You are on page 1of 360

‫الح ِّق َأ ْن َز ْلنَ اه‬

‫وب َ‬‫ِ‬
‫الحقِّ َأ ْنزَ ْلنَاه‬
‫وبِ َ‬
‫أدهم شرقاوي‬
‫دار كلمات للنشر والتوزيع‬
‫البريد إلكتروني‪:‬‬
‫‪Dar_Kalemat@hotmail.com‬‬
‫الموقع اإللكتروني‪:‬‬
‫‪www. kalemat.com‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة للناشر‪ :‬ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو‬
‫بأي شكل‬
‫أي جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله ّ‬
‫من األشكال‪ ،‬دون إذن خطي مسبق من الناشر‪.‬‬

‫‪* All rights reserved. No part of this book may be reproduced,‬‬


‫‪stored in a retrieval system, or transmitted in any form or by any‬‬
‫‪means without the prior written permission of the publisher.‬‬
‫الح ِّق َأ ْن َزل َْناه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أدهم شرقاوي‬

‫‪2023‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫اإلهداء‬

‫بع َد َعقْدِ قِ َرانِي على َ‬


‫زوجتي‪،‬‬
‫افحنِي‪ ،‬وبا َر َك لي‪ ،‬وعانَ َقنِي‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫وص َ‬ ‫إلي َ‬‫قا َم َّ‬
‫كان عندي ثالثة أبناءٍ ‪ ،‬اآل َن َ‬
‫صا ُروا أربعة!‬
‫وصدِ يقاً‪،‬‬
‫لي أباً َ‬‫السنوات كا َن َ‬ ‫وطوا َل ك ّل هذه ّ‬
‫وآنستُه‪ ،‬ث ّم ف ّرقنا الموت!‬
‫ْ‬ ‫أَح ّبنِي وأحبَبْتُه‪ ،‬وآنَ َسنِي‬
‫السيد أبو حاتم‪،‬‬ ‫إلى والدِ زوجتي‪ ،‬ال ُمر ّبي الفاضل‪ ،‬األُستاذ محمد ّ‬
‫جري عليه أَ ْج َره!‬
‫ال المولى أن يُ َ‬ ‫أُهدي هذا الكتاب‪ ،‬سائ ً‬

‫‪5‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪6‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪1‬‬

‫رأســهِ حتــى أخمــص‬ ‫الضاللــةِ مــن أعلــى ِ‬ ‫ـب غارقـاً فــي َّ‬‫كان هــذا الكوكـ ُ‬
‫قدميه‪،‬‬
‫هلل ولداً‪،‬‬
‫أن ِ‬ ‫اليهو ُد ح َّرفوا التَّوراة‪ ،‬والنَّصارى زعموا َّ‬
‫هلل باألصنام وعبدوها من دونه‪،‬‬ ‫بيت ا ِ‬
‫والعرب مألوا َ‬ ‫ُ‬
‫نزلت فيهم ال ِّرساالت‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فإن كان هذا هو حال الذين‬
‫فعن غيرهم ح ِّدثْ وال حرج!‬
‫عطف‪،‬‬‫ٍ‬ ‫وبينما هذه البشر َّي ُة كذلك‪ ،‬نظ َر إليها ال َّرحم ُن نظرةَ‬
‫فتح َّن ـ َن عليهــا علــى عادتــه‪ ،‬وتك ـ َّر َم كمــا هــو دوم ـاً‪ ،‬وتم َّن ـ َن كمــا هــو‬
‫دأبــه!‬
‫عمــا قليــل ينــز ُل مــن غـ ٍـار ُمظلـ ٍـم فــي م َّكـ َة رجـ ٌل يحمـ ُل النُّــو َر ليُضــي َء‬ ‫َّ‬
‫هــذا الكوكــب‪،‬‬
‫العمر أربعين سن ًة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كان قد بل َغ من‬
‫الوحي ويُفهِ َمه للناس‪،‬‬
‫َ‬ ‫اتقد عقله بما يكفي ليفه َم‬ ‫َّ‬
‫ليفيض ُح ّباً ورحم ًة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫والنت‬
‫ْ‬ ‫ونضجت عاطفته‬ ‫ْ‬
‫السعد َّية ُغ ِس َل قلبُه‪،‬‬
‫ديار حليمة َّ‬
‫بكثير في ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ومن قبل هذا‬
‫تب لها‪،‬‬‫وصار اآلن ك ُّل شيءٍ مهي ًأ لتبدأ ال ٍّرسالة التي ُك َ‬
‫أن تُغ ِّير مالمح هذا الكوكب إلى األبد!‬
‫مهل لهذه ال ِّرسالة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وكتهيئة لهذا ال َّرجلِ العظيم الذي كان يُ َع ُّد على ٍ‬
‫أ َّو ُل ما بُدِ ى َء به من الوحي ال ُّرؤيا الصالحة في المنام‪،‬‬
‫بح‪،‬‬
‫الص ِ‬
‫وجاءت بعد ذلك كفلقِ ُّ‬
‫ْ‬ ‫فكان ال يرى ُرؤيا إال‬
‫ثُ َّم ُح ِّب َب إليه الخالءُ‪ ،‬فكان يخلو بنفسه في غار حراءٍ ‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فيتحن َُّت فيه الليالي ذوات العدد‪ ،‬ثم يرج ُع إلى خديجة‪،‬‬
‫الداخلية‪ ،‬وأقوى جنوده‪،‬‬ ‫المرأةُ التي ستكون فيما بعد جبهته َّ‬
‫وفي وحشة الحيا ِة يحتا ُج ال َّرج ُل إلى ِ‬
‫قلب امرأةِ!‬
‫ِ‬
‫قبسات النُّور‪،‬‬ ‫وفي إحدى خلواتِه في الغار نز َل عليه جبريل بأ َّول‬
‫وقال له‪ :‬اِقرأْ!‬
‫ٍ‬
‫بقارئ!‬ ‫فقال‪ :‬ما أنا‬
‫فقال له‪ :‬اِقرأْ!‬
‫ٍ‬
‫بقارئ!‬ ‫فقال‪ :‬ما أنا‬
‫فقال له في الثالثة‪ :‬اِقرأْ!‬
‫فقال‪ :‬ما أقرأُ؟!‬
‫َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ْ ََ‬ ‫ْ َ ْ ْ َ ّ َ َّ‬
‫ال ْنســان ِمــن علـ ٍ‬
‫ـق‬ ‫ـال لــه‪﴿ :‬اقــرأ َ بِاسـ ِم ربِــك الِي خلــق خلــق ِ‬
‫َ َّ َ ْ َ َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ ُّ َ ْ ْ َ ُ َّ‬
‫فقـ‬
‫ـان َمــا لَــمْ‬
‫َ َ‬
‫النسـ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫اقــرأ وربــك الكــرم الِي علــم بِالقلــ ِم علــم ِ‬
‫َي ْعلَـ ْ‬
‫ـم﴾!‬
‫ُ‬
‫يرتجف من هول الوحي‪،‬‬ ‫فنزل من غار حراءٍ‬
‫ـب بقدميــه إلــى أبــي طالـ ٍـب ع ّمــه الــذي اعتــا َد أن‬‫كان بإمكانــه أن يذهـ َ‬
‫يحوطــه ويرعــاه‪،‬‬
‫الوفي‪ ،‬وموضع س ِّره‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫بكر صديقه‬ ‫أو إلى أبي ٍ‬
‫ذهب بقلبه إلى خديجة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ولكن‬
‫ث ّمة مواقف في هذه ال ُّدنيا ال يحتا ُج فيها المرءُ أكثر من حضن!‬
‫ُ‬
‫يرتجف ويقول‪ :‬ز ِّملوني‪ ،‬ز ِّملوني!‬ ‫وص َل إليها وهو‬
‫أت من روعه‪،‬‬ ‫وهد ْ‬‫وضمته‪َّ ،‬‬‫َّ‬ ‫َّ‬
‫فغطته‪،‬‬
‫ـيت‬
‫حدثهــا بمــا كان‪ ،‬ثــم قــال لهــا‪ :‬لقــد خشـ ُ‬
‫ـب عنــه ال ـ َّروع‪َّ ،‬‬
‫ولمــا ذهـ َ‬
‫علــى نفســي!‬

‫‪8‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫خزيك اهللُ أبداً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هلل ما يُ‬ ‫فقالت له‪ :‬كال وا ِ‬ ‫ْ‬
‫الكل‪ ،‬وت ْك ِس ُب المعدوم‪،‬‬ ‫إ َّنك تص ُل ال َّرحم‪ ،‬وتحمِ ُل َّ‬
‫الضيف‪ ،‬وتُعي ُن على نوائب الحق!‬ ‫َ‬ ‫وتُقري‬
‫ـت بــه إلــى ابــن ع ِّمهــا ورقــة بــن نوفــل‪ ،‬وكان شــيخاً كبيــراً قــد‬ ‫ثُـ َّم ذهبـ ْ‬
‫ـي‪،‬‬ ‫ُعمِ ـ َ‬
‫وكتب اإلنجيل بالعبران َّية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تنص َر في الجاهلية‪،‬‬ ‫وكان قد َّ‬
‫َ‬
‫أخيك!‬ ‫فقالت له‪ :‬يا ابن الع ِّم‪ ،‬اِس َم ْع من ابن‬ ‫ْ‬
‫فقال له ورقة‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬ماذا ترى؟‬
‫النبي  خب َر ما رأى‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فأخبره‬
‫َّاموس الذي نزل على موسى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقال له ورقة‪ :‬هذا الن‬
‫خرجك قو ُم َك!‬
‫َ‬ ‫يا ليتني فيها َج َذعاً‪ ،‬ليتني أكو ُن ح ّياً إذ يُ‬
‫خرجي ُه ْم؟!‬ ‫َّ‬ ‫النبي ‪ :‬أَ َو ُم‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫ودي‪،‬‬
‫جئت به إال ُع َ‬ ‫َ‬ ‫يأت رج ٌل قط بمثل ما‬ ‫فقال له‪ :‬نعم‪ ،‬لم ِ‬
‫أنص ْر َك نصراً ُمؤزَّراً!‬ ‫وإن يُدركني يو ُم َك ُ‬
‫الوحي فتر ًة!‬
‫ُ‬ ‫توفي‪ ،‬وانقطع‬ ‫َ‬ ‫ثُ َّم ما لبثَ ورقة أن‬

‫األول‪:‬‬
‫رس َّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫لتأتي أجمل!‬‫َ‬ ‫على بعض األشياءِ أن تتأخر‬


‫إن اهلل سبحانه يختا ُر من األوقات أد َّقها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫عنك فهذا ليس أوانها‪،‬‬ ‫وتأخرت َ‬
‫ْ‬ ‫دعوت َ‬
‫اهلل بها‬ ‫َ‬ ‫ك ُّل دعوةٍ‬
‫ممتلئ باليقين‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ِث ْق بحكمة اهلل‪ ،‬وردد ٍ‬
‫بقلب‬

‫‪9‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫استجاب‪ ،‬ولكنه يه ِّي ُئ األسباب!‬ ‫َ‬ ‫لقد‬


‫ـك فهــذا أوانــه‪ ،‬وهــل يعتــدِ ُل النــاس إال تحــت وطــأة‬ ‫وك ُّل ه ـ ٍّم نــز َل بـ َ‬
‫األ َّيــام‪،‬‬
‫وحدهــا ال َّنــا ُر تُخـ ِـر َج َخبَــثَ الحديــد وتصقلــه‪ ،‬ولــوال وهــج التَّنــور لبقـ َ‬
‫ـي‬
‫الخبــز عجينـاً!‬
‫النبــي  أن ينتظــ َر أربعيــن ســن ًة ليصبــ َح العظيــ َم الــذي‬ ‫ِّ‬ ‫كان علــى‬
‫عرفنــاه‪،‬‬
‫ثمة مسؤوليات ال بُ َّد لها أن يبل َغ العق ُل أوجه‪،‬‬
‫والعاطفة أن تتز َن لتنقا َد ال تقو َد‪،‬‬
‫علمت أن الخض َر قد أخب َر موسى عليه السالم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أما‬
‫أش َّدهما أوالً ث ّم يستخرجا كنزهما؟!‬ ‫أن على اليتيمين أن يبلغا ُ‬ ‫َّ‬

‫رس َّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫للمهمة التي تري ُدها منهم‪،‬‬‫َّ‬ ‫ّاس وأَ ِع َّدهم‬


‫َه ِّيء الن َ‬
‫بعمل ناجح د ِّربْهُ‪،‬‬
‫من أردته أن يقوم ٍ‬
‫أعدها للزواج وف ِّهمها كيف تُدار البيوت‪،‬‬ ‫البنت َّ‬
‫ُ‬
‫والول ُد ف ِّهمه طبائع النساء وأرشده‪،‬‬
‫معارك الحياة ال تُخاض بغير ُع َّدةٍ وعتاد!‬
‫صحيح أن الخبرة ال نحصل عليها إال بالتجارب‪،‬‬
‫ولكن امتالك مفاتيح النجاح أمر حاسم في تحقيقه‪،‬‬
‫ا وقلب ـاً‬
‫النُّبــوة شــيء فــوق مســتوى البشــر‪ ،‬وعمــل يحتــاج روح ـاً وعق ـ ً‬

‫‪10‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ـوع آخــر‪،‬‬
‫مــن نـ ٍ‬
‫النبي  فتأتي كفلق الصبح‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وال ُّرؤى التي كان يراها‬
‫ما هي إال تهيئة الستقبال الوحي!‬
‫النبي  قبل نزول الوحي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وتحبيب الخلوة إلى قلب‬
‫والقلب والعقل!‬
‫ِ‬ ‫وح‬
‫ما هو إال صقل لل ُّر ِ‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الحب!‬
‫الصداقة مقدار ما فيه من ُ‬ ‫الزَّواج الناجح هو الذي فيه من َّ‬
‫بك‪ ،‬تَطم ِئ َن وتُط ْم ِئ َن‪ ،‬تَجبُ َر وتُجبَ َر‪،‬‬ ‫تأنس ويُؤنس َ‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫أن تهون ال ُّدنيا كلها وال يهون حبيبك‪،‬‬
‫وأن يُباع الكون كله ويُشترى خاطر خليلك!‬
‫وأن تكون آمناً ومانحاً لألمان كذلك‪،‬‬
‫ُمس َك فال تَتْ ُر َك وال تُترك‪،‬‬‫وأن ت ِ‬
‫يتكئ كالكما على صاحبه وهو ال يخشى السقوط‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأن‬
‫نتحدث؟!‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫ورحمة‬ ‫فإن لم يتحقق هذا المفهوم فعن أي مو َّدةٍ‬
‫أل ْم تسأل نفسك م َّر ًة ولو من باب الفضول‪:‬‬
‫النبي  إلى خديجة بعدما نزل عليه الوحي؟!‬ ‫ُّ‬ ‫ذهب‬
‫َ‬ ‫لماذا‬
‫بالذات دوناً عن أقاربه وأصدقائه؟!‬ ‫لماذا اختارها هي َّ‬
‫كانت كل هؤالء بال ِّنسبة له!‬ ‫ْ‬ ‫هذا ألنها‬
‫كانت مأمون ًة‪ ،‬حنون ًة‪ ،‬عاقل ًة‪ ،‬قو َّي ًة‪،‬‬ ‫ْ‬
‫األرض غيرها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫عرف أ َّنه ال يحتويه من أهلِ‬ ‫لهذا‬

‫‪11‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وهو بالمقابل كان بقلبِه وأخالقِ ه قد شغفها ُح ّباً‪،‬‬


‫األرض باإلنسانِ ِاتَّس َع له حض ُن حبيبه!‬
‫ُ‬ ‫وإذا ما ضاقت‬

‫الرابع‪:‬‬
‫الدرس ّ‬
‫َّ‬

‫السوء‪،‬‬
‫المعروف تقي مصار َع ُّ‬‫ِ‬ ‫صنائ ُع‬
‫َّاس بالتَّجربة‪،‬‬
‫هذه قاعدة يعرفها الن ُ‬
‫ال تحتاج إلى دِ ٍين لتُد َر َك‪ ،‬وإن كان ال ّدي ُن قد أرساها!‬
‫النبــي ‬
‫ُّ‬ ‫تعــرف مــن اإلســام شــيئاً حيــن أتاهــا‬
‫ُ‬ ‫لــم تكــن خديجــة‬
‫ُ‬
‫يرتجــف‪،‬‬
‫خشيت على نفسي‪.‬‬‫ُ‬ ‫وعندما قال لها‪ :‬لقد‬
‫خزيك اهللُ أبداً!‬
‫َ‬ ‫قالت له‪ :‬وا ِ‬
‫هلل ما يُ‬ ‫ْ‬
‫جعلت تُع ِّد ُد عليه فضائله‪ ،‬ومعروفه مع النَّاس‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ثم‬
‫حتى وهم أهل جاهل َّي ٍة كانوا يعرفون أن زارع الخير يحصده‪،‬‬
‫الش ِر حتماً سيكتوي بها!‬ ‫و ُموقِ ُد نار َّ‬
‫صنائع المعروف‪ ،‬أل َّنه ال أحد أوفى من اهلل!‬‫ِ‬ ‫فأك ِث ُروا من‬
‫من جب َر ُجب َر‪ ،‬ومن أعا َن أُعين!‬
‫بتلي بمن هو أظلم منه!‬ ‫ومن خذ َل خُ ذِ َل‪ ،‬ومن َظل َم ا ُ َ‬
‫اُجب ُروا الخواطر‪ ،‬واِمسحوا الدموع‪ ،‬و َر ِّمموا المكسور‪،‬‬
‫وس ُّدوا الحاجات‪ ،‬واحفظوا ماء الوجوه‪،‬‬ ‫اِقضوا ال ُّديون‪ُ ،‬‬
‫أحب إليه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وتذ َّك ُروا أ َّنه ما ُعب َد اهلل تعالى بشيءٍ‬
‫جبر الخواطر‪ ،‬وقضاء حوائج الناس!‬ ‫من ِ‬

‫‪12‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫العرب‪َ :‬س ْل من كان به خبيراً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تقو ُل‬


‫حكيم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ال تطلب النَّصيحة إال من‬
‫َ‬
‫حوائجك إال عند أهلها‪،‬‬ ‫وال تسأ ْل قضاء‬
‫األهو ُج يزيد المشكالت تعقيداً‪،‬‬
‫علم وال بصيرة‪،‬‬ ‫ومن ال خبرة له يُفتي بال ٍ‬
‫ذهب يسأل عن التَّوبة عند ٍ‬
‫عابد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الذي قت َل تسع ًة وتسعين نفساً‬
‫فلما أخبره أن ال توبة له‪ ،‬قتله وأت َّم به المئة!‬
‫ـب إلــى عالـ ٍـم‪ ،‬أخبــره أن بــاب التَّوبــة مفتــوح علــى مصراعيــه‬ ‫فلمــا ذهـ َ‬
‫مهمــا َع ُظــم َّ‬
‫الذنــب‪،‬‬
‫حل عملياًّ‪،‬‬
‫وأرشده إلى قرية الصالحين‪ ،‬فزاده على الفتوى ّ ً‬
‫فكان هذا سبباً في دخوله الجنّة برحمة اهلل!‬
‫بالنبي  إلى ورقة بن نوفل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ذهبت خديجة‬ ‫ْ‬ ‫قريش كلها‬‫ٍ‬ ‫وعن دون‬
‫تذهب به إلى ع ّمه أبي طالب رغم ح ّبه له‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لم‬
‫وال إلى صديقه أبي بكر رغم أ ّنها تعرف أنه يفديه بروحه‪،‬‬
‫وال إلى حمزة صائد األسود وفارس قريش المعروف‪،‬‬
‫وحي وخبر سماءٍ ومالئكة‪،‬‬ ‫المسألة ٌّ‬
‫وهذا هو ميدان ورقة بن نوفل‪ ،‬ومجاله الذي ُع ِر َف به‪،‬‬
‫فاش َربُوا من منبع النَّهر و َد ُعوا عنكم القنوات!‬ ‫ْ‬

‫‪13‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السادس‪:‬‬
‫الدرس َّ‬
‫َّ‬

‫لــم يكــن ورقــة بــن نوفــل يعل ـ ُم الغيــب‪ ،‬ولك َّنــه كان يعل ـ ُم ُس ـنَّة اهلل فــي‬
‫الكــون‪،‬‬
‫الساعة‪،‬‬ ‫صراع حتى قيام َّ‬ ‫ٍ‬ ‫يعرف أن الحقَّ والباطل في‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫تتغ َّي ُر الميادين‪ ،‬ويتبادل المحاربون األدوار‪ ،‬أما الحرب فهي ذاتها!‬
‫قريش سيضيق على هذه الدعوة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يعرف أن صدر‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫سيستشرس في صراع الحق الذي جاء به!‬ ‫ُ‬ ‫وأن باطلها‬
‫فيــا أهــل الثُّغــور‪ ،‬ويــا أيهــا العاملــون لهــذا ال ّديــن علــى مختلــف‬
‫مجاالتهــم‪،‬‬
‫صب أعينكم‪ :‬لن تسل َ ُموا من النَّاس!‬ ‫ض ُعوا هذه الحقيقة نُ َ‬ ‫َ‬
‫إنهم ال يعادونكم ألشخاصكم‪ ،‬وإ َّنما يعادونكم لرسالتكم‪،‬‬
‫ومن لم يجد في ميدان الحقِّ كارهاً له فليُ ِ‬
‫راج ْع نفسه‪،‬‬
‫فلست حام َل َحقٍّ !‬
‫َ‬ ‫رضي َ‬
‫عنك الباطل‬ ‫َ‬ ‫فإنه إن‬
‫نفرت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫تناثرت‪ ،‬وبال ِّدماء‬
‫ْ‬ ‫هذا دِ ي ٌن وص َل إلينا باألشالء‬
‫وباألموال أُنفِ َق ْت‪ ،‬وباألذى وقع‪ ،‬وبالتشويه حصل‪،‬‬
‫َ‬
‫حافظ عليه إال بهذه األشياء‪،‬‬ ‫ولن يُ‬
‫وإن اهلل اشترى!‬
‫إن سلعة اهلل غالية‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬

‫‪14‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪2‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫﴿هذا ف َِراق بَيْ ِن َو َبيْن ِك﴾‬

‫الطرفين س ّيئاً‪،‬‬ ‫بالضرور ِة أن يكون أح ُد ّ‬ ‫ليس َّ‬


‫ولكنها نهاية ّ‬
‫الطريق!‬
‫ّاس من حياتك ال يعني نهايتَها‬ ‫خُ روج بعض الن ِ‬
‫الجزءِ ال ُمتعلِّقِ منهم فيها!‬ ‫وإ ّنما يعني نهاية ُ‬
‫صالح َّية‪،‬‬ ‫العالقات كاألغذيةِ ال ُم َعلَّبَة‪ ،‬لها تاريخ َ‬
‫ُ‬
‫وك ّل خطوةٍ بعدها ستكو ُن سا ّم ًة و ُمؤذي ًة‪،‬‬
‫تؤج ْل فراقاً حان أوانُه!‬
‫فال ِّ‬
‫ال يوج ُد إنسا ٌن ليس له بديل‪،‬‬
‫وال يُوجد فرصة هي خاتمة الفُرص‪،‬‬
‫وما دامت ال ُّروح في الجسدِ فال يوجد شيءٌ اس ُمه ال ِّنهاية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫جديد‬ ‫ك ُّل ٍ‬
‫نهاية هي بداي ٌة لشيءٍ‬
‫ّاس يؤذون من يضمنون بقا َءهم‪ ،‬فكن دوماً قادراً على ال ّرحيل!‬ ‫الن ُ‬

‫‪15‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪3‬‬

‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫قريش في دار النَّدوة ليبحثُوا في شأنِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫المأل من‬ ‫اِجتم َع‬
‫شيخ نجدِ ٍّي‪،‬‬‫إبليس في صورة ٍ‬ ‫ُ‬ ‫فجاءهم‬
‫أنت؟‬
‫فلما رأوه‪ ،‬قالوا له‪ :‬من َ‬
‫سمعت بما اِجتمعتُم له‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قال‪ :‬شي ٌخ من أهل نجد‪،‬‬
‫رأي وال نُصح!‬ ‫فأردت أن أحضركم‪ ،‬ولن يعدمكم م ِّني ٌ‬ ‫ُ‬
‫فقالوا له‪ :‬اُدخُ ْل!‬
‫ٍ‬
‫محمد؟‬ ‫فقال قائل منهم‪ :‬ما ت َر ْو َن في شأنِ‬
‫وثاق‪،‬‬
‫بسوه في ٍ‬ ‫فقال رجل منهم‪ :‬ا ِْح ُ‬
‫الشعراءُ‪،‬‬‫صوا به المنون حتى يهلك‪ ،‬كما هلك قبله ُّ‬ ‫ثم تر َّب ُ‬
‫زُهي ُر والنَّابغة‪ ،‬فإ َّنما هو كأحدهم!‬
‫برأي!‬‫هلل ما هذا لكم ٍ‬ ‫إبليس‪ :‬ال وا ِ‬
‫ُ‬ ‫فقال‬
‫ِ‬
‫بحبسه‪،‬‬ ‫محبسه إلى أصحابه من يُخبرهم‬ ‫ِ‬ ‫هلل ليخ ُر َج َّن من‬ ‫وا ِ‬
‫فيثبِوا عليه حتى يأخ ُذوه من أيديكم‪ ،‬ثم يمن ُعوه منكم!‬
‫خر ُجوكم من بالدكم!‬ ‫فما آم ُن عليكم أن يُ ِ‬
‫الرأي!‬
‫ِّ‬ ‫فانظروا غير هذا‬ ‫ُ‬
‫يحوا منه‪،‬‬ ‫واستر ُ‬
‫ِ‬ ‫أظهركم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫فقال قائل منهم‪ :‬أَخْ ِر ُجوه من بين‬
‫فإنه إذا خر َج لن يض َّركم ما صنع!‬
‫برأي!‬
‫هلل ما هذا لكم ٍ‬ ‫إبليس‪ :‬وا ِ‬
‫ُ‬ ‫فقال‬
‫للقلوب بحديثه؟!‬
‫ِ‬ ‫أل ْم تروا حالوة قولِه‪ ،‬وطالقة لسانِه‪ ،‬وأخذه‬
‫لتجتمعن إليه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫العرب‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِستعرض‬
‫َ‬ ‫وا ِ‬
‫هلل لئن فعلتم‪ ،‬ثم ا‬
‫يخرج ُكم من بالدكم‪ ،‬ويقت َل أشرا َف ُكم!‬
‫ِ‬ ‫ليسيرن إليكم حتى‬‫َّ‬ ‫ثم‬

‫‪16‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫َّجدي‪ ،‬فانظ ُروا رأياً غير هذا!‬ ‫هلل الشي ُخ الن ُّ‬ ‫فقالوا‪ :‬صد َق وا ِ‬
‫بــرأي‪ ،‬مــا أراكــم أبصرتُ ُمــوه‬ ‫ٍ‬ ‫شــيرن عليكــم‬
‫َّ‬ ‫هلل أل ُ‬‫جهــل‪ :‬وا ِ‬ ‫ٍ‬ ‫فقــال أبــو‬
‫بعــد‪ ،‬مــا أرى غي ـ َره!‬
‫قالوا‪ :‬وما هذا؟‬
‫قبيلة وسيطاً شاباً َجلْداً‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فقال‪ :‬تأخذوا من كل‬
‫رجل ٍ‬
‫واحد!‬ ‫واحد منهم سيفاً صارماً‪ ،‬فيضربونَه ضرب َة ٍ‬ ‫ثم يُعطى كل ٍ‬
‫فإذا قتلتموه تف َّرق د ُمه في القبائل كلها‪،‬‬
‫قريش كلّهم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫حرب‬
‫ِ‬ ‫يقدرون على‬ ‫الحي من بني هاشم ِ‬ ‫ّ‬ ‫فال أظ ُّن هذا‬
‫فاسترحنَا منه!‬
‫ْ‬ ‫وأنهم إذا رأوا هذا َق ِبلُوا بال ِّدية‪،‬‬
‫الرأي‪ ،‬القو ُل ما قال الفتى‪ ،‬ال أرى غيره!‬ ‫ُ‬ ‫إبليس‪ :‬هذا وا ِ‬
‫هلل‬ ‫ُ‬ ‫فقال‬
‫الرأي‪ ،‬وهم ُمجمعون على ال ُم ِض ِّي به!‬ ‫ِّ‬ ‫وتف َّر ُقوا على هذا‬
‫يبيت في مضجعه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫النبي  وأمره أال‬ ‫ِّ‬ ‫فجاء جبري ُل إلى‬
‫تلك الليلة‪،‬‬ ‫النبي  في بيتِه َ‬ ‫ُّ‬ ‫يبت‬
‫فلم ْ‬
‫وأُذِ َن له بالهجرة ِمن مكة إلى المدينة‪،‬‬
‫ْ‬
‫ـروا ِلُثب ُتـ َ‬ ‫ك َفـ ُ‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َ ْ ُ ُ َ‬
‫ـوك‬ ‫ِ‬ ‫ـر بِــك الِيــن‬ ‫وأنــز َل اهلل تعالــى قولــه‪ِ﴿ :‬إَوذ يمكـ‬
‫ـوك﴾‬‫أَ ْو َي ْق ُتلُـ َ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس َّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ِ‬
‫االعتراف بها‪:‬‬ ‫من الحقائقِ ال ُم َّرة التي علينا‬
‫أن أهــل الباطــل يجتمِ ُعــون علــى باطلهــم أكثــر ممــا يجتمـ ُع أهـ ُل الحــقِّ‬ ‫َّ‬
‫علــى حقّهــم!‬

‫‪17‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أن أهل الباطل ي َر ْون الحقَّ تهديداً لوجودهم‪،‬‬ ‫وهذا مرجعه إلى َّ‬
‫جال مع غيرها‪،‬‬ ‫فرقة منها في ِس ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ترى ك ُّل‬
‫بأس شدي ٌد‪ ،‬ومكائ ُد‪ ،‬وصرا ُع نفوذ‪،‬‬ ‫بينهم ٌ‬
‫فإذا ما واجهتهم دعوةُ حقٍّ اِجتمعوا فوراً على باطلهم!‬
‫ضد باطل!‬ ‫ولألسف قلّما يجتم ُع أه ُل الحقِّ َّ‬
‫ـرف أهــون مــن الحــقِّ الــذي تُخالفــه‬ ‫أن الباطــل الصـ َ‬ ‫تــرى كل جماعـ ٍـة َّ‬
‫فــي شــيء!‬
‫أهل الباطل يعرفون أن اجتماع أهلِ الحقِّ يعني زوالهم‪،‬‬
‫خالف بينهم جانباً ويت َِّحدون‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نحون ك ّل‬ ‫لهذا يُ ُّ‬
‫رأس األمر‪،‬‬‫واحد منهم يري ُد أن يكون َ‬ ‫ٍ‬ ‫أ ّما أه ُل الحقِّ فغالباً كل‬
‫فرقة منهم تري ُد من الفِ رق األخرى أن تدخ َل تحت عباءتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬
‫الغالب خالفات أهل الحقِّ في مسائل فرعية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وفي‬
‫بمرور الزمن يجعلون هذه المسائل الفرع َّية هي األصل‪،‬‬
‫واألساس الذي يُم ِّيزُهم عن غيرهم‪،‬‬
‫فتراهــم يقتربــون أو ينفــرون مــن غيرهــم‪ ،‬بمقــدار مــا يوافقونهــم أو‬
‫يُخالفونهــم فيــه!‬
‫حولك‪ ،‬كم حزباً إسالم ّياً ترى‪ ،‬وكم فِ رق ًة؟!‬ ‫َ‬ ‫نظ ْر اآلن‬ ‫وا ُ ُ‬
‫ر ُّبهم واحد‪ ،‬وكتابُهم واحد‪ ،‬ونب ُّيهم واحد‪ ،‬وقبلتُهم واحدة!‬
‫والحساب!‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والبعث‪،‬‬ ‫كلهم يؤمنون بالجنَّةِ ‪ ،‬والن َِّار‪،‬‬
‫ولكن ك ّل فرقة منهم ترمي بقوسها‪،‬‬
‫بــل وبعضهــا يخطــو نحــو الباطــلِ أكثــر ممــا يخطــو نحــو الحــقِّ إذا كان‬
‫مــع غيــره!‬
‫أدراجك قلي ً‬
‫ال‪ ،‬وتذك َّر كيف سقطت األندلس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُع ْد‬

‫‪18‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫والسياس ـ ُة‬
‫ممالــك كثيــرة‪ ،‬جمعهــم ال ّدي ـ ُن والعقيــدة‪ ،‬وفرقتهــم ال ُّدنيــا ِّ‬
‫والمصالــح‪،‬‬
‫َ‬
‫نحوا خالفاتهم جانباً‪،‬‬ ‫فاجتم َع لهم أه ُل الباطل‪ُّ ،‬‬
‫ـدف واحـ ٍـد‪ ،‬هــو إزالــة ســلطان اإلســام عــن تلــك‬ ‫وتوح ـ ُدوا علــى هـ ٍ‬ ‫َّ‬
‫البــاد‪،‬‬
‫أن ما كان يُفرقهم أكب ُر مما يُف ِّرق أهل الحقّ ‪،‬‬ ‫رغم َّ‬
‫وما يجمعهم أصغ ُر مما يجمع أهل الحقّ !‬
‫يغلب الحقَّ المتف ِّرق!‬
‫ُ‬ ‫ولكن الباطل المجتَمِ ع‪،‬‬‫َّ‬

‫رس َّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الجن وشياطين اإلنس ُحلفاء!‬ ‫ِّ‬ ‫شياطين‬


‫دعواهم واحدة‪ ،‬وهدفهم واحد!‬
‫الستر عن أبوينا في الجنَّة‪،‬‬‫إبليس الذي نز َع لباس ِّ‬‫ُ‬
‫بعد أن أغراهما أن يأكال من شجرة المعصية‪،‬‬
‫يوجد منه آالف النُّسخ البشر ِّيةِ التي تُحارب الحجاب!‬
‫بسيف الفِ كر واإلعالم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ولكن بعضهم‬
‫وبعضهم بسيف األزياءِ والموضة!‬
‫إبليس الذي س َّمى شجرة المعصية شجرةَ الخُ لد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫حفظوا درسه جيداً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يوجد منه الماليي ُن الذين‬
‫َّاس بها‪،‬‬
‫سمياتها كي يسهل عليهم إقناع الن ِ‬ ‫فس ُّموا األشياء بغير ُم َّ‬
‫الجنسي أسموه عالق ًة مثل ّي ًة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الشذوذ‬ ‫ُّ‬

‫‪19‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫مشروبات روح ّي ًة‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫والخُ مور أسموها‬
‫والزِّنى أسموه عالق ًة عاطف ّي ًة‪ ،‬وممارسة ُ‬
‫الح ِّب!‬
‫والدياثة أسموها انفتاحاً‪،‬‬‫َّ‬
‫وال ِّربى أسموه فائد ًة!‬
‫بمسمياتِها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫فانت ِب ُهوا لهذه المعركة جيداً‪ ،‬وس ُّموا األشياء‬
‫ال تُج ِّملوا الحرا َم‪ ،‬وال تُم ِّيعوا الحالل!‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫َّاس أباليس!‬‫بعض الن ِ‬


‫ُ‬
‫يخط ُر لهم من األفكار والمكائد ما ال يخط ُر على بال الشياطين‪،‬‬
‫النبي ‪،‬‬‫ِّ‬ ‫إبليس خط ٌة للقضاء على‬ ‫ُ‬ ‫لم يكن عند‬
‫عجب َّ‬
‫بخطةِ أبي جهل!‬ ‫ولكنه أ ُ َ‬
‫الشر!‬‫الضاللة يُبد ُع في َّ‬
‫حين يغر ُق اإلنسان في َّ‬
‫يشيب منه شع ُر ال َّرأس‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫موقف‬ ‫حدثني صدي ٌق لي عن‬ ‫َّ‬
‫شاب على فتاةٍ عبر أحد مواقع التَّواصل‪،‬‬ ‫رف ٌّ‬‫ت َّع َ‬
‫وشيئاً فشيئاً‪ ،‬وحديثاً بعد حديث‪ ،‬تط َّورت العالقة إلى ُح ّب‪،‬‬
‫ثم اِتفقا على الزَّواج‪.‬‬
‫ولكنه أخبرها في اليوم التالي أنه بمجرد أن وعدها بالزَّواج‪،‬‬
‫وانكماش في القلب‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الصدر‪،‬‬
‫بضيق في َّ‬
‫ٍ‬ ‫شعر‬
‫أن ســبب كل هــذا ســحر قــد فعلــه شــخص مــا لهــا وألهــل‬
‫رجـ ُح ّ‬
‫وأنــه يُ ِّ‬
‫بيتها ‪،‬‬

‫‪20‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ثم أخبرها بعد ذلك أنه يرى في مناماته ما يحدثُ في منزلهم‪،‬‬


‫وكان يُح ِّدثها بكل صغيرة وكبيرة تحص ُل في عائلتها‪،‬‬
‫وكانت تُصاب بال ُّذهول من د َّقة التفاصيل التي يخبرها بها‪،‬‬
‫ٌ‬
‫مشترك بينهما‪،‬‬ ‫هي في بلد‪ ،‬وهو في بلد‪ ،‬وال يوجد شخص‬
‫األمر منامات و ُرؤى ال شك!‬
‫وث ّمة سحر قد ُعقِ َد عليها وعلى أهل بيتها!‬
‫أن أُختهــا ســتأتي إلــى بيــت أهلهــا بســبب شـ ٍ‬
‫ـجار‬ ‫ثــم أخبرهــا ذات ليلـ ٍـة َّ‬
‫مــع زوجهــا‪،‬‬
‫جــاءت أُختهــا إلــى بيــت العائلــة وقــد طردهــا زوجهــا مــن‬ ‫ْ‬ ‫وبالفعــل‬
‫البيــت‪،‬‬
‫تش ُّك ولو للحظة أنه صادق‪،‬‬ ‫فلم ت ُع ْد ُ‬
‫األمر تخطى معرفة ما الذي حدث معهم باألمس‪،‬‬
‫إلى معرفة ما الذي سيحدثُ معهم في الغد!‬
‫متمس ُك بها وأنه لن يتركها أبداً‪،‬‬‫ِّ‬ ‫ولكنه أخبرها أنه‬
‫فهي ُح ُّب حياته الذي يستحقُّ أن يُقاتل ألجله!‬
‫وقــد وعدهــا أنــه لــن يتــرك شــيخاً فــي بلــده إال ويســأله كيــف يُفـ ُّ‬
‫ـك‬
‫الســحر عنهــا!‬‫هــذا ِّ‬
‫السحر‪،‬‬ ‫لفك ِّ‬‫أيام أخبرها أن الطريقة الوحيدة ِّ‬ ‫وبعد ٍ‬
‫هي أن تحصل على َمن ِِّي زوج أختها وتحرقه‪،‬‬
‫ُ‬
‫يعرف هذا‪،‬‬ ‫فهو أيضاً ضح َّية مثلهم‪ ،‬وال‬
‫وألنها كانت يائسة ترى طالق أختها سيقع‪،‬‬
‫وترى ُح َّب حياتها سيضي ُع منها‪،‬‬
‫نت زوج أختها من نفسها!‬ ‫م ّك ْ‬

‫‪21‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫لتكتشف بعد ذلك أن زوج أختها قد اِستأجر هذا الشاب‪،‬‬


‫ودفع له المال كي يُم ِّثل دور الحبيب‪،‬‬
‫وهو الذي كان يخبره بأسرار العائلة وما يحدث معها‪،‬‬
‫وهو الذي طرد زوجته إلى بيت أهلها لتص ِّد َق نبوءة حبيبها‪،‬‬
‫حب أخت زوجته‪ ،‬ويريدها لنفسه‪،‬‬ ‫ألنه كان يُ ُّ‬
‫فأي شيطان قادر على أن يكتب فصول هذه المسرحية‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫بل ويمثلها بعد ذلك بهذا َّ‬
‫الش ِّر ال ُمتقن؟!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ُك ْن مع ا ِ‬
‫هلل ي ُك ْن معك!‬
‫ويخبرك بمكائد الناس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لست نبياً ليأتي إليك جبريل‬ ‫َ‬
‫ولكنَّك مؤمن في رعاية اهللِ‪ ،‬وحفظه‪ ،‬ورحمته‪،‬‬
‫بحل ُ ٍم تراه فتنتبه‪،‬‬ ‫السوء ُ‬
‫عنك ُّ‬‫سيصرف اهللُ َ‬
‫ُ‬
‫إليك فتفهم اإلشارة منه‪،‬‬ ‫أو حديث يصل َ‬
‫َ‬
‫فيشغلك عنه‪،‬‬ ‫ترغب َّ‬
‫بالذهاب إليه‬ ‫ُ‬ ‫مكان‬
‫أو ٍ‬
‫لك فيه حاج ًة!‬ ‫مكان آخر فيه النَّجاة فيجعل َ‬ ‫أو ٍ‬
‫الجبن في قلب صاحب َّ‬
‫الش ِر‪،‬‬ ‫سينقذك اهللُ بأن يُلقي ُ‬
‫َ‬
‫في أخر لحظة فال يُقدم على ما عز َم عليه‪،‬‬
‫أو يشغله بنفسه وقد كان تفَّر َغ َ‬
‫لك‪،‬‬
‫أو يُسلِّ َط عليه من هو أكثر ش ّراً منه‪،‬‬
‫فيكفي المؤمن ش َّر القتال!‬
‫َ‬

‫‪22‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ُ‬
‫الملك في منامه‪،‬‬ ‫السجن برؤيا رآها‬‫السالم من ِّ‬ ‫ُ‬
‫يوسف عليه َّ‬ ‫خر َج‬
‫تضرب باب السجن فتزيحه!‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بصاعقة‬ ‫ال‬
‫ٍ‬
‫ببعوضة ال تكاد تُرى‪،‬‬ ‫َ‬
‫وهلك النَّمرو ُد‬
‫الح والعتاد!‬
‫بالس ِ‬
‫مدج ٍج ِّ‬
‫عرمرم َّ‬
‫ٍ‬ ‫بجيش‬
‫ٍ‬ ‫ال‬
‫فال تش ُغ ْل تفكيرك كيف تنجو من ش ِّر الناس‪،‬‬
‫رب الناس‪،‬‬ ‫ُرضي َّ‬
‫َ‬ ‫بقدر ما تشغله كيف ت‬
‫رضي‪ ،‬كفى‪ ،‬وحمى‪ ،‬وأنجى‪ ،‬وأعطى‪ ،‬وأرضى!‬ ‫َ‬ ‫فإنه إذا‬

‫‪23‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪4‬‬

‫﴿إنّ ِي آن َ ْس ُ‬
‫ت نَ ً‬
‫ارا﴾‬ ‫ِ‬

‫رس ُل إلينا اإلشارات‪،‬‬ ‫اهللُ دوماً يُ ِ‬


‫َّك ه ّزاً‪،‬‬
‫بالجنا َز ِة تم ُّر بك فت ُهز َ‬
‫كفاك بُعداً حان ُ‬
‫وقت التَّوبة‬ ‫َ‬ ‫وتخب ُر َك أن‬
‫باآليةِ تسم ُعها فتشع َر أ ّنها أ ُ ِنزلت لك وحدك!‬
‫ِ‬
‫بالحديث يُلقى على مسامعك‪،‬‬
‫ٍ‬
‫واحد‪،‬‬ ‫سنة واحداً من‬
‫ألف وأربعمئة ٍ‬‫أن النّاس حملُوه منذ ٍ‬‫فتشع َر ّ‬
‫المعني فيه!‬
‫ُّ‬ ‫فأنت‬
‫َ‬ ‫وصلُوه إليك‬
‫ل ًي ِ‬
‫وت الذي تس َم ُعه داخلك يقو ُل لك‪:‬‬
‫الص ِ‬
‫بهذا َّ‬
‫إ ّياك أ ْن تمشي في هذه َّ‬
‫الطريق‪،‬‬
‫الضرر‪،‬‬
‫سيلح ُق بك ّ‬‫ِ‬ ‫هذا اإلنسا ُن‬
‫هذه الوظيفة ال تُناسبُك‪،‬‬
‫هذه الفُرصة فخٌّ ُمحكم‪،‬‬
‫عبث يرس ُل اهللُ هذه اإلشارات َ‬
‫لك فال تتجاهلها!‬ ‫ليس عن ٍ‬

‫‪24‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪5‬‬

‫قال أسل ُم بن عمران‪ُ :‬كنَّا في حصار القسطنطين َّية‪،‬‬


‫صف عظيم من ال َّروم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فخر َج من المدينة‬
‫وصففنا لهم صفاً عظيماً من المسلمين‪،‬‬
‫صف الروم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فحم َل رج ٌل من المسلمين على‬
‫حتى دخ َل فيهم‪ ،‬ثم خر َج علينا ُمقب ً‬
‫ال‪،‬‬
‫َّاس فقالوا‪ :‬ألقى بيديه في التَّهلكة‪،‬‬ ‫فصا َح الن ُ‬
‫أيوب األنصاري صاحب رسول اهلل  فقال‪:‬‬ ‫فقام أبو ٍ‬
‫َّاس إنكم تتأ َّولُون هذه اآلية على غير ما أ ُ ْ‬
‫نزلت فيه‪،‬‬ ‫أيها الن ُ‬
‫ذلك إ َّنا لما أع َّز اهلل دينه‪ ،‬وكثر ناصروه‪،‬‬
‫نزلت فينا معشر األنصار‪ِ ،‬‬ ‫ْ‬
‫ضاعت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫إن أموالنا قد‬ ‫لبعض س ّراً‪َّ :‬‬
‫ٍ‬ ‫ُقلنا بعضنا‬
‫فلو أقمنا فيها‪ ،‬وأصلحنا ما ضاع منها‪،‬‬
‫فأنز َل اهللُ تعالى في كتابه يُر ُّد علينا ما هممنا به‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ُ ْ َ َّ ُ َ‬ ‫َّ َ ُ ْ ُ ْ َ‬ ‫﴿وأَنفِ ُقوا ْ ف َ‬
‫ٱتل ْهلكةِ﴾‪،‬‬ ‫يل ٱللِ َول تلقوا بِأيْدِيكم إِل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ِ‬
‫َ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ُ‬
‫يكشف حقيقتها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫قضية ما ال‬ ‫ُحك ُمنَا على‬
‫ف عن حقيقة فهمنا لها!‬ ‫يكش ُ‬
‫بقدر ما ِ‬
‫إذا ما تعلَّ َق األمر بال ُّدنيا فتسديد ومقاربة‪،‬‬
‫وحساب للمنفعة‪ ،‬ثم المفاضلة بين هذا وذاك‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫تقدي ٌر للعواقب‪،‬‬

‫‪25‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أما إذا ما تعلَّق األمر بال ّدين فالعق ُل يعم ُل في فهم النَّص‪،‬‬
‫حكم لقضية قد بُ َّت فيها‪،‬‬ ‫حل أو ٍ‬ ‫وال يشتغ ُل في إيجاد ٍّ‬
‫وإن مما اُبتلينا به أن العب َد الذي ال يرى أبعد مما تُريه إياه عيناه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫يستدرك على اهلل تعالى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يري ُد أن‬
‫الذي يرى األمور بكل جوانبها‪ ،‬وما َع ِل َمه العب ُد منها وما َجهِ لَه‪،‬‬
‫الشر ُع في كف ٍّة وعقل ُ َك في كفّة‪،‬‬ ‫فإن كان َّ‬
‫َ‬
‫عقلك‪،‬‬ ‫فقد حان الوقت أن تُراجع‬
‫ال أن تبحث عن حلول لقضايا أكبر منك‪،‬‬
‫الشخص ّية!‬ ‫وأنت بالكاد قادر على ح ِّل مشكالتك َّ‬ ‫َ‬
‫لك‪ :‬ال تُف ِّك ْر‪،‬‬‫ولست أُقل ُل من قدر العقل‪ ،‬وال أقول َ‬ ‫ُ‬
‫ما أطل َق أح ٌد العق َل كما أطلقه اإلسالم‪،‬‬
‫ومــا حــثَّ علــى التفكيــر والتّدبــر أحــد كمــا حــثَّ عليــه هــذا ال ِّديــن‬
‫العظيــم‪،‬‬
‫ولكن ك ّل هذا مشروط بأن ال يخلع المرءُ عباءة عبوديته هللِ‪،‬‬
‫وأنت عبد‪،‬‬‫َ‬ ‫وأنت عبد‪ ،‬وتستنتج‬ ‫َ‬ ‫وأنت عبد‪ ،‬وتتأم ُل‬
‫َ‬ ‫تُف ِّك ُر‬
‫إلهي‪،‬‬
‫حكم ٍّ‬ ‫رباني‪ ،‬وحكماً مقابل ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫أما أن تطر َح فكراً مقابل ٍ‬
‫فكر‬
‫فهذا ليس تفكيراً وال تد ُّبراً‪،‬‬
‫نفسك ر ّباً من حيث تدري أو ال تدري!‬ ‫َ‬ ‫أنت هنا تطر ُح‬ ‫َ‬
‫نفســه‪ ،‬ويُه ِلـ ُ‬
‫ـك‬ ‫ـك َ‬ ‫إن الــذي يُفتــي بالعقــلِ مــع وجــود ال َّنــص القاطــع‪ ،‬يُه ِلـ ُ‬ ‫َّ‬
‫ّاس ‪،‬‬
‫الن َ‬
‫ومصيــره نهايــة المطــاف كالعابــد الــذي أفتــى للــذي قتــل تســعة‬
‫وتســعين نفســاً‪،‬‬
‫أن ال توبة له‪ ،‬فقتله وأكمل به المئة!‬

‫‪26‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫لقد نظ َر بعقله إلى العدد فاستعظمه‪،‬‬


‫َ‬
‫ليعرف أن ال ذنب مهما كبر‪،‬‬ ‫بالنص إلى رحمة ا ِ‬
‫هلل‬ ‫ِّ‬ ‫ولم ينظر‬
‫إال ورحمة اهلل تعالى وعفوه أكبر منه!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ال تح ُك ْم على ك ِّل األمور بعين ال ُّدنيا‪،‬‬


‫خسرت ال ِّدين ولم تربح ال ُّدنيا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فعلت‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فإنك إن‬
‫فت بها أرجاء التَّاريخ‪،‬‬ ‫وط َ‬ ‫حملت عي َن ال ُّدنيا ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وإنك لو‬
‫لك أن عين ال ُّدنيا عمياء ال ترى!‬ ‫لتب َّين َ‬
‫قريش الوسيم وال ُمدلل‪،‬‬‫ٍ‬ ‫نظرت إلى مصعب بن ُعمير فتى‬ ‫َ‬ ‫إنك لو‬‫َ‬
‫بخرقة أقصر من جسده‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫غطوه‬ ‫حد ورأيتهم قد ُّ‬ ‫يوم غزوة أ ُ ٍ‬
‫رأسه‪،‬‬ ‫َ‬
‫انكشف ُ‬ ‫غطوا قدميه‬ ‫انكشفت قدماه‪ ،‬وإذ ُّ‬ ‫ْ‬ ‫غطوا رأسه‬ ‫إذا ُّ‬
‫لقلت متحسراً‪ :‬يا لهذه ال ِّنهاية البائسة!‬ ‫َ‬
‫ولكن ذلك اليوم كان خير أيام مصعب بن عمير‪،‬‬
‫هو في ذاك اليوم غادر ضيق ال ُّدنيا إلى َسعةِ اآلخرة‪،‬‬
‫وف َّر من كدر هذا الكوكب إلى سعادة أهل الجنّة!‬
‫نفســه‬
‫ـرت بعيــن ال ُّدنيــا إلــى صهيــب الرومـ ِّـي وهــو يفــدي َ‬
‫ـك لــو نظـ َ‬ ‫وإنـ َ‬
‫بمالــه‪،‬‬
‫بالنبي  في المدينة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لِيلح َق‬
‫صفقة خاسرةٍ هذه‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أي‬
‫ُلت بلسان الجاهل‪ّ :‬‬ ‫لق َ‬
‫النبي  قد تلقّاه قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫علمت أن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ولكنك متى‬

‫‪27‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رب َح البي ُع أبا يحيى‪ ،‬رب َح البي ُع أبا يحيى!‬


‫ُ‬
‫تختلف عن أسواق ال ُّدنيا!‬ ‫أن للرجال ميادين تجارة‬ ‫لعلمت ّ‬
‫َ‬
‫نظرت بعين ال ُّدنيا إلى ماشطةِ ابنةِ فرعون‪،‬‬
‫َ‬ ‫وإ ّن َك لو‬
‫الزيت المغلي واحداً تلو آخر فتطفو عظا ُمهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وأوالدها يُلْقو َن في‬
‫ٍ‬
‫قاسية هي!‬ ‫أي أ ٍّم‬ ‫الح ْمقِ ‪ُّ :‬‬ ‫ُلت بلسانِ ُ‬ ‫لق َ‬
‫النبي  قد ش َّم ريحاً ط ِّيباً في ليلة معراجه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫علمت أن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ولكنك لو‬
‫أن هذه رائحة الماشطة وأوالدها‪،‬‬ ‫فسأل عنها‪ ،‬فأخبره جبريل َّ‬
‫معارك العقيدة بنتائجها النّهائية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لعلمت أن‬
‫َ‬
‫وليست بتلك النهايات ال ُّدنيوية التي تبدو للعين التي ال ترى‪،‬‬
‫من المشهد إال ما هو أمامها!‬
‫َ‬
‫تبوك‪،‬‬ ‫نظرت بعين ال ُّدنيا إلى غزوة‬ ‫َ‬ ‫وإنك لو‬ ‫َ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫نصف ماله في حجر‬ ‫َ‬ ‫يصب‬
‫ُّ‬ ‫ورأيت عثمان بن عف ٍّان‬ ‫َ‬
‫خس َر ال َّر ُج ُل ماله!‬ ‫بلسان أخرق‪ِ :‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُلت‬
‫لق َ‬
‫النبي  قد قلَّ َب المال بيديه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫علمت ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ولكنك لو‬
‫ثم قال‪ :‬ما ض َّر عثمان ما فع َل بعد اليوم‪،‬‬
‫الصعبة‪،‬‬
‫أن ال ِّرجال يظهرون في المواقف َّ‬ ‫لعلمت َّ‬
‫َ‬
‫وأن الما َل خادم ج ّيد ولكنّه س ِّيد ِّ‬
‫سيء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫يهلك إلى األبد!‬ ‫وإنما هي م َّرة ينجو فيها المرءُ إلى األبد‪ ،‬أو‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ُ ْ َ َّ ْ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُُْ ْ َ‬
‫أولئك الذين قال لهم ربهم‪َ :‬‬
‫﴿ول تلقوا بِأيدِيكم إِل ٱتلهلكةِ﴾‪،‬‬

‫‪28‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أنت‪،‬‬
‫ليسوا أنا وال َ‬ ‫ُ‬
‫اعنُون في اإليمان‪ ،‬البالغُون فيه عتياً‪،‬‬ ‫أولئك هم َّ‬
‫الط ِ‬
‫النبي  في مدينتهم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أولئك الذين استقبلوا‬
‫وقاتلوا المشركين معه‪ ،‬ومنعوه مما يمنعوا منه أعراضهم وأوالدهم‪،‬‬
‫وقدموا في سبيل دعوته دما َءهم وأموالهم‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ثم لما أرا ُدوا أن يعو ُدوا إلى ُدنياهم جاءهم تحذير ر ِّبهم‪،‬‬
‫ماضيك مهما كان جمي ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فال تر ُك ْن إلى‬
‫أوتيت من ق َّوةٍ ّأل تفسده‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حار ْب بكل ما‬ ‫وإنما ِ‬
‫مات ارت ُّدوا‪،‬‬
‫النبي ‪ ،‬ودف ُعوا زكاة أموالهم‪ ،‬فلما َ‬ ‫ِّ‬ ‫أسلَم أقوا ٌم مع‬
‫السالفة!‬‫فما نفعهم إيمانهم القديم‪ ،‬وال زكاتهم َّ‬
‫ماضيك مشرقاً فسلِ َ‬
‫وز ْد‪،‬‬
‫الثبات ِ‬
‫َ‬ ‫اهلل‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫فإن كان‬
‫لك ما مضى!‬ ‫بقي يغفِ ْر َ‬
‫فأص ِل ْح ما َ‬ ‫وإن كان قاتماً ْ‬
‫رس بعد‪:‬‬ ‫الد َ‬‫فأنت لم تفهم َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بماضيك‬ ‫تمن على اهلل‬ ‫أما أن َّ‬
‫إن العبرة بالخواتيم!‬ ‫َّ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫األمو ُر تُقاس بأوقاتها وظروفها‪،‬‬


‫اإلحجــا ُم‬
‫َ‬ ‫ثمــة مواقــف يكــون اإلقــدا ُم فيهــا تهـ ُّوراً‪ ،‬وث َّمــة مواقــف يكــون‬‫َّ‬
‫فيهــا ُجبنـاً‪،‬‬
‫والشجاع ُة في موضعها محمودة مهما كانت نتائجها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫والح َذ ُر في غير موضعِ ه مذمو ٌم ولو أ َّدى إلى َّ‬
‫السالمة!‬ ‫َ‬

‫‪29‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الموقف وتعام َل معه بما يقتضي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قدر‬


‫والحكي ُم من َّ‬
‫انسحب بالجيش يوم ُمؤتة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫خالد بن الوليد‬
‫ثبت في حروب ال ِّردة‪ ،‬وكسر كبرياء ال ُّروم في اليرموك‪،‬‬ ‫ولكنه َ‬
‫الشجاعة‪ ،‬خالد هو خالد‪،‬‬ ‫تنقصه َّ‬‫ُ‬ ‫في ُمؤتة لم تكن‬
‫ينقصه الحذر‪،‬‬‫ُ‬ ‫وفي اليرموك لم يكن‬
‫ولكنه رأى في األولى القتال مغامر ًة فحق َن دماء الجيش‪،‬‬
‫بالجيش وساماً نبوياً من رتبة‪ :‬أنتم ال ُك َّرار‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ونا َل‬
‫َّاس بال َفرار!‬‫النبي  حين ِاتَّهمهم الن ُ‬ ‫ُّ‬ ‫قالها لهم‬
‫ولكنّه رأى في ال َّثانية الفرص َة سانح ًة فأجه َز على العدو‪،‬‬
‫القط ووثبة األسد!‬‫ِّ‬ ‫وهذا هو خالد كما يقول عنه أبو بكر‪ :‬أناة‬
‫بحر من ال ِّدماء‪،‬‬ ‫ثم وهل وص َل إلينا هذا ال ِّدين إال على ٍ‬
‫خالد في حمص‪،‬‬ ‫نفسك‪ :‬ما يفع ُل قب ُر ٍ‬‫َ‬ ‫سألت‬
‫َ‬ ‫وهل‬‫ّ‬
‫وما يفعل قب ُر أبي موسى قرب أسوار القسطنطين َّية‪،‬‬
‫وما يفعل قب ُر ُعبادة بن الصامت في فلسطين‪،‬‬
‫وما يفع ُل قب ُر زيد بن حارثة في األردن‪،‬‬
‫هؤالء لم يخرجوا من المدينة المن َّورة سياح ًة ونزهة‪،‬‬
‫وخرجوا يُ ْعلُون‪ :‬ال إله إال اهلل!‬
‫ُ‬ ‫لقد وض ُعوا أرواحهم على أ ُك ِّفهم‬

‫‪30‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪6‬‬

‫ْ َ ََْ‬ ‫َ َ َ َ ْ‬
‫﴿قال أخ َرق َت َها لِ ُغ ِرق أهل َها﴾‬

‫يك اهللُ ُ‬
‫بط ُر ٍق ال تَف َه ُمها!‬ ‫يحمِ َ‬
‫لك ُسفُن‪،‬‬ ‫ستُخ َر ُق َ‬
‫خاطئ!‬
‫ٍ‬ ‫إبحار‬
‫ٍ‬ ‫يك من‬ ‫اهلل يري ُد أ ْن يحمِ َ‬ ‫ألن َ‬ ‫ّ‬
‫خطى‪،‬‬
‫ً‬ ‫ستتع َّث ُر لك‬
‫اهلل يريدك ّأل تبل َغ ُو ْجه ًة ُمؤذي ًة!‬ ‫ألن َ‬ ‫ّ‬
‫ص‪،‬‬ ‫َ‬
‫عليك ُف َر ٌ‬ ‫ُوت‬‫وستف ُ‬
‫تحتاجه ال ما تُريده!‬ ‫اهلل يُعطيك ما‬ ‫ألن َ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫وست ُْص َف ُع على وجهِ َك‪،‬‬
‫الطريق ُة الوحيدةُ كي تستفي َق من غفلت َ‬
‫ِك!‬ ‫أل ّنها َّ‬
‫كس ُر قلبُ َك‪،‬‬ ‫وسيُ َ‬
‫نس باهللِ‪،‬‬ ‫خطوات األ ُ ِ‬
‫ِ‬ ‫القلب أ ّول‬‫ِ‬ ‫كس َر‬ ‫ألن ْ‬ ‫َّ‬
‫الحماية يأتي مق ُروناً بالوجع!‬
‫الكثي ُر من ِ‬

‫‪31‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪7‬‬

‫النبي ‪،‬‬‫ِّ‬ ‫ومي مهاجراً إلى‬ ‫هيب ال ُّر ّ‬


‫ص ٌ‬ ‫خر َج ُ‬
‫قريش من المشركين يريدون أن يعيدوه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فتب َعه نف ٌر من‬
‫فنز َل عن دابته‪ ،‬ونث َر ما في كنانته من أس ُه ٍم‪ ،‬وأخ َذ َ‬
‫قوسه وقال‪:‬‬
‫قريش‪ :‬لقد علمتُم أني من أَر َماكم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يا معش َر‬
‫إلي حتى أرمي بما في كنانتي‪،‬‬ ‫هلل ال تصلون َّ‬ ‫وأي ُم ا ِ‬
‫بقي في يدي منه شيء‪،‬‬ ‫أضرب بسيفي ما َ‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ثم بعدها ِا ْف َعلوا ما ِشئتم!‬
‫بلغت‪،‬‬
‫َ‬ ‫وبلغت ما‬
‫َ‬ ‫فقالوا له‪ :‬أتيتنا صعلوكاً فكثر مالُ َك عندنا‬
‫هلل ال يكون هذا!‬ ‫َ‬
‫ومالك‪ ،‬وا ِ‬ ‫ثم تري ُد أن تخر َج ِ‬
‫بنفسك‬
‫فقال لهم‪ :‬أرأيتم إن أعطيتُكم مالي أتُخلُون سبيلي؟‬
‫فقالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫فد َّلهم على مكان ماله فذهبوا وأخذوه‪،‬‬
‫النبي  مهاجراً‪،‬‬‫ِّ‬ ‫ومضى هو نحو‬
‫النبي  بقوله‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫فلما وص َل إلى المدينة المن َّورة‪ ،‬تلقَّاه‬
‫رب َح البي ُع أبا يحيى‪ ،‬رب َح البي ُع أبا يحيى‪،‬‬
‫ـاء‬ ‫ـري َن ْف َسـ ُ‬
‫ـه ابْت ِ َغـ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ـن انلَّـ ِ‬ ‫وأنــز َل اهلل تعالــى قولــه‪َ :‬‬
‫﴿و ِمـ َ‬
‫ـاس مــن يـ ِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫م ْرضـ ِ‬
‫ـات اللِ﴾‪،‬‬

‫‪32‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس األول‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ُ‬
‫مواقف ِعزّ‪،‬‬ ‫الحياةُ‬
‫يقف فيها شامخاً‪،‬‬ ‫وث ّمة مواقف على اإلنسان أن َ‬
‫ليقف بعدها!‬ ‫َ‬ ‫أل ّنه إذا انحنى فقد ال يُسعفه عم ُره كلّه‬
‫إ ّنها عبادة الموقف الواحد التي إن أقمتها استقام بعدها كل شيءٍ ‪،‬‬
‫ثوب إيمانك خيطاً خيطاً‪،‬‬ ‫سينفرط ُ‬ ‫ُ‬ ‫وإن أهدرتَها‬
‫يك!‬‫لحظة ما قب َح ُع ْر َ‬ ‫ٍ‬ ‫ستكتشف في‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أدراجه‪،‬‬
‫َ‬ ‫تخ َّي ْل معي لو أن صهيباً آث َر مالَه على دينِه وعاد‬
‫ما كان ليكون هذا كل ال ّذ ّل وإ ّنما أ ّوله‪،‬‬
‫فكما راودوه عن هجرته بماله على مشارف مكة‪،‬‬
‫فسيراودونه عن صالته وتوحيده في بطنها كذلك!‬
‫الســبعة الــذي يُظلهــم اهللُ فــي ظله يــوم ال ظ َّل إال ظله‪،‬‬ ‫ـت حديــث ّ‬ ‫ولــو تأملـ َ‬
‫ـف‬ ‫ـرف العظيــم بعبــاد ِة الموقـ ِ‬ ‫ـدت ثالثـ ًة منهــم قــد نالــوا هــذا َّ‬
‫الشـ َ‬ ‫لوجـ َ‬
‫الواحــد!‬
‫منصب وجمال فقال‪ :‬إني أخاف اهلل!‬ ‫ٍ‬ ‫رجل دعته امرأةٌ ذات‬
‫انتصرت فيها العِ فَّة على أجيج َّ‬
‫الشهوة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لحظة واحدة‬
‫هلل على أمان الخلوة‪،‬‬ ‫وانتصرت فيها عظمة مراقبة ا ِ‬ ‫ْ‬
‫أكسبت صاحبَها ع َّز ال ُّدنيا وع َّز اآلخرة‪،‬‬ ‫ْ‬
‫أنفقــت‬
‫ْ‬ ‫بصدقــة فأخفاهــا حتــى ال تعلــم شــماله مــا‬ ‫ٍ‬ ‫تصــد َق‬
‫َّ‬ ‫ورجــل‬
‫يمينــه‪،‬‬
‫انتصرت فيها رغبة ستر المحتاج وجبر خاطره‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لحظة واحدة‬
‫حظ النفس في أن يُرى اإلنسا ُن متصدقاً فيمدحه الناس‪،‬‬ ‫على ِّ‬

‫‪33‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ال بين عبادة الخفاء وعبادة ال ِّرياء!‬ ‫هي التي كانت فيص ً‬
‫فــا داعــي ألن تُو ِّث ـ َق كل خيـ ٍـر تفعلــه كلَّــف اهلل تعالــى المالئكــة بهــذه‬
‫المه ّمــة‪،‬‬
‫حب اهلل تعالى‪،‬‬ ‫وما كانت هذه الجائزة العظيمة لتكون لوال ُّ‬
‫لجبر خواطر الناس في س ٍّر وكتمان!‬
‫ففاضت عيناه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ورج ٌل ذك َر اهلل خالياً‬
‫قلب عبده‪،‬‬ ‫لحظة واحدة تجلت فيها عظمة اهلل تعالى في ِ‬
‫استشع َر فيها ذنبَه وقدرة ا ِ‬
‫هلل عليه‪،‬‬
‫واستشع َر فيها ضعف َه وق َّوة ر ِّبه فبكى‪،‬‬
‫دمعة‪ ،‬دمعة واحدة من قلب صادق كان ثمنها الجنَّة‪،‬‬
‫إياك أن تُف ِّر َط في وقفات العِ زِّ!‬ ‫فإياك َ‬

‫الدرس الثاني‪:‬‬

‫ث َّمة عبادة عظيمة اسمها‪ :‬ال َّت ْر ُك هللِ!‬


‫وقد رب َح بي ُع أبي يحيى ألنه َ‬
‫ترك هللِ!‬
‫هلل تعالى‪،‬‬ ‫َ‬
‫يمنعك منها إال مراقبة ا ِ‬ ‫ٍ‬
‫معصية قدِ ْر َت عليها ولم‬ ‫كل‬
‫فاستشعر معها قول نب ّي َك ‪ :‬رب َح البي ُع أبا يحيى‪،‬‬
‫لذة ال َّت ْر ِك أجمل من َّ‬
‫لذة الفعل!‬ ‫وقتذاك ستصب ُح َّ‬
‫َ‬
‫بإمكانك أن تنفذه‪،‬‬ ‫انتقام كان‬
‫ٍ‬ ‫كل‬
‫يح ْل بينك وبين إنفاذه إال رضى اهلل عن العافين عن الناس‪،‬‬‫ولم ُ‬
‫فاستشعِ ْر معه قول حبيبك ‪ :‬رب َح البي ُع أبا يحيى!‬

‫‪34‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫لذة االنتقام!‬‫لذة العفو أجمل من َّ‬ ‫عند ذلك ستصب ُح َّ‬


‫مالك وقد حا َن وقت سداده‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كل مديون عج َز أن يُس ِّد َد َ‬
‫لك‬
‫فقررت أن تسامح وتعفو وتصفح‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وكان بإمكانك أن تشكو وتفضح‪،‬‬
‫فاستشعِ ْر معه‪ :‬رب َح البي ُع أبا يحيى‪،‬‬
‫لذةَ َّ‬
‫السداد!‬ ‫وقتها فقط ستفوق لذةُ المسامحة َّ‬
‫ـك ّأل‬‫ـوس لـ َ‬
‫ـك الشــيطان يوسـ ُ‬ ‫ـف فــي وجهـ َ‬‫ـت بهــا فوقـ َ‬ ‫كل صدقـ ٍـة هممـ َ‬
‫تفعــل‪،‬‬
‫يدك في جيبك وأخرجها فوراً‪،‬‬
‫ض ْع َ‬ ‫َ‬
‫النبي  يقول َ‬
‫لك‪ :‬رب َح البي ُع‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫متخي ً‬
‫ال‬
‫أن ل ّذة العطاء تفو ُق َّ‬
‫لذة األخذ!‬ ‫وقتها فقط ستشعر َّ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫كنت له خادماً بدل أن تكو َن له س ِّيداً؟!‬ ‫ما قيمة المالِ إن َ‬


‫ما قيمة المالِ إن كان ثمناً لدينك؟!‬
‫تكــت ألجلــه‬
‫وجهــك‪ ،‬و ُه َ‬ ‫َ‬ ‫مــا قيمــة المــالِ إن أُريــ َق فــي ســبيله مــاء‬
‫كرامتــك؟!‬
‫ـب حســاب‬‫ـت ســتعيش عيــش الفقــراء وتُحاسـ ُ‬ ‫مــا قيمــة المــالِ إن كنـ َ‬
‫األغنيــاء؟!‬
‫َ‬
‫عليك؟!‬ ‫ما قيمة المال إن لم ي َر اهللُ أثره‬
‫ما قيمته إن لم ت ُْسعِ ْد به زوج ًة‪ ،‬وتُ َي ِّس ْر به حياة ٍ‬
‫أوالد؟!‬
‫تسد به حاجة صديق‪ ،‬أو تجبر به خاطر محتاج‪،‬‬
‫ما قيمته إن لم َّ‬

‫‪35‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ما قيمته إن لم يكن للفقير فيه نصيب‪ ،‬وللمديون به سلوى‪،‬‬


‫للمريض فيه علبة دواء‪ ،‬ولألرملة رغيف خبز‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ما قيمته إن لم يكن‬
‫مــا قيمتــه إن لــم يكــن للمجاهــدِ ســنداً‪ ،‬وللمســجد كتفاً‪ ،‬ولــدار تحفيظ‬
‫القــرآن عكازاً‪،‬‬
‫َ‬
‫قدميك‪،‬‬ ‫أنت ترتف ُع بقدر ما يكون الما ُل تحت‬ ‫َ‬
‫رأس َك!‬
‫وتنحط بقدر ما يكون الما ُل فوق ِ‬ ‫ُّ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫تضي ُق األوطان على أهلها أحياناً‪،‬‬


‫الدهر أن يُهاجروا‪،‬‬‫وشأن الناس منذ أبد َّ‬
‫النبــي  علــى مشــارف م ّكــة والدمــوع فــي عينيــه‬‫َّ‬ ‫ولــك أن تتخ َّيــ َل‬
‫َ‬
‫وهــو يقــول‪:‬‬
‫خرجت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قومك أخرجوني ما‬ ‫ِ‬ ‫إلي ولوال أن‬
‫ألحب البالد َّ‬
‫ُّ‬ ‫هلل ِ‬
‫إنك‬ ‫وا ِ‬
‫فهو لم يُهاج ْر من م ّكة لكفر أهلها وإنما لظلمهم‪،‬‬
‫ولــم يأمــ ْر أصحابــه بالهجــرة إلــى الحبشــة إلســام حاكمهــا وإنمــا‬
‫لعدلــه!‬
‫تسلب اإلنسان من نفسه‪،‬‬‫ُ‬ ‫ث ّمة ظروف‬
‫أن األرض بجبالهــا جاثمــة علــى صــدره وأ ّنــه يتنفــس مــن‬ ‫وتشــعره َّ‬
‫خــرم إبــرة‪،‬‬
‫وقد يُهاجر المرءُ طلباً ٍ‬
‫لعلم واختصاص‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫خبز ولقمة عيش‪،‬‬ ‫رغيف ٍ‬‫ِ‬ ‫وقد يُهاجر بحثاً عن‬


‫ولست من أهل الفتوى وال أري ُد أن أفتي‪،‬‬‫ُ‬
‫الغرب مقيماً‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ولكن ما شاهدناه عياناً أنه ما هاج َر أحد إلى‬
‫ذلك أصابعه من الندم‪،‬‬ ‫إال وأك َل بعد َ‬
‫وهذا النَّد ُم في حال من معه أُسرة وأوالد أشد مما لو كان وحده‪،‬‬
‫أي قِ َي ٍم سيأخذ أوالدك‪،‬‬ ‫سألت نفسك ّ‬
‫َ‬ ‫فهال‬
‫وأي مناهج ستغسل أدمغة بناتك‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بنفس َك في غمارها‪،‬‬ ‫وأي ظروف اجتماع ّي ٍة وفكر ّي ٍة ستلقي ِ‬ ‫ّ‬
‫نعم هناك نماذج مش ِّرفة لمهاجرين كثر‪،‬‬
‫وشــخصياً أعــرف كثيريــن أقامــوا أمــر دينهــم هنــاك كأنهــم فــي بــاد‬
‫اإلســام‪،‬‬
‫ولكنها إقامة القابض على الجمر!‬
‫قررت أن تُقي َم أو تُهاجر‪،‬‬
‫َ‬ ‫حال إن‬
‫على أية ٍ‬
‫َ‬
‫ودمك‪،‬‬ ‫َ‬
‫ولحمك‬ ‫ينك هو عظمك وشحمك‬ ‫تنس أن دِ َ‬
‫فال َ‬
‫وأن الدنيا كلها ثمن بخس مقابل أن يضيع‪،‬‬ ‫َّ‬
‫عت اآلخرة!‬ ‫وال خير في سعة من الدنيا إن ض َّي َ‬

‫‪37‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪8‬‬

‫َ َ َْ ْ ْ ُ َ‬
‫ت مِنك ْم أ َحدٌ﴾‬ ‫﴿وال يلتفِ‬

‫القات التي انت َه ْت كأ ّنها ُقبور‪،‬‬


‫ِ‬ ‫تعا َم ْل مع ال َع‬
‫وال ُقبُور ال تُنبَش!‬
‫ظهر َك‪،‬‬
‫ظهرك ف َد ْعه ورا َء ِ‬‫َ‬ ‫وم ْن صا َر وراء‬
‫أسير ماضيك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ال ت ُك ْن‬
‫يك بال ُّر ُجوع!‬ ‫غر َ‬‫الباب ُم َو ِارباً حتى ال يُ ِ‬
‫َ‬ ‫وال تت ُرك‬
‫َ‬
‫ظهرك!‬ ‫تستنز ُف َك‪ ،‬فأدِ ْر‬
‫ِ‬ ‫المعارك التي ال طائ َل منها‬ ‫ُ‬
‫قدر َك ال تل َز ُم َك‪ ،‬فتعلَّ ْم أن ت ِ‬
‫ُفارق!‬ ‫ص من ِ‬ ‫داقات التي تنتقِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫والص‬
‫َّ‬
‫الشغف تُطفئك‪ ،‬فتعلَّ ْم أن تُغادر!‬ ‫واألماك ُن التي تقت ُل فيك ّ‬
‫َ‬
‫عليك أن تبلُغها‬ ‫أن لك ُوجهة‬ ‫وتذ ّك ْر دائماً َّ‬
‫فإن ال ُملْتَفِ ت ال يَ ِصل!‬
‫َّ‬

‫‪38‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪9‬‬

‫النبي  م ّر ًة ألصحابِه‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫قال‬


‫بصدقة فله مثلها في الجنّة!‬ ‫ٍ‬ ‫تصد َق‬ ‫َّ‬ ‫من‬
‫فلي مثلها في الجنَّة؟‬
‫قت بحديقتي‪َ ،‬‬ ‫تصد ُ‬
‫َّ‬ ‫الدحدا ُح‪ :‬إ ْن‬ ‫فقال أبو َّ‬
‫النبي ‪ :‬نعم!‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫حداح معي؟‬ ‫الد ِ‬ ‫قال‪ :‬وأ ُّم َّ‬
‫قال‪ :‬نعم!‬
‫والصبي ُة معي؟‬ ‫ِّ‬ ‫قال‪:‬‬
‫قال‪ :‬نعم!‬
‫والصبية فيها‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫حداح‬
‫الد ِ‬
‫الدحدا ُح إلى حديقته فوج َد أ َّم َّ‬ ‫فرج َع أبو َّ‬
‫فوقف على بابها وتح َّر َج أن يدخلها!‬ ‫َ‬
‫فنادى‪ :‬يا أ ُ َّم ال ّدحداح‪.‬‬
‫الدحداح!‬ ‫قالت‪ :‬ل َّب َ‬
‫يك يا أبا َّ‬ ‫ْ‬
‫واشترطت مثلها في الجنَّة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫جعلت حديقتي صدق ًة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قال‪ :‬إني‬
‫والصبية معي!‬ ‫ِّ‬ ‫الدحداح معي‪،‬‬ ‫وأ ُّم َّ‬
‫اشتريت!‬
‫َ‬ ‫لك فيما‬ ‫بارك اهللُ َ‬
‫َ‬ ‫فقالت له‪:‬‬
‫ْ‬
‫فخرجــوا مــن الحديقــة‪ ،‬وسـلَّمها أبــو َّ‬
‫الدحــداح للنبـ ِّـي  يجعلهــا فــي‬
‫ســبيل اهلل!‬
‫حداح قوله‪:‬‬‫وأنز َل اهلل تعالى في أبي ال ّد ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َّ َ َّ ٰ ُ ُ‬
‫ت تنفِقوا م َِّما ت ُِّبونَ﴾‪،‬‬ ‫﴿لن تنالوا ال ِب ح‬

‫‪39‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫إ ْن قال نب ُّي َك  شيئاً فص ِّدقه‪،‬‬


‫ال تطرقه بأناملِ َّ‬
‫الشك‪،‬‬ ‫تقف على باب العقل طوي ً‬ ‫ال ْ‬
‫هذا العق ُل طاقته حدود الحيا ِة ال ُّدنيا فقط‪،‬‬
‫وإيمان‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وتسليم‬
‫ٍ‬ ‫تصديق‬
‫ٍ‬ ‫ات فمسألة‬ ‫أما الغيب َّي ُ‬
‫والســماوات الســبع‬ ‫العــرش َّ‬ ‫ِ‬ ‫سيســتوعب حجــم‬
‫ُ‬ ‫عقــل هــذا الــذي‬‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫ُّ‬
‫واألراضيــن‪،‬‬
‫كحلقة في الصحراء!‬ ‫ٍ‬ ‫العرش‬
‫ِ‬ ‫بالنسبة إلى‬
‫سيستوعب ج ّن ًة عرضها السماوات واألرض؟!‬ ‫ُ‬ ‫عقل هذا الذي‬ ‫أي ٍ‬ ‫ُّ‬
‫الصخــرةُ فتهــوي ســبعين خريفـاً قبــل أن تســتق َّر فــي‬ ‫ونــاراً تُلقــى فيهــا َّ‬
‫قعرها؟!‬
‫الشــعر ِة وأَ َحـ َّـد مــن‬
‫ـتوعب صراطـاً أدقَّ مــن َّ‬ ‫ُ‬ ‫أي عقـ ٍـل هــذا الــذي سيسـ‬ ‫ُّ‬
‫ـيف‪،‬‬ ‫السـ ِ‬
‫َّ‬
‫وستعب ُر عليه الخالئ ُق بأعمالها ال بأقدامها؟!‬
‫سيستوعب كفَّتي الميزان يوم الحساب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عقل هذا الذي‬ ‫أي ٍ‬ ‫ُّ‬
‫وكيف تصب ُح فيها األعمال أوزاناً تُكال لصاحبها؟!‬
‫ِط السماء‪،‬‬‫سيستوعب أن تئ َّ‬
‫ُ‬ ‫عقل هذا الذي‬ ‫أي ٍ‬ ‫ُّ‬
‫ملك راك ٌع أو ساجد‪،‬‬ ‫شبر إال ٌ‬ ‫ألن ما فيها موضع ٍ‬
‫َ‬
‫عبادتك!‬ ‫َ‬
‫عبدناك حقَّ‬ ‫يُبعثون يوم القيامة يقولون‪ :‬سبحانك ما‬
‫الموت كبشاً يوم القيامة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سيستوعب أن يصير‬ ‫ُ‬ ‫عقل هذا الذي‬ ‫أي ٍ‬ ‫ُّ‬
‫ثــم يُذبــح‪ ،‬وينــادى‪ :‬يــا أهــل النــار خلــود وال مــوت‪ ،‬يــا أهــل الجنــة خلــود‬
‫وال مــوت!‬

‫‪40‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ـتوعب العق ـ ُل كل مــا جــرى فــي ال ُّدنيــا حتــى يُعمِ ـ َل عقلــه‬


‫ُ‬ ‫ثــم وهــل يسـ‬
‫فــي اآلخــرة؟!‬
‫فس َر كيف يُشقُّ البح ُر بالعصا؟!‬ ‫عقل يستطي ُع أن يُ ِّ‬ ‫أي ٍ‬ ‫ُّ‬
‫رجل يُلقى فيها‪،‬‬ ‫وكيف تصي ُر النار برداً وسالماً على ٍ‬
‫الشاطئ‪،‬‬ ‫ال أياماً ثم يلقيه سليماً على َّ‬ ‫الحوت رج ً‬
‫ُ‬ ‫وكيف يبتل ُع‬
‫وكيف تحب ُل امرأةٌ دون أن يكون لها زوج‪،‬‬
‫الســام فــا‬ ‫الســكين عاجــز ًة أمــام رقبــةِ إســماعيل عليــه َّ‬ ‫ـف ِّ‬‫وكيــف تقِ ـ ُ‬
‫تذبحــه‪،‬‬
‫هذا ال ِّدي ُن يحترم العقل في حدود قدرته واستيعابه‪،‬‬
‫قلوب فقط!‬
‫قلوب‪ٍ ،‬‬ ‫أما اإليمان فمسألة ٍ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ما أجمل هذا ال ِّدين حين يُؤخ ُذ بالتسليم‪،‬‬


‫وما أجمل المؤمن حين ي ِث ُق بوعدِ اهلل‪،‬‬
‫حب أن أذكر هذه القصة‪،‬‬ ‫كنت أ ُ ُّ‬
‫وما ُ‬
‫ألقت بنفسها في خاطري وقلمي اآلن‪،‬‬‫ْ‬ ‫ولكنها‬
‫رمت اإلنجاب‪،‬‬
‫وقالت لي‪ :‬هناك امرأة قد ُح ْ‬
‫ْ‬ ‫جاءتني زوجتي يوماً‬
‫وقال األطباء‪ :‬إنه ال سبيل إلى أن تحبل إال بطفل أنبوب‪،‬‬
‫والمرأة فقيرة بالكاد تجد قوت يومها وهي ت ُِح ُّب أن تنجب‪،‬‬
‫وإني أري ُد أن أبيع شيئاً من ذهبي وأتكفل بعمليتها!‬
‫بك‪ ،‬ولكن المال كثير و ِ‬
‫هلل الحمد‪،‬‬ ‫فقلت لها‪ :‬بارك اهلل ِ‬
‫ُ‬

‫‪41‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ِ‬
‫ذهبك!‬ ‫شئت وال داعي ألن تبيعي من‬ ‫فخذي ما ِ‬
‫أعرف‪ ،‬ولكن اسم ْح لي أن أبيع من ذهبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقالت لي‪:‬‬
‫هب كما تعرف‪ ،‬واهلل تعالى يقول‪:‬‬ ‫أحب َّ‬
‫الذ َ‬ ‫فأنا ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َّ َ َّ ٰ ُ ُ‬
‫﴿لن تنالوا ال ِب حت تنفِقوا مِما تِبونَ﴾‪،‬‬
‫وكان هذا الموقف من أجمل ما م َّر معي في حياتي!‬
‫ال وسلوكاً!‬
‫أعجبني جداً أن تكون اآليات عم ً‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أَعينُوا بعضكم على الحقِّ ‪،‬‬


‫وال تقِ فُوا في وجوه النَّاس وهم في طريقهم إلى اهلل!‬
‫وشجعيه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫زوجك يُسارع في ب ِّر أبويه فخذي على يده‬ ‫ِ‬ ‫إذا ِ‬
‫رأيت‬
‫فإن الذي يُعي ُن إنساناً على الحقِّ له مثل أجره‪،‬‬
‫زوجتك تري ُد حجاباً شرع ّياً كام ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رأيت‬
‫َ‬ ‫وإذا‬
‫َ‬
‫فإياك أن تكون عثر ًة بينها وبين أوامر اهللِ‪،‬‬
‫َ‬
‫استطاعتك لتشتري‪،‬‬ ‫وأعطها المال بقدر‬‫ِ‬ ‫شجعها‪،‬‬‫ِّ‬
‫أنــت مأمــور بهــذا قبلهــا‪ ،‬وهــذه مه َّمتــك قبــل أن تكــون‬
‫َ‬ ‫باألســاس‬
‫مه ّمتهــا‪،‬‬
‫ـض الحجــاب بســبب «البرســتيج»‬ ‫وليــس هنـ َ‬
‫ـاك أحقــر مــن الــذي يرفـ ُ‬
‫االجتماعــي‪،‬‬
‫ْ‬
‫يشترط عليها خلعه!‬ ‫ٍ‬
‫محجبة ثم‬ ‫فيعم ُد إلى طلب يد فتاةٍ‬
‫وهذا وا ِ‬
‫هلل من فعل األباليس!‬

‫‪42‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫حلقة لتحفيظ القرآن‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ينتسب إلى‬


‫َ‬ ‫إذا أراد ابن َُك أن‬
‫َ‬
‫دراستك!‬ ‫فال تقل له‪ :‬ستفشل في‬
‫لك أن ُحفَّاظ القرآن فاشلون في دراستهم ووظائفهم‪،‬‬ ‫من قال َ‬
‫بساحة إال باركها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫هذا القرآن ما نز َل‬
‫ابنك ليُبادر هو بالفكرة‪،‬‬ ‫العيب أن تنتظر َ‬ ‫َ‬ ‫ثم إن‬
‫وتشجعه‪ ،‬وتكافئه!‬ ‫ِّ‬ ‫أنت إن لم تح َّثه‪،‬‬ ‫أب َ‬‫أي ٍ‬
‫ُّ‬
‫وإذا أرادت ابنت ُِك أن تُغطي وجهها‪،‬‬
‫ؤخ ُر العريس!‬ ‫فال تمنعيها بحجة أن النقاب يُ ِّ‬
‫السافرات عزباوات‪،‬‬‫ماليين المنقبات متزوجات‪ ،‬وماليين َّ‬
‫والســعادة‪ ،‬رزق يســوقه اهلل‬
‫والصحــة‪ ،‬والوظيفــة‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫العريــس كالمــال‪،‬‬
‫ُ‬
‫إلــى عبــاده‪،‬‬
‫عاص ويمنعه عن طائع!‬ ‫واهلل أكرم من أن يسوق ال ِّرزق إلى ٍ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫المرءُ في ظ ِّل صدقته يوم القيامة!‬


‫هذا وع ُد نب ِّي َك ‪ ،‬فص ِّد ْقه‪،‬‬
‫َ‬
‫وروحك‪،‬‬ ‫َ‬
‫بقلبك‬ ‫ش المشهد‬ ‫وع ْ‬
‫ِ‬
‫مس من ُر ُؤوس العباد‪،‬‬ ‫تخ َّي ْل أ ّنه يوم القيامة وقد َدنت َّ‬
‫الش ُ‬
‫هناك حيث ال ينفع النَّدم‪،‬‬
‫ات﴾‪،‬‬ ‫ويقول العاصي‪﴿ :‬يَا َلْتَن ق َّد ْم ُ‬
‫ت َِ َ‬ ‫َ‬
‫لي ِ‬ ‫ِ‬
‫صدقتك‪ ،‬آم ٌن مطمئن‪،‬‬‫َ‬ ‫جالس في ظل‬
‫ٌ‬ ‫وأنت‬
‫َ‬

‫‪43‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أتت!‬
‫قت ألجل هذه اللحظة وها هي قد ْ‬ ‫تصد َ‬‫َّ‬
‫فاشتر به ليوم القيامة ظ ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫يديك اآلن‬ ‫مالُ َك بين‬
‫مالك للورثة يتنعمون به ثم تجلس في قبرك وحيداً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫تترك‬ ‫ال‬
‫لك صدق ًة جارية‪،‬‬ ‫عنك‪ ،‬أو يجع َل َ‬ ‫يتصد َق أح ُدهم َ‬ ‫َّ‬ ‫تنتظر أن‬
‫َ‬
‫بعدك‪،‬‬ ‫َ‬
‫بأوالدك من‬ ‫ال بأس أن تُف ِّكر‬
‫بنفس َك‪،‬‬‫ولكن ليس على حساب أن تنجو ِ‬
‫فتصد ْق َ‬
‫أنت‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الميت في قبره تسعده صدقته‪،‬‬
‫وتســره صدق ـ ًة جاريــة يجــري عليــه أجرهــا‪ ،‬فاجعــل لــك علــى األقــل‬
‫واحــدة‪،‬‬
‫الصدقة تُنقص الما َل‪،‬‬ ‫لك إن َّ‬ ‫ثم من قا َل َ‬
‫كان وعــداً علــى اهلل أنــه مــا أنفــ َق عبــ ٌد نفقــ ًة يريــ ُد بهــا رضوانــه‬
‫ســبحانه‪،‬‬
‫وأخلف عليه أمثالها‪ ،‬ال أحد أوفى وال أكرم من اهلل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫إال‬
‫ثم هناك شيء اسمه البركة ما أنزلها اهلل في شيء إال ك َّثرته‪،‬‬
‫مال منزوع البركة ال يكفي وإن كثُر‪،‬‬ ‫وكل ٍ‬
‫نزلت فيه البركة يكفي وإن َّ‬
‫قل!‬ ‫ْ‬ ‫مال‬
‫وكل ٍ‬

‫‪44‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪10‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َ َّ َ َ‬
‫بن ع َما آذ ْي ُت ُمونا﴾‬ ‫﴿ولص ِ‬

‫فيك ما ليس َ‬
‫فيك‪،‬‬ ‫سيقُولُو َن َ‬
‫َ‬
‫مجاذيفك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ويكس ُروا‬ ‫َ‬
‫سيرك‪،‬‬ ‫وسيح ِاولُون جاهدي َن أن ي ُعرقِ لُوا‬ ‫َ‬
‫إنجاز َك!‬
‫ِ‬ ‫سيح ِاولُون التَّقليل من‬ ‫َ‬ ‫وحتى عندما ت َِص ُل‬
‫دأب الفاشلين وال َف ِارغين دوماً‪،‬‬ ‫هذا هو ُ‬
‫نجاح اآلخرين‪،‬‬‫ِ‬ ‫باالستنقاص من‬
‫ِ‬ ‫أنفسهم‬
‫َ‬ ‫يُعزُّون‬
‫زيحوا عن فعلك الجميلِ بري َقه!‬ ‫َ‬
‫نواياك ليُ ُ‬ ‫وسيدخُ لُون في‬
‫الكثي ُر من األيدي ستُطفئك غدراً وحقداً‪،‬‬
‫وك لحمك غيظاً وقهراً!‬ ‫األلسنِ ستل ُ ُ‬
‫ُ‬ ‫والكثي ُر من‬
‫تلتفت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫طريقك وال‬ ‫تا ِب ْع‬
‫وقفت لتر َّده عليه‪ ،‬فمتى تبل ُغ وجهتَك؟!‬ ‫َ‬ ‫بحجر‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫رماك‬ ‫أن ك ّل من‬
‫ولو ّ‬
‫نجاحك‪ ،‬وانتقا ُمك هو إنجاز َُك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لي ُك ْن ر ُّدك َهو‬
‫وك إلى مستواهم‪ ،‬تر َّف ْع‬ ‫وكلّما حاولُوا أن يُنزلُ َ‬
‫َص ِب َر َّن َعلَى َما آ َذيْتُ ُمونَا!‬
‫الصالحين م ِّر التّاريخ‪َ :‬ولَن ْ‬
‫ور ِ ّت ْل عليهم قول َّ‬

‫‪45‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪11‬‬

‫يوم ُكتَّاباً لليهود‪،‬‬


‫الصديق ذات ٍ‬
‫بكر ّ‬
‫دخل أبو ٍ‬
‫فوجدهــم قــد اجتمعــوا إلــى رجــل مــن علمائهــم اســمه «فنحــاص بــن‬
‫عــازوراء»‪،‬‬
‫أن محمــداً‬ ‫َ‬
‫فإنــك تعلــ ُم ّ‬ ‫بكــر لفنحــاص‪ :‬اتــقِ اهلل وأســ ِل ْم‪،‬‬
‫فقــال أبــو ٍ‬
‫رســول اهلل‪،‬‬
‫قد جاءكم بالحقِّ تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة‪،‬‬
‫فآمِ ـ ْن‪ ،‬وصـ ِّدقْ‪ ،‬وأَقـ ِـرض اهلل قرضـاً حســناً يدخلـ َ‬
‫ـك الجنــة ويضاعــف‬
‫ـك الثــواب!‬ ‫لـ َ‬
‫اهلل يستقرضنا أموالنا‪،‬‬‫أن َ‬ ‫بكر‪ ،‬تز ُع ُم َّ‬
‫فقال له فنحاص‪ :‬يا أبا ٍ‬
‫غني‪ ،‬فإن كان حقاً ما تقول‪،‬‬ ‫ض إال فقي ٌر من ٍّ‬ ‫يستقر ُ‬
‫ِ‬ ‫وما‬
‫فإن اهلل إذن فقير ونحن أغنياء‪ ،‬ولو كان غنياً ما استقرضنا أموالنا!‬ ‫َّ‬
‫وضرب وجه فنحاص ضرب ًة شديدة‪،‬‬
‫َ‬ ‫بكر‪،‬‬
‫فغضب أبو ٍ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫عنقك!‬ ‫لضربت‬
‫ُ‬ ‫وقال له‪ :‬والذي نفسي بيده لوال العهد الذي بيننا‬
‫النبي ‪ ،‬فقال‪:‬‬‫ِّ‬ ‫فجاء فنحاص إلى‬
‫نظ ْر إلى ما صن َع بي صاحبُ َك!‬ ‫يا محمد‪ ،‬أ ُ ُ‬
‫صنعت؟!‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫حملك على ما‬ ‫النبي  ألبي بكر‪ :‬ما الذي‬ ‫ُّ‬ ‫فقال‬
‫هلل قال قو ًال عظيماً‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إن عد َّو ا ِ‬
‫وضربت وجهه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فغضبت ِ‬
‫هلل‬ ‫ُ‬ ‫أن َ‬
‫اهلل فقي ٌر وأنهم أغنياء‪،‬‬ ‫زع َم َّ‬
‫ذلــك‪ ،‬فأنــزل اهلل تعالــى قولــه رداً علــى فنحــاص‬
‫َ‬ ‫فأنكــ َر فنحــاص‬
‫وتصديقــاً ألبــي ٍ‬
‫بكــر‪:‬‬

‫‪46‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫َّ َّ َ َ ٌ َ َ ْ َ‬
‫ــاء ۘ‬ ‫ــو َل َّال َ‬
‫ِيــن قَالُــوا إن الل فقِــر ون ُ‬
‫ــن أ ْغن َِي ُ‬ ‫الل قَ ْ‬ ‫َّ‬
‫﴿ل َق ْ‬
‫ــد َســ ِم َع َّ ُ‬
‫ِ‬
‫َ َ ُْ ُ َ َ ُ َََُْ ُ َْ َ َ َ ْ َ ّ َُ ُ ُ ُ‬
‫ــق َونقــول ذوقــوا‬‫ــر ح ٍ‬
‫ســنكتب ْمــا قالــوا وقتلهــم النبِيــاء بِغ ِ‬
‫َ َ َ َ‬
‫عــذاب ال ِر ِ‬
‫يــق﴾‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الحــال والحــرام ثابتــان ال جــدال فــي هــذا‪ ،‬ولكــن لــك ّل مجتمــع‬


‫خصو صيتــه ‪،‬‬
‫تحملك على الحالل حم ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هناك مجتمعات‬
‫ومن أراد الحرام عليه أن يبحث عنه بشقِّ النَّفس والحيلة‪،‬‬
‫وهناك مجتمعات تَحمل ُ َك على الحرام حم ً‬
‫ال‪،‬‬
‫ومن أراد الحالل فيها كان غريباً‪ ،‬وطوبى للغرباء!‬
‫فــي بــاد المســلمين أق ـ ّل الواجــب أن تكــون ضــد ُّ‬
‫الشــذوذ الجنسـ ّـي‬
‫قــو ًال‪،‬‬
‫نشاط يُقام لمناهضته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫ال في ّ‬ ‫ضده عم ً‬ ‫أن تكون َّ‬
‫ضده في تنشئة أوالدك على الفطرة السليمة‪،‬‬ ‫وأن تكون َّ‬
‫واالشمئزاز من كل ميل يخالفها!‬
‫الشذوذ سجنوك‪،‬‬ ‫ضد ُّ‬ ‫أقمت فعالية َّ‬
‫َ‬ ‫أ ّما في بالد غير المسلمين إن‬
‫وإن رفضتــه قــوالً‪ ،‬وك َّرهـ َ‬
‫ـت النــاس بــه اتهمــوك ب ُرهــاب المثل َّيــة وربمــا‬
‫أدانـ َ‬
‫ـوك‪،‬‬
‫َ‬
‫وجهادك!‬ ‫ولكن بيتك هو ساحة ميدانك‬

‫‪47‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الســاكت هنــاك قــد يكــون فــي قلبــه إيمــان أكبــر مــن إيمــان المتكلــم‬ ‫وإن َّ‬
‫ّ‬
‫هنا‪،‬‬
‫وإن كان المتكلــم هنــا تحرقــه شــرارة‪ ،‬فــذاك فــي ســعير جنونهــم‬
‫وشــذوذهم‪،‬‬
‫فقبــل أن تحكمــوا علــى النــاس تف َّهمــوا طبيعــة المجتمعــات التــي‬
‫يعيشــون فيهــا‪،‬‬
‫ال تكونوا أنتم ومجتمعاتهم عليهم‪،‬‬
‫أي جهـ ٍـاد يلــزم المــرأة هنــاك لتضــع حجابهــا علــى‬ ‫أنتــم ال تعرفــون ّ‬
‫رأســها‪،‬‬
‫أي جهاد يلزم الرجل هناك ليكون من ر َّواد المسجد‪،‬‬ ‫وال تعرفون ّ‬
‫ال تنخدعــوا بقشــور الحر َّيــة البرا َّقــة‪ ،‬هنــاك عفـ ٌن فــي الداخــل‪ ،‬عفــن‬
‫قبيــح جــداً!‬
‫َسلُوا الذين يعيشون هناك ما الذي يتعلمه أوالدهم في المدارس؟!‬
‫ول َّما كان دين المرء أغلى من روحه‪،‬‬
‫فاألصل أال يسكن إال في البيئة التي تعينه على حفظ دينه‪،‬‬
‫لهذا فالهجرة إلى بالد الغرب لمجرد الحصول على رغد العيش‪،‬‬
‫آسن قلما ينجو أح ٌد منه‪،‬‬ ‫هو إلقاء للنَّفس واألهل في مستنقع ٍ‬
‫فاتقوا اهلل في أنفسكم وأهليكم!‬
‫السبل‪،‬‬
‫وضاقت به ُّ‬
‫ْ‬ ‫الظروف‪،‬‬‫ومن أجبرته ُّ‬
‫عليه أن يعلم أ ّنه ال عذر ألحد في أن ينتهك حرمات اهلل‪،‬‬
‫أما في شؤون الحياة فليس هناك إال قانون واحد‪:‬‬
‫َ َّ ُ َّ َ َما ْ ْ‬
‫اس َت َطع ُت ْم﴾‬ ‫﴿فاتقوا الل‬

‫‪48‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الضــال والمِ لــل األخــرى مــا‬


‫األصــل أن يبتعــد اإلنســان عــن أهــل َّ‬
‫اســتطاع‪،‬‬
‫نعم‪ ،‬الجار غير المسلم يُكر ُم وال يُهان وهذا من أخالق ديننا‪،‬‬
‫وزميل العمل على غير مِ لَّتنا نزوره إذا مرض‪ ،‬ونُعزيه بمن فقد‪،‬‬
‫وإحسان أوالً!‬
‫ٍ‬ ‫أخالق‬
‫ٍ‬ ‫هذا ال ِّدين هو دين‬
‫أي سلوك‪،‬‬
‫قدمان على ّ‬ ‫ولكن حفظ العقيدة وال ِّدين ُم َّ‬
‫استطعت‪،‬‬
‫َ‬ ‫إذا ما تعلّ َق األمر بال ُّدنيا ف ُك ْن سمحاً ما‬
‫وإذا ما تعلّ َق األمر بال ِّدين ف ُك ْن كالصخرة!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ال تقصد غير المسلمين في كنائسهم‪ ،‬وال ُكن ُِسهم‪ ،‬وال مذابحهم‪،‬‬
‫ــب المعرفــة‪ ،‬وال بن َّيــة النقــاش والمحاججــة‬
‫وح ِّ‬
‫ال بن َّيــة االطــاع‪ُ ،‬‬
‫والدعــوة!‬
‫هذا باب قلّما يأتي بخير!‬
‫عمل ونهج حياة‪،‬‬
‫بكر ال يُقاس عليه ليكون خطة ٍ‬ ‫ث ّم فِ ع ُل أبي ٍ‬
‫أوالً أبو بكر ليس أح ٌد أعلى إيماناً منه إال األنبياء‪،‬‬
‫لوثة قد تُصيب دينك؟!‬ ‫أي ٍ‬‫أنت ّ‬
‫فما أدراك َ‬
‫والمدينة وقتذاك مجتمع ُمختل َ ٌط فيه المسلمين وفيه اليهود‪،‬‬
‫الضرورة‪،‬‬
‫وهذا االختالط ينشأ عنه نوع من االحتكاك تفرضه َّ‬

‫‪49‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ثم قبل ك ّل شيءٍ اإلسالم عزيز وله دولة!‬


‫أما نحن فقلّما تجتمع لنا هذه األشياء كلّها‪،‬‬
‫فــا نحــن باإليمــان نبلــغ شســع نعــل أبــي بكــر‪ ،‬وال بالعقيــدة نبلــغ بعــض‬
‫مبلغه!‬
‫وال يخرج حالنا عن أحد أمرين‪:‬‬
‫إمــا نحــن األكثر ّيــة وهــم القلّــة والعمــل عليهــم عمــل مجتمــع ال عمــل‬
‫أفــراد!‬
‫وإما نحن األقل ّية وهم الكثرة ونأي القليل عن الكثير حكمة!‬
‫ثم هل َس ِل َم أبو ٍ‬
‫بكر لتسل َم أنت؟!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫يغضب لنفسه‪،‬‬‫ُ‬ ‫يغضب ِ‬


‫هلل أكثر مما‬ ‫ُ‬ ‫المؤمن‬
‫النبي  ال يغضب لنفسه أبداً‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وقد كان‬
‫أما إذا اُنتهِ َك ْت ُحرمات اهلل فال يخشى في اهلل أحداً‪،‬‬
‫فالسماحة خُ لق المؤمن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فإذا تعلّ َق األمر في دنيا‬
‫فالصبر من شيم النُّبالء‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وإذا ما كان األذى في شؤون الحياة‬
‫أما إذا تعلّ َق األمر في جنب اهلل ف ُكن بط ً‬
‫ال‪،‬‬
‫ف متى يجب أن تتغاضى وتصفح‪،‬‬ ‫واعر ْ‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ِضبط انفعاالتك‪،‬‬ ‫ا‬
‫ومتى يجب أن تثور وتحزم‪،‬‬
‫إن مــن النــاس مــن يُشــع ُل حربــاً فــي البيــت ألن الغــداء َّ‬
‫تأخــر عــن‬ ‫َّ‬
‫موعــده‪،‬‬

‫‪50‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وال يهزه أن تخر َج زوجته بكامل زينتها!‬


‫ومن الناس من يُقيم ال ُّدنيا وال يُقعدها‪،‬‬
‫نقصت عالمته في المدرسة أو الجامعة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أن أحد أوالده قد‬ ‫بسبب َّ‬
‫ألن ابنه ال يُصلي!‬
‫ولكن ال يتم َّع ُر وجهه َّ‬
‫وال تتحرك فيه ذ َّرة دِ ٍين وال َغيرة إن كان البنته صديق ُمق َّرب‪،‬‬
‫يخرج معها‪ ،‬وتخرج معه‪ ،‬باسم االنفتاح والحر َّية!‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أهــ ُل ال ِّديانــات األخــرى فــي أخالقهــم‪ ،‬كالمســلمين فــي أخالقهــم‪،‬‬


‫مذاهــب شــتّى!‬
‫ُ‬
‫ونحن إذ نُق ِّدر حسن الخُ لق من المسلم وغيره‪،‬‬
‫ونُنكر ونستقذر سوء الخُ لق من المسلم وغيره‪،‬‬
‫أن ال ُكفر بح ِّد ذاته قلّة ٍ‬
‫أدب مع اهلل‪،‬‬ ‫فال ننسى ّ‬
‫بغض النظر عن أدب صاحبه مع الناس!‬
‫أدب مع اهلل أكثر من أن يُنسب له الزَّوجة والولد‪،‬‬ ‫وأي قلّة ٍ‬
‫ّ‬
‫أو أن يُقال عنه فقير‪ ،‬أو أن يُعب َد معه غيره سبحانه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ملحد خلوق؟!‬ ‫أو أن يُنكر وجوده أساساً من‬
‫نحترم صدق الكافر‪ ،‬وأمانته‪ ،‬والتزامه بعمله‪،‬‬
‫ونمقت كذب المسلم‪ ،‬وخيانته‪ ،‬وإخالله بمواعيده‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ـال‬
‫ـال كان‪ ،‬والكافــر كافـ ٌر علــى أي حـ ٍ‬
‫ولكــن المســلم مســلم علــى أي حـ ٍ‬
‫كان!‬

‫‪51‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫هوى وال استنساب‪،‬‬‫األمر عقيدة‪ ،‬وال هو ً‬


‫مسلم ولو كان خلوقاً‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وال يحقُّ َ‬
‫لك أن تز ِّوج ابنتك لغير‬
‫مشرك ولو كان أميناً!‬
‫ٍ‬ ‫وال أن تأكل ذبيحة‬

‫‪52‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪12‬‬

‫ّ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َٰ َ َ ُ‬
‫ع َما فاتك ْم﴾‬ ‫﴿ل ِكيل تأسوا‬

‫ص ضائع ٌة‪،‬‬‫وج ُد ُف َر ٌ‬ ‫ال يُ َ‬


‫ك ُّل شيءٍ فات ََك لم ي ُك ْن باألصلِ َ‬
‫لك‪،‬‬
‫كل ما أردته فل ْم تنَلْه‪،‬‬‫لت َّ‬ ‫ولو تأ ّم َ‬
‫أن الخي َر كلَّه كان في ّأل تنالَه‪،‬‬ ‫لوجدت َّ‬ ‫َ‬
‫إن النّجاةَ أحياناً في أن تفوت ََك األشياءُ!‬ ‫ّ‬
‫لهي أبل ُغ منها في العطاء‪،‬‬ ‫المنع َ‬‫ِ‬ ‫هلل في‬‫إن رحمة َا ِ‬ ‫ّ‬
‫لنفس َك وإ ْن كان بكرم ِاهلل‪،‬‬ ‫أن العطا َء اختيا ُرك ِ‬ ‫ذاك َّ‬
‫لك بحكمتِه‪،‬‬ ‫أ ّما المن ُع فهو اختيا ُر اهلل َ‬
‫ِ‬
‫لنفسه‬ ‫هلل لعبده خي ٌر من خيرة العبدِ‬ ‫وخيرةُ ا ِ‬
‫َ‬
‫أوجعتك!‬ ‫أقدار ا ِ‬
‫هلل خي ٌر وإن‬ ‫ِ‬ ‫وك ُّل‬

‫‪53‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪13‬‬

‫الليثي شيخاً كبيراً َه ِرماً‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫حبيب بن ضمرةَ‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫فلم يُهاجر إلى المدينة المنورة كما فعل الصحابة‪،‬‬
‫ولما أنزل اهلل تعالى قوله‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ــد ف ال ْر ِض ُم َراغ ًمــا كث ِ ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬ ‫ََ‬
‫ــرا‬ ‫ِ‬ ‫ي‬
‫يل اللِ ِ‬
‫جــر ِف ســب ِ ِ‬ ‫﴿ومــن يها ِ‬
‫ََ ًَ‬
‫ــعة﴾‬ ‫وس‬
‫قال ألوالده‪ :‬احملوني إلى رسول اهلل !‬
‫سرير يريدون أن يُهاجروا به‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫فحمله أوالده على‬
‫فلما بل َغ التنعيم إلى مشارف مكة حضره الموت‪،‬‬
‫ص َّف َق بيمينه على شماله وقال‪:‬‬ ‫َ‬
‫ـك علــى مــا بايعتـ َ‬
‫ـك يـ ُد رســول‬ ‫ـك‪ ،‬وهــذه لرســولك‪ ،‬أبايعـ َ‬‫اللهــم هــذه لـ َ‬
‫اهلل ‪،‬‬
‫مات‪ ...‬وبل َغ خبر موته الصحابة في المدينة‪،‬‬ ‫ثم َ‬
‫فقالوا‪ :‬لو وص َل إلى المدينة لكان أَ ْوفى أجراً!‬
‫فأنز َل اهلل تعالى قوله‪:‬‬
‫َْْ َُ َ ً َ ً ََ ًَ‬ ‫َّ ـ ْ‬‫َ‬ ‫﴿و َمــن ُي َها ْ َ‬
‫َ‬
‫ـد ِف الر ِض مراغمــا كثِــرا وســعة‬ ‫ي‬
‫يل اللِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫جــر ِف سـب ِ‬
‫ِ‬
‫ـه ال ْ َمـ ْ‬
‫ـو ُ‬ ‫ـم يُ ْدر ْكـ ُ‬
‫ـولِ ُثـ َّ‬ ‫ً َ َّ‬
‫ـرا إِل اللِ َو َر ُسـ ِ‬ ‫َْ َُ‬ ‫ََ َْ ُ ْ‬
‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ومــن يــر َج ِمــن بيت ِـهِ مها ِ‬
‫جـ‬
‫الل َغ ُفـ ً‬
‫ـورا َّرح ً‬ ‫َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ‬
‫اللِ َو َك َن َّ ُ‬
‫ِيمــا﴾‬ ‫فقــد وقــع أجــره ع‬

‫‪54‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ن َّي ُة المؤمن من عملِه‪ ،‬وقد يبل ُغ بن َّيتِه ما لم يبلغه بعمله‪،‬‬


‫َّاس على عهد موسى عليه السالم‪،‬‬ ‫قحطاً أصاب الن َ‬ ‫أن ْ‬ ‫وفي األثر َّ‬
‫راع إلــى الجبــال وقــال‪ :‬الل ُهــ َّم لــو كان لــي مثــل هــذه ذهبــاً‬ ‫فنظــر ٍ‬
‫َ‬
‫عبــادك‪،‬‬ ‫قــت بهــا علــى‬ ‫لتصد ُ‬‫َّ‬
‫فأوحــى اهلل تعالــى إلــى موســى عليــه الســام‪ :‬أن يــا موســى ُقـ ْل لعبدي‬
‫ـت منــه صدقته!‬ ‫أ ّنــي قبلـ ُ‬
‫اطلــع اهلل تعالــى عليهــا فرضيهــا‪ ،‬فكتــب بهــا‬ ‫ـدق فــي الن َّيــة َّ‬ ‫لحظــة صـ ٍ‬
‫أجــر عمــل لــم يقــع!‬
‫النبي  ألصحابه‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫وفي العودة من غزوة تبوك قال‬
‫إن بالمدينــة لرجــاالً مــا ســرتم مســيراً‪ ،‬وال قطعتــم واديـاً‪ ،‬إال شــركوكم‬
‫فــي األجــر‪ ،‬حبســهم المــرض!‬
‫هــذا هــو أجــر صــاح النيــات أخــذوا أجــر المجاهديــن وهــم علــى‬
‫فراشــهم‪،‬‬
‫عل َم اهلل تعالى صدقهم وأنهم لوال أعذارهم لخرجوا‪،‬‬
‫جهاد لم يمشوا فيه خطوة!‬ ‫ٍ‬ ‫فكتب لهم أجر‬
‫ـك دومـاً‪ ،‬واجعـ ْل كل خطــوةٍ تخطوهــا مقصدهــا وجــه اهلل‬ ‫فأص ِلـ ْح ن ّيتـ َ‬
‫ْ‬
‫تعالــى‪،‬‬
‫فــكل عمـ ٍـل ُق ِصـ َد بــه غيــره ســبحانه‪ ،‬كان غنيـاً عنــه وعــن صاحبــه ولــم‬
‫ـب عليــه‪،‬‬ ‫يُ ِثـ ْ‬
‫يطلــب منفعــ ًة واآلخــر‬
‫ُ‬ ‫لمريــض واحــد‪ ،‬أحدهمــا جــاء‬ ‫ٍ‬ ‫و ُر َّب زائــران‬
‫يطلــب األجــر مــن عنــد اهلل‪،‬‬ ‫ُ‬

‫‪55‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫اشتركا في الفعل ولكن تباينت ال ِّنيات‪،‬‬


‫واهلل ُم َّطلع وناظر‪ ،‬ونحن ليس لنا إال ّ‬
‫الظاهر!‬
‫ـب األجــر‬
‫و ُر َّب متص ِّدقــان علــى فقيــر‪ ،‬أحدهمــا يُرائــي‪ ،‬واآلخــر يحتسـ ُ‬
‫مــن ربــه‪،‬‬
‫تشابهت األفعال واختلفت ال ِّنيات!‬
‫من عمِ َل ألجل الناس كان عمله هبا ًء‪،‬‬
‫فإن اهلل شاك ٌر عليم!‬ ‫ومن عم َل ألجل ا ِ‬
‫هلل َّ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  عن الذي قتل تسع ًة وتسعين نفساً‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يُح ِّدثنا‬


‫فقصــ َد عابــداً يســأله إن كان لــه توبــة‪ ،‬فلمــا أخبــره أن ال توبــة لــه‪،‬‬
‫قتلــه فأت ـ َّم بــه المئــة!‬
‫ثم ندم بعد ذلك وقصد عالماً يسأله إن كان له توبة‪،‬‬
‫فقال له‪ :‬سبحان اهلل ومن يمنعك من التوبة!‬
‫وإن في القرية الفالن ّية عباداً صالحين فاتهم‪،‬‬ ‫بأرض ُسوءٍ ‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ولكنَّك‬
‫الصالحيــن ليتــوب‪ ،‬وفــي ِّ‬
‫الطريــق أدر َكــه‬ ‫فخــرج ال َّرج ـ ُل يري ـ ُد قريــة َّ‬
‫المــوت‪،‬‬
‫ُ‬
‫ألن فعــل التَّوبــة لــم يحصــل‬
‫فجــاءت مالئكــة العــذاب تريـ ُد أن تأخــذه َّ‬
‫منــه‪،‬‬
‫تحققت فيه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ألن ن َّي َة التوبة‬
‫وجاءت مالئكة الرحمة تري ُد أن تأخذه َّ‬
‫فأرس ـ َل اهللُ تعالــى َملــكاً يحكــم بينهــم وقــال لهــم‪ :‬قِ يســوا المســافة‬

‫‪56‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫بيــن القريتيــن‪:‬‬
‫فإلى أيهما كان أقرب فهو من أهلها‪،‬‬
‫الصالحيــن أ ْن تقاربــي‪ ،‬وإلــى قريــة‬
‫فأوحــى اهلل تعالــى إلــى قريــة َّ‬
‫الفاســدين أن تباعــدي‪،‬‬
‫فلمــا قاســوا المســافة وجــدوه أقــرب إلــى قريــة الصالحيــن‪ ،‬فأخذتــه‬
‫مالئكــة الرحمــة!‬
‫رب‪ ،‬وما أرحمه من إله‪،‬‬ ‫ما أعظمه من ٍّ‬
‫يُباعد قري ًة‪ ،‬ويُق ِّرب أخرى ألجل ن َّي ٍة صالحة لعبد له‪،‬‬
‫أعطاه أجر التَّوبة ألنه مشى فقط دون أن يصل‪،‬‬
‫وحدها النَّوايا تقط ُع ما عجزت األقدا ُم أن تقطعه!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬
‫إن اهلل تعالــى إذا رأى ال ِن َّي َــة خالص ـ ًة لــه‪ ،‬أعــا َن صاحبهــا علــى إتمــام‬
‫َّ‬
‫العمــل‪،‬‬
‫ـب األجــر‬
‫ـاءت رحمتُــه لتكتـ َ‬
‫ـت حكمتُــه أال يتـ َّم هــذا العمــل‪ ،‬جـ ْ‬
‫وإ ْن قضـ ْ‬
‫كامـ ً‬
‫ا!‬
‫ليست لوجهه الكريم‪َ ،‬‬
‫ترك صاحبها وعمله‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وإذا رأى الن َّي َة‬
‫فال هو إ ْن بلغ تمام العمل مأجور‪ ،‬وال هو إ ْن بلغ نقصانه مجبور!‬
‫البصري قص ًة عظيم ًة عن إخالص النوايا فقال‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫روى الحسن‬
‫كانــت شــجرةٌ تُعبــد مــن دون اهلل‪ ،‬فجــاء إليهــا رج ـ ٌل فقــال‪ :‬ألقطعـ َّـن‬
‫هــذه َّ‬
‫الشــجرة!‬

‫‪57‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فجــاء إليهــا ليقطعهــا غضبـاً هلل‪ ،‬فلقيــه الشــيطان فــي صــورة إنسـ ٍ‬
‫ـان‬
‫فقــال لــه‪ :‬مــا تريـ ُد؟‬
‫فقال‪ :‬أري ُد أن أقطع هذه الشجرة التي تُعب ُد من دون اهلل!‬
‫أنت لم تعبدها‪ ،‬فما يض ّر َك من عبدها؟‬ ‫فقال له‪ :‬إذا َ‬
‫فقال‪ :‬ألقطعنَّها!‬
‫الشيطا ُن‪ :‬ألمنعن َّك!‬ ‫فقال له ّ‬
‫فتصارعا‪ ،‬فص َرعه المؤم ُن!‬
‫ـك مــن ذلــك؟ ال تقطعهــا‬ ‫ـك بمــا هــو خيـ ٌر لـ َ‬
‫الشــيطا ُن‪ :‬هــل لـ َ‬ ‫فقــال لــه َّ‬
‫ـت عنــد وســادتك!‬ ‫ـك دينــاران إذا أصبحـ َ‬ ‫ولـ َ‬
‫قال‪ :‬فمن لي بذلك؟‬
‫لك!‬‫قال‪ :‬أنا َ‬
‫فرج َع‪ ،‬فأصب َح فوج َد عند وسادته دينارين!‬
‫ـك فلــم يجــد شــيئاً‪ ،‬فقــام غضبــان ليقطعهــا فتم َّثــل‬ ‫ثــم أصبــح بعــد ذلـ َ‬
‫لــه الشــيطان‪،‬‬
‫فقال له‪ :‬ما تري ُد؟‬
‫الشجرة التي تُعب ُد من دون اهلل‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬أقطع َّ‬
‫لك إلى قطعها من سبيل‪،‬‬ ‫كذبت ما َ‬ ‫َ‬ ‫قال‪:‬‬
‫الشيطا ُن‪ ،‬ثم له قال‪ :‬أتدري من أنا؟‬ ‫فتصارعا‪ ،‬فص َر َعه ّ‬
‫ـت أول م ـ ّرةٍ غضب ـاً هلل لــم يكــن لــي عليـ َ‬
‫ـك‬ ‫الشــيطان‪ ،‬عندمــا جئـ َ‬ ‫أنــا َّ‬
‫ســبيل‪،‬‬
‫فخدعتك بالدينارين فتركتها‪،‬‬
‫َ‬
‫عليك!‬ ‫طت‬ ‫فلما فقدتهما جئت غضباً للدينارين‪ُ ،‬‬
‫فسلِّ ُ‬

‫‪58‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫كنت‪،‬‬
‫حال َ‬ ‫ِس ْر إلى اهلل تعالى على أية ٍ‬
‫ـرض فنعــم عبــادة المريــض‪ ،‬ال يُنســيه ألمــه حــقَّ ر ّبــه‬ ‫فــإذا كان فيـ َ‬
‫ـك مـ ٌ‬
‫عليه ‪،‬‬
‫ذنب فنعم عودة التائبين‪،‬‬
‫وإن كنت ذا ٍ‬
‫ثــم هــي قاعــدة واحــد ًة ال ثانــي لهــا‪ :‬إذا لم تســتط ْع ترك ذنـ ٍـب فحاصره‬
‫بالطاعات!‬‫ّ‬
‫َ‬
‫إياك أن تغادر الطريق المؤدية إلى اهلل‪،‬‬
‫ِســ ْر ولــو ب َع ٍ‬
‫ــرج فنِعــ َم الخطــى العرجــاء فــي الحــقّ ‪ ،‬وبئــس الخطــى‬
‫القو ّيــة فــي الباطــل!‬
‫عبادات ال شأن لها بالمال‪،‬‬‫ٍ‬ ‫وإن كنت فقيراً َّ‬
‫فإن هلل‬
‫َ‬
‫ثغرك‪،‬‬ ‫هذه ميدانك وساح جهادك فالز ْم‬
‫ِ‬
‫فاقضها‪،‬‬ ‫وإن كنت غنياً فدونك حوائج الناس‬
‫أحب إليه بعد ما افترضه على عباده‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فما ُعبد اهلل تعالى بشيءٍ‬
‫جبر خواطر النَّاس‪ ،‬وقضاءِ حوائجهم‪،‬‬ ‫من ِ‬
‫َّاس عيال اهلل وأح ُّبهم إلى اهلل أنفعهم إلى عياله!‬ ‫وإن الن َ‬‫ّ‬

‫‪59‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪14‬‬

‫اها إ َّل َّال َ‬


‫ِين َص َ ُ‬
‫بوا﴾‬
‫َ َ ُ َ َّ َ‬
‫﴿وما يلق ِ‬

‫ليست فانُوساً ِسحر ًّيا‬


‫ْ‬ ‫الحياةُ‬
‫جني لتحقيقِ أُمنيات َ‬
‫ِك!‬ ‫يختب ُئ فيه ٌّ‬
‫ِبت َ‬
‫لك‪،‬‬ ‫هناك نِع ٌم ُكت ْ‬
‫وستنالها رغماً عن ال ّدنيا كلّها‪،‬‬
‫َ‬
‫عليك‪،‬‬ ‫ِب‬‫وهناك ِحرما ٌن ُكت َ‬
‫ال‪،‬‬‫والجن قبي ً‬
‫ُّ‬ ‫اإلنس‬
‫ُ‬ ‫تعوضه ولو كان َ‬
‫معك‬ ‫لن ِ ّ‬
‫فاح َفظه جيداً‪:‬‬ ‫هذا هو أبلغ د ْر ٍس في حياتك ْ‬
‫عظ ْم ال ِّنعم التي بين يديك‪ ،‬تراها كافي ًة وتفيض‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫تمضي به‪،‬‬‫تج ُد الحياةَ ِ‬ ‫الحرمان ِ‬ ‫واستصغِ ر ِ‬
‫ْ‬
‫نفس َك‬
‫وما دون ذلك ه ّم أنزلتَ ُه على ِ‬
‫دت نفسك فيه‪،‬‬ ‫ووه ُم سعادةٍ ق ّي َ‬
‫ْ‬
‫ترض‪ ،‬وال َسعادة إال لقان ٍِع!‬‫ِا ْقنَ ْع َ‬

‫‪60‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪15‬‬

‫مالك قال‪:‬‬ ‫عن البراء بن ٍ‬


‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ ْ َ‬
‫َّ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ول الضرِ‬ ‫ـت‪﴿ :‬ل يســتوِي القا ِعــدون ِمــن المؤ ِمنِــن غــر أ ِ‬ ‫ل ّمــا نزلـ ْ‬
‫َّ‬ ‫ون ف َ‬ ‫َ ُْ َ ُ َ‬
‫يل اللِ﴾‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫والمجاهِد‬
‫والدواة‪.‬‬‫وليأت با َّللوح َّ‬ ‫ِ‬ ‫النبي ‪ :‬ا ُ ْد ُع لي زيد بن ثابت‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫قال لي‬
‫النبي  ليكتبها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فلما جاء زي ٌد‪ ،‬أمالها عليه‬
‫مكتوم األعمى‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫النبي  عمرو بن أم‬ ‫ِّ‬ ‫وخلف ظهر‬ ‫َ‬
‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬فما تأمرني‪ ،‬فإ ّني رج ٌل ضري ُر البصر؟‬
‫فأنزل اهللُ تعالى مكانها قوله‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ِــن َغ ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ِــن ال ُم ْؤ ِمن َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫َّ‬
‫َّ َ‬
‫الــر ِر‬ ‫ول‬ ‫أ‬ ‫ــر‬ ‫ون م َ‬ ‫ِــد‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫﴿ل ي َ ْس َ‬
‫ــت‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل اللِ﴾‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ُْ َ‬
‫والمجاهِــدون ِف ســب ِ ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الجهاد‪ ،‬ذروة َسنام اإلسالم وحامي حماه‪،‬‬ ‫إ ّنه ِ‬


‫شــوكة المســلمين فــي حلــوق أعدائهــم‪ ،‬وســاعدهم الضــارب بعــزم‬
‫مرعــب‪،‬‬
‫وقبضتهم الالكمة وجوه الطامعين فيهم بقوة ال تلين‪،‬‬
‫وإ ّنها ُسنّة التَّدافع التي جعلها اهللُ بين األفكار واألمم‪،‬‬
‫وال بُ َّد للتدافع من قوة ماد ّي ٍة‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫َّاس دون قوة‪،‬‬ ‫ألن الفكرة مهما كانت صائبة يستهي ُن بها الن ُ‬ ‫َّ‬
‫قامت من ممالك ودول وإمبراطوريات بق َّوتها الماد َّية فقط‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وكم‬
‫والروحي أض ّل من حمير أهلها!‬ ‫ِّ‬ ‫الفكري‬
‫ِّ‬ ‫بينما كانت في قوامها‬
‫واإلسال ُم العظي ُم فكرة من األفكار‪ ،‬والمسلمون أ ُ َّمة من األمم‪،‬‬
‫بالسيف‪،‬‬
‫أن اإلسالم العظيم لم ينتشر َّ‬ ‫صحيح َّ‬
‫وإ ّنما بالحق الكامن فيه فهو دين الخالق العظيم‪،‬‬
‫وها هو ما زال قائماً وإن زال نوعاً ما سلطان سيفه‪،‬‬
‫الســيف هــو الــذي م َّه ـ َد الطريــق أمــام هــذا الديــن كــي يصــل‬ ‫ولكــن َّ‬
‫إلــى النــاس‪،‬‬
‫لوال بد ٌر وأُح ٌد ما كان بعد ذلك فتح مكة!‬
‫ولوال القادسية ما ُق ِرئ القرآ ُن في بالد فارس‪،‬‬
‫اليرموك ما ُفتِح بيت المقدس وال القسطنطينية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولوال‬
‫وإن الحضارة العظيمة التي أقمناها في األندلس‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أقمناها بهذا ال ِّدين العظيم‪ ،‬بروحه وفِ كره وتعاليمه‪،‬‬
‫ولكن كل هذا ما كان ليص َل إلى هناك دون سيف!‬
‫هذا هو صراع الحضارات في أبسط صورة‪:‬‬
‫َ‬
‫معــك‬ ‫منــك ويحمــ ُل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غالبــك‪ ،‬أو تغلبــه فيصيــر‬ ‫ــب تُقلِّــد‬
‫إمــا أن تُغل َ َ‬
‫ــيف نحــو بــاد جديــدة‪،‬‬ ‫الس َ‬ ‫َّ‬
‫بالسيف خرج علماء الحديث‪،‬‬ ‫من بالد فارس المفتوحة َّ‬
‫ومن المغرب المفتوح بال ِّذراع واليد خرج فاتحو األندلس‪،‬‬
‫رفرفــت رايــة اإلســام خفاقــ ًة فــي‬ ‫ْ‬ ‫وعلــى يــد األتــراك العثمانييــن‬
‫أوروبــا!‬

‫‪62‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ا ُ ْد ُع لي زي َد بن ثابت!‬
‫اختصاص بالدرجة األولى‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫هذه ال ُّدنيا‬
‫والعاق ـ ُل ينظ ـ ُر فــي نفســه ويبص ـ ُر قدراتــه التــي أعطاهــا اهلل تعالــى‬
‫إياهــا‪،‬‬
‫فهي ميدان عمله‪ ،‬ومكان تكليفه‪،‬‬
‫وألن اإلسالم العظيم دين حياة ففيه متس ٌع للجميع‪،‬‬
‫الســيف‪ ،‬ولكنــه كان شــاعراً بارع ـاً م ـ َّر َغ‬ ‫حســان بــن ثابــت لــم يحمــل َّ‬
‫ـف قريـ ٍـش بقصائــده‪،‬‬ ‫أنـ َ‬
‫النبي ‪ :‬ا ُ ْه ُجهم وروح القُدس معك!‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫يف ال موضع القصيدة‪،‬‬ ‫الس ِ‬
‫المعارك موضع َّ‬ ‫َ‬ ‫وألن‬
‫حسان بن ثابت‪،‬‬ ‫سد خالد بن الوليد غياب َّ‬ ‫َّ‬
‫ّسائي للحديث‪،‬‬
‫َّرمذي واب ُن ماجة والن ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫البخاري و ُمسل ٌم والت‬‫ُّ‬ ‫كان‬
‫ِ‬
‫للمعارك‪،‬‬ ‫نافع‬
‫زياد و ُعقبة بن ٍ‬ ‫وكان طار ُق بن ٍ‬
‫ومالك والشافعي وأحمد للفقه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫كان أبو حنيفة‬
‫وكان ُقطز وصالح ال ِّدين أُسوداً أمام األعداء!‬
‫وعندمــا كانــت عقيــدة المســلمين علــى المحــك‪ ،‬كان لفتنــة خلــق‬
‫القــرآن أحمــد بــن حنبــل!‬
‫النبي  تجهيز جيش العسرة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وعندما أراد‬
‫الثري عثمان بن عفان‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫حان دور‬
‫وحين كان صوت القعقاع في الجيش ٍ‬
‫بألف‪،‬‬
‫السالم يبي ُع أمراء المماليك في األسواق!‬ ‫كان العِ ُّز بن عبد ّ‬

‫‪63‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫كنت صاحب ٍ‬
‫فقه فتعلي ُم النّاس ميدانك‪،‬‬ ‫فإ ْن َ‬
‫أدب وفِ كر فال ِّدفاع عن العقيدة مكانك‪،‬‬ ‫وإ ْن كنت صاحب ٍ‬
‫مال فحوائج ال ِّناس محرابك‪،‬‬ ‫وإن كنت صاحب ٍ‬
‫الغني عبادتك‪،‬‬‫ِّ‬ ‫وإن كنت طبيباً فعالج الفقير قبل‬
‫بأمانة مكان تكليفك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وإن كنت مهندساً فتنفيذ المشاريع‬
‫وإن كنت ُمد ِّرساً فصناعة األجيال مه ّمتك‪،‬‬
‫وإن كنت حداداً أو نجاراً أو ميكانيكياً أو عامل نظافة‪،‬‬
‫فأنت أساس في المجتمع وال نستغني َ‬
‫عنك‪،‬‬ ‫َ‬
‫بصدق وأمانة عبادة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وأداء عملك‬
‫لك أن الورشة ال يمك ُن أن تكون محراباً‪،‬‬ ‫من قال َ‬
‫منزل فصناعة العظماء ثغرك‪،‬‬ ‫وإن ِ‬
‫كنت ر ّبة ٍ‬
‫والشافعي‪ ،‬واب ُن تيمية ر ّبتهم أمهاتُهم!‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫مالك‪ ،‬وأحم ُد‪،‬‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫العمري العابد‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫إن عبد اهلل‬
‫روى الحافظ ابن عبد البر‪َّ :‬‬
‫للصيام والصالة والقرآن‪،‬‬ ‫قد اعتز َل الن َ‬
‫َّاس ِّ‬
‫وأنه استصغر ما يقو ُم به اإلمام مالك من تعليم الناس وانشغاله بالفقه‪،‬‬
‫يحضــه علــى اعتــزال النــاس‪ ،‬واإلقبــال علــى العبــادة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫فكتــب إليــه‬
‫َ‬
‫واالشــتغال عنهــم بأمــر نفســه!‬
‫إن اهلل تعالــى قســ َم األعمــال كمــا‬ ‫ٌ‬
‫مالــك يقــول‪َّ :‬‬ ‫فكتــب إليــه اإلمــام‬
‫َ‬
‫قســم األرزاق‪،‬‬

‫‪64‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الصالة ولم يُفتح له في الجهاد‪،‬‬ ‫رجل ُف ِت َح له في َّ‬ ‫ف ُر َّب ٍ‬


‫الصدقة‪،‬‬‫رجل ُف ِت َح له في الصيام ولم يُفتح له في َّ‬ ‫و ُر َّب ٍ‬
‫ـت بمــا فتــح اهلل‬
‫وإن نشــر العلــم مــن أفضــل أعمــال ال ِب ـ ِّر‪ ،‬وقــد رضيـ ُ‬ ‫َّ‬
‫تعالــى لــي فيــه‪،‬‬
‫ـت فيــه مــن األجــر‪ ،‬وأرجــو أن يكــون‬ ‫ومــا أظـ ُّـن مــا أنــا فيــه أقــل ممــا أنـ َ‬
‫كالنــا علــى خيــر!‬
‫لمالك ما أفقهه!‬ ‫ِ‬ ‫يا‬
‫لك باب عبادةٍ فار ُكض بها كالريح‪،‬‬ ‫فإن فت َح اهللُ تعالى َ‬
‫ـدت هــذا‬
‫ـك‪ ،‬وإ ْن وجـ َ‬ ‫وجاه ـ ْد نفســك علــى أن تقــوم بالمفــروض عليـ َ‬ ‫ِ‬
‫الجهــاد عســيراً!‬
‫ـت فيــه أفضــل ممــا فيــه غيــرك! فهــذا بــاب‬
‫ـاك أن تــرى مــا أنـ َ‬ ‫ولكــن إيـ َ‬
‫مــن أبــواب الكِ بــر الخف ّيــة‪،‬‬
‫كبــر أعظــم مــن أن يســتعظم العبــد عبادتــه‪ ،‬ويســتصغر عبــادة‬ ‫وأي ٍ‬ ‫ُّ‬
‫غيــره!‬
‫الصدقة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫تستخف بأهلِ َّ‬ ‫كنت من أهل القرآن فال‬ ‫فإ ْن َ‬
‫وإ ْن كنت من أهل المساجد فال تستصغ ْر أهل الجهاد‪،‬‬
‫الصيام‪،‬‬
‫تستقل عمل أهل ِّ‬ ‫َّ‬ ‫كنت من أهل القيام فال‬ ‫وإن َ‬
‫أي حال!‬‫خير على ِّ‬‫ونظرة المرء إلى نفسه على أ َّنه عب ٌد فيها كل ٍ‬

‫‪65‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ـب‪ ،‬أسـ َ‬
‫ـقط‬ ‫الشــريعة الرحيمــة‪ :‬إذا أخـ َذ اهلل مــا َ‬
‫أوهـ َ‬ ‫مــن قواعــد هــذه َّ‬
‫مــا أوجــب!‬
‫فالوقوف في الصالة ركن من أركانها على اإلنسان الصحيح‪،‬‬
‫أمــا المريــض الــذي ال يســتطي ُع القيــام فيصلّــي قاعــداً‪ ،‬فــإن عجــز عــن‬
‫القعــود صلــى ممداً‪،‬‬
‫َ‬
‫يطالبك به!‬ ‫منك شيئاً ثم‬‫واهلل أعدل وأرحم من أن يأخذ َ‬
‫لهذا يُبا ُح للمريض أن يُفطر‪ ،‬ويُ َس ُّن للمسافر أن يقصر الصالة‪،‬‬
‫إن الفقيــر يُعطــى‬‫ـقط الــزكاة عــن الفقيــر ويُطالــب بهــا الغنـ ِّـي‪ ،‬بــل ّ‬ ‫وتسـ ُ‬
‫مــن زكاة الغنـ ِّـي!‬
‫هلل بالنســاء أنهـ َّـن يقضيـ َن الصيــام فــي الحيــض والنفاس‪،‬‬ ‫ومــن رحمــة ا ِ‬
‫وال يقضيـ َن الصالة!‬
‫الصــاة هــي رك ـ ُن اإلســام األ َّول‬ ‫تخفيف ـاً مــن ربنــا ورحمــة رغــم َّ‬
‫أن َّ‬
‫بعــد التوحيــد!‬
‫ـت رحمتُــه حتــى فــي أوامــره‪ ،‬كمــا تتجلّــى فــي منحــه‬ ‫فســبحان مــن تجلّـ ْ‬
‫وأعطياتِه!‬

‫‪66‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪16‬‬

‫َ َّ‬ ‫ََ َ ۡ َۡ َ َ َ َ َ‬
‫ت لكۚ قال َم َعاذ ٱللِۖ﴾‬ ‫﴿وقالت هي‬

‫الشيطا ُن لكنّه لن يُجبِرك!‬ ‫سيُ َ‬


‫غريك َّ‬
‫باب المعصيةِ ولكنَّهم لن ُ‬
‫يج ُّروك ُعنوة‪،‬‬ ‫بعض النّاس َ‬ ‫وسيفت ُح لك ُ‬
‫َ‬
‫أمرك‪،‬‬ ‫َ‬
‫قرارك وس ّيد‬ ‫ستبقى دوماً مال َ‬
‫ِك‬
‫ما تفعل ُ ُه ستفعل ُه مختاراً‪،‬‬
‫وما تتر ُك ُه ستترك ُه مختاراً‪،‬‬
‫َ‬
‫بغيرك‪،‬‬ ‫الجميع ولكن ال تتذ َّر ْع‬
‫ِ‬ ‫والمعصي ُة تق ُع من‬
‫تحتج ُّ‬
‫بالظروف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وال‬
‫اهلل حاض ٌر دوماً وإ ْن غاب الن ُ‬
‫ّاس‪،‬‬
‫قة بسبعة أبواب‪،‬‬ ‫رفة ُمغلَّ ٍ‬
‫س ّيدةُ القصر الجميلة في ُغ ٍ‬
‫السالم على المعصية!‬
‫لم تُج ِب ْر يوسف عليه َّ‬
‫الباب مدخ ً‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫ثقب‬
‫من أرا َد أن يعصي سيج ُد من ِ‬
‫ثقب الباب مهرباً!‬
‫من أراد أن يف َّر من المعصيةِ سيج ُد من ِ‬

‫‪67‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪17‬‬

‫مالك خاد ُم رسول اهلل ‪:‬‬ ‫أنس بن ٍ‬ ‫يقو ُل ُ‬


‫ّض ِر عن قِ تَالِ بَ ْد ٍر‪،‬‬ ‫س ب ُن النَ ْ‬ ‫اب َع ِ ّمي أَنَ ُ‬ ‫َغ َ‬
‫اللِ‪ِ ،‬غبْ ُت عن أَ َّولِ قِ ت ٍَال َقاتَل ْ َت ال ُم ْش ِركِ ي َن‪،‬‬ ‫َفقا َل‪ :‬يا رسو َل َّ‬
‫َ‬
‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬
‫صنَ ُع‪،‬‬‫لَ ِئنِ الل أَ ْش َه َدنِي قِ تَا َل ال ُم ْش ِركِ ي َن لَيَ َريَ َّن الل ما أَ ْ‬
‫َفل َ َّما كا َن يَ ْو ُم أ ُ ُح ٍد وانْ َك َش َف ال ُم ْس ِل ُمونَ‪،‬‬
‫ص َحابَهُ‪،‬‬ ‫صنَ َع َه ُؤ َلءِ يَ ْعنِي أَ ْ‬ ‫قا َل‪ :‬اللَّ ُه َّم إ ِ ّني أَ ْعتَذِ ُر إلَيْ َك م َّما َ‬
‫صنَ َع َه ُؤ َلءِ يَ ْعنِي ال ُم ْش ِركِ ي َن‪،‬‬ ‫وأَبْ َرأ ُ إلَيْ َك م َّما َ‬
‫ثُ َّم تَ َق َّد َم ‪...‬‬
‫استَ ْق َبل َ ُه َس ْع ُد ب ُن ُم َع ٍاذ‪َ ،‬فقا َل‪ :‬يا َس ْع ُد ب َن ُم َع ٍاذ‪،‬‬ ‫َف ْ‬
‫ّض ِر‪،‬‬‫الج ّنَ َة و َر ِ ّب النَ ْ‬
‫َ‬
‫يح َها مِ ن ُدونِ أ ُ ُح ٍد!‬ ‫إ ِ ّني أَ ِج ُد ِر َ‬
‫صنَ َع!‬ ‫الل ما َ‬ ‫است ََط ْع ُت يا َرسو َل َّ ِ‬ ‫قا َل َس ْع ٌد‪َ :‬فما ْ‬
‫ض ْربَ ًة َّ‬
‫بالسيْ ِف‪،‬‬ ‫ِض ًعا وثَ َمانِي َن َ‬ ‫َف َو َج ْدنَا به ب ْ‬
‫بس ْه ٍم‪،‬‬‫أَ ْو َط ْعنَ ًة ب ُر ْم ٍح‪ ،‬أَ ْو َر ْم َي ًة َ‬
‫و َو َج ْدنَاهُ ق ْد ُق ِت َل وق ْد َم ّثَ َل به ال ُم ْش ِر ُكونَ‪،‬‬
‫َفما َع َر َف ُه أَ َح ٌد َّإل أُخْ تُ ُه ب َبنَانِهِ ‪،‬‬
‫س‪ُ :‬كنَّا نُ َرى أ َّن هذِ ه اآليَ َة نَ َزلَ ْت فيه وفي أَ ْشبَ ِ‬
‫اههِ ‪:‬‬ ‫قا َل أَنَ ٌ‬
‫َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِني رِ َجال َص َدقوا َما َعه ُدوا الل عليْهِ﴾‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫﴿م َِن ال ْ ُم ْؤ ِمن َ‬

‫َوإ َّن أُخْ تَ ُه ‪-‬وهي ت َُس َّمى ال ّ ُربَ ِ ّي َع‪َ -‬ك َس َر ْت ثَ ِن ّيَ َة ا ْم َرأَةٍ ‪،‬‬
‫اص‪،‬‬
‫ص ِ‬ ‫الل  بالقِ َ‬ ‫فأ َم َر َرسو ُل َّ ِ‬

‫‪68‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫بالح ِ ّق ال تُ ْك َس ُر ثَ ِن َّيتُ َها‪.‬‬ ‫َفقا َل أَنَس‪ :‬يا رسو َل َّ‬


‫اللِ‪ ،‬والذي بَ َعثَ َك َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫اص‪،‬‬
‫ص َ‬ ‫ضوا بالعوض وال ِّدية‪ ،‬وتَ َر ُكوا القِ َ‬ ‫َف َر ُ‬
‫الل َمن لو أَ ْق َس َم علَى َّ ِ‬
‫الل َلَبَ َّرهُ‪.‬‬ ‫الل ‪ :‬إ َّن مِ ن ِع َبادِ َّ ِ‬ ‫َفقا َل َرسو ُل َّ ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫خرجت ُقريش من غزوة بدر ُمثخنة‪،‬‬


‫ْ‬
‫وم َّرغ اإلسالم كبرياءها في التّراب‪ ،‬وقت َل أبرز رؤوس الكفر فيها‪،‬‬
‫لهــذا لــم تكــن غــزوة أ ُ ُحــد مجــ َّرد جولــة ثانيــة مــن صــراع الحــق‬
‫والباطــل‪،‬‬
‫كانت بالنسبة إلى ُقريش تعني الثأر‪،‬‬
‫ْ‬
‫أمــا ال ُمســلمون فقــد كانــوا علــى موعــد مــع واحــد مــن أبلــغ الــدروس‬
‫فــي تاريخ اإلســام!‬
‫َ‬
‫الحظ النبي  ميمنة جيش قريش بقيادة خالد بن الوليد‪،‬‬
‫ـف بفرســانه مــن وراء الجبــل ويُصبــح المســلمون بيــن‬ ‫فخشــي أن يلتـ َّ‬
‫ِ‬
‫ف َّكي كماشــة‪،‬‬
‫فوضــع ســبعين مــن ال ّ ُرمــاة علــى الجبــل‪ ،‬وأصــدر إليهــم أمــراً عســكرياًّ‬
‫واضحاً‪:‬‬
‫ال تبرحــوا أماكنكــم‪ ،‬إن رأيتمونــا نُهــزم فــا تنصرونــا‪ ،‬وإن رأيتمونــا‬
‫نُنصــر فــا تُشــاركونا!‬
‫وبدأت المعركة‪ ،‬وأبلى المسلمون بال ًء حسناً‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وذاقــت ُقريــش بعــض الــذي ذاقتــه فــي بدر‪ ،‬فــ َّر جنودهــا‪ ،‬وتبعهــم‬ ‫ْ‬
‫المسلمون‪،‬‬
‫ثــم ظ ـ َّن ال ّ ُرمــاة علــى الجبــل أن األمــر انتهــى‪ ،‬فنزلــوا يُريــدون الحــظ‬
‫مــن النصــر والغنائــم!‬
‫عندها حدث ما كان النبي  يخشاه‪،‬‬
‫ـف خالــد بفرســانه وصــار المســلمون بيــن ف َّكــي كماشــة‪ ،‬وتح ـ َّول‬ ‫التـ َّ‬
‫نصرهــم إلــى هزيمــة‪،‬‬
‫وتعلَّموا الدرس البليغ‪:‬‬
‫ُحقّق النصر ما لم تلتزم بأوامر نب ِ ّيها وقائدها!‬‫هذه األُمة لن ت ِ‬
‫انتهت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫كانت غزوة أ ُ ُحد قد‬ ‫ْ‬ ‫فإن‬
‫فإ َّن مهمة ال ّ ُرماة الذين يحفظون ظهور المسلمين لم تنتهِ بعد‪،‬‬
‫فطوبى لل ُمدافعين عن هذا ال ّدين ك ّل في مجاله‪،‬‬
‫طوبى للقابضين على الجمر رافضي االنحناء والتل ّ ُون‪،‬‬
‫ا تع ـزّوا بصــوت النبــي  يُنــادي فيهــم‪ :‬ال تبرحــوا‬ ‫كلمــا وهنــوا قلي ـ ً‬
‫أماكنكم!‬
‫فال تبرحوا أماكنكم!‬
‫األمهات اللواتي يُر ِّبين أوالدهن على الصالة والصيام واألخالق‪،‬‬
‫أنت َّن تحمين ظهورنا فال تبرحن أماكنكن!‬
‫اآلبــاء الذيــن يســألون أوالدهــم عــن جــزء عــ َّم كمــا يســألونهم عــن‬
‫عالماتهــم المدرســية‪،‬‬
‫أنتم تحمون ظهورنا فال تبرحوا أماكنكم!‬
‫درسون الذين يُؤمنون أ َّن هذا الجيل إذا تر ّبَى جيداً‪،‬‬
‫ال ُم ِ ّ‬
‫وعلي مرة أخرى‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫يُمكن أن يخرج منه أبو بكر وعمر وعثمان‬

‫‪70‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أنتم تحمون ظهورنا فال تبرحوا أماكنكم!‬


‫ال ُموظفــون الذيــن يُــؤدون أعمالهــم بمهنيــة وضميــر‪ ،‬ويُراقبــون اهلل‬
‫قبــل مدرائهــم‪،‬‬
‫أنتم تحمون ظهورنا فال تبرحوا أماكنكم!‬
‫المهندسون الذين يُش ِ ّيدون الجسور ويشقون ُ‬
‫الط ُرق‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وصفقات مشبوهة‪،‬‬ ‫غش واحتيال‬ ‫دون ٍّ‬
‫أنتم تحمون ظهورنا فال تبرحوا أماكنكم!‬
‫فتيــات الحجــاب والعفــة اللواتــي يُربيــن أنفســهن اســتعداداً لتربيــة‬
‫أوالدهــن‪،‬‬
‫أماكنكن!‬
‫َّ‬ ‫أنتن تحمي َن ظهورنا فال تبرحن‬ ‫َّ‬
‫شباب صالة الفجر‪ ،‬ومجالس الحديث‪ ،‬و ُدور القرآن‪،‬‬
‫أنتم ترسانة اإلسالم األفتك واألقوى‪ ،‬فال تبرحوا أماكنكم!‬
‫كل واحــد فينــا لــو تأ َّمــل موضــع قدميــه الكتشــف أ ّنــه جنـ ٌّ‬
‫ـدي ألجــل‬
‫هــذا الديــن‪،‬‬
‫وأ ّنــه لــو حــارب بشراســة وأمانــة فإ ّنــه سيســد ثغــراً هامــاً‪ ،‬ويدفــع‬
‫خطــراً عظيمــاً‪،‬‬
‫كل واحــد منــا فــي مــكان وضعــه اهلل فيــه‪ ،‬وألقــى علــى كتفــه مســؤولية‬
‫وأمانة‪،‬‬
‫فال تبرحوا أماكنكم!‬

‫‪71‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫َ‬
‫انكشف المسلمون‪،‬‬ ‫بعد نزول ال ُّرماة عن الجبل‬
‫السيف‪ ،‬وارتقى الشهداء واحداً تلو اآلخر‪،‬‬
‫وأعملت ُقريش فيهم ّ‬
‫انسحب المسلمون إلى الجبل ليص ُع َب على قريش تتبعهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫لهذا‬
‫وش َّج رأس النبي  و ُك ْ‬
‫سرت مقدمة أسنانه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ـجوا‬
‫وهــو يمسـ ُح الــدم عــن وجهــه الشــريف ويقول‪ :‬كيــف يفلــح قــوم شـ ُّ‬
‫رأس نبيهــم؟!‬
‫النبــي  أن يصعــد علــى صخــرة فلــم يســتطع‬ ‫ُّ‬ ‫وعنــد الجبــل أراد‬
‫بأبــي هــو وأمــي‪،‬‬
‫بسبب ثقل الدرعين‪ ،‬وما أصاب الجسد الشريف من جراح‪،‬‬
‫عندهــا انحنــى طلحــة بــن عبيــد اهلل وجعــل مــن جســمه درج ـاً يرقــى‬
‫عليــه النبــي  ليصعــد إلــى الصخــرة‪،‬‬
‫وجبت له الجنة!‬
‫ْ‬ ‫فلما وصل إليها قال‪ :‬أ ْو َج َب طلحة! أي‬
‫أوجب طلحة ألنه جعل من نفسه ُسلَّماً يرقى عليه النبي ‪،‬‬ ‫َ‬
‫درك طلحة‪،‬‬ ‫ولكن باب الوجوب لم يُغلق بعد‪ ،‬فما زال بإمكاننا أن نُ َ‬
‫النبــي  ليــس معنــا بجســده لنذ ّل ـ َل لــه ُّ‬
‫الظهــور وال ِّرقــاب ليصعــد‬
‫عليهــا‪،‬‬
‫وسنَّته بيننا‪،‬‬
‫ولكن دينه وشرعه ُ‬
‫َ‬
‫وأدرك‬ ‫أوجــب‪،‬‬
‫َ‬ ‫وكل مــن حمــل هــذا الديــن علــى عاتقــه يرقــى فقــد‬
‫بــإذن اهلل طلحــة!‬
‫أيهــا المجاهــد الــذي وضــع روحــه علــى كفــه‪ ،‬إلعــاء كلمــة ال إلــه إال‬
‫أوجبت!‬
‫َ‬ ‫اهلل قــد‬

‫‪72‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أيها الداعية الذي قال كلمة الحق ولم يخش في اهلل لومة الئم‪،‬‬
‫أوجبت!‬
‫َ‬ ‫ود َّل الناس على اهلل قد‬
‫امتثلت أمر النبي  بالحجاب والعفة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أ َّيتُها الفتاة التي‬
‫ِ‬
‫أوجبت!‬ ‫ليعود اإلسالم سيرته األولى قد‬
‫اب الذي راوده اإلعالم الهابط عن دينه فقال معاذ اهلل‪،‬‬ ‫الش ُّ‬ ‫أ ُّيها َّ‬
‫الذكــر‪ ،‬وحلقــات التحفيــظ‪ ،‬وأدام الســير إلــى‬ ‫وزاحــم فــي ِحلــق ِ ّ‬
‫أوجبــت!‬
‫َ‬ ‫المســجد قــد‬
‫األب الذي أمر أوالده الصالة أبناء سبع‪،‬‬ ‫أيُّها ُ‬
‫أوجبت!‬
‫َ‬ ‫الصيام منذ نعومة أظفارهم‪ ،‬قد‬ ‫ود َّربهم على ِّ‬
‫أوجبت!‬
‫َ‬ ‫درس الباحث بين تالميذه عن أبي بكر وعمر قد‬ ‫أ ّيها ال ُم ِ ّ‬
‫أ َّيها الطبيب اإلنسان‪ ،‬وأيُّها النَّجار الصادق‪ ،‬وأيُّها الموظف األمين‪،‬‬
‫الصالح‪ ،‬وأيُّها األخ الحنون‪،‬‬ ‫وأيُّها االبن البار‪ ،‬وأيُّها الجا ُر َّ‬
‫وأ ّيتها الزّوجة ال ُمح ّبة‪ ،‬وأيتها الكِ نَّة الخلوقة‪،‬‬
‫قد أوجبتم جميعاً بإذن اهلل!‬
‫فكلما ضاقت ال ُّدنيا بكم‪ ،‬وراودتكم عن أخالقكم ودينكم‪،‬‬
‫وجبت لطلحة أل ّنه كان ُسلّماً لهذا ال ّدين‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أن الجنّة قد‬ ‫تذ ّكروا ّ‬
‫أوجبت فالن وينط ُق اسمك!‬ ‫َ‬ ‫النبي  يقول‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫وتخ َّيلُوا‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أح ٍد‪،‬‬
‫ل َّما دنا العد ّ ُو من النبي  يوم ُ‬
‫دافـ َع عنــه مصعــب بــن عميــر حتــى ُقتــل‪ ،‬وأبــو ُدجانــة حتــى كثُـ ْ‬
‫ـرت فيــه‬
‫الجراح‪،‬‬

‫‪73‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫النبي ‪َ :‬م ْن رج ٌل يبي ُع لنا نفسه؟!‬


‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫السكن‪ ،‬فقات َل حتى أثخنته الجراح‪،‬‬ ‫فوثب زياد بن َّ‬
‫َ‬
‫مات عليها!‬
‫فوسده فخذه حتى َ‬ ‫النبي ‪ :‬أُد ُن مني‪َّ ،‬‬‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫النبي  ما زال يصدح‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫صوت‬
‫َ‬ ‫انتهت غزوة أُحد‪ ،‬ولكن‬
‫ْ‬ ‫نعم‪،‬‬
‫َم ْن رج ٌل يبي ُع لنا نفسه!‬
‫النبي  عن هذه الدنيا بجسده‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫رح َل‬
‫باق أبد ال َّدهر بدينه وشريعته وأمته‪،‬‬ ‫ولكنه ٍ‬
‫البيع سارياً فمن يبي ُع له نفسه!‬ ‫ِ‬ ‫السوق مستقراً‪ ،‬وعرض‬ ‫وما زال ّ ُ‬
‫ـال‪ ،‬تذ َّكــر قــول نب ِ ّيــك‪ :‬مــن يبي ـ ُع لنــا‬‫ـت فقيــراً ذا حاجـ ٍـة وعيـ ٍ‬ ‫كلمــا رأيـ َ‬
‫نفســه؟‬
‫مالك وتص َّدق!‬ ‫َ‬ ‫و ُق ْل‪ :‬أنا يا رسول اهلل! وأخر ْج من‬
‫وكلمــا ُجمــع مــا ٌل لعمليــة جراحيــة طارئــة لفقيــر‪ ،‬تذ َّكــر قــول نبيــك‪:‬‬
‫مــن يبي ـ ُع لنــا نفســه؟‬
‫وساه ْم بقدر ما تستطيع!‬ ‫ِ‬ ‫وقل له‪ :‬أنا يا رسول اهلل!‬
‫وأنت غار ٌق في وظيفتك وتجارتك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عندك أم أو أب‬‫َ‬ ‫وكلَّما مرض‬
‫تذ َّك ْر قول نبيك‪ :‬من يبي ُع لنا نفسه؟‬
‫و ُق ـ ْل لــه‪ :‬أنــا يــا رســول اهلل! ثــم فـ ِ ّـر ْغ وقتــك‪ ،‬وخــذ المريــض منهمــا‬
‫إلــى الطبيــب!‬
‫خــاف عائلــي لــن يُحــ َّل إال إذا تنــازل أحدهــم وبــادر‬
‫ٌ‬ ‫نشــب‬
‫َ‬ ‫وكلمــا‬
‫بالصلــح والتنــازل‪،‬‬
‫تذك ْر قول نب ّيك‪ :‬من يبي ُع لنا نفسه؟‬
‫وقل له‪ :‬أنا يا رسول اهلل! و ُك ْن األطيب قلباً‪ ،‬واألسرع مبادرة!‬
‫باب لشهوة حرام ميسورة مستورة‪،‬‬ ‫لك ٌ‬‫و ُكلَّما ُفتح َ‬

‫‪74‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫تذ َّك ْر قول نب ّيك‪ :‬من يبي ُع لنا نفسه؟‬


‫ـرك شــيئاً‬
‫متحسس ـاً أ َّن مــن تـ َ‬
‫ِّ‬ ‫و ُق ـ ْل لــه‪ :‬أنــا يــا رســول اهلل! ثــم تعفـ ْ‬
‫ـف‬
‫هلل ع َّوضــه اهلل خيــراً منــه!‬
‫بيــ ُع النَّفــس هلل ورســوله ليــس فــي المعــارك فقــط‪ ،‬وإن كان هــذا‬
‫أجمــ َل البيــع وأجلَّــه‪،‬‬
‫وإ ّنمــا فــي كل يــوم هنــاك ســوق بيـ ٍـع للنَّفــس فــي ســبيل ا ِ‬
‫هلل ورســوله‪،‬‬
‫ف ِب ـ ْع نفسـ َ‬
‫ـك!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫إ َّن َ‬
‫اهلل يُ ِ ّ ُحــب صــاد َق العهــدِ معــه‪ ،‬ليــس فــي الحـ ِ‬
‫ـرب فقــط‪ ،‬وإنمــا فــي‬
‫الســلم كذلــك‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫هلل عمل ج َّبار تماماً كالموت في سبيل اهلل!‬ ‫فالحياة في سبيل ا ِ‬
‫أعطاك الما َل أن تكون كثير الصدقة‪،‬‬
‫َ‬ ‫عاهدت َ‬
‫اهلل أن إذا‬ ‫َ‬ ‫فإذا‬
‫أغناك أن تحنث بالعهد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فإياك إن‬
‫فإنه ال شيء أحب إليه من وفاء عبده على ما عاهده‪،‬‬
‫َ‬
‫يفقرك بعد غنى!‬ ‫فقر قادر على أن‬
‫وتذكر أن الذي أغناك بعد ٍ‬
‫ـرض‪ ،‬أن تُكثــر مــن الخطــى إلــى‬ ‫ـدت َ‬
‫اهلل أن إذا شــفاك مــن مـ ٍ‬ ‫وإذا عاهـ َ‬
‫المساجد‪،‬‬
‫وأن تثني الركب في حلق العلم وتحفيظ القرآن‪،‬‬
‫شفاك أن تحنث بالعهد‪،‬‬‫َ‬ ‫وأن تحج وتعتمر‪ ،‬فإياك إن‬
‫أحب إليه من وفاء عبده بما عاهد‪،‬‬ ‫فإنه ال شيء ّ ُ‬

‫‪75‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ـرض قــادر علــى أن يمرضـ َ‬


‫ـك بعــد‬ ‫وتذكــر أن اهلل الــذي شــفاك بعــد مـ ٍ‬
‫عافيــة!‬
‫َ‬
‫نفسك على أال تعصي‪،‬‬ ‫تعصه‪ ،‬فجاهد‬ ‫عاهدت َ‬
‫اهلل أن ال ِ‬ ‫َ‬ ‫وإذا‬
‫الذنب الذي تركته ِ‬
‫هلل ال تعد إليه مهما كان‪،‬‬
‫َ‬
‫أدراجك على الفور‪ ،‬وجدد العهد‪،‬‬ ‫انتكست ف ُع ْد‬
‫َ‬ ‫وإن‬
‫وقــل لــه يــا رب‪ :‬أنــا علــى عهــدك ووعــدك‪ ،‬ليســت إال زلــة قــدم‪،‬‬
‫وسوســة شــيطان‪ ،‬وزينــة نفــس‪،‬‬
‫فإن الباب الذي ُفتح ألنس بن النضر لم يُغلق بعد‪،‬‬
‫الداخلين إلى اهلل منه!‬ ‫لحظ َّ‬‫ِّ‬ ‫فيا‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫حد قال‪:‬‬ ‫شرف على دفن ُشهداء غزوة أ ُ ٍ‬ ‫النبي  يُ ُ‬ ‫ُّ‬ ‫بينما‬
‫ادفنــوا عمــرو بــن الجمــوح وعبــد اهلل بــن حــرام فــي قبـ ٍـر واحـ ٍـد‪ ،‬فإ ّنهما‬
‫كانا متحابين!‬
‫النبي ‪ :‬فإنهما كانا ُمتحابين!‬ ‫ّ‬ ‫واُنْ ُظ ْر إلى جمال قول‬
‫ما أجمل أن يُعرف اإلنسان بين الناس بصفاته العذبة‪،‬‬
‫أن يُعرف بال ُمحب‪ ،‬والشهم‪ ،‬والكريم‪ ،‬والنبيل‪،‬‬
‫ـت صــورة وجهــه فــي أذهــان الســامعين كأنهــا قلــب‬ ‫إذا ُذكــر اســمه لمعـ ْ‬
‫أحمر‪،‬‬
‫كذلك الذي نضعه وراء العبارات الجميلة التي نكتبها!‬
‫الذهبي في ِسيَ ِر أعالم النُّبالء لمحمد بن ميمون فقال‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ترج َم‬

‫‪76‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الســكري‪ ،‬محمــد بــن ميمــون ال َمــ ْر َو ِزي‪ ،‬ولــم يكــن يبيــ ُع‬ ‫أبــو حمــزة ّ ُ‬
‫الســكر‪،‬‬
‫ُّ‬
‫بالسكري لحلو كالمه!‬ ‫وإنما ُس ِ ّم َي ّ ُ‬
‫فيــا تُــرى لــو أراد الذيــن يعرفوننــا أن يســتبدلوا أســماءنا بصفاتنــا التــي‬
‫نُعاملهــم بهــا فمــاذا عســاها تكون؟!‬
‫ـي ال ُمبــارك‪ ،‬أم‬‫مــاذا ســيختار األبــوان لنــا اســماً‪ ،‬االبــن البــار المرضـ ّ ُ‬
‫ـظ َّ‬
‫الســليط؟!‬ ‫االبــن العــاق الفـ ّ ُ‬
‫مــاذا ســتختار الزوجــة اســماً لنــا‪ ،‬الــزوج الحنــون الكريــم ال ُمتســامح‪،‬‬
‫أم ال ـزَّوج العنيــف القاســي؟!‬
‫لك اسماً‪ ،‬الحنونة ال ُمح ّبة الكريمة َّ‬
‫الصبورة‪،‬‬ ‫ماذا سيختار الزوج ِ‬
‫أم سليطة اللسان قاسية القلب جارحة الكالم؟!‬
‫ـك اســماً‪ ،‬الشــه ُم المعطــاء ال ُمســالم‪ ،‬أم الغــادر‬‫مــاذا ســيختا ُر الجــار لـ َ‬
‫الجشــع ســيء الخُ لــق؟!‬
‫ِ‬
‫ـك اســماً‪ ،‬حافــظ الســر األميــن ال ُمهــذب‬ ‫مــاذا ســيختا ُر زمــاء العمــل لـ َ‬
‫ال ُمــؤدب‪ ،‬أم الواشــي والفاضــح؟!‬
‫أســماؤنا لنــا أمــا صفاتنــا فلل ّنــاس‪ ،‬وهــم الذيــن يضعــون لنــا صفـ ًة بنــا ًء‬
‫علــى تعاملنــا معهــم‪،‬‬
‫ويومــاً مــا ســترحل األســماءُ وتبقــى الصفــات‪ ،‬فاتركــوا وراءكــم مــن‬
‫يترحــم عليكــم!‬
‫َّ‬

‫‪77‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السادس‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  على الهجرة والجهاد‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫أعرابي من الصحراء وبايع‬‫ٌ‬ ‫جاء‬


‫الصحابة أحد! رج ٌل مجهو ٌل في غمار النّاس‪،‬‬ ‫لم ي ُك ْن يعرفه من ّ‬
‫ولكن فيما بعد سيتمنى الصحابة جميعهم لو كانوا ذلك الرجل!‬
‫نادي الجهاد أن يا خيل اهلل اركبي‪،‬‬ ‫نادى ُم َ‬
‫وخرج األعرابي ُمدافعاً عن هذا الدين في ُجملة من خرج‪،‬‬
‫ثــم م ـ َّن اهلل علــى المســلمين بالنصــر‪ ،‬وقســم النبــي  الغنائــم بيــن‬
‫أصحابــه‪،‬‬
‫وتــرك لألعرابــي نصيبــه‪ ،‬فلمــا جــاء وقيــل لــه تـ َ‬
‫ـرك لــك رســول اهلل‬
‫ هــذا‪،‬‬
‫أخ َذ الغنيمة وت َو َّجه إليه‪ ،‬وقال له‪ :‬يا رسول اهلل ما هذا؟‬
‫فقال له‪ :‬قسمته َ‬
‫لك‪،‬‬
‫َ‬
‫اتبعتك يا رسول اهلل‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬ولكن ما على هذا‬
‫بسهم ههنا‪ ،‬وأشار إلى رقبته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫اتبعتك على أن أُرمى‬
‫َ‬ ‫ولكني‬
‫فأموت فأدخل الجنة!‬
‫فقال له النبي ‪ِ :‬إ ْن تَص ُدقِ َ‬
‫اهلل يص ُد ُقك!‬
‫فلما كانت جولة أُخرى من القتال‪،‬‬
‫ِــي بــه إلــى النبــي  محمــوالً‪َّ ،‬‬
‫والســه ُم مغــروز فــي رقبتــه حيــث‬ ‫أُت َ‬
‫أشــار ســابقاً‪،‬‬
‫فقال النبي ‪ :‬أهو هو؟‬
‫فقالوا‪ :‬نعم يا رسول اهلل‬
‫فقال‪ :‬صد َق َ‬
‫اهلل فصدقه اهلل!‬

‫‪78‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ثم ك َفّنه النبي  في ُج َّبتِهِ ‪ ،‬وصلى عليه‪،‬‬


‫وكان م ّما سمعوا من دعائه يومها أنه قال‪:‬‬
‫اللهــم هــذا عبــدك خــرج ُمهاجــراً فــي ســبيلك‪ ،‬ف ُقتِــ َل شــهيداً وأنــا‬
‫شــهيد علــى ذلــك!‬
‫ِإ ْن تصدِ قِ َ‬
‫اهلل يص ُد ُقك!‬ ‫ْ‬
‫ال عن رغبتك في الجهاد‪،‬‬ ‫يُمكنك أن تتحدث طوي ً‬
‫وعن نيتك في االلتزام بصالة الفجر‪،‬‬
‫وعن أُمنيتك في حفظ القرآن الكريم‪،‬‬
‫كنت غنياً‪،‬‬
‫الصدقة كثيراً لو َ‬ ‫وعن عزمك على َّ‬
‫بظاهرك‪ ،‬ولكــن اهلل ســبحانه‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عليــك إال‬ ‫ونحــن ال يُمكــن أن نحكــم‬
‫يــراك مــن الداخــل‪،‬‬
‫وضجــة‬
‫ّ‬ ‫ينظــر إلــى قلبــك عاريـاً مــن فنــون الخطابــة‪ ،‬وحســن البالغــة‪،‬‬
‫اإلعالم والبيانات‪،‬‬
‫وعلى ما في قلبك سيعطيك!‬
‫إ َّن اهلل يُعطي على ن ّية العمل أجر عمل كامل لم يُعمل‪،‬‬
‫حين يعلم في قلب عبده صدقاً أنه لو استطاع لعم َل‪،‬‬
‫وال يقبــل الطاعــة علــى حســن ظاهرهــا إن علــم أن وراءهــا ريــا ًء وحــب‬
‫ُشــهرة ونفاقـاً‪،‬‬
‫وقد كان عبد اهلل بن سلول يُصلي الفجر جماعة خلف النبي ‪،‬‬
‫وهو في الدرك األسفل من النار‪،‬‬
‫الصالحين وعمِ َل بقلبه ع َمل المنافقين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بجوارحه ع َمل َّ‬ ‫لقد عمِ َل‬
‫وإ ّنما المرءُ بقلبه!‬

‫‪79‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ال أعرج شديد العرج‪،‬‬ ‫كان عمرو بن الجموح رج ً‬


‫أوالد كاألُ ُســود شــجاع ًة وإقدامـاً‪ ،‬شــهدوا مــع النبـ ِ ّـي ‬
‫وكان لــه أربعــة ٍ‬
‫بدر اً‪.‬‬
‫كانت غزوة أ ُ ُح ٍد وأرادوا الخُ روج في جيش المسلمين‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فلما‬
‫َ‬
‫عذرك‪.‬‬ ‫قالوا ألبيهم‪ :‬إ َّن اهلل ع َّز وج َّل قد‬
‫ـي  وقــال لــه‪ :‬إ َّن بَ ِنـ َّ‬
‫ـي يُريــدون أن يحبســوني عــن هــذا‬ ‫فأتــى النبـ َّ‬
‫الوجــه‪،‬‬
‫والخروج معك فيه‪،‬‬
‫هلل إني ألرجو أن أط َأ بعرجتي هذه في َ‬
‫الجنَّة!‬ ‫وا ِ‬
‫َ‬
‫عليك‪.‬‬ ‫عذرك اهلل‪ ،‬فال ِجهاد‬‫َ‬ ‫النبي ‪ :‬أما َ‬
‫أنت فقد‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫وقال ألوالده‪ :‬ما عليكم أن ال تمنعوه‪ ،‬لع َّل اهلل أن يرز َقه َّ‬
‫الشهادة!‬
‫فأذِ نوا له بالخروج فخر َج‪،‬‬
‫ـت فــي ســبيل ا ِ‬
‫هلل حتــى‬ ‫ـت إن قاتلـ ُ‬
‫وفــي الطريــقِ قــال للنبـ ِ ّـي ‪ :‬أرأيـ َ‬
‫أُقتل‪،‬‬
‫أمشي برجلي هذه صحيح ًة في الجنة؟!‬
‫فقال له‪ :‬نعم!‬
‫النبي  وهو بين القتلى‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ف ُق ِت َل يوم أ ُ ُحد‪ ،‬فم َّر عليه‬
‫برجلك هذه صحيح ًة في َ‬
‫الجنَّة!‬ ‫َ‬ ‫وقال له‪ :‬كأني ُ‬
‫أنظ ُر َ‬
‫إليك تمشي‬
‫يــا لهــا مــن بطولـ ٍـة يــا عمــرو بــن الجمــوح‪ ،‬تخــر ُج للجهــاد وقــد تخلَّـ َ‬
‫ـف‬
‫كثيـ ٌر مــن ِ‬
‫األص َّحاء‪،‬‬

‫‪80‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫حال كنت!‬ ‫بليغ مفاده‪ِ :‬س ْر إلى اهلل على أ ّيَةِ ٍ‬ ‫درس ٍ‬ ‫يا له من ٍ‬
‫ال تــد ْع شــيئاً يُكبلــك‪ ،‬تحامـ ْل علــى نفســك‪ ،‬فإنهــا أيام تمضــي والموعد‬
‫الجنة إن شاء اهلل!‬
‫الجنَّة فعل الخير طلباً لرضى اهلل‪،‬‬ ‫من أكثر ما يُدني الناس من َ‬
‫ولو لم يفعلوا ُعذروا ولم يل ُ ْم ُهم أحد!‬
‫البط ُن الجائ ُع الذي تُطعمه وليس بينك وبينه ُقربى وال َر ِحم‪،‬‬
‫تبتغي بذلك وجه اهلل خطوة إلى الجنة!‬
‫ـي الــذي تُنهيــه وليــس بينــك وبيــن الزوجيــن ُقربــى‬ ‫والخـ ُ‬
‫ـاف الزوجـ ّ ُ‬
‫وال َر ِحــم‪،‬‬
‫وتحفظ األوالد من الضياع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تري ُد بهذا الصلح أن تجم َع األُسرة‪،‬‬
‫تبتغي بذلك وجه اهلل خطوة إلى الجنة!‬
‫الح ّ ُق الذي تُحاول أن تعي َده ألصحابه ال ناقة َ‬
‫لك وال جم ٌل فيه‪،‬‬
‫تبتغي بذلك وجه اهلل هو خطوة إلى الجنة!‬
‫الول ُد العا ّ ُق الذي تُعي ُده إلى ب ِ ِّر أبيه‪،‬‬
‫وال يربطك باالثنين َر ِحم وال ُقربى خطوة إلى الجنة!‬
‫المريض الذي تسعى في عالجه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫عمل‪،‬‬
‫والمسكي ُن الذي تساعده في الحصولِ على ٍ‬
‫واألرمل ُة التي تُغنيها عن سؤالِ الناس‪،‬‬
‫كل هؤالء خطوات إلى الجنة‪،‬‬
‫وما تُ ُع ِ ّب َد اهلل بشيءٍ أحسن من اإلحسان إلى خلقه!‬

‫‪81‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس الثامن‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الحرب!‬
‫َ‬ ‫يكس ُب‬ ‫قد يخس ُر الح ّ ُق معرك ًة‪ ،‬ولكنه نهاية المطاف ِ‬
‫وعلينا أال ننشغِ َل بالنَ ِ‬
‫ّصر والهزيمة‪،‬‬
‫الحــق‪ ،‬كارهيــن وهاجريــن لصفــوف‬ ‫ِّ‬ ‫وإنمــا بــأن نكــون فــي صفــوف‬
‫الباطــل!‬
‫طقس‪ ،‬أ ّما اإليما ُن مناخ!‬‫ٍ‬ ‫فالنَّص ُر والهزيم ُة مج ّرد‬
‫صحة المناخ!‬ ‫تش ّ ُكون في ّ‬ ‫فال يجعلكم تقلّ ُ ُب الطقس ُ‬
‫لحكمة ٍ‬
‫بالغة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إ َّن هذا ال ِّدين يُمتح ُن أهلُه بالهزائم‬
‫وهي أال تمتلئ صفوفه بالمنافقين!‬
‫لحكمة ٍ‬
‫بالغة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وي ُم ّ ُن اهللُ تعالى على أهلِ هذا ال ِّدين بالن ِ‬
‫ّصر‬
‫يش ّ ُكوا في سالمة المنهج!‬ ‫وهي أن ال ُ‬
‫وهزيم ٌة تجعل ُ َك تلجأُ إلى اهلل‪ ،‬وتُراجع حساباتك‪،‬‬
‫فتحسب معه أنك س ّي ُد ال ّ ُدنيا!‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫طغيك‪،‬‬ ‫نصر يُ‬
‫خير من ٍ‬
‫لحكمة ٍ‬
‫بالغة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وسبحان من يُؤ ّد ُب عباده بما يكرهون‬
‫وهي أن يجعلهم له كما يُ ِح ّ ُب!‬

‫‪82‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪18‬‬

‫ُ َ َْ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫﴿سن ْس َتدرِ ُج ُهم ّ ِم ْن َحيْث ال َيعل ُمون﴾‬

‫فيحر َ‬
‫مك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫اهلل تعالى‬‫ليس مخيفاً أن تُطيع َ‬
‫َ‬
‫فإ ّنه وقتذاك يُق ِّربُ َك‪،‬‬
‫َ‬
‫عطيك‪،‬‬ ‫المخيف أن تعص َيه فيُ‬ ‫ُ‬ ‫وإ ّنما‬
‫فإ ّنه وقتذاك يُملي َ‬
‫لك!‬
‫عطيات استدراجاً!‬‫ِ‬ ‫أحياناً يُغدِ ق اهللُ تعالى باألُ‬
‫ملك مصر!‬ ‫لي ُ‬ ‫أليس َ‬
‫َ‬ ‫البحر على فرعون سب َقه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫إطبا ُق‬
‫وال ِّنعا ُل على رأس النُّمرود سب َقها‪ :‬أنا أُحيي وأ ُ ُ‬
‫ميت!‬
‫ـت عــاداً مــن جذورهــا كان قبلهــا‪ :‬مــن أش ـ ُّد م َّنــا‬ ‫وال ِّري ـ ُح التــي اقتلعـ ْ‬
‫ق ـ َّوة!‬
‫عندك قاعدة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫خذها‬
‫الطاعة إكرام‪ ،‬وال ِّنعم ُة مع المعصيةِ استدراج!‬ ‫ال ِّنعم ُة مع َّ‬

‫‪83‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪19‬‬

‫خاري في صحيحه‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫روى البُ‬
‫الج ْه ُد‬ ‫أن َر ُج ًل أتَى الن َّ‬
‫َّبي ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل أصابني َ‬ ‫َّ‬
‫أي الجوع!‬
‫ِسائِهِ ‪،‬‬
‫النبي  إلى ن َ‬ ‫ُّ‬ ‫َفبَ َعثَ‬
‫َف ُقل ْ َن‪ :‬ما معنَا َّإل ال َماءُ!‬
‫يف هذا؟‬ ‫الل ‪َ :‬من يُ ِض ُ‬ ‫َفقا َل َرسو ُل َّ ِ‬
‫ص ِار‪ :‬أنَا ‪...‬‬ ‫َفقا َل َر ُج ٌل مِ َن األنْ َ‬
‫الل ‪،‬‬ ‫ضيْ َف َرسولِ َّ ِ‬ ‫َفانْ َطل َ َق به إلى ا ْم َرأَتِهِ ‪َ ،‬فقا َل‪ :‬أ ْك ِرمِ ي َ‬
‫وت ِصبْيَانِي!‬ ‫َفقالَ ْت‪ :‬ما ِعنْ َدنَا َّإل ُق ُ‬
‫اج ِك‪ ،‬ونَ ِّومِ ي ِصبْيَانَ ِك إ َذا‬ ‫صب ِِحي ِس َر َ‬ ‫َفقا َل‪َ :‬ه ِّيئِي َط َعا َم ِك‪ ،‬وأَ ْ‬
‫أ َرا ُدوا َع َشا ًء‪،‬‬
‫اج َها‪ ،‬ونَ َّو َم ْت ِصبْ َيانَ َها‪،‬‬
‫ص َب َح ْت ِس َر َ‬ ‫َف َه َّي َأ ْت َط َعا َم َها‪ ،‬وأَ ْ‬
‫فأط َف َأتْهُ‪،‬‬
‫اج َها ْ‬ ‫ثُ َّم َقا َم ْت َكأ َّن َها ت ْ‬
‫ُص ِل ُح ِس َر َ‬
‫َف َج َع َل يُ ِريَانِهِ أ َّن ُهما يَ ْأ ُك َلنِ ‪َ ،‬فبَاتَا جائ َعيْن‪،‬‬
‫ض ِح َك َّ‬
‫اللُ‬ ‫أص َب َح َغ َدا إلى َرسولِ َّ ِ‬
‫الل ‪َ ،‬فقا َل له‪َ :‬‬ ‫َفل َ َّما ْ‬
‫اللَّيْل َ َة مِ ن َف َعا ِل ُكما‪.‬‬
‫فأنْ َز َل فيكما قوله‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سه ْم َو ل ْو ك ن به ْم خصاصة َوم ْن يُوق ش َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ــح‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫﴿و ُيؤ ث ُِر ون ع‬
‫َُ َ َ ُ ْ ْ‬ ‫َْ‬
‫نفسِــهِ فأ ولئِك ه ُم ال ُمفل ُِحون﴾‬

‫‪84‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫إ ّنه اإليثار‪ ،‬أحد أروع األخالق التي يتحلّى بها اإلنسان‪،‬‬


‫والصحاب ُة في اإلسالم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العرب في الجاهلية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقد ع ّدها‬
‫والتّابعون فيما بعد‪،‬‬
‫رأس األخالق‪ ،‬وق ّمة الكرم‪ ،‬وذروة الجود‪،‬‬
‫ُ‬
‫تملك‬ ‫فاإليثا ُر أعلى ُرتب ًة من الكرم‪ ،‬ألن الكرم هو إعطاء بعض ما‬
‫وال تحتا ُج إليه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بحاجة إليه!‬ ‫أنت‬
‫إنسان ما َ‬
‫ٍ‬ ‫أما اإليثار فإعطاء‬
‫وقد ضربوا أمثل ًة في اإليثار لوال أنها جاءت في الصحيح‪ ،‬لقلنا‪:‬‬
‫هذا خيا ٌل و ُمحال!‬
‫مالك‪ :‬لما َق َد َم المهاجرون المدين َة‪،‬‬‫أنس بن ٍ‬ ‫يقو ُل ُ‬
‫نزلوا على األنصار في دورهم‪،‬‬
‫قوم نزلنا عليهم‪،‬‬ ‫فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ما رأينا مثل ٍ‬
‫أحسن مواساة في قليل‪ ،‬وال أبذل في كثير منهم‪،‬‬
‫لقد أشركونا في المهنأ وكفونا المؤنة‪ ،‬ولقد خشينا أن يكونوا‬
‫ذهبوا باألجر كلِّه‪.‬‬
‫كل ما دعوتم اهلل لهم‬ ‫فقال رسول اهلل ‪َّ :‬‬
‫وأثنيتم به عليهم!‬
‫إيثار األنصار المهاجرين على أنفسهم‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ومن أمثلةِ‬
‫عوف إلى المدينة مهاجراً‪،‬‬ ‫جاء عبد ال ّرحمن بن ٍ‬
‫َّبي  بينه وبين سعد بن ال َّربيع‬ ‫فآخى الن ُّ‬
‫األنصاري‪،‬‬
‫ِّ‬

‫‪85‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فعرض عليه أن يُناصفه‬


‫َ‬ ‫األنصاري امرأتان‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وعند سعد بن ال ّربيع‬
‫أهله وماله‪،‬‬
‫زوجتي فأُطلّقها‪ ،‬فتتزوجها!‬
‫َّ‬ ‫نظ ْر أي‬‫نصف مالي‪ ،‬وا ُ ُ‬
‫َ‬ ‫فقال له‪ :‬خُ ذ‬
‫َ‬
‫ومالك‪،‬‬ ‫َ‬
‫أهلك‬ ‫بارك اهللُ َ‬
‫لك في‬ ‫َ‬ ‫فقال له عبد الرحمن‪:‬‬
‫السوق!‬ ‫دلُّوني على ُّ‬
‫نظ ْر إليثار سعد بن ال ّربيع‪ ،‬ينز ُل عن نصف ماله ألخيه المهاجر‪،‬‬ ‫اُ ُ‬
‫كد فيه يجمعه وي ّدخره‪ ،‬هان عليه في لحظة!‬ ‫الما ُل الذي َّ‬
‫بل وأكث َر من هذا ما يدعو إلى ال ُع ُجب‪،‬‬
‫يري ُد أن يُطلّق إحدى زوجتيه ليتز ّوجها أخوه المهاجر بعد انقضاء‬
‫ع ّدتها!‬
‫ّبي ‪،‬‬ ‫هؤالءِ قو ٌم هيأ اهلل قلوبهم ليكونوا سيف الن ّ‬
‫وكهف صحابته‪،‬‬ ‫َ‬
‫وجيش دينه‪ ،‬وع ّكازه التي يتك ُئ عليها فيجتا ُز مصاعب األيام!‬
‫اجباً من سعد بن ال ّربيع على إيثاره‪،‬‬ ‫كنت َع ِ‬
‫وإن َ‬
‫فاعج ْب كذلك من عزّة نفس عبد ال ّرحمن بن عوف‪،‬‬ ‫َ‬
‫فهو على رغم إيثار أخيه‪ ،‬إال أنه أبى أن يأخذ شيئاً‪،‬‬
‫فذهب واشترى وبا َع وتاج َر‪،‬‬
‫َ‬ ‫وقال د ّلوني على ُّ‬
‫السوق‪،‬‬
‫الصحابة!‬
‫حتى أصب َح أحد أغنياء ّ‬

‫‪86‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ِ‬
‫ساعات ُوس َعتِهم‪،‬‬ ‫الصحابة في‬ ‫تحسب إ ْن اإليثار كان عند ّ‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫إ ْن َ‬
‫الوقت لترى كيف أنهم آثروا إخوانهم بحياتهم!‬ ‫ُ‬ ‫فقد حا َن‬
‫وهذا غاية الجود‪ ،‬ومنتهى البذل والعطاء‪.‬‬
‫يقو ُل عكرمة بن أبي جهل عن جهاده في معركة اليرموك‪ ،‬ل ّما‬
‫اجترأ ال ُّرو ُم وانكفأ المسلمون‪:‬‬
‫قاتلت رسول اهلل  في مواطن كثيرة وأف ُّر منكم اليوم؟!‬ ‫ُ‬
‫ث َّم نادى‪َ :‬من يبايع على الموت؟‬
‫فبايعه ع ُّمه الحارث بن هشام‪ ،‬وضرار بن األزور في أربعمائة‬
‫مِ ن وجوه المسلمين‬
‫وفرسانهم‪،‬‬
‫جراحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫قدام فسطاط خالد حتى أُثْ ِبتُوا جمي ًعا‬ ‫فقاتلوا َّ‬
‫رت فيهم‬‫و ُقتِل منهم خلقٌ‪ ،‬منهم ضرار بن األزور‪ ،‬فل َّما كثُ ْ‬
‫الجراح طلبُوا ما ًء‪،‬‬
‫فجيء إليهم بشربة ماء‪ ،‬فل َّما قربت إلى أحدهم نظر إليه اآلخر‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ادفعها إليه‪.‬‬
‫فلما ُدفِ َعت إليه نظر إليه اآلخر‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ادفعها إليه‪.‬‬
‫فتدافعوها كلُّهم‪ ،‬مِ ن واحد إلى واحد‪ ،‬حتى ماتوا جمي ًعا ولم‬
‫يشربها أحد منهم!‬
‫إليثارهم ما أروعه‪ ،‬الح ُّر شديد وهم جرحى في ميدان‬ ‫ِ‬ ‫اُ ُ‬
‫نظ ْر‬
‫المعركة‪،‬‬

‫‪87‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ّت من العطش!‬ ‫وحلوقهم جف ْ‬ ‫ٌ‬


‫نازف‪ُ ،‬‬ ‫ممددون على األرض‪ ،‬دمهم‬
‫الساقي‪،‬‬
‫يطلب أحدهم ما ًء فيأتيه ّ‬ ‫ُ‬
‫يطلب الماء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فينظ ُر إلى أخيه بجانبه‪ ،‬فيرى في مالمح وجهه أنه‬
‫خارت قواهم حتى عن الكالم!‬ ‫ْ‬ ‫فقد‬
‫ليسقي أخيه‪،‬‬
‫َ‬ ‫يذهب‬
‫َ‬ ‫الساقي أن‬
‫فيشي ُر إلى ّ‬
‫يطلب ثالثٌ الماء‪ ،‬فيفع ُل ال ّثاني فعل األول!‬
‫ُ‬ ‫ث َّم‬
‫فلما وصل إليه الساقي وجده قد أسل َم ال ُّروح إلى بارئها‪،‬‬
‫مات‪ ،‬وعا َد إلى األول فوجده قد‬ ‫فعا َد إلى الثاني فوجده قد َ‬
‫مات أيضاً‪،‬‬‫َ‬
‫بشربة أخيرة!‬‫ٍ‬ ‫ماتوا ثالثتهم عطشى‪ُ ،‬ك ُّل ٍ‬
‫واحد منهم قد آثر أخاه‬
‫فالل ُه َّم تق ّب ْل منهم إيثارهم‪ ،‬وجهادهم‪ ،‬ودماءهم‪ ،‬وا ِ‬
‫ِجز ِه ْم خي َر‬
‫جزيت سلفاً عن َخلف!‬‫َ‬ ‫ما‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أن رجالهم فقط قد حازُوا بمجد اإليثار دوناً‬


‫تحسب َّ‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫وإن َ‬
‫عن نسائهم‪،‬‬
‫ثك بإيثار أ ُ ّم َك عائشة!‬
‫فهذا أوا ُن أن أُح ِّد َ‬
‫َّ‬
‫الخطاب‪ ،‬قال البنه عبد اهلل‪:‬‬ ‫لما ُطعِ ن أمير المؤمنين عمر بن‬
‫َّ‬
‫الخطاب‬ ‫اذهب إلى أ ُ ِّم المؤمنين عائشة‪ ،‬فقل‪ :‬يقرأ عمر بن‬
‫السالم‪،‬‬ ‫عليك َّ‬
‫صاحبي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ث َّم سلها أن أ ُ ْد َفن مع‬
‫كنت أريده لنفسي‪ ،‬فألوثر َّنه اليوم على نفسي‪.‬‬ ‫فقالت‪ُ :‬‬
‫ْ‬

‫‪88‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فل َّما أقبل‪ ،‬قال له‪ :‬ما لديك؟‬


‫لك يا أمير المؤمنين‪.‬‬ ‫قال‪ :‬أذِ نَ ْت َ‬
‫إلي من ذلك المضجع‪،‬‬ ‫فقال ُعمر‪ :‬ما كان شيء أه َّم َّ‬
‫الخطاب‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فإذا ُقبِضت فاحملوني‪ ،‬ث َّم سلِّموا‪ ،‬ث َّم قل‪ :‬يستأذن عمر بن‬
‫وإل فر ُّدوني إلى مقابر المسلمين!‬ ‫فإن أذنت لي فادفنوني‪َّ ،‬‬
‫تعجب في هذه الواقعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وإنك وا ِ‬
‫هلل ال تدري ممن‬ ‫َ‬
‫من ُعمر الخليفة الذي كان يمكنه أن يُصدِ َر أمراً رئاسياً يُح ِّد ُد‬
‫فيه موض َع دفنِه‪،‬‬
‫النبي  يقو ُل‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫فهما صاحبيه‪ ،‬وكثيراً ما كان‬
‫بكر و ُعمر!‬
‫ودخلت أنا وأبو ٍ‬
‫ُ‬ ‫بكر و ُعمر‪،‬‬
‫خرجت أنا وأبو ٍ‬ ‫ُ‬
‫واألدب‬
‫ُ‬ ‫ولكنّه راعى حقوق الملك ّية لل ّرع ّية‪ ،‬فهذه ُحجرة عائشة‪،‬‬
‫أن يستأذنها!‬
‫خشي أن يكون هذا اإلذن حيا ًء منه وهو‬ ‫َ‬ ‫حتى بعدما أَذِ نَ ْت له‪،‬‬
‫حي‪،‬‬
‫ّ‬
‫نعشه أن يستأذِ نوا م ّر ًة أخرى له‬
‫فطلب منهم إذا حملوه على ِ‬ ‫َ‬
‫وهو ميت!‬
‫نت دفنوه مع صاحبيه‪ ،‬وإال فمدفنه في البقيع!‬ ‫هي أَذِ ْ‬‫فإ ْن َ‬
‫تعجب من عائشة التي كانت تُمنّي نفسها أن تُدفن هناك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أم‬
‫الحجرة زوجها وأبوها!‬ ‫فهي أوالً وأخيراً ُحجرتها‪ ،‬وثانياً في ُ‬
‫الخطاب على نفسها بهذا الجوار المبارك!‬ ‫ّ‬ ‫آثرت ُعمر بن‬ ‫ْ‬ ‫ولكنّها‬
‫صحب ًة في الحياة وفي الممات!‬ ‫بقي الثالث ُة ُ‬ ‫وهكذا َ‬
‫وليس هذا ُك ُّل إيثارها رضي اهلل عنها وإن كان أرفعه!‬ ‫َ‬
‫دخ َل عليها مسكي ٌن فسألها وهي صائمة وليس في بيتها َّإل‬

‫‪89‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رغيف!‬
‫فقالت لموالةٍ لها‪ :‬أعطيه إ َّياه‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬ليس لك ما تفطرين عليه؟‬
‫فقالت‪ :‬أعطيه إ َّياه‪.‬‬
‫بيت من األنصار شا ًة!‬ ‫فل َّما أمسوا أهدى لهم أهل ٍ‬
‫فدعت عائشة خادمتها فقالت‪ :‬كلي مِ ن هذا‪ ،‬فهذا خي ٌر مِ ن رغيفك!‬
‫يا لإليثار يا عائشة‪ ،‬يا لإليثار!‬
‫والصائ ُم أحو ُج ما يكون إلى طعام‪ ،‬وليس في البيت‬ ‫ّ‬ ‫هي صائمة‪،‬‬
‫إال رغيف!‬
‫تطلب من خادمتها أن تُعطيه إياه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولكنها‬
‫المغرب منادياً‪ :‬اهلل أكبر!‬
‫ِ‬ ‫بأي شيءٍ تُفطر إذا ارتف َع أذان‬ ‫لم تُف ّك ْر ّ‬
‫ابتغت وجهه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫تعرف أن اهلل األكبر لن يتركها وقد‬ ‫ُ‬ ‫ولكن ألنها كانت‬
‫وكان ر ُّبها سبحانه عند ُح ْسنِ ّظنها به! أبدلها بال ّرغيف اليتيم شا ًة‪،‬‬
‫أن عوض اهلل إذا َّ‬
‫حل‬ ‫فنادت على خادمتها تُطعمها معها‪ ،‬وتُخبرها َّ‬ ‫ْ‬
‫أنسى اإلنسان ما فق َد!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الصحيح موقف يدعو إلى ال َع َج ِب‪،‬‬


‫ِ‬ ‫إن كان إيثا ُر اإلنسان‬
‫المريض أدعى!‬
‫ِ‬ ‫فإن إيثا َر‬
‫َّ‬
‫مرض عبد اهلل بن عمر فاشتهى عن ًبا‪،‬‬
‫فأرسلت صف َّي ُة زوجتُه خادمهم فاشترى عنقو ًدا بدرهم‪،‬‬

‫‪90‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ال حتى باب البيت!‬ ‫فت ِب َع الخاد ُم سائ ً‬


‫السائل‪ :‬األجر يرحمكم اهلل!‬ ‫فلما دخ َل الخاد ُم بالعنب‪ ،‬قال َّ‬ ‫َّ‬
‫فقال ابن عمر‪ :‬أعطوه إ َّياه‪.‬‬
‫فأعطوه إ َّياه‪...‬‬
‫أرسلت بدرهم آخر‪ ،‬فاشترت عنقو ًدا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ث َّم‬
‫فتب َع الخاد ُم ذات السائل!‬
‫السائل‪ :‬األجر يرحمكم اهلل‪.‬‬ ‫فل َّما دخل الخاد ُم بالعنب‪ ،‬قال َّ‬
‫فقال ابن عمر‪ :‬أعطوه إ َّياه‪.‬‬
‫فأعطوه إ َّياه‪...‬‬
‫تصيب‬
‫ُ‬ ‫دت ال‬
‫السائل‪ ،‬فقالت‪ :‬واهلل إن ُع َ‬ ‫فأرسلت صف َّية إلى َّ‬
‫منه خي ًرا أب ًدا‪.‬‬
‫أرسلت بدرهم آخر فاشترت به!‬ ‫ْ‬ ‫ث َّم‬
‫لإليثار يا ابن ُعمر‪ ،‬يا لإليثار!‬ ‫ِ‬ ‫يا‬
‫والمريض بالكاد يشتهي طعاماً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مريض‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫هو‬
‫فإذا ما اشتهاه كان ذاك عيداً عند أهل بيته‪،‬‬
‫عمر باألساس من فقراء المسلمين‪،‬‬ ‫واب ُن ٍ‬
‫فال تقُل‪ :‬هو قطف عنب!‬
‫عنب يستطي ُع أن يشتري؟‬ ‫نفس َك كم قطف ٍ‬ ‫بل َس ْل َ‬
‫ثم ها هو لما صار العنب بين يديه‪ ،‬يعطيه للسائل الذي‬
‫ال يعرفه‪،‬‬
‫مريض يُؤ ِث ُر صحيحاً على نفسه!‬ ‫ٌ‬

‫‪91‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ّاس إلى المال‪ ،‬فإذا وصلهم تذ ّكروا المساكين‬ ‫كانوا أحوج الن ِ‬
‫ونسوا أنفسهم!‬
‫أراد عمر بن الخطاب أن يمتح َن إيثار أصحابه‪،‬‬
‫فأخ َذ أربعمائة دينار‪ ،‬فجعلها في ص َّرة‪،‬‬
‫ث َّم قال للغالم‪ :‬اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الج َّراح‪،‬‬
‫ث َّم تل َّكأ ساع ًة في البيت عنده حتى تنظ َر ماذا يصنع بها‪.‬‬
‫فذهب بها الغالم إليه‪ ،‬فقال‪ :‬يقول لك أمير المؤمنين‪:‬‬
‫اِجع ْل هذه في بعض حاجتك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬وصله اهلل ورحمه‪.‬‬
‫السبعة إلى فالن‪،‬‬ ‫ث َّم قال‪ :‬تعالي يا جارية‪ ،‬اذهبي بهذه َّ‬
‫وبهذه الخمسة إلى فالن‪ .‬حتى أنفدها‪،‬‬
‫أعد مثلها‬‫فرجع الغالم إلى عمر‪ ،‬فأخبره فوجده قد َّ‬
‫لمعاذ بن جبل‪.‬‬
‫اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وقال‪:‬‬
‫وتل َّكأ في البيت عنده ساعة حتى تنظر ماذا يصنع‪.‬‬
‫فذهب بها إليه‪ ،‬فقال‪ :‬يقول لك أمير المؤمنين‪:‬‬
‫اجع ْل هذه في بعض حاجتك‪.‬‬
‫فقال‪ :‬رحمه اهلل ووصله‪.‬‬
‫وقال‪ :‬يا جارية‪ ،‬اذهبي إلى بيت فالن بكذا وبيت فالن بكذا‪.‬‬
‫فاطلعت امرأة معاذ فقالت‪ :‬ونحن واهلل مساكين فأعطنا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ولم يبق في الخرقة َّإل ديناران فأعطاهما!‬

‫‪92‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فس َّر بذلك عمر‪ ،‬وقال‪ :‬إ َّنهم‬ ‫فرجع الغالم إلى عمر فأخبره‪ُ ،‬‬
‫إخوة بعضهم مِ ن بعض!‬
‫إصالح شأنه به‪،‬‬‫ِ‬ ‫الفقير بالمالِ إذا جاءه‪ ،‬فإنه يُسر ُع في‬
‫ِ‬ ‫لفرح‬
‫ِ‬ ‫يا‬
‫ويص ُل‬‫يشتري ما ينقصه‪ ،‬ويأكل ما كان يشتهيه‪ ،‬يس ُّد َديْناً‪ِ ،‬‬
‫رحماً!‬
‫هذا هو شأن النّاس‪ ،‬ولكنّهم الصحابة‪ ،‬كأنهم مالئكة وليسوا‬
‫من النّاس!‬
‫ال يتذ ّك ُر معا ٌذ أنه فقير إال عندما ذ ّكرته زوجته!‬
‫أول ما وقع المال بين يديه تذ ّكر المساكين‪،‬‬
‫فجعل يُرس ُل إليهم منه‪،‬‬
‫الفضة!‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫صحاف من‬ ‫كتب بماء ال ّذهب على‬‫إيثار يُ ُ‬

‫ادس‪:‬‬
‫الس ُ‬
‫رس ّ‬
‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫تحس ُب أن إيثارهم كان محصوراً بالنّاس‪،‬‬


‫َ‬ ‫كنت‬
‫إ ْن َ‬
‫فهذا أوان أخبرك فيه أنهم آثروا حتى الحيوان على أنفسهم!‬
‫في طريق عمر بن الخطاب إلى فتح بيت المقدس‪ ،‬رافقه‬
‫محمد بن مسلمة‪،‬‬
‫ئاسي‪ :‬هو ومحمد بن مسلمة والنّاقة!‬‫هذا هو موكب عمر ال ّر ّ‬
‫يركب حيناً‪ ،‬ويُركِ ُب محمد بن مسلمة حيناً‪ ،‬ويد ُع‬
‫ُ‬ ‫فكان عمر‬
‫النّاقة تسي ُر وحدها حيناً!‬
‫كانت داب ًة قد خُ لقت باألصل للركوب‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فهي وإن‬

‫‪93‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫إال أن عمر اعتبرها رفيق سفر ال مج ّرد راحلة!‬


‫كان يمشي على قدميه‪ ،‬يُؤثر ناق ًة على نفسه لترتاح!‬
‫عجبت من فعل عمر‪ ،‬وهو نهاية المطاف ُعمر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فإ ْن‬
‫تعج ْب معي على إيثار ِغلمان المســلمين ومواليهم في ذاك‬ ‫فتعال ّ‬
‫الزمــان!‬
‫ضيعة له‪ ،‬فنزل على نخيل قوم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫خرج عبد اهلل بن جعفر إلى‬
‫وفيه غالم أسود يعمل فيه‪،‬‬
‫كلب ودنا مِ ن الغالم‪،‬‬
‫إذ أتى الغالم بقوته فدخل البستان ٌ‬
‫بقرص فأكله‪ ،‬ث َّم رمى إليه ال َّثاني وال َّثالث‬‫ٍ‬ ‫فرمى إليه الغالم‬
‫فأكله‪،‬‬
‫وعبد اهلل ينظر إليه‪ ،‬فقال‪ :‬يا غالم‪ ،‬كم قوتك َّ‬
‫كل يوم؟‬
‫قال‪ :‬ما رأيت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ف ِل َم آثرت به هذا الكلب؟!‬
‫قال‪ :‬ما هي بأرض كالب‪ ،‬إ َّنه جاء مِ ن مسافة بعيدة جائ ًعا‪،‬‬
‫فكرهت أن أشبع وهو جائع‪.‬‬ ‫ُ‬
‫قال‪ :‬فما أنت صانع اليوم؟!‬
‫قال‪ :‬أطوي يومي هذا‪.‬‬
‫فقال عبد اهلل بن جعفر‪ :‬أُالم على َّ‬
‫السخاء!‬
‫إن هذا الغالم ألسخى م ِّني‪.‬‬ ‫َّ‬
‫فاشترى البستان والغالم وما فيه مِ ن اآلالت‪ ،‬فأعتق الغالم‬
‫ووهبه منه!‬
‫يا لإليثار يا غالم‪ ،‬يا لإليثار!‬
‫وحي ٌد في ب ّر ٍية‪ ،‬قوته فيها ثالثة أرغفة‪ ،‬رمى بها إلى الكلب‪،‬‬

‫‪94‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أن هذه األرض ال تأتيها الكالب عاد ًة‪،‬‬


‫ألنه عل َم ّ‬
‫وهذا الكلب إنما وصل إلى هنا جائعاً و ُمجهداً!‬
‫فآث َر أن يجوع هو على أن يشب َع الكلب!‬
‫الضيوف‪ ،‬تخ ّي ْل!‬
‫لقد عامله معاملة ُّ‬
‫ثيب عليها!‬
‫ويا لعبد اهلل بن جعفر كيف يُكر ُم مواقف اإليثار ويُ ُ‬
‫هكذا هم النُّبالء يُق ّدرون في اآلخرين نُبلهم!‬
‫ووهب له البستان!‬
‫َ‬ ‫فاشترى البستان‪ ،‬والغالم‪ ،‬ثم أعتقه‬

‫‪95‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪20‬‬

‫امةِ﴾‬ ‫ِ‬ ‫﴿ِإَون َما تُ َو ّفَ ْو َن أُ ُج َ‬


‫ور ُك ْم يَ ْو َم الْق َي َ‬ ‫َّ‬

‫هذه ال ُّدنيا دا ُر األشياء المنقُوصة‪،‬‬


‫قد تمشي وال ت َِص ُل‪،‬‬
‫صول!‬ ‫عي ال على ال ُو ُ‬‫الس ِ‬
‫ولكن األج َر على َّ‬ ‫ّ‬
‫وقد تزر ُع الخي َر وال يُثم ُر‪،‬‬
‫الخير عبادة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ولكن زراعة‬ ‫َّ‬
‫يستحقُّون التتوي َج سيعتلُون المِ ّ‬
‫نصات‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ليس ك ُّل الذين‬
‫وال ك ُّل المعروفي َن في َّ‬
‫السماءِ َمع ُروفو َن في ال ُّدنيا‪،‬‬
‫وال ك ُّل الذيــن يُح َملــون إلــى الجنــةِ فــي التّوابيــت ســتكون جنازاتهــم‬
‫حاشــدة!‬
‫بطوالت لن يكون معها نياشين‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ث ّمة‬
‫انتصارات لن يصح َبها التُّصفيق‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ث ّمة‬
‫عبادات عظ َمت ُها أن تكون في الخفاء‪،‬‬‫ٌ‬ ‫ث ّمة‬
‫ث ّمة شيءٌ يُه ِّون فوات الجزاءِ في ال ُّدنيا‪،‬‬
‫إ ّنه قول ر ّب َك‪ :‬خُ ُذوا عبدي إلى الجنّة!‬

‫‪96‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪21‬‬

‫زنى رج ٌل من اليهودِ وامرأةٌ في المدينة‪،‬‬


‫النبــي‪ ،‬فإ ّنــه‬
‫ِّ‬ ‫بعضهــم لبعــض‪ :‬اِذهبُــوا بنــا إلــى هــذا‬
‫فقــال اليهــو ُد ُ‬
‫مبعــوثٌ للتَّخفيــف‪،‬‬
‫فــإذا أفتانــا بفُتيــا غيــر ال َّرجــم قبلناهــا‪ ،‬واِحت ََج ْجنــا بهــا عنــد اهلل‪،‬‬
‫بنبــي مــن أنبيائــك!‬
‫ٍّ‬ ‫وقلنــا‪ُ :‬فتينــا‬
‫النبي  وهو جالس في المسجد مع أصحابه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫فأتوا‬
‫رجل وامرأةٍ زنيا؟!‬
‫فقالوا‪ :‬يا أبا القاسم ما ترى في ٍ‬
‫البيت الذي يتدارسون فيه التوراة‪،‬‬
‫َ‬ ‫فلم ي ُكلِّمهم حتى أتى‬
‫فوقف على الباب وقال‪ :‬أنشدكم بالذي أنز َل التوراة على موسى‪،‬‬
‫ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أُحص َن؟!‬
‫حمار ويُطاف بهما!‬
‫ٍ‬ ‫قالوا‪ :‬يُح َّم ُم وجهه‪ ،‬ويُجلد‪ ،‬ويُحم ُل على‬
‫النبي  ساكتاً‪َّ ،‬‬
‫ألح عليه النَّشدة!‬ ‫ُّ‬ ‫شاب منهم‪ ،‬فلما رآه‬
‫ٌ‬ ‫وسكت‬
‫َ‬
‫فقال‪ :‬الل ُه َّم إ ْذ أنشدتنا فإ ّنا نج ُد في التوراة ال َّرجم!‬
‫هلل ع َّز وجل؟‬ ‫النبي ‪ :‬فما أ ّول ما أرخصتم أم َر ا ِ‬
‫ُّ‬ ‫فقال‬
‫ملك من ملوكنا‪ ،‬فا ُ َّخ َر عنه ال َّرجم‪،‬‬
‫قرابة من ٍ‬
‫ٍ‬ ‫فقال‪ :‬زنى رج ٌل ذو‬
‫ـاس‪ ،‬فــأراد رجمــه‪ ،‬فحــا َل قو ُمــه دونــه‪،‬‬ ‫ثــم زنــى رج ـ ٌل مــن عـ ِ‬
‫ـوام ال َّنـ ِ‬
‫وقالــوا‪:‬‬
‫ِ‬
‫صاحبُنا حتى يجي َء بصاحبكم فيرجمه!‬ ‫ال يُرجم‬
‫فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم!‬
‫النبي ‪ :‬فإني أحكم بما في التوراة! وأم َر برجمهما‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫فقال‬

‫‪97‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ــدى َونُ ٌ‬
‫ــور‬ ‫ِيهــا ُه ً‬
‫ــو َراةَ ف َ‬
‫اتل ْ‬ ‫فأنــزل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬إنَّــا أَ َ‬
‫نز ْلَــا َّ‬
‫ِ‬
‫َّ ُّ َ َّ َ َ ْ َُ‬ ‫َْ ُ‬
‫ــم ب ِ َهــا انلبِيــون الِيــن أســلموا﴾‬
‫ك ُ‬ ‫ي‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫لألسف إن كثيراً من المسلمين ضعفاء نُفوس‪،‬‬


‫يتص ّرفــون فــي أمــور الحــال والحــرام كمــا تص ـ َّرف اليهــود فــي هــذه‬
‫القصــة‪،‬‬
‫صــن‪ :‬الرجــم بالحجــارة حتــى‬ ‫اليهــو ُد يعر ُفــون مــا هــو حـ َّـد الزَّانــي ال ُم ْح َ‬
‫الموت‪،‬‬
‫مكتوب عندهم في التوراة!‬ ‫ٌ‬ ‫وهو‬
‫صلوا من النبي  على فتوى تُناسب هواهم‪،‬‬ ‫يح ِّ‬
‫ولكنّهم أرا ُدوا أن ُ‬
‫نبي وعصبُوها برأسه‪،‬‬ ‫فإن أفتى لهم بما يرضيهم قالوا‪ :‬هو حكم ٍّ‬
‫وإن لم يواف ْق هواهم بحثوا عن فتوى أخرى‪،‬‬
‫أن أكل ال ِّربــا‬ ‫وهــذا حــال بعضنــا لألســف هــذه األيــام‪ ،‬يعـ ُ‬
‫ـرف أح ُدنــا َّ‬
‫حــرام‪،‬‬
‫ولكنه يري ُد أن يأكله بفتوى ليري َح ضميره إن كان عنده ضمير!‬
‫شيخ إلى شيخ ومن فقيه إلى فقيه‪،‬‬ ‫فيبقى ينتق ُل من ٍ‬
‫حتــى يجــد مــن لــه اجتهــاد أعــوج فــي المســألة‪ ،‬فيجعــل مــن فتــواه‬
‫الشــاذة مســألة ِخالف ّيــة‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬هذه فتوى َعال ٍِم وليس من شأني‪،‬‬

‫‪98‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أن اهلل تعالى ُم ّطلع على النَّوايا وما في ُّ‬


‫الصدور‪،‬‬ ‫نسي َّ‬
‫َ‬
‫الحجاب فريضة‪،‬‬ ‫أن ِ‬ ‫ُ‬
‫وتعرف الواحدةُ منا ّ‬
‫وأنها ليست من مسائل ِاالجتهاد أساساً ليُقال إنها موضع إجماع‪،‬‬
‫والصيام‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫كالصالة‬‫َّ‬ ‫ثابت في القرآن‬‫نص ٌ‬ ‫وإنما هي ٌّ‬
‫فتبقــى تنتق ـ ُل مــن منشــور إلــى منشــور‪ ،‬ومــن «فيديــو» إلــى «فيديــو»‬
‫حتــى تعثــر علــى بغيتهــا‪،‬‬
‫الشهرة كالبائل في ماء زمزم‪،‬‬ ‫ث ّمة من أرا ُدوا ّ‬
‫رأي واجتهاد‪،‬‬ ‫فخالَفُوا صريح القرآن ليُقال عنهم أصحاب ّ‬
‫رأي ال ِن َّية قبل أن تخطو الخطوات‪،‬‬ ‫أن اهلل قد ٍ‬ ‫تنسى ّ‬
‫ـب أنــه قــد َسـ ِل َم‪ ،‬وأن الــوزر علــى‬‫مــن أخــذ بالفتــاوى الشــاذة وهــو يحسـ ُ‬
‫مــن أفتــى وهــو بــراء‪،‬‬
‫فهو صاحب ِو ْز َرين‪ :‬وزر عدم االنصياع ألوامر اهلل‪،‬‬
‫ووزر االحتيال واالستهانة برقابة اهلل تعالى!‬
‫وفاع ُل المعصيةِ وهو عال ٌم حرمتها ولكنّه يفعلها ضعفاً وتقصيراً‪،‬‬
‫خير ألف م َّرةٍ ممن يحللها ثم يقترفها‪،‬‬
‫ليست واحدة!‬ ‫ْ‬ ‫أن النَّوايا‬
‫فهما وإن اشتركا في المعصية إال ّ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫اإلسال ُم واح ٌد ولكن َّ‬


‫الشرائ ُع مختلفة‪،‬‬
‫بمعنى أن األنبياء جميعاً قد جاؤوا بدين اإلسالم والتَّوحيد‪،‬‬
‫ولكن العبادات ليس بالضرورة أن تكون واحدة‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫والحــا ُل والحــرا ُم بعضــه واحــد بيــن ك ّل الشــرائع‪ ،‬وبعضــه يختلــف‬


‫بيــن شــريعة وأخــرى‪،‬‬
‫فالســجود للتَّكريــم دون العبــادة لآلخريــن كان ُمباحــاً فــي َّ‬
‫الشــرائع‬ ‫ُّ‬
‫الســابقة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وقــد ســج َد إخــوةُ يوســف وأبويــه لــه تكريم ـاً‪ ،‬ولكــن هــذا مح ـ َّرم فــي‬
‫شــرعنا!‬
‫فإن أخذ الغنائم كانت ُمح َّرم ًة في َّ‬
‫الشرائع السابقة‪،‬‬ ‫وكذلك ّ‬
‫ولكن اهلل تعالى قد أحلَّها لنا عن دون األمم‪،‬‬
‫رائع التي قبلها‪،‬‬
‫الش ِ‬ ‫فإن شريعة اإلسالم ناسخ ٌة لك ّل َّ‬ ‫لهذا َّ‬
‫النبي ‪،‬‬‫ُّ‬ ‫المسلم إال ما جاء به‬
‫ِ‬ ‫فترض على‬‫ُ‬ ‫فال يُ‬
‫النبي !‬ ‫ُّ‬ ‫المسلم إال ما نهى عنه‬
‫ِ‬ ‫وال يُح َّر ُم على‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫نظ ْر إلى قول اليهود عن النبي ‪ :‬فإنه مبعوثٌ للتخفيف!‬ ‫اُ ُ‬


‫والشــرائع‪ ،‬فلــن تجــد شــريع ًة أكثــر‬
‫ـت أرجــاء القوانيــن َّ‬ ‫وإنـ َ‬
‫ـك وإ ْن طفـ َ‬
‫ســماح ًة مــن اإلســام‪،‬‬
‫والسماح ُة ليست مفرد ًة مرتبطة بإباحة كل شيء‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وإنما هي مرتبطة بالرحمة الباطنة في كل تشريع!‬
‫الســماحة ال تتحقــق إال‬
‫الســماحة‪ ،‬بــل إن َّ َّ‬
‫يتعــارض مــع َّ‬
‫ُ‬ ‫فالنهــي ال‬
‫ُّ‬
‫بجملــة منه َّي ٍ‬
‫ــات‪،‬‬
‫بعض المحظور‪،‬‬ ‫بشري دون أن يكون فيه ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫وال يقوم مجتمع‬

‫‪100‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وكذلك فإن السماحة ال تتحقق إال بجملة أوامر‪،‬‬


‫بشري إال وفيه أمو ٌر يجب أن يقوم بها النَّاس‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫وال يوجد مجتم ٌع‬
‫وإنمــا ســماحة اإلســام العظيــم أنهــا تُراعــي الفــرد‪ ،‬فــا تجعلــه‬
‫ُ‬
‫ينهشــه‪،‬‬ ‫فريســ ًة للمجتمــع‬
‫وتراعي المجتمع دون أن تجعل الفرد يستبيحه!‬
‫ـظ للمجتمع‬ ‫ـظ للفــرد كرامته‪ ،‬وتحفـ ُ‬ ‫قوانيــن قائمـ ٌة علــى الموازنــة‪ ،‬تحفـ ُ‬
‫هيبتَــه وحرمتَه!‬
‫ف بغريزة اإلنسان وال تكبتها‪،‬‬ ‫تعتر ُ‬
‫ِ‬
‫ولكنهــا ال تطلقهــا بصــورة حيوانيــة تنتقــص مــن كرامــة اإلنســان‬
‫وفطرتــه!‬
‫حتى الحدود التي هي ليست الشريعة كما يعتقد البعض‪،‬‬
‫وإنما هي نظام العقوبات في الشريعة‪،‬‬
‫تجد ال َّرحمة تنبع من عقوباته حتى!‬
‫الســطح َّية قاســياً‪ ،‬فإ ّنــه بالنَّظــرة‬
‫ـإن حـ َّـد ال َّرجــم الــذي يبــدو بالنَّظــر ِة َّ‬ ‫فـ َّ‬
‫المتعمقــة عدالً وقســطاً‪،‬‬
‫بالســطحية تنظ ـ ُر بعيــن العطــف إلــى الجانــي‪ ،‬ولكــن مــاذا عــن‬ ‫إ ّنــك َّ‬
‫ال َمج ِنـ ِّـي عليــه؟!‬
‫مسهم القر ُح في ِعرض أ ُ ِّمهم!‬ ‫عرضه‪ ،‬وأوالد َّ‬ ‫ُ‬ ‫زوج استبيح‬ ‫ماذا عن ٍ‬
‫ربت في أساس وجودها؟!‬ ‫ض ْ‬ ‫ماذا عن األُسرة التي ُ‬
‫ـان‪ ،‬أنــا أشــاركك األسـ َ‬
‫ـف‬ ‫الســطحية تتعاطــف مــع فـ ٍ‬
‫ـرد جـ ٍ‬ ‫ـت بالنظــرة َّ‬ ‫أنـ َ‬
‫والتَّوج ـ َع عليه‪،‬‬
‫ولكنّي بالنَّظر ِة العميقة أتعاطف مع األبرياء َّ‬
‫ضد الجاني‪،‬‬
‫رب هو أعل ُم وأحك ُم بما يقيم اإلنسان والمجتمع‪،‬‬
‫ثم هو تشريع ٍّ‬

‫‪101‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وما اُشتُقَّ اسم اإلسالم إال من التسليم‪،‬‬


‫مت له بالوحدانية فسلِّم له بحكمته في التشريع‪،‬‬
‫فمتى ما سلَّ َ‬
‫اعتقدت َ‬
‫أنك أكثر رحمة بالناس من ربهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ومتى ما‬
‫فإسالمك منقوص‪ ،‬وإنسانيتك مش َّوهة‪ ،‬ونظرتك عوراء!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ـرض عضالتــه علــى المســكين‪ ،‬ويتغافـ ُل عــن القـ ّ‬


‫ـوي‬ ‫المجتمـ ُع الــذي يفـ ُ‬
‫هــو مجتمــع ظالــم‪،‬‬
‫والظلم مؤذِ ٌن بخراب العمران كما يقول ابن خلدون‪،‬‬
‫وإن اهلل تعالى ينص ُر الدولة الكافرة العادلة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫على الدولة الظالمة المسلمة كما يقول ابن تيمية!‬
‫يستجيب دعا َء المظلوم الكافر‪،‬‬‫ُ‬ ‫وإن اهلل‬
‫َّ‬
‫الم المسلم ال بغضاً بالمسلم وال ُحباً بالكافر‪،‬‬ ‫الظ ِ‬ ‫على َّ‬
‫وحباً بالعدل كما يقول ابن عثيمين!‬ ‫وإنما بُغضاً بالظلم ُ‬
‫ظلمات يوم القيامة‪،‬‬‫ٌ‬ ‫والظلم فإن الظلم‬ ‫فإياك ّ‬
‫ــاك أن تظلــم فــي األُعطيــةِ‬ ‫أحببــت ولــداً أكثــر مــن ولــد فإ َّي َ‬
‫َ‬ ‫فــإن‬
‫والوص َّيــة‪،‬‬
‫أن اهلل ال يُؤاخــذ المــرء‬
‫ـس َّ‬‫ـت زوجـ ًة أكثــر مــن زوجــة‪ ،‬فــا تنـ َ‬ ‫وإن أحببـ َ‬
‫علــى مــا فــي قلبــه‪،‬‬
‫ولكنه يُحاسبه على الظلم في معاملته‪،‬‬
‫الخراب‪،‬‬‫ظلم مصيرها َ‬ ‫دولة تقوم على الُّ ِ‬ ‫أن ك ّل ٍ‬ ‫وكما َّ‬
‫راب كذلك!‬ ‫الخ ُ‬ ‫الظ ِلم مصيره َ‬ ‫بيت يقوم على ُّ‬ ‫فك ّل ٍ‬

‫‪102‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪22‬‬

‫َ َ ُ ََ ُ ْ َ ً ُ‬
‫آء َيبْكونَ﴾‬ ‫﴿وجآءوا أباهم عِش‬

‫َّماسيح على الفريسةِ بعد ال ِت َهامِ ها‪،‬‬


‫ِ‬ ‫ُدمو ُع الت‬
‫وقو ُل الج ّدات‪ :‬ضربنِي وبكى‪ ،‬وسبقنِي واشتكى!‬
‫إصدار األحكام‪،‬‬
‫ِ‬ ‫فال تتس ّر ْع في‬
‫وال تتعج ْل في إبداءِ التعاطف‪،‬‬
‫ثياب المظلومين‪،‬‬ ‫يلبس َّ‬
‫الظال ُمون َ‬ ‫ُ‬ ‫كثيراً ما‬
‫ص ُهم فهم إ ّما أبطا ٌل أو ضحايا!‬ ‫قص َ‬
‫َّاس حين ير ُوون َ‬ ‫والن ُ‬
‫الغادِ رو َن يُج ِي ُدون الحديثَ عن الوفاء‪،‬‬
‫وص أبلغ ما يكونون حين يتح ّدثُو َن عن األمانة‪،‬‬ ‫واللص ُ‬‫ُ‬
‫وخلف الوجوه البريئة قد تختب ُئ القلوب القذرة‪،‬‬
‫فانت ِب ْه ج ّيداً‪:‬‬
‫الكال ُم الجمي ُل أحياناً يكون مج ّرد قِ ناع‪،‬‬
‫نصب!‬‫وال ُّدمو ُع ُع ّدةُ ْ‬

‫‪103‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪23‬‬

‫النبي  وقال له‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫األنصاري إلى‬


‫ِّ‬ ‫حاطب‬
‫ٍ‬ ‫جاء ثعلب ُة بن‬
‫اهلل أن يرزقني ماالً!‬ ‫يا رسول اهلل ا ُ ْد ُع َ‬
‫َ‬
‫ويحك يا ثعلبة‪،‬‬ ‫النبي ‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫كثير ال تُطيقه!‬ ‫قليل تُؤدي ُشكره‪ ،‬خير من ٍ‬
‫فعاو َده ثعلبة م َّر ًة أخرى يسألُه أن يدعو له بالمال‪،‬‬
‫نبي اهلل؟‬
‫ترضى أن تكون مثل ِّ‬ ‫النبي ‪ ،‬أما َ‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫فض ـ ًة وذهب ـاً‬
‫ـئت أن تســي َل معــي الجبــال َّ‬ ‫نفســي بيــده لــو شـ ُ‬ ‫فوالــذي ِ‬
‫ـالت!‬
‫لسـ ْ‬
‫دعوت اهلل أن يرزقني ماالً‪،‬‬
‫َ‬ ‫بعثك بالحق لئن‬ ‫َ‬ ‫فقال ثعلبة‪ :‬والذي‬
‫كل ذي حقٍّ حقَّه!‬ ‫ألوتين َّ‬
‫َّ‬
‫النبي ‪ :‬الل ُه َّم ا ُ ْرزُق ثعلب َة ماالً‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقال‬
‫فرز َق اهلل ثعلبة ماالً‪ ،‬فاتَّخ َذ غنماً‪،‬‬
‫وضاقت عليه المدينة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فنمت كما ين ُمو ال ُّدو ُد من البَركة‪،‬‬ ‫ْ‬
‫واد من أوديتِها‪،‬‬ ‫فانتق َل منها إلى ٍ‬
‫جماعة ويترك ما سواهما‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الظه َر والعص َر في‬‫حتى جع َل يُصلّي ُّ‬
‫ترك صالة الجمعة!‬ ‫وغن ُمه ال يزال ينمو ويتكاثر حتى َ‬
‫النبي ‪ :‬ما فع َل ثعلبة؟‬ ‫ُّ‬ ‫فسأ َل‬
‫وضاقت عليه المدينة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فقالوا‪ِ :‬اتَّخ َذ غنماً‪،‬‬
‫َ‬
‫تــرك صــاة‬ ‫وأخبــ ُروه بخبــره كيــف تــرك صــاة الجماعــة أ ّوالً‪ ،‬ثــم‬
‫الجمعــة الحقــاً‪،‬‬
‫النبي ‪ :‬وي َح ثعلبة!‬ ‫ُّ‬ ‫فقال‬

‫‪104‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ْ َ َ َ ً‬
‫ـة ُت َط ّه ُر ُهـ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ ْ‬
‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫د‬‫ص‬ ‫ـم‬‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫و‬‫ـن أ ْم َ‬‫وأنــزل اهلل ع ـ َّز وجـ َّـل قولــه‪﴿ :‬خــذ مِـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ّ‬
‫َوت َزك ِي ِهــم ب ِ َهــا﴾‬
‫رجلين ليج َمعا الزَّكاة‪،‬‬ ‫النبي  ُ‬ ‫ُّ‬ ‫فبعثَ‬
‫الن من بني ُسليم فخذا منهما صدقاتِهما‪،‬‬ ‫وقال لهما‪ُ :‬م َّرا بثعلب َة و ُف ٍ‬
‫بنصاب الزَّكا ِة وكيف َّية استحقاقها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وكتب لهما كتاباً‬ ‫َ‬
‫فانطل َقا حتى أت َيا ثعلب َة‪ ،‬فأقرآه قولِ اهلل تعالى في الزَّكاة‪،‬‬
‫النبي  في نِصابها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وأطلعاه على كتاب‬
‫فقال‪ :‬ما هذه إال جزية! ِانْ َطلِقا حتى تفرغا ثم ُعودا َّ‬
‫إلي!‬
‫فانطل َقا حتى إذا أتيا ال َّرجل من بني ُسليم وطلبا منه الزَّكاة‪،‬‬
‫فقام إلى أفضل إبلِه ثم أعطاهما إ َّياها‪،‬‬
‫عليك ك ُّل هذا! ال نري ُد أن نأخذه!‬ ‫َ‬ ‫يجب‬
‫ُ‬ ‫فقاال‪ :‬ما‬
‫فإن نفسي بهذا ط ّيبة!‬ ‫فقال لهما‪ :‬بلى خُ ذوه َّ‬
‫فأخ ُذوها منه وعادا إلى ثعلبة‪ ،‬فقال‪ :‬أعطوني الكتاب‪،‬‬
‫الجزية!‬ ‫خت ِ‬ ‫فنظ َر فيه ثم قا َل‪ :‬ما هذه إال أ ُ ُ‬
‫ولم يد َفع الزَّكاة ال ُمستحقّة عليه!‬
‫النبي ‪ ،‬فلما رآ ُه َما قال‪ :‬يا وي َح ثعلبة!‬ ‫ِّ‬ ‫فرجعا إلى‬
‫أوحي إليه بما كان!‬ ‫َ‬ ‫قبل أن يكلِّمهما‪ ،‬قد‬
‫وسكت عن ثعلبة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫للسلَمِ ِّي بالبركةِ في ماله‪،‬‬ ‫فدعا ُّ‬
‫ـن آتَانَــا ِمـ ْ‬ ‫َ‬
‫الل لئـ ْ‬ ‫ـد َّ َ‬‫ـن َع َهـ َ‬ ‫ـم َمـ ْ‬ ‫﴿ومِنْ ُهـ ْ‬‫فأنــز َل اهلل تعالــى قولــه‪َ :‬‬
‫ـن‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ َّ َ ُ ْ ْ َ ْ‬ ‫ـن َّ‬ ‫ـن ِمـ َ‬ ‫ونـ َّ‬ ‫َ َ َّ َّ َ َّ َ َ َ ُ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ـن فضلِهِ‬ ‫الِــن فلمــا آتاهــم ِمـ‬ ‫الص ِ‬ ‫فضل ِـهِ لصدقــن ولك‬
‫ْ َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ َ َ َّ ْ َ ُ ْ ُ ْ ُ َ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ً‬ ‫َ ُ‬
‫ـم إِل‬ ‫ـم ن ِفاقــا ِف قلوب ِ ِهـ‬ ‫بِلــوا ب ِـهِ وتولــوا وهــم مع ِرضــون فأعقبهـ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫الل َمــا َو َعـ ُ‬ ‫خلَ ُفــوا َّ َ‬ ‫َ ِْ ََْ َْ ُ َ َ ْ‬
‫ـدوهُ َوب ِ َمــا كنــوا يَكذِبُــون﴾‬ ‫يــوم يلقونــه بِمــا أ‬
‫أقارب ثعلبة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫النبي  رج ٌل من‬ ‫ِّ‬ ‫وكان عند‬

‫‪105‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ويحك يا ثعلبة‪،‬‬‫َ‬ ‫فسم َع اآلية‪ ،‬فخر َج إليه‪ ،‬وقال له‪:‬‬


‫قد أنز َل اهللُ فيك قرآناً‪ ،‬وتال عليه اآلية!‬
‫ّبي  يسألُه أن يقب َل منه الزَّكاة‪،‬‬ ‫فجاء ثعلبة إلى الن ِّ‬
‫النبي ‪ :‬هذا عملك‪ ،‬قد أمرت َُك فلم تُطعني!‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫مات!‬
‫النبي  أن َ‬ ‫ُّ‬ ‫ورج َع ثعلبة بالزَّكا ِة إلى منزله‪ ،‬ولم يلبث‬
‫بكر يسألُه أن يقبلها منه!‬ ‫وجاء ثعلب ُة بالزَّكاة إلى أبي ٍ‬
‫فكيف أقبلُها أنا؟‬ ‫َ‬ ‫فقال له‪ :‬ل ْم يقبلها رسو ُل اهلل  َ‬
‫منك‬
‫َّاس عمر بن الخطاب‪،‬‬ ‫وولي على الن ِ‬‫َ‬ ‫مات أبو بكر‪،‬‬ ‫ثم َ‬
‫وجاء ثعلب ُة إلى ُعمر يسأله أن يقب َل منه الزَّكاة!‬
‫فكيف أقبلُها أنا؟‬
‫َ‬ ‫بكر‪،‬‬
‫النبي ‪ ،‬وال أبو ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له ُعمر‪ :‬لم يقبلها‬
‫مات‪ ،‬وولي األم َر‬ ‫وحكم عمر المسلمين عشر سنوات ثم َ‬
‫عثمان بن عفَّان‪.‬‬
‫وجاء ثعلب ُة إلى عثمان يسألُه أن يقب َل منه الزَّكاة‪،‬‬
‫ـي ‪ ،‬وال أبــو بكـ ٍـر‪ ،‬وال ُعمــر‪ ،‬فكيــف‬ ‫فقــال لــه عثمــان‪ :‬لــم يقبلهــا النبـ ُّ‬
‫أقبلُهــا أنــا؟!‬
‫مات ثعلبة في خالفة عثمان!‬ ‫ث َّم َ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫هذه حادث ٌة مخصوص ٌة ال يص ُّح تعميمها‪،‬‬


‫الذنب عظيماً‪،‬‬
‫ذنب توبة مهما كان هذا َّ‬ ‫واألص ُل َّ‬
‫أن لكل ٍ‬
‫والشرك باهلل أَكبر منه‪،‬‬
‫فما من ذنب إال ِّ‬

‫‪106‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫البديهي أن يكون لِما دونه توبة‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫هلل توبة فمن‬ ‫للشرك با ِ‬ ‫ول َّما كان ِّ‬
‫ذنبك أمام رحمة اهلل تعالى وعفوه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫تستعظ ْم‬ ‫فال‬
‫نفسه الغفور إال للمذنبين أمثالي وأمثالك‪،‬‬ ‫إن اهلل تعالى ما س َّمى َ‬ ‫َّ‬
‫ليتوب ُمسيءُ الليل‪،‬‬
‫َ‬ ‫وإ َّنه ُسبحانه يم ُّد يده بالنَّهار‬
‫ليتوب ُمسيءُ النَّهار‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ويم ُّد يده بالليل‬
‫خطائين‪،‬‬ ‫أل ّنه يعل ُم أن عباده َّ‬
‫الشيطا ُن أن ليس لذنب َ‬
‫ِك توبة!‬ ‫َ‬
‫يوهمك َّ‬ ‫فإياك أن‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫لك ت ُك ْن أغنى الناس‪،‬‬ ‫اهلل َ‬ ‫ض بما قسمه َ‬ ‫ِا ْر َ‬


‫َ‬
‫فإن اهلل ُسبحانه ال يمن ُع من قلَّ ٍة‪ ،‬وال يحر ُم من فقر‪،‬‬
‫كاف ونون‪،‬‬ ‫تنضب‪ ،‬وأمره بي َن ٍ‬ ‫ُ‬ ‫خزائنه مألى ال‬
‫أمر حكمة ُعلو ّية تخفى عنَّا‪،‬‬ ‫ولكنّه سبُحانه جلَّ ْت قدرتُه له في كل ٍ‬
‫ال من سوءِ ظ ِّننَا به!‬ ‫ولو أدركناها الحم َّر ْت وجوهنا خج ً‬
‫الصابرين‪:‬‬ ‫عدة َّ‬ ‫وكما يقو ُل اب ُن الق ِّيم في كتابه َّ‬
‫لبعض النَّاس أنفع‪ ،‬والغِ نى آلخرين أنفع!‬ ‫ِ‬ ‫قد يكون الفق ُر‬
‫والمرض لبعضهم أنفع!‬ ‫ُ‬ ‫لبعضهم أنفع‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الصح ُة‬ ‫كما تكون ِّ‬
‫وأنفع هذه مرتبطة بال ِّدين ال بال ُّدنيا‪،‬‬
‫نش َر بالمناشير‪،‬‬ ‫يحفظ دين العبد أنفع له ولو ُ‬ ‫ُ‬ ‫فك ُّل ما‬
‫ملك ال ُّدنيا‪،‬‬ ‫شر له ولو َ‬ ‫وك ُّل ما أتلف دينَه ٌّ‬
‫البغوي وغيره من أهل الحديث‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫وفي الحديث الذي رواه‬

‫‪107‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫القدسي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫يقو ُل اهلل تعالى في الحديث‬
‫ألفسده ذلك‪،‬‬‫َ‬ ‫إن من عبادي من ال يُصلِحه إال الغنى ولو أفقرته‬ ‫َّ‬
‫ألفسده ذلك‪،‬‬
‫َ‬ ‫وإن من عبادي من ال يُصلِحه إال الفقر ولو أغنيتُه‬ ‫َّ‬
‫ألفســده‬
‫َ‬ ‫الصحــة ولــو أســقمتُه‬
‫وإن مــن عبــادي مــن ال يُصلِحــه إال ِّ‬ ‫َّ‬
‫ذلــك‪،‬‬
‫ألفســده‬
‫َ‬ ‫الســقم ولــو أصححتُــه‬
‫وإن مــن عبــادي مــن ال يُصلِحــه إال َ‬ ‫َّ‬
‫ذلــك‪،‬‬
‫إ ّني أُد ِّب ُر عبادي وأنا بهم خبي ٌر بصي ٌر!‬

‫الدرس الثالث‪:‬‬
‫َّ‬

‫َّاس بال ضوابط‪ :‬العمل ِعبادة!‬ ‫أعجب ما يقولُه الن ُ‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫أن العمـ َل الــذي يُ ِ‬
‫فسـ ُد عبــادةَ ا ِ‬
‫هلل‬ ‫ِطــه َّ‬‫وهــذا قــول صحيــح‪ ،‬وإ ّنمــا ضاب ُ‬
‫هــو عبــادةٌ َّ‬
‫الشــيطان!‬
‫الفجر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫يضبط ُمن ِّبهه على صال ِة‬‫ُ‬ ‫هناك من‬
‫يضبط ُمن ِّبهه على وقت الدوام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وهناك من‬
‫هلل أوالً‪،‬‬
‫وأن أم َر ا ِ‬‫ف أنه عب ٌد قد خُ ِل َق للعبادة َّ‬ ‫يعر ُ‬
‫األ ّول ِ‬
‫آخراً!‬ ‫يحسب أنه قد خُ ِل َق للحراثة فيجعل أمر ا ِ‬
‫هلل ِ‬ ‫ُ‬ ‫وال َّثاني‬
‫هلل أوالً‪،‬‬ ‫يكون العم ُل عبادة عندما نقو ُم بحقِّ ا ِ‬
‫أرض الجليل‪،‬‬ ‫نجاراً في ِ‬ ‫السالم َّ‬ ‫كان المسي ُح عليه َّ‬
‫ولكنّه في المقابل كان يقوم بحقِّ النُّبوة والعِ بادة‪،‬‬
‫نعم على اإلنسانِ أال يكون عال ًة‪،‬‬

‫‪108‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫كسب يده‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وما أكل عب ٌد طعاماً خيراً من أن يأك َل من‬
‫ولكن متى ما كانت الحياةُ كلُّها عمل دون عبادة‪،‬‬
‫ُحلــب طــول‬ ‫األبقــار التــي خُ ْ‬
‫لقــت لت َ‬ ‫ِ‬ ‫فمــا هــي إال حيــاة تُشــبه حيــاة‬
‫العمــر!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫قاص ُرو النَّظر‪ ،‬و َمح ُدو ُدو التَّفكير‪،‬‬‫نحن ِ‬


‫نطلب ما فيه دمارنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكثيراً ما‬
‫ومن تمام اإليمانِ بحكمة اهلل سبحانه أن نعلم‪،‬‬
‫أن ما قضاه اهللُ علينا‪ ،‬وما قس َمه لنا فهو األصلح لحالنا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ورحم َاهلل عمر بن الخطاب ما أفقهه حين قال‪:‬‬
‫لو ُكشفت لنا ُحجب الغيب‪،‬‬
‫لنفسه إال ما اختا َر اهلل له‪،‬‬ ‫ما اختا َر أح ُدنا ِ‬
‫أن ه ّمه أعظم ه ِّم في ال ُّدنيا‪،‬‬ ‫ظن أح ُد محدودي البصيرة ّ‬ ‫َّ‬
‫الحكيم شاكياً ما هو عليه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫شيخ القرية‬ ‫يوم يأتي إلى ِ‬ ‫وكان ك ّل ٍ‬
‫الشي ُخ الحكي ُم أن يُل ِّقنه درساً عمل ّياً‪،‬‬‫فأراد َّ‬
‫ـب مــن كل واحـ ٍـد منهــم أن يكتـ َ‬
‫ـب ه َّمــه فــي‬ ‫جم ـ َع رجــال القريــة وطلـ َ‬
‫ورقــة‪،‬‬
‫صندوق‪،‬‬ ‫ويضع هذه الورقة في ُ‬
‫ـك فاختَـ ْر هم ـاًّ غيــر‬
‫ـاس أمامـ َ‬ ‫ثــم قــال لهــذا َّ‬
‫الشــاكي‪ .‬هــذه همــوم ال َّنـ ِ‬
‫ه ّمــك‪،‬‬

‫‪109‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فجع َل يقرأ ُ ورق ًة ثم يُلقيها ويأخذ غيرها‪،‬‬


‫وهكذا حتى أتى على ك ِّل األوراقِ في ُّ‬
‫الصندوق‪،‬‬
‫ثم قال للحكيم‪ :‬ال أري ُد إال ه ِّمي!‬
‫تس َع ْد!‬
‫لقانع‪ ،‬فاقنَع ْ‬
‫ٍ‬ ‫الحياةُ ال تستقيم إال‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أعطاك ما ليس َ‬
‫لك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أعطاك فقد‬ ‫إن اهلل تعالى إذا‬ ‫َّ‬
‫لك‪،‬‬‫حرمك مما ليس َ‬ ‫َ‬ ‫حرمك فقد‬ ‫َ‬ ‫وإذا‬
‫نعت فاص ِب ْر‪،‬‬ ‫عطيت فاش ُك ْر‪ ،‬وإن ُم َ‬ ‫َ‬ ‫فإن أ ُ‬
‫والشك ُر عبادتان قلب َّيتان أ ّوالً قبل أن يكونا سلوكاً‪،‬‬ ‫والصب ُر ُّ‬ ‫َّ‬
‫الشكر أن يكون سلوكاً‪،‬‬ ‫على أن من تمام ُّ‬
‫فشكر المال مساعدة الفقراءِ فيه‪،‬‬
‫الضعفاء‪،‬‬
‫الصحة إعانة ُّ‬ ‫وشكر ّ‬
‫فيع قضاء حوائج النَّاس‪،‬‬ ‫وشكر المنصب ال َّر ِ‬
‫وشكر العلم إرشاد النَّاس وتعليمهم‪،‬‬
‫تسخ ُطوا على قدر اهلل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ولو عق َل النَّاس تمام العقل ما‬
‫هلل شيئاً‪،‬‬
‫خط وال َّت َذ ّم َر ال يُغ ِّيرانِ في قدر ا ِ‬ ‫الس َ‬ ‫ألن َّ‬ ‫َّ‬
‫نفسه ُمصيبتين‪،‬‬ ‫خط يجم ُع اإلنسان على ِ‬ ‫بالس ِ‬ ‫وإ ّنما ُّ‬
‫األولى‪ :‬منع ا ِ‬
‫هلل له‪،‬‬
‫والثانية‪ :‬إثم التَّذمر وعدم الرضا!‬
‫َ‬
‫افترضه يجب أن يُؤ َّدى‪،‬‬ ‫أن ِ‬
‫هلل في المال حقُّ‬ ‫على أن يُعلم َّ‬

‫‪110‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫والزَّكاة حقُّ ا ِ‬
‫هلل في المال‪،‬‬
‫فمن بل َغ مالُه نصاب الزَّكاة‪ ،‬ولم يؤ ِّدها كان َّ‬
‫كالسارقين‪،‬‬
‫ألنه سر َق حقَّ المساكينِ والفقراءِ من ماله الذي أعطاه اهللُ إ ّياه!‬

‫السادس‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫قريب ثعلب َة بالخطأ الذي بد َر منه سارع إلى نصيحتِه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عندما َع ِل َم‬
‫الصدي ُق الحقُّ مرآةُ صديقه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫وساعدك على البقاء فيه!‬ ‫صديقك من ج ّم َل لك الخطأ‬ ‫َ‬ ‫وليس‬
‫الصديق الذي يأخذ على َ‬
‫يدك حين تُخطئ‪،‬‬ ‫وأما َّ‬
‫غفلت‪،‬‬
‫َ‬ ‫أنت‬ ‫َ‬
‫غفلتك إذا َ‬ ‫يوقظك من‬
‫سهوت‪،‬‬
‫َ‬ ‫أنت‬
‫نبهك للخطأ إذا َ‬ ‫ويُ َ‬
‫تهت‪،‬‬
‫الطريق إذا أنت َ‬ ‫ويدلُّ َك على َّ‬
‫وقعت‪،‬‬
‫َ‬ ‫أنت‬
‫مستنقع الباطل إذا َ‬ ‫ِ‬ ‫خرجك من‬ ‫َ‬ ‫ويُ‬
‫َ‬
‫أعدائك‪،‬‬ ‫درعك التي تحميك من‬ ‫َ‬ ‫الصدي ُق الحقُّ هو‬ ‫َّ‬
‫نفس َك!‬
‫أنت عد َّو ِ‬‫كنت َ‬ ‫حتى وإن َ‬

‫رس السابع‪:‬‬‫الد ُ‬ ‫َّ‬


‫الحياةُ مواقف‪ ،‬وقد تكون الجنَّة في موقف واحد‪ ،‬والنّار كذلك!‬
‫نفســه ومعــه خلــ ٌق كثيــرون‬ ‫َ‬
‫أهلــك َ‬ ‫وإن إبليــس عليــه لعنــة ا ِ‬
‫هلل قــد‬ ‫َّ‬

‫‪111‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫بموقــف كبيــر واحــد‪،‬‬


‫هو رفض السجود ليس إال‪،‬‬
‫وقد كان من قب ُل يُساب ُق المالئكة في العبادة‪،‬‬
‫فما انقضى الموقف إال وهو شيطان رجيم!‬
‫خل واحد!‬ ‫ِ‬
‫بموقف بُ ٍ‬ ‫وهكذا َ‬
‫هلك ثعلبة‬
‫أمر اهللِ‪،‬‬
‫قدم ُح َّب المالِ على ِ‬ ‫َّ‬
‫رفض أداء الزَّكاة تقصيراً لكان األمر قاب ً‬
‫ال للتَّدارك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وليته‬
‫ولكنه ش َّبه الزَّكاةَ ِ‬
‫بالجزية!‬
‫السبعة الذين يُ ْظلهم اهلل تعالى يوم القيامة‪،‬‬ ‫وإن ثالث ًة من َّ‬
‫َّ‬
‫تحت ظلِّه يوم ال َّ‬
‫ظل إال ظلُّه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بموقف واحد!‬ ‫الشرف العظيم‬ ‫إنما حازوا هذا َّ‬

‫‪112‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪24‬‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ‬


‫﴿ن ُن ق َس ْم َنا بَي َن ُه ْم َمعِيش َت ُه ْم﴾‬

‫تتمن حياةَ ٍ‬
‫أحد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ال‬
‫َّاس‪،‬‬
‫عطي الن ُ‬ ‫أنت تعلم ُما أ ُ َ‬
‫ولكنّك تجهل مما ُح ِر ُموا!‬
‫الكتاب شيءٌ‪ ،‬ومض ُمونُه شيءٌ آخر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫غالف‬
‫رسب فيه كثي ُرون!‬ ‫َ‬ ‫الشهرة امتحا ٌن‬ ‫ُّ‬
‫أعمت كثيرين ع ّما خُ ِلقُوا له!‬ ‫ْ‬ ‫والمنص ٌب فتن ٌة‬‫ِ‬
‫والما ُل ساح ٌر أخذ بل ُ ِّب قارون‪،‬‬
‫ظلمت فيه زُليخ ُة نب ّياً!‬ ‫ْ‬ ‫والجاهُ غواي ٌة‬
‫مكان َ‬
‫لك‪،‬‬ ‫أنسب ٍ‬‫ِ‬ ‫أنت في‬
‫َ‬
‫غيرك‪،‬‬ ‫فال تُقارن حياتَك بحيا ِة‬
‫إن المشغُو َل بال ُمقارنةِ محرو ٌم من َّ‬
‫السكينة!‬ ‫َّ‬

‫‪113‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪25‬‬

‫الصديــق‬
‫الصديقــة بنــت ّ‬ ‫ـاري ومســل ٌم فــي صحيحهمــا عــن ِّ‬ ‫روى البخـ ُّ‬
‫عائشــة‪،‬‬
‫اإلفك من أولها حتى آخرها‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫قالت تروي حادثة‬ ‫ْ‬ ‫أنها‬
‫الل  إ َذا أ َرا َد َس َف ًرا أ ْق َر َع بيْ َن أ ْز َو ِ‬
‫اجهِ ‪،‬‬ ‫كا َن َرسو ُل َّ ِ‬
‫الل  معهُ‪،‬‬ ‫فأيُّ ُه َّن َخ َر َج َس ْه ُم َها َخ َر َج ب َها َرسو ُل َّ ِ‬
‫َاها َف َخ َر َج فِ ي َها َس ْهمِ ي‪،‬‬ ‫فأ ْق َر َع بيْنَنَا في َغ ْز َوةٍ َغز َ‬
‫اب‪،‬‬
‫الح َج ُ‬‫الل  بَ ْع َد ما أُنْ ِز َل ِ‬ ‫َف َخ َر ْج ُت مع َرسولِ َّ ِ‬
‫َف ُكن ُْت أ ُ ْح َم ُل في َه ْو َد ِجي وأُنْ َز ُل فِ يهِ ‪،‬‬
‫ِلك و َق َف َل‪،‬‬‫الل  مِ ن َغ ْز َوتِهِ ت َ‬ ‫َف ِس ْرنَا حتَّى إ َذا َف َر َغ َرسو ُل َّ ِ‬
‫َدنَ ْونَا مِ َن ال َمدِ ينَةِ َقافِ لِي َن‪ ،‬آ َذ َن لَيْل َ ًة بال َّر ِحيلِ ‪َ ،‬ف ُق ْم ُت ِحي َن آ َذنُوا‬
‫بال َّر ِحيلِ ‪،‬‬
‫ضيْ ُت َش ْأنِي أ ْقبَل ْ ُت إلى‬ ‫ش‪َ ،‬فل َ َّما َق َ‬ ‫الجيْ َ‬ ‫شيت حتَّى َجا َوز ُْت َ‬ ‫َف َم ُ‬
‫ص ْد ِري‪،‬‬ ‫َر ْحلِي‪َ ،‬فل َ َم ْس ُت َ‬
‫َف ِإ َذا ِع ْق ٌد لي مِ ن َجز ِْع َظ َف ِار َقدِ انْ َق َط َع‪َ ،‬ف َر َج ْع ُت َفالْتَ َم ْس ُت‬
‫ِعقْدِ ي َف َح َب َسنِي ابْ ِت َغا ُؤهُ‪،‬‬
‫ط ا َّلذِ ي َن َكانُوا يُ َر ِّحلُونِي‪،‬‬ ‫وأَ ْقبَ َل ال َّر ْه ُ‬
‫يري الذي ُكن ُْت أ ْر َك ُب عليه‪،‬‬ ‫احتَ َملُوا َه ْو َد ِجي َف َر َحلُوهُ علَى بَعِ ِ‬ ‫َف ْ‬
‫اك ِخ َفا ًفا لَ ْم يَ ْهبُل ْ َن‪،‬‬ ‫و ُه ْم يَ ْح ِسبُو َن أ ِّني فِ يهِ ‪ ،‬وكا َن ال ِّن َساءُ إ ْذ َذ َ‬
‫ولَ ْم يَغ َْش ُه َّن اللَّ ْح ُم‪ ،‬إ َّنما يَ ْأ ُكل ْ َن ال ُعل ْ َق َة مِ َن َّ‬
‫الط َع ِام‪،‬‬
‫َفل َ ْم يَ ْستَنْكِ ِر ال َق ْو ُم ِخ َّف َة ال َه ْو َد ِج ِحي َن َر َف ُعوهُ َ‬
‫وح َملُوهُ‪،‬‬
‫الج َم َل َف َسا ُروا‪،‬‬
‫الس ِّن‪َ ،‬فبَ َعثُوا َ‬ ‫و ُكن ُْت َج ِاريَ ًة َحدِ يثَ َة ِّ‬

‫‪114‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وليس‬
‫َ‬ ‫ش‪َ ،‬ف ِجئْ ُت َمن َِازلَ ُه ْم‬ ‫الجيْ ُ‬ ‫و َو َج ْد ُت ِعقْدِ ي بَ ْع َد ما ْ‬
‫استَ َم َّر َ‬
‫يب‪،‬‬ ‫ول ُم ِج ٌ‬ ‫ب َها منه ْم َد ٍاع َ‬
‫وظنَن ُْت أ َّن ُه ْم َسيَفْقِ ُدونِي َفيَ ْر ِج ُعو َن إلَ َّي‪،‬‬‫َفتَيَ َّم ْم ُت َمن ِْزلِي الذي ُكن ُْت به‪َ ،‬‬
‫ِس ٌة في َمن ِْزلِي‪َ ،‬غلَبَتْنِي َعيْنِي َف ِن ْم ُت‪،‬‬ ‫َفبيْنَا أنَا َجال َ‬
‫الجيْ ِش‪،‬‬ ‫الذ ْك َوان ُِّي مِ ن و َراءِ َ‬ ‫ص ْف َوا ُن ب ُن ال ُم َع َّطلِ ُّ‬
‫السلَمِ ُّي ثُ َّم َّ‬ ‫وكا َن َ‬
‫ــان نَائ ٍِم َف َع َر َفنِي ِحي َن َرآنِي‪،‬‬ ‫فأص َب َح ِعنْ َد َمن ِْزلِي‪َ ،‬ف َر أَى َس َوا َد إنْ َس ٍ‬
‫ْ‬
‫ــاب‪،‬‬
‫الح َج ِ‬ ‫وكا َن َرآنِي َقبْ َل ِ‬
‫بجلْبَابِي‪،‬‬ ‫وجهِ ي ِ‬ ‫اعهِ ِحي َن َع َر َفنِي‪َ ،‬ف َخ َّم ْر ُت ْ‬ ‫استَيْ َق ْظ ُت ْ‬
‫باس ِت ْر َج ِ‬ ‫َف ْ‬
‫اعهِ ‪،‬‬‫اس ِت ْر َج ِ‬‫ول َسمِ ْع ُت منه َك ِل َم ًة غي َر ْ‬ ‫و َو َّ ِ‬
‫الل ما تَ َكلَّ ْمنَا ب َك ِل َم ٍة‪َ ،‬‬
‫احلَتَهُ‪َ ،‬ف َو ِط َئ علَى يَدِ َها‪َ ،‬ف ُق ْم ُت إلَيْ َها َف َركِ بْتُ َها‪،‬‬
‫وه َوى حتَّى أنَا َخ َر ِ‬ ‫َ‬
‫وغ ِري َن في نَ ْح ِر‬ ‫ش ُم ِ‬ ‫احل َ َة حتَّى أتَيْنَا َ‬
‫الجيْ َ‬ ‫َفانْ َطل َ َق يَقُو ُد بي ال َّر ِ‬
‫الظهِ ي َر ِة و ُه ْم نُزُو ٌل‪،‬‬‫َّ‬
‫الل ب ُن أُبَ ٍّي‬ ‫َف َهل َ َك َمن َهل َ َك‪ ،‬وكا َن الذي تَ َو َّلى كِ بْ َر اإل ْف ِك عب ُد َّ ِ‬
‫اب ُن َسلُو َل!‬
‫يضو َن في َق ْولِ‬ ‫َّاس يُفِ ُ‬ ‫اشتَ َكيْ ُت ِحي َن َقدِ ْم ُت َش ْه ًرا‪ ،‬والن ُ‬ ‫َف ْ‬
‫اب اإل ْف ِك‪،‬‬ ‫أص َح ِ‬ ‫ْ‬
‫أع ِر ُ‬
‫ف‬ ‫وجعِ ي أ ِّني ال ْ‬ ‫ذلك‪ ،‬وهو يَ ِريبُنِي في َ‬ ‫أش ُع ُر بشيءٍ مِ ن َ‬ ‫ال ْ‬
‫الل  اللطف الذي ُكن ُْت أ َرى منه‬ ‫مِ ن َرسولِ َّ ِ‬
‫ِحي َن ْ‬
‫أشتَكِ ي‪،‬‬
‫الل  فيُ َسلِّ ُم‪ ،‬ثُ َّم‬ ‫إ َّنما يَ ْدخُ ُل َعل َ َّي َرسو ُل َّ ِ‬
‫كيف تِي ُك ْم‪ ،‬ثُ َّم‬
‫يقو ُل‪َ :‬‬
‫ف!‬ ‫ْص ِر ُ‬‫يَن َ‬
‫بالش ِّر‪ ،‬حتَّى َخ َر ْج ُت ِحي َن نَ َق ْه ُت‪،‬‬ ‫أش ُع ُر َّ‬
‫ول ْ‬ ‫ذلك يَ ِريبُنِي َ‬ ‫َف َ‬

‫‪115‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫َف َخ َر ْج ُت مع أ ُ ِّم مِ ْس َط ٍح قِ َب َل ال َمن ِ‬


‫َاص ِع‪ ،‬وكا َن ُمتَ َب َّر َزنَا‪،‬‬
‫و ُكنَّا ال نَخْ ُر ُج َّإل لَيْ ًل إلى لَيْ ٍل‪،‬‬
‫وذلك َقبْ َل أ ْن نَت َِّخ َذ ال ُكن َُف َق ِري ًبا مِ ن بُيُو ِتنَا‪،‬‬
‫َ‬
‫وأَ ْم ُرنَا أ ْم ُر ال َع َر ِب األُ َولِ في ال َب ِّر َّيةِ قِ َب َل ال َغائ ِِط‪ ،‬و ُكنَّا نَتَ َأ َّذى‬
‫بال ُكن ُِف أ ْن نَت َِّخ َذ َها ِعنْ َد بُيُو ِتنَا‪،‬‬
‫ــط ٍح ‪ ،‬وهي ا بْنَ ُة أ بِي ُر ْه ِم بنِ ال ُم َّطل ِِب بنِ عبدِ‬ ‫َفا نْ َطلَق ُْت أ نَا و أ ُ ُّم مِ ْس َ‬
‫صخْ ِر بنِ َعامِ ٍر ‪َ ،‬خا لَةُ أ بِي بَ ْك ٍر ِّ‬
‫الص ِّد يقِ ‪ ،‬وابنُ َهــا‬ ‫َاف ‪ ،‬و أ ُ ُّم َها بن ُْت َ‬‫َمن ٍ‬
‫مِ ْس َط ُح ب ُن أُثَاثَ َة بنِ َع َّبادِ بنِ ال ُم َّطل ِِب‪،‬‬
‫فأ ْق َبل ْ ُت أنَا وأ ُ ُّم مِ ْس َط ٍح قِ َب َل بَيْتي ِحي َن َف َر ْغنَا مِ ن َش ْأ ِننَا‪،‬‬
‫س مِ ْس َط ٌح!‬‫َف َعثَ َر ْت أ ُ ُّم مِ ْس َط ٍح في مِ ْر ِط َها َفقالَ ْت‪ :‬تَعِ َ‬
‫س ما ُقل ْ ِت‪ ،‬أت َُس ِّبي َن َر ُج ًل َشهِ َد بَ ْد ًرا؟‬
‫ُلت لَ َها‪ :‬بئْ َ‬
‫َفق ُ‬
‫أي َهنْتَاهْ ولَ ْم ت َْس َمعِ ي ما قا َل؟‬
‫َفقالَ ْت‪ْ :‬‬
‫قلت‪ :‬ما قا َل؟‬
‫ُ‬
‫ضا علَى َم َر ِضي‪،‬‬‫أهلِ اإل ْف ِك! َفا ْز َد ْد ُت َم َر ً‬
‫فأخْ بَ َرتْنِي ب َق ْولِ ْ‬
‫َفل َ َّما َر َج ْع ُت إلى بَيْتي َد َخ َل َعل َ َّي َرسو ُل َّ ِ‬
‫الل ‬
‫َف َسلَّ َم‪ ،‬ثُ َّم قا َل‪َ :‬‬
‫كيف‬
‫تِي ُك ْم؟‬
‫ُلت له‪ :‬أتَ ْأ َذ ُن لي أ ْن آت َِي أبَ َو َّي؟‬
‫َفق ُ‬
‫الخبَ َر مِ ن قِ بَلِهِ َما!‬ ‫أستَيْقِ َن َ‬‫إنما أُري ُد أ ْن ْ‬
‫ُلت ِ‪ ‬ل ُ ِّمي‪ :‬يا أ ُ َّمتَاهُ‪َ ،‬ما َذا يَت ََح َّدثُ‬ ‫الل ‪َ ،‬فق ُ‬ ‫فأذِ َن لي َرسو ُل َّ ِ‬
‫َّاس؟‬
‫الن ُ‬

‫‪116‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الل لَ َقلَّما َكانَ ِت ا ْم َرأَةٌ قط‬ ‫قالَ ْت‪ :‬يا بُنَ َّي ُة‪َ ،‬ه ِّونِي َعلَيْ ِك‪َ ،‬ف َو َّ ِ‬
‫ض َرا ِئ ُر‪َّ ،‬إل َك َّث ْر َن َعلَيْ َها!‬ ‫وضيئَ ًة ِعنْ َد َر ُج ٍل يُ ِح ُّب َها‪ ،‬لَ َها َ‬‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َفق ُ‬
‫َّاس بهذا؟‬ ‫ُلت‪ُ :‬سبْ َحا َن اللِ‪ ،‬أ َول َق ْد ت ََح َّدثَ الن ُ‬
‫ول أ ْكت َِح ُل‬ ‫أصبَ ْح ُت ال يَ ْر َقأُ لي َد ْم ٌع َ‬ ‫ِلك اللَّيْل َ َة حتَّى ْ‬ ‫َفبَ َكيْ ُت ت َ‬
‫أص َب ْح ُت أبْكِ ي!‬ ‫بنَ ْو ٍم‪ ،‬ثُ َّم ْ‬
‫الل  َعل َِّي ب َن أبِي َطال ٍِب وأ ُ َسا َم َة ب َن َزيْ ٍد‪،‬‬ ‫و َد َعا َرسو ُل َّ ِ‬
‫استَل ْ َبثَ ال َو ْح ُي‪ ،‬يَ ْس َألُ ُهما ويَ ْست َِشي ُر ُهما في فِ َراقِ ْ‬
‫أهلِهِ ‪،‬‬ ‫ِحي َن ْ‬
‫الل  با َّلذِ ي يَ ْعل َ ُم مِ ن بَ َرا َء ِة أ ْهلِهِ ‪،‬‬ ‫فأشا َر علَى َرسولِ َّ ِ‬ ‫فأ َّما أ ُ َسا َم ُة َ‬
‫وبِا َّلذِ ي يَ ْعل َ ُم له ْم في نَف ِْسهِ ‪،‬‬
‫َفقا َل أ ُ َسا َم ُة‪ْ :‬‬
‫أهل َ َك‪َ ،‬‬
‫ول نَ ْعل َ ُم َّإل َخيْ ًرا‪،‬‬
‫ض ِّيقِ َّ‬
‫اللُ َعلَيْ َك‪،‬‬ ‫وأَ َّما َعلِي َفقا َل‪ :‬يا رسو َل َّ‬
‫اللِ‪ ،‬لَ ْم يُ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌّ‬
‫َص ُد ْق َك!‬
‫الج ِاريَ َة ت ْ‬
‫وسلِ َ‬ ‫اها َكثِي ٌر‪َ ،‬‬‫وال ِّن َساءُ ِس َو َ‬
‫أي بَ ِري َرةُ‪ ،‬ه ْل َرأَيْ ِت مِ ن شيءٍ‬ ‫الل  بَ ِري َرةَ‪َ ،‬فقا َل‪ْ :‬‬ ‫َف َد َعا َرسو ُل َّ ِ‬
‫يَ ِريبُ ِك؟‬
‫بالحقِّ ‪ ،‬ما َرأَيْ ُت َعلَيْ َها أ ْم ًرا َق ُّط‬
‫قالَ ْت له بَ ِري َرةُ‪ :‬والذي بَ َعثَ َك َ‬
‫ْ‬
‫أغمِ ُ‬
‫صهُ‪،‬‬
‫أه ِل َها‪َ ،‬فتَ ْأتي‬
‫الس ِّن‪ ،‬تَنَا ُم عن َع ِجينِ ْ‬ ‫غي َر أ َّن َها َج ِاريَ ٌة َحدِ يثَ ُة ِّ‬
‫اج ُن َفتَ ْأ ُكلُهُ!‬
‫الد ِ‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫صلَّى اهلل عليه وسلَّ َم مِ ن يَومِ هِ َف ْ‬
‫استَ ْع َذ َر‬ ‫َف َقا َم َرسو ُل َّ ِ‬
‫الل َ‬
‫الل بنِ أُبَ ٍّي‪ ،‬وهو علَى المِ نْبَ ِر‪،‬‬ ‫مِ ن عبدِ َّ ِ‬
‫َفقا َل‪ :‬يا َم ْع َش َر ال ُم ْسلِمِ ي َن‪َ ،‬من يَ ْعذِ ُرنِي مِ ن َر ُج ٍل ق ْد بَل َ َغنِي عنْه‬
‫أ َذاهُ في ْ‬
‫أهلِي‪،‬‬

‫‪117‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أهلِي َّإل َخيْ ًر ا‪ ،‬ول َق ْد َذ َك ُر وا َر ُج ًل ما َع ِل ْم ُــت‬ ‫والل ما َع ِل ْم ُت علَى ْ‬ ‫َّ ِ‬


‫عليه َّإل َخيْ ًرا‪،‬‬
‫أهلِي َّإل َمعِ ي!‬
‫وما يَ ْدخُ ُل علَى ْ‬
‫األش َهلِ ‪َ ،‬فقا َل‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َف َقا َم َس ْع ُد ب ُن ُم َع ٍاذ أخُ و بَنِي عبدِ‬
‫أعذِ ُر َك‪،‬‬
‫الل ْ‬‫أنَا يا َرسو َل َّ ِ‬
‫ض َربْ ُت ُعنُ َقهُ‪ ،‬وإ ْن كا َن مِ ن إخْ َوا ِننَا مِ َن‬ ‫فإ ْن كا َن مِ َن األ ْو ِس َ‬
‫الخ ْز َر ِج أ َم ْرتَنَا َف َف َعلْنَا أ ْم َر َك!‬
‫َ‬
‫احتَ َملَتْ ُه َ‬
‫الحمِ َّي ُة‪،‬‬ ‫الخ ْز َر ِج‪ ،‬وقد ْ‬ ‫َف َقا َم َس ْع ُد ب ُن ُعبَا َدةَ‪ ،‬وهو َس ِّي ُد َ‬
‫ول تَقْدِ ُر علَى َقتْلِهِ ‪،‬‬ ‫الل ال تَ ْقتُلُهُ‪َ ،‬‬‫ِس ْع ٍد‪َ :‬ك َذبْ َت لَ َع ْم ُر َّ ِ‬‫َفقا َل ل َ‬
‫ضيْ ٍر‪،‬‬ ‫أح َببْ َت أ ْن يُ ْقتَ َل‪َ .‬ف َقا َم أ ُ َسيْ ُد ب ُن ُح َ‬
‫ولو كا َن مِ ن َر ْه ِط َك ما ْ‬
‫ِس ْعدِ بنِ ُعبَا َدةَ‪:‬‬ ‫وهو اب ُن َع ِّم َس ْع ٍد‪َ ،‬فقا َل ل َ‬
‫الل لَنَ ْقتُل َ َّنهُ‪ ،‬فإ َّن َك ُمنَافِ ٌق ت َُجادِ ُل َعنِ ال ُمنَافِ قِ ي َن!‬ ‫َك َذبْ َت لَ َع ْم ُر َّ ِ‬
‫والخ ْزر ُج حتَّى َهموا أ ْن يَ ْقتَ ِتلُوا‪ ،‬ورسو ُل َّ‬ ‫َفثَا َر َ‬
‫الل ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫س‪َ َ ،‬‬ ‫الح َّيانِ األ ْو ُ‬
‫َقا ِئ ٌم علَى المِ نْ َب ِر!‬
‫وس َك َت!‬ ‫ض ُه ْم‪ ،‬حتَّى َس َكتُوا َ‬ ‫الل  يُ َخ ِّف ُ‬ ‫َفل َ ْم يَ َز ْل َرسو ُل َّ ِ‬
‫ذلك ُكلَّ ُه ال يَ ْر َقأُ لي َد ْم ٌع َ‬
‫ول أ ْكت َِح ُل بنَ ْو ٍم‬ ‫َفبَ َكيْ ُت يَومِ ي َ‬
‫أن البُ َكا َء َفا ِل ٌق َك ِبدِ ي!‬ ‫ي‪ ‬لَ ُظ ُّن َّ‬ ‫حتَّى إ ِّن َ‬
‫اســتَ ْأ َذ نَ ْت َعل َ َّي ا ْم َر أَةٌ مِ َن‬‫ِسانِ ِعندِ ي و أَنَا أ بْكِ ي‪َ ،‬ف ْ‬ ‫اي َجا ل َ‬ ‫َفبيْنَا أبَ َو َ‬
‫ـار‪،‬‬
‫صـ ِ‬ ‫األنْ َ‬
‫فأذِ نْ ُت لَ َها‪َ ،‬ف َجل َ َس ْت تَبْكِ ي َمعِ ي!‬
‫الل  َعلَيْنَا َف َسلَّ َم ثُ َّم َجل َ َ‬
‫س‪،‬‬ ‫ذلك َد َخ َل َرسو ُل َّ ِ‬‫َفبيْنَا نَ ْح ُن علَى َ‬
‫ِس ِعندِ ي ُمنْ ُذ قي َل ما قي َل َقبْل َ َها‪،‬‬ ‫ولَ ْم يَ ْجل ْ‬
‫وحى إلَيْهِ في َش ْأنِي بشيءٍ ‪،‬‬ ‫وق ْد لَبِثَ َش ْه ًرا ال يُ َ‬

‫‪118‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫س‪ ،‬ثُ َّم قا َل‪:‬‬ ‫الل  ِحي َن َجل َ َ‬ ‫َفت ََش َّه َد َرسو ُل َّ ِ‬
‫ِش ُة‪ ،‬إ َّنه بَل َ َغنِي َعن ِْك َك َذا و َك َذا‪ ،‬فإ ْن ُكن ِْت بَ ِريئَ ًة‪،‬‬ ‫أ َّما بَ ْع ُد‪ ،‬يا َعائ َ‬
‫َفسيب ِّرئُ ِك َّ‬
‫اللُ‪،‬‬ ‫َ َُ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫استَغْفِ ِري الل وتُوبِي إلَيْهِ ‪َّ ،‬‬
‫فإن ال َعبْ َد‬ ‫وإ ْن ُكن ِْت ألْ َم ْم ِت ب َذنْ ٍب‪َ ،‬ف ْ‬
‫َاب‬
‫َاب‪ ،‬ت َ‬ ‫اعتَ َر َف ثُ َّم ت َ‬ ‫إ َذا ْ‬
‫اللُ عليه!‬ ‫َّ‬
‫س منه‬ ‫ص َد ْمعِ ي حتَّى ما أ ُ ِح ُّ‬ ‫الل  َمقالَتَ ُه َقل َ َ‬ ‫ضى َرسو ُل َّ ِ‬ ‫َفل َ َّما َق َ‬
‫َق ْط َر ًة‪،‬‬
‫الل  َع ِّني فِ يما قا َل‬ ‫أج ْب َرسو َل َّ ِ‬ ‫ُلت ألبِي‪ِ :‬‬ ‫َفق ُ‬
‫الل ‪،‬‬ ‫والل ما أ ْد ِري ما أ ُقو ُل ِل َرسولِ َّ ِ‬ ‫َفقا َل أبِي‪ِ َّ :‬‬
‫الل  فِ يما قا َل‬ ‫أجيبِي َرسو َل َّ ِ‬ ‫ُلت ِ‪ ‬لُ ِّمي‪ِ :‬‬ ‫َفق ُ‬
‫الل ‪،‬‬ ‫والل ما أ ْد ِري ما أ ُقو ُل ِل َرسولِ َّ ِ‬ ‫قالَ ْت أ ُ ِّمي‪ِ َّ :‬‬
‫الس ِّن‪ :‬ال أ ْق َرأ ُ مِ َن ال ُق ْرآنِ َكثِي ًرا‪:‬‬ ‫ُلت‪ :‬وأَنَا َج ِاريَ ٌة َحدِ يثَ ُة ِّ‬ ‫َفق ُ‬
‫اس َــت َق َّر في‬‫الحدِ يثَ حتَّى ْ‬ ‫والل ل َق ْد َع ِل ْم ُت ‪ :‬ل َق ْد َسمِ ْعتُ ْم هذا َ‬ ‫إ ِّني َّ ِ‬
‫وص َّد ْقتُ ْم به‪،‬‬ ‫أنْف ُِس ـ ُك ْم َ‬
‫لت لَ ُك ْم‪ :‬إ ِّني بَ ِريئَ ٌة‪ ،‬ال ت َُص ِّد ُقونِي‪،‬‬ ‫َفل َ ِئ ْن ُق ُ‬
‫واللُ يَ ْعل َ ُم أ ِّني منه بَ ِريئَ ٌة‪ ،‬لَت َُص ِّد ُق ِّني‪،‬‬ ‫اعتَر ْف ُت لَ ُكم ب َأم ٍر‪َّ ،‬‬
‫ْ ْ‬ ‫ولَ ِئنِ ْ َ‬
‫وس َف ِحي َن قا َل‪:‬‬ ‫أج ُد لي ولَ ُك ْم َمثَ ًل َّإل أبَا يُ ُ‬ ‫الل ال ِ‬ ‫َف َو َّ ِ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِيل َّ ُ‬ ‫َ َ ٌْ َ ٌ‬
‫الم ْس َت َعان‪ ‬لع ما ت ِصفون﴾‪،‬‬ ‫والل ُ‬ ‫﴿فصب ج‬
‫اشي‪َّ ،‬‬
‫واللُ يَ ْعل َ ُم أ ِّني ِحينَئ ٍِذ بَ ِريئَ ٌة‪،‬‬ ‫واض َط َج ْع ُت علَى فِ َر ِ‬ ‫ثُ َّم ت ََح َّولْ ُت ْ‬
‫الل ُم َب ِّرئِي ب َب َرا َءتِي‪،‬‬ ‫وأن َّ َ‬ ‫َّ‬
‫أظ ُّن َّ َّ َ‬ ‫ولَكِ ْن َّ ِ‬
‫أن الل ُمن ِْز ٌل في َش ْأنِي ْ‬
‫وح ًيا يُتْلَى‪،‬‬ ‫والل ما ُكن ُْت ُ‬

‫‪119‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫اللُ فِ َّي ب َأ ْم ٍر‪،‬‬‫لَ َش ْأنِي في نَف ِْسي كا َن أح َقر مِ ن أ ْن يَتَ َكلَّم َّ‬
‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫الل  في ال َّنوم ر ْؤيَا يُب ِّرئُنِي َّ‬
‫اللُ‬ ‫ولَكِ ْن ُكن ُْت أرجو أ ْن يَرى رسو ُل َِّ‬
‫َ‬ ‫ِْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ب َها‪،‬‬
‫ِسهُ‪،‬‬
‫الل  َم ْجل َ‬ ‫الل ما َرا َم َرسو ُل َّ ِ‬
‫َف َو َّ ِ‬
‫أهلِ ال َبيْ ِت‪،‬‬ ‫ول َخ َر َج َ‬
‫أح ٌد مِ ن ْ‬ ‫َ‬
‫فأخ َذهُ ما كا َن يَ ْأخُ ُذهُ مِ َن البُ َر َحاءِ ‪،‬‬ ‫حتَّى أُنْ ِز َل عليه‪َ ،‬‬
‫الج َمانِ ‪،‬‬‫حتَّى إ َّنه لَيَت ََح َّد ُر منه مِ َن ال َع َرقِ مِ ثْ ُل ُ‬
‫ات مِ ن ِث َقلِ ال َق ْولِ الذي أُنْ ِز َل عليه‪،‬‬ ‫وهو في يَ ٍوم َش ٍ‬
‫ض َح ُك‪،‬‬ ‫الل  وهو يَ ْ‬ ‫َف ُس ِّر َي عن َرسولِ َّ ِ‬
‫اللُ ف َق ْد بَ َّرأَ ِك‪.‬‬ ‫ِش ُة‪ ،‬أ َّما َّ‬ ‫َف َكانَ ْت أ َّو َل َك ِل َم ٍة تَ َكلَّ َم ب َها أ ْن قا َل‪ :‬يا َعائ َ‬
‫َفقالَ ْت لي أ ُ ِّمي‪ُ :‬قومِ ي إلَيْهِ ‪،‬‬
‫الل ع َّز َّ‬
‫وجل‪،‬‬ ‫والل ال أ ُقوم إلَيهِ ‪ ،‬فإ ِّني ال أحم ُد َّإل َّ َ‬ ‫ُلت‪ِ َّ :‬‬ ‫َفق ُ‬
‫ْ َ‬ ‫ُ ْ‬
‫ُْ‬ ‫ْ ُ ْ ٌَ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ُ‬
‫ك عصبة مِنكم﴾‪،‬‬ ‫وأَنْ َز َل الل تَ َعالَى‪﴿ :‬إن الِين جاؤوا ِ‬
‫باإلف ِ‬
‫اللُ هذا في بَ َرا َءتِي‪،‬‬ ‫ثُم أنْ َز َل َّ‬
‫َّ‬
‫الص ِّديقُ‪ :‬وكا َن يُنْفِ ُق علَى مِ ْس َط ِح بنِ أُثَاثَ َة ِل َق َرابَتِهِ‬ ‫قا َل أبو بَ ْك ٍر ِّ‬
‫منه و َفق ِْرهِ‪:‬‬
‫ِش َة ما‬ ‫والل ال أُنْفِ ُق علَى مِ ْس َط ٍح شي ًئا أبَ ًدا‪ ،‬بَ ْع َد الذي قا َل ِل َعائ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫قا َل‪،‬‬
‫ُ ْ َ َّ َ َ ُ ْ ُ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َّ ُ َ َ َ‬
‫ول‬
‫فأ نْ َز َل الل ‪﴿:‬و ل يأ ت ِل أ ولو الفض ِل مِنكم والســعةِ أ ن يؤ توا أ ِ‬
‫َّ ْ ُ ْ َ‬ ‫ِني َوال ْ ُم َهاجر َ‬ ‫ب َوال ْ َم َســاك َ‬ ‫ُْ ْ َ‬
‫يل اللِ َولَ ْعفوا َولَ ْصف ُحوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ـــ‬ ‫ين ف َ‬
‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٰ‬ ‫القر‬
‫ِيم﴾‪،‬‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫ُ‬
‫الل غف ٌ‬‫َ‬ ‫َّ‬
‫الل لك ْم َو ُ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َأ َل ت ُِّبون أن َيغفِ َر ُ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ي‪ ‬لُ ِحب أ ْن يَغْفِ ر َّ‬
‫اللُ لِي‪،‬‬ ‫الص ِّديقُ‪ :‬بَلَى َّ ِ‬
‫َ‬ ‫والل إ ِّن َ ُّ‬ ‫قا َل أبو بَ ْك ٍر ِّ‬
‫َف َر َج َع إلى مِ ْس َط ٍح ال َّن َف َق َة ا َّلتي كا َن يُنْفِ ُق عليه‪ ،‬وقا َل‪:‬‬

‫‪120‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫والل ال أنْ ِز ُع َها منه أبَ ًدا‪،‬‬ ‫َّ ِ‬


‫الل  َس َأ َل َزيْن ََب بن َْت َج ْح ٍش عن أ ْم ِري‪َ ،‬فقا َل ِل َزيْن ََب‪:‬‬ ‫وكا َن َرسو ُل َّ ِ‬
‫َما َذا َع ِل ْم ِت‪ ،‬أ ْو َرأَيْ ِت؟‬
‫والل ما َع ِل ْم ُت‬‫ص ِري‪ِ َّ ،‬‬ ‫أحمِ ي َس ْمعِ ي وبَ َ‬ ‫الل ْ‬ ‫َفقالَ ْت‪ :‬يا َرسو َل َّ ِ‬
‫َّإل َخيْ ًرا‪،‬‬
‫اللُ بال َو َر ِع‪،‬‬ ‫صم َها َّ‬ ‫وهي ا َّلتي َكانَ ْت ت َُسامِ ينِي مِ ن أ ْز َو ِاج‬
‫النبي  َف َع َ َ‬‫ِّ‬
‫وطفِ َق ْت أُخْ تُ َها َح ْمنَ ُة ت َُح ِار ُب لَ َها‪َ ،‬ف َهل َ َك ْت‪ ،‬فِ ي َمن َهل َ َك!‬ ‫َ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الزَّوج ُة رفي ٌق دائم فال َ‬


‫تزه ْد بها!‬
‫السالم خل َق له زوجة!‬
‫ؤنس آدم عليه ّ‬ ‫وعندما أراد اهلل تعالى أن يُ َ‬
‫زوج ٌة صالح ٌة تُغنيك عن ال ُّدنيا كلها‪،‬‬
‫وال ُّدنيا كلها ال تُغنيك عن زوجة صالحة!‬
‫رباط مق ّدس حفَّه اهلل بالمودة وال َّرحمة‪،‬‬
‫تحمل ُ َك م َّر ًة وتحملها َّمر ًة‪ ،‬تتغاضى لها وتتغاضى َ‬
‫لك‪،‬‬
‫قل حولك األصدقاء‪،‬‬ ‫صدي ٌق موثو ٌق إن َّ‬
‫عذب إن جفا عنك الرفاق‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ورفي ٌق‬
‫قسوتها‪،‬‬ ‫َ‬
‫رمتك ال ُّدنيا بنبال ْ‬ ‫وصدر حنون إن‬
‫أردت االتكاء‪،‬‬‫َ‬ ‫وكتف متين إن‬‫ٌ‬
‫خانك التدبير‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مد ّب ٌر أمين إن‬
‫محب إن ز َّل ْت بك الخطوات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وناصح‬

‫‪121‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الح َّب قبل أن يكون ثماراً تُجنى‪،‬‬


‫ولكن تذك ْر أن ُ‬
‫فهو بذور تُزرع‪ ،‬وال حصاد إال لزارع‪،‬‬
‫الحب هي تقديمه!‬ ‫والطريقة الوحيدةُ للحصول على ُ‬ ‫َّ‬
‫للنبي  كيف أ َّنه وحتى وهو في الجيش‪،‬‬‫ُّ‬ ‫وا ُ ُ‬
‫نظ ْر‬
‫يحرص أن يكون معه زوجة‪،‬‬
‫ُ‬
‫لك رفيقاً!‬ ‫َ‬
‫وحدك وقد جعل اهلل َ‬
‫َ‬ ‫تمش‬
‫فال ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬
‫واجب في النَفقة والمبيت‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫العد ُل بين الزَّوجات‬
‫ُ‬
‫يملك قلبه‪،‬‬ ‫الح ُّب فال أحد‬
‫أما ُ‬
‫ِك‪،‬‬‫وقد كان نبياً ذلك الذي قال‪ :‬اللهم ال تؤاخذني فيما ال أمل ُ‬
‫قالها قاصداً قلبه ألنه كان يُ ِح ُّب عائشة أكثر من غيرها‪،‬‬
‫ولكنّه كان يعد ُل بين زوجاته عدالً عجيباً‪،‬‬
‫فال يعطي عائشة أكثر من غيرها‪،‬‬
‫ـت عنــد ضرائرهــا رضــي اهلل عنه ـ ْن‬ ‫ـت عندهــا أكثــر ممــا يبيـ ُ‬
‫وال يبيـ ُ‬
‫أجمعيــن‪،‬‬
‫ولو أنه أراد أن يُطي َع قلبه لكان اصطحب عائشة معه كل م ّرة‪،‬‬
‫ولكنه كان يقتر ُع بين نسائه فأيُّها خرج اسمها كانت معه‪،‬‬
‫منهن ُّ‬
‫بالظلم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أي واحدة‬‫وبهذا ال تش ُعر ّ‬
‫وقد كانت عائشة معه في الغزوة التي كانت فيها حادثة اإلفك‪،‬‬
‫وكانت أم سلمة معه في صلح الحديبية!‬
‫أنت حين تمي ًل بقلبك‪،‬‬
‫معذو ٌر َ‬

‫‪122‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ولكنك موزور ومحاسب حين تظلم في معاملتك‪،‬‬


‫َّاس فقط‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫والظلم ليس في أخذ مالِ الن ِ‬
‫َ‬
‫عندك‪،‬‬ ‫وإ ّنما هو في أال تُعطي الن َ‬
‫َّاس حقوقهم التي هي لهم‬
‫ولو كانت هذه الحقوق معنو ّية!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الشبهة‪،‬‬‫العاقل ال يض ُع نفسه في موضع ُّ‬


‫الظن!‬
‫ِّ‬ ‫َّاس مفطورة على ُسوء‬ ‫ألن الن َ‬ ‫َّ‬
‫الشبهة ُسنّة نبوية شريفة‪،‬‬ ‫ودفع ُّ‬
‫النبي  معتكفاً في المسجد‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫كان‬
‫ال‪،‬‬ ‫فجاءت إليه أُمنا صفية تزوره لي ً‬
‫قامت لتذهب إلى بيتها‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فجلست عنده ثم‬ ‫ْ‬
‫النبي  ليوصلها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقام معها‬
‫رجالن من األنصار بهما في َّ‬
‫الطريق‪،‬‬ ‫فم َّر ُ‬
‫النبي  أسرعا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فلما رأيا‬
‫فقال لهما‪ :‬على ِرسلكما إ ّنها صف ّية بنت ُحيي‪،‬‬
‫فقاال‪ :‬سبحان اهلل يا رسول اهلل‪،‬‬
‫الشبهة‪،‬‬ ‫أنت فوق ُّ‬ ‫يريدان أن يقوال له َ‬
‫الدم‪،‬‬
‫الشيطان يجري من اإلنسان مجرى َّ‬ ‫إن َّ‬ ‫فقال لهما‪َّ :‬‬
‫يقذف في قلوبكما ش ّراً!‬ ‫َ‬ ‫فخشيت أن‬ ‫ُ‬
‫وبالعودة إلى حادثة اإلفك‪..‬‬

‫‪123‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فإن أمنا عائشة أطهر من ماء زمزم‪،‬‬ ‫َّ‬


‫وصفوان بن ال ُمعطل صحابي جليل فوق التُّهمة‪،‬‬
‫ولكــن تأخرهمــا عــن الجيــش هــو الــذي أطلــق ألســنة المرضــى‬
‫والمنافقيــن‪،‬‬
‫حتى وق ُعوا في عرضها رضي اهلل عنها‪،‬‬
‫الظن‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ينجوا من سوء‬
‫وصحابي جليل لم ُ‬ ‫ُّ‬ ‫فإن كانت أم المؤمنين‬
‫موضع ُشبهة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫َّاس رأوهما في‬ ‫ألن الن َ‬ ‫َّ‬
‫وأنت وهي‪،‬‬ ‫فال تتوقع أن أسل َم أنا ِ‬
‫يراك مع امرأة ليست من محارمك في مقهى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫من‬
‫الظن ويقول إنك تُساعدها في مشكلة ما‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لن يحسن‬
‫وضعت نفسك في موضع ُشبهة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أنت تتحمل بعض التبعات إذ‬ ‫َ‬
‫فانتبه ج ّيداً إلى موضع خطواتك!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫إ ّياك ونقل اإلشاعات‪،‬‬


‫بعضهم على بعض!‬ ‫يفتري ُ‬
‫َ‬ ‫َّاس دوماً أن‬
‫فشأن الن ِ‬
‫ال تُص ِّدق تهمة بال دليل!‬
‫واأله ّم ال تبحث عن دليل للتهمة التي سمعتها‪،‬‬
‫عورات الن َّا ِس تت َّب َع اهلل عورته‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ما َ‬
‫لك وللنَّاس‪ ،‬ومن تت َّبع‬
‫ض في ذمة رجل لم تشهد خيانته‪،‬‬ ‫ال تخُ ْ‬
‫ألن فالناً قال‪،‬‬
‫وال في عرض امرأة َّ‬

‫‪124‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫كفى بالمرءِ إثماً أن يُح ِّدث بكل ما سم َع!‬


‫فإن اهلل ستير يُ ِح ُّب ِّ‬
‫الستر‪،‬‬ ‫رأيت‪َّ ،‬‬‫َ‬ ‫وحتى وإن‬
‫أحد إال وله عيوب يكره أن يراها الناس‪،‬‬ ‫وما منا من ٍ‬
‫َفض ْح‪ ،‬فت َ‬
‫ُفضح!‬ ‫فال ت َ‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫خدم ُة اإلنسان المقطوع نُبل‪،‬‬


‫وعليه أن يُراجع إنسان َّيته وأخالقه وإسالمه‪،‬‬
‫الطريق وكان قادراً على مساعدته فلم يفعل!‬ ‫من رأى مقطوعاً في َّ‬
‫الشرك‪،‬‬‫حتى العرب في جاهليتها وهي على ِّ‬
‫عد ْت خدمة المقطوع من أنبل أخالقها وتغن َّْت به‪،‬‬ ‫قد َّ‬
‫عندما عز َم أبو سلمة على الهجرة إلى المدينة‪،‬‬
‫وأركب زوجته أم سلمة وابنه سلمة على بعير‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ركب على بعير‬
‫َ‬
‫فلما كانوا على مشارف مكة‪ ،‬جاء بنو مخزوم قوم أم سلمة‪،‬‬
‫وقالوا له‪ :‬هذه نفسك غلبتنا عليها‪ ،‬أما زوجتك فال نتركك‬
‫تهاجر بها!‬
‫فأخذوها منه‪ ،‬ومضى أبو سلمة مهاجراً!‬
‫وليزداد الطين بلة جاء قوم أبي سلمة إلى بني مخزوم‪،‬‬
‫وقالوا لهم‪ :‬ال نترك ابننا عندكم‪ ،‬فأخذوه من أمه!‬
‫وهكذا صارت أم سلمة بال زوج وال ابن!‬
‫وبقيت على هذه الحال سن ًة كاملة‪،‬‬

‫‪125‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫تخرج كل يوم وحيدة إلى مشارف مكة‪،‬‬


‫وتبكي فراق زوجها وابنها‪ ،‬إلى أن م َّر بها أحد أوالد عمومتها‬
‫فرقَّ لحالها‪،‬‬
‫وقال لقومه‪ :‬ما لكم ولهذه المسكينة ف َّرقتم بينها وبين زوجها‬
‫وولدها!‬
‫شئت‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بزوجك إن ِ‬ ‫فقالوا لها‪ :‬الحقي‬
‫وأعاد لها أهل أبي سلمة ابنها‪..‬‬
‫وانطلقت تري ُد‬
‫ْ‬ ‫فركبت بعيرها‪ ،‬وأخذت ابنها في حجرها‪،‬‬ ‫ْ‬
‫المدينة‪،‬‬
‫فلما كانت بالتنعيم على مشارف مكة لقيها عثمان بن طلحة‬
‫وهو مشرك‪،‬‬
‫فقال لها‪ :‬إلى أين يا أم سلمة؟‬
‫فقالت‪ :‬إلى زوجي في المدينة‬ ‫ْ‬
‫فقال‪ :‬أ َو َما ِ‬
‫معك أحد؟‬
‫فقالت‪ :‬ال واهللِ‪ ،‬إال َ‬
‫اهلل وابني هذا‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫أوصلك‬ ‫ِ‬
‫أتركك حتى‬ ‫ِ‬
‫مترك! أي ال‬ ‫لك من‬ ‫فقال‪ :‬ما ِ‬
‫فأخذ بخطام بعيرها يقوده إلى المدينة‪،‬‬
‫فكان إذا أراد أن يجعلها تنزل لتستريح أناخ البعير‪ ،‬ثم ابتعد‬
‫عنها لتنزل‪،‬‬
‫وإذا أراد أن يمضي أناخ البعير لها مجدداً‪ ،‬ثم ابتع َد عنها‪،‬‬
‫فإذا ركبت جاء وأخذ بخطام البعير‪ ،‬ومشى بها‪،‬‬
‫فلم يزل يصنع هذا حتى أوصلها إلى مشارف المدينة قال لها‪:‬‬
‫ِ‬
‫زوجك في هذه القرية فادخلي على بركة اهلل‪ ،‬وعا َد أدراجه‬ ‫إن‬

‫‪126‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫إلى مكة!‬
‫أبع َد هذا النُّبل نُبل‪ ،‬وبعد هذه األخالق أخالق؟!‬
‫هذا وهو رجل مشرك‪ ،‬فإن لم يز ْد َك دينك خُ لقاً‬
‫درس من دروس اإلسالم العظيم هو‬
‫أن أهم ٍ‬
‫فأنت لم تفهم بعد ّ‬
‫أن تكون خلوقاً!‬

‫السادس‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫واجب!‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫اللطف مع الزَّوجةِ‬
‫رج ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫وقد كان األوائل يقولون‪ :‬إننا ال نُسمي الرجل ُ‬
‫حتى ننظر إلى زوجته‪ ،‬أعزيزة هي أم ُمهانة!‬
‫وإن أمنا عائشة لم ترت َْب مما يحدث‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ـي ‪ ،‬ذاك اللطــف الــذي كانــت تجــده‬ ‫إال أنهــا لــم تعــد تجـ ُد مــن النبـ ُّ‬
‫عــادة منــه‪،‬‬
‫وإنما كان يسأل عنها سؤاالً عابراً‪ :‬كيف تلك؟!‬
‫وفي هذا الموقف موقفين على ٍ‬
‫غاية من األهمية‪،‬‬
‫النبي  لو لم يكن يُغدق عليها اللطف‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أن‬
‫األ ّول‪َّ :‬‬
‫ما كانت لتشعر بتغ ُّي ِره معها‪،‬‬
‫وتو ُّقف المرء عن بذل شيءٍ يعني أنه لطالما كان يبذله!‬
‫ال ّثاني‪ :‬في الخالف بين األزواج أدب يجب أن يُراعى‪،‬‬
‫النبي  ولم يشتمها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫لم يضربها‬
‫كما نرى ونسمع كل يوم من سفهاء األزواج!‬

‫‪127‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وإنما على عظمة الكرب الذي هو فيه‪،‬‬


‫يتلطف به إليها‪،‬‬‫ما زاد على أن أوقف إظهار اللطف الذي كان َّ‬
‫تفج ْر!‬
‫فإذا ما وقع الخالف بينكما فال ُ‬
‫قليل من اإلعراض يكفي حتى ترجع األمور إلى مجاريها‪،‬‬
‫أ ّما تحويل البيت إلى ساحة معركة فهذا من قلَّة ال َفهم وال ُمروءة!‬

‫السابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫السابق ولو صدر منهم الخطأ‪،‬‬ ‫ف بفضل النّاس َّ‬ ‫ا ِْع ِتر ْ‬
‫تنس معروفهم القديم وإن بدا منهم اآلن ما يزعجك‪،‬‬ ‫وال َ‬
‫ثابت على فضله من الذين تكلَّ ُموا في عائشة‪،‬‬ ‫كان حسان بن ٍ‬
‫والجناة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقالوا فيها ما قال األ َّفاكون‬
‫ولكن عائشة كانت ترفض أن يَ ُس َّب أح ٌد حساناً عندها‪،‬‬
‫ودخ َل عليها م ّر ًة عروة بن الزبير ابن أختها اسماء بنت أبي بكر‪،‬‬
‫حسان في حقِّ خالته عائشة‪،‬‬ ‫ينس بعد ما كان من َّ‬ ‫وكان لم َ‬
‫فأراد أن يس َّبه‪ ،‬فنهرته عائشة‪،‬‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وقالت‪ :‬ال تس ُّبه فطالما ذاد عن عرض‬ ‫ْ‬
‫ثم تترن ُم بقوله‪:‬‬
‫فإن أبي ووالده وعرضي‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫محمد منكم وقاءُ!‬ ‫لعرض‬
‫ِ‬
‫حســان فــي واحــدة مــن أروع قصائــد‬ ‫ذلــك اعتــ َذر منهــا َّ‬ ‫َ‬ ‫ثــم بعــد‬
‫االعتــذار فــي تاريــخ األدب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بريبة‬ ‫صا ٌن رزا ٌن ما تزن‬ ‫َح َ‬
‫وتصب ُح غرثى من لحوم الغوافلِ !‬

‫‪128‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثامن‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫من الحكمةِ ستر األخبار الحزينة عن المريض‪،‬‬


‫ساءت أ ّد ْت إلى تفاقم المرض‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ألن النفس َّية إذا‬
‫َّ‬
‫الطب‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫شاه ٌد عياناً‪ُ ،‬م َسلَّ ٌم به في‬
‫والعكس ُم َ‬
‫أن إبعاد الحزن عن المريض يُس ِّرع شفاءه بإذن اهلل‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ونامت في فراشها‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الح ّمى عائشة‬ ‫وحين أصابت ُ‬
‫تدر بالذي يُقال عنها في ِعرضها‪،‬‬ ‫لم ت ُك ْن ِ‬
‫حرص أبواها أال تعلم كي ال تسوء حالتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وقد‬
‫وهذا من أدبهما وفهمهما في مراعاة المشاعر وأصول التَّداوي‪،‬‬
‫فال تجمعوا على المريض سوأتين‪:‬‬
‫سوأة المرض التي يُعانيها في جسده‪،‬‬
‫تكس ُر خاطره وتُك ِّدر مشاعره!‬ ‫وسوأة األخبار الحزينة التي ِ‬

‫رس التَّ اسع‪:‬‬


‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫إذا وقع الخصام بين األح ّبة فإنه من النُّبل أن ال ي ْه ُج ُروا بال ُكل َّية‪،‬‬
‫صعب ال يُحسد عليه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫موقف‬ ‫النبي  في‬
‫ُّ‬ ‫كان‬
‫َّاس في عرض زوجته‪،‬‬ ‫وأي شيءٍ أقسى على الزَّوج من أن يتكلَّ َم الن ُ‬ ‫ّ‬
‫وهــو بيــن ناريــن‪ :‬نــار اإلشــاعات‪ ،‬ونــار حبــه لعائشــة ومــا يعرفــه مــن‬
‫صالحهــا!‬
‫رت كما سبقَ‪،‬‬ ‫وصحي ٌح أن معاملته لها قد تغ َّي ْ‬

‫‪129‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫لكنّه كان يأتي ويعودها في مرضها وإن بدفء أق ّل من المعهود‪،‬‬


‫فيســأل ســؤال المجــروح الــذي ال يريــ ُد أن يتخلّــى عــن مســؤوليته‬
‫وقلبــه‪ :‬كيــف تينــك؟‬
‫زوجتك فتذ َّك ْر أنها تبقى زوجت َُك‪،‬‬
‫َ‬ ‫خاصمت‬
‫َ‬ ‫فإن‬
‫ولها عندك حقو ٌق ال يُسقطها الخصام أبداً‪،‬‬
‫لها حقَّ أن تنف َق عليها‪ ،‬وتعالجها‪ ،‬وتتفقدها‪،‬‬
‫الح ُّب والو ُّد فيعودان تلقائياً إذا عادت المياه إلى مجاريها!‬ ‫أما ُ‬
‫ِ‬
‫زوجك‪،‬‬ ‫زوجك فتذكري أنه رغم الخصام‬ ‫ِ‬ ‫خاصمت‬‫ِ‬ ‫وإن‬
‫لك الخالفات أال تعطيه إياها‪،‬‬ ‫عندك حقو ٌق ال تُبيح ِ‬ ‫ِ‬ ‫وله‬
‫تقومين على أمر بيته‪ ،‬وتُعد ِّين طعامه‪ ،‬وتُصلحين شؤونه‪،‬‬
‫بالح ِّب أجمل‪،‬‬
‫الح ِّب فقط‪ ،‬وإن كانت ُ‬ ‫ال ُّدنيا ال تقوم على ُ‬
‫وإنما تقوم على المعروف وأداء الواجب قبل طلب الحقوق!‬
‫وحسن طباعها واحترامها لزوجها‪،‬‬ ‫ألدب عائشة‪ ،‬وفهمها‪ُ ،‬‬ ‫نظ ْر ِ‬ ‫وا ُ ُ‬
‫شك‪،‬‬‫إنها رغم ك ّل شيءٍ ‪ ،‬وهي الموجوعة ال َّ‬
‫النبي  أن تُعالج في بيت أهلها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫تستأذن‬
‫هي مجروحة بعرضها وكرامتها قبل أن تكون ُمصابة بالحمى‪،‬‬
‫ولكنها ال تُسقط لزوجها حقّ طاعته واستئذانه‪،‬‬
‫ـت وقــوع الخالفــات‪ ،‬فهــي مــن‬ ‫وهــذه هــي إحــدى أكبــر مشــكالتنا‪ ،‬ليسـ ْ‬
‫الطبيعـ ِّـي أن تقــع‪،‬‬ ‫َّ‬
‫نعرف كيف نختلف!‬ ‫ُ‬ ‫ولكننا ال‬

‫‪130‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس العاشر‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫إذا اضطرت المرأةُ إلى الخروج من البيت فح ّبذا أال تخرج وحيدة‪،‬‬
‫وهذا ليس ش ّكاً بها وإنما إكرا ٌم لها!‬
‫ال ّرفقة حماية‪ ،‬والمرأة وحدها ُعرضة لألذى!‬
‫س يومذاك قد جعلوا المراحيض في البيوت‪،‬‬ ‫لم يكن الن َّا ُ‬
‫الصحراء لقضاء الحاجة‪،‬‬ ‫فكانوا يخرجون إلى َّ‬
‫فاصطحبت عائشة معها أ َّم مسطح‪،‬‬ ‫ْ‬
‫موضع هو أغنى ما يكون عن ال ِّرفقة!‬ ‫ٍ‬ ‫جعلت لها رفق ًة في‬ ‫ْ‬
‫بإمكانكــن الخــروج مــع‬
‫َّ‬ ‫بيوتكــن وحيــدات إن كان‬
‫َّ‬ ‫تخرجــ َن مــن‬
‫ْ‬ ‫فــا‬
‫رفقــة!‬

‫رس الحادي عشر‪:‬‬


‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أحد في حضرته‪،‬‬ ‫المؤم ُن ال يقب ُل أن يُسا َء إلى ٍ‬


‫مسطح على ابنها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫دعت أم‬‫ْ‬ ‫وعندما‬
‫ألنه آذاها أن يكون ممن خاضوا في عرض عائشة‪،‬‬
‫تعرف من تاريخه ال ُمشرق وأ ّنه من أهل بدر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نهرتْها عائش ُة لما‬
‫فــإن كانــت أ ُ ُّمنــا عائشــة ت ُعلمنــا درســاً بليغــاً‪ ،‬فــي حفــظ أعــراض‬
‫وســمعات الغائبيــن‪،‬‬
‫مسطح هي األخرى تُعلِّمنا درساً عظيماً مفاده‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫فإن أ َّم‬
‫َّ‬
‫َّاس َ‬
‫إليك!‬ ‫أقرب الن ِ‬
‫ُ‬ ‫ال تقب ْل بالباطل ولو جاء به‬

‫‪131‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس الثاني عشر‪:‬‬


‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫عندما ينز ُل بك أم ٌر تكرهه فال تتسر ْع باتِّخاذِ قرار‪،‬‬


‫ُ‬
‫تعرف دينَه وعقله‪،‬‬ ‫واستش ْر من الناس من‬‫ِ‬
‫وهذا ليس من ضعف العقل وإ ّنما من تمامه‪،‬‬
‫كالنبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فال أحد في عقله وإيمانه وقلبه‬
‫وعلــى ال َّرغــم مــن هــذا هــا هــو يستشــير مــن يثــق فــي األمــر الــذي‬
‫نــزل بــه‪،‬‬
‫لك استخدام عقول اآلخرين‪،‬‬ ‫المشورة تتيح َ‬
‫حل جاء عن طريق أكثر من عقل‪،‬‬ ‫شك أ َن ّ ً‬
‫وال َّ‬
‫واحد‪،‬‬‫ٍ‬ ‫عقل‬
‫حل جاء من ٍ‬ ‫أنجح وأق َو ُم من ٍّ‬
‫ثم إن صاحب المشكلة تشغله مشكلته عن بعض تفاصيلها‪،‬‬
‫مهم جداً أن ننظر لألمر بعيون اآلخرين أحياناً‪،‬‬
‫نزلت جعلت الحلي َم حيراناً‪،‬‬‫ْ‬ ‫فإن المشكالت إذا‬
‫وجعلــت القــادر علــى حــل مشــكالت النَّــاس عــاد ًة عاجــز عــن حــ ِّل‬
‫مشــكلته‪،‬‬
‫أحياناً تبدو مشكلتنا صعبة في عيوننا‪،‬‬
‫ليس أل ّنها صعبة فع ً‬
‫ال‪ ،‬بل أل ّنها مشكلتنا!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث عشر‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫كنت خصماً‪ ،‬وهذه من أعلى مراتب النُّبل!‬


‫ال ت ُق ْل إال حقاً ولو َ‬
‫جحش!‬‫ٍ‬ ‫ويا لنُبل أمنا زينب بنت‬

‫‪132‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫هي ضرة عائشة وهي التي بينها وبينها المنافسة عند‬
‫نصر ُمل َّو ٍث فهذه فرصة سانحة‪،‬‬
‫كانت تبحثُ عن ٍ‬
‫ْ‬ ‫ولو‬
‫علمت؟ وماذا ِ‬
‫رأيت؟‬ ‫ِ‬ ‫النبي  وماذا‬
‫ُّ‬ ‫ولكن عندما سألها‬
‫علمــت إال‬
‫ُ‬ ‫هلل أحمــي ســمعي وبصــري‪ ،‬وا ِ‬
‫هلل مــا‬ ‫قالــت‪ :‬يــا رســول ا ِ‬
‫ْ‬
‫خيــراً!‬
‫عت عن ك ِّل ما يكون بين َّ‬
‫الضرائر‪،‬‬ ‫تر َّف ْ‬
‫وانتصرت لدينها وأخالقها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ألقت غيرتها بعيداً‬
‫ْ‬
‫أن النَّاس في الوفاق نبالء جميعاً‪،‬‬ ‫وأنت‪ ،‬فاعل َ ْم َّ‬
‫َ‬
‫ولكـ ّـن النَّبيــل حقـاًّ مــن حافــظ علــى نبلــه فــي موقـ ٍـف يمكنــه أن يتخلّــى‬
‫عنه !‬

‫ابع عشر‪:‬‬
‫الر ُ‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫مواقف الجبر في لحظات االنكسار ال تُنسى!‬


‫علمت بمصاب عائشة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫المرأة من األنصار عندما‬
‫ـت تبكــي‬
‫جاءتهــا تواســيها فخانتهــا مفرداتهــا‪ ،‬فلــم تـ ِـز ْد علــى أن جلسـ ْ‬
‫معهــا!‬
‫فلم تنسها لها عائشة أبداً!‬
‫ّاس أحياناً ال يريدون من اآلخرين أكثر من أن يش ُعروا بهم‪،‬‬
‫الن ُ‬
‫يحسوا بأوجاعهم فيأخذونها على محمل الج ِّد‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أن‬
‫نحن عندما ننكس ُر ال نري ُد حلوالً َّ‬
‫بالضرورة‪،‬‬

‫‪133‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ُ‬
‫نعرف أن الحلول ليست بأيديهم‪،‬‬ ‫نحن‬
‫نحن ال نري ُد حلولهم وإنما نري ُد قلوبهم!‬

‫الخامس عشر‪:‬‬
‫ُ‬ ‫رس‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫البكاءُ ُمسترا ٌح!‬


‫َ‬
‫أحزانك في قلبك فقد ينفجر!‬ ‫ال تكتُ ْم‬
‫بلحظات ضعفك وال تخج ْل منها أبداً فهي جزءٌ من إنسانيتك!‬
‫ِ‬ ‫ُم َّر‬
‫كنت وأنا شاب إذا أصابتني مصيبة‬
‫قال أبو بكر بن عياش‪ُ :‬‬
‫رت لها‪،‬‬
‫تص َّب ُ‬
‫ور َد ْد ُت البكا َء عن نفسي‪ ،‬فكان ذلك يُوجعني ويَزيدني ألماً!‬
‫رأيت يوماً أعرابياً وقد اجتمع الن ُ‬
‫َّاس حوله‪ ،‬وإذا هو ينشد‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫حتى‬
‫صدور ال َّرواحل‬
‫خليلي ُعوجا من ُ‬
‫َّ‬
‫بجمهور ُحزوى فابكيا المنَازلِ‬
‫عقب راح ًة‬‫الدمع يُ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫لعل انحدار‬
‫يشفي نَ َّ‬
‫جي البالبلِ‬ ‫َ‬ ‫من الوجدِ أو‬

‫فسألت عنه فقيل‪ :‬هذا هو َّ‬


‫الشاعر ذو ال ِّر ّمة!‬ ‫ُ‬
‫فكنت أبكي منها فأج ُد بعد البــكاء‬
‫ُ‬ ‫فأصابتني بعد ذلك مصائب‪،‬‬
‫راحـ ًة‪،‬‬
‫وأقول في نفسي‪ :‬سبحان اهلل‪ ،‬ما أبص َر هذا األعرابي وما أعل َ َمه!‬

‫‪134‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ضعف ‪ ،‬وهذا من أقســى ما يظنه‬ ‫ٍ‬ ‫يحسب البعض أن البكاء دليل‬ ‫ُ‬
‫الناس‪،‬‬
‫إن البكاء دليل على اإلنسانية‪ ،‬وسالمة ُّ‬
‫الشعور‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الشماتة!‬‫يذرف اإلنسان دمعته في موضع َّ‬ ‫َ‬ ‫المهم أن ال‬
‫ال على الرجولة لما بكى رســول اهلل ‬ ‫ولو كان حبس الدموع دلي ً‬
‫وهو ســيد ال ِّرجال‪،‬‬
‫ولكنه كان رقيق القلب‪ ،‬تجري دمعتُه من عينه في موقف الحزن‪،‬‬
‫وبأبي هو وأمي يوم موت ابنه إبراهيم يبكي أمام ال ِّناس‪،‬‬
‫وأنت يا رسول اهلل؟!‬
‫َ‬ ‫حتى قال له ابن مسعود‪:‬‬
‫وإن القلب ليحزن‪ ،‬وإناّ على فراقك‬ ‫إن العين لتدمع‪ّ ،‬‬ ‫فقال‪ّ :‬‬
‫يا إبراهيم لمحزونون‪،‬‬
‫وال نقول إال ما يرضي ر َّبنا‪ ،‬إناّ هلل وإ ّنا إليه راجعون!‬

‫السادس عشر‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫السالم‪،‬‬
‫يعقوب عليه َّ‬‫َ‬ ‫عندما هج َم الحز ُن على عائشة لم تتذك ْر إال‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ْ ُ ّ‬
‫وأخذت تُرد ُد قوله‪﴿ :‬إِن َما أشكو َب ِث َو ُح ْز ِن إِل اللِ﴾‬‫ْ‬
‫بلك فإن فيها عزا ًء‪،‬‬ ‫فتعزَّ‪ ..‬في قصص الصالحين َق َ‬
‫الســام شــيخ المرســلين قــد ك ّذبــوه‬ ‫ـوك فهــا هــو نــوح عليــه ّ‬‫كذبـ َ‬‫فــإ ْن َّ‬
‫قبلـ َ‬
‫ـك‪،‬‬
‫ا ونهــاراً‪ ،‬سـ ّراً وجهــراً‪ ،‬فمــا آمــن معــه‬ ‫ـنة يدعوهــم إلــى اهلل ليـ ً‬
‫ألــف سـ ٍ‬
‫إال قليــل!‬

‫‪135‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وأنت تري ُد لهم الخي ُر‪،‬‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫عصوك‬ ‫وإ ْن‬
‫َ‬
‫قبلك وكان يدعوهم إلى النَجاة‪،‬‬ ‫السالم‬
‫صي موسى عليه ّ‬ ‫فقد ُع َ‬
‫فما عرفوا صدق دعواه إال وقد أطب َق عليهم البحر!‬
‫النقي كماء المطر‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وأنت‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عليك‬ ‫َ‬
‫ظلموك وافتروا‬ ‫وإن‬
‫قبلك وكان أنقى َ‬
‫منك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فقد ُظلم يوسف عليه ّ‬
‫السالم‬
‫إثم وال خطيئة‪،‬‬ ‫الج ّب بال ٍ‬ ‫ألقاه إخوته في ُ‬
‫بخس وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم‪،‬‬ ‫بثمن ٍ‬ ‫وباعه الس ّيارة ٍ‬
‫ٌ‬
‫عفيف!‬ ‫إثم غير أ ّنه‬‫السجن وما له من ٍ‬ ‫وألقته زليخة في ِّ‬
‫منك‪،‬‬‫افتقرت فقد افتق َر من هو خي ٌر َ‬ ‫َ‬ ‫وإن‬
‫السالم ال يج ُد رغيفاً فينام جائعاً!‬ ‫كان عيسى عليه ّ‬
‫يربط حجراً على بطنه من الجوع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫النبي ‬
‫ُّ‬ ‫وكان‬
‫عاق‪،‬‬ ‫بولد ٍ‬‫تليت ٍ‬ ‫وإن ابُ َ‬
‫َ‬
‫قبلك‪،‬‬ ‫السالم مرارة العقوق‬ ‫فقد تج َّرع نو ٌح عليه َّ‬
‫بزوجة ال تخاف اهلل َ‬
‫فيك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وإن ا ُ َ‬
‫بتليت‬
‫السالم كافرة!‬ ‫لوط عليه َّ‬ ‫فقد كانت زوجة ٍ‬
‫عاص‪،‬‬
‫بزوج ٍ‬ ‫بتليت ٍ‬ ‫وإن ا ُ ِ‬
‫َ َ َ ُّ ُ ُ َ ْ َ‬
‫بنت مزاحم يقول‪﴿ :‬أنا ربكم األع﴾‬ ‫فقد كان زوج آسيا ُ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫لهب وهو ع ُّم‬ ‫ما ع ُّم َك بش ٍّر من أبي ٍ‬
‫فإن في قصصهم عبرة!‬ ‫فتع َّز يا صاحبي بأهل العزاء ّ‬

‫‪136‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪26‬‬

‫َ‬ ‫َََ ُ َ‬
‫﴿فأثابَك ْم غ ًّما بِغ ٍ ّم﴾‬

‫لدي تجارب ِ‬
‫فاشلة‪،‬‬ ‫ليس َّ‬ ‫َ‬
‫لدي ِخبرةٌ‪ ،‬واإلنسا ُن ال يتعلَّ ُم إال من كِ يسه!‬ ‫َّ‬
‫لدي أعداء‪،‬‬ ‫ليس َّ‬ ‫َ‬
‫دروس على هيئةِ ناس‪ ،‬علّ ُموني كيف أجتنب أمثالهم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫لدي‬ ‫َّ‬
‫لدي ُجروح‪،‬‬ ‫ليس َّ‬ ‫َ‬
‫نجوت!‬
‫ُ‬ ‫ندوب‪ ،‬تُذ ِّكرني دوماَ أني‬ ‫ٌ‬ ‫لدي‬
‫َّ‬
‫الضحايا ين ُدبون دائماً‪،‬‬‫أعيش كضح ّية‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أكرهُ أن‬
‫كناج‪،‬‬
‫أحب أن أعيش ٍ‬ ‫ُّ‬
‫ّاجون يُكملُون طري َقهم أكثر ثق ًة وإشراقاً‪،‬‬ ‫الن ُ‬
‫وأق ّل التفاتاً إلى الوراء‪،‬‬
‫فسبحان من يصقلنا باله ّم والحزنِ والعثرات‪،‬‬
‫لنخر َج منها نسخ ًة أكثر ق َّو ًة وأق ّل مباال ًة!‬

‫‪137‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪27‬‬

‫أسل َم سع ُد بن أبي وقاص باكراً‪،‬‬


‫ـرك‪ ،‬قالــت لــه‪ :‬يــا ســع ُد‬ ‫ـت أ ُ ُّمــه بإســامه‪ ،‬وهــي علــى ِّ‬
‫الشـ ِ‬ ‫ولمــا علمـ ْ‬
‫ـوت!‬‫ـك صبـ َ‬ ‫بلغنــي أنـ َ‬
‫الشمس وال ِّريح‪،‬‬ ‫بيت من ّ‬ ‫هلل ال يُظلني ٍ‬ ‫فوا ِ‬
‫ٍ‬
‫بمحمد‪،‬‬ ‫وال آك ُل وال أشرب‪ ،‬حتى تكفر‬
‫قريش‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫كنت عليه من دين‬ ‫وترج َع إلى ما َ‬
‫ذلك‪ ،‬ولم يأبه بتهديدها‪،‬‬ ‫فرفض سع ٌد َ‬ ‫َ‬
‫تشرب وال تستظ ُّل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أيام ال تأكل وال‬‫فبقيت ثالثة ٍ‬‫ْ‬
‫شي عليها!‬‫حتى ُغ َ‬
‫فقام اب ٌن لها يُقال له عمارة‪ :‬فسقاها‪ ،‬وأطعمها‪ ،‬وأظلَّها‪،‬‬
‫سعد تدعو على ٍ‬
‫سعد‪،‬‬ ‫وجعلت أ ُّم ٍ‬
‫ْ‬
‫النبي  وشكا إليه ذلك‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فأتى سع ٌد إلى‬
‫فأنزل اهلل تعالى قوله في كتابه الكريم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ‬ ‫الي ْ ـهِ ُح ْسـ ً‬ ‫َ َ َّ ْ َ ْ َ َ‬
‫ـان ب َو ِ َ‬
‫ـرك ِب مــا‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ِت‬ ‫ل‬ ‫اك‬ ‫ـد‬‫ـ‬ ‫اه‬ ‫ج‬ ‫ِإَون‬ ‫ا‬‫ـن‬ ‫النسـ ِ‬ ‫﴿ووصينــا ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ َ َ‬
‫ـم فأن ّب ِ ُئكــم ب ِ َمــا‬ ‫كـ ْ‬ ‫جع‬ ‫ٌ‬
‫ليــس لــك ب ِـهِ عِلــم فــا ت ِطعهمــا إِل مر ِ‬
‫ُ ُ ْ َْ ُ َ‬
‫ـم تع َملــون﴾‬
‫كنتـ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫للصحابة من معارك غير تلك المعارك العاطفي ِّة‪،‬‬


‫لو لم يكن َّ‬

‫‪138‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫التي خاضوها في مواجهة أهاليهم لكفاهم!‬


‫وقاص‪،‬‬‫ٍ‬ ‫نفسك مكان سعد بن أبي‬ ‫َ‬ ‫فتخ ّي ْل‬
‫تشرب وال تستظ ّل حتى تكفر!‬ ‫َ‬ ‫وقد أقسمت أ َّم َك أال تأك َل وال‬
‫تخ َّي ْل تلك اللحظة ما أقساها وقد خطر لك‪،‬‬
‫أن أمك قد تموت بسبب فعلها هذا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫بتارك دينك ألجل ٍ‬
‫أحد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أنت‬
‫فال َ‬
‫َ‬
‫قلبك‪،‬‬ ‫أنت تستطيع بعدها أن تواجه‬ ‫وال َ‬
‫وقد ماتت أ ُّم َك بسببك ثم هي فوق كل هذا في النَّار!‬
‫نفسك مكان مصعب بن عمير‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وتخ َّي ْل‬
‫وأمــك هــي خُ نــاس بنــت مالــك التــي مــن قــوة شــخص َّيتها يهابُهــا‬ ‫َ‬
‫ال ِّرجــال!‬
‫وهي على دين قريش حتى العظم ال تنزاح قيد أُنملة‪،‬‬
‫وأنت ابنها الوسي ُم المد َّل ُل التي تتقبل منك أي شيءٍ ‪،‬‬ ‫َ‬
‫إال أن تفار َق دينها إلى دين اإلسالم‪،‬‬
‫قلبك وتحين تلك اللحظة الحاسمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ويقذف اهلل الحقَّ في‬ ‫ُ‬
‫لحظة المواجهة بين ال ُمد َّللِ البار وبين األ ِّم الهادرة كال َّرعد‪،‬‬
‫لقد ه َّم ْت أن تصفعه أمام الناس ولكنها تمالكت نفسها‪،‬‬
‫زاوية من زوايا البيت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذهبت به وق َّيدته في‬ ‫ْ‬ ‫ثم‬
‫فال تف ُّكه إال ليأكل ويشرب ويقضي حاجته ثم توثقه من جديد‪،‬‬
‫تخ َّي ْل كم هو صعب أن يغدو المرءُ أسيراً في بيته!‬
‫تخ َّي ْل تلك اللحظة في غزوة ٍ‬
‫بدر‪،‬‬
‫أبــو حذيفــة بــن عتبــة فــي صفــوف المســلمين وأبــوه وأخوه فــي صفوف‬
‫المشركين‪،‬‬

‫‪139‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫تخ َّيله يرى أباه وأخاه ينزالن إلى المبارزة‪،‬‬


‫َ‬
‫قلبك وقتها؟!‬ ‫نفسك مكانه وأخبرني أين‬ ‫َ‬ ‫تخ َّي ْل‬
‫الضاللــة إلــى‬
‫ـك مــن َّ‬ ‫ـك الــذي جــاء لقتــال الرجــل الــذي أخرجـ َ‬ ‫مــع أبيـ َ‬
‫الهــدى‪،‬‬
‫ومع أخيك شقيق روحك ورفيق صباك‪،‬‬
‫أم مــع أصحابــك وإخوتــك فــي هــذا ال ِّديــن وقــد ربطتكــم العقيــدة فــي‬
‫رباطهــا ال ُمقـ َّـدس‪،‬‬
‫وأنت ال تدري أ ّيهما تحتم ُل‪،‬‬‫َ‬ ‫َ‬
‫مشاعرك‬ ‫أخبرني عن‬
‫ال مسلماً فيحمل يوم القيامة إثم دمه‪،‬‬ ‫أبوك رج ً‬‫َ‬ ‫أن يقت َل‬
‫وأنت تعل ُم أنه ذاهب إلى النّار؟!‬‫َ‬ ‫أم يُقتل مشركاً‬
‫هنا كانت معاركهم ال ُكبرى لقد اُمتحنوا في قلوبهم!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ذهب أبو بكر إلى بيته‪،‬‬


‫َ‬ ‫يوم فتح م ّكة‬
‫السن الذي ال تكاد تحمله‬
‫الطاعن في ِّ‬ ‫وأتى بأبيه أبي ُقحافة َّ‬
‫قدماه‪،‬‬
‫النبي ‪،‬‬‫ُّ‬ ‫ولم ي ُكن قد أسل َم بعد‪ ،‬رغب ًة أن يدعو له‬
‫النبي صلَّى اهلل عليه وسلَّم قال ألبي بكر‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫فلما رآه‬
‫تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟!‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫هل‬
‫يمشي َ‬
‫إليك من أن‬ ‫َ‬ ‫فقال أبو بكر‪ :‬يا رسول اهلل هو أحقُّ أن‬
‫أنت إليه!‬
‫تمشي َ‬ ‫َ‬
‫النبي  بين يديه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫فأجلس ُه‬
‫َ‬

‫‪140‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ومس َح على صدره‪ ،‬وقال له‪ :‬أَ ْس ِل ْم!‬


‫فأسلم أبو ُقحافة‪ ،‬وبكى أبو بكر!‬
‫بإسالم‬
‫ِ‬ ‫ال َّرج ُل الذي أسلم على يديه كبار َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬أكر َمه اهلل‬
‫أبيه‪،‬‬
‫والجزاءُ من جنس العمل!‬
‫النبي صلَّى اهلل عليه وسلَّم لم ي ُهن عليه أن يُؤتى‬ ‫ِّ‬ ‫ألدب‬ ‫ُ‬
‫وانظ ْر ِ‬
‫بأبي ُقحافة لِكِ بَ ِر ِسنه‪،‬‬
‫يذهب هو إليه بنفسه!‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫استعداد أن‬ ‫ويُخب ُر أ ّنه كان على‬
‫بكر على أبيه‪،‬إنه ال يكاد يطيق ال ّدنيا وأبوه‬
‫نظ ْر لشفقة أبي ٍ‬ ‫وا ُ ُ‬
‫الشرك‪،‬‬ ‫على ّ‬
‫مات ولم يُسلم‪،‬‬ ‫كيف يُش ّي ُع المرءُ أباه إلى النّار إن هو َ‬
‫َ‬
‫أبويك ففيه مجامع ال ّبر كلّه‪،‬‬ ‫فاهت َّم بدين‬
‫والصيام‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الصالة‬‫لك با ٌل حتى يستقيما على َّ‬ ‫ال يهدأ َ‬
‫يحج ولو أكلت الخب َز الجاف!‬ ‫يموت أح ُدهما دون أن َّ‬‫َ‬ ‫ترض أن‬ ‫وال َ‬
‫فإن لم تستطع فال يُكلف اهلل نفساً إال وسعها‪،‬‬
‫عي وقبلَه صدق النّية!‬ ‫ويكفيك أن يرى اهلل صد َق ّ‬
‫الس ّ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫يُح ِّدثنا أبو هريرة عن قصة إسالم أمه فيقول‪:‬‬


‫كنت أدعو أ ُ ِّمي إلى اإلسالم وهي ُم ْش ِر َك ٌة‪،‬‬
‫ُ‬
‫فدعوتها يوماً َف َأ ْس َم َعتْنِي في رسول اهلل  ما أكره‪،‬‬

‫‪141‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫فأتيت رسول اهلل  وأنا أبكي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يا رسول اهلل‪ ،‬إني قد كنت أَ ْد ُعو أ ُ ِّمي إلى اإلسالم َفتَ ْأبَى َعل َ َّي‪،‬‬
‫فيك ما أكره‪،‬‬ ‫فدعوتها اليوم َف َأ ْس َم َعتْنِي َ‬
‫يهدي أ ُ َّم أبي هريرة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َفا ْد ُع اهلل أن‬
‫اهدِ أ ُ َّم أبي هريرة‪.‬‬ ‫فقال رسول اهلل ‪ :‬اللهم ْ‬
‫فخرجت ُم ْستَبْ ِشراً بدعوة نبي اهلل ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فلما جئت َف ِص ْر ُت إلى الباب‪ ،‬فإذا هو مشقوق‪،‬‬
‫دعس َق َد َم َّي‪ ،‬فقالت‪َ :‬م َكانَ َك يا أبا هريرة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َف َسمِ َع ْت أ ُ ِّمي‬
‫ض َة الماء!‬ ‫ض َخ َ‬ ‫َو َسمِ ْع ُت َخ ْ‬
‫ِس ْت دِ ْر َع َها‪َ ،‬و َع ِجل َ ْت َع ْن ِخ َم ِار َها‪،‬‬ ‫اغت ََسل َ ْت‪َ ،‬ولَب َ‬ ‫َف ْ‬
‫َف َفت ََح ِت الباب ثم قالت‪ :‬يا أبا هريرة إني أشهد أن ال إله‬
‫إال اهلل وأشهد أن محمداً رسول اهلل‪.‬‬
‫فرجعت إلى رسول اهلل ‪ ،‬فأتيته وأنا أبكي من الفرح‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أَبْ ِش ْر‪ ،‬قد استجاب اهلل دعوتك‪،‬‬
‫وهدى أ ُ َّم أبي هريرة!‬
‫النبي ‪ :‬أخيراً‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقال‬
‫ث َّم قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ا ْد ُع اهلل أن يُ َح ِّب َبنِي أنا وأمي إلى ِع َبادِ ه‬
‫المؤمنين َويُ َح ِّب َب ُهم إلينا‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل ‪ :‬اللَّهم َح ِّب ْب ُع َبيْ َد َك هذا َوأ ُ َّم ُه إلى عبادك‬
‫المؤمنين‪،‬‬
‫َو َح ِّب ْب ِإلَيْهِ ُم ال ُمؤْمِ نِي َن!‬
‫فما خُ ِل َق ُمؤْمِ ٌن يَ ْس َم ُع بي وال يراني إ َّال أَ َح َّبنِي!‬
‫يا لل ِب ِّر يا أبا ُهريرة‪ ،‬يا لل َب ِّر‪،‬‬
‫لم يهدأ له بال وأمه على غير اإلسالم‪،‬‬

‫‪142‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يدعوها بينه وبينها‪ ،‬ويدعو لها وحده‪،‬‬


‫يجلب‬
‫ُ‬ ‫فلما غلبته على أمره استعا َن عليها بالمبارك الذي‬
‫بالدعوات!‬
‫القلوب َّ‬
‫أبويك إلى الجنّة ولو كلّ َ‬
‫فك األمر أن تكون ممســحة‬ ‫َ‬ ‫فخُ ْذ بأيدي‬
‫عند قدميهمــا!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫حال كانا!‬
‫الب ُّر حقُّ األبوين على األوالد على أية ٍ‬
‫ولو كان شيءٌ يُسقط واجب الب ِّر من األبناء لآلباء‪،‬‬
‫حال‪،‬‬
‫ذنب وأفظ ُع ٍ‬ ‫الشرك وهو أعظم ٍ‬ ‫لكان ِّ‬
‫ولكن المسلم مأمو ٌر ببر والديه ولو كانا مشركين‪،‬‬
‫النبي  تسأله‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫جاءت أ ُّم أسماء إلى‬
‫أفأص ُل أمي؟‬
‫ِ‬ ‫علي أمي وهي راغبة‪،‬‬ ‫مت َّ‬ ‫قدِ ْ‬
‫فقال لها‪ :‬نعم‪ِ ،‬صلي أ ُ َّم ِك!‬
‫ولكن هناك فر ٌق شاسع بين الب ِّر وبين الطاعة العمياء‪،‬‬
‫بمعصية فال طاعة لهما‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فلو أم َر األبوان ابنهما‬
‫وطاعتهما في المعصية ليس براً‪،‬‬
‫ذنب اقترفه هو‪،‬‬ ‫بل هو إساءة لهما لجهة تحميلهما ٌ‬
‫وإساءة للنفس المأمورة بحملها على طاعة اهلل‪،‬‬
‫وحسن الخُ لق‪،‬‬ ‫وإنما الب ِّر في المعاملة‪ ،‬ولين الجانب‪ُ ،‬‬
‫أذى وإعراضاً‪،‬‬ ‫ولو كان يلقى منهما ً‬
‫أما في الحالل والحرام فاهلل قبل النَّاس!‬

‫‪143‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪28‬‬

‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ َّ َ ُ ُ ُ‬
‫سهِ َول ْم ُيبْدِها ل ُه ْم﴾‬
‫وسف ِف نف ِ‬ ‫﴿فأسها ي‬

‫العتب ال طائ َل منه‪،‬‬


‫ِ‬ ‫بعض‬
‫ُ‬
‫َّاس يُدر ُكون ج ّيداً ما يفعلُون‪،‬‬
‫ألن الن َ‬ ‫َّ‬
‫خوضها أساساً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المعارك‪ ،‬الفو ُز فيها بعدم‬ ‫وبعض‬
‫ُ‬
‫خصوماً‪،‬‬ ‫يستحقُّون أن ي ُكونُوا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ليس ك ُّل الن ِ‬
‫َّاس‬
‫ٍ‬
‫تافهة‪،‬‬ ‫معارك جانب ّي ٍة‬ ‫عم ُر َك أثمن من أن تقضيه في ِ‬
‫ٍ‬
‫وضيعة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫نزاالت‬ ‫وأعصابُ َك أغلى من أن تُتلفها في‬
‫وقلبُ َك أع ُّز من أن يت ِّس َخ بلوثة البغضاء‪،‬‬
‫أنزلك إلى مستواه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ت َر َّف ْع عن الوضيع وإال‬
‫وتغافل عن الكريم ألنه سيُق ِّد ُرها َ‬
‫لك‪،‬‬
‫وفي نهاية األمر الطري ُق واحدة‪:‬‬
‫ليس ك ُّل ما يُ ُ‬
‫عرف يُقال!‬

‫‪144‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪29‬‬

‫ّبي  أن بني المصطلق يجتمعون لحربه‪،‬‬ ‫بل َغ الن ُّ‬


‫فخر َج إليهم حتى لقيهم على ماءٍ من مياههم يقال له المريسيع‪،‬‬
‫فقاتلهم وانتص َر عليهم‪،‬‬
‫ّاس عليه‪.‬‬
‫والماء عند العين يومئذ قليل‪ ،‬فتزاح َم الن ُ‬
‫وكان مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له‬
‫جهجاه بن سعيد‪،‬‬
‫فازدحم جهجاه وسنان الجهني من بني عوف بن خزرج على‬
‫الماء فاقتتال‪،‬‬
‫فصرخ الجهني‪ :‬يا معشر األنصار‪،‬‬
‫وصرخ جهجاه‪ :‬يا معشر المهاجرين‪،‬‬
‫فأعا َن جهجاهاً رج ٌل من فقراء المهاجرين اسمه ُج َعال!‬
‫أبي بن سلول وشت َم ُجعاالً هذا!‬
‫فقام عبد اهلل بن ّ‬
‫فر َّد ُجعا ٌل على عبد اهلل بعض شتيمته!‬
‫وقا َم جماع ٌة من المهاجرين واألنصار فحالوا بين الفريقين‬
‫وأنهوا ّ‬
‫الشجار!‬
‫رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫سلول وعنده‬
‫ٍ‬ ‫وغضب ابن‬
‫الس ِّن‪،‬‬ ‫َ‬
‫يومذاك حديث ّ‬ ‫وكان‬
‫سلول‪ :‬قد نافرونا وكاثرونا في بالدنا‪ ،‬واهلل ما مثلنا‬
‫ٍ‬ ‫فقال ابن‬
‫ومثلهم‪،‬‬
‫إال كما قال القائل‪ :‬س ِّمن كلبك يأكلك!‬
‫ّ‬
‫األذل‪،‬‬ ‫أما واهلل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن األع ّز منها‬

‫‪145‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ّ‬
‫وباألذل رسول اهلل !‬ ‫يعني باألع ّز نفسه‪،‬‬
‫ثم أقب َل على من حضره من قومه فقال‪ :‬هذا ما جعلتم بأنفسكم‪،‬‬
‫أحللتموهم بالدكم‪ ،‬وقاسمتموهم أموالكم‪،‬‬
‫أما واهلل لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام‪،‬‬
‫لم يركبوا رقابكم وألوشكوا أن يتحولوا من بالدكم ويلحقوا‬
‫بعشائرهم ومواليهم‪.‬‬
‫فقال زيد بن أرقم‪ :‬أنت واهلل الذليل القليل المبغض في قومك‪،‬‬
‫ومحمد  في ع ٍّز من الرحمن ومودةٍ من المسلمين‪،‬‬
‫واهلل ال أحبك بعد كالمك هذا!‬
‫لزيد‪ :‬اس ُك ْت‪ ،‬فإنما كنت ألعب!‬‫سلول ٍ‬
‫ٍ‬ ‫فقال اب ُن‬
‫فمشى زيد بن أرقم إلى رسول اهلل  وذلك بعد فراغه من‬
‫الغزو فأخبره الخبر‪،‬‬
‫فأمر رسول اهلل  بالرحيل‪،‬‬
‫سلول فأتاه فقال‪ :‬ما هذا الذي بلغني عنك؟‬ ‫ٍ‬ ‫وأرسل إلى ابن‬
‫فقال ابن سلول‪ :‬والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من‬
‫ذلك قط‪ ،‬وإن زيداً لكاذب!‬
‫وقال من حضر من األنصار‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬شيخنا وكبيرنا‪،‬‬
‫غالم من غلمان األنصار‪،‬‬ ‫ال نصدق عليه بكالم ٍ‬
‫عسى أن يكون هذا الغالم َو ِه َم في حديثه‪،‬‬
‫فعذره رسول اهلل ‪ ،‬و َف َش ْت المالمة من األنصار لزيد!‬
‫وسار رسول اهلل ‪ ،‬فلقيه أُسيد بن ُحضير‪ ،‬فحياه بتحية النبوة‪،‬‬
‫ســاعة منكرةٍ ما كنت تروح‬
‫ٍ‬ ‫رحت في‬
‫َ‬ ‫ثم قال‪ :‬يا رسول اهلل لقد‬
‫فيها‪،‬‬

‫‪146‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فقال له رسول اهلل ‪ :‬أ َو َما بلغك ما قال صاحبكم؟‬


‫زع َم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج األعز منها األذل!‬
‫شــئت‪ ،‬هو واهلل‬
‫َ‬ ‫فقال أسيد‪ :‬فأنت واهلل يا رسول اهلل تخرجه إن‬
‫الذليل وأنت العزيــز‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬يا رسول اهلل ارف ْق به‪ ،‬فواهلل لقد جاء اهلل بك‪،‬‬
‫وإن قومه لينظمون له الخرز ليت ِّوجوه‪ ،‬وإنه ليرى أنك قد‬
‫استلبته ملكاً‪.‬‬
‫أبي بن سلول ما كان من أمر أبيه‪،‬‬
‫وبلغ عبد اهلل بن عبد اهلل بن ّ‬
‫فأتى رسول اهلل  فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪،‬‬
‫إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي‪ ،‬فإن كنت ال بد فاع ً‬
‫ال فمرني به‪،‬‬
‫فأنا أحمل إليك رأسه‪ ،‬فواهلل لقد علمت الخزرج ما كان بها‬
‫رجل أب ّر بوالديه مني‪،‬‬
‫وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله‪،‬‬
‫فال تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي أن يمشي في الناس‬
‫فأقتله‪،‬‬
‫بكافر‪ ،‬فأدخل النار‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫فأقتل مؤمناً‬
‫النبي ‪ :‬بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا!‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫جلس زيد بن أرقم في‬
‫َ‬ ‫فلما وصل رسول اهلل  المدينة‪،‬‬
‫البيت لما به من الهم والحياء‪،‬‬
‫إذ ك ّذبه ابن سلول فيما قال‪ ،‬ولم يُصدقه النّاس!‬
‫فنزلت سورة «المنافقون» في تصديق زيد وتكذيب ابن سلول‪،‬‬
‫فأخذ رسول اهلل  بأُ ُذن زيد بن أرقم ثم قال له‪:‬‬

‫‪147‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يا غالم صدق فوك ووعت أذناك ووعى قلبك‪،‬‬


‫وقد أنزل اهلل في ما قلت قرآناً!‬
‫سلول قريباً من المدينة‪ ،‬فلما أراد أن يدخلها جاءه‬ ‫ٍ‬ ‫وكان اب ُن‬
‫ابنه عبد اهلل‪،‬‬
‫فسد عليه طريق الدخول!‬ ‫َّ‬
‫لك ويلك؟‬ ‫سلول البنه‪ :‬ما َ‬ ‫ٍ‬ ‫فقال ابن‬
‫فقال له ابنه‪ :‬واهلل ال تدخلها إال بإذن رسول اهلل ولتعلمن اليوم‬
‫من األعز ومن األذل!‬
‫فشكا اب ُن سلول ابنه إلى رسول اهلل ‪،‬‬
‫فأرسل إليه أن خ ِّل عنه يدخل!‬
‫فقال‪ :‬أما إذا جاء أمر رسول اهلل  فنعم!‬
‫آيات شداد‪،‬‬ ‫نزلت فيك ٌ‬ ‫ْ‬ ‫فدخ َل‪ ،‬ث ّم قيل له‪:‬‬
‫فاذهب إلى رسول اهلل  يستغفر لك‪،‬‬
‫فلوى رأسه ثم قال‪ :‬أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت‪،‬‬
‫وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت‪،‬‬
‫فما بقي إال أن أسجد لمحمد!‬
‫َ َ َُ ْ َ َ َْْ َ ْ َ ْ ْ َ ُ ْ َ ُ ُ‬
‫فأنزل اهلل تعالى قوله‪ِ﴿:‬إَوذ ا قِيل لهم تعالوا يستغفِر لكم رســول‬
‫ــت ْك ُ‬ ‫َّ َ َّ ْ ْ ُ َ ُ ْ َ َ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ُّ َ‬
‫ون َو ُهم ُّم ْس َ‬
‫بونَ﴾‬ ‫ِ‬ ‫اللِ لووا رؤوســهم ورأيتهم يصد‬
‫سلول بعدها أياماً حتى اشتكى من ٍ‬
‫مرض‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ثم ما لبثَ اب ُن‬
‫ومات منه!‬

‫‪148‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الفات تق ُع دوماً بين النّاس‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الخ‬
‫تق ُع بين الفاجر والفاجر‪ ،‬وبين المؤمن والفاجر‪ ،‬وبين المؤمن‬
‫والمؤمن!‬
‫ولكن المؤمنين دوناً عن غيرهم يُســارعون في العودة إلى دينهم‬
‫وأخالقهــم‪،‬‬
‫حرب‬
‫خالف رحى ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أما الفاجرون فيتمادون ويجعلون من ك ّل‬
‫يديرونها أبد ال ّدهر‪،‬‬
‫حتى تكاد تطحنهم وتطحن معهم النّاس!‬
‫النُبالءُ يق ُع بينهم الخالف في وجهات النظر‪،‬‬
‫الصحابة من شتى األنواع وفي‬ ‫خالفات كثيرة بين ّ‬
‫ٌ‬ ‫حدثت‬
‫ْ‬ ‫وقد‬
‫كل المجاالت!‬
‫وليس الذي يدعو للعجب وقوع الخالفات بينهم‪ ،‬فهم بشر!‬
‫ولكن العجب هي تلك المالئك ّية في أخالقهم‪،‬‬
‫الطين فيهم!‬ ‫التي ما تلبثُ أن تنتصر على نزعةِ ّ‬
‫الخالف أحد أن يق َع فيه لنجا منه سيدا النُبالء‬ ‫ِ‬ ‫ولو نجا من‬
‫أبو بكر و ُعمر‪،‬‬
‫ولكن شتَّان بين الذين يَقلبون الصفحة سريعاً‪،‬‬
‫لحرب مستعرةٍ !‬ ‫ٍ‬ ‫وبين الذين يَجعلون كل خالف شرارة‬
‫بكر و ُعمر محاورة‪ ،‬قا َم منها ُعمر غاضباً‪،‬‬ ‫جرت بين أبي ٍ‬ ‫ْ‬
‫فلحقه أبو بكر يسأله أن يستغفر له‪ ،‬فلم يفع ْل‪،‬‬
‫حتى أنه أغل َق بابه في وجهه!‬

‫‪149‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫النبي  يُرى عليه أثر ما كان بينه وبين ُعمر‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فأقبل أبو بكر إلى‬
‫النبي  قال‪ :‬أما صاحبكم فقد غام َر أي خاص َم!‬ ‫ُّ‬ ‫فلما رآه‬
‫النبي  بالذي كان بينه وبين ُعمر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ثم سلَّ َم أبو بكر‪ ،‬وأخب َر‬
‫فرفض‪.‬‬ ‫َ‬ ‫يسامحه‬
‫َ‬ ‫وكيف طلب منه أن‬
‫لك يا أبا بكر‪ ،‬يُرددها ثالث مرات!‬ ‫النبي ‪ :‬يغفِ ُر اهللُ َ‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫ثم إن عمر ند َم على ما كان منه‪ ،‬فقص َد بيت أبي بكر فلم يج ْدهُ‪،‬‬
‫النبي  تبدوعليه أمارات‬ ‫ِّ‬ ‫وجلس ‪ ،‬ووجه‬ ‫َ‬ ‫النبي ‪ ،‬فســلَّ َم‬ ‫َّ‬ ‫فأتى‬
‫الغضب‪،‬‬
‫النبي  ل ُعم َر شيئاً يُحزنه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫حتى أشف َق أبو بكر أن يقول‬
‫كنت أظل َم‪ ،‬أي‬
‫هلل أنا ُ‬ ‫فجثا على ُركبتيه‪ ،‬وقال‪ :‬يا رسول اهلل وا ِ‬
‫الحق كان مع ُعمر!‬
‫اهلل بعثني إليكم ف ُقلْتُم كذ بْ َت وقال أبو بكــر‬ ‫إن َ‬ ‫النبي ‪َّ :‬‬ ‫فقال‬
‫ُّ‬
‫بنفســه ومالِــه‪،‬‬ ‫صد َق‪ ،‬وواساني ِ‬
‫فهل أنتم تاركو لي صاحبي‪ ،‬فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟!‬
‫تذهب عنهم فورة الغضب يُسرعون على الفور‬ ‫ُ‬ ‫النُبالءُ عندما‬
‫إلصالح المواقف‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وٱنظ ْر لنُبل ُعمر حين هدأ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ذهب قاصداً بيت أبي بكر ليُصلح ما كان بينه وبين صاحبه‪،‬‬ ‫َ‬
‫الصدفة‪ ،‬وال أن يتدخ َل بينهما الناس‪،‬‬ ‫لم ينتظ ْر أن تجم َعهما ُّ‬
‫حتى الخُ صومة لها أدب‪ ،‬ومن ال يملك أدب الخصومة فال يُؤمــن‬
‫جانبــه‪،‬‬
‫فكونوا نُبالء إذا تخاصمتم!‬
‫ما أشبه موقف ُعمر بموقف موسى عليه السالم الذي حين‬
‫غضب ألقى األلواح‪،‬‬
‫َ‬

‫‪150‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ذهب عنه الغضب أخذها!‬ ‫َ‬ ‫فلما‬


‫النبي  في ص ِّفه لم ي ُه ْن‬
‫َّ‬ ‫بكر ونُبلِه‪ ،‬فحين رأى‬
‫ألدب أبي ٍ‬ ‫ُ‬
‫وٱنظ ْر ِ‬
‫عنده ُعمر‪،‬‬
‫وسار َع لالعتراف أنه هو الذي أخطأ!‬
‫إبليس وآدم عليه السالم عصيا اهلل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫واعترف بخطئك‪،‬‬ ‫ُك ْن نبي ً‬
‫ال‬
‫رفض السجود‪ ،‬والثاني أكل من الشجرة ال ُمحرمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫األول‬
‫إبليس يُكابر حتى ُط ِر َد من رحمة اهلل‪  ،‬‬
‫ُ‬ ‫وما زال‬
‫وما زال آدم يستغفر حتى صار نبياً!‬
‫الخالفات بين النبالء وهم يخوضون غمار حياتهم‬ ‫ُ‬ ‫وقد تق ُع‬
‫اليومية‪،‬‬
‫هذه الدنيا مليئة بالمواقف‪ ،‬واإلنسان فيها ُعرضة لموقف!‬
‫كان للع ّباس بن عبد المطلب ميزاب على طريق عمر بن الخطاب‪،‬‬
‫فلبس ُعمر ثيابه يوم الجمعة‪ ،‬ومضى إلى المسجد ليخطب بالناس‪،‬‬
‫وكان أهل العباس قد ذبحوا فرخين على سطح الدار‪،‬‬
‫وصبوا الماء لتنظيف الدم لحظة مرور عمر دون أن ينتبهوا‪،‬‬
‫بقلع الميزاب من‬ ‫فأصاب عمر شيءٌ من الماء والدم‪ ،‬فأم َر ِ‬
‫مكانه!‬
‫فبدل ثيابه‪ ،‬ولبس غيرها‪،‬‬ ‫ث َّم رجع إلى بيته مسرعاً‪َّ ،‬‬
‫فخطب بالناس وصلى بهم‪ ،‬فلما انتهى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وعاد إلى المسجد‪،‬‬
‫النبي ‬
‫ُّ‬ ‫إن هذا الميزاب وضعه‬ ‫جاءه العباس وقال له‪ :‬وا ِ‬
‫هلل َّ‬
‫بيده في‬
‫هذا الموضع!‬
‫صعدت على ظهري حتى تضعه‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عليك إال‬ ‫أقسمت‬
‫ُ‬ ‫فقال له عمر‪:‬‬

‫‪151‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫في الموضع الذي وضعه فيه النبي ‪.‬‬


‫ففع َل الع َّباس ذلك!‬
‫نز َع عمر بن الخطاب ميزاب الع َّباس ألنه رأى فيه ضرراً‪،‬‬
‫تسبب بتلويث ثيابه‪ ،‬قد يتسبب بتلويث ثياب غيره‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فكما‬
‫وهو الخليفة وواجبه دفع الضرر عن الرعية‪،‬‬
‫فلما أخبره العباس أن الميزاب قد وضعه النبي  بيده الشــريفة‬
‫في هذا الموضــع‪،‬‬
‫أبى إال أن يحم َل العباس على ظهره ليقوم بوضعه من جديد‪،‬‬
‫وأي تواضع‪ ،‬وأي امتثال؟!‬ ‫أي ُح ٍّب هذا‪ ،‬وأي رجوع إلى الحق‪ُّ ،‬‬
‫معاش الناس‪ ،‬وصالح‬ ‫ُ‬ ‫وألن المال عجل ُة الحياة‪ ،‬ومنه وفيه‬ ‫َّ‬
‫شأنهم‪،‬‬
‫وهم قبل ذلك مفطورون على ُح ّبه‪ ،‬م ّيالون إلى جمعه‪،‬‬
‫خالفات النّاس تدور حوله‪،‬‬‫ٍ‬ ‫غرابة أن تكون ُج َّل‬
‫ٍ‬ ‫لم يكن من‬
‫بشكل أو بآخر مرتبط ٌة به!‬ ‫ٍ‬ ‫وأي هي‬
‫ارتفعت أصواتها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫النبي  ِشجار خصمين بالباب قد‬ ‫ُّ‬ ‫سم َع‬
‫الدين الذي‬‫وإذا أحدهما يطلب من صاحبه أن يخفف عنه َّ‬
‫أقرضه إياه شيئاً‪،‬‬
‫وأن يترف َق به في السداد‪ ،‬ويطيل له المدة‪.‬‬
‫فقال له صاحبه‪ :‬وا ِ‬
‫هلل ال أفعل!‬
‫النبي  فقال‪ :‬أين المتآلي على اهلل ال يفعل‬ ‫ُّ‬ ‫فخرج عليهما‬
‫المعروف؟‬
‫أحب‪،‬‬
‫ذلك َّ‬‫فقال‪ :‬أنا يا رسول اهلل‪ ،‬وله أي َ‬
‫أي فليخت ْر لنفسه أن أُخفف عنه من َّ‬
‫الدين‪،‬‬

‫‪152‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السداد وأطيل له المدة!‬‫أو أتر ْف َق به في َّ‬


‫وليست العبرة في الحديث أن نقف ضد صاحب الحق‪،‬‬ ‫ْ‬
‫نشجع الناس على عدم أداء ديونهم ودفع ما عليهم من‬ ‫ِّ‬ ‫وال أن‬
‫مستحقات‪،‬‬
‫وإنما العبرة أن يتعامل الناس بأخالق ورحمة قبل أن يتعاملوا‬
‫بالحق والواجب!‬
‫القصة إذا أ ّنه أ ّول ما ُذ ّكر بالمعروف‬
‫ّ‬ ‫الصحابي في‬
‫َّ‬ ‫وما أنبل‬
‫َعمِ َل به‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بمعروف في كل أحوالهم!‬ ‫دأب الصحابة‪ ،‬تعامل‬ ‫وعلى هذا كان ُ‬
‫ول ّما كان العم ُل فيه صالح النّاس‪ ،‬وعمارة دنياهم‪ ،‬فهم يعملون!‬
‫عمل أو أجير!‬
‫رب ٍ‬ ‫أحد إال هو أح ُد رجلين‪ :‬إما ُّ‬ ‫وما منّا من ٍ‬
‫لألجرة‪ ،‬أو بصورتها المدن ّية الحديثة‪ ،‬كالموظف‬ ‫بصورةٍ مباشــرةٍ ُ‬
‫في الشــركة‪،‬‬
‫ووقوع الخالفات‪ ،‬وحدوث الغضب‪ ،‬وإنزال العقوبة‪،‬‬
‫كاك منه حيثما ُوج َد عم ٌل و ُع ّمال‪،‬‬‫شيء مالز ٌم للعمل ال فِ َ‬
‫غير أن المؤمن يُراقب اهلل في النّاس‪ ،‬والفاجر ال يهمه إال جيبــه‬
‫ومصلحتــه!‬
‫أضر ُب غالماً لي بالسوط‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كنت‬
‫يقول أبو مسعود البدري‪ُ :‬‬
‫فسمعت صوتاً خلفي‪ :‬اِعل َ ْم أبا مسعود!‬
‫ُ‬
‫فلم أفهم الصوت من الغضب!‬
‫السوط من يدي!‬
‫فألقيت َّ‬
‫ُ‬ ‫فلما دنا مني فإذا هو رسول اهلل ‪،‬‬
‫عليك َ‬
‫منك على هذا‬ ‫َ‬ ‫فقال لي‪ :‬اِعل َ ْم أبا مسعود َّ‬
‫أن اهلل أقد َر‬
‫الغالم!‬

‫‪153‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أضرب مملوكاً بعده أبداً‪ ،‬وهو ُح ٌّر لوجه اهلل‬‫ُ‬ ‫فقلت‪ :‬وا ِ‬
‫هلل ال‬ ‫ُ‬
‫لمس َ‬
‫تك النار!‬ ‫فقال‪ :‬أما لو لم تفعل َّ‬
‫حاس ُب عليها القانون‪،‬‬‫ث ّمة أشياء ال يُ ِ‬
‫وال تُعتب ُر في ُعرف المحاكم ال جرائ َم وال ُجنَحاً‪،‬‬
‫تكتب‪ ،‬والمحكمة غداً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولكن اهلل يرى‪ ،‬والمالئكة‬
‫حين تُنش ُر الكتب التي ال تُغادر صغيرة وال كبيرة!‬
‫واُنظر لنُبل أبي مسعود‪ ،‬فهو وإن أخرجه غضبه عن نُبله أول‬
‫األمر‪،‬‬
‫فإنه سرعان ما عا َد إلى خُ لقه الرحيم‪،‬‬
‫فهو لم يرفع العقوبة فقط عن مملوكه‪ ،‬وإنما أعتقه أيضاً‪،‬‬
‫وال يمكن لس ّيد أن يفعل إحساناً مع مملوكه أكبر من أن يهبه‬
‫ُح ّريته‪،‬‬
‫مسعود إال أن يُكفّر عن خطئه بأبهى صورةٍ وأحالها!‬ ‫ٍ‬ ‫وقد أبى أبو‬
‫وكسب وتجارة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وأعمال‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫مال‪،‬‬
‫الخالفات بسبب ٍ‬
‫ُ‬ ‫وقد ال تحدثُ‬
‫وإنما قد تحدثُ حدوثاً عابراً ونحن نجتا ُز طرقات الحياة!‬
‫أمر من أمور الدنيا‪،‬‬ ‫اختلف بالل بن أبي رباح وأبو ذ ٍّر حول ٍ‬ ‫َ‬
‫فغضب أبو ذ ٍّر من بالل‪ ،‬وقال له‪ :‬يا اب َن السوداء!‬
‫النبي صلَّى اهلل عليه وسلَّم وأخبره بما حدث‬ ‫ِّ‬ ‫فجاء بالل إلى‬
‫بينه وبين صاحبه‪،‬‬
‫النبي صلَّى اهلل عليه وسلَّم أبا ذ ٍّر على جناح ُّ‬
‫السرعة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فاستدعى‬
‫إنك امر ٌؤ َ‬
‫فيك جاهلية!‬ ‫وقال له‪ :‬يا أبا ذر أع َّي ْرتَه بأمه؟! َ‬
‫فوض َع أبو ذ ٍّر خ ّده على التراب‪ ،‬وأقسم أن ال يرفعه حتى يطأه‬
‫بالل!‬

‫‪154‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫بفعل من جنس هذا الخطأ!‬ ‫من نُبل أبي ذ ٍّر أنه ك َّف َر عن خطئه ٍ‬
‫فالخطأُ استعالءٌ وفخ ٌر‪ ،‬ووضع الخ ِّد على التّراب إذال ٌل!‬
‫َ‬
‫خطئك‪،‬‬ ‫فك ِّف ْر عن خطاياك بما هو من جنس‬
‫فإن كان حرماناً من المال ُ‬
‫فجد فيه‪،‬‬
‫فأع ْده‪ ،‬ال اعتذار بال ارجاع الحقوق‪،‬‬ ‫وإن كان سلباً لحقٍّ ِ‬
‫وكل االعتذارات المنمقة ال تُفيد شيئاً ما لم ت ِ‬
‫ُرجع الحقَّ إلى‬
‫أهله!‬
‫فإن النّاس‬
‫فسار ْع بترميمها‪َّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫وإن كان الخطأ جرحاً في الكرامة‬
‫كرامات!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫العاقل ال يتبع نمطاً واحداً في ُك َّل تصرفاته‪،‬‬


‫وإ ّنما ينظ ُر في األمور فيختار أنسب الخطوات لها‪،‬‬
‫ال ِّرفق في كل المواقف قد يستحي ُل ضعفاً‪،‬‬
‫والحزم في كل المواقف قد يصب ُح ظلماً وقسوة‪،‬‬
‫النبي  أحكم الناس وأعقلهم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وقد كان‬
‫يُعطي الموقف ما يُناسبه‪ ،‬ويتحرك وفق الواقع والمستجدات‪،‬‬
‫أن بني المصطلق يجمعون لحربه‪ ،‬قام‬ ‫فهو هنا حين ع ِل َم َّ‬
‫هو بمهاجمتهم أو ًال!‬
‫االستباقي من أنجح خُ طط الحرب‪ ،‬وأكثرها فاعلية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والهجو ُم‬
‫ولكن هذا مرهون بحساب القدرات وتقدير المواقف‪،‬‬

‫‪155‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫النبي  لقتال العرب‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ففي غزوة األحزاب لم يخرج‬


‫العرب رموه يوماً من قوس واحدة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ألن‬
‫َّ‬
‫يومئذ كثيرون‪ ،‬والمسلمون مقارن ًة بهم قِ لَّة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وهم‬
‫على عكس الحالة التي كان عليها مع بني المصطلق‪،‬‬
‫الفارسي بحفر الخندق!‬
‫ِّ‬ ‫فأخذ في غزوة األحزاب برأي سلمان‬
‫الدفاع أفضل من الهجوم!‬ ‫قد َر الموقف‪ ،‬ورأى أن َّ‬ ‫َّ‬
‫هناك فرقاً شاسعاً بين الشجاعة والتهور‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ألن‬‫َّ‬
‫والنبــي  كان أشــجع النــاس‪ ،‬ولكــن هــذه الشــجاعة كانــت ُمغلفــة‬ ‫ُّ‬
‫بعقـ ٍـل وحكمـ ٍـة!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ك ُّل من أخفى شيئاً في قلبه أظهرتْ ُه له المواقف‪،‬‬


‫يرتدي قناعه إلى األبد!‬
‫َ‬ ‫ال أحد يستطي ُع أن‬
‫ُ‬
‫تميط اللثام‪،‬‬ ‫وال بُ َّد أن تأتي لحظات‬
‫الحقيقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫سيختفي قناع الحملِ الوديع ويظه ُر وجه ال ِّذ ِ‬
‫ئب‬
‫وهكــذا كان ابــن ســلول زعيــم المنافقيــن فــي المدينــة‪ ،‬كان يُظهــر‬
‫اإليمــان ويُ ِ‬
‫بطــ ُن الكفــر‪،‬‬
‫كان مجبراً أن يسير مع التَّيار‪،‬‬
‫نهر اإلسالم الهادر حين صار له دولة‪،‬‬
‫أي شيءٍ أن يقف في وجهه‪،‬‬ ‫لم يكن بإمكان ِّ‬
‫سلول بين أمرين ال ثالث لهما‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫وكان ابن‬

‫‪156‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫إما أن يُظهِ َر عداءه لإلسالم فيجرفه نهره الهادر‪،‬‬


‫يلبس قناع ال ِّنفاق حفاظاً على مكانته ومركزه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أو أن‬
‫وقد اختار ال ّثانية ولكن األقنعة تنفل ُ‬
‫ِت‪،‬‬
‫الحمل!‬
‫يطل من خالل وجه َ‬ ‫وجه ال ّثعلب ال بُ َّد أن َّ‬
‫ـلول‬
‫وعندمــا وقــع الخــاف فــي غــزوة بنــي المصطلــق‪ ،‬أخــر َج ابــن سـ ٍ‬
‫ك ّل مــا كان فــي قلبــه!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫لمعروف قال فاعله‪ :‬أنا فعلته!‬ ‫ٍ‬ ‫ال قيمة‬


‫المن مِ محاة اإلحسان!‬ ‫ُّ‬ ‫العرب قديماً‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وقالت‬
‫هناك أقبح من البخل؟‬ ‫َ‬ ‫وس ِئ َل حكيم‪ :‬هل‬ ‫ُ‬
‫تحدث بإحسانه إلى من أحسن إليه!‬ ‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬الكريم إذا َّ‬
‫جل في عاله‪:‬‬ ‫وأبلغ من كل هذا قول ربنا َّ‬
‫ْ َ ّ َ ْ ََ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫﴿ ل تبْ ِطلوا َص َدقات ِكم بِالم ِن والذىٰ﴾‬
‫صدقة تجر ُح كرامة إنسان الحرمان خي ٌر منها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُك َّل‬
‫بالمن واألذى فتركه أفضل من فعله‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫معروف مصحوب‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫وكل‬
‫إ ّما أن تفع َل لوجه اهلل تعالى أو ال تفعل‪،‬‬
‫بالمن ثانياً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فعلت لوجه اهلل أوالً‪ ،‬فال تُبط ْل هذا الفعل‬ ‫َ‬ ‫ثم إذا‬
‫أذى أبط َل أجراً قد ُكتب!‬
‫فكم من ً‬

‫‪157‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫نق ُل الخبر إلى المسؤول من باب التحذير ليس نميم ًة‪،‬‬


‫قدمة على مصلحة الفرد‪،‬‬
‫ألن مصلحة الجماعة ُم َّ‬
‫َّ‬
‫إن هذا الفرد مصلحته بإهالك الجماعة‪،‬‬‫خصوصاً ّ‬
‫ولكن هذا مشروط بأن ال تكون قادراً على إصالح األمر أوالً‪،‬‬
‫مشروط أ ّو ًال وأخيراً بأن ال يكون ّ‬
‫حظ لنفسك فيه‪،‬‬
‫ومصلحة مباشرة بارتفاعك إذا سقط غيرك‪،‬‬
‫مكيدة ال َّرشوة التي رأيتها من زميل في العمل‪،‬‬
‫حاول أن توقفها أ ّوالً وأن تنصح وتترفق‪،‬‬
‫طريق مسدود فأخب ْر عنها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫فإن وصلت األمور إلى‬
‫وال ت ُك ْن شيطاناً أخرس يرى الحقَّ فيسكت عنه‪،‬‬
‫ويرى الباطل فيجاريه وإن لم يشترك به‪،‬‬
‫و ُغ ُّ‬
‫ــش المقــاول فــي الجســور والطرقــات العامــة ال يجــوز الســكوت‬
‫عليــه‪،‬‬
‫فهالك مقاول فاسد أفضل من هالك النَّاس‪،‬‬
‫ثمة مواقف على المرء أن يكون فيها حكيماً‪،‬‬
‫وضع الرحمة في غير موضعها حم ٌق وغباء‪،‬‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وقد أحسن زيد بن أرقم إذ رف َع األمر إلى‬
‫َ‬
‫يعرف ما يُحاك وراء ظهره‪،‬‬ ‫على القائد أن‬
‫ولي األمر ليس بشخصه إنما بما يُم ِّثل‪،‬‬
‫ألن ّ‬
‫َّ‬
‫وفي سالمته وصالح أمره صالح أمر المسلمين‪،‬‬

‫‪158‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ولكــن احــذ ْر أن يكــون هــذا البــاغ لفتنــة‪ ،‬وتز ّلــف‪ ،‬ونــوال حظــوة عنــد‬
‫الســلطان‪،‬‬
‫ُّ‬
‫واح َذ ْر قبلها أن يكون هذا في أمور صغيرة تجعلها كبيرة‪،‬‬
‫عابر ال يترت َُّب عليه فساد المجتمع‪ ،‬وأمن النَّاس!‬
‫أو في خطأ ٍ‬
‫كا َن رجاء بن حيوة جالساً مع تالميذه في المسجد‪،‬‬
‫كرها من الناس‪.‬‬ ‫فتذاكروا نِعم اهلل‪ ،‬وأنه ما أحد يقو ُم ُ‬
‫بش ِ‬
‫فسمعهم رج ٌل على رأسه كساء فقال‪ :‬وال أمير المؤمنين؟‬
‫فقا َل له رجاء‪ :‬ما شأن أمير المؤمنين‪ ،‬إ َّنما هو رج ٌل من النَّاس!‬
‫فالتفتوا عنه فلم يجدوه‪ ،‬فقا َل رجاء لمن معه‪:‬‬
‫تعلمون ما أعل ُم من ُجرأ ِة الخليفةِ على الدم‪،‬‬
‫فإن دعاكم واستحلفكم‪ ،‬فأنْكِ روا!‬
‫وقت طوي ٌل إال والشرطة تأخ ُذ الجمي َع إلى الخليفة‪،‬‬
‫فما مضى ٌ‬
‫وصاحب الكساء عنده!‬
‫ُ‬
‫فقا َل له الخليفة‪ :‬يا رجاء ما حسبْت َُك تق ُع َّ‬
‫في!‬
‫فقا َل له رجاء‪ :‬ما كان هذا يا أمير المؤمنين‪.‬‬
‫فقا َل له الخليفة‪ :‬أتحل ُ‬
‫ِف أنه ما كان؟‬
‫فقا َل له رجاء‪ :‬وا ِ‬
‫هلل ما كان!‬
‫صاحب الكساءِ سبعين سوطاً‪،‬‬
‫ِ‬ ‫فأم َر الخليف ُة بجلدِ‬
‫فلقي رجا ًء بالباب‪،‬‬
‫َ‬ ‫فخر َج من عنده يتل َّوى من األلم‪،‬‬
‫وأنت فقيه ال ُمسلمين؟‬
‫َ‬ ‫أتكذب‬
‫ُ‬ ‫فقا َل له‪:‬‬
‫ِ‬
‫سفك‬ ‫َ‬
‫ظهرك خير من‬ ‫إن سبعين سوطاً في‬
‫فقا َل له رجاء‪َّ :‬‬
‫دماءِ ال ُمسلمين بالسيف!‬

‫‪159‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫للحديث في المســجدِ يقول‪ :‬احذروا‬ ‫ِ‬ ‫جلس بعدها‬ ‫َ‬ ‫وكا َن رجاء إذا‬
‫صاحب الكســاء!‬
‫عرف الخي َر من‬ ‫َ‬ ‫كا َن ُعمر بن الخطاب يقول‪ :‬ليس العاقل من‬
‫الشر‪،‬‬
‫عرف خير َّ‬
‫الش َّرين!‬ ‫َ‬ ‫وإ َّنما من‬
‫الحياةُ أحياناً ال تضعنا في موقفين أبيض وأسود فقط‪،‬‬
‫وقتذاك ميسوراً هيناً!‬
‫َ‬ ‫وعلينا أن نختار‪ ،‬لكان الخيار‬
‫ولكنها لألسف تض ُعنا في مواقف رمادية تحتا ُج إلى عقل‪،‬‬
‫واختيار أقلها‬
‫ِ‬ ‫حساب العواقب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تسديد و ُمقاربة‪ ،‬وإلى‬ ‫ٍ‬ ‫وإلى‬
‫ضرراً!‬
‫غير الحق‪،‬‬
‫حلف على ِ‬ ‫َ‬ ‫كا َن رجاءُ بن حيوة يعل ُم أنه‬
‫ولكنها الطريقة الوحيدة ليحفظ بها دمه ودم من كا َن معه‪،‬‬
‫فأن يُجل َد الواشي غير مأسوف عليه‪ ،‬أقل ضرراً من أن يُقت َل‬
‫األبرياء!‬
‫الخالفات بين الناس ال تُقال الحقيقة دوماً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫في‬
‫زادت من عمقِ الخالف‪ ،‬وأ َّد ْت إلى هجران وفِ تنة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ألنها ربما‬
‫حمالِ‬‫كالم َّ‬
‫دبلوماسية وحكمة‪ ،‬وإلى ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫األمو ُر أحياناً تحتا ُج إلى‬
‫أَ ْو ُجه‪،‬‬
‫الكذب وإ َّنما من عمقِ الفهم‪ ،‬وحسنِ التدبير‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وهذا ليس من‬
‫وتي خيراً كثيراً!‬ ‫وحساب العواقب‪ ،‬ومن يُؤتى الحكم َة فقد أ ُ َ‬ ‫ِ‬

‫‪160‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السادس‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ألسباب تعنيهم وال تعينك!‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬


‫سيكرهونك‬ ‫البعض‬
‫عليك أن تعرفها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وإن من حقائق الحياة ال ُم َّرة التي‬ ‫َّ‬
‫أن البعض سيكرهونك لمميزاتك ال لعيوبك!‬ ‫َّ‬
‫ألن أباه كان يُح ُّبه!‬ ‫الج ِّب َّ‬‫السالم أُلقي في ُ‬ ‫يوسف عليه ّ‬
‫السجن ألنه كان وسيماً وعفيفاً!‬ ‫لقي في ِّ‬ ‫وأ ُ َ‬
‫لمرض في نفسه هو‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫النبي ‬‫َّ‬ ‫سلول‬
‫ٍ‬ ‫وقد كره ابن‬
‫النبي  تُح ُّبه الحجارة والجمادات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فإن‬‫وإال َّ‬
‫حن الجذع إليه‪ ،‬وأُح ٌد جبل يُح ُّبنا ونح ُّبه‪،‬‬ ‫وقد َّ‬
‫سلول على وشك أن يصبح ملكاً‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كان ابن‬
‫فانهارت أحال ُمه‪،‬‬‫ْ‬ ‫الشريفة‬ ‫ثم جاءت الهجرة َّ‬
‫شخص بعينه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫موجهاً َّ‬
‫ضد‬ ‫هذا اإلسالم العظيم لم يكن َّ‬
‫ضد نظام الجاهل ّية كلَّه‪،‬‬ ‫موجهاً َّ‬ ‫ولكنّه كان َّ‬
‫سلول لم يكن ي َر من المشهد إال ما يتعلَّ ُق به‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ولكن ابن‬
‫لهذا فال تبحثْ في قلوب الكارهين عن سبب‪،‬‬
‫أخذت وظيفته‪،‬‬ ‫َ‬ ‫البعض سيعتق ُد َ‬
‫أنك‬
‫ـت المــرأة التــي كان مــن المفتــرض أن‬ ‫تزوجـ َ‬
‫ْ‬ ‫والبعــض ســيعتق ُد أنــك‬
‫يتزوجهــا‪،‬‬
‫وسخط وعدم رضى بقدر اهلل!‬ ‫ٌ‬ ‫وما هو إال حق ٌد‬

‫‪161‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫اللُ أوالً ثُ َّم الناس!‬ ‫َّ‬


‫علــى العقيــدة أن تتجـ َّـذ َر فــي القلــب تج ـ ُّذراً يهــون معــه ك ّل شــيءٍ وكل‬
‫أَحــد!‬
‫النبي  مكة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فلو كان الوالء لألرض ما َ‬
‫ترك‬
‫ولو كان للعائلة ما تب َّرأ من أبي لهب‪،‬‬
‫ولو كان للقبيلة ما قات َل قريشاً‪،‬‬
‫الدم!‬
‫ولكنها العقيدة أغلى من التراب ومن َّ‬
‫نظـ ْر لعبــد اهلل بــن عبــد اهلل بــن أُبــي بــن ســلول مــا أعظمــه‪ ،‬كان مــن أبـ ِّر‬ ‫وأُ ُ‬
‫النــاس بأبويــه‪ ،‬ولك ّنــه فــي المقابــل لــم يكــن أحــد فــي قلبــه أكبــر مــن اهلل!‬
‫النبــي  قــد أمــ َر بقتــل أبيــه‪ ،‬تطــ َّوع هــو ليقتلــه‬ ‫َّ‬ ‫ظــن أن‬‫عندمــا َّ‬
‫بنفســه!‬
‫لم يُ ِر ْد أن يفعل هذا أح ٌد غيره‪،‬‬
‫فيرى قاتل أبيه فتأخذه الحمية فينتقم ويقتل مسلماً بكافر!‬
‫وعندما عاد أبوه إلى المدينة منعه من دخولها‪،‬‬
‫النبي  بهذا‪،‬‬‫ُّ‬ ‫وأشترط أن يأذن‬
‫النبي  عنده وإن كانت اإلهانة من أبيه!‬ ‫ُّ‬ ‫لم ي ُه ْن‬
‫نعــم أُمرنــا بالبــ ِّر‪ ،‬وصلــة ال َّرحــم‪ ،‬واإلحســان إلــى األهــل واألقــارب‬
‫والجيــران‪،‬‬
‫ولكن ليس على حساب العقيدة ودين اهلل‪،‬‬
‫وال أحد أكبر من الحقِّ ‪ ،‬والمؤمن يقفُ مع الحقِّ وإن جاء ممن يكره‪،‬‬
‫ضد الباطل ولو جاء ممن يُ ِح ُّب!‬ ‫ويقف َّ‬ ‫ُ‬

‫‪162‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪30‬‬

‫َ‬ ‫َّ ُ َّ َ ْ َ َ ْ‬
‫ش ٍء خلق َناهُ بِق َدر﴾‬ ‫﴿إِنا ك‬

‫هلل تعالى أنه ال يختا ُر إلجابةِ ال ُّدعاء أسرع الزّمن‪،‬‬ ‫من حكمةِ ا ِ‬
‫وإ ّنما أنسبُه لك!‬
‫لك‪ ،‬ولم ت ُك ْن له‪،‬‬ ‫فاتك لم ي ُك ْن َ‬
‫َ‬ ‫ك ُّل شيءٍ‬
‫فليس مناسباً‪،‬‬
‫َ‬ ‫شخص حسبتَه المناسب فلم تنل ْ ُه‬ ‫ٍ‬ ‫ك ُّل‬
‫فحر ْمتَها‪،‬‬ ‫نفس َك ُ‬
‫تطلعت إليها ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫وظيفة‬ ‫وك ُّل‬
‫كان ك ُّل الخير أال تأخذها!‬
‫زاوية واحدةٍ ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نحن ال نرى المشه َد إال من‬
‫زاويتنا نحن!‬
‫ال!‬‫أ ّما اهللُ تعالى فيرى المشهد كام ً‬
‫وكم من عطاءٍ سبقه حرما ٌن‬
‫السالم عزيز مصر‪،‬‬ ‫يوسف عليه ّ‬ ‫ُ‬ ‫الج ّ ُب ما كان‬‫ولوال ُ‬
‫ولوال ال ُّدموع على أبواب مكة ما كان الفت ُح!‬

‫‪163‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪31‬‬

‫معيط صديقين ُمق َّربْين‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫خلف وعقبة بن أبي‬ ‫بي بن ٍ‬ ‫كان أ ُ ُّ‬
‫ـفر إال صن ـ َع طعام ـاً‪ ،‬ودعــا إليــه أشــراف‬ ‫وكان ُعقبــة ال يرج ـ ُع مــن سـ ٍ‬
‫قريــش‪.‬‬
‫النبي ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وكان يُك ِث ُر من مجالسة‬
‫فعا َد من سفره م َّر ًة‪ ،‬وصنع طعاماً‪ ،‬ودعا النّاس‪،‬‬
‫النبي  إلى طعامه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ودعا‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫قدم الطعام‪ ،‬قال له‬ ‫فلما َّ‬
‫ـك حتــى تشــهد أن ال إلــه إال اهلل‪ ،‬وأنــي رســول‬ ‫ـآكل مــن طعامـ َ‬
‫مــا أنــا بـ ٍ‬
‫اهلل!‬
‫فقال ُعقبة‪ :‬أشه ُد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن محمداً رسول اهلل!‬
‫النبي  من طعامه‪...‬‬ ‫ُّ‬ ‫فأكل‬
‫خلف غائباً‪ ،‬فلما عا َد أُخب َر بما كان‪،‬‬ ‫بي بن ٍ‬ ‫وكان أ ُ ُّ‬
‫صبأت يا ُعقبة؟‬‫َ‬ ‫ٍ‬
‫عقبة وقال له‪:‬‬ ‫فجاء إلى‬
‫علي رجل‪،‬‬ ‫صبأت‪ ،‬ولكن دخ َل َّ‬ ‫ُ‬ ‫فقا َل‪ :‬وا ِ‬
‫هلل ما‬
‫فشهدت له‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فأبى أن يأكل من طعامي حتى أشه َد له‪،‬‬
‫فشهدت له‪َ ،‬‬
‫فطعِ َم!‬ ‫ُ‬ ‫واستحييت أن يخر َج من بيتي ولم يطعم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫عنك حتى تأتيه فتبص َق في وجهه‪،‬‬ ‫بي‪ :‬ال أرضى َ‬ ‫فقال له أ ُ ُّ‬
‫ذلك ُعقبة أخزاه اهلل‪،‬‬ ‫ففع َل َ‬
‫ألقاك خارج مكة إال علوت َُك َّ‬
‫بالسيف!‬ ‫َ‬ ‫النبي ‪ :‬ال‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫بدر أسيراً و ُق ِت َل عن دون األسرى‪،‬‬‫فأُ ِخ َذ ُعقبة يوم ٍ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫لما كان منه‪ ،‬وإبراراً لكالم‬

‫‪164‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫حد بالمبارزة!‬‫النبي  يوم أ ُ ٍ‬‫ُّ‬ ‫بي بن ٍ‬


‫خلف فقتله‬ ‫أما أ ُ ُّ‬
‫وفي هذا أنزل اهلل تعالى قوله‪:‬‬
‫ت َم َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ع يَ َديْــه َي ُقــول يَــا لْتَــي اتَــذ ُ‬ ‫ِــم َ َ ٰ‬ ‫َ َ ْ َ َ َ ُّ َّ‬
‫الظال ُ‬
‫ــع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ويــوم يعــض‬
‫َ ْ َ َّ ْ ُ َ ً َ ً‬ ‫َ ً َ َ َْ َٰ ََْ‬ ‫َّ ُ‬
‫ــي لــم أتِــذ فلنــا خل ِيــا﴾‬ ‫الرســو ِل ســبِيل يــا ويلــى لت ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫حال فال تغتَ ْر!‬


‫ال ُّدنيا ال تلبثُ على ٍ‬
‫القــوي ال يبقــى قويــاً إلــى األبــد‪ ،‬والضعيــف ال يبقــى ضعيفــاً إلــى‬ ‫ُّ‬
‫األبــد‪،‬‬
‫كل شيءٍ في هذه ال ُّدنيا يتوارثه النَّاس‪،‬‬
‫اسأ ْل نفسك أين هي الممالك التي حكمت ال ُّدنيا قديماً؟‬
‫دارسة ُمنتشرةٍ هنا وهناك!‬ ‫ٍ‬ ‫آثار‬
‫ما بقي من ال ُّرومان غير ٍ‬
‫بقيت مضاء ًة قروناً؟‬ ‫ْ‬ ‫وأين نار المجوس التي‬
‫أُطفئت أخيراً‪ ،‬وزال األكاسرة وصا ُروا صفح ًة من التاريخ!‬
‫بقي من دولة الفراعنة في مصر‪،‬‬ ‫ما الذي َ‬
‫غيــر أهرامــات وحجــارة هــي الدليــل الوحيــد علــى أنهــم كانــوا يوم ـاً‬
‫هنــا؟‬
‫أين حضارة األندلس العظيمة التي حكمت ال ُّدنيا‪،‬‬
‫ما الذي بقي منها غير آثار القوم هناك؟‬
‫فإذا كان هذا حال ال ُّدول والممالك فكيف هو حال النَّاس؟!‬
‫أين فرعون الذي كان يصرخ متبجحاً‪ :‬أنا ربكم األعلى؟‬

‫‪165‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ويميت؟‬
‫ُ‬ ‫يدعي أنه يحيي‬ ‫وأين النَّمرود الذي كان َّ‬
‫الذهب واألموال َّ‬
‫الطائلة والكنوز؟‬ ‫وأين قارون صاحب َّ‬
‫وأين ذو القرنين الذي طاف األرض من مشرقها إلى مغربها؟‬
‫السماءِ قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫السحابة في َّ‬ ‫وأين هارون الرشيد الذي كان يخاطب َّ‬
‫خراج ِك؟‬
‫ُ‬ ‫إلي‬
‫شئت فسيرج ُع َّ‬ ‫أمطري حيث ِ‬
‫وعلي؟‬
‫ُّ‬ ‫بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‬ ‫أين أبو ٍ‬
‫والصالحون على م ِّر التاريخ؟‬ ‫َّ‬ ‫أين األنبياء‪،‬‬
‫ذهبوا جميعاً وبقيت لهم أعمالهم عند اهلل تعالى!‬
‫سنوات قليلة هي التي كانت فاصلة‪،‬‬
‫ـي  مــن أُبــي بــن خلــف و ُعقبــة بــن أبــي‬ ‫بيــن األذى الــذي نالــه النبـ ُّ‬
‫معيــط‪،‬‬
‫ثم انقلبت الحال وتغي َّر ْت موازين القوى‪،‬‬
‫ُقتال عقاباً عدالً‪ ،‬وجزا ًء مستحقاً‪،‬‬
‫ليدخل بعدها الذي كانوا يستضعفونه إلى مكة فاتحاً!‬
‫ـرك‬ ‫ـت لـ َ‬
‫ـك‪ ،‬ولــو دامــت األمــوا ُل لغيـ َ‬ ‫ـب لغيـ َ‬
‫ـرك لدامـ ْ‬ ‫لــو دامــت المناصـ ُ‬
‫ـت لـ َ‬
‫ـك‪،‬‬ ‫لدامـ ْ‬
‫فتواضع‪ ،‬ال أحد يبقى على الق َّمة‪ ،‬ال أحد!‬

‫رس َ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الصاحب ِ‬
‫ساحب‪،‬‬ ‫فإن َّ‬ ‫ِ‬
‫تصاحب‪َّ ،‬‬ ‫أُ ُ‬
‫نظ ْر من‬
‫ولو أجل ْ َت عينيك في سورة الكهف‪،‬‬

‫‪166‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أن كلباً خلَّ َد اهلل تعالى ذكره في القرآن الكريم‪،‬‬


‫الكتشفت َّ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫صالحة مشى معها!‬ ‫صحبة‬‫فقط ببركة ُ‬
‫ثم أَ ِعد النظر في هذه القصة التي نتدارسها‪،‬‬
‫صاحب سوءٍ أردى صاحبَه وأم َره بسوء األخالق فأطاعه‪،‬‬
‫َ‬
‫يساعدك على أن تحفظ دينك‪،‬‬ ‫فال ت ِ‬
‫ُصاح ْب إال من‬
‫إن المر َء ال يستغني ع ّمن يأخذ بيده إلى اهلل تعالى‪،‬‬‫َّ‬
‫نسي ذ ّكره‪ ،‬وإذا ذك َر أعانه‪،‬‬
‫َ‬ ‫إذا‬
‫أخطأت‪،‬‬
‫َ‬ ‫وإذا أخطأ أخ َذ على يده وقال له‬
‫َ‬
‫أخطاءك‪،‬‬ ‫بصاحبك من ز َّي َن َ‬
‫لك‬ ‫َ‬ ‫وليس‬
‫أن عمر بن عبد العزيز قال لصاحبه‪:‬‬
‫وفي حلية األولياء َّ‬
‫ضللت الطريق‪ ،‬فخُ ْذ بمجامع ثيابي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫إذا رأيتني‬
‫و ُهزَّني ه ّزاً‪ ،‬و ُق ّل لي‪ :‬يا عمر اتقِ اهلل‪ ،‬فإنك ستموت!‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫السوء‪،‬‬
‫الصديق ُّ‬
‫الصالح من َّ‬ ‫أردت أن ت َ‬
‫َعرف الصديق َّ‬ ‫َ‬ ‫إذا‬
‫ُ‬
‫فانظ ْر أين تجعلك صحبته من اهلل ع َّز وجل‪،‬‬
‫بك فهذا صديق صالح فت َّم ْ‬
‫سك به‪،‬‬ ‫فإن ق َّر َ‬
‫َ‬
‫باعدك فهذا صديق ُسوءٍ ففارقه وال تأسف!‬ ‫وإن‬
‫ٍ‬
‫عالمات دنيوية يُعرف به هذه بعضها‪:‬‬ ‫السوء‬
‫ولصديق ُّ‬
‫صديق السوء يُشكك بقدراتك‪ ،‬ويثبط من عزائمك‪،‬‬

‫‪167‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ينفــك يكســ ُر مجاذيــف إرادتــك‪ ،‬ويــرد ُد علــى مســامعك أنــك ال‬ ‫ُّ‬ ‫وال‬
‫تســتطيع‪،‬‬
‫وهذا في الحقيقة إنما يخشى أن تستطيع وتفعلها!‬
‫استغاللي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السوء في الغالب إنسان‬ ‫وصديق ُّ‬
‫َ‬
‫عليك‪،‬‬ ‫َ‬
‫مساعدتك له واجب‬ ‫َ‬
‫شعرك أن‬ ‫يُ‬
‫يعيش على حساب غيره‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كالطفيلي‬
‫ِّ‬ ‫فيستنزفك ما ّدياً وشعور ّياً‬
‫َ‬
‫َ‬
‫سيغادرك إلى غيرك‪،‬‬ ‫َ‬
‫عندك حاجة‬ ‫ومتى لم تعد له‬
‫هذا ال يعني أال تُساعد أصدقاءك ما ّدياً وتدعمهم معنوياًّ‪،‬‬
‫فبأي شيءٍ تكون صديقاً إال بهذا؟!‬ ‫ِّ‬
‫وإ ّنما القص ُد أن تُم ِّيز بين من يُح ّبك لشخصك وبين من يستغلك!‬
‫السوء من خصاله أنه ال يحترمك‪،‬‬ ‫وصديق ُّ‬
‫مرأى من النَّاس‪،‬‬
‫ً‬ ‫لك على‬ ‫وال يتو َّر ُع عن تقديم اإلهانات َ‬
‫ـراع كرامتــك‬‫بح َّجــة أ ّنهــا نصيحــة‪ ،‬مــن لــم يُـ ِ‬
‫ـاك أن تتقبــل اإلهانــات ُ‬ ‫فإيـ َ‬
‫ال يلزمــك!‬
‫ـك عثــر ًة‪ ،‬وال‬‫الســوء دائــم الشــكوى‪ ،‬كثيــر الت ّذمــر‪ ،‬ال يقيــل لـ َ‬
‫وصديــق ُّ‬
‫يقيــم لـ َ‬
‫ـك ز َّلــة‪،‬‬
‫لك على الخطوة‪ ،‬وعلى الكلمة‪ ،‬وعلى التَّصرف‪،‬‬ ‫يقف َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫حياتك؟!‬ ‫قاض في‬‫ما حاجت َُك إلى ِ‬

‫‪168‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫رحل ُة الهجرة من م ّكة إلى المدينة تخب ُرنا‪،‬‬


‫صاحب ولو كان نب ّياَ‬
‫ٍ‬ ‫أنِّ المر َء ال يستغني عن‬
‫ولكن العاقل يتخ ّي ُر فيختار كتفاً وسنداً وعكازاً‪،‬‬‫ّ‬
‫ـش فرصـ ًة ســانحة‬ ‫ورأت فيهــا قريـ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ـت حادثــة اإلســراء والمعــراج‪،‬‬ ‫حدثـ ْ‬
‫لتشــكيك أبــي بكـ ٍـر بدعــوة النبـ ِّـي  فالحادثــة تتخطــى حــدود العقــل‪،‬‬
‫بكر من أعقل الن َّاس وال يقب ُل خالف العقل‪،‬‬ ‫وأبو ٍ‬
‫والنبي  لم يلتقِ به بعد فيح ّدثه بما حدثَ معه‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫ســري بــه إلــى بيــت‬
‫َ‬ ‫صاحبــك يزعــم أنــه أ ُ‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫بكــر َّ‬
‫قالــوا لــه‪ :‬يــا أبــا ٍ‬
‫المقــدس‪،‬‬
‫وعاد إلى م ّكة في جزء من الليل!‬
‫فقال لهم‪ :‬إن كان قا َل فقد ص َد َق!‬
‫نفسه‪،‬‬
‫يعرف َ‬ ‫ُ‬ ‫يعرفك كما‬‫َ‬ ‫هذا هو الصديق ح ّقاً‪ ،‬الذي‬
‫ـك إال إيمانـاً وتصديقاً‬ ‫ـك‪ ،‬مــا ازدا َد بـ َ‬ ‫ولــو جــاءت ال ُّدنيــا كلُّهــا لتشــككه بـ َ‬
‫ويقيناً!‬
‫طينة هو صاحبه‪،‬‬ ‫النبي  يعل ُم ج ّيداً من أية ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫وكان‬
‫لهــذا كان يُخبئــه ليكــون رفيقــه فــي ال ّرحلــة التــي غ َّيــرت وجــه هــذا‬
‫الكوكــب إلــى األبــد!‬
‫كان أبو بكر كل يوم يستأذنه بالهجرة‪،‬‬
‫لك رفيقاً!‬ ‫لعل اهلل أن يجع َل َ‬ ‫فيقول له‪ :‬انتظ ْر َّ‬
‫فكان هو رفيقه!‬

‫‪169‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪32‬‬

‫َ َ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ْ ً َ ُ َ َ ٌْ َ ُ‬
‫ي لك ْم﴾‬ ‫﴿وعس أن تكرهوا شيئا وهو خ‬

‫السفينةِ كان في َخ ْرقِ ها‪،‬‬


‫نجاةُ َّ‬
‫وصال ُح الوالدين كان في قتلِ ابنهما‪،‬‬
‫تأخير ظهوره‪،‬‬
‫ِ‬ ‫كنز اليتيمين كان في‬ ‫ُ‬
‫وحفظ ِ‬
‫السالم إلى العرش‪،‬‬
‫خطوات يوسف عليه َّ‬ ‫ِ‬ ‫السج ُن كان أ ّول‬
‫ّ‬
‫السالم أل ّمه‪،‬‬
‫وهالك فرعون كان ال ب ّد له من ُمفارقة موسى عليه ّ‬ ‫ُ‬
‫وع ُّز الدولة كان يقتضي فراق مكة‪،‬‬
‫والهزيم ُة يوم أُحد ٍ علمتهم معنى ّ‬
‫الطاعة‪،‬‬
‫كثيراً ما يُغلِّف اهللُ عطاياه بالحرمان‪،‬‬
‫كثيراً ما تأتي الحماي ُة مقرون ًة بالوجع‪،‬‬
‫فال ت َر من المشهد إال ما تراه!‬

‫‪170‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪33‬‬

‫النبي  وقالوا له‪:‬‬


‫ِّ‬ ‫جاء اليهود إلى‬
‫َاك!‬ ‫َ‬
‫نسألك عن أشياء‪ ،‬فإن أجبتنا فيها ِاتَّبعن َ‬ ‫يا أبا القاسم‪ ،‬جئنا‬
‫َ‬
‫يأتيك من المالئكة‪،‬‬ ‫أخ ِب ْرنا من الذي‬
‫نبي إال ويأتيه ٌ‬
‫ملك من عند ر ِّبه بال ِّرسالة والوحي‪.‬‬ ‫فإنه ليس من ٍّ‬
‫فقال‪ :‬جبريل‪.‬‬
‫بالحرب والقتال‪َ ،‬‬
‫ذاك عد ُّونا!‬ ‫ِ‬ ‫فقالوا‪َ :‬‬
‫ذاك الذي ينز ُل‬
‫َ‬
‫التبعناك!‬ ‫قلت‪ :‬ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة‬ ‫لو َ‬
‫َ َ َ ُ ًّ ّ ْ َ َ َّ ُ َ َّ َُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫بيــل فإِنــه نــزل‬ ‫ل ِ‬ ‫فأنــز َل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬قــل مــن كن عــدوا ِ ِ‬
‫ــر ٰ‬ ‫ــدى َوب ُ ْ َ‬ ‫اللِ ُم َص ّدِقًــا ل ّ َِمــا َب ْ َ‬
‫ــن يَ َديْــهِ َو ُه ً‬ ‫ْ َّ‬ ‫َ َٰ َ ْ َ‬
‫ى‬ ‫ع قلبِــك بِــإِذ ِن‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ ًّ ّ َّ َ َ َ َ‬ ‫ُْ ْ‬
‫ج ْبِيــل َومِيــال‬ ‫َ‬ ‫َ ُُ‬
‫ل ِلمؤ ِمنِــن مــن كن عــدوا ِلِ وملئِكت ِـهِ ورسـلِهِ و ِ‬
‫ـن﴾‪،‬‬ ‫ـد ٌّو ّل ِلْ َكف ِريـ َ‬
‫الل َعـ ُ‬‫فَ ـإ َّن َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أحبار اليهودِ بالتَّوراة‪،‬‬‫ِ‬ ‫أعلم‬
‫الم من ِ‬ ‫هلل بن َس ٍ‬ ‫وكان عب ُد ا ِ‬
‫النبي  يوماً وقال له‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫فجا َء‬
‫ثالث ال يعلم ُه َّن إال نبي‪:‬‬ ‫َ‬
‫سائلك عن ٍ‬ ‫إني‬
‫الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟‬
‫فما أول أشراط َّ‬
‫ينز ُع الول ُد إلى أبيه أو إلى أ ِّمه؟‬
‫وما ِ‬
‫بهن جبري ُل آنِفاً!‬ ‫النبي ‪ :‬أَخب َرني َّ‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫قال‪ :‬جبريل‪ ،‬ذاك عدو اليهود من المالئكة!‬
‫ُ ْ َ َ َ َ ُ ًّ ّ ْ َ َ َّ ُ َ َّ َ ُ َ َٰ‬
‫بيــل فإِنــه نــزل ع‬ ‫ـي ‪﴿ :‬قــل مــن كن عــدوا ِ ِ‬
‫ل ِ‬ ‫فقــرأ عليــه النبـ ُّ‬
‫ْ َّ‬ ‫َْ َ‬
‫قلبِك بِــإِذ ِن اللِ﴾‪،‬‬

‫‪171‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ـاس من المشــرق‬‫الســاعة فنــا ٌر تحشـ ُر ال َّنـ َ‬‫ثــم قــال لــه‪ :‬أ َّمــا أ ّول أشــراط ّ‬
‫إلــى المغرب‪،‬‬
‫وأما أ ّول طعام أهل الجنّة فزيادة كبدِ الحوت‪،‬‬
‫وإذا سب َق ماءُ الرجلِ ما َء المرأة‪ ،‬نزع الول ُد إلى أبيه‪،‬‬
‫وإذا سب َق ماءُ المرأ ِة ما َء ال ّرجلِ ‪ ،‬نزع الول ُد إلى أمه!‬
‫أنك رسول اهلل‪،‬‬ ‫فقال له‪ :‬أشه ُد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأشه ُد َ‬
‫إن اليهود قو ٌم بُ ُه ٌت‪،‬‬ ‫يا رسول اهلل‪َّ :‬‬
‫وإنهم إن يعلموا بإسالمي قبل أن تسألهم عني يبهتوني!‬
‫النبي ‪ ،‬فقال لهم‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫فجاءت اليهود إلى‬
‫هلل بن َسالم فيكم؟‬ ‫رجل عب ُد ا ِ‬‫أي ٍ‬ ‫ُّ‬
‫فقالوا‪ :‬خي ُرنا واب ُن خيرنا‪ ،‬وس ِّي ُدنا واب ُن س ِّيدنا!‬
‫فقال لهم‪ :‬أرأيتم إن أسل َم عب ُد اهلل بن َسالم؟!‬
‫فقالوا‪ :‬أعاذه اهللُ من َ‬
‫ذلك!‬
‫هلل بــن َســام وقــال‪ :‬أشــه ُد أن ال إلــه إال اهلل‪ ،‬وأشــهد أن‬ ‫فخــر َج عبــد ا ِ‬
‫محمــداً رســول اهلل!‬
‫فقالوا‪ :‬هذا ش ُّرنا واب ُن ش ِّرنا!‬
‫أخاف يا رسول اهلل!‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬
‫فقال عبد اهلل‪ :‬فهذا الذي ُ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫يتبدلون!‬
‫عصر‪ ،‬ال يتغ َّيرو َن وال َّ‬
‫ٍ‬ ‫هؤالء هم اليهود في كل‬
‫أكثر الناس جحوداً‪ ،‬وأقساهم قلوباً‪ ،‬وأنقضهم عهوداً!‬

‫‪172‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫شقَّ اهللُ تعالى لهم البح َر وأنجا ُهم من فرعونَ‪،‬‬


‫الضفة األخرى ورأوا أُناساً يعبدون األصنام‪،‬‬ ‫فلما عب ُروا إلى ِّ‬
‫الســام أن يجعــل لهــم آلهــة أُســو ًة بهــؤالء‬ ‫طلبــوا مــن موســى عليــه َّ‬
‫القــوم!‬
‫الســام فــي شــأن قتيـ ٍـل يريــدون أن يعرفــوا‬ ‫وجــاؤوا إلــى موســى عليــه ّ‬
‫مــن قتلــه‪،‬‬
‫فطلــب منهــم أن يذبحــوا بقــر ًة‪ ،‬ويضربــوا الم ِّيــت ببعضهــا‪ ،‬ليقــوم‬ ‫َ‬
‫ويخبرهــم بــإذن اهلل‪،‬‬
‫فأخذوا يُفاوضون اهلل تعالى في شأن البقرة!‬
‫شد َد اهللُ تعالى عليهم!‬‫شددوا على أنفسهم‪َّ ،‬‬ ‫فلما َّ‬
‫ـرب بنبـ ٍّـي يأتــي آخــر الزَّمــان ويكــون‬
‫وكانــوا فــي الجاهليــة يت َّوعــدون العـ َ‬
‫منهم‪،‬‬
‫فلما كان نبياً عربياًّ كف ُروا به!‬
‫ويرجــو منهــم‬
‫ُ‬ ‫ويفاوضهــم‪ ،‬ويعاه ُدهــم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والبعــض مــا زال يأمن ُهــم‪،‬‬
‫الخيــر‪،‬‬
‫الــدرس مــن الماضــي محكــو ٌم أن يتجــ َّرع مــرارة‬ ‫وإن الــذي ال يتعلُّــ ُم َّ‬‫ّ‬
‫الحاضــر!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ُك ُّل ما شقَّ على ِ‬


‫نفس َك من أوامِ ِر اهلل‪،‬‬
‫نفس َك‪،‬‬
‫تستر ْح له ُ‬ ‫ِ‬ ‫فلم يقبله عقل ُ َك‪ ،‬أو لم‬

‫‪173‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رب؟‬‫نفس َك عنده‪ :‬أأنا عب ٌد أم ٌّ‬ ‫فس ْل َ‬ ‫َ‬


‫فأنت وما ترى!‬ ‫َ‬ ‫كنت رباًّ‬ ‫فإ ْن َ‬
‫كر َهه‪،‬‬‫أحب أم َره أم ِ‬ ‫كنت عبداً‪ ،‬فالعب ُد يكون في أمر س ِّيده‪َّ ،‬‬ ‫وإن َ‬
‫أن ك ّل ما ال يقبله عقل ُ َك من أوامر اهلل‪،‬‬ ‫و ِث ْق تماماً ّ‬
‫أوامر اهللِ!‬
‫ِ‬ ‫أنت‪ ،‬ال في‬
‫عقلك َ‬ ‫َ‬ ‫ِخلل في‬ ‫فل ٍ‬
‫ـليم بعــد‪ ،‬ولــم يتح َّق ْق مفهــو ُم اإليمانِ‬
‫ـك لــم تأخــذ األمــر بالتَّسـ ِ‬ ‫فهــذا ألنـ َ‬
‫َ‬
‫قلبك‪،‬‬ ‫فــي‬
‫جهة‪ ،‬وقلبُ َك في جهة‪،‬‬ ‫هلل تعالى في ٍ‬ ‫وجدت أوام َر ا ِ‬ ‫َ‬ ‫فإن‬
‫عقلك في أوامر اهللِ!‬ ‫َ‬ ‫قلبك‪ ،‬وال تُ ْعمِ ْل‬ ‫َ‬ ‫فراج ْع‬
‫اهلل أعل ُم‪ ،‬وأح َك ُم‪ ،‬وأع َد ُل منك!‬ ‫ألن َ‬‫كر مث ُل حظ األنثيين‪َّ ،‬‬ ‫للذ ِ‬‫َّ‬
‫عليك أن تتزوجي بغير المسلم ولو وجدتيه خلوقاً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وممنو ٌع‬
‫ِ‬
‫وغريزتك‪،‬‬ ‫ريك إياه قلبُ ِك‬
‫ألنك ال ترين من األمر غير ما يُ ِ‬
‫ِ‬
‫أما اهلل تعالى فيرى المشهد ُكلَّه!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫من أرا َد ال ُهدى هداه اهلل‪،‬‬


‫الضاللـ َة‪ ،‬زاده اهللُ تعالــى‬
‫ومــن مشــى فــي طريــقِ ال ُهــدى وقــد أضمـ َر َّ‬
‫ضــاالً!‬
‫نصر ال عن ِه ٍ‬
‫داية‪،‬‬ ‫النبي  بحثاً عن ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫جاء اليهود إلى‬
‫فما ح َّققُوا النَّص َر‪ ،‬وما أدر ُكوا الهداية!‬
‫الم باحثاً عن الحقِّ فهداه اهللُ إليه‪،‬‬ ‫هلل بن َس ٍ‬‫وجاء عب ُد ا ِ‬

‫‪174‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫اإلسالم حتى تموت!‬ ‫ِ‬ ‫النبي  يوماً‪َ :‬‬


‫أنت على‬ ‫ُّ‬ ‫وهو الذي قال له‬
‫لك‪،‬‬‫ليسرها اهللُ َ‬ ‫بقلبك حقاً‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫صالة الفجر شا ّقة‪ ،‬ولكن لو أردتها‬
‫اهلل على كل شيءٍ ‪،‬‬ ‫مت َ‬
‫قد ِ‬ ‫والحجاب كفكرةٍ فيه صعوبة‪ ،‬ولكن ِّك لو َّ‬ ‫ُ‬
‫قلبــك أعــذب مــن المــاء البــارد فــي يــوم شــديد‬ ‫ِ‬ ‫الســت ُر علــى‬
‫لغــدا َّ‬
‫الحــ ِّر‪،‬‬
‫ـس‪ ،‬ولكــن متــى اســتق َّر فــي قلبـ ِـك أن المــر َء فــي‬
‫والصدقــة بخــاف النَّفـ ِ‬ ‫َّ‬
‫ظـ ِّل صدقتــه يــوم القيامة‪،‬‬
‫ألذ من حالوة األخذ!‬ ‫عندك حالوة العطاء َّ‬ ‫َ‬ ‫لصارت‬
‫ْ‬

‫ابع‪:‬‬
‫الر ُ‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫كرهت‪،‬‬
‫َ‬ ‫أحببت أَ ْم‬
‫َ‬ ‫ُك ْن عادالً سوا ًء‬
‫وقعت بينك وبينهم‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َّاس ما ليس فيهم ألجل ِخصومة‬ ‫ال ت ُق ْل في الن ِ‬
‫َ‬
‫أغضبك‪،‬‬ ‫الصاد ُق يبقى صادقاً ولو‬
‫انزعجت منه‪،‬‬
‫َ‬ ‫واألمي ُن ال يصب ُح خائناً إذا‬
‫كر ْهتِها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫عفيفة وإن ِ‬ ‫عرض‬
‫ِ‬ ‫تح ِّطي من‬
‫ال ُ‬
‫ِ‬
‫تشاجرت معها!‬ ‫ٍ‬
‫فاضلة وإن‬ ‫وال تُسقطي من ُسمعة‬
‫ال تكونوا مسلمين بأخالقِ اليهود!‬
‫السماء‪،‬‬
‫شخص رفعتموه إلى َّ‬ ‫ٍ‬ ‫إذا رضيتم عن‬
‫السابعة!‬
‫شخص أنزلتموه إلى األرض َّ‬ ‫ٍ‬ ‫وإذا غضبتم على‬
‫هلل بن َسالم‪،‬‬‫بدل اليهو ُد أقوالهم في عبدِ ا ِ‬ ‫ٍ‬
‫لحظة واحدة َّ‬ ‫في‬
‫دقيقة تح ّو َل عندهم من خيرهم إلى ش ِّرهم!‬
‫ٍ‬ ‫في‬

‫‪175‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫لسنا مطالبين أن نُ ِح َّب جميع الناس‪،‬‬


‫لك وال سلطان ٍ‬
‫ألحد عليه إال اهلل‪،‬‬ ‫قلبُ َك َ‬
‫َّاس فال ت ُق ْل فيهم ما ليس فيهم!‬ ‫َ‬
‫لسانك للن ِ‬ ‫ولكن‬

‫‪176‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪34‬‬

‫اعةِ الْ ُع ْ َ‬
‫ِين َّات َب ُعوهُ ف َس َ‬ ‫َّ‬
‫﴿ال َ‬
‫سة ِ﴾‬ ‫ِ‬

‫كانت غزو ًة استم َّر ْت شهراً‪،‬‬ ‫ْ‬


‫إعدا ٌد‪ ،‬وتجهيزٌ‪ ،‬وارتحا ٌل عن المدينة إلى تبوك‪ ،‬ث ّم عودة‪،‬‬
‫ولكن اهلل س ّماها ساعة!‬ ‫ّ‬
‫المرض سرعان ما يزول‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الوقت سينجلي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ببعض‬
‫ِ‬ ‫واله ُّم‬
‫واألمو ُر ال ُمعقّدةُ تحتا ُج بره ًة وتنح ّ ُل‪،‬‬
‫كد َر َك البارحة هو اليوم ذكرى‪،‬‬ ‫ما َّ‬
‫نجوت‪،‬‬
‫َ‬ ‫صارت ندوباً تُذ ِّك ُر َك أ ّنك‬
‫ْ‬ ‫وجروح ُاألمس‬
‫صعوبة‪:‬‬ ‫َ‬
‫عمرك ُ‬ ‫نفسك عن أكثر ليالي‬ ‫َ‬ ‫ثم َس ْل‬
‫ألم ِ‬
‫يأت الصباح؟!‬

‫‪177‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪35‬‬

‫النبي  جابر بن عبد اهلل‪ ،‬فقال له‪:‬‬


‫ُّ‬ ‫لقي‬
‫َ‬
‫أراك منكسراً؟‬
‫َ‬ ‫لي‬
‫يا جابر‪ ،‬ما َ‬
‫وترك عياالً و َديْناً‪،‬‬
‫َ‬ ‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬استشهد أبي يوم أ ُ ٍ‬
‫حد‬
‫لقي اهلل به َ‬
‫أباك؟‬ ‫َ‬
‫أبشرك بما َ‬ ‫النبي ‪ :‬أفال‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫فقال جابر‪ :‬بلى يا رسول اهلل!‬
‫النبي ‪ :‬ما كلَّم اهللُ أحداً قط إال من وراء حجاب‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫أباك فكلمه كِ فاحاً‪،‬‬
‫وإنه أحيا َ‬
‫علي أ ُ ْع ِط َك!‬
‫تمن َّ‬
‫فقال‪ :‬يا عبدي َّ‬
‫قال‪ :‬يا رب‪ ،‬تُحييني فأُقت َل فيك ثاني ًة!‬
‫الرب ع َّز وجل‪ :‬إ ّنه قد سب َق منّي أ ّنهم إليها ال يرجعون!‬
‫ُّ‬ ‫فقال‬
‫النبي  أصحابه فقال لهم‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫لقي‬
‫ثم بعدها َ‬
‫طيــر‬
‫ٍ‬ ‫صيــب إخوانكــم بأُ ٍ‬
‫حــد‪ ،‬جعــل اهلل أرواحهــم فــي جــوف‬ ‫َ‬ ‫ل َّمــا أ ُ‬
‫خضــر‪،‬‬
‫ِتر ُد أنهار الجنة‪ ،‬تأكل من ثمارها‪،‬‬
‫ذهب معلقة في ظل العرش‪،‬‬
‫وتأوي إلى قناديل من ٍ‬
‫فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫من يُبلغ إخواننا عنَّا أ َّنا أحياء في الجنّة نُرزق‪،‬‬
‫ل َّئال يزهدوا في الجهاد‪ ،‬وال يتَّكِ لُوا عند الحرب‪،‬‬
‫فقال اهلل سبحانه‪ :‬أنا أبلغهم عنكم!‬
‫فأنزل سبحانه قوله‪:‬‬

‫‪178‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ـاء عِنـ َ‬ ‫ـل أَ ْ‬


‫ح َيـ ٌ‬ ‫َّ َ ْ َ ً َ ْ‬ ‫ـن قُتِلُــوا ف َ‬ ‫ـن َّالِيـ َ‬‫﴿و َل َتْ َسـ َ َّ‬‫َ‬
‫ـد‬ ‫يل اللِ أمواتــا بـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ِ‬
‫ََْ َْ ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ـم َّ ُ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫ُ َ َ‬
‫شون‬ ‫الل ِمــن فضل ِ ـهِ ويســتب ِ‬ ‫اهـ ُ‬ ‫حــن بِمــا آت‬ ‫ـم يُ ْر َزقــون ف ِر ِ‬ ‫َر ّبهـ ْ‬
‫ِِ‬
‫َ‬
‫ـم أ َّل َخـ ْ‬
‫ـم َو َل ُهــمْ‬
‫ـو ٌف َعلَيْهـ ْ‬ ‫ـن َخلْ ِفهـ ْ‬ ‫ح ُقــوا بهــم ّ ِمـ ْ‬‫ـم يَلْ َ‬ ‫ب َّالِيـ َ‬
‫ـن لَـ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ََُْ َ‬
‫يزنــون﴾‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الدرس األعظم من غزوة أ ُ ٍ‬


‫حد هو‪:‬‬ ‫َّ‬
‫والسير على ُسنَّةِ نب ِّيها‪،‬‬
‫ال نص َر لهذه األمة إال بطاعة ر ّبها‪َّ ،‬‬
‫غير هذا صراع قوى‪ ،‬وحديد بحديد‪،‬‬
‫َ‬
‫امتلك من أسباب النَّصر أكثر كان النَّصر له!‬ ‫من‬
‫ُريك موطن الخلل َ‬
‫فيك‪،‬‬ ‫تكس ُر َك وت َ‬
‫وهزيم ٌة ِ‬
‫َ‬
‫أمــرك‪ ،‬و ُمد ِّبــر‬ ‫فتحســب معــه‪ ،‬أنــك مالــك‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫طغيــك‬‫نصــر يُ‬
‫ٍ‬ ‫خيــ ٌر مــن‬
‫نفس َ‬
‫ــك!‬ ‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الفِ را ُق أليم‪ ،‬وفقد األح ّبة موجع‪،‬‬


‫شخص عن ُدنياك يجعلها فارغة فص ِّدقْ!‬‫ٍ‬ ‫إن رحيل‬ ‫وإن قيل َ‬
‫لك ّ‬
‫كان جابر على فقد أبيه مكسوراً‪،‬‬

‫‪179‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ثمة أشخاص ال يمأل مكانهم أحد!‬


‫النبي  على فقد ع ّمه حمزة مكلوماً‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وكان‬
‫يع ُّز على المرء أن يعتاد غياب أح َّبته‪،‬‬
‫وهذا ال عالقة له بمستوى اإليمان‪ ،‬وال يُنافي التسليم بقضاء اهلل‪،‬‬
‫نحن بشر‪ ،‬ومهما امتلكنا من قوة اإليمان سنبقى بشراً‪،‬‬
‫اإليمان يؤ ِّدب النفس ولكنه ال يُغ ِّير فطرتها‪،‬‬
‫النبي ‪،‬‬‫ِّ‬ ‫ثم و َم ْن يبل َغ ِش ْس َع نعلِ إيمان‬
‫وها هو قد أدماه فقد خديجة‪،‬‬
‫وأبكاه موت ابنه إبراهيم‪،‬‬
‫وفط َر قلبُه فقد ع ِّمه حمزة‪،‬‬
‫نحن ال نبكي من قلة اإليمان‪ ،‬وإ ّنما من كثر ِة الوجع!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أراك منكسراً؟!‬
‫َ‬ ‫لي‬
‫يا جابر ما َ‬
‫ما أعذبها من عبارةٍ ‪ ،‬وما أحالها من كلمات‪،‬‬
‫يحل مشاكلهم‪،‬‬‫َّاس في الغالب ال يريدون من َّ‬ ‫الن ُ‬
‫ولكنهم دوماً يريدون من يشعر بهم!‬
‫َ‬
‫صديقك أ ّمه التي فقدها‪،‬‬ ‫َ‬
‫إنك لن تُعيد إلى‬
‫بإمكانك أن تكون له كتفاً في حزنه!‬
‫َ‬ ‫ولكن‬
‫زوج ألختك التي مات عنها زوجها‪،‬‬ ‫َ‬
‫وإنك لن تعثر على ٍ‬
‫ليست وحدها!‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫بإمكانك أن تُشعرها أنها‬ ‫ولكن‬

‫‪180‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫إنك لن تعيد قدماً للمبتورة قدمه‪،‬‬


‫ولن تزر َع كلي ًة لمن أصابه الفشل الكلوي‪،‬‬
‫وقد ال تستطيع أن تجد عم ً‬
‫ال لمن فقد عمله‪،‬‬
‫الناس أنك تهتم!‬
‫َ‬ ‫ُري‬
‫ولكنك ببساطة يمكنك أن ت َ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أراك منكسراً؟!‬
‫َ‬ ‫لي‬
‫يا جابر ما َ‬
‫بقلبك جيداً فإنه يظه ُر على مالمحك!‬ ‫َ‬ ‫اعتنِ‬
‫تقتلك األشياء التي تأكلها‪ ،‬وإنما األشياء التي تأكل ُ َك!‬‫َ‬ ‫لن‬
‫ُ‬
‫تترك أثرها فيك‪،‬‬ ‫السيئة‬
‫كل المشاعر َّ‬
‫صدقني‪ ،‬نحن ال نشيخ بمرور األيام‪،‬‬
‫بقدر ما نشيخ بمرور الحوادث‪،‬‬
‫إن ليلة ه ٍّم تعدِ ُل في أثرها سنة من غير َه ٍّم!‬
‫عمل في بيئة متوترة‪،‬‬
‫وإن سنة من ٍ‬
‫تعدِ ُل عشر سنوات عمل في بيئة سليمة!‬
‫بكثير من عمره‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫شخص أكبر‬
‫ٍ‬ ‫رأيت مالمح‬
‫َ‬ ‫تستغر ْب إذا‬
‫ِ‬ ‫فال‬
‫هذا أثر األيام‪ ،‬يحدثُ أن تدوسنا األيام بقسوة!‬

‫‪181‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أراك منكسراً؟!‬
‫َ‬ ‫لي‬
‫يا جابر ما َ‬
‫ُك ْن لماحاً!‬
‫غص ًة في الحديث عن انكساراتهم‪،‬‬ ‫الناس يجدون َّ‬
‫ُ‬
‫حاجة سيقول َ‬
‫لك أنا محتاج‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ليس كل صاحب‬
‫َ‬
‫يخبرك بحزنه‪،‬‬ ‫بقادر أن‬
‫ٍ‬ ‫وما ك ّل إنسان‬
‫أساساً ث ّمة حزن ال تقوله الكلمات!‬
‫َ‬
‫يديك‪،‬‬ ‫شخص ابتدا ًء ويُلقي ه ّمه بين‬
‫ٌ‬ ‫ولن يأتيك‬
‫عليك أن تُالحظ تلك التغيرات الصغيرة فوراءها أحداث كبيرة!‬ ‫َ‬
‫ذاك الضحك الذي اختفى فجأة‪،‬‬
‫ث ّمة حزن قد أغل َق عليه الباب وتركه حبيساً في الداخل‪،‬‬
‫ذاك الخروج الدائم والتنزه الذي توقف فجأة‪،‬‬
‫مادي طارئ‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫قد يكون وراءه عسر‬
‫زوجي وصل إلى طريق مسدود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أو خالف‬
‫كانت تؤمن عيشاً رغيداً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أو فقد وظيفة‬
‫لذات ال ُّدنيا‪،‬‬‫حل فجأة فقضى على كل َّ‬ ‫أو مرض َّ‬
‫منك أن تسبر أغوار الناس‪،‬‬ ‫ليس مطلوباً َ‬
‫ولكن ال تُف ِّوت األشياء التي تظهر َ‬
‫لك‪،‬‬
‫فقد يجع ُل اهلل حلَّها على يديك‪،‬‬
‫َّاس أحياناً ال يريدون الحلول‪،‬‬ ‫وحتى إن لم تملك ّ ً‬
‫حل‪ ،‬الن ُ‬
‫بقدر ما يريدون أن يجدوا حولهم من يستمع ويهت َّم!‬

‫‪182‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السادس‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ال ُّدنيا دار َك َد ٍر وإن كان فيها أيام حلوة‪،‬‬


‫الناس لسنوات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫دار َفق ٍْد وإن اجتم َع‬
‫الصحة أياماً‪،‬‬ ‫مرض وإن غمرتنا ِّ‬ ‫دار ٍ‬
‫هي دار األرحام التي تُقطع ألجل األموال‪،‬‬
‫الصداقات التي تُهدم ألجل الوصول والمناصب‪،‬‬ ‫ودار َّ‬
‫ودار األمنيات التي ال تكتمل‪ ،‬واألحالم التي يتنازل عنها أصحابها‪،‬‬
‫والطعنات التي ال تشفى‪،‬‬ ‫ودار الجروح التي ت ِنزُّ‪َّ ،‬‬
‫وجدت فيها غير هذا فاحمد اهلل على العافية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فإن‬
‫ذكرت لك!‬
‫ُ‬ ‫ولكن أغلب النَّاس قد رأوا منها ما‬
‫ض زا ِئ ُل‪ ،‬ونعي ٌم منقوص‪،‬‬ ‫أال وإنها َع َر ٌ‬
‫حال له إال في الجنّةِ‬
‫محط ِر ٍ‬ ‫ّ‬ ‫والمرءُ فيها مسافر غريب وال‬
‫أو النار‪،‬‬
‫فأحب أن يرجع إليها‪،‬‬‫َّ‬ ‫وما خر َج منها أح ٌد ورأى مقعده من الجنّة‬
‫وهل يشتا ُق المريض الذي تعافى أليام المرض؟‬
‫وهل يشتا ُق الخائف الذي أَمِ َن أليام الخوف؟‬
‫وهل يشتا ُق الفاقِ ُد الذي وج َد أح َّبته أل ّيام الفقد؟‬
‫وهل يشتا ُق المجبور أليام كسره‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حدث‬ ‫خروجك منها أجمل‬‫َ‬ ‫ولهذا يا صاحبي ا ِْع َم ْل ليكون‬
‫لك فيها!‬ ‫َ‬

‫‪183‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪36‬‬

‫َ َ َ َ ٌ ُّ ْ َ ٌ َ ْ ٌ ّ ُّ ْ َ َ َ ْ َ ْ َ ْ ُ‬
‫ج َبتك ْم﴾‬ ‫﴿ولمة مؤمِنة خي ِمن م ِ‬
‫شك ٍة ولو أع‬

‫ال تتز َّو ْج إال ُمؤمنة‪،‬‬


‫ِك على تغييرها‪،‬‬ ‫وإياك أن تُراهن على قدرت َ‬ ‫َ‬
‫حطان امرأ ًة فاتن ًة من الخوارج‪،‬‬ ‫تز ّوج عمرا ُن بن ّ‬
‫وكان يُم ِّني نفسه أن يُعيدها إلى ُ‬
‫السنّة‪،‬‬
‫فصا َر هو من ُر ُؤوس الخوارج!‬
‫وال تتز َّو ِجي إال ُمؤمناً‪،‬‬
‫ِ‬
‫قدرتك على تغييره‪،‬‬ ‫وإياك أن تُراهني على‬ ‫ِ‬
‫احب ساحب!‬ ‫كالص ِ‬‫َّ‬ ‫الزّو ُج‬
‫في البداية والنّهاية البن كثير‪:‬‬
‫جت سجا ُح من مسيلمة َّ‬
‫الكذاب‪،‬‬ ‫تز َّو ْ‬
‫فجعل َمه َرها أن أسقط عن قومِ ها صالتَي الفجر والعشاء!‬
‫بنت ُمزاحم على دينها وهي عند فرعون‪،‬‬ ‫حافظت آسيا ُ‬
‫ْ‬ ‫نعم‬
‫ولكنَّه نهاية المطاف قتلها!‬

‫‪184‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪37‬‬

‫الصديقة بنت الصديق‪ ،‬عائشة‪ ،‬فتقول‪:‬‬ ‫تُح ِّدثنا أ ُ ُّمنا ِّ‬


‫النبي  في بعض أسفاره‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫خرجنا مع‬
‫حتى إذا كنا بالبيداء انقط َع عق ٌد لي‪:‬‬
‫النبي  على اِلتماسه‪ ،‬وأقام معه الناس‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فأقام‬
‫بكر فقالوا‪:‬‬
‫الناس إلى أبي ٍ‬‫ُ‬ ‫وليسوا على ماءٍ ‪ ،‬فأتى‬
‫بالنبي  والنّاس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أقامت‬
‫ْ‬ ‫صنعت عائشة‪،‬‬‫ْ‬ ‫أال ترى ما‬
‫وليسوا على ماءٍ ‪ ،‬وليس معهم ماء!‬
‫والنبي  واضع رأسه على فخذي قد نام‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بكر‬
‫فجاء أبو ٍ‬
‫النبي  والنّاس‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫حبست‬ ‫فقال‪:‬‬
‫وليسوا على ماءٍ ‪ ،‬وليس معهم ماء!‬
‫فعاتبنــي‪ ،‬وقــال مــا شــاء اهلل أن يقــول‪ ،‬وجعــل يطعننــي بيــده فــي‬
‫خاصرتــي‪،‬‬
‫النبي  على فخذي!‬ ‫ِّ‬ ‫فال يمنعني من التّحرك إال مكان‬
‫النبي  حين أصب َح على غير ماءٍ ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقام‬
‫فأنز َل اهلل تعالى قوله في التيمم‪:‬‬
‫َّ ْ َ ٰ َ ْ َ َ ٰ َ َ ْ َ َ َ ٌ ّ ُ‬
‫ِنكــم ّمِــنَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫﴿ ِإَون ُك ُ‬
‫نتــم مــرض أو ع ســف ٍر أو جــاء أحــد م‬
‫ــاء َف َت َي َّم ُمــوا َصع ً‬
‫ــدوا َم ً‬ ‫ــم َت ُ‬ ‫ــاء فَلَ ْ‬ ‫َْ َ َ ْ ُُ ّ‬
‫الن ِ َس َ‬ ‫َْ‬
‫يــدا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ــط أو لمســتم‬ ‫الغائ ِ ِ‬
‫ـوا َغ ُفـ ً‬
‫ـورا﴾‬ ‫الل َك َن َع ُفـ ًّ‬‫ـم إ َّن َّ َ‬‫ِيكـ ْ‬ ‫ُ‬
‫د‬‫ـم َو َأي ْ‬ ‫ُ‬
‫ِكـ ْ‬ ‫ـحوا ب ِ ُو ُجوه‬
‫ام َسـ ُ‬ ‫َط ّي ًبــا فَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فقال أُسي ُد بن ُحضير‪ :‬ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر‪،‬‬
‫كنت عليه‪ ،‬فأصبنا العقد تحته!‬ ‫ثم بعثنا البعير الذي ُ‬

‫‪185‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  الجيش كله‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫أوقف‬
‫وعسك َر بالنّاس ليبحث عن عقد زوجته الذي فقدته‪،‬‬
‫فقط ألنه يعل َ ُم أنه أثير على قلبها!‬
‫لــم يمنعــه الموقــف كلــه أن يراعــي خاطرهــا‪ ،‬ويمشــي فــي حاجــة‬
‫تُســعدها!‬
‫يخش أن يقول أحد إنه أوقف الجيش كلّه ألجل رضاها!‬ ‫َ‬ ‫ولم‬
‫أن الحنون يبقى حنوناً حتى في أصعب المواقف!‬ ‫أراد أن يُعلمنا ّ‬
‫وأن جبر الخاطر له متَّس ٌع مهما كانت الظروف‪،‬‬
‫الشخصية‪،‬‬ ‫وأن اإلحسان إلى الزَّوجة ليس ضعفاً في َّ‬ ‫َّ‬
‫وأن مراعاة مشاعرها ليس تبع َّي ًة لها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وأن فعل ما يُسعدها ال يعني أبداً أنه محكوم لها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫عي إلسعادها ليس نقصاً في الرجولة‪،‬‬ ‫الس َ‬
‫وأن َّ‬
‫فهو سيد الرجال‪ ،‬وال يفعل إال مكارم األخالق‪ ،‬وتمام الرجولة!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫توقف لها الجيش‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫أنت‪ ،‬فال‬


‫أما َ‬
‫ِس ألجلها النَّاس عن المسير‪،‬‬‫وال تحب ْ‬
‫ولكن أَ ِرها كل ٍ‬
‫يوم أ ّنك تهت ُّم لمشاعرها!‬
‫استطعت!‬
‫َ‬ ‫واف َع ْل ما يُسعدها‪ِ ،‬‬
‫وأز ْل الحز َن عنها إن‬

‫‪186‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫عاطفتك نحوها‪،‬‬‫َ‬ ‫َّ‬


‫ِستغل أصغر المواقف لتُظه َر‬ ‫ا‬
‫وتح ّين المواقف لتريها كم تح ُّبها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كلمات تُقال!‬ ‫فالح ُّب مواقف تُفعل‪ ،‬ال مج َّر َد‬
‫ُ‬
‫مرضت فهذه فرصة سانحة لتحنو عليها‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫إذا‬
‫وأع َّد لها مشروباً ساخناً‪،‬‬ ‫َ‬
‫بيديك‪ِ ،‬‬ ‫أعطها الدواء‬ ‫ِ‬
‫تحاي ْل عليها لتأكل وإن لم يكن عندها قابل ّية‪،‬‬
‫َ‬
‫بعضك!‬ ‫ِمس ْح على رأسها‪ ،‬وعانقها‪ ،‬وأشعِ رها أنها‬ ‫ا َ‬
‫مزاج سيءٍ احتملها‪،‬‬
‫كانت في ٍ‬‫ْ‬ ‫إذا‬
‫مزاج ثابت‪ ،‬أو يُطاق على الدوام؟!‬‫من منا له ٍ‬
‫َ‬
‫أرضتك‪،‬‬ ‫َ‬
‫رضيك‪ ،‬ولطالما‬ ‫وإذا بد َر منها تصرف ال يُ‬
‫فهب هذه َ‬
‫لتلك‪ ،‬وال تقِ ْف لها على الكلمة!‬ ‫ْ‬
‫إذا أنهكها عمل البيت فخفف عنها‪،‬‬
‫تأخرت بإعداد الطعام فادخُ ْل معها إلى المطبخ وساعدها‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وإذا‬
‫الحــب فــي غــرف النــوم إال إذا زرعنــاه فــي كل أرجــاء‬‫نحــن ال نحصــد ُ‬
‫المنــزل!‬
‫أشياء صغيرة تقو ُم بها ِ‬
‫تأس ُر قلبها‪،‬‬
‫الحب‪،‬‬
‫وإن إظهار االهتمام أرقى صور التعبير عن ُ‬ ‫َّ‬
‫بالحــب هــم الذيــن‬
‫فعيشــوا مشــاعركم وال تخجلــوا بهــا‪ ،‬أســعد النــاس ُ‬
‫يعطونه!‬

‫‪187‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫تفيض منه الرحمة فيضاً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هذا دين‬


‫بك‪،‬‬‫س رحمة اهلل َ‬ ‫تتحس ُ‬
‫َّ‬ ‫حتى في الفرائض‬
‫لك اهللُ تعالى أن تُفطر‪،‬‬ ‫سافرت يبي ُح َ‬
‫َ‬ ‫مرضت أو‬
‫َ‬ ‫إذا‬
‫َ‬
‫عليك‪،‬‬ ‫خبرك أنه يهت ُّم َ‬
‫بك‪ ،‬ويشف ُق‬ ‫َ‬ ‫رب‪ ،‬يُ‬‫يا له من ٍّ‬
‫لك أن تفطري‪،‬‬ ‫رضاع أو حمل يُجيز ِ‬ ‫ٍ‬ ‫كنت في‬ ‫وإذا ِ‬
‫أنك موضع اهتمام عنده سبحانه‪،‬‬ ‫يخبرك ربُّ ِك ِ‬ ‫ِ‬
‫ضعفك وإن جهله الناس‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫يعل ُم‬
‫ِ‬
‫حولك!‬ ‫ِ‬
‫عليك من‬ ‫وألمك وإن قسا‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجعك‬ ‫يرى‬
‫للصالة إن عجزنا عنه‪،‬‬ ‫أسقط عنا القيام َّ‬ ‫َ‬ ‫إذا مرضنا‬
‫فنصلي قعوداً‪ ،‬أو حتى في فراشنا‪ ،‬ك ّل بحسب استطاعته‪،‬‬
‫الصالة‪،‬‬
‫نقصر َّ‬‫إذا سافرنا لنا أن ُ‬
‫اشتد البرد والمطر لنا أن نجمع بين الصالتين‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وإذا‬
‫وإذا لــم نملــك المــال أُســقط عنــا ركنيــن مــن أركان اإلســام‪ ،‬ال ـزَّكاة‬
‫والحـ ّـج!‬
‫الصحة لم يُطالبنا بالحج‪،‬‬‫وحتى إن ملكنا المال ولم نملك ّ‬
‫رب أرحم بنا من أمهاتنا وآبائنا!‬ ‫يا له من ٍّ‬

‫‪188‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  خاطر عائشة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬


‫انتبهت كم راعى‬ ‫لعلّ ِك‬
‫ولكنك لم تنتبهي كم راعته هي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أبوها يلومها ويُع ِّنفْها‪ ،‬ويطعنها بإصبعه في خاصرتها‪،‬‬
‫ألن تو ُّق َف الجيش كان بسببها‪،‬‬‫أزعجه معاتبة النّاس له َّ‬
‫ولكنهــا تحبــس َوجعهــا وال تتحــرك‪ ،‬ثابتــة كالجبــل فــي مكانهــا‪ ،‬وهــي‬
‫المــرأة الرقيقــة‪،‬‬
‫فقط ألنها تخشى إن تحركت أن يستيقظ زوجها‪،‬‬
‫مت راحته على راحتها‪ ،‬وهنا َءه على هنائها‪،‬‬ ‫قد ْ‬‫َّ‬
‫واحتملت هي الوجع كي ينعم هو بالنوم!‬
‫فعلت أ ُّم ِك عائشة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫زوجك كما‬ ‫ِ‬ ‫راعيت ِ‬
‫أنت‬ ‫ِ‬ ‫فهل‬
‫ِ‬
‫فانتهيت شرا ًء لرضاه‪،‬‬ ‫نهاك عن تصرف يزعجه‬ ‫هل ِ‬
‫أم عاندته وتانحته كما تفعل البلهاوات من الزَّوجات؟!‬
‫نظرت في الطعام الذي يُح ُّبه فطبختيه له‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫هل‬
‫وفي الفاكهة التي يحبها فاشتريتها له‪،‬‬
‫أم أن رضاه كان آخر ه ِّم ِك؟!‬
‫عجبك شرا ًء لخاطره‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احتملت من أ ّمه ما ال يُ‬ ‫هل‬
‫وقفت لها على الكلمة فلم تراعي فيه معروفاً؟‬ ‫ِ‬ ‫أَ ْم‬
‫أكرمت أهله وأقاربه ألن ذلك يسعده‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫هل‬
‫تصرفاتك واحدة بواحدة‪ ،‬وهذه بتلك؟!‬ ‫ِ‬ ‫أم كانت كل‬
‫أسوأ ما في العالقات الزوجية أن تبحث الزوجة عن حقّها‪،‬‬
‫دون أن تسأل نفسها عن واجبها‪،‬‬

‫‪189‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫نغفل دائماً أن القيام بالواجب يسبق نيل الحقّ !‬


‫الحب يسب ُق حصاده‪،‬‬
‫وأن بذر ُ‬‫ّ‬
‫وأن أفعال اآلخرين معنا هي صدى أفعالنا!‬ ‫ّ‬
‫وأن العاقلة هي من تحتمل زوجها‪ ،‬وتصون بيتها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وال توقد بالمناكفات ناراً هي أول من سيحترق بها!‬

‫‪190‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪38‬‬

‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫﴿ل ي َ ْسخ ْر ق ْو ٌم م ِْن ق ْو ٍم﴾‬

‫دميم‪ ،‬فلم يخ ِل ْق أح ُدنا نفسه‪،‬‬


‫تسخ ْر من ٍ‬ ‫َ‬ ‫ال‬
‫فإن لم تحترم الخل َق فاحترم الخالق!‬
‫بفقير‪ ،‬فال أحد منا يرز ُق َ‬
‫نفسه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وال تهزأ‬
‫كلنا فقراء على باب اهلل!‬
‫ٍ‬
‫بسيطة‪،‬‬ ‫تزدر صاحب ٍ‬
‫مهنة‬ ‫وال ِ‬
‫فإن درهماً بالحالل خير من قنطار بالحرام!‬ ‫َّ‬
‫احتقار الحيوانات‪،‬‬
‫ِ‬ ‫لف يتناهون حتى عن‬ ‫الس ُ‬
‫كان َّ‬
‫بكي‪ :‬كنت جالساً بدهليز دارنا‪ ،‬فأقبل ٌ‬
‫كلب‪،‬‬ ‫الس ّ‬
‫يقول ُ‬
‫كلب ابن كلب!‬‫ِخس ْأ ٌ‬
‫فقلت‪ :‬ا َ‬
‫فزجرني أبي من داخل الدار!‬
‫فقلت‪ :‬سبحان اهلل‪ ،‬أليس هو كلباً ابن كلب؟‬
‫ُ‬
‫فقال‪ :‬شرط الجواز عدم قصد التَّحقير!‬

‫‪191‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪39‬‬

‫يقو ُل ِح ُّب رسول اهلل  واب ُن ِح ِّبه‪ ،‬أسامة بن زيد بن حارثة‪:‬‬


‫بعثَنَا رسو ُل اهلل  في َسر َّي ٍة إلى ُ‬
‫الحرقة من ُجهينة‪،‬‬
‫فص َّب ْحنا القو َم فهزمناهم‪،‬‬
‫ولحقت أنا ورج ٌل من األنصار رج ً‬
‫ال منهم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فلما غشيناه قال‪ :‬ال إله إال اهلل!‬
‫األنصاري عنه‪ ،‬وطعنتُه برمحي حتى قتلته!‬
‫ُّ‬ ‫فكف‬ ‫َّ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫فل َّما قدمنا المدينة‪ ،‬بل َغ َ‬
‫ذلك‬
‫فقال لي‪ :‬يا أسامة‪ ،‬أقتلته بعد أن قال ال إله إال اهلل؟!‬
‫السيف!‬‫قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إ ّنما كان متع ِّوذاً من َّ‬ ‫ُ‬
‫فقال‪ :‬أقتلته بعد أن قال ال إله إال اهلل؟!‬
‫ـلمت قبــل ذلـ َ‬
‫ـك‬ ‫ـت أنــي لــم أكــن أسـ ُ‬
‫فمــا زال يكررهــا علـ َّـي حتــى تمنَّيـ ُ‬
‫اليــوم!‬
‫َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َّ َ‬
‫ــامَ‬ ‫ََ َُ ُ‬
‫ونــز َل قــول اهلل تعالــى‪﴿ :‬ول تقولــوا ل ِمــن أل ٰ‬
‫ــى إِلكــم الس‬
‫َْ َ ْ‬
‫ـت ُمؤم ًِنــا﴾‬‫لسـ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس َّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ال تح ُك ْم على شيءٍ لم ت ُِح ْط به علماً‪،‬‬


‫طريق واحدة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الناس في‬
‫ُ‬ ‫قد يمشي‬
‫السماء واألرض!‬
‫وتكون المسافة بين نواياهم مقدار المسافة بين َّ‬

‫‪192‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ً َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ َّ ْ‬
‫ت قَم َ‬
‫يصـ ُ‬
‫ـه ِمــن‬ ‫ِ‬ ‫تهزنــي هــذه اآليــة عميق ـا‪﴿ :‬واســتبقا الــاب وقــد‬
‫ـر﴾‬ ‫ُُ‬
‫دبـ ٍ‬
‫كان يوسف عليه السالم وزليخة يركضان على الطريق ذاتها‪،‬‬
‫ولهما وجهة واحدة هي الباب‪،‬‬
‫يهرب من المعصية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولكن يوسف عليه السالم كان‬ ‫َّ‬
‫تركض وراءها!‬
‫ُ‬ ‫وهي كانت‬
‫رأيت من القصة هذا المشهد فقط‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وإنك لو‬
‫لك منها إال ما رأته عيناك‪،‬‬ ‫ولم ت ُِح ْط بك ّل تفاصيلها وليس َ‬
‫أنت أنه كان ِ‬
‫يقص ُد الباب ليهرب‪،‬‬ ‫ُلت هما سواء‪ ،‬وما أدراك َ‬ ‫لق َ‬
‫ش في هذه الحياة َحكماً وقاضياً!‬ ‫فال تعِ ْ‬
‫صحيح أن بعض األمور واضحة جلية‪،‬‬
‫ومن الحماقة أال يكون للمرء يقين في هذه الحياة‪،‬‬
‫ولكن تذ ّكر شيئاً مهماً‪:‬‬
‫النوايا ال يط ِل ُع عليها الناس ليقيموها‪ ،‬وال الشياطين ليفسدوها‪،‬‬
‫وال المالئكة ليكتبوها‪،‬‬
‫وحده اهلل سبحانه يرانا من ال ّداخل كما نحن!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫قمت اللي َل مع أبي‪،‬‬


‫ُ‬ ‫يرازي رحمه اهلل‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫يقو ُل ِّ‬
‫الش‬
‫وحولنا أُناس نيام لم يُصلُّوا‪،‬‬
‫فقلت ألبي‪ :‬لم يقم أح ٌد من هؤالء يصلي ركعتين!‬ ‫ُ‬

‫‪193‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الخلْقِ !‬ ‫َ‬
‫وقوعك في َ‬ ‫لك من‬‫نمت لكان خيراً َ‬ ‫ني‪ ،‬لو َ‬ ‫فقال لي‪ :‬يا بُ َّ‬
‫صالح َك ال يعطيك الحقَّ بازدراء الناس‪،‬‬ ‫َ‬
‫الصدر والتَّواضع مع العبادة دون النوافل‪،‬‬ ‫وسالمة َّ‬
‫خي ٌر من االستعالء مع كثرة النوافل!‬
‫ولتعل َ ـ ْم عل ـ َم اليقيــن أنــه ليــس بينــك وبيــن المبتلــى بمعصيــة اهلل إال‬
‫رحمــة اهلل‪،‬‬
‫وأن اهلل سبحانه لو خلَّى بينك وبين المعاصي‪،‬‬ ‫َّ‬
‫قت عليه أيضاً!‬‫لفعلت ما فع َل غيرك‪ ،‬ولربما تف َّو َ‬ ‫َ‬
‫ثُ َّم تعا َل هنا‪ ،‬وضع عينك في عيني‪،‬‬
‫ـاس عليهــا‬ ‫ـاص قــد ســترها اهلل عليـ َ‬
‫ـك‪ ،‬ولــو اطلــع النـ ُ‬ ‫ـك معـ ٍ‬ ‫ـت لـ َ‬
‫أليسـ ْ‬
‫ـقطت مــن أعينهــم‪،‬‬ ‫لسـ َ‬
‫كلنا يا صديقي أسوأ مما نبدو عليه‪،‬‬
‫الستر لو رفعه عنّا النفضحنا!‬ ‫ولكنّه رداء من اهلل اسمه َّ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أشهر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫رمت قيام الليل خمسة‬
‫الثوري رحمه اهلل‪ُ :‬ح ُ‬
‫ُّ‬ ‫يقو ُل ُسفيان‬
‫ذنب أذنبته!‬
‫بسبب ٍ‬
‫قيل له‪ :‬وما هو؟‬
‫فقلت في نفسي‪ :‬هذا رياء!‬
‫ُ‬ ‫ال يدعو اهلل ويبكي‪،‬‬‫رأيت رج ً‬
‫ُ‬ ‫فقال‪:‬‬
‫ال ِ‬
‫تقتح ْم نوايا النَّاس ودع الخل َق للخالق‪،‬‬
‫وإن أحدنا لتختلط عليه نيتّه أحياناً‪،‬‬‫َّ‬

‫‪194‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فما بالنا نجز ُم في نوايا النَّاس وكأننا شققنا عن قلوبهم!‬


‫وإن أسوأ ما يُبتلى به المرء هو أن يقع في نوايا الصالحين!‬ ‫َّ‬
‫إذا شاهد منتقب ًة قال‪ :‬تست ُر قبحها!‬
‫محجب ًة قال‪ :‬لعله َخ ِش ٌن شعرها!‬
‫َّ‬ ‫وإذا شاهد‬
‫وإذا رأى ال َّرجل يتصدق قال‪ :‬يُرائي!‬
‫وإذا رأى أحداً يزور أحداً قال‪ :‬له عنده مصلحة!‬
‫وإذا شاهد شاباً يرتاد المسجد قال‪ :‬معقَّد!‬
‫يجم ُع على نفسه ُقبحين في ٍآن معاً‪،‬‬
‫قبح العجز عن مجاراة الصالحين‪ ،‬وقبح الوقوع في نواياهم!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫البيهقي في ُشعب اإليمان عن ابن ع َّباس‪:‬‬


‫ُّ‬ ‫أخر َج‬
‫النبي  نظ َر إلى الكعبة فقال‪:‬‬
‫َّ‬ ‫أن‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫حرمتك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أعظمك وما أعظم‬ ‫بك من بيت‪ ،‬ما‬‫مرحباً ِ‬
‫وللمؤمن أعظم عند اهلل حرم ًة ِ‬
‫منك!‬
‫السننِ من حديث ابن عمر‪:‬‬ ‫وروى ابن ماجة في ُّ‬
‫ُ‬
‫يطوف بالكعبة‪،‬‬ ‫رأيت رسول اهلل ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫حرمتك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أعظمك وأعظ َم‬ ‫ِ‬
‫ريحك‪ ،‬ما‬ ‫ِ‬
‫أطيبك وما أطيب‬ ‫ويقول‪ :‬ما‬
‫والــذي نفــس محمــد بيــده لحرمــة المؤمــن‪ ،‬أعظــم عنــد اهلل حرم ـ ًة‬
‫منـ ِـك‪ ،‬مالــه‪ ،‬ودمــه!‬
‫وفي صحيح البخاري حديث يخطف القلب‪:‬‬

‫‪195‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ـب‬ ‫ـي ‪ :‬ال يــزا ُل العب ـ ُد فــي فسـ ٍ‬


‫ـحة مــن دينــه‪ ،‬مــا لــم يُ ِصـ ْ‬ ‫يقــول النبـ ُّ‬
‫دم ـاً حرام ـاً!‬
‫الشرك من إراقة دماء النَّاس ظلماً‪،‬‬ ‫ذنب أعظ َم عند اهلل بعد ِّ‬ ‫ال َ‬
‫ـإن أ ّول شــيءٍ يقضــي بــه اهلل ســبحانه بيــن ال َّنــاس يــوم القيامــة‬ ‫لهــذا فـ َّ‬
‫هــو ال ّدمــاء!‬
‫وما كان هذا إال لحرمة انتهاكها‪ ،‬وبشاعة فعلها‪،‬‬
‫ذنب خال الشرك‪،‬‬ ‫وأن يأتي العب ُد ر َّبه بكل ٍ‬
‫أهون عنده سبحانه من أن يأتيه في رقبته دم بريء سفكه‪،‬‬
‫الشــريفة أن المنتحــر فــي النــار‪ ،‬وقــد أزهـ َق‬ ‫وإذا كان ظاهــر األحاديــث َّ‬
‫روح نفسه‪،‬‬
‫زه ُق أرواح النّاس؟!‬ ‫فكيف بالذي يُ ِ‬

‫‪196‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪40‬‬

‫ََ َ ْ ُ ْ ُ‬
‫ت ِلختِهِ ق ّ ِصيهِ﴾‬ ‫﴿وقال‬

‫ماتت أمي وأنا صغير‪،‬‬‫ْ‬ ‫العسقالني‪:‬‬


‫ّ‬ ‫يقو ُل اب ُن َح ٍ‬
‫جر‬
‫فتو َّلت أختي تربيتي!‬
‫كانت قارئ ًة‪ ،‬كاتب ًة‪ ،‬أُعجوب ًة في الذكاء‪،‬‬ ‫ْ‬
‫وهي أمي بعد أمي!‬
‫دافئ جداً!‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫دافئ‪،‬‬ ‫األخت معطف‬ ‫ُ‬
‫السالم أحد عشر أخاً أخذوه من أبيه‪،‬‬ ‫كان ليوسف عليه َّ‬
‫أخت واحدة أعادته إلى أ ّمه‪،‬‬‫ٌ‬ ‫السالم‬ ‫ولموسى عليه ّ‬
‫كتف متي ٌن لالستناد‪،‬‬ ‫األخت ٌ‬
‫وصد ٌر حنو ٌن للفضفضة‪،‬‬
‫فال تنسوا أخواتكم في زحام الحياة!‬

‫‪197‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪41‬‬

‫قال معا ُذ بن جبل‪ :‬بينما نحن مع رسول اهلل  في غزوة تبوك‪،‬‬


‫وقد أصابنا الحر‪ ،‬فتف َّر َق القو ُم‪،‬‬
‫فنظرت فإذا رسول اهلل ‪ ،‬أقربهم مني‪،‬‬
‫فدنــوت منــه فقلــت‪ :‬يــا رســول اهلل‪ ،‬أنبئنــي بعمــل يُدخلنــي الجنَّــ َة‬ ‫ُ‬
‫ويُباعدنــي مــن النَّــار!‬
‫يســره اهلل تعالــى‬‫ـألت عــن عظيـ ٍـم‪ ،‬وإ ّنــه ليســي ٌر علــى مــن ّ‬ ‫قــال‪ :‬لقــد سـ َ‬
‫عليه !‬
‫تشرك به شيئاً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تعب ُد اهلل وال‬
‫الصالة المكتوب َة‪ ،‬وتؤدي الزَّكاةَ المفروضة‪ ،‬وتصوم رمضان‪،‬‬ ‫وتقيم َّ‬
‫شئت أنبأت َُك بأبواب الخير كلها!‬ ‫َ‬ ‫وإن‬
‫قلت‪ :‬أجل يا رسول اهلل!‬ ‫ُ‬
‫والصدقة تك ّف ُر الخطيئة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫قال‪ :‬الصوم ُجنَّة‪،‬‬
‫وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه اهلل تعالى‪،‬‬
‫َ ْ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ْ ً‬ ‫َْ َ‬ ‫َ َ َ َٰ ُ ُ ُ ُ ْ َ‬
‫جــعِ يدعــون ربهــم خوفــا‬ ‫ـن الم ِ‬
‫ا‬‫ض‬ ‫ثــم قــرأ‪﴿ :‬تتجــاف جنوبهــم عـ ِ‬
‫َ َ َ ً َ َّ َ َ ْ َ ُ ْ ُ َ‬
‫ـم يُنفِقــون﴾‬
‫وطمعــا ومِمــا رزقناهـ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬ ‫َّ‬
‫الصو ُم ُجنَّة‪ ،‬أي وقاية من النَّار!‬
‫َّ‬
‫النبي ‪ ،‬وأسلما بين يديه معاً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫جاء رجالن من اليمن إلى‬
‫وكان أحدهما أش ّ ُد اجتهاداً من اآلخر في العبادة‪،‬‬

‫‪198‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫النبي  فاستشهد‪ ،‬ثم مكثَ اآلخر بعده سن ًة ثم مات‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وغزا مع‬
‫فرأى طلحة بن عبيد اهلل في منامه أ ّنه عند باب الجنة‪،‬‬
‫ـك وأمـ َر الــذي توفــي حديثـاً بــأن يدخــل‬
‫وإذا الرجــان هنــاك‪ ،‬فجــاء َملَـ ٌ‬
‫الجنَّة‪.‬‬
‫ث ّم خرج مر ًة أخرى وأمر الذي استشه َد اوالً أن يدخل الجنّة‪.‬‬
‫بقي لك ُعمر!‬ ‫فإنك قد َ‬‫َ‬ ‫أنت فارج ْع‪،‬‬‫ث ّم خرج فقال لطلحة‪ :‬أما َ‬
‫فأصبح طلحة يُحدث الناس بما رأى فت َعجبوا!‬
‫أي شيءٍ تعجبون؟‬ ‫النبي ‪ ،‬فقال لهم‪ :‬من ّ‬ ‫ُّ‬ ‫فبلغ ذلك‬
‫فقالــوا‪ :‬يــا رســول اهلل‪ ،‬كان هــذا أشـ َّد الرجليــن اجتهــاداً‪ ،‬ثم استشــهد‪،‬‬
‫ودخـ َل اآلخـ ُر قبلــه الجنة!‬
‫أليس قد مكثَ هذا بعده سن ًة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فقال النبي ‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪.‬‬
‫وأدرك رمضان‪ ،‬فصا َم وصلى؟‬ ‫َ‬ ‫فقال‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬بلى‪.‬‬
‫فقال‪ :‬فما بينهما أبع ُد مما بين السماء واألرض!‬
‫الصحابي في القصة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الصيام الذي صامه‬ ‫إ ّنه ّ‬
‫فسب َق بصيامه وقيامه صاحبه الذي استشهد قبله!‬
‫فإن ُع ْمر المؤمن ال يزيده إال خيراً!‬
‫فسا ِبقُوا‪ّ ،‬‬
‫فيا مرحباً بالجوع والعطش في سبيل ا ِ‬
‫هلل فإ ّنها ُسويعات تمضي‪،‬‬
‫ويثبت األجر إن شاء اهلل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تمتلئ بعدها األمعاء‪ ،‬وترتوي الحناجر‬
‫يا مرحباً بقراءة القرآن‪ ،‬ض َّماد القلوب المجروحة‪،‬‬
‫وسلوى النفوس المحزونة‪ ،‬وجبال من الحسنات‪،‬‬
‫وال أقول ألم حرف‪ ،‬وإنما ألف حرف‪ ،‬والم حرف‪ ،‬وميم حرف!‬

‫‪199‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ُكف ُر الخطيئة!‬‫والصدقة ت ِ ّ‬ ‫َّ‬


‫ِــي‪ ،‬اذكــروا‬
‫حضــرت أبــا موســى األشــعري الوفــاة‪ ،‬قال‪ :‬يــا بَن َّ‬ ‫ْ‬ ‫لمــا‬
‫صاحــب ال َّرغيــف‪،‬‬
‫َ‬
‫إ ّنه رجل عبد اهلل في صومعته سبعين سنة‪،‬‬
‫ال ينز ُل في العام إلى الناس إال يوماً واحداً‪،‬‬
‫الشيطا ُن في عينه امرأ ًة‪ ،‬فكان معها بالحرام سبعة أيام‪،‬‬ ‫فز ّيَ َن ّ‬
‫فترك بلده وخر َج تائباً‪،‬‬
‫َ‬ ‫ثم تذكر عبادته وصالحه‪،‬‬
‫ال صلى وسجد‪،‬‬ ‫وكان كلما خطا قلي ً‬
‫مكان فيه اثنا عشر مسكيناً‪،‬‬ ‫فآواه الليل إلى ٍ‬
‫فأدركه التعب‪ ،‬فرمى نفسه بين رجلين منهم‪.‬‬
‫واحد منهم رغيفاً‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ليلة ويعطي كل‬ ‫راهب يم ّ ُر بهم كل ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫وكان هناك‬
‫فحسب التائب منهم‪ ،‬فأعطاه رغيفاً‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وم َّر عليهم‪،‬‬
‫ـك لــم تعط ِنــي رغيفــي‬ ‫فقــال الــذي لــم يأخــذ رغيف ـاً للراهــب‪ :‬مــا لـ َ‬
‫الليلــة؟‬
‫فقال له‪ :‬أتراني أمسكته َ‬
‫عنك‪،‬‬
‫أعطيت أحداً منهم رغيفين؟‬ ‫ُ‬ ‫أصحابك هل‬ ‫َ‬ ‫َس ْل‬
‫فقالوا‪ :‬ال‪.‬‬
‫هلل ما معي أرغفة إال بعددكم!‬ ‫فقال‪ :‬وا ِ‬
‫ـب إلــى ال َّرغيــف الــذي دفعــه إليــه ال َّراهــب‪ ،‬فأعطــاه إلــى‬ ‫فعم ـ َد التائـ ُ‬
‫الرجــل الــذي لــم يأخــذ‪.‬‬
‫التائب ميتاً!‬
‫ُ‬ ‫وأصب َح‬

‫‪200‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ف ُو ِزنت السبعون سن ًة في العبادة بالليالي َّ‬


‫السبع في الزِّنى‪،‬‬
‫فرجحت به َّن ليالي الزنى‪،‬‬
‫ْ‬
‫زنت ليالي الزنى بالرغيف‪ ،‬فرجح به َّن الرغيف‪.‬‬ ‫ثم ُو ْ‬
‫صاحب ال َّرغيف!‬ ‫َ‬ ‫فقال أبو موسى‪ :‬اذكروا‬
‫أدراك كيف تكون الموازين غداً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ما‬
‫يذهب هبا ًء!‬
‫ُ‬ ‫وأي شيءٍ‬‫وأي شيءٍ يرج ُح‪ُ ّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫شهر ِ ّ‬
‫بالسر‪،‬‬ ‫لمريض فقير كل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الدواء تشتريها‬
‫أدراك أن ُعلبة َّ‬ ‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬
‫معاصيك!‬ ‫ال تُطل ُع أحداً عليها‪ ،‬ترج ُح بالميزان بكل‬
‫متعثر في الدنيا‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أدراك أن ال َّدين الذي تقضيه عن‬ ‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬
‫دينك عنده‪،‬‬ ‫يقضي اهللُ تعالى‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قلبك من ن َّي ٍة غير أن‬ ‫وليس في‬
‫تشتري به جن ًة عرضها السماوات واألرض!‬
‫َ‬
‫وصلتك فسترتها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫فالنة التي‬ ‫َ‬
‫أدراك أن معصية‬ ‫ما‬
‫ـك ترجــو أال يفضحـ َ‬
‫ـك يــوم القيامــة علــى رؤوس‬ ‫ـك إال أنـ َ‬ ‫وليــس فــي قلبـ َ‬
‫الخالئق‪،‬‬
‫َ‬
‫رقبتك من النَّار!‬ ‫فيعطيك ما ترجو‪ ،‬ويكون موقف واح ٌد هو فكاك‬ ‫َ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫وقيا ُم ال َّرجل في جوف الليل يبتغي وجه اهلل تعالى!‬


‫قــال ســعيد بــن المســيب‪ :‬إن الرجــل ليصلــي بالليــل‪ ،‬فيجعــل اهلل فــي‬
‫وجهــه نــورا يحبــه عليــه كل مســلم‪،‬‬
‫ألحب هذا الرجل!‬‫ُ‬ ‫فيراه من لم يره قط فيقول‪ :‬إني‬

‫‪201‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وقيــل للحســن البصــري‪ :‬مــا بــال المتهجديــن بالليــل مــن أحســن ال ّنــاس‬
‫ُوجوهاً؟‬
‫فقال‪ :‬أل ّنهم َخلُوا بال ّرحمن فألبسهم من نوره!‬
‫كابدت نفسي على القيام عشرين سنة!‬ ‫ُ‬ ‫ثابت البنان ُِّي يقول‪:‬‬
‫وكان ُ‬
‫وتلذذت به بعد ذلك عشرين سنة!‬ ‫ُ‬
‫وكان عبد العزيز بن أبي ر ّواد يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل‪،‬‬
‫فيتحسسه ثم يقول‪ :‬ما ألينك!‬ ‫َّ‬ ‫فكان يضع يده على الفراش‬
‫ولكن فراش الجنة ألين منك! ثم يقوم إلى صالته!‬
‫ـف‬ ‫وقــال رجــل إلبراهيــم بــن أدهــم‪ :‬إ ّنــي ال أقــدر علــى قيــام الليــل ِ‬
‫فصـ ْ‬
‫لــي دوا ًء؟‬
‫تعصه بالنَّهار وهو يقيمك بين يديه في الليل‪،‬‬ ‫فقال‪ :‬ال ِ‬
‫الشــرف‪ ،‬والعاصــي ال‬ ‫ـك بيــن يديــه فــي الليــل مــن أعظــم َّ‬ ‫ـإن وقوفـ َ‬‫فـ ّ‬
‫يســتحق ذلــك الشــرف!‬
‫ـب‬
‫ـت معافــى وأحـ ُّ‬‫ـري‪ :‬يــا أبــا ســعيد‪ ،‬إنــي أبيـ ُ‬
‫وقــال رجــل للحســن البصـ ِّ‬
‫قيــام الليــل‪،‬‬
‫وأع ُّد طهوري فما بالي ال أقوم؟!‬
‫فقال الحسن‪ :‬ذنوبك ق ّي َ‬
‫دتك!‬
‫وكان العاب ُد عمرو بن عتبة بن فرقد يخر ُج للغزو في سبيل اهلل‪،‬‬
‫صف قدميه يناجي ر َّبه ويبكي بين يديه‪،‬‬ ‫فإذا جاء اللي ُل َّ‬
‫وكان أهــل الجيــش الذيــن خــرج معهــم عمــرو ال يُكلّفــون أحــداً مــن‬
‫الجيــش بالحراســة‪،‬‬
‫ألن عمرو قد كفاهم ذلك بصالته طوال الليل‪،‬‬
‫ُ‬
‫والجيش نائم‪،‬‬ ‫وذات ليلة وبينما عمرو بن عتبة يصلي من الليل‬

‫‪202‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أسد فهربوا وبقي عمرو في مكانه يصلي!‬ ‫إذ سمعوا زئير ٍ‬


‫خفــت‬
‫َ‬ ‫انصــرف األســ ُد عنهــم رجعــوا لعمــرو فقالــوا لــه‪ :‬أ َمــا‬ ‫َ‬ ‫فل ّمــا‬
‫األســ َد وأنــت تصلــي؟!‬
‫فقال‪ :‬إني ألستحي من اهلل أن أخاف شيئاً سواه!‬
‫ا فــي‬‫ـرأت بلـ ً‬‫ودخلــت إحــدى النســاء علــى زوجــة اإلمــام األوزاعـ ّـي‪ ،‬فـ ْ‬
‫موضــع ســجوده‪،‬‬
‫فقالت لزوجة األوزاعي‪ :‬ثكلت ِْك أ ُّم ِك!‬
‫أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى با َل في ُمصلّى الشيخ!‬
‫فقالــت لهــا زوجــة األوزاعــي‪ :‬ويحـ ِـك هكــذا يُصبــح كل ليلــة مــن أثــر‬
‫دمــوع الشــيخ فــي ســجوده!‬
‫وقــال أبــو يزيــد الم َّعنــى‪ :‬كان ســفيان الثــوري إذا أصبــح‪ ،‬م ـ َّد رجليــه‬
‫إلــى الحائــط ورأســه إلــى األرض‪،‬‬
‫الدم إلى مكانه من قيام الليل!‬ ‫كي يرجع َّ‬
‫الخوالنــي يُصلّــي مــن الليــل‪ ،‬فــإذا أصابــه فتــور أو‬‫ِّ‬ ‫وكان أبــو مســلم‬
‫كســل قــال لنفســه‪:‬‬
‫أيظن أصحاب محمد  أن يسبقونا عليه‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫واهلل ألزاحم َّن ُهم عليه‪ ،‬حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجاالً!‬
‫ثم يصلي إلى الفجر!‬
‫ضرب من ضروب الخيال!‬ ‫ٌ‬ ‫قصص هي وا ِ‬
‫هلل كأنها‬ ‫ٌ‬
‫فتش ّبَهوا‪ ،‬فإ َّن التّشبه بالكرام فال ُح!‬

‫‪203‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪42‬‬

‫ْ َ ُ َ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ ُّ ْ‬
‫ادلن َيا﴾‬ ‫﴿المال والنون زِينة الياة ِ‬

‫المؤم ُن ليس كارهاً للمالِ ولكنّه ليس عبداً له‪،‬‬


‫بكر بالالً إال بالمال؟‬‫وهل أعت َق أبو ٍ‬
‫الجيش إال بالمال؟‬
‫ِ‬ ‫وهل ج ّهز عثمان ثلثَ‬
‫الساعي على األرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اهلل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أو قال‪ :‬كالصائم ال يفط ُر‪ ،‬والقائ ُم ال يرق ُد!‬
‫السعي إال بالمال؟‬ ‫وهل يكون هذا ّ‬
‫للزمخشري‪:‬‬
‫ّ‬ ‫في كتاب ربيع األبرار‬
‫لف يقولون‪ :‬الما ُل سال ُح المؤمن‪،‬‬ ‫الس ُ‬
‫كان ّ‬
‫حاس ُب عليه خير من االحتياج للناس!‬ ‫أترك ماالً أ ُ َ‬
‫َ‬ ‫وأ ْن‬
‫اذهب إلى د َّكانك!‬
‫ْ‬ ‫ال في جنازة فقالُوا له‪:‬‬ ‫ور ّبما رأوا رج ً‬

‫‪204‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪43‬‬

‫‪،‬‬ ‫هلل َ‬ ‫َد َخ َل أَبُو بَ ْك ٍر يَ ْستَ ْأذِ ُن علَى َرسولِ ا ِ‬


‫وسا ب َبا ِبهِ ‪ ،‬لَ ْم يُ ْؤ َذ ْن ألَ َح ٍد منه ْم‪،‬‬ ‫ّاس ُجل ُ ً‬ ‫َف َو َج َد النَ َ‬
‫َفأُذِ َن ألَبِي بَ ْك ٍر‪َ ،‬ف َد َخ َل‪،‬‬
‫استَ ْأ َذنَ‪َ ،‬فأُذِ َن له‪،‬‬ ‫ثُ َّم أَ ْقبَ َل ُع َم ُر‪َ ،‬ف ْ‬
‫اج ًما َساكِ تًا‪،‬‬ ‫ِسا ُؤهُ‪َ ،‬و ِ‬ ‫ِسا َح ْولَ ُه ن َ‬ ‫ّبي  َجال ً‬ ‫َف َو َج َد النَ َّ‬
‫ّبي ‪،‬‬ ‫ض ِح ُك النَ َّ‬ ‫قا َل‪َ :‬فقا َل‪ :‬ألَ ُقولَ َّن شي ًئا أ ُ ْ‬
‫ـت َخ ِار َج َة‪َ ،‬سـ َألَتْنِي ال ّنَ َف َقـ َة‪َ ،‬ف ُق ْمـ ُ‬
‫ـت‬ ‫ـت بنْـ َ‬ ‫َفقــا َل‪ :‬يــا َرســو َل اهللِ‪ ،‬لــو َرأَيْـ َ‬
‫إلَيْ َهــا‪َ ،‬ف َو َجـ ْأ ُت ُعنُ َق َهــا‪،‬‬
‫هلل ‪َ ،‬وقــا َل‪ُ :‬هــ َّن َح ْولِــي كمــا تَــ َرى‪ ،‬يَ ْســ َألْنَنِي‬ ‫ــك َرســو ُل ا ِ‬ ‫ض ِح َ‬ ‫َف َ‬
‫ال ّنَ َف َقــ َة !‬
‫ِش َة يَ َجأُ ُعنُ َق َها‪،‬‬ ‫َف َقا َم أَبُو بَ ْك ٍر إلى َعائ َ‬
‫ْص َة يَ َجأُ ُعنُ َق َها‪،‬‬ ‫َف َقا َم ُع َم ُر إلى َحف َ‬
‫ليس ِعنْ َدهُ؟!‬ ‫هلل  ما َ‬ ‫كِ َل ُهما يقو ُل‪ :‬ت َْس َألْ َن َرسو َل ا ِ‬
‫س ِعنْ َدهُ‪،‬‬ ‫هلل  شي ًئا أَبَ ًدا ليْ َ‬ ‫الل ال نَ ْس َأ ُل َرسو َل ا ِ‬ ‫َف ُقل ْ َن‪َ :‬و َّ ِ‬
‫ِس ًعا َو ِع ْش ِري َن‪ ،‬ثُ َّم نَ َزلَ ْت عليه هذِ ه اآليَ ُة‪:‬‬
‫َ‬ ‫اعتَ َ َزلَ ُه َّن َش ْه ًرا‪ ،‬أَ ْو ت ْ‬ ‫ثُ َّم ْ‬
‫ْ‬
‫َ ْ ْ ُ َّ ُ ْ َ َ َ َ ُّ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ُّ ُ ْ‬
‫ادلن َيــا‬ ‫ــردن اليــاة‬ ‫ــك إِن كنــن ت ِ‬ ‫ج‬‫ِ‬ ‫ــي قــل ِل ْز َوا‬ ‫ِ‬ ‫﴿يَــا أ ُّي َهــا انل‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫س ً‬ ‫ــن َ َ‬ ‫ك َّ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ ُ َ ّ ْ ُ َّ َ ُ َ ّ ْ ُ‬
‫احــا جِيــا ِإَون‬ ‫سح‬‫وزِينتهــا فتعالــن أمتِعكــن و ْأ ِ‬
‫ح َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ـرةَ فـإن َّ َ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ـول َو َّ‬ ‫الل َو َر ُسـ َ ُ‬
‫ـن تُــر ْد َن َّ َ‬ ‫ُكنْـ ُ َّ‬
‫ات‬‫ســن ِ‬ ‫الل أعــد ل ِل ُم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ادل َار ال ِ‬
‫خـ َ‬
‫َِ‬
‫ـرا َع ِظ ً‬ ‫جـ ً‬‫ـن أ ْ‬ ‫كـ َّ‬ ‫ْ ُ‬
‫يمــا﴾‬ ‫مِن‬
‫ض َعلَيْ ِك أَ ْم ًرا‪،‬‬ ‫ِش ُة‪ ،‬إ ِ ّني أ ُ ِري ُد أَ ْن أَ ْع ِر َ‬ ‫ِش َة‪َ ،‬فقا َل‪ :‬يا َعائ َ‬ ‫َفبَ َدأَ ب َعائ َ‬

‫‪205‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يري أَبَ َويْ ِك‪،‬‬


‫أ ُ ِح ّ ُب أَ ْن ال تَ ْع َجلِي فيه حتَّى ت َْست َِش ِ‬
‫قالَ ْت‪َ :‬وما هو يا َرسو َل اهللِ؟‬
‫َفت ََل َعلَيْ َها اآليَ َة‪،‬‬
‫يك ‪-‬يا َرسو َل اهللِ‪ -‬أَ ْست َِشي ُر أَبَ َو َّي؟!‬ ‫قالَ ْت‪ :‬أَفِ َ‬
‫الل َو َرسولَهُ‪َ ،‬وال َّدا َر ِ‬
‫اآلخ َرةَ‪،‬‬ ‫بَ ْل أَخْ تَار َّ َ‬
‫ُ‬
‫ِك با ّلَذِ ي ُق ُ‬
‫لت‪،‬‬ ‫ِسائ َ‬ ‫َوأَ ْس َألُ َك أَ ْن ال تُخْ ِب َر ا ْم َرأَ ًة مِ ن ن َ‬
‫قا َل‪ :‬ال ت َْس َألُنِي ا ْم َرأَةٌ منه َّن َّإل أَخْ َب ْرتُ َها‪،‬‬
‫إ َّن َّ َ‬
‫الل لَ ْم يَبْ َعثْنِي ُم َع ِ ّنتًا‪َ ،‬و َل ُمتَ َع ِ ّنتًا‪َ ،‬ولَكِ ْن بَ َعثَنِي ُم َع ِلّ ًما ُميَ ِ ّس ًرا‪.‬‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  قليل المالِ دوماً‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫لم يكن‬
‫ّاس في فقر ِة ِ‬
‫وغناه‪،‬‬ ‫ولكنّه كان أجو َد الن ِ‬
‫وقــد بلـ َغ بــه الجــو ُد أن يُنفـ َق علــى ال ّنــاس أكثــر مالــه‪ ،‬وال يُبقــي لنفســه‬
‫وأهلــه إال القليــل‪،‬‬
‫شعرت أُمهاتُنا بضيقِ العيش‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وقد‬
‫والما ُل َع َجل ُة الحياة للنّاس جميعاً مؤمنهم وفاجرهم!‬
‫منقصة‪،‬‬
‫َ‬ ‫وما من أَ ٍ‬
‫حد إال ويُ ِح ّ ُب رغ َد العيش‪ ،‬وهذا ال مس ّب َة فيه وال‬
‫النبي  وال قلبه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ولكن ال أح َد له إيمان‬
‫فلــم ت ُِطــ ْق زوجاتــه مــا كان يُطيــ ُق هــو‪ ،‬فطالبْنَــه أن يُكثــر ل ُه ّ‬
‫ــن مــن‬
‫النّفقــة‪،‬‬

‫‪206‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫والصدقــة فــي‬
‫ّ‬ ‫وقــد أرا َد أن يكــون ألهــلِ بيتــه مــا لــه مــن اليقيــن بــاهلل‪،‬‬
‫سبيله‪،‬‬
‫وهذا ما أدخ َل اله َّم عليه‪ ،‬بأبي هو وأمي كان كله هلل!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫الخالفات الزّوجية تق ُع في ك ّل البيوت‪،‬‬ ‫ُ‬


‫نحن بشر‪ِ ،‬طباع وأهواء‪ ،‬نفس ّيات وأَ ْم ِز َجة‪،‬‬
‫والحيــاة مهمــا كانــت ســعيدة‪ ،‬مــن الطبيعـ ّـي أن يتخللهــا بعــض لحظــات‬
‫الكدر!‬
‫ببيوت ال تق ُع فيها المشكالت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ولسنا نُنادي‬
‫النبي  وأصحابه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بيت ل ُع ِص َم بيت‬
‫فلو ُع ِص َم منها ٌ‬
‫ّاس إيماناً وأخالقاً‪،‬‬ ‫فهم أعلى الن ِ‬
‫نفجــر‪ ،‬وال نُريــق كرامـ ًة‪،‬‬
‫ـف بنُبـ ٍـل‪ ،‬فــا نطغــى وال ُ‬ ‫وإنمــا نُنــادي أن نختلـ َ‬
‫ـظ مــاء الوجــوه!‬ ‫بــل نحفـ ُ‬
‫ـي  يومـاً لزيــارة ابنتــه فاطمــة‪ ،‬فلــم يجــد عليـاً فــي البيــت‪،‬‬ ‫جــا َء النّبـ ّ ُ‬
‫فســأل عنــه‪،‬‬
‫فأخبرتْه أنه قد حدث بينهما خالف فخر َج من البيت!‬
‫وطلب من رجل أن يبحث له عن علي‪،‬‬
‫َ‬ ‫فتركها ومضى‪،‬‬
‫فعا َد إليه وأخبره أنه نائم في المسجد‪،‬‬
‫فذهــب إليــه‪ ،‬فــإذا هــو نائــم واضــع خــده علــى األرض وعليــه بعــض‬
‫التــراب‪،‬‬

‫‪207‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فقال له‪ُ :‬ق ْم أبا تُراب!‬


‫وجع َل يمس ُح بيده الشريفة التراب عن وجهه!‬
‫للستر‪،‬‬
‫ّبي  وح ِ ّبه ّ‬ ‫ألدب الن ِ ّ‬
‫نظ ْر ِ‬ ‫وا ُ ُ‬
‫لم يسأل فاطمة عن الخالف الذي وقع بينها وبين زوجها‪،‬‬
‫ولم يطلب منها أن تُخبره بما قالت له‪،‬‬
‫وال ما قال لها‪،‬‬
‫أراد أن يُع ِلّمنا أن البيوت أسرار‪،‬‬
‫تدخــل األهــل فــي كل صغيــرة وكبيــرة فــي حيــاة الزوجيــن يُفاقــم‬ ‫وأن ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫المشــاكل‪،‬‬
‫فال تُحاولوا كشف ما ستره اهلل‪ ،‬دعوا األزواج تتخاصم وتتصالح!‬
‫علي خليفتنا الراشد‪،‬‬ ‫فاطمة سيدة نساء العالمين‪ ،‬وهذا ٌّ‬
‫ومع هذا وقع بينهما خالف فما بالك بنا نحن الذين دونهم‪،‬‬
‫فانظروا إلى المشاكل على أنها جزء من الحياة‪،‬‬
‫تقع وعلينا أن نحلها ونتعلم دروساً منها‪،‬‬
‫ال أن نفرط ُعرى األُسرة‪ ،‬ونُشرد األوالد‪ ،‬ونصبح علك ًة في كل فم!‬
‫يذهب إلى علي ويتر َّفق به ويسترضيه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وانظ ْر إلى حكمة النبي ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وال يُعاتبــه عمــا حــدث بينــه وبيــن ابنتــه‪ ،‬حتــى أنــه لــم يســأل مــا الــذي‬
‫حدث‪،‬‬
‫وهــذا درس بليــغ لألهــل فــي أن ال يتح َزّبــوا ألوالدهــم عندمــا تقــع‬
‫الخالفــات الزوجيــة‪،‬‬
‫وال يص ّبُوا الزيت على النار‪،‬‬
‫على العكس يجب أال ينسى أهل الزوج معروف كِ نتهم السابق‪،‬‬
‫وماضيها ومواقفها النبيلة معهم‪،‬‬

‫‪208‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ويجــب علــى أهــل الزوجــة أن ال يجعلــوا مــن زوج ابنتهــم شــيطاناً‬


‫رجيمــاً‪،‬‬
‫لمجرد خالف وقع بينه وبينها!‬
‫علي درساً هاماً أيضاً في أدب الخالف‪ ،‬ومشاكل البيوت‪،‬‬ ‫ويُع ِلّمنا ّ ُ‬
‫لقد خر َج من البيت تاركاً فاطمة لتهدأ‪،‬‬
‫نحــن فــي غضبنــا نقــول أشــياء ُمؤذيــة‪ ،‬ونســمع مــن اآلخــر أشــياء‬
‫تُحزننــا‪،‬‬
‫فاألفضــل إذا وقــع الخــاف أال نقــف كالديــوك ال ُمتصارعــة قبالــة‬
‫بعــض‪،‬‬
‫هذا يسمع ويرد‪ ،‬وذاك يسمع ويرد!‬
‫علي درساً آخر أيضاً‪،‬‬ ‫ويُع ِلّمنا ُ‬
‫لقد خرج هو من البيت ولم يطرد زوجته منه‪،‬‬
‫كمــا يفعــل كثيــر مــن األزواج اليــوم جاهليــن أن خــروج الزَّوجــة مــن‬
‫البيــت يُفاقــم المشــاكل‪،‬‬
‫وهو أم ٌر جار ٌح لها وألهلها‪،‬‬
‫ناهيــك ع َّمــا فيــه مــن فضــح األُســرة ونشــر غســيلها أمــام ال َّرائــح‬
‫والغــادي!‬
‫فإذا وقع بينكما خالف واحتدم اتركها في البيت واخرج‪،‬‬
‫و ُع ـ ْد عندمــا تهــدأُ‪ ،‬وتصب ـ ُح قــادراً علــى التفكيــر بمنطـ ٍـق‪ ،‬والتَّحــدث‬
‫بلباقــة‪،‬‬
‫وهي حتماً ستهدأ ويعز عليها غيابك‪،‬‬
‫وت ِ ّ‬
‫ُقدر لك أنك تركتها في بيتها ُمع َزّزة ُمك َّرمة!‬

‫‪209‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ٍ‬
‫وزوجات‪،‬‬ ‫الحياةُ شاق ٌة على الجميع أزواجاً‬
‫نملك إال أن نُه ّو َن على بعضنا الطريق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وال‬
‫ـي فــي جهــادي لتحصيــل‬ ‫أن أحملهــا مـ ّر ًة وتحملنــي مـ ّر ًة‪ ،‬أن تُشــفِ َق علـ َّ‬
‫لقمــة العيــش‪،‬‬
‫وأن أُشفِ َق عليها في جهادها مع األوالد‪ ،‬والقيام بأعباء البيت!‬
‫الحياة المثال ّية الخالية من التّعب والكدر والمشقّة في الجنّة‪،‬‬
‫أما هذه فدنيا‪ ،‬دار الك ّد والتّعب‪،‬‬
‫يار إال أن نُه ّونها بحناننا وأخالقنا‪،‬‬ ‫وليس أمامنا من َخ ٍ‬
‫أو نزيدها قسو ًة بأنانيتنا وقسوة قلوبنا!‬
‫علي تعبها من عملها في البيت‪،‬‬ ‫شكت فاطمة إلى ٍ ّ‬ ‫ْ‬
‫رت في يدها‪،‬‬ ‫فأخبرتْ ُه أنها ج َّر ْت بال َّرحى حتى أ ّثَ ْ‬
‫وكنســت البيــت حتــى‬
‫ْ‬ ‫ــرت فــي ُعنقها‪،‬‬ ‫واســتقت بالقِ ربــة حتــى أ ّثَ ْ‬
‫ْ‬
‫اغبــ َّر ْت ثيابهــا!‬
‫ذهبت إليه وسألتِهِ خادماً!‬ ‫ِ‬ ‫ِسبي‪ ،‬فلو‬ ‫ِ‬
‫ألبيك ب َ‬ ‫فقال لها‪ :‬لقد ِجيء‬
‫فوجدت عنده أُناساً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫فذهبت فاطمة إلى النبي ‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ـادت‬
‫ُحدثــه أمامهــم‪ ،‬ولكنهــا أسـ َّر ْت لعائشــة بســبب مجيئهــا‪ ،‬وعـ ْ‬ ‫فلــم ت ِ ّ‬
‫إلى بيتها!‬
‫مجلس النبي ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫انفض‬
‫َّ‬ ‫فلما‬
‫أخبرتْ ُه عائشة بسبب مجيء فاطمة‪ ،‬فذهب إلى بيتها‪،‬‬
‫وعلي قد أخذا مضجعهما للنوم‪ ،‬فاستأذن ثم دخ َل‪،‬‬‫ٌّ‬ ‫وكانت‬
‫فقال‪ :‬أال أد ّلكما على ما هو خير لكما من خادم؟‬

‫‪210‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫إذا أخذتمــا مضاجعكمــا‪ ،‬فك ِ ّبــرا ثالثـاً وثالثيــن‪ ،‬وسـ ِ ّبحا ثالثاً وثالثين‪،‬‬
‫واحمــدا ثالثـاً وثالثين‪،‬‬
‫فهو خير لكما من خادم!‬
‫هذه فاطمة سيدة نساء العالمين‪ ،‬وقطعة قلب أبيها‪،‬‬
‫تطحن الحبوب بال َّرحى حتى تترك ال َّرحى أثرها في يدها‪،‬‬
‫بالقربة حتى تترك القِ ربة أثرها في عنقها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وتحمل الماء إلى بيتها‬
‫وتكنس بيتها حتى يكسو الغبار ثيابها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ـص هــذا مــن قيمتهــا عنــد زوجهــا‪ ،‬أو عنــد أبيهــا‪ ،‬أو عنــد‬ ‫فهــل أنقـ َ‬
‫ربهــا؟!‬
‫طبعـاً ال شــيء فــي أن تحصــل المــرأة علــى خادمــة تُعينهــا علــى عمــل‬
‫البيــت‪،‬‬
‫فهو واهلل عمل شاق صعب!‬
‫ونبي ٌل هو الزوج الذي يكون في ِسعة مادية‪ ،‬وبحبوحة اقتصادية‪،‬‬
‫فيُحضر لزوجته خادمة تُساعدها‪،‬‬
‫واألنبــل هــو األب الــذي نظــر فــي حــال ابنــة له‪ ،‬فــر َّق لهــا وأحضـ َر هــو‬
‫لها الخادمة‪،‬‬
‫على أ َّن هذا ال يُلغي أن عمل البيت هو واجب الزوجة‪،‬‬
‫تماماً كما واجب الزوج العمل خارجه واإلنفاق عليها‪،‬‬
‫بل وإِعانتها في أعمال البيت أيضاً أل َّن هذا من العِ شرة بالمعروف!‬
‫ومما اُبتُلينا به في هذه األيام هذه األصوات النّاعقة‪،‬‬
‫التي تُحاول باسم حرية المرأة أن تَهدم البيوت القائمة على الستر‪،‬‬
‫وتمشية الحال بما هو متاح!‬

‫‪211‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرق‪ ،‬وإهانــة النفــس‬ ‫وتصويــر عمــل المــرأة فــي بيتهــا نــوع مــن أنــواع ِ ّ‬
‫البشــرية!‬
‫ـت أدري أيــن اإلهانــة فــي أن تُطعــم الزوجــة عائلتهــا مــن صنــع‬ ‫ولسـ ُ‬
‫يدها‪،‬‬
‫ُنظف بيتها!‬ ‫وأن تغسل مالبسهم‪ ،‬وت ِ ّ‬
‫إن األمر شاق وصعب‪ ،‬فهذا نبص ُم به باألصابع العشرة‪،‬‬ ‫إن قيل ّ‬
‫ولكن هذه هي الحياة‪ ،‬لكل إنسان دوره‪ ،‬ولكل عمل مشقته!‬
‫أمــا طــرح الموضــوع وجعلــه عبوديــة‪ ،‬وإهانــة للمــرأة فهــذه دعــوى‬
‫سخيفة!‬
‫ليســت بتجريدهــا مــن فِ طرتهــا فــي أن تكــون أمــاً‬ ‫ْ‬ ‫إن حريــة المــرأة‬
‫وزوجـ ًة وربـ َة منــزل‪،‬‬
‫وإنما بتقدير وتبجيل ما تقوم به‪ ،‬كالماً وفع ً‬
‫ال‪،‬‬
‫كالماً حلواً‪ ،‬وإشادة بدورها وأهميته‪،‬‬
‫بهدية بين الحين واآلخر‪ ،‬بضمة‪ ،‬و ُقبلة جبين ويد!‬
‫ـب فــي عمــل‬‫لــم تكــن فاطمــة رقيقــة وال ُممتهنــة الكرامــة وإن كانــت تتعـ ُ‬
‫بيتها‪،‬‬
‫ولــم يُحضــر لهــا علـ ٌّـي خادمــة ألنــه أراد أن يُتعبهــا وإنمــا ألنــه ال يملــك‬
‫المال‪،‬‬
‫النبي  خادمة ألنه عادل ولو أعطاها‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ولم يُعطها‬
‫لكان عليه أن يُعطي كل امرأة في المدينة مثل ما أعطى ابنته!‬

‫‪212‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫الســعيدة ال ُمســتق ّرة ليســت التــي ال تحــدثُ فيهــا‬ ‫البيــوت الهادئــة ّ‬


‫ُ‬
‫المشــكالت‪،‬‬
‫المشكالت مروراً عابراً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وإنما هي تلك التي تم ّ ُر فيها‬
‫الح ِ ّب فيها قليل َج ْف َوة!‬ ‫أيا ٌم طويل ٌة من ُ‬
‫ولحظات كثيرةٌ من الطمأنينة تتخللها لحظة َفزَع!‬ ‫ٌ‬
‫و ُع ْم ٌر مليءٌ بال ّدالل يشوبه أ ّيا ُم إعراض!‬
‫سويعات من القسوة!‬ ‫ٌ‬ ‫وتاري ٌخ حاف ٌل باللطف تُنغّصه‬
‫الصالحين‪ ،‬وس ّيد الصالحين نبينا !‬ ‫هكذا هي بيوت َّ‬
‫اصطحب معه عائشة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫النبي ‬ ‫ِّ‬ ‫في أحد أسفار‬
‫الجيش أن يتق َّد َم أمامه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫السن‪ ،‬فأم َر‬ ‫وكانت يومذاك صغير ًة في ِ ّ‬
‫ِ‬
‫سابقك!‬ ‫فل َّما غدا وحده معها قال لها‪ :‬تعالي حتى أ ُ‬
‫فتسابقا‪ ،‬فسبقته عائشة!‬
‫ثم سار بها حتى التح َق بالناس‪ ،‬وعاد أدراجه إلى المدينة‪.‬‬
‫ال‪ ،‬وزاد وزنها‪،‬‬ ‫كبرت عائشة في السن قلي ً‬ ‫ْ‬ ‫وم َّرت األيام‪،‬‬
‫السفر‪ ،‬فأقرع بين نسائه على عادته‪،‬‬ ‫وكان على موعد مع َّ‬
‫فوقعت عليها القرعة فصحبها معه‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ثم في طريق العودة قال للناس‪ :‬تق َّدموا‪ ،‬فتق َّدم الناس…‬
‫ِ‬
‫سابقك!‬ ‫فل َّما غدا وحده معها قال لها‪ :‬تعالي حتى أ ُ‬
‫يضحك ويقو ُل لها‪ :‬هذه بتلك!‬ ‫ُ‬ ‫فتسابقا‪ ،‬فسبقها‪ ،‬فجع َل‬
‫النبي  عليه ُمهِ َّمة دعوة البشرية قاطبة إلى اهلل‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫ورئيس الدولة الذي عليه تحريك الجيوش‪،‬‬

‫‪213‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وعقد األحالف‪ ،‬و ُمراسلة الملوك‪ ،‬وتدبير شؤون الناس‪،‬‬


‫لم يشغله هذا كله عن أن يكون زوجاً‪،‬‬
‫الصحراء‪،‬‬‫ويُعامل زوجته باللّ ُطف واللين إلى درجة أن يُسابقها في َّ‬
‫كأنه ليس على كاهله كل هذه المسؤوليات الجسام!‬
‫أراد أن يُعلَّمنا أن نكون ُمتوازنين في حياتنا‪،‬‬
‫ال يشــغلنا العمــل عــن العبــادة‪ ،‬وال تجعلنــا العبــادة نتــرك أعمالنــا‬
‫ونتك َّفــف الناس!‬
‫أال يلتصــق المــرء بزوجتــه ويتــرك دنيــاه‪ ،‬وال يلتصــق بدنيــاه فيُهمــل‬
‫زوجته!‬
‫إ َّن من مآسينا اليوم أننا نجعل شيئاً واحداً يسرقنا من كل شيء!‬
‫تجــ ُد التاجــ َر يقضــي نهــاره فــي عقــد الصفقــات‪ ،‬وجمــع الديــون‪،‬‬
‫وتســديد الفواتيــر‪،‬‬
‫فــإذا عــاد إلــى بيتــه ال يهــدأ ج َّوالــه‪ ،‬اتصــال علــى فــان‪ ،‬واتصــال مــن‬
‫فالن‪،‬‬
‫ال الزوجــة تشــعر بقُربــه وهــي التــي تحتــاج حنانــه ودفــأه كحاجتهــا إلــى‬
‫ماله بل أشـ َّد!‬
‫وال األوالد يشعرون أن لهم أباً وسنداً‪،‬‬
‫ـب أن المــال الكثيــر‪ ،‬واألثــاث الفاخــر‪ ،‬والســيارات الفارهــة تمــأ‬ ‫يحسـ ُ‬
‫غيابه‪،‬‬
‫بينما في الحقيقة هم وجدوا ال ُمعيل وفقدوا األب‪،‬‬
‫يموت المرءُ ليُفتقد‪،‬‬
‫َ‬ ‫فليس بالضرورة أن‬
‫يكفــي أن يحضــر بجســده ويغيــب بقلبــه وروحــه حتــى يصبــح ال وجــود‬
‫له!‬

‫‪214‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وتج ُد الزوجة ُمولعة باألثاث وترتيب البيت‪،‬‬


‫وهذا شيء جميل بالمناسبة وال حرج فيه‪،‬‬
‫ولكــن أن يصبــح األثــاث أهــم مــن البشــر‪ ،‬ودورهــم حراســتها بــدل‬
‫الحمــق‪،‬‬
‫اســتخدامها فهــذا فيــه مــن ُ‬
‫أكثر م َّما فيه من الترتيب واألناقة!‬
‫وتج ُد ال ُمولع بالقراءة متأ ِ ّبطاً كتابه في ساعة متأخرة من الليل‪،‬‬
‫وزوجته بجانبه تنتظر فقط أن يسألها كيف كان يومها فال يسأل!‬
‫القراءة هواية عظيمة‪ ،‬وإنارة العقل مطلب جليل‪،‬‬
‫ولكــن القــراءة إنمــا يجــب أن تكــون علــى حســاب وقتــك ال علــى حســاب‬
‫واجباتك!‬
‫وتج ُد المتعلق بأصدقائه‪ ،‬كل يوم خروج وسهر‪،‬‬
‫يُري ُد أن يحيا حياة العزوبية وهو متزوج‪،‬‬
‫سجان‪،‬‬
‫يُشعرها أن البيت قفص‪ ،‬وأنها َّ‬
‫وليس له سعادة إال فتح باب القفص والخروج منه!‬
‫وصــل األصدقــاء جميــل‪ ،‬ومــن الضــروري أن يكــون للمــرء طقوســه‬
‫الخاصة‪،‬‬
‫ولكن الظلم أن تكون حياته كلها طقساً خاصاً!‬
‫صحبة‪،‬‬ ‫لك ُ‬ ‫لك‪ ،‬واجع ْل َ‬ ‫شئت‪ ،‬واقرأ كما يحلو َ‬
‫َ‬ ‫تاجر ما‬
‫ولكن تذ َّكر أ َّن لك زوج ًة وأوالداً وأن أشياء صغيرة ال تُك ِلّف شيئاً‪،‬‬
‫هي التي تصنع سعادة اآلخرين!‬
‫اهتمــي بنفســك‪ ،‬ر ِتّبــي بيتــك‪ ،‬ولكــن تذكــري أن هــذه وســائل إلســعاد‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫وأوالدك‪،‬‬ ‫زوجــك‬
‫وليست غايات بحد ذاتها‪ ،‬وإال تحول األثاث إلى صنم في البيت‪،‬‬
‫له من التبجيل كما كان ألصنام قريش ذات يوم عند الكعبة!‬

‫‪215‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫بنت األصول تصب ُر على زوجها وتكون معه على ال ّدنيا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وقليل ُة األصل‪ ،‬كثيرة الشكوى‪ ،‬تكون مع ال ّدنيا على زوجها!‬
‫الوفاق‪،‬‬ ‫وإ َّن معادن النّاس ال تظه ُر في ال ّرخاء وفي ِ‬
‫ّاس فيها جميعاً نُبالء!‬ ‫لحظات يكون الن ُ‬ ‫ٌ‬ ‫هذه‬
‫الطيب‪،‬‬‫أدبرت ال ّدنيا تباينوا‪ ،‬وظه َر الخبيثُ من ّ‬ ‫ِ‬ ‫وإنما إذا‬
‫ِ‬
‫المطاف مواقف!‬ ‫وإ َّن الحياةَ نهاية‬
‫السالم إلى م ّكة بعد فراقها لسنوات‪،‬‬ ‫جا َء إبراهيم عليه َّ‬
‫السالم‪ ،‬فسأ َل زوجته عنه‪،‬‬ ‫بيت إسماعيل عليه َّ‬ ‫وذهب إلى ِ‬
‫َ‬
‫حصل ِرزقنا!‬ ‫فقالت‪ :‬خر َج يبتغي لنا‪ ،‬أي يُ ّ‬
‫ِ‬
‫ومعاشهم‪،‬‬ ‫ثم سألَها عن حالِهم‬
‫وأخذت تشــكو إليــه‬
‫ْ‬ ‫ـت‪ :‬نحــن فــي شـ ٍ ّـر‪ ،‬نحــن فــي ِضيـ ٍـق ِ‬
‫وش ـ َّدة‪،‬‬ ‫فقالـ ْ‬
‫وهــي ال تعلــم مــن هــو‪.‬‬
‫الســام‪ ،‬وقولــي لــه يُغ ِ ّيــر‬ ‫فقــال لهــا‪ :‬إذا جــا َء زوجـ ِـك فاقرئــي عليــه َّ‬
‫عتبـ َة بابه!‬
‫الســام‪ ،‬كأ ّنَــه شــع َر بشــيءٍ ‪ ،‬فســأل زوجتــه‪:‬‬‫فلمــا جــاء إســماعيل عليــه َّ‬
‫هــل جاءكــم مــن أحــد؟‬
‫عنك فأخبرته‪،‬‬ ‫فقالت‪ :‬نعم‪ ،‬جاءنا شي ٌخ أوصافه كذا وكذا‪ ،‬فسألنا َ‬ ‫ْ‬
‫وش َّدة!‬‫فقر ِ‬
‫وسألني كيف عيشنا فأخب ْرتُ ُه أننا في ٍ‬
‫ِ‬
‫أوصاك بشيء؟‬ ‫فقال لها‪ :‬وهل‬
‫الســام‪ ،‬ويقــول لـ َ‬
‫ـك غ ِ ّي ـ ْر عتبــة‬ ‫فقالــت‪ :‬نعــم‪ ،‬أم َرنــي أن أقــرأ عليـ َ‬
‫ـك َّ‬
‫ـك!‬‫بابـ َ‬

‫‪216‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ِ‬
‫بأهلك!‬ ‫قك‪ ،‬الحقي‬ ‫ذاك أبي‪ ،‬وقد أم َرني أن أُط ِلّ ِ‬ ‫قال‪َ :‬‬
‫السالم زوجة ابنه في عرضها‪،‬‬ ‫لم يَعِ ْب إبراهيم عليه َّ‬
‫معــاذ اهلل‪ ،‬ث ـ ّم إ َّن بيــوت األنبيــاء معصومــة مــن هــذا وإن لــم تُ ْع َ‬
‫ص ـ ْم‬
‫مــن ال ُكفــر!‬
‫السالم الواردة في القرآن‪،‬‬ ‫ولوط عليهما َّ‬ ‫نوح ٍ‬ ‫وخيانة زوجتي ٍ‬
‫هي خيانة العقيدة والكفر ال خيانة الفِ راش!‬
‫عاب عليها كثرة تذمرها وشكواها وقِ لّة رضاها‪،‬‬ ‫ولكنه َ‬
‫فالمــرأة كثيــرة الشــكوى والتب ـ ّ ُرم مــن أمــور الــرزق‪ ،‬نائبــة مــن نوائــب‬
‫ال َّدهــر‪ ،‬والرجــال كذلــك!‬
‫السالم مر ًة أخرى لزيار ِة ابنه‪،‬‬ ‫وعا َد إبراهيم عليه َّ‬
‫فلــم يجــده أيض ـاً‪ ،‬ولكنــه وج ـ َد زوجتــه الجديــدة التــي تز َّوجهــا بعــد‬
‫طــاق األولــى‪،‬‬
‫فسألها عنه‪ ،‬فقالت‪ :‬خر َج يبتغي لنا!‬
‫قال‪ :‬كيف أنتم؟ وكيف عيشكم؟‬
‫هلل خيراً‪.‬‬‫وأثنت على ا ِ‬ ‫ْ‬ ‫وس َعة‪،‬‬‫بخير َ‬
‫ٍ‬ ‫فقالت‪ :‬نحن‬
‫ْ‬
‫فقال‪ :‬ما طعامكم؟‬
‫فقالت‪ :‬اللحم‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ما شرابكم؟‬
‫فقالت‪ :‬الماء‪.‬‬
‫فقال‪ :‬اللهم بارك لهم في اللحم والماء!‬
‫ولم يكن لهم من طعام غيره وإال لكان دعا لهم بالبركة فيه!‬
‫ـت‬ ‫ثــم قــال لهــا‪ :‬فــإذا جــا َء زوجـ ِـك فاقرئــي عليــه َّ‬
‫الســام وقولــي لــه‪ :‬ث ِ ّبـ ْ‬
‫عتب َة َ‬
‫بابك!‬

‫‪217‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السالم قال لها‪ :‬هل أتاكم من أحد؟‬ ‫فلما جاء إسماعيل عليه َّ‬
‫وأثنت عليه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فقالت‪ :‬نعم‪ ،‬أتانا شيخ حسن الهيئة‪،‬‬ ‫ْ‬
‫عنك فأخبرته‪ ،‬وسألني عن عيشنا فأخبرته أننا بخير!‬ ‫وسألني َ‬
‫أوصاك بشيء؟‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪ :‬فهل‬
‫ويأمرك أن تُث ِ ّبت عتبة بابك!‬‫َ‬ ‫َ‬
‫عليك السالم‬ ‫قالت‪ :‬نعم‪ ،‬هو يقرأ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫أمسكك!‬ ‫وأنت العتبة‪ ،‬وقد أمرني أن‬‫ذاك أبي‪ِ ،‬‬ ‫فقال‪َ :‬‬
‫الســام هــو إســماعيل عليــه الســام مــع زوجتــه‬ ‫إســماعيل عليــه َّ‬
‫األولــى وال ّثانيــة‪،‬‬
‫ونشابه‪،‬‬‫ليس له من طعام غير ما يصطاده بقوسه َّ‬
‫بالرمي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فقد كان من أمهر النَّاس‬
‫النبي  على أصحابه وهم يتدربون على الرمي‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وقد م َّر‬
‫فقال‪ :‬ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً!‬
‫ولكــن الفــارق هــو نظــرة كل مــن الزوجتيــن إلــى الــرزق الــذي يُ ِ ّ‬
‫حصلــه‬
‫زوجها‪،‬‬
‫تسخطة‪ ،‬والثانية قانعة راضية‪،‬‬ ‫تبرمة ُم ِ ّ‬ ‫األولى ُم ِ ّ‬
‫هذا ألن الغنى إنما مصدره ما في قلب المرء ال ما في جيبه!‬
‫واألولــى امــرأة فاضحــة هاتكــة لألسرار‪ ،‬تنشــر أمــور بيتهــا‪ ،‬وتشــكو‬
‫زوجها‪،‬‬
‫وال ّثانية امرأة ساترة حافظة لألسرار شاكرة للنعم‪،‬‬
‫صبــرت وحمــدت‬
‫ْ‬ ‫وجــدت ضيقــاً‬
‫ْ‬ ‫وجــدت خيــراً حمــدت اهلل وإن‬ ‫ْ‬ ‫إن‬
‫اهلل كذلك!‬
‫فتمســك بهــا بأســنانك‬
‫َّ‬ ‫المــرأةُ الصالحـ ُة القانعـ ُة كنـ ٌز مــن كنـ ِ‬
‫ـوز الدنيــا‬
‫وأظفارك‪،‬‬

‫‪218‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫واغفر لها ما يكون منها نظير صبرها ورضاها‪،‬‬


‫ال لتطلب فيها الكمال‪،‬‬ ‫لست كام ً‬
‫َ‬ ‫وأنت‬
‫َ‬ ‫فال أحد يخلو من خطأ‪،‬‬
‫ولكن ثمة صفات تغفر كل ما عداها‪،‬‬
‫فال تترك كثير خير ألجل قليل شر‪ ،‬فنحن لسنا أنبياء!‬
‫وعلى األهل إن رأوا في كِ نتهم صبراً ورضى‪ ،‬وحسن خُ ل ُ ٍق وعقل‪،‬‬
‫أن يمدحوهــا أمــام ابنهــم‪ ،‬وأن يأمــروه بالحفــاظ عليهــا‪ ،‬فهــذا خلــق‬
‫األنبيــاء‪،‬‬
‫الصهر أيضاً!‬
‫وما يُقال في الكِ نة يُقال في ِّ‬

‫السادس‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫ـي  بدخــول النــاس عليــه‪ ،‬ألنــه ليــس فــي مـ ٍ‬


‫ـزاج يســم ُح‬ ‫لــم يــأذن النبـ ّ ُ‬
‫لــه برؤيــة النــاس‪،‬‬
‫فهــل ق َّدرنــا نحــن أن المــرءُ يحتــا ُج أحيان ـاً وقت ـاً مــع نفســه‪ ،‬يســتري ُح‬
‫بــه مــن وعثــاء الحيــاة!‬
‫ولكنه أذِ َن ألبي بكر وعمر ألن المشكلة كانت مشكل ًة عائل ّي ًة‪،‬‬
‫حمى له‪ ،‬فأبو بكر والد عائشة‪ ،‬وعمر والد حفصة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكالهما‬
‫وهذا درس بليغ أال يجعل أحدنا مشاكل بيته مشاعاً للنّاس‪،‬‬
‫ال بأس بأن يطلع أهل الزوجة والزوج فقط‪،‬‬
‫بقيت بين الزوجين فهذا أفضل‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وحبذا لو‬
‫ولكــن مــن ُســنن الحيــاة فــي الــزواج أن األمــور تخــر ُج أحيانــاً عــن‬
‫الســيطرة!‬
‫َّ‬

‫‪219‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫لــم ي ُه ـ ْن علــى عمــر بــن الخطــاب هــذا الحــزن الــذي رآه علــى وجــه‬
‫النبــي  فــأراد أن يضحكــه‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫فأخبره طرف ًة هي من نوع المشكلة ال َّراهنة‪،‬‬
‫أي طلــب أمهــات المؤمنيــن النفقــة مــن النبــي ‪ ،‬ولــم يكــن وقتهــا‬
‫ـك ماالً‪،‬‬ ‫يملـ ُ‬
‫ومــن فقــه التســلية عــن النــاس فــي المشــاكل‪ ،‬أن تخبرهــم أن كل‬
‫البيــوت تقــع فيهــا الخالفــات‪،‬‬
‫ويُقال للزَّوج ك ّل الزَّوجات كذلك‪ ،‬وللزَّوجة كل األزواج كذلك‪،‬‬
‫وما أنتم إال جزء من الناس‪،‬‬
‫فالتســلية عــن المكـ َّدر والحزيــن مــن جبــر الخواطر‪ ،‬وجبــر الخواطــر عبادة!‬

‫رس ّ‬
‫الثامن‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫ـرض أبــو بكــر وعمــر أن تطلــب ابنتاهمــا نفقـ ًة ليســت عنــد النبــي‬ ‫لــم يـ َ‬
‫ وهــذا نُبل اآلباء‪،‬‬
‫عرف األهل وضع الزوج وقلة ذات يده‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فإذا‬
‫تعيش بما قســم اهلل لها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يجب عليهم أن يأخذوا على يد ابنتهم‪ ،‬وأن‬
‫الطلبــات مــن زوج ال يجــد مــاالً كثيــراً‪ ،‬يُثقــل كاهلــه‪ ،‬ويشــعره‬
‫ألن كثــرة ّ‬
‫ّ‬
‫بالعجز‪،‬‬
‫وهو مدعاة للنُّفور بين الزّوجين‪ ،‬وخراب األسرة‪ ،‬فتر َّفقُوا!‬

‫‪220‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪44‬‬

‫ع ْ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ َُْ ْ ُ َ‬
‫استِح َيا ٍء﴾‬ ‫ح َداه َما ت ْم ِش‬‫﴿فجاءته إ ِ‬

‫على استحياءٍ ‪،‬‬


‫ٍ‬
‫بساط أحمر‪،‬‬ ‫ْ‬
‫مش َي ال َم ِ‬
‫لكات‪ ،‬ال على‬
‫ِ‬
‫بساط الحياء!‬ ‫وإ ّنما على‬
‫لم يُح ّدثنا القرآ ُن عن جمالها‪ ،‬فالج َما ُل يفنى‪،‬‬
‫ولم يُح ّدثنا عن قوامِ ها‪ ،‬فالقوا ُم طعام ال ّدود!‬
‫حدثنا القرآ ُن عن أجمل ما في ال ِّنساء‪ :‬الحياء!‬ ‫َّ‬
‫مستحض ُر التَّجميلِ الفاتنِ ‪ ،‬والعط ُر الذي يُخفى فيفُوح!‬
‫ثم وهل حرمها الحياءُ عريساً يا أخ ّيتي؟‬
‫جاءت تمشي على استحياءٍ تز ّو ْ‬
‫جت نب ًّيا!‬ ‫ْ‬ ‫إن التي‬‫ّ‬

‫‪221‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪45‬‬

‫قــال رجـ ٌل مــن اليهــود لعمــر بــن الخطــاب‪ :‬يــا أميــر المؤمنيــن‪ ،‬آيــة فــي‬
‫كتابكــم تقرؤونها‪،‬‬
‫ذلك اليوم عيداً!‬‫نزلت التخذنا َ‬ ‫ْ‬ ‫لو علينا معش َر اليهود‬
‫أي آية؟‬ ‫فقال له عمر بن الخطاب‪ُّ :‬‬
‫َْ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ ْ ََ ْ َ ْ ُ َ َْ ُ‬
‫كــمْ‬ ‫فقــال‪﴿ :‬الــوم أكملــت لكــم دِينكــم وأتممــت علي‬
‫ُ َ ُ ُ ْ ْ َ‬
‫ــا َم د ً‬ ‫َْ‬
‫ِينــا﴾‬ ‫الس‬ ‫ضيــت لكــم ِ‬ ‫ــي َو َر ِ‬
‫ن ِعم ِ‬
‫ـت فيــه علــى‬ ‫ـك اليــوم‪ ،‬والمــكان الــذي نزلـ ْ‬ ‫فقــال ُعمــر‪ :‬قــد عرفنــا ذلـ َ‬
‫النبـ ِّـي ‪،‬‬
‫نزلت يوم الجمعة وهو قا ِئ ٌم ب َع َرفة!‬ ‫ْ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫كان يوم عرفة يوماً مهيباً‪،‬‬


‫النبي  على جبل النور يتهيأ ألعظم خطبة في التاريخ‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫مئة وعشرون ألفاً من أصحابه ينتظرونه ليتحدث ليأخذوا عنه‪،‬‬
‫يا اهلل كيف تتغير ال ُّدنيا بسرعة‪،‬‬
‫قبل ثالثة وعشرين سنة من هذه اللحظة‪،‬‬
‫النبي  من غار حراء يرتجف من هول الوحي‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫نزل‬
‫وبيــن أولــى كلمــات القــرآن «اقــرأ»‪ ،‬وبيــن أولــى كلمــات خطبــة الــوداع‬
‫«أ ّيهــا النــاس»‪،‬‬

‫‪222‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫تعب وذاق األذى وكابد المشقة ليكون لنا اليوم دين‪،‬‬‫كم َ‬


‫والســحر وقــد ســ ُّموه مــن قبــل صادقــاً أمينــاً وهــو‬
‫اتَّهمــوه بالكــذب ِّ‬
‫كذلــك‪،‬‬
‫َ‬
‫وض ُعــوا علــى رأســه ســا الجــزور وهــو ســاجد عنــد الكعبــة‪ ،‬وأســمعوه‬
‫مــن الــكالم مــا يكــره‪،‬‬
‫مساً‪،‬‬
‫مسه الجوع َّ‬ ‫طالب حتى َّ‬ ‫ٍ‬ ‫حاص ُروه في ِشعب أبي‬
‫الشريفتين‪،‬‬‫الد ُم من قدميه َّ‬ ‫الطائف حتى سال َّ‬ ‫رج ُموه في َّ‬
‫تآمروا على قتله وأرادوا أن يتف ّرق د ُمه بين القبائل‪،‬‬
‫استكثروا عليه حتى أن يكون له ثأر!‬
‫أخرجوه من قريته التي يُ ِح ُّب‪،‬‬
‫وشجوا الرأس الشريف وأسالوا دمه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وقاتلوه في بدر وأُحد‬
‫قلوب أصحابه الحناجر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بلغت‬
‫ْ‬ ‫وحاص ُروه في غزوة األحزاب حتى‬
‫البيت الحرام وقد جا َء معتمراً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ور ُّدوه عن‬
‫ـت نبي ـاً‬
‫ثــم جــاء نصــر اهلل والفتــح‪ ،‬فالل ُه ـ َّم اجـ ِـزه ع َّنــا خيــر مــا جزيـ َ‬
‫عــن أ ُ َّمتــه!‬

‫رس َّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ال َّرجل الذي بدأ باألمر وحيداً صار اليوم أ ُ َّمة‪،‬‬


‫إ َّنه محمد  أعظم إنسان في تاريخ هذه البشرية‪،‬‬
‫األمي الذي علَّم المتعلمين والفالسفة والخبراء والمثقفين‪،‬‬‫ُّ‬
‫اليتيم الذي ر َّبى آباء العالم وأمهاته‪،‬‬

‫‪223‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الصدقــة‪ ،‬ووزَّع المــال توزيــع‬


‫الفقيــر الــذي أرســى الــزكاة‪ ،‬وحــثَّ علــى َّ‬
‫مــن ال يخشــى الفقــر‪،‬‬
‫الذي لم يدخل ُكل ّي ًة عسكريه ولكنه حارب كما األبطال ُّ‬
‫الشرفاء‪،‬‬
‫ٍ‬
‫دولــة فــي‬ ‫والــذي لــم يدخــل ُكل َّيــة السياســة ولكنــه كان أرفــع رجــل‬
‫التّاريــخ‪،‬‬
‫يفيض ُح ًّبا‪،‬‬‫ُ‬ ‫األب الحنون الذي كان‬
‫ينبض حناناً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والزوج الخلوق الذي كان‬
‫الحليم الذي لم يكن يغضب لنفسه ابداً‪،‬‬
‫السابعة‪،‬‬
‫المتواضع الذي صعد إلى السماء َّ‬
‫ُ‬
‫ويخصــف نعلــه‪ ،‬ويــأكل مــع‬ ‫يحلــب شــاته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ثــم عــاد إلــى األرض‬
‫ا لمســا كين ‪،‬‬
‫الزَّاهد بال ُّدنيا حتى كان الحصير يؤثر في جنبه‪،‬‬
‫ويجلس بين أصحابه فال يتم َّي ُز عنهم بشيء‪،‬‬ ‫ُ‬
‫حتى أن األعرابي كان يجيء إلى مجلسه فيسأل‪ :‬أيكم محمد؟!‬
‫الصابر الذي فقد كل أوالده في حياته إال فاطمة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ال َّراضي الذي فقد زوجته خديجة‪ ،‬وع َّمه أبا طالب‪ ،‬وحبيبه حمزة‪،‬‬
‫الخلوقُ‪ ،‬الخلو ُق جداً الذي تقول عنه عائشة‪ :‬كان خُ لقُه القرآن!‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫كان دوماً يبدأ بنفسه‪ ،‬فإذا أم َر أمراً كان أول من يأتمر به‪،‬‬
‫أمر كان أول من ينتهي عنه‪،‬‬ ‫وإذا نهى عن ٍ‬

‫‪224‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ثالث وعشرين سنة لم يُخالف فعله قوله ولو م َّر ًة!‬ ‫وعلى مدى ٍ‬
‫فــي غــزوة بــدر دفــ َع أقاربــه للمبــارزة‪ ،‬لــم يُخبئهــم ويُحــارب بــأوالد‬
‫النــاس!‬
‫وفي غزوة مؤته رثى ابن عمه جعفر بن أبي طالب!‬
‫وعندما وقف يوم عرفة ِل َي ُس َّن القوانين بدأ بأهله‪،‬‬
‫وض ـ َع الجاهليــة كلهــا تحــت قدميــه‪ ،‬كان أ ّول ِربـ ًـى وضعــه ِربــى عمــه‬
‫العبــاس‪،‬‬
‫وأ ّول ثــأر وضعــه ابــن عمــه عامــر بــن ربيعــة بــن الحــارث بــن عبــد‬
‫المطلــب‪،‬‬
‫الســرقة‪،‬‬
‫وعندمــا أراد أســامة بــن زيــد أن يشــفع للمخزوميــة فــي حــد َّ‬
‫وســأله أال يقطــع يدهــا‪،‬‬
‫غضب من أسامة غضباً شديداً‪ ،‬وكان ال يغضب إال هللِ‪،‬‬ ‫َ‬
‫حد من حدود ا ِ‬
‫هلل يا أسامة؟‬ ‫وقال له‪ :‬أتشف ُع في ٍّ‬
‫ثــم صعــد المنبــر وقــال للنــاس‪ :‬وأيـ ُم اهلل‪ ،‬لــو أن فاطمــة بنــت محمــد‬
‫ـت يدهــا!‬
‫ســرقت لقطعـ ُ‬
‫وحاشا فاطمة‪ ،‬ولكنّه أراد أن يُخبرنا أ ّنه ال أحد فوق شرع اهلل!‬
‫وأن النَّاس سواسية كأسنان المشط!‬ ‫ّ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫قال ألصحابه يومها بملءِ صوته‪:‬‬


‫وإن أباكــم واحــد‪ ،‬كلكــم آلدم وآد ُم مــن‬
‫إن ربكــم واحــد‪َّ ،‬‬
‫أيهــا النــاس َّ‬
‫تــراب!‬

‫‪225‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫هذا هو اإلسالم العظيم الذي ال يتفاض ُل فيه الن ُ‬


‫َّاس إال بالتقوى!‬
‫الحبشي في الجنّة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الهاشمي في النّار‪ ،‬وبالل‬
‫ُّ‬ ‫أبو لهب‬
‫الفارسي في الجنّة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫القرشي في النّار‪ ،‬وسلمان‬ ‫ُّ‬ ‫أبو جهل‬
‫الرومي في الجنّة!‬
‫ّ‬ ‫وصهيب‬
‫ٌ‬ ‫العربي في النّار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أم ّية بن خلف‬
‫َّسب ينفع عند اهلل النتف َع أبو لهب!‬‫لو كان الن ُ‬
‫ولو كان الملك ينفع النتف َع النمرود وفرعون!‬
‫ولو كان المال ينفع النتف َع قارون!‬
‫إن أكرمكم عند اهلل أتقاكم!‬ ‫ولكنها التقوى ال غير‪ّ ،‬‬

‫‪226‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪46‬‬

‫َ َْ ْ َ َ ُ‬
‫﴿فال ي ُزنك ق ْول ُه ْم﴾‬

‫كوخز اإلبر!‬
‫ِ‬ ‫الكالم‬
‫ِ‬ ‫يعل ُم اهللُ أن َ‬
‫بعض‬
‫طعنات دامية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الج َمل‬
‫وبعض ُ‬ ‫ُ‬
‫َّعليقات سكاكي ُن جارحة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وبعض الت‬ ‫ُ‬
‫رصاص م َو َّجه إلى القلب بدِ َّقة!‬
‫ٌ‬ ‫وبعض التَّلميحات‬‫ُ‬
‫ِب بكلمة‪،‬‬ ‫نوم ُسل َ‬
‫كم من ٍ‬
‫َ‬
‫انتهك بكلمة‪،‬‬ ‫رض‬ ‫وكم من ِع ٍ‬
‫ثكلتك أ ّمك يا معاذ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫السنة‪:‬‬
‫وفي ّ‬
‫يكب الناس على مناخرهم في النار إال حصائد ألسنتهم‪،‬‬ ‫وهل ُّ‬
‫َُ ُ َ َ ُ‬
‫وفي القرآن‪﴿ :‬ولعِنوا بِما قالوا﴾‬
‫فال تستهينُوا أبداً بأثر الكلمات!‬

‫‪227‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪47‬‬

‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫جا َء عب ُد اهلل اب ُن أ ُ ِّم مكتوم إلى‬
‫وجعل يقو ُل له‪ :‬يا رسول اهلل ِ‬
‫أرش ْدني‪،‬‬
‫النبي  رج ٌل من عظماء ال ُمشركين‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وعند‬
‫يرجو أن يُ ْس ِل َم‪ ،‬فيسلم بإسالمه غيره من الناس‪،‬‬
‫عرض عن ابن أم مكتوم‪،‬‬ ‫النبي  يُ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫فجع َل‬
‫ويُقب ُل على المشرك‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ‬
‫اءه الع َ ٰ‬
‫م﴾‬ ‫فأنز َل اهلل تعالى قوله‪﴿ :‬عبس وت َو ٰل أن ج َ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  إنسان نهاية المطاف‪،‬‬


‫ُّ‬
‫ويق ـ ُع منــه مــا ُجبــل عليــه النــاس فــا أحــد يســتطيع أن يخــرج عــن‬
‫البشــري‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫الطبــع‬
‫وعمه حمزة‪ ،‬وابنه ابراهيم‪،‬‬‫فقد بكى موت خديجة‪َّ ،‬‬
‫البشري هذا له قلب األنبياء في ال ّرضى والتَّسليم‪،‬‬‫ّ‬ ‫وهو في حزنه‬
‫حب عائشة أكثر من غيرها من زوجاته‪،‬‬ ‫وكان يُ ُّ‬
‫ــب ال ّرجــلِ للمــرأة فطــرة ال تقــدح فــي تمــام النبــوة بــل تُزينهــا‬ ‫وح ُّ‬
‫ُ‬
‫با َّل َ‬
‫نزعــة اإلنســان َّية!‬
‫ولكنه حين ما َل بقلبِه كان له عدل األنبياء في ال ُمعاملة!‬
‫السالم من قبل وألقى األلواح!‬ ‫غضب موسى عليه َّ‬ ‫َ‬ ‫وقد‬

‫‪228‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫بوس في وجه ابن أم مكتوم‪،‬‬ ‫النبي  من ُع ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫وما وقع من‬


‫إنما هو من طباع البشر الذين هو منهم‪،‬‬
‫إن هــذا العبــوس مــا كان إال حرص ـاً علــى ديــن اهلل‪ ،‬وه ّم ـاً ثقي ـ ً‬
‫ا‬ ‫ثُ ـ َّم َّ‬
‫فــي نشــر اإلســام‪،‬‬
‫ولم يكن استنقاصاً شخصياً مقصوداً البن أ ِّم مكتوم‪،‬‬
‫ـرف جميعـاً أن ال ّنــاس منــازل‪ ،‬وبعــض النــاس‬ ‫ـرف كمــا نعـ ُ‬‫ولك ّنــه كان يعـ ُ‬
‫مفاتيــح لغيرهــم‪،‬‬
‫نعرف أنه قد يكون للقبيلةِ الكبيرة‪ ،‬وللعائلةِ الواسعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأنا وأنت‬
‫رج ٌل مرموقٌ‪ ،‬وس ِّي ٌد ُمطا ٌع ال يخرج أح ٌد عن رأيه‪،‬‬
‫تعرف من مكانته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫السيد لِما‬ ‫أردت من الجميع أمراً َ‬
‫أتيت هذا َّ‬ ‫َ‬ ‫فإذا‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وهذا بالضبط ما فعله‬
‫ومن تمام اإليمان أال يُحمل فعلُه  على غير هذا ال َمحمل!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫عاتب نب َّيه ‪،‬‬


‫َ‬ ‫ُك ْن ل ِّيناً‪َّ ،‬‬
‫فإن اهلل تعالى قد‬
‫علــى العبــوس فــي وجــه رجــل لــم ي ـ َر عبوســه‪ ،‬فكيـ َ‬
‫ـف لــو كان ابــن أم‬
‫ـوم يــرى!‬
‫مكتـ ٍ‬
‫وإن كسر خواطرهم‪ ،‬وجرح كراماتهم ٍ‬
‫مؤذ‪،‬‬ ‫َّاس خواطر وكرامات‪َّ ،‬‬ ‫الن ُ‬
‫كسـ ِـر العظــم‪ ،‬وإن لــم يُحــدث هــذا‬
‫كس ـ َر القلـ ِـب مؤلــم أكثــر مــن ْ‬
‫وإن ْ‬
‫َّ‬
‫الكســر صوت ـاً!‬
‫عراض أليم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النظرات قاتلة‪ ،‬وبعض ا ِإل‬ ‫انتبه لتعابير وجهك فبعض‬

‫‪229‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فبعض الكالم جارح‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وانتبه جيداً لمفرداتك‬


‫تنغرس كال ِّرمح في قلب سامعها فتدميه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كلمة ال تنتبه لها‪،‬‬‫و ُر َّب ٍ‬
‫النبي ‪،‬‬‫ِّ‬ ‫وإ ْن كان العبوس قد حصل من‬
‫فهي حادثة يتيمة قد شرحنا أسبابها وب َّينا ظروفها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كرامات ومشاعر‪،‬‬ ‫وإال فهو بأبي وأمي ج َّبا ُر خواطر ومراعي‬
‫وظ ْر َفه وحنانه في مواقف حياته‪،‬‬ ‫ولو أردنا أن نتت َّب َع أدبَه ولُطفه ُ‬
‫أل ّلفنا كتاباً ضخماً يفوق ألف صفحة!‬
‫وإني ألقف مطوالً كل م َّرةٍ عند إسالم عكِ رمة بن أبي جهل‪،‬‬
‫النبي  ألصحابه‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫حيث قال‬
‫جهل مسلماً فال تسبوا أباه!‬ ‫يدخ ُل عليكم عكرمة بن أبي ٍ‬
‫وإن هــذا الميــت كان فرعــون‬
‫راعــى خاطــر الحـ ِّـي فــي أال يُــؤذى بم ِّيتــه‪َّ ،‬‬
‫هــذه األمة!‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ال تح ُك ْم على الن ِ‬


‫َّاس بالمظاهر‪،‬‬
‫قلــب متســخ‪ ،‬وكــم مــن ِّ‬
‫رث الثيــاب فــي‬ ‫ٌ‬ ‫أنيــق فــي صــدره‬
‫فكــم مــن ٍ‬
‫صــدره قلــب أنيــق!‬
‫وقيمة اإلنسان الحقيقية بما في قلبه ال بما في جيبه‪،‬‬
‫بأخالقه ال بمنزلته ورتبته‪ ،‬بأدبه ال بشهادته ووظيفته!‬
‫وإنــك لتــرى الرجــل المســكين البســيط فــا تحســبه شــيئاً‪ ،‬وهــو عنــد‬
‫ا ِ‬
‫هلل حبيــب أريــب‪،‬‬

‫‪230‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وقد ضحك الصحابة من دقة ساقي عبد اهلل بن مسعود‪،‬‬


‫النبي  أن ساقيه أثقل في الميزان من جبل أُحد!‬ ‫ُّ‬ ‫فأخبرهم‬
‫وإنك لو كنت في المدينة على عهد النبوة‪،‬‬
‫الصفــة فــي آخــره ال يجــدون رغيف ـاً‬ ‫ـت أهــل ُّ‬
‫ـت المســجد فرأيـ َ‬ ‫ودخلـ َ‬
‫يس ـ ُّد رمقهــم‪،‬‬
‫نظرت إليهم نظرة المظاهر الخادعة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لهانوا في عينيك إذا‬
‫أن فيهم أبا هريرة أكثر الصحابة رواي ًة للحديث‪،‬‬ ‫علمت َّ‬
‫َ‬ ‫ولكن متى‬
‫وفيهم أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه األمة‪،‬‬
‫وفيهم سالم مولى أبي حذيفة حامل القرآن واللواء‪،‬‬
‫وفيهم سلمان الفارسي صاحب فكرة الخندق‪،‬‬
‫وفيهم عبد اهلل بن مسعود النَّحيل الذي ُملئ علماً‪،‬‬
‫الشهيد اب ُن الشهيدة األولى في اإلسالم‪،‬‬ ‫وفيهم ع َّمار بن ياسر َّ‬
‫هلل حسابات أخرى غير حسابات الناس!‬ ‫أن ِ‬‫لعلمت َّ‬
‫َ‬ ‫وقتها فقط‬
‫وإنك لو جئت المدينة في خالفة أبي بكر‪،‬‬ ‫َ‬
‫يثبت على خصره‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال ال يكاد إزاره‬ ‫ورأيته في الطريق نحي ً‬
‫نظرك عنه ولم تحسبه شيئاً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ألشحت‬
‫َ‬
‫وهو صاحب نب ِّيك األوفى‪ ،‬وأعلى الناس إيماناً بعد األنبياء‪،‬‬
‫حي؟‬
‫الصنديد العنيد الذي قال‪ :‬أينقص ال ِّدين وأنا ُّ‬ ‫ِّ‬
‫الشرس الذي أ َّد َب المرتدين!‬ ‫المحارب َّ‬
‫وإنك لو جئت المدين َة في خالفة عمر بن الخطاب‪،‬‬
‫قلــت‪ :‬يــا لــه مــن‬
‫َ‬ ‫ورأيتــه فــي الطريــق ماشــياً بثوبــه ال ُمر َّقــع‪ ،‬لربمــا‬
‫مســكين!‬
‫ولكنه ُعمر هازم اإلمبراطوريات وفاتح البالد‪،‬‬

‫‪231‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الهجري‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫رجل الدولة الفذ‪ ،‬صاحب الدواوين والتقويم‬
‫يهرب الشيطان منه!‬
‫ُ‬ ‫وهو قبل كل هذا ال َّرجل الذي‬
‫فال ت ُكن سطحياً‪ ،‬وال تخدعنَك المظاهر!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫الدرس ّ‬
‫َّ‬

‫الح ِّب‪،‬‬
‫نتوهم‪ ،‬بل هو من أعلى صور ُ‬ ‫النَّق ُد ليس مرادفاً للكره كما َّ‬
‫بشرط أن يكون له أدبه وتوقيته وأسلوبه‪،‬‬
‫ــف بنقــدك فقــد‬ ‫َ‬
‫تالط َ‬ ‫أن مــن‬
‫وهــا هــو ر ُّبنــا يُعاتــب حبيبــه‪ ،‬فاعلــم َّ‬
‫ــك‪،‬‬‫أح َّب َ‬
‫َ‬
‫أبغضك‪،‬‬ ‫لك الخطأ فقد‬ ‫ومن ز َّي َن َ‬
‫ـدك وأرشـ َ‬
‫ـدك‪ ،‬فهــو صديــق أميــن‬ ‫رآك علــى خطــأ فأمســك بيـ َ‬ ‫ومــن َ‬
‫فق ِّربــه‪،‬‬
‫ـكت عنـ َ‬
‫ـك‪ ،‬فهــو عــدو فــي ثيــاب‬ ‫رآك علــى ظلــم أو معصيـ ٍـة َ‬
‫فسـ َ‬ ‫ومــن َ‬
‫الصديــق فاحــذره!‬

‫‪232‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪48‬‬

‫َّ َ‬ ‫َ ََْ‬
‫﴿ق ْد أفل َح َم ْن َزكها﴾‬

‫زكاتها أمران‪:‬‬
‫المنهي عنه‪ ،‬وفِ ع ُل المأمور به!‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫ترك‬
‫ثاب على ما لم يفعل امتثاالً لنهي اهلل‪،‬‬ ‫وإن المرء يُ ُ‬ ‫َّ‬
‫ثاب على ما يفعل امتثاالً ألمر اهلل ور ّبما أكثر!‬ ‫كما يُ ُ‬
‫ألن ال ّت ْرك هلل يحتا ُج أحيانا بطولة أكثر من الفِ عل هلل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أ ْن تُصلي أسهل من أال تزني!‬
‫ُض بصرك!‬ ‫تتصد َق أسهل من أن تغ ّ‬ ‫َّ‬ ‫وأ ْن‬
‫وأ ْن تصو َم رمضان أسهل من أال تأكل الحرام على مدار العام!‬
‫الطاع ُة ُمنساقة مع الفطرة‪ ،‬والفطرةُ تستأنس عندما تُشبَع‪،‬‬
‫والمعصي ُة ُمنساقة مع الغريزة‪ ،‬والغريزةُ ت ِ‬
‫ُوج ُع عندما تُق َمع!‬

‫‪233‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪49‬‬

‫النبي  يهو َد بني ُقريظة إحدى وعشرين ليل ًة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫حاصر‬
‫َ‬
‫األحــزاب فــي غــزوة‬
‫ِ‬ ‫ِنحــازُوا إلــى‬
‫نقضــوا العهــد وا َ‬ ‫وذلــك بعــد أن ُ‬
‫الخنــدق‪،‬‬
‫الصل َح‪،‬‬
‫النبي  ُّ‬ ‫َّ‬ ‫فسألوا‬
‫على ما صال َح عليه إخوانَ ُهم من يهودِ بني الن َِّضير‪،‬‬
‫فيرحلو َن عن المدينة إلى اليهودِ في أريحا وبالد الشام‪،‬‬
‫النبي  أن يُجيبهم إلى هذا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فأبى‬
‫ينزلُوا على ُحكم سعدِ بن ُمعاذ‪،‬‬ ‫حتى ِ‬
‫َ‬
‫صاحبك أبا لُبابة‪،‬‬ ‫أرس ْل إلينا‬‫فرفضوا هذا‪ ،‬وقالوا‪ِ :‬‬
‫وكان حليفاً لهم في الجاهل َّيةِ ‪ ،‬وبينه وبينهم تجارة بع َدها‪،‬‬
‫النبي  إليهم‪ ،‬فجاءهم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فبعثه‬
‫فقالُوا‪ :‬يا أبا لبابة ما ترى‪ ،‬أننز ُل على ُحكم سعدِ بن معاذ؟‬
‫الذب ُح فال تفعلوا!‬‫فأشار أبو لبابة إلى حلقه‪ :‬إ ّنه َّ‬
‫ـت أ ّنــي قــد خنـ ُ‬
‫ـت‬ ‫ـاي حتــى علمـ ُ‬ ‫ـت قدمـ َ‬ ‫قــا َل أبــو لبابــة‪ :‬وا ِ‬
‫هلل مــا زالـ ْ‬
‫اهلل ورســولَه!‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫آم ُنــوا ل تُونُــوا َّ َ‬ ‫ِيــن َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫الل‬ ‫وأنــز َل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬يَــا أ ُّي َهــا ال َ‬
‫َ‬
‫الر ُســول﴾‬ ‫َو َّ‬
‫سارية من سواري المسجد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نفسه على‬ ‫فشد أبو لبابة َ‬ ‫َّ‬
‫علي!‬ ‫َ ُ‬ ‫هلل ال أذو ُق طعاماً وال شراباً‪ ،‬حتى‬ ‫وقال‪ :‬وا ِ‬
‫يتوب اهلل َّ‬ ‫أموت أو‬
‫َ‬
‫أيام ال يذو ُق طعاماً وال شراباً حتى خ َّر مغشياَ عليه!‬ ‫َفمكث سبعة ٍ‬
‫تاب اهللُ عليه‪..‬‬ ‫ثم َ‬

‫‪234‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫عليك‪.‬‬‫َ‬ ‫تاب اهللُ‬


‫فقيل له‪ :‬يا أبا لبابة قد َ‬
‫يحلُّنِي!‬
‫النبي  هو الذي ُ‬
‫ُّ‬ ‫هلل ال أح ُّل نفسي حتى يكون‬ ‫فقال‪ :‬ال وا ِ‬
‫النبي  فحلَّه بيده الشريفة‪.‬‬‫ُّ‬ ‫فجا َء‬
‫إن من تمام توبتي‪،‬‬ ‫فقال أبو لبابة‪َّ :‬‬
‫أصبت بها ال ُّذنب!‬
‫ُ‬ ‫أن أهجر دار قومي التي‬
‫وأن أنخلع من مالي!‬
‫يجزيك الثلثُ أن تتصد َق به!‬‫َ‬ ‫النبي ‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أُمرنا أن نُ ْح ِس َن إلى الناس جميعاً‪،‬‬


‫ال نظ ِل ُم إنساناً ولو كان كافراً‪،‬‬
‫إنسان ولو كان يعب ُد صنماً‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وال نسر ُق مال‬
‫نغش إنساناً ولو كان ُملحداً‪،‬‬ ‫وال ُّ‬
‫عرض امرأة ولو كانت على غير ديننا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫نحط من‬‫ُّ‬ ‫وال‬
‫أخال ُقنا نستقيها من كتاب ر ّبنا ومن هدي نب ِّينا‪،‬‬
‫اآلخــرون ليســوا مــرآ ًة ألخالقنــا إن أحســنوا أحســنَّا وإن أســا ُؤوا‬
‫أســأنا!‬
‫ـرق‬
‫وعـ ٍ‬‫ـاس مــن كل ديـ ٍـن ِ‬
‫ونحــن نعيــش فــي مجتمعــات هــي مزيــج مــن ال َّنـ ِ‬
‫ومذهب‪،‬‬
‫الحسن وأراعي خاطره‪،‬‬‫َّصراني أعامله بالخُ لق َ‬
‫ُّ‬ ‫زميلي الن‬
‫ضت‪،‬‬
‫مر ْ‬ ‫ِ‬
‫ومذهبك تزورينها إذا ِ‬ ‫وزميلتك التي على غير ِ‬
‫دينك‬ ‫ِ‬

‫‪235‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫علي‪،‬‬
‫الجوار الذي جعله له اإلسالم َّ‬ ‫أصله بحقِّ ِ‬ ‫الملح ُد ِ‬
‫ِ‬ ‫جاري‬
‫وصديق َُك في الجامعة الذي على غير دينك تلي ُن معه‪،‬‬
‫أولً وأخيراً!‬
‫ولكن العقيدة ّ‬
‫كر ُم األخرين بما هو حالل في ديننا‪،‬‬ ‫نُ ِ‬
‫ونَ ِصل ُ ُهم بحدود المباح الذي ال يوقعنا في اإلثم‪،‬‬
‫ونحفـ ُ‬
‫ـظ لهــم معروفهــم‪ ،‬ونكافئُهــم عليــه‪ ،‬بمــا نُثــاب فيــه ال بمــا نأثــم‬
‫بــه!‬

‫رس َّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫المؤمن ليس معصوماً عن الخطأ‪،‬‬


‫اف عند الحقِّ !‬ ‫ولكنه و َّق ٌ‬
‫النبي ‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫أحب األحاديث النبو َّيةِ إلى قلبي‪ ،‬قول‬ ‫ومن ِّ‬
‫عبد مؤمن إال وله ذنب يعتاده ال َفيْن َة بعد ال َفيْنَة‪،‬‬ ‫ما من ٍ‬
‫ذنب هو مقي ٌم عليه ال يُفار ُقه حتى يُفارق!‬ ‫أو ٌ‬
‫نسا ًء‪ ،‬إذا ُذ ِّك َر َذ َك َر!‬
‫إن المؤمن خُ ل َق مفتَّناً‪ ،‬تواباً‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫نب ال ُمعتاد‪،‬‬
‫الذ ُ‬ ‫فإن وقع منك ذاك َّ‬
‫الذي تواقعه ثم تتوب عنه‪ ،‬وتتوب عنه ثم تواقعه‪،‬‬
‫أو هو َذنْ ٌب جدي ٌد طارئ‪،‬‬
‫فاألص ُل أن ترج َع فوراً وتتوب‪ ،‬وال تتما َد!‬
‫حرام‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫نظرت إلى‬
‫َ‬ ‫إذا‬
‫ٍ‬
‫بصفحات في مصحفك!‬ ‫َ‬
‫عينيك‬ ‫فم ِّت ْع‬

‫‪236‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يح ُّل َ‬
‫لك‪،‬‬ ‫لمست ما ال ِ‬ ‫َ‬ ‫وإذا‬
‫ٍ‬
‫بصدقة على فقير!‬ ‫فاغسل هذه ال َي َد‬ ‫ِ‬
‫مشيت إلى حيث ما كان يجب أن تَمشي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وإذا‬
‫قدميك إلى المسجدِ تكفيراً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فاصح ْب‬
‫َ‬
‫مسلم استغفاراً‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ِمش في قضاءِ حاجة‬ ‫وا ِ‬
‫نب في حقٍّ من ُحقوق العباد‪،‬‬ ‫الذ ُ‬ ‫أما إذا كان َّ‬
‫فال توب َة إال بإرجاع الحقِّ إلى أهله‪،‬‬
‫بينك وبين اهللِ‪.‬‬‫ما كان بينك وبين اهلل‪ ،‬ت ُْب منه َ‬
‫فحلّه بينك وبين الناس!‬ ‫بينك وبين الناس‪ُ ،‬‬ ‫وما كا َن َ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫تاب اهللُ تعالى على أبي أُمامة‪،‬‬ ‫َ‬


‫حل نفسه من وثاقه‪،‬‬ ‫رفض أن يُ َّ‬ ‫َ‬ ‫ولكنه‬
‫النبي  ويحلُّه بيده الشريفة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫حتى يأتي‬
‫وأنت فاعل َ ْم‪:‬‬
‫َ‬
‫النبي ‪،‬‬‫ُّ‬ ‫غابت ي ُد َج َسدِ‬
‫ْ‬ ‫أنه وإن‬
‫فإن ي َد شرعه باقي ٌة ما بقيت ال ُّدنيا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫تحل نفسك بها!‬ ‫ترض إال أن َّ‬ ‫فال َ‬
‫الفجر في وقتها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫فاتتك صالةُ‬ ‫َ‬ ‫فإ ْن‬
‫ص ِلّها في أقرب ٍ‬
‫وقت ذكرتَها فيه‪،‬‬
‫الضحى‪،‬‬
‫ثم ت ّو ْج هذا القضاء بركعتين تركعهما من ُّ‬

‫‪237‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫عابر‪،‬‬
‫بذنب ٍ‬ ‫صيامك ٍ‬ ‫َ‬ ‫جرحت يوم‬‫َ‬ ‫وإن‬
‫ر ِّم ْم هذا اليوم بصيام يوم تطوع مكانه تعتذِ ُر من اهلل تعالى فيه‪،‬‬
‫وردك من القرآن في النَّهار‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فاتك‬ ‫إ ْن‬
‫فاقرأه في الليل ففيه ُمت ََّسع‪،‬‬
‫الصباح‪،‬‬ ‫غفلت عن أذكار َّ‬ ‫َ‬ ‫وإ ْن‬
‫األوقات ُفسحة!‬
‫ِ‬ ‫الظهيرة‪ ،‬في ك ِّل‬ ‫فس ِّبح في َّ‬
‫نفس َك‪،‬‬ ‫لمت َ‬‫صدقة ث ّم َ‬ ‫ٍ‬ ‫بخلت في‬ ‫َ‬ ‫وإن‬
‫موضع آخر!‬ ‫ٍ‬ ‫بصدقة مكانها في‬ ‫ٍ‬ ‫فعاج ْل‬
‫ِ‬
‫مال‪،‬‬
‫منصب أو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫نفس َك ُع ُجباً وكِ براً بسبب‬ ‫وجدت في ِ‬ ‫َ‬ ‫وإن‬
‫فرس ج ُموح‪،‬‬‫ٌ‬ ‫أن هذه النَّفس‬ ‫فتذ َّك ْر َّ‬
‫َ‬
‫تركبك!‬ ‫إ ّما أن تركبها أو‬
‫ذل كبرياءها بما يُؤ ِّدبها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫َّ‬
‫محطة‪،‬‬ ‫ِشتر طعاماً و ُكلْه مع ع َّم ٍال بسطاء في ورشة أو‬ ‫ا ِ‬
‫لكنت مكانه!‬
‫َ‬ ‫هلل‬ ‫َ‬
‫لتعرف أ ّنك لوال فضل ا ِ‬ ‫معدم‬
‫ٍ‬ ‫فقير‬
‫ُز ْر بيت ٍ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫غضب ال َّرب كما يُ َ‬


‫طفئ الماءُ النَّا َر!‬ ‫َ‬ ‫الصدق ُة تُطف ُئ‬
‫َّ‬
‫لك بصدقة!‬ ‫فكلِّ ْل كل ٍ‬
‫توبة َ‬
‫الصدقة قرينة التَّوبة فقط‪،‬‬ ‫وليست َّ‬
‫تصل ُ َح إال اعتذاراً!‬
‫وفضائلها تتخطى أال ْ‬
‫بالصدقة يُدف ُع بالءٌ ال يُد َف ُع بغيرها‪،‬‬
‫َّ‬

‫‪238‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫بالصدقة‪،‬‬ ‫النبي ‪ :‬باكِ روا َّ‬ ‫ُّ‬ ‫يقول‬


‫الصدقة!‬ ‫يتخطى َّ‬ ‫ّ‬ ‫فإن البالء ال‬
‫السالم يُوصي بني إسرائيل‪:‬‬ ‫وقال يحيى عليه َّ‬
‫بالصدقة‪ ،‬فإن مثل ذلك رجل أس َره الع ُد ُّو‪،‬‬ ‫آم ُرك ُم َّ‬
‫ليضربُوا عن َقه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وقد ُموه‬‫فأوثقُوا يده إلى ُعنقه‪َّ ،‬‬
‫نفسه منهم!‬ ‫والكثير‪ ،‬ففدى َ‬ ‫ِ‬ ‫فقال‪ :‬أنا أفتدي منكم بالقليلِ‬
‫والص َدقة تُط ِّه ُر المال الذي نجنِيه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫السو َق يوماً‪ ،‬فقال للت ِ‬
‫ُّجار فيه‪:‬‬ ‫النبي  ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫دخ َل‬
‫فشــوبُوه‬‫ِــف‪ُ ،‬‬ ‫والحل ُ‬
‫إن هــذا البيــع يحضــ ُره اللغــ ُو َ‬ ‫يــا معشــر التُّجــار‪َّ :‬‬
‫بالصدقــة!‬ ‫َّ‬
‫وأنت‪ ،‬اِجع ْل لك صدق ًة من راتبك عند استالمِ ه!‬ ‫َ‬
‫والصدق ُة دواءٌ وعال ٌج‪ ،‬تُدف ُع به األسقام دفعاً‪،‬‬ ‫َّ‬
‫النبي ‪ :‬دا ُووا مرضاكم بالصدقة!‬ ‫ُّ‬ ‫يقو ُل‬
‫ـت فــي ُركبتــه‬ ‫وشــكا رج ـ ٌل إلــى عبــد اهلل بــن المبــارك‪ ،‬قرص ـ ًة خرجـ ْ‬
‫منــذ ســبع ســنين‪،‬‬
‫بأنواع العِ الج‪ ،‬وسأ َل األطبا َء فلم يبرأْ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وقد عالجها‬
‫ـكان يحتــا ُج ال َّنـ ُ‬
‫ـاس‬ ‫ـب فاحفِ ـ ْر بئــراً فــي مـ ٍ‬ ‫فقــا َل لــه ابـ ُن المبــارك‪ :‬اِذهـ ْ‬
‫فيــه المــا َء‪،‬‬
‫ففع َل الرج ُل هذا‪ ،‬فبرئ بإذن اهلل!‬
‫وسيلة لزيادة المال والبركة فيه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫والصدق ُة أنف ُع‬ ‫َّ‬
‫يوم يُصب ُح العبا ُد فيه‪،‬‬ ‫النبي ‪ :‬ما من ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫يقو ُل‬
‫أعط ُمنفِ قاً َخلَفاً!‬ ‫إال ملكانِ ينزالن فيقو ُل أح ُدهما‪ :‬الل ُه َّم ِ‬
‫مسكاً تلَفاً!‬‫أعط ُم ِ‬ ‫ويقو ُل اآلخر‪ :‬الل ُه َّم ِ‬

‫‪239‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ذاهب نهاية المطاف‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫كل المال‬ ‫إن َّ‬


‫ثُ َّم َّ‬
‫تصدقَّ به واستبقاه عند اهلل تعالى‪،‬‬ ‫وال يبقى للعبدِ من ماله إال ما َّ‬
‫النبي ‪ ،‬فأم َر عائشة أن تتصد َق ببعضها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بحت شاةٌ في ِ‬
‫بيت‬ ‫ُذ ْ‬
‫بقي منها إال كتفها!‬ ‫فلما عا َد سألها عن الشاة‪ ،‬فقالت‪ :‬ما َ‬
‫بقيت كلُّها إال كتفها!‬
‫ْ‬ ‫فقال لها‪:‬‬
‫تحجب المسل َم عن النَّار يوم القيامة!‬ ‫ُ‬ ‫والصدق ُة‬‫َّ‬
‫البخاري و ُمسلم‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫النبي  كما في‬ ‫ُّ‬ ‫يقول‬
‫أحد إال سيكلِّ ُمه اهللُ‪ ،‬ليس بينه وبينه تُرجمان‪،‬‬ ‫ما منكم من ٍ‬
‫قد َم‪،‬‬‫فينظر أيم َن منه فال يرى إال ما َّ‬
‫قد َم‪،‬‬
‫فينظر أشأ َم منه فال يرى إال ما َّ‬
‫فينظــر بيــن يديــه فــا يــرى إال ال َّنــا َر تِلقــا َء وجهــه‪ ،‬فاتقــوا ال َّنــار ولــو‬
‫بشــقِّ تمــرة!‬

‫‪240‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪50‬‬

‫َ َ َْ ََ ْ‬
‫﴿وح َّرمنا عليْهِ ال َم َر ِ‬
‫اض َع﴾‬

‫السالم ومأل بكا ُؤه القص َر‪،‬‬


‫جا َع موسى عليه َّ‬
‫آسيا تري ُده أن يرضع‪،‬‬
‫وفرعو ُن يريده أن يسكت‪،‬‬
‫بمرضع‬
‫ٍ‬ ‫الك ُّل مشغو ٌل به‪ ،‬هذا يأتي‬
‫وذاك يأتي بأخرى‪،‬‬
‫ولكن لم ي ُك ْن أح ٌد أرحم به من اهلل‪،‬‬
‫كان يري ُد أن يعي َده إلى أ ّمه‪،‬‬
‫اهلل تعالى ال يمن ُع إال ليعطي‪،‬‬ ‫إن َ‬ ‫ّ‬
‫ألن غيره خي ٌر منه‪،‬‬ ‫وال يُغ ِل ُق باباً إال َّ‬
‫منع‪،‬‬
‫هلل في كل حرمان‪ ،‬وحكمتَه في كل ٍ‬ ‫لو استشعرنا رحمة ا ِ‬
‫الطريق!‬ ‫لهانت علينا ّ‬
‫ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ َ‬
‫﴿وح َّرمنا عليْهِ ال َم َر ِ‬
‫اض َع﴾‬ ‫فلوال‪:‬‬
‫َ َ ْ َ ُ َ ُّ‬
‫ما كان‪﴿ :‬ف َرددناه إِل أ ِمهِ﴾‬

‫‪241‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪51‬‬

‫وجي َء باألسرى‪،‬‬ ‫بدر ِ‬


‫ل َّما كان يو ُم ٍ‬
‫النبي ‪ :‬ما تقُولون في هؤالء؟‬ ‫ُّ‬ ‫قال‬
‫َ‬
‫وأهلــك‪ ،‬هــؤالء بنــو العــ ِّم‬ ‫َ‬
‫قومــك‬ ‫فقــال أبــو بكــر‪ :‬يــا رســول اهلل‪،‬‬
‫والعشــيرة‪،‬‬
‫فإ ِّني أرى أن تأخ َذ منهم الفِ دية‪،‬‬
‫فيكون ما أخذنا منهم قو ًة لنا على ال ُّكفار‪،‬‬
‫عضدا‪،‬‬ ‫وعسى اهللُ أن يهديهم في ُكونوا لنا ُ‬
‫رأي أبي بكر‪،‬‬
‫هلل ما أرى َ‬ ‫فقال عمر بن الخطاب‪ :‬وا ِ‬
‫فأضرب عنقه‪،‬‬
‫َ‬ ‫ولكن أرى أن تمكني من فالن – قريب له –‬
‫فيضرب عنقه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عقيل‬
‫ٍ‬ ‫وتم ِّكن عل ّياً من‬
‫يضرب عنقه‪،‬‬
‫َ‬ ‫فالن أخيه حتى‬‫وتمكن حمزة من ٍ‬
‫حتى يعلم اهللُ أ َّنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين!‬
‫النبي  ولم يُجبهم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فسكت‬
‫َ‬
‫ثم دخ َل خيمته‪...‬‬
‫ناس‪ :‬يأخ ُذ بقولِ أبي بكر‪،‬‬ ‫فقال ٌ‬
‫ناس‪ :‬يأخذ بقولِ عمر بن الخطاب‪،‬‬ ‫وقال ٌ‬
‫النبي  وقال‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ثم خرج‬
‫رجال فيه‪ ،‬حتى تكون ألي َن من اللبن!‬ ‫ٍ‬ ‫وجل ليلي َن قلوب‬‫إن اهلل ع َّز َّ‬ ‫َّ‬
‫ـال فيــه‪ ،‬حتــى تكــون أشـ َّـد مــن‬
‫وإن اهلل عــزَّ وجــل ليش ـ ُد ُد قلــوب رجـ ٍ‬
‫َّ‬
‫الحجــارة‪،‬‬
‫بكر كمثلِ إبراهيم عليه السالم قال‪:‬‬ ‫مثلك يا أبا ٍ‬ ‫َ‬ ‫وإن‬

‫‪242‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ِيم﴾‬ ‫ور َّرح ٌ‬‫ك َغ ُف ٌ‬ ‫َ َّ َ‬


‫ان فإِن‬ ‫َ َ َ َ َ َّ ُ ّ َ َ ْ َ َ‬
‫﴿فمن تبِع ِن فإِنه م ِِن ومن عص ِ‬
‫وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السالم قال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ـاد َك ِإَون تغ ِفـ ْ‬ ‫َ ُْ ْ ُ ْ َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ـت ال َعزيـ ُ‬
‫ـز‬ ‫ـك أنـ َ‬ ‫ـم فإِنـ‬‫ـر ل ُهـ ْ‬ ‫﴿إِن تعذِبهــم فإِنهــم عِبـ‬
‫ِ‬
‫ـم﴾‬ ‫الكِيـ ُ‬ ‫َْ‬
‫مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السالم قال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫وإن‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ع قلوب ِ ِه ْم﴾‬ ‫ع أم َوال ِ ِه ْم َواش ُدد ٰ‬ ‫﴿ َر َّبنا اط ِم ْس ٰ‬
‫نوح عليه السالم قال‪:‬‬ ‫كمثل ٍ‬ ‫مثلك يا عمر‬ ‫َ‬ ‫وإن‬
‫َّ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫ب ل تذر ع الر ِض مِن الكف ِِرين ديارا﴾‬ ‫َ‬
‫﴿ر ِ‬
‫النبي  برأي أبي بكر‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ثم أخذ‬
‫فأنزل اهلل تعالى قوله مؤيداً رأي عمر‪:‬‬
‫ْ َْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ى َح َّ‬ ‫ون َ ُل أَ ْ‬
‫َ َ َ َ ّ َ َ ُ َ‬
‫خ َن ِف الر ِض﴾‬ ‫ِ‬ ‫ث‬‫ي‬ ‫ت‬‫ٰ‬ ‫ٰ‬ ‫س‬‫َ‬ ‫ب أن يك‬ ‫﴿ ما كن لِ ِ ٍ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫من األشياء الجميلة التي لم تُذكر في هذه ال ِّرواية‪،‬‬


‫النبي  قبل أن يستشي َر أصحابه في أسرى بدر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫َّ‬
‫نظر إلى هؤالء األسرى وقال‪:‬‬
‫عدي ح ًّيا وكلمني في هؤالء ال َّنتْنَى لتركتهم له‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫لو كان مطعم بن‬
‫عدي هو الذي أجاره بعد أن ُرجم في َّ‬
‫الطائف‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ومطعم بن‬
‫ٌ‬
‫قريش يومها أن يدخل مكة‪،‬‬ ‫فقد منعته‬
‫وكأ َّنه ال يكفيه ما القاه هناك حتى يُمن َع من دخول وطنه!‬

‫‪243‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫القريب في م ّكة قبل عودتَه!‬


‫ُ‬ ‫الطائف ق ِب َل دعوته‪ ،‬وال‬
‫الغريب في َّ‬
‫ُ‬ ‫ال‬
‫فذهب إلى مطعم بن عدي يسأله أن يُجيره ويحميه‪،‬‬ ‫َ‬
‫النبي  مكة تحت حماية مطعم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقبل ذلك‪ ،‬ودخل‬
‫عدي معروفه معه‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ينس لمطعم بن‬ ‫ثم دار الزَّما ُن ولم َ‬
‫نبي‪ ،‬وما أكرمه من رسول!‬ ‫ما أوفاه من ٍّ‬
‫أن أحــداً اســتطاع أن يقتلــه مــا‬ ‫رغــم أن هــؤالء أســرى حــرب‪ ،‬ولــو َّ‬
‫تــر َّدد‪،‬‬
‫َّاس ال ُمش ِّرفة معهم‪،‬‬
‫ولكنَّه نبيل‪ ،‬والنُّبالء ال ينسون مواقف الن ِ‬
‫حتى ولو كانوا على غير دينهم!‬
‫فكن وفياً كنب ِّيك ‪،‬‬
‫اِحفظ للناس معروفهم‪ ،‬وتح َّي ْن الفرص لر ِّد هذا المعروف‪،‬‬
‫صحيح أن الذي يفعل المعروف ال ينتظر سداداً‪،‬‬
‫أنت!‬
‫العار أن تنسى َ‬ ‫ِ‬ ‫ولكن من‬

‫رس َّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫َّاس ِطبا ٌع مختلفة‪ ،‬واألنبياءُ ناس!‬


‫الن ُ‬
‫لهذا أنت ترى اِختالف ردود أفعالهم تبعاً الِختالف طبائعهم‪،‬‬
‫بلي ال عالقة له بدرجة اإليمان‪،‬‬‫فطري ِج ّ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫والطب ُع شيءٌ‬
‫السالم جميعاً‪،‬‬
‫فإبراهي ُم وموسى وعيسى ونو ٌح عليهم َّ‬
‫هم من أُولي العزم من ال ُّرسل‪،‬‬
‫ولكنك تالحظ لِيناً في طبع إبراهيم وعيسى عليهما السالم‪،‬‬

‫‪244‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫نــوح وموســى عليهمــا‬


‫الحــزم فــي طبــاع ٍ‬
‫ِ‬ ‫بينمــا تالحــظ شــيئاً مــن‬
‫الســام‪،‬‬
‫الســام‬ ‫تمام ـاً كمــا تالحــظ َّ‬
‫أن أبــا بكـ ٍـر كإبراهيــم وعيســى عليهمــا َّ‬
‫فــي لِينهمــا‪،‬‬
‫السالم في حزمهما!‬
‫كنوح وموسى عليهما َّ‬ ‫و ُعمر بن الخطاب ٍ‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫َّــاس فــي الحيــاة‪ ،‬وكثيــ ٌر مــن ر َّدات أفعالهــم‬ ‫مواقــف الن ِ‬‫ِ‬ ‫كثيــ ٌر مــن‬
‫وتصرفاتهــم‪،‬‬
‫الطبع ال إلى اإليمان!‬ ‫مرجعه إلى َّ‬
‫العصبي ومنهم الحليم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫َّاس منهم‬‫الن ُ‬
‫الشدي ُد ومنهم اللَّين‪ ،‬ومنهم الكري ُم ومنهم البخيل‪،‬‬ ‫منهم َّ‬
‫ـاس الذيــن نتعامــل معهــم‪ ،‬يو ِّفــر علينــا وعليهــم‬
‫ـإن فهــم طبــاع ال َّنـ ِ‬
‫لهــذا فـ َّ‬
‫عنــا َء كبيراً‪،‬‬
‫ات أفعالهم تبعاً لما نعلمه من طباعهم!‬ ‫بل ويجعلنا حتى نتنبأ بر َّد ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  لت ُْسلِم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عندما جاءت قبيلة عبد القيس إلى‬
‫سارع أفراد القبيلة بال ُّدخول عليه‪،‬‬

‫‪245‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫إال س ِّيدهم أش ُّج بن عبد القيس تم َّه َل في المجيء!‬


‫بقي حتى لبس أجمل ثيابه‪ ،‬ووضع ِع ْطراً‪،‬‬ ‫فقد َ‬
‫النبي  قال له‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫فلما دخل على‬
‫الحل ْ ُم واألناة!‬
‫إن فيك خصلتين يحبهما اهلل‪ِ :‬‬ ‫َّ‬
‫قت بهما يا رسول اهلل؟!‬ ‫بلت عليهما أم تخلَّ ُ‬ ‫فقال له‪ :‬أَ ُج ُ‬
‫بلت عليهما!‬ ‫فقال له‪ :‬بل ُج َ‬
‫بطباع مختلفة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫َّاس يولدون‬ ‫أن الن َ‬
‫نص صريح وقاطع َّ‬ ‫ُّ‬
‫بطون أ ُ َّمهاتهم‪،‬‬ ‫جبَل َ ُهم اهلل تعالى عليها وهم في ُ‬
‫نخوض غمار الحياة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وإننا نرى عياناً ونحن‬
‫البخيل والكريم في البيت الواحد‪،‬‬
‫واألناني أخوين من أ ُ ٍّم وأب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫والشهم‬
‫ٍ‬
‫واحد!‬ ‫والحلي ُم والغضوب‪ ،‬وهما يُسقيان بماءٍ‬
‫َّاس بعضهم على بعض في األُكل كالز ِ‬
‫َّرع!‬ ‫فض َل الن َ‬ ‫ولكن سبحان من َّ‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫حتى وإن كانت الطباع فطر َّي ًة واإلنسان مجبو ٌل عليها‪،‬‬


‫سيءٍ ُجب َل عليه‪،‬‬
‫لطبع ِّ‬
‫ٍ‬ ‫فهذا ليس مبرراً ألن ينسا َق اإلنسا ُن‬
‫ألن ال ُّدنيا دار مجاهدة وامتحان‪،‬‬
‫وال َفال ُح فيها يكون بمخالفة الهوى و ِا ِّت ِ‬
‫باع الحقّ ‪،‬‬
‫فكلنا قد ُجبلنا على ُح ِّب المال‪،‬‬
‫ولكن هذا ليس مبرراً للسرقة أبداً‪،‬‬

‫‪246‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رجل إال ويشتهي ال ِّنساء‪،‬‬


‫وما من ٍ‬
‫وما من امرأةٍ إال وتشتهي الرجال‪،‬‬
‫فطرة اهلل تعالى التي فطر الناس عليها‪،‬‬
‫ولكن هذا ليس مبرراً للزِّنى!‬
‫وإ َّنما جعلنا اهلل طباعاً ليمتحننا بهذه ِّ‬
‫الطباع‪،‬‬
‫ـب بالحــال إشــباعاً لرغبــةِ المــال‪ ،‬ومــن يَتكسـ ُّ‬
‫ـب‬ ‫يتكسـ ُ‬
‫َّ‬ ‫حتــى يــرى مــن‬
‫بالحرام!‬
‫وحتى يرى من يُشبع غريزته بالحالل ومن يُشبعها بالحرام‪،‬‬
‫طباع َك‪ ،‬وأ ِّد ْب شهوت ََك أن يكون إشباعها في الحالل!‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫فجاه ْد‬

‫‪247‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪52‬‬

‫اتلَ ْقوى َذل َِك َخ ْ ٌ‬


‫ي﴾‬ ‫اس ّ‬‫﴿ولِ َ‬

‫يلبس ذات العباءة والعمامة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جهل كان‬


‫أبو ٍ‬
‫الصديق!‬ ‫التي كان يلبسها أبو بكر ِّ‬
‫ولحية ُأم ّية بن خلف كانت طويل ًة‪،‬‬
‫كلحيةِ عبد اهلل بن مسعود!‬
‫وسيف عتبة بن ربيعة كان من نفس المعدن‪،‬‬ ‫ُ‬
‫سيف خالد بن الوليد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي كان منه‬
‫الشك ُل ال َّ‬
‫شك مطلوب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ولكن التد ّين لم يكن يوماً َّ‬
‫بالشكل وإ ّنما بالمضمون‪،‬‬
‫كان النبي  يشي ُر إلى قلبه وهو يقول‪:‬‬
‫التقوى ها هنا!‬

‫‪248‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪53‬‬

‫بكر في فداء أسرى بدر‪،‬‬ ‫النبي  برأي أبي ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ل َّما أخ َذ‬
‫النبي  في فداء زوجها أبي العاص‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫زينب ابن ُة‬ ‫ُ‬ ‫بعثت‬
‫ْ‬
‫ـلت قــاد ًة كانــت لخديجــة أهدتهــا إياهــا يــوم زواجهــا مــن أبــي‬ ‫وأرسـ ْ‬
‫العــاص‪،‬‬
‫النبي  رقَّ لها رق ًة شديدة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فل َّما رآها‬
‫وقــال‪ :‬إن رأيتــم أن تُطلقــوا لهــا أســيرها وتــر ُّدوا عليهــا الــذي لهــا‬
‫فا ْف َعلُــوا!‬
‫فقالوا‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪.‬‬
‫فأطلقُوه‪ ،‬ور ُّدوا عليها قالدتها!‬
‫المطلب وكان في أُسارى بدر‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫اس بن عبد‬ ‫ثم قال الع َّب ُ‬
‫كنت مسلماً!‬ ‫يا رسول اهلل‪ ،‬إني ُ‬
‫النبي ‪ :‬اهللُ أعلم بإسالمك!‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫فإن ي ُكن ما تقو ُل – حقاً – فاهلل يجزيك‪،‬‬
‫أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫نفسك‪ ،‬وابني‬ ‫َ‬ ‫فافدِ‬
‫وحليفك عتبة بن عمرو‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب‪،‬‬
‫اس‪ :‬ما ذاك عندي يا رسول اهلل!‬ ‫فقال الع ّب ُ‬
‫أنت وأ ّم الفضل؟‬
‫دفنت َ‬
‫َ‬ ‫النبي ‪ :‬فأين المال الذي‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫صبت فهذا المال ألوالدي‪ :‬الفضل وعبد اهلل و ُقثم!‬‫ُلت لها‪ :‬إن أ ُ ُ‬ ‫فق َ‬
‫َ‬
‫يدريك؟‬ ‫العباس‪ :‬وما‬
‫ُ‬ ‫فقال له‬
‫النبي ‪ :‬أخبرني اهلل بهذا!‬‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫العباس‪ :‬أشه ُد َ‬
‫إنك لصادق!‬ ‫ُ‬ ‫فقال‬

‫‪249‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يطلع عليه أح ٌد إال اهلل‪،‬‬ ‫دفعت لها ذهباً‪ ،‬ولم َّ‬ ‫ُ‬ ‫وإني قد‬
‫وأنك رسول اهلل!‬ ‫َ‬ ‫فأنا أشه ُد أن ال إله إال اهلل‪،‬‬
‫العباس عشرين أوقي ًة ذهباً‪ ،‬وأسل َم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فدف َع‬
‫وأنز َل اهلل تعالى قوله‪:‬‬
‫ّ َ َْ‬ ‫َ‬
‫َ َْ‬
‫ى إِن يعلــ ِم‬ ‫س ٰ‬‫ــي قُــل ل َِمــن ف أيدِيكــم مِــن ال َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫﴿يَــا َأ ُّي َهــا انلَّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـم َو َي ْغ ِفــرْ‬ ‫ُ‬
‫ِنكـ ْ‬ ‫ُ ْ َ ْ ً ُ ْ ُ ْ َ ْ ً ّ َّ ُ َ‬ ‫َّ ُ ُ ُ‬
‫خــذ م‬
‫الل ِف قلوبِكــم خــرا يؤت ِكــم خــرا مِمــا أ ِ‬
‫الل َغ ُفـ ٌ‬
‫ـور َّرحِيـ ٌ‬ ‫ـم َو َّ ُ‬‫كـ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫ـم﴾‬ ‫ل‬
‫ـاس ُمعلِّقـاً علــى هــذه اآليــة الحقـاً‪ :‬فأعطانــي اهللُ خيــراً ممــا‬ ‫قــال الع ّبـ ُ‬
‫أخــذ منــي!‬
‫بمال كثير مكان العشرين أوقية‪،‬‬ ‫عشرين عبداً كلُّهم يتاجر لي ٍ‬
‫وأنا أرجو المغفرة من ربي!‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫إ َّنهــا خديجـ ُة بنــت خُ ويلــد المــرأةُ التــي ال يوجــد منهــا نســخ ٌة ثانيـ ٌة فــي‬
‫تاريخ البشــر َّية!‬
‫النبــي  كانــت فــي األربعيــن وهــو فــي الخامســة‬ ‫ُّ‬ ‫حيــن تزوجهــا‬
‫والعشــرين‪،‬‬
‫السن بينها وبينه‪،‬‬ ‫بالحب‪ ،‬فتذيب فارق ِّ‬ ‫كانت تنز ُل إليه بقلبها ُ‬
‫ملكت عليه قلبه فلم يتزوج معها امرأ ًة أبداً!‬ ‫ْ‬ ‫حتى‬
‫كانت ناضج ًة ليجد فيها شيئاً من األ ِّم التي فقدها طف ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫ْ‬
‫حكيم ًة ألنِّ أصحاب ال ِّرساالت يحتاجون جبه ًة داخل ّي ًة صلبة‪،‬‬

‫‪250‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫كالح ِّب مط ّية لعبور َّ‬


‫الطريق!‬ ‫ُ‬ ‫ألن األيام ثقال وليس‬ ‫صدي َق ًة َّ‬
‫ؤنس بك!‬‫تأنس ويُ ُ‬
‫َ‬ ‫الح ُّب إال أن‬
‫فذابت كل الفوارق بينهما‪ ،‬وما ُ‬ ‫ْ‬
‫ـت ثر َّيـ ًة جــداً ولكنَّهــا كانــت تُشــعره أ َّنــه عندهــا أغلــى مــن كل مــا‬
‫وكانـ ْ‬
‫تملــك‪،‬‬
‫وكان هو على فقره يُشعرها أنها أغلى عنده من كل مالها‪،‬‬
‫الح َّب يصنع المعجزات‪ ،‬فص ِّدقْ!‬ ‫لك‪ :‬إن ُ‬ ‫فإن قيل َ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫نذهب إلى أكثر شخص نح ُّبه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عندما نفر ُح‬


‫شخص يُح ُّبنا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نذهب إلى أَكثر‬
‫ُ‬ ‫وعندما نحزن‬
‫للسعادة لو كان هو نفسه في الحالتين‪،‬‬ ‫ويا َّ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الشخص في حياة‬ ‫وقد كانت خديجة بنت خويلد هذا َّ‬
‫الوحي حين نزل عليه!‬‫ِّ‬ ‫ويا لهول‬
‫يا للروع‪ ،‬والخوف‪ ،‬والبرد الذي أصابه‪،‬‬
‫كان في تلك اللحظةِ يحتا ُج كتفاً يعل ُم أنه سيسنده حتماً‪،‬‬
‫قوي بما يكفي لال ِّتكاء‪،‬‬ ‫عكاز يعل ُم أنه ٌّ‬
‫ويحتاج إلى ٍ‬
‫الضيقــة‬
‫ـب‪ ،‬هــو أوســع األماكــن َّ‬ ‫ويحتــاج حضنـاً دافئـاً فحضــن مــن نُحـ ُّ‬
‫فــي هــذا العالــم!‬
‫لم يذهب يومها ال إلى صديق وال إلى قريب‪،‬‬
‫مشى بقلبه نحو خديجة!‬
‫كان يعل ُم أ ّنها الوحيدة في هذا الكوكب المترامي األطراف‪،‬‬

‫‪251‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫من سيفهمه‪ ،‬ويحتضنه‪ ،‬ويحتويه‪،‬‬


‫ظن قلبه بها‪،‬‬
‫وقد كانت عند ِّ‬
‫ض َّمته إليها بما يكفي ليشعر أنه ليس وحده‪،‬‬
‫أن له في هذا األمر ِرفقة‪،‬‬ ‫هدأته ليعل َم َّ‬‫ثم َّ‬
‫ثم أخذته إلى ورقة بن نوفل لتريه أنها تهتم قوالً وعم ً‬
‫ال‪،‬‬
‫إنسان أسلم بدعوته‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ثم كانت أول‬
‫يطلب منها أن تفعل!‬
‫َ‬ ‫أسلمت حتى قبل أن‬ ‫ْ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫حن إلى خديجة حين رأى قالدتها في فِ داء صهره‪،‬‬ ‫َّ‬


‫مات أصحابه‪،‬‬ ‫الح ِّب ال يموت وإن َ‬ ‫بعض ُ‬
‫َّاس حين يدخلون قلوبنا ال يغادرونها إلى األبد!‬ ‫بعض الن ِ‬
‫ٍ‬
‫بصلة!‬ ‫لم يكن يُح ُّبها فقط وإنما كان يُ ِح ُّب كل ما ُ‬
‫يمت إليها‬
‫كان قد جاوز الستين حين رأى نسو ًة عجائز‪،‬‬
‫فخلع رداءه وأجلس ُه َّن عليه‪،‬‬
‫صويحبات خديجة!‬ ‫وقال لمن حوله يُزيل استغرابهم‪ :‬هؤالء ُ‬
‫يا للوفاء يا رسول اهلل‪ ،‬يا للوفاء‪،‬‬
‫هذا ح ُّبه وإكرامه لصويحباتها‪ ،‬فتراه كيف كان يُح ُّبها هي‪،‬‬
‫وتأتيه امرأةٌ عجوز في بيته‪،‬‬
‫فيستقبلها أحسن استقبال‪ ،‬ويتر َّف ُق بها‪ ،‬ويبتس ُم لها‪،‬‬
‫فتستغرب عائشة كل هذا التِّرحاب‪،‬‬

‫‪252‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فيقول لها‪ :‬إنها كانت تأتينا زمان خديجة!‬


‫نظ ْر لقوله‪ :‬زمان خديجة‪،‬‬ ‫أُ ُ‬
‫وكأنه كان يُؤ ِّر ُخ حياته بها!‬
‫وكان يذب ُح الشاة‪ ،‬ويقطع لحمها‪،‬‬
‫أعطوا منها صويحبات خديجة!‬ ‫ثم يقول‪ُ :‬‬
‫كل شيءٍ له عالقة بخديجة‪،‬‬ ‫الح ّب‪ ،‬يُ ِح ُّب َّ‬
‫هكذا كان هو في ُ‬
‫ويقول أنس بن مالك عن شيءٍ من هذا القبيل‪:‬‬
‫النبي  إذا أُت َِي بالشيء يقول‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫كان‬
‫اذهبُوا به إلى بيت فالنة فإنها كانت ت ُِح ُّب خديجة‪،‬‬
‫إنه ال يُح َّبها فقط‪ ،‬بل يُ ِح ُّب كل من أح َّبها!‬
‫أخت خديجة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫خويلد‬ ‫واستأذنت عليه هالة بنت‬‫ْ‬
‫وارتاحت نفسه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فعرفها من صوتها‪ ،‬وتذكر خديجة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬الل ُه َّم هالة!‬
‫فتغار عائشة وتقول له‪ :‬كأن لم يكن في ال ُّدنيا إال خديجة‪،‬‬
‫وكانت‪ ،‬وكان لي منها الولد‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫كانت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فيقول‪ :‬إنها‬
‫هكذا يُعدد مواقفها‪ ،‬وأخالقها‪ ،‬ويثني عليها وهي تحت التراب!‬
‫أبدلــك اهللُ‬
‫َ‬ ‫زلــت تذكــ ُر خديجــة‪ ،‬وقــد‬‫َ‬ ‫ويــوم قالــت لــه عائشــة‪ :‬أمــا‬
‫خيــراً منهــا؟‬
‫هلل مــا أبدلنــي اهلل خيــراً‬
‫فقــال يُدافـ ُع عــن مقــام خديجــة فــي قلبــه‪ :‬وا ِ‬
‫مــن خديجــة!‬

‫‪253‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الح َّب منقص ٌة لل ُّرجولة‪،‬‬


‫أن ُ‬ ‫مخطئ من يعتقد ّ‬
‫الشخصية‪،‬‬‫وأن إظهار الحب واالهتمام ضعف في َّ‬ ‫َّ‬
‫فها هو سيد الرجال يُ ِح ُّب خديجة ح ّي ًة وميتة‪،‬‬
‫فال تخجلوا أبداً بمشاعركم‪،‬‬
‫الح ِّب‪،‬‬
‫عيشوها حتى أخر رمق فيكم من ُ‬
‫الحب الحالل‪،‬‬ ‫ال شيء في ال ُّدنيا أجمل من ُ‬
‫أن القسوة هي التي تصن ُع ال ُّرجولة‪،‬‬ ‫ومخطئ من يعتقد َّ‬
‫القسوة ال تصن ُع إال الجبابرة!‬
‫إن ال َّرجل هو رجل بمقدار ما يُ ِح ُّب ويهت ُّم ويُدل ُل ويلي ُن‪،‬‬ ‫بل َّ‬
‫ض إال بالقسوة‪،‬‬ ‫ومخطئ من يعتقد أ ْن المرأة ال تُر َّو ُ‬
‫بدت متماسكة‪،‬‬ ‫ال شيء يكسر المرأة كالقسوة وإن ْ‬
‫بالح ِّب وحده!‬
‫بالح ِّب وح َده يمكن امتالك المرأة‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬

‫‪254‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪54‬‬

‫ََ َ ٌْ ْ‬
‫ي مِن ُه﴾‬ ‫﴿أنا خ‬

‫وفخر وخُ َيالء‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫لحظ ُة كِ بْ ٍر‬
‫كان ثمنها مفارقة الجنّة ّ‬
‫والطردِ من رحمة اهلل‪،‬‬
‫فنعو ُذ بك يا اهلل‪،‬‬
‫أن ِتز َّل األقدام بعد ثبوتها‪،‬‬
‫نأتي ما كنّا ننهى النّاس عنه‪،‬‬ ‫وأن َ‬
‫وأن تمألنا طاعاتُنا بال ُع ْجب‪،‬‬
‫وأن ننظر للعصاة بعينِ االحتقار بدل عين ال ّرحمة‪،‬‬
‫نعمة تُطغينا‪ ،‬فتُنسينا ُشكرك‪،‬‬‫بك من ٍ‬ ‫ونعو ُذ َ‬
‫ُسخطنا على قضائك‪،‬‬ ‫مصيبة تُوجعنا‪ ،‬فت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ومن‬
‫ُراب وإلى تراب!‬‫ذ ِّكرنا دوماً أننا من ت ٍ‬

‫‪255‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪55‬‬

‫عباس قال‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫عن عبد اهلل ابن‬
‫النبي  أن يخر َج إلى غزوة تبوك‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫لما أرا َد‬
‫َّ‬
‫قال للج ِّد بن قيس‪ ،‬وكان من المنافقين‪:‬‬
‫قيس ما تقول في جهاد بني األصفر‪ /‬الروم؟‬ ‫يا ج ُّد ابن ٍ‬
‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل إني امر ٌؤ صاحب نساء‪،‬‬
‫ومتى أرى نساء بني األصفر أُفتَتَ ُن‪،‬‬
‫فائذن لي وال تفتني!‬
‫فأنزل اهلل تعالى قوله‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ َّ َ ُ ُ ْ َ ّ َ َ‬
‫ن﴾‬‫﴿ ومِنهم من يقول ٱئذن ِل ول تفت ِ ِ ٓ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫إنهم المنافقون إيما ٌن ظاه ٌر و ُكف ٌر باطن‪،‬‬


‫قلب فاجر‪،‬‬
‫ور ٌع بارد وراءه ٌ‬
‫ومظاهر حسنة‪ ،‬وأرواح مريضة نتنة‪،‬‬
‫النبي  في المسجد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كم صلى اب ُن سلول خلف‬
‫فلم تنفعه صالته هذه بشيءٍ ‪،‬‬
‫أل ّنــه كان يصلــي حفاظــاً علــى مرتبتــه االجتماع َّيــةِ وليبــ َق فــي قلــب‬
‫المشــهد!‬
‫وكم قال األخنس بن شريق الثقفي كالماً جمي ً‬
‫ال‪،‬‬

‫‪256‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫نفسك‪ :‬يا له من رجل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لقلت في‬


‫َ‬ ‫لو سمعتَه‬
‫ولكن هذا اللسان العذب كان يُخفي نفس ّي ًة مريض ًة وقلباً كالحجر!‬
‫ـو ُ ُل ِف ْ َ‬
‫ال َيــاة ِ‬ ‫ـك قَـ ْ‬‫َ ُ ْ ُ َ‬
‫جبـ‬
‫ـاس مــن ي َع ِ‬‫ـن انلَّـ ِ‬ ‫وفيــه نــزل قــول ربنــا‪َ :‬‬
‫﴿و ِمـ َ‬
‫َُ َ َ ْ‬
‫ـام﴾‬ ‫ـو أ ُّل ال َِصـ ِ‬
‫َْ‬
‫ع َمــا ِف قلب ِ ـهِ وهـ‬ ‫الل َ َ ٰ‬
‫ادلنْ َيــا َوي ُ ْش ـه ُد َّ َ‬
‫ِ‬
‫ُّ‬
‫سلول واألخنس‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الج ُّد بن قيس على خُ طى صاحبيه ابن‬ ‫وها هو َ‬
‫يعتذ ُر عن الجهاد خوف الفتنة بجمال نساء ال ُّروم!‬
‫الجبــن مــن الحــرب‪ ،‬والخــوف مــن المــوت‪ ،‬وقبلهــا تكذيــب‬
‫ومــا هــو إال ُ‬
‫بالنُّبوة!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫المؤمن مكانه حيث يري ُد له ر ُّبه أن يكون‪،‬‬


‫ال حيث ما يري ُد هو أن يكون‪،‬‬
‫ُدرك إال بخالف الهوى!‬ ‫الج ّن ُة ال ت ُ‬
‫تخلّف الج ُّد بن قيس عن غزوة تبوك ُ‬
‫بح َّجته الواهية‪،‬‬
‫الصحابي الجليل أبو خيثمة!‬ ‫ُّ‬ ‫وتخلّف أول األمر‬
‫بأيام رجع أبو خيثمة إلى بستانه‪،‬‬ ‫النبي  ٍ‬
‫ِّ‬ ‫وبعد مسير‬
‫ـات جميــات‪ ،‬فاكهــة ناضجــة‪ ،‬ومــاء بــارد‪،‬‬ ‫فوجــد فــي المشــهد‪ :‬زوجـ ٍ‬
‫وظـ ٌّـل ظليــل‪،‬‬
‫والشمس‪ ،‬وأنا في هذا!‬ ‫النبي  في ال ِّريح والح ِّر َّ‬
‫ُّ‬ ‫فقال‪:‬‬
‫فنادى على زوجتيه وقال‪ :‬ه ِّيئا لي زاداً‪،‬‬
‫فإني أري ُد أن ألح َق برسول اهلل !‬

‫‪257‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ورحل أبو خيثمة يري ُد أن يواسي حبيبه بنفسه‪،‬‬


‫فما أدركه إال وقد وصل إلى تبوك وعسكر بالجيش‪،‬‬
‫وهــو قــادم إليهــم مــن بعيــد رآه المســلمون ولكنَّهــم لــم يتحققــوا مــن‬
‫هويتــه‪،‬‬
‫النبي  يقول‪ُ :‬ك ْن أبا خيثمة!‬
‫ُّ‬ ‫فجع َل‬
‫هلل أبو خيثمة!‬ ‫فلما وصل قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هو وا ِ‬
‫هناك دوماً فرصة لتصحيح الخطأ‪،‬‬
‫تص َل متأخراً خير من أال تصل أبداً!‬‫وأن ِ‬
‫وأن تكون ذنَباً في الحقِّ خير من أن تكون رأساً في الباطل!‬
‫سبقك الناس إليه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فال تخج ْل من إدراك الحقِّ إن‬
‫لك أنه باطل‪،‬‬ ‫وال تستثقِ ل الخروج من الباطل إن بدا َ‬
‫إن أرقى أنواع الخجل أن يخجل المرءُ من ر ِّبه!‬ ‫َّ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫السيرة النبو ّية ِعبرة‪ْ ،‬‬


‫فاعت ِب ْر‪،‬‬ ‫في ّ‬
‫كانت ممتعة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ليست ماد ًة قصص ّي ًة تُروى وإ ْن‬
‫ْ‬ ‫المواقف واألحداث‬
‫َّاس في كل عصر‪،‬‬ ‫َّاس هم الن ُ‬ ‫دروس للحاضر فالن ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وإ ّنما هي‬
‫المنافقون في المدينة كانوا من ُوجهاء النَّاس‪،‬‬
‫لغبطتهــم علــى هيئاتهــم وأموالهــم ومنازلهــم عنــد‬‫َّ‬ ‫وإ ّنــك لــو رأيتهــم‬
‫النَّــاس‪،‬‬
‫حمدت اهلل أنك لم تكن مثلهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫عرفت حقيقتهم‬
‫َ‬ ‫ولكنك متى‬

‫‪258‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫النبي  عن امرأة من بني إسرائيل‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يُح ِّدثنا‬


‫كانت تُرضع ابناً لها‪ ،‬فم َّر بها فارس ُمهاب‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬الل ُه َّم اجع ْل ابني مثله!‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫فترك ثديها وقال‪ :‬الل ُه َّم ال تجعلني مثله!‬
‫ثم عاد إلى صدر أمه يرضع!‬
‫ثُ َّم م ُّروا ب َأ َم ٍة يضربونها‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬الل ُه َّم ال تجعل ابني مثلها‪،‬‬‫ْ‬
‫فترك الرضيع ثدي أمه وقال‪ :‬الل ُه َّم اِجعلني مثلها‪،‬‬
‫فقالت األ ُّم‪ :‬و ِل َم ذاك؟‬‫ْ‬
‫ِ‬
‫ســرقت‬ ‫فقــال‪ :‬الفــارس ج ّبــار مــن الجبابــرة‪ ،‬واألَمــة يقولــون لهــا‬
‫وزنيــت‪ ،‬ولــم تفعــل!‬‫ِ‬
‫بأبي هو وأمي نُص ِّدقه فيما يروي وإن استثقله العقل!‬
‫أصحاب األموال حتى ترى دين َهم أ ّو ًال‪،‬‬
‫َ‬ ‫فال تغب ْ‬
‫ِط‬
‫أصحاب المراكز حتى ترى أخال َق ُهم أ ّو ًال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وال تغبط‬
‫أصحاب الجا ِه والمرتبةِ حتى ترى عبادتَ ُهم أ ّوالً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وال تغبط ْ‬
‫واد ومعايير اهلل في واد‪،‬‬ ‫معايير النَّاس في ٍ‬
‫و ُر َّب أشعث أغبر‪ ،‬ذي طمرين‪ ،‬مدفوع باألبواب‪ ،‬ال يُؤبه له‪،‬‬
‫ولو أقس َم على ا ِ‬
‫هلل ألب َّره!‬

‫‪259‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪56‬‬

‫َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ ُ‬
‫اره ْم﴾‬ ‫﴿ونكتب ما قدموا وآث‬

‫إ ّنما اإلنسا ُن أث ٌر يا اهلل‪،‬‬


‫ندوس قلباً وال نُبكي عيناً‪،‬‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫فأعنَّا على أال‬
‫جبر الخواطر‪،‬‬ ‫مجالس ِ‬ ‫ِ‬ ‫أن تُروى أفعالُنا في‬
‫أن يتذ ّكروا وجوهنا فيبتس ُمون ويقولُون‪:‬‬
‫َم ّ ُروا بنا يوماً فكانوا ِخفافاَ ط ّيبين!‬
‫للعيوب فال نفض ُح‪ ،‬وال نُع ِّي ُر بذنب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أن نكون ساترين‬
‫طارق‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫قاضين للحاجات ِفال نغلق أبوابَنا في وجه‬
‫مؤتمنين فال نفشي س ّراً‪،‬‬
‫مطم ِئنّين نُ ِح ُّب وال نُخشى‪ ،‬نُحتَرم وال نُ َخاف‪،‬‬
‫أثر في القلب يا اهلل‪،‬‬
‫إن قيمة األشياء بما لها من ٍ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫فأحسن في قلوب النّاس آثا َرنا!‬

‫‪260‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪57‬‬

‫الصدقات بين الناس‪،‬‬ ‫النبي  ِ‬


‫يقس ُم َّ‬ ‫ُّ‬ ‫بينما‬
‫التميمي فقال‪:‬‬
‫َّ‬ ‫جاء عبد اهلل بن ذي الخويصرة‬
‫اِعدِ ْل يا رسول اهلل!‬
‫َ‬
‫ويلك من يعد ُل إذا لم أعدِ ْل!‬ ‫النبي ‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫أضرب عنقه يا رسول اهلل!‬ ‫ُ‬ ‫فقال عمر بن الخطاب‪ :‬دعني‬
‫فإن له أصحاباً‪،‬‬‫النبي ‪َ :‬د ْعه‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫يحقِ ُر أحدكم صالتَه مع صالتِه‪ ،‬وصيا َمه مع صيامِ ه‪،‬‬
‫يقرأون القرآن ال يُجاو ُز حناجرهم‪،‬‬
‫السه ُم من ال َّرم َّية‪،‬‬ ‫يمرقون من ال ِّدين كما يمر ُق َّ‬
‫فينظر ال َّرامي إلى سهمه‪ ،‬إلى نصله‪ ،‬فال يرى شيئاً‪،‬‬
‫َّاس!‬
‫يخرجون على حين فرقة من الن ِ‬
‫سمعت هذا من رسول اهلل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قال أبو سعيد الخدري‪ :‬أشه ُد أني‬
‫أن علياً قتلهم وأنا معه‪،‬‬
‫وأشه ُد َّ‬
‫وجيء بعبد اهلل بن ذي الخويصرة قتي ً‬
‫ال‪،‬‬
‫َ ْ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ـن يَلمـ ُ َ‬ ‫﴿ومِنْ ُهـ ْ َ‬
‫ـات فـإِن‬
‫ـزك ِف الصدقـ ِ‬ ‫ـم مـ ْ ِ‬ ‫وفيــه نــزل قــول اهلل تعالــى‪َ :‬‬
‫ْ َ ْ ُ َْ ْ َْ َ ُ ْ َْ َ ُ َ‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ‬
‫أعطــوا مِنهــا رضــوا ِإَون لــم يعطــوا مِنهــا إِذا هــم يســخطون﴾‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫العرب قديماً‪ ،‬إرضاء الناس غاي ٌة ال تُدرك!‬


‫ُ‬ ‫قالت‬

‫‪261‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫لوجدت فيهم سخطاً على اهلل‪،‬‬


‫َ‬ ‫لت حال النَّاس‬‫ولو تأ َّم َ‬
‫هذا الذي ال يقن ُع برزقه‪،‬‬
‫وذاك الذي يحس ُد غيره على وظيفتِه‪،‬‬
‫وتلك التي تنظ ُر إلى بيت فالنة‪،‬‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫يملك أولئك‪،‬‬ ‫وهؤالء الذين ينظرون إلى ما‬
‫وتصيب‪ ،‬أن يرضى عنك ك ُّل النَّاس‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وأنت الذي تُخط ُئ‬
‫َ‬ ‫فال تتوق ْع‪،‬‬
‫َّاس لم يرضوا عن قضاء ر ِّبهم‪ ،‬وال عن قسمة نبيهم‪،‬‬ ‫الن ُ‬
‫َ‬
‫قسمتك‪،‬‬ ‫يرضوا عن‬‫فال تتوق ْع منهم أن ُ‬
‫َّاس عن رضى‪ ،‬وعاملهم بالمعروف‪،‬‬ ‫لهذا ال تبحث في الن ِ‬
‫رضي هان ك ُّل شيء!‬
‫َ‬ ‫ولي ُكن ُشغلك كيف ترضي اهلل فإ َّنه إن‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الجميع ولكن مواقفهم تتباين‪،‬‬


‫ِ‬ ‫األحداثُ تتشابه في وقوعها على‬
‫ٍ‬
‫موقف ما‪،‬‬ ‫وال َفر ُق بين المؤمن وغيره هو موقفه من‬
‫النبي  ماالً‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫لم تكن الم َّرة الوحيدة التي يقسم بها‬
‫َّاس عن هذه القسمة‪،‬‬ ‫فال يرضى الن ُ‬
‫ولكن الفاجر يزدا ُد غ ّياً‪ ،‬والمؤمن ير ُّده إيمانه إلى الحق!‬
‫ِّ‬
‫قريش وقبائل العرب‪،‬‬‫ٍ‬ ‫النبي  ماالً بين‬‫ُّ‬ ‫قسم‬
‫عط األنصار منه شيئاً‪ ،‬فأزعجهم ذلك‪،‬‬ ‫ولم يُ ِ‬
‫فجاء إليه سيدهم سعد بن عبادة وقال له‪:‬‬
‫َ‬
‫عليك!‬ ‫إن األنصار قد وج ُدوا في أنفسهم‬
‫يا رسول اهلل‪َّ ،‬‬

‫‪262‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ذلك يا سعد؟ أي ما هو رأيك‪،‬‬ ‫أنت من َ‬ ‫النبي ‪ :‬فأي َن َ‬ ‫ُّ‬ ‫فقا َل له‬


‫فقا َل‪ :‬إنما أنا رج ٌل من قومي! أي أنا أقول بقولهم‪،‬‬
‫النبي ‪ :‬فاج َم ْع لي قومك‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫النبي  وقال‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫فخر َج سع ٌد وجم َع األنصار‪ ،‬وجاءهم‬
‫فصدقناك!‬ ‫َّ‬ ‫كذباً‬
‫هلل لو شئتم لقلتم فصدقتم‪ ،‬أتيتنا ُم َّ‬ ‫أما وا ِ‬
‫ال فأغنيناك!‬ ‫فأويناك‪ ،‬وعائ ً‬ ‫َ‬ ‫فنصرناك‪ ،‬وطريداً‬ ‫َ‬ ‫ومخذوالً‬
‫أوجدتــم فــي أنفســكم يــا معشــر األنصــار فــي لعاعــة ‪ /‬حقيــر مــن‬
‫ال ُّدنيــا‪،‬‬
‫فت بها قوماً ليُسلموا ووكلتكم إلى إسالمكم!‬ ‫تأ َّل ُ‬
‫بالشا ِة والبعير‪،‬‬ ‫َاس َّ‬ ‫يذهب الن ُ‬‫َ‬ ‫أفال ترضون أن‬
‫هلل  إلى رحالكم؟!‬ ‫وترجعون برسول ا ِ‬
‫لكنت امرءاً من األنصار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فوالذي نفس محمد بيده لوال الهجرة‬
‫عب األنصار!‬ ‫لسلكت ِش َ‬ ‫ُ‬ ‫وسلكت األنصار ِشعباً‬ ‫ِ‬ ‫سلك الناس ِشعباً‬ ‫ولو َ‬
‫ِرحم األنصا َر‪ ،‬وأبنا َء األنصار‪ ،‬وأبنا َء أبناءِ األنصار!‬ ‫الل ُه َّم ا ِ‬
‫فب ُكوا حتى ابتلَّ ْت لحاهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬رضينا برسول اهلل قسماً وحظاً!‬
‫ويمرض الكاف ُر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يمرض المؤم ُن‬ ‫ُ‬
‫َّ‬
‫فيتسخط!‬ ‫فيعرف أنها دار ابتالء فيصبر‪ ،‬وأما الكافر‬ ‫ُ‬ ‫فأ ّما المؤمن‬
‫ويفتقِ ُر المؤم ُن ويفتقِ ُر الكافر‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حكمــة‪ ،‬وأ ّمــا الكافــ ُر فــا‬ ‫أمــر‬
‫أن هلل فــي كل ٍ‬ ‫فأ ّمــا المؤمــ ُن فيعلــم َّ‬
‫يرضــى‪،‬‬
‫ويفق ُد المؤم ُن حبيباً وكذلك الكافر‪،‬‬
‫أن هلل ما أعطى وهلل ما أخذ!‬‫فأ ّما المؤم ُن فيعل ُم َّ‬
‫َ‬
‫شارك اهلل في قضائه وعلمه!‬ ‫وأما الكافر فيري ُد أن يُ‬

‫‪263‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ُفسر عطايا اهلل على هواك‪،‬‬ ‫إياك أن ت ِّ‬


‫الظن‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ُفسر حرمانه بسوء‬ ‫وإياك أن ت ِّ‬
‫منك‪ ،‬وأكثر صح ًة‪،‬‬ ‫رأيت من هو أغنى َ‬ ‫َ‬ ‫إذا‬
‫فال ت ُق ْل‪ :‬يُح ُّبه اهلل تعالى أكثر منّي!‬
‫يحب ولمن يكره‪،‬‬‫ُّ‬ ‫إن اهلل سبحانه يُعطي ال ُّدنيا لمن‬ ‫َّ‬
‫ولكنّه ال يُعطي اإليمان إال لمن يُح ُّبه!‬
‫تعرف الذين يُح ُّبهم اهلل أكثر منك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أردت أن‬‫َ‬ ‫إذا‬
‫أولئك الذين أَذِ َن لهم أن يعبدوه ويطيعوه أكثر منك!‬ ‫َ‬ ‫فهم‬
‫وليسوا أولئك الذين راتبهم أعلى من راتبك!‬
‫وأنت نائم!‬
‫َ‬ ‫وإ ّنما أولئك الذين قاموا إلى صالة الفجر‬
‫وأنت تكنز‪،‬‬
‫َ‬ ‫وتصدقوا‬ ‫َّ‬
‫وب َّروا أباءهم وأمهاتهم وأنت عاق‪،‬‬
‫وأنت سافرة!‬ ‫وتحجب َن ِ‬ ‫ّ‬
‫أحب إلى اهلل من قارون‪،‬‬ ‫السالم َّ‬ ‫كان موسى عليه َّ‬
‫ولكن اهلل سبحانه أعطى قارون ماالً أكثر من موسى‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أحب إلى اهلل من كسرى وقيصر‪،‬‬ ‫النبي  َّ‬ ‫ُّ‬ ‫وكان‬
‫ولكنهما كانا ينامان على الفراش الوثير‪،‬‬
‫والنبي  ينام على الحصير فيُرى أثره في جنبه!‬ ‫ُّ‬

‫‪264‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  عبا َدتَ ُهم؟!‬ ‫ُّ‬ ‫يص ُ‬


‫ف‬ ‫نظ ْر إلى هؤالءِ الخوارج كيف ِ‬ ‫أُ ُ‬
‫تحقِ ُرون صالتكم مع صالتِهم‪ ،‬وصيامكم مع صيامهم‪،‬‬
‫أنــت الذيــن صالتنــا وصيامنــا أقــ ّل مــن صالتهــم‬ ‫َ‬ ‫ليــس أنــا وال‬
‫وصيامهــم‪،‬‬
‫الصحابة أنفسهم!‬ ‫وإنما َّ‬
‫نظ ْر إلى كثرة العبادة دون فهم ماذا تفعل؟!‬ ‫ثم ا ُ ُ‬
‫َّاس وأَعراضهم‪،‬‬ ‫اِستحلُّوا دماء الن ِ‬
‫وقتلُوا خليفة المسلمين وهم يحسبون أنهم يتق َّربُون إلى اهلل بهذا‪،‬‬
‫عصر وفي كل بلد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قاتلهم اهلل في كل‬
‫َّضوا اإلسالم إلى العباد‪،‬‬ ‫ش َّو ُهوا دين اهلل تعالى‪ ،‬وبغ ُ‬
‫يرزقك شيئاً‪،‬‬
‫َ‬ ‫سألت اهلل تعالى أن‬ ‫َ‬ ‫فإذا‬
‫ِسأله سبحانه أن يكون هذا ال ِّرز ُق مقروناً بال َفهم‪،‬‬ ‫فا ْ‬
‫فإن كثرة المال دون حكمةِ إنفاقه وبا ٌل على صاحبه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الصحة دون حكمةِ استخدامها ُحجة على صاحبها‪،‬‬ ‫وإن ِّ‬ ‫ّ‬
‫الشجاعة دون حكمةِ وضعها في موضعها تصب ُح ت ُّهوراً واعتدا ًء‪،‬‬ ‫وإن َّ‬ ‫َّ‬
‫تفسره على هواك‪،‬‬ ‫وإن القرآن دون حكمةِ فهمه يجعلك ِّ‬ ‫َّ‬
‫تحسب أ ّن َك تتعبد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فتقتل‪ ،‬وتعتدي‪ ،‬وتظلم وأنت‬
‫عطاياك بحكمة استخدامها!‬ ‫َ‬ ‫فالل ُه َّم ز ِّي ْن لنا ُك َل‬

‫‪265‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪58‬‬

‫﴿و َو َج ُدوا َما َع ِملُوا َح ِ ً‬


‫اضا﴾‬ ‫َ‬

‫كتابُك هو حصا ُد َك فال تزر ْع إال خيراً‪،‬‬


‫الطرق التي مشيتَها‪،‬‬ ‫أنت حصا ُد ُّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫والمعتقدات التي اعتنقت َها‪،‬‬ ‫واألفكار التي حملتَها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫مــوع التــي مســحتَها‪ ،‬واألحــزانِ التــي‬ ‫والخواطــر التــي جبرتَهــا‪ ،‬وال ُّد ِ‬
‫ِ‬
‫أزلتَهــا‪،‬‬
‫ِ‬
‫والحاجات التي ر َّممتها‪،‬‬ ‫دقات التي بذلتها‪،‬‬ ‫والص ِ‬ ‫ّ‬
‫واألمانِ الذي وهبتَه‪ ،‬والمالذِ الذي كنتَهُ‪،‬‬
‫مت‪،‬‬‫أحللت‪ ،‬والحرا ُم الذي ح َّر َ‬ ‫َ‬ ‫أنت الحال ُل الذي‬
‫ف الكتاب الذي ستقرأه غداً‪،‬‬ ‫أنت مؤ ّل ُ‬
‫فال تكن مؤ ّلفاً س ّيئاً!‬

‫‪266‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪59‬‬

‫ُ‬
‫الصدقة‪،‬‬ ‫الصحاب َة على َّ‬ ‫النبي صلى اهلل عليه وسلم َّ‬ ‫ُّ‬ ‫حثَّ‬
‫آالف درهم‪،‬‬ ‫عوف بأربعة ِ‬ ‫فجا َء عبد ال َّرحمن بن ٍ‬
‫وقال‪ :‬يا رسول اهلل مالي ثمانية آالف درهم‪،‬‬
‫وتركت نص َفها لعيالي!‬ ‫ُ‬ ‫جئت َُك بنصفِ ها فاجعلها في سبيلِ اهلل‪،‬‬
‫كت!‬
‫أمس َ‬‫أعطيت‪ ،‬وفيما َ‬ ‫َ‬ ‫لك فيما‬ ‫بارك اهللُ َ‬
‫َ‬ ‫النبي ‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫فبارك اهللُ تعالى في مال عبد الرحمن استجاب ًة ل ُدعاء نب ِّيه ‪،‬‬ ‫َ‬
‫ـات كان لــه زوجتيــن‪ ،‬فبلـ َغ ثُمـ ُن مالــه مئـ ًة وســتي َن ألـ َ‬
‫ـف‬ ‫حتــى أنــه لمــا مـ َ‬
‫درهم!‬
‫عدي العجالن بمئةِ َ‬
‫وس ٍق من تمر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتصد َق يومها عاصم بن‬ ‫َّ‬
‫بصاع من تمر!‬
‫ٍ‬ ‫األنصاري‬
‫َ‬ ‫عقيل‬
‫ٍ‬ ‫وجاء أبو‬
‫ـت ليلتــي أعم ـ ُل حتــى تقاضيـ ُ‬
‫ـت صاعيــن مــن‬ ‫فقــال‪ :‬يــا رســول اهلل‪ ،‬بـ ُّ‬
‫تمـ ٍـر‪،‬‬
‫فأمسكت أح َد ُهما ألهلي‪ ،‬وأتيت َُك باآلخر!‬
‫ُ‬
‫الصدقات‪.‬‬ ‫النبي  أن ينث َره في ّ‬ ‫ُّ‬ ‫فأم َره‬
‫فلم َز ُهم المنافقون‪ ،‬وتكلَّ ُموا فيهم‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫ما أعطى عب ُد ال َّرحمن وعاص ُم إال ريا ًء‪،‬‬
‫لغني عن صاع أبي عقيل‪ ،‬ولكنّه أراد أن يُزكي نفسه!‬ ‫َ‬
‫وإ ْن اهلل ٌّ‬
‫ـن ال ْ ُم ْؤ ِمنِـ َ‬ ‫عـ َ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ َ ْ‬
‫ـن‬ ‫ـن ِمـ َ‬ ‫ـزون ال ُم َّط ّوِ ِ‬ ‫فأنــزل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬الِيــن يل ِمـ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ــم ف َي ْســخ ُرون مِنْ ُه ْ‬
‫ــم‬
‫َ‬ ‫ون إ َّل ُج ْه َد ُه ْ‬ ‫َ َّ َ َ َ ُ َ‬ ‫َّ َ َ‬
‫يــد َ ِ‬ ‫ــات والِيــن ل ِ‬‫ِف الصدق ِ‬
‫َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ َ ُ ْ َ َ‬
‫ـذ ٌ‬
‫اب أ ِلـ ٌ‬
‫ـم﴾‬ ‫خر الل مِنهــم ولهــم عـ‬ ‫سـ ِ‬

‫‪267‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس َّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫القصة حدثٌ مهيب لم يُذكر في هذه ال ِّرواية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫في ثنايا هذه‬
‫الصدقة قام علبة بن زيد فقال‪:‬‬ ‫النبي  على َّ‬ ‫ُّ‬ ‫حين حثَّ‬
‫أتصد ُق به‪،‬‬
‫َّ‬ ‫يا رسول اهلل إني فقي ٌر‪ ،‬وليس عندي ما‬
‫رضــي علــى مــن نالَــه مــن‬ ‫قــت بعِ ِ‬
‫تصد ُ‬‫َّ‬ ‫َ‬
‫شــهدك أنــي قــد‬ ‫ولكنــي أَ‬
‫ا لمســلمين ‪،‬‬
‫النبي  على قولِ ُعلبة بن زيد‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فلم يُعلِّق‬
‫الجيش فأين يض ُع صدق َة ُعلبة؟!‬ ‫ِ‬ ‫هو يجم ُع ماالً لتجهيز‬
‫ِ‬
‫بعرضــه‬ ‫ولك َّنــه فــي اليــوم التّالــي صعــد المنبــر فقــال‪ :‬أيــن المتصـ ِّد ُق‬
‫البارحــة؟!‬
‫زيد فقال‪ :‬ها أنا يا رسول اهلل‪،‬‬ ‫فقام ُعلبة بن ٍ‬
‫َ‬
‫صدقتك!‬ ‫إن اهلل قد ق ِب َل منك‬ ‫فقال له‪َّ :‬‬
‫صفات ُعليا من كانت فيه من َخلقِ ه أح َّبه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫إن هلل تعالى‬ ‫َّ‬
‫وأل ّنه ُسبحانه جوا ٌد كري ٌم يُ ِح ُّب المتص ِّدقين‪،‬‬
‫وأل َّنه سبُحانه عف ٌو سم ٌح يُ ِح َّب العافين‪،‬‬
‫وأل َّنه سبحانه رحي ٌم يُ ِح ُّب الرحماء‪،‬‬
‫وأل َّنه سبحانه ستِّي ٌر يُ ِح ُّب ِّ‬
‫الستيرين‪،‬‬
‫فانظـ ْر إلــى الخُ لــق الــذي يُعامِ ــل اهلل بــه تعالــى خل َقــه وعاملهــم بــه مــا‬ ‫ُ‬
‫ـتطعت‪،‬‬
‫َ‬ ‫اسـ‬
‫الصفح‪،‬‬ ‫تحلُو ال ُّدنيا بغير َّ‬ ‫استطعت فال ْ‬ ‫َ‬ ‫بعرض َك ما‬ ‫ِ‬ ‫تصدق‬
‫َّ‬
‫السالم أُسو ًة حسن ًة‪،‬‬ ‫ولك في يوسف عليه ّ‬ ‫وتغاض‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وتجاه ْل‪،‬‬
‫َ‬
‫نفسه ولم يُبدها إلخوته!‬ ‫أسرها في ِ‬ ‫فقد َّ‬

‫‪268‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫والخالف‪،‬‬‫للمشاحنة ِ‬ ‫َ‬ ‫يوم سبباً‬


‫الدنيا تعطينا كل ٍ‬
‫فالقلب المليءُ بالحقدِ مقبرة!‬
‫ُ‬ ‫والعاق ُل من تج َّر َد من الحقدِ والغِ ِّل‪،‬‬
‫َ‬
‫يستوحش منه النَّاس!‬ ‫ُ‬
‫يستوحش منه صاحبُه قبل أن‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫مجتمع ستجد فئ ًة ليس لها عمل إال التَّنظير الفارغ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫في ك ّل‬
‫وال ُّدخول في نوايا الناس‪،‬‬
‫ع ّينُوا أنفسهم ُقضا ًة على خلق اهلل‪،‬‬
‫َّاس على الجنّة والنار‪،‬‬ ‫وجلسوا يُصدرون األحكام‪ ،‬ويوزِّعون الن َ‬
‫أردت أن تنتقدهم تحتار من أين تبدأ!‬ ‫َ‬ ‫والمصيب ُة أ ّنك إذا‬
‫ٌّ‬
‫منحل‪،‬‬ ‫المساجد بنظرهم ُمعقَّد‪ ،‬والذي ال يرتا ُدها‬
‫ِ‬ ‫الذي يرتا ُد‬
‫قاس‪،‬‬‫الشخصية‪ ،‬والذي ال يكرمها ٍ‬ ‫الذي يُكر ُم زوجتَه ضعيف َّ‬
‫ناشز‪،‬‬‫زوجها ضعيفة وجبانَة‪ ،‬والتي ال تُطيعه ِ‬ ‫التي تطي ُع َ‬
‫ـب ال تعــرف‬ ‫تتحجـ ُ‬
‫َّ‬ ‫التــي تلتــز ُم ِ‬
‫بالحجــاب جاهلــة بال ُموضــة‪ ،‬والتــي ال‬
‫اهلل‪،‬‬
‫يتصد ُق ُمراءٍ ‪ ،‬والذي ال يتص ُّد ُق بخيل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الذي‬
‫الذي يب ُّر والديه بال شخص َّية‪ ،‬والذي يعقُّهما فاجر‪،‬‬
‫الــذي يقضــي وقت ـاً مــع عائلتــه منطـ ٍـو‪ ،‬والــذي ال يقضــي معهــم وقت ـاً‬
‫ُمهمــل‪،‬‬
‫إذا عمل أح ُدهم بوظيفتين قالوا‪ :‬أكلته ال ُّدنيا‪،‬‬
‫وإذا لم يعم ْل قالوا‪ :‬كسول‪،‬‬

‫‪269‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رذيلة هي أساساً في ِ‬
‫أنفسهم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫فضيلة عن‬ ‫هكذا هم يبحثون في ك ّل‬
‫وإذا لــم يَس ـل َ ْم منهــم أه ـ ُل الفضائــل فأه ـ ُل ال َّرذائــلِ لــن يَس ـل َ ُموا مــن‬
‫بــاب أولــى‪،‬‬
‫والج َرب‪،‬‬
‫َ‬ ‫الطاعونِ‬ ‫تهرب من َّ‬ ‫ُ‬ ‫تهرب منهم كما‬ ‫َ‬ ‫عليك أن‬‫َ‬ ‫هؤالء‬
‫ليس في ُقربِهم فائدة‪ ،‬وليس في خسارتِهم ض َرر‪،‬‬
‫تماماً كتلك المسائل الهامش َّية التي يقول عنها الفقهاء‪:‬‬
‫ِعل ٌم ال ينف ُع وجهل ال يض ُّر!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫المعروف شيئاً!‬
‫ِ‬ ‫رن من‬ ‫النبي ‪ :‬ال تحقِ َّ‬ ‫ِّ‬ ‫من وصايا‬
‫الطريق معروف‪،‬‬ ‫سيارتك لتعبر قط ٌة َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫توقف‬ ‫أ ْن‬
‫الطريق معروف‪،‬‬ ‫تمس َك بيد أعمى لتعب َر به َّ‬ ‫وأ ْن ِ‬
‫وأ ْن تج َّر قعيداً على كرس ّيه معروف‪،‬‬
‫ال قارورة ماءٍ معروف‪،‬‬ ‫وأ ْن تُعطي عام ً‬
‫سن كيساً يُتعبه معروف‪،‬‬ ‫وأ ْن تحم َل عن ٍ‬
‫رجل ُم ٍّ‬
‫البائع المسكينِ شيئاً ال تحتاجه معروف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تشتري من‬
‫َ‬ ‫وأ ْن‬
‫نشب بينهما ِخالف معروف‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأ ْن تُصل َح بين زوجين‬
‫ِك وال تقف لها على الكلمة معروف‪،‬‬ ‫وأ ْن تتغاضى عن زوجت َ‬
‫وأ ْن تصف َح عن أوالدك وتعامل ُ ُهم بال َّرحمة معروف‪،‬‬
‫طعام معروف‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وأ ْن تُهدي إلى جارك صح َن‬
‫عالجه معروف‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وأ ْن تعي َن مريضاً في‬

‫‪270‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫بح ٍّب‪،‬‬
‫حد له‪ ،‬أشياء بسيطة ُ‬ ‫ُ‬
‫المعروف ال َّ‬
‫ال من الحسنات‪،‬‬ ‫ني ًة صادقة تجعل العم َل البسيط جب ً‬
‫تمسحها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لر َّبما الجنّة في دمعةِ محزون‬
‫مكسور تُط ّي ُب خاط َره‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وفي مواسا ِة‬
‫كلب‪،‬‬
‫بسقيا ٍ‬ ‫بغي بني إسرائيل أدخلها اهلل تعالى الجنّة ُ‬ ‫ُّ‬
‫فإذا كانت هذه رحمته ُسبحانه بمن أحسن إلى البهائم‪،‬‬
‫فكيف هي رحمته سبُحانه بمن أحسن إلى النَّاس؟!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫تقاضيت صاعين من تمر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بت ليلتي أعمل حتى‬ ‫يا رسول اهلل‪ُّ :‬‬
‫فأمسكت أحدهما ألهلي‪ ،‬وأتيت َُك باآلخر!‬‫ُ‬
‫الغني جميلة‪ ،‬ولكنها من الفقير أجمل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الصدقة من‬‫َّ‬
‫فذاك ي ُعطي من كثرة‪ ،‬وهذا يُعطي من قلّة!‬ ‫َ‬
‫الشاب أجمل‪،‬‬ ‫الشيخ جميلة‪ ،‬ولكنها من َّ‬ ‫والعف ُة من َّ‬
‫َّف من فورانها‪،‬‬ ‫َّف من انطفاءِ شهوةٍ ‪ ،‬وهذا يتعف ُ‬ ‫فذاك يتعف ُ‬
‫الشابة أجمل‪،‬‬ ‫السن جمي ٌل‪ ،‬ولكنّه من َّ‬ ‫والتّستر من كبيرة ِّ‬
‫ال‪ ،‬وهذه تست ُر جماالً فاتناً‪،‬‬ ‫فتلك تستُ ُر جماالً ذاب ً‬
‫َّف وال ُّدنيا في إدبارها‪ ،‬وهذه تتعف ُ‬
‫َّف وال ُّدنيا في إقبالها‪.‬‬ ‫وتلك تتعف ُ‬

‫‪271‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫هلل بقيمتِها ال بحجمها‪،‬‬ ‫األشياءُ عند ا ِ‬


‫آالف من أصلِ ثمانية آالف‪،‬‬ ‫تصدق بأربعةِ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫عب ُد ال َّرحمن بن عوف‬
‫بنصف ثروتِه التي يملك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أي‬
‫تمر من أصلِ صاعين‪،‬‬ ‫عقيل تص ّدق بصاع ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وأبو‬
‫بنصف ماله الذي يملك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تصدق‬
‫َّ‬ ‫هو أيضاً‬
‫ِ‬
‫بنصــف‬ ‫الصدقــةِ‬
‫لــكل منهمــا أجــر َّ‬ ‫يكتــب ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫واهلل تعالــى مــن رحمتــه‬
‫مالــه‪،‬‬
‫النبي صلى اهللُ عليه وسلّم‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫الحديث‪ ،‬يقول‬‫ِ‬ ‫وفي‬
‫ألف دِ ْر َهم!‬ ‫سب َق دره ٌم مئ َة ِ‬
‫قالوا‪ :‬كيف؟‬
‫تصد َق بأحدهما‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لرج ٍل درهمان‬ ‫فقال‪ :‬كان ُ‬
‫فتصد َق بها!‬
‫َّ‬ ‫ض ماله فأخذ مئ َة ألف درهم‬ ‫وانطل َق رج ٌل إلى ُع ْر ِ‬
‫بنصف ثروته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫تصد َق‬
‫َّ‬ ‫يملك درهمين بال ِّنسبة‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬
‫يكتب اهلل تعالى أجره‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يملك الماليين‬ ‫ُ‬ ‫والذي‬
‫ولكن أجر الفقير أعلى‪،‬‬
‫الصدقة‪،‬‬ ‫الغني عن َّ‬ ‫ُّ‬ ‫وهذا ليس حثاً على أن يتو َّق َف‬
‫فز ْد‪،‬‬ ‫لك ِ‬ ‫وإ ّنما ليُقال له‪ :‬كلّما زا َد اهللُ َ‬
‫يستقل صدق َة مهما كانت قليلة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يحقر أو‬ ‫الفقير على أال ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهو حثُّ‬
‫ٍ‬
‫برغيف‪،‬‬ ‫تصدق‬ ‫َّ‬ ‫صاحب الفُرن إ ْن‬
‫فتصد َق بنصفه!‬
‫َّ‬ ‫ليس في األجر كمن ليس عنده إال رغيف‬

‫‪272‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪60‬‬

‫َّ َ ۡ َ َ َ َ ۡ‬
‫ب َسل ِيمٖ﴾‬
‫﴿إِل من أت ٱللّ‪ ‬بِق ٖ‬
‫ل‬

‫القلب حقيبة!‬
‫ُ‬ ‫ال ُّدنيا َس َفر‪ ،‬وهذا‬
‫كنت في الطريق تجم ُعه‪،‬‬ ‫ال فيه ما َ‬ ‫وستأتي حام ً‬
‫فال تحمِ ْل فيه إال ما يلي ُق بال ّدخولِ على اهلل‪،‬‬
‫اُدخُ ْل بقلبك مليئاً بالتوحيدِ حتى آخره‪،‬‬
‫ك ُّل خل ّي ٍة فيه تؤم ُن أنه سبحانه‪،‬‬
‫والواهب‪ ،‬وال ُمحيي‪ ،‬والمميت!‬ ‫ُ‬ ‫ال َّرازقُ‪ ،‬والنَّاف ُع‪َّ ،‬‬
‫والشافي‪،‬‬
‫للنبي  بال ِّرسالة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اُدخُ ْل بقلبك مص ِّدقاً‬
‫غاضاَ بص َر َك عن أرزاقهم‪،‬‬ ‫مح ّباً للمؤمنين‪ّ ،‬‬
‫لنفس َك‪،‬‬
‫الخير ما تتمنى ِ‬ ‫ِ‬ ‫متمنياً لهم من‬
‫لنفس َك‪،‬‬ ‫الش ّر ما تكرهه ِ‬ ‫كارهاً لهم من َّ‬
‫والضغينةِ ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫اُدخُ ْل بقلبك خالياً من الحقدِ ‪ ،‬وال ُكرهِ‪،‬‬
‫فاألحقا ُد لوثَة!‬
‫صالة‪،‬‬‫صيام وال َ‬
‫ٍ‬ ‫ال من أهل الجنّة لم ي ُك ْن كثير‬ ‫أن رج ً‬ ‫وت ّذك ْر َّ‬
‫ولكنّه كان يتمنى الخي َر لك ِّل النّاس!‬

‫‪273‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪61‬‬

‫مات فيه‪،‬‬
‫مرضه الذي َ‬ ‫طالب من ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ل َّما اِشتكى أبو‬
‫رس ْل إلى ابنِ أخيك‪،‬‬ ‫طالب‪ ،‬أَ ِ‬
‫ٍ‬ ‫قالت له قريش‪ :‬يا أبا‬ ‫ْ‬
‫لك من هذه الجنّة التي يذكرها‪ ،‬فيكون لك ِشفا ًء!‬ ‫يرس ُل َ‬ ‫ِ‬
‫ـي النبـ َّـي صلــى اهلل عليــه وس ـلَّم وأبــا‬
‫ا منهــم حتــى لقـ َ‬‫فأرس ـلُوا رج ـ ً‬
‫َ‬
‫بكـ ٍـر معــه‪،‬‬
‫محمد‪ ،‬إن ع ّم َك يقو ُل‪ :‬إنَي ضعيف سقيم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فقال له‪ :‬يا‬
‫فارس ـ ْل إلـ َّـي مــن الج ّنــة التــي تذك ـ ُر مــن طعامهــا وشــرابِها يكــون لــي‬
‫ِ‬
‫شــفا ًء!‬
‫النبي  شيئاً‪...‬‬
‫ُّ‬ ‫فلم ي ُق ْل‬
‫إن اهلل ح َّرمها على الكافرين!‬ ‫بكر‪َّ :‬‬
‫وقال أبو ٍ‬
‫فرج َع ال َّرج ُل إليهم وقال‪:‬‬
‫غت محمداً الذي أرسلت ُموني به‪ ،‬فلم ي ُق ْل شيئاً!‬ ‫بلَّ ُ‬
‫إن اهلل ح َّرمها على الكافرين!‬‫بكر‪َّ :‬‬ ‫وقال أبو ٍ‬
‫النبي ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫طالب على‬
‫ٍ‬ ‫يوغ ُرون صد َر أبي‬ ‫فجعلُوا ِ‬
‫النبي  مسألتَه األولى‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ال من عنده يسأ ُل‬ ‫طالب رج ً‬‫ٍ‬ ‫فأرس َل أبو‬
‫إن اهلل حر َّمها على الكافرين!‬ ‫النبي ‪ّ :‬‬
‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫ثم قام ودخ َل على أبي طالب‪ ،‬فوجد البيت مملوءاً رجاالً‪،‬‬
‫فقال‪ :‬خلُّوا بينِي وبين ع ّمي‪،‬‬
‫أنت بأحقَّ به مِ نَّا!‬
‫فقالوا‪ :‬ما نحن بفاعلين‪ ،‬ما َ‬
‫َ‬
‫قرابتك!‬ ‫لك معه قرابة‪ ،‬فلنا معه مثل‬ ‫إ ْن كانت َ‬
‫النبي  بجوار ع ِّمه وقال له‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫فجلس‬
‫َ‬

‫‪274‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وح َّطتنِي كبيراً‪،‬‬ ‫عني خيراً‪ ،‬كفِ لتنِي صغيراً ُ‬ ‫زيت ِّ‬ ‫يا َع ّم‪ُ :‬ج َ‬
‫لك بها عند اهلل!‬ ‫أعني على نفسك بكلمة واحدة أشفع َ‬ ‫ِّ‬ ‫يا َع ّم‪:‬‬
‫طالب‪ :‬وما هي يا ابن أخي؟‬ ‫ٍ‬ ‫فقال أبو‬
‫َ‬
‫شريك له!‬ ‫قال‪ُ :‬ق ْل‪ :‬ال إله إال اهلل وحده ال‬
‫إنك لي ناصح‪ ،‬ولوال أن تُع ّيرني قريش‪،‬‬ ‫فقال أبو طالب‪َ :‬‬
‫ألقررت بها عينك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فتقول‪َ :‬ج ِز َع ع ُّم َك عند الموت‪،‬‬
‫أنت رأس الحنِيف ّية‪ ،‬مِ لَّ ُة األشياخ!‬ ‫طالب‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فصاح القوم‪ :‬يا أبا‬
‫النبي ‪ :‬ال أزال أستغف ُر لك ربي حتى ي ُر ّدني‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫النبي  يستغفِ ر له بعد أن مات‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فجع َل‬
‫فقال المسلمون‪ :‬ما يمنعنا أن نستغفر آلبائنا‪ ،‬ولذوي قرابتنا‪،‬‬
‫السالم ألبيه‪،‬‬ ‫قد استغف َر إبراهي ُم عليه َّ‬
‫النبي  يستغف ُر لع ِّمه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وها هو‬
‫رك‪،‬‬‫الش ِ‬ ‫مات من آبائهم على ِّ‬ ‫فجعلُوا يستغفرون لمن َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫آم ُنوا أن ي َ ْسـ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـتغ ِف ُروا‬ ‫ـن َ‬ ‫ـي َوالِيـ َ‬ ‫َّ ّ‬ ‫َ‬ ‫فأنــز َل اهللُ‬
‫تعالــى قولــه‪﴿ ُ :‬مــا كن ل ِلنـ ِ ِ‬
‫ول قُ ْر َ ٰ‬ ‫َ ََ ْ َ ُ‬ ‫ُْ ْ‬
‫ب﴾‬ ‫شكِــن ولــو كنــوا أ ِ‬ ‫ل ِلم ِ‬

‫رس األ ّول‪:‬‬


‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الضالل دوماً على م ِّر ال ُعصور‪ :‬االستهزاء!‬ ‫هذا شأ ُن أهلِ َّ‬


‫ومــا أرس ـ َل صنادي ـ ُد قريـ ٍـش فــي طلــب شــيءٍ مــن الج ّنــة ألبــي طالــب‬
‫إال اســتهزا ًء‪،‬‬
‫كأ ّنها ُسنة من ُسنن الحيا ِة على ظهر هذا الكوكب‪،‬‬

‫‪275‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫هلل بالتسليم‪،‬‬ ‫أ ْن يأخ َذ المؤم ُن أمر ا ِ‬


‫الضا ُل المؤم َن باالستهزاء!‬ ‫ويأخذ َّ‬
‫ُ‬
‫السالم أن يصنع الفلك‪،‬‬ ‫عندما أم َر اهلل تعالى نوحاً عليه َ‬
‫الصحراء!‬‫لم ي ُق ْل‪ :‬يا رب‪ .‬وما تفع ُل سفين ٌة في َّ‬
‫فوره ينش ُر األلواح ويدقُّ المسامير‪،‬‬ ‫وإ ّنما قام من ِ‬
‫المالئكة يُرش ُدونَه‪ ،‬والمؤمنون القلَّة معه يساعدونه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ُْ ْ َ َ ْ‬ ‫﴿و ْ‬
‫اص َنعِ الفلك بِأع ُينِنا َو َوحيِنا﴾‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫في مشهد مهيب من التسليم‪َ :‬‬
‫سخ ُروا منه‪،‬‬ ‫وكان قو ُمه كلما م ُّروا به ِ‬
‫در ُكوا إال حين جا َء ُّ‬
‫الطوفان!‬ ‫لم يُ ِ‬
‫فات لينفعهم إدراكهم هذا‪،‬‬ ‫الوقت قد َ‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫هلل سبحانه!‬ ‫الطوفان كان انتقام ا ِ‬ ‫ألن ُّ‬‫َّ‬
‫السخرية‪،‬‬‫حولك‪ ،‬أما ترى شيئاً من هذه ُّ‬ ‫َ‬ ‫نظ ْر اآلن‬ ‫وا ُ ُ‬
‫أما ترى كيف يتطاو ُل اإلعال ُم الخبيث على أهل هذا ال ِّدين‪،‬‬
‫ُنعت المحجب ُة بالمنغلقةِ والجاهلة بالموضة‪،‬‬ ‫أال ت ُ‬
‫وبالحي على هامش الحياة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫نعت الملتز ُم بالمعقَّد‬ ‫أال يُ ُ‬
‫نعت رواد المساجد باإلرهاب‪،‬‬ ‫أال يُ ُ‬
‫الطواف بالفقراء أفضل‪،‬‬ ‫فإذا جاء الحج قال أهل الباطل َّ‬
‫جائع خير من بناء ألف جامع!‬ ‫ولقمة في بطن ٍ‬
‫ونسوا الفقراء‪،‬‬ ‫وإذا ما جاء «الكريسماس» ز ّينُوا له واحتفلوا به‪ُ ،‬‬
‫يسخرون من ال ُعمرة بعد العمرة‪،‬‬
‫سفر‪،‬‬ ‫سفر إلى ٍ‬ ‫وهم من ٍ‬
‫داعية قالُوا‪ :‬تج ُّم ٌع ال طائ َل منه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وإذا ما اجتمع الناس حول‬
‫لمغن أو مغنية‪ ،‬اجتمعوا عن بكرة أبيهم!‬ ‫ٍّ‬ ‫وإذا أُقيمت حفل ٌة‬
‫هلل على نعمة يوم القيامة!‬ ‫ُسنّة ماضية‪ ،‬وطريقة سائرة‪ ،‬والحم ُد ِ‬

‫‪276‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  أو َفى الناس‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫الوفاءُ من ِشيَ ِم النُّبالء وقد كان‬
‫اُنظ ْر إليه كيف يذك ُر فض َل ع ِّمه عليه‪،‬‬
‫يعترف له أ ّنه ر ّباه صغيراً‪ ،‬وداف َع عنه وح َماه كبيراً‪،‬‬
‫ُ‬
‫لــم يمنعــه أ ْن خالفــه ع ُّمــه فــي الد ِّيــن أن يعتـ َ‬
‫ـرف بصنيعــه معــه فــي‬
‫ال ُّدنيــا‪،‬‬
‫كانت ك ُّل أيامه يفو ُح منها الوفاء فوحاً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وعلى هذا‬
‫برسالة‪،‬‬
‫النبي  رسولين َ‬ ‫ِّ‬ ‫اب إلى‬ ‫أرس َل مسيلم ُة َّ‬
‫الكذ ُ‬
‫فلما قرأ فيها ا َّدعا َء ُمسيلمة َّ‬
‫الكذاب للنُّبوة‪،‬‬
‫قال للرسولين‪ :‬ما تقوالن أنتُما؟‬
‫فقاال‪ :‬نقو ُل كما قال!‬
‫لضربت أعناقكما‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أن ال ُّرس َل ال تُقتل‬ ‫هلل لوال َّ‬‫فقال لهما‪ :‬أما وا ِ‬
‫والزعماء‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫رف بين الملوك‬ ‫هكذا ج َرت ال َعادةُ وال ُع ُ‬
‫أن ال ُّرسل بينهم ال تُقتل مهما كان مضمون ال ِّرسالة التي يحملونها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫«دبلوماسي» سائد أوفى به سيد األوفياء!‬ ‫ّ‬ ‫ُع ٌ‬
‫رف‬
‫النبي  لمطعم بن عدي معروفه معه‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ينس‬
‫ولم َ‬
‫وطلب منه أن يُحررهم لفع َل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ولو كان ح ّياً يوم أسرى بدر‬
‫قوم مشركين جاؤوا لقتاله!‬ ‫مشرك في ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫رجل‬
‫يحفظ معروف ٍ‬ ‫ُ‬
‫رافع موفداً لها للنبي ‪،‬‬ ‫قريش أبا ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫وأرسلت‬
‫وأراد أن يبقى بالمدينة المنورة ويُسلم‪،‬‬
‫النبي  هذا وقال له‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫فلم يقبل‬
‫أحبس البُ ْرد ‪ /‬ال ُّر ُسل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أخيس بالعهد‪ ،‬وال‬ ‫ُ‬ ‫إني ال‬

‫‪277‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫َ‬
‫قومك‪،‬‬ ‫ولكن اِرج ْع إلى‬
‫نفسك الذي فيها اآلن فارج ْع!‬ ‫َ‬ ‫فإن كان في‬
‫رافع أراد أن يُسلم َطوعاً ويبقى في المدينة‪،‬‬ ‫أن أبا ٍ‬ ‫رغم َّ‬
‫رفض هذا‪،‬‬
‫َ‬ ‫النبي ‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫اال َّ‬
‫ألن ال َّرسول يجب أن يرج َع بال ِّرسالة‪،‬‬
‫حبس له ولو كان برغبتِه!‬ ‫ٌ‬ ‫واعتب َر أن بقاءه‬
‫صلح الحديبية‪،‬‬ ‫وكان من شروط ُ‬
‫أن من جاء من قريش مسلماً فعليهم ر ُّده إلى أهله‪،‬‬ ‫َّ‬
‫إن ت َّم توقيع الصلح حتى وصل أبو جندل مسلماً‪،‬‬ ‫وما ّ‬
‫النبي  ألبيه سهيل بن عمرو!‬ ‫ُّ‬ ‫فسلّمه‬
‫وعن حذيفة بن اليمان قال‪:‬‬
‫خرجت أنا وأبي حسيل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ما منعني أن أشه َد بدراً إال أني‬
‫فأخذنا الكفار فقالوا‪ :‬إنكم تريدون محمداً!‬
‫فقلنا‪ :‬ما نريده‪ ،‬إنما نري ُد المدينة!‬
‫فأخذوا منا عهداً أن ننصرف إلى المدينة وال نُقاتل معه!‬
‫النبي  فأخبرناه بالخبر‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فأتينا‬
‫ِنصرفا‪ ،‬نفي لهم بعهدهم‪ ،‬ونستعي ُن اهلل عليهم!‬ ‫فقال‪ :‬ا ِ‬
‫يا للوفاء يا رسول اهلل‪ ،‬يا للوفاء!‬
‫كان بإمكانه أن يعتب َر أن هذا العهد من ِخداع األعداء‪،‬‬
‫وخداع العدو المشرك جائز بال خالف‪،‬‬
‫جندي‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫وهو على وشك حرب وأحوج ما يكون إلى‬
‫ولكنه رفض نصراً ملوثاً بعهد مخلوف!‬
‫فإذا كان هذا وفا ُؤه ألعدائه فكيف تُراه كان وفا ُؤه ألحبابه؟!‬

‫‪278‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫شأ ُن أهلِ الباطلِ أن يُز ّينوه للناس‪،‬‬


‫طالب الباطل الذي هو عليه!‬ ‫ٍ‬ ‫لقريش كيف تُزين ألبي‬ ‫ٍ‬ ‫واُنظ ُر‬
‫رأس الحنيفية ملَّة األشياخ‪،‬‬ ‫أنت ُ‬ ‫طالب َ‬
‫ٍ‬ ‫يا أبا‬
‫وما هي إال جاهلية وشرك‪،‬‬
‫ولكن من طرقهم المعهودة أن يُغيروا األسماء لتصبح مقبولة!‬
‫السالم‪،‬‬
‫سيدهم إبليس التي انتهجها مع آدم عليه َّ‬ ‫وهذه طريقة‬
‫َ َ َ َ ُ َ ْ َ ُ ُّ َ َ َ ٰ َ َ َ ْ ُ ْ َ ُ ْ َّ َ ْ َٰ‬
‫ل ومل ٍك ل يبل﴾‬ ‫﴿قال يا آدم هل أدلك ع شجرة ِ ال ِ‬
‫ليسوقوه‪،‬‬
‫فإن الخمر س ُّموه مشروبات روح َّية َّ‬ ‫ّ‬
‫وإن ال ِّربا أسموها فائدة لير ِّوجوها‪،‬‬‫ّ‬
‫ِّ‬
‫ليرغبُوا فيه‪،‬‬ ‫الشذوذ أسموه مثل ّية‬‫وإن ُّ‬ ‫َّ‬
‫الدياثَة اِنفتاحاً لتصي َر مقبولة‪،‬‬‫س ُّموا َّ‬
‫وس ُّموا الزِّنى عالق ًة عاطفية ليصير مرغوباً‪،‬‬
‫وس ُّموا التبرج موض ًة ليصي َر مطلوباً‪،‬‬
‫الطاولة عليهم ونُس ّمي األشياء بمسمياتها‪،‬‬ ‫ِب َّ‬
‫فتعالوا نقل ُ‬
‫دعونا ال نُج ِّمل الحرام وال نُم ِّيع الحالل!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ٍ‬
‫نقطة تتجدد كل فترة‪،‬‬ ‫وص َل اآلن بنا المطاف إلى‬
‫ويموت فيه عال ٌم‬
‫ُ‬ ‫فال يكاد يخلو عام إال‬

‫‪279‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ٍ‬
‫خدمات جليلة‬ ‫قد أسدى للبشر َّية‬
‫في الطب أو الهندسة وهو على غير ملة اإلسالم‪،‬‬
‫عندها تجد بعض المسلمين ممن يخلطون بين الرحمة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وبين تمام العقيدة‪،‬‬
‫يُدلون بدلوهم‪ ،‬ويُرسلون ال َّرجل إلى الجنَّة كأن بأيديهم‬
‫مفاتيحها‪،‬‬
‫ويقو ُل لك أحدهم‪ :‬كيف يُع ِّذب اهللُ أحداً اختر َع دوا ًء وخف َ‬
‫َّف‬
‫آال َم النَّاس‪،‬‬
‫كيف سيدخ ُل أديسون النار وقد أضاء لنا كوكب األرض ب‬
‫الكهرباء‪،‬‬
‫وكأن مفتاح الجنَّة أن تختر َع دوا ًء أو مصباحاً‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وعلى المقلب اآلخر تجد قسماً آخر من المسلمين‪،‬‬
‫مات على غير اإلسالم بالنَّار‪،‬‬ ‫يقطع لهذا العالم الذي َ‬
‫كأنهم يحملُون مفاتيحها أيضاً‪.‬‬
‫وكالهما على خطأ وإن كان خطأ الفئة ال َّثانية أيسر من خطأ‬
‫الفئة األولى!‬
‫نحتر ُم العلم والعلماء‪ ،‬ونق ِّد ُر خدماتهم الجلية في سبيل‬
‫اإلنسان ّية‪،‬‬
‫ولكن هذا شيء والجنّة والنّار شيء آخر!‬
‫النبي  أه ّم من اختراع دواء ومصباح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫طالب عن‬‫ٍ‬ ‫دفاع أبي‬
‫الشرك!‬‫مات على ِّ‬
‫ولكن هذا ال ّدفاع لم يُسعفه ألنه َ‬
‫هكذا يجب أن يُنظر إلى األمر بعقيدة ال بعاطفة‪،‬‬
‫مع إيمان ٍ‬
‫ثابت أنه ال أحد أعدل وأرحم من اهلل!‬

‫‪280‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫بالمقابل‪ ،‬قلّة أدب مع اهلل أن نقطع بالنار لشخص بعينه‪،‬‬


‫وإنما نقول بالجملة‪:‬‬
‫مات على غير اإلسالم بعد أن ســم َع به ووصله فرفضه‬ ‫أنه من َ‬
‫دخ َل النا َر‪،‬‬
‫مع إيمان راسخ أن األمر هلل أوالً وآخراً إن شاء َّ‬
‫عذ َب وإن شا َء‬
‫غف َر‪.‬‬
‫لن يُسأل الناس في قبورهم عن الكهرباء التي اخترعوها‪،‬‬
‫وال األدوية التي صنعوها‪ ،‬وال الجسور التي أقاموها‪،‬‬
‫وإ ّنما هي العقيدة أ ّوالً وأخيراً‪.‬‬
‫فال نخلط بين ُم َسلَّمات ديننا‪ ،‬وبين إنسانيتنا وشفقتنا على‬
‫اآلخرين وتقديرنا لجهودهم‪،‬‬
‫ونتأدب مع اهلل فال نقطع بالنار ألحد بعينه‪،‬‬
‫وإنما بعموم الثابت في ديننا‪ ،‬وبصريح قول ربنا‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ً ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ََْ َ َْ ْ‬
‫ِينا فلن ُيق َبل مِنْ ُه َو ُه َو ِف الخ َِر ة ِ‬ ‫ال ْســا ِم د‬
‫﴿و من يبتغِ غي ِ‬
‫اسيـ َ‬
‫ـن﴾‪.‬‬ ‫َ َْ‬
‫مِن ال ِ ِ‬

‫‪281‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪62‬‬

‫َ َ ُ َ ْ ََُ ُُ‬
‫تفوا بِذنوب ِ ِه ْم﴾‬ ‫﴿وآخرون اع‬

‫اهلل ُسبحانه لم يطالبْ َك بالعصمةِ من ال ّذنب‪،‬‬ ‫إن َ‬ ‫ّ‬


‫واالنكسار حين يق ُع منك ال ّذنب!‬
‫ِ‬ ‫وإ ّنما طالبَ َك التَّوبةِ‬
‫اعترف واستغف َر فقبِل اهللُ منه‪،‬‬
‫َ‬ ‫السالم‬‫أذنب آدم عليه ّ‬ ‫َ‬ ‫عندما‬
‫فأعرض اهللُ عنه‪،‬‬
‫َ‬ ‫إبليس عال واستكبر‬ ‫ُ‬ ‫أذنب‬
‫َ‬ ‫وعندما‬
‫السالم‪،‬‬
‫أذنب واستغف َر كان في قافلة التائبين مع آدم عليه َّ‬ ‫َ‬ ‫فمن‬
‫أذنب وعال كان في قافلةِ المستكبرين مع إبليس!‬ ‫َ‬ ‫ومن‬
‫ٌ‬
‫اعتراف‪ ،‬وانكسا ٌر‪ ،‬وتوبة‪،‬‬ ‫ذنب يعقبُه ك ّل م ّرةٍ‬ ‫ألف ٍ‬ ‫إن َ‬ ‫ّ‬
‫واحد فيه كِ بر وإصرار‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذنب‬
‫خير للمرء من ٍ‬
‫وإن اهلل ما س ّمى نفسه الغفور إال تح ّبباً بعباده المذنبين المنكسرين‪،‬‬ ‫ّ‬
‫رغب عباده بمحبته‪،‬‬ ‫وما س ّمى نفسه الودود إال ليُ ّ‬
‫إن ذنباً واحداً يكسرك‪ ،‬ويُخر ُج من نفسك ال ُع ُ‬
‫جب‬ ‫بل ّ‬
‫هو أنفع لنفسك من طاعة تمأل نفسك إعجاباً وغروراً!‬

‫‪282‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪63‬‬

‫ياسر‪ ،‬وأباه‪ ،‬وأ ّمه ُسم ّية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬


‫قريش ع َّما َر بن‬ ‫أخذت‬
‫ْ‬
‫فع ّذبوهم عذاباً شديداً‪...‬‬
‫بأوتاد في األرض‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فأ ّما ُسم ّية فقد ربطوها‬
‫أسلمت من أجل ال ِّرجال‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫جهل‪ِ ،‬‬
‫أنك‬ ‫وقال لها أبو ٍ‬
‫هلل بالزّنى!‬ ‫يرميها عد ُّو ا ِ‬
‫فاحش بذيء!‬‫ٍ‬ ‫لك من‬ ‫وقالت له‪ :‬يا َ‬ ‫ْ‬ ‫فبصقت في وجهه‪،‬‬ ‫ْ‬
‫فأخــذ حربــ ًة وطعنهــا‪ ،‬فكانــت رضــي اهلل عنهــا أول شــهيدة فــي‬
‫اإلســام!‬
‫هلل فقتلوه أيضاً!‬ ‫ورفض ياس ٌر أن يكفر با ِ‬ ‫َ‬
‫ك ُّل هذا يحدثُ أمام ع ّمار‪ ،‬قتلُوا أباه وأ ُّمه وهو ينظ ُر!‬
‫النبي  حتى أجابهم!‬ ‫ِّ‬ ‫شتم‬
‫وما زالوا به يكرهونه على ِ‬
‫عمار قد ك َف َر!‬ ‫بأن َّ‬‫النبي  َّ‬ ‫ُّ‬ ‫فأُخب َر‬
‫لئ إيماناً من رأسه إلى قدمه‪،‬‬ ‫إن ع َّماراً ُم َ‬ ‫فقال‪ :‬كال‪َّ ،‬‬
‫واختلط اإليمان بلحمه ودمه!‬ ‫َ‬
‫النبي  وهو يبكي!‬ ‫ُّ‬ ‫عما ٌر إلى‬‫وجاء َّ‬
‫النبي ‪ :‬ما ورا َء َك؟‬ ‫ُّ‬ ‫فقا َل له‬
‫ِلت منك!‬
‫شر يا رسول اهلل‪ ،‬ما تركوني حتى ن ُ‬ ‫فقا َل‪ٌّ :‬‬
‫َ‬
‫قلبك؟‬ ‫النبي ‪َ :‬‬
‫كيف تج ُد‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫قال‪ :‬مطمئ ٌن باإليمان!‬
‫فقال له‪ :‬إن عادوا ف ُع ْد!‬

‫‪283‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ـن َب ْع ـ ِد إ َ‬ ‫َّ‬
‫ـاللِ ِمـ ْ‬ ‫ك َفـ َ‬‫َ ْ َ‬
‫يمان ِ ـهِ إِل‬ ‫ِ‬ ‫ـر بِـ‬ ‫وأنــز َل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬مــن‬
‫ْ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ٌّ‬ ‫َ‬ ‫كــرهَ َوقَلْ ُبـ ُ‬
‫ـه ُم ْ‬ ‫َ ْ ُ ْ‬
‫ـر‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫ال‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫ش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ـان‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫يم‬ ‫ال‬ ‫ب‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ئ‬‫م‬ ‫ط‬ ‫ِ‬ ‫مــن أ‬
‫اب َع ِظيـ ٌ‬ ‫َ‬
‫ـم َعــذ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫اللِ َول ُهـ ْ‬ ‫َ‬
‫ـم غ َضـ ٌ‬ ‫َ‬
‫ـد ًرا َف َعليْهـ ْ‬
‫َصـ ْ‬
‫ـم﴾‬ ‫ـب ِمــن‬ ‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫يا آللِ ياسر ما كان أصعب امتحانهم!‬


‫جهل في تُراب مكة ثم ترتقي شهيدة‪،‬‬ ‫لسم ّي َة تُم ّر ُغ كبرياء أبي ٍ‬
‫يا ُ‬
‫يفت ذلك من عزيمته‬ ‫ويا لياسر يرى زوجته أمامه تُقتل فلم َّ‬
‫شيئاً‪،‬‬
‫الشهادة!‬ ‫إنما هي حياة واحدة ونَع َم خاتمتها ّ‬
‫ويا لع ّمار يرى مقت َل أبويه بعينيه‪،‬‬
‫فيعطيهم بلسانه ما يرضون وقلبه جب ٌل من ّ‬
‫الصبر واإليمان‪،‬‬
‫ثم يا للمجد إذ ينز ُل فيه قرآن يُتلى إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫ّبي صلى اهلل عليه وسلّم إذ كان يم ُّر بهم يُثبتهم بقوله‬ ‫ويا للن ِّ‬
‫الخالد‪:‬‬
‫فإن موعدكم الجنّة!‬ ‫صبراً آل ياسر ّ‬
‫لك تعا َل ّ‬
‫نتوج ُع عليهم‪،‬‬ ‫لقلت َ‬ ‫ُ‬ ‫كانت هي دنيا فحسب‬ ‫ْ‬ ‫هلل لو‬ ‫أما وا ِ‬
‫ولكنها ليست إال دار عبور‪ ،‬وقد اختاروا أجمل طريق!‬
‫كأ ّني بسم ّية والمالئكة ت ُز ُّفها إلى الجنة‪،‬‬
‫يتحس ُر عليها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ومن ال يرى المشهد إال بعينيه‬
‫ولو نظ َر إلى المشهد بعين النّتيجة لتمنى أن يكون مكانها!‬

‫‪284‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وكأني بياسر يأخ ُذ بيد ُسم ّية ويدخ ُل بها الجنّة‪،‬‬


‫جهل وال أبو لهب‪،‬‬
‫هناك حيث ال أبو ٍ‬
‫ينظرون إلى م ّكة من َع ٍّل‪ ،‬وبو ّدهم لو قالوا لهم‪ :‬نحن أخيراً‬
‫نج ْونا!‬
‫َ‬
‫الجنَّة هي الفوز الذي يجع ُل كل الخسارات تافهة!‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫وليست‬
‫ْ‬ ‫هذه ال ُّدنيا دار عمل وليس دار جزاء‪ ،‬دار امتحان‬
‫دار نتيجة!‬
‫يمسه البالءُ منها‪،‬‬
‫وقد ُر المؤمن فيها أن َّ‬
‫بتليت بالظالمين فها هم آل ياسر َ‬
‫لك عزا ًء‪،‬‬ ‫فإن ا ُ َ‬
‫ابتليت بالفقر فقد كان يم ُّر بآل رسول اهلل  َّ‬
‫الشهر‬ ‫َ‬ ‫وإن‬
‫ثم َّ‬
‫الشهر‪،‬‬
‫لخبز وال لطبيخ!‬
‫وال يُوقد في بيوتهم شيء من النار ال ٍ‬
‫كانوا يعيشون على األسودين التمر والماء!‬
‫وكان لهم جيران من األنصار جزاهم اهلل خيراً لهم غنم‬
‫يرسلون إليهم شيئاً من لبن!‬
‫السالم‪،‬‬
‫بتليت بالبُهتان فها هو يوسف عليه ّ‬ ‫وإن ا ُ َ‬
‫السجن بضع سنين‪،‬‬
‫قد أوداه ُحب امرأة إلى غياهب ِّ‬
‫الجب‪،‬‬
‫ومن قبل حسد إخوته قد أوداه إلى قعر ُ‬
‫يا صاحبي إنها دار أذى وبالء!‬

‫‪285‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وأنت تُبلّ ُغ رسالة ر ّبك‬


‫َ‬ ‫عاب‬
‫الص َ‬
‫القيت ّ‬
‫َ‬ ‫وإن‬
‫السالم‪،‬‬
‫فها هو الكريم ابن الكريم يحيى بن زكريا عليهما ّ‬
‫أرادت أن تتزوج أخاها الملك‪،‬‬
‫ْ‬ ‫رأسه مهراً المرأةٍ فاجرة‬
‫ُق ِّدم ُ‬
‫السالم أن ذلك حرام‪،‬‬ ‫فأفتى يحيى عليه َّ‬
‫فاثبُ ْت على مبادئك فما رأسك بأشرف من رؤوس األنبياء!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫نصيب آل ياسر وحدهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫العذاب من‬


‫ُ‬ ‫لم يكن‬
‫الصحابة أصناف العذاب ليص َل إلينا اإلسالم على ٍ‬
‫طبق‬ ‫ذا َق ّ‬
‫من ذهب!‬
‫كان ع ُّم عثمان بن عفان يلفُّه في حصير من ورق النخيل‪،‬‬
‫تمس جلده!‬ ‫ثم يوق ُد فيه النّار حتى َّ‬
‫قريش المدلل فح ّدثْ وال حرج!‬
‫ٍ‬ ‫‏وعن مصعب بن ُعمير فتى‬
‫علمت أ ّم مصعب بن عمير بإسالمه منعته َّ‬
‫الطعام والشراب‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لما‬
‫وأخرجته من بيته‪ ،‬وكان من أنعم الناس ً‬
‫عيشا‪،‬‬
‫فت ََخ َّش َف جلده تخشف الحية‏!‬
‫وكان صهيب بن سنان الرومي يُع َّذب‬
‫حتى يفقد وعيه وال يدري ما يقول‏!‬
‫رباح‪،‬‬
‫حبل في عنق بالل بن ٍ‬ ‫وكان أمية بن خلف يض ُع ً‬
‫الصبيان‪ ،‬يطوفون به في جبال مكة‪،‬‬
‫ثم يُسلمه إلى ِّ‬
‫أح ٌد!‬ ‫ويج ُّرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه‪ ،‬وهو يقول‏‪:‬‏ َ‬
‫أح ٌد َ‬

‫‪286‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وأش ُّد من ذلك كله أنه كان يُخرجه إذا حميت َّ‬
‫الظهيرة‪،‬‬
‫فيطرحه على ظهره في ال َّرمضاء في بطحاء مكة‪،‬‬
‫بالصخرة العظيمة فتُوضع على صدره‪،‬‬ ‫ثم يأم ُر َّ‬
‫ثم يقول‏‪:‬‏ ال واهلل ال تزال هكـذا حتى تموت أو تكفر بمحمد‪،‬‬
‫وتعبد الالت والعزى‪،‬‬
‫فيقول وهو في ذلك‏‪:‬‏ أحد‪ ،‬أحد!‬
‫ويقو ُ‏ل‪:‬‏ لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها‏‪.‬‏‬
‫وكان أبو ُف َكيْ َه َة مولى ِلبَنِي عبد الدار‪،‬‬
‫َّهار في حر شديد‪،‬‬ ‫فكانوا يخرجونه في نصف الن ِ‬
‫وفي رجليه قيد من حديد‪ ،‬فيج ِّر ُدونه من الثياب‪،‬‬
‫ويبطحونه في ال َّرمضاء‪،‬‬
‫ُ‬
‫ثم يض ُعون على ظهره صخر ًة حتى ال يتحرك‪،‬‬
‫فكان يبقى كذلك حتى ال يعقل‪،‬‬
‫عذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية‪،‬‬ ‫فلم يزل يُ َّ‬
‫وكانوا م َّرة قد ربطوا رجله بحبل‪،‬‬
‫ثم ج ُّروه وألقوه في ال َّرمضاء وخنقُوه حتى ظنُّوا أ ّنه قد مات‪،‬‬
‫فم َّر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه هلل‏‪.‬‏‬
‫اب بن األرت مولى أل ّم أنمار بنت ِسباع الخُ زاع ّية‪،‬‬ ‫وكان خ َّب ُ‬
‫عذبته موالتُه بالنَّار‪،‬‬‫وكان ح ّدا ًدا‪ ،‬فلما أسلم َّ‬
‫كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه‪،‬‬
‫ليكفر بمحمد ‪ ،‬فلم يكن يزيده ذلك إال إيما ًنا وتسلي ًما‪،‬‬
‫وكان المشركون ً‬
‫أيضا يعذبونه فيلوون عنقه‪،‬‬
‫ويجذبون شعره‪ ،‬وقد ألقوه على النار‪،‬‬

‫‪287‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ثم سحبوه عليها‪ ،‬فما أطفأها إال شحم ظهره‏!‬


‫وكانت ِز ِ ّني َرةُ أ َم ًة رومية قد أسلمت فعذبت في اهلل‬
‫وأصيبت في بصرها حتى عميت‪،‬‬
‫فقيل لها‏‪:‬‏ أصابتك الالت والعزى!‬
‫فقالت‏‪:‬‏ ال واهلل ما أصابتني‪ ،‬وهذا من اهلل‪ ،‬وإن شاء كشفه‪،‬‬
‫فأصبحت من الغد وقد ر َّد اهلل بصرها!‬
‫ْ‬
‫رب ضر ًبا شدي ًدا‪،‬‬‫وض َ‬ ‫َو ِطي َء أبو بكر بن أبي قحافة يو ًما بمكة‪ُ ،‬‬
‫دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين‬
‫ويحرفهما لوجهه‪،‬‬
‫ونزا على بطن أبي بكر‪ ،‬حتى ما ي ُعرف وج ُهه من أنفه‪،‬‬
‫وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله‪،‬‬
‫وال يش ُّكون في موته‪ ،‬فتكلم آخر النهار فقال‏‪:‬‏‬
‫ما فعل رسول اهلل ‏؟‏‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ٍ‬
‫جماعة من أصحابه‪،‬‬ ‫كان المقداد بن األسود يوماً جالساً في‬
‫النبي ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫فم َّر رج ٌل فقال له‪ :‬طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا‬
‫شهدت!‬
‫َ‬ ‫رأيت‪ ،‬وشهدنا ما‬‫َ‬ ‫هلل لوددنا أ َّنا رأينا ما‬
‫وا ِ‬
‫فغضب المقداد غضباً شديداً‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫َ‬
‫ما يحم ُل ال َّرجل على أن يتمنى محضراً غ َّيبه اهلل عنه‪،‬‬
‫هلل لقد حض َر رسو َل اهلل ‪،‬‬
‫ال يدري لو شهده كيف يكون حاله‪ ،‬وا ِ‬

‫‪288‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أقوام أك َّبهم اهلل في النَّار‪ ،‬لم يُجيبوه ولم يص ِّدقوه‪،‬‬


‫أال تَحمدون اهلل إذ أخرجكم تعرفون ربكم‪ُ ،‬مص ِّدقين لما جاء بــه‬
‫نبيكم‪،‬‬
‫قد ُكفيتم البالء بغيركم؟‬
‫حال بُعثَ عليها ٌّ‬
‫نبي‬ ‫النبي  على أش ِّد ٍ‬‫ُّ‬ ‫وا ِ‬
‫هلل لقد بُعثَ‬
‫من األنبياء‪،‬‬
‫فترةَ جاهل ّية‪ ،‬ما يرون ديناً أفضل من عبادة األوثان‪،‬‬
‫ُرقان ف َّر َق بين الحقّ والباطل‪ ،‬وف َّر َق بين الوالد وولده‪،‬‬
‫فجاء بف ٍ‬
‫حتى إ ْن كان الرجل ليرى ولده أو والده أو أخاه كافراً وقد فت َح‬
‫اهلل ُق ْف َل قلبه لإليمان‪،‬‬
‫هلك على هذه الحال دخ َل النار!‬ ‫يعل ُم أنه إن َ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ُكلنا نتمنى لو أننا رأينا‬
‫لندافع عنه يوم آذته قريش في نفسه ودينه‪،‬‬
‫ولنصد عنه الحجارة يوم رج ُموه في َّ‬
‫الطائف‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ولنكون له حرساً ورفيقاً يوم هجرته‪،‬‬
‫أحد فال يسيل دمه الشريف كما سال‪،‬‬ ‫ولنذود عنه في ٍ‬
‫قدمتها إليه امرأةٌ‬
‫الشاة المسمومة التي َّ‬ ‫ولنأك َل عنه َ‬
‫كتف َّ‬
‫من يهود‪،‬‬
‫وهذه أُمنية ال شيء فيها‪ ،‬نابعة من اإليمان‪ ،‬ومن محبته ‪،‬‬
‫َ‬
‫يعرف أن اهلل سبحانه وتعالى قد خلقه‬ ‫ولكن على اإلنسان أن‬
‫زمن هو أنفع له‪،‬‬
‫في ٍ‬
‫وإنها لنعمة حقاً أننا ُولدنا مسلمين‪ ،‬فتحنا أعيننا على الدنيا‬
‫يُعلّمنا أهلنا التوحيد‪،‬‬

‫‪289‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫والصيام‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الصالة‬‫ويُحفّظوننا الفاتحة‪ ،‬ويد ِّربونا على َّ‬
‫اختلط بلحمنا وعظمنا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حتى إذا كبرنا وجدنا اإلسالم قد‬
‫وهو أغلى شيءٍ عندنا!‬
‫أن أحدنا قد ُولد في قريش‪ ،‬ف َر َّباه أبواه على‬ ‫وما أدراكم لو َّ‬
‫عبادة األصنام‪،‬‬
‫وعلى تقديس ُهبل والالت ومناة‪ ،‬فنشأ شارباً للخمر‪،‬‬
‫ال للربا‪ ،‬وائداً للبنات‪،‬‬ ‫آك ً‬
‫صارت هذه منظومة قيمه‪ ،‬وسيرة عمره‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حتى‬
‫ال قد بُعثَ يهجو األصنام‪،‬‬ ‫ثم سمع أن رج ً‬
‫ٍ‬
‫واحد ال يُرى‪،‬‬ ‫ويدعو إلى عبادة رب‬
‫لربما كان وقتها أحد الصناديد الكافرة‪  ،‬‬
‫التي استماتت تُدافع عن الدين الذي تعتق ُد أ ّنه الحقّ !‬
‫السهولة‪،‬‬‫طبق من ُّ‬ ‫أن اإلسالم وصلنا على ٍ‬ ‫احم ُدوا اهلل ّ‬
‫بال دفع وال ُمجاهدة‪ ،‬بال ُمغالبة أبوين كما حصل‬
‫مع سعد بن أبي وقاص‪،‬‬
‫هيب الرومي‪،‬‬ ‫ص ٍ‬ ‫مال كما حصل مع ُ‬ ‫وبال مراودة عن ٍ‬
‫هلل امتحانات صعبة‪ ،‬واختبارات عسيرة‪،‬‬ ‫فتلك وا ِ‬
‫قد سقط فيها كثي ٌر من النَّاس!‬

‫‪290‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪64‬‬

‫َّ‬ ‫َ ّ ُ َّ َ ْ‬ ‫َ‬
‫﴿ل يُكل ِف الل نف ًسا إِل ُو ْس َع َها﴾‬

‫أنت قاد ٌر على تحقيقها‪،‬‬ ‫األمني ُة التي قذفها اهللُ في قلبك َ‬


‫السعي إليه‪،‬‬
‫أنت قاد ٌر على ّ‬ ‫والحل ُ ُم الذي ملَك عليك نفسك َ‬
‫ُ‬
‫تخطيها‪،‬‬ ‫أنت قاد ٌر على ِّ‬
‫الطريق َ‬ ‫والعقبات في ّ‬
‫ُ‬
‫أنت قاد ٌر على حملها‪،‬‬ ‫َ‬
‫عاتقك َ‬ ‫والمسؤوليات ال ُملقاة على‬
‫ُ‬
‫واألوجا ُع التي تصيبُ َك َ‬
‫أنت قاد ٌر على تح ُّملِها‪،‬‬
‫تجاوزها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أنت قاد ٌر على‬
‫التي تعتريك َ‬ ‫ُ‬
‫والمخاوف َ‬
‫اهلل أرحم من أن يشغلك بأمنية ٍ مستحيلة‪،‬‬
‫وبوجع ال يُطاق‪ ،‬وبمسؤولية ٍ ال تُحمل‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وبعقبة ال تُجتاز‪،‬‬
‫اهلل ال يمتح ُن عبده بالمستحيل وإنما بالممكن‪،‬‬
‫َ‬
‫يمتحنك‪،‬‬ ‫سبحانه هو أرحم من أن يُك ّبلك ثم‬
‫تفك قيو َد َك!‬ ‫َ‬
‫ليريك أ ّنك قاد ٌر على أن َّ‬ ‫ولكنّه يمتحنك‬

‫‪291‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪65‬‬

‫هلل َ‬
‫‪،‬‬ ‫قدمت على رسولِ ا ِ‬
‫ُ‬ ‫زاعي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫يقو ُل الحارثُ بن ِض ٍ‬
‫رار الخُ‬
‫وأقررت به‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فدخلت فيه‬
‫ُ‬ ‫اإلسالم‬
‫ِ‬ ‫فدعاني إلى‬
‫فأقررت بها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فدعاني إلى الزَّكا ِة‬
‫اإلسالم‬
‫ِ‬ ‫وقلت‪ :‬يا رسو َل ا ِ‬
‫هلل أرج ُع إلى قومي فأدعوهم إلى‬ ‫ُ‬
‫وأداءِ الزكاةِ‪،‬‬
‫جمعت زكاتَهُ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫استجاب لي‬
‫َ‬ ‫فمن‬
‫َ‬
‫ليأتيك‬ ‫وقت كذا وكذا‬ ‫ً‬
‫رسول َ‬ ‫هلل ‬ ‫ث ّم يُرس ُل َّ‬
‫إلي رسو ُل ا ِ‬
‫جمعت من الزكاةِ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بما‬
‫استجاب له‪،‬‬
‫َ‬ ‫ممن‬‫فل َّما جم َع الحارثُ الزكاةَ َّ‬
‫الوقت الذي أرا َد رسو ُل ا ِ‬
‫هلل  أن يبعثَ إليه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وبل َغ‬
‫أبطأ عليهِ الرسو ُل فلم يأتِهِ ‪،‬‬
‫هلل ع َّز َّ‬
‫وجل ورسو ِلهُ‪،‬‬ ‫فظن الحارثُ أنه قد حدثَ فيه سخط ٌة من ا ِ‬ ‫َّ‬
‫إن رسو َل ا ِ‬
‫هلل ‪،‬‬ ‫ف َد َعا وجهاء قومِ هِ فقال لهم‪َّ :‬‬
‫كان َو َّق َت لي وقتًا يُرس ُل َّ‬
‫إلي رســولَ ُه ليَ َ‬
‫قبض ما كان عندي من الزكا ِة‪،‬‬
‫وليس من خُ لُقِ رسولِ ا ِ‬
‫هلل  الخُ ل ْ ُ‬
‫ف‪،‬‬
‫ٍ‬
‫سخطة كانت!‬ ‫س رسولِه إال من‬‫وال أ َرى َحبْ َ‬
‫فانطلِقوا فن ْأتِي رسو َل ا ِ‬
‫هلل ‪.‬‬ ‫َ‬
‫قبض ما كان‬ ‫ِ‬
‫الحارث ليَ َ‬ ‫هلل  الولي َد ب َن عقب َة إلى‬
‫وبعثَ رســو ُل ا ِ‬
‫عن َدهُ م َّما جم َع مــن الــزكاةِ‪،‬‬
‫َ‬
‫خاف فرج َع‪،‬‬ ‫فل َّما أن سا َر الولي ُد حتى بل َغ َ‬
‫بعض الطريقِ‬

‫‪292‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫هلل  فقال يا رسو َل اهللِ‪:‬‬ ‫وأَتَى رسو َل ا ِ‬


‫إن الحارثَ منعني الزكاةَ وأرا َد َقتْلِي!‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫الحارث!‬ ‫هلل  جيشاً إلى‬ ‫فج ّه َز رسو ُل ا ِ‬
‫ف َأ ْقبَ َل الحارثُ بأصحابِه حتى إذا استقب َل الجيش‪،‬‬
‫فقال لهم‪ :‬إلى من بُعِ ثْتُ ْم؟‬
‫قالوا‪َ :‬‬
‫إليك!‬
‫قال‪ :‬و ِل َم؟‬
‫إليك الولي َد ب َن عقب َة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫هلل  كان بعثَ‬ ‫إن رسو َل ا ِ‬ ‫قالوا َّ‬
‫وأردت قتلَه!‬ ‫َ‬ ‫أنك منعتَ ُه الزكاةَ‬ ‫فزع َم َ‬
‫قال‪ :‬ال والذي بعثَ محم ًدا بالحقِّ ما رأيت ُه وال أتاني!‬
‫هلل  قال له‪:‬‬ ‫فلما دخ َل الحارثُ على رسولِ ا ِ‬ ‫َّ‬
‫وأردت قت َل رسولي!‬ ‫َ‬ ‫منعت الزكاةَ‬ ‫َ‬
‫بعثك بالحقِّ ما رأيت ُه وال أتاني‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قال‪ :‬ال والذي‬
‫هلل ‪،‬‬ ‫علي رسو ُل رسولِ ا ِ‬ ‫ِس َّ‬ ‫احتُب َ‬ ‫أقبلت إال حين ْ‬ ‫ُ‬ ‫وما‬
‫وجل ورسو ِلهُ‪،‬‬‫هلل ع َّز َّ‬ ‫خشيت أن تكو َن سخط ًة من ا ِ‬ ‫ُ‬
‫وأنزل اهلل تعالى قوله تصديقاً للحارث‪ ،‬وتقريعاً للوليد‪:‬‬
‫َ‬
‫ِــق بنَ َبأ ٍ َف َتبَ َّي ُنوا أ ْن تُ ِص ُ‬
‫يبوا‬ ‫ك ْم فَا س ٌ‬ ‫ْ َ َ ُ‬
‫اء‬‫ج‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫وا‬ ‫آم ُ‬
‫ن‬ ‫﴿يَا َأ ُّي َها ا ذل َ‬
‫ِين َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ً ََ َ َُ ْ ُ ََ َ َ َ ُْ ْ َ‬
‫قو ما ِبهال ٍة فتصبِحوا ع ما فعلتم نا ِد مِــن ﴾‬

‫‪293‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الغيب إال اهلل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫درس عظيم مفاده أن ال أحد يعلم‬ ‫ٌ‬
‫َّاس‪،‬‬
‫والنبي  في شأن الغيب كغيره من الن ِ‬ ‫ُّ‬
‫يعرف منه إال ما أطلعه اهلل تعالى عليه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ولم يكن‬
‫سوا ًء تعلَّ َق هذا الغيب بما لم يقع بعد‪،‬‬
‫والشمس من مغربها‪،‬‬ ‫والدابة‪َّ ،‬‬ ‫الساعة‪ ،‬وخروج ال ّدجال‪َّ ،‬‬ ‫كعالمات ّ‬
‫وأهوال يوم القيامة‪ ،‬وأحوال النَّاس فيها‪،‬‬
‫نات من أهل الجنَّة‪ ،‬ومن أهل النار‪،‬‬ ‫وع ّي ٍ‬
‫نش ُّك بهذا وال نرتاب‪،‬‬ ‫ف ُك ُّل هذا مما وق َع حتماً ال ُ‬
‫ولكن النَّار اآلن خالية من أهلها‪ ،‬والجنَّة كذلك‪،‬‬
‫وإ ّنما دخولهما بعد حساب اهلل تعالى للخالئق!‬
‫النبي ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ومن الغيب الذي يخفى على‬
‫وصارت ماضياً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حدثت فع ً‬
‫ال‬ ‫ْ‬ ‫هي األمور التي‬
‫وحي بها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فلم يشهدها بنفسه‪ ،‬ولم يأتِه‬
‫النبي  مما وقع‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وك ُّل ما كان يُخب ُر عنه‬
‫إ ّنما كان يعرفه بالوحي الذي ينز ُل عليه‪،‬‬
‫وليس بقدرات خارقة كانت له‪ ،‬وال باستطاعته معرفة الغيب‪،‬‬
‫يكشف منه سبحانه لنب ِّيه وفق حكمة‬ ‫ُ‬ ‫الغيب شأن اهلل تعالى وحده‪،‬‬
‫قضاها!‬
‫من أمثلة هذا‪ ،‬واألمثلة في هذا كثيرة‪،‬‬
‫الجمحي مع صفوان بن أُمية بن خلف‪،‬‬ ‫جلس ُعمير بن وهب ُ‬
‫الح ْجر ِبيَ ِس ٍير‪،‬‬ ‫بعد مصاب أهل بدر من قريش في ِ‬

‫‪294‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫اطينِ ُق َريْ ٍش‪،‬‬ ‫َو َكا َن ُع َميْ ُر بْ ُن َو ْه ٍب َشيْ َطا ًنا مِ ْن َش َي ِ‬


‫ص َحابَهُ‪،‬‬ ‫هلل  َوأَ ْ‬ ‫َومِ ّم ْن َكا َن يُؤْذِ ي َر ُسو َل ا ِ‬
‫َويَل ْ َق ْو َن مِ نْ ُه َعنَا ًء َو ُه َو ِب َم ّك َة‪َ ،‬و َكا َن ابْنُ ُه َو ْه ُب بْ ُن ُع َميْ ٍر فِ ي أ ُ َسا َرى بَ ْد ٍر‪.‬‬
‫فذكر أصحاب القليب ومصابهم‪،‬‬
‫هلل إ ْن فِ ي الْ َعيْ ِش بَ ْع َد ُه ْم َخيْ ٌر!‬ ‫ص ْف َوا ُن‪َ :‬واَ ِ‬ ‫َف َقا َل َ‬
‫ص َد َق ْت َواَهللِ‪،‬‬ ‫َقا َل لَ ُه ُع َميْ ٌر‪َ :‬‬
‫ضاءٌ‪،‬‬ ‫س لَ ُه ِعنْدِ ي َق َ‬ ‫هلل لَ ْو َل َديْ ٌن َعل َ ّي لَيْ َ‬ ‫أَ َما َواَ ِ‬
‫َو ِعيَا ٌل أَخْ َشى َعلَيْهِ ْم ّ‬
‫الضيْ َع َة بَ ْعدِ ي‪،‬‬
‫لَ َركِ بْ ُت إلَى ُم َح ّم ٍد َحتّى أَ ْقتُلَهُ‪،‬‬
‫َف ِإ ّن لِي قِ َبل َ ُه ْم ِعلّ ًة‪ :‬ابْنِي أَ ِسي ٌر فِ ي أَيْدِ يهِ ْم!‬
‫ص ْف َوا ُن َو َقا َل‪َ :‬عل َ ّي َديْنُك‪ ،‬أَنَا أَ ْق ِضيهِ َعنْك‪،‬‬ ‫اغتَنَ َم َها َ‬ ‫َف ْ‬
‫َو ِعيَالُك َم َع ِعيَالِي أ ُ َو ِ‬
‫اسيهِ ْم َما بَقُوا‪َ ،‬ل يَ َس ُعنِي َش ْيءٌ َويَ ْع ِج ُز َعنْ ُه ْم‪،‬‬
‫َف َقا َل لَ ُه ُع َميْ ٌر‪ :‬فاكتم شأني وشأنك!‬
‫قال‪ :‬أفعل‪.‬‬
‫ِسيْفِ هِ ‪َ ،‬ف ُش ِح َذ لَ ُه َو ُس ّم‪،‬‬ ‫ثُ ّم أَ َم َر ُع َميْ ٌر ب َ‬
‫ثُ ّم انْ َطل َ َق َحتّى َقدِ َم الْ َمدِ ينَ َة‪،‬‬
‫اب فِ ي نَ َف ٍر مِ ْن الْ ُم ْسلِمِ ي َن يَت ََح ّدثُو َن‬ ‫َف َبيْنَا ُع َم ُر بْ ُن الْ َخ ّط ِ‬
‫َع ْن يَ ْو ِم بَ ْد ٍر‪،‬‬
‫َويَ ْذ ُك ُرو َن َما أَ ْك َر َم ُه ْم اهللُ ِبهِ ‪َ ،‬و َما أَ َرا ُه ْم مِ ْن َع ُد ّو ِه ْم‪،‬‬
‫اب الْ َم ْس ِجدِ‬ ‫إ ْذ نَ َظ َر ُع َم ُر إلَى ُع َميْ ِر بْنِ َو ْه ٍب ِحي َن أَنَا َخ َعلَى بَ ِ‬
‫السيْف‪،‬‬ ‫ُمتَ َو ّش ًحا ّ‬
‫هلل َما َجا َء‬ ‫فقال‪ :‬هذا الكلب عد ّو اهلل عمير بن َو ْه ٍب‪َ ،‬واَ ِ‬
‫ِش ّر‪،‬‬‫ّإل ل َ‬

‫‪295‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ش بَيْنَنَا‪َ ،‬و َح َز ْرنَا ِلل ْ َق ْو ِم يَ ْو َم بَ ْد ٍر‪.‬‬ ‫َو ُه َو ا ّلذِ ي َح ّر َ‬


‫هلل  َف َقا َل‪ :‬يَا نَب ِّي اهللِ‪،‬‬ ‫ثُ ّم َد َخ َل ُع َم ُر َعلَى َر ُسولِ ا ِ‬
‫متوشحا سيفه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هذا عد ّو اهلل عمير بن وهب قد جاء‬
‫َقا َل‪َ :‬ف َأ ْد َخل َ ُه َعل َ ّي!‬
‫َف َأ ْق َب َل ُع َم ُر َحتّى أَ َخ َذ ب ِِح َمالَةِ َسيْفِ هِ فِ ي ُعنُقِ هِ َفل َ ّب َب ُه ِب َها‪،‬‬
‫ص ِار‪:‬‬ ‫َو َقا َل ل ِِر َج ٍال مِ ّم ْن َكانُوا َم َع ُه مِ ْن ْالَنْ َ‬
‫ِسوا ِعنْ َدهُ‪،‬‬ ‫اجل ُ‬ ‫هلل  َف ْ‬ ‫ا ُ ْدخُ لُوا َعلَى َر ُسولِ ا ِ‬
‫ون!‬ ‫ِيث‪َ ،‬ف ِإ ّن ُه َغيْ ُر َم ْأ ُم ٍ‬ ‫اح َذ ُروا َعلَيْهِ مِ ْن َه َذا الْ َخب ِ‬ ‫َو ْ‬
‫هلل ‪.‬‬ ‫ثُ ّم َد َخ َل ِبهِ َعلَى َر ُسولِ ا ِ‬
‫آخ ٌذ ب ِِح َمالَةِ َسيْفِ هِ فِ ي ُعنُقِ هِ‬ ‫هلل ‪َ ،‬و ُع َم ُر ِ‬ ‫َفل َ ّما َرآهُ َر ُسو ُل ا ِ‬
‫َقا َل‪ :‬أَ ْر ِسل ْ ُه يَا ُع َم ُر‪ ،‬ا ُ ْد ُن يَا ُع َميْ ُر!‬
‫احا‪َ ،‬و َكانَ ْت ت َِح ّي ُة أَ ْهلِ الْ َج ِ‬
‫اه ِل ّيةِ بَيْنَ ُه ْم‪،‬‬ ‫صبَ ً‬ ‫َف َدنَا ثُ ّم َقا َل‪ :‬انْ َع ُموا َ‬
‫هلل ‪َ :‬ق ْد أَ ْك َر َمنَا اهللُ بتح ّي ٍة َخيْ ٍر مِ ْن ت َِح ّيتِك‬ ‫َف َقا َل َر ُسو ُل ا ِ‬
‫يَا ُع َميْ ُر‪،‬‬
‫ِالس َل ِم‪ :‬ت َِح ّي ُة أَ ْهلِ الْ َجنّةِ !‬‫ب ّ‬
‫هلل يَا ُم َح ّم ُد إ ْن ُكن ُْت ِب َها لَ َحدِ يثُ َع ْه ٍد‪.‬‬ ‫َف َقا َل‪ :‬أَ َما َواَ ِ‬
‫َقا َل‪َ :‬ف َما َجا َء بِك يَا ُع َميْ ُر؟‬
‫ير ا ّلذِ ي فِ ي أَيْدِ ي ُك ْم َف َأ ْح ِسنُوا فِ يهِ ‪.‬‬ ‫َقا َل‪ِ :‬جئْت ِل َه َذا ْالَ ِس ِ‬
‫السيْ ِف فِ ي ُعنُقِ ك؟‬ ‫َقا َل‪َ :‬ف َما بَا ُل ّ‬
‫وف‪َ ،‬و َه ْل أَ ْغن َْت َعنّا َشيْ ًئا؟‬ ‫َقا َل‪َ :‬ق ّب َح َها اهللُ مِ ْن ُسيُ ٍ‬
‫ص ُد ْقنِي‪َ ،‬ما ا ّلذِ ي ِجئْ َت لَهُ؟‬ ‫َقا َل‪ :‬ا ُ ْ‬
‫َقا َل‪َ :‬ما ِجئْ ُت ّإل ِل َذلِك!‬
‫ص ْف َوا ُن بْ ُن أ ُ َم ّي َة فِ ي الْ ِح ْج ِر‪،‬‬ ‫َقا َل‪ :‬بَ ْل َق َع ْد َت أَنْ َت َو َ‬

‫‪296‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ِيب مِ ْن ُق َريْ ٍش‪ ،‬ثُ ّم ُقلْت‪:‬‬


‫اب الْ َقل ِ‬ ‫ص َح َ‬ ‫َف َذ َك ْرتُ َما أَ ْ‬
‫لَ ْو َل َديْ ٌن َعل َ ّي َو ِعيَا ٌل ِعنْدِ ي لَ َخ َر ْج ُت َحتّى أَ ْقتُ َل ُم َح ّم ًدا‪،‬‬
‫ص ْف َوا ُن ِب َديْنِك َو ِع َيالِك‪َ ،‬علَى أَ ْن تَ ْقتُلَنِي لَهُ‪،‬‬
‫َفت ََح ّم َل لَك َ‬
‫َواَهللُ َحا ِئ ٌل بَيْنَك َوبَيْ َن َذل َ‬
‫ِك!‬
‫َقا َل ُع َميْ ٌر‪ :‬أَ ْش َه ُد أَ ّنك َر ُسو ُل اهلل‪،‬‬
‫هلل نُ َك ّذبُك ِب َما ُكنْت تَ ْأتِينَا ِبهِ مِ ْن َخبَ ِر ّ‬
‫الس َماء‪،‬‬ ‫وقد ُكنّا يَا َر ُسو َل ا ِ‬
‫ض ْرهُ إال أنا وصفوان‪،‬‬ ‫َو َما يَن ِْز ُل َعلَيْك مِ ْن الْ َو ْح ِي‪َ ،‬و َه َذا أَ ْم ٌر لَ ْم يَ ْح ُ‬
‫ي‪ ‬لَ ْعل َ ُم َما أَتَاك ِبهِ ّإل اهللُ‪َ ،‬فالْ َح ْم ُد ِ ّ ِ‬
‫‪ ‬ل ا ّلذِ ي َه َدانِي‬ ‫فو اهلل إ ّن َ‬
‫ِل ْس َل ِم‪،‬‬
‫ل ِْ‬
‫َو َسا َقنِي َه َذا الْ َم َسا َق‪،‬‬
‫ثُ ّم َشهِ َد َش َها َدةَ الْ َحقّ ‪.‬‬
‫هلل ‪َ :‬ف ّق ُهوا أَ َخا ُك ْم فى دينه وأقرئوه القرآن‪،‬‬
‫َف َقا َل َر ُسو ُل ا ِ‬
‫وأطلقوا له أسيره‪،‬‬
‫ففعلوا‪...‬‬
‫ور اهللِ‪،‬‬ ‫اه ًدا َعلَى ْ‬
‫إطفَاءِ نُ ِ‬ ‫ثُ ّم َقا َل‪ :‬يَا َر ُسو َل اهللِ‪ ،‬إ ّني ُكنْت َج ِ‬
‫هلل َع ّز َو َج ّل‪،‬‬‫َشدِ ي َد ْالَ َذى ِل َم ْن َكا َن َعلَى دِ ينِ ا ِ‬
‫َوأَنَا أ ُ ِح ّب أَ ْن تَ ْأ َذ َن لِي‪َ ،‬ف َأ ْق َد َم َم ّك َة‪َ ،‬ف َأ ْد ُعو ُه ْم إلَى ا ِ‬
‫هلل تَ َعالَى‪،‬‬
‫ال ْس َل ِم‪،‬‬
‫َو ِإلَى َر ُسولِهِ ‪َ ،‬و ِإلَى ْ ِ‬
‫اهلل يهديهم‪ ،‬وإال آذيتهم فى دينهم‬ ‫لَع ّل َ‬
‫َ‬
‫كما ُكنْت أُوذِ ي أَ ْ‬
‫ص َحابَك فِ ي دِ ينِهِ ْم؟‬
‫َقا َل‪َ :‬ف َأذِ َن له رسول اهلل ‪ ،‬فلحق بمكة‪.‬‬
‫وكان صفوان ابن أ ُ َم ّي َة ِحي َن َخ َر َج ُع َميْ ُر بْ ُن َو ْه ٍب‪ ،‬يَقُو ُل‪:‬‬

‫‪297‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أَبْ ِش ُروا ِب َو ْق َع ٍة تَ ْأتِي ُك ْم ْال َن فِ ي أَ ّي ٍام‪ ،‬تُن ِْسي ُك ْم َو ْق َع َة بَ ْد ٍر‪،‬‬


‫ص ْف َوا ُن يَ ْس َأ ُل َعنْ ُه ال ّر ْك َبانَ‪َ ،‬حتّى َقدِ َم َراكِ ٌب َف َأخْ َب َرهُ‬ ‫َو َكا َن َ‬
‫إس َلمِ هِ ‪،‬‬
‫َع ْن ْ‬
‫‪ ‬ل يُ َكلّ َم ُه أَبَ ًدا‪َ ،‬و َل يَنْ َف َع ُه ِبنَف ِْع أَبَ ًدا‪.‬‬ ‫َف َحل َ َف أَ ْن َ‬
‫ال ْس َل ِم‪،‬‬ ‫َفل َ ّما َقدِ َم ُع َميْ ٌر َم ّك َة‪ ،‬أَ َقا َم ِب َها يَ ْد ُعو إلَى ْ ِ‬
‫َويُؤْذِ ي َم ْن َخالَ َف ُه أَ ًذى َشدِ ي ًدا‪،‬‬
‫َف َأ ْسل َ َم َعلَى يديه ناس كثير!‬
‫وبالعودة إلى القصة التي بين أيدينا‪،‬‬
‫ألن اهلل ُسبحانه‬
‫ّبي  لم يعلم بما وقع من الحارث‪َّ ،‬‬ ‫فإن الن َّ‬ ‫َّ‬
‫لم يُطلعه عليه‪،‬‬
‫النبي !‬
‫ّ‬ ‫وهذا من تمام عظمة اهلل تعالى‪ ،‬ومن تمام بشر ّية‬

‫رس َ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫نظ ْر إلى ه ّمة الحارث العالية في اإلسالم‪،‬‬ ‫اُ ُ‬


‫لحظات ث َّم جع َل من نفسه داعي ًة!‬
‫ٍ‬ ‫أسل َ َم منذ‬
‫حم َل على عاتقه هداية قومه‪،‬‬
‫َّاس فيه‪،‬‬
‫هكذا كانوا‪ ،‬إذا وق ُعوا على الخير أرا ُدوا أن يُشاركهم الن ُ‬
‫يكتف أن يُس ِل َم هو لينجو بنفسه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫لم‬
‫ولم يُقعده أن يكون داعي ًة أنه حديث ٍ‬
‫عهد باإلسالم‪،‬‬
‫كان اإلسالم ُك َّل حياتهم منذ أول لحظات إسالمهم حتى مماتهم‪،‬‬
‫لم ينتظروا أن يتعلموا كثيراً‪،‬‬

‫‪298‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫كانوا يعرفون أن العِ ل َم يأتي مع الوقت‪،‬‬


‫ٍ‬
‫لحظة‪،‬‬ ‫أما العقيدة فإ ّنها تدخل ُسويداء القلب منذ أول‬
‫ولم يكن يُخجلهم أن يتركوا دين قومهم‪،‬‬
‫ولم يكونوا يحفلون بما سيُقال عنهم‪،‬‬
‫كان لهم وجه واحد ولم تكن لهم أقنعة!‬
‫قريب جداً مما حصل مع عمر بن الخطاب فور إسالمه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وهذا‬
‫قريش بإسالمه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لما أسل َم عمر بن الخطاب لم تعلم‬
‫وعمر ال يفع ُل شيئاً في الخفاء‪،‬‬
‫أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ أي ينقل األخبار!‬ ‫فقال‪ُّ :‬‬
‫فقالوا‪ :‬جميل بن معمر الجمحي‪،‬‬
‫أسلمت!‬
‫ُ‬ ‫فذهب إليه عمر وقال له‪ :‬يا جميل إني قد‬ ‫َ‬
‫فما ر َّد عليه جميل كلم ًة‪ ،‬وإ ّنما قام مسرعاً عند الكعبة ونادى‪:‬‬
‫يا معشر قريش إن ابن الخطاب قد صبأ!‬
‫قت رسوله!‬‫وصد ُ‬‫َّ‬ ‫وآمنت باهلل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أسلمت‬
‫ُ‬ ‫كذب‪ ،‬ولكني‬‫فقال عمر‪َ :‬‬
‫وجلس‪،‬‬
‫َ‬ ‫تعب عمر‬ ‫فأخذوا يضربونه ويضربهم‪ ،‬حتى َ‬
‫فقا ُموا عند رأسه فقال لهم‪ :‬افعلوا ما بدا لكم‪،‬‬
‫هلل لو كنَّا ثالثمئة رجل لكنتم تركتموها لنا أو تركناها لكم!‬ ‫فوا ِ‬
‫فبينما هم كذلك جاء العاص بن وائل فقال‪ :‬ما بالكم؟‬
‫إن ابن الخطاب قد صبأ!‬ ‫قالوا‪َّ :‬‬
‫أن بني عدي تُسلم‬ ‫فقال‪ :‬امرؤ اختار ديناً لنفسه‪ ،‬أفتظنُّون َّ‬
‫إليكم صاحبهم؟‬
‫فف َّر َج اهلل عن ُعمر بقول العاص بن وائل وتركوه!‬
‫ال تخجل بالهداية بعد ضالل‪،‬‬

‫‪299‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫َ‬
‫انقطاعك عنه‪،‬‬ ‫هلل َ‬
‫لك بعد‬ ‫رأسك عالياً بوصل ا ِ‬
‫َ‬ ‫وارف ْع‬
‫خرجت في كامل‬
‫ْ‬ ‫لماذا على الفتاة إذا كانت على غير حجاب‬
‫زينتها‪،‬‬
‫وإذا هداها اهلل ستخجل بلباسها المحتشم‪،‬‬
‫من لم يكن يخجل وهو على معصية‪،‬‬
‫فاألولى أن يرفع رأسه عالياً وهو على طاعة!‬
‫ولماذا على الشاب إذا كان الهياً عابثاً‪،‬‬
‫عاش لهوه وعبثه على رؤوس األشهاد‪،‬‬ ‫َ‬
‫ثم إذا ر َّده اهلل إليه سيخجل بسيره إلى المسجد‪،‬‬
‫ومسابقته في حلق العلم وتحفيظ القرآن!‬
‫إن من األبواب التي يأتي بها الشيطان إلى من هداه اهلل في‬ ‫َّ‬
‫أول هدايته‪،‬‬
‫هو أن يقول له‪ :‬أما تخجل من ماضيك؟!‬
‫ماذا سيقول الناس‪ ،‬شارب خمر البارحة وفي المسجد اليوم؟!‬
‫متزينة متعطرة البارحة وفي الحجاب اليوم؟‬
‫تجب ما قبلها‪ ،‬وإن من تمام التوبة أن يُقبل العب ُد على‬
‫ُّ‬ ‫التوبة‬
‫بفخر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الطاعة‬
‫تماماً كما كان في المعصية بفخر!‬
‫ثم إذا جاءك الشيطان من باب ماذا سيقول الناس؟‬
‫فأجبه وكيف كان الصحابة رضوان اهلل عليهم قبل أن تسطع‬
‫شمس الهداية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫في قلوبهم‬
‫شرب الخمر‪ ،‬ومنهم من سج َد لصنم‪،‬‬‫َ‬ ‫منهم من‬
‫ومنهم من أكل الربا‪،‬‬

‫‪300‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ولم يكن أحدهم يخجل أن يتح َّول كل هذا التحول‪،‬‬


‫كان يفاخر أمام قريش كلها‪ ،‬وال يخجل بدينه‪،‬‬
‫يحسب حساباً لتعيير الناس!‬
‫ُ‬ ‫وال‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  إلى الحارث‪ ،‬اته َّم الحارثُ نفسه!‬ ‫ِّ‬ ‫عندما لم يصل مبعوث‬
‫فظن أن سبب عدم‬ ‫َّ‬ ‫يخلف ميعاداً‪،‬‬‫ُ‬ ‫النبي  ال‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫يعرف أن‬ ‫كان‬
‫قدوم موفد منه‪،‬‬
‫بسخطة سخطها اهلل تعالى عليه أو نب ُّيه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قد حدث‬
‫وهذا من فقه المؤمنين أنهم يبحثون في أنفسهم أ ّوالً‪،‬‬
‫مرض راج َع عباداته‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كان المرءُ منهم إذا‬
‫ذنب أصبته!‬ ‫لعل هذا بسبب ٍ‬ ‫وإذا لم ي ُق ْم إلى صالة الليل‪ ،‬قال‪َّ :‬‬
‫اتهام أنفسهم مبلغاً عظيماً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وقد بلغوا في‬
‫حتــى إن أحدهــم إذا لــم تطاوعــه دابتــه علــى المســير‪ ،‬قــال قســاها اهللُ‬
‫َّ‬
‫علـ َّـي بذنبي!‬
‫نفسك أوالً‪،‬‬
‫َ‬ ‫فراج ْع‬ ‫ِ‬ ‫فإذا حدثَ ما ال ت ُِح ُّب‬
‫ذنب أنت مقي ٌم عليه‪،‬‬ ‫أصابك بسبب ٍ‬ ‫َ‬ ‫المرض الذي‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫لعل‬
‫لك أمراً!‬ ‫منك أمراً‪ ،‬ويري ُد َ‬ ‫ابتالك به يري ُد َ‬ ‫َ‬ ‫واهلل قد‬
‫منك أن ترج َع إليه وتتوب‪،‬‬ ‫يري ُد َ‬
‫تحط خطايا المؤمن‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫لك مغفر ًة فإن األوجاع‬ ‫ويري ُد َ‬
‫فراج ْع صدقتك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫رزقك‬ ‫َ‬
‫عليك‬ ‫وإن ض َّي َق‬

‫‪301‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يجلب ال ِّرزق كالصدقة‪،‬‬


‫ُ‬ ‫فال شيء‬
‫وخلَـ ُ‬
‫ـف الكريـ ُم يكــون بأكثــر‬ ‫فــإن اهلل تع َّهــد أن يُخلفهــا علــى صاحبهــا‪َ ،‬‬
‫ممــا بذلــه العبــد!‬
‫َ‬
‫طعامك‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فانظ ْر إلى‬ ‫ُجب َ‬
‫لك دعوةٌ‬ ‫وإن لم ت ْ‬
‫يحجب ال ُّدعاء!‬
‫ُ‬ ‫فإن المال الحرام‬
‫ال قال لعيسى عليه السالم‪ :‬أَ ِ‬
‫وصني‪،‬‬ ‫األثر أن رج ً‬
‫جا َء في ِ‬
‫فقال له‪ :‬ا ُ ُ‬
‫نظ ْر إلى رغيفك من أين هو!‬
‫المعنى‪ :‬اِبحثْ عن الحالل!‬
‫وألن دعوة األنبياء واحدة‪ ،‬وال ِّدين عند اهلل اإلسالم‪،‬‬ ‫َّ‬
‫إن َ‬
‫اهلل ط ِّي ٌب ال يقب ُل إال ط ِّيباً‪،‬‬ ‫النبي صلَّى اهلل عليه وسلَّم‪َّ :‬‬ ‫قال‬
‫ُّ‬
‫وإن اهلل أم َر المؤمنين بما أم َر به المرسلين‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫﴿يا أيُّها الرسل لكوا من الطيبات واعملوا صاحلا﴾‬
‫وقال تعالى‪﴿:‬يا أيُّها اذلين آمنوا لكوا من طيبات ما رزقناكم﴾‪.‬‬
‫ثم ذك َر ال َّر ُج َل يُطيل َّ‬
‫السفر‪ ،‬أشعثَ أغبر‪ ،‬يم ُّد يديه إلى السماء‪:‬‬
‫يا رب يا رب‪ ،‬ومطعمه حرام‪ ،‬ومشربه حرام‪ ،‬وملبسه حرام‪،‬‬
‫ستجاب له!‬
‫ُ‬ ‫و ُغ ِ ّذ َي بالحرام‪ ،‬فأ َّنى يُ‬
‫وقاص قال للنبي ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫أن سع َد بن أبي‬
‫براني في األوسط َّ‬
‫الط ُّ‬‫وروى َّ‬
‫الدعوة‪.‬‬
‫يا رسول اهلل‪ ،‬اد ُع اهلل أن يجعلني ُمستجاب َّ‬
‫َ‬
‫مطعمك ت ُكن ُمستجاب َّ‬
‫الدعوة!‬ ‫فقال له‪ :‬يا سعد‪ ،‬أَ ِط ْب‬
‫يشكو الناس هذه األيام كثيراً أن ال ُّدعاء ال يُستجاب‪،‬‬
‫استهانت بأكل الحرام!‬
‫ْ‬ ‫أن الناس‬
‫وهذا واقع ُمشاهد‪ ،‬سببه َّ‬

‫‪302‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أن المال الحرام يعني أن تسر َق من ِ‬


‫جيب إنســان‬ ‫وإنهم يحسبون َّ‬
‫بعض ماله‪،‬‬
‫وهذا في الحقيقة جزء من المال الحرام ال كله!‬
‫وحدك دون إخوتك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫المِ يراثُ الذي تستأث ُر به‬
‫فرض اهلل لهم ما ٌل حرام!‬ ‫َ‬ ‫أقل مما‬ ‫أو تُعطيهم َّ‬
‫َ‬
‫وحدك‪،‬‬ ‫تموت الزوجة وتتركه وراءها فتأخذه‬ ‫ُ‬ ‫والما ُل الذي‬
‫َ‬
‫وأوالدك ما ٌل حرام!‬ ‫وتحرم منه أهلها‬
‫ال َّرشوة التي تتلقَّاها لتُنجز بها معامالت الناس ما ٌل حرام!‬
‫والوظيفة الشكلية التي ال تحضر إليها وال تعرف منها‬
‫إال راتبها مال حرام!‬
‫والعم ُل الذي ال تُنجزه بحسب المواصفات واالتفاق ما ٌل حرام!‬
‫والبضاعة التي تبيعها وال تُب ِّين عيبها للناس ما ٌل حرام!‬
‫كربك وفي نيتك أن ال ترده‬ ‫َ‬ ‫والدين تأخذه من الناس لتُفرج‬ ‫َّ‬
‫مال حرام!‬
‫تشترك بها ثم تقبضها وتتوقف عن الدفع‬ ‫ُ‬ ‫والجمعية التي‬
‫مال حرام!‬
‫والكماليات والسفرات والمظاهر الفارغة التي تقوم بها‪،‬‬
‫عليك حقوق وللعمال رواتب ال تُؤ ِّديها مال حرام!‬ ‫َ‬ ‫وللناس‬
‫َ‬
‫أفتاك فال ٌن‬ ‫وال ِّربا الذي تأخذه من البنك مال حرام مهما‬
‫وعلتان!‬
‫والتحاي ُل على اهلل ما ٌل حرام!‬
‫نظروا إلى رغيفكم من أين هو‪،‬‬ ‫اُ ُ‬
‫وتأ َّملوا من أين تكسبون أموالكم‪ ،‬وكيف تُنفقونها‪،‬‬
‫ذلك سترون دعاءكم يتح َّق ُق كأ ّنه فلق ُّ‬
‫الصبح!‬ ‫ثم بعد َ‬

‫‪303‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ات أفعالك‪،‬‬ ‫ال تتس َّر ْع في ر َّد ِ‬


‫قيلت حقاً!‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وصلتك قد‬ ‫ليس كل األقوال التي‬
‫حدثت فع ً‬
‫ال!‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫بلغتك قد‬ ‫وليس كل األفعال التي‬
‫ّاس يكذبون أحياناً‪ ،‬ويح ِّرفون األقوال كثيراً‪،‬‬ ‫الن ُ‬
‫شاه ٌد عياناً كم يفتري بعضهم على بعض‪،‬‬ ‫و ُم َ‬
‫وقد كان األوائل يُغلقون األبواب في وجه النَّمامين‪،‬‬
‫فتنة حقاً!‬‫ولو كان ما أوصلوه من ٍ‬
‫قال رج ٌل لألحنف بن قيس‪ :‬أخبرني بعض الثقات‪،‬‬
‫أنك ذكرتني بسوء!‬
‫فقال له األحنف‪ :‬لو كان ثق ًة ما ن َّم!‬
‫الناس أحياناً فيهم نُبل عجيب ال يُدركه اآلخرون!‬ ‫ُ‬
‫روى أبو نُعيم في الحلية‪ ،‬وابن عسكر في تاريخ دمشق‪:‬‬
‫إن عمر بن الخطاب استعم َل على حمص سعيد بن ُحذيم‪،‬‬ ‫َّ‬
‫حمص عن سعيد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ولما جاء عمر إلى الشام‪ ،‬سأل أهل‬
‫فقال‪ :‬يا أهل حمص كيف وجدتم عاملكم؟‬
‫فقالوا‪ :‬نشكو منه أربعاً!‬
‫هي؟‬
‫فقال عمر‪ :‬وما َ‬
‫قالوا‪ :‬ال يخر ُج إلينا حتى يتعالى النهار‪،‬‬
‫يجيب أحداً بليل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وال‬
‫وله يوم في الشهر ال يخرج إلينا فيه أبداً‪،‬‬
‫وتأخذه إغماءة بين الفينة واألخرى!‬

‫‪304‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫فجم َع عمر بينه وبينهم وهو يقول في نفسه‪:‬‬


‫اللهم ال تُض ِّيع فراستي في سعيد!‬
‫ثم قال للناس‪ :‬ما تشكون منه؟‬
‫فقالوا‪ :‬ال يخرج إلينا حتى يتعالى النهار!‬
‫فقال سعيد‪ :‬ليس ألهلي خادم‪ ،‬فأعج ُن لهم‪ ،‬وأنتظ ُر‬
‫حتى يختمر‪،‬‬
‫ثم أخب ُز لهم‪ ،‬وأتوضأ‪ ،‬وأخر ُج للناس!‬
‫يجيب أحداً بليل!‬‫ُ‬ ‫فقالوا‪ :‬ال‬
‫وجعلت الليل هلل‪ ،‬أقو ُم بين يديه فيه!‬ ‫ُ‬ ‫جعلت لهم النهار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقال‪:‬‬
‫فقالوا‪ :‬وله يوم في الشهر ال يخر ُج إلينا فيه أبداً!‬
‫فقال‪ :‬ليس لي خادم يغس ُل ثيابي‪ ،‬وال ثياب أُبدلها‪ ،‬فأغسلها أنا‪،‬‬
‫وأجلس أنتظ ُر حتى تجف‪ ،‬ثم أخرج إليهم في المساء!‬ ‫ُ‬
‫فقالوا‪ :‬وتأخذه إغماءة بين الفينة واألخرى!‬
‫شهدت مصرع خُ بيب األنصاري بمكة‪ ،‬وقد عذبته قريش‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقال‪:‬‬
‫َ‬
‫مكانك؟‬ ‫أتحب أن محمداً‬ ‫ُّ‬ ‫فقالوا‪:‬‬
‫أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً يُشاك‬ ‫هلل ما ُّ‬ ‫فقال‪ :‬وا ِ‬
‫بشوكة!‬
‫تذكرت ذلك اليوم‪ ،‬وتركي نصرته رغم أني على الشرك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فما‬
‫إال أخذتني إغماءة!‬
‫فقال عمر‪ :‬الحم ُد هلل الذي لم يُض ِّيع فراستي في سعيد!‬
‫بعض الناس أنبل مما نعتقِ ُد‪ ،‬ولكننا لألسف نحم ُل ما جهلناه‬ ‫ُ‬
‫الظن‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫على سوء‬
‫الظن وإن كان أحياناً من ُحسن الفطن‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وسوء‬

‫‪305‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫أن الذي ال يرى في الناس خيراً فهو أسوأ الناس!‬ ‫إال َّ‬
‫في قرية ٍ‬
‫نائية كان هناك رسام عجوز‪،‬‬
‫يجني كثيراً من المال من بيع لوحاته الجميلة‪،‬‬
‫وعاب عليه بعض أهل القرية عدم مساعدته للفقراء فيها‪،‬‬ ‫َ‬
‫واتهموه بالبخل!‬
‫مات الرسام العجوز‪،‬‬ ‫ولكنه لم ير َّد عليهم‪ ،‬وعندما َ‬
‫لحا ُم القرية عن توزيع اللحم على الناس بالمجان‪،‬‬ ‫تو َّق َف َّ‬
‫فلما سألوه عن السبب‪،‬‬
‫قال‪ :‬كان الرسام العجوز هو الذي يدفع ثمن اللحم‪،‬‬
‫وال قدرة لي على توزيعه مني!‬
‫إن الذي ال يحم ُل صدقته ويطوف بها على المأل ال يعني أنه ال‬ ‫َّ‬
‫يتصدق!‬
‫ال المصحف ال يعني أنه هاجر للقرآن‪،‬‬ ‫والذي ال يُصور نفسه حام ً‬
‫والذي ال يُصور نفسه حاضناً زوجته ال يعني أنه ال يُحبها!‬
‫هناك أشخاص يغلقون األبواب على أنفسهم‪ ،‬وال يفتحون‬
‫حياتهم على مصراعيها!‬
‫هناك أشخاص يتركون أشياء هلل‪،‬‬
‫يخشون أن يُفسدها اطال ُع الناس عليها‪ ،‬فا ْف َه ْم!‬

‫‪306‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪66‬‬

‫ُ‬ ‫ْ َ ْ َ ُْ َ ْ َ ُ َ ُ‬
‫نت ْم ِلنفسِك ْم﴾‬ ‫﴿إِن أحسنتم أحس‬

‫لك وإن بدا أ ّنها للفقير‪،‬‬ ‫الصدق ُة َ‬ ‫ّ‬


‫َ‬
‫غيرك‪،‬‬ ‫لك وإن أسع َد ْت‬ ‫الحلوة َ‬ ‫والكلم ُة ُ‬
‫لك وإن كان أث ُره على النّاس‪،‬‬ ‫وجب ُر الخواطر ِ‬
‫ف وتمأل دِ َلء اآلخرين‪،‬‬ ‫تغر ُ‬
‫أنت ال ِ‬ ‫َ‬
‫أنت تمأل َدلْ َوك!‬‫في الحقيقة َ‬
‫نفسه‪،‬‬
‫المريض في الحقيقة يعال ُج َ‬ ‫ِ‬ ‫ُمعا ِل ُج‬
‫نفسه‪،‬‬‫ساع على ِ‬ ‫والساعي على األرملةِ والمسكينِ ٍ‬ ‫ّ‬
‫إنسان إ ّنما يمشي في حاجتِهِ ‪،‬‬‫ٍ‬ ‫والماشي في حاجةِ‬
‫ومن ال ُمفارقات العجيبة‪:‬‬
‫أننا لن نخر َج من ال ُّدنيا بما أخذناه وإ ّنما بما أعطيناه!‬

‫‪307‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪67‬‬

‫فارس جيشاً إلى ال ُّروم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بعثَ كسرى ُ‬


‫ملك‬
‫ال يُس َّمى «شهريراز»‬ ‫واستعم َل عليهم رج ً‬
‫فسا َر إليهم‪ ،‬وانتصر عليهم‪ ،‬وخ َّرب مدنهم‪ ،‬وقط َع زيتونهم!‬
‫النبي  وأصحابه بمكة‪ ،‬فشقَّ عليهم ذلك!‬ ‫ُّ‬ ‫وبل َغ َ‬
‫ذلك‬
‫النبي  يكره أن ينتصر المجوس على ال ُّروم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وكان‬
‫مجوس يعبدون النَّار‪،‬‬‫ٌ‬ ‫والفرس‬
‫َ‬ ‫ألن ال ُّرو َم نصارى أه ُل كتاب‪،‬‬ ‫َّ‬
‫قريش بنصر فارس على ال ُّروم ألنهم مثلهم‬ ‫ٍ‬ ‫وفر َح مشركو‬
‫ِ‬
‫ليسوا أهل كتاب‪،‬‬
‫النبي  فقالوا لهم‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫أصحاب‬
‫َ‬ ‫ولقوا‬
‫كتاب والنَّصارى أهل كتاب‪،‬‬ ‫إنكم أهل ٍ‬
‫ونحن أُم ُّيون وقد ظه َر إخواننا من أهل فارس‪ ،‬على إخوانكم‬
‫من أهل ال ُّروم‪،‬‬
‫لنظهرن عليكم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وإنكم إ ْن قاتلتمونا‬
‫وأنــزل اهلل تعالــى قولــه فــي هــذه الحادثــة مخبــراً أن ال ـ ُّروم ســترج ُع‬
‫وتنتصــر‪:‬‬
‫ْ َ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـيغل ُِبون‬ ‫وم ِف أدن ال ْر ِض َوهــم ّمِن َب ْعـ ِد غلب ِ ِهم سـ‬ ‫ـر ُ‬‫ـت الـ ُّ‬ ‫﴿الــم غل َِبـ ِ‬
‫َ‬
‫ـذ َي ْفـ َ‬
‫ـر ُح‬ ‫َْ ُ َََْ‬ ‫َْ ُ َ‬
‫ـر ِمــن قبــل و ِمــن بعــد ويومئِـ ٍ‬ ‫ني ِ َّلِ ْال ْمـ ُ‬ ‫ضــعِ ِس ـن َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِف ب ِ‬
‫ـم﴾‪،‬‬ ‫الرحِيـ ُ‬
‫ـز َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ـو العزيـ ُ‬ ‫ُ‬
‫ـاء َوهـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـر مــن يشـ ُ‬‫َ‬ ‫ال ْ ُم ْؤمِنــون بنــر اللِ يَنـ ُ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فلما نزلت هذه اآليات قال المشركون ألبي بكر‪:‬‬
‫أال ترى إلى ما يقو ُل صاحبك؟‬
‫تغلب فارس!‬ ‫ُ‬ ‫أن ال ُّرو َم‬
‫يزعم َّ‬

‫‪308‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫قال‪ :‬صد َق صاحبي!‬


‫أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟‬
‫ليظهرن ال ُّرو ُم‬
‫َّ‬ ‫فال تفرحوا وال يقر اهلل أعيُنَكم فواهلل‬
‫على فارس‪ ،‬خبرنا بذلك نب ُّينا!‬
‫كذبت!‬
‫َ‬ ‫فقام إليه أبي بن خلف فقال‪:‬‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬أنت أكذب يا عد َّو اهلل!‬
‫وإني أراهنك‪ ،‬عشر قالئص مني وعشر قالئص منك‪،‬‬
‫والقلوص وهي النَّاق ُة َّ‬
‫الشابة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫غرمت‪،‬‬
‫َ‬ ‫فإن ظهرت الروم على فارس‬
‫غرمت إلى ثالث سنين!‬
‫ُ‬ ‫فارس‬
‫ُ‬ ‫وإن ظهرت‬
‫َّبي  فأخبره‪،‬‬
‫الصدي ُق أبو بكر رضي اهلل عنه إلى الن ِّ‬
‫ثم جاء ِّ‬
‫ذكرت‪ ،‬إ ّنما البضع ما بين الثالث إلى التِّسع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فقال له‪ :‬ما هكذا‬
‫الخطر وما َّده في األجل!‬‫فزا ِي ْده في َ‬
‫ندمت؟‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫لعلك‬ ‫فخرج أبو بكر فلقي أُب ًّيا فقال‪:‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬ولكن تعا َل أزيدك في الخطر‪ ،‬وأمادك في األجل‪،‬‬
‫قلوص إلى تسع سنين!‬
‫ٍ‬ ‫فأجعلْها مائة قلوص‪ ،‬بمائة‬
‫فعلت!‬
‫ُ‬ ‫قال‪:‬‬
‫وذلك كلّه قبل تحريم ال ِّرهان‪.‬‬
‫بدأت هجرةُ أصحاب رسول اهلل  إلى المدينة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ول َّما‬
‫أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه‪،‬‬ ‫خشي ُّ‬
‫أخاف أن تخرج من مكة‪ ،‬ف َأقِ ْم كفي ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقال‪ :‬إ ّني‬
‫فكفله ابنُه عبد اهلل‪ ،‬وكان على ال ُكفر يومئذ‪،‬‬

‫‪309‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫حد أتاه‬ ‫أبي بن خلف أن يخر َج إلى أ ُ ٍ‬ ‫فل ّما أراد ُّ‬
‫عبد اهلل بن أبي بكر وقال له‪:‬‬
‫ال فأعطاه كفي ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫ال واهلل ال أد ُع َك تخرج حتى تعطيني كفي ً‬
‫فخر َج إلى أُحد ثم رجع إلى مكة به جرا ٌح‪،‬‬
‫حيث جرحه النبي  حين بارزه يوم أحد فمات منها بم ّكة!‬
‫فغلب أبو بكر أُب ّياً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وانتص َر ال ُّروم على فارس‬
‫وأخذ ال ّرهان من ورثته‪،‬‬
‫فجاء يحمله إلى رسول اهلل ‪،‬‬
‫تصد ْق به!‬ ‫َّ‬ ‫حت‬
‫فقال له رسول اهلل ‪ :‬هذا ُس ٌ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫يعرف ِ‬
‫الحياد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المؤمِ ُن ال‬
‫هامش األحداث‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يعيش في ال ُّدنيا على‬ ‫وال‬
‫للحدث‪،‬‬ ‫فهو ومعه جماعة المؤمنين إ ّما صانع َ‬
‫فكري وعقَدِ ُّي منه!‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫موقف‬ ‫أو على األقل له‬
‫إن الحيا َد هو موقف الفارغين التَّافهين الذين ليس لديهم قضايا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الحيا ُد ال تعرفه الحيوانات حتى!‬ ‫ِ‬
‫الحيوانــات‬
‫ُ‬ ‫الســام فــي النَّــار‪ ،‬ســارعت‬‫حيــن أُلقــي إبراهيــم عليــه ّ‬
‫تُطفئهــا‪،‬‬
‫أمــا الــوز ُغ فــكان ينفــخ فيهــا ليزيدهــا اشــتعاال‪ ،‬وقــد أمرنــا النبـ ُّ‬
‫ـي ‬
‫بقتلــه‪،‬‬

‫‪310‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫هي حيوانات ولها موقف إما مع أو ض ّد!‬


‫النباتات أيضاً!‬
‫ُ‬ ‫والحياد ال تعرفه‬
‫جذع ٍ‬
‫نخلة‪،‬‬ ‫َّاس من على ِ‬ ‫يخطب الن َ‬‫ُ‬ ‫النبي ‬‫ُّ‬ ‫كان‬
‫ترك الجذع وارتقى المنب َر ليخطب‪،‬‬ ‫فلما صن ُعوا له منبراً َ‬ ‫َّ‬
‫شدة َّ‬
‫الشوق‪،‬‬ ‫فحن الجذ ُع إليه‪ ،‬وصدر له أني ٌن من َّ‬ ‫َّ‬
‫النبي  وحضنه حتى سك َن أنينه!‬ ‫ُّ‬ ‫فنزل‬
‫إن الغرقد من شجر يهود!‬ ‫وفي الحديث‪َّ :‬‬
‫وأ َّنــه فــي آخــر الزَّمــان حيــن يقتتــ ُل المســلمون واليهــود فيقتُلُهــم‬
‫المســلمون‪،‬‬
‫فيختب ُئ اليهودي وراء الحجر والشجر‪،‬‬
‫يهودي‬
‫ٌّ‬ ‫والشج ُر‪ :‬يا مسلم يا عبد اهلل هذا‬ ‫فينادي الحج ُر َّ‬
‫ورائي تعال فاقتله‪،‬‬
‫إال الغرقد فال يُنادي فإ َّنه من شجرهم!‬
‫هي نباتات ولها موقف مع أو ضد!‬
‫والحياد ال تعرفه الجمادات أيضاً!‬
‫في الحديث‪ :‬أ ُ ُح ٌد جب ٌل يُحبنا ونُحبهُّ!‬
‫ألعرف حجراً في مكة كان يُسلِّم‬ ‫َ‬ ‫وفي الحديث أيضاً‪ :‬إ ّني‬
‫علي بالنبوة!‬ ‫َّ‬
‫لها موقف وهي حجارة‪،‬‬
‫يأتيك إنسان له عق ٌل وفك ٌر وضمي ٌر ويقول لك‪ :‬أنا على الحياد!‬ ‫َ‬ ‫ثم‬

‫‪311‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫يقف مع الحقِّ دائماً‪،‬‬ ‫المؤم ُن ُ‬


‫ـف معــه بقلبــه‬ ‫ـف معــه بجســده وعملــه وســعيه ومالــه‪ ،‬وقـ َ‬ ‫فــإ ْن لــم يقِ ـ ْ‬
‫ودعائــه!‬
‫الصراع بين باطلين‪ ،‬فإ َّنه يقف مع أقربهما إلى الحقِّ !‬ ‫فإن كان ِّ‬
‫بالضرورة‪،‬‬ ‫الصراع َّ‬ ‫ووقوفه ال يعني مشاركته في ِّ‬
‫موقف ورأي!‬ ‫ٍ‬ ‫وإ ّنما قد يكون وقوف‬
‫فالصــرا ُع فــي أ ّول البعثــة كان بيــن ال ُفــرس والـ ُّروم‪ ،‬وكالهمــا كان علــى‬ ‫ِّ‬
‫باطل ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫لذلك‪،‬‬ ‫حز َن المسلمون‬ ‫الفرس ال ُّرو َم ِ‬
‫ُ‬ ‫وعندما هز َم‬
‫فقد كانوا يُح ُّبون أن ينتص َر ال ُّروم‪،‬‬
‫بب أن الفرس أمة وثنية تعب ُد النار‪،‬‬ ‫والس ُ‬ ‫َّ‬
‫أ ّما ال ُّروم على انحرافهم فهم أهل كتاب!‬
‫ـرس والـ ُّروم وهزموهــم‬ ‫ثــم لمــا صــار لإلســام دولــة وجيــش‪ ،‬قاتلــوا الفـ َ‬
‫وأزالــوا ملكهم!‬
‫فإن الوقوف ولو بالعاطفة مع أقرب الفريقين إلى الحقِّ ‪،‬‬ ‫لهذا َّ‬
‫ال يعني تب ِّني هذا الباطل على ما فيه من ُق ْر ٍب إلى الحقِّ ‪،‬‬
‫إن الباط َل هو الباطل وال اس َم آخر له‪،‬‬ ‫ففي نهاية المطاف َّ‬
‫وقض َّي ُة المؤمن هي قضية الحقِّ الخالص الذي ال باطل فيه!‬

‫‪312‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫نحن أ ُ َّمة الغيب‪،‬‬


‫نُؤمن بما أوجبَه علينا ربُّنا اإليمان به‪،‬‬
‫ولو استحا َل علينا التَّحق َق منه لمحدود َّيةِ أفكارنا‪،‬‬
‫النبــي ‪ ،‬وإن كانــت كل علومنــا التجريبيــة‬ ‫ُّ‬ ‫صــح عــن‬
‫َّ‬ ‫ونُؤمــن بمــا‬
‫تقــف عاجــزة عــن تأكيــده‪،‬‬
‫وال إيمان دون إيمانِ الغيب!‬
‫نحن نؤم ُن بسؤال الملكين في القبر‪،‬‬
‫ميت من قبره ليخبرنا أنه قد ُس ِئ َل!‬ ‫وإ ْن لم يخر ْج علينا ٌ‬
‫وأن في البرزخ حياة أخرى‪،‬‬ ‫القبر وعذابه َّ‬ ‫ِ‬ ‫بنعيم‬
‫ِ‬ ‫ونؤم ُن‬
‫وإ ْن لــم يخــر ْج مــن المقبــرة مؤمـ ٌن ليخبرنــا أ َّنــه فــي روضـ ٍـة مــن ريــاض‬
‫الجنَّة‪،‬‬
‫وإ ْن لم يخر ْج كاف ٌر ليخبرنا أ َّنه في ُحفرة من حفر النار!‬
‫َّاس من قبورهم إلى ر ِّبهم‪،‬‬ ‫والبعث وقيام الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ونؤم ُن بالنُّشور‬
‫وإ ْن لم يحص ْل هذا بعد‪ ،‬ولكنَّه سيحصل!‬
‫وضح النَّهار!‬ ‫ِ‬ ‫مس في‬ ‫بالش ِ‬‫نرتاب َّ‬ ‫ُ‬ ‫نؤم ُن بهذا يقيناً كما ال‬
‫وأن ك ّل إنسانِ سيقف بين يدي ر ِّبه‪،‬‬ ‫ونؤم ُن بالحساب وهو غيب‪ّ ،‬‬
‫فيكلِّ ُمه وليس بينه وبينه ترجمان!‬
‫بالصــراط فــوق جه َّنــم وهــو غيــب‪ ،‬نوقـ ُن أ ّنــه أرفـ ُع مــن الشــعرة‬ ‫ونؤمـ ُن ِّ‬
‫الســيف‪،‬‬‫وأحـ ُّد مــن َّ‬
‫وأن المؤمن سيجتازه إلى الجنة برحمة اهلل‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وأن الكافر سيقع عنه إلى النَّار بسوء عمله وعدل ر ِّبنا!‬ ‫َّ‬

‫‪313‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ونؤمـ ُن بالج ّنــة وهــي غيــب‪ ،‬نؤمــن بأنهارهــا وثمارهــا‪ ،‬وتفــاوت النـ َّاس‬
‫فيهــا بحســب أعمالهــم‪،‬‬
‫تب ومنازل‪،‬‬‫ونؤم ُن بالن َِّار وهي غيب‪ ،‬وأ ّنها أيضاً ُر ٌ‬
‫وأن أهــون أهلهــا عذابـاً رجــل تُوضــع أقدامــه فــي ضحضـ ٍ‬
‫ـاح مــن نــار‪،‬‬ ‫َّ‬
‫فيغلــي منهمــا دماغــه!‬
‫ونؤم ُن بالمالئكة ولم نرهم‪،‬‬
‫بالجن وإن لم تدركهم أبصارنا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ونؤمن‬
‫دين يحتر ُم العقل ويُبجله ويد ُعو إلى استخدامه‪،‬‬ ‫نحن أهل ٍ‬
‫ولكنّه ينهى عن عبادة العقل بأن يصبح إلهاً في نفسه!‬
‫مــا اســتطاع إدراكــه كان حقـاً‪ ،‬ومــا عجــز عــن فهمه ومشــاهدته كان باط ً‬
‫ال‪،‬‬
‫العق ُل محدود‪ ،‬محدو ٌد جداً‪،‬‬
‫فشاس ٌع‪ ،‬لهذا كان القلب موض ُع اإليمان ومنزله!‬ ‫ِ‬ ‫أ ّما اإليمان‬
‫بكر كيف راه َن على انتصار ال ُّروم بعد هزيمتهم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وانظ ْر ألبي ٍ‬
‫فما دام هذا الغيب قد جاء في القرآن فهو واق ٌع ال محالة!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الشريع ُة رحبَ ٌة واسعة‪ ،‬والمؤم ُن ال يخوض غمارها وحده‪،‬‬


‫هذه َّ‬
‫ث ّمة ناسخ ومنسوخ‪ ،‬وأحكام قد ُعمِ َل فيها فترة‪،‬‬
‫ثم آن الحقاً أوان تحريمها‪،‬‬
‫وقــد بيـ َّـن العلمــاء والفقهــاء كل هــذا ليســهل علــى المؤمــن عبــادة ر ّبــه‬
‫علــى ب ّينــة‪،‬‬

‫‪314‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يض ُّل ويُ ِض ّ ُل غي َره!‬ ‫فسر ويفتي فإنه ِ‬ ‫أما من قام بجهله يُ ِّ‬
‫َ‬
‫الصلةَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫آم ُنــوا ل تق َر ُبــوا َّ‬ ‫ـن َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫فمــن قــرأ قــول اهلل تعالــى‪﴿ :‬يَــا أ ُّي َهــا الِيـ َ‬
‫ٰ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ ْ ُ َ‬
‫وأنتم ســارى﴾‬
‫وأراد أن يفســره علــى ظاهــره معتمــداً علــى فهمــه‪ ،‬فإ ّنــه سيشــرب‬
‫الصلــوات‪،‬‬ ‫الخمــر بيــن َّ‬
‫السكر!‬
‫ثم سيصلي حين يزول عنه أثر ُّ‬
‫ـت فــي المصحــف لهــا ُحكــم ال ِّتــاوة‬ ‫وهــذه آيــة منســوخة باألســاس‪ ،‬بقيَـ ْ‬
‫ال ُحكم التَّشــريع!‬
‫الحمــر األهليــة كانــا حــاالً ردحــاً مــن‬ ‫فــإن المتعــة‪ ،‬ولحــم ُ‬ ‫وكذلــك ّ‬
‫الزَّمــن‪،‬‬
‫النبي  يوم خيبر!‬ ‫ُّ‬ ‫وقد ح ّرمهما‬
‫وهذه القصة التي بين أيدينا ال يُستدل بها على حالل ال ِّرهان‪،‬‬
‫فقــد كان فــي مكــة حــاالً ولــم يُ َّحــرم بعــد‪ ،‬وإنمــا ُح ـ ِّرم فــي المدينــة‬
‫المنــورة‪،‬‬
‫النبي  لم يعترض على رهان أبي بكر في مكة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فإن‬
‫لهذا َّ‬
‫بل وأعطاه نصيحة فيه!‬
‫ولكــن لمــا فــاز فــي الرهــان وهــو فــي المدينــة‪ ،‬أمــره أال يأخــذ هــذا‬
‫المــال ألنــه ُســحت!‬
‫ـص‬‫وبعــد هــذا ال يحــقُّ لمســلم أن يبحــث عــن الحــال والحــرام فــي نـ ٍّ‬
‫واحــد‪،‬‬
‫معزل عن النُّصوص التي تتعل ُق به‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫َّص باألساس منسوخاً ُ‬
‫وبط َل العمل به‪،‬‬ ‫فلربما كان هذا الن ُ‬
‫ث ّمة شيءٌ في ّ‬
‫الشريعة اسمه الت ّدرج في التشريع‪،‬‬

‫‪315‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫مرحلة هي صالحة في وقتها‪ ،‬وال شيء على من‬ ‫ٍ‬ ‫وك ُّل‬
‫فعل هذا في وقته‪،‬‬
‫الحكم‬
‫وأزالت هذا ُ‬
‫ْ‬ ‫ولكن مرحل َة الحقة أتت بعد ذلك‬
‫وأرست غيره‪،‬‬
‫ْ‬
‫بأي شكل العمل بمنسوخ‪ ،‬وال عذر للمسلم بجهلِه‪،‬‬ ‫فال يجو ُز ِّ‬
‫اكتملت‪ ،‬والفقهاء ب َّينُوا‪ ،‬والعلماء ش َر ُحوا‪،‬‬
‫ْ‬ ‫أن الشريعة‬‫إذ َّ‬
‫وال ُّدعاة َ‬
‫أوض ُحوا!‬

‫‪316‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪68‬‬

‫ََْ ْ َ َ َ ً‬ ‫َ ُ ُّ‬
‫امةِ ف ْردا﴾‬ ‫﴿وك ُه ْم آتِيهِ يوم القِي‬

‫َّاس‪،‬‬‫ازدحمت حيات َُك بالن ِ‬ ‫ْ‬ ‫مهما‬


‫أن ال ِّرحلة فرد َّية‪،‬‬ ‫تنس َّ‬
‫ال َ‬
‫ملك الموت ستراهُ وح َد َك‪،‬‬ ‫عليك ُ‬ ‫َ‬ ‫حين يدخ ُل‬
‫وحين تُح َم ُل في التابوت ستكون وح َد َك‪،‬‬
‫ستوض ُع وح َد َك‪،‬‬
‫َ‬ ‫القبر‬
‫ِ‬ ‫وحين ت َ‬
‫ُوض ُع في‬
‫وحين تُس َأ ُل ستُسأ ُل وح َد َك‪،‬‬
‫وحين تُبعثُ ستُبعثُ وح َد َك‪،‬‬
‫هلل وح َد َك‪،‬‬
‫ستقف بين يدي ا ِ‬ ‫ُ‬ ‫للحساب‬
‫ِ‬ ‫وعندما يحي ُن وقت َُك‬
‫المحشر ستقول‪ :‬نَفسي‪ ،‬نفسي!‬ ‫ِ‬ ‫حتى في زحمةِ‬
‫فاتقِ اهلل في نفسك!‬

‫‪317‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪69‬‬

‫اليهودي شيخاً كبيراً في ِّ‬


‫السن‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كان «شاس بن قيس»‬
‫شديد الكراهية للمسلمين‪ ،‬شديد الحسد لهم‪،‬‬
‫النبي  من األوس والخزرج‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫نفر من أصحاب‬
‫فم َّر على ٍ‬
‫مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫فاغتاظ لما رأى من اجتماعهم وألفتهم‪ ،‬وصالح ذات بينهم‪،‬‬
‫بعد كل ما كان بينهم في الجاهل َّية من العداوة‪،‬‬
‫سكن في المدينة!‬ ‫هلل إن اجتمعوا فما لنا من ٍ‬ ‫فقال في نفسه‪ :‬وا ِ‬
‫فأم َر شاباً من اليهود كان معه‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫بعاث الذي اقتتلوا فيه‪،‬‬‫فاجلس معهم‪ ،‬ثم ذ ِّكرهم يوم ٍ‬ ‫ْ‬ ‫اِع َم ْد إليهم‪،‬‬
‫وأنش ْدهم بعض ما كانوا تقا َولُوا فيه من األشعار‪،‬‬ ‫ِ‬
‫طلب منه «شاس» أن يفعله‪،‬‬ ‫اليهودي ما َ‬
‫ُّ‬ ‫الشاب‬ ‫ففع َل َّ‬
‫تواثب رجالن منهما‪،‬‬
‫َ‬ ‫فتنازع األوس والخزرج‪ ،‬وتفاخروا‪ ،‬حتى‬
‫هلل رددتها اآلن جذعاً‪،‬‬
‫شئت وا ِ‬
‫ُ‬ ‫وقال أحدهما لصاحبه‪ :‬إن‬
‫الحرب بيننا كما كانت قديماً‪،‬‬
‫َ‬ ‫أي أستطي ُع أن أُشع َل‬
‫الســاح‪ ،‬موعدكــم فــي مــكان‬ ‫الســاح ِّ‬
‫فقــال لــه صاحبــه‪ :‬قــد فعلنــا‪ِّ ،‬‬
‫كــذا‪،‬‬
‫األوس والخزر ُج كما كانوا في الجاهلية‪،‬‬‫ُ‬ ‫فخرجوا إليها‪ ،‬وتقابل‬
‫النبي  فخر َج إليهم فيمن معه من المهاجرين‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فبل َغ ذلك‬
‫حتــى جاءهــم فقــال‪ :‬يــا معشــر المســلمين‪ ،‬أبدعــوى الجاهل َّيــةِ وأنــا‬
‫بيــن أظهركــم؟!‬
‫بعد أن أكرمكم اهلل باإلسالم‪ ،‬وقط َع عنكم أمر الجاهلية‪،‬‬

‫‪318‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وأ َّل َف بينكم‪ ،‬فترجعون إلى ما كنتم عليه كفَّاراً‪ ،‬اهلل اهلل!‬
‫األوس والخزر ُج أنها نزعة شيطان‪ ،‬وكيد من عد ِّوهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فعرف‬
‫السالح من أيديهم وبكوا‪ ،‬وعانق بعضهم بعضاً‪،‬‬ ‫فألقوا ِّ‬
‫ثم انصرفوا مع النبي  سامعين مطيعين‪،‬‬
‫ُ ُ َ ً‬ ‫ُ‬
‫آمنــوا إِن ت ِطيعــوا ف ِريقــا‬ ‫ـن َ‬ ‫فأنــزل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬يَــا َأ ُّي َهــا َّالِيـ َ‬
‫ـم َكف ِريـ َ‬ ‫ْ َ َ َ ُ ُّ ُ َ ْ َ َ ُ‬
‫ِكـ ْ‬ ‫ّ َ َّ َ ُ ُ‬
‫ـن﴾‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫يم‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ـد‬‫ـ‬ ‫ع‬‫ب‬ ‫ـم‬
‫ـ‬ ‫وك‬ ‫د‬ ‫ر‬‫ي‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫ِت‬
‫ك‬ ‫ال‬ ‫ـوا‬
‫ـ‬ ‫ِمــن الِيــن أوت‬

‫الدرس األول‪:‬‬
‫َّ‬

‫عصر‪ ،‬ال يتغ ّيرون وال يتبدلون‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫هؤالء هم اليهود في كل‬
‫قتلة األنبياء‪ ،‬و ُمك ِّذبو ال ُّرسل‪ ،‬و ُمشعلو الفتن!‬
‫ح َّرفوا التوراة‪ ،‬وجادلوا اهلل تعالى في أمر بقرة!‬
‫شقَّ لهم موسى عليه السالم البحر بعصاه‪،‬‬
‫وعبر بهم من ِضف ٍَّة إلى أخرى سالمين‪،‬‬
‫الضفةِ األخرى قوماً يعبدون أصناماً‪،‬‬ ‫فلما رأوا على ِّ‬
‫سألوا موسى عليه السالم أن يجعل لهم آله ًة كما لهؤالء القوم‪،‬‬
‫يبس عبروها!‬ ‫طريق ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تجف أقدامهم بعد من‬ ‫َّ‬ ‫جحدوا ر َّبهم ولم‬
‫النبي  مكتوباً في توراتهم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كان اس ُم‬
‫وكانوا يعرفون أوصافه كما يعرفون أبناءهم‪،‬‬
‫فلما لم يكن منهم كفروا به جحوداً وحسداً وحقداً‪،‬‬
‫نقضوا عهودهم معه وهو أوفى النَّاس‪،‬‬
‫السم في كتف الشاة في أحقر محاولة اغتيال‪،‬‬ ‫دسوا له ُّ‬
‫ُّ‬

‫‪319‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وما زال الصراع هو هو‪ ،‬تغ َّي َر المحاربون فقط!‬


‫كذبوا األنبياء لن يص ِّدقوكم فال تُحاولوا‪،‬‬ ‫الذين َّ‬
‫والذين نقضوا العهود مع نبيكم  لن يوفوا لكم‪،‬‬
‫بسل ْ ِم الذئب مع الحمل‪،‬‬
‫هش هو أشبه ِ‬ ‫فال تلهثوا وراء ِسل ْ ٍم ٍّ‬
‫ئاب عن لحوم الخراف فلن يتوبوا هم عن لحومنا!‬ ‫وإن تابت ال ِّذ ُ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أبدعوى الجاهل َّيةِ وأنا بين أظهركم؟!‬


‫ليست زماناً وال مكاناً‪ ،‬الجاهل َّي ُة فكرة!‬
‫ْ‬ ‫الجاهل َّي ُة‬
‫الشريعة هي جاهلية‪،‬‬ ‫وكل دعوة تُعارض َّ‬
‫ِغض النّظر ع َّمن أطلقها‪ ،‬ولمن أطلقها‪ ،‬وأين أطلقها!‬ ‫ب ِّ‬
‫حرمان المرأة من الميراث جاهل ّية‪،‬‬
‫ترغب فيه جاهل ّية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وإجبارها على الزَّوج الذي ال‬
‫وتفضيــل األوالد ال ُّذكــور عليهــا فــي العطــاء والتَّعليــم والمعاملــة‬
‫جاهل ّيــة‪،‬‬
‫واعتبــار اإلنســان نفســه أفضــل وأرقــى مــن اآلخريــن بســبب نســبه‬
‫جاهل ّيــة!‬
‫واحتقار البسطاء والمساكين جاهل ّية‪،‬‬
‫باطل جاهل ّية‪،‬‬
‫والصديق وهو على ٍ‬‫َّ‬ ‫والوقوف مع األخ‬
‫وصب الزيت على النار في خالف المسلمين جاهل ّية‪،‬‬
‫ُّ‬
‫َّ‬
‫والشماتة بمصائب المسلمين جاهل ّية‪،‬‬

‫‪320‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وأخذ وظائف اآلخرين وحقوقهم بالواسطة جاهل ّية‪،‬‬


‫ُّ‬
‫والحط من أعراض العفيفات جاهل ّية‪،‬‬
‫الشرع جاهل ّية‪،‬‬‫والتمسك بالعادات البالية التي تُعارض َّ‬ ‫ُّ‬
‫ور ُّد حكم الشرع بالهوى جاهل ّية‪،‬‬
‫الفــة َّ‬
‫للشــرع‬ ‫نفــس المــرءِ مــن أفــكار وســلوك ُم َخ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وبمقــدار مــا فــي‬
‫يكــون فيــه مــن الجاهل ّيــة!‬
‫رباح رضي اهلل عنه بأ ّمه‪،‬‬ ‫ع َّي َر أبو ذ ٍّر رضي اهلل عنه بال َل بن ٍ‬
‫عابر‪ :‬يا ابن السوداء!‬ ‫خالف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فقال له لحظة‬
‫النبي ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فشكاه بال ٌل إلى‬
‫فيك جاهلية!‬‫النبي ‪ :‬يا أبا ذر‪ ،‬إنك امرؤ َ‬ ‫ُّ‬ ‫فقال له‬
‫هذا وأبو ذ ٍّر سيدنا‪ ،‬وصاحب نب ِّينا ‪،‬‬
‫النبي  خير منَّا‪،‬‬‫ِّ‬ ‫وغبار على حذائه في غزواته مع‬
‫ا عليــه أن يحــذر أن يُلـ ِّوث هــذا الفضــل‬ ‫لهــذا مهمــا كان المــرءُ فاضـ ً‬
‫بشــيءٍ مــن الجاهل ّيــة!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫اِح َذ ْر ُر َس َل إبليس!‬
‫هؤالء الذين يسعون بالفتنة بين النَّاس‪،‬‬
‫الذين إذا رأوا عائلة مجتمع ًة حاولوا تفكيكها‪،‬‬
‫وإذا رأوا بيتاً سعيداً حاولوا هدمه‪،‬‬
‫رضوا!‬
‫وإذا رأوا زوجين سعيدين َم ُ‬

‫‪321‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫قسوا قلبه على امرأته‬ ‫وإذا رأوا زوجاً حنوناً ُّ‬


‫الشخص َّية‪،‬‬ ‫بحجةِ ضعف َّ‬ ‫َّ‬
‫بحجة التَّبعية العمياء‪،‬‬ ‫وإذا رأوا زوج ًة مطيع ًة أفسدوها على زوجها َّ‬
‫بالضعف‪،‬‬ ‫وإذا رأوا ولداً باراً اتهموه َّ‬
‫بالسذاجة والبساطة!‬ ‫وإذا رأوا امرأ ًة ملتزمة اتهموها َّ‬
‫أغ ِل ْق في وجوههم األبواب وال تستمِ ْع إليهم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حاقد‪،‬‬ ‫ال ت ُكن ألعوبة في يد‬
‫وال ت ُك ْن أُضحوكة في يد ِ‬
‫حاس ٍد‪،‬‬
‫جا َء رج ٌل إلى وهب بن ُمنبه وقال له‪:‬‬
‫ُالن وهو يشت َ‬
‫ُمك!‬ ‫مررت بف ٍ‬ ‫ُ‬ ‫إني‬
‫وهب‪ ،‬وقال لل َّرجل‪ :‬أما وج َد الشيطا ُن رسوالً غيرك!‬ ‫ٌ‬ ‫فغضب‬
‫َ‬
‫أذنك لهؤالء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ال تُعِ ْر‬
‫َ‬
‫عليك!‬ ‫لك ن َّم‬‫عندك قاعدة‪ :‬من ن َّم َ‬ ‫َ‬ ‫وخذها‬
‫اغتابك أمام غيرك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أمامك‬ ‫َّاس‬
‫اغتاب الن َ‬ ‫َ‬ ‫ومن‬
‫األخالق ال تتجزأ‪ ،‬ال تتجزأ أبداً!‬
‫رجل قال فيه شيئاً!‬ ‫جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز يخبره عن ٍ‬
‫َ‬
‫أمرك‪،‬‬ ‫شئت نظرنا في‬ ‫َ‬ ‫فقال له عمر‪ :‬إن‬
‫ــم فاس ٌ‬‫َ‬ ‫ك ْ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ِــق‬ ‫ـت مــن أهــل هــذه اآليــة‪﴿ :‬إِن جاء‬ ‫ـت كاذب ـاً فأنـ َ‬ ‫فــإن كنـ َ‬
‫ََ َ‬
‫ـإ ف َتبَ َّي ُنــوا﴾‬ ‫بِنبـ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ َّ َّ َّ‬
‫يم﴾‬ ‫از مشا ٍء بِن ِم ٍ‬ ‫فأنت من أهل هذه اآلية‪﴿ :‬هم ٍ‬ ‫َ‬ ‫كنت صادقاً‬ ‫وإن َ‬
‫شئت عفونا عنك!‬
‫َ‬ ‫وإن‬
‫فقال الرجل‪ :‬العفو يا أمير المؤمنين!‬

‫‪322‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫نظ ْر لجمال العبارة في الحديث‪:‬‬ ‫اُ ُ‬


‫فعرف األوس والخزرج أنها نزعة شيطان!‬ ‫َ‬
‫تق ُع الخالفات بين النَّاس دوماً‪ ،‬نحن بش ٌر نهاية المطاف‪،‬‬
‫ولكن المؤمن يعو ُد إلى أخالقه وأصله ودينه سريعاً‪،‬‬
‫ويذهب بعيداً في العداوة!‬ ‫ُ‬ ‫أ ّما الفاجر فيتمادى‬
‫فرض ولو أخطآ!‬ ‫ٌ‬ ‫أبواك فتذكر سريعاً أن ب َّرهما‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أغضبك‬ ‫ربما‬
‫أيختص ُم ال َّرج ُل مع والديه؟‬‫ِ‬ ‫البصري‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫وقد ُس ِئ َل الحس ُن‬
‫فقال‪ :‬وال مع أحذيتهما!‬
‫ـك خــاف‪ ،‬وهــذا أمــر طبيعــي‪ ،‬ولكنهــا‬ ‫ـك وبيــن زوجتـ َ‬ ‫وربمــا وقــع بينـ َ‬
‫حبيبتــك وعرضـ َ‬
‫ـك‪،‬‬
‫ووص ّية نب ِّيك ‪ :‬استوصوا بال ِّنساء خيراً!‬
‫زوجك‪ ،‬هذا شأن البيوت دوماً‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بينك وبين‬ ‫وربما وقع خالف ِ‬
‫ِ‬
‫ونارك!‬ ‫ولدك‪ ،‬وهو جنت ُِك‬ ‫ِ‬ ‫ولكنه حبيبُ ِك‪ ،‬وأبو‬
‫بينك وبين إخوتك‪ ،‬تحصل هذه األمور أحياناً‪،‬‬ ‫وربما وقع خالف َ‬
‫مرت بوصلها‪،‬‬ ‫رحمك وقد أ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ولكنهم‬
‫فإلى متى تنتظر‪ ،‬إلى أن يموت فتقف لتتق َب َل العزاء فيه‪،‬‬
‫ستعرف لحظة الموت أن ك ّل الخالفات تافهة!‬ ‫ُ‬
‫ش بيننا‪،‬‬ ‫عم ُل الشيطان أن يُح ِّر َ‬
‫ّيت على النَّار‪،‬‬
‫ويصب الز َ‬
‫َّ‬ ‫وأن يوقد نار الخالفات‪،‬‬
‫فال تكن وسيلته وأداته واُلعوبته‪،‬‬
‫أسوأ ما يحمله اإلنسان هو الحقد‪،‬‬
‫فس ُد حياته هو!‬‫فس ُد حياة اآلخرين بقدر ما يُ ِ‬ ‫ألنه ال يُ ِ‬

‫‪323‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪70‬‬

‫َ َّ َّ َ َ ّ‬
‫ع َر ِب َس َي ْهدِينِ﴾‬‫﴿ك إِن م ِ‬

‫قليل سيشقُّ‬ ‫يعرف أ ّنه ع ّما ٍ‬ ‫ُ‬ ‫لم ي ُك ْن موسى عليه ّ‬


‫السالم‬
‫البح َر بعصاه‪،‬‬
‫كان فقط واثقاً َّ‬
‫بأن اهلل لن يتر َكه!‬
‫بالطريقةِ التي سيأتي بها ال َف َر ُج‪،‬‬ ‫ال تنشغِ ْل كثيراً َّ‬
‫ولكن انشغِ ْل كيف تُرضي الذي بيده ال َف َرج‪،‬‬
‫يعرف أن النّار ستكون برداً وسالماً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫السالم لم يكن‬ ‫إبراهي ُم عليه ّ‬
‫ولكنّه وهو في كفّةِ المنجنيقِ كان ممتلئاً باليقينِ باهلل!‬
‫أن الطوفا َن سيكون هائ ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫يعرف َّ‬ ‫ُ‬ ‫السالم لم يكن‬ ‫ونو ٌح عليه ّ‬
‫السفينة طاع ًة وامتثاالً!‬ ‫ولكنَّه بنى َّ‬
‫السجن ب ُرؤيا‪،‬‬‫يعرف أ ّنه سيخر ُج من ّ‬ ‫ُ‬ ‫السالم لم يكن‬ ‫ُ‬
‫ويوسف عليه ّ‬
‫السجن من المحسنين!‬ ‫ولكنّه كان في ّ‬
‫ل َي ُكن ه ُّم َك كيف ترضي اهلل فقط‪،‬‬
‫فليس من شأنِك أن تراها‪،‬‬‫َ‬ ‫أ ّما خطوات ال َف َر ِج‬
‫يا صاحبي‪ :‬ي ُد اهلل تعم ُل في الخفاء!‬

‫‪324‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪71‬‬

‫كان أه ُل المدينة في الجاهل َّيةِ ‪ ،‬وفي أ ّول اإلسالم‪،‬‬


‫مات الرجل وله امرأة‪ ،‬جاء ابنه من غيرها‪ ،‬فألقى ثوبه عليها‪،‬‬ ‫إذا َ‬
‫فصار أحقّ بها من نفسها ومن غيره!‬
‫مهر‪،‬‬
‫فإن شاء أن يتز َّوجها تز َّوجها بغير ٍ‬
‫وإن شاء ز َّوجها غيره وأخذ مهرها ولم يعطها شيئاً‪،‬‬
‫تفتدي منه بمالها!‬‫َ‬ ‫وإن شاء حبسها وأض َّرها حتى‬
‫َ‬
‫وترك وراءه‬ ‫األنصاري‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫قيس بن األسلت‬ ‫فتوفي أبو ٍ‬
‫َ‬
‫معن األنصارية‪،‬‬ ‫زوجته ُكبيشة بنت ٍ‬
‫فقام اب ٌن له من غيرها يُقال له محصن‪ ،‬فطر َح ثوبه عليها‬
‫فورث نكاحها‪،‬‬
‫لتفتدي منه بمالها‪،‬‬
‫َ‬ ‫ثم تركها فلم يقربها‪ ،‬ولم يُنف ْق عليها‪،‬‬
‫النبي  فقالت‪:‬‬‫ِّ‬ ‫فأتت ُكبيشة إلى‬
‫يا رسول اهلل‪ ،‬إن أبا قيس توفي‪ ،‬وقد ورثَ ابنه نكاحي‪،‬‬
‫علي‪ ،‬وال هو يدخل بي‪،‬‬ ‫علي‪ ،‬فال هو ينف ُق َّ‬
‫وقد أض َّرني وط َّول َّ‬
‫وال هو يُخلي سبيلي!‬
‫النبي ‪ :‬اقعدي في بيتك حتى يأتي ِ‬
‫فيك أمر اهلل!‬ ‫ُّ‬ ‫فقال لها‬
‫وسمعت بذلك النّساء في المدينة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فانصرفت كبيشة‪،‬‬
‫ْ‬
‫النبي  و ُقل َن‪ :‬ما نحن إال كهيئة ُكبيشة!‬
‫َّ‬ ‫فأتي َن‬
‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ َ َ ُّ َ ُ ْ َ‬
‫فأنــزل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬يــا أيهــا الِيــن آمنــوا ل يِــل لكــم أن‬
‫ّ َ َ َ ً‬ ‫َ ُ‬
‫ـاء ك ْرهــا﴾‬ ‫ت ِرثــوا النِسـ‬
‫ثم ح َّرم اهلل بعد ذلك على األبناء الزواج من نساء آبائهم!‬

‫‪325‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫العرب في الجاهلية رزايا أخالق ّية كثيرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عرف‬


‫وهذا ال يعني أ ّنه لم يكن للقوم أخالق حسنة‪ ،‬وقيم مشهودة‪،‬‬
‫مــن هــذه القضايــا‪ ،‬قض ّيــة الـ ِّرق‪ ،‬وامتهــان المــرأة‪ ،‬والخمــر والميســر‪،‬‬
‫ّ‬
‫والشــرك والربــا‪،‬‬
‫مشكالت دين ّية‪ ،‬واقتصاد ّية‪ ،‬واجتماع ّية متداخلة‪،‬‬
‫تعامــل معهــا اإلســام العظيــم بواقع ّيــة‪ ،‬وأعم ـ َل فيهــا مبضــع الج ـ َّر ِاح‬
‫الحــذق‪،‬‬
‫ولم تكد تمضي سنوات هي بعرف تغيير المجتمعات قليلة جداً‪،‬‬
‫إال وقد أوجد حلوالً جذر ّية لهذه القضايا الشائكة!‬
‫وال يُعاب على اإلسالم العظيم أن جاء وبقيت بعض هذه المشكالت‪،‬‬
‫خصوصاً في سنواته األولى من الحكم والتشريع‪،‬‬
‫فاإلسالم لم يُوج ْد هذه ال َّرزايا وإ ّنما ِ‬
‫ورثها‪،‬‬
‫حس ُب له أنه عمل على حلِّها بالعدل واإلنصاف‪،‬‬ ‫فيُ َ‬
‫ـي اإلســام بهــذه الحالــة مــن وراثــة األبنــاء‬ ‫فقبــل أن تســأل لمــاذا رضـ َ‬
‫لزوجــة أبيهــم‪،‬‬
‫عليك أن تسأل أوالً‪ :‬أهذا صنيع اإلسالم وتشريعه؟‬ ‫َ‬
‫أم هو دين العرب‪ ،‬و ُعرفهم‪ ،‬الذي جاء اإلسالم فوجدهم عليه؟‪1‬‬
‫يُال ُم اإلسالم لو لم يُح ِّرك ساكناً لتغيير هذا الوضع القائم‪،‬‬
‫أما وقد أزاله تماماً تباعاً‪ ،‬ك ّل ُمعضلة بوقتها الدقيق‪،‬‬
‫هلل على نعمة اإلسالم!‬ ‫فيجعلنا نُردد‪ :‬الحمد ِ‬

‫‪326‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫مــن الت َِّــركات ال ّثقيلــة التــي ورثهــا اإلســام مــن الجاهل ّيــة َع َربَهــم‬
‫وع َجمهــم‪،‬‬ ‫َ‬
‫هي قض ّية امتهان المرأة!‬
‫نعرف ما الذي فعله اإلسالم في قض ّية تكريم المرأة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وقبل أن‬
‫علينا أوالً أن نأخذ جول ًة في نظرة المجتمعات القديمة إلى المرأة‪،‬‬
‫شريعة «مابو» في الهند وهي ديانة وضع ّية وثن ّية‪،‬‬
‫ما زال لها أتباع ُكثر حتى اليوم رغم مضي آالف السنوات‪،‬‬
‫ال تعترف بحق المرأة المتزوجة بالحياة بعيداً عن حياة زوجها‪،‬‬
‫فالقانون عندهم أن تموت يوم موت زوجها‪،‬‬
‫طوائفهم التي تحرق الجثث تحرقها معه وهي على قيد الحياة‪،‬‬
‫وطوائفهم التي تدفن الموتى تدفنها معه وهي ح َّية!‬
‫وشــريعة حمورابــي فــي بابــل علــى تطبيــل ال ّنــاس وتهليلهــم لهــا فــي‬
‫زمننــا‪،‬‬
‫على أنها شريعة رائدة سابقة لزمنها‪،‬‬
‫ُلح ُق المرأةَ بأمالك ال َّرجل وال تُف ِّرقها عن ماشيته وأثاثه‪،‬‬ ‫ت ِ‬
‫ولو قت َل رج ٌل زوجة رجل آخر أو ابنته‪،‬‬
‫فإن عقابه يكون بإعطاء زوجته أو ابنته لهذا الرجل‪،‬‬
‫وهو حر التصرف بها‪ ،‬إن شاء تزوجها‪ ،‬أو باعها‪ ،‬أو قتلها قصاصاً‪،‬‬
‫هكذا هي محكومة أن تدفع أخطاء غيرها!‬
‫محط نزاع بين الفالسفة على قولين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والمرأة عند اليونان‬
‫األ ّول أنها إنسان ولكن في مرتبة أدنى من الرجل وال تُساوى به‪،‬‬

‫‪327‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ال في الحقوق‪ ،‬وال الواجبات‪ ،‬وال الحر ّية‪ ،‬وال الملك ّية الفرد ّية!‬
‫هيئة بشر ّية ليقضي الرجل منها متعته‪،‬‬ ‫وال ّثاني أنها حيوان في ٍ‬
‫دون أن يشعر بالقرف واالشمئزاز!‬
‫وهكذا كان هو حال المرأة عند ال ُّرومان قديماً‪،‬‬
‫مج ّرد حلقة في سلسلة طويلة من االمتهان واإلذالل!‬
‫أمــا المــرأة عنــد اليهــود فــا تختلــف كثيــراً عنهــا فــي ال ّديانــات الوضع ّية‬
‫الوثن ّية‪،‬‬
‫جاء في التلمود المقدس عندهم‪ :‬المرأة حقيبة مملوءة بالغائط!‬
‫شهادة مئة امرأة تعادل شهادة رجل واحد‪،‬‬
‫ممنوع على المرأة أن تتعلم التوراة‪،‬‬
‫ألن المــرأة بســوء فهمهــا ســوف تقــوم بتحويــل الكتــاب المقــدس إلــى‬ ‫ّ‬
‫هــراء!‬
‫ومن أدعيتهم الصباحية التي يرددونها كل يوم‪:‬‬
‫مبارك أنت يا رب أل ّنك لم تخلقني وثناً وال امرأة!‬
‫أمــا المــرأة فتــردد بحــزن وانكســار‪ :‬مبــارك أنــت يــا رب ألنــك خلقتنــي‬
‫حســب مشــيئَتك!‬
‫إذا أنجبت المرأة عندهم صب ّياً تبقى نجسة أربعين يوماً‪،‬‬
‫وإذا أنجبت فتا ًة تبقى نجسة ثمانين يوماً!‬
‫حاضت تُخ َر ُج من البيت فال يأكلون وال يشربون معها!‬ ‫ْ‬ ‫إذا‬
‫أما عند النصارى فالمرأة هي المسؤولة عن شقاء البشر‪،‬‬
‫السالم من الجنة‪،‬‬
‫إذ تتحمل الخطيئة وحدها بإنزال آدم عليه ّ‬
‫وفــي تعاليــم الرســول بولــس عندهــم الــذي يُعتبــر الشــخصية ال ّثانيــة‬
‫بعــد المســيح‪،‬‬

‫‪328‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫في وصيته ألهل كورنثوس‪:‬‬


‫لتصمــت نســاؤكم فــي الكنائــس ألنــه ليــس مأذونـاً لهـ َّـن أن يتكل ْمـ َن بــل‬
‫يخضع َن !‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫ـف فــي قضيــة المــرأة علــى الجهــة المقابلــة مــن‬ ‫اإلســام العظيــم يقـ ُ‬
‫كل هــذا ّ‬
‫الظلــم الــذي ســبق‪،‬‬
‫والقــرآن الكريــم يســاوى فــي خطيئــة األكل مــن الشــجرة المحرمــة بيــن‬
‫آدم وحواء‪،‬‬
‫وال يجعلها مسؤولة وحدها عن نزولنا إلى األرض!‬
‫هكــذا يزيــل تاريخـاً بشــرياً ظالمـاً فــي النّظــرة إلــى المــرأة حتــى قبــل‬
‫نزولهــا إلــى األرض‪،‬‬
‫وهــو يهبهــا حــقَّ الحيــاة‪ ،‬ويجعــل روحهــا مســاوي ًة لــروح ال َّرجــل وال‬
‫فــرق!‬
‫ولم يم ِّيز بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات!‬
‫إال في تشريعات هدفها إكرام المرأة ال امتهانها‪،‬‬
‫فقــد أســقط عنهــا الجهــاد بالســيف لمــا يُنافــي طبيعتهــا األنثويــة‬
‫ال َّرقيقــة‪،‬‬
‫وجعلها مطلوبة للزَّواج ال طالبة‪ ،‬تأخذ المهر وال تدفعه!‬
‫وفرض على ول ّيها أن يُعلِّمها ويُثقفها بما تحتاج لتكتمِ َل بإنسان ّيتها‪،‬‬
‫َ‬
‫وأباح لها حرية اختيار الزوج‪ ،‬فال تُجبر على من ال تُريد‪،‬‬

‫‪329‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رت حياتها الزوجية‪،‬‬ ‫تعس ْ‬


‫وأباح لها طلب الطالق إن َّ‬
‫لب منها‪،‬‬
‫وأعطاها الحقَّ في الميراث وكانت قد ُس َ‬
‫وأباح لها التملك‪ ،‬والعمل‪ ،‬بل ومباشرة تجارتها بنفسها‪،‬‬
‫مع الحفاظ على الضوابط التي ال تجعلها محط طمع ال ّرجال بها‪،‬‬
‫ونقلَهــا نقلـ ًة نوع ّيـ ًة مــن كائــن مشــكوك بإنســانيته إلى إنســان اإلحســان‬
‫إليــه عبادة‪،‬‬
‫فهي األ ُّم التي ب ّرها واجب والجنّة عند قدميها‪،‬‬
‫وهي الزَّوجة التي ال يكون زوجها من خيار النَّاس إال إذا أكرمها‪،‬‬
‫وهي البنت التي تكون حجاب أبيها من النار‪،‬‬
‫صلها واجب‪ ،‬وإكرامها فرض‪،‬‬ ‫وهي الع ّمة التي َو ْ‬
‫وهي الخالة التي بمرتبة األ ِّم وال فرق!‬
‫وهي الجارة التي تُعامل كعرض مصون‪ ،‬وحرمة ال تُنتهك‪،‬‬
‫وهي المسلمة التي تُح َّرك ألجلها الجيوش‪ ،‬وتُشعل الحروب!‬
‫تكريم ما بعده تكريم‪ ،‬وتوقير بأخذ بالقلوب قبل العقول!‬
‫هلل على نعمة اإلسالم!‬ ‫فالحمد ِ‬

‫‪330‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪72‬‬

‫﴿يَ ْو َم ُتبْ َل َّ َ‬
‫السائ ِ ُر﴾‬

‫أنت حصيل َ ُة خلوات َ‬


‫ِك‪،‬‬ ‫َ‬
‫الحقيقي!‬
‫ّ‬ ‫أقنعتك وتكون بوجهِ َك‬
‫َ‬ ‫حيث تزي ُح‬
‫َّاس سه ٌل‪،‬‬
‫الخشو ُع أمام الن ِ‬
‫ميسور‪،‬‬
‫ال منهم أم ٌر ُ‬ ‫وترك المعصيةِ خج ً‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫داخلك‪،‬‬ ‫فأنت في مواجهة ال ّذ ِ‬
‫ئب الذي في‬ ‫َ‬ ‫أ ّما في الخلو ِة‬
‫إ َّما أن تُطعمه فتصي َر أفتك منه‪،‬‬
‫َلج َمه بالتَّقوى فينقا ُد َ‬
‫لك‪،‬‬ ‫وإ ّما أن ت ِ‬
‫ومن أجمل ما قال العارفون باهلل‪:‬‬
‫الحياةُ في القبور نسخة ع ّما في ّ‬
‫الصدور!‬

‫‪331‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪73‬‬

‫أرض على حدود المدينة المنورة‪،‬‬ ‫كان للزُّبير بن العوام ٌ‬


‫ساقية تم ُّر في أرضه أوالً‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وكان في البستان نخل يسقيه من‬
‫جار له من األنصار‪،‬‬ ‫ثم تم ُّر في أرض ٍ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫األنصاري الزُّبي َر بن العوام إلى‬ ‫ُّ‬ ‫فشكا‬
‫بحجة أن الماء يتأخر ليص َل إلى أرضه‪،‬‬
‫النبي  للزُّبير‪ :‬اسقِ يا زُبير ثم أرسل الماء إلى جارك!‬ ‫ُّ‬ ‫فقال‬
‫تك؟!‬‫أألن الزُّبير ابن ع ّم َ‬ ‫للنبي ‪َّ :‬‬ ‫ِّ‬ ‫األنصاري وقال‬
‫ُّ‬ ‫فغضب‬
‫َ‬
‫النبي  ثم قال للزُبير‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫فتل َّون وجه‬
‫الج ْد ِر!‬
‫اسقِ يا زُبير‪ ،‬ثم احبس الماء حتى يرجع إلى َ‬
‫َ َ َ َ ّ َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ ُ َ ّ‬
‫ك ُِمــوكَ‬ ‫ـى ي‬ ‫وأنــزل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬فــا وربِــك ل يؤمِنــون حـ ٰ‬
‫سـه ْم َح َر ًجــا ّم َِّمــا قَ َضيْـ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ـم َل َيـ ُ‬
‫ـم ُثـ َّ‬ ‫ِيمــا َشـ َ‬
‫ـج َر بَيْ َن ُهـ ْ‬ ‫ف َ‬
‫ـت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نف‬ ‫ـدوا ِف أ‬ ‫ِ‬
‫ـل ُِموا ت َ ْس ـل ً‬‫ََُ ّ‬
‫ِيما﴾‬ ‫ويسـ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫بعض النَّاس تعامله بالمعروف فال يُعجبه‪،‬‬


‫حصتك وتزي ُد له في حصته فال يرضى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تأخذ من‬
‫تعطيه بعضاً مما في يدك فإذا به يريده كله‪،‬‬
‫َ‬
‫تفضلك عليه!‬ ‫كأن هذا واجبك تجاهه ال‬ ‫َ‬
‫يطالبك باإلحسان إليه ّ‬
‫أرض الزُّبير أوالً‪،‬‬
‫ساقية الماء تم ُّر في ِ‬

‫‪332‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يسقي الزُّبير نخيله أوالً حتى يرتوى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رف يقضي أن‬ ‫وال ُع ُ‬
‫ثم بعد ذلك يُرسل الماء إلى جاره فيسقي زرعه‪،‬‬
‫وهكذا كلّما فرغ واحد أرسل الماء إلى جاره حتى يسقي الجميع‪،‬‬
‫إذا هي شكوى فارغة‪ ،‬وا ّدعاء باطل‪ ،‬ومظلومية جوفاء‪،‬‬
‫النبي  أراد أن يحكم بالو ِّد ال بالقانون‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ولكن‬
‫َّ‬
‫تأليفاً لقلب األنصاري‪ ،‬وتحبباً منه إليه‪،‬‬
‫يسقي يسيراً ثم يرسل الماء إلى جاره‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فطلب من الزُّبير أن‬
‫ري بستانه‪،‬‬ ‫ثم يعود الحقاً ويكمل َّ‬
‫األنصاري‪،‬‬
‫َّ‬ ‫حصة ابن عمته وأعطى‬ ‫أي أنه أخذ من ّ‬ ‫ْ‬
‫األنصاري لم يُق ِّد ْر هذا المعروف‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ولكن‬
‫النبي  بمحاباة ابن عمته!‬ ‫َّ‬ ‫وزاد في غ ِّيه‪ ،‬وصلفه‪ ،‬أن اتَّهم‬
‫ال للمعروف‪،‬‬ ‫النبي  ليس أه ً‬ ‫ُّ‬ ‫فلما رآه‬
‫ّراعي الذي يعرفه الجميع‪،‬‬ ‫حكم بينهما بالقانون الز ّ‬
‫يسقي الزُّبير كل بستانه‪ ،‬فإذا انتهى‪ ،‬أرسل الماء إلى جاره‪.‬‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  درساً بليغاً في ح ِّل الخصومات‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫يُعلمنا‬
‫وهو «الحل الوسط» الذي يقوم على األخالق ال على القانون‪،‬‬
‫الحكم الذي يشتري خواطر الجميع فال يكسر أحداً‬
‫من المتخاصمين‪،‬‬
‫ِّ‬
‫صف الزُّبير ليس في هذا ريب‪،‬‬ ‫فالقانون في‬

‫‪333‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األنصاري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النبي  أراد من الزُّبير أن يُراعي ح ْق الجوار في‬
‫َّ‬ ‫ولكن‬
‫َّ‬
‫فينزل عن شيءٍ من ح ِّقه شرا ًء لخاطر جاره‪،‬‬
‫األنصاري من حصة ابن عمته‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وأعطى‬
‫ألنه يعل ُم أن الزُّبير تربيته وهو ال شك مع مبدأ‪،‬‬
‫أن كسب القلوب أولى من كسب المواقف‪،‬‬
‫ولكن لألسف بعض الناس ال يُثمر فيهم المعروف!‬
‫دخلت في خصام فاألصل أن يكون حكمك لصالح الحقِّ ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فإذا‬
‫ولكن اُنظر في المسألة أوالً‪،‬‬
‫فإن كان باإلمكان اإلصالح‪ ،‬وإرضاء الجميع‪ ،‬فهذا أولى!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫في المشكالت التي تدخ ُل فيها َحكماً‪،‬‬


‫ال بأس أن تأخذ من حقِّ من تعرف دينه وحسن خلقه‪،‬‬
‫وتفض النزاع!‬
‫َّ‬ ‫لتعطي خصمه‬
‫َ‬
‫فإن الكريم يُعطي ليحل نزاعات النّاس وهو ليس طرفاً فيها‪،‬‬
‫فإن كان طرفاً فعطاؤه حاضر من باب أولى‪،‬‬
‫فــإن اســتمرار العالقــات‪ ،‬ومراعــاة دوام أُلفتهــا‪ُ ،‬مقـ َّـد ٌم علــى قطعهــا‬
‫بالقانــون الجــازم!‬
‫ولكــن إذا وصــل األمــر إلــى طريــق مســدود‪ ،‬فليأخــذ القانــون مجــراه‬
‫فهــذا هــو العــدل!‬
‫في خالف زوجين ُك ْن مصلحاً أكثر منك قاضياً‪،‬‬

‫‪334‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ألن البيوت إنما تُدار بالود والتغافل والتغاضي‪ ،‬وال تُدار‬ ‫ّ‬
‫بمنطق الحقِّ والواجب!‬
‫ال لل َّرحم ال قاطعاً له‪،‬‬
‫وفي خالف أخوين ُك ْن واص ً‬
‫كل شيءٍ في كفة أحدهما ولو كان صاحب الحقِّ ‪،‬‬ ‫ض ُع َّ‬ ‫َو ْ‬
‫بشرخ قد ال يلتئم أبداً!‬
‫ٍ‬ ‫يُه ِّد ُد عالقة األخوة‬
‫راع أن البيوت ستبقى متالصقة‪،‬‬ ‫وفي خالف الجيران ِ‬
‫يوم سيضع أحدهما عينه في عين اآلخر‪،‬‬ ‫وأنه في كل ٍ‬
‫فحاول أال تكسر أحدهما أمام صاحبه!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫الدرس َّ‬

‫ـم ُثـ َّ‬


‫ـج َر بَيْ َن ُهـ ْ‬‫ِيمــا َشـ َ‬ ‫َ َ َ َ ّ َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ ُ َ ّ‬
‫ك ُِمـ َ‬
‫ـوك ف َ‬
‫ـم‬ ‫ـى ي‬ ‫﴿فــا وربِــك ل يؤمِنــون حـ ٰ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ـت َوي ُ َســل ُِموا ت ْس ـل ً‬ ‫َ‬
‫س ـه ْم َح َر ًجــا ّم َِّمــا ق َضيْـ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َل َيـ ُ‬
‫ِيما﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نف‬ ‫ـدوا ِف أ‬ ‫ِ‬
‫النبي  بشخصه المبارك‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫هذه آية ليست مرتبطة بوجود‬
‫جل في ُعاله‪،‬‬ ‫وصى بها من ر ّبنا َّ‬ ‫السماء ال ُم َ‬ ‫وإنما بوجود شريعة َّ‬
‫وكل من رفض ُحكماً جاءت به الشريعة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫النبي  في حياته!‬ ‫ِّ‬ ‫األنصاري الذي رفض حكم‬
‫ّ‬ ‫ال يختلف عن‬
‫َ‬
‫فإنك تر ُّد‬ ‫َ‬
‫وأخواتك‪،‬‬ ‫أنت حين تستأثر بالميراث دون إخوتك‬
‫َ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫حكم‬
‫ألن حكمه في حياته وبعد موته سواء!‬ ‫َّ‬
‫وأنت حين تحر ُم ولداً من الميراث وتزي ُد في حصة آخر‪،‬‬ ‫َ‬
‫النبي ‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫فإنك تر ُّد حكم‬

‫‪335‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ألن رفض شرعه في غيابه كرفض حكمه في حضوره!‬


‫ابنتك على الزواج ممن ال تري ُد‪،‬‬‫َ‬ ‫وأنت حين تجبر‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ابنتك فقط‪،‬‬ ‫النبي  وال تُعاند‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫فإنك تُعاند‬
‫َ‬
‫زوجتك بالو ِّد والمعروف‪،‬‬ ‫وأنت حين ال تُعامل‬ ‫َ‬
‫النبي  وليس زوجتك فحسب!‬ ‫ُّ‬ ‫فإن خصمك‬ ‫َّ‬
‫سار على الجميع‪،‬‬ ‫وما يُقال للرجل يُقال للمرأة‪ ،‬فشرعه ٍ‬
‫َ‬
‫قلبك‪،‬‬ ‫تعرف مقدار اإليمان في‬‫َ‬ ‫أردت أن‬‫َ‬ ‫فإذا‬
‫َ‬
‫قلبك‪،‬‬ ‫النبي  في‬
‫ِّ‬ ‫فانظ ْر إلى موضع التسليم لشرع‬ ‫ُ‬
‫وجدت للتسليم مكاناً‪ ،‬فلإليمان مكان أيضاً‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فإن‬
‫وجدت أنك تُق ِّدم هواك ومصلحتك على َّ‬
‫الشرع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وإن‬
‫وحججت كل عام!‬
‫َ‬ ‫عمرت المساجد‪،‬‬‫َ‬ ‫فإيمانك ا ّدعاء مكذوب‪ ،‬ولو‬

‫‪336‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪74‬‬

‫َ َ َْ ْ ْ ُ َ‬
‫ت مِنك ْم أ َح ٌد﴾‬ ‫﴿وال يلتفِ‬

‫ر ِّك ْز على أهدافِ َك‪،‬‬


‫ظهر َك‪،‬‬
‫ظهر َك فات ُركه ورا َء ِ‬ ‫وما أصب َح ورا َء ِ‬
‫ال شي َء أكثر ابطا ًء للخُ طى كااللتفات‪،‬‬
‫لتعيش أسيراً فيه‪،‬‬
‫َ‬ ‫الماضي لتتعلَّ َم منه ال ّدرس‪ ،‬ال‬
‫لتصحيح الخُ طى‪ ،‬ال للن ِ‬
‫َّدب والبُكاء‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والعثرات‬
‫ُ‬
‫والمعار ُك الجانبية تستنزفك أكثر مما تمنحك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫للطي ال للحنين‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫والعالقات الفاشلة‬
‫ُ‬
‫فارقت ففار ْق ب ُكلِّك‪،‬‬
‫َ‬ ‫فإذا‬
‫تترك منك شيئاً عالقاً مع أحد!‬ ‫ْ‬ ‫ال‬

‫‪337‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪75‬‬

‫بل َغ من نُبل ّ‬
‫الصحابة أنه إذا جا َءهم الفقي ُر الذي يرضون‬
‫دِ ينَه وخُ ل ُ َقه خاطباً‪،‬‬
‫ز َّوجوه‪ ،‬ولم يطلبوا منه ما يُرهقه من ال َمهر‪،‬‬
‫اضهم‪،‬‬ ‫بل كانوا يُعينونه في زواجه وهذا من إكرامهم ألَ ْع َر ِ‬
‫أن المه َر وإن كان من حقِّ‬ ‫فقد فهِ ُموا من اإلسالم العظيم ّ‬
‫المخطوبة‪،‬‬
‫ليست باباً من أبواب التّجارة تُعطى لمن يدف ُع‬ ‫ْ‬ ‫أن المرأةَ‬
‫إال َّ‬
‫فيها أكثر!‬
‫الصحابي معقل‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫ألخت‬ ‫جا َء رج ٌل فقي ٌر من األنصار خاطباً‬
‫بن يسار‪،‬‬
‫فالصحابة كلّهم نُبالء!‬
‫ّ‬ ‫وكان معق ُل نبي ً‬
‫ال‪ ،‬وال غرابة‬
‫فأعانه على أمور زواجه‪ ،‬وتكفّل له بك ّل جهازه‪ ،‬يصو ُن عرضه‪،‬‬
‫ويُؤدي أمانته!‬
‫وحملت المرأة‬‫وت َّم الز ّواج على أيسر وأحسن ما يكون‪ُ ،‬‬
‫إلى بيت زوجها‪.‬‬
‫وقت طوي ٌل حتى حدث بين الرجل وزوجته خالف‬ ‫يمض ٌ‬ ‫فلم ِ‬
‫فطلَّقها‪،‬‬
‫انقض ْت عدتها جا َء زوجها ليخطبها من أخيها مر ًة أخرى…‬ ‫َ‬ ‫فلما‬
‫وفرشت َُك‪/‬أي ساع ْدت َُك‬
‫ْ‬ ‫فقال له معقل بن يسار‪ :‬ز َّوجت َُك‪،‬‬
‫في جهازها‪ ،‬وأكرمت َُك‪،‬‬
‫إليك أبداً!‬
‫ترج ُع َ‬ ‫جئت تخطبها‪ ،‬ال وا ِ‬
‫هلل ال ِ‬ ‫َ‬ ‫فطلَّقتها ثم‬

‫‪338‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وكان الزّوج خلوقاً ولكنها نزعات النّفس‪ ،‬وساعة شيطان‬


‫حدثَ فيها الطالق!‬
‫وكانت أُخته تُري ُد الرجوع إلى زوجها على رغم ما حدث‬
‫ْ‬
‫بينهما!‬
‫النبي  وقال‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫فأرسل إليه‬
‫فيك قرآناً‪:‬‬ ‫يا معقل بن يسار إن اهلل أنزل َ‬
‫َ‬
‫ـن أن يَنك ْ‬ ‫وهـ َّ‬ ‫ُ‬
‫َْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ ْ ُ ُ ّ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ُ َّ َ‬
‫َ‬
‫ِحــنَ‬ ‫﴿وذا طلقتــم النِســاء فبلغــن أجلهــن فــا تعضل‬
‫َ َ َ‬ ‫َٰ َ ُ َ ُ‬ ‫ـوا بَيْ َن ُهــم بال ْ َم ْعـ ُ‬ ‫َ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ َ‬
‫اضـ ْ‬
‫وف ۗ ذلِــك يوعــظ ب ِـهِ مــن كن‬ ‫ـر ِ‬ ‫ِ‬ ‫أزواجهــن إِذا تر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ْ‬
‫ـم َوأط َهـ ُ‬ ‫ُ‬
‫ك لكـ ْ‬ ‫ْ‬
‫ـم أز ٰ‬ ‫ُ‬
‫خــر ۗ ذٰل ِكـ ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ـم يُ ْؤ ِمـ ُ‬ ‫ُ‬
‫ِنكـ ْ‬
‫ـر ۗ‬ ‫ـاللِ والــو ِم ال ِ ِ‬ ‫ـن بِـ‬ ‫م‬
‫َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫والل يعلــم وأنتــم ل تعلمــون﴾‬
‫فقال له معقل‪ :‬أُز ِّو ُجها له يا رسول اهلل!‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أوامر اهلل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫المؤم ُن يجب أن يكون و َّقافاً عند‬
‫فعندما أمر اهلل تعالى األهل أن ال يمنعوا ابنتهم من الزواج‬
‫رغبت بذلك‪،‬‬
‫ْ‬ ‫بطليقها إن‬
‫واف َق معقل بن يسار على الفور امتثاالً لألمر اإللهي‪،‬‬
‫وتناز َل عن رفضه الجازم السابق‪،‬‬
‫فال ت ُك ْن تنِحاً خصوصاً إذا ما تعلَّ َق األمر ِ‬
‫بأمر اهلل سبحانه!‬

‫‪339‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫رس ّ‬
‫الثاني‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫أُمِ ْرنَا بالعدل عند الخصام‪،‬‬


‫فبالرغم من أن معقل بن يسار ُمنزعج من طالق أُخته‪،‬‬
‫أمر الزواج‪،‬‬
‫و ُمتضايق من صهره ألنه ساع َده في ِ‬
‫صدى إيجابياً عنده‪،‬‬
‫ً‬ ‫فلم يل َق هذا‬
‫إال أنه يشهد له أنه كان رج ً‬
‫ال ال بأس به‪،‬‬
‫فال تد ْع ساعة الخصومة تقودك إلى نكرانِ فضائلِ اآلخرين!‬

‫الدرس الثالث‪:‬‬
‫ّ‬

‫واجب األهلِ إذا وقع الخالف بين الزوجين أن يدفعوا‬ ‫ُ‬


‫الصلح‪،‬‬
‫باتجاه ُ‬
‫المرأة لزوجها‪ ،‬والزوج المرأته‪ ،‬إن رغبا بالعودة بعد‬
‫وقوع الطالق البائن وانقضاء العِ دة‪،‬‬
‫وهذا يلزمه مهر وعقد جديدين‪،‬‬
‫لبعضهما وهي على ذمته‬ ‫ِ‬ ‫فمن باب أ ْولى أن يعودا‬
‫وقد حدث بينهما خالف‪،‬‬
‫لبعضهم قِ ل ُة ٍ‬
‫فقه للحياة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األزواج‬
‫ِ‬ ‫والعِ نا ُد في عود ِة‬
‫إدراك لمخاطر الطالق‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وعد ُم‬
‫وجه ٌل بالحياة الزوجية التي ال تخلو أساساً من خالف!‬

‫‪340‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الرابع‪:‬‬
‫الدرس ّ‬
‫ّ‬

‫واجب على الزوج‪،‬‬


‫ٌ‬ ‫اإلحسا ُن إلى الزوجة‪ ،‬ومعاملتُها بالمعروف‬
‫وإن لم يُعاونه أهلها في أمر زواجها‪،‬‬
‫الواجب ُمضاعفاً إن أحسنوا إليه وعاونوه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويُصب ُح‬
‫ألن النبيل يُق ِّد ُر المعروف‪ ،‬ويتح َّي ُن الفرصة ِل َر ِّده‪،‬‬
‫َّ‬
‫والحياة الزوجية الكريمة للبنت في بيت زوجها‬
‫فرصة سانحة ِل َر ِّد المعروف‪،‬‬
‫ٍ‬
‫معروف تقد ُر‬ ‫ف َأ ْح ِس ْن استغاللها‪ ،‬وال ت ُكن عا ّقاً‪ ،‬ألن كل‬
‫على ر ّده وال تفعل من العقوق!‬

‫رس الخامس‪:‬‬
‫الد ُ‬
‫ّ‬

‫العالقات الزّوجية إنما تست ّم ُّر بالتّفهم والتَّغاضي واالحتواء‪،‬‬


‫ُ‬
‫تنكس ُر إال بالمواجهة والقسوة والتّعنت!‬ ‫ِ‬ ‫وال‬
‫الح ُّب قاد ٌر على تليين ّ‬
‫الطباع‪،‬‬ ‫وحده ُ‬
‫وبالح ِّب وحده يستطي ُع ال ّرجال امتالك النساء امتالكاً حقيقياً!‬ ‫ُ‬
‫عليك أن تتعامل معها كما يتعام ُل المزار ُع مع حقله‪،‬‬ ‫َ‬
‫أنت ترى هذه الثمار الط ّيبة‪ ،‬والخضار اليانعة‪ ،‬والفاكهة‬ ‫َ‬
‫اللذيذة في األسواق‪،‬‬
‫جهد قد بُذِ َل قبل القطاف!‬ ‫أي ٍ‬ ‫ولكنك ال ترى َّ‬
‫وري دؤوب‪،‬‬
‫كان هناك حراثة مضنية‪ ،‬وبذار شاق‪ٌّ ،‬‬

‫‪341‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وتهذيب مستمر‪ ،‬وتشذيب دائم‪ُّ ،‬‬


‫ورش مبيدات ورعاية!‬ ‫ٌ‬
‫ثم أخيراً يحين وقت القطاف!‬
‫وهكذا هي المرأة‪ ،‬حق ٌل تجني منه ما تزرعه فيه‪،‬‬
‫ْ‬
‫تسلك سبيله!‬ ‫فال تطلب ال ّثمر ولم‬
‫ٍ‬
‫فرصة حقيقية‬ ‫يوم أمام‬
‫مواقف الحياة كثيرة‪ ،‬وأنت كل ٍ‬
‫ِ‬
‫المتالك قلب امرأتك!‬
‫صف ّية بنت ُحيي فوجدها تبكي‪،‬‬ ‫النبي  على َ‬ ‫ُّ‬ ‫دخ َل‬
‫فقال لها‪ :‬ما يُ ِ‬
‫بكيك؟‬
‫قالت لي حفصة إني ابنة يهودي!‬ ‫ْ‬ ‫فقالت‪:‬‬
‫عمك لنبي‪ِ ،‬‬
‫وإنك لتحت نبي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وإن‬
‫نبي‪َّ ،‬‬‫إنك البن ُة ٍّ‬
‫فقال لها‪ِ :‬‬
‫ِ‬
‫عليك؟‬ ‫فب َم تفخ ُر‬
‫ثم قال‪ :‬اتقي َ‬
‫اهلل يا حفصة!‬
‫ضلع قرب القلب!‬
‫المرأة رقيقة بطبعها‪ ،‬كيف ال وهي مخلوقة من ٍ‬
‫عاطفية حتى أبعد حد‪،‬‬
‫تتطلب هــذه‬
‫ُ‬ ‫ألن المهمة العظيمة التي أرادها لها الخالق العظيم‬
‫العاطفة‪،‬‬
‫لهذا تجدها تبكي ألصغر المواقف‪،‬‬
‫يحسب‬
‫ُ‬ ‫وهذا ال عالقة له بالتَّفاهة‪ ،‬وضعف الشخصية كما‬
‫الجهالء بنفسيات النساء‪،‬‬
‫على العكس تماماً‪ ،‬ال يتعارض أبداً أن تجد تلك الرقيقة‬
‫ضيق‪،‬‬
‫التي كانت تبكي ذات ٍ‬
‫أن تكون لبؤة شرسة وتواجه األيام باقتدار كما يفعل الرجال‪،‬‬
‫أنهن الجزء العذب والرقيق من البشرية‪،‬‬‫كل ما في األمر َّ‬

‫‪342‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫والبكاء إحدى طرقهن للتعبير عن هذه الرقة‪ ،‬واستجالب‬


‫االهتمام‪،‬‬
‫فال تفرطوا في مواقف بكائهن‪ ،‬هي فرصة سانحة الِمتالكِ هِ َّن‬
‫من الداخل‪،‬‬
‫فالمرأة ال ت ُ‬
‫ُمتلك إال من قلبها!‬
‫وإياكم واإلعراض عن لحظات بكائهِ َّن‪ ،‬واعتبار األمر‬
‫تافهاً وال يستحقّ ‪،‬‬
‫النبي  كيف يهتم‪ :‬ما يُ ِ‬
‫بكيك؟!‬ ‫ِّ‬ ‫وانظروا إلى فعل‬
‫فلما أخبرته‪ ،‬ط ّي َب خاطرها‪ ،‬وأسمعها ما يرضيها‪،‬‬
‫يرض بالخطأ!‬‫ثم لم َ‬
‫انظروا لمشاكل الحياة من هذا الباب‪،‬‬
‫والحب!‬ ‫أنها فرصة للتكاتف وجبر الخواطر‪ ،‬واظهار االهتمام ُ‬
‫موقف حياتي رتيب‪ ،‬غيرة تخرجها عن طورها‪،‬‬
‫منزل ينهكها‪ ،‬مشاكل أوالد تتعبها‪،‬‬‫عمل ٍ‬
‫هي فرصتك السانحة لتكون القلب الكبير الذي يواسي‪،‬‬
‫والصدر الحنون الذي يسع‪ ،‬والكتف الدافئ الذي يسند‪،‬‬
‫مارس رجولتك وقوامتك‪ ،‬اطب ْع على جبينها ُقبلة‪،‬‬
‫وأخبرها أنك تهتم‪،‬‬
‫َ‬
‫عندك وأنها ال تهون‪،‬‬ ‫عانقها وأخبرها أنها عزيزة‬
‫بك‪ ،‬وال أستغني‪،‬‬ ‫معك‪ ،‬وقوي ِ‬ ‫ُق ْل لها أنا ِ‬
‫ونسيت كل ما م َّر بها‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وابتسمت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫أشرقت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وستجدها‬
‫في كل امرأة طفلة صغيرة بجديلتين تحتاج إلى الحنان‬
‫بلغت من العمر!‬
‫ْ‬ ‫مها‬

‫‪343‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫السادس‪:‬‬
‫رس ّ‬‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫تف َّه ْم طبيعتها األنثوية‪ ،‬وتف ّهمي طبيعته ال ُّذكور ّية!‬


‫إن أغلب الخالفات الز ّوجية نابعة من عدم فهم ال ّرجل‬
‫لطبيعة المرأة‪،‬‬
‫وعدم فهم المرأة لطبيعة ال ّرجل!‬
‫يفترض أن تتعام َل المرأة معه‪ ،‬وتستجيب‪ ،‬وتشعر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال ّرج ُل‬
‫وتحس‪ ،‬وتتفاعل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يستجيب هو بها‪ ،‬ويشعر‪ ،‬ويتفاعل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بالطريقة التي‬
‫تفترض أن ال ّرجل هو نسخة خشنة منها!‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كذلك‬ ‫والمرأة‬
‫وفي الحقيقة هذا أحمق ما يعتقده الرجال عن النساء‪،‬‬
‫وأحمق ما يعتقده النساء عن ال ّرجال!‬
‫بالشكل فقط‪،‬‬ ‫واحد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫نحن رجاالً ونسا ًء ننتمي إلى جنس‬
‫ولكننا من حيث المضمون كائنات مختلفة تماماً‪،‬‬
‫مغايرة بطريقة إحساسها‪ ،‬وتفاعلها‪ ،‬وتجاوبها‪،‬‬
‫نحن متشابهون كثيراً‪ ،‬ومختلفون أكثر!‬
‫وحده إدراك نقاط التشابه واالختالف‬
‫هو الذي يضمن لنا زواجاً ناجحاً‪،‬‬
‫غير هذا فنحن أمام ساحة حرب أكثر منها بيتاً ومنزالً!‬
‫ش المسجد يلعبون‪،‬‬ ‫تقو ُل أمنا عائشة‪ :‬دخ َل َ‬
‫الحبَ ُ‬
‫النبي ‪ :‬يا ُحميراء‪ ،‬أتحبين أن تنظري إليهم؟‬ ‫ُّ‬ ‫فقال لي‬
‫فقلت‪ :‬نعم‬
‫ُ‬
‫فوضعت ذقني على كتفه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقام بالباب وجئته‪،‬‬

‫‪344‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫وأسندت وجهي إلى خده!‬


‫ُ‬
‫وجعلت أنظر فقال لي‪ :‬حسبُ ِك!‬ ‫ُ‬
‫هلل ال تعجل‪،‬‬ ‫فقلت‪ :‬يا رسول ا ِ‬
‫ُ‬
‫فأقام لي‪ ،‬ثم قال‪ :‬حسبُ ِك!‬
‫فقلت‪ :‬ال تعجل يا رسول اهلل‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أحببت أن يبل َغ النسا َء‬
‫ُ‬ ‫وما بي ُح ُّب النَّظر إليهم‪ ،‬ولكن‬
‫مقا ُمه لي‪ ،‬ومكاني منه!‬
‫ال َّرجلِ الذي على عاتقه دعوة البشرية قاطبة‬
‫من مشرق األرض إلى مغربها‪،‬‬
‫وعليه قيادة المجتمع المدني عسكرياً وسياسياً‪،‬‬
‫ال يشغله كل هذا في أن يكون زوجاً رائعاً حنوناً‪،‬‬
‫ينظ ُر في رفاهية زوجته‪،‬‬
‫غلب على‬ ‫ويبادرها بأن يعرض عليها شيئاً َ‬
‫ظ ِّنه أنها ستجد فيه سعاد ًة لها‪،‬‬
‫فهو لو انتظ َر حتى تطلب منه أن تشاهد‬
‫عرض األحباش لبدا األمر عادياً‪،‬‬
‫ولكنه لم ينتظر حتى يبدو األمر عادياً‪،‬‬
‫تقف مذهولة منه‪،‬‬ ‫كانت مكارم األخالق ُ‬
‫فهو على مقاسها‪ ،‬وهي على مقاسه‪،‬‬
‫إنه يبادر ويسأل ويهتم ويكترث!‬
‫وهذه عائشة ال تخجل في أن تعيش مشاعرها‪ ،‬وأنوثتها‪،‬‬
‫وغيرتها كما هي‪،‬‬
‫وتستمت ُع بعيش هذه اللحظات بعفوية‪،‬‬

‫‪345‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫الح ِّب الحالل‪،‬‬


‫لتُخبرنا أنه ال أروع من ُ‬
‫وأن قتل المشاعر‪ ،‬وكبتها باسم الورع ليس من الدين في شيء‪،‬‬
‫فهذا الدين ما جاء ليكبت الغرائز وإنما ليهذبها‪،‬‬
‫وال ليحارب المشاعر وإنما ليوجهها ويضعها في طريق الحالل‪،‬‬
‫ثم يترك للناس مساحة االستمتاع بها حالالً!‬
‫المرأة هي المرأة‪ ،‬ال تتوقع من اإليمان أن‪،‬‬
‫يُب ِّدل طبيعتها وغريزتها وفطرتها‪،‬‬
‫اإليمان يُؤ ِّدب هذه األشياء فقط!‬
‫والرجل هو الرجل‪ ،‬ال تتوقع من اإليمان‬
‫أن يُب ِّدل طبيعته وغريزته وفطرته‪،‬‬
‫اإليمان يُؤدب هذه األشياء فقط!‬

‫‪346‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪76‬‬

‫َ ُُ ً َْ َْ ُ ْ ُ ْ َ َْ َ‬
‫﴿ورسال لم نقصصهم عليك﴾‬

‫‏اط َم ِئ ْن‪:‬‬
‫‏حتى وإن لم يُ ْذ َكر اس ُم َك‪ ،‬اهللُ يعرفك!‬
‫غاب عن النّاس‪،‬‬ ‫ف الخي َر الذي في قلب َ‬
‫ِك وإ ْن َ‬ ‫يعر ُ‬
‫ِ‬
‫الخواطر وإن لم يشهده الجميع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ف سعيَ َك في ِ‬
‫جبر‬ ‫يعر ُ‬
‫ِ‬
‫ف صدقت ََك وإ ْن ل ْم تُؤ ِّدها على ُر ُؤوس الخالئق‪،‬‬
‫يعر ُ‬
‫ِ‬
‫جف حلق َُك‪،‬‬
‫أخذت تُر ِّددها حتى ّ‬
‫َ‬ ‫ف اآلي َة التي‬
‫يعر ُ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫لحفظ القرآن!‬ ‫ّاس محاولت ََك‬
‫غاب عن الن ِ‬
‫وإن َ‬
‫صيام التّط ّوع‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ف قيا َم الليلِ ‪ ،‬وظم َأ ُ‬
‫الحنجرة في‬ ‫يعر ُ‬
‫ِ‬
‫سج ّلتهم ق ّواماً‪ ،‬وص ّواماً!‬
‫ّاس في ِ‬ ‫وإن لم يُد ّو َ‬
‫نك الن ُ‬
‫كنت قادراً عليه‪ ،‬فتركتَه ابتغاء وجههه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يعرف ال ّذ َ‬
‫نب الذي َ‬
‫ّاس عنك تق ّياً‪،‬‬
‫وإ ْن لم يقُل الن ُ‬
‫فاج َع ْل َ‬
‫بينك وبين ا ِ‬
‫هلل خبايا صالحة‪،‬‬
‫ّاس‪ ،‬حسبُ َك ّ‬
‫أن اهلل يعلم!‬ ‫ال ي ُه ُّم إن جهلها الن ُ‬

‫‪347‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪77‬‬

‫فقالت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫النبي ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫قريش‬ ‫كلَّ ْ‬
‫مت‬
‫يا محمد‪ ،‬إنك تُخبرنا أن موسى كانت معه عصا‪،‬‬
‫فانفجرت منها اثنتا عشرةَ عيناً!‬
‫ْ‬ ‫ضرب بها البح َر‬
‫َ‬
‫وأن عيسى كان يُحيي الموتى!‬ ‫َّ‬
‫وإن ثمو َد كانت لهم ناقة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫َف ْأتِنا ببعض تلك اآليات حتى نُص ِّد َ‬
‫قك!‬
‫أي شيءٍ تُح ُّبو َن أن آتيكم به؟‬ ‫النبي ‪ُّ :‬‬‫ُّ‬ ‫فقال لهم‬
‫الصفا ذهباً!‬ ‫فقالوا‪ :‬تجعل لنا َّ‬
‫فعلت‪ ،‬تُص ِّدقوني؟!‬ ‫ُ‬ ‫قال‪ :‬فإن‬
‫فعلت لنتبعن ََّك أجمعين!‬ ‫َ‬ ‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬واهللِ‪ ،‬لئن‬
‫النبي  يدعو‪ ،‬فجاءه جبريل وقال‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫فقا َم‬
‫الصفا ذهباً‪،‬‬
‫شئت أصب َح َّ‬ ‫َ‬ ‫إن‬
‫أنزلت العذاب!‬
‫ُ‬ ‫صدق بها إال‬ ‫رس ْل آي ًة فلم يُ َّ‬ ‫ولكني لم أ ُ ِ‬
‫شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم!‬ ‫َ‬ ‫وإن‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ــد أ ْي َمان ِ ِهــم لئِــن‬ ‫ــاللِ َج ْه َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫فأنــزل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬وأقســموا ب ِ‬
‫َ َّ‬
‫ِنــد اللِ َو َمــا‬ ‫ــات ع‬ ‫ــل إ َّن َمــا ْاليَ ُ‬ ‫َ َ ْ ُ ْ َ ٌ َّ ُ ْ ُ َّ َ ُ ْ‬
‫جاءتهــم آيــة لؤمِــن بِهــا ق‬
‫ِ‬
‫ار ُهمْ‬ ‫ـم َو َأب ْ َص َ‬
‫ـب أَفْئ َد َت ُهـ ْ‬ ‫ون َو ُن َق ّلِـ ُ‬ ‫ُ ْ ُ ُ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ُ ْ ُ َ‬
‫يشـعِركم أنهــا إِذا جــاءت ل يؤمِن‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ـم َيع َم ُهون َولـ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ـم ف ُطغ َيانِهـ ْ‬ ‫ـر ٍة َونَ َذ ُرهـ ْ‬
‫ُ‬ ‫ـم يُ ْؤم ُِنــوا ب ـهِ أ َّو َل َمـ َّ‬
‫َك َمــا لَـ ْ‬
‫ـو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ َ َ َّ ْ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ َ َّ َ ُ ُ ْ َ ْ َ ٰ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ْ ُ َّ‬
‫ـم ك‬ ‫أننــا نزلــا إِل ِهــم الملئِكــة وكمهــم المــوت وحشنــا علي ِهـ‬
‫َّ َ َ َ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ ُ ً‬
‫ش ٍء ق ُبــا َّمــا كنــوا ِلُؤم ُِنــوا إِل أن يشــاء الل﴾‬
‫ُ‬

‫‪348‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أن قريش ـاً كانــت لتؤمــن كلهــا لــو صــار جبــل َّ‬
‫الصفــا‬ ‫ـب َّ‬ ‫ـت تحسـ ُ‬ ‫إن كنـ َ‬
‫ذهب ـاً فأنـ َ‬
‫ـت واهــم!‬
‫فقد شقَّ لهم القم َر فما آمنوا بنب َّوتِه!‬
‫السماء في شطر ليلة‪،‬‬ ‫سري به إلى بيت المقدس و ُعر َج به إلى َّ‬ ‫وأ ُ َ‬
‫وامتحنوه في صدقه فوجدوه صادقاً فما آمنوا بدعوته!‬
‫ولكنه صن َع بهم خبراً إذ لم يُعطهم ما سألوه‪،‬‬
‫فأمــا مــن كان فــي قلبــه خيـ ٌر فقــد آمــن بعــد ذلــك‪ ،‬ومــن كان فــي قلبــه‬
‫شـ ٌّـر مــات علــى كفــره‪،‬‬
‫بالضاللة‪،‬‬
‫مليئة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫إن المسألة مسألة قلوب‬ ‫َّ‬
‫وقــد آمـ َن أبــو بكـ ٍـر بــا معجــزة رآهــا‪ ،‬وكفــر أبــو جهـ ٍـل وقــد رأى القمــر‬
‫نصفين!‬

‫الدرس الثاني‪:‬‬
‫َّ‬

‫الح َّجة على الناس ال أكثر‪،‬‬‫المعجزات تُقيم ُ‬


‫من كان في قلبه خير سيتبع الحق بها أو بدونها‪،‬‬
‫شر فسيكفر وهو في غمرة المعجزة‪،‬‬ ‫ومن كان في قلبه ٌّ‬
‫ٍ‬
‫بمعجزات ال بمعجزة واحدة‪،‬‬ ‫السالم إلى فرعون‬ ‫جاء موسى عليه َّ‬
‫ٍ‬
‫معجزات تلي ُن لها الجبال‪،‬‬ ‫جاءه ولبني إسرائيل بتسع‬
‫فكف َر فرعون‪ ،‬وما آمن من بني إسرائيل إال قليل!‬

‫‪349‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً‪،‬‬ ‫َ‬


‫وقلب لهم العصا ح َّي ًة فما آمنوا‪،‬‬ ‫َ‬
‫وجاءهم بالطوفان فما راجعوا أنفسهم‪،‬‬
‫وجاءهم بالضفادع فما انتبهوا لضعفهم‪،‬‬
‫بالدم فجاؤوه مهرولين يطلبون أن يرفعه عنهم‪،‬‬ ‫وجاءهم َّ‬
‫فلما رفعه عنهم عادوا إلى كفرهم!‬
‫وجاءهــم بيــده يضمهــا إلــى جيبــه فتخــرج بيضــاء فأغلقــوا قلوبهــم‬
‫وعيونهــم‪،‬‬
‫تعجب كيف لم تُؤمن قريش‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬
‫فإن َ‬
‫ــب مــن بنــي إســرائيل أكثــر‪ ،‬شــقَّ لهــم موســى عليــه الســام‬ ‫فتعج ْ‬
‫َّ‬
‫البحــر بعصــاه‪،‬‬
‫ـك لهــم عدوهــم أمــام‬‫ومشــوا بيــن الشــقين دون أن تبتــل أقدامهــم‪ ،‬وأهلـ َ‬
‫أنظارهم‪،‬‬
‫فلما عبروا إلى الضفة األخرى ورأوا قوماً يعبدون األصنام‪،‬‬
‫السالم أن يجعل لهم آلهة!‬ ‫طلبوا من موسى عليه َّ‬
‫السالم لثمود ناق ًة من الصخرة‪،‬‬ ‫ومن قبل هذا أخر َج صالح عليه َّ‬
‫وبدل أن يؤمنوا بنب َّوتِه ذبحوا الناقة!‬

‫رس ّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫الكثير من الناس يُجادلون ألجل الجدال فقط‪،‬‬


‫وليس بحثاً عن الحقِّ وال طلباً لل ُهدى!‬

‫‪350‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫يج ُد أح ُدهم نفسه في كبر ِه وغروره‪،‬‬


‫بغض النظر إلى موضوع النقاش الذي أنتم فيه‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫قلت له‪ :‬إن اللبن أبيض‪،‬‬ ‫من الناس من إذا َ‬
‫لك‪ :‬بل هو أسود!‬ ‫لقال َ‬
‫قلت له‪ :‬إن البحر مالح‪،‬‬ ‫وإ ْن َ‬
‫عذب زُالل!‬
‫ٌ‬ ‫لك‪ :‬بل هو‬ ‫لقا َل َ‬
‫ـك وتتلــف أعصابـ َ‬
‫ـك معهــم‪ ،‬وفـ َّر منهــم فـ َ‬
‫ـرارك‬ ‫أمثــال هــذا ال تحــرق دمـ َ‬
‫من األســد!‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫في ال ُّدنيا أمرانِ يدعوان لل َعجب‪:‬‬


‫وحل ُم ا ِ‬
‫هلل على النَّاس!‬ ‫جرأة الناس على اهلل‪ِ ،‬‬
‫ترى أحدهم متكبراً وكأ ّنه ليس نهاية المطاف إلى القبر‪،‬‬
‫وكأن ال ُّدنيــا دامــت لغيــره‬
‫َّ‬ ‫ويــأكل أحدهــم ميــراث إخوتــه وأخواتــه‪،‬‬
‫حتــى تــدوم لــه‪،‬‬
‫ـش أحدهــم بالمســكين الضعيــف‪ ،‬دون أن يـ َّ‬
‫ـرف لــه جفــن أن اهلل‬ ‫ويبطـ ُ‬
‫ينظـ ُر إليــه‪،‬‬
‫ويظل ُم أحدهم زوجته ويهينها دون أن يتذ ّكر أنه سيُسأل عنها‪،‬‬
‫أموال تُؤكل بالحرام غصباً وظلماً‪،‬‬
‫تُصاب بال ُّذهول لما ترى وتقول في نفسك‪ :‬ما أجرأ هؤالء!‬
‫ثم تنظ ُر إلى الجهة األخرى من المشهد‪،‬‬

‫‪351‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫ـوي المنتقــم‪ ،‬كيــف يحلــم علــى النــاس إلــى هــذا‬


‫هــذا الـ َّر ُب القــادر القـ ُّ‬
‫الح ِّد ؟!‬
‫َّاس بإمهالهم‪،‬‬
‫الح َّجة على الن ِ‬
‫تباركت حكمتُه حين أرا َد أن يقيم ُ‬ ‫ْ‬
‫ؤخر بعض ال َقصاص إلى يوم ال َقصاص!‬ ‫وتبارك عدلُه حين أرا َد أن يُ ِّ‬‫َ‬

‫‪352‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪78‬‬

‫َ‬ ‫ُ َّ َ َ َ‬ ‫ْ َ‬
‫﴿ت ِلك ُح ُدود اللِ فل ت ْع َت ُدوها﴾‬

‫ُح ِّريت َُك ّ‬


‫الشخص ّية تنتهي عند ُح ُدودِ اهلل!‬
‫نح ُن عبي ٌد هللِ‪ ،‬والعب ُد في أ ْم ِر س ّيدِ ه‪،‬‬
‫يف َع ُل ما أم َره به‪ ،‬ويترك ما نهاه عنه‪،‬‬
‫وما وص َل الواصلون إلى اهلل‪،‬‬
‫ِ‬
‫بترك ما يُح ُّبونه ألجلِ ما يُح ُّبه‪،‬‬ ‫إال‬
‫السالم عند زُليخة لم ي ُك ْن دون شهوة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يوسف عليه ّ‬
‫ِ‬
‫صاح َب تقوى!‬ ‫ولكنّه كان‬
‫هيب لم ي ُك ْن كارهاً للمال‪،‬‬
‫وص ُ‬‫ُ‬
‫ولكنّه تر َكه واشترى َ‬
‫نفسه‪،‬‬
‫بال ّت ْر ِك فقط‪َ :‬ر ِب َح البي ُع أبا يحيى!‬

‫‪353‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪79‬‬

‫النبي  بر ْو ِث شاةٍ ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫جهل‬


‫رمى أبو ٍ‬
‫لب لم يُؤمن بعد‪،‬‬ ‫وحمزةُ بن عبد ال ُم َّط ِ‬
‫قنصه وبيده قوس‪،‬‬ ‫راج ٌع من ِ‬ ‫جهل وهو ِ‬ ‫فأُخب َر حمزةُ بما فعل أبو ٍ‬
‫جهل بالقوس‪،‬‬ ‫ضرب أبا ٍ‬ ‫َ‬ ‫فأقبل حتى‬
‫جهل يستعطفه‪ :‬يا أبا ي ْعلَى‪ ،‬أما ترى ما جا َء به‪،‬‬ ‫فقال له أبو ٍ‬
‫وخالف آباءنا؟!‬ ‫َ‬ ‫وسب آلهتنا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫سفَّه عقولنا‪،‬‬
‫الحجارة من دون اهلل!‬ ‫فقال له حمزة‪ :‬ومن أسفه منكم‪ ،‬تعبدون ِ‬
‫شريك له‪ ،‬وأن محمداً عبده ورسوله!‬ ‫َ‬ ‫أشه ُد أن ال إله إال اهلل ال‬
‫َ َ َ ْ ً َ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ َُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فأنــزل اهلل تعالــى قولــه‪﴿ :‬أومــن كن ميتــا فأحيينــاه وجعلنــا ل‬
‫َْ َ َ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َّ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫نُـ ً‬
‫ـس ِبــارِ ٍج‬ ‫ـاس ك َمــن مثلــه ِف الظل َمـ ِ‬
‫ـات ليـ‬ ‫ـي ب ِـهِ ِف انلَّـ ِ‬ ‫ـورا َي ْمـ ِ‬
‫ْ ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ـن َمــا كنــوا َيع َملــون﴾‬ ‫ـن ل ِلْ َكف ِريـ َ‬ ‫ـك ُز ّيـ َ‬ ‫ّ ْ َ َ َٰ َ‬
‫مِنهــا كذلِـ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫األول‪:‬‬
‫رس ّ‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫النبي  ليكو َن لنا ديِن!‬ ‫ُّ‬ ‫تعب‬


‫كم َ‬
‫جهل بر ْو ِث َّ‬
‫الشاة‪،‬‬ ‫ضربَه أبو ٍ‬
‫ووض َع اب ُن أبي معيط َسال الجزور على رأسه‪،‬‬
‫طالب وقاطعوه‪،‬‬‫ٍ‬ ‫عب أبي‬‫حاص ُروه في ِش ِ‬
‫الد ُم من قدميه َّ‬
‫الشريفتين‪،‬‬ ‫ائف حتى سال َّ‬ ‫الط ِ‬ ‫رج ُموه في َّ‬
‫والكذب والجنون‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بالسحر‬ ‫اتَّه ُموه ِّ‬

‫‪354‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫تآمروا لقتله بأ ْن يأخذوا من ك ِّل قبيلة رج ً‬


‫ال‪،‬‬
‫فيضربوه ضرب ًة واحدة ويتفر َق دمه بين القبائل!‬
‫أخرجوه من قريته التي يُ ِح ُّب‪،‬‬
‫ُ‬
‫الشريف يوم أُحد‪،‬‬‫رأسه َّ‬ ‫وشجوا َ‬ ‫ُّ‬ ‫بدر‪،‬‬
‫قاتلوه في ٍ‬
‫ونقضت العه َد معه اليهو ُد‪،‬‬
‫ْ‬ ‫األحزاب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تآمرت عليه‬
‫ْ‬
‫وهو في كل هذا صاب ٌر محتسب ال يلي ُن وال يفتر‪،‬‬
‫فقط كي يكون لنا اليو َم دِ ين!‬

‫الثاني‪:‬‬ ‫رس َّ‬ ‫الد ُ‬


‫َّ‬
‫الد َم ال يصي ُر ما ًء فص ِّدقْ!‬ ‫إن َّ‬ ‫لك‪َّ :‬‬ ‫إ ْن قيل َ‬
‫كانت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫اإلنسان ت ُع ُّز عليه َر ِح َمه مهما‬
‫السالم لغرقِ ابنه مع القوم الكافرين‪،‬‬ ‫توج َع نو ٌح عليه َّ‬ ‫ومن قبل َّ‬
‫قل إيمانه‪،‬‬ ‫انثنت عقيدتُه‪ ،‬وال َّ‬ ‫ْ‬ ‫ما‬
‫امخ في إيمانه‪،‬‬ ‫إ ّنه شي ُخ المرسلين ال َّراسخ في عقيدتِه‪َّ ،‬‬
‫الش ِ‬
‫لحم ودم!‬ ‫أب من ٍ‬ ‫ولكنّه ٌ‬
‫النبي ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫َّاس دفاعاً عن‬ ‫طالب أكثر الن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أبو‬
‫وحمِ َّية َر ِحم‪ ،‬وحنين د ّم‪،‬‬‫ولكنّه دفاع ُقربى‪َ ،‬‬
‫ولكن ابن أخيه لم يُه ْن عنده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قريش‬
‫ٍ‬ ‫كان على دين‬
‫جهل لم يكن قد نطق َّ‬
‫الشهادتين بعد‪،‬‬ ‫ضرب أبا ٍ‬ ‫َ‬ ‫وحمزة حين‬
‫ويجلس هو يتف َّرج!‬
‫ُ‬ ‫ولكن النبيل ال تُرمى رح ُمه‬
‫َّ‬
‫ص من ٍأخ أمام أخيه فهو لن يهو َن عنده مهما كان‪،‬‬ ‫ال تنتقِ ْ‬
‫فهي بُضعة منهم‪،‬‬ ‫َ‬
‫زوجتك أمام أهلها َ‬ ‫وال تُهِ ْن‬

‫‪355‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫األص ُل أال تُهِ نْها ال في حضورهم وال في غيابهم‪،‬‬


‫ٍ‬
‫فبشرف!‬ ‫خاصمت‬
‫َ‬ ‫ولكن إ ْن‬
‫رف الفُرسان الذين يُراعون خواط َر اآلخرين ومشاع َره ُم‪،‬‬ ‫ِش ِ‬ ‫ب َ‬
‫جهل‪،‬‬
‫الصحابة أن يس ُّبوا أبا ٍ‬ ‫النبي  َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ونهى‬
‫أمــا َم اب ِنــه ِعكرمــة‪ ،‬هــذا وهــو فرعــو ُن هــذه األ َّمــة‪ ،‬ألن فــي سـ ِّبه ً‬
‫أذى‬
‫ســيطال ابنَــه!‬

‫رس َّ‬
‫الثالث‪:‬‬ ‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫غريب ٌة ِح َج ُج أهل الباطل وعجيبة‪،‬‬


‫قصره‪،‬‬
‫ِ‬ ‫السالم أ ْن ر َّباه في‬ ‫يمن فرعو ُن على موسى عليه َّ‬ ‫ُّ‬
‫بينما ينسى أنه استعب َد قو َمه عقوداً طويلة‪،‬‬
‫لوط له ذنباً‪،‬‬ ‫يج ْد قو ُم ٍ‬‫وعندما لم ِ‬
‫ع َّيروه بأ ّنه وأهله‪ :‬قو ٌم يتط َّه ُرون!‬
‫ٍ‬
‫سلسلة طويلة‪،‬‬ ‫وح َّجتِه ليس إال حلق ًة في‬ ‫جهل في منطقهِ ُ‬ ‫وأبو ٍ‬
‫بدأت مع إبليس حين استنت َج أ ّنه خي ٌر من آدم عليه ّ‬
‫السالم‪،‬‬ ‫ْ‬
‫السالم من طين!‬
‫نار‪ ،‬وآدم عليه َّ‬ ‫وح َّجتُه فقط أل َّنه مخلو ٌق من ٍ‬ ‫ُ‬
‫بنفخ إسرافيل في الصور‪،‬‬ ‫السلسلة إال ِ‬ ‫ولن تنتهي هذه ِّ‬
‫وزوا ُل أهل الباطل جميعاً عن ظهر هذا الكوكب!‬
‫جهل‪َ :‬سفَّه عقولنا!‬ ‫نظ ْر إلى قول أبي ٍ‬ ‫وا ُ ُ‬
‫البنت ح َّي ًة‪،‬‬
‫َ‬ ‫عقول هذه التي تئ ُد‬
‫ٍ‬ ‫أي‬‫ُّ‬
‫ِ‬
‫بالبيت الحرام ُعريانة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وتطوف‬

‫‪356‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫معارك الثأر بينها أربعي َن سن ًة فال تُبقي وال تذر!‬


‫ُ‬ ‫وتدو ُر‬
‫وسب آلهتنا!‬ ‫َّ‬
‫الحجار ِة والخشب‪،‬‬
‫ُنحت من ِ‬‫أية آلهة هذه التي ت ُ‬
‫طلب منها الحماية وهي عاجزة عن حمايةِ ِ‬
‫نفسها‪،‬‬ ‫ويُ ُ‬
‫وتُسأل المشورة وهي عمياءُ ال ترى!‬
‫رأسها!‬‫ويُتب َّر َك بها‪ ،‬والعصفو ُر يقضي حاجته على ِ‬
‫َ‬
‫وخالف آبائنا!‬
‫أي آباءٍ هؤالء الذين نحتُوا األصنا َم ألوالدهم ليعبُدوها‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫بعضهم بعضاً‪،‬‬
‫نوق فأفنى ُ‬ ‫سباق ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وتحاربُوا ألجل‬
‫جاهل َّي ٌة عمياء ال ترح ُم بشراً وال شجراً وال حجراً‪،‬‬
‫مكارم األخالقِ هي بقايا النُّبو ِة األولى!‬
‫ِ‬ ‫جلفاء قاسية إال بعضاً من‬

‫الرابع‪:‬‬
‫رس َّ‬
‫الد ُ‬
‫َّ‬

‫أ َو َم ْن كا َن ميتاً فأحييناه!‬
‫القرآني وبالغتِه!‬
‫ِّ‬ ‫يا لد َّقةِ الت ِ‬
‫َّعبير‬
‫بال ُكفر يصي ُر اإلنسا ُن قبراً يسي ُر على قدمين!‬
‫هلل تكون والدته الحقيق ِّية!‬‫وباإليمانِ با ِ‬
‫موت بمقدار ما فيها من بُ ٍ‬
‫عد عن اهلل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫معصية هي ٌ‬ ‫وك ُّل‬
‫ليست حياة هذا الجسد الفاني‪،‬‬
‫ْ‬ ‫والحياة الحقيق َّية‬
‫إ ّنها حياة هذه ال ُّروح الباقية‪،‬‬
‫حياة هذا القلب ال ُممتلئ باهلل‪،‬‬

‫‪357‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫حيــاة هــذا العقــل الواعــي المــدرك لحجـ ِـم اإلنســان الحقيقـ ِّـي والغايــة‬
‫مــن خلقِ ــه‪،‬‬
‫ملكت ال ُّدنيا‪،‬‬
‫َ‬ ‫أنت فقي ٌر ولو‬
‫هلل َ‬ ‫بعيداً عن ا ِ‬
‫السماء‪،‬‬
‫بلغت أصداءُ ضحكاتك عنا َن َّ‬ ‫ْ‬ ‫تعيس ولو‬‫ٌ‬
‫معك ك ّل بوصالت العالم‪،‬‬ ‫تائ ٌه ولو كان َ‬
‫كنت من المشاهير‪،‬‬ ‫تافِ ٌه وإن َ‬
‫الشهادات العليا‪،‬‬ ‫حملت َّ‬
‫َ‬ ‫جاه ٌل وإن‬
‫دت المناصب ال َّرفيعة‪،‬‬ ‫وضي ٌع وإن تقلَّ َ‬
‫مرض عافية‪،‬‬ ‫فقر غنى‪ ،‬وكل ٍ‬ ‫هلل كل ٍ‬ ‫ومع ا ِ‬
‫من لم يفته أن يكون عبداً هلل‪،‬‬
‫لم يفته شي ًء من ال ُّدنيا وإن فاتته كلُّها!‬

‫‪358‬‬
‫الح ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪80‬‬

‫ك ً‬‫ََ َ َ ُْ ُ ْ َ ْ ُ‬
‫ورا﴾‬ ‫‏﴿وكن سعيكم مش‬

‫نحن مس ُؤولو َن عن ّ‬
‫السعي ال عن النّتيجة‪،‬‬
‫عن ّ‬
‫الطريقِ ال عن ال ُوصول‪،‬‬
‫الحصاد‪،‬‬
‫عن البِذار ال عن َ‬
‫تخ ّي ْل أ ّنه سيأتي يوم القيامة ٌّ‬
‫نبي لم يُؤمن به أحد!‬
‫ص شيئاً من نُب َّوتِه‪،‬‬
‫ولكن هذا لن يُنقِ َ‬
‫لقد سعى َس ْع َي األنبياء‪،‬‬
‫ومشى على طريقِ األنبياء‪،‬‬
‫وب َذ َر ِب َذا َر األنبياء‪،‬‬
‫الح ّج َة على النَّاس!‬
‫أ ّدى ما عليه وأقا َم ُ‬
‫َ‬
‫يسألك عن النّتائج‪،‬‬ ‫عي ول ْم‬
‫الس َ‬
‫منك ّ‬‫طلب اهللُ تعالى َ‬
‫َ‬
‫مطلوب َ‬
‫منك‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫فانْ َشغِ ْل بما هو‬
‫لست مسؤوالً عنه!‬
‫َ‬ ‫تنشغِ ْل بما‬
‫وال َ‬

‫‪359‬‬
‫احل ِّق َأ ْنزَ لْنَ اه‬
‫وب َ‬‫ِ‬

‫‪360‬‬

You might also like