (J. Ann Tickner 1997: 612أولئك
الذين تساءلوا عام إذا كان «الجندر له عالقة بتفسري سلوك الدول يف النظام
الدويل» ورفضت االدعاء القائل بأن النسوية ليست معنية بحل مشاكل «العامل
الحقيقي» ،مثل تلك الحاصلة يف البوسنة أو أيرلندا الشاملية ،أو مشاكل االنتشار
النووي .وقد أظهرت آن تاونز (Ann Towns 2009: 683; see also Towns,
) 2010كيف أنه خالل القرن التاسع عرش «استُبعدت املرأة عىل نطاق واسع من
السياسة» ،و ُربطت أدوار املرأة يف السياسة بـ «الوحشية» ،وأصبح إقصاء اإلناث
من السياسة و«الحضارة» معيا ًرا غري رسمي «للحضارة».
366
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
ومثل الليربالية ،اكتسبت الحركة النسوية قوتها من االنفتاح الذي حصل خالل
التسعينيات .فقد أتاحت العوملة وإزالة هواجس الحرب الباردة املتعلقة باألمن
مجااًل أكرب للنظر يف مجموعة واسعة من القضايا والجهات الفاعلة. القومي والردع ً
فعىل سبيل املثال ،أتاحت هذه الفرتة فرصة أكرب لألصوات النسوية ،ال سيام يف
تشكيل أجندة املؤسسات الدولية واعرتافها بأهمية الجندر يف السياسة العاملية.
إذ كانت التحالفات النسوية قادرة عىل الضغط من أجل االعرتاف بحقوق املرأة
باعتبارها من حقوق اإلنسان ،وتحدي االغتصاب والعنف ضد املرأة كأداة حرب
تتبناها األنظمة والجامعات يف مناطق النزاع ( .)True, 2017وكمثل النظرية
النقدية ،وبرتديدها لبعض طروحات أبحاث السالم ،فتحت الحركة النسوية ً
مجااًل
مهاًم يف الدراسات األمنية ( .)see Buzan and Hansen, 2009: 208–12فقد ً
اتخذ النسويون نظرة أوسع للرصاع والعنف ،مبا يف ذلك «األبعاد االقتصادية وقضايا
العنف البنيوي» ،وركزوا عىل نح ٍو أكرب عىل «عواقب الحرب ً
بداًل من الرتكيز عىل
أسبابها» ( .)J. A. Tickner, 1997: 625–6وقد قدمت لورا سجوبرغ (Laura
) Sjoberg 2012حجة طموحة ترى أن التسلسل الهرمي للجندر هو سمة بنيوية
للسياسة العاملية ميكنه تقديم تفسري أفضل للحرب من ذلك الذي تقدمه البنية
الفوضوية للنظام الدويل كام يطرحها كنيث والتز.
وعىل نح ٍو عام ،قدمت وجهات النظر النسوية إسهامات مهمة ليس فقط
أيضا منمن خالل فضح الطبيعة اإلقصائية لتنظري حقل العالقات الدولية ،ولكن ً
خالل تقديم طرق تفكري تتعلق بكيفية التغلب عىل ذلك التهميش .بهذا املعنى،
تعمل النسوية بقوة من أجل عبور الحواجز القامئة بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف .هناك
مقارنة مثرية لالهتامم بني الطريقة التي مارس بها الجندر والعرق دورا يف العالقات
الدولية .فقبل الهجرات الجامعية يف العرص الحديث عىل وجه الخصوص ،كانت
االختالفات العرقية القامئة بني املجتمعات أقوى بكثري عىل نح ٍو عام من تلك
االختالفات العرقية القامئة داخل املجتمعات .وهكذا كانت العنرصية ً
عاماًل
قو ًّيا للغاية يف التمييز بني املَ ْر َكز واألَ ْط َراف خالل الحقبة االستعامرية ،والتزال
الذاكرة املريرة لذلك الوضع متارس دو ًرا قويا يف السياسة العاملية .وعىل النقيض
من ذلك ،وكام تالحظ لورا سجوبرغ ( ،)laura sjoberg 2012: 7فإن السامت
367
تشكيل العالقات الدولية العاملية
368
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
نظرية العالقات الدولية .كان أحد الدوافع الرئيسة للنقاش الثالث بني العقالنيني
واالنعكاسيني هو مقال يوسف البيد ( )Yosef Lapid 1989يف فصلية الدراسات
الدولية ،والذي «أصبح معيا ًرا ملجموعة متنوعة من املناقشات النظرية واملنهجية
داخل مجال العالقات الدولية» .وعىل الرغم من أن هذا املقال مل يشكل الدعوة
الوحيدة إىل التشكيك يف أسس واتجاه مجال العالقات الدولية يف حقبة ما بعد
الحرب الباردة ،فإنه متكن من التوفيق بني رسديات «النقاشات الكربى» عن أصول
هذا املجال الدرايس وتطوره مع الدعوة إىل التنوع والتعددية ،وهي الدعوة التي
لعبت عىل الوتر الحساس لدى الكثريين (.)Jackson, 2014
تساءل النقاش الثالث بشأن «تفرد الرؤية الوضعانية ،وكشف محدودية نظرية
املعرفة التجريبية ،أو عىل األقل ،النطاق الضيق لالدعاءات األنطولوجية التي تسمح
بها» .وكجزء من النقاش ،ركز ا ُملن َِّظ ُرون النقديون عىل «عدم حيادية املعرفة وسعوا
إىل فضح املصالح السياسية التي تقوم عليها الوضعانية ،وذلك ألجل تقديم إمكانات
انعتاقية بديلة» ( .)Butler, 2010يحاجج ييل فريجسون Yale Fergusonوريتشارد
مانسباخ ( )Richard Mansbach 2014بأن تأثري النقاش الثالث كان محدودًا يف
الواليات املتحدة (مقارنة بأوروبا)(٭) .حيث إن هذا النقاش «مل يغري آراء الوضعيني
يف املجاالت الذين مازالوا يهيمنون عىل عديد من اإلدارات واملجالت الرائدة خاصة
يف الواليات املتحدة» .ولكنه عىل نح ٍو عام« ،أدى إىل توعية الباحثني عىل نح ٍو كبري،
وخاصة الباحثني األصغر سنًا ،بدور عوامل مثل املعايري والهويات واألفكار واملبادئ».
لقد و َّلد هذا النقاش الثالث تحو ًاًل نحو األفكار وابتعادا عن املادية« .ونتيجة لذلك،
مل يعد باحثو العالقات الدولية ،من غري أولئك الذين مازالوا متمسكني بالوضعانية
الضيقة ،يعتقدون أن «الحقائق تتحدث عن نفسها و ُترص عىل أن نويل مزيدًا من
الرتكيز عىل املعنى وتفسري األحداث التي ُص ِّفيت من خالل العدسات الذاتية».
لقد قدم النقاش الثالث تأط ًريا لتنويع نظرية العالقات الدولية املوصوفة سابقا.
وجعل «الفاعل» أكرث برو ًزا و«سلط الضوء عىل محدودية املنظورات «البنيوية»
مثل الواقعية الجديدة» .كام أعطى صو ًتا ملجموعة متنوعة من املقاربات مبا يف
(٭) جميع االقتباسات الالحقة يف هذه الفقرة مأخوذة من مقال فريغسون ومانسباخ غري املرقم[ .املؤلفان].
369
تشكيل العالقات الدولية العاملية
370
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
372
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
373
تشكيل العالقات الدولية العاملية
) .2012; Bell, 2013; Henderson, 2013; Persaud, 2014فالعرق مل يحدد أصل
أيضا الهيكل االقتصادي العاملي، ومسار املرشوع االستعامري الغريب فقط ،بل حدد ً
وذلك من خالل عرض العاملة املصنفة عىل أساس العرق .لقد امتزج االستعامر مع
العنرصية للتأثري عىل نح ٍو كبري يف التكوين املكاين والدميوغرايف للعامل (Persaud
) .and Walker, 2001وكام أوضحنا ذلك ،عىل الرغم من بروز أهمية العرق قبل
العام ،1945فإنه مل يحظ باهتامم كبري يف نظرية العالقات الدولية السائدة بعد
العام 1945عىل رغم دوره باعتباره «قوة أساسية يف صنع النظام العاملي الحديث»
( ،)Persaud and Walker, 2001: 374حتى إن بعض ا ُملن َِّظرين النقديني من
مدارس ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية كانوا قد ابتعدوا عن التطرق إىل قضايا
العرق .وقد ركز الفكر ما بعد االستعامري املتأثر باملاركسية (مع استثناءات مثل
فانون )Fanonعىل البعد االقتصادي ،لكن األعامل األخرية من هذا النوع مثل عمل
أندريه جوندر فرانك Andre Gunder Frankوباري جيلز ()Barry Gills 1992
أيضا موضوعًا أعطت مكانة للعرق .وأصبحت الطبيعة الجندرية للعالقات العرقية ً
مهاًم للنسوية مابعد االستعامرية مع تطور رئيس يتمثل يف «التقاطع» بني العرق ً
والجندر والطبقة (.)Persaud and Sajed, 2018a: 8–9
لقد قدمت ما بعد االستعامرية نقدًا لحقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز ،كام
قدمت ،وبطرق مختلفة ،إسهامات لرأب الصدع الحاصل يف التخصص بني املَ ْر َكز
واألَ ْط َراف .وإىل جانب ذلك ،كانت هناك مجموعة متنوعة من تطورات حقل
العالقات الدولية داخل مناطق مختلفة من األَ ْط َراف والتي كانت تفعل اليشء
نفسه إىل حد كبري :أي متييز حقلها عن حقل العالقات الدولية املطروح داخل
املَ ْر َكز واالندماج مع حقل العالقات الدولية العاملي .ولكن مع زيادة التباعد عن
الحقبة االستعامرية ،وتزايد التباينات عىل مستوى التنمية ،أصبحت األَ ْط َراف يف حد
ذاتها أكرث تشتتًا ،سواء من الناحية السياسية أو فيام يتعلق بتطور حقل العالقات
الدولية .حيث صار اإلرث الذي كان يعد مبنزلة مصدر إلهام ملناهضة االستعامر
ومناهضة العنرصية يشهد مزيدا من التضاؤل ،عىل الرغم من أنه اليزال يؤدي
لأل ْط َراف باإلقليمية يأخذ منحى التمييزدو ًرا قو ًّيا .وقد بدأ االهتامم الطويل األمد َ
بني آسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية والرشق األوسط بعضها عن بعض كام عن
375
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الغرب .وحيث إن الحقل املعريف للعالقات الدولية اتبع مامرستها الفعلية يف العامل
الحقيقي حيث أصبح أكرث َع ْولَ ِم َّية ،فقد تحول الرتكيز ليصبح ُمنص ًّبا عىل نح ٍو أقل
عىل االغرتاب عن املَ ْر َكز ،ويصري ُمنص ًّبا أكرث بشأن كيفية العثور عىل مواقع متميزة
داخل حقل العالقات الدولية ا ُمل َع ْولَم .ففي آسيا ،وخاصة يف شامل رشق آسيا ،أصبح
مزيجا مث ًريا لالهتامم
حقل العالقات الدولية كب ًريا ومزودًا مبصادر جيدة ،وأظهر ً
من تكامله (كحقل معريف) مع حقل العالقات الدولية داخل املَ ْر َكز ،كام كشف عن
وجود عمل جاد لتأسيس أمناط متميزة من تفكري حقل العالقات الدولية تعكس
التاريخ والثقافة املحليني .ويف أماكن أخرى من األَ ْط َراف ،كان حقل العالقات الدولية
عمو ًما أقل تزودا باملصادر ،ومييل إىل االنجذاب إىل املَ ْر َكز ،مع االحتفاظ بالرتكيز عىل
قضايا السياسة الخارجية املحلية.
- 3 - 2آسيا
خالل فرتة ما بعد الحرب الباردة ،شهدت «الرسديات الرئيسة» (Alagappa,
) 2011: 204عن حقل العالقات الدولية يف آسيا تحوال .ففي الهند حدث التحول
من عدم االنحياز إىل االنفتاح االقتصادي ،ثم تحولت هذه الدولة إىل دورها بوصفها
قوة صاعدة .وقد تحولت الرسدية الرئيسة للصني من قصة دولة ضعيفة تحافظ عىل
الوضع القائم إىل دولة إصالحية وقوة عاملية صاعدة .ويف حني أن هذه التحوالت
قدمت سيا ًقا سياس ًّيا معينًا ،فإن تفكري حقل العالقات الدولية داخل معظم آسيا صار
اختصاصا لألكادمييني أكرث منه
ً -كام كان ساب ًقا يف املَ ْر َكز -يشكل عىل نحو متزايد
اختصاصا للقادة السياسيني .وكجزء من هذا التحول ،أصبح حقل العالقات الدولية ً
يف األَ ْط َراف أكرث متيزًا عن املَ ْر َكز وأكرث ً
ارتباطا باملقاربات والنقاشات الجارية فيه .ويف
حني أن هناك اهتام ًما متزايدًا بالعمل النظري يف جميع أنحاء اإلقليم (آسيا) ،فإنه ال
توجد أي مدرسة إقليمية ناشئة من ذلك اإلقليم .وتتمثل العقبات التي تعرتض نشوء
مدرسة إقليمية يف الظروف املحلية املتميزة وامليول الفكرية ،والتي غال ًبا ما تتشكل
من خالل األيديولوجيات الوطنية وأطر السياسة الخارجية التي يصوغها الباحثون
يف مختلف أنحاء اإلقليم ،وخاصة يف الصني والهند ( .)Alagappa, 2011هناك عائق
آخر يحول دون تطوير مدرسة آسيوية للعالقات الدولية وهو الطبيعة املحدودة
376
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
للتبادل والتفاعل بني الباحثني من مختلف األقاليم الفرعية يف آسيا .لذلك فإننا
سنتطرق عىل نح ٍو رئيس إىل تطورات حقل العالقات الدولية داخل آسيا دولة بدولة.
وضوحا يف الصني ،حيث كان عىل
ً لقد كان املسار املزدوج للتاميز والتكامل أكرث
حقل العالقات الدولية ،منذ مثانينيات القرن املايض ،إعادة بناء نفسه من الصفر
تقري ًبا بعد القمع والفوىض التي خلفتها سنوات حكم ماو تيس .وكام يرى كني
ياكينغ ( ،)Qin Yaqing 2010, 2011aفقد تم ذلك من خالل مسار منهجي متا ًما
السترياد وترجمة «كالسيكيات» حقل العالقات الدولية وإتقانها ثم محاولة تطوير
صيغ صينية متميزة من نظرية العالقات الدولية .لقد استوعب حقل العالقات
الدولية الصيني وناقش الواقعية والليربالية والبنائية واملدرسة اإلنجليزية ،وأنجب
دعاة مؤثرين لكل من تلك النظريات(٭) .ثم استمر يف تطوير تفكري خاص بهذا
التخصص استنادًا إىل التاريخ والنظرية الصينيني ( ،)e.g. Yan, 2011, 2014وإىل
السلوك والخصائص الثقافية الكونفوشيوسية (.)e.g. Qin, 2009, 2011b, 2016
حتى إنه كان مثة بعض األعامل النظرية التي واجهت «النقاشات الكربى» مثل
النموذج الفكري للتطور االجتامعي لتانغ شيبينغ ( ،)Tang Shiping 2013الذي
ُيحاجج بأنه ال توجد نظرية واحدة صالحة يف جميع األوقات ،وأن نظريات العالقات
الدولية ،وخصوصا الواقعية والليربالية« ،تتناسب مع مراحل مختلفة من التاريخ»
’(Buzan, 2013: 1304; see also the discussion of ‘theoretical pluralism
) .by Eun, 2016وأثارت فكرة تطوير «مدرسة صينية» للعالقات الدولية عديدا من
النقاشات ( .)Wang and Buzan, 2014وقد عارضها البعض عىل أساس أن نظرية
العالقات الدولية يجب أن تسعى جاهدة لتكون عاملية وليست خاصة ،وأن املدارس
أيضا خطر االرتباط الوثيق مبراكز السلطة واألمن الوطنيني ،وقد بدا الوطنية تثري ً
خاصا يف الصني ،حيث كانت الحكومة االستبدادية ،مع القليل من املوانعهذا خط ًرا ً
لقمع النقد ،تتبنى عىل نحو متزايد الخطاب الكونفوشيويس عن تيانكسيا Tianxia
(كل ما تحت السامء) وعالقات االنسجام لتأطري سياستها الخارجية .لقد كان كل من
) Yan Xuetong for Realism, Wang Yizhou for Liberalism, Qin Yaqing for Constructivism,٭(
Zhang Xiaoming for the ES.
[املؤلفان].
377
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ودور الهند كقوة عاملية صاعدة؛ والتنافس الصيني الهندي؛ كام كتبوا أخ ًريا عن
منطقة «املحيطني الهندي -الهادئ ( Indo-Pacificوالتي أصبحت أكرث برو ًزا
مقارنة مع آسيا واملحيط الهادئ .)Asia-Pacific
لقد متكنت البنائية من اكتساب شعبية يف جنوب رشق آسيا ،حيث كان
أيضا بعض االهتامم بتوظيف املصادر التاريخية املحلية كأساس للتنظري هناك ً
يف حقل العالقات الدولية ( .)Chong, 2012; Milner, 2016توسع حقل
العالقات الدولية يف كوريا وتايوان وازدهر بعد العام ،1989لكن كليهام ارتبط
ارتباطا وثي ًقا بالتفكري األمرييك يف مجال العالقات الدولية ،وكليهام كان ً
مهتاًم ً
عىل نحو أسايس مبشاكلهام املحلية الكبرية ،أي عىل التوايل ،بإعادة التوحيد
والعالقات عرب املضيق ) .(Inoguchi, 2009كان أحد االستثناءات امللحوظة
هو نظرية شيه ) (Shih 1990; Shih and Yin, 2013العالئقية ،والتي مثلها
مثل نظرية تشني تهدف إىل أن تكون سارية عىل املستوى العاملي .فالباحثون
الكوريون األمريكيون مثل ديفيد كانغ ) (David Kang 2003, 2005وفيكتور
أيضا يف التفكري تشا ( )Victor Cha 1997, 1999, 2000, 2010أثروا عامل ًيا ً
بشأن العالقات الدولية لشامل رشق آسيا.
إن ارتياب أليسرت إيان جونستون ( )Alastair Iain Johnston 2012بشأن
قيمة العمل النظري القادم من آسيا مل يعد يبدو اآلن مرب ًرا ،لكونه يستند إىل معايري
املركزية األمريكية ملا ميكن اعتباره نظرية .لقد كانت التطورات اآلسيوية يف التفكري
بشأن حقل العالقات الدولية مهمة بالفعل ،سواء يف حد ذاتها أو يف الكشف عن
قيود نظريات العالقات الدولية الغربية ،وخاص ًة قابليتها للتطبيق يف آسيا .لقد َث ُب َت
أن التنبؤات الواقعية بانهيار النظام بعد الحرب الباردة يف آسيا كانت خاطئة هناك
ً
أشكااًل من اإلقليمية مختلفة متا ًما عن منوذج كام يف أي مكان آخر ،وقد طورت آسيا
االتحاد األورويب .وقد بدأ تفكري حقل العالقات الدولية اآلسيوي اآلن يف استكشاف
األسباب التي متيز العالقات الدولية آلسيا عن تلك املوجودة يف الغرب.
ويف أماكن أخرى من األَ ْط َراف ،مل يكن هناك يشء حاصل يشبه الجهود
الصينية لتأسيس مدرسة متميزة ،عىل الرغم من وجود أسس ثقافية مختلفة ميكن
استخدامها لهذا الغرض .وقد كان املوضوع الرئيس هو االندماج يف حقل العالقات
379
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الدولية الخاص باملَ ْر َكز ،مع محاولة الحفاظ عىل موقف متميز والرتكيز عىل قضايا
السياسة الخارجية املحلية.
- 3 - 3أمريكا الالتينية
شهد حقل العالقات الدولية األكادميي توسعا كبريا يف أمريكا الالتينية ،ولكنه
انجذب عىل نحو متزايد نحو املَ ْر َكز من ناحية التفكري يف املواضيع املتعلقة
بهذا التخصص .فقد عدَّلت دول أمريكا الالتينية منظور سياستها الخارجية عىل
نحو مختلف لتتوافق مع التغيريات التي عرفها املجتمع الدويل العاملي بعد
العام .1989فعىل سبيل املثال ،تجاوز وزير الخارجية الربازييل المربييا مفهوم
الحرب الباردة املتمثل يف «الحكم الذايت من خالل ال َت َباعُ د» ،وصاغ مصطلح
«االستقالل الذايت من خالل التكامل» من أجل توحيد سياسة حكم كاردوسو
ٌ
مقاربة أكرث ( .)Bernal- Meza, 2016: 8–9ومل يكن من املستغرب أن تأيت
رفضا للنظام الدويل السائد من فنزويال بقيادة هوغو شافيز .وقد سلطت فكرة ً
«تأسيس العصيان» ،الواردة يف وثيقة وزارة الخارجية للعام ،2012الضوء عىل
خضعة ،وعن هيكل القوة املهيمن الذي يتألف من دول خاضعة وأخرى ُم ِ
خضعة من إمكانية توقف األوىل عن كونها دو ًاًل خاضع ًة وأن تصبح دولة ُم ِ
خالل الوصول إىل «عتبة السلطة» ،وهو مفهوم صاغه ساب ًقا مارسيلو جولو
) .(Bernal-Meza, 2016: Marcelo Gullo 12–13لقد سعت مفاهيم أخرى
يف حقل العالقات الدولية ألمريكا الالتينية إىل إعادة تعريف السياسة الخارجية
لدولها يف سياق التحول املستمر الحاصل عىل مستوى القوة العاملية ،وخاصة مع
صعود قوى جديدة من األَ ْط َراف عىل املستويني الدويل واإلقليمي .ويشار إىل هذا
يف فكرة «دول األَ ْط َراف الكبرية» التي طورها صامويل بينريو غيامريش (Samuel
) ،Pinheiro Guimarães 2005والتي شملت الصني والهند والربازيل .وعىل
الرغم من أن هذه الدول شهدت صعودا ،فإنها استمرت يف العمل ضمن «هياكل
القوة املهيمنة» القامئة ،وذلك بهدف تأمني وضعها ودورها .كان مثة اهتامم
أيضا يف مناطق أخرى من متزايد يف املنطقة بفكرة القوة اإلقليمية (الشائعة ً
األَ ْط َراف) ،والتي استخدمت تحرير االقتصاد املحيل والعمل متعدد األطراف
380
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
لتشكيل سياستها الخارجية والتحرك يف هذا العامل ا ُمل َع ْولَم .أخ ًريا ،فإن املفهوم
التشييل لـ «عدم التامثل املزدوج» يعني ضمن ًيا العالقة املتزامنة التي تربط
تشييل باالقتصادات الرئيسة يف العامل ،ومع تلك االقتصادات التي تكون قوتها
النسبية أقل عىل نحو واضح (خصوصا البلدان الشاملية املجاورة ،مثل بريو
وبوليفيا) (.)Bernal-Meza, 2016: 24
عىل عكس املفاهيم التي تتمركز حول الدولة الواردة سابقا ،فإن فكرة «الواقعية
الطرفية» ،التي طورها عامل السياسة األرجنتيني كارلوس إسكودي ،Carlos Escudé
رأت أن الدعوة إىل الحكم الذايت ،التي شددت عليها دول أمريكا الالتينية إىل َحد
اآلن ،يجب تقييم منافعها يف مقابل تكاليفها .كان كارلوس إسكودي ُمدر ًكا أن
التبني غري النقدي لألطر النظرية التي ُأنتجت عىل نحو أسايس يف الواليات املتحدة
يخدم األغراض األيديولوجية للنخب الحاكمة يف تلك البلدان .فبينام استُخدمت
النظرية الواقعية لتربير السياسات الخارجية العدوانية تجاه األَ ْط َراف ،فقد أدى
االعتامد املتبادل إىل املبالغة يف تقدير نطاق عمل تلك األَ ْط َراف .ويف عمل صدر
يف العام ،1995استشكل كارلوس إسكودي «مغالطة التجسيم» الخاصة بالواقعية
الكالسيكية ،أي ميلها إىل اعتبار الدولة كإنسان ،مام أدى إىل تأكيدها املصلحة
الوطنية والقوة ،وتفضيلها ملصالح بعض املجموعات عىل حساب اآلخرين ،مع
وبداًل من ذلك ،دافع كارلوس إسكودي عن «مقاربة واقعية تجاهل مصالح الناسً .
تتمركز حول املواطن» (.)cited in A. B. Tickner, 2003a: 332
ولخص فلورن فراسون كوينز Florent Frasson-Quenozرؤي ًة ألمريكا
الالتينية إىل العامل تختلف عن رؤية األوروبيني واألمريكيني ،وذلك بنا ًء عىل
معارضتها املركزية األوروبية ومحاولتها إعادة تعريف املفاهيم وتأسيسها ليك
تتالءم مع املنظورات الوطنية واإلقليمية .وبغض النظر عن أفكار املَ ْر َكز بشأن
التبعية واالستقاللية وامليل إىل تبني التنظري االستقرايئ ،وجد فراسون كوينز
أنه ال توجد مدرسة فكرية خاصة بأمريكا الالتينية بسبب التقارب الوثيق بني
هذه املفاهيم والنظرية املاركسية ،وبسبب أيضا أن «الخيارات األنطولوجية/
املنهجية املختارة يف أمريكا الالتينية ال تختلف عن نظرياتها الغربية» (Frasson-
).Quenoz, 2015: 72
381
تشكيل العالقات الدولية العاملية
- 3 - 4أفريقيا
يف أفريقيا ،ظل تطوير حقل العالقات الدولية األكادميي ضعي ًفا نسب ًيا وفقريا من
ناحية املصادر .إذ مل يكن مثة جهد جاد إلنشاء «مدرسة أفريقية للعالقات الدولية».
وبداًل من ذلك ،كان الجهد الرئيس ُمنصبا عىل تأسيس منظورات ومؤسسات وأصوات ً
أفريقية يف حقل العالقات الدولية العاملي الناشئ ،وذلك بنا ًء عىل االعتقاد بأن
«األصوات واملساهامت األفريقية يجب أن يكون لها صدى عاملي ،وأنه ميكن إقحامها يف
َم ْر َكز تخصص العالقات الدولية» ( .)Bischoff, Aning and Acharya, 2016: 2لقد
استمرت رسدية التهميش ،وهي موضوع رئيس يف حقل العالقات الدولية األفريقي ،يف
فرتة ما بعد الحرب الباردة .ووفق وجهة النظر هذه ،تعمل نظرية العالقات الدولية
التقليدية عىل تهميش أفريقيا عىل أساس «االفرتاض املتغطرس القائل إنها تفتقر إىل
سياسة ذات معنى» ،وتستخدم أفريقيا باعتبارها «اآلخر ا ُمل َس َّخر لبناء الذات الغربية
األسطورية» ( .)Dunn, 2001: 3وعىل نحو متصل ،واصل الباحثون األفارقة ،كمثل
أولئك املوجودين يف آسيا وأماكن أخرى ،تحدي أهمية مفاهيم ونظريات العالقات
الدولية الغربية يف أقاليمهم .حيث تم تحدي جدوى مفهوم الدولة كوحدة للتحليل
والحدود الوطنية عىل نحو خاص لعدم عكسها «البنى الحقيقية للسلطة والسيادة
والحكم» يف أفريقيا ،وهي البنى التي تنتمي إىل «أمراء الحرب أو املنظامت غري
الحكومية أو املجموعات العرقية» (.)K. Smith, 2012: 28
وبداًل من الرتكيز عىل الدولة القومية املصطنعة ،دعا باحثو العالقات الدولية ً
األفارقة ،كام هو مذكور يف الفصل السادس ،إىل مزيد من االهتامم بالتحديات
االجتامعية واالقتصادية والتحديات املتعلقة بالحوكمة الداخلية وعرب الوطنية التي
تواجه القارة .وعىل رغم ذلك ،تحذر كارين سميث ،Karen Smithوهي باحثة من
جنوب أفريقيا ،من رفض املفاهيم الغربية متا ًما .مستشهدة يف ذلك باألعامل األخرية
للباحثني األفارقة بشأن «القوة الوسطى» و«الدول املعزولة» واملفهوم الجامعي
«أوبونتو» (()Ubuntu٭) ،حيث تحاجج قائلة:
(٭) تعود جذور أوبونتو ubuntuإىل الفلسفة األفريقية اإلنسانية ،حيث تعترب فكرة املجتمع إحدى اللبنات
األساسية للمجتمع .ومصطلح أوبونتو يشري إىل اإلنسانية املشرتكة ،والوحدة ،واإلنسانية ،وأنا وأنت .وكلمة ubuntu
هي مجرد جزء من عبارة مقتطفة من لغة الزولو األفريقية تعني أننا ال نكون برشا إال من خالل اإلحساس بإنسانية
اآلخرين[ .املرتجم].
382
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
«ال تحتاج املساهامت النظرية املتأتية من الجنوب العاملي -ويف هذه الحالة
من أفريقيا -إىل أن تكون مختلفة جذر ًّيا عن النظريات املوجودة ليك تشكل
فهم أفضل للعالقات الدولية .إن إعادة تفسري أو تعديل تقد ًما من حيث خلق ٍ
األطر القامئة وإدخال مفاهيم جديدة للفهم يحوزان القدر نفسه من األهمية»
).(K. Smith, 2017: 1
لقد اكتسبت مسألة أفريقيا كجهة فاعلة (Bischoff, Aning and Acharya,
) 2016: 11–17أهمية أكرب يف حقبة ما بعد الحرب الباردة ،إذ ميكن اعتبارها إجابة
أفريقية عن االهتامم املتزايد لحقل العالقات الدولية يف كل من أمريكا الالتينية
وآسيا بشأن دور القوى الصاعدة والقوى اإلقليمية .ويعرف ويليام براون (2012:
) 1891أفريقيا كجهة فاعلة بأبعاد متعددة« :بصفتها ً
فاعاًل دول ًّيا جامع ًّيا؛ كمجموعة
متواصاًل يستخدمه كل من األفارقة ً من الدول لها تاريخ مشرتك؛ وباعتبارها حضو ًرا
واألجانب يف السياسة الدولية» .كام يجادل براون ( )2012: 1902بأن «التقدير
املناسب للجهة الفاعلة يحتاج إىل تحديد كيفية وجود تراكامت املامرسة السابقة
يف الحقائق اليومية التي تواجه الجهات الفاعلة املعارصة» .ويف األدبيات املتعلقة
بهذه اإلمكانيةُ ،تع َّرف الجهة الفاعلة األفريقية عىل نطاق واسع لتشمل العنارص
املادية والفكرية يف العالقات اإلقليمية والدولية ،لتغطي املجاالت التي تكون
فيها مساهامت أفريقيا مرئية وذات صلة عىل نحو خاص ،مثل اإلقليمية وإدارة
األمن وعالقات أفريقيا مع العامل الخارجي .ويشري الباحثون األفارقة (van Wyk,
) 2016: 113–17إىل أمثلة عن الفاعلية األفريقية ،مثل الحملة الدولية ضد الفصل
العنرصي (التي نجحت يف إعالن الفصل العنرصي جرمي ًة ضد اإلنسانية) ،وإعالن
القارة بأكملها منطق ًة خالية من األسلحة النووية وإنشاء الرشاكة الجديدة من أجل
التنمية األفريقية ،كأمثلة ميكنها أن توفر القيادة يف إنشاء أنظمة دولية مثل عملية
كيمربيل Kimberley processبشأن املاس الدموي ،وعىل نحو أعم مثل املشاركة
األفريقية يف التجمعات غري الغربية أو بني الجنوب والجنوب مثل الربيكس BRICS
وإبسا ( IBSAالهند والربازيل وجنوب أفريقيا) .وعىل عكس املايض ،فإن الخطاب
الجديد بشأن صفة الفاعلية األفريقية ليس خطابا متمحورا عىل نحو حرصي بشأن
«الحلول األفريقية للمشاكل األفريقية» .بل إنه يغطي مجموعة من «املساهامت
383
تشكيل العالقات الدولية العاملية
التي يحدد فيها األفارقة مصطلحات ألجل فهم القضايا ،ويضعون الرشوط لطبيعة
ونطاق املشاركة الخارجية» ( .)Bischoff, Aning and Acharya, 2016: 1–2وال
يعتمد املفهوم الجديد للفاعلية األفريقية حرص ًّيا عىل االدعاءات املتعلقة بالتميز
األفريقي أو االستثنائية األفريقية.
لقد كانت النزعة اإلقليمية أحد الجوانب الرئيسة للفاعلية األفريقية .فقد
أدى إنشاء االتحاد األفريقي ،الذي حل محل منظمة الوحدة األفريقية ،إىل إحياء
االهتامم األكادميي باإلقليمية األفريقية ،وقد َت َقاطع ذلك مع املناقشات العاملية
الناشئة الح ًقا بشأن التدخل اإلنساين ومسؤولية الحامية .يسلط الباحثون األفارقة
الضوء عىل الفاعلية املعيارية والعملية للبلدان األفريقية من خالل مساهامت
القادة والديبلوماسيني األفارقة ،مثل نيلسون مانديال؛ وثابو مبييك Thabo Mbeki؛
وأولوسيغون أوباسانجو Olusegun Obasanjo؛ وبطرس بطرس غايل؛ وكويف عنان؛
وسامل أحمد سامل؛ ومحمد سحنون؛ وفرانسيس دينق Francis Dengيف إنتاج تحول
عاملي يف املوقف من العقيدة القدمية لعدم التدخل إىل التدخل اإلنساين (Adebajo
) and Landsberg, 2001; Swart, 2016ومسؤولية الحامية (.)Acharya, 2013b
وقد كررت هذه األفكار املقرتحات السابقة التي ُنوقشت يف الفصل السادس،
مثل اقرتاح نكروما قياد ًة عليا أفريقية ودعوة عيل مزروعي إىل التدخل األفريقي
الداخيل لتأمني السالم واألمن يف أفريقيا .فمحمد سحنون الجزائري ،الذي شارك
يف رئاسة اللجنة الدولية املعنية بالتدخل وسيادة الدول ( )ICISSالتي شكلت
فكرة املسؤولية عن الحامية ،يدَّعي أنه إىل جانب قاعدة عدم الالمباالة بالفظائع
الجامعية الواردة يف القانون التأسييس لالتحاد األفريقي؛ وكذلك «مفهوم السيادة
باعتبارها مسؤولية» الذي طوره دينغ الباحث والديبلومايس السوداين الذي أصبح
مواطنًا من جنوب السودان بعد تشكيل ذلك البلد« ،شكلت مسؤولية الحامية من
نواح عديدة مساهم ًة أفريقي ًة يف حقوق اإلنسان» ( .)Sahnoun, 2009وعىل عكس ٍ
التجمعات اإلقليمية يف آسيا وأمريكا الالتينية ،اضطلع االتحاد األفريقي واملجموعة
االقتصادية لدول غرب أفريقيا بتدخل جامعي ،مام أدى إىل فك االرتباط السابق
مببدأ عدم التدخل .ويف هذ السياق ،مل يكن األفارقة ُمتلقني غري فاعلني لهذا املعيار
العاملي الناشئ ،لكنهم كانوا ُم َؤيدين نشطني له .ويحاجج كوييس أنينغ وإيدو أفول
384
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
( )120 :2016بأنه عىل الرغم من املوارد واإلرادة السياسية املحدودين لدى بعض
البلدان يف املنطقة ،فإن االتحاد األفريقي والجامعة االقتصادية لدول غرب أفريقيا
أظهروا الفاعلية األفريقية يف األمن اإلقليمي والدويل وكانوا «قادة عامليني يف تبني
وتفعيل مسؤولية الحامية».
أخ ًريا ،لقد ُطرحت أفريقيا باعتبارها مصدرا للتفكري الجديد أو البديل يف حقل
العالقات الدولية« ،لخلق لغة جديدة ،وطريقة جديدة يف التفكري بشأن هذا
التخصص املعريف» ( .)Dunn, 2001: 6ويذهب بعض الباحثني األفارقة إىل حد
املحاججة بشأن إمكانية وجود أكرث من نظام دويل واحد (Claassen, 2011:
) .182وعىل هذا النحو ،كان مثة نقاش بشأن نظرية العالقات الدولية األفريقية
ويِل وماقبل االستعامري َ
القامئة عىل عودة املثقفني األفارقة إىل الواقع السيايس األ ِ
حذر من أن هذا قد يؤدي إىل يف أفريقيا جنوب الصحراء الكربى .لكن البعض َّ
«مزيد من التهميش» ألفريقيا ( .)Claassen, 2011: 181يف حني يرى آخرون أن
التحدي املتمثل يف أبحاث حقل العالقات الدولية هو إدراك أن هناك عديدا من
االختالف يف أفريقيا ،مام يستلزم انتشار العديد من نظريات العالقات الدولية
استنادًا إىل «الطرق املتعددة للتفكري التي ميثلها هذا التخصص ،والعمل عىل
التعرف عىل أبعادها التي ال ُت َعد عادة جز ًءا من اإلطار التحلييل» (Cornelissen,
).Cheru and Shaw, 2012: 16
- 3 - 5الرشق األوسط
يف معظم أنحاء العامل العريب ،ظل الحقل األكادميي للعالقات الدولية ضعيف
التطور إما بسبب الفوىض السياسية وإما السيطرة االستبدادية .أما خارج العامل
العريب ،فقد تطور هذا الحقل األكادميي عىل نحو كبري يف إرسائيل وتركيا ،وحتى إىل
ً
متكاماًل إىل حد كبري مع حد ما يف إيران ،غري أنه يف تركيا وإرسائيل كان ذلك الحقل
حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز.
وعىل ذلك ،رأت فرتة ما بعد الحرب الباردة أن اإلسالم قد يكون مصدرا غن ًيا
محتمال لتفكري حقل العالقات الدولية يف املنطقة .فقد ظل الباحثون منقسمني
بشأن كيفية «إقحام اإلسالم» داخل هذا التخصص .فبعض الباحثني يرفضون
385
تشكيل العالقات الدولية العاملية
فكرة نظرية العالقات الدولية اإلسالمية باعتبارها نظرية متميزة بسبب موقفها
الغامض من مكانة الدولة القومية .إذ يحاجج شهرربانو تادجباخش Shahrbanou
Tadjbakhshبأن «النموذج الكالسييك لنظرية العالقات العالقات اإلسالمية ال
ينسجم مع الدول القومية املوروثة التي تشكلت يف املنطقة نتيجة لالستعامر
والتحديث» .ومن ثم ،فإن اإلسالم قد « َبنَى رؤيته الخاصة للعالقات الدولية ...إن
أساس مختلف اإلسالم كرؤية للعامل ،باعتباره متغريا ثقافيا ودينيا وفكريا ،سعى إىل ٍ
للحقيقة والحياة الجيدة التي ميكن أن تقدم بدائل لنظرية العالقات الدولية
الغربية» ( .)Tadjbakhsh, 2010: 174عالوة عىل ذلك ،يجب أن ُينظر إىل نظرية
العالقات الدولية اإلسالمية عىل أنها «نظرية نسقية ،ال تتعلق بكيفية تفاعل الدول
بعضها مع بعض أو كيفية تأثري النظام يف الدولة ،ولكنها ...متثل باألحرى مفهو ًما
للنظام العاملي الذي يركز عىل العالقات بني املسلم /العريب وغري املسلم /العريب
وكيف ينبغي ترتيب هذا العامل» .إذ تختلف الرؤية اإلسالمية للعامل كث ًريا عن
املفاهيم املعارصة املوجودة يف حقل العالقات الدولية بحيث ال ميكنها أن تنسجم
مع النظريات املوجودة .ومن ثم يجب التعامل مع اإلسالم «كنموذج فكري خاص
للنظرية الدولية» (.)Turner, 2009
ولكن عىل الرغم من هذا االرتياب ،فإنه من املمكن ربط اإلسالم مبفاهيم حقل
العالقات الدولية وتوظيف الرؤية اإلسالمية للعامل من أجل بناء نظرية إسالمية
للعالقات الدولية -وهي نظرية مبنية عىل «قوة األفكار مثل اإلميان؛ والعدالة؛
والسعي نحو الحياة الجيدة؛ واألخالق الدينية ،يف مقابل السعي وراء املصالح
املادية والسلطة يف حد ذاتها» ( .)Tadjbakhsh, 2010: 191يحاجج شهرربانو
تادجباخش ،الباحث اإليراين يف فرنسا ،بأن نظرية العالقات الدولية اإلسالمية
ميكن أن تستند إىل مصادر كالسيكية مثل القرآن والحديث والسنة واالجتهاد،
وإىل األصولية والحداثة وكالهام رجعي ودفاعي؛ وإىل أسلمة املعرفة «كطريق
ثالث» بني األصولية والحداثة ( .)Tadjbakhsh, 2010: 176–7ففي حني ُتص َّور
الفلسفة اإلسالمية يف الغرب عىل أنها غري عقالنية ،فإن فكرة االجتهاد ُمُت َّثل كجزء
من «الالهُ وت اإلسالمي العقالين» ،والذي ينص عىل أنه «ال ميكن استيعاب فكرة
الله إال من خالل العقل البرشي الفردي املجرد» (.)Tadjbakhsh, 2010: 178
386
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
387
تشكيل العالقات الدولية العاملية
أحدث عدد من الباحثني األتراك الذين يعملون داخل البالد وخارجها تأثريات
مهاًم من تكامل حقل العالقات الدولية بني املَ ْر َكز
وسمعة دولية كبرية ،وكانوا جز ًءا ً
واألَ ْط َراف .وهؤالء يشتملون عىل :بهار روميلييل ( )Bahar Rumelili 2004بشأن
الهوية؛ وعائشة زاراكول (( )Ays ̧e Zarakol 2011, 2014التي ُتد ِّرس اآلن يف
كامربيدج) بشأن الوصم؛ وطوران كاياوغلو ( )Turan Kayaoglu 2010aبشأن نقد
«املركزية الويستفالية األوروبية» وخارج الحدود اإلقليمية ()Kayaoglu, 2010b؛
ونوري يوردسيفر ( )Nuri Yurdusev 2003, 2009بشأن املدرسة اإلنجليزية؛
وبينار بيلجني ( )Pinar Bilgin 2004a, b, 2008بشأن دراسات ما بعد االستعامرية
والنسوية واألمن.
الباحثني الروس أهمية نظرية العالقات الدولية الغربية ،اعتقد البعض اآلخر أنها
بحاجة إىل تفسري وف ًقا للتقاليد والظروف والهوية الروسية .لقد سعى بعض باحثي
حقل العالقات الدولية الروس إىل استخدام تعددية األقطاب والحضارات كأساس
لتطوير مقاربة روسية «غري غربية» تجاه العالقات الدولية ،أو حتى مدرسة لحقل
العالقات الدولية ( ،)Makarychev and Morozov, 2013: 329, 335وهذا يشبه
إىل حد ما ظهور «املدرسة الصينية للعالقات الدولية» التي ُنوقشت ساب ًقا ،ولكنها
نجاحا .إن الخطاب الحضاري والجيوسيايس الصاعد يف حقل كانت مدرسة أقل ً
العالقات الدولية الروسية يقطع كال االتجاهني ،ويخلق يف الوقت نفسه أساسا
أيضا من تطوير أجندة عاملية أوسع يف أبحاث ملقاربة روسية متميزة ولكنه مينع ً
حقل العالقات الدولية ( .)Makarychev and Morozov, 2013: 339وقد ُل ِّخص
التوتر الكبري القائم داخل مجتمع حقل العالقات الدولية الرويس عىل نحو مناسب
من طرف أندريه ماكاريشيف Andrey Makarychevوفياتشيسالف موروزوف
(:)Viatcheslav Morozov 2013: 345
«يتميز املجال التخصيص لحقل العالقات الدولية يف روسيا بوجود فجوة واسعة
بني الباحثني الذين يتعاملون مع روسيا كحالة تحكمها القوانني العامة للتحديث
واالنتقال إىل الدميوقراطية ،وزمالئهم من الباحثني الذين يرصون عىل أن مكانة
روسيا فريدة من نوعها إىل درجة أنها تتطلب تطوير منصة نظرية مختلفة نوعيا.
ويف التحليل األخري ،نتج هذا االنقسام من جراء تسييس الخطاب األكادميي ،الذي
أصبح يتمحور بشأن مفهوم الهوية».
باملقارنة مع تحوله الداخيل نسب ًيا يف روسيا ،كان حقل العالقات الدولية يف
دول أوروبا الرشقية والوسطى يف مرحلة ما بعد الشيوعية أكرث تطل ًعا إىل الخارج،
وخاصة تجاه الغرب الليربايل ،وذلك مبساعدة دخول عديد من الدول إىل حلف
الناتو واالتحاد األورويب .وعىل رغم أن جمعية أوروبا الوسطى والرشقية للدراسات
الدولية التي ُأنشئت حدي ًثا مع منشورها الرئيس «مجلة العالقات الدولية والتنمية»
قد أنشأت نقطة محورية ألبحاث حقل العالقات الدولية داخل املنطقة ،فإن أبحاثها
تأثرت عىل نحو كبري بالنظريات واألبحاث الغربية وكذلك بالدعم املايل الغريب
( .)Drulák, Karlas and Königová, 2009: 243وبغض النظر عن هذا الدعم
389
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الخارجي ،أو رمبا بسببه ،ظلت حالة حقل العالقات الدولية يف املنطقة متخلفة من
حيث النظرية واملنهج .ورمبا أدى االعتامد الخارجي دو ًرا -عىل عكس روسيا – يف
عدم تطور أبحاث حقل العالقات الدولية يف بلدان أوروبا الوسطى والرشقية ،أي أنه
مل يسهم يف تطوير «أي مفاهيم أو منظورات عامة مناسبة من شأنها أن تشري إىل
السياق املحيل» (.)Drulák, Karlas and Königová, 2009: 258
خالصات
استنادًا إىل املناقشة التي متت يف الفصول 2و 4و 6و ،8ميكن إجراء ثالث
مالحظات ختامية بشأن تطور تفكري حقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف :بشأن
التنوع اإلقليمي؛ وبشأن ضعف نسبية التطور النظري للحقل؛ وبشأن النشاط
البحثي /األكادميي.
أو ًاًل ،مثة قدر كبري من التنوع قائم بني األقاليم ويف داخلها .إنه ملن املتوقع
حدوث تباين بني األقاليم ،وذلك نظ ًرا إىل اختالف تاريخها الجغرايف والثقايف
والسيايس .ويف الواقع ،ميكن القول إن تفكري حقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف
يعكس يف املقام األول سيا ًقا إقليم ًيا أو محل ًيا .فقد أكدت مناطق مختلفة
عىل رسديات مركزية مختلفة :عىل سبيل املثال ،التبعية والهيمنة واالستقاللية
ألمريكا الالتينية؛ التهميش وصفة الفاعلية ألفريقيا؛ واملايض الحضاري واإلذالل
االستعامري آلسيا .فبالنسبة إىل الرشق األوسط (باستثناء إرسائيل) ،كان اإلسالم
مرتبطا بكل من الحضارات السابقة والظروف ً َمحط تركيز إضايف ،وإن كان
السياسية السابقة يف املنطقة .ويف حني أن العالقات الدولية يف آسيا تتطلع
اآلن عىل نحو متزايد إىل العودة إىل املكانة والقوة ،فإن هذا ال ينطبق عىل
الرشق األوسط العريب ،مام يعكس حالة التنمية االقتصادية والقوة اإلسرتاتيجية
الضعيفة فيه .إن التنوع داخل اإلقليم كان تنوعًا عىل طول الخطوط الوطنية
ودون اإلقليمية .ويبدو أن حقل العالقات الدولية ُي َعدُّ أكرث تقد ًما يف الصني
والهند ،وكذلك يف كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وتركيا .كام ُيظهر إقليم
جنوب رشق آسيا اختالفات وطنية أكرب؛ حيث إن سنغافورة تتقدم بال شك
أيضا زيادة يف مقارنة بجريانها ،لكن ماليزيا وتايلند وإندونيسيا والفلبني تشهد ً
390
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
االهتامم بهذا التخصص املعريف .ويف الرشق األوسط ،يبدو أن مقاربات وطنية
مميزة إىل حد ما بدأت تظهر يف إيران وتركيا ،خاصة بشأن موضوع اإلسالم.
ثان ًيا ،مع استثناءات قليلة أبرزها يتأىت من الصني وتركيا ،اليزال العمل النظري
يحا .فأمريكا الالتينية مل تتابع ح ًقا مساهمتها النظرية املبكرة واملتميزة لنظرية َش ِح ً
التبعية ،عىل رغم أن التفكري يف حقل العالقات الدولية يف معظم العامل غري الغريب
كان نظر ًّيا عند نشأته .ويف كثري من الحاالت ،بدأت دراسات العالقات الدولية بهدف
تدريب الديبلوماسيني .وعندما كانت مثة أفكار نظرية ،خاصة عندما يأخذ املرء
تعري ًفا واس ًعا للنظرية ،فقد مرت هذه األفكار من دون أن يالحظها أحد يف الغرب
ألنها مل تكن تتعلق مبفاهيم ومفردات حقل العالقات الدولية الغريب (مبا يف ذلك
مصطلحات مثل الواقعية؛ واملثالية؛ والليربالية؛ وتوازن القوى؛ واملعضلة األمنية).
عالوة عىل ذلك ،فإن عديدا من الباحثني من الجنوب العاملي الذين أسهموا يف حقل
العالقات الدولية يقيمون أساسا يف الغرب .أما نظرية ما بعد االستعامرية ،التي
يعتربها البعض خليفة لنظرية التبعية وأن كتابها الرئيسني هم باحثون من الجنوب
العاملي (عىل الرغم من أن كثريين منهم يف الغرب) ،فلم ُت َعد نظرية سائدة يف َم ْر َكز
حقل العالقات الدولية ،عىل الرغم من أنها ُتتداول اآلن بقوة متزايدة يف املناقشات
النظرية الحاصلة يف الغرب ،كام بات لها وجود ملحوظ يف نصوص حقل العالقات
الدولية الرئيسة خالل اآلونة األخرية .ب ْيد أن دراسات حقل العالقات الدولية يف
الجنوب العاملي كانت يف األغلب مدفوعة باألحداث الجارية واملخاوف املتعلقة
ً
ارتباطا بالسياسات واملعرفة النظرية التطبيقية .إذ تظهر جميع أقاليم األَ ْط َراف
وثي ًقا بالسياسة والتطبيق العميل .ويف حني أن البعض يف الغرب يأسف لالنقسام
صحيحا
ً األكادميي والسيايس الحاصل يف حقل العالقات الدولية ،فقد يكون العكس
يف العديد من مناطق العامل الثالث ،وال سيام يف آسيا ( .)Acharya, 2014dوعىل
الرغم من بعض االستثناءات امللحوظة ،التزال األَ ْط َراف متثل إىل حد كبري ُم ْس َت ْه ِل ًكا
لنظريات العالقات الدولية الغربية.
إن أحد االنتقادات املألوفة لنظرية العالقات الدولية غري الغربية هو أنها مل
تستطع تجاوز النظريات واملناهج الغربية الحالية ،ولكنها ُتقحم عىل نحو بسيط
وص َف َة الفاعلية املحلية يف مفاهيم وتصنيفات حقل العالقات الثقافة األصلية ِ
391
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الدولية الحديثة واملشتقة من الغرب .غري أن نرش نظرية العالقات الدولية الغربية
يف العامل غري الغريب ناد ًرا ما يطرح إشكالية التبني الكامل لتلك النظرياتً .
وبداًل
من ذلك ،فإن حقل العالقات الدولية عىل نحو عام ،والنظرية عىل نحو خاص،
يتقدمان من خالل عملية «التوطني /التبيئة» (()Acharya, 2004, 2009٭) ،حيث
يختار العلامء املحليون األفكار واملفاهيم األجنبية أو يعدلونها أو يكيفونها ليك
تتالءم مع الحاجة والسياق املحليني (الوطني واإلقليمي) .و ُترصد عملية أخرى ذات
صلة يف مفهوم التبعية املعيارية ،إذ يزاوج باحثو الجنوب العاملي بني املفاهيم
الثقافية والسياسية األصلية مع املفاهيم املستوردة وذلك ملنحها تأط ًريا أكرث شمولية
( .)Acharya, 2011bوهذا ال يفرس فقط االختالفات القامئة يف «التحوالت النظرية»
أيضا مساهمة مهمة أو التي توجد بال شك ضمن األقاليم املختلفة ،ولكنه يقدم ً
«فاعلي ًة» لألطراف ُتس ِه ُم يف انتشار حقل العالقات الدولية حول العامل :وهو ما ميثل
حاساًم لبناء حقل عالقات دولية عاملي .وكام استنتج كل من تكرن وويفر ً مسا ًرا
( )2009c:338فإنه «من الواضح أن حقل العالقات الدولية يف جميع أنحاء العامل
يتشكل من ِق َبل حقل العالقات الدولية الغريب .وعىل ذلك ،فإن الوضع بالتأكيد ال
ميثل حالة «تطابق» أو «متاثل» عىل وجه التحديد ألن حقل العالقات الدولية الغريب
ُي َرَت َْج ُم إىل يشء مختلف عندما ينتقل إىل األَ ْط َراف».
شاماًل للنظريات وهذا يعني أن األعامل النظرية يف األَ ْط َراف ال متثل تبن ًّيا ً
رصيحا أو الدعوة إىل بداية جديدة متا ًما من ناحية ً الغربية من ناحية ،وال ً
رفضا
أخرى .إذ تنجز تلك األعامل مع عمليات تبيئة/توطني وتفريع وتهجني نظرية
العالقات الدولية يف العامل غري الغريب كام يحصل مع باحثي الجنوب العاملي،
إذ تبدو املفاهيم الغربية لهم يف البداية ذات صلة وحتى جذابة ،ثم رسعان ما
يشعرون بخيبة األمل من مركزيتها األوروبية .ويفرس هذا سبب ظهور الكثري من
التفكري واملامرسات غري الغربيني يف حقل العالقات الدولية عىل أنها هجينة (A.
) B. Tickner, 2009: 33أو ،بتعبري بيلجن (َ ،)2008: 19–20ت ْظ َه ُر عىل أنها ُت َك ِّو ُن
(٭) نحن نفضل كلمة توطني عىل كلمة «الرتجمة» التي ال تنقل من هو املرتجم ،أي الفواعل املحلية ،وعىل كلمة
،vernacularisationوالتي تعني تحويل اللغة الرسمية إىل اللهجة العامية ،التي تركز عىل اللغة بدال من الجوهر.
[املؤلفان].
392
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
«تقري ًبا اليشء نفسه ولكن ليس متا ًما» من حقل العالقات الدولية الغريب .ويف حني
أنها غري كافية ملواجهة التصور القائل إن الجنوب العاملي هو ُم ْس َت ْه ِل ٌك لنظريات
العالقات الدولية ا ُمل ْنت ََجة يف الغرب وخاصة يف الواليات املتحدة ،فقد أسهمت
عمليات التبيئة /التوطني هذه يف تحول نظري متزايد يف الجنوب العاملي ويف تربير
مناشدات بعض الباحثني من بلدان الجنوب (Bilgin, 2008; K. Smith, 2012:
) 28–9بعدم تجاهل أو استبعاد أهميتهم.
لقد ناقشنا مزايا (التعبئة) وعيوب (ضيق األفق ،استحواذ الدولة) «املدارس
الوطنية» لحقل العالقات الدولية يف عديد من األماكن (Acharya and Buzan,
) .2007aإن الشاغل الرئيس ألي مدرسة وطنية هو ما إذا كان ميكنها «تجاوز
ضيق التفكري» ( ،)Acharya, 2014cأي السفر خارج السياق الوطني أو اإلقليمي
الذي انبثقت منه يف املقام األول ،متا ًما مثل ما فعلت املدرسة اإلنجليزية ومدرسة
كوبنهاغن (نظرية األمننة ومركبات األمن اإلقليمي) .وإذا كانت «املدارس» مفيدة
فقط لرشح التطورات املتعلقة ببلد أو إقليم معني ،فإن انتشارها ينطوي عىل
مخاطر أكرب لتجزئة هذا التخصص املعريف .إن هذا ُيشكل يف الواقع تحديا كبريا
لتطوير حقل العالقات الدولية العاملي انطالقا من التفكري واملصادر املحليني .وكام
أوضحنا ،فإن بعض العلامء الصينيني البارزين يواجهون هذا التحدي ،الذي يجب
أن يكون ذا أهمية كبرية لنظرائهم يف آسيا ومجتمع حقل العالقات الدولية األوسع.
إن هذا ال يعني أن حقل العالقات الدولية الغريب وغري الغريب /التقليدي والعاملي
متعارضون ،بل يعني أنهم متقاربون ويعزز كل منهام اآلخر .وهذا يتامىش مع
العنرص األسايس لحقل العالقات الدولية العاملي من حيث إنه ال يحل محل نظريات
العالقات الدولية الحالية ولكنه يسعى إىل إثرائها بضخ مزيد من األفكار واملامرسات
ا ُملتَأَ ِّتية من العامل غري الغريب.
ثال ًثا ،كان مفكرو حقل العالقات الدولية القادمني من األَ ْط َراف يف كثري من
األحيان باحثني نشطاء .إذ مل يسهموا فقط يف نقد اإلمربيالية أو االستعامرية ،مثل
نظرية االستنزاف لناوروجي؛ أو أطروحة جيمس بشأن إنهاء استعامر جزر الهند
الغربية الربيطانية؛ أو تنظيم حركات مناهضة لالستعامر عىل أساس وطني أو
إقليمي (أطروحة غاريف بشأن النزعة الوحدوية األفريقية هي مثال رئيس عىل
393
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ذلك) .بل أسهموا أيضا يف نقد الفكر الغريب ،مبا يف ذلك األيديولوجية املاركسية
التي كانت تيا ًرا قو ًّيا داخل كل من العامل االستعامري واملستعمرات السابقة ألمريكا
الالتينية .ومن األمثلة عىل أولئك الذين تحدوا املاركسية وعدلوها عىل املستوى
الفكري ،هنالك املفكرون البريوفيون هيا Hayaوماريتيغي Mariátegui؛ واملفكر
جيمس من ترينيداد؛ واملفكر مانابيندارا ناث روي Manabendra Nath Royمن
الهند .كام أن بعضا من مفكري األَ ْط َراف رفضوا الشيوعية ،حيث يعتقد غاريف أن
الشيوعية كانت أكرث فائدة للعرق األبيض الذي سيستخدم السود للحصول عىل
السلطة .ومل يعتقد جيمس أن الحركة القومية السوداء كانت بحاجة إىل الدور
الطليعي لحزب تروسيك ألنها كانت مُنَظمة عىل نحو أفضل وعىل نحو مستقل عنه.
ومل يكن عيل مزروعي يرى الشيوعية حلي ًفا للقومية والتقدم.
جمع عديد من هؤالء املفكرين عىل نحو مبارش بني النشاط السيايس والقيادة
مع االستكشافات والتحليالت الفكرية .حيث ينتمي غاريف وجيمس ورودين إىل فئة
الباحثني الناشطني عىل غرار مهامتا غاندي؛ وخوسيه ريزال؛ وجامل الدين األفغاين؛
وليانج كيتشاو؛ وسون يات سني وغريهم يف حقبة سابقة .ويف فئة الباحثني-القادة،
ميكن للمرء أن يضع إريك ويليامز Eric Williamsمن ترينيداد؛ وتشيدي جاغان
Chedi Jaganمن غويانا (الذي تبنى فكرة النظام اإلنساين العاملي)؛ وميخائيل
مانيل Michael Manleyمن جامايكا (الذي دافع عن االشرتاكية الدميوقراطية).
لقد شكل هؤالء الباحثون-القادة أشباهً ا لنهرو وغريه من القادة املفكرين السابقني.
أيضا حاالت عديدة للمفكرين الذين أثروا يف القادة ،مثل جيمس وكانت هناك ً
ونكروما ،ومزروعي مع نرييري ،وعالقة طاغور مع غاندي.
مثة جانب آخر لهذه املجموعة يتمثل يف طبيعة وتأثري تفكريهم العابر للحدود
الوطنية ،والحركات التي قادوها .لقد تفاعلوا وتعلموا بعضهم من بعض ،كام
انخرطوا يف مناقشات وخالفات مثرية .فقد كان روبرت جيمس وجورج بادمور
أصدقاء خالل مرحلة الطفولة ورشكاء يف الكفاح ضد االستعامر وتأثروا بكتابات
غاريف .ويف الثالثينيات واألربعينيات من القرن املايض ،اختلف غاندي ووليام دو
بويز بشأن فائدة الالعنف كمقاربة ملناهضة لالستعامر .ويف عرشينيات القرن
املايض ،اختلف هيا وماريتيغي بشأن مقاربة «الجبهة املتحدة» (التي تجمع جهود
394
حقل العالقات الدولية بعد العام 1989
القوى الثورية والربجوازية املتعاطفة) وما إذا كانت الرأساملية ستكون املرحلة
النهائية أو األوىل من االستعامر يف العامل غري األورويب .ويف الثالثينيات من القرن
املايض ،رفض دو بويز قومية غاريف السوداء لكونها كانت متطرفة للغاية ،وهو ما
يرقى إىل امتياز أن السود ال ميكن أن يكونوا متساوين مع البيض ،بينام كان غاريف
وحكم عليه بأنه متحيز ضده بسبب يشك يف قرب دو بويز من العرق األبيض ُ
تنشئته الكاريبية .ويف العام ،1970ناقش عيل مزروعي مع رودين فوائد االستعامر،
خاصة اللغة اإلنجليزية ،بالنسبة إىل الشعوب األصلية.
وفيام يتعلق بالحركات التي قادها هؤالء املفكرون ،ميكن التطرق إىل بعض
األمثلة الرئيسة .فقد أطلق غاندي أفكاره وحملته املناهضة لالستعامر يف جنوب
أفريقيا ،قبل االنتقال إىل الهند .وقد جمع املؤمتر الدويل األول ملناهضة اإلمربيالية
واالستعامر ،الذي عُ قد يف بروكسل يف العام ،1927العديد من القادة املناهضني
لالستعامر ،ومن بينهم نهرو من الهند ،ومحمد حتا من إندونيسيا (نائب رئيس
الدولة بعد ذلك) ،وممثلو املؤمتر الوطني األفريقي وحركة نجم شامل أفريقيا
الجزائرية الثورية .وقد حرض مؤسس حزب الكونغرس الهندي ،ناوروجي ،املؤمتر
األفريقي األول يف لندن يف العام .1900وكان مانابندرا ناث روي الهندي هو مؤسس
الحزب الشيوعي املكسييك .وقد تفاعل العديد من املفكرين الكاريبيني واألفارقة
بعضهم مع بعض ليس فقط يف تلك املناطق ،ولكن ً
أيضا يف أوروبا و/أو الواليات
املتحدة ،حيث درسوا وعملوا هناك أحيا ًنا.
وبينام تلقى عديد من هؤالء املثقفني تعليمهم يف الغرب ،ودرس بعضهم
يف جامعات النخبة مثل أكسفورد؛ وكلية لندن لالقتصاد؛ وجامعة هارفارد ،كان
تفكريهم وكتاباتهم تركز دامئًا عىل ظروف املكان وظروف األصل .لقد تأثرت
أفكارهم بالتفكري الغريب ،لكنهم غال ًبا ما رفضوا هذا التفكري أو كيفوه مع سياق
واحتياجات املجتمعات التي أتوا منها .خالل إعادة بناء تاريخ حقل العالقات
الدولية ،ال نحتاج إذن إىل النظر إىل املايض فقط ،ولكن نحتاج ً
أيضا إىل النظر يف
تاريخ الحقل عىل نطاق أوسع .وبسبب الضعف املؤسيس والتطور األكادميي املتأخر
يف معظم دول العامل الثالث ،فإن تفكري حقل العالقات الدولية كان يضطلع به
املثقفون العامون والقادة السياسيون أكرث بكثري مام كان يضطلع به األكادمييون.
395
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وكان األمر نفسه ينطبق عىل تفكري حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز خالل القرن
التاسع عرش وأوائل القرن العرشين ،حيث ،كام أوضحنا ذلك من قبل ،أصبح حقل
العالقات الدولية حقال أكادمي ًيا يف األغلب بعد العام .1945وليس من املستغرب
أن يكون مثة انفصال يف التوقيت التطوري لتفكري حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز
واألَ ْط َراف ،وهذا ال ُي َعدُّ سب ًبا الستبعاد تفكري حقل العالقات الدولية يف األَ ْط َراف من
تاريخ هذا التخصص املعريف.
396
احلديثة
9
397
تشكيل العالقات الدولية العاملية
الفكرية .لقد كان املرشوع الليربايل الذي َقدَّم منذ فرتة طويلة أسطورة غائية لهيمنة
الغرب عىل نح ٍو عام والواليات املتحدة (واألطراف اإلنجليزية) عىل نح ٍو خاص،
يعيش أزمة عميقة نتيجة الركود الكبري الذي بدأ يف العام 2008؛ والتصويت لرتامب
وخروج بريطانيا من االتحاد األورويب يف العام .2016وعىل رغم ذلك ،بينام أصبحت
ديناميات املَ ْر َكز أكرب وأكرث هيمنة يف املجتمع الدويل العاملي ،وصارت تلك الخاصة
باألَ ْط َراف أصغر وأضعف ،كان كل من املَ ْر َكز واألَ ْط َراف ينخرطان عىل نح ٍو متزايد
ضمن مجموعة من املصائر املشرتكة التي متثل تهديدا بالنسبة إىل الجميع .وقد
نشأت كل هذه التغيريات من جراء العمل املستمر للمسارات العميقة التي أطلقتها
ثورات الحداثة التي نوقشت يف الفصل األول .يف األساس ،كان التفاوت الكبري يف
التنمية الذي نشأ يف ذلك الوقت قد بدأ اآلن بالتآكل خاصة مع صعود البقية،
وكان التقارب الكبري الحاصل بني أجزاء العامل يتسارع حتى وصل إىل مستويات غري
مسبوقة من الرتابط العاملي .يبدو أنه ليس هنالك شك يف أن التغيريات الحاصلة من
هذا النوع عىل مستوى املجتمع الدويل العاملي ،لن تؤدي فقط إىل إنشاء مجتمع
دويل عاملي أكرث تعددية (تعددية مبعنى انتشار أوسع ليس فقط للرثوة والقوة،
أيضا إىل تحدي وتغيري طبيعة الحوكمة أيضا للسلطة الثقافية) ،بل ستؤدي ً ولكن ً
العاملية وإدارة القوى الكربى.
يف هذا القسم نتناول بالتفصيل مسألة االنتقال /األزمة ،ثم نراجع املصطلحات
واملفاهيم التي ميكن للمرء من خاللها استيعاب طبيعة املجتمع الدويل العاملي
الناشئ يف مرحلة ما بعد الغرب .ويوضح القسم التايل االفرتاضات بشأن سبع سامت
هيكلية رئيسة للمجتمع الدويل العاملي الناشئ واألسباب املنطقية التي تدعم هذه
الحجة .ويقدم القسم الثالث بعض التنبؤات املحددة التي تتطلع إىل املستقبل،
وتحلياًل لبعض السامت والديناميات الهيكلية الرئيسة للمجتمع الدويل العاملي يف ً
فرتة ما بعد الغرب .فيام تشري االستنتاجات يف األخري إىل نطاق فاعلية األخري.
حتى قبل االضطرابات التي أحدثها خروج بريطانيا من االتحاد األورويب
ووصول ترامب إىل سدة الحكم يف العام ،2016كان مثة شعو ٌر واسع النطاق
بأن املجتمع الدويل العاملي كان يعيش فرتة انتقالية كبرية ،أو حتى أزمة ،خاصة
مع كون النظام الغريب الطويل األمد صار محارصا من عدة اتجاهات مختلفة
398
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
مىض ،وصار يواجه مجموعة متنوعة من قضايا املصري املشرتك املتفاقمة التي ترتاوح
من تغري املناخ واألمراض العاملية؛ مرورا باإلرهاب والتهديدات املتعلقة باإلنرتنت؛
ووصوال إىل عدم االستقرار يف االقتصاد العاملي واملحيط الحيوي .وعىل الرغم من أن
خطر الحرب بني الدول صار أقل مام كان عليه منذ فرتة طويلة ،وأن املجتمع الدويل
العاملي يتمتع بنظام اقتصادي أعمق من أي وقت مىض ،فإن ذلك يبدو غري مستقر.
ومن خالل إسقاط العامل الناطق باللغة اإلنجليزية من دوره القيادي الطويل األمد
يف َم ْر َكز املجتمع الدويل العاملي ،فإن خروج بريطانيا من االتحاد األورويب ووصول
ً
انتقااًل كب ًريا نحو املجتمع الدويل ترامب إىل سدة الحكم يزيدان من الشعور بأن
العاملي مابعد الغريب جا ٍر عىل قدم وساق.
إن هذا التهديد ا ُملركب الذي يواجه املجتمع الدويل العاملي الحايل ،وا ُملتأيت
من انتشار الرثوة والقوة والسلطة وتكثيف قضايا املصري املشرتك ،ليس باألمر
الهني .فعندما أعادت الحداثة تشكيل العامل خالل القرن التاسع عرش ،كانت قد
ابطا عىل نح ٍو مكثف قائم عىل االعتامد املتبادل عىل خلقت ألول مرة نظا ًما مرت ً
نطاق عاملي .ونظ ًرا إىل أن طليعة ثورات الحداثة كانت ُمركزة يف الغرب واليابان،
للم ْج َت َم ِع الد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي كانت ُتهيمن عليها بشدة املؤسسات فإن الصيغة ُ
األ َ
وىَل ُ
واملامرسات واألفكار األوروبية /الغربية .لقد اضطر دعاة التحديث غري الغربيني
األوائل ،وعىل األخص اليابان ،إىل التكيف مع النموذج الغريب من أجل الحصول
عىل االعرتاف .ومنذ ذلك الحني ،شهد املجتمع الدويل العاملي عديدا من األزمات ،مبا
يف ذلك الحروب العاملية؛ والركود االقتصادي والكساد؛ وإنهاء االستعامر؛ واستبدال
النظام اإلمرباطوري بنظام املساواة بني الدول والشعوب .لكن من خالل كل هذه
االضطرابات متكن الغرب عىل نح ٍو عام والغرب الناطق باللغة اإلنجليزية عىل
نح ٍو خاص من االنتصار يف جميع الحروب الكربى وظل ميثل بحزم َم ْر َكز املجتمع
الدويل العاملي .إن هذه الهيمنة تعني أن الدول ذات النمط الغريب القامئة عىل
السيادة الشعبية والنزعة اإلقليمية والقومية هي التي تحدد عضوية املجتمع الدويل
أيضا ،عىل األقل يف الغرب بعد العام ،1945أن املجتمع العاملي .كان هذا يعني ً
نجاحا يف القطاعالدويل العاملي كان لديه أجندة ليربالية غائية تقري ًبا ،كانت أكرث ً
وأيضا يف التوقعات بشأن انتصار الدميوقراطية وحقوق اإلنسان يف نهاية االقتصاديً ،
400
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
املطاف .وقد تعرضت هذه الغائية الليربالية عىل نح ٍو دوري لتحديات الفاشية كام
حصل يف سنوات ما بني الحربني ،وكذا لتحديات الشيوعية مثلام حدث خالل الحرب
الباردة .ولكن بطريقة ما ،كان العامل الناطق باللغة اإلنجليزية هو املنترص دامئًا ،مام
أبقى عىل ق ْيد الحياة مزاعمه بشأن تسيد املستقبل .وبحلول أوائل التسعينيات ،بدا
األمر كأن النموذج الليربايل الغريب مل يتبق له أي منافسني جديني.
إن هذا املجتمع الدويل العاملي الذي يهيمن عليه الغرب هو النظام الدويل
الوحيد -الذي عرفناه عىل اإلطالق -املمتد عىل نطاق عاملي ،والجزء الذي يهيمن
عليه الغرب داخل هذا النظام هو الذي يضعف اآلن برسعة .فالغرب ال يخرس اآلن
أيضا الرشعية الفكرية واإلرادة املحلية الهيمنة املادية للقوة والرثوة فقط ،بل يخرس ً
الالزمة ملامرسة الدور القيادي .تؤدي أزمة الرأساملية دو ًرا يف هذا األمر ،وهناك
اختالف بشأن النقطة املرجعية لهذا التحول ما إذا كانت تتمثل يف بداية األزمة
االقتصادية يف العام 2008أو يف خروج بريطانيا من االتحاد األورويب ورفض ترامب
للرأساملية العاملية يف العام .2016وال توجد أي سوابق لعملية االنتقال /التحول
هذه أو ملا قد يبدو عليه النوع املستقبيل اآلخر من النظام العاملي .وحتى اآلن ال
ميكننا التحدث عنه بصورة دقيقة .الواقع أنها أكرث من مجرد عملية انتقال /تحول
مابعد استعامري ألن دول األَ ْط َراف السابقة ال تتمتع باستقاللها السيايس فقط،
بل تتمتع عىل نحو متزايد بالرثوة والقوة للتعبري عن ثقافاتها املتعددة والسعي
وراءها ،كام تسعى أيضا وراء مظاملها التاريخية العديدة .ومن املحتمل أيضا أال
يكون انتقاال /تحوال مابعد ويستفايل ،ألن ُن ُظم املَ ْر َكز املتعلقة بالسيادة واألرايض
والقومية تبدو يف وضع جيد للبقاء واالزدهار .إن هذا االنتقال /التحول سيكون بال
شك مابعد غريب ،ليس مبعنى أن الغرب سوف يختفي كام حصل مع روما ،ولكنه
سيصبح مجرد َم ْر َك ٍز واح ٍد من بني عدة َم َرا ِكز للرثوة والقوة والسلطة الثقافية.
إن الكثري من النقاش الحاصل بشأن الوضع الحايل يدور يف نطاقات ضيقة .فهل
ستتفوق الصني عىل الواليات املتحدة وتؤدي إىل أزمة عىل مستوى انتقال القوة؟
وهل سيتعرث االقتصاد العاملي بسبب حالة ركود ناتجة عن الهيكل املايل املنهك
و/أو عن طريق ردود الفعل الوطنية املتزايدة ضد التأثريات االجتامعية للعوملة؟
هل ستؤدي بعض األزمات البيئية ،سواء كانت ظاهرة االحتباس الحراري أو ارتفاع
401
تشكيل العالقات الدولية العاملية
مستوى سطح البحر أو وباء عامليا ،إىل تغيري االفرتاضات الجيوسياسية والجغرافية
واالقتصادية األساسية؟ يهدف هذا الفصل إىل تحديد مجموعة من االفرتاضات
املعقولة بشأن جميع السامت الهيكلية الرئيسة التي ستشكل املجتمع الدويل
العاملي خالل العقود القليلة القادمة ،وبذلك سنسعى إىل بناء صورة شاملة ملشهد
ما بعد الغرب الذي َ ْمَي ُثل أمامنا .نحن نعني بامليزات الهيكلية تلك الرتتيبات املادية
والفكرية واالتجاهات التي يبدو أن تلك امليزات الهيكلية ستتكشف يف إطارها .وهي
مستمدة من مختلف الرؤى النظرية لحقل العالقات الدولية ،ولكن ألسباب تتعلق
باملساحة املتاحة لنا ،فإننا لن نتطرق بالتفصيل إىل تلك الرؤى النظرية .فأولئك
الذين يهتمون بنظرية العالقات الدولية سوف ميكنهم مالحظتها بسهولة كافية.
أما أولئك الذين ال يستطيعون مالحظتها ،فسيكونون قادرين عىل تقييم الحجج
الواردة بنا ًء عىل ُم َؤهالتهم اإلمربيقية .من خالل تحديد مثل هذه الهياكل ،نأمل أن
أساسا ً
بسيطا نسب ًّيا ميكن للمرء أن نعرض افرتاضاتهم األساسية للتدقيق وأن نخلق ً
يبني عليه سيناريوهات ما بعد الحقبة الويستفالية التي تأخذ بعني االعتبار التآزر
والتناقضات املحتملة بني هذه الهياكل وفيام بينها .فقط عندما نتمكن من رؤية
شكل هذه األشياء ميكننا أن نبدأ يف التفكري يف املساحة للفاعلني قد نجدها بداخلها.
إن هذا التمرين يفرتض أنه لن يظهر عىل طاولة العالقات الدولية أي يشء ال
ميكن التنبؤ به من شأنه تغيري قواعد اللعب خالل العقدين أو الثالثة عقود القادمة:
ال َت َغري مناخيا كبريا ومفاجئا؛ وال حرب نووية واسعة النطاق؛ وال طاعون عامليا؛ وال
انهيار هائال لالقتصاد للعاملي أو البنية التحتية؛ وال تحدي للهيمنة البرشية من قبل
أنظمة الذكاء االصطناعي فائقة الذكاء وما شابه ذلك .وكام ناقشنا الحقا ،قد تكون
املخاوف بشأن هذه األشياء متارس دو ًرا كبريا .ثم إن استبعادهم ال يعني القول
بداًل من ذلك ،هذا االفرتاض هو لغرض بأنها لن تحدث أو لن تحدث عىل اإلطالقً .
تبسيط رشوط التحليل ،ولإلشارة إىل أنه يف حني أن بعض هذه الحقائق من املحتمل
جدا أن تحدث يف مرحلة ما ،وأنها إذا حدثت فمن املحتمل أن تكون يف مرحلة
أبعد إىل حد ما .التفكري يف طبيعة املجتمع الدويل العاملي بعد ظهور أمر واحد غري
متوقع أو أكرث ُي َعد مترينًا مختل ًفا عن هذا التمرين الذي يعتمد عىل نح ٍو أكرب عىل
االستقراء ،عىل الرغم من أن بعض األفكار هنا قد ُط ِّبقت عليه.
402
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
نحن ،بالطبع ،لسنا أول من حاول النظر إىل ما وراء مرحلة االنتقال التي
نحن فيه اآلن وإيجاد طرق لتسمية الهيكل الجديد الناشئ للمجتمع الدويل
العاملي .فهناك بعض اإلجامع ،عىل األقل خارج الدوائر الواقعية ،عىل أن الفكرة
الكالسيكية لتعدد األقطاب غري مالمئة لهذه املهمة .وبالتأكيد ،سيكون مثة عديد
من مراكز الرثوة والقوة والسلطة الثقافية ،ومن ثم سيكون املجتمع الدويل
العاملي مبعنى ما متعدد األقطاب .ولكن سيكون هناك أيضا عديد من الجهات
الفاعلة غري الحكومية ضمن املجتمع الدويل العاملي هذا ،كام أن بعضها سيعمد
إىل توظيف كميات مهمة من الرثوة والقوة والسلطة .ومن املحتمل أن تظل
الدول هي الشكل املهيمن للجهات الفاعلة ،ولكنها ستكون أكرث تشاب ًكا ضمن
شبكات الحوكمة العاملية أكرث مام هو ُمت ََضمنٌ يف مصطلح تعددية األقطاب أو
يف نظام املدرسة اإلنجليزية الخاص بإدارة القوى الكربى (Cui and Buzan,
) .2016وحتى مبجرد التفكري يف الدول ،فلن يكون املجتمع الدويل العاملي
الناشئ متعدد األقطاب كام هو مفهوم تقليد ًّيا ألنه يفتقر إىل أي قوى عظمى
أو أي قوى عظمى طموحة ،ولن يتميز برصاع من النوع الواقعي للسيطرة عىل
النظام بأكمله .سيكون هذا نظا ًما عامل ًّيا ،لكن من دون قوى عظمى ،ويحتوي
عىل عديد من القوى الكربى وعديد من القوى اإلقليمية .لقد ُط ِرح بالفعل
عديد من العالمات التي ُمُتكن من رصد حداثة هذا الهيكل وتعقيده :التعددية
()plurilateralism Cerny, 1993؛ ومتباين األقطاب (heteropolarity Der
)Derian, 2003؛ وعامل ليس ألحد ()no one’s world Kupchan؛ و ُم َت َعد ُد
التعقيد ()multinodal Womack, 2014؛ وعامل متعدد الوسائط (multiplex
)world Acharya, 2014a؛ والمركزية العوملة (decentred globalism
)Buzan, 2011; Buzan and Lawson, 2014b, 2015a؛ والعوملة متعددة
األشكال)(polymorphic globalism Katzenstein, 2012؛ والعامل متعدد
النظم (()multi- order world Flockhart, 2016٭).
(٭) للحصول عىل مناقشة مفصلة ونقد للمبالغة يف تبسيط نظرية القطبية ،انظر
(Buzan 2004b, 2011), (Acharya 2014b: locs. 343–492).
[املؤلفان].
403
تشكيل العالقات الدولية العاملية
وبنا ًء عىل عملنا املفاهيمي وأعامل اآلخرين ،قررنا طرح مجموعة صغرية
ومتكاملة من املفاهيم التقليدية التي نعتقد أنها ترصد ما يتكشف اآلن« :التعددية
العميقة» Deep pluralismو«التعددية ا ُملتنازع عليها» Contested pluralism
يف مقابل «التعددية الراسخة» .Embedded pluralismنعني بالتعددية العميقة
رشا للقوة والرثوة والسلطة الثقافية ،يوضع ضمن نظام دويل قوي توزي ًعا منت ً
متكامل ومرتابط ،حيث يوجد تحرك كبري نحو املجتمع الدويل العاملي حيث متارس
فيه كل من الدول والجهات الفاعلة غري الحكومية أدوا ًرا جوهرية .ومع استمرار
التفاوتات عىل مستوى القوة ،فإن ذلك النظام ُيقدم عَاملًا ليس دون ُم َه ْي ِم ٍن عاملي
فقط ،بل عَاملا مل تعد فيه فكرة ا ُمل َهي ِمن العاملي تحظى بالرشعية .وقد يتميز هذا
العامل بأيديولوجيات وأنظمة اقتصادية وسياسية مختلفة ،مبا يف ذلك بقايا النظام
الليربايل (Buzan, 2011; Acharya, 2014a, 2017, 2018; Buzan and Lawson,
) .2014b, 2015aإن التعددية العميقة تقدم لنا وص ًفا بخصوص إىل أين يأخذنا
غرْي أننا نحتاج ً
أيضا الزخم الحايل للمجتمع الدويل العاملي سواء أحببنا ذلك أو الْ .
مصطلحات لإلشارة إىل ما إذا كان هذا الرشط مفهو ًما و ُيعمل وف ًقا له يف ضوء
ٍ إىل
إيجايب أو سلبي ،وأين يكمن نطاق الفاعلية والسياسة .أما التعددية املتنازع عليها،
فتعني أن هناك مقاومة كبرية للواقع املادي والفكري للتعددية العميقة .وقد
أشكااًل مختلفة :الدول التي ُتقاوم أدوار ومكانة الجهات الفاعلة غري ً يتخذ هذا
الحكومية؛ والقوى العظمى السابقة (الواليات املتحدة عىل نح ٍو واضح) الرافضة
للتنازل عن حقوقها وامتيازاتها الخاصة؛ والقوى الكربى التي ترفض االعرتاف
إحداها مبكانة األخرى وتلعب بعضها ضد بعض كمنافس أو عدو .أما التعددية
الراسخة ،فهي تتكيف مع فكرة روجي ( )1982عن «الليربالية الراسخة»(٭) .تعني
التعددية الراسخة أن الالعبني الرئيسني يف املجتمع الدويل العاملي ال يتسامحون
(٭) ميكن أيضا العثور عىل دعم إضايف للتعددية الراسخة يف حجج جون ويليامز ( )John Williams 2015بشأن
الحاجة إىل القبول الحقيقي لالختالف والتعايش وعدم التسامح مع التعصب ،ووفق فيليبس وشارمان (Phillips
) and Sharman 2015فإن الوحدات من مختلف األنواع ميكنها أن تولد النظام بنجاح وعىل نحو دائم مادام لديها
بعض األهداف غري املتضاربة و/أو املتوافقة .وحتى دفاع هيديل بول الكالسييك ( )Bull 1977: 286–7عن التعددية
ضد املخططات األكرث طموحا التي تحاول تجاوز أو تجاهل االنقسامات العميقة يف املجتمع البرشي ميكن قراءتها
عىل أنها تشري إىل التعددية الراسخة باعتبارها املوقف املرغوب .نحن هنا نبني عىل أول محاولة للتوصل إىل أفكار
التعددية العميقة والتعددية الراسخة عند باري بوزان وسكونربغ ([ .)Buzan and Schouenborg 2018املؤلفان].
404
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
- 1 - 1االقتصاد العاملي
االفرتاض :إن نظام السوق الرأساميل العاملي الذي بادرت به الواليات املتحدة
بعد الحرب العاملية الثانية ،والذي َتعزز عىل نح ٍو كبري من خالل اإلصالح واالنفتاح
الصينيني منذ أواخر السبعينيات وانهيار االتحاد السوفييتي يف أوائل التسعينيات،
(٭) هناك أوجه تشابه بني هذه الديناميكية وفكرة «نظام األمن التوافقي» الذي اقرتحه أميتاف أشاريا (Acharya
)2014bلتحليل األمن اآلسيوي[ .املؤلفان].
405
تشكيل العالقات الدولية العاملية
سيستمر كهيكل اقتصادي أسايس ،عىل الرغم من مشاكله الحالية .وهذا يعني أن
التجارة والتمويل العامليني سيظالن من السامت الرئيسة لالقتصاد العاملي عىل الرغم
من أنه قد تكون هناك قيود أكرث مام كانت عليه قبل العام .2016ولن يكون هناك
انهيار وتراجع مرة أخرى نحو االكتفاء الذايت عىل املستوى الوطني أو اإلقليمي.
ومبا أن اقتصاد السوق العاملي ال ميكن أن يشتغل من دون قد ٍر كب ٍري من التنظيم
واإلدارة ،فإن هذا يخلق حتمية قوية للحفاظ عىل درجة كبرية من الحوكمة العاملية
وإدارة القوى الكربى عىل املستوى العاملي .لكن الظروف التكنولوجية والسياسية
املتغرية تعني أن هياكله ومامرساته ا ُمل َؤسسية ستضطر إىل التكيف والتطور بطرق
مهمة.
التعليل :بالنظر إىل األزمة الخطرية للرأساملية املقرتحة سابقا ،والوزن السيايس
املتزايد للشعبوية املناهضة للعوملة التي ميكن اإلشارة إليها بخروج بريطانيا من
االتحاد األورويب ووصول ترامب إىل سدة الحكم ،قد يبدو هذا االفرتاض َعن َ ِْرَتيا إىل
حد ما .وهناك نوعان من األسباب املنطقية وراء ذلك .أو ًاًل ،تقف الرأساملية العاملية
باعتبارها الوسيلة األرسع واألكرث فاعلية الكتساب الرثوة والقوة ،وال بديل عنها.
فقد أدرك دينغ ذلك وألزم به الصني .وكال البديلني املعروفني -الرأساملية التفضيلية
اإلمربيالية؛ واالقتصاديات االستبدادية ُ -ج ِّربا وباءا بالفشل ،وهام ميثالن مسا ًرا شغل
معظم القرن العرشين .كان الدرس الرئيس املستقى من الحرب العاملية الثانية هو
أن تفضيل اإلمربيالية الرأساملية التي قسمت العامل إىل مناطق رأساملية إقصائية
وتنافسية قد أنتج الكثري من الرصاع .وحتى الصني ،عىل رغم متيزها السيايس والثقايف
الدفاعي ،مل تنظر يف هذا االتجاه .وكان الدرس الرئيس املستفاد من الحرب الباردة،
والذي دفعه صعود اليابان إىل املركز الثاين ،هو أن االقتصادات ا ُمل َو َّجهة ،وحتى
عىل نطاق االتحاد السوفييتي ،ال ميكنها منافسة االقتصادات الرأساملية .فإذا كانت
الرثوة والقوة هام الهدفني الرئيسني ملعظم الدول والشعوب (ونفرتض أن هذا
صحيح يف معظم األماكن وسيظل كذلك) ،فال توجد حال ًّيا بدائل جادة لرأساملية
السوق العاملية .إن الرتاجع مرة أخرى إىل شكل من أشكال املركنتيلية الجديدة،
ً
انكامشا اقتصاد ًّيا كب ًريا قد يرتتب حتى عىل املستوى اإلقليمي ،من شأنه أن ُي َولِّد
عليه نشوء سياسات غري عادلة إلعادة التوزيع ستمس الجميع تقري ًبا.
406
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
أيضاثان ًّيا ،إن الرأساملية بطبيعتها ليست عرضة لألزمات الدورية فقط ،بل إنها ً
مرنة وقابلة للتكيف .فقد نجحت يف البقاء عىل رغم عديد من التنبؤات القائلة
بأنها يف حالة تدهور أو أزمة نهائية ،وهي تتعلم وتتطور باستمرار ألجل االستجابة
للتغريات التكنولوجية واالجتامعية التي ُت َولِّدها عملياتها .إن الرأساملية هي شكل
من أشكال الثورة الدامئة التي تتفوق حتى عىل أحالم ماو تيس .وهذه العملية
بالتأكيد ليست سلسة ،والتكيف مع التغيريات التي ال هوادة فيها قد ال يأيت من دون
أزمات ،وأحيا ًنا تكون تلك األزمات شديدة ،ولعل التحديات الحالية املتمثلة يف عدم
املساواة؛ والهجرة؛ وعدم االستقرار املايل؛ واملشاكل البيئية؛ والعاملة (والبطالة) ُت َعدُّ
كلها أزمات خطرية وحلولها ليست واضحة .إن إغراء تحرير التمويل وتوسيع نطاق
االئتامن إىل ما بعد املستويات املستدامة هو مشكلة هيكلية للنظام الرأساميل (M.
) .Wolf, 2014ولكن الرهان عىل هذا التعليل العقالين هو أن التكيف سيستمر يف
تجاوز كل من رد الفعل املناهض للعوملة والكارثة النهائية.
- 1 - 2توزيع القوة
افرتاض (أ) :لقد أصبحت القوة يف النظام /املجتمع الدويل أكرث انتشا ًرا .من حيث
الدول ،لن يكون هنالك مزيد من القوى العظمى (القوى التي ميثل العامل منطقتها)،
ولكن سيكون مثة نظام دويل تهيمن عليه القوى الكربى (املؤثرة يف أكرث من منطقة
واحدة) والقوى اإلقليمية (املؤثرة عىل نح ٍو أسايس داخل منطقتها األصلية) (Buzan
) .and Wæver, 2003وهكذا ،سيظل النظام العاملي ُم َع ْولَ ًاًم (اقتصاد ًّيا وبيئ ًّيا) لكنه
سيصبح المركز ًّيا سياس ًّيا من ناحية القوة والسلطة .وبالنظر إىل وجود هيكل مكون
من عدة قوى كربى ،مع عدم وجود قوى عظمى تحاول فرض نظام عاملي ،فمن
املعقول أن نتوقع أن يكون النظام السيايس العاملي الالمركزي إقليم ًّيا عىل نح ٍو
كبري ،مع سيطرة القوى الكربى عىل مجاالتها املحلية .وعىل رغم ذلك ،ال ينبغي
التقليل من درجة وجود خالفات داخل معظم املناطق ،ومقاوم ٍة قوي ٍة لهيمنة
القوى املحلية ( .)Acharya, 2014b: locs. 1705–804لن تواجه املناطق التي
ال توجد بها قوة كربى محلية (أفريقيا والرشق األوسط) مشكلة الهيمنة املحلية،
كاف من دون هيمنة ولكنها ستواجه مشكلة ما إذا كان بإمكانها توفري نظام محيل ٍ
407
تشكيل العالقات الدولية العاملية
محلية أو من دون قوة عظمى ُم َتدَخ َلة .ومن املحتمل أن يكون للتغيري يف توزيع
القوة تأثري ضئيل عليهم ،حيث سيظل كالهام فوضو ًّيا كام كان منذ إنهاء االستعامر.
وسيتعني عىل املناطق التي لديها أكرث من قوة كربى (آسيا) أن تختار بني تعددية
محلية متنازع عليها تقوم عىل التنافس الداخيل فيام بينها ،أو بناء مجتمع دويل
إقليمي توافقي قائم عىل التعددية الراسخة.
التعليل (أ) :كانت هناك فرتة طويلة تركزت خاللها القوة يف أيدي عدد صغري
نسب ًّيا من املجتمعات والدول الغربية عىل نح ٍو أسايس واليابان .وقد استند هذا
الرتكيز إىل التفاوت الهائل يف التطور الذي نتج عن الطريقة التي تكشفت بها ثورات
الحداثة خالل القرنني التاسع عرش والعرشين .ومنذ أواخر القرن التاسع عرش ،أنذر
يحذ حذوها أحد مدة قرن .وكام يشري الصعود صعود اليابان بصعود البقية ،لكن مل ُ
األخري للصني والهند وغريهام ،فإن هذه الثورات أصبحت متاحة اآلن ملزيد من الدول
والشعوب ،الذين أصبحوا نتيجة لذلك يكتسبون عنارص الرثوة والقوة التي كانت
محصورة يف السابق يف يد حفنة من الدول .ومع تطور هذا املسار أصبحت قوة الدول
والشعوب يف النظام /املجتمع الدويل أكرث انتشا ًرا وأقل تركيزًا .ونظ ًرا إىل أن الكثريين
كانوا يشهدون صعودا ،فلن تتمكن القوى الكربى الجديدة من تحقيق تركيزات الرثوة
والقوة النسبية التي م َّكنت بريطانيا والواليات املتحدة من العمل كقوى عظمى
عاملية يف األيام التي سبقت انتشار الحداثة .كام لن تختفي مراكز القوة القدمية ،بل
ستفقد قوتها النسبية فقط .وسيستمر موقع الواليات املتحدة كقوة عظمى أخرية يف
التآكل ،ورمبا سيكون ذلك برسعة كبرية إذا نجح ترامب يف تفكيك الثقة والتحالفات
واملؤسسات التي تدعم القيادة األمريكية يف املجتمع الدويل العاملي.
توزيع أكرث انتشا ًرا للقوة ،هناك مجال للمنافسة اإلقليمية ٍ االفرتاض (ب) :داخل
بني القوى الكربى عىل حدود مجاالتها.
التعليل (ب) :هناك بالفعل مثل هذه املنافسة بني الصني والواليات املتحدة
يف رشق آسيا؛ وبني الهند والصني يف جنوب وجنوب رشق آسيا؛ وبني روسيا وأوروبا
يف أوكرانيا ودول البلطيق .وهناك مجال للمنافسة بني الصني والهند يف الخليج
الذي تعتمد كلتاهام عىل نفطه (باإلضافة إىل اليابان) .وهذه املنافسة تدور حول
املجاالت وليس حول الهيمنة عىل املجتمع الدويل العاملي ككل.
408
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
أيضا بني الدول واملجتمعات االفرتاض (ج) :سوف ميارس انتشار القوة دورا ً
وإن كان ذلك بطرق معقدة ،وسيكتسب بعض الفاعلني غري الحكوميني القدرة عىل
التحدي أو التحالف ليس فقط مع الجهات الفاعلة غري الحكومية األخرى ،ولكن
أيضا مع الدول ،سواء كان ذلك داخل الدول أو مع دول أخرى بعيدة .وستكون ً
الدول يف الطرف الضعيف /الفاشل من الطيف أكرث عرضة للتحديات القادمة من
الجهات الفاعلة غري الحكومية .من منتصف الطيف حتى الدولة القوية ،سيعتمد
انتشار القوة -ليك يشمل الجهات الفاعلة غري الحكومية وقدرتها عىل تحدي الدولة
-عىل مدى انفتاح أو انغالق تلك الدولة املعنية .قد تتحالف الدول القوية عىل نحو
جهات فاعلة غري حكومية ألجل مجموعة من األغراض ترتاوح بني أغراض ٍ جيد مع
املساعدة والتنمية إىل أغراض التخريب وزعزعة استقرار الدول واألنظمة والجهات
رصد هذه النظرة الطبقية للقوة من خالل بعض الفاعلة غري الحكومية األخرى .و ُت َ
املصطلحات املذكورة سابقا يف توصيف النظام العاملي عىل أنه :مختلف األقطاب؛
ومتعدد الوسائط؛ وعامل متعدد النظم؛ وتعددي.
التعليل (ج) :يؤدي انتشار القوة يف بعض النواحي إىل متكني الدول ضد سكانها،
نواح أخرى فإن انتشار القوة ُمُي ِّكن للجهات
كام هو واضح يف الصني .ولكن من ٍ
الفاعلة غري الحكومية ضد دولها املحلية ،وأيضا ضد الدول األخرى والجهات الفاعلة
األخرى غري الحكومية وكذلك املجتمع الدويل العاملي .ويوجد بالفعل سجل طويل
من الجهات الفاعلة غري الحكومية التي تهاجم دولها املحلية (عىل سبيل املثال
يف أفغانستان؛ ونيجرييا؛ وتركيا؛ ورسيالنكا؛ والهند؛ والكونغو؛ وعديد من الدول
العربية) وكذلك األهداف البعيدة (القاعدة والدولة اإلسالمية) .إن الجهات الفاعلة
غري الحكومية تعد ً
أيضا أكرث تأث ًريا يف الطرق السياسية غري العنيفة ،كام هو الحال يف
الحمالت املتعلقة بالقضايا البيئية وحقوق اإلنسان ،ويف تقديم املساعدة واملساعدة
اإلمنائية واإلغاثة يف حاالت الكوارث.
إىل حد «ال َت َو ُّحد» .Autisticعند األشخاص يتمحور ال َت َو ُّحد حول كونه تطغى عليه
املدخالت القادمة من املجتمع الذي يحيط بهؤالء األشخاص املصابني بال َت َو ُّحد ،مام
يجعل سلوكهم يشار إليه عىل أنه سلوك داخيل أكرث من كونه سلوكا يتشكل من
خالل التفاعالت مع اآلخرين .ويف الدول ميكن فهمه عىل أنه عندما يعتمد رد الفعل
عىل املدخالت الخارجية عىل نحو أكرب عىل املسارات الداخلية للدولة -مساوماتها
السياسية املحلية؛ والتنافس الحزيب؛ واسرتضاء الرأي العام (سواء كان قوم ًيا أو
انعزال ًيا) وما شابه -أكرث من اعتامده عىل العقالنية ،والتقييم القائم عىل الحقائق
واالنخراط مع الدول واملجتمعات األخرى التي تشكل املجتمع الدويل (Senghaas,
) .1974; Buzan, [1991] 2007: 277–81; Luttwak, 2012: 13–22وإىل حد ما،
يعترب ال َت َو ُّحد بهذا املعنى سمة طبيعية للدولة .ومن ضمن بنيتها السياسية أن تأخذ
العوامل املحلية األولوية القصوى عمو ًما ،سواء كان ذلك رضور ًيا لبقاء النظام ،أو
ألن الحكومة ُمصممة بطريقة معينة عىل أن متثل مصالح مواطنيها .غري أن القوى
الكربى ُتحدَّد جزئ ًيا من خالل مسؤولياتها األوسع تجاه ما وصفه واتسون (1992:
)« 14مصلحة النظام العليا» ،Raison de systèmeوالتي ُتع َّرف بأنها «االعتقاد
الذي يدفع إىل جعل النظام يعمل» .وهذا يقف كنقطة مطابقة لفكرة «مصلحة
الدولة العليا» ،Raison d’étatوالتي متثل عىل نحو واضح فكرة مركزية للواقعية،
وضمن ًيا فكرة مركزية لكثري من نظريات ومامرسات حقل العالقات الدولية الغريب.
وإىل الحد الذي تتمتع فيه الدول ،وخاصة القوى الكربى ،بسياسات خارجية َت َو ُّحدية
،Autisticفإنها ال تفشل فقط يف دعم «مصلحة النظام العليا» ،ولكنها تفقد ً
أيضا
االتصال ببيئتها االجتامعية ،و ُت ْع َمي عن كيفية تأثري سياساتها وسلوكياتها يف الطريقة
التي يراها بها اآلخرون ويتفاعلون من خاللها معها .ويف مثل هذه الظروف ،من
املرجح أن تسود دورة من اإلجراءات الشائكة -املبالغة يف رد الفعل ،ويصبح بناء
مستحياًل .فالجميع ال يرون إال مصالحهم ومخاوفهم و«صوابهم»، ً الثقة صع ًبا أو
وهم متجاهلون ملصالح اآلخرين ومخاوفهم و«صوابهم» .فإذا تبني أن تشخيص
ال َت َو ُّحد هذا صحيح ،فمن غري املرجح أن نرى قوى كربى مسؤولة .وغياب القوى
الكربى املسؤولة يشري يف ظروف التعددية العميقة إىل وجود مجتمع دويل عاملي
منقسم إىل حد كبري.
ٍ ضعيف ورمبا
ٍ متنازع عليه،
ٍ
410
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
متناهية ومحدودة ذات ًيا ،ولكن إذا كان هذا هو الحال ،فال توجد دالئل عىل
أننا قريبون من تلك النقطة .ففي كل قطاع تقري ًبا من العلوم املادية ،بد ًءا
من الفيزياء وعلم الفلك وصوال إىل التكنولوجيا الحيوية والحوسبة ،يستمر
تطوير املعرفة والتكنولوجيا الجديدة بوترية متسارعة .ورسعة وحجم التقدم يف
تكنولوجيا املعلومات والعلوم املادية وعلم الوراثة الحاصل عىل مدى العقود
األخرية كفيالن بتوضيح هذه النقطة .مثة بالتأكيد مشاعر قوية وقابلة لالستغالل
سياس ًيا ضد الخرباء .ولكن ليس من الواضح عىل اإلطالق أن السياسة املتعلقة
بالقضايا املعقدة للتكنولوجيا والحوكمة واالقتصاد ستكون أفضل إذا صيغت من
منظور الجهل ،وليس يف ضوء أفضل املعارف املتاحة.
- 1 - 5املصائر املشرتكة
االفرتاض :كام استُع ِرض ذلك بالتفصيل يف الفصل السابع ،ستصبح البرشية عىل
رضة لقضايا املصائر املشرتكة ،التي قد يكون بعضها طبيعيا والبعض نحو متزايد عُ َ
'
اآلخر من صنع اإلنسان (Rees, 2003; Bostrum and C irkovic', 2008; N.
) .Wolf, 2011; Mills, 2013; Homer-Dixon et al., 2015إن صعود تهديدات
املصائر املشرتكة غري التقليدية سوف ينافس عىل نحو متزايد هيمنة األجندة األمنية
والتهديدات العسكرية /السياسية التقليدية التي تشكلها الدول واملجتمعات بعضها
وسع لـ «األمن املشرتك» (األمن مع) سيصبح ضد بعض .ونظ ًرا إىل أن هذا املنطق ا ُمل َّ
أكرث كثافة ،سوف يتنافس إذن مع منطق «األمن القومي» (األمن ضد) (Buzan
) .and Hansen, 2009: 187–225; Cui and Buzan, 2016كام ستخلق بعض
ضغوطا مستدامة بالنسبة إىل اإلدارة العاملية ،ومن أبرزها ً هذه املصائر املشرتكة
نجد السوق العاملية؛ وتغري املناخ؛ ومكافحة األمراض؛ وحامية الكواكب من الصخور
ً
ضغوطا من أجل التعاون الفضائية .لكن البعض من تلك املصائر املشرتكة سيخلق
وضوحا يف األمن
ً رصا للتسليح يف منافسات القوى الكربى؛ وعىل نحو أكرث العاملي و ُف ً
السيرباين؛ والهجرة؛ وصعود الذكاء االصطناعي .إن االتجاه املهيمن سيتفاعل بقوة
مع ما إذا كانت اتجاهات املجتمع الدويل العاملي تتجه نحو التعددية املتنازع عليها
أو نحو التعددية الراسخة.
413
تشكيل العالقات الدولية العاملية
التعليل :نظ ًرا إىل أن الجنس البرشي يحتل كوكبه عىل نحو أكرث كثافة من أي
وقت مىض ،خاصة مع تزايد الرتابط والتنمية وزيادة تعقيدهام عىل خلفية زيادة
القدرة عىل التفاعل ،فإن هذه الحالة تجعل الجنس البرشي من الناحية الهيكلية
أكرث عرضة ملجموعة املصائر املشرتكة املذكورة سابقا .ستنخفض الكثافة املتزايدة
لالحتالل البرشي للكوكب يف معظم أنحاء العامل باستثناء أفريقيا والرشق األوسط،
حيث يبدو أنها ستزداد .ولكن مع تقدم انتشار ثورات الحداثة ،ستزداد الكثافة
الناتجة عن التنمية وارتفاع مستويات املعيشة يف كل مكان تقري ًبا .وعىل الرغم من
طموحات إيلون ماسك الستعامر املريخ ،فلن يكون هناك حل «خارج الكوكب»
لهذه املشكلة (الكثافة السكانية) لعقود عديدة ،إن مل يكن لألبد.
- 1 - 6الهياكل املعيارية
هذه امليزة الهيكلية تتعلق باملجتمع ،ومبا أن املجتمع مفهوم متنازع عليه،
فإنه يتطلب منا بعض الرشح .تتطلب جميع املجتمعات ،مبا يف ذلك املجتمعات
الدولية والعاملية ،نوعًا من األساس املعياري أو األخالقي الذي يدعم الهويات التي
ُت َع ِّرف بها الشعوب نفسها و«اآلخرين» .وتحدد هذه الهياكل املعيارية من ُي َ
عترَب
عض ًوا رشع ًيا يف املجتمع ،وما الذي يعترب سلو ًكا رشع ًيا داخل ذلك املجتمع .هنالك
خالف بشأن أي نوع من املجتمع موجود عىل املستوى العاملي .وتقدم املدرسة
اإلنجليزية حجة مقنعة عن وجود مجتمع دويل (أي مشرتك بني الدول) يحدد
نفسه وعضويته من خالل مجموعة مشرتكة من النظم األولية التي ترتاوح بني
السيادة والديبلوماسية إىل القومية واملساواة اإلنسانية (Bull, 1977; Buzan
أيضا مجتمعا من) .and Schouenborg, 2018ومجتمع الدول هذا ميكن اعتباره ً
املجتمعات ،لديه عدد صغري نسب ًيا من األعضاء (نحو )200ومجموعة واضحة نسب ًيا
من القواعد املحددة واملؤسسات التي يشرتك فيها أعضاؤه من الدول .لقد أبدى
علامء االجتامع اهتام ًما ً
ضئياًل نسب ًيا مبجتمع ما بني الدول ،ولن يقبل كثري منهم
شكاًل من أشكال املجتمع .إن املجتمع العاملي الذي يضم البرشية جمعاء اعتباره ً
هو أكرث مالءمة للفهم االجتامعي السائد للمجتمع ،ولكنه يف املامرسة العملية
يعد بنا ًء فلسف ًيا أكرث من كونه حقيقة قابلة لإلدراك .وعندما يكون البرش أعضاء
414
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
يف املجتمع ،فسيكون هناك قليل من التامسك عىل املستوى العاملي مع االعرتاف
الواسع النطاق بأن جميع البرش متساوون (استبدال االفرتاض القديم عىل أساس
العرق أو الطبقة أو الجنس أو املكانة التي مل يكونوا عليها ،والذي عزز العنرصية
والعبودية واإلمرباطورية واملكانة املتدنية للمرأة) .وبالنظر إىل املنظور العاملي فإن
الهيكل املعياري للبرشية كأفراد ُم َجزأ بقوة داخل عديد من الهويات الحضارية
والوطنية والدينية دون العاملية (J. Williams, 2015; Buzan, 2017; Buzan
) .and Schouenborg, 2018إن الوسيط بني الديناميات املابني دوالتية املشرتكة
للمجتمع الدويل العاملي وديناميات الهوية ما بني البرشية للمجتمع هي مجموعة
معقدة و ُم َرَتَاصة عىل نحو متزايد من الفاعلني غري الحكوميني العابرين للحدود،
سواء كانوا مدنيني أو غري مدنيني.
ينتج عن هذا التقسيم بني مجتمع دويل من الدول ومجتمع عاملي من الناس
افرتاضات متناقضة بشدة بشأن الهيكل املعياري للمجتمع الدويل العاملي الناشئ.
االفرتاض (أ) :إن الهيكل املعياري العاملي ملجتمع الدول أقوى مام كان عليه يف
أي وقت مىض ،وعىل الرغم من بعض خطوط الصدع ،فإنه ُيظهر عالمات واضحة
عىل تعميق وتوسيع نطاق نظمه األولية.
التعليل (أ) :منذ نهاية الحرب الباردة كان هناك إجامع كبري وواسع النطاق عىل
مجموعة واسعة من النظم األولية التي تحدد املجتمع الدويل العاملي ،وتشمل هذه
النظم :السيادة؛ واإلقليمية؛ والديبلوماسية؛ والقانون الدويل؛ والسوق؛ والتنمية؛
والقومية؛ واملساواة اإلنسانية؛ وإدارة القوى الكربى؛ وإىل حد ما الحرب .إن اإلجامع
بشأن رأساملية السوق العاملية هو إجامع ملحوظ ،حيث أصبحت اآلن جميع القوى
الكربى وعديد من القوى اإلقليمية مبعنى ما تشكل قوى رأساملية .وميثل هذا
تضيي ًقا كب ًريا يف النطاق الرتددي األيديولوجي للمجتمع الدويل العاملي منذ الحرب
الباردة ،حيث كانت القضية األساسية هي «الرأساملية أم ال» .هذا ال يعني أنه
ال توجد اختالفات أو خالفات بشأن هذه األشياء ،عىل سبيل املثال :بشأن عدم
التدخل؛ وكيفية إدارة السوق العاملية؛ وكيف يجب أن تشتغل إدارة القوى الكربى.
مثة خالفات من حيث املبدأ بشأن حقوق اإلنسان والدميوقراطية ،ومن ثم فهي ال
تعترب ُن ُظ ًاًم عاملي ًة للمجتمع الدويل .ولكن عىل الرغم من هذه الخالفات ،فإن هناك
415
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بنية معيارية واسعة وقوية ،ويف بعض الجوانب (مثل السيادة؛ اإلقليمية؛ والقومية؛
والديبلوماسية؛ واملساواة اإلنسانية) تشكل بنية معيارية عميقة للغاية يقوم عليها
مجتمع ما بني الدول املعارصة .إذ متارس بعض جوانب هذه البنية املعيارية ،مثل
القومية واملساواة البرشية ،دورا قويا يف املجتمع العاملي أيضا .وقد برزت فكرة
اإلرشاف البيئي ،وهي فكرة ترى أن للجنس البرشي مسؤولية جامعية ومصلحة
ذاتية لرعاية كوكب األرض ،أخريا كنظام أويل جديد خالل القرن الحادي والعرشين،
متا ًما كام برزت القومية خالل القرن التاسع عرش ،والسوق خالل القرن العرشين
( .)Falkner, 2016; Falkner and Buzan, 2017إن املصائر املشرتكة لديها
القدرة عىل توليد عنارص من األخالق والثقافة املشرتكة التي تدفع إىل األعىل انطالقا
من املجتمع العاملي إىل مجتمع بني الدول ( .)Clark, 2007ويبدو مركز هذه
البنية املعيارية (السيادة؛ واإلقليمية؛ والقومية) مستق ًرا ،لكن االستقطاب السيايس
املعياري بني املستبدين والدميوقراطيات؛ والتنافس بني القوى الكربى عىل مجاالت
النفوذ ،ميكن أن يحد عىل نحو كبري من تعزيز مجتمع ما بني الدول (Buzan and
).Schouenborg, 2018
انفتاحا
ً االفرتاض (ب) :سيصبح الهيكل املعياري العاملي للمجتمع العاملي أكرث
وتنوعًا مام كان عليه خالل العقود القليلة املاضية.
التعليل (ب) :لقد و َّفرت الهيمنة الطويلة للغرب و«معياره الحضاري» الليربايل
قرشة للثقافة واألخالق العاملية .وبدافع من مركز العامل الناطق باللغة اإلنجليزية،
أعطى هذا مظهر صعود عامليا لألفكار الليربالية ،ا ُملحددة عىل نحو أسايس من ناحية
املصالح االقتصادية .وقد عُ زِّزت هذه القرشة الرقيقة من خالل قوة االدعاء الليربايل
الغايئ بتسيد املستقبل ،والذي عُ زِّز بدوره من خالل الصعود املادي للعامل الناطق
باللغة اإلنجليزية ،وقد أخفت تلك القرشة الرقيقة كثريا من التنوع الثقايف تحتها.
إن االنحدار النسبي للغرب يعني أن القوة املادية والسلطة املعنوية أصبحتا أكرث
انتشا ًرا عرب نطاق أوسع من الجهات الفاعلة .وأصبحت حقيقة مجتمع عاملي ملا
بعد االستعامر مرئية اآلن مع انتشار الحداثة إىل ما وراء مركزها األصيل الصغري.
ستبقى القيم الليربالية قوية داخل الغرب ،عىل الرغم من أنها تواجه ،حتى داخل
الغرب يف حد ذاته ،تحد ًيا خط ًريا ُمتأت ًيا من املنظورات القومية والشعبوية والفاشية
416
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
الجديدة املناهضة للعوملة .وستنترش القيم الليربالية عىل نحو أضعف يف أماكن
أخرى ،وستظل مؤثرة عامل ًيا كإحدى الرؤى السياسية الرئيسة .لكن صعود البقية،
والتأثري الذي يغذيه اإلنرتنت ملجموعة من الجهات الفاعلة غري الحكومية التي ميتد
عملها عرب الحدود الوطنية ،سيعيد متكني مجموعة متنوعة من البدائل األخالقية
وضوحا يتَأَىت من اإلسالم والكونفوشيوسيةً ،
وأيضا من ً الثقافية ،وأك ُرث تلك البدائل
التقاليد املحلية للسلطوية .عىل نحو جامعي ،سيؤدي ذلك إىل نظام أخالقي /ثقايف
أكرث تعددية .ويتضح هذا بالفعل يف تأكيد بكني عىل «الخصائص الصينية»؛ وغرس
فكرة الهندوتفا(٭) يف الهند؛ وعودة روسيا إىل الهوية السالفية؛ والرتويج لإلسالم
كنظام أخالقي بديل .إن الحامس املبدى حيال العوملة يشهد ضعفا ،يف حني أن
القومية وما ميكن تسميته بالنزعة الحضارية تشهدان عودة .وهيمنة سياسات
الهوية عىل االقتصاد ال متارس دورا يف الصني وروسيا واليابان ومعظم دول آسيا
فقط ،ولكن ً
أيضا يف معاقل الليربالية يف أوروبا والواليات املتحدة .ومبعنى ما ،يشهد
املجتمع العاملي عودة إىل حالته التاريخية املتمثلة يف التنوع الثقايف حينام أفسحت
الحالة االستثنائية للهيمنة الغربية ،التي كانت فرتتها قصرية ولكن تأثريها قوي،
الطريقَ أمام االنتشار العاملي لثورات الحداثة.
- 1 - 7النزاع والعنف
افرتاض (أ) :ستظل حرب القوى الكربى الشاملة مقيدة للغاية .وميكن أن تحدث
حرب من خالل حدث عريض أو اإلهامل ،ولكن من غري املرجح أن يكون اختيا ًرا
سياسيا عقالن ًيا بالطريقة التي كان عليها بالنسبة إىل القوى التي بدأت الحربني
العامليتني األوىل والثانية .إن السعي وراء الهيمنة عىل نطاق عاملي من قبل القوى
الكربى سيستمر يف الضعف كدافع لنزاعات وحروب القوى الكربى .وإذا كان ال بد
من وجود نظام عاملي مبني عىل أساس التعددية الراسخة ،فال بد أن يكون نظاما
(٭) هندوتفا ( )Hindutvaهو الشكل السائد للقومية الهندوسية يف الهند .حظي املصطلح بشعبية من قبل مؤسسه
فيناياك دامودار سافاركار يف العام .1923وتدافع عنها عدة منظامت قومية هندوسية .وقد وُصفت حركة هندوتفا
بأنها حركة «فاشية باملعنى الكالسييك» ،حيث تلتزم باملفهوم املتنازع عليه املتمثل يف األغلبية املتجانسة والهيمنة
الثقافية .يعارض البعض التسمية الفاشية ،ويشري إىل أن هندوتفا كانت شكال من أشكال «املحافظة» أو «الحكم
املطلق العرقي»[ .املرتجم].
417
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يأيت عن طريق التفاوض ويحظى بالتوافق .وعىل رغم ذلك ،قد يظل البحث عن
الهيمنة عىل نطاق إقليمي وتنافس القوى الكربى حول مناطق النفوذ قويا جدا
داخل املجتمع الدويل العاملي الالمركزي.
التعليل (أ) :مل تعد الحرب العاملية بني القوى الكربى تقدم خيا ًرا جيدًا ،أو
رمبا أي خيار آخر ،لتحقيق مكاسب تفوق الخسائر .فقد أصبحت وسائل التدمري
كبرية للغاية؛ والتكاليف باهظة للغاية؛ ورشعية الكسب اإلقليمي عن طريق
الغزو منخفضة للغاية؛ واحتامل املقاومة يف األرايض املحتلة مرتفعا للغاية.
باإلضافة إىل ذلك ،ويف عامل من القوى الكربى (أي ال توجد فيه قوى عظمى)،
لن يكون لدى أي من القوى الكربى القدرة ،ورمبا لن يكون لدى أي منها
الطموح ،للمنافسة عىل الهيمنة العاملية .وكام تظهر التجربة األمريكية عىل
مدى العقدين املاضيني ،فإن هذه الوظيفة (وظيفة القوة العظمى) تنطوي عىل
أعباء باهظة التكلفة ومستحيلة عىل نحو متزايد ،كام أن كال من وظيفة القوة
العظمى نفسها ومسؤولية الواليات املتحدة فيها ترتاجع رشعيتهام .وكام أرشنا
سابقا ،فإن خطاب القوى الكربى الصاعدة مثل الهند والصني يوضح أنها مرتددة
يف تحمل مسؤوليات القوة الكربى ،فضال عىل مسؤوليات القوى العظمى،
مفضلة إعطاء األولوية لتنميتها .وضمن هذه األولوية ،ال تختلف تلك القوى
الصاعدة كث ًريا عن الواليات املتحدة إبان فرتة انعزاليتها حتى العام .1941إن
التنافس الحايل بني الواليات املتحدة والصني ،وعىل الرغم من أنه ُيفهم غال ًبا
عىل أنه يتعلق بالتفوق العاملي ،فإنه يدور حول من هي القوة التي ستهيمن
عىل آسيا .هذا يعني أنه قد تسعى القوى الكربى إىل التفوق اإلقليمي ،عىل
الرغم من أنه حيثام توجد أكرث من قوة كربى يف املنطقة فإن الخوف من الحرب
سيقيد استخدام الحرب الشاملة لتحقيق مثل هذه األهداف.
االفرتاض (ب) :ستبقى الحروب بني الدول عىل نحو عام نادرة ،ومتثل االستثناء
وليس القاعدة .هذا ال يستبعد بأي حال من األحوال حدوث كثري من االختيال
العسكري الذي قد يدفع نحو سباق التسلح.
التعليل (ب) :تنطبق هنا الحجج نفسها الخاصة بالتعليل (أ) .ويبدو أن بحر
الصني الجنويب أصبح حالة اختبار لكال االفرتاضني (أ) و(ب).
418
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
االفرتاض (ج) :ستصبح الحروب بني الدول والجهات الفاعلة غري الحكومية،
وبني الجهات املتنافسة غري الحكومية فيام بينها ،الشكل الرئيس للعنف «الدويل».
التعليل (ج) :لقد كان من الواضح منذ العام 2001وبداية الحرب العاملية
عىل اإلرهاب أن الجهات الفاعلة غري الحكومية لديها القدرة عىل تجنيد وتدريب
وتحفيز وتجهيز قوات مقاتلة كبرية .وهنالك سجل متزايد من قتالهم بعضهم لبعض
(عىل نحو رئيس يف الرشق األوسط) ومهاجمة أهداف أبعد يف أوروبا والواليات
املتحدة .إن انهيار النظام السيايس ملا بعد االستعامر يف أجزاء من الرشق األوسط
وأفريقيا وآسيا ،وظهور عديد من الدول الفاشلة وعديد من الدول الضعيفة يف تلك
األماكن ،يوفر فرصا جيدة للجهات الفاعلة العنيفة غري الحكومية إلنشاء قواعد لها.
وظهور التنوع األخالقي /الثقايف يف سياق االستياء التاريخي املستمر من االستعامر
ومن اآلثار الكبرية التي خلفتها الهيمنة الغربية ،يوفر رشعية قوية للجهاديني .كام
أن االقتصاد املعومل يجعل من السهل عليهم رشاء املعدات والعثور عىل ممولني،
سواء من املجتمع املدين وغري املدين أو حتى من بعض الدول.
االفرتاض (د) :ستظل الديناميات القامئة بني الدول تشكل محركا مهام للنزاع
اجع نسبيا .ستستمر العنرصية يف الرتاجع كمحرك والعنف ،وإن كان عىل نحو مرت ٍ
للنزاع ،لكن االختالفات الثقافية يبدو أنها ستظل قوية ،خاصة عندما ترتبط بقضايا
الهجرة .وبالنظر إىل التبني الواسع النطاق لرأساملية السوق العاملية ،فإن الدوافع
األيديولوجية سترتاجع أيضا .ولكن بالنظر إىل أزمة الرأساملية التي نوقشت سابقا،
فقد تصبح الالمساواة االقتصادية دافعا متناميا للنزاع داخل الدول عىل نحو أكرب
من أن تكون بني الدول .وكام هو موضح يف الفصل السابع ،تعمل الرأساملية العاملية
عىل سد الفجوات بني الدول بينام تفتح التفاوتات داخلها .ويشري هذا النمط من
الدوافع إىل أن «العنف والنزاع سيكونان داخل الدول و/أو عرب الدول ،أكرث منه عنفا
ونزاعا فيام بني الدول».
التعليل (د) :ستستمر عديد من الدول يف االستعداد للقتال بشأن القضايا
اإلقليمية ،خاصة عندما ُقدست هذه القضايا من قبل القومية .وستتنافس
الدول أيضا ورمبا تستخدم القوة حيال قضايا الوضع املحيل /اإلقليمي .لكن
الرأساملية العاملية تعمل كحاجز ضد استخدام القوة ألسباب اقتصادية ،وهكذا
419
تشكيل العالقات الدولية العاملية
تالىش الزخم املتعلق باملنافسة عىل الهيمنة العاملية .فلم تعد االختالفات
األيديولوجية العميقة مثل تلك التي حدثت خالل القرن العرشين قامئة ،عىل
الرغم من أن االنقسام بني األنظمة االستبدادية والدميوقراطيات ميكن أن يظل
كبريا .وقد ُكبحت الدوافع العنرصية بسبب االلتزام واسع النطاق بعد االستعامر
بفكرة أن جميع البرش متساوون ،لكن ردود الفعل إزاء الهجرة الجامعية يف
عديد من األماكن تشري إىل أن االختالفات الثقافية ،ورمبا الدينية عىل وجه
الخصوص ،مازالت تحتفظ بأهمية كبرية .ويبدو أن سياسة الهوية تعتمد اآلن
عىل الثقافة أكرث من كونها تستند إىل العرق .مل تجد الرأساملية بعدُ إجابة ألقىص
درجات عدم املساواة ،التي ستستمر يف النمو لتصبح أكرث حساسية من الناحية
السياسية .ويبدو الحل التقليدي املتمثل يف الحفاظ عىل منو اقتصادي مطرد
إلضفاء الرشعية عىل عدم املساواة أضعف وأكرث صعوبة منذ األزمة االقتصادية
للعام .2008وكام ُيظهر خروج بريطانيا من االتحاد األورويب ووصول ترامب
إىل سدة الحكم ،فإن استجابة القرن التاسع عرش املتمثلة يف الرتويج للقومية
ملواجهة االختالفات الطبقية قد اليزال لها بعض املنفعة ،لكنه يخاطر بتعطيل
االقتصاد العاملي ،الذي يعتمد عليه الجميع يف تحصيل الرثوة والقوة .لقد تم
التنبؤ بزوال الرأساملية بسبب تناقضاتها الداخلية عىل نحو خاطئ ولعدة مرات،
مام يشري إىل أنه ال ينبغي ألحد أن يقلل من قدرة التعلم والقدرة عىل التكيف
التي تتميز بها الرأساملية كنظام .لكن إذا حاولت النخب الرثية ترسيخ موقعها،
سواء من خالل االستيالء عىل الدولة أو استخدام تقنيات السيطرة أو الرتاجع إىل
سياسات الجيوب املحمية ،فيمكن حينئ ٍذ توقع نشوب النزاع.
إذا أخذ املرء هذه املجموعة من االفرتاضات والتعليالت عىل أنها معقولة،
فسيكون كل من التآزر والتناقضات بينها واضحني .إن هذه التوافقات والتناقضات
ال تعطي صورة بسيطة ،فالرسالة الرئيسة هي أنه يف حني أن القوى الهيكلية القوية
تؤدي دورا يف كل من االستمرارية والتغيري ،فإن تلك القوى كثريا ما ُت ْج َت َذب نحو
اتجاهني متعاكسني .فيا ترى مباذا يخربنا هذا التوتر عن النظرة املستقبلية بخصوص
املجتمع الدويل العاملي وعن إمكانيات الفاعلية يف الخيارات بني التعددية املتنازع
عليها والتعددية الراسخة خالل العقود املقبلة؟
420
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
التحول
َ -2-1
من الواضح اآلن أن املجتمع الدويل العاملي يبتعد عن شكله الطويل األمد
واملتمثل يف كونه بنية َم ْر َكز-أَ ْط َراف يهيمن عليها الغرب بقيادة الواليات املتحدة،
مع َم ْر َكز صغري وأَ ْط َراف كبرية نسبيا .إنه يتجه نحو أن يكون شكال يعكس مجموعة
متنوعة ثقافيا وسياسيا من القوى الكربى واإلقليمية ،مع َم ْر َكز ُمتَوسع وأَ ْط َراف
ُمتقلصة .يف الوقت نفسهُ ،يعاد تشكيل مركزية الدولة الشاملة الخاصة باملجتمع
الدويل العاملي من خالل الدور والقوة املتزايدين ملجموعة متنوعة من الجهات
الفاعلة غري الحكومية املدنية منها وغري املدنية عىل حد السواء ،وكذلك من خالل
الزيادة املستمرة يف القدرة عىل التفاعل واملصائر املشرتكة .ستكون الهياكل املادية
واملعيارية لهذه الصيغة الناشئة ،أي الصيغة الثانية للمجتمع الدويل العاملي ما
بعد الغريب ،مختلفة عىل نحو الفت للنظر عن النموذج الغريب العاملي .وستكون
القوة املادية أكرث انتشارا ،وستكون الرشعية املعيارية أكرث انتشارا وتكون نابعة من
ثقافات متعددة ،مبا يف ذلك الليربالية ،التي لن تصبح هي املهيمنة عليه .كام ستكون
هذه التعددية الثقافية هي واقع الحال ليس فقط بني الدول ،ولكن أيضا بني
الدول ومجموعة واسعة من الجهات الفاعلة غري الحكومية .كل هذا يكون مصحوبا
بتحول سيايس يبتعد عن النزعات األيديولوجية من بني جميع الجهات التي قادت
الكثري من السياسات الدولية خالل القرن العرشين ،ويتجه نحو التوتر الذي حدده
أولئك الذين ُيفضلون النزعة الداخلية والقومية الحامئية وسياسات الهوية الوطنية
من ناحية ،وأولئك الذين ُي َفضلون املجتمعات املنفتحة والعوملة من ناحية أخرى.
421
تشكيل العالقات الدولية العاملية
إن معظم املجتمعات ممزقة بسبب هذا السؤال ،ومن املرجح أن تتأرجح سياساتها
املحلية بشأنها بطرق يحتمل أن تكون غري مستقرة .فروسيا والهند تعتربان منوذجني
للموقف الذي يتطلع إىل الداخل .أما الصني فقد كان أداؤها جيدا من خالل العوملة
ولكنها تتطلع إىل الداخل عىل نحو عام .وباملثل ،كان أداء اليابان جيدا من العوملة،
لكنها متلك أيضا اهتامما قويا بسياسات الهوية .يف حني أن معاقل الليربالية السابقة
-الواليات املتحدة وبريطانيا واالتحاد األورويب -منقسمة بشدة بشأن هذه املسألة.
نتج عن ذلك اندماج فريد يختلف عن الغرب ويختلف أيضا فيام بينها بعضها عن
بعض ،حيث يجد كل مجتمع طريقته الخاصة لدمج أفكار ونظم الحداثة يف ثقافته
الخاصة .وهكذا ،وعىل الرغم من أن املجتمع الدويل الناشئ قد يكون أكرث تعددية
ثقافيا مام كان عليه خالل فرتة الهيمنة الغربية ،فإنه سيشرتك أيضا يف ركيزة مهمة
من أفكار ونظم الحداثة كإرث من مساره التكويني.
تختلف عن تلك الجدلية الخاصة بفرتة الثالثينيات أو عن تلك التي يطرحها االتحاد
األورويب .وتشري قوة القوى التي تدفع حاليا إىل كال الخيارين إىل أنه خالل العقود
القادمة ،سيكون الحصول عىل صيغة من كال الخيارين هو النتيجة األكرث ترجيحا.
ستكون ا ُمل ِ
عض َلة بالنسبة إىل العقود القادمة هي كيفية التوفيق بني رضورات تبيئة/
توطني التنوع الثقايف الذي تم إحياؤه مع الرضورات العوملية للمصائر املشرتكة،
وكيفية االضطالع بذلك يف عامل تعددي بعمق من دون قوة عظمى أو مجموعة
َم َرا ِكز أو ثقافة أو أيديولوجية مهيمنة.
إن ما تشري إليه هذه الضغوط الهيكلية املتناقضة عىل ما يبدو هو مجتمع
دويل عاملي أكرث طبقية حيث يؤدي فيه التاميز اإلقليمي و/أو شبه العاملي املدفوع
بالنزعة الحضارية دورا ،جنبا إىل جنب مع مستوى عاملي تعددي تدعمه الحاجة إىل
التعامل مع املصائر املشرتكة .ولحسن الحظ ،فإن التفسري التعددي لنظم املجتمع
نواح عديدة متوافق متاما مع التنوع الثقايف .إن السيادةالدويل العاملي هو من ٍ
وعدم التدخل واألقاليم والقومية كلها تدعم الحفاظ و/أو تنمية االختالف والتاميز
السيايس والثقايف اللذين يشكالن إرث التاريخ البرشي .ومن الناحية العملية ،سوف
تنطوي هذه الحركة املزدوجة عىل تحول يف الهدف بني املستويني اإلقليمي والعاملي.
فعىل املستوى اإلقليمي ،ستصبح الحوكمة أكرث عمومية من أجل دعم التاميز
السيايس والثقايف .وميكن أن تضطلع بذلك القيادة املهيمنة املحلية ،مثلام يبدو
ذلك من خالل االنجراف الحاصل يف املشاريع اإلمربيالية الجديدة لروسيا والصني.
أو قد ُي َّضط َلع به عىل نحو أكرث توافقية ،كام هو الحال يف االتحاد األورويب ،أو كام
ُلمح إليه من خالل الحديث عن انشقاقات أفريقية عن املحكمة الجنائية الدولية.
وبهذا املعنى املحدد ،قد يصبح االتحاد األورويب النموذج الذي طاملا أراد أن يكون
بقد ٍر ما النموذج الذي يوضح كيفية االضطالع بالتاميز اإلقليمي عىل أساس ثقايف.
أما عىل املستوى العاملي ،فستصبح الحوكمة أقل عمومية وأكرث تركيزا عىل القضايا
الوظيفية املحددة التي تثريها املصائر املشرتكة .وسيضعف املرشوع الغريب للرتويج
للقيم الليربالية باعتبارها الركيزة العاملية أو «معيار الحضارة» للنظام الدويل عىل
الصعيد العاملي ،حتى لو ظلت تلك القيم قوية داخل الغرب (وهو ما يشري إليه
وصول ترامب إىل سدة الحكم وخروج بريطانيا من االتحاد األورويب بأنه قد ال يكون
424
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
كذلك) وإىل حد ما يف مكان آخر .ولن يحل محلها أي يشء «عاملي» مبعنى النظرة
الواسعة ملا هو صحيح سياسيا وأخالقيا .وسوف تتكشف الحداثة عىل عدة خطوط
سياسية واجتامعية بدال من خط واحد فقط.
إن أولئك املوجودين يف الصني وروسيا وإيران وفرنسا والهند وأماكن أخرى ،من
الذين عارضوا الهيمنة األمريكية /الغربية منذ فرتة طويلة ودعوا إىل نظام دويل أكرث
«تعددية لألقطاب» ،سوف يحصلون عىل رغبتهم .لكن يف التقليد ا ُمل َخا ِدع املتمثل
يف قصص «التمنيات» ،فلن يحصلوا عىل ما كانوا يتوقعونه .ستُرتك األقاليم وعىل
نحو متزايد لتُدبر أمرها بنفسها يف الرساء والرضاء .ويف غياب كل من القوى العظمى
واأليديولوجيات املهيمنة عامليا ،لن يكون املستوى العاملي متعلقا بالنظام السيايس
واالجتامعي العاملي عىل نحو عام كام كان الحال طوال العقود العديدة املاضية.
وبدال من ذلك ،سوف يتعلق األمر بسلسلة من االتفاقيات واملؤسسات الوظيفية
املحددة للتعامل مع قضايا املصري املشرتك التي يعرتف بها الجميع ويقبلونها عىل
هذا النحو ،وال ُيتعامل معها عىل أنها مناطق نزاع سيايس .رمبا ُينبئ تراجع املجتمع
الدويل العاملي إىل مجموعة محدودة من الخصائص الوظيفية بقدرة الواليات
املتحدة واالتحاد السوفييتي عىل االتفاق عىل عدم انتشار األسلحة النووية حتى يف
أوج تنافسهام ذي املحصل الصفري .ويف اآلونة األخرية ،يشري التحول من الخالف إىل
اإلجامع بشأن تغري املناخ بني كوبنهاغن يف العام 2009وباريس يف العام 2015إىل
ظهور تعاون وظيفي محدد ضد تهديد مشرتك (،)Falkner and Buzan, 2017
وقد بدأت هذه االتفاقية تبدو قوية مبا يكفي للنجاة من معارضة ترامب ،ومن ثم
فهي تضيف مؤرشات أخرى عن تراجع الواليات املتحدة عن وضع القوة العظمى.
إن التطور ثنايئ املسار الحاصل عىل طول هذه الخطوط من شأنه أن يرقى
إىل إعادة تصور جوهرية ملفهوم املجتمع الدويل العاملي ،يختلف عن ذلك التصور
الذي اعتدنا عليه خالل العقود املاضية .ومبعنى ما ،قد يقطع ذلك االفرتاض
الليربايل التضامني بأن هناك مجموعة محددة من القيم السياسية واالجتامعية
العاملية التي يجب عىل الجميع االلتزام بها يف نهاية املطاف .سيكون مجتمعا دوليا
عامليا عميقا وراسخا وتعدديا عىل نحو واضح من الناحية الثقافية والسياسية،
لكنه يعتمد عىل ركيزة قوية من املؤسسات األولية املشرتكة ،ويخضع لضغوط
425
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ومن ثم ،فإن مدى جودة أو مدى سوء وظائف املجتمع الدويل العاملي سيعتمد
عىل ما إذا كانت اللعبة ستُل َعب عىل نحو أسايس كتعايش عىل املستوى العاملي،
أو ستُل َعب عىل نحو أسايس كمنافسة عىل املستوى اإلقليمي.
إن العامل الرئيس يف نطاق الفاعلية بني نتائج التعايش والتنافس هو كيفية
معالجة مشاكل الذاكرة التاريخية .قد تكون إحدى الفوائد املحتملة من تاليش
الهيمنة الغربية واألمريكية؛ والهيمنة العاملية الليربالية هي تخفيف بعض مشاكل
رد الفعل واالستياء واملعارضة ملثل هذه الهيمنة التي عاثت استبدادا يف املجتمع
الدويل العاملي منذ نهاية الحرب الباردة .ومع تراجع رشعية القيادة األمريكية
والغربية ،أدى ذلك إىل إضعاف قيادة املجتمع الدويل العاملي من دون وضع أي
بديل لتلك القيادة .وعىل رغم ذلك ،فإن تخفيف رد الفعل واالستياء واملعارضة
سيعتمد عىل تاليش الذكريات التاريخية للتنمر واإلهانة التي التزال تغذي االستياء
يف مرحلة ما بعد االستعامر ،وقد يستغرق ذلك وقتا طويال .إن ملثل هذه الذكريات
فائدة سياسية لألنظمة الحاكمة يف عديد من األماكن ،وإقدام الحزب الشيوعي
الصيني عىل خلق قومية صينية معادية بشدة لليابان ومعادية للغرب ميثل املثال
الرائد للحكومات التي تزرع (وتشوه) مثل هذه الذكريات ملآربها الخاصة .وقد
فعلت اإلمرباطورية اليابانية هذا حينام كانت يف أوجها ،وتلعب روسيا وإيران
اللعبة نفسها ،وميكن للهند أن متيل يف هذا االتجاه عىل رغم أنها مل تفعل ذلك
حتى اآلن .قد يستمر االستياء التاريخي ضد الغرب فرتة طويلة قد تضاهي طول
فرتة الهيمنة الغربية ،وإذا حدث ذلك ،فسوف ُيضعف فرص اإلدارة املالمئة ملشاكل
املصري املشرتك عىل املستوى العاملي ،ويؤدي إىل تفاقم الخصومات اإلقليمية.
ويف كلتا الحالتني ،فإن أحد التنبؤات الثابتة واملحددة هو أن االنتشار العام
للقوة والسلطة ،والدور املتزايد للجهات الفاعلة غري الحكومية جنبا إىل جنب
مع الدول ،سيضع الكثري من الضغط عىل الهيكل الحايل للمنظامت الحكومية
الدولية .وكام يتضح من عدم القدرة عىل ضم أملانيا واليابان إىل مجلس األمن
الدويل ،فإن املجموعة الحالية من املنظامت الحكومية الدولية أصبحت قدمية
بالفعل حتى يف ظل افرتاض وجود مجتمع دويل عاملي يهيمن عليه الغرب .ويف
املجتمع الدويل العاملي ملا بعد الغرب الذي يتميز بتعددية عميقة و َم ْر َكز ُموسع،
427
تشكيل العالقات الدولية العاملية
ستواجه املنظامت الحكومية الدولية التي تشكلت بعد الحرب العاملية الثانية
أزمة رشعية متصاعدة إذا مل تتكيف مع التوزيع األكرث انتشارا للرثوة والقوة،
ومع املشهد الفكري األكرث تعددية من الناحية الفكرية واألخالقية .وكاستجابة
لبطء التعديل داخل هذه املؤسسات املركزية ،رمبا يكون ترويج الصني «للبنك
اآلسيوي لالستثامر يف البنية التحتية» نذيرا ملا سيكون لعبة تستمر عقودا ألجل
إعادة تشكيل املنظامت الحكومية الدولية واألنظمة بحيث تتالءم عىل نحو
أفضل مع ازدواجية النظام العاملي املابعد الغريب الناشئ ،ومع التقسيم املتغري
لألهداف بني املستويني اإلقليمي والعاملي(٭) .إن الجانب اإليجايب لهذا ،كام جادل
أوليفر ستوينكل ) (Oliver Stuenkel 2016: locs. 434–532هو أن الدول
غري الغربية تدعم عىل نحو أسايس النظام الحايل ،لكنها تريد تحسني وضعها
داخله .وستكون املشكلة هي ما إذا كان الغرب عىل نحو عام والواليات املتحدة
عىل وجه الخصوص يستطيعان إجراء التعديل من أجل التحول من التفكري يف
أنفسهم عىل أنهم ا ُملزَو ُدون األساسيون للقيادة العاملية والرؤية الليربالية العاملية،
إىل فهم أنفسهم عىل أنهم مجرد جزء واحد من مجتمع دويل عاملي تعددي عىل
نحو عميق يتألف من أقران متاميزين ثقافيا وسياسيا .وتشري معارضة الواليات
املتحدة «للبنك اآلسيوي لالستثامر يف البنية التحتية» حتى يف عهد باراك أوباما
إىل أن هذا املسار سيكون طويال ومحفوفا بالصعاب.
إن منو ما يسمى بـ «الحوكمة العاملية» ،حيث تؤدي القوى األقل قوة والجهات
الفاعلة غري الحكومية أدوارا مهمة يف بناء املعايري واملؤسسات العاملية ،من املحتمل
أن تكون عامال إضافيا يف هذا املسار .حتى اآلن ،كان ُينظر إىل إدارة القوى الكربى
تعارض أكرث من كونهام تعمالن معا ،حيث يرى ٍ والحوكمة العاملية عىل أنهام يف
أنصار الحوكمة العاملية إىل حد ما أن إدارة (سوء إدارة) القوى الكربى هي املشكلة.
ويف املجتمع الدويل العاملي شديد التعددية ،لن تكون إدارة القوى الكربى أو
الحوكمة العاملية كافية يف حد ذاتها لدعم درجة النظام واإلدارة الالزمني للتعامل
(٭) للحصول عىل مراجعة تفصيلية بشأن إصالح املنظامت الحكومية الدولية وإعادة تشكيلها ،انظر:
(Stuenkel 2016, chs. 4 and 5).
[املؤلفان].
428
النظام العاملي مابعد الغربي :تعددية عميقة
مع املصائر املشرتكة .فإما أن يعملوا معا وإما أن املجتمع الدويل العاملي سيكون
ضعيفا وسيئ اإلدارة (.)Cui and Buzan, 2016
خالصات
هذه املامرسة يف التطلع إىل املستقبل بالكاد يقدم كرة َبلو ِرية ُتظهر صورة
مفصلة عن املجتمع الدويل العاملي ما بعد الغريب .لكنه يقدم نظرة عامة معقولة
عن املشهد الطبيعي الذي نتوجه إليه ،وعن الديناميات الرئيسة التي تدفع بذلك.
إنه يوفر رسام تخطيطيا للمستقبل يستند إىل ُأسس متينة مبا يكفي ليكون مبنزلة
أساس لكل من املناقشة النظرية والسياسية .فنحن نعرض ما ُحدد بشدة وما اليزال ٍ
مفتوحا ،ومن ثم تخصيص مجال معترب للفاعلية .نحن ال نحاول أن نكون متفائلني
أو متشامئني .فنحن عىل ثقة بأن مثة شكال من التعددية العميقة هو ما ينتظرنا،
ولكن ضمن ذلك ،ميكن للقراء أن يتوصلوا إىل استنتاجاتهم الخاصة بشأن إيجابيات
وسلبيات السعي وراء التعددية املتنازع عليها أو التعددية الراسخة .كام أننا مل
نحاول االنحياز إىل أي جانب خالل عديد من النقاشات الحامسية الدائرة حول
الصواب والخطأ يف تاريخ العامل .فنحن نحاول أن نبني أن الجنس البرشي ،سواء
أحب املرء ذلك أو ال ،ينتقل إىل مشهد سيايس وثقايف عاملي مختلف عن املشهد
الذي كنا فيه منذ القرن التاسع عرش ،برغم أنه اليزال مشهدا يتشكل بقوة من
خالل األخري .إن عامل ما بعد الغرب َ ْمَي ُثل اآلن أمامنا .إذ ميكننا تحديد عديد من
ميزاته الرئيسة ،ولدينا خيارات بشأن كيف ميكننا محاولة التنقل داخل هذا املشهد
العاملي الجديد.
429
نحو حقل عالقات دولية عاملي
10
مقدمة
يف هذا الفصل الختامي ،نقدم أو ًاًل مالحظات
موجزة بشأن نتائج الكتاب من حيث صلتها
بتطور العالقات الدولية كحقل معريف وكمامرسة.
ثم نناقش بعض االتجاهات الحديثة يف نظرية
العالقات الدولية ويف هذا التخصص املعريف،
مربزين بذلك اتساع مجال الدراسة هذا،
وكذلك املركزية الغربية املستمرة التي التزال
تطبع األدبيات الخاصة بهذا املجال .بعد ذلك،
ندرس ظهور حقل العالقات الدولية العاملي
(واملفاهيم ذات الصلة مثل« :حقل العالقات
«ناد ًرا ما يُخترب الطالب الجامعيون
الدولية غري الغريب» أو «حقل العالقات الدولية -الذين يدرسون الواقعية والليربالية
مابعد الغريب») .سنتطرق إىل العنارص الرئيسة كنظريات عاملية عن العالقات الدولية
-عن ارتباط تلك النظريات بالعنرصية
لحقل العالقات الدولية العاملي ،ونرسم ً
بعضا الثقافية واإلمربيالية وتربيرها لهام»
431
تشكيل العالقات الدولية العاملية
من هذه املناقشات الدائرة بشأنه ،والطرق التي ميكن من خاللها متابعته وتعزيزه،
ثالث أو إعادة
تأسيس ٍ
ٍ والتحديات التي تواجهها كل هذه الجهود .نحن ندعو إىل
تأسيس للتخصص ،ليس فقط عىل ُأسس معيارية ،ولكن كرضورة لالحتفاظ بجدوى ٍ
حقل العالقات الدولية يف عاملٍ مابعد غريب ُم َع ْولَم وتعددي عىل نح ٍو عميق.
يف الفصل التاسع قدمنا أفكار التعددية املتنازع عليها والتعددية الراسخة
مفهوم للنظام العاملي مابعد الغريب .وإىل الحد الذي يتتبع فيه تفكري حقل ٍ لتصور
العالقات الدولية واقع العالقات الدولية كمامرسة -وهذا الكتاب يرتكز عىل نح ٍو
وثيق عىل وجهة نظرنا القائلة بأن هذا هو الحال يف كثري من األحيان -نتوقع قد ًرا
أكرب من التعددية لحقل العالقات الدولية ،سواء يف مجال التخصص نفسه أو يف
بداًل من التجزئة باملعنى السلبي ،عىل الرغم من نظريته .نعني بالتعددية االختالف ً
أن درجة معينة من هذا األخري ال مفر منها .لكن االنتقال إىل نظام عاملي مابعد
واضحا إال خالل العقدين املاضيني ،وسيستغرق عدة عقود أخرى ً غريب مل يكن
للعمل عىل ذلك االنتقال .إن هذا ليس ً
انتقااًل رسي ًعا مثل ذلك الذي صاحب هزمية
قوى املحور يف العام 1945وانهيار االتحاد السوفييتي داخل ًّيا بعد العام .1989كام
أن «تحول األفكار» العاملي ا ُملصاحب ( )Acharya, 2016داخل تخصص العالقات
أيضا عىل حل املشكلة .ويف هذا النطاق الزمني ،نأمل أال الدولية سوف يعمل ً
يتخلف التخصص كث ًريا عن ظهور التعددية العميقة ،ورمبا حتى عن توقعها يف
بعض النواحي .إن التقدم باتجاه حقل العالقات الدولية العاملي يحدث بالفعل
وسوف يتكثف .لكنه يواجه عقبات خطرية ،ليس أقلها التصاق الهيمنة الغربية
بهذا التخصص ،واستمرار الظروف يف الجنوب العاملي التي تعرقل التحقيق الرسيع
ملرشوع حقل العالقات الدولية العاملي.
تتمثل إحدى النتائج الرئيسة لهذا الكتاب يف أنه عىل الرغم من الجهود املبذولة
إلدخال تنوع أكرب يف هذا املجال الدرايس ،فإن معظم نظريات العالقات الدولية،
مع استثناء مهم لنظرية ما بعد االستعامرية ،تظل نظريات ذات مركزية غربية،
وإن حقل العالقات الدولية اليزال ميثل علم اجتامع غربيا يف األغلب ،عىل رغم أنه
بالتأكيد ليس علم اجتامع أمريكيا عىل نح ٍو حرصي .ونتائج بحثنا ،مع نتائج أبحاث
ما بعد االستعامرية (Nandy, [1983] 2009; Dirlik, 1999; Chowdhry and
432
نحو حقل عالقات دولية عاملي
الفصل الثامنُ ،ينظر إىل غري الغرب عىل أنهم مستهلكون ،وليسوا منتجني ،ومتلقون
بداًل من كونهم مقرتضني نشطني ،للمعرفة النظرية.سلبيون ً
متيل هذه املامرسات مجتمعة إىل تجاوز أهمية االختالفات الثقافية ،وهو أحد
األسباب التي تجعل الثقافة والنزعة الثقافية هي الحلبة الرئيسة للدفاع والهجوم
املضاد ضد الهيمنة الغربية يف كل من العالقات الدولية كحقل معريف والعالقات الدولية
كمامرسة عملية .فكيف ميكن إذن لحقل العالقات الدولية العاملي معالجة هذه القضايا
من أجل الحفاظ عىل التخصص متامشيا مع النظام العاملي مابعد الغريب الناشئ؟
أو «املعضالت املوجهة نحو قضايا معينة» ( )Walt, 2005: 33يف الشؤون الدولية
وترشحها مبساعدة «اآلليات السببية املقبولة عىل نطاق واسع» الخاصة بحقل
العالقات الدولية ،وهي اآلليات السببية التي تحدد العالقة بني مختلف املتغريات
( .)Jackson and Nexon, 2013: 548تقع األغلبية العظمى من تلك األعامل
الواردة يف مجالت حقل العالقات الدولية الرئيسة يف الواليات املتحدة ضمن هذه
الفئة ( ،)Jackson and Nexon 2013: 548عىل الرغم من أن هذا ال ينطبق كث ًريا
عىل مجالت حقل العالقات الدولية األوروبية التي يحتفظ معظمها بطيف واسع
من املقاربات اإلبستمولوجية (املعرفية) .ومجالت العالقات الدولية الصاعدة يف
آسيا تحتوي ً
أيضا عىل (املجلة الصينية للسياسة الدولية ،العالقات الدولية ملنطقة
آسيا واملحيط الهادئ) مجموعة واسعة من املقاربات النظرية .وقد انتُقدت املقاربة
الوضعية الضيقة لكونها مقيد ًة باالفرتاضات اإلبستمولوجية واألنطولوجية السائدة
( )Dunne, Hansen and Wight, 2013: 418إلنتاج تعميامت مرشوطة أو عرضية
يف األغلب ( )Walt, 2005: 33وللرتكيز كث ًريا عىل «املعارف العملية ذات الصلة»
( )Reus- Smit, 2013: 601–3عىل حساب االبتكار النظري .ومن هنا يأيت الحديث
عن «نهاية النظرية الدولية» (()Dunne, Hansen and Wight, 2013٭).
إن صعود النظرية متوسطة املدى له آثار عديدة بالنسبة إىل أولئك الذين
يسعون بدفع نظرية العالقات الدولية لالنفتاح عىل العامل غري الغريب .فمن ناحية،
وسعت هذه النظريات من استخدام نظرية العالقات الدولية عىل نح ٍو عام .وقد
أثارت فضول الباحثني الغربيني بشأن العامل األوسع املكون من عديد من األقاليم،
وساعدت يف جذب اهتامم الباحثني غري الغربيني بنظرية العالقات الدولية .ومن
ناحية أخرى ،وإىل الحد الذي تتحدث فيه الكتابات التي تستخدم اختبار الفرضيات
والنظريات متوسطة املدى عن تحيز وضعاين ساحق يف حقل العالقات الدولية
(٭) ال يتفق الجميع مع «نهاية النظرية» يف العالقات الدولية .يقول كولجان ( )Colgan 2016إنه يف حني أن التمعن
بهدوء يف املجالت قد يُظهر الشعبية املتزايدة للنظريات متوسطة املدى واختبار الفرضيات ،فإن هذا يتناقض مع ما
يُد َّرس يف جامعات الواليات املتحدة عىل مستوى الدكتوراه (خصوصا «الندوات امليدانية») التي التزال تهيمن عليها
القضايا النظرية والتأطريية الكربى .ويجادل كريستنسن ( )Kristensen 12: 2018بأنه بينام يؤكد تحليل االقتباس
ملقاالت املجالت وجود فجوة آخذة يف االتساع بني العمل القائم عىل النظرية والنمذجة الكمية ،فإن هذا األخري ال
للتخصص»[ .املؤلفان].
ُّ يعد «متجاو ًزا
435
تشكيل العالقات الدولية العاملية
436
نحو حقل عالقات دولية عاملي
وخلق معايري جديدة إلصالح وتعزيز النظام العاملي(٭) .ثان ًّيا ،حققت البنائية تقدما
يف دراسة الديناميات اإلقليمية وذلك من ِقبل الباحثني الغربيني وغري الغربيني
(see, e.g.Barnett, 1995, 1998on the Middle East; Kacowicz, 2005
and Sikkink, 2014on Latin America; Johnston, 1998 and Hemmer
and Katzenstein, 2002on East Asia; and Acharya, 2001a, 2004,
)2009, 2011bon Southeast Asia and Asian regionalism in general
وقد ركز الكتاب البنايئ املؤثر الذي حمل عنوان «مجتمعات األمن» (Security
) Communities Adler and Barnett, 1998إىل حد كبري عىل األقاليم ،سواء
أعاماًل ال تقدر بثمن يف تحفيزً يف أوروبا أو خارجها .فكل هذه األدبيات كانت
النقاشات املوجهة بالنظرية والتحليل والتواصل بني الباحثني الغربيني وغري الغربيني.
رسا ً
قياًم بني تقليد دراسات ومع تركيزها عىل الثقافة والهوية ،وفرت البنائية ج ً
املناطق املشهور يف أدبيات حقل العالقات الدولية يف العامل غري الغريب ومراكز حقل
العالقات الدولية يف الغرب .وكام كتب باحث ماليزي يف العالقات الدولية (Karim,
)« ،2007التفكري يف السياق البنايئ كان أفضل هدية متاحة للباحثني والقادة يف
املنطقة» .وعىل رغم ذلك ،التزال البنائية إىل حد كبري مرشوعا ذا مركزية غربية.
ففي حني أن البنائية قد تجاوزت امتيازها األويل للمعايري الغربية وأنصار القيم،
فإنها استمرت يف إهامل قضايا العرق وحضارات ما قبل الويستفالية يف آسيا والرشق
األوسط وأماكن أخرى ،والتي قد تجلب رؤى جديدة لنظرية العالقات الدولة من
خارج املصادر املركزية يف الغرب .وقد وجدت دراسة حديثة ُتحلل مجموعة بيانات
واسعة النطاق قامئة عىل املجالت العلمية (Bertucci, Hayes and James, 2018:
) 23أنه عىل الرغم من مكانة البنائية باعتبارها البديل النظري الرائد للمقاربة
العقالنية لدراسة العالقات الدولية يف إطار نطاقها الجوهري والتجريبي ،فإن البنائية
ال تبدو مختلفة كث ًريا عن البدائل العقالنية مثل الواقعية والليربالية .ففي جميع
الحاالت ،تركز األبحاث يف املقام األول عىل العمليات والنتائج األمنية التي تحدث يف
(٭) بشأن الفاعلية املعيارية للجنوب العاملي ،انظر الحوكمة العاملية ( )2014مبساهامت من إريك هيليرن (التنمية
الدولية) ،وكاثرين سيكينك (حقوق اإلنسان) ،ومارثا فينيمور وميشيل جوروفيتش (املشاركة العاملية) وأميتاف أشاريا
(التأثري املعياري للعام )1955املؤمتر اآلسيوي األفريقي يف باندونغ بشأن حقوق اإلنسان والسيادة ونزع السالح
واألمم املتحدة .راجع ً
أيضا املقاالت يف ([ .)Weiss and Roy 2016املؤلفان].
437
تشكيل العالقات الدولية العاملية
منطقة شامل األطليس وأوروبا .من الجانب اآلخر ،يبدو أن معظم األبحاث العالئقية
يف شامل رشق آسيا تقوم فقط باتصاالت ضعيفة مع األبحاث الجارية تحت التسمية
نفسها يف الواليات املتحدة (،)Qin, 2009, 2016, 2018; Shih and Yin, 2013
عىل الرغم من أن هذا األمر يشهد اآلن تغيريا (.)Qin, 2018
يؤدي هذا إىل الحديث عن االتجاه الرابع الخاص بالعقد املايض ،وهو :استمرار
الهيمنة األمريكية والغربية عىل الصعيد املؤسيس وأيضا عىل صعيد وضع األجندة
النظرية لحقل العالقات الدولية .هناك بعض الخالف بشأن وجود أو مدى وجود
الهيمنة األمريكية .حيث يؤكد نورمان باملر ( )347 :1980أن «العالقات الدولية هي
مجال بحث دويل ،وال يقترص فقط عىل العلوم االجتامعية ،وله عديد من الجذور
واألصول ،ولكن ليس جميعها متجذرا يف الواليات املتحدة األمريكية ...فالعالقات
الدولية مل يبتكرها األمريكيون؛ وسيكون من األدق أن نقول إنه مجال «منا من
فوره» .وعىل رغم ذلك ،فإن هذا الرأي ال يتوافق مع حقيقة أن عديدا من الباحثني،
سواء كانوا أمريكيني أو ال ،يعتربون األصول الربيطانية واألمريكية لهذا التخصص أم ًرا
مفرو ًغا منه ويتجاهلون أصوله األكرث تنوعًا .إذ يجادل توين بورتر (Tony Porter
) 2001: 131ضد وجود أي هيمنة أمريكية فردية ألنه ال يوجد يشء مشرتك بني
الباحثني األمريكيني غري جنسيتهم .ويتساءل «ما القاسم املشرتك بني كينيث والتز
وريتشارد أشيل وسينثيا إنلو وكريغ موريف؟».
عالوة عىل ذلك ،ومبا أن حقل العالقات الدولية األمرييك له جذو ٌر أوروبية
قوية نظ ًرا إىل تأثري باحثني مثل هانز مورغانثو أو كارل دويتش ،فإنه ميكن التشكيك
يف الوسيلة التحليلية املتعلقة بالجنسية يف صياغة هوفامن بشأن «علم االجتامع
األمرييك»( .)Porter 2001: 137لكن هذا يتجاهل حقيقة أن تنوع الفكر واملقاربة
داخل الواليات املتحدة اليزال محدودًا .وعىل املرء أن يسأل عام إذا كان األوروبيون
املوجودون عىل األرايض األمريكية سيكونون قد أحدثوا تأثريهم لو بقوا يف بلدانهم
األصلية وما إذا كان ذلك كاف ًّيا لجعل حقل العالقات الدولية أقل متركزًا حول العرق؟
يف اآلونة األخرية ،ظهرت رؤى تنقيحية أكرث تعقيدًا وتنوعًا ألصول حقل العالقات
الدولية تتحدى صياغة هوفامن .إذ يجادل البعض بأن التنوع موجود بالفعل
( .)Maliniak et al., 2018ويقدم علم االجتامع التنقيحي ألدبيات حقل العالقات
438
نحو حقل عالقات دولية عاملي
الدولية روايات مختلفة عن أصول هذا التخصص يف أماكن مختلفة؛ حيث يدَّعي هاجامن
وبريستكر أن «التخصص ُيفهم اليوم أنه تطور يتأىت من سلسلة من املصادر واملؤسسات
بد ًءا من النظرية السياسية؛ ومرورا باالستعامر واألنرثوبولوجيا؛ ووصوال إىل معهد كولونيال
إنستيتوت يف هامبورغ أو عصبة األمم يف جنيف» ) .(2014: 294–5لكن هنا مرة أخرى،
ميكن طرح السؤال :من ِق َبل َمنْ ُف ِه َم التخصص؟ رمبا ُف ِه َم فقط من ِقبل عدد قليل
من الباحثني الذين يركزون بالفعل عىل علم اجتامع هذا التخصص ،مثل هاجامن
وبريستكر أنفسهام .يجب أن يكون املرء دقي ًقا فيام إذا كانت األغلبية العظمى من
املدربني واملتدربني عىل دراية بهذه األصول املتنوعة ملوضوعهم أو يأخذونها عىل
محمل الجد .ويف حني أن هاجامن وبريستكر عىل حق يف قولهام إن علم اجتامع
حقل العالقات الدولية أصبح متشك ًكا يف «فكرة مجتمعات حقل العالقات الدولية
الوطنية أو القارية املتجانسة» ،فإن االدعاء املصاحب لهذا والقائل بأن أدبيات
هذا التخصص «وسعت نطاق الرتكيز عىل نح ٍو كبري إىل ما وراء الغرب ،كام وسعت
تقييم مامرساته عىل نح ٍو منهجي يف مناطق أخرى من العامل» (Hagmann and
ُ )Biersteker, 2014: 296ي َعدُّ ادعا ًء مبال ًغا فيه ،مثلام يتضح ذلك من الدراسات
االستقصائية األخرية (والتي تتضمن مزيدا الحقا).
وحتى أولئك الذين يتفقون بشأن الهيمنة األمريكية أو الغربية عىل حقل
العالقات الدولية ال يتفقون فيام إذا كان هذا ُي َعدُّ أمرا جيدًا أو سيئًا .فبعد تحرسه
عىل «الرؤية العاملية املحدودة» لـ «عديد من الباحثني األمريكيني ...عندما يتعلق
األمر بتدريس الطالب الجامعيني أو كتابة الكتب املدرسية» ،يعزو فريدريكس
( )2004 :17للهيمنة األمريكية فضل املساعدة يف الحفاظ عىل متاسك هذا املجال
املعريف .وبالنسبة إليه« ،التوافق بني الهيمنة الفكرية لحقل لعالقات الدولية
األمرييك وواقع سياسات القوة» يجب أال يكون أم ًرا سيئًا ،ألنه «من الطبيعي
بالنسبة إىل حقل العالقات الدولية األمرييك أن يضع األجندة الفكرية بشأن القوة
أيضا» .عالوة عىل ذلك ،فإن «قوة حقل العالقات الدولية األمرييك هي الدولية ً
مصدر مهم للرشعية ألجل أقسام الجامعات الضعيفة املوجودة يف دول األطراف...
هناك إجامع واسع عىل أن حقل العالقات الدولية األمرييك هو املكان الذي يجري
فيه العمل ،ومبعنى ما فإن باحثي العالقات الخارجية يف دول األطراف هم ببساطة
439
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف خدمة مصالحهم الحقيقية أو املتصورة عند اإلشادة بعلم االجتامع األمرييك».
يرى البعض أن نظريات العالقات الدولية الحالية كافية لرشح التطورات يف العامل
غري الغريب ،مثل آسيا ،ألنه عىل الرغم من سامتها املميزة ،فقد دُمجت هذه األخرية
عىل نح ٍو تدريجي يف النظام الدويل الحديث املنبثق عن أوروبا و َت َبن َّْت معايريه
وخصائصه السلوكية ( .)Ikenberry and Mastanduno, 2003: 412–23ثم هناك َ
ً
جون مريشامير ( )2016: 9–147الذي مبيله املميز إىل االستفزاز ،ال يجد شيئًا خطأ يف
الهيمنة األمريكية عىل التخصص ألنها هيمنة «حميدة».
ال تعكس وجهة نظر جون مريشامير املطمئنة الرضائية تجارب منع عديد
من الباحثني يف دول األطراف الذين يحاولون الوصول إىل املجالت والنارشين
ً
أشكااًل أكرث دقة الغربيني ،حيث تشكل اللغة؛ والثقافة؛ واألسلوب؛ واملوضوع؛
وغري مبارشة من اإلقصاء .سيكون من املثري لالهتامم أن نرى كيف سيؤثر
انتشار مجالت حقل العالقات الدولية والنارشين املوجودين خارج الغرب يف
هذا العنرص من الهيمنة الغربية املستمرة .وسواء كان املرء يرى أن الهيمنة
األمريكية داخل حقل العالقات الدولية جيد ًة أو سيئ ًة ،فمن املهم أن نالحظ،
كام جادلنا يف الفصل الثامن ،أن تلك الهيمنة تقف يف بعض النواحي عىل
ُأسس هشةُ .ي َعد حقل العالقات الدولية األمرييك مهيمنًا عىل نح ٍو أسايس عىل
أسس مادية ألنه كبري (كام يشري الحجم النسبي لـجمعية الدراسات الدولية،
رمبا اليزال باحثو ومؤسسات حقل العالقات الدولية األمرييك يشكلون أغلبية
باحثي ومؤسسات حقل العالقات الدولية عىل املستوى العاملي) ،وغني ويوجد
يف القوة العظمى الوحيدة .أما الوضع الفكري لحقل العالقات الدولية األمرييك
فهو أقل هيمنة ،حيث يرفض الكثريون داخل الغرب وخارجه ارتباطه بالعلوم
السياسية ونظرية املعرفة الوضعانية .ونظ ًرا إىل انخفاض الحجم النسبي لحقل
العالقات الدولية األمرييك وثروته مع صعود هذا الحقل يف أوروبا ،واليابان،
والصني ،والهند ،وتركيا وما إىل ذلك ،فقد نتوقع تراجع الهيمنة األمريكية عىل
نح ٍو متناسب عىل رغم ذلك الصعود .وسيبدأ حجم وثروة حقل العالقات
الدولية يف آسيا وأماكن أخرى يف تحدي األساس املادي للهيمنة األمريكية ،كام
سيرشع يف ابتكار خطوط تفكريه الخاصة للتنظري لهذا الحقل ،متا ًما كام فعلت
440
نحو حقل عالقات دولية عاملي
أوروبا .من هذا املنظور ،فإن الهيمنة األمريكية هي عقبة ميكن إزالتها من
طريق التوجه نحو حقل العالقات الدولية العاملي.
باختصار ،لقد ُح ِّققت بالفعل درجة معينة من التنوع يف التفكري الحايل لحقل
وضحاًل .إن التنوع ليس مجرد مسألة ً العالقات الدولية ،لكنه اليزال تنوعا ضعي ًفا
أيضا بهوية املجموعة :من هو املَ ْش ُمول
توجه نظري أو منهجي .بل يتعلق األمر ً
ومن هو ا ُمل ْس َت ْب َعد .عىل سبيل املثال ،استنادًا إىل مراجعته لحالة االقتصاد السيايس
الدويل ،يجادل كوهني ( )2014: 132–3بأن االقتصاد السيايس الدويل مل يعد منعز ًاًل
أو ُم َه ْي َمنًا (تهيمن عليه «املدرسة األمريكية»)« :عرب العامل ،تعد خطوط االتصال بني
الباحثني مفتوحة يف األغلب ...لكن الروابط تختلف يف حدتها وتكون غري متساوية
يف أحسن األحوال .ولكن ما هو موجود اآلن ليس تنوعًا مبعنى األخذ والعطاء
املتبادلني للمعرفة واألفكار بني جامعات االقتصاد السيايس الدويل املختلفة ،والذي
من شأنه أن ميثل النوع املثايل للتنوع القائم عىل «تدفقات املعلومات املتناسقة
أيضا « ُمستوردين» لهاعىل نح ٍو معقول ،مع وجود « ُم َص ِّد ِرين» للمعرفة يكونون ً
من مصادر أخرى» ( .)Holsti, 1985: 13وميكن أن ينطبق هذا عىل مجال العالقات
الدولية ككل .إن هذا التنوع العميق اليزال بعيد املنال ،ومعالجة هذا الضعف هي
هدف رئيس لحقل العالقات الدولية العاملي.
من الواضح أن مراجعة كل من الدراسات االستقصائية األقدم واألكرث حداثة
يف هذا املجال تشري إىل أن كثريا من التنوع الذي يطالب به الباحثون الغربيون
غالبا ما يشري إىل التنوع داخل املَ ْر َكز ،وبني النظريات السائدة الثالث :الواقعية؛
والليربالية؛ والبنائية .فمنذ ما يقرب من العرشين عا ًما ،أشار كاليفي هولستي،
مؤلف العمل املشهور عن التنوع التخصص املعريف املقسم (The Dividing
) ،Disciplineإىل أن «الجوانب النظرية للسياسة الدولية مل تعد يف األغلب
مرشوعًا أمريك ًّيا» ( .)Holsti, 2001: 90لكن إشارته إىل «العمل النظري النابض
«أساسا» لألبحاث الدراسية ً بالحياة» الذي ُيجرى خارج الواليات املتحدة كان
يف اململكة املتحدة وأوروبا الغربية ،مبا يف ذلك الدول اإلسكندنافية ،وكذلك
أسرتاليا وكندا .وباملثل ،فإن فكرة ويفر ( )1998 :688عن مجال «أكرث تعددية
وتواز ًنا» يف حقل العالقات الدولية كانت تدور عىل نح ٍو أسايس حول توقع
441
تشكيل العالقات الدولية العاملية
443
تشكيل العالقات الدولية العاملية
تجدر اإلشارة إىل أن هيمنة الواليات املتحدة عىل حقل العالقات الدولية ال
أيضا يف الكتب املدرسية توجد فقط يف األدبيات النظرية ذات املستوى العايل ولكن ً
التمهيدية .فقد وجد نوسال ) )Nossal 2001: 168أن «الخصائص «األمريكية»
نفسها التي نسبها ستانيل هوفامن إىل تخصص العالقات الدولية تنعكس بأكملها يف
الكتب املدرسية لحقل العالقات الدولية التي ُتستخدم لتعريف الطالب بهذا املجال
املعريف» .كام أن حقل العالقات الدولية األمرييك كان ضيق األفق من حيث نوعية
تعليم الدكتوراه الذي أنتجته الجامعات األمريكية ،والذي أصبح «عقالن ًّيا ووضعان ًّيا
يف توجهه النظري» .وبالنظر إىل طبيعة ضيق األفق األمرييك باعتباره «عقالن ًّيا،
ووضعان ًّيا ،ومتمركزا حول الواليات املتحدة ،وأحادي اللغة ،وحديث النرش ،و ُك ِتب
من طرف الرجال» ،فإنه مل يتمكن من إظهار «كوزموبوليتانية نظرية» كام يتجىل
ذلك يف «امل ْيل ا ُملت ََضا ِئل إىل االنخراط يف التقاليد النظرية التي ُط ِّورت خارج أمريكا»
( .)Biersteker, 2009: 320وكل هذا يشري فقط إىل وجود تقدم محدود لحقل
العالقات الدولية نحو تنوع عاملي أعمق.
يف ظل هذه الخلفيات ،ليس من املستغرب أن تتزايد األصوات الداعية إىل
جعل العالقات الدولية أقل متركزًا حول الواليات املتحدة .ففي تناقض ملحوظ
مع منظور «الهيمنة الحميدة» ،أصبح الباحثون من الجنوب العاملي واملتعاونون
معهم والباحثون املتشابهون يف التفكري من الغرب رصيحني عىل نح ٍو متزايد يف
تسليط الضوء عىل ضيق األفق املستمر ألبحاث العالقات الدولية السائدة (some
examples, far from exhaustive, would include: Neuman, 1998; Ling,
;2002, 2010; A. B. Tickner, 2003a, b; Chowdhry and Nair, 2004
Thomas and Wilkin, 2004; K. Smith, 2006; Acharya and Buzan,
;2007a, b, 2010; Bilgin, 2008, 2013; Agathangelou and Ling, 2009
Tickner and Wæver, 2009a; Behera, 2010; Shilliam, 2010; Acharya,
).2011a, 2014a; Tickner and Blaney, 2012
لقد كان موضوع اتفاقية جمعية الدراسات الدولية للعام 2015يف مدينة
نيو أورلينز« ،العالقات الدولية العاملية والعوامل اإلقليمية» ،مبنزلة نقطة محورية
لتسليط الضوء عىل الهيمنة األمريكية والغربية لحقل العالقات الدولية .وقد كان
444
نحو حقل عالقات دولية عاملي
استخدام رئيس جمعية الدراسات الدولية ISAالحايل أميتاف أشاريا ملصطلح حقل
العالقات الدولية العاملي ً Global IR
بداًل من نظرية العالقات الدولية غري الغربية
Non-Western IR theoryاستخدا ًما متعمدًا ،ويهدف إىل معالجة بعض املخاوف
التي أثريت ضد هذا األخري ،مبا يف ذلك من الباحثني املشتغلني بشأن قضايا الجنوب
العاملي .لقد ُخ ِّصص ما يقرب من ربع العدد اإلجاميل للهيئات والطاوالت املستديرة
يف اتفاقية نيو أورلينز ملوضوع املؤمتر ،والذي سجل ً
رقاًم قياس ًّيا تاريخ ًّيا وأظهر
مستوى االهتامم الذي ولدته فكرة حقل العالقات الدولية العاملي بني أعضاء جمعية
الدراسات الدولية .قبل عقد املؤمتر بقليل ،أصدر مسح TRIPللعام 2014تقريره.
وكان من بني النتائج التي توصل إليها أن أغلبية واضحة من املستجيبني يعتقدون
أن حقل العالقات الدولية يهيمن عليها األمريكيون والغرب(٭) .وعندما سأل مسح
TRIPعام إذا كان حقل العالقات الدولية ميثل تخصصا يهيمن عليه األمريكيون،
وافق 49يف املائة ووافق 11يف املائة بشدة ،ليصبح املجموع 60يف املائة .وعندما
سأل املسح عام إذا كان حقل العالقات الدولية ميثل تخصصا يهيمن عليه الغرب،
كانت النتيجة أن 53يف املائة وافقوا ،و 22يف املائة وافقوا بشدة .ومن ثم ،وافق 75
يف املائة من إجاميل عدد املستجيبني أو وافقوا بشدة عىل أن حقل العالقات الدولية
هو تخصص يهيمن عليه الغرب (For details, see Wemheuer-Vogelaar et al.,
) .2016وللمرة األوىل ،يف مؤمتر نيو أورلينز نفسه ،حصل باحث من خارج الغرب
(الصني) ،تانغ ،عىل جائزة أفضل كتاب من جمعية الدراسات الدولية (عىل أساس
مشرتك) ،لعمله النظري بعنوان «التطور االجتامعي للسياسة الدولية» The Social
.(Tang, 2013) Evolution of International Politics
مل يتبني بعدُ ما إذا كانت هذه نقطة تحول أو مرحلة عابرة .وعىل أقل تقدير،
يبدو أن هناك وع ًّيا متزايدًا يقطع الفجوة بني الغرب والبقية ،ويرى أن نظرية العالقات
الدولية تحتاج إىل أن تكون أكرث تعبريا عن الجنوب العاملي وأن تأخذ اتجاه حقل
العالقات الدولية العاملي ) .(Eun, 2016; Dunne and Reus-Smit, 2017رمبا يكون
قسم مسح TRIPللعام 2014العينة بحيث تلقى املستجيبون السؤال إما بالهيمنة األمريكية وإما الهيمنة (٭) َّ
الغربية (والتصدي الح ًقا لهذه الهيمنة) وإما الهيمنة الغربية[ .املؤلفان].
445
تشكيل العالقات الدولية العاملية
446
نحو حقل عالقات دولية عاملي
يف العام 2007نرشنا ندوة بشأن العالقات الدولية ملنطقة آسيا واملحيط
الهادئ« ،ملاذا ال توجد نظرية عالقات دولية غري غربية؟» .هناك ،ويف كتاب الحق
( ،)Acharya and Buzan, 2010طرحنا ذلك السؤال كتح ٍد لباحثي حقل العالقات
الدولية اآلسيويني للحصول عىل أصواتهم وتاريخهم يف املناقشات العاملية بشأن
كيفية التفكري يف حقل العالقات الدولية ،سواء من أجلهم أو من أجل رضورة التطور
ناقشت هذه املشاريع أسباب عدم وجود حقل ْ املتوازن للتخصص املعريف .وقد
عالقات دولية غري غريب أو حقل عالقات دولية عاملي .باختصار ترتاوح تلك األسباب
بدءا من ميزة السبق األول للباحثني الغربيني ،مرورا بالتدريب املكثف للباحثني
اآلسيويني (واألكرث عمو ًما غري الغربيني) يف الواليات املتحدة والوضع املهيمن
للباحثني الغربيني واملنشورات واملؤسسات الغربية يف حقل العالقات الدولية؛ وصوال
إىل االعتقاد السائد بأن حقل العالقات الدولية الغريب قد اكتشف الطريق الصحيح
لفهم العالقات الدولية أو اإلجابات الصحيحة أللغاز ومشاكل زمننا الحايل ،وهذا
باإلضافة إىل نقص خطري يف املوارد املؤسسية ومشكلة اللغة اإلنجليزية بوصفها لغة
مهيمنة عىل حقل العالقات الدولية .هناك ً
أيضا قضية القبول غري النقدي للنظرية
الغربية؛ وانعدام الثقة ملن يواجه ا ُملن َِّظرين الغربيني؛ واالحرتام األعمى للباحثني
القادمني من املؤسسات الغربية املرموقة؛ واالنخراط السيايس الزائد لباحثي
العالقات الدولية يف جامعات العامل النامي .وقد أظهرت متابعة ذلك اإلصدار أن
هذا العمل كان له صدى وتأثري خارج املنطقة (.)Acharya and Buzan, 2017
وهدفنا يف هذا الكتاب هو تجديد التحدي الذي يواجه باحثي العالقات الدولية
عىل نطاق أوسع وإعادة تركيز ذلك التحدي ،آملني أن يسهم ذلك يف بناء حقل
عالقات دولية عاملي.
لقد أثارت فكرة نظرية العالقات الدولية غري الغربية الجدل .فالبعض يفضل
تسمية املرشوع الجديد بـ «ما بعد الغريب» ( ،)Shani, 2008: 723مع أجندة أكرث
راديكالية للتنصل من حقل العالقات الدولية «الغريب» وإزاحته .وبالنسبة إلينا،
تفرتض فكرة ما بعد الغرب نهاية الهيمنة الغربية كحقيقة موضوعية أو كطموح
معياري ،وال ُي َعد أي منهام دقي ًقا أو مفيدًا لغرض جعل نظرية العالقات الدولية
أكرث شمو ًاًل .يف الوقت نفسه ،كام تالحظ بيلجني ،فإن فكرة األبحاث غري الغربية
447
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف حقل العالقات الدولية ال تعني الخضوع السلبي ملعرفة التخصص التي ُأنشئت
عن طريق الغرب .فام ميكن اعتباره غري غريب ال ينشأ بالرضورة من «التغريب
الغايئ» ،وتلك التي ال تبدو مختلفة جذر ًّيا ولكن يبدو أنها مؤطرة ضمن فئات
ومفاهيم نظرية العالقات الدولية الغربية ال ميكن رفضها وكأنها «زوجات ستيبفورد
الروبوتية»(٭) بالنسبة إىل حقل العالقات الدولية الغريب .وتخلص بلجني إىل أن مثل
هذا املوقف «يرفض فاعلية الباحثني غري الغربيني» ويصورهم عىل أنهم محاكون
من دون تفكري» (.)Bilgin, 2008: 13
يف هذا السياق توصل كل منا إىل تقدير بعض األفكار الرئيسة ملا بعد
االستعامرية ،إذ نقف إىل جانب حملتها الرامية إىل استعادة التوازن اإلدرايك ضد
املركزية األوروبية ،وإعادة غري الغرب إىل تاريخ العامل عىل نحو كامل ،وإبراز التأثري
املستمر لكل من التهجني الثقايف واالستياء املستمر من االستعامر والعنرصية يف حقل
العالقات الدولية .وعىل رغم ذلك فإننا ال نقبل بالرضورة كل الطروحات السياسية
والفلسفية واللغوية ملا بعد االستعامرية ،ونحن ندرك اعتامدها اإلشكايل عىل كل
من اللغات األوروبية والفالسفة الغربيني (ما بعد الحداثة) .وإذا كانت أطروحة
إدورد سعيد الرئيسة ،كام قال دان كينيدي ( ،)Dane Kennedy 1996: 347ترى
أن «تفكيك أمناط الهيمنة الغربية يتطلب تفكيك هياكل املعرفة الغربية» ،فليس
من الواضح عىل اإلطالق أن ما بعد االستعامرية قد حققت هذا الهدف.
ً
حاساًم من لقد خدمت تسمية «نظرية العالقات الدولية غري الغربية» ً
غرضا
خالل توليدها للنقاش الذي لفت االنتباه إىل ضيق أفق حقل العالقات الدولية.
وأحد االنتقادات التي أخذناها بعني االعتبار يف العدد الخاص بالعالقات الدولية
للعام 2007بخصوص قضية آسيا واملحيط الهادئ الخاصة ،والذي أصبح أكرث برو ًزا
(٭) زوجات ستيبفورد Stepford Wivesهو عنوان رواية للمؤلف األمرييك إيرا ليفن Ira Levinنرشت يف العام
،1972وتحولت إىل فيلم يف العام ،1975وأعيد إنتاجه يف العام .2004تدور الرواية حول سكان جدد لضاحية
أمريكية ،يالحظون أن الزوجات يف الضاحية يف منتهى الخضوع والطاعة ألزواجهن ،وعندما ُّ
يشكون يف األمر،
يكتشفون أن الزوجات عبارة عن روبوتات آلية Robotsمن صنع األزواج .والهدف من تحويل الزوجات إىل روبوتات
هو جعل الزوجات تقبل حياة الضواحي اململة الرتيبة وتقبل ترك األزواج لهن فرتات طويلة للعمل يف املدينة ،مع
الطاعة املطلقة من دون نقاش طبعاً وتنفيذ األوامر .وقد صار مصطلح «زوجات ستيبفورد» جزءا من الثقافة العامة
وأصبح يستخدم لإلشارة إىل الخضوع التام[ .املرتجم].
448
نحو حقل عالقات دولية عاملي
منذ ذلك الحني ،هو أن العوملة وتقارب الدخل يجعالن الفئات الغربية وغري الغربية
والتمييز بني املركز واألطراف أقل أهمية ،خاصة يف عرص القوى الصاعدة مثل الصني
والهند .ومثلام أوضحت الفصول السابقة لهذا الكتاب ،فقد كان هناك تقدم حقيقي
من التاميز والفصل الكيل تقري ًبا بني املركز واألطراف يف العالقات الدولية كحقل
معريف وكمامرسة خالل القرن التاسع عرش ،يتجه نحو عمليات التقاطع واالندماج
الجوهرية بينهام خالل القرن الحادي والعرشين .ظلت عديد من مكونات حقل
العالقات الدولية يف طور التكوين منذ القرن التاسع عرش .ومع ذلك ،وعىل الرغم
آخذ يف التوسع وأن الحواجز التي تفصله عن األطراف آخذ ٌة يف التآكل، من أن املركز ٌ
فإن هذه الفروق التزال لها بعض الفائدة .إذ يظل مصطلح «الغرب» مفيدًا سياسيا
وثقافيا لكل من القوى الصاعدة يف تحديد هويتها ،ومفيدا أيضا لألمم الغربية (يف
أيضا كام رأينا يف أزمة أوكرانيا ،يف التعامل ليس فقط مع غري األوروبيني ،ولكن ً
التعامل مع مجتمعات روسيا وأوروبا الرشقية).
ولكن يف حني أن فكرة حقل العالقات الدولية العاملي هي امتداد ملفهومنا
عن حقل العالقات الدولية غري الغريب ،فإنها تتجاوزه ألسباب معيارية و َذ َرا ِئ ِعية.
ال ميكن أن يكون مرشوع جعل حقل العالقات الدولية حقال عامليا مجرد محادثة
بني ذوي التفكري املامثل ،سواء كانوا من التيار السائد لحقل العالقات الدولية أو
من بدائله النقدية وما بعد االستعامرية .نحن نرفض فكرة االختيار الصفري بني
حقل العالقات الدولية السائد ومنافسيه النقديني والثقافيني .فكل األطراف لديها
الكثري لتقدمه ،وال أحد يحتكر الحقيقة أو البصرية .والعامل الحقيقي الذي ُيبنَى من
خالل التعددية العميقة يحتاج إىل وجود حقل عالقات دولية عاملي يعكس ويفهم
هذا الهيكل ،سواء من حيث التاريخ الذي أنشأه ،أو من حيث املوروثات السياسية
املتأتية من ذلك التاريخ والتي تستمر يف تشكيل السياسة العاملية .إن كشف
التفاعل بني العالقات الدولية باعتبارها حقال معرفيا والعالقات الدولية باعتبارها
مامرسة عملية ،وكيف انتقلت األشياء من التاميز الشديد بني املركز واألطراف نحو
زيادة التكامل بينهام ،كان هو هدفنا يف هيكلة هذا الكتاب كام فعلنا .واعتبا ًرا من
وقت كتابة هذا الكتاب ،أصبحت األجزاء املك ِّونة لحقل العالقات الدولية العاملي
وضوحا ،وصارت املهمة هي تجميع تلك األجزاء م ًعا.
ً أكرث
449
تشكيل العالقات الدولية العاملية
من املرجح أن يفشل حقل العالقات الدولية العاملي إذا مل يجتذب أكرب قدر من
الباحثني ،مبا يف ذلك النقاد وأولئك الذين ينتمون إىل التيار الغريب السائد .وتكمن
املشكلة يف كيفية ابتكار حقل العالقات الدولية العاملي واالستمرار يف التعامل مع
أولئك الذين متدرسوا داخل تقاليد حقل العالقات الدولية الحايل ،وذلك يف حوار
ذي أهمية ثنائية االتجاه ( .)Acharya, 2011aإن التسميات مهمة جدا .وال يرفض
حقل العالقات الدولية العاملي مصطلحات «غري غريب» أو «ما بعد غريب» ،لكنه
ينظر إليها «كجزء من تح ٍّد أوسع إلعادة تصور حقل العالقات الدولية باعتباره
تخصصا عامل ًّيا» ( .)Acharya, 2014a: 649حيث يتجاوز حقل العالقات الدولية ً
العاملي التمييز بني الغريب وغري الغريب أو أي فئات ثنائية مامثلة وحرصية عىل نحو
متبادل .ويف حني أن هذه الفئات قد تستمر كرشوط مالمئة ،فإنها تفقد أهميتها
التحليلية يف عامل حقل العالقات الدولية العاملي ،فحقل العالقات الدولية العاملي
يتجاوب مع املحاوالت الرامية إىل جعل التخصص أكرث شمو ًاًل ،ويكمله من خالل
تحقيق «العوملة الثقافية(٭) ما وراء الغرب» (worlding beyond the West
).Tickner and Wæver, 2009a
يف هذه املرحلة يجب تقديم بعض التوضيحات بشأن فكرة حقل العالقات
الدولية العاملي .أو ًاًل ،إن حقل العالقات الدولية العاملي ليس نظرية أو ً
منهجا ،إنه
إطا ٌر للتحقيق وتحليل العالقات الدولية بكل تنوعها ،خصوصا مع االعرتاف الواجب
بتجارب وأصوات وفاعلية الشعوب واملجتمعات والدول غري الغربية التي هُ ِّمشت
حتى اآلن يف التخصص .إن فكرة حقل العالقات الدولية العاملي تحث املجتمع
العلمي لحقل العالقات الدولية عىل تجاوز األصول األمريكية والغربية وهيمنتها عىل
التخصص ،واعتناق قدر أكرب من التنوع ،ال سيام من خالل التعرف عىل أماكن وأدوار
ومساهامت الشعوب واملجتمعات غري الغربية ( .)Acharya, 2014aو ُيستَمد حقل
العالقات الدولية العاملي من مجموعة واسعة من التفاعالت البرشية ،مع أصولها
(٭) العوملة الثقافية /ورلدلينغ :worldingهي كلمة مشتقة من كلمة ( worldالعامل) وهي أحد املصطلحات
الرئيسة التي يستخدمها أصحاب نظرية ما بعد االستعامرية وتعني العملية التي يُجلب من خاللها شخص أو
أرسة أو ثقافة أو شعب إىل املجتمع العاملي األورويب /الغريب املهيمن .وهذه الكلمة تختلف باملعنى عن كلمة
( globalizationالعوملة) والتي تعني جعل اليشء – وليس بالرضورة أن يكون مجتمع أو ثقافة البرش – عامليا حيث
ترتكز العوملة عىل الجانب االقتصادي أكرث من الجانب االجتامعي[ .املحرر].
450
نحو حقل عالقات دولية عاملي
وأمناطها وفروقها املتعددة ،من أجل تحدي عالمات الحدود الحالية لـحقل العالقات
الدولية التي وضعتها األبحاث األمريكية والغربية املهيمنة ،كام يسعى إىل تشجيع
الفهوم واملقاربات الجديدة لدراسة السياسة العاملية .إنه مبنزلة إطار للنهوض بحقل
العالقات الدولية نحو تخصص شامل وعاملي ح ًّقا .ومن ثم ،فإن أجندة أبحاث
حقل العالقات الدولية العاملي تدعو الباحثني إىل اكتشاف أمناط ونظريات ومناهج
جديدة من تواريخ العامل؛ وتحليل التغريات الحاصلة عىل مستوى توزيع القوة
واألفكار بعد أكرث من مائتي عام من الهيمنة الغربية؛ واستكشاف العوامل اإلقليمية
ً
تكاماًل يف تنوعها الكامل وترابطها؛ واالنخراط يف املوضوعات واملناهج التي تتطلب
عمي ًقا وموضوع ًّيا للمعرفة املتخصصة ودراسات املناطق؛ ودراسة كيفية تداول
األفكار واملعايري بني املستويني العاملي واملحيل؛ والتحقيق يف التعلم املتبادل بني
الحضارات والذي يوجد عنه دليل تاريخي أكرث من ذلك املوجود بخصوص «صدام
الحضارات» (.)Acharya, 2014a
ثان ًيا ،ال ميكن لحقل العالقات الدولية العاملية أن َي ُح َّل -وال هو معني بذلك
أساسا -النقاشات القامئة بني «النامذج الفكرية» و«ال َّنزَعات» املختلقة لحقل
العالقات الدولية ،والتي ،كام أرشنا ساب ًقا ،أخذ كل واحد منها مساره املختلف.
منوذجا فكر ًيا ميكن وضعه جن ًبا إىل جنب
ً إن حقل العالقات الدولية العاملي ليس
مع املقاربات النظرية األخرى .فحقل العالقات الدولية العاملي يدعو إىل التوليف/
الرتكيب أكرث مام يدعو إىل اختيار مقاربة واحدة عىل حساب األخرى.
ثال ًثا ،ال يتوقع مصطلح حقل العالقات الدولية العاملي أن ينخرط املجتمع
املعريف لحقل العالقات الدولية يف محادثة عاملية واحدة بشأن النظرية أو املنهج.
إذ يجب أن تحدث املحادثات العاملية عرب الحدود الوطنية واإلقليمية ،كام هو
الحال مع االتفاقيات التي تنظمها جمعية الدراسات الدولية ،ISAواللجنة العاملية
للدراسات الدولية ،WISCوالجمعية األوروبية للدراسات الدولية .EISAنحن
بالتأكيد نشجع مزيدا من مثل هذه الحوارات .لكن حقل العالقات الدولية العاملي
ال يقترص عىل حوار عاملي واحد ،مثلام يفرس البعض موقفنا عن طريق الخطأ (see
) .Maliniak et al, 2018: 34بل إن حقل العالقات الدولية العاملي يشعر باالرتياح
حيال عديد من املحادثات املتوازية التي تجريها املجموعات التي يشرتك أعضاؤها
451
تشكيل العالقات الدولية العاملية
453
تشكيل العالقات الدولية العاملية
- 6إنه يعرتف بأشكال متعددة من الفاعلية تتجاوز الدولة والقوة املادية ،مبا
يف ذلك املقاومة والعمل املعياري وال ُبنى املحلية للنظام العاملي.
- 7إنه يستجيب للعوملة املتزايدة يف العامل ،ليس فقط من حيث انتشار الرثوة
أيضا من حيث الرتابط املتزايد واملصائر املشرتكة. والقوة والسلطة الثقافية ،ولكن ً
رشح موجز لكل من هذه األبعاد: وفيام ييل ٌ
أو ًاًل وقبل كل يشء ،يدعو حقل العالقات الدولية العاملي إىل ٍ
فهم جدي ٍد للعاملية
الش ُمولِية ،فاملعنى السائد للعاملية يف العالقات الدولية اليوم هو التجانس، أو ُّ
ً
ارتباطا وثي ًقا بعاملية التنوير .وكام ويحمل معنى «ينطبق عىل الجميع» .إنه يرتبط
قال روبرت كوكس (« :)2002: 53يف التنوير ،املعنى العاملي يعني الصواب يف كل
أيضا جانب مظلم: زمان ومكان -منظور الحقيقة املتجانسة» .وكان لهذه العاملية ً
قمع التنوع ،وتربير اإلمربيالية الغربية من خالل إضفاء الطابع العاملي عىل «معيار
الحضارة» األورويب .ويف منهج ونظرية العالقات الدولية ،وضع حقل العالقات
الدولية الغريب املعيار العاملي الذي استُخدم وسيل ًة لوضع املعايري ،كام مارس دور
حارس البوابة بالنسبة إىل التخصصُ ،م َه ِمشا بذلك الرسديات واألفكار واملنهجيات
البديلة.
بدياًل للعاملية يقوم عىل «فهم واحرتام التنوعيقدم كوكس ( )2002: 53مفهو ًما ً
يف عامل دائم التغري» .حيث ترفض هذه العاملية االنقسام الخاطئ واملستوحى من
السياسة بني العاملية والنسبية .إن نقيض العاملية املتجانسة ليس النسبية ،بل
تخصصا
ً التعددية؛ ألن العاملية التعددية تنظر إىل حقل العالقات الدولية باعتباره
عامل ًيا له أسس متعددة .لكن هذه ليست تعددية مثل تلك التي ُف ِهمت يف الكتابات
الحديثة بشأن نظرية العالقات الدولية (for a survey of the literature on
) .pluralism, see Dunne, Hansen and Wight, 2013; Eun, 2016إن التعددية
يف حقل العالقات الدولية العاملي ال تعني النسبية ،أو قبول مجموعة متنوعة من
النظريات للتعايش ،أو السعي إىل الوحدة أو التوليف بني النظريات ،أو السعي وراء
«االنتقائية التحليلية» ،كام أنها ليست فقط ما يسميه تيم دن Tim Dunneوليني
هانسن Lene Hansenوكولني وايت ( )Colin Wight 2013: 416بـ «التعددية
التكاملية» التي «تقبل وتحافظ عىل صحة مجموعة واسعة من املنظورات النظرية
454
نحو حقل عالقات دولية عاملي
وتحتضن التنوع النظري كوسيلة لتوفري رؤى أكرث شمو ًاًل ومتعددة األبعاد للظواهر
املعقدة» .إن التعددية يف حقل العالقات الدولية العاملي ال تقبل وتحافظ عىل
النظريات املوجودة كام هي ،ولكنها تتوقع منها واجب االعرتاف مبكانة وأدوار
ومساهامت الشعوب واملجتمعات غري الغربية .وبهذا املعنى ،فإن حقل العالقات
الدولية العاملي يقوم يف الحقيقة أكرث حول التعددية داخل النظريات ،وليس فقط
حول التعددية فيام بينها.
عىل الرغم من أن حقل العالقات الدولية لديه ادعاءات بأنه يدور حول جميع
األزمنة واألمكنة ،فإنه يف الواقع ميثل تعبريا ضيق األفق إىل حد ما عن الفرتة القصرية
يف تاريخ العامل حينام كان الغرب هو املهيمن .وكام ورد يف املقدمة ،كان سيبدو
التخصص مختل ًفا متا ًما لو أنه اب ُت ِكر يف الصني أو يف الهند أو يف العامل اإلسالمي .ومع
رشوع فرتة الهيمنة الغربية يف االنحسار ،يحتاج حقل العالقات الدولية اآلن إىل
االبتعاد عن هذا التحيز الضيق من خالل دمج منظورات من التاريخ والنظريات
السياسية األخرى .إن حقل العالقات الدولية العاملي يضع مفاهيم ونظريات
العالقات الدولية يف سياقها ،ويحدد معانيها املتنازع عليها والطارئة ،وذلك ً
بداًل
من افرتاض أنها مفاهيم ونظريات عاملية .فعىل سبيل املثال ،تقدم الكتب املدرسية
لحقل العالقات الدولية أفكار السيادة وعدم التدخل كابتكارات أوروبية ورثتها
ببساطة مجتمعات ما بعد االستعامر .وعىل رغم ذلك ،فإن هذه الرؤية املوحدة
تتجاهل التفسريات املختلفة للسيادة يف مناطق مختلفة من العامل ،ليس فقط بني
أيضا بني مختلف املناطق غري األوروبية (see Acharya, أوروبا وبقية العامل ،ولكن ً
) .2011aوباملثل ،غال ًبا ما ُتقدَّم اإلقليمية عىل أنها من أصل أورويب ،عىل الرغم من
أنها ظهرت يف أمريكا الالتينية قبل مائة عام من الجامعة االقتصادية األوروبية ،كام
أنه غال ًبا ما ُينظر إىل اإلقليمية األوروبية عىل أنها أم جميع ال َّن َزعَات اإلقليمية .وبينام
يقال إن العوملة نشأت مع توسع أوروبا وحركة التجارة الحرة من قبل الربيطانيني
ثم الواليات املتحدة ،فإن األصول الحقيقية للعوملة تكمن يف أنظمة التجارة متعددة
الثقافات التي ربطت بني أوراسيا وأفريقيا أكرث من ألفي عام .وقد اشتملت «طرق
الحرير» هذه عىل أنظمة متطورة يف األرض ويف املحيط الهندي ،ومل يسيطر عليها
األوروبيون حتى القرن التاسع عرش .كام يتضمن جزء كبري من هذا التاريخ ظهور
455
تشكيل العالقات الدولية العاملية
اإلسالم من القرن الثامن فصاعدًا ،فحينام كان الغرب منعز ًاًل خالل العصور الوسطى،
متكن العامل اإلسالمي من ربط طرق التجارة من إسبانيا إىل آسيا .وقد تضمن هذا
النظام ترتيبات متطورة لحامية مجتمعات الشتات التجارية الخارجية .وتتجاهل
نصوص حقوق اإلنسان عىل نحو روتيني مثل هذه األمثلة عىل حامية سالمة وكرامة
الفرد من العقوبة القاسية والظاملة من ِقبل الحاكم يف املجتمعات األخرى عرب
التاريخ .إن توسيع جينيالوجيا (أنساب) املفاهيم الرئيسة لحقل العالقات الدولية
عرب مصادر متعددة ويف أوقات مختلفة ،سيكون من ثم عنرصا حاسام يف حقل
العالقات الدولية العاملي ،وهو عنرص ميتد إىل زمن أبعد بكثري من القرنني اللذين
غطاهام هذا الكتاب.
ثان ًيا ،واتباعًا لقضية العاملية التعددية ،يدعو حقل العالقات الدولية العاملي
رسوخا يف تاريخ العامل ً
بداًل من التاريخ ً إىل أن يكون حقل العالقات الدولية أكرث
الغريب ،ويف األفكار واملؤسسات واملنظورات الفكرية ومامرسات كل من املجتمعات
الغربية وغري الغربية .إن التاريخ العاملي ال يعني فقط إيجاد منظور شامل عىل
مستوى الكوكب والبرشية ،ولكن يعني ً
أيضا إقحام التواريخ املحلية ،مبا يف ذلك
التاريخ الغريب يف حد ذاته .حيث يعرتف حقل العالقات الدولية العاملي بأصوات
وخربات وقيم جميع األشخاص يف جميع أنحاء العامل .لكن «إقحام البقية» ال يعني
ببساطة استخدام العامل غري الغريب كأرضية اختبار إلعادة التحقق من نظريات
العالقات الدولية املوجودة بعد إجراء بعض التعديالت واإلضافات ،كام أنه ال يعني
محاولة استبدال «العاملية» ضيقة األفق للتاريخ الغريب ببعض «العاملية» ضيقة
األفق بالقدر نفسه استنادًا إىل تاريخ بعض الحضارات األخرى .إذ يجب أن يكون
حقل العالقات الدولية العاملي مسارا ذا اتجاهني .يتمثل التحدي الرئيس لنظريات
ومنظري العالقات الدولية يف العامل يف تطوير املفاهيم واملقاربات من السياقات
غري الغربية وف ًقا لرشوطها الخاصة ،وتطبيقها ليس فقط محليا ،ولكن ً
أيضا يف
سياقات أخرى ،مبا يف ذلك السياق العاملي األوسع .ويف هذا السياق ،من املهم دراسة
السياسة العاملية التي امتدت عىل مدى 5آالف عام والتي تركت خاللها عديد من
الحضارات واإلمرباطوريات واملجتمعات بصامتها وآثارها ،حيث ظهرت واختفت
عديد من أشكال العالقات الدولية األخرى .وال يقترص حقل العالقات الدولية عىل
456
نحو حقل عالقات دولية عاملي
املركزية األوروبية فقط ،فهو يحد حني تتجاهل السياسة العاملية /حقل العالقات
الدولية تراثهام العاملي وحرص نفسيهام يف األحداث واألفكار التي تعود إىل بضع
مئات من السنني املاضية ( .)Buzan and Little, 2000ويصدق هذا عىل نحو
خاص عندما يعيد التخصص التحرك نحو التعددية العميقة ،ليعيد قوة عديد من
الحضارات التي تجاوزها الغرب لفرتة وجيزة.
عند إقحام التاريخ من املهم تجنب إشكاليتني شائعتني :األوىل هي التاريخانية
،Historicismأو اإلميان باستمرارية التاريخ ،أو أن التاريخ يعيد نفسه .والثانية هي
«مركزية الزمن» ( Tempocentrismأخذ الحارض املتجدد واستقراؤه بالرجوع يف
الزمن) ( ،)Lawson and Hobson, 2008: 430أو إبراز خلفيات املفاهيم الحديثة
مثل السيادة؛ والسلطة؛ واملعايري؛ وحقوق اإلنسان؛ والدميوقراطية؛ وتوازن القوى
ألجل تأسيس التامثل واالستمرارية والعاملية لتلك املفاهيم والنظريات الحديثة .إذ
من املهم أن ندرك أن بعض هذه املفاهيم قد ال تنطبق عىل حاالت املايض بالشكل
نفسه وعرب الثقافات .إن التمعن بعناية يف التاريخ يخدم غرضني رئيسني ،الغرض
األول هو البحث عن أوجه التوازي؛ والتقريب؛ والتشابه؛ واالختالفات؛ والتنوع يف
املفاهيم املركزية املستخدمة يف دراسة العالقات الدولية .وهذا يسمح لنا بإجراء
فحص نقدي بشأن ما إذا كانت بعض املفاهيم والنظريات عاملية ح ًقا أم ال .قد
ال تكون املفاهيم التي اكت ُِشفت عىل هذا النحو هي نفسها متا ًما املصطلحات
املستخدمة حال ًيا ،ولكنها قد تساعدنا يف التأكد من مدى عاملية املقوالت الحديثة،
مثل السلطة؛ والفوىض anarchy؛ والنظام؛ واملؤسسات؛ واألمن؛ والهيمنة؛
واإلمرباطورية؛ والسيادة؛ والرفاهية ،وإضافة االختالفات إليها .الغرض الثاين هو
تحديد أو اكتشاف مفاهيم ومقاربات جديدة متا ًما للنظرية واملامرسة والتي ُأه ِملت
أو ُأخ ِفيت عن األنظار بسبب املركزية األوروبية .ورمبا تقدم األعامل الحالية حول
التاريخ والفلسفة السياسية الصينيني آماال واعدة ملثل محاولة االكتشاف هذه.
ثال ًثاُ ،ي َض ِّمن حقل العالقات الدولية العاملي معرفة حقل العالقات الدولية
الحايل مبا يف ذلك النظريات واملناهج واالدعاءات العلمية التي نعرفها بالفعل،
بداًل من أن يحل محلها .إنه ال يسعى إىل استبدال املعرفة الحالية التي وذلك ً
يهيمن عليها الغرب يف حد ذاته ،ولكنه يسعى فقط إىل إزاحة هيمنته عليها من
457
تشكيل العالقات الدولية العاملية
خالل وضعها يف سياق عاملي أوسع .ومن ثم ،يتخذ حقل العالقات الدولية العاملي
مقارب ًة تعددية للنظرية واملنهج ،إذ يحتضن حقل العالقات الدولية العاملي كاًّلًّ
من االتجاه السائد (الواقعية؛ والليربالية؛ واملدرسة اإلنجليزية وبعض صيغ البنائية)
واملقاربات النقدية ،وهو محايدٌ حيال النزوات النظرية واملنهجية للباحثني
وتفضيالتهم .وعىل عكس بعض النظريات النقدية وأبحاث ما بعد االستعامرية،
ال يرفض حقل العالقات الدولية العاملي النظريات السائدة ولكنه يتحدى ضيق
األفق لديها ويحثها عىل قبول األفكار والخربات واألفكار القادمة من العامل غري
الغريب .فجميع النامذج الفكرية وال َّن َزعَات لها مكانتها يف حقل العالقات الدولية
العاملي ،حيث يرى األخري النظريات كام يرى عاملو الطبيعة العدسات :حيث إن كل
عدسة (مثل عدسات الضوء الطبيعي؛ واألشعة تحت الحمراء؛ واألشعة السينية)،
متا ًما مثل كل نظرية للعالقات الدولية ،تجعل بعض جوانب املوضوع أكرث حدة
ووضوحا ،مع إخفائها للجوانب األخرى .يحتاج املحلل إىل عديد من العدسات ،فكل ً
منها يكشف جز ًءا من الحقيقة .وبعض التطورات عىل هذا املنوال واضحة بالفعل.
إن نظريات العالقات الدولية ال تكاد تكون متجانسة أو غري متغرية عندما يتعلق
األمر بالتعامل مع العامل غري الغريب .فقد كانت بعض النظريات ،وخاصة ما بعد
االستعامرية والنسوية ،يف طليعة الجهود املبذولة للتعرف عىل األحداث والقضايا
والفواعل والتفاعالت الحاصلة خارج الغرب واستخالص رؤى نظرية منها إلثراء
دراسة العالقات الدولية .وباملثل ،بدأت املدرسة اإلنجليزية يف أخذ دور وخربة دول
األطراف بعني االعتبار عىل نحو أكرب لدراسة توسع وتطور املجتمع الدويل عىل نحو
عام ،وبناء املؤسسات األولية وتطورها عىل وجه الخصوص .وحتى الواقعية ،التي
تتقدم دامئًا عىل الليربالية يف استخالص رؤى من العامل غري الغريب ،أضافت متغريات
جديدة -الواقعية الكالسيكية الجديدة؛ والواقعية الدفاعية -جعلت الواقعية أكرث
صل ًة بالعامل غري الغريب .وكام هو مذكور يف الفصل الثامن ،كانت البنائية مهمة عىل
نحو خاص يف فتح مساحة لألبحاث حول العامل غري الغريب بسبب تشديدها عىل
الثقافة والهوية .أما االعتامد االقتصادي املتبادل؛ واملؤسسات املتعددة األطراف؛
رطة؛ ومسارات النظام التي تحددها الليربالية وتنص عليها ،فكلها تجعل وال َد َم ْق َ
هذه النظرية أكرث قابلية للتطبيق عىل العامل غري الغريب.
458
نحو حقل عالقات دولية عاملي
تجادل كارين سميث ( ،)2017: 1يف مقال حديث ،بأن حقل العالقات
الدولية العاملي ال ميكن فصله متا ًما عن حقل العالقات الدولية الغريب .وتؤكد أن
«املساهامت النظرية املتأتية من الجنوب العاملي ...ال تحتاج إىل أن تكون مختلفة
جذر ًيا عن النظريات املوجودة» .ومن ثم فإن «إعادة التفسريات أو التعديالت
لألطر القامئة ...ميكن أن تساعدنا ليس يف فهم العالقات الدولية عىل نحو أفضل يف
جزء معني من العامل فقط ،ولكن ميكنها يف الواقع أيضا تقديم رؤى أكرب للتخصص
ككل» .ال يعارض حقل العالقات الدولية العاملي املحاكاة /التقليد مادام يصقل
ويدحض ويطور النظريات املوجودة .ويف الوقت نفسه ،ال يرتك حقل العالقات
وبداًل من ذلك فإنه يحث ا ُملن َِّظرين
الدولية العاملي النظريات السائدة كام هيً .
عىل إعادة التفكري يف افرتاضاتهم وتوسيع نطاق تحقيقاتهم .فبالنسبة إىل الواقعية،
يتمثل التحدي يف النظر إىل ما وراء الرصاعات التي تسببها املصلحة الوطنية وتوزيع
القوة واالعرتاف باملصادر األخرى للفاعلية ،مبا يف ذلك الثقافة واألفكار واملعايري التي
تجعل الدول والحضارات ال تتصادم بل تتبنى وتتعلم بعضها من بعض .وبالنسبة
إىل الليرباليني ،هناك تح ٍّد مامثل للنظر إىل ما وراء الهيمنة األمريكية باعتبارها نقطة
انطالق للتحقيق يف التعددية واإلقليمية وأشكالها املؤسسية .كام تحتاج الليربالية
أيضا إىل االعرتاف باالختالفات املهمة يف السلوك التعاوين املوجودة يف السياقات ً
املحلية املختلفة ،بحيث ال يوجد منوذج واحد للتكامل أو التفاعالت ميكن أن يفرس
جميعها أو معظمها .وبالنسبة إىل البنائية ،اليزال تقييم األشكال املختلفة للفاعلية
يف إنشاء ونرش األفكار واملعايري ميثل تحد ًيا كب ًريا .أما املدرسة اإلنجليزية فتحتاج إىل
تعزيز تصورها وفهمها للمجتمع العاملي وتفاعله مع مجتمع الدول.
لقد جادلنا بأن حقل العالقات الدولية العاملي يجب أن يتبنى التعددية النظرية
واملنهجية ،وأن يقحم كال من النظريات النقدية والنظريات السائدة (العقالنية).
أيضا أن بعض النظريات ،مثل ما بعد االستعامرية؛ والنسوية؛ وخاصة لكننا نعتقد ً
النسوية املابعد االستعامرية والنسوية من ذوي البرشة السوداء مع مساهمتهام
القوية يف فكرة «التقاطع» ( ،)Persaud and Sajed, 2018bميكن اعتبارها من
النظريات «الطليعية» ،ألنها أسهمت بالفعل يف الجهود املبذولة لتوسيع حقل
العالقات الدولية إىل ما وراء الغرب .ويف ضوء قصة العالقات الدولية التي رسدناها
459
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف هذا الكتاب ،ميكن اعتبار هذه النظريات الطليعية عىل أنها ُت ْق ِحم إىل حقل
العالقات الدولية مناهضة االستعامر والعنرصية واملنظورات اإلقليمية /الثقافية
التي تطورت أو ًاًل يف األطراف ،ولكنها كانت فرت ًة طويل ًة مقصي ًة من حقل العالقات
الدولية داخل املركز .هناك حاجة إىل مزيد من العمل لرسم عالقة أوثق بني
األبحاث النسوية ومابعد االستعامرية وحقل العالقات الدولية العاملي .ولكن ما
هو واضح أن حقل العالقات الدولية العاملي يستمد اإللهام واألفكار من النضال
املشرتك ألبحاث النسوية وما بعد االستعامرية ضد إقصائهام وتهميشهام التاريخي
العميق الجذور الذي تم من طرف أبحاث حقل العالقات الدولية .وميكن ملا بعد
االستعامرية وحقل العالقات الدولية العاملي تكييف الكتابات القوية للباحثني
النسويني ( ،)2018: 1واالدعاء عىل نحو مربر أن دول األطراف ،مثل النساء« ،مل
تتأخر يف القدوم إىل حقل العالقات الدولية ،بل إن حقل العالقات الدولية هو الذي
َق ِد َم متأخرا إىل دول األطراف».
إن لدى حقل العالقات الدولية العاملي مكانا لجميع النظريات وهو مفتوح
للباحثني القادمني من الجنوب والشامل .ولكن ال يرى جميع الباحثني خارج التيار
السائد الحاجة إىل حقل عالقات دولية عاملي خو ًفا من أنه قد يرض بخصائصهم .قد
يكون بعض ا ُملن َِّظرين النقديني ،مبا يف ذلك باحثو ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية،
متعاطفني بالفعل مع حقل العالقات الدولية العاملي ،لكنهم مازالوا يفضلون الحفاظ
كاف مععىل هوية منفصلة ،أو متميزة ،أو عىل األقل عدم االنخراط عىل نحو ٍ
«العاملي» .هناك أوجه تشابه مهمة بني ما بعد االستعامرية وحقل العالقات الدولية
العاملي ،فكالهام يربز ويرفض النظريات األوروبية املركزية لحقل العالقات الدولية،
ويؤكد كالهام فاعلية العامل الثالث ،كام يؤكدان عىل األصول املتعددة للنظام الدويل
الحديث ،رافضني هيمنة املنظورات التي متيز أصله األورويب /الويستفايل .لكن
حقيقة أن حقل العالقات الدولية العاملي ال يرفض النظريات السائدة الحالية ولكنه
يتحداها لتكون أكرث مراعاة لألفكار غري الغربية ومزاعم الفاعلية ،هي نقطة اختالف
رئيسة بني حقل العالقات الدولية العاملي وما بعد االستعامرية .فعىل عكس األخرية،
ال يقدم حقل العالقات الدولية نفسه بديال ألي نظرية معينة ،ولكنه يدعو جميع
النظريات إىل التخيل عن مركزيتها األوروبية .ويشرتك عديد من الباحثني النسويني
460
نحو حقل عالقات دولية عاملي
مع حقل العالقات الدولية العاملي يف االهتامم بالفئات املهمشة .كام يتامىش التوتر
بني النسويني الغربيني ونسويي ما بعد االستعامرية مع رؤية األخرية للمدرسة
النسوية الغربية عىل أنها مهيمنة وإقصائية لهويات الجنوب العامليً ،
وأيضا يتامىش
مع هدف حقل العالقات الدولية العاملي املتمثل يف تحدي العاملية الزائفة وإلغاء
ضيق األفق املوجود يف نظرية العالقات الدولية.
راب ًعا ،أن يكون لديك حقل عالقات دولية عاملي كتسمية للتخصص ال يعني
التقليل من أهمية املناطق واألقاليم ،أو التقليل من أهمية مساهمة دراسات
وبداًل من ذلك ،يعطي حقل العالقات الدولية العاملي مركز الصدارة املناطقً .
أيضا ال يتحرك بال هوادةلألقاليم .ويف حني أن العامل مل يكن مقسام إىل أقاليم ،فهو ً
نظر إىل األقاليم باعتبارها كيانات مادية أو خرائطية أو نحو عاملية سلسة .مل يعد ُي َ
نظر إليها باعتبارها مساحات ديناميكية هادفة ومبني ًة ثقافية ثابتة ،ولكن أصبح ُي َ
اجتامع ًيا .إن اإلقليمية اليوم هي أقل متركزا حول اإلقليم الجغرايف والدولة ،إذ
تشتمل عىل مجموعة متزايدة االتساع من الفاعلني والقضايا .ورمبا يكون االنقسام
التقليدي بني اإلقليمية والعاملية آخ ًذا يف االنهيار .وال تتعلق دراسة األقاليم بكيفية
تنظيم األقاليم ذات ًيا ملساحاتها االقتصادية والسياسية والثقافية فقط ،ولكنها تتعلق
أيضا بكيفية ارتباطها بعضها ببعض وتشكيل النظام العاملي .باإلضافة إىل ذلك ُي َعد ً
الرتكيز عىل األقاليم أم ًرا أساس ًيا لتكوين تكامل وثيق بني املقاربات التخصصية
ودراسات إقليمية(٭).
حتاًم عىل درجة من التاميزخامسا ،عىل الرغم من أن التعددية العاملية تنطوي ً ً
الثقايف والنسبية ،فإنه ال ميكن أن يستند حقل العالقات الدولية العاملي الحقيقي
إىل االستثنائية الثقافية وضيق األفق .إن االستثنائية Exceptionalismهي امليل إىل
تقديم خصائص مجموعة اجتامعية عىل أنها متجانسة وفريدة من نوعها عىل نحو
جامعي ومتفوقة عىل تلك الخصائص الخاصة باآلخرين ،إذ غال ًبا ما تدعم االدعاءات
باالستثنائية االدعاءات الكاذبة للعاملية مثل «معيار الحضارة» الغريب املفروض عىل
(٭) بشأن منطق اإلقليمية يف املجتمع الدويل العاملي انظر:
(Buzan and Schouenborg 2018: ch. 4).
[املؤلفان].
461
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بقية العامل خالل الحقبة االستعامرية يف القرنني التاسع عرش والعرشين .وقد كان
املثال السابق لالستثنائية هو نظام الجزية الصيني الكالسييك ،وأحدث مثال عىل ذلك
هو فكرة إنشاء رابطة أو مجموعة من الدميوقراطيات لتحل محل األمم املتحدة.
غال ًبا ما ترتبط مثل هذه االدعاءات باألجندات السياسية املحلية وأغراض النخبة
الحاكمة ،كام هو واضح يف مفاهيم مثل «القيم اآلسيوية» و«الخصائص الصينية»،
والتي غال ًبا ما ترتبط بالسلطوية .وغال ًبا ما ُت َ ِّرَبر االستثنائية يف حقل العالقات الدولية
هيمنة القوى الكربى عىل الضعفاء ،حيث ميكن أن ترتبط االستثنائية األمريكية،
التي تبدو حميدة وشائعة يف الداخل ،مببدأ مونرو ونزعة التدخل العاملية التي
تخدم مصالحها الذاتية .ويوضح أحد خطوط خطاب النزعة الوحدوية اآلسيوية يف
اليابان قبل الحرب ،والذي تأسس عىل شعار «آسيا لآلسيويني» ،هذا املوقف ً
أيضا.
والجهود املبذولة الستحضار نظام الجزية الصيني الفريد كأساس ملدرسة صينية
جديدة لحقل العالقات الدولية لهي جهود حاملة إلمكانيات مامثلة .ويف حني أن
تطوير املدارس الوطنية لحقل العالقات الدولية ميكن أن يوسع ويرثي التخصص،
فإنه إذا كان يعتمد عىل نحو أسايس عىل االستثنائية فإنه سيتحدى إمكانيات حقل
العالقات الدولية العاملي .وقد كان كاهلري ( )1993: 412محقا يف قوله إن «تزايد
ضيق األفق الوطني ال يبرش بالخري بالنسبة إىل التطور املستقبيل للتخصص».
إن حقل العالقات الدولية العاملي يسمح لنا إذن بالكشف عن التحيزات وضيق
األفق (الخفية أحيا ًنا) واملركزية العرقية يف نظريات العالقات املوجودة .فبينام تقدم
الكتب املدرسية لحقل العالقات الدولية انتقادات للنظريات الرئيسة ،فإنها ناد ًرا
ما تسلط الضوء عىل افرتاضاتهم املتمركزة حول العرق .عىل سبيل املثال ،ناد ًرا
خرَب الطالب الجامعيون -الذين يدرسون الواقعية والليربالية كنظريات عاملية ما ُي َ
عن العالقات الدولية -عن ارتباط تلك النظريات بالعنرصية الثقافية واإلمربيالية
وتربيرها لهام .فقد دعم بعض أكرب الفالسفة املؤسسني لليربالية؛ مثل جون لوك،
اإلمربيالية األوروبية؛ عىل نحو مبارش أو غري مبارش ،باسم الكفاءة والتجارة الحرة.
أما آخرون ،مثل آدم سميث؛ وال سيام كانط ،فقد رفضوا اإلمربيالية الغربية لكنهم
افرتضوا عاملية معيارية توقعت أن تتطور الشعوب األصلية إىل معايري أوروبية .ولن
مينح كانط سيادة غري مرشوطة لغري األوروبيني ما مل يتخلوا عن «الوحشية الخارجة
462
نحو حقل عالقات دولية عاملي
عن القانون» وقبلوا بهذه املعايري .وتشمل أسس الواقعية النظريات الجيوسياسية
ملاكيندر وماهان ،والتي دعت إىل تحالف غريب أنجلوساكسوين وهجومها ملنع
التهديد الرببري األصفر (أو الخطر األصفر) من االنتقال إىل عتبة الغرب .ويف اآلونة
األخرية رفضت النظرية الليربالية للسالم الدميوقراطي تناول الحروب االستعامرية،
يف حني اعتربت الواقعية البنيوية أن الثنائية القطبية متثل «سال ًما طويل األمد»
بسبب غياب الحرب يف أوروبا ،مع تجاهل النزاعات والخسائر العديدة يف العامل
النامي خالل الحرب الباردة .وقد أعطت البنائية قليال من االعرتاف بوضع املعايري
من ِقبل البلدان النامية ،والتنافس بني األنظمة املعيارية املختلفة .إن النقطة ذات
الصلة هي عدم التوافق بني النظريات املوجودة -املستمدة من سياق غريب مهيمن
-وواقع العامل غري الغريب .وهناك كثري من األمثلة عىل ذلك ،مبا يف ذلك التطبيق
املحدود لنظريات التكامل اإلقليمي خارج أوروبا الغربية ،والتي غال ًبا ما ُتت ََجاهل
يف نصوص العالقات الدولية األكرث مبي ًعا .تشمل األمثلة األخرى قيود مفهوم األمن
القومي (الذي ُط ِّور عىل نحو أسايس يف الواليات املتحدة) للتغلب عىل املعضلة
األمنية للعامل الثالث ،والرتكيز يف نظرية التنمية الدولية (املطورة يف الواليات املتحدة
وأوروبا) عىل النمو االقتصادي عىل حساب احتياجات التنمية البرشية.
سادسا ،إن حقل العالقات الدولية العاملي يأخذ مفهو ًما واس ًعا للفاعلية .فقد ً
نفت عديد من نظريات العالقات الدولية ادعاءات الفاعلية للمجتمعات غري
نظر إىل الفاعلية يف العالقات الدولية يف الغربية .ومنذ وقت ليس ببعيد ،كان ُي َ
املقام األول من منظور «معيار الحضارة» ،حيث كان العنرص الحاسم هو قدرة
الدول عىل الدفاع عن سيادتها؛ وشن الحرب؛ والتفاوض بشأن املعاهدات؛ وفرض
االمتثال؛ وإدارة ميزان القوة؛ وبناء إمرباطوريات عىل حساب شعوب «غري
متحرضة» .لقد تجاهلت هذه الصياغة العنرصية والوقحة ،التي تخدم املصالح
الذاتية وغري التاريخية ا ُملصوغة من قبل القوى االستعامرية األوروبية ،حقيق َة أن
األشكال املعقدة من فن الحكم كانت موجودة يف عديد من الحضارات غري الغربية
املبكرة .وبينام اعتربت نظريات العالقات الدولية السائدة ما يسمى بالعامل الثالث أو
الجنوب العاملي أنه هاميش بالنسبة إىل األلعاب التي تخوضها الدول ،فقد ازدهرت
بعض النظريات النقدية يف الواقع بسبب هذا التهميش املفرتض .لقد انتقدوا بحق
463
تشكيل العالقات الدولية العاملية
النظريات السائدة الستبعادها الجنوب ،لكنهم أجروا استكشافا ضئيال ،عىل األقل
يف البداية ،ألشكال بديلة من الفاعلية يف الجنوب ،خاصة بعد إدراك أن الفاعلية قد
تخاطر بتقويض الجزء املركزي من رسديتهم.
ويف حني أن التفاوتات العاملية يف القوة املادية لن تختفي ،فإننا بحاجة إىل
تبني رؤية أوسع للفاعلية يف العالقات الدولية تتجاوز القوة العسكرية والرثوة.
إن الفاعلية هي فاعلية مادية وفكرية ،إنها ليست من اختصاص القوي ،ولكنها
ميكن أن تظهر كسالح يف يد الضعيف .إذ ميكن مامرسة الفاعلية يف الفضاء عرب
ً
أشكااًل الوطني العاملي وكذلك عىل املستويني اإلقليمي واملحيل .كام ميكنها أن تتخذ
متعددة ( .)Acharya, 2018:12–23إذ ميكن أن تصف أعامل املقاومة وتضفي
الطابع املحيل عىل املعايري واملؤسسات العاملية .تعني الفاعلية ً
أيضا بناء قواعد
ومؤسسات جديدة عىل املستوى املحيل لدعم وتعزيز النظام العاملي ضد نفاق
وهيمنة القوى الكربى .فالفاعلية تعني وضع تصور وتنفيذ مسارات جديدة للتنمية
واألمن والعدالة البيئية.
مثة أمثلة كثرية عىل هذه الفاعلية ،عىل الرغم من تجاهلها من ِقبل أبحاث
حقل العالقات الدولية السائد .فقد جرت إعادة تعريف السيادة وتوسيعها يف مؤمتر
شكاًل من اإلقليمية للحفاظ عىلآسيا وأفريقيا يف باندونغ .حيث خلقت أفريقيا ً
حدود ما بعد االستعامر .وكان نهرو ،أول رئيس وزراء للهند ،أول من اقرتح حظر
التجارب النووية .وبعض أعامل الفاعلية هذه ليست مهمة فقط ملناطق محددة أو
للجنوب نفسه ،ولكنها مهمة للحوكمة العاملية ككل .و ُتظهر األبحاث الحديثة أن دول
رئيسا يف صياغة
أمريكا الالتينية وآسيا (الصني والهند) وأوروبا الرشقية مارست دو ًرا ً
مؤسسات بريتون وودز .(Helleiner, 2014) Bretton Woods institutions
وميكن إرجاع أصول وتعزيز معايري حقوق اإلنسان ونزع السالح الحديثة إىل
الجهود التي تبذلها دول أمريكا الالتينية وآسيا وأفريقيا يف الدفاع عن هذه املعايري
( .)Sikkink, 2014, 2016; Acharya, 2016: 1160–1وقد جاءت أفكار التنمية
البرشية واألمن اإلنساين من رائدي اقتصاديي التنمية يف جنوب آسيا محبوب الحق
وأمارتيا سن ( ،)Acharya, 2016: 1162–3; 2018: 137–41وبينام ُتنسب فكرة
«مسؤولية الحامية» عاد ًة إىل اللجنة الدولية املعنية بالتدخل وسيادة الدول برعاية
464
نحو حقل عالقات دولية عاملي
كندا ،كام هو موضح يف الفصل الثامن ،فإنها تدين بالكثري إىل القادة والديبلوماسيني
األفارقة .وضمن مفاوضات تغري املناخ نرى البلدان النامية تقدم فكرة معيار
«املسؤولية املشرتكة ولكن املتباينة» ( .)Acharya, 2018: 195–7وباستخدام هذا
اإلطار األوسع للفاعلية ،ميكننا أن نجد أن الجنوب كان له صوت ،وأن «التابع ميكنه
التكلم بالفعل» والترصف حتى لو تجاهلتهم نظريات العالقات الدولية .و ُي َعدُّ
دمج هذه العنارص يف روايات نصوص العالقات الدولية الخاصة باالقتصاد السيايس
العاملي؛ واألمن العاملي؛ والبيئة العاملية أم ًرا بالغ األهمية ،وذلك ألجل الحد من
التحيز الغريب وتطوير رسدية عاملية لحقل العالقات الدولية(٭).
ساب ًعا وأخ ًريا ،إن حقل العالقات الدولية العاملي يستجيب للعوملة املتزايدة
يف العامل مبعنى شامل .فالعوملة مبعنى زيادة الرتابط واالعتامد املتبادل هي اتجاه
طويل األجل ال ُيظهر أي عالمة عىل الضعف .ولكن هناك خطني مهمني للتغيري
نظم عىل نح ٍو ينطبقان عىل نح ٍو متزايد عىل هذه العملية األضيق .األول ،هو أنها ُت َّ
متناقص عىل أساس املَ ْر َكز واألَ ْط َراف ،وأكرث عىل أساس التعددية العميقة .لذا ،بينام
يشهد عرص الهيمنة الغربية نهايته ،أصبح كل من املحرك الدافع للعوملة واملسؤولية
عن عواقبها أكرث عاملية يف الحجم .ثان ًيا ،أن الكثافة املتزايدة وشدة الرتابط واالعتامد
املتبادل تؤدي اآلن عىل نح ٍو واضح إىل ظهور مجموعة من املصائر املشرتكة التي
نوقشت يف الفصل السابع ،والتي تنخرط فيها البرشية جمعاء وتكون املسؤولية
عنها جامعية .والكيفية التي يلعب بها جانب املصري املشرتك للعوملة هذا يف البنية
السياسية األكرث انتشا ًرا للتعددية العميقة لهي مسألة رئيسة بالنسبة إىل حقل
العالقات الدولية العاملي.
465
تشكيل العالقات الدولية العاملية
املنهج ونظرية املعرفة .لكننا نريد تقديم حالة خاصة ملزيد من التوسع يف املقصود
بعلم العالقات الدولية من خالل دمج رؤى من أديان العامل .يقبل حقل العالقات
الدولية العاملي املقاربات الوضعانية ،لكنه يرفض بشدة اعتبارها أنها تشكل
السبيل الوحيد الصالح ملعرفة حقل العالقات الدولية .ومن الجدير بالذكر أن
بداًل ً
تفضياًل للمقاربة الكالسيكية ً مراجعتنا لحقل العالقات الدولية اإلقليمية ُتظهر
من املقاربة الوضعانية التي متيز حقل العالقات الدولية األمرييك .ويؤكد باتريك
ثاديوس جاكسون Patrick Thaddeus Jacksonأنه «ليك نكون غري غربيني ح ًقا،
نحتاج إىل طرق إلنتاج نظرية ليست عرضة للطريقة التي ينتج من خاللها كل من
كينغ وكيوهان وفريبا النظرية»(٭) .إن ما هو مهم إذن ليس فقط محتوى حقل
العالقات الدولية ،ولكن طرق عمل هذا الحقل .ويكمن جزء من اإلجابة يف توسيع
مفهومنا ملا تعنيه فلسفة العلوم إىل جانب توسيع مفهومنا ملا يعنيه حقل العالقات
الدولية يف الواقع .ويقدم جاكسون ( )2010حجة قوية للتعددية يف حقل العالقات
الدولية ،خاصة فيام يتعلق بفهمنا ملا يشكل «العلوم» .ومن خالل فعل ذلك ،يوجه
رضبة قوية ملزاعم أولئك الذين وجدوا أنه من املالئم رفض التجارب واألصوات غري
الغربية باعتبارها «مادة من دراسات املناطق» أو أنها «غري علمية».
أيضا عىل أن «ترك السؤال العلمي جانبا ال لكن جاكسون ( )2010: 196أرص ً
مجااًل يسري فيه كل يشء» .فاملعرفة العلمية بالنسبة يعني بالرضورة أننا ندخل ً
إليه لها ثالثة «مكونات أساسية» ال غنى عنها :يجب أن تكون نسقية؛ ويجب أن
تكون قادرة عىل قبول النقد العام (ويفرتض املرء معالجة ذلك بنجاح)؛ و«يجب
أن يكون الغرض منه إنتاج املعرفة الدنيوية» ( .)Jackson, 2010: 193لكن عىل
املرء أن يكون حذ ًرا هنا .فقد يكون أن قد ًرا كب ًريا مام قد يجلبه املرء إىل نظرية
العالقات الدولية من العامل غري الغريب «معرفة دنيوية» .لكن املصادر األخرى ميكن
أن تكون من املعرفة الدينية والثقافية والروحية التي قد ال تكون ُم َؤهلة بدقة
لتكون مثل «هذه املعرفة الدنيوية» .إذ قد يكون يف تلك املعارف تقاطع غامض بني
العلم والروحانية أو قد تجمع بني املادي والروحاين .وهكذا ،يقرتح جورجيو شاين
(٭) تعليقات بشأن إطالق نظرية العالقات الدولية غري الغربية ،بقلم أميتاف أشاريا وباري بوزان ،الجامعة األمريكية،
واشنطن العاصمة 3 ،مايو .2010كانت اإلشارة إىل غاري كينغ وروبرت كيوهان وسيدين فريبا ([ .)1994املؤلفان].
467
تشكيل العالقات الدولية العاملية
( )2008: 722العقيدة السيخية أو األمة اإلسالمية باعتبارها مصادر لنظرية حقل
العالقات الدولية مابعد الغريب ،ألن هذه املفاهيم تقدم «مفهو ًما ً
بدياًل للعاملية»
-ورمبا مفهو ًما أكرث «تضامنية» للمجتمع الدويل -عن تلك التي يقدمها حقل
العالقات الدولية الويستفايل الغريب .ميكن قول اليشء نفسه عن املفهوم الصيني
لـ «تيانكسيا» ( Tianxiaكل ما تحت السامء) .كام تقدم الهندوسية ً
مثااًل آخر أيضا.
فملحمة ماهابهاراتا الهندوسية عبارة عن رسد ماورايئ للحرب العادلة والظاملة؛
والتحالفات والخيانات؛ واملصالح الشخصية واألخالق؛ والحكم الصالح والسيئ(٭).
أما البهاغافاد غيتا(٭٭) ،فتحتوي بداخلها عىل أفكار بشأن مامرسة الحرب يف شكل
مناشدات اللورد كريشنا للمحارب أَ َر ُجو َنا« :إذا رفضت خوض هذه الحرب العادلة،
فستكون إذن تتهرب من واجبك وتفقد سمعتك» (الفصل ،2فقرة )33؛ «القادة
املحاربون الذين كانوا يحرتمونك سيحتقرونك اآلن ،معتقدين أن الخوف هو الذي
دفعك إىل الخروج من املعركة» (الفصل ،2فقرة )35؛ «مت ،وستظفر بالجنة؛
انترص وستتمتع بسيادة األرض ،لذلك قف؛ أَ َر ُجو َنا؛ عاز ًما عىل القتال» (الفصل ،2
فقرة .)Kaushik, 2007: 55–7( )37وبعبارة أخرى ،فإن عدم االمتناع عن الحرب
يتوافق مع منطق الفعل الصالح الذي هو يف الوقت نفسه «دنيوي» (رشف؛ عار؛
قوة) ُ
و«أخروي» (عدم قابلية الروح للتدمري).
ُتقدم الفلسفة البوذية ،التي مل تحظ عمل ًّيا بأي اهتامم من باحثي حقل
مثااًل آخر .فالداالي الما (Dalai Lama٭٭٭٭) الحايل العالقات الدولية(٭٭٭)ً ،
يستكشف العالقة بني العلم والفلسفة البوذية .حيث تقبل الفلسفة البوذية
وتوظف التجريبية العلمية ،وخاصة «املالحظة املبارشة» و«االستدالل املنطقي»
أيضا إىل ([ .)Cohen and Westbrook 2008املؤلفان]. (٭) ميكن أن ينظر املرء ً
(٭٭) ُتعد الكتاب الهندي املقدس يف الديانة الهندوسية ،وهي الحوار الذي جرى بني السيد أو الرب املبارك كريشنا
وأرجونا قبل بداية الحرب بني الكاورافاس والباندافاس ،وهام فرعان من أرسة بهاراتا التي كانت تحكم يف ذلك
الوقت .البهاغافاد غيتا هي عبارة عن 700بيت أو آية تقع يف مثانية عرش فص ًال ،ويعود تاريخها إىل قرابة األلفية
الثالثة قبل امليالد .كلمة بهاغافاد تعني الرب أو اإللهي ،وترمز إىل السيد كريشنا الذي يقدسه الهندوس بوصفه مظهرا
من مظاهر إله ،بينام تعني كلمة غيتا املغنَّاة أو القصيدة أو األنشودة[ .املرتجم].
(٭٭٭) باستثناء إعجاب تشان وماندافيل وبليكر ([ .)Chan, Mandaville and Bleiker 2001املؤلفان].
(٭٭٭٭) الداالي الما هو لقب يعطى ألعىل رجل ديني يف الديانة البوذية التبيتية تشابة لقب البابا يف الديانة
املسيحية والكلمة هي باألصل من أحد أفرع اللغة املونغولية وتعني املحيط الكبري[ .املحرر].
468
نحو حقل عالقات دولية عاملي
(أي أن املعرفة «ميكن أن ُتعطى ظاهر ًّيا أو ميكن استنتاجها») ،لكنها تتعاون مع
العلم يف بعض األجزاء عندما يتعلق األمر بطريقة ثالثة؛ «السلطة املوثوقة» .وتؤمن
الفلسفة البوذية بـ «املستوى اإلضايف للحقيقة ،والذي قد يظل ً
غامضا بالنسبة إىل
العقل غري املستنري» .ويشتمل هذه عىل «قانون الكارما»(٭) ،و«االستشهاد بالكتاب
املقدس مصدرا صحيحا عىل نح ٍو خاص للسلطة ،أو تعاليم بوذا ،التي أثبتت بالنسبة
إىل البوذيني أنها ميكن االعتامد عليها يف فحص طبيعة الوجود والطريق إىل التحرر»
) .(Dalai Lama, 2005: 28–9وعىل الرغم من أن أطروحة قابلية التكذيب
falsification thesisلكارل بوبر Karl Popperستجعل الفجوة بني املنهج العلمي
والبوذية أوسع من خالل استبعاد «عديد من األسئلة التي تتعلق بوجودنا البرشي»؛
مبا يف ذلك األخالق والروحانية ،فإن «معيار قابلية التكذيب» يتوافق مع مبدأ
«نطاق النفي» للبوذية التبتية ،والذي يسلط الضوء عىل الفرق بني «ما مل ُيعرث
عليه» وما « ُو ِج َد أنه غري موجود» ( .)Dalai Lama, 2005: 35ليس من الصعب أن
نرى أن «املستوى اإلضايف للحقيقة» قد ينطبق عىل نح ٍو جيد عىل معظم املذاهب
الدينية األخرى ،مثل السنة اإلسالمية والحديث أو بهاغافاد غيتا الهندوسية .وبينام
يجادل الداالي الما بأن العلم يستبعد أسئلة امليتافيزيقا واألخالق ،فإن كل نظرية
العالقات الدولية (عىل الرغم من أن ذلك يختلف وفق الصيغ) ال تفعل ذلك.
فهل ميكننا إقحام هذه األفكار ضمن معرفة حقل العالقات الدولية إذا حرصنا
أنفسنا يف إجراء استقصاء يرص عىل الفصل الصارم بني هذا الدنيوي واألخروي ،وبني
املادي والروحي؟ ميكننا بالطبع ،وبوعي ذايت ،تضمني عنارص مثل املعرفة الكتابية،
والتي قد ال تجتاز بسهولة اختبار الدنيوية ،ونطلق عليها العنارص غري العلمية
لنظرية العالقات الدولية .ولكن قد يعني هذا نقلهم إىل مرتبة الدرجة الثانية،
حيث إن تسمية «علمي» ،كام يشري جاكسون ،تحمل قد ًرا كب ًريا من الهيبة والتأثري
التخصيص يف نظرية العالقات الدولية .ومن ثم ،فإن اإلرصار عىل العلم يخاطر
(٭) الكارما karmaمصطلح مشتقٌّ من الكلمة السنسكريت ّية كرمان ،والتي تعني العمل .وقانون الكارما هو القانون
والترصفات والن َّيات التي يقوم بها
ُّ السبب والنتيجة ،بحيث ّإن األعامل السببي العاملي ،ويُعنى هذا القانون مببدأ َّ
ويتبنّاها األشخاص يف الوقت الحارضُ ،تحدِّد و ُت ِّ
فرِّس منط وطبيعة األعامل والحياة املستقبل َّية يف بُعدها األخالقي ،فكل
لسبب ما يف الوقت الحايل ،وكل ما هو حارض ،هو نتيجة ٍ ما هو مستقبيل – والدة جديدة - Samsaraهو نتيجة
يوجه معتقديه إىل العيش حياة أخالق َّية[ .املرتجم]. ألسباب حصلت يف املايض ،ومن ثم َّ
فإن قانون الكارما ِّ ٍ تراكم ّية
469
تشكيل العالقات الدولية العاملية
بتهميش قد ٍر كب ٍري من مصادر معرفة حقل العالقات الدولية التي تكون غري علمية
كل ًّيا أو جزئ ًّيا أو التي ال ميكن إثبات تقاربها مع العلم عىل نح ٍو واضح.
ثان ًّيا ،باإلضافة إىل األديان ،فإن لدى العامل غري الغريب أمثلة وفرية من الشخصيات
التاريخية الدينية والسياسية والعسكرية التي فكرت يف حقل العالقات الدولية.
ومن هؤالء صن تزو ،Sun Tzuوهان فيزي ،Han Feiziوكونفوشيوس من الصني؛
وأشوكا ،Ashokaوكوتيليا ،Kautilyaونغارجونا ( Nagarjunaفالسفة من الديانة
البوذية يف الهند خالل القرنني األول والثاين) من الهند .إن األمر املثري لالهتامم عىل
نح ٍو خاص هو أنها تضمنت تنوعًا يف التفكري واملقاربة داخل املجتمعات والثقافات
نفسها وحتى خالل الفرتات الزمنية نفسها .وحقيقة أنه ميكن للمرء أن يجد خالل
كاًل من السياسة الواقعية فرتة قصرية نسب ًّيا من العرص الكالسييك لشامل الهند ً
عند كوتيليا ( )Arthasastraواالستقامة عند أشوكا ( ،)Dharmaكام ميكن للمرء
أن يجد يف الصني خالل فرتة ما قبل ساللة تشني املذاهب املعارصة للواقعية عند
هان فيزي ،واقرتاحات الفيلسوف األخالقي كونفوشيوس ،هي حقيقة تشري إىل
أنه من الخطأ مبكان تصوير الحضارات الرشقية عىل أنها سرتة للتقييد الفلسفي.
والواقع أنها ضمت تعدد األفكار واملقاربات للسياسة والعالقات الدولية .ويف العامل
اإلسالمي ويف الرشق األوسط ،نجد من األمثلة البارزة للمفكرين ابن سينا (عامل
فاريس موسوعي معروف يف الغرب باسم ،)Avicennaوأيضا املفكرين من الفالسفة
العرب بني القرنني التاسع والثاين عرش مثل الكندي (الذي عمل يف بيت الحكمة يف
بغداد يف القرن التاسع ،حيث ُترجم عديد من النصوص الفلسفية والعلمية اليونانية
املهمة إىل العربية)؛ والفارايب ،وابن رشد (يعرف عند الغرب بـ .)Averroësومن
خالل الرتجامت إىل العربية والرشوح التي قدموها ،مل يحافظ هؤالء وغريهم من
العلامء املسلمني عىل املعرفة فقط ،بل قدموا ً
أيضا قد ًرا كب ًريا من املعرفة الفلسفية
اليونانية املنسية أو املفقودة يف نسخها اليونانية األصلية بعد سقوط اإلسكندرية
واعتناق األباطرة الرومان دينا جديدا .الح ًقا ،قبل النهضة األوروبية وعند بدايتها،
ستُرتجم هذه النصوص واملعارف العربية يف إسبانيا اإلسالمية إىل الالتينية وكذا
إىل فرنسية العصور الوسطى ،وستؤثر ليس فقط يف تفكري الالهوتيني املسيحيني
مثل توماس األكويني ،ولكن ً
أيضا ستؤثر يف العقالنية األوروبية الحديثة املبكرة يف
470
نحو حقل عالقات دولية عاملي
باريس وجامعات أكسفورد .ويوجد بالفعل نوع من أدبيات نظرية سياسية ثانوية
بشأن هؤالء املفكرين ،والتي ميكن إقحامها يف مجال العالقات الدولية .فقد كان
ابن خلدون (1406-1332م) عىل القدر نفسه من األهمية بني املفكرين اإلسالميني،
حيث أثرت نظريته الديناميكية للتفاعل بني املجتمعات املستقرة والبدوية كمحرك
للتاريخ يف أعامل املؤرخني العثامنيني يف القرن السابع عرش مثل كاتب شلبي؛ وأحمد
جودت باشا؛ ومصطفى نعيمة؛ واستشهد به الباحث املعارص يف حقل العالقات
الدولية روبرت كوكس (.)1992b
ثال ًثا ،تفكري ومقاربة املفكرين والقادة السياسيني يف العامل املستع َمر .كام ذكرنا
بالتفصيل يف الفصول السابقة ،كانت األفكار والحركات القومية املناهضة لالستعامر
وال َن َزعَات الوحدوية اإلقليمية؛ سواء تلك املتأتية من النشطاء السياسيني أو الباحثني
(أو كليهام) ،مصد ًرا رئيسا للتفكري يف حقل العالقات الدولية املوجود يف كل منطقة.
إن حقيقة أن بعض هذه الرشاكات شكلت رشاكات يف األفكار (مثل تلك التي
كانت بني تاغور وأوكاكورا) أو الحركات أو يف كليهام ،تجعل تفكريهم أكرث أهمية
كأسس لحقل العالقات الدولية العاملي .ومن املهم أن نالحظ أنه ،كام يف املايض
الكالسييك ،كان التفكري الدويل يف العرص الحديث يف العامل غري الغريب بالكاد موحدًا.
عىل سبيل املثال ،قد يجد املرء يف اليابان أفكا ًرا ،أحيا ًنا متباينة وأحيا ًنا متكاملة،
بشأن العالقات الدولية من أواخر القرن التاسع عرش حتى فرتة ما بعد الحرب
العاملية الثانية ،خاصة عند شيجريو تاباتا Shigejiro Tabata؛ ويوشيكازو ساكاموتو
Yoshikazu Sakamoto؛ وماساتاكا كوساكا Masataka Kosaka؛ وماساميتيش
روياما Masamichi Royama؛ وأكريا أوساوا Akira Osawa؛ ونيشيدا كيتارو
Nishida Kitaro؛ وكيسابورو يوكوتا Kisaburo Yokota؛ وهيكوماتسو كاميكاوا
Hikomatsu Kamikawa؛ وكوتارو تاناكا Kotaro Tanaka؛ وكاورو ياسوي
Kaoru Yasuiوشيجريو تاباتا ( )Shimizu et al., 2008وباملثل ،يجب عىل
األكادمييني الباحثني عن مصادر مهمة ولكن متباينة لتفكري حقل العالقات الدولية
يف الهند دراسة كتابات بانيكار K. M. Panikkar؛ وسيرس غوبتا؛ وأبادوراي A.
Appadorai؛ ورانا A. P. Rana؛ وبانديوبادياي ،Jayantanuja Bandyopadhyaya
وأشيش ناندي (.)Ashis Nandy Mallavarapu
471
تشكيل العالقات الدولية العاملية
املصدر الرابع الذي ميكن أن يستمد منه التفكري والتنظري العاملي يف حقل
العالقات الدولية هو أعامل هؤالء الباحثني املعارصين الذين انخرطوا يف نظرية
العالقات الدولية الغربية وتحدوها يف معظم الحاالت ومن مواقع مختلفة حول
العامل .وتشمل القامئة ،عىل سبيل املثال ال الحرص ،محمد أيوب (الواليات املتحدة)؛
وأرلني تيكرن (كولومبيا) ؛ وبينار بيلجني (تركيا)؛ وبهجت كوراين (مرص)؛ ونافنيتا
تشادها بيهريا (الهند)؛ وكانتي باجباي (الهند)؛ وتاكايش إنوغوتيش (اليابان)؛ وتشني
ياكينغ (الصني)؛ ويان شوتونغ (الصني)؛ وتانغ شيبينغ (الصني)؛ وسيبا غروفوغوي
(الواليات املتحدة)؛ وأيضا ل .ش .لينغ (الواليات املتحدة)؛ وراندولف بريسود
(الواليات املتحدة)؛ وسانكاران كريشنا (الواليات املتحدة)؛ ورويب شيليام (الواليات
املتحدة)؛ وديانا تويس (األرجنتني)؛ وإيفلني جوه (أسرتاليا)؛ وأوليفر ستوينكيل
(الربازيل)؛ وسوايت باراشار (السويد)؛ وشاندرا موهانتي (الواليات املتحدة)؛
ويونغجني زانغ (اململكة املتحدة)؛ وشوجو سوزويك (اململكة املتحدة) وواندي نايت
أيضا تضمني :جي أن تينكر (الواليات املتحدة)؛ وجايك ترو (أسرتاليا)؛(كندا) .ونود ً
وأندرو هوريل (اململكة املتحدة)؛ ولويس فايست (اململكة املتحدة)؛ وبيرت
كاتسينستني (الواليات املتحدة)؛ ودفيد كانغ (الواليات املتحدة)؛ وإريك هااليرن
(كندا)؛ ويت.يف .بول (كندا)؛ وأندرو فيليبس (أسرتاليا) .القامئة بعيدة كل البعد عن
كونها شاملة وال تنصف االختالفات بني هؤالء الباحثني وتعقيد تفكريهم ،لكنها
تشري إىل أن حقل العالقات الدولية العاملي هو بالفعل مرشوع ناشئ مبساهامت
من علامء من الرشق والغرب والشامل والجنوب .وحقيقة أن بعض هؤالء مثل
محمد أيوب؛ وسيبا غروفوغوي؛ أندي نايت؛ وسانكاران كريشنا؛ راندولف بريسود
كانوا يف األصل من الجنوب العاملي ولكنهم انتقلوا إىل الواليات املتحدة لن يجعل
مساهمتهم أقل شأنا بالنسبة إىل الفكر غري الغريب؛ فيمكن للمرء يف الواقع أن يجادل
العاملنْي الغريب
ْ بأن مساهمتهم تستفيد من األفكار التي تأيت مع كونهم جز ًءا من
أيضا هو أن بعض الباحثني ،مثل أرلني تيكرن أوليفروغري الغريب(٭) .واملثري لالهتامم ً
472
نحو حقل عالقات دولية عاملي
ستوينكيل ،قد انتقلوا من الغرب إىل مواقعهم الحالية يف العامل الجنويب .وقد احتفظ
العديد من هؤالء الباحثني بروابط وثيقة مع بلدانهم األصلية ،أو يركز عملهم جزئ ًّيا
عىل األقل عىل بلدانهم /مناطقهم األصلية ،كام حافظوا عىل روابط وثيقة مع أفكار
ومؤسسات تلك املناطق .ويعكس عمل عديد من هؤالء الباحثني الظروف التاريخية
والراهنية للجنوب العاملي ،وخصوصا بلدانهم /مناطقهم األصلية.
ويف حني أن القاسم املشرتك ألعاملهم يتمثل يف الدعوة إىل مزيد من الفهم
وتضمني األفكار واملقاربات غري الغربية ،فإن هؤالء الباحثني يسعون وراء مجموعة
متنوعة من االهتاممات واملقاربات النظرية .مع األخذ بعني االعتبار أن تصنيف
مفرطا يف التبسيطكتاباتهم ضمن «املعسكرات» النظرية السائدة ميكن أن يكون ً
والتضليل ،واليزال بإمكان املرء أن يقدم بعض التعميامت املعقولة .و ُيع ِّرف كل
من بريسود؛ وشليا؛ ولينج؛ وبيلجني؛ وكريشنا؛ وغروفوجي أنفسهم بوضوح بأنهم
ينتمون إىل مدرسة ما بعد االستعامرية .كام أن تينكر وبيهايرا ينتميان عموما
إىل مدرسة ما بعد االستعامرية .أما تفكري تشني فهو أساسا تفكري بنايئ (وإن كان
متأث ًرا بشدة بالثقافة الصينية يف قيادته للمدرسة الصينية للعالقات الدولية) ،بينام
يرفض مواطنه يان ،الذي يستمد أفكاره عىل قدم املساواة من الثقافة الصينية،
فكرة املدرسة الصينية ويطلق عىل نظريته «الواقعية األخالقية» .وقد طور تانغ
مقارب ًة انتقائي ًة «تطوري ُة اجتامعي ًة» ،بحيث تنسجم مع الفهم البنايئ لحقل
لعالقات الدولية .أما باجباي؛ وإنوغيش؛ وستونكيل؛ ونايت ،فهم أقرب إىل الليربالية،
بينام طور أيوب مقاربة أطلق عليها «الواقعية الفرعية» .يف حني يرتبط هوريل
وسوزويك وزانغ باملدرسة اإلنجليزية .إن هذا االختالف هو السمة املميزة ملرشوع
حقل العالقات الدولية العاملي الذي يحتضن التعددية النظرية ،مبا يف ذلك نظريات
العالقات الدولية القامئة والنظريات التي تتحداها .إذ يجب عىل املهتمني مبرشوع
حقل العالقات الدولية العاملي االعتامد عىل /وإقحام املفكرين والقادة واملساهامت
املتأتية من مختلف التقاليد النظرية واملنهجية.
أيضا عىل قد يعتمد املصدر الخامس لتفكري حقل العالقات الدولية العاملي ً
املامرسة العملية ،وخاصة األمناط الواسعة وطويلة األجل للعالقات والتفاعالت وبناء
املؤسسات الجارية يف أجزاء مختلفة من العاملُ .يعد االعتامد عىل املامرسة لبناء
473
تشكيل العالقات الدولية العاملية
النظرية أم ًرا شائ ًعا يف أبحاث حقل العالقات الدولية الغريب .ومن ثم ،كان الوفاق
األورويب هو األساس لألدبيات املتمحورة حول «األنظمة األمنية» ،وكان االتحاد
األورويب هو نقطة االنطالق الرئيسة للمؤسسات الليربالية الجديدة ،بينام قدم نظام
ميزان القوى األورويب الكالسييك قد ًرا كب ًريا من التنظري بشأن انتقال القوة (كونه اآلن
ينطبق عىل صعود الصني) وديناميكيات التحالف وأدبيات «أسباب الحرب» .ومن
هنا فإن السؤال املطروح« :إذا كان من املمكن تحويل السياسة اإلقليمية ألوروبا
وشامل األطليس إىل نظري ٍة للعالقات الدولية ،فلامذا ال ميكن تحويل السياسة
أيضا إىل نظري ٍة للعالقات الدولية؟» (.)Acharya, 2015 اإلقليمية اآلسيوية ً
مجااًل رئيسا ور ً
اسخا يف تفكري وكام أوضحنا يف الفصول السابقةُ ،ت َعد اإلقليمية ً
ومامرسة العالقات الدولية يف أجزاء كثرية من الجنوب العاملي .من املفهوم جيدًا
اآلن أن مناطق العامل املختلفة تتبع مسارات مختلفة للتعاون اإلقليمي (Acharya
) .and Johnston, 2007و ُت َعد مقاربات التعاون اإلقليمي يف آسيا وأمريكا الالتينية
وأفريقيا والرشق األوسط جميعها طر ًقا مهمة لتوسيع دراسات العالقات الدولية
وتطوير نظريتها .وهنا ،كام هو الحال مع أفكار ومقاربات املفكرين الكالسيكيني
والقوميني من ذوي النزعة الوحدوية اإلقليمية ،فإن األعامل املقارنة مفيدة عىل نح ٍو
خاص .وبينام َت ُعدُّ كل منطقة نفسها أن لديها مسارات ومقاربات فريدة أو مميزة،
أيضا بعض أوجه التشابه بينها .فعىل سبيل املثالُ ،ي َعدُّ اتخاذ القرار مثة يف الواقع ً
باإلجامع مامرس ًة عاملية للمؤسسات اإلقليمية متعددة األطراف ،عىل الرغم من أنها
تكتسب بالفعل أسطورة معينة عن التميز يف سياقات محلية ويجري االعرتاف بها
وقبولها عىل هذا النحو.
- 5املحاذير واملخاطر
مثة بالطبع محاذير ومخاطر مرتبطة بحقل العالقات الدولية العاملي والتي
تتطلب مزيدًا من االهتامم والنقاش .والستدعاء مقولة روبرت كوكس مرة أخرى
(« ،)1981: 128النظرية هي دامئًا لشخص ما ولغرض ما» ،ملن هو ،إذن ،حقل
العالقات الدولية العاملي وألي غرض جاء؟ من بني املخاوف األخرى املتعلقة بحقل
العالقات الدولية العاملي ،فإن ما ييل جدير باملالحظة عىل نح ٍو خاص:
474
نحو حقل عالقات دولية عاملي
-خطر الرتكيز حرص ًّيا أو عىل نح ٍو أسايس عىل الدول غري الغربية األقوى واألكرث
ثرا ًء باملوارد :الهند؛ والصني؛ والربازيل؛ وجنوب أفريقيا؛ وتركيا وما إىل ذلك ،حيث
تتقدم أبحاث حقل العالقات الدولية عىل نح ٍو أرسع مع إهامل البلدان األضعف
يف العامل النامي .وظهور املدرسة الصينية لحقل العالقات الدولية لهو ٌ
مثال شاهدٌ
عىل هذا االحتامل.
-إمكانية تكرار األفكار الغربية أو إعادة إنتاجها مع تعديالت طفيفة .وقد
ينتهي األمر بـحقل العالقات الدولية العاملي إىل عوملة نظريات ومفاهيم حقل
العالقات الدولية التقليدي ،عىل الرغم من ملء املحتوى الجديد من خالل جمع
أيضا تساؤالت بشأن املزاعم االنعتاقية لحقل املفاهيم حول العامل .وقد يثري هذا ً
العالقات الدولية العاملي.
-صعوبة دراسة جميع األمم والحضارات وقضايا املناطق يف إطار واحد ،خاصة
مع االختالفات الثقافية والسياسية واالقتصادية الكبرية القامئة بني املجتمعات
واملناطق.
-خطر جعل حقل العالقات الدولية واس ًعا للغاية ،مام يقلل من قيمته التحليلية
ويجعل بناء النظرية أم ًرا صع ًبا.
-من خالل التطلع إىل بناء رسدية مشرتكة والسعي إىل إنهاء إقصاء البقية ،قد
يرصف حقل العالقات الدولية العاملي االنتباه عن أشكال االستبعاد األخرى واألكرث
تحديدًا ،مثل الجنس والعرق ...إلخ.
إن هذه املخاطر ليست بالهينة ،وإبقاؤها يف بؤرة الرتكيز من شأنه أن يساعد
باحثي حقل العالقات الدولية العاملي عىل تجنبها.
ومتاش ًيا مع فكرتنا عن التعددية الراسخة ،ال نرى حقل العالقات الدولية العاملي
كمثل االنفجار العظيم big bang؛ إذ من املرجح أن ينبض بالحياة خالل العقود
املقبلة بعد بذل عديد من املجهودات .ويتمثل أحد جوانب ظهور هذا الحقل
العاملي يف الحساسية املتزايدة تجاه الجنوب العاملي املوجودة يف الكتب املدرسية
الجامعية؛ واألجندة البحثية؛ وبرامج التدريس والتدريب يف البلدان املركزية يف
الغرب .واألهم من ذلك ،هو الجهود املبذولة إلنهاء استعامر حقل العالقات الدولية
يف أماكن مختلفة كانت حتى اآلن محرومة من التعرف عليها ومن اإلدالء بصوتها.
475
تشكيل العالقات الدولية العاملية
يف هذا السياقُ ،ت َعدُّ املؤسسات املحلية والرشاكات واملنشورات مهمة جدا .والتزال
منظامت الدراسات الدولية الغربية تسيطر عليها وجهات النظر التقليدية والتزال
ُتدار من قبل قيادة غربية عىل نح ٍو أسايس ،وبعضها فقط ممن يراعي ذلك كان
قد أبدى تعاطفا مع عامل ما بعد الغرب .ومن غري املرجح أن يتغري هذا الوضع
برسعة .ويف الوقت نفسه ،ومع استمرار تقدم دراسة العالقات الدولية حول العامل،
سيشهد التيار الغريب السائد مقاومة متزايدة ألساطريه التأسيسية ً
ورفضا لرسدياته
السائدة .وال ُينذر هذا التنوع والتعددية بـ «نهاية حقل العالقات الدولية» باعتباره
تخصصا أو نظرية ،بل يؤسس حقال جديدًا يعتمد عىل مبدأ «العاملية التعددية»
التي نوقشت سابقا .ومقاربة حقل العالقات الدولية العاملي ُمُتثل طريقة مهمة
للميض ُقد ًما نحو تخصص كان ُينظر إليه تقليد ًّيا عىل أنه «علم اجتامعي أمرييك»
ُيهمش العامل النامي .ونحن نأمل يف أن يوضح هذا الكتاب بقوة تأثري اإلمكانات
التحويلية للجهود املحلية يف املشهد األكرب لحقل العالقات الدولية العاملي.
خالصات
ليك يصبح عامل ًّيا ،يجب عىل حقل العالقات الدولية أن يبذل جهدًا كب ًريا إلعادة
تأسيس نفسه مرة أخرى .وكام أوضحنا ،فإن التأسيسني األول والثاين لهذا التخصص
الحديث حدثا خالل حقبة ذروة الهيمنة الغربية .لقد جرى كال التأسيسني األول
والثاين يف املَ ْر َكز ،واشتمال عىل تطورات مؤسسية تركزت عىل نح ٍو رئيس يف الدول
الناطقة باللغة اإلنجليزية .وقد عكست كل من مؤسسات حقل العالقات الدولية
وموضوعاتها ونظريتها مصالح ووجهات نظر القوى املركزية املهيمنة .وهكذا ُش ِّكل
حقل العالقات الدولية بقوة من خالل كل من قضايا ومامرسات العالقات الدولية
التي ُحدِّدت إىل حد كبري من قبل القوى الكربى الغربية ،ومن خالل رؤية تاريخ
العامل عىل أساس أنه امتداد للتاريخ األورويب .ولإلجابة عن سؤال روبرت كوكس الذي
ُأثري يف القسم السابق ،فقد ُص ِّمم حقل العالقات الدولية عىل نح ٍو مؤسيس ونظري
ومن حيث نظرته إىل التاريخ من ِق َبل دول املَ ْر َكز وألجلها .فمنذ تأسيسه ،عكس
هذا التخصص املعريف ،واليزال ،السياق الذي وضعته تلك البلدان ،والذي متظهر يف
مجتمع دويل عاملي استعامري وشبه استعامري ُم َؤسس عىل ثنائية املَ ْر َكز -األَ ْط َراف
476
نحو حقل عالقات دولية عاملي
شديدة الفصل .ومن ثم ،فإن منظورات واهتاممات دول املَ ْر َكز متجذرة بعمق يف
هذا التخصص .إن قول هذا ال يعني إجراء نقد معياري بقدر ما هو مالحظة تاريخية
وبنيوية .ويف ظل ظروف تأسيسه ،كان سيكون من املدهش أن يتخذ حقل العالقات
الدولية منذ نشأته ً
شكاًل عامل ًّيا حقيق ًّيا باملعنى الذي نطلق عليه هنا .وبالنسبة إىل
حقل العالقات الدولية ،ليس من املستغرب أن يعكس التخصص األكادميي الظروف
االجتامعية املحيطة به ،خاصة خالل مراحل تكوينه .ولذا ،فإن النقطة ال تكمن يف
نقد مايض هذا الحقل املعريف ،بقدر ما تكمن يف اإلشارة إىل املكان الذي يجب أن
ينتقل إليه انطالقا من هنا ،وذلك من أجل الخروج من خصوصيات تأسيسه.
لقد كانت موضوعاتنا الرئيسة يف هذا الكتاب هي إضفاء الطابع املؤسيس
أيضا باسم «التفكري يف العالقات الدولية») والتاريخ ،وميكننا والنظرية (ويعرف ً
تلخيصها والتطلع إىل األمام ضمن هذه املصطلحات.
وكام أوضحنا يف الفصول السابقة ،فإن عملية إضفاء الطابع املؤسيس عىل حقل
العالقات الدولية عىل مدى عدة عقود حتى اآلن مل تنرش التخصص خارج املَ ْر َكز
أيضا شبكات وهياكل عاملية حقيقية .لقد نجحت هذه التطورات فقط ،بل بنت ً
يف تآكل الفصل املبكر لـحقل العالقات الدولية الخاص باألَ ْط َراف عن ذلك املوجود
يف املَ ْر َكز .وهناك الكثري مام يجب فعله قبل فعل أي يشء ،مثل تكافؤ الفرص يف
جميع أنحاء العامل ،ب ْيد أن تطورات حقل العالقات الدولية يف الصني وتركيا وأمريكا
رحب بهذه التطورات الالتينية وأماكن أخرى تتحرك يف االتجاه الصحيح .حيث ُي َّ
املؤسسية عىل نح ٍو عام ،ودعمها إىل حد ما ،من قبل مجتمعات حقل العالقات
الدولية يف املَ ْر َكز ،وقد ُد ِمجت يف املؤسسات العاملية ،و ُينظر إليها عمو ًما عىل أنها
فرصة لتوسيع التخصص أكرث من كونها متثل أي نوع من التهديد .من الناحية
سلسا نسب ًّيا ،عىل
املؤسسية ،يبدو الطريق نحو حقل العالقات الدولية العاملي ً
رغم أنه طويل .ورمبا تكون العقبة الرئيسة هي كيفية الجمع بني مجتمعات حقل
العالقات الدولية يف الدول االستبدادية -حيث ُتخرتَق املنظامت األكادميية عىل
نح ٍو كبري من ِقبل الحكومات -مع املنظامت املوجودة يف الدول الدميوقراطية التي
تتمتع بقدر أكرب من االستقالل الذايت باعتبارها منظامت عضوية مستقلة .وتعد
الصني هي النموذج الحايل الواضح لهذه اإلشكالية.
477
تشكيل العالقات الدولية العاملية
إن القصة مع نظرية العالقات الدولية تشبه إىل حد ما قصة املؤسسات .لقد
فتحت دول األطراف نفسها أمام بعض التنظري املتأيت من دول املركز ،بينام يف
الوقت نفسه ،أتاحت دول املركز بعض املجال لتفكري ما بعد االستعامرية .ومرة
أخرى ،فالوضع ال يكاد يكون وضعا متواز ًنا ،وهناك الكثري للنهوض به .لقد وجدت
نظرية ما بعد االستعامرية ،جن ًبا إىل جنب مع النظريات النقدية األخرى ،مكانة
هامشية داخل حقل العالقات الدولية يف املَ ْر َكز .وهذا التهميش م َّثل مصدر شكوى،
أيضا كان عالمة عىل التقدم حتى أنه ُأ ِّسس االعرتاف مبكانته .والتزال الجهود
لكنه ً
املبذولة يف الصني وأماكن أخرى إلقحام تاريخها ونظرياتها السياسية ضمن التخصص
يف مرحلة مبكرة ،وهي موضع ترحيب عىل نح ٍو عام .أما فيام يتعلق مبا إذا كان
ُينظر إىل مثل هذه التطورات أو س ُينظر إليها عىل أنها تهديد ،فهو سؤال مثري
لالهتامم ويصعب الرد عليه أكرث مام هو عليه الحال يف قضية املأسسة .قد ينظر
البعض إىل ما بعد االستعامرية عىل أنها تهديد ،سواء عىل أساس «العلم» أو بسبب
الحمل السيايس الذي يحمله عديد من مؤيديها .لكن هذا ال مييزها بقوة عن
خطوط التفكري األخرى للنظرية النقدية ،حيث تكون التوترات والخالفات قامئة إىل
حد كبري داخل املَ ْر َكز .وكمثل ما بعد االستعامرية ،يأيت عديد من هؤالء ً
أيضا مع
حموالت سياسية وطبقة سميكة من املصطلحات اللغوية الذاتية والصياغة التي
يصعب عىل الغرباء اخرتاقها .ومرة أخرى ،تسري تلك التوجهات يف االتجاه الصحيح
نحو وجود حقل عالقات دولية أكرث عاملية ،لكن الطريق أمامنا طويل ووعر ،وقد
يكون صخر ًّيا يف بعض األماكن .فقد صار حقل العالقات الدولية يف املركز متنوعًا من
الناحية النظرية ،ولذا فإن هذا الباب يظل مفتوح نسب ًّيا ً
أيضا.
رمبا تشكل مسألة التاريخ أعمق وأصعب عقبة أمام حقل العالقات الدولية
العاملي .فهو ال يحتاج إىل الخروج من «سجن علم السياسة» فقط (Rosenberg,
أيضا إىل الخروج من ضيق نظرته للتاريخ املبنية عىل املركزية ) ،2016ولكن يحتاج ً
األوروبية .سيكون من األمور الحاسمة يف اتخاذ هذه الخطوة الكبرية التساؤل
القوي عن األسطورة القوية القائلة بأنه نظ ًرا إىل أن التاريخ الغريب أصبح املحرك
الرئيس لتاريخ العامل خالل القرنني التاسع عرش والعرشين ،فمن املربر قراءة كل من
املستقبل واملايض البعيد من خالل تلك العدسة .من الواضح أن حجة قراءة املايض
478
نحو حقل عالقات دولية عاملي
ماقبل الحدايث مبصطلحات مركزية أوروبية هي حجة ضعيفة عىل نح ٍو واضح ،لكنها
مع ذلك ُت َعدُّ حجة راسخة بقوة .ونظ ًرا إىل التأثري االستثنايئ للغرب يف إنشاء أول
مجتمع دويل عاملي حديث ،فهناك مزيد مام ميكن قوله إلعطاء املركزية األوروبية
مهاًم يف التفكري بشأن املستقبل .ومع ذلك ،وكام ناقشنا يف الفصل التاسع ،يف دو ًرا ً
عامل تسوده التعددية العميقة ،فإن التعددية الثقافية املدعومة بالرثوة والقوة تعيد
تشكيل املجتمع الدويل العاملي برسعة .إن أسطورة الغائية الليربالية العاملية تفسح
املجال ليشء أكرث انتشا ًرا .ستعيد التعددية العميقة تشكيل املجتمع الدويل العاملي
بطرق مهمة للغاية .لكن التعددية العميقة نفسها ستظل تتشكل إىل حد كبري
من خالل اإلرث الغريب .وللتعامل مع هذا التحول ،ال يريد حقل العالقات الدولية
يب عن نظره التاريخ الغريب ،ولكنه يحتاج إىل ترسيخ هذا التاريخ العاملي أن ُي َغ َ
املعني ضمن منظور تاريخي أعمق للعامل .وكام ذكرنا سابقا ،يحتاج حقل العالقات
الدولية العاملي إىل تجسيد التعددية العاملية وأن يرتكز عىل تاريخ عاملي حقيقي.
إن ما يظهر كحقيقة للعامل هو ،من ناحية ،توليفة جديدة بني تعدد الحضارات
والثقافات التي هي إرث املايض العميق للبرشية ،وهو ،من ناحية أخرى ،حالة
الحداثة والرتابط والعوملة التي هي إرث الحداثة والهيمنة الغربية خالل القرنني
التاسع عرش والعرشين .فقط عندما يكون حقل العالقات الدولية قاد ًرا عىل
توسيع منظوره التاريخي ،سيكون يف وضع يسمح له بفهم والتنظري لهذا التوليف
العاملي رسيع االنتشار بني الثقافة والحداثة .إن أسباب التفاؤل بشأن تحطيم هذا
الرتكيز املتجذر بعمق عىل التاريخ الغريب هو ،وكام جادلنا يف هذا الكتاب ،بسبب
كون حقل العالقات الدولية ظل دامئًا نظا ًما مر ًنا وقاد ًرا عىل التكيف برسعة مع
التغيريات التي قدمها موضوعه املضطرب .وكام أوضحنا ،فإن تطور حقل العالقات
نواح عديدة أحداث وهياكل مامرسة العالقات الدولية عرب عدة الدولية قد اتبع من ٍ
فرتات .ومع اقرتاب هذه الحقبة الغريبة من الهيمنة الغربية الضيقة عىل املجتمع
الدويل العاملي من نهايتها ،يحتاج حقل العالقات الدولية اآلن إىل أداء هذه الحيلة
مرة أخرى .لقد خدم حقل العالقات الدولية بالفعل وتكيف مع حقبتني متميزتني
للم ْج َت َمع الدُ َو ِيِل ال َعالَ ِمي االِ ْس ِت ْع َاَم ِري للعالقات الدولية كمامرسة :الصيغة ُ
األ َ
وىَل ُ
للم ْج َت َم ِع ال َد ْو ِيِل ال َعالَ ِمي بني وىَل ا ُمل َعدلة ُ ال َغ ْر ِيِب حتى العام ،1945والصيغة ُ
األ َ
479
تشكيل العالقات الدولية العاملية
العامني 1945و 2008تقري ًبا .واآلن الصيغة الثانية للمجتمع الدويل العاملي آخذة
يف الظهور برسعة .ستكون الصيغة الثانية للمجتمع الدويل العاملي مابعد الغربية؛
خروجا كب ًريا
ً مبعنى أن الغرب مل يعد هو من يحدد املركزية الرائدة ،ومن ثم سيكون
جدًا عن الرشوط التي حددت حقل العالقات الدولية منذ نشأته .وستكون صيغةً
تعددي ًة عميق ًة؛ مبعنى وجود عدة مراكز رئيسة للرثوة والقوة والسلطة الثقافية،
بعضها جديد وبعضها قديم .لقد أصبح العامل ح ًقا واحدًا مرة أخرى ،ليس فقط
باملعنى الذي تفهمه عادة «العوملة» ،ولكن مبعنى أن الحداثة أصبحت يف آن واحد
متعددة الثقافات ،وقامئة عىل النوع البرشي عىل نطاق واسع ،وال متثل فقط امتيا ًزا
السرْي مع هذا التدفق،
ألقلية صغرية .إن حقل العالقات الدولية العاملي يحتاج إىل ْ
واالستمرار يف تقدمه الذي ال يستهان به بالفعل نحو إقحام تفكري كل من املَ ْركزَ
واألَ ْط َراف بشأن العالقات الدولية ضمن إطار مؤسيس نظري وتاريخي وعاملي واحد.
480
ببليوغرافيا
Withe
ببليوغرافيا
Abdulghani, Roeslan (1964) The Bandung Spirit, Jakarta: Prapantja.
Abernathy, David B. (2000) The Dynamics of Global Dominance, New Haven,
CT: Yale University Press.
Acharya, Amitav (1996) ‘The Periphery As the Core: The Third World and
Security Studies’, in Keith Krause and Michael Williams (eds.), Critical
Security Studies, Minneapolis: University of Minnesota Press, 299–327.
(2000) ‘Ethnocentrism and Emancipatory IR Theory’, in Samantha Arnold
and J. Marshall Bier (eds.), (Dis)placing Security: Critical Re-evaluations of the
Boundaries of Security Studies, Toronto: Centre for International and Security
Studies, York University, 1–18.
(2001a) Constructing a Security Community in Southeast Asia: ASEAN and the
Problem of Regional Order, London: Routledge.
(2001b) ‘Human Security: East versus West’, International Journal, 56:3,
442–60.
(2004) ‘How Ideas Spread: Whose Norms Matter? Norm Localization and
Institutional Change in Asian Regionalism’, International Organization, 58:2,
239–75.
(2009) Whose Ideas Matter? Agency and Power in Asian Regionalism, Ithaca, NY:
Cornell University Press.
(2011a) ‘Dialogue and Discovery: In Search of International Relations
Theories Beyond the West’, Millennium, 39:3, 619–37.
(2011b) ‘Norm Subsidiarity and Regional Orders: Sovereignty, Regionalism,
and Rule-making in the Third World’, International Studies Quarterly, 55:1,
95–123.
(2013a) ‘Imagining Global IR Out of India’, Keynote speech to Annual
International Studies Conference, 10–12 December, Jawaharlal Nehru
University, New Delhi, India.
(2013b) ‘The R2P and Norm Diffusion: Towards a Framework of Norm
Circulation’, Global Responsibility to Protect, 5:4, 466–79.
(2014a) ‘Global International Relations (IR) and Regional Worlds: A New
Agenda for International Studies’, International Studies Quarterly, 58:4,
322 647–59.
(2014b) The End of American World Order, Cambridge: Polity Press.
(2014c) ‘International Relations: A Dying Discipline’, World Policy Blog, 2
May, www.worldpolicy.org/blog/2014/05/02/international-studies-dying-
322 discipline
References
(Accessed 27 May 2018).
(2014d) ‘International Relations Theory and the Rise of Asia’, in Saadia
Pekkanen, John Ravenhill and Rosemary Foot (eds.), The Oxford Handbook 321
of
the International Relations of Asia, Oxford: Oxford University Press, 120–37.
(2015) ‘Identity without Exceptionalism: Challenges for Asian Political
and International Studies’, Asian Political and International Studies Review
1, 1–11.
(2016) ‘Idea-shift: How Ideas from the Rest Are Reshaping Global Order’,
Third World Quarterly, 37:7, 1156–70.
(2017) East of India, South of China: Sino-Indian Encounters in Southeast Asia,
New Delhi: Oxford University Press.
(2018) Constructing Global Order: Agency and Change in World Politics,
Cambridge: Cambridge University Press.
Acharya, Amitav and Barry Buzan (2007a) ‘Why Is There No Non-Western
International Relations Theory? An Introduction’, International Relations of
the Asia-Pacific, 7:3, 287–312.
(eds.) (2007b) ‘Why Is There No Non-Western International Relations Theory?
Reflections on and from Asia’, International Relations of the Asia-Pacific,
483 special issue, 7:3, 285–470.
(eds.) (2010) Non-Western International Relations Theory: Perspectives on and
beyond Asia, London: Routledge.
(2017) ‘Why Is There No Non-Western International Relations Theory? Ten
Years On’, International Relations of the Asia-Pacific, 17:3, 341–70.
Third World Quarterly, 37:7, 1156–70.
(2017) East of India, South of China: Sino-Indian Encounters in Southeast Asia,
New Delhi: Oxford University Press.
(2018) Constructing Global Order: Agency and Change in World Politics,
Cambridge: Cambridge University Press.
Acharya, Amitav and Barry Buzan (2007a) ‘Why Is There No Non-Western
International Relations Theory? An Introduction
العاملية’, International Relations
العالقات الدولية تشكيل of
the Asia-Pacific, 7:3, 287–312.
(eds.) (2007b) ‘Why Is There No Non-Western International Relations Theory?
Reflections on and from Asia’, International Relations of the Asia-Pacific,
special issue, 7:3, 285–470.
(eds.) (2010) Non-Western International Relations Theory: Perspectives on and
beyond Asia, London: Routledge.
(2017) ‘Why Is There No Non-Western International Relations Theory? Ten
Years On’, International Relations of the Asia-Pacific, 17:3, 341–70.
Acharya, Amitav and Alastair Iain Johnston (eds.) (2007) Crafting Cooperation:
Regional International Institutions in Comparative Perspective, Cambridge:
Cambridge University Press.
Adachi, Mineichiro and Charles De Visscher (1923) ‘Examen de l’organisation
et des statuts de la Société des Nations’, Annuaire de l’Institut de droit inter-
national, 30, 22–64.
Adebajo, Adekeye and Chris Landsberg (2001) ‘The Heirs of Nkrumah: Africa’s
New Interventionists’, Pugwash Occasional Papers, 2:1, 17 pp.
Adem, Seifudein (2017) ‘Was Ali Mazrui Ahead of His Time’, in Kimani Njogu
and Seifudein Adem (eds.), Perspectives on Culture and Globalization: The
Intellectual Legacy of Ali A. Mazrui, Nairobi: Twaweza Communications,
243–59.
Adler, Emanuel (1997) ‘Seizing the Middle Ground: Constructivism in World
Politics’, European Journal of International Relations, 3:3, 319–63.
Adler, Emanuel and Michael Barnett (eds.) (1998) Security Communities,
Cambridge: Cambridge University Press.
Agathangelou, Anna M. and L. H. M. Ling (2004) ‘The House of IR: From
Family Power Politics to the Poisies of Worldism’, International Studies
Review, 6:4, 21–49.
(2009) Transforming World Politics: From Empire to Multiple Worlds, London:
Routledge.
323 Ahmad, Aijaz (1997) ‘Postcolonial Theory and the “Post-” Condition’, in Leo
Panitch (ed.), Ruthless Criticism of All that Exists, The Socialist Register 1997,
London: Merlin Press, 353–81.
Ahrari, M. Ehsan (2001) ‘Iran, China and Russia: The Emerging Anti-US
Nexus?References
’, Security Dialogue, 32:4, 453–66. 323
Batabyal, Rakesh (2015) JNU: The Making of a University, New Delhi: Harper
Collins.
Bayly, Martin J. (2017a) ‘Imagining New Worlds: Forging “Non-Western”
International Relations in Late Colonial India’, British Academy Review,
30, 50–3.
(2017b) ‘Global at Birth: The Multiple Beginnings of International Relations’,
Unpublished manuscript, 28 pp.
Bayly, Susan (2004) ‘Imagining “Greater India”: French and Indian Visions of
Colonialism in the Indic Mode’, Modern Asian Studies, 38:3, 703–44.
Behera, Navnita Chadha (2007) ‘Re-imagining IR in India’, International
Relations of the Asia-Pacific, 7:3, 341–68.
(2009) ‘South Asia: A “Realist” Past and Alternative Futures’, in Arlene B.
Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the
World, Abingdon: Routledge, 134–57.
(2010) ‘Re-imagining IR in India’, in Amitav Acharya and Barry Buzan (eds.),
Non-Western International Relations Theory: Perspectives on and beyond Asia,
London: Routledge, 92–116.
Belich, James (2009) Replenishing the Earth: The Settler Revolution and the Rise of
the Anglo-World, 1783–1939, New York: Oxford University Press.
Bell, Duncan (2007) The Idea of Greater Britain: Empire and the Future of World
Order, 1860–1900, Princeton: Princeton University Press.
(2013) ‘Race and International Relations: Introduction’, Cambridge Review of
International Affairs, 26:1, 1–4.
Bell, Sydney Smith (1859) Colonial Administration of Great Britain, London:
Longman, Brown, Green, Longmans and Roberts.
Benedick, Richard E. (1991) Ozone Diplomacy: New Directions in Safeguarding the486
Planet, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Bernal-Meza, Raúl (2016) ‘Contemporary Latin American Thinking on
International Relations: Theoretical, Conceptual and Methodological
Contributions’, Revista Brasileira de Politica Internacional, 59:1, 1–32.
Non-Western International Relations Theory: Perspectives on and beyond Asia,
London: Routledge, 92–116.
Belich, James (2009) Replenishing the Earth: The Settler Revolution and the Rise of
the Anglo-World, 1783–1939, New York: Oxford University Press.
Bell, Duncan (2007) The Idea of Greater Britain: Empire and the Future of World
Order, 1860–1900, Princeton: Princeton University Press.
(2013) ‘Race and International Relations: Introduction’, Cambridge Review of
ببليوغرافيا
International Affairs, 26:1, 1–4.
Bell, Sydney Smith (1859) Colonial Administration of Great Britain, London:
Longman, Brown, Green, Longmans and Roberts.
Benedick, Richard E. (1991) Ozone Diplomacy: New Directions in Safeguarding the
Planet, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Bernal-Meza, Raúl (2016) ‘Contemporary Latin American Thinking on
International Relations: Theoretical, Conceptual and Methodological
Contributions’, Revista Brasileira de Politica Internacional, 59:1, 1–32.
Bertucci, Mariano E., Jarrod Hayes and Patrick James (2018) ‘Constructivism
in International Relations: The Story So Far’, in Patrick James, Mariano E.
Bertucci and Jarrod Hayes (eds.), Constructivism Reconsidered: Past, Present
and Future, Ann Arbor, MI: University of Michigan Press, 15–31.
The Bhagavad-Gita (1986) Translated by Barbara Stoler Miller, New York:
Bantam Dell.
Biersteker, Thomas (2009) ‘The Parochialism of Hegemony: Challenges for
“American” International Relations’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver
(eds.), International Relations Scholarship around the World, Abingdon:
Routledge, 308–27.
Bilgin, Pinar (2004a) Regional Security in the Middle East: A Critical Perspective,
London: Routledge.
326
(2004b) ‘International Politics of Women’s (In)security: Rejoinder to Mary
Caprioli’, Security Dialogue, 35:4, 499–504.
(2008) ‘Thinking Past “Western” IR?’, Third World Quarterly, 29:1, 5–23.
(2013) References
326 ‘Pinar Bilgin on Non-Western IR, Hybridity, and the One-
Toothed Monster called Civilization’, Theory Talks (forum), 20 December,
www.files.ethz.ch/isn/175508/Theory%20Talk61_Bilgin.pdf (Accessed 23
September 2016).
Bischoff , Paul-Henri, Kwesi Aning and Amitav Acharya (2016) ‘Africa in Global
International Relations: Emerging Approaches to Theory and Practice, an
Introduction’, in Paul-Henri Bischoff , Kwesi Aning and Amitav Acharya
(eds.), Africa in Global International Relations: Emerging Approaches to Theory
and Practice, London: Routledge, 1–21.
Bloch, Ivan (1898) La Guerre Future (English title: Is War Now Impossible?)
Paris: Guillaumin et C. Editeurs.
Booth, Ken (1975) ‘The Evolution of Strategic Thinking’, in John Baylis, Ken
Booth, John Garnett and Phil Williams, Contemporary Strategy: Theories and
Policies, London: Croom Helm, 22–49.
(1996) ‘75 Years On: Rewriting the Subject’s Past – Reinventing its Future’,
in Steve Smith, Ken Booth and Marysia Zalewski (eds.), International
Theory: Positivism and Beyond, Cambridge: Cambridge University Press,
328–39.
Bostrum, Nick (2014) Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies, Oxford: Oxford
University Press.
Bostrum, Nick and Milan M. Ćirkovic ́ (eds.) (2008) Global Catastrophic Risks,
Oxford: Oxford University Press.
Bouchet, Nicolas (2013) ‘Bill Clinton’, in Michael Cox, Timothy J. Lynch and
Nicolas Bouchet (eds.), US Foreign Policy and Democracy Promotion: From
Theodore Roosevelt to Barack Obama, Abingdon: Routledge, 159–77.
Bowden, Brett (2009) The Empire of Civilization: The Evolution of an Imperial
Idea, Kindle edn, Chicago: University of Chicago Press.
Bowman, Isaiah (1921) The New World: Problems in Political Geography, Yonkers-
on-Hudson, NY: World Book Company.
Brewin, Christopher (1995) ‘Arnold Toynbee, Chatham House, and Research in
a Global Context’, in David Long and Peter Wilson (eds.), Thinkers of the
Twenty Years’ Crisis: Inter-War Idealism Reassessed, Oxford: Clarendon Press,
487 277–301.
Bridgman, Raymond L. (1905) World Organization, Boston: Ginn & Co.
Brodie, Bernard (1946) The Absolute Weapon: Atomic Power and World Order,
New York: Harcourt Brace.
Brown, Michael E., Sean M. Lynn-Jones and Steven E. Miller (1996) Debating
Bouchet, Nicolas (2013) ‘Bill Clinton’, in Michael Cox, Timothy J. Lynch and
Nicolas Bouchet (eds.), US Foreign Policy and Democracy Promotion: From
Theodore Roosevelt to Barack Obama, Abingdon: Routledge, 159–77.
Bowden, Brett (2009) The Empire of Civilization: The Evolution of an Imperial
Idea, Kindle edn, Chicago: University of Chicago Press.
Bowman, Isaiah (1921) The New World: Problems in Political Geography, Yonkers-
on-Hudson, NY: World Book Company. تشكيل العالقات الدولية العاملية
Brewin, Christopher (1995) ‘Arnold Toynbee, Chatham House, and Research in
a Global Context’, in David Long and Peter Wilson (eds.), Thinkers of the
Twenty Years’ Crisis: Inter-War Idealism Reassessed, Oxford: Clarendon Press,
277–301.
Bridgman, Raymond L. (1905) World Organization, Boston: Ginn & Co.
Brodie, Bernard (1946) The Absolute Weapon: Atomic Power and World Order,
New York: Harcourt Brace.
Brown, Michael E., Sean M. Lynn-Jones and Steven E. Miller (1996) Debating
the Democratic Peace, Cambridge, MA: MIT Press.
Brown, Philip Marshall (1923) International Society: Its Nature and Interests,
New York: Macmillan Company.
Brown, William (2012) ‘A Question of Agency: Africa in International Politics’,
Third World Quarterly, 33:10, 1889–908.
Brownlie, Ian ([1966] 1998) Principles of Public International Law, New York:
Oxford University Press.
Brynjolfsson, Eric and Andrew McAfee (2014) The Second Machine Age: Work,
327
Progress and Prosperity in a Time of Brilliant Technologies, New York: W.
W. Norton.
Buell, Raymond Leslie (1925) International Relations, New York: Henry Holt.
, Nikolai (1916) Imperialism and World Economy, London: Martin
BukharinReferences 327
Lawrence.
Bull, Hedley (1966) ‘International Theory: The Case for a Classical Approach’,
World Politics, 18:3, 361–77.
(1977) The Anarchical Society: A Study of Order in World Politics, London:
Macmillan.
(1984) ‘The Revolt against the West’, in Hedley Bull and Adam Watson (eds.),
The Expansion of International Society, Oxford: Oxford University Press,
217–28.
Bull, Hedley and Adam Watson (1984a) ‘Introduction’, in Hedley Bull and
Adam Watson (eds.), The Expansion of International Society, Oxford: Oxford
University Press, 1–9.
(eds.) (1984b) The Expansion of International Society, Oxford: Oxford University
Press.
Burchill, Scott and Andrew Linklater (2013) ‘Introduction’, in Scott Burchill,
Andrew Linklater, Richard Devetak, Jack Donnelly, Terry Nardin,
Matthew Paterson, Christian Reus-Smit and Jacqui True (eds.), Theories of
International Relations, 5th edn., New York: Macmillan Palgrave, 1–31.
Butler, Dell Marie (2010) ‘What Is at Stake in the Third Debate and Why Does
It Matter for International Theory?’, E-International Relations, 16 January,
www.e- ir.info/ 2010/ 01/ 16/ what- is- at- stake- in- the- third- debate- and- why-
does-it-matter-for-international-theory/ (Accessed 27 May 2018).
Buzan, Barry (1973) ‘The British Peace Movement from 1919 to 1939’, London
University, PhD thesis.
(1983) People, States and Fear, Brighton: Wheatsheaf Books.
([1991] 2007) People, States and Fear, Colchester: ECPR Press.
(2004a) The United States and the Great Powers, Cambridge: Polity Press.
(2004b) From International to World Society? English School Theory and the Social
Structure of Globalisation, Cambridge: Cambridge University Press.
(2006) ‘Will the “Global War on Terrorism” Be the New Cold War?’,
International Affairs, 82:6, 1101–18.
(2011) ‘A World Order without Superpowers: Decentred Globalism’,
International Relations, 25:1, 1–23.
(2012) ‘The South Asian Security Complex in a Decentering World Order:
Reconsidering Regions and Powers Ten Years On’, International Studies, 48:1,
1–19.
(2013) ‘Review of The Social Evolution of International Politics,’ International
Affairs, 89:5, 1304–5.
488
(2014) An Introduction to the English School of International Relations, Cambridge:
Cambridge University Press.
(2017) ‘Revisiting World Society’, International Politics, 55:1, 125–40.
(2004a) The United States and the Great Powers, Cambridge: Polity Press.
(2004b) From International to World Society? English School Theory and the Social
Structure of Globalisation, Cambridge: Cambridge University Press.
(2006) ‘Will the “Global War on Terrorism” Be the New Cold War?’,
International Affairs, 82:6, 1101–18.
(2011) ‘A World Order without Superpowers: Decentred Globalism’,
International Relations, 25:1, 1–23.
ببليوغرافيا
(2012) ‘The South Asian Security Complex in a Decentering World Order:
Reconsidering Regions and Powers Ten Years On’, International Studies, 48:1,
1–19.
(2013) ‘Review of The Social Evolution of International Politics,’ International
Affairs, 89:5, 1304–5.
(2014) An Introduction to the English School of International Relations, Cambridge:
Cambridge University Press.
(2017) ‘Revisiting World Society’, International Politics, 55:1, 125–40.
(2018) ‘Nuclear Weapons and Deterrence in the Post-Western World Order’,
International Security Studies, 1, 53–73 (in Chinese).
(forthcoming) ‘The Dual Encounter: Parallels in the Rise of China (1978–)
and Japan (1868–1945)’, in Takashi Inoguchi (ed.), Sage Handbook of Asian
328 Foreign Policy.
Buzan, Barry and Lene Hansen (2009) The Evolution of International Security
Studies, Cambridge: Cambridge University Press.
Buzan, Barry and Eric Herring (1998) The Arms Dynamic in World Politics,
328 References
Boulder, CO: Lynne Rienner.
Buzan, Barry and George Lawson (2014a) ‘Rethinking Benchmark Dates in
International Relations’, European Journal of International Relations, 20:2,
437–62.
(2014b) ‘Capitalism and the Emergent World Order’, International Affairs,
90:1, 71–91.
(2015a) The Global Transformation: History, Modernity and the Making of
International Relations, Cambridge: Cambridge University Press.
(2015b) ‘Twentieth Century Benchmark Dates in International Relations: The
Three World Wars in Historical Perspective’, International Security Studies
(Beijing), 1:1, 39–58.
(2018) ‘The English School: History and Primary Institutions as Empirical
IR Theory?’, in William R. Thompson (ed.), The Oxford Encyclopedia of
Empirical International Relations Theories, New York: Oxford University
Press, 783–99.
Buzan, Barry and Richard Little (2000) International Systems in World History:
Remaking the Study of International Relations, Oxford: Oxford University Press.
(2010) ‘The Historical Expansion of International Society’, in Robert
Allen Denemark (ed.), The International Studies Encyclopedia, Chichester:
Wiley-Blackwell.
(2014) ‘The Historical Expansion of International Society’ in Cornelia Navari
and Daniel M. Green (eds.), Guide to the English School in International
Studies, Chichester: Wiley-Blackwell, 59–75.
Buzan, Barry and Laust Schouenborg (2018) Global International Society: A New
Framework for Analysis, Cambridge: Cambridge University Press.
Buzan, Barry and Ole Wæver (2003) Regions and Powers: The Structure of
International Security, Cambridge: Cambridge University Press.
Buzan, Barry, Ole Wæver and Jaap de Wilde (1998) Security: A New Framework
for Analysis, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Caballero-Anthony, Mely (ed.) (2015) An Introduction to Non-Traditional Security
Studies, London: Sage.
Caballero-Anthony, Mely, Ralf Emmers and Amitav Acharya (eds.) (2006), Non-
Traditional Security in Asia: Dynamics of Securitisation, London: Ashgate.
Calhoun, Craig (2017) ‘Nation and Imagination: How Benedict Anderson
Revolutionized Political Theory’, ABC, 9 May, www.abc.net.au/religion/art-
icles/2017/05/09/4665722.htm (Accessed 27 May 2018).
Campbell, David (1998) Writing Security: United States Foreign Policy and Politics
of Identity, 2nd and revised edn., Manchester: Manchester University Press.
(2013) ‘Poststructuralism’, in Tim Dunne, Milja Kurki and Steve Smith
489 (eds.), International Relations Theories: Discipline and Diversity, 3rd edn.,
Oxford: Oxford University Press, 223–46.
Cardoso, Fernando and Enzo Faletto (1972) Dependency and Development in
Latin America, Berkeley and Los Angeles: University of California Press.
Carozza, Paolo G. (2003) ‘From Conquest to Constitutions: Retrieving a Latin
Caballero-Anthony, Mely (ed.) (2015) An Introduction to Non-Traditional Security
Studies, London: Sage.
Caballero-Anthony, Mely, Ralf Emmers and Amitav Acharya (eds.) (2006), Non-
Traditional Security in Asia: Dynamics of Securitisation, London: Ashgate.
Calhoun, Craig (2017) ‘Nation and Imagination: How Benedict Anderson
Revolutionized Political Theory’, ABC, 9 May, www.abc.net.au/religion/art-
icles/2017/05/09/4665722.htm (Accessed 27 May 2018).
العاملية تشكيل العالقات الدولية
Campbell, David (1998) Writing Security: United States Foreign Policy and Politics
of Identity, 2nd and revised edn., Manchester: Manchester University Press.
(2013) ‘Poststructuralism’, in Tim Dunne, Milja Kurki and Steve Smith
(eds.), International Relations Theories: Discipline and Diversity, 3rd edn.,
Oxford: Oxford University Press, 223–46.
Cardoso, Fernando and Enzo Faletto (1972) Dependency and Development in
Latin America, Berkeley and Los Angeles: University of California Press.
Carozza, Paolo G. (2003) ‘From Conquest to Constitutions: Retrieving a Latin
American Tradition of the Idea of Human Rights’, Human Rights Quarterly,
329
25:2, 281–313.
Carpenter, Ted Galen (1991) ‘The New World Disorder’, Foreign Policy, 84,
24–39.
Carr, E. H. ([1939] 2016) The Twenty Years’ Crisis, 1919–1939, London: Palgrave
References 329
Macmillan.
(1946) The Twenty Years’ Crisis, 1919–1939: An Introduction to the Study of
International Relations, 2nd edn., London: Macmillan.
(1964) The Twenty Years’ Crisis, 1919–1939: An Introduction to the Study of
International Relations, 2nd edn., New York: Harper & Row.
Carvalho, Benjamin de, Halvard Leira and John Hobson (2011) ‘The Big Bangs
of IR: The Myths That Your Teachers Still Tell You about 1648 and 1919’,
Millennium, 39:3, 735–58.
Castle, David Barton (2000) ‘Leo Stanton Rowe and the Meaning of Pan-
Americanism’, in David Sheinin (ed.), Beyond the Ideal: Pan Americanism in
International Affairs, Westport, CT: Praeger, 33–44.
Cerny, Phil (1993) ‘ “Plurilateralism”: Structural Differentiation and Functional
Conflict in the Post-Cold War World Order’, Millennium, 22:1, 27–51.
Césaire, Aimé (1955) Discourse on Colonialism, translated by J. Pinkham,
New York: Monthly Review Press.
Cha, Victor D. (1997) ‘Realism, Liberalism, and the Durability of the US–South
Korean Alliance’, Asian Survey, 37:7, 609–22.
(1999) ‘Engaging China: Seoul–Beijing Detente and Korean Security’,
Survival, 41:1, 73–98.
(2000) ‘Abandonment, Entrapment, and Neoclassical Realism in Asia: The
United States, Japan and Korea’, International Studies Quarterly, 44:2,
261–91.
(2010) ‘Powerplay: Origins of the US Alliance System in Asia’, International
Security, 34:3, 158–96.
Chakrabarty, Dipesh (2000) Provincializing Europe: Postcolonial Thought and
Historical Difference, Princeton: Princeton University Press.
Chan, Stephen, Peter G. Mandaville and Roland Bleiker (eds.) (2001) The Zen
of International Relations: IR Theory from East to West, New York: Palgrave.
Chatterjee, M. N. (1916) ‘The World and the Next War: An Eastern Viewpoint’,
Journal of Race Development, 6:4, 388–407.
Chatterjee, Partha (1993) The Nation and Its Fragments: Colonial and Postcolonial
Histories, Princeton: Princeton University Press.
Checkel, Jeffrey (2013) ‘Theoretical Pluralism in IR: Possibilities and Limits’, in
Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons (eds.), Handbook of
International Relations, 2nd edn., London: Sage, 220–41.
Chibber, Vivek (2013) ‘How Does the Subaltern Speak?’, Jacobin, 21 April,
www.jacobinmag.com/2013/04/how-does-the-subaltern-speak (Accessed
17 May 2018).
Chong, Alan (2012) ‘Premodern Southeast Asia as a Guide to International
Relations between Peoples: Prowess and Prestige in ‘‘Intersocietal Relations’’
in the Sejarah Melayu’, Alternatives, 37:2, 87–105.
(2017) ‘Empire of the Mind: José Rizal and Proto-nationalism in the
490
Philippines’, in Pinar Bilgin and L. H. M. Ling (eds.), Asia in International
Relations: Unlearning Imperial Power Relations, London: Routledge, 160–71.
Chowdhry, Geeta and Sheila Nair (eds.) (2004) Power, Postcolonialism, and
International Relations: Reading Race, Gender, and Class, London: Routledge.
Christensen, Jens (1998) ‘Internettets Verden’ [The World of the Internet],
Checkel, Jeffrey (2013) ‘Theoretical Pluralism in IR: Possibilities and Limits’, in
Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons (eds.), Handbook of
International Relations, 2nd edn., London: Sage, 220–41.
Chibber, Vivek (2013) ‘How Does the Subaltern Speak?’, Jacobin, 21 April,
www.jacobinmag.com/2013/04/how-does-the-subaltern-speak (Accessed
17 May 2018).
ببليوغرافيا
Chong, Alan (2012) ‘Premodern Southeast Asia as a Guide to International
Relations between Peoples: Prowess and Prestige in ‘‘Intersocietal Relations’’
in the Sejarah Melayu’, Alternatives, 37:2, 87–105.
(2017) ‘Empire of the Mind: José Rizal and Proto-nationalism in the
Philippines’, in Pinar Bilgin and L. H. M. Ling (eds.), Asia in International
Relations: Unlearning Imperial Power Relations, London: Routledge, 160–71.
Chowdhry, Geeta and Sheila Nair (eds.) (2004) Power, Postcolonialism, and
330 International Relations: Reading Race, Gender, and Class, London: Routledge.
Christensen, Jens (1998) ‘Internettets Verden’ [The World of the Internet],
Samvirke, 4 (April), 106–12.
330 , Jose
Cintra Thiago (1989) ‘Regional Conflicts: Trends in a Period of Transition’,
References
Adelphi Papers, 29:237, 94–108.
Claassen, Casper Hendrik (2011) ‘The Africanist Delusion: In Defence of the
Realist Tradition and the Neo-Neo Synthesis’, Journal of Politics and Law,
4:1, 181–7.
Clark, Ian (1997) Globalization and Fragmentation: International Relations in the
Twentieth Century, Oxford: Oxford University Press.
(1999) Globalization and International Relations Theory, Oxford: Oxford
University Press.
(2007) International Legitimacy and World Society, Oxford: Oxford University
Press.
(2011) Hegemony in International Society, Oxford: Oxford University Press.
Clausewitz, Carl von ([1832] 1968) On War, Harmondsworth: Penguin.
Clodfelter, Michael (2002) Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Reference to
Casualty and Other Figures, 1500–2000, 2nd edn., London: McFarland & Co.
Cochran, Molly (2008) ‘The Ethics of the English School’, in Christian Reus-
Smit and Duncan Snidal (eds.), The Oxford Handbook of International
Relations, Oxford: Oxford University Press, 286–97.
Cohen, Benjamin J. (2007) ‘The Transatlantic Divide: Why Are American and British
IPE so Different?’, Review of International Political Economy, 14:2, 197–219.
(2008) International Political Economy: An Intellectual History, Princeton:
Princeton University Press.
Cohen, Benjamin (2014) International Political Economy, Cheltenham, UK:
Edward Elgar.
Cohen, Raymond and Raymond Westbrook (2000) Amarna Diplomacy: The
Beginnings of International Relations, Baltimore: Johns Hopkins University
Press.
(eds.) (2008) Isaiah’s Vision of Peace in Biblical and Modern International
Relations: Swords into Plowshares, New York: Palgrave.
Colgan, Jeff D. (2016) ‘Where Is International Relations Going? Evidence from
Graduate Training’, International Studies Quarterly, 60:3, 486–98.
Collins, Michael (2011) Empire, Nationalism and the Postcolonial World, London:
Routledge.
Copeland, Dale (2010) ‘Realism and Neorealism in the Study of Regional
Conflict’, Paper presented at conference on ‘When Regions Transform’,
McGill University, 9 April.
Cornelissen, Scarlett, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw (2012) ‘Introduction:
Africa and International Relations in the 21st Century: Still Challenging
Theory?’, in Scarlett Cornelissen, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw
(eds.), Africa and International Relations in the 21st Century, Basingstoke:
Palgrave, 1–17.
Cox, Michael (2001) ‘Introduction’, in E. H. Carr (ed.), The Twenty Years Crisis,
Basingstoke: Palgrave, ix–ixxxii.
Cox, Robert W. (1980) ‘The Crisis of World Order and the Problem of
International Organization’, International Journal, 35:2, 370–95.
(1981) ‘Social Forces, States and World Order: Beyond International Relations
491 Theory’, Millennium, 10:2, 126–55.
(1986) ‘Social Forces, States, and World Orders: Beyond International
Relations Theory’, in Robert O. Keohane (ed.), Neorealism and Its Critics,
New York: Columbia University Press, 204–54.
Cornelissen, Scarlett, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw (2012) ‘Introduction:
Africa and International Relations in the 21st Century: Still Challenging
Theory?’, in Scarlett Cornelissen, Fantu Cheru and Timothy M. Shaw
(eds.), Africa and International Relations in the 21st Century, Basingstoke:
Palgrave, 1–17.
Cox, Michael (2001) ‘Introduction’, in E. H. Carr (ed.), The Twenty Years Crisis,
Basingstoke: Palgrave, ix–ixxxii. تشكيل العالقات الدولية العاملية
Cox, Robert W. (1980) ‘The Crisis of World Order and the Problem of
International Organization’, International Journal, 35:2, 370–95.
331 (1981) ‘Social Forces, States and World Order: Beyond International Relations
Theory’, Millennium, 10:2, 126–55.
(1986) ‘Social Forces, States, and World Orders: Beyond International
Relations Theory’, in Robert O. Keohane (ed.), Neorealism and Its Critics
References 331,
New York: Columbia University Press, 204–54.
(1987) Production, Power and World Order: Social Forces in the Making of History,
New York: Columbia University Press.
(1992a) ‘Multilateralism and World Order’, Review of International Studies,
18:2, 161–80.
(1992b) ‘Towards a Post-Hegemonic Conceptualization of World Order:
Reflections on the Relevancy of Ibn Khaldun’, in James Rosenau and Ernst-
Otto Czempiel (eds.), Governance without Government: Order and Change in
World Politics, Cambridge: Cambridge University Press, 132–59.
(1993) ‘Production and Security’, in David Dewitt, David Haglund and John
Kirton (eds.), Building a New Global Order: Emerging Trends in International
Security, Toronto: Oxford University Press, 141–58.
(2002) ‘Universality in International Studies’, in Frank P. Harvey and Michael
Brecher (eds.), Critical Perspectives in International Studies, Ann Arbor,
MI: University of Michigan Press, 45–55.
Cox, Robert and Timothy J. Sinclair (1996) Approaches to World Order,
Cambridge: Cambridge University Press.
Cox, Wayne S. and Kim Richard Nossal (2009) ‘The “Crimson World”: The
Anglo Core, the Post-Imperial Non-Core, and the Hegemony of American
IR’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 287–307.
Crawford, Robert M. A. (2001) ‘International Relations as an Academic
Discipline: If It’s Good for America, Is It Good for the World?’, in Robert
A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.), International Relations – Still
an American Social Science? Toward Diversity in International Thought,
New York: State University of New York Press, 1–23.
Cui, Shunji and Barry Buzan (2016) ‘Great Power Management in International
Society’, The Chinese Journal of International Politics, 9:2, 181–210.
Cumings, Bruce (1984) ‘The Origins and Development of the North East
Asian Political Economy: Industrial Sectors, Product Cycles, and Political
Consequences’, International Organization, 38:1, 1–40.
Curtin, Philip D. (2000) The World and the West: The European Challenge and the
Overseas Response in the Age of Empire, Cambridge: Cambridge University
Press.
Dalai Lama (2005) The Universe in a Single Atom: The Convergence of Science and
Spirituality, New York: Morgan Road Books.
Darby, Phillip (2004) ‘Pursuing the Political: A Postcolonial Rethinking of
Relations International’, Millennium, 33:1, 1–32.
Datta-Ray, Deep K. (2015) The Making of Indian Diplomacy: A Critique of
Eurocentrism, Oxford: Oxford University Press.
Davenport, Andrew (2011) ‘Marxism in IR: Condemned to a Realist Fate?’,
European Journal of International Relations, 19:1, 27–48.
Davies, Thomas (2013) NGOs: A New History of Transnational Civil Society,
London: Hurst.
Deloffre, Maryam Zarnegar (2014) ‘Will AFRICOM’s Ebola Response Be
Watershed Moment for International Action on Human Security?’, The
Washington Post, 29 September.
Der Derian, James (2003) ‘The Question of Information Technology’, Millennium,
32:3, 441–56.
492
Eurocentrism, Oxford: Oxford University Press.
Davenport, Andrew (2011) ‘Marxism in IR: Condemned to a Realist Fate?’,
European Journal of International Relations, 19:1, 27–48.
Davies, Thomas (2013) NGOs: A New History of Transnational Civil Society,
London: Hurst.
332
Deloffre, Maryam Zarnegar (2014) ‘Will AFRICOM’s Ebola Response Be
Watershed Moment for International Action on Human Security?’, The
ببليوغرافيا
Washington Post, 29 September.
Der
332Derian , James (2003) ‘The Question of Information Technology’, Millennium,
References
32:3, 441–56.
Deudney, Daniel H. (2007) Bounding Power, Princeton: Princeton University
Press.
Deudney, Daniel and G. John Ikenberry (1999) ‘The Nature and Sources of
Liberal International Order’, Review of International Studies, 25:2, 179–96.
Deutsch, Karl W. (1961) ‘Security Communities’, in James Rosenau (ed.),
International Politics and Foreign Policy: A Reader in Research and Theory,
New York: Free Press, 98–105.
Deutsch, Karl W. and J. David Singer (1969) ‘Multipolar Power Systems and
International Stability’, in James N. Rosenau (ed.), International Politics
and Foreign Policy: A Reader in Research and Theory, New York: Free Press,
315–24.
Devetak, Richard (1996a) ‘Critical Theory’, in Scott Burchill and Andrew
Linklater (eds.), Theories of International Relations, New York: St Martin’s
Press, 145–78.
(1996b) ‘Postmodernism’, in Scott Burchill and Andrew Linklater (eds.),
Theories of International Relations, New York: St Martin’s Press, 179–209.
de Wilde, Jaap (1991) Saved from Oblivion: Interdependence Theory in the First
Half of the 20th Century – A Study on the Causality between War and Complex
Interdependence, Aldershot, Hampshire: Dartmouth Publishing.
Dibb, Paul (1986) The Soviet Union: The Incomplete Superpower, Basingstoke:
Palgrave.
Dickinson, G. Lowes (1916) The European Anarchy, London: G. Allen & Unwin.
Dikötter, Frank (2011) Mao’s Great Famine, Kindle edn., London: Bloomsbury.
(2016) The Cultural Revolution: A People’s History, 1962–1976, New York:
Bloomsbury Press.
Dirlik, Arif (1999) ‘Is There History after Eurocentrism? Globalism, Post-
colonialism, and the Disavowal of History’, Cultural Critique, 42, 1–34.
Dominguez, Jorge I. (2007) ‘International Cooperation in Latin America: The
Design of Regional Institutions by Slow Accretion’, in Amitav Acharya and
Alastair Iain Johnston (eds.), Crafting Cooperation: Regional International
Institutions in Comparative Perspective, Cambridge: Cambridge University
Press, 83–128.
Donnelly, Jack (1998) ‘Human Rights: A New Standard of Civilization?’,
International Affairs, 74:1, 1–23.
(2000) Realism and International Relations, Cambridge: Cambridge University
Press.
Dougherty, James E. and Robert L. Pfalzgraff , Jr. (1997) Contending Theories of
International Relations: A Comprehensive Survey, New York: Longman.
Douhet, Giulio ([1921] 1998) The Command of the Air,Tuscaloosa, AL: University
of Alabama Press.
Doyle, Michael (1986) ‘Liberalism and World Politics’, American Political Science
Review, 80:4, 1151–69.
Dreyer, June Teufel (2016) Middle Kingdom and Empire of the Rising Sun: Sino-
333 Japanese Relations, Past and Present, New York: Oxford University Press.
Drulák, Petr, Jan Karlas and Lucie Königová (2009) ‘Central and Eastern
Europe: Between Continuity and Change’, in Arlene B. Tickner and
Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the World
Ole References 333
,
Abingdon: Routledge, 242–60.
Duara, Prasenjit (2003) Sovereignty and Authenticity: Manchukuo and the East
Asian Modern, Kindle edn., Lanham, MD: Rowman and Littlefield.
Du Bois, W. E. B. ([1940] 1992) The Dusk of Dawn: An Essay toward an
Autobiography, New Brunswick, NJ: Transaction Publishers.
493
Duffy, Charles A. and Werner J. Feld (1980) ‘Whither Regional Integration
Theory’, in Gavin Boyd and Werner J. Feld (eds.), Comparative Regional
Systems: West and East Europe, North America, the Middle East, and Developing
Countries, New York: Pergamon Press, 497–521.
Dunn, Kevin (2001) ‘Introduction: Africa and International Relations Theory’,
333
References 333
العامليةManchukuo
Duara, Prasenjit (2003) Sovereignty and Authenticity: العالقات الدولية
and theتشكيل
East
Asian Modern, Kindle edn., Lanham, MD: Rowman and Littlefield.
Du Bois, W. E. B. ([1940] 1992) The Dusk of Dawn: An Essay toward an
Autobiography, New Brunswick, NJ: Transaction Publishers.
Duffy, Charles A. and Werner J. Feld (1980) ‘Whither Regional Integration
Theory’, in Gavin Boyd and Werner J. Feld (eds.), Comparative Regional
Systems: West and East Europe, North America, the Middle East, and Developing
Countries, New York: Pergamon Press, 497–521.
Dunn, Kevin (2001) ‘Introduction: Africa and International Relations Theory’,
in Kevin Dunn and Timothy Shaw (eds.), Africa’s Challenge to International
Relations Theory, New York: Palgrave, 1–8.
Dunne, Tim (1995) ‘The Social Construction of International Society’, European
Journal of International Relations, 1:3, 367–89.
(1998) Inventing International Society: A History of the English School, London:
Macmillan.
(2003) ‘Society and Hierarchy in International Relations’, International
Relations, 17:3, 303–20.
Dunne, Tim and Christian Reus-Smit (eds.) (2017) The Globalization of
International Society, Oxford: Oxford University Press.
Dunne, Tim and Nicholas J. Wheeler (1999) Human Rights in Global Politics,
Cambridge: Cambridge University Press.
Dunne, Tim, Lene Hansen and Colin Wight (2013) ‘The End of International
Relations Theory?’, European Journal of International Relations, 19:3, 405–25.
Eagleton, Clyde (1932) International Government, New York: Ronald Press
Company.
The Economist (2009) ‘Raúl Prebisch: Latin America’s Keynes’, 5 March, www
.economist.com/node/13226316 (Accessed 27 May 2018).
Elam, J. Daniel (2017) ‘Anticolonialism’, Global South Studies: A Collective
Publication with The Global South, https://globalsouthstudies.as.virginia.edu/
key-concepts/anticolonialism (Accessed 18 May 2018).
Engelbrecht, H. C. and F. C. Hanighen (1934) Merchants of Death: A Study
of the International Armaments Industry, New York: Dodd, Mead and
Company.
EU (2016) Syrian Refugees, http://syrianrefugees.eu (Accessed 7 October 2017).
EUISS (2012) Global Trends 2030 – Citizens in an Interconnected and Polycentric
World, Paris: EUISS, http://espas.eu/orbis/sites/default/files/espas_files/
about/espas_report_ii_01_en.pdf , (Accessed 27 May 2018).
Eun, Yong-Soo (2016) Pluralism and Engagement in the Discipline of International
Relations, Singapore: Palgrave Macmillan.
Eurostat (2017) ‘Gini Coefficient of Equivalised Disposable Income – EU-SILC
Survey’, http://appsso.eurostat.ec.europa.eu/nui/show.do?dataset=ilc_di12
(Accessed 4 October 2017).
Falkner, Robert (2016) ‘The Paris Agreement and the New Logic of International
334 Climate Politics’, International Affairs, 92:5, 1107–25.
Falkner, Robert and Barry Buzan (2017) ‘The Emergence of Environmental
Stewardship as a Primary Institution of Global International Society’,
334 European Journal of International Relations, doi: 10.1177/1354066117741948.
References
Fanon, Frantz (1965) The Wretched of the Earth, New York: Grove Press.
Farrell, Henry (2009) ‘What’s Wrong with International Political Economy’, The
Monkey Cage, 4 March, http://themonkeycage.org/2009/03/whats_wrong_
with_international/ (Accessed 27 May 2018).
Fearon, James and Alexander Wendt (2002) ‘Rationalism v. Constructivism: A
Skeptical View’, in Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons
(eds.), Handbook of International Relations, London: Sage, 52–72.
Fenby, Jonathan (2013) The Penguin History of Modern China: The Fall and Rise
of a Great Power 1850 to the Present, London: Penguin.
Ferguson, Yale H. and Richard W. Mansbach (2014) ‘Reflections on the “Third 494
Debate” ’, Symposium, 20 March, www.isanet.org/Publications/ISQ/Posts/
ID/312/Reflections-on-the-Third-Debate, (Accessed 27 May 2018).
Fierke, Karin M. (1999) ‘Dialogues of Manoeuvre and Entanglement: NATO,
Russia and the CEECs’, Millennium, 28:1, 27–52.
334 References
Farrell, Henry (2009) ‘What’s Wrong with International Political Economy’, The
Monkey Cage, 4 March, http://themonkeycage.org/2009/03/whats_wrong_
with_international/ (Accessed 27 May 2018).
Fearon, James and Alexander Wendt (2002) ‘Rationalism v. Constructivism: A
Skeptical View’, in Walter Carlsnaes, Thomas Risse and Beth A. Simmons
ببليوغرافيا
(eds.), Handbook of International Relations, London: Sage, 52–72.
Fenby, Jonathan (2013) The Penguin History of Modern China: The Fall and Rise
of a Great Power 1850 to the Present, London: Penguin.
Ferguson, Yale H. and Richard W. Mansbach (2014) ‘Reflections on the “Third
Debate” ’, Symposium, 20 March, www.isanet.org/Publications/ISQ/Posts/
ID/312/Reflections-on-the-Third-Debate, (Accessed 27 May 2018).
Fierke, Karin M. (1999) ‘Dialogues of Manoeuvre and Entanglement: NATO,
Russia and the CEECs’, Millennium, 28:1, 27–52.
Finnemore, Martha and Kathryn Sikkink (1999) ‘International Norm Dynamics
and Political Change’, in Peter J. Katzenstein, Robert O. Keohane and
Stephen D. Krasner (eds.), Exploration and Contestation in the Study of World
Politics, Cambridge, MA: MIT Press, 247–77.
Flockhart, Trine (2016) ‘The Coming Multi-Order World’, Contemporary Security
Policy, 37:1, 3–30.
Foot, Rosemary and Andrew Walter (2011) China, the United States and Global
Order, Cambridge: Cambridge University Press.
Foreman-Peck, James (1982) A History of the World Economy: International
Economic Relations since 1850, Brighton: Wheatsheaf .
Frank, Andre Gunder (1966) ‘The Development of Underdevelopment’, Monthly
Review, 18:4, 17–34.
(1971) Capitalism and Underdevelopment in Latin America, London: Penguin.
Frank, Andre Gunder and Barry K. Gills (1992) ‘The Five Thousand Year Old
World System: An Interdisciplinary Introduction’, Humboldt Journal of
Social Relations, 18:1, 1–79.
Fraser, C. Gerald (1989) ‘C. L. R. James, Historian, Critic and Pan-Africanist, Is
Dead at 88’, New York Times, 2 June, www.nytimes.com/1989/06/02/obitu-
aries/ c- l- r- james- historian- critic- and- pan- africanist- is- dead- at- 88.html
(Accessed 27 May 2018).
Frasson-Quenoz, Florent (2015) ‘Latin American Thinking in International
Relations Reloaded’, Oasis, 23, 53–75.
Friedman, Edward (2000) ‘Immanuel Kant’s Relevance to an Enduring Asia-
Pacific Peace’, in Edward Friedman and Barrett L. McCormick (eds.),
What If China Doesn’t Democratize? Implications for War and Peace, Armonk,
NY: M. E. Sharpe, 224–58.
Friedrichs, Jörg (2004) European Approaches to International Relations Theory: A
House with Many Mansions, London and New York: Routledge.
Friedrichs, Jörg and Ole Wæver (2009) ‘Western Europe: Structure and
Strategy at the National and Regional Levels’, in Arlene B. Tickner and
Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship around the World,
335 Abingdon: Routledge, 261–86.
Fukuyama, Francis (1992) The End of History and the Last Man, London: Penguin.
Fukuzawa, Yukichi ([1875] 2009) Bunmeiron no Gairyaku (An Outline of a Theory
of Civilization
References ), translated by David A. Dilworth and G. Cameron Hurst335 III,
New York: Columbia University Press.
Fuller, J. F. C. (1945) Armament and History: The Influence of Armament on
History from the Dawn of Classical Warfare to the End of the Second World War,
New York: C. Scribner’s Sons.
Funtecha, Henry F. (2008) ‘Rizal as a Political Scientist’, 14 August, http://
knightsofrizal.org/?p=354 (Accessed 27 May 2018).
Gaddis, John Lewis (1986) ‘The Long Peace: Elements of Stability in the Post-
War International System’, International Security, 10:4, 99–142.
(1992/3) ‘International Relations Theory and the End of the Cold War’,
International Security, 17:3, 5–58.
Galtung, Johan (1971) ‘A Structural Theory of Structural Imperialism’, Journal
of Peace Research, 8:2, 81–117.
495
Ganguli, Birendranath (1965) Dadabhai Naoroji and the Drain Theory, New York:
Asia Publishing House.
Gao, Bai (2013) ‘From Maritime Asia to Continental Asia: China’s Responses
to the Challenge of the Trans-Pacific Partnership’, 22 pp., https://fsi.fsi.stan-
ford.edu/sites/default/files/evnts/media/Gao.TPP_paper.pdf (Accessed 18
History from the Dawn of Classical Warfare to the End of the Second World War,
New York: C. Scribner’s Sons.
Funtecha, Henry F. (2008) ‘Rizal as a Political Scientist’, 14 August, http://
knightsofrizal.org/?p=354 (Accessed 27 May 2018).
Gaddis, John Lewis (1986) ‘The Long Peace: Elements of Stability in the Post-
War International System’, International Security, 10:4, 99–142.
(1992/3) ‘International Relations Theory and the End
العاملية of the
الدولية Cold تشكيل
العالقات War’,
International Security, 17:3, 5–58.
Galtung, Johan (1971) ‘A Structural Theory of Structural Imperialism’, Journal
of Peace Research, 8:2, 81–117.
Ganguli, Birendranath (1965) Dadabhai Naoroji and the Drain Theory, New York:
Asia Publishing House.
Gao, Bai (2013) ‘From Maritime Asia to Continental Asia: China’s Responses
to the Challenge of the Trans-Pacific Partnership’, 22 pp., https://fsi.fsi.stan-
ford.edu/sites/default/files/evnts/media/Gao.TPP_paper.pdf (Accessed 18
October 2017).
Garver, John W. (2016) China’s Quest: The History of the Foreign Relations of the
People’s Republic of China, New York: Oxford University Press.
Gautam, Pradeep Kumar (2015) ‘Kautilya’s Arthasastra: Contemporary Issues
and Comparison’, IDSA Monograph Series no. 47, New Delhi: Institute of
Defence Studies and Analysis.
Geis, Anna (2013) ‘The “Concert of Democracies”: Why Some States Are More
Equal than Others’, International Politics, 50:2, 257–77.
Gill, Stephen (1991) American Hegemony and the Trilateral Commission,
Cambridge: Cambridge University Press.
Gill, Stephen and David Law (eds.) (1988) The Global Political Economy: Perspectives,
Problems, and Policies, Baltimore: Johns Hopkins University Press.
Gilpin, Robert (1975) US Power and the Multinational Corporation: The Political
Economy of Foreign Direct Investment, New York: Basic Books.
(1981) War and Change in World Politics, Cambridge: Cambridge University
Press.
(1987) The Political Economy of International Relations, Princeton: Princeton
University Press.
(2001) Global Political Economy: Understanding the International Economic
Order, Princeton: Princeton University Press.
Gleditsch, Nils Petter (1992) ‘Democracy and Peace’, Journal of Peace Research,
29:4, 369–76.
Global Governance (2014) ‘Principles from the Periphery: The Neglected
Southern Sources of Global Norms’, Global Governance, special section,
20:3, 359–417.
Goebel, Michael (2015) Anti-Imperial Metropolis: Interwar Paris and the Seeds of
Third World Nationalism, Cambridge: Cambridge University Press.
Gong, Gerrit W. (1984) The Standard of ‘Civilisation’ in International Society,
336 Oxford: Clarendon Press.
(2002) ‘Standards of Civilization Today’, in Mehdi Mozaffari (ed.),
Globalization and Civilizations, London: Routledge.
Gordon
336 , Lincoln
References(1961) ‘Economic Regionalism Reconsidered’, World Politics,
13:2, 231–53.
Goto-Jones, Christopher S. (2005) Political Philosophy in Japan: Nishida, The
Kyoto School and Co-Prosperity, Abingdon: Routledge.
Grant, A. J. (1916) ‘War and Peace since 1815’, in A. J. Grant, Arthur Greenwood,
J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart (eds.), An Introduction to
International Relations, London: Macmillan, 1–36.
Grant, A. J., Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart
(1916) An Introduction to International Relations, London: Macmillan.
Gray, Colin S. (2012) War, Peace and International Relations: An Introduction to
Strategic History, 2nd edn., Kindle edn., London: Routledge.
Gray, Jack (2002) Rebellions and Revolutions: China from the 1800s to 2000,
Oxford: Oxford University Press.
Greenwood, Arthur (1916) ‘International Economic Relations’, in A. J. Grant,
Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart (eds.), An
Introduction to International Relations, London: Macmillan, 66–112.
Greenwood, Ted, Harold A. Feiverson and Theodore B. Taylor (1977) Nuclear 496
Proliferation: Motivations, Capabilities and Strategies for Control, New York:
McGraw-Hill.
Grieco, Joseph M. (1993) ‘Understanding the Problem of International
Cooperation: The Limits of Neoliberal Institutionalism and the Future of
International Relations, London: Macmillan, 1–36.
Grant, A. J., Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart
(1916) An Introduction to International Relations, London: Macmillan.
Gray, Colin S. (2012) War, Peace and International Relations: An Introduction to
Strategic History, 2nd edn., Kindle edn., London: Routledge.
Gray, Jack (2002) Rebellions and Revolutions: China from the 1800s to 2000,
Oxford: Oxford University Press.
ببليوغرافيا
Greenwood, Arthur (1916) ‘International Economic Relations’, in A. J. Grant,
Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr and F. F. Urquhart (eds.), An
Introduction to International Relations, London: Macmillan, 66–112.
Greenwood, Ted, Harold A. Feiverson and Theodore B. Taylor (1977) Nuclear
Proliferation: Motivations, Capabilities and Strategies for Control, New York:
McGraw-Hill.
Grieco, Joseph M. (1993) ‘Understanding the Problem of International
Cooperation: The Limits of Neoliberal Institutionalism and the Future of
Realist Theory’, in David Baldwin (ed.), Neorealism and Neoliberalism: The
Contemporary Debate, New York: Columbia University Press, 301–38.
Grovogui, Siba N. (2013) ‘Postcolonialism’, in Tim Dunne, Milja Kurki and
Steve Smith (eds.), International Relations Theories: Discipline and Diversity,
3rd edn., Oxford: Oxford University Press, 247–65.
Grunberg, Isabelle (1990) ‘Exploring the Myth of Hegemonic Stability’,
International Organization, 44:4, 431–77.
Guardian Datablog (2012) Developing Economies to Eclipse West by 2060, OECD
Forecasts, www.guardian.co.uk/global-development/datablog/2012/nov/09/
developing-economies-overtake-west-2050-oecd-forecasts (Accessed 27
May 2018).
Guha, Ranajit (1982) Subaltern Studies: Writings on South Asian History and
Society, vol. 1, New Delhi: Oxford University Press.
Guimarães, Samuel Pinheiro (2005) Cinco Siglod de Periferia, Buenos Aires:
Prometeo.
Gusterson, Hugh (1999) ‘Nuclear Weapons and the Other in the Western
Imagination’, Cultural Anthropology, 14:1, 111–43.
Guzzini, Stefano (ed.) (2013) The Return of Geopolitics in Europe?, Cambridge:
Cambridge University Press.
Haas, Ernst B. (1964) Beyond the Nation State, Stanford: Stanford University Press.
(1973) ‘The Study of Regional Integration: Reflections on the Joys and Anguish
of Pretheorising’, in Richard A. Falk and Saul H. Mendlovitz (eds.), Regional
Politics and World Order, San Francisco: W. H. Freeman, 103–31.
337
(1975) The Obsolescence of Regional Integration Theory, Berkeley: Institute of
International Studies, University of California.
Haas, Michael (1995) ‘When Democracies Fight One Another, Just What Is the
Punishment
Referencesfor Disobeying the Law?’, Paper presented at the 91st annual
337
meeting of the American Political Science Association, August, Chicago.
(2016) International Relations Theory: Competing Empirical Paradigms, Lanham,
MD: Lexington Books.
Hacke, Christian and Jana Puglierin (2007) ‘John H. Herz: Balancing Utopia
and Reality’, International Relations, 21:3, 367–82.
Hagmann, Jonas and Thomas J. Biersteker (2014) ‘Beyond the Published
Discipline: Toward a Critical Pedagogy of International Studies’, European
Journal of International Relations, 20:2, 291–315.
Hagström, Linus (2015) ‘The “Abnormal” State: Identity, Norm/Exception and
Japan’, European Journal of International Relations, 21:1, 122–45.
Halliday, Fred (1999) Revolutions and World Politics, Basingstoke: Palgrave.
Hansen, Lene and Helen Nissenbaum (2009) ‘Digital Disaster, Cyber Security,
and the Copenhagen School’, International Studies Quarterly, 53:4,
1155–75.
Hansen, Roger D. (1969) ‘Regional Integration: Reflections on a Decade of
Theoretical Efforts’, World Politics, 21:2, 242–71.
Harootunian, H. D. (2002) ‘Postcoloniality’s Unconscious/Area Studies’ Desire’,
in Masao Miyaoshi and H. D. Harootunian (eds.), Learning Places: The
Afterlives of Area Studies, Durham, NC: Duke University Press, 150–74.
Hashmi, Sohail H. (2009) ‘Islam, the Middle East and the Pan-Islamic
497 Movement’, in Barry Buzan and Ana Gonzalez-Pelaez (eds.), International
Society and the Middle East, Basingstoke: Palgrave, 170–200.
Heatley, David P. (1919) Diplomacy and the Study of International Relations,
Oxford: Clarendon Press.
Heeren, A. H. L. (1834) A Manual of the History of the Political System of Europe
Halliday, Fred (1999) Revolutions and World Politics, Basingstoke: Palgrave.
Hansen, Lene and Helen Nissenbaum (2009) ‘Digital Disaster, Cyber Security,
and the Copenhagen School’, International Studies Quarterly, 53:4,
1155–75.
Hansen, Roger D. (1969) ‘Regional Integration: Reflections on a Decade of
Theoretical Efforts’, World Politics, 21:2, 242–71.
Harootunian, H. D. (2002) ‘Postcoloniality’s Unconscious/ Area Studies’
الدولية العاملية العالقاتDesire
تشكيل’,
in Masao Miyaoshi and H. D. Harootunian (eds.), Learning Places: The
Afterlives of Area Studies, Durham, NC: Duke University Press, 150–74.
Hashmi, Sohail H. (2009) ‘Islam, the Middle East and the Pan-Islamic
Movement’, in Barry Buzan and Ana Gonzalez-Pelaez (eds.), International
Society and the Middle East, Basingstoke: Palgrave, 170–200.
Heatley, David P. (1919) Diplomacy and the Study of International Relations,
Oxford: Clarendon Press.
Heeren, A. H. L. (1834) A Manual of the History of the Political System of Europe
and Its Colonies, From Its Formation at the Close of the Fifteenth Century, to Its
Re-establishment upon the Fall of Napoleon, Oxford: D. A. Talboys.
Held, David, Anthony McGrew, David Goldblatt and Jonathan Perraton (1999)
Global Transformations, Cambridge: Polity Press.
Helleiner, Eric (2014) ‘Southern Pioneers of International Development’, Global
Governance, 20:3, 375–88.
(2017) ‘The Latin American Origins of Bretton Woods’, in Matias E.
Margulis (ed.), The Global Political Economy of Raúl Prebisch, New York:
Routledge, 78–94.
Helleiner, Eric and Antulio Rosales (2017) ‘Toward Global IPE: The Overlooked
Significance of the Haya-Mariátegui Debate’, International Studies Review,
19:4, 667–91.
Hemmer, Christopher and Peter J. Katzenstein (2002) ‘Why Is There No NATO
in Asia? Collective Identity, Regionalism, and the Origins of Multilateralism’,
International Organization, 56:3, 575–607.
Henderson, Errol (2013) ‘Hidden in Plain Sight: Racism in International
Relations Theory’, Cambridge Review of International Affairs, 26:1, 71–92.
Higgott, Richard and Richard Stubbs (1995) ‘Competing Conceptions of
338
Economic Regionalism: APEC versus EAEC in the Asia Pacific’, Review of
International Political Economy, 2:3, 516–35.
Higgott, Richard and Matthew Watson (2007) ‘All at Sea in a Barbed Wire Canoe:
338 Professor Cohen’s Transatlantic Voyage in IPE’, Review of International
References
Political Economy, 15:1, 1–17.
Hirst, Paul and Grahame Thompson (1996) Globalisation in Question, Cambridge:
Polity Press.
Hobden, Stephen and Richard Wyn Jones (2008) ‘Marxist Theories of
International Relations’, in John Baylis, Steve Smith and Patricia Owens
(eds.), Globalization of World Politics: An Introduction to International Relations,
4th edn., Oxford: Oxford University Press, 142–59.
Hobson, J. A. (1902) Imperialism: A Study, New York: James Pott & Co.
(1915) Towards International Government, London: G. Allen & Unwin.
Hobson, John M. (2004) The Eastern Origins of Western Civilization,
Cambridge: Cambridge University Press.
(2010) ‘Back to the Future of Nineteenth Century Western International
Thought?’, in George Lawson, Chris Armbruster and Michael Cox (eds.),
The Global 1989, Cambridge: Cambridge University Press, 23–50.
(2012) The Eurocentric Origins of International Relations: Western International
Theory, 1760–2010, Cambridge: Cambridge University Press.
Hodges, Michael (1978) ‘Integration Theory’, in Trevor Taylor (ed.), Approaches
and Theory in International Relations, London: Longman, 237–56.
Hoffmann, Stanley (1977) ‘An American Social Science: International Relations’,
Daedalus, 106:3, 41–60.
(1991) ‘Watch Out for a New World Disorder’, International Herald Tribune,
26 February.
Hollis, Martin and Steve Smith (1990) Explaining and Understanding International
Relations, Oxford: Clarendon Press.
Holsti, Kalevi J. (1985) The Dividing Discipline: Hegemony and Diversity in
International Relations Theory, Boston: Allen and Unwin.
(2001) ‘Along the Road to International Theory in the Next Millennium: Four
498
Travelogues’, in Robert A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.),
International Relations – Still an American Social Science? Toward Diversity in
International Thought, New York: State University of New York Press, 73–99.
(2004) Taming the Sovereigns: Institutional Change in International Politics,
Theory, 1760–2010, Cambridge: Cambridge University Press.
Hodges, Michael (1978) ‘Integration Theory’, in Trevor Taylor (ed.), Approaches
and Theory in International Relations, London: Longman, 237–56.
Hoffmann, Stanley (1977) ‘An American Social Science: International Relations’,
Daedalus, 106:3, 41–60.
(1991) ‘Watch Out for a New World Disorder’, International Herald Tribune,
26 February.
ببليوغرافيا
Hollis, Martin and Steve Smith (1990) Explaining and Understanding International
Relations, Oxford: Clarendon Press.
Holsti, Kalevi J. (1985) The Dividing Discipline: Hegemony and Diversity in
International Relations Theory, Boston: Allen and Unwin.
(2001) ‘Along the Road to International Theory in the Next Millennium: Four
Travelogues’, in Robert A. Crawford and Darryl S. L. Jarvis (eds.),
International Relations – Still an American Social Science? Toward Diversity in
International Thought, New York: State University of New York Press, 73–99.
(2004) Taming the Sovereigns: Institutional Change in International Politics,
Cambridge: Cambridge University Press.
Holsti, Ole R. (2014) ‘Present at the Creation’, Address at the annual meeting
of ISA/West, Pasadena, CA, September 27, www.isanet.org/Portals/0/
Documents/Institutional/Holsti_ISA_West.pdf (Accessed 27 May 2018).
Homer-Dixon, Thomas, Brian Walker, Reinette Biggs, Anne-Sophie Crépin,
Carl Folke, Eric F. Lambin, Garry D. Peterson, Johan Rockström, Marten
Scheffer, Will Steffen and Max Troell (2015) ‘Synchronous Failure: The
Emerging Causal Architecture of Global Crisis’, Ecology and Society, 20:3, 6.
Hopf , Ted (1998) ‘The Promise of Constructivism in International Relations
Theory’, International Security, 23:1, 171–200.
Howard, Michael (1981) War and the Liberal Conscience, Oxford: Oxford
University Press.
339 Howland, Douglas (2016) International Law and Japanese Sovereignty, New York:
Palgrave Macmillan.
Hosoya,Yuichi (2009) ‘Kokusaiseijishi no keifugaku – sengo Nihon no Ayumi wo
chushin ni’ [On the Genealogy of International Political History: Postwar
References 339
Japan’s Path and Before), in Nihon Kokusai Seiji Gakkai [Japan Association
of International Relations] ed., Rekishi no nakano kokusaiseiji [Historical
Approaches to International Politics], Tokyo: Yuhikaku.
Hula, Erich (1942) Pan-Americanism: Its Utopian and Realistic Elements,
Washington, DC: American Council on Public Affairs.
Huntington, Samuel P. (1991) ‘America’s Changing Strategic Interests’,
Survival, 33:1, 3–17.
(1999) ‘The Lonely Superpower’, Foreign Affairs, 78:2, 35–49.
Hurrell, Andrew (2007) On Global Order: Power, Values and the Constitution of
International Society, Oxford: Oxford University Press.
Hurrell, Andrew and Ngaire Woods (1995) ‘Globalization and Inequality’,
Millennium, 24:3, 447–70.
Ikenberry, G. John (2001) After Victory: Institutions, Strategic Restraint, and the
Rebuilding of Order after Major Wars, Princeton: Princeton University Press.
(2009) ‘Liberal Internationalism 3.0: America and the Dilemmas of Liberal
World Order’, Perspectives on Politics, 7:1, 71–86.
(2011) Liberal Leviathan: The Origins, Crisis, and Transformation of the American
World Order, Princeton: Princeton University Press.
Ikenberry, G. John and Michael Mastanduno (2003) ‘Conclusion: Images of
Order in the Asia-Pacific and the Role of the United States’, in G. John
Ikenberry and Michael Mastanduno (eds.), International Relations Theory
and the Asia-Pacific, New York: Columbia University Press, 421–39.
Ikenberry, G. John and Anne-Marie Slaughter (2006) Forging a World of Liberty
under Law: US National Security in the 21st Century, Princeton: Princeton
Project Papers, Woodrow Wilson School of Public and International Affairs.
Inoguchi, Takashi (2007) ‘Are There Any Theories of International Relations in
Japan?’, International Relations of the Asia-Pacific, 7:3, 369–90.
(2009) ‘Japan, Korea, and Taiwan: Are One Hundred Flowers about to
Blossom?’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 86–102.
499
Inter-Agency Network on Women and Gender Equality (1999) ‘Final
Communiqué, Women’s Empowerment in the Context of Human Security’,
7–8 December, ESCAP, Bangkok, Thailand, www.un.org/womenwatch/
ianwge/collaboration/finalcomm1999.htm (Accessed 2 June 2018).
International Institute for Strategic Studies (1971) The Military Balance, vol. 71,
Ikenberry and Michael Mastanduno (eds.), International Relations Theory
and the Asia-Pacific, New York: Columbia University Press, 421–39.
Ikenberry, G. John and Anne-Marie Slaughter (2006) Forging a World of Liberty
under Law: US National Security in the 21st Century, Princeton: Princeton
Project Papers, Woodrow Wilson School of Public and International Affairs.
Inoguchi, Takashi (2007) ‘Are There Any Theories of International Relations in
Japan?’, International Relations of the Asia-Pacific, 7:3الدولية
العاملية , 369–90العالقات
. تشكيل
(2009) ‘Japan, Korea, and Taiwan: Are One Hundred Flowers about to
Blossom?’, in Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations
Scholarship around the World, Abingdon: Routledge, 86–102.
Inter-Agency Network on Women and Gender Equality (1999) ‘Final
Communiqué, Women’s Empowerment in the Context of Human Security’,
7–8 December, ESCAP, Bangkok, Thailand, www.un.org/womenwatch/
ianwge/collaboration/finalcomm1999.htm (Accessed 2 June 2018).
International Institute for Strategic Studies (1971) The Military Balance, vol. 71,
London: International Institute for Strategic Studies.
IOM (International Organization for Migration) (2014) Afghanistan Migration
Profile, https://publications.iom.int/system/files/pdf/mp_afghanistan_0.pdf
(Accessed 7 October 2017).
(2015) Global Migration Flows, www.iom.int/world-migration (Accessed 7
October 2017).
(2017) Global Migration Trends 2015 Factsheet, http://publications.iom.int/
system/files/global_migration_trends_2015_factsheet.pdf (Accessed 7
340 October 2017).
Ireland, Alleyne (1899) Tropical Colonization: An Introduction to the Study of the
Subject, New York: Macmillan & Co.
Jackson, Gregory and Richard Deeg (2006) ‘How Many Varieties of Capitalism?
340 References
Comparing the Comparative Institutional Analyses of Capitalist Diversity’,
Köln, Max Planck Institute for the Study of Societies, Discussion Paper 06/
2, 48 pp.
Jackson, Patrick Thaddeus (2010) The Conduct of Inquiry in International
Relations: Philosophy of Science and Its Implications for the Study of World
Politics, Oxford: Routledge.
(2014) ‘The “Third Debate” 25 Years Later’, Symposium, 20 March, www.
isanet.org/ Publications/ ISQ/ Posts/ ID/ 297/ The- Third- Debate- 25- Years-
Later [Unpaginated essay] (Accessed 27 May 2018).
Jackson, Patrick Thaddeus and Daniel H. Nexon (2013) ‘International Theory in
a Post-Paradigmatic Era: From Substantive Wagers to Scientific Ontologies’,
European Journal of International Relations, 19:3, 543–65.
Jackson, Robert H. (1990) ‘Martin Wight, International Theory and the Good
Life’, Millennium, 19:2, 261–72.
(2000) The Global Covenant: Human Conduct in aWorld of States, Oxford: Oxford
University Press.
James, C. L. R. (1933) The Case for West-Indian Self Government, London:
Hogarth Press.
([1937] 2017) World Revolution, 1917–1936: The Rise and Fall of the Communist
International, Durham, NC: Duke University Press.
([1938] 1989) The Black Jacobins: Toussaint L’Ouverture and the San Domingo
Revolution, 2nd edn., New York: Vintage Books.
Jansen, Jan C. and Jürgen Osterhammel (2017) Decolonization: A Short History,
Princeton: Princeton University Press.
Jansen, Marius B. (2000) The Making of Modern Japan, Cambridge, MA: Belknap
Press.
Jervis, Robert (1994) ‘Hans Morgenthau, Realism, and Scientific Study of
International Politics’, Social Research, 61:4, 853–76.
(1999) ‘Realism, Neoliberalism, and Cooperation: Understanding the Debate’,
International Security, 24:1, 42–63.
Joas, Hans (2003) War and Modernity, translated by Rodney Livingstone,
Cambridge: Polity Press.
Job, Brian L. (ed.) (1991) The (In)security Dilemma: National Security of Third
World States, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Johnston, Alastair Iain (1998) Cultural Realism: Strategic Culture and Grand
Strategy in Chinese History, Princeton: Princeton University Press. 500
(2012) ‘What (If Anything) Does East Asia Tell Us about International
Relations Theory?’, Annual Review of Political Science, 15, 53–78.
Joll, James (1982) ‘The Ideal and the Real: Changing Concepts of the
International System, 1815–1982’, International Affairs, 58:2, 210–24.
Press.
Jervis, Robert (1994) ‘Hans Morgenthau, Realism, and Scientific Study of
International Politics’, Social Research, 61:4, 853–76.
(1999) ‘Realism, Neoliberalism, and Cooperation: Understanding the Debate’,
International Security, 24:1, 42–63.
Joas, Hans (2003) War and Modernity, translated by Rodney Livingstone,
Cambridge: Polity Press.
ببليوغرافيا
Job, Brian L. (ed.) (1991) The (In)security Dilemma: National Security of Third
World States, Boulder, CO: Lynne Rienner.
Johnston, Alastair Iain (1998) Cultural Realism: Strategic Culture and Grand
Strategy in Chinese History, Princeton: Princeton University Press.
(2012) ‘What (If Anything) Does East Asia Tell Us about International
Relations Theory?’, Annual Review of Political Science, 15, 53–78.
Joll, James (1982) ‘The Ideal and the Real: Changing Concepts of the
International System, 1815–1982’, International Affairs, 58:2, 210–24.
Jomini, Antoine-Henri ([1838] 1854) The Art of War, translated by Major O. F.
Winship and Lieut. E. E. McLean, New York: G. P. Putnam.
Kacowicz, Arie M. (2005) The Impact of Norms in International Society: The
341 Latin American Experience, 1881–2001, Notre Dame, IN: Notre Dame
University Press.
(2009) ‘Israel: The Development of a Discipline in a Unique Setting’, in
Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship
References 341
around the World, Abingdon: Routledge, 191–207.
Kahler, Miles (1993) ‘International Relations: An American Social Science or
an International One’, in Linda B. Miller and Michael Joseph Smith (eds.),
Ideas and Ideals: Essays on Politics in Honor of Stanley Hoffmann, Boulder,
CO: Westview Press, 395–414.
(1997) ‘Inventing International Relations: International Relations after
1945’, in Michael W. Doyle and G. John Ikenberry (eds.), New Thinking in
International Relations Theory, Boulder, CO: Westview Press, 20–53.
Kang, David C. (2003) ‘Getting Asia Wrong: The Need for New Analytical
Frameworks’, International Security, 27:4, 57–85.
(2005) ‘Hierarchy in Asian International Relations: 1300–1900’, Asian
Security, 11:1, 53–79.
Kang, Yuwei ([1935] 1958) Da Tong Shu/Ta T’ung Shu (The Great Harmony),
translated by Laurence G. Thompson, London: George Allen & Unwin.
Kaplan, Morton A. (1966) ‘The New Great Debate: Traditionalism vs. Science
in International Relations’, World Politics, 19:1, 1–20.
Kapoor, Ilan (2002) ‘Capitalism, Culture, Agency: Dependency versus
Postcolonial Theory’, Third World Quarterly, 23:4, 647–64.
Kapstein, Ethan B. and Michael Mastanduno (eds.) (1999) Unipolar Politics,
New York: Columbia University Press.
Karim, Azhari (2007) ‘ASEAN: Association to Community: Constructed in
the Image of Malaysia’s Global Diplomacy’, in Abdul Razak Baginda
(ed.), Malaysia’s Foreign Policy: Continuity and Change, Singapore: Marshall
Cavendish, 109–32.
Karl, Rebecca (1998) ‘Creating Asia: China in the World at the Beginning of
Twentieth Century’, The American Historical Review, 103:4, 1096–118.
Katzenstein, Peter J. (2010) ‘A World of Plural and Pluralist Civilizations: Multiple
Actors, Traditions and Practices’, in Peter J. Katzenstein (ed.), Civilizations
in World Politics, London: Routledge, 1–40.
(2012) ‘Many Wests and Polymorphic Globalism’, in Peter J. Katzenstein
(ed.), Anglo-America and Its Discontents: Civilizational Identities beyond West
and East, London and New York: Routledge, 207–47.
Katzenstein, Peter J., Robert O. Keohane and Stephen D. Krasner (eds.)
(1999) Exploration and Contestation in the Study of World Politics, Cambridge,
MA: MIT Press.
Kaushik, Ashok (ed.) (2007) Srimad Bhagavad Gita, English translation by Janak
Datta, 7th edn., New Delhi: Star Publications.
Kawata, Tadashi and Saburo Ninomiya (1964) ‘The Development of the Study
of International Relations in Japan’, The Developing Economies, 2:2, 190–204.
Kayaoğlu, Turan (2010a) Legal Imperialism: Sovereignty and Extraterritoriality in
501 Japan, Ottoman Empire and China, Cambridge: Cambridge University Press.
(2010b) ‘Westphalian Eurocentrism in International Relations Theory’,
International Studies Review, 12:2, 193–217.
Keck, Margaret and Kathryn Sikkink (1998) Activists beyond Borders: Advocacy
Networks in International Politics, Ithaca, NY: Cornell University Press.
(ed.), Anglo-America and Its Discontents: Civilizational Identities beyond West
and East, London and New York: Routledge, 207–47.
Katzenstein, Peter J., Robert O. Keohane and Stephen D. Krasner (eds.)
(1999) Exploration and Contestation in the Study of World Politics, Cambridge,
MA: MIT Press.
Kaushik, Ashok (ed.) (2007) Srimad Bhagavad Gita, English translation by Janak
Datta, 7th edn., New Delhi: Star Publications .
العاملية تشكيل العالقات الدولية
Kawata, Tadashi and Saburo Ninomiya (1964) ‘The Development of the Study
of International Relations in Japan’, The Developing Economies, 2:2, 190–204.
Kayaoğlu, Turan (2010a) Legal Imperialism: Sovereignty and Extraterritoriality in
Japan, Ottoman Empire and China, Cambridge: Cambridge University Press.
(2010b) ‘Westphalian Eurocentrism in International Relations Theory’,
International Studies Review, 12:2, 193–217.
342
Keck, Margaret and Kathryn Sikkink (1998) Activists beyond Borders: Advocacy
Networks in International Politics, Ithaca, NY: Cornell University Press.
Kedourie, Eli (2018) ‘Jamāl al-Dı n ̄ al-Afghānı ̄’, Encyclopaedia Britannica, 2
342 March, www.britannica.com/biography/Jamal-al-Din-al-Afghani (Accessed
References
27 May 2018).
Keeley, James F. (1990) ‘Toward a Foucauldian Analysis of Regimes’, International
Organization, 44:1, 83–105.
Keene, Edward (2002) Beyond the Anarchical Society, Cambridge: Cambridge
University Press.
Keenleyside, T. A. (1982) ‘Nationalist Indian Attitudes towards Asia: A
Troublesome Legacy for Post-Independence Indian Foreign Policy’, Pacific
Affairs, 55:2, 210–30.
Keith, A. Berriedale (1924) The Constitution, Administration and Laws of the
Empire, London: W. Collins Sons & Co.
Kennedy, Dane (1996) ‘Imperial History and Post-Colonial Theory’, Journal of
Imperial and Commonwealth History, 24:3, 345–63.
Keohane, Robert O. (1984) After Hegemony: Cooperation and Discord in the World
Political Economy, Princeton: Princeton University Press.
(1989) International Institutions and State Power: Essays in International Relations
Theory, Boulder, CO: Westview Press.
Keohane, Robert O. and Lisa L. Martin (1995) ‘The Promise of Institutionalist
Theory’, International Security, 19:1, 39–51.
Keohane, Robert O. and Joseph S. Nye (1977) Power and Interdependence: World
Politics in Transition, Boston: Little, Brown.
(2000) ‘Globalization: What’s New? What’s Not? (And So What)’, Foreign
Policy, 118, 104–19.
Kerr, P. H. (1916) ‘Political Relations between Advanced and Backward
Peoples’, in A. J. Grant, Arthur Greenwood, J. D. I. Hughes, P. H. Kerr
and F. F. Urquhart, An Introduction to the Study of International Relations,
London: Macmillan, 141–82.
Kindleberger, Charles P. (1973) The World in Depression, 1929–39, London: Allen
Lane.
King, Gary, Robert O. Keohane and Sidney Verba (1994) Designing Social
Inquiry: Scientific Inference in Qualitative Research, Princeton: Princeton
University Press.
Kissinger, Henry (2011) On China, London: Allen Lane.
Knutsen, Torbjørn (2016) A History of International Relations Theory, 3rd edn.,
Manchester: Manchester University Press.
Kohli, Atul (2004) State-Directed Development: Political Power and Industrialization
in the Global Periphery, Cambridge: Cambridge University Press.
Kokubun, Ryosei, Yoshihide Soeya, Akio Takahara and Shin Kawashima (2017)
Japan–China Relations in the Modern Era, London: Routledge.
Koskenniemi, Martti (2001) The Gentle Civilizer of Nations: The Rise and Fall of
International Law, 1870–1960, Cambridge: Cambridge University Press.
Köstem, Seçkin (2015) ‘International Relations Theories and Turkish International
Relations: Observations Based on a Book’, All Azimuth, 4:1, 59–66.
Koyama, Hitomi and Barry Buzan (2018) ‘Rethinking Japan in Mainstream
International Relations’, International Relations of the Asia-Pacific, lcy013,
doi: 10.1093/irap/lcy013, 25 May, 1–28 (Accessed 27 June 2018).
Kramer, Martin (1993) ‘Arab Nationalism: Mistaken Identity’, Daedalus, 122:3, 502
171–206.
Krasner, Stephen (1976) ‘State Power and the Structure of International Trade’,
World Politics, 28:3, 317–43.
in the Global Periphery, Cambridge: Cambridge University Press.
Kokubun, Ryosei, Yoshihide Soeya, Akio Takahara and Shin Kawashima (2017)
Japan–China Relations in the Modern Era, London: Routledge.
Koskenniemi, Martti (2001) The Gentle Civilizer of Nations: The Rise and Fall of
International Law, 1870–1960, Cambridge: Cambridge University Press.
Köstem, Seçkin (2015) ‘International Relations Theories and Turkish International
Relations: Observations Based on a Book’, All Azimuth, 4:1, 59–66.
ببليوغرافيا
Koyama, Hitomi and Barry Buzan (2018) ‘Rethinking Japan in Mainstream
International Relations’, International Relations of the Asia-Pacific, lcy013,
343 doi: 10.1093/irap/lcy013, 25 May, 1–28 (Accessed 27 June 2018).
Kramer, Martin (1993) ‘Arab Nationalism: Mistaken Identity’, Daedalus, 122:3,
171–206.
Krasner, Stephen
References(1976) ‘State Power and the Structure of International Trade 343’,
World Politics, 28:3, 317–43.
Krippendorff , Ekkehart (1989) ‘The Dominance of American Approaches in
International Relations’, in Hugh C. Dyer and Leon Mangasarian (eds.),
The Study of International Relations: The State of the Art, Basingstoke:
Palgrave, 28–39.
Krishna, Sankaran (1993) ‘The Importance of Being Ironic: A Postcolonial View
on Critical International Relations Theory’, Alternatives, 18:3, 385–417.
Kristensen, Peter Marcus (2015) ‘Revisiting the “American Social Science” –
Mapping the Geography of International Relations’, International Studies
Perspectives, 16:3, 246–69.
(2018) ‘International Relations at the End: A Sociological Autopsy’,
International Studies Quarterly, sqy002, doi: 10.1093/isq/sqy002, 3 May,
1–10 (Accessed 27 June 2018).
Kuga, Katsunan ([1893] 1968) Gensei oyobi Kokusa Ron (On the International),
in Kuga Katsunan Zenshu (Collected Complete Works of Kuga Katsunan),
Tokyo: Misuzu Shobo, 123–81.
Kupchan, Charles A. (2012) No One’s World: The West, the Rising Rest, and the
Coming Global Turn, New York: Oxford University Press.
Kuru, Deniz (2016) ‘Historicising Eurocentrism and Anti-Eurocentrism in IR: A
Revisionist Account of Disciplinary Self-Reflexivity’, Review of International
Studies, 42:2, 351–76.
(2017) ‘Who F(o)unded IR: American Philanthropists and the Discipline of
International Relations in Europe’, International Relations, 31:1, 42–67.
Kuryla, Peter (2016) ‘Pan-Africanism’, Encyclopaedia Britannica, www
.britannica.com/topic/Pan-Africanism (Accessed 30 March 2018).
Ladwig III, Walter C. (2009) ‘Delhi’s Pacific Ambition: Naval Power, “Look
East”, and India’s Emerging Influence in the Asia-Pacific’, Asian Security,
55:2, 87–113.
Lake, David A. (2008) ‘International Political Economy: A Maturing
Interdiscipline’, in Donald A. Wittman and Barry R. Weingast (eds.), The
Oxford Handbook of Political Economy, Oxford: Oxford University Press,
757–77.
(2011) ‘Why “Isms” are Evil: Theory, Epistemology, and Academic Sects
as Impediments to Understanding and Progress’, International Studies
Quarterly, 55:2, 465–80.
Lapid,Yosef (1989) ‘The Third Debate: On the Prospects of International Theory
in a Post-positivist Era’, International Studies Quarterly, 33:3, 235–54.
Lawrence, T. J. (1919) The Society of Nations: Its Past, Present, and Possible Future,
New York: Oxford University Press.
Lawson, George (2012) ‘The Eternal Divide? History and International
Relations’, European Journal of International Relations, 18:2, 203–26.
Lawson, George and John M. Hobson (2008) ‘What Is History in International
Relations?’, Millennium, 37:2, 415–35.
Layne, Christopher (1993) ‘The Unipolar Illusion: Why Other Great Powers
Will Rise’, International Security, 17:4, 5–51.
(2006) ‘The Unipolar Illusion Revisited: The Coming End of the United
States’ Unipolar Moment’, International Security, 31:2, 7–41.
League of Arab States (1955) The Report of the Arab League on the Bandung
Conference, Cairo: League of the Arab States.
503
Lawson, George (2012) ‘The Eternal Divide? History and International
Relations’, European Journal of International Relations, 18:2, 203–26.
Lawson, George and John M. Hobson (2008) ‘What Is History in International
Relations?’, Millennium, 37:2, 415–35.
Layne, Christopher (1993) ‘The Unipolar Illusion: Why Other Great Powers
344
Will Rise’, International Security, 17:4, 5–51.
(2006) ‘The Unipolar Illusion Revisited: The Coming
العاملية Endالعالقات
الدولية of the United
تشكيل
States’ Unipolar Moment’, International Security, 31:2, 7–41.
League of
344 Arab States (1955) The Report of the Arab League on the Bandung
References
Conference, Cairo: League of the Arab States.
Lebedeva, Marina M. (2004) ‘International Relations Studies in the USSR/
Russia: Is There a Russian National School of IR Studies?’, Global Society,
18:3, 263–78.
Lenin, Vladimir Ilyich ([1916] 1975) Imperialism: The Highest Stage of Capitalism,
Peking: Foreign Languages Press.
Leonard, Thomas (2000) ‘The New Pan Americanism in US–Central American
Relations, 1933–1954’, in David Sheinin (ed.), Beyond the Ideal: Pan
Americanism in International Affairs, Westport, CT: Praeger, 95–114.
Levy, Jack S. (1989) ‘The Causes of Wars: A Review of Theories and Evidence’, in
Philip E. Tetlock, Jo L. Husbands, Robert Jervis, Paul C. Stern and Charles
Tilly (eds.), Behavior, Society and Nuclear War, vol. 1, New York: Oxford
University Press, 209–333.
Liddell Hart, Basil (1946) The Revolution in Warfare, London: Faber & Faber.
Lindberg, Leon N. and Stuart A. Scheingold (1971) Regional Integration: Theory
and Research, Cambridge, MA: Harvard University Press.
Ling, L. H. M. (2002) Postcolonial International Relations: Conquest and Desire
between Asia and the West, London: Palgrave.
(2010) ‘Journeys beyond the West: World Orders and a 7th-Century, Buddhist
Monk’, Review of International Studies, 36:S1, 225–48.
Linklater, Andrew (1996) ‘The Achievements of Critical Theory’, in Steve Smith,
Ken Booth and Marysia Zalewski (eds.), International Theory: Positivism and
Beyond, Cambridge: Cambridge University Press, 279–98.
(2001) ‘Marxism’, in Scott Burchill, Richard Devetak, Andrew Linklater,
Matthew Paterson, Christian Reus-Smit and Jacqui True, Theories of
International Relations, 2nd edn., Basingstoke: Palgrave, 129–54.
Little, Richard (2008) ‘The Expansion of the International Society in Heeren’s
Account of the European States-System’, SPAIS Working Paper no. 07–08,
University of Bristol, 20 pp.
Little, Richard and Mike Smith (1980) Perspectives on World Politics, London:
Routledge.
Lobell, Steven E., Norrin M. Ripsman and Jeffrey W. Taliaferro (eds.) (2009)
Neoclassical Realism, the State, and Foreign Policy, New York: Cambridge
University Press.
Lockey, Joseph Byrne (1920) Pan-Americanism: Its Beginnings, New York:
Macmillan.
Long, David (1995) ‘Conclusion: Inter-War Idealism, Liberal Internationalism,
and Contemporary International Theory’, in David Long and Peter Wilson
(eds.), Thinkers of the Twenty Years’ Crisis: Inter-War Idealism Reassessed,
Oxford: Clarendon, 302–28.
(2006) ‘Who Killed the International Studies Conference?’, Review of
International Studies, 32:4, 603–22.
Long, David and Brian C. Schmidt (2005) ‘Introduction’, in David Long and
Brian C. Schmidt (eds.), Imperialism and Internationalism in the Discipline of
345 International Relations, Albany: SUNY Press, 1–21.
Long, David and Peter Wilson (eds.) (1995) Thinkers of the Twenty Years’
Crisis: Inter-War Idealism Reassessed, Oxford: Clarendon Press.
James (1877) ‘Le problème final du droit international’, Revue de droit
Lorimer, References 345
international et de législation comparée, 9:2, 161–205.
(1884) The Institutes of the Law of Nations: A Treatise on the Jural Relations of
Separate Political Communities, Edinburgh and London: William Blackwood
and Sons.
Lu, Peng (2014) ‘Pre-1949 Chinese IR: An Occluded History’, Australian Journal
of International Affairs, 68:2, 133–55. 504
Luttwak, Edward N. (2012) The Rise of China vs. the Logic of Strategy, Cambridge,
MA: Belknap Press.
Lynch, Timothy J. (2013) ‘George W. Bush’, in Michael Cox, Timothy J. Lynch
and Nicolas Bouchet (eds.), US Foreign Policy and Democracy Promotion: From
345
References 345
(1884) The Institutes of the Law of Nations: A Treatise on the Jural Relations of
ببليوغرافيا
Separate Political Communities, Edinburgh and London: William Blackwood
and Sons.
Lu, Peng (2014) ‘Pre-1949 Chinese IR: An Occluded History’, Australian Journal
of International Affairs, 68:2, 133–55.
Luttwak, Edward N. (2012) The Rise of China vs. the Logic of Strategy, Cambridge,
MA: Belknap Press.
Lynch, Timothy J. (2013) ‘George W. Bush’, in Michael Cox, Timothy J. Lynch
and Nicolas Bouchet (eds.), US Foreign Policy and Democracy Promotion: From
Theodore Roosevelt to Barack Obama, Abingdon: Routledge, 178–95.
MacCalman, Molly (2016) ‘A. Q. Khan Nuclear Smuggling Network’, Journal of
Strategic Security, 9:1, 104–18.
Mace, Gordon (1986) ‘Regional Integration’, World Encyclopedia of Peace,
Oxford: Pergamon Press, 323–5.
MacFarlane, S. Neil (1993) ‘Russia, the West and European Security’, Survival,
35:3, 3–25.
McGann, James G. (2018) ‘2017 Global Go To Think Tank Index Report’,
TTCSP Global Go To Think Tank Index Reports, 13.
Mackinder, Halford ([1904] 1996) ‘The Geographical Pivot of History’, in
Halford Mackinder, Democratic Ideals and Reality, Washington, DC: National
Defence University, 175–94.
(1919) Democratic Ideals and Reality: A Study in the Politics of Reconstruction,
London: Constable and Co.
McKinlay, Robert and Richard Little (1986) Global Problems and World Order,
London: Frances Pinter.
Mackintosh-Smith, Tim (2002) The Travels of Ibn Battutah, London: Picador.
McNally, Christopher (2013) ‘How Emerging Forms of Capitalism Are
Changing the Global Economic Order’, East-West Center: Asia-Pacific
Issues, no. 107.
Maddison, Angus (2001) The World Economy: A Millennial Perspective, Paris:
Development Centre of the Organisation for Economic Co-operation and
Development.
Mahan, Alfred Thayer (1890) The Influence of Sea Power upon History, 1660–1783,
Boston: Little, Brown.
Makarychev, Andrey and Viatcheslav Morozov (2013) ‘Is “Non-Western Theory”
Possible? The Idea of Multipolarity and the Trap of Epistemological
Relativism in Russian IR’, International Studies Review, 15:3, 328–50.
Makdisi, Karim (2009) ‘Reflections on the State of IR in the Arab Region’, in
Arlene B. Tickner and Ole Wæver (eds.), International Relations Scholarship
around the World, Abingdon: Routledge, 180–90.
Malaquias, Assis (2001) ‘Reformulating International Relations Theory: African
Insights and Challenges’, in Kevin Dunn and Timothy Shaw (eds.), Africa’s
Challenge to International Relations Theory, New York: Palgrave, 11–28.
346 Maliniak, Daniel, Amy Oakes, Susan Peterson and Michael J. Tierney (2011)
‘International Relations in the US Academy’, International Studies Quarterly,
55:2, 437–64.
Maliniak
346 Daniel, Susan Peterson, Ryan Powers and Michael J. Tierney
,References
(2018) ‘Is International Relations a Global Discipline? Hegemony,
Insularity and Diversity in the Field’, Security Studies, doi: 10.1080/
09636412.2017.1416824 (Accessed 27 June 2018).
Mallavarapu, Siddharth (2009) ‘Development of International Relations
Theory in India: Traditions, Contemporary Perspectives and Trajectories’,
International Studies, 46:1–2, 165–83.
(2018) ‘The Sociology of International Relations in India: Competing
Conceptions of Political Order’, in Gunther Hellman (ed.), Theorizing
Global Order: The International, Culture and Governance, Frankfurt: Campus
505 Verlag GmbH, 142–71.
Mani, V. S. (2004) ‘An Indian Perspective on the Evolution of International
Law’, in B. S. Chimni, Miyoshi Masahiro and Surya P. Subedi (eds.), Asian
Yearbook of International Law, 2000, vol. 9, Leiden: Brill, 31–78.
Mann, Michael (2001) ‘Democracy and Ethnic War’, in Tarak Barkawi and Mark
346 References
517
359
360 References
ببليوغرافيا
Willetts, Peter (1978) Non-Aligned Movement: Origins of a Third World Alliance,
London: Continuum.
Williams, David (2004) Defending Japan’s PacificWar: The Kyoto School Philosophers
and Post-White Power, Abingdon: Routledge
Williams, Eric ([1944] 1994) Capitalism and Slavery, Chapel Hill, NC: University
of North Carolina Press.
Williams, John (2015) Ethics, Diversity, and World Politics: Saving Pluralism From
Itself?, Oxford: Oxford University Press.
Williams, Michael C. (2005) The Realist Tradition and the Limits of International
Relations, Cambridge: Cambridge University Press.
(2013) ‘In the Beginning: International Relations Enlightenment and the
Ends of International Relations Theory’, European Journal of International
Relations, 19:3, 647–65.
Wilson, Peter (1998) ‘The Myth of the First Great Debate’, in Tim Dunne,
Michael Cox and Ken Booth (eds.), The Eighty Years’ Crisis: International
Relations 1919–1999, Review of International Studies, 34:Special Issue, 1–15.
Witt, Michael A. (2010) ‘China: What Variety of Capitalism?’, Singapore,
INSEAD Working Paper 2010/88/EPS, 15 pp.
Wohlforth, William C. (1999) ‘The Stability of a Unipolar World’, International
Security, 24:1, 5–41.
(2009) ‘Unipolarity, Status Competition, and Great Power War’, World Politics,
61:1, 28–57.
Wolf , Martin (2014) The Shifts and the Shocks: What We’ve Learned – and Have
Still to Learn – from the Financial Crisis, London: Penguin.
Wolf , Nathan (2011) The Viral Storm: The Dawn of a New Pandemic Age,
New York: Times Books.
Womack, Brantly (2014) ‘China’s Future in a Multinodal World Order’, Pacific
Affairs, 87:2, 265–84.
Wood, James (2008) ‘Calvo Doctrine’, in Jay Kinsbruner and Erick D. Langer
(eds.), Encyclopedia of Latin American History and Culture, vol. 2, 2nd edn.,
Detroit: Charles Scribner’s Sons, 46–7.
Woods, Ngaire (ed.) (2000) The Political Economy of Globalization, Basingstoke:
Macmillan.
Woolf , Leonard (1916) International Government, Westminster: Fabian Society.
World Bank (2016) Poverty and Prosperity 2016/Taking on Inequality, Washington,
DC: World Bank, https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/
10986/25078/9781464809583.pdf (Accessed 4 October 2017).
WHO (2014) ‘Ebola Situation Report: 31 December 2014’, Ebola Situation Reports,
31 December, http://apps.who.int/ebola/en/status-outbreak/situation-reports/
ebola-situation-report-31-december-2014 (Accessed 27 May 2018).
(2016) ‘Latest Ebola Outbreak Over in Liberia; West Africa Is at Zero, but
New Flare-ups Are Likely to Occur’, WHO Media Centre, 14 January, www
.who.int/mediacentre/news/releases/2016/ebola-zero-liberia/en/ (Accessed
361 27 May 2018).
Wright, Quincy (1955) The Study of International Relations, New York: Appleton-
Century-Crofts.
Yahuda, Michael (2014) Sino-Japanese Relations after the Cold War: Two Tigers
References 361
Sharing a Mountain, London: Routledge.
Yalem, Ronald J. (1979) ‘Regional Security Communities’, in George W. Keeton
and George Schwarzenberger (eds.), The Year Book of International Affairs
1979, London: Stevens, 217–23.
Yan, Xuetong (2011) Ancient Chinese Thought, Modern Chinese Power, Princeton:
Princeton University Press.
(2014) ‘From Keeping a Low Profile to Striving for Achievement’, The Chinese
Journal of International Politics, 7:2, 153–84.
Yanaihara, Tadao ([1926] 1963) Shokumin oyobi Shokuminn Seisaku (Colony
519 and Colonial Policy) in Yanaihara Tadao Zenshu (Collected Complete Works of
Yanaihara Tadao), vol. 1, Tokyo: Iwanami Shoten.
Yurdusev, A. Nuri (2003) International Relations and the Philosophy of History: A
Civilizational Approach, Basingstoke: Palgrave.
(2009) ‘The Middle East Encounter with the Expansion of European
References 361
520
املؤلفان يف سطور
أميتاف أشاريا
باري بوزان
■ أستاذ فخري يف كلية لندن لالقتصاد؛ قسم العالقات الدولية ،وأستاذ فخري
يف جامعات كوبنهاغن وجيلني والجامعة الصينية للشؤون الخارجية ،وزميل يف
األكادميية الربيطانية.
■ تشمل مؤلفاته األخــرة« :املجتمع الدويل العاملي» مع لوست سكوينبورغ
(كامربيدج ،)2018 ،و«التحول العاملي» مع جورج لوسون (كامربيدج ،)2015 ،وهو
الكتاب الذي فاز يف العام 2017بجائزة فرانشيسكو جوتشيارديني ألفضل كتاب يف
العالقات الدولية التاريخية.
521
املرتجم يف سطور
عمار بوعشة
522
سلسلة عـالـَم املعرفة
«عامل املعرفة» سلسلة كتب ثقافية تصدر يف مطلع كل شهر ميالدي عن املجلس الوطني للثقافة
والفنون واآلداب -دولة الكويت -وقد صدر العدد األول منها يف شهر يناير من العام .1978
تهدف هذه السلسلة إىل تزويد القارئ مبادة جيدة من الثقافة تغطي جميع فروع املعرفة،
وكذلك ربطه بأحدث التيارات الفكرية والثقافية املعارصة .ومن املوضوعات التي تعالجها تأليفا
وترجمة:
- 1الدراسات اإلنسانية :تاريخ ـ فلسفة -أدب الرحالت -الدراسات الحضارية -تاريخ األفكار.
- 2العلوم االجتامعية :اجتامع -اقتصاد -سياسة -علم نفس -جغرافيا -تخطيط -دراسات
اسرتاتيجية -مستقبليات.
- 3الـدراســات األدبيـة واللغويـة :األدب العـربـي -اآلداب العامليـة -علـم اللغة.
- 4الدراسات الفنية :علم الجامل وفلسفة الفن -املرسح -املوسيقى -الفنون التشكيلية
والفنون الشعبية.
- 5الدراســات العلمية :تاريــخ العلـــم وفلســـــفته ،تبسيط العلــوم الطبيـــعية (فيــزياء،
كيمــياء ،علم الحــياة ،فلك) ـ الرياضــيات التطبيــقية (مع االهتــامم بالجــوانب اإلنسانية لهــذه
العــلوم) ،والدراسات التكنولوجية.
أما بالنسبة إىل نرش األعامل اإلبداعية ـ املرتجمة أو املؤلفة ـ من شعر وقصة ومرسحية ،وكذلك
األعامل املتعلقة بشخصية واحدة بعينها فهذا أمر غري وارد يف الوقت الحايل.
وتحرص سلسلة «عامل املعرفة» عىل أن تكــون األعمـال املرتجــمة حديثة النرش.
وترحب السلسلة باقرتاحات التأليف والرتجمة املقدمة من املتخصصني ،عىل أال يزيد حجمها
عىل 350صفحة من القطع املتوسط ،وأن تكون مصحوبة بنبذة وافية عن الكتاب وموضوعاته
وأهميته ومدى جدته ويف حالة الرتجمة ترسل نسخة مصورة من الكتاب بلغته األصلية كام ترفق
مذكرة بالفكرة العامة للكتاب ،وكذلك يجب أن تد ّون أرقام صفحات الكتاب األصيل املقابلة للنص
املرتجم عىل جانب الصفحة املرتجمة ،والسلسلـة ال ميكنهـا النظـر فـي أي ترجمـة ما مل تكن
مستوفية لهذا الرشط .واملجلس غري ملزم بإعادة املخطوطات والكتب األجنبية يف حالة االعتذار عن
عدم نرشه .ويف جميع الحاالت ينبغي إرفاق سرية ذاتية ملقرتح الكتاب تتضمن البيانات الرئيسية
عن نشاطه العلمي السابق.
ويف حال املوافقة والتعاقد عىل املوضوع ــ املؤلف أو املرتجم ــ ترصف مكافأة للمؤلف مقدارها
ألفا دينار كويتي ،وللمرتجم مكافأة مبعدل ثالثني فلسا عن الكلمة الواحدة يف النص األجنبي (وبحد أقىص
مقداره ألفان وخمسامئة دينار كويتي).
523
رﺳﻮم اﻻﺷﱰاك ﻟﻠﺤﺼﻮل ﻋﲆ اﻟﻨﺴﺨﺔ اﻟﻮرﻗﻴﺔ ﻣﻦ اﻹﺻﺪارات اﻟﺪورﻳﺔ ﻟﻠﻤﺠﻠﺲ اﻟﻮﻃﻨﻲ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﻔﻨﻮن واﻵداب
إﺑﺪاﻋﺎت ﻋﺎﳌﻴﺔ ﻣﻦ اﳌﴪح اﻟﻌﺎﳌﻲ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﺎﳌﻴﺔ ﻋﺎمل اﻟﻔﻜﺮ ﻋﺎمل اﳌﻌﺮﻓﺔ اﻟﺒﻴﺎن
$ 25 $ 25 $ 25 $ 25 $ 60 دول ﻣﺠﻠﺲ اﻟﺘﻌﺎون ﻟﺪول اﻟﺨﻠﻴﺞ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ
$ 15 $ 15 $ 15 $ 15 $ 30 داﺧﻞ اﻟﺪول اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ
$ 30 $ 30 $ 30 $ 25 $ 60 ﺑﻘﻴﺔ دول اﻟﻌﺎمل
ﻟﻼﻃﻼع ﻋﲆ ﻛﺸﻒ وﻛﻼء اﻟﺘﻮزﻳﻊ وﻧﻘﺎط اﻟﺒﻴﻊ اﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻟﻬﻢ ،اﻟﺮﺟﺎء ﻣﺴﺢ رﻣﺰ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ اﻟﺘﺎﱄ: ميﻜﻨﻜﻢ اﻻﺷﱰاك ﻋﱪ ﻣﺴﺢ رﻣﺰ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ اﻟﴪﻳﻌﺔ اﻟﺘﺎﱄ:
524
إشعار
لالطــاع علــى قائمــة كتــب السلســلة انظــر عدد
ديســمرب (كانــون األول) مــن كل ســنة ،حيــث توجد
قائمة كاملة بأسماء الكتب املنشورة
يف السلسلة منذ يناير .1978
525
Withe
526
عددنا املقبـل
نهاية النسيان
التنشئة بني وسائط التواصل االجتماعي
يتناول هذا الكتاب تأثري وسائط التواصل االجتامعي الحديثة يف تاريخ البرش،
وخاصة يف مرحلة الطفولة واملراهقة؛ حيث إن هذه الوسائط أعطت -وألول مرة
-األطفال واملراهقني الحق يف توثيق ذواتهم وإبرازها من منظورهم الشخيص دون
وجود رقيب يتحكم مبثل هذه املعلومات.
لكن هذا التوثيق يحول دون النسيان؛ وهو ما يثبت الكتاب أهميته لنمو
األطفال واملراهقني منوا سليام؛ فمن دون النسيان قد تتعرقل رحلة اإلنسان يف
اكتشاف ذاته بسبب خوفه من تكرار املواقف املحرجة السابقة ،والتي توثقها
وسائل التواصل لتبقى ماثل ًة أمامه.
527
528