You are on page 1of 32

‫اﻟﻘﺎﻧون اﻟدوﻟﻲ اﻟﺧﺎص‬

‫تتعدد نشاطات اإلنسان والسيما في عالقاته مع غيره ويتدخل المشرع لتنظيم جانب من هذه‬
‫العالقات ذات الطبيعة القانونية‪ ،‬كما يكون القضاء هو الجهة المختصة للفصل في النزاعات‬
‫الناشئة عن هذه العالقات‪ ،‬فإذا كانت العالقة القانونية في عناصرها الثالثة ‪ :‬األشخاص‪،‬‬
‫المحل والمصدر‪ ،‬وطنية بحتة أي تنتمي إلى الدولة التي يتبع لها القاضي‪ ،‬فإنها تخرج عن‬
‫نطاق تنازع القوانين‪ ،‬بل وعن قانون العالقات الخاصة الدولية او ما يطلق عليه القانون‬
‫الدولي الخاص‪.‬‬

‫أما إذا اتسم أحد عناصر العالقة القانونية بالصفة األجنبية‪ ،‬كان ينتمي أحد أطرافها إلى دولة‬
‫أجنبية‪ ،‬فإننا هنا نكون أمام تدخل أكثر من قانون لحكم العالقة القانونية‪ ،‬تبعا النتماء عناصر‬
‫العالقة ألكثر من دولة‪ ،‬ويطلق على هذا الوضع بتنازع القوانين‪.‬‬

‫وتبعا لذلك يثور التساؤل‪ ،‬عن أنسب القوانين التي يتعين على القاضي تطبيقها على تلك‬
‫العالقة‪ ،‬ذلك أن احتواءها لعنصر أجنبي يعني اتصالها بأكثر من قانون واحد؟‬
‫إن حل مشكلة " تنازع القوانين " يتم عادة بواسطة إعمال قواعد تنازع القوانين أو " قواعد‬
‫اإلسناد ‪ ،‬التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على المراكز القانونية ذات‬
‫العنصر األجنبية‪ ،‬وهي قواعد يضعها المشرع الوطني الختيار أكثر القوانين المتزاحمة‬
‫مالءمة لحكم العالقة الخاصة المتضمنة عنصرا أجنبيا‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬إن قواعد اإلسناد‪ ،‬ال تطبق إال على عالقات القانون الخاص‪ ،‬مثل الروابط‬
‫التعاقدية‪ ،‬ومسائل الزواج والطالق والميراث والوصايا‪...‬إلخ‪ ،‬أي العالقات التي ال تكون‬
‫الدولة موضوعا لها او طرفا فيها بوصفها صاحبة السيادة‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فوظيفة قواعد اإلسناد هي حل المشاكل المترتبة على اختالف التشريعات الوطنية‬
‫السائدة وتباينها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كما أن تعيين قاعدة اإلسناد يقتضي تحديد الوصف القانوني الموضوع النزاع‪ ،‬أي تكييف‬
‫العالقات القانونية بردها إلى إحدى الفئات القانونية التي خصص لها المشرع قاعدة إسناد‪،‬‬
‫ومثال العالقات القانونية ‪ :‬الزواج‪ ،‬الطالق‪ ،‬العقد‪ ،‬الفعل الضار‪ ،‬الوصية‪ ،‬األهلية‪...‬‬

‫وبعد تخطي القاضي لهذه المرحلة وتحديده لقاعدة اإلسناد‪ ،‬التي أشارت بتطبيق قانون‬
‫أجنبي معين‪ ،‬فإن التساؤل يثور حول المقصود بهذا القانون‪ ،‬هل يتعين على القاضي أن‬
‫يرجع إلى القانون األجنبي في جملته‪ ،‬بما يترتب على ذلك من ضرورة استشارة قواعد‬
‫اإلسناد في هذا القانون لمعرفة ما إذا كانت تمنح االختصاص إلى قانونها أم تقضي باإلحالة‬
‫إلى قانون آخر؟ أم أن على القاضي أن يرفض اإلحالة ويتجه مباشرة إلى القواعد‬
‫الموضوعية في القانون األجنبي ويطبقها على موضوع النزاع دون االعتداد بقواعد القانون‬
‫األجنبي‪.‬‬

‫وبعد االنتهاء من هذه العملية التي تندرج ضمن آليات تنازع القوانين‪ ،‬فإن القاضي ينتقل إلى‬
‫مرحلة حل التنازع الناشئ بين القوانين عن طريق تطبيق قاعدة اإلسناد التي يقصد بها‬
‫القاعدة الوطنية التي تعين القانون الذي يجب تطبيقه على العالقة القانونية موضوع‬
‫النزاع (فصل اول)‪.‬‬
‫هذا وقد يتعذر على القاضي تطبيق القانون األجنبي الذي تعينه هذه القاعدة‪ ،‬بحيث يلجأ إلى‬
‫استبعاد هذا القانون‪ ،‬وذلك ألسباب متعددة كاستحالة تطبيقه أو مخالفته للنظام العام لدولته‪،‬‬
‫او لوجود تحايل على القانون الواجب التطبيق (فصل ثاني)‪.‬‬

‫الفصل األول ‪:‬‬


‫تنازع القوانين في القانون الدولي الخاص‬
‫إن االختالف بين قوانين الدول وأنظمتها يثير والشك نزاعا فيما بينها كلما اتصلت عالقة‬
‫قانونية أو مركز قانوني بدولة أجنبية أو أكثر‪ ،‬وهذا التنازع كما االصطالح على هذه‬
‫التسمية هو نتيجة طبيعية لما يعرفه العالم من تعامل قانونی األفراد على نطاق يجاوز‬
‫الحدود اإلقليمية منذ زمن بعيد‪ ،‬وقد أصبح في الوقت الحالي أكثر تعقيدا لتشابك العالقات‬
‫الدولية واتصالها بفعل التطور الحضاري الهائل‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬ومن الخطأ االعتقاد بأن تنازع القوانين ال يقع إال في الحالة التي تطرح فيها العالقة‬
‫القانونية موضوع النزاع أمام المحكمة للبت فيها عن طريق تطبيق القانون المالئم عليها‪،‬‬
‫بل إن التنازع يكون قائما منذ اللحظة التي تنشأ فيها العالقة القانونية‪ ،‬الن نشوءها وتكوينها‬

‫‪2‬‬
‫يقتضي أوال تحديد القانون المنظم لها من حيث الشكل والموضوع‪ ،‬وتحديد هذا القانون يثير‬
‫منذ البداية إشكالية تزاحم وتنافس قوانين عدة دول لحكم هذه العالقة‪.‬‬
‫ويتم حل التنازع بترجيح أحد القوانين المتنازعة وتفضيله أ كان وطنيا او أجنبيا‬
‫ويشترط لقيام تنازع القوانين توافر شروط اجتماعية وتشريعية هي ‪:‬‬

‫‪ -1‬أن تتسم العالقات والتبادالت بالصفة الدولية‪،‬‬

‫وبعبارة أخرى أن تتضمن العالقة القانونية عنصرا أجنبيا‪ ،‬والعناصر المكونة للعالقة‬
‫القانونية هي ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬السبب المنشا لها‪ ،‬سواء كان هذا السبب تصرفا قانونيا كبيع او وصية أو واقعة‬
‫قانونية‪ -‬عمال ضارا أو عمال نافعا‪ -‬أو نصا قانونيا كالوالية والوصاية‪ ،‬وقد يكون السبب‬
‫المنشئ واقعة طبيعية كالوالدة والموت‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أشخاص العالقة القانونية‪ ،‬سواء أكان هؤالء األشخاص دائنين أو مدنيين أو أصحاب‬
‫حقوق أو ملتزمين متسببين في ضرر ما او متضررين‪..‬إلخ‬
‫ثالثا ‪ :‬محل العالقة القانونية‪ ،‬وهذا المحل إما أن يكون قياما بعمل شيء أو امتاعا عن القيام‬
‫به او التزاما بإعطاء شيء‪.‬‬
‫فاتصال العالقة القانونية بقوانين عدة دول قد يجعل كل قانون من قوانين تلك الدول قابال‬
‫للتطبيق على العالقة القانونية في هذه الحالة‪.‬‬

‫‪ -2‬أن يقبل المشرع الوطني في حاالت معينة تطبيق قانون غير قانونه‪،‬‬

‫ألن التمسك بمبدأ سيادة القانون الوطني على إطالقه‪ ،‬وفي جميع األحوال‪ ،‬وضع‪ ،‬يؤدي إلى‬
‫انتفاء أي تنازع بين قانون القاضي وأي قانون أجنبي‪.‬‬

‫‪ -3‬أن يكون هناك اختالف في التشريع بين الدول‪،‬‬

‫أما إذا كانت قوانين الدول التي تتصل بها عناصر العالقة القانونية متشابهة وموحدة ‪ ،‬فإن‬
‫الحكم سيكون ذاته سواء‪ ،‬ثم منح االختصاص إلى قانون دولة ما أم لقانون دولة أخرى‪ ،‬وما‬
‫دام الحكم واحدا فليس هناك من جدوى وال مصلحة من قيام التنازع‬
‫وعليه‪ ،‬فإذا كانت األنظمة القانونية في هذا المجال مختلفة‪ ،‬فإن هذا االختالف يظهر على‬
‫مستويين ‪:‬‬
‫‪ -1‬على مستوى الوصف القانوني الذي يتم إعطاؤه لرابطة ما‪ ،‬فقد يعتبر قانون دولة ما‪،‬‬
‫هذه الرابطة جزءا من األحوال الشخصية بينما تعتبر دولة أخرى جزءا من الشروط‬
‫الجوهرية للعقد‪ ،‬وكذلك قد يعتبر أحد شروط العقد جوهريا في قانون دولة‪ ،‬بينما يعتبره‬
‫قانون دولة أخرى شرطا شكليا‪ ،‬فهذا التباين تنجم عنه صعوبات عند البحث عن قاعدة‬
‫‪3‬‬
‫اإلسناد ‪ ،‬ألن الرابطة القانونية المراد تحديد القانون الواجب التطبيق عليها‪ ،‬فد تدخل ضمن‬
‫قاعدتين مختلفتين لإلسناد ‪ ،‬نظرا الختالف الوصف القانوني الممنوح لها في كل من‬
‫الدولتين‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن إسناد العالقة ذات البعد الدولي لقانون دولة ما ال يتم بصورة مباشرة وإنما‬
‫يتطلب إجراء عملية تسمى " التكييف " (الفرع األول) حتى يتمكن من تعيين قاعدة اإلسناد‬
‫المالئمة‪.‬‬
‫‪ -2‬وعلى مستوى ثان‪ ،‬إن قواعد اإلسناد هي األخرى تختلف من بلد آخر‪ ،‬فبعض الدول‬
‫مثال تجعل الحالة الشخصية خاضعة للقانون الوطني للشخص بينما تخضعها قوانين دول‬
‫أخرى لقانون الموطن‪ ،‬بحيث يواجه القاضي باإلشكالية التالية ‪:‬‬
‫فعندما تعين قاعدة اإلسناد الوطنية قانونا أجنبيا ليطبق على العالقة القانونية موضوع‬
‫النزاع‪ ،‬فهل يجب على القاضي في هذه الحالة أن يستشير أيضا قاعدة اإلسناد األجنبية‬
‫لمعرفة ما إذا كانت تمنح االختصاص لقانونها أم أنه يجب عليه أن يطبق مباشرة القانون‬
‫األجنبي الداخلي ؟‬
‫هنا يواجه القاضي بإشكالية من طبيعة اخرى تعرف باسم " اإلحالة " (الفرع الثاني)‪ ،‬وذلك‬
‫لتحديد‪ ،‬قاعدة اإلسناد المالئمة لموضوع النزاع المعروض على القاضي ( الفرع الثالث)‪.‬‬
‫الفرع األول ‪:‬‬
‫التكييف في القانون الدولي الخاص‬
‫إن مشكلة التكييف ‪ qualification‬ال تثار فقط في القانون الدولي الخاص‪ ،‬بل هي‬
‫مسألة أساسية تفرض نفسها على القاضي أو على رجل القانون في مختلف فروع القانون‬
‫األخرى‪.‬‬
‫فعلى مستوى القانون المدني غالبا ما يصطدم القاضي بمشكلة التكييف‪ ،‬حينما يتصدى مثال‬
‫لتحديد الوصف السليم للرابطة التعاقدية المطروحة أمامه‪ ،‬لمعرفة ما إذا كان العقد موضوع‬
‫النزاع هو عقد بيع أو عقد إيجار او هبة‪....‬‬

‫ونفس المشكل يثار في إطار القانون الجنائي‪ ،‬بحيث يتعين على القاضي وصف الفعل الذي‬
‫اقترفه المتهم‪ ،‬لمعرفة ما إذا كان يعتبر من قبيل السرقة أو خيانة األمانة فتحديد طبيعة‬
‫العالقة القانونية موضوع النزاع وارجاعها لنظام قانوني معين مسألة أساسية يجب حلها‬
‫أوال‪ ،‬وقبل كل شيء ‪ ،‬وتسمى عملية التحديد هذه بالتكييف‪ ،‬ألن تحديد قاعدة اإلسناد‪،‬‬
‫وبالتالي القانون الواجب التطبيق يعتمد على تعيين طبيعة العالقة القانونية وإدخالها ضمن‬
‫صنف قانوني معين‪.‬‬
‫فما هو مفهوم التكييف في نطاق تنازع القوانين (المطلب األول) وما هو موقف االتجاهات‬
‫الفقهية المختلفة بخصوص القانون الذي يتم بموجبه التكييف (المطلب الثاني)‪.‬‬
‫المطلب األول ‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫مفهوم التكييف‬
‫لقد سبق أن أشرنا إلى أن التكييف هو تحليل للوقائع والتصرفات القانونية بهدف إعطائها‬
‫وصفها الحقيقي ليتم إدراجها في أحد التقسيمات السائدة في فرع معين من فروع القانون‪،‬‬
‫ذلك أن قواعد اإلسناد ال نضع حال لكل مسألة على حدة تطرحام القضاء‪ ،‬وإنما تضع‬
‫الحلول لكل طائفة من المسائل‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإذا أردنا تطبيق قاعدة اإلسناد لتحديد القانون المختص في حكم العالقة القانونية‬
‫موضوع النزاع‪ ،‬ينبغي بادئ ذي بدء أن نعرف ما إذا كانت هذه العالق هي من مسائل‬
‫األهلية ليتم إخضاعها إلى قانون الدولة التي ينتمي إليها الشخص‪ ،‬أما إذا كانت من مسائل‬
‫أشكال التصرف‪ ،‬فإن قانون البلد الذي تمت فيه هو الذي سيحكمها‪ ،‬وفي حالة ما إذا كان‬
‫النزاع يتعلق بالميراث‪ ،‬فإن قانون المتوفى هو الواجب التطبيق‪.‬‬
‫فإذا قام مثال المدعي برفع دعوى قضائية للمطالبة بتنفيذ التزام شخصي‪ ،‬إال أنه لم يحدد‬
‫نوعه أو مصدره‪ ،‬وهذا يتطلب من القاضي المعروض عليه النزاع‪ ،‬أن يحدد الوصف‬
‫القانوني للمسألة محل النزاع‪ ،‬حتى يتمكن من تحديد القاعدة القانونية الواجبة التطبيق‪ ،‬فهل‬
‫هذه المسألة تتعلق بالتزام مصدره رابطة تعاقدية أو مسؤولية تقصيرية‪ ،‬وإذا كان األمر‬
‫يتعلق برابطة تعاقدية‪ ،‬فيجب عليه البحث في مصدرها‪ ،‬هل هو البيع أو اإليجار‪.‬‬
‫أما إذا كان األمر يتعلق بالمسؤولية التقصيرية‪ ،‬فيتعين عليه ان يحدد ما إذا كان مصدر هذه‬
‫المسؤولية هو الخطأ الشخصي أو خطأ الغير‪...‬‬
‫المطلب الثاني ‪:‬‬
‫النظريات الفقهية في مجال التكييف‬
‫إذا كان التكييف عملية أولية سابقة على تطبيق قاعدة اإلسناد ‪ ،‬فإن القاضي تواجهه إشكالية‬
‫بيان القانون الذي بموجبه يتم تكييف موضوع النزاع وإسناده إلى إحدى الفئات القانونية‬
‫التي تنظمها قواعد اإلسناد‪.‬‬
‫ولقد طرحت في هذا الصدد ثالثة نظريات‪:‬‬
‫‪ -‬إخضاع التكييف للقانون المقارن (الفقرة األولى)‬
‫‪ -‬إخضاع التكييف للقانون الذي يحكم النزاع (الفقرة الثانية)‪.‬‬
‫‪ -‬إخضاع التكييف لقانون القاضي (الفقرة الثالثة)‪.‬‬
‫الفترة األولى ‪:‬‬
‫إخضاع التكييف للقانون المقارن‬
‫حسب هذه النظرية‪ ،‬إن التكييف يجب أن يخضع لقواعد القانون المقارن‪ ،‬أي أن القاضي‬
‫يقوم بتوصيف العالقة في ضوء مفاهيم عالمية بمعزل عن المفاهيم الوطنية الواردة في‬
‫قانونه‪ ،‬وبعبارة أخرى يجب على القاضي أن يقوم بعملية تكييف موضوع النزاع بصورة‬
‫مستقلة ومنفصلة عن مفاهيم قوانين الدول الداخلية وذلك دون التقيد بقانون دولة معينة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫فإذا نص قانون القاضي مثال على أن الوصاية تخضع لقانون الشخص الذي يجب حمايته‬
‫فينبغي عليه عدم الرجوع إلى القواعد الموضوعية في قانونه أو في أي قانون وضعي آخر‬
‫لتحديد مضمون فكرة الوصاية‪ ،‬وإنما يتعين على القاضي أن يستخلص مفهوم مطلق لهذه‬
‫الفكرة‪ ،‬وذلك من خالل القيام بدراسة مقارنة لقوانين الدول المختلفة الخاصة بحماية ناقصي‬
‫األهلية ممن ال يخضعون للسلطة األبوية‪.‬‬
‫ويرجع الفضل لهذه النظرية الذي تزعمها األستاذ ‪ ، Rabel‬في إثارة االهتمام إلى‬
‫ضرورة توحيد أوصاف العالقة القانونية حتى يكون لقواعد اإلسناد معنی عالميا‪ ،‬فضال عن‬
‫أن إجراء التكييف وفق القانون المقارن من شأنه تذليل الصعوبات التي تعترض القاضي‬
‫عند تكييف عالقة قانونية تتعلق بنظام قانوني ال وجود له في قانون القاضي‪.‬‬
‫لكن هذه النظرية لم تلقى النجاح المطلوب‪ ،‬ألن قواعد القانون المقارن لم تتبلور بعدة‪ ،‬كما‬
‫أن القانون المقارن لم يستطع أن يوفق بين أوصاف العالقات القانونية‪ ،‬الن الطابع الوطني‬
‫لهذا الفرع من فروع القانون‪ ،‬والتنافر الواضح بين مختلف النظم الوضعية حول الكثير من‬
‫المسائل‪ ،‬ما زال عائقا تصطدم به محاوالت المهتمين بالدراسات المقارنة‬
‫الفقرة الثانية ‪:‬‬
‫إخضاع التكييف للقانون الذي يحكم النزاع‬
‫يری جانب آخر من الفقه يتزعمه الفقيه الفرنسي دسبانييه (‪ )Despagnet‬أن تحديد‬
‫طبيعة العالقة أو المركز محل النزاع يجب أن يتم وفقا للقانون المختص بحكم موضوع هذا‬
‫النزاع‪ ،‬وتستند هذه النظرية على فكرة محورية مفادها أنه إذا أشارت قاعدة اإلسناد بتطبيق‬
‫قانون أجنبي معين على النزاع المعروض على القاضي‪ ،‬فإنه يتعين الرجوع إلى هذا‬
‫القانون لتحديد طبيعة المسألة موضوع هذا النزاع‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن نص المشرع على أن شكل التصرفات تخضع لقانون بلد إبرامها‪ ،‬فإن تحديد‬
‫مفهوم فكرة الشكل‪ ،‬ينبغي أن يتم وفق قانون بلد إبرام التصرف‪ ،‬أي القانون الذي أشارت‬
‫قاعدة اإلسناد بتطبيقه على موضوع النزاع‪.‬‬
‫ويبرر أصحاب هذه النظرية وجهة نظرهم بفكرة مفادها أن إسناد العالقة موضوع النزاع‬
‫لقانون ما‪ ،‬يقتضي أن يكون إسنادا إجماليا للعالقة‪ ،‬فيحكمها هذا القانون بشكل كامل من‬
‫ناحية تكييف العالقة موضوع النزاع‪ ،‬ومن الناحية الموضوعية‪ ،‬وأن تجزئة حكم العالقة‬
‫وتوزيعها بين قانون القاضي الذي يحكم النزاع‪ ،‬من شأنه أن يؤدي إلى‬
‫تعدد أوصاف العالقة القانونية بتعدد القوانين‪ ،‬ومن ثم تعدد الحلول‪ ،‬األمر الذي سيفضي إلى‬
‫تطبيق قانون غير مختص‪ ،‬وهذا يتعارض مع الهدف المسطر لقواعد اإلسناد ‪ .‬التي تتحدد‬
‫مهمتها في ربط العالقة موضوع النزاع بالقانون الذي يتالءم معها ويحقق العدالة ألطرافها‪.‬‬
‫ويعاب على هذه النظرية أنها تجعل عملية اإلسناد سابقة على التكييف‪ ،‬في حين أن التكييف‬
‫يكون سابقا على اإلسناد ‪ ،‬حيث يعطي االختصاص لقانون مالحكم التكييف قبل أن يتقرر ما‬
‫إذا كان سختها أم ال لحكم موضوع النزاع‪ ،‬ذلك أن اختصاصه يتوقف على التكييف‪ ،‬وال‬
‫يمكن ان يطبق إال بعد إجراء عملية التكييف‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ذلك أن التكييف هو عملية أولية الزمة لتحديد القانون الواجب التطبيق‪ ،‬فكيف يمكن إخضاع‬
‫التكييف للقانون المختص بحكم النزاع‪ ،‬في الوقت الذي يجهل فيه القاضي هذا القانون قبل‬
‫تكييف المسألة موضوع النزاع‪.‬‬
‫الفترة الثالثة ‪:‬‬
‫إخضاع التكييف لقانون القاضي‬
‫يرى أصحاب هذا االتجاه أن تحديد طبيعة العالقة موضوع النزاع يكون بموجب قواعد‬
‫قانون القاضي‪ ،‬بحيث يتعين على هذا األخير النظر لهذه العالقة من خالل المفاهيم الوطنية‬
‫الواردة في قانونه الداخلي‪ ،‬وذلك عبر تطبيق األفكار والمبادئ والق المضمنة فيه‪ ،‬ولقد‬
‫تزعم هذا االتجاه الفقهي كل من ‪ Bartin‬و ‪.Khan‬‬
‫ولقد برر ‪ Bartin‬إخضاع التكييف القانون القاضي بفكرة السيادة‪ ،‬فالمشرع الوطني عند‬
‫تنازله للقانون األجنبي لحكم عالقة قانونية على إقليم دولته فهو يضحي بجزء من سيادة‬
‫قانونه لفائدة قانون الدولة األجنبية الذي سيطبق على موضوع النزاع‪ ،‬ومادام أساس‬
‫اختصاص هذا القانون هو التنازل‪ ،‬فيجب التقيد بحدوده وعدم التوسع فيه‪ ،‬وبعبارة أخرى ال‬
‫ينبغي تطبيق القانون األجنبي إال بمقدار ما أجازه المشرع الوطني‪ ،‬ولما كان المشرع‬
‫الوطني لم يخضع التكييف لقانون آخر‪ ،‬فإن القاضي ال يستطيع إجراء التكييف وفق قانون‬
‫آخر غير قانونه‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬ولقد انطلق "بارتن "‪ " Bartin‬في وضع نظريته في التكييف من القضاء الفرنسي‪،‬‬
‫واستد على وجه الخصوص إلى قضيتين شهيرتين في فقه القانون الدولي الخاص‪،‬‬
‫وهما قضية ميراث المالطي وقضية وصية الهولندي‪.‬‬
‫وتتلخص وقائع قضية " ميراث المالطي " في أن زوجين من جزيرة مالطة اتخذا من‬
‫الجزائر‪ ،‬التي كانت تابعة في ذلك الوقت لفرنسا‪ ،‬موطنا لهما‪ ،‬وبعد أن توفي الزوج ادعت‬
‫الزوجة أمام محكمة الجزائر أن لها حقا على عقارات زوجها الموجودة في الجزائر‪ ،‬يسمى‬
‫بنصيب الزوج المحتاج ‪ ،‬وهو حق مقرر لها بمقتضى أحكام القانون المالطي‪ ،‬ولقد تساءل‬
‫الفقيه بارتان عن ماهية القواعد الفرنسية لتنازع القوانين المطبقة على هذه القضية مع‬
‫اعترافه بصعوبة تحديد هذه القواعد‪ ،‬وأن معالجة هذه القضية بتنازعه حالن متناقضان‪،‬‬
‫وبعبارة أخرى يكون على القاضي إما تكييف ادعاء الزوجة على أساس أنه يدخل في فكرة‬
‫النظام المالي للزوجين‪ ،‬وإما أن يعتبر حق الزوجة المدعى به على عقارات زوجها المتوفى‬
‫داخال ضمن فكرة الميراث‪.‬‬
‫فإذا قامت المحكمة بتكييف ادعاء الزوجة على أنه يتعلق بالنظام المالي للزوجين‪ ،‬فإن‬
‫القانون الواجب التطبيق من منظور قواعد التنازع الفرنسية‪ ،‬في هذه القضية هو القانون‬
‫المالطي‪ ،‬باعتباره قانون الموطن األول للزوجية‪ ،‬وبالتالي قانون الدولة التي اتجهت إرادة‬
‫المتعاقدين ضمنا إلى تطبيقه‪ ،‬وفي هذه الحالة يتعين الحكم بأحقية الزوجة في دعواها تطبيقا‬
‫لنصوص هذا القانون‪.‬‬
‫أما إذا اعتبرت المحكمة أن ادعاء الزوجة يتصل بفكرة الميراث‪ ،‬فإن القانون الواجب‬
‫التطبيق في هذه الفرضية‪ ،‬وفقا لقواعد اإلسناد الفرنسية‪ ،‬هو القانون الفرنسي بوصفه قانون‬

‫‪7‬‬
‫موقع العقار‪ ،‬ويترتب على هذا التكييف رفض ادعاء الزوجة‪ ،‬ألن القانون الفرنسي يجهل‬
‫الحق المسمى " نصيب الزوج المحتاج "‬
‫وفي هذا الصدد‪ ،‬يرى المرحوم األستاذ موسى عبود ‪:‬‬
‫أن هذا الحل وحده هو الذي يسمح للقاضي الخروج مما يسمى بالحلقة المفرغة‪ ،‬ألن‬
‫القاضي ال يمكنه أن يعين القانون المختص إال بعد ان يكيف الرابطة القانونية المعروضة‬
‫عليه‪ ،‬أي أنه في المثال المعروض ال يمكنه أن يحكم بأن القانون المختص هو المالطي أو‬
‫الفرنسي إال بعد ان يبين نوع الرابطة التي تتضمنها قاعدة "ريع الزوج الفقير‪ ،‬فهو إذن ال‬
‫يمكنه أن يطلب تكييف هذه القاعدة من القانون المالطي ‪ ،‬ألنه ال يعلم بعد إذا كان القانون‬
‫المالطي هو الذي سيطبق أم القانون الفرنسي‪ ،‬فمسألة التكييف يجب أن تسبق مسألة تعيين‬
‫القانون المختص ألنه طالما لم تحل مسألة التكييف‪ ،‬فإن القاضي ال يمكنه أن يستعين إال‬
‫بقانون دولته (‪ ، )....‬ففي مثالنا يجب على القاضي الفرنسي أن يبدأ بتحليل " ربع الزوج‬
‫الفقير في القانون المالطي ليفهم المقصود منه‪ ،‬وإذ ذاك يلحقه بمقتضى القانون الفرنسي إما‬
‫بقواعد العالقات الزوجية وإما بقواعد التوارث في العقارات" ‪.‬‬
‫أما بالنسبة للقضية الثانية في القانون الدولي الخاص التي استند عليها الفقيه بارتان لوضع‬
‫نظريته في التكييف والمعروفة ب " وصية الهولندي " والتي تتلخص وقائعها في أن‬
‫هولنديا حرر في فرنسا وصية في الشكل العرفي‪ ،‬وهو شكل تجيزه قواعد القانون الفرنسي‪،‬‬
‫ثم أثير النزاع بعد ذلك حول صحة هذه الوصية‪ .‬ويرى ‪ Bartin‬أن تحديد صحة الوصية‬
‫يتوقف أوال على تكييف المسألة محل البحث‪ ،‬وبالرجوع إلى القانون الهولندي نجده ال يجيز‬
‫الوصية الخطية أي الوصية المحررة على الشكل العرفي حيث تم تحريرها في الخارج‪،‬‬
‫وذلك حماية إلرادة الموصين والتيقن من عدم تسرعهم عند إبرام الوصية ‪ ،‬ولقد جعل‬
‫القانون الهولندي من هذا المنع أمرا يتعلق بأهليتهم‪.‬‬
‫أما القانون الفرنسي فهو يعتبر المسألة داخلة ضمن شكل التصرفات‪ ،‬ألن ذلك المنع ال يمس‬
‫جوهر إرادة الموصي ‪ ،‬وإنما هو أمر يخص باألساس وسيلة إظهار اإلرادة إلى العالم‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫يتبين مما سبق‪ ،‬أن قضية وصية الهولندي تثير مشكلة التكييف‪ ،‬بحيث يكون القاضي أمام‬
‫إشكالية الخيار ما بين تطبيق قانونه من جهة‪ ،‬وبين تطبيق القانون الشخصي‪ ،‬أي القانون‬
‫الهولندي‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬وبذلك يختلف القانون الواجب التطبيق في هذه الحالة تبعا لموقف‬
‫القاضي من مشكلة تكييف المنع المذكور‪.‬‬
‫وبذلك فإن تحديد القانون الواجب التطبيق ال يتأتى إال بعد القيام بعملية تكييف النزاع‬
‫المطروح أمام القضاء‪ ،‬لكن ما هو القانون الذي يتم على أساسه تكييف النزاع المطروح‬
‫أمام القضاء ؟‬
‫پری " بارتان " أن القضاء في فرنسا والعديد من دول العالم‪ ،‬عمد إلى إخضاع التكييف إلى‬
‫قانون القاضي‪ ،‬وبناء على ذلك‪ ،‬إن المحاكم الفرنسية تقوم بتكييف الحق الذي تدعيه الزوجة‬
‫على عقارات زوجها في قضية ميراث المالطي وفقا للقواعد العامة في القانون الفرنسي‪،‬‬
‫وهذا يفضي إلى اعتبار هذه المسألة مندرجة ضمن فكرة الميراث‪ ،‬وتخضع بالتالي لقانون‬
‫موقع العقار‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫كما أن تطبيق القواعد العامة في القانون الفرنسي بوصفه قانون القاضي‪ ،‬يؤدي في المثال‬
‫الخاص بوصية الهولندي إلى تكييف منع الموصي من إبرام الوصية الخطية على أنه‬
‫يصنف ضمن فكرة شكل التصرفات‪ ،‬األمر الذي يستبعد تطبيق قانون بلد اإلبرام ‪.‬‬
‫وقد دفعت تلك المعطيات بالفقه الحديث إلى البحث عن تبرير عملي لنظرية إخضاع‬
‫التكييف لقانون القاضي‪ ،‬يتمثل في أن التكييف هو أوال وقبل كل شيء هو عملية سابقة على‬
‫إعمال قاعدة اإلسناد من حيث تعاقب الزمن‪ ،‬فعندما يثار التساؤل بخصوص مسألة معينة‬
‫لمعرفة ما إذا كانت تندرج ضمن فكرة الشكل أو ضمن فكرة األهلية‪ ،‬فإنه ال يمكن إعمال‬
‫قاعدة اإلسناد والتعرف على القانون الواجب التطبيق إال بعد االنتهاء من عملية التكييف‪،‬‬
‫وقبل إجراء هذه العملية ال يستطيع القاضي معرفة القانون الواجب التطبيق‪ ،‬وبالتالي ال‬
‫يتصور تكييف المسألة موضوع النزاع إال وفقا لقانون واحد هو قانون القاضي المطروح‬
‫عليه النزاع‪.‬‬
‫أما بالنسبة للقانون المغربي‪ ،‬فيالحظ أن ظهير ‪ 21‬غشت ‪ 2121‬المتعلق بالوضعية المدنية‬
‫للفرنسيين واألجانب‪ ،‬لم يتطرق لمسألة التكييف‪ ،‬بيد أن اتجاه القضاء يسير في اتجاه األخذ‬
‫بنظرية التكييف وفقا لقانون القاضي‪.‬‬

‫الفرع الثاني ‪:‬‬


‫اإلحالة في القانون الدولي الخاص‬
‫بعد االنتهاء من عملية التكييف وتوصل القاضي المعروض عليه النزاع إلى تحديد طبيعة‬
‫المسألة موضوع هذا النزاع بإعطائها الوصف القانوني وتحديد القانون الواجب التطبيق‪ ،‬قد‬
‫يواجه القاضي بصعوبة تحديد نطاق تطبيق هذا القانون‪ ،‬على اعتبار أن المنظومة القانونية‬
‫ألي دولة تشتمل على طائفتين من القواعد قواعد تنازع القوانين قواعد اإلسناد) وقواعد‬
‫موضوعية‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ ،‬عندما تشير قاعدة اإلسناد الوطنية إلى تطبيق قانون أجنبي معين‪ ،‬فإن‬
‫القاضي تواجهه إشكالية تحديد المقصود بهذا القانون؟ هل يقصد به القانون األجنبي برمته ؛‬
‫األمر الذي يفرض على القاضي استشارة قواعد اإلسناد فيه والتي قد تقضي باإلحالة إلى‬
‫قانون آخر؟ ام انه يتعين على القاضي تطبيق القواعد الموضوعية في القانون األجنبي على‬
‫واقعة الدعوى دون االعتداد بقواعد التنازع في هذا القانون األخير؟‬
‫لكن فكرة اإلحالة ال تطرح على القاضي حينما تتحد قواعد اإلسناد في كل من دولة القاضي‬
‫والدولة األجنبية‪ ،‬أي عندما تقر قاعدة اإلسناد في دولة القاضي نفس الحكم الذي تقرره‬
‫قواعد اإلسناد في القانون األجنبية‪ ،‬كما لو عرض على القاضي المغربي نزاع يتعلق بأهلية‬

‫‪9‬‬
‫إحنا الفرنسيين‪ ،‬وهنا ال يثار أي خالف بشأن وجوب تطبيق القانون الفرنسي بوصفه‬
‫القانون الذي تشير به قاعدة اإلسناد في كل من المغرب وفرنسا‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يتعين في البداية معالجة نظرية اإلحالة (المطلب األول ) لتنتقل بعد ذلك الدراسة‬
‫أنواع اإلحالة (المطلب الثاني)‪.‬‬
‫المطلب األول ‪:‬‬
‫نظرية اإلحالة في القانون الدولي الخاص‬
‫لقد اهتم فقه القانون الدولي الخاص بفكرة اإلحالة على إثر القضية الشهيرة التي عرضت‬
‫على أنظار القضاء الفرنسي‪ ،‬التي تعرف باسم قضية ميراث فورجو ‪ Forgo‬وتتلخص‬
‫وقائع هذه القضية في أن شخصا بافاريا يدعى " فورجو انتقل إلى فرنسا وتوطن فيها‬
‫وتكونت لديه ثروة منقولة فيها‪ ،‬إال أنه رغم طول إقامته لم يكتسب موطنا قانونيا فيها‪ ،‬وعند‬
‫وفاته عن عمر يناهز ‪ 31‬عاما طالب أقاربه من الحواشي بحقهم في تركته أمام القضاء‬
‫الفرنسي‪.‬‬
‫ورغم أن قاعدة اإلسناد الفرنسية المختصة تقضي في هذه الحالة بتطبيق القانون البافاري‬
‫بوصفه قانون موطن المتوفى الذي ظل موطنه القانوني في بلده األصلي بافاريا وموطنه‬
‫الفعلي في فرنسا‪ ،‬إال أن إدارة الدومين العام بفرنسا طالبت بتطبيق القانون الفرنسي‪ ،‬وذلك‬
‫لالستفادة من أحكامه التي تعتبر التركة في هذه الحالة شاغرة على أساس أن المطالبين بها‬
‫من الحواشي ال يحق لهم الميراث؛ لتصبح بذلك الدولة ‪ -‬ممثلة في إدارة الدومين العام ‪-‬‬
‫مالكة لألموال التي ال مالك لها بحسب ما تنص عليه المادة ‪ 123‬من القانون المدني‬
‫الفرنسي‪.‬‬
‫وكما يتضح من وقائع القضية المذكورة‪ ،‬فإن جوهر الخالف كان يتمثل في تحديد القانون‬
‫الذي يخضع له الميراث ‪ :‬هل هو القانون الفرنسي أم القانون البافاري ؟‬
‫فإذا اعتمدنا القانون البافاري‪ ،‬فإن التركة تؤول إلى الحواشي (اإلخوة واألخوات واألعمام‬
‫والعمات)‪ ،‬ألن هذا القانون يسمح لهم بذلك‪ ،‬أما إذا أخذنا بالقانون الفرنسي‪ ،‬فإن التركة‬
‫تؤول إلى الدولة (الدومين العام) ما دامت هذه التركة شاغرة ألن القانون الفرنسي ال يمنح‬
‫الحواشي الحق في الميراث‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ولقد طبقت محكمة استئناف بوردو (‪ )Bordeaux‬القانون البافاري‪ ،‬وقضت‬
‫لحواشي المتوفى بالتركة‪ ،‬وذلك إعماال لقاعدة اإلسناد في القانون الفرنسي التي تنص على‬
‫خضوع الميراث لقانون الموطن األصلي‪.‬‬
‫ولقد طعنت إدارة الدومين العام في هذا القرار أمام محكمة النقض الفرنسية التي أقرت نے‬
‫حكمها الصادر في ‪ 12 / 3 / 2131‬بوجهة نظر هذه اإلدارة وقبلت بذلك إحالة قاعدة‬
‫اإلسناد البافارية إلى أحكام القانون الفرنسي المتعلقة بالميراث‪.‬‬
‫ومنذ ذلك التاريخ استقر القضاء الفرنسي على األخذ باإلحالة من الدرجة األولى ‪ ،‬أي‬
‫اإلحالة التي تؤدي إلى تطبيق القانون الفرنسي‪ ،‬باعتباره قانون القاضي‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫هكذا‪ ،‬وإذا كانت قضية " فوركو " منطلقا لتطبيق نظرية اإلحالة‪ ،‬فإن معالجة هذه النظرية‬
‫يقتضي تعريفها (الفقرة األولى)‪ ،‬وتقديرها (الفقرة الثانية)‪.‬‬
‫الفترة األولى ‪:‬‬
‫تعريف اإلحالة في القانون الدولي الخاص‬
‫لقد سبق أن أشرنا أن القاضي عند إعماله لقاعدة اإلسناد التي قد تشير إلى قانون أجنبي‬
‫معين يجد نفسه في حالة تساؤل عن المعنى المقصود بالقانون األجنبي الذي أشارت قاعدة‬
‫اإلسناد باختصاصه؟‬
‫إن هذا اإلشكال‪ ،‬ال يواجه القاضي في حالة تشابه قواعد اإلسناد بين الدول‪ ،‬فإذا كانت‬
‫قواعد اإلسناد في دولة القاضي تقر نفس الحكم الذي تقرره قواعد إسناد القانون المسند له‬
‫االختصاص‪ ،‬فإن النتيجة ستكون هي تطبيق القواعد الموضوعية في القانون المسند له‬
‫االختصاص‪ ،‬هذا بخالف الفرضية التي تختلف فيها قاعدة اإلسناد في القانون األجنبي عنها‬
‫في قانون القاضية‪.‬‬
‫مثال إذا عرض على القضاء الفرنسي نزاع يتعلق بأهلية إنجليزي متوطن في فرنسا‪ ،‬فبينما‬
‫تقضي قاعدة اإلسناد الفرنسية بتطبيق القانون اإلنجليزي (قانون الجنسية) نجد قواعد‬
‫التنازع في هذا القانون األخير تشير بتطبيق القانون الفرنسي بوصفه قانون الموطن‪.‬‬
‫وترتيبا على ما سبق‪ ،‬إن اإلحالة تستلزم توافر شروط معينة ‪:‬‬
‫‪ -2‬اختالف حكم قواعد اإلسناد في دولة القاضي عن الحكم الذي تقرره قواعد اإلسناد في‬
‫القانون المسند له االختصاص‪.‬‬
‫‪ -1‬اعتماد قاضي النزاع حكم قواعد اإلسناد في القانون األجنبي الذي أشارت ‪ .‬بتطبيقه‬
‫قاعدة اإلسناد الوطنية‪.‬‬
‫‪ -1‬تخلي قواعد اإلسناد في القانون األجنبي عن االختصاص لحساب قانون دولة القاضي أو‬
‫لحساب قانون آخر‪.‬‬
‫‪ -2‬قبول قانون دولة القاضي أو القانون األجنبي لالختصاص المتخلى عنه من قبل قواعد‬
‫اإلسناد في القانون المسند له االختصاص‪.‬‬
‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ ،‬إن نظرية اإلحالة لم تكن محل اتفاق الفقه والقضاء‬
‫والتشريع‪ ،‬بحيث يوجد انقسام حول هذه النظرية بين مؤيد ومعارض‪.‬‬
‫الفترة الثانية ‪:‬‬
‫تقدير نظرية اإلحالة‬
‫يرى مؤيدو األخذ بفكرة اإلحالة أن قاعدة اإلسناد الوطنية عندما تشير بتطبيق القانون‬
‫األجنبي‪ ،‬فإن القاضي المعروض عليه النزاع عليه أن يطبق هذا القانون ككل يتجزء‪ ،‬األمر‬
‫الذي يقتضي الرجوع إلى قواعد اإلسناد األجنبية واإلذعان لما تشير به‪.‬‬
‫ويرد معارضو فكرة اإلحالة على هذا الطرح‪ ،‬بأن قاعدة اإلسناد الوطنية عندما تفصل في‬
‫مشكلة التنازع‪ ،‬و تحدد القانون الواجب التطبيق على النازلة المعروضة على القاضي‪ ،‬فلم‬
‫‪11‬‬
‫يعد من المقبول الرجوع إلى قواعد التنازع األجنبية الستشارته حول مسألة سبق للمشرع‬
‫الوطني أن فصل بما ما تقتضيه سياسته التشريعية وضرورات الحياة الخاصة الدولية‪.‬‬
‫ويستند أنصار فكرة اإلحالة إلى حجة ثانية ذات طابع عملي مفادها أن رفض اإلحالة من‬
‫شأنه تجريد الحكم الصادر في الدعوى من قيمته العملية‪.‬‬
‫ذلك أن الدولة األجنبية التي طبقت المحكمة قانونها خالفا لما تقضي به قواعد اإلسناد فيها‪،‬‬
‫سترفض تنفيذ الحكم الصادر في الدعوى وفقا لقانون غير مختص في نظرها‪.‬‬
‫ويرفض معارضو اإلحالة هذه الحجة‪ ،‬من منطلق عدم لزوم تنفيذ الحكم الصادر في‬
‫الدعوى في الدولة التي رفضت اإلحالة منها‪ ،‬ذلك أن هذا الحكم قد يكون واجب التنفيذ في‬
‫دولة القاضي نفسه أو دولة أخرى تقضي قواعد التنازع فيها باختصاص القانون الذي طبقته‬
‫المحكمة على واقعة الدعوى‪ ،‬هذا فضال عن أن هناك حاالت ال يمكن التنبؤ فيها مقدما‬
‫بمكان وزمان تنفيذ الحكم‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬ورغم االنتقادات الكثيرة التي وجهت إلى فكرة األخذ باإلحالة‪ ،‬فإن االتجاه الحديث‬
‫الذي تزعمه باتيفول ‪ Batiffol‬حاول البحث عن أساس علمي لنظرية اإلحالة يتمثل في‬
‫فكرة التعايش المشترك بين النظم القانونية‪ ،‬ألن الحكمة التي تهدف إليها قواعد القانون‬
‫الدولي الخاص في نظره‪ ،‬هي فكرة التنسيق بين النظم القانونية المختلفة أو تحقيق التعايش‬
‫المشترك بينهما‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد‪ ،‬يرى باتيفول أن الطبيعة الدولية للعالقات التي ينظمها القانون الدولي‬
‫الخاص تفترض بداهة ارتباط هذه العالقات بأكثر من قانون واحد‪ ،‬األمر الذي يفرض عدم‬
‫االقتصار على قواعد اإلسناد الوطنية لفض التنازع‪ ،‬ألن في ذلك تجاهل القواعد القانون‬
‫الدولي الخاص في النظام األجنبي الذي أشارت قواعد اإلسناد في قانونها القاضي‬
‫باختصاصه‪.‬‬
‫فالمشرع يسعى من وراء قواعد اإلسناد التي يضعها إلى تحقيق التنسيق واالنسجام بين هذه‬
‫القواعد وبين قواعد التنازع األجنبية‪ ،‬أي تحقيق التعايش المشترك بين النظم القانونية‬
‫المختلفة ‪.‬‬
‫ومن االنتقادات الموجهة إلى نظرية الفقيه ‪ Batiffol‬أنها لم تحدد بوضوح السبب الداعي‬
‫إلى التوقف عند حد اإلحالة من الدرجة األولى وتطبيق األحكام الداخلية في قانون القاضي‪.‬‬
‫ولتوضيح ذلك‪ ،‬مثال إذا كان النزاع المطروح أمام القضاء الفرنسي يتعلق بأهلية شخص‬
‫إنجليزي متوطن في فرنسا‪ ،‬فإن إعمال قاعدة اإلسناد الفرنسية‪ ،‬سيترتب عنه تطبيق القانون‬
‫اإلنجليزي بوده‪ ،‬قانون الجنسية‪ ،‬لكن باتيفول يرى ضرورة استشارة قواعد التنازع في‬
‫القانون اإلنجليزي أوال‪ ،‬وهي تشير هذه الحالة بتطبيق القانون الفرنسي بوصفه قانون‬
‫الموطن‪.‬‬
‫وبالرجوع إلى فكرة التعايش المشترك بين النظم التي اعتمدها "باتيفول ‪ ،‬والتي تبرر األخذ‬
‫بإحالة قواعد التنازع اإلنجليزية إلى القانون الفرنسي‪ ،‬حيث ال ينطبق القانون اإلنجليزي في‬
‫حالة ال يعترف فيها باالختصاص لنفسه‪ ،‬فكيف يمكن إذن تفسير تطبيق القضاء لألحكام‬

‫‪12‬‬
‫الموضوعية في القانون الفرنسي والحال أن قواعد اإلسناد في هذا القانون ال تعترف هي‬
‫األخرى باالختصاص لنفسها في هذه الحالة‪ ،‬وتشير بتطبيق القانون اإلنجليزي؟‬
‫وبمعنى آخر‪ ،‬إذا كانت قواعد القانون الدولي الخاص تهدف باألساس إلى تحقيق التنسيق‬
‫والتعايش بين القانون الفرنسي والقانون اإلنجليزي في هذه الحالة‪ ،‬فما هو سر تفضيل أحكام‬
‫القانون الفرنسي بالذات وتطبيقه في المثال المذكور رغم ان قواعد اإلسناد فيه ترفض‬
‫االختصاص بحكم النزاع اسوة بالقانون االنجليزي ؟‬
‫من هنا يتبين أن نظرية باتيفول لم تنجح في وضع أساس نظري سليم لما استقر عليه‬
‫القضاء الفرنسي بخصوص التوقف عند حد اإلحالة من الدرجة األولى أو اإلحالة إلى قانون‬
‫القاضي‪ ،‬فالولع بتطبيق القانون الوطني‪ ،‬والنظرة إليه على أنه أعدل القوانين المتنازعة‬
‫لحكم القضية المعروضة على القاضي‪ ،‬فضال عن االعتبارات العملية وصعوبة البحث عن‬
‫القانون األجنبي‪ ،‬كل ذلك دفع هذا االتجاه إلى التشبث باإلحالة من الدرجة األولى أي اإلحالة‬
‫إلى قانون القاضي‪.‬‬
‫المطلب الثاني ‪:‬‬
‫أنواع اإلحالة في القانون الدولي الخاص‬
‫عندما تشير قاعدة اإلسناد في دولة القاضي إلى تطبيق قانون أجنبي معين‪ ،‬ويرجع القاضي‬
‫إلى قاعدة اإلسناد في هذا القانون باعتبارها صاحبة االختصار المعروض على القاضي‪،‬‬
‫فإن هذه القاعدة األخيرة قد ترفض هذا االختصاص في حل النزاع هذا االختصاص وتحيله‬
‫على قانون دولة ثالثة أو رابعة أو تعيده إلى قانون دولة القاضي‪ ،‬وهذا يفيد أن اإلحالة د‬
‫أنواع متعددة ‪ :‬منها اإلحالة من الدرجة األولى أو اإلحالة العائدة (الفقرة األولى)‬
‫اإلحالة المطلقة او المتعددة (الفقرة الثانية) ثم اإلحالة الدائرية (الفقرة الثالثة)‪.‬‬
‫الفقرة األولى ‪:‬‬
‫اإلحالة العائدة‬
‫يقصد باإلحالة العائدة إرجاع االختصاص في حل النزاع إلى قانون القاضي‪ ،‬وتسمى أيضا‬
‫باإلحالة من الدرجة األولى‪ ،‬ويتحقق هذا النوع من اإلحالة عندما يتضح بأن قاعدة اإلسناد‬
‫في القانون األجنبي واجب التطبيق تقضي بأنها ليست مختصة بحل النزاع المعروض على‬
‫القاضي‪ ،‬وأن قانون هذا األخير هو المرشح للتطبيق على هذا النزاع‪ .‬في قضية فوركو‬
‫السابقة‪ ،‬تبين لنا بأن قاعدة اإلسناد في القانون البافاري الذي أصبع واجب التطبيق بمقتضى‬
‫قاعدة اإلسناد الفرنسية‪ ،‬قضت بأنها ليست هي المختصة‪ ،‬وأن قانون الموطن الفعلي‬
‫للمتوفي الذي هو القانون الفرنسي‪ ،‬هو المختص بحل النزاع‪.‬‬
‫ويعد هذا النوع من اإلحالة الذي يسمى اإلحالة بإعادة االختصاص األكثر انتشارا في‬
‫التشريعات التي تأخذ بها‪ ،‬ألنها تسمح بتطبيق قانون دولة القاضي المعروض عليه النزاع‪،‬‬
‫وهذا هو األصل في منشأ نظرية اإلحالة‪.‬‬
‫الفترة الثانية ‪:‬‬
‫اإلحالة المتعددة‬
‫‪13‬‬
‫وتسمى أيضا اإلحالة من الدرجة الثانية أو اإلحالة المطلقة‪ ،‬وتتحقق عندما تشير قاعدة‬
‫اإلسناد في القانون الواجب التطبيق بأنها ليست هي المختصة بحل النزاع المعروض على‬
‫القاضي‪ ،‬لتحيله إلى قاعدة إسناد في دولة ثالثة‪ ،‬وتكون اإلحالة في هذه الحالة من الدرجة‬
‫الثانية ‪ ،‬أما إذا أشارت هي األخرى بأنها غير مختصة بفض النزاع‪ ،‬وأحالت نفس‬
‫االختصاص إلى قاعدة إسناد في دولة رابعة او خامسة‪ ،‬فإن اإلحالة تكون هنا متعددة ‪،‬‬
‫وتجدر اإلشارة إلى أنه كلما كانت اإلحالة في درجتها الثانية أو الثالثة كلما تحقق التناسق‬
‫بين النظم القانونية التي تقبل بهذه اإلحالة‪ ،‬لكن عند تجاوزها هذا الحد‪ ،‬فإن الهدف المنشود‬
‫منها ال يتحقق‪ ،‬ألنها أصبحت تدور في حلقة مفرغة‪.‬‬
‫الفقرة الثالثة ‪:‬‬
‫اإلحالة الدائرية‬
‫يسمى هذا النوع من اإلحالة باإلحالة الدائرية‪ ،‬ألن االختصاص ينعقد فيها في النهاية إلى‬
‫قانون دولة القاضي‪ ،‬وذلك مهما تعددت درجاتها‪ ،‬بحيث يمكن أن تتحقق في اإلحالة من‬
‫الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة‪ ...‬بحيث يكون قانون دولة القاضي هو المختص في‬
‫النهاية وليس أي قانون آخر‪.‬‬

‫الفرع الثالث ‪:‬‬


‫قاعدة اإلسناد في القانون الدولي الخاص‬
‫لقد سبق أن أشرنا إلى أن حل مشكلة " تنازع القوانين يتم بواسطة إعمال قواعد قانونية‬
‫خاصة تسمى بقواعد تنازع القوانين " ‪ ،" regles de conflict‬أو " قواعد‬
‫اإلسناد ‪." Règles de rattachement‬‬
‫ويمكن تعريف قواعد اإلسناد بأنها "القواعد القانونية التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب‬
‫التطبيق على المراكز القانونية ذات العنصر األجنبي"‪.‬‬

‫وهي قواعد يضعها المشرع الوطني الختيار القانون المالئم لحكم العالقة الخاصة المتضمنة‬
‫عنصرا أجنبيا ‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقبل أن يلجأ القاضي لحكم القانون األجنبي‪ ،‬البد من استشارة قواعد اإلسناد الوطنية‬
‫التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق‪ ،‬وتتطلب دراسة قاعدة اإلسناد ‪ ،‬تحديد ماهيتها‬
‫(المبحث األول) وكيفية تطبيقها (المبحث الثاني)‪.‬‬
‫المبحث األول ‪:‬‬
‫ماهية قاعدة اإلسناد‬

‫‪14‬‬
‫لقد سبق أن أشرنا إلى أن قاعدة اإلسناد هي من قواعد القانون الدولي الخاص‪ ،‬التي تعتمدها‬
‫الدول لتنظيم العالقات ذات العنصر األجنبي‪ ،‬وذلك لصعوبة وضع القواعد الموضوعية لتنظيم‬
‫هذه العالقات عندما تعرض على القاضي الوطني نزاعات ال يجد ال حال موضوعيا في قانونه‬
‫الوطني‪ ،‬فما هي هذه القواعد (المطلب األول)‪ ،‬وما هي طبيعتها المطلب الثاني)‪ ،‬وما هي‬
‫العناصر المكونة لها (المطلب الثالث)‪.‬‬
‫المطلب األول ‪:‬‬
‫مفهوم قاعدة اإلسناد‬
‫اختلف الفقه في تحديد مفهوم قاعدة اإلسناد ‪ ،‬فهناك فريق يعتبرها قاعدة قانونية وضعية تفرد‬
‫بخصائص محددة تميزها عن غيرها من القواعد الموضوعية‪ ،‬بحيث يعرفها بأنها "قاعدة‬
‫قانونية وضعية ذات طبيعة فنية تسري على العالقات الخاصة الدولية‪ ،‬االختيار أكثر القوانين‬
‫مناسبة ومالئمة‪ ،‬لتنظيم تلك العالقات‪ ،‬حينما تتعدد القوانين ذات القابلية للتطبيق عليها‪.‬‬
‫ويؤخذ على هذا التعريف أنه يعتبر قاعدة اإلسناد قاعدة موضوعية‪ ،‬مع العلم أن هذه القاعدة‬
‫هي قاعدة شكلية وليست قاعدة موضوعية‪ ،‬لها وظيفة تحديد االختصاص أي إسناده إلى‬
‫القانون الواجب التطبيق‪ ،‬عندما ال يجد القاضي حال للنزاع المعروض عليه في قانونه الوطني‪.‬‬
‫أما الفريق الثاني‪ ،‬فإنه ينظر إلى قاعدة اإلسناد باعتبارها قاعدة مفترضة يستخلصها القاضي‬
‫من القواعد الموضوعية بواسطة اإلشارة التي توجهه إلى تطبيق القانون األجنبي على النزاع‬
‫المعروض عليه‪ ،‬ويعرفها بأنها هي ‪ :‬القاعدة التي تحدد القانون واجب التطبيق بالنسبة لعالقة‬
‫قانونية او مركز قانوني يشتمل على عنصر أجنبي‪.‬‬
‫لكن هذا التعريف ال يحدد بشكل واضح طبيعة هذه القاعدة ما اذا كانت موضوعية أو شكلية‪،‬‬
‫أو إنها قاعدة وضعية‪ ،‬أو مجرد افتراض يتم استخالص اإلشارة التي تتضمنها القاعدة‬
‫الموضوعية‪ ،‬والتي توجه القاضي أو ترشده إلى التنا المالئم على النزاع المعروض عليه‪.‬‬
‫كما أن التعريف المذكور ال يحدد الخصائص التي تميز قاعدة اإلسناد عن غيرها من القواعد‬
‫القانونية ‪ ،‬بل اكتفى باإلشارة إلى أنها مجرد قاعدة إرشاد توجه القاضي إلىالقانون المالئم‬
‫والمناسب لحكم النزاع المعروض عليه‪.‬‬
‫ويرى أحد المحللين أن قاعدة اإلسناد هي كل قاعدة يوجه من خاللها المشرع الوطني خطابه‬
‫التشريعي إلى القاضي المعروض عليه النزاع‪ ،‬وذلك إلرشاده إلى القانون الواجب التطبيق‪،‬‬
‫في العالقات أو الروابط القانونية ذات العنصر األجنبي عندما تتعدد القوانين القابلة للتطبيق‬
‫عليها‪.‬‬
‫المطلب الثاني ‪:‬‬
‫طبيعة قاعدة اإلسناد‬
‫تبين من التعريف السابق أن قاعدة اإلسناد هي من قواعد القانون الدولي الخاص‪ ،‬بذلك تتميز‬
‫عن غيرها من القواعد الداخلية بكونها قاعدة غير مباشرة أو إجرائية (الفقرة األولى)‪ ،‬كما‬
‫أنها قاعدة مزدوجة (الفقرة الثانية)‪.‬‬
‫الفقرة األولى ‪:‬‬
‫‪15‬‬
‫قاعدة اإلسناد هي قاعدة إجرائية‬
‫تتميز قاعدة اإلسناد من حيث مضمونها بأنها قاعدة غير مباشرة أو إجرائية بمعنى أنها ال‬
‫تنطبق على النزاع المعروض على القاضي‪ ،‬مباشرة‪ ،‬ألنها ليست من القواعد التي تتضمن‬
‫حال موضوعيا‪ ،‬والتي تختص بتنظيم فعل او سلوك إنساني معين‪ ،‬وبتعبير آخر‪ ،‬إن قاعدة‬
‫اإلسناد ال تقوم بإعطاء الحل النهائي للنزاع‪ :‬المعروض على القاضى مباشرة‪ ،‬وإنما هي تحدد‬
‫فقط القانون الواجب التطبيق على النزاع المتضمن عنصرا أجنبيا‪ ،‬وذلك بغض النظر عما‬
‫إذا كان هذا القانون هو قانون دولته‪ ،‬او أي قانون أجنبي آخر‪ ،‬وهو ما يجعلها قاعدة مستقلة‬
‫عن القواعد الموضوعية‪ ،‬ال عالقة لها بقواعد القانون الخاص وال بقواعد القانون العام‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإذا كانت قاعدة اإلسناد ال تقوم بتحديد اختصاص القانون الواجب التطبيق‪ ،‬فإنها ال تقوم‬
‫بتحديد قانون دولة معينة بذاتها‪ ،‬وإنما ينحصر دورها األساسي في الريط بشكل مجرد بين‬
‫طائفة معينة من العالقات أو المراكز القانونية واحد القوانين المرشحة لحكم العالقة محل‬
‫النزاع‪.‬‬
‫فمثال قاعدة اإلسناد المتعلقة باألهلية تشير إلى مبدأ إخضاع هذه األهلية لقانون جنسية‬
‫الشخص بصورة مجردة‪ ،‬وبعد إعمال قاعدة اإلسناد يطبق القاضي القانون الموضوعي‬
‫الواجب التطبيق حسب الحالة‪ ،‬وبذلك تكون قاعدة اإلسناد غير محددة المضمون‪ ،‬ألنها‬
‫قاعدة غير مباشرة‬
‫وعلى مستوى آخر‪ ،‬تعتبر قاعدة اإلسناد قاعدة محايدة‪ ،‬ما دام موضوعها يقتصر على‬
‫إرشاد وتوجيه القاضي إلى القانون المالئم لفض النزاع‪ ،‬بمعنى أن هذا التوجيه ال ينص‬
‫تطبيق قانون محدد ‪ ،‬وإنما إسناد الحكم إلى القانون الذي يعتبره القاضي مناسبا الحل النزاع‬
‫المعروض عليه‪ ،‬وذلك تبعا الختالف طبيعة هذا النزاع او القوانين المناسبة الحله‪ ،‬وهذا ما‬
‫يفسر بأن قاعدة اإلسناد ال يمكن ان تفضل أي قانون على آخر او تقوم بتحديده سلفا فتطبقه‬
‫على هذا النزاع أو ذاك‪ ،‬ألن ذلك يخل بمبدأ المساواة بين القواعد القانونية وألن الهدف‬
‫األساسي لقاعدة اإلسناد هو فض التنازع بين القوانين وتحقيق العدالة لدى‬
‫األطراف المتنازعة‪.‬‬
‫الفقرة الثانية ‪:‬‬
‫قاعدة اإلسناد قاعدة مزدوجة‬
‫إذا كانت قاعدة اإلسناد من حيث مضمونها قاعدة غير مباشرة‪ ،‬فإنها من حيث آثار تطبيقها‬
‫تعتبر مزدوجة ذات جانبين‪ ،‬بمعنى أنها قد تشير باختصاص قانون دولة القاضي‪ ،‬كما انها‬
‫قد ال تمنح االختصاص إلى هذا القانون وتقضي بتطبيق قانون أجنبي‪.‬‬
‫فإذا أثير مثال نزاع بخصوص أهلية األجنبي‪ ،‬فإن الفصل الثالث من ظهير الوضعية المدنية‬
‫للفرنسيين واألجانب‪ ،‬يقضي بأن قانون الشخص المعني أي القانون األجنبي بالنسبة للقاضي‬
‫هو الواجب التطبيق‪ ،‬أما إذا انصب النزاع على أهلية أحد المغاربة‪ ،‬فإن القاضي المعروض‬
‫عليه النزاع سيطبق القانون المغربي‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫المطلب الثالث‪:‬‬
‫عناصر قاعدة اإلسناد‬
‫تتكون قاعدة اإلسناد من ثالث عناصر أساسية‪ :‬الفكرة المسندة أو موضوع "اإلسناد (الفقرة‬
‫األولى) ( ‪ )Matiere a rattacher‬وضابط اإلسناد ( ‪Concept de‬‬
‫‪ )rattachement‬الفقرة الثانية والقانون المسند إليه (الفقرة الثالثة)‪.‬‬
‫الفقرة األولى ‪:‬‬
‫الفكرة المسندة في نطاق تنازع القوانين‬
‫لقد قام المشرع بتصنيف المراكز والعالقات القانونية المتضمنة عنصرا أجنبيا إلى فئات‬
‫مختلفة‪ ،‬وذلك لصعوبة حصرها‪ ،‬وتسمى كل فئة منها بالفكرة المسندة ‪ ،‬وتتضمن كل فئة أو‬
‫فكرة مسندة المراكز أو العالقات المتقاربة أو المتشابهة‪.‬‬
‫ويضع المشرع لكل فئة من الفئات المتشابهة ضابطا خاصا پسندها إلى قانون معين‪،‬‬
‫فاألفكار المتعلقة باألحوال الشخصية يسندها المشرع إلى قانون الجنسية كالحالة واألهلية‪،‬‬
‫كما يسند المشرع أيضا فكرة التصرفات إلى قانون بلد إبرامها‪ ،‬وفكرة االلتزامات التعاقدية‬
‫إلى قانون اإلرادة‪ ،‬أما بخصوص المراكز القانونية المتعلقة باكتساب الملكية والحيازة‬
‫وتقرير الحقوق العينية ‪ ،‬قام المشرع بجمعها في فكرة مسندة واحدة هي فكرة مركز األموال‬
‫وأسند هذه الفكرة إلى قانون الموقع‪.‬‬
‫وبناء على هذا المعنى‪ ،‬إن الفكرة المسندة أو موضوع اإلسناد هو صلة الوصل بين محل‬
‫النزاع المعروض على القاضي وبين القانون الواجب التطبيق‪ ،‬ذلك ألن العالقات والمراكز‬
‫القانونية موضوع النزاع‪ ،‬إذا كانت متصلة بطائفة قانونية محددة فإن هذه الطائفة هي التي‬
‫تؤدي إلى تحديد القانون الواجب التطبيق‪ ،‬بعد أن يقوم القاضي باختياره من بين القوانين‬
‫القابلة للتطبيق على النزاع المذكور‪.‬‬
‫الفترة الثانية ‪:‬‬
‫ضابط اإلسناد في نطاق تنازع القوانين‬
‫ضابط االسناد هو العنصر الثاني من عناصر قاعدة اإلسناد‪ ،‬ويعتبره البعض بمثابة‬
‫المرشد أو المعيار المختار الذي يرشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على المركز‬
‫القانون ي‪ ،‬أو هو "الواسطة التي تربط ما بين الفكرة المسندة وقانون دولة معينة‪ ،‬كما عرفه‬
‫جانب من الفقه بأنه "همزة الوصل أو أداة الوصل بين موضوع القاعدة والقانون المسند إليه‬
‫‪.‬‬
‫فما هو المعيار الذي على أساسه يتم ربط العالقة ذات الطابع الدولي الخاص بقانون معين‬
‫الحكم هذه العالقة؟‬
‫من الطبيعي أن يستمد الضابط أو المعيار عن طريق أحد العناصر الثالثة ألي عالقة‬
‫قانونية‪ ،‬وهو عنصر المحل و األطراف و السبب‪ ،‬كما أن أهمية كل عنصر من هذه‬
‫العناصر تختلف وفقا لطبيعة أو شكل هذه العالقة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫ومن المفروض أن يستمد ضابط اإلسناد من العنصر الذي يمثل مركز الثقلين العالقة‬
‫القانونية محل البحث‪ ،‬فإذا كان مركز الثقل في العالقة هو عنصر األطراف‪ ،‬كما هو الحال‬
‫في العالقات الخاصة باألحوال الشخصية‪ ،‬فإن ضابط جنسية أحد األطراف او كليهما أو‬
‫الموطن هو المعيار الذي يتصل بهذا العنصر‪ ،‬وبمعنى آخر‪ ،‬ان المشرع يتخذ من الجنسية‬
‫أو الموطن ضابطا لإلسناد يرشد إلى القانون الواجب التطبيق على المنازعات المندرجة في‬
‫فكرة الحالة أو األهلية‪.‬‬
‫اما إذا تبين أن العنصر الرئيسي في العالقة هو المحل أو الموضوع‪ ،‬كما هو الشأن في‬
‫الحقوق العينية‪ ،‬فإن الضابط تكون له عالقة بهذا العنصر‪ ،‬كضابط موقع األموال‪.‬‬
‫وقد يكون مركز الثقل في العالقة القانونية هو عنصر السبب‪ ،‬ففي مجال التصرفات‬
‫القانونية يتم البحث عن ضابط بهذا العنصر‪ ،‬كضابط إرادة المتعاقدين فيما يخص‬
‫االلتزامات التعاقدية أو ضابط محل وقوع الفعل كما في المسؤولية التقصيرية‪.‬‬
‫وقد ينص المشرع أن العقود تخضع لقانون اإلرادة ‪ ،‬أي للقانون الذي تختاره إرادة‬
‫المتعاقدين‪ ،‬بمعنى أنه جعل من إرادة األطراف ضابطا لإلسناد في الروابط التعاقدية‪ ،‬وقد‬
‫تضمن قاعدة اإلسناد ضابطا وحدا أو أكثر‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬ضابط إسناد واحد‬


‫وفي هذا الصدد تنص المادة ‪ 11‬من اتفاقية روما األوروبية الخاصة بالمنافسة غير‬
‫المشروعة‪ ،‬والتي تنص (ال تطبق نصوص المواد ‪ 13 ،18‬من القانون األوربي إال إذا‬
‫رتبت األفعال غير المشروعة آثارها داخل السوق األوربي‪ ،‬ومعنى هذا أن تلك اآلثار يجب‬
‫أن تقع في داخل إحدى الدول األعضاء في المحاكم األوروبية‪ ،‬أي ان ضابط اإلسناد يركز‬
‫على محل وقوع الضرر‪.‬‬
‫وبالرجوع أيضا إلى الكتاب األخضر للجنة األوربية المتعلق بحقوق المؤلف والحقوق‬
‫المجاورة‪ ،‬نجدها اعتمدت الحل الجاري في مجال االتصاالت عبر األقمار الصناعية لسنة‬
‫‪ ،2118‬والذي يتضمن ضابط إسناد واحد هو قانون مكان تحميل المادة المعتدى عليها في‬
‫شبكة االنترنت‬

‫ثانيا ‪ :‬ضابط إسناد مركب‬


‫قد تتضمن القاعدة ضابطين أو أكثر لإلسناد‪ ،‬وذلك بهدف التسهيل على المتعاملين ومنحهم‬
‫فرصة الختيار القانون المالئم التي تشير هذه الضوابط باختصاصها الحكم العالقة‬
‫المعروضة على القاضي‪ ،‬ويكون تطبيق أحد هذه القوانين تطبيقا اختياريا وال يتسم بأي‬
‫طابع إلزامي‪.‬‬
‫وكمثال على ذلك ما نص عليه الفصل ‪ 21‬من ظهير ‪ 21‬غشت ‪ 2121‬بشأن الوضعية‬
‫المدنية للفرنسيين واألجانب‪ ،‬والتي جاء فيها ‪ " :‬إن العقد المنظم للعالقات المالية بين‬
‫الزوجين يكون صحيحا من حيث الشكل إذا أبرم حسب قواعد القانون الوطني لكل من‬

‫‪18‬‬
‫الزوجين او عند انعدامها إذا أبرم حسب القواعد التي يفرضها القانون الفرنسي على‬
‫الفرنسيين في فرنسا "‪.‬‬
‫وقد نكون أمام إسناد تخييري عندما يقوم المشرع بصياغة ضابط اإلسناد بشكل تتعدد فيه‬
‫ضوابط اإلسناد على نحو تكون فيه العالقة القانونية الواردة في الفكرة المسندة صحيحة إذا‬
‫تمت وفقا ألي ضابط من ضوابط اإلسناد الواردة في هذه القاعدة‪.‬‬
‫وهذا ما يمكن أن نستخلصه من الفصل ‪ 21‬من ظهير ‪ 21‬غشت ‪ 2121‬الذي جاء فيه ما‬
‫يلي‪ " :‬إن التصرفات القانونية التي ينجزها الفرنسيون أو األجانب في منطقة الحماية‬
‫الفرنسية بالمغرب تكون صحيحة من حيث الشكل إذا ما أبرمت بمقتضى القواعد التي‬
‫يعينها إما القانون الوطني للطرفين وإما القانون الفرنسي وإما التشريع الموضوع المنطقة‬
‫الحماية الفرنسية وإما القوانين واألعراف المحلية "‪.‬‬
‫وإذا كانت ضوابط اإلسناد في الفصل ‪ 21‬تتسم بالمساواة فيما بينها‪ ،‬ففي حاالت أخرى تتم‬
‫صياغة ضوابط اإلسناد التخييرية بشكل تدريجي بحيث يطبق أوال ضابط اإلسناد الرئيسي‪،‬‬
‫فإذا لم يتحقق هذا الضابط تم االلتجاء إلى الضوابط االحتياطية األخرى الواردة في القاعدة‪.‬‬
‫المبحث الثاني ‪:‬‬
‫تطبيق قاعدة اإلسناد‬
‫إذا توصل القاضي إلى تعيين القانون الواجب التطبيق عن طريق إعمال فاع اإلسناد ‪ ،‬فإن‬
‫التساؤل يثور حينئذ عما إذا كان القاضي ملزما بتطبيقه والبحث عن مضمونه من تلقاء‬
‫نفسه‪ ،‬أم يتعين على األطراف التمسك بتطبيق هذا القانون واقا الدليل على أحكامه ؟‬
‫وفي حالة ما إذا طبق القاضي القانون األجنبي‪ ،‬هل يتعين على محكمة النقض أن تفرض‬
‫رقابتها على تفسيره‪ ،‬أم إن إساءة تفسير هذا القانون تخرج عن نطاق اختصاصها ؟‬
‫ومن جهة أخرى ركز الفقه التقليدي على طبيعة القانون األجنبي وصفته أمام القضاء‬
‫الوطني‪ ،‬فهل يعتبزمن قبيل الوقائع أم يظل محتفظا بكيانه القانوني‪ ،‬وعندئذ هل يندمج في‬
‫القانون الوطني ويصبح جزءا منه‪ ،‬أم تبقى له على العكس صفته األجنبية ؟‬
‫وعلى ذلك‪ ،‬سنقوم أوال بتحليل دور القاضي في تطبيق القانون األجنبي ( المطلب األول )‪،‬‬
‫ثم نتولى بعد ذلك دراسة رقابة محكمة النقض على تطبيق وتفسير القانوناألجنبي (المطلب‬
‫الثاني)‪.‬‬
‫المطلب األول ‪:‬‬
‫دور القاضي في تطبيق القانون األجنبي‬
‫إن بحث دور القاضي في تطبيق القانون األجنبي يقتضي أوال معالجة مسألة مدى التزام‬
‫القاضي بإعمال قاعدة اإلسناد‪ ،‬ذلك أن تطبيق القانون األجنبي‪ ،‬ما هو في حقيقة األمر إال‬
‫إذعان من طرف القاضي لألمر الصادر عن المشرع بمقتضى قاعدة اإلسناد الوطنية‪ ،‬ومن‬
‫ثم فهل دور القاضي في تطبيق قانونه ال يختلف عن دوره عند تطبيق القانون األجنبي ؟‬

‫‪19‬‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬إن تطبيق القانون األجنبي يثير مسألة البحث في الطريقة المتبعة عند‬
‫تفسير هذا القانون‪ ،‬هل يفسره القاضي كما يفسر قانونه أم أنه ملزم بالعيد بالحلول القضائية‬
‫السائدة في الدولة األجنبية الصادر عنها ذلك القانون؟‬
‫وعليه‪ ،‬سنتطرق إلى سلطة القاضي في إعمال قاعدة اإلسناد في (فقرة أولى)‪ ،‬لننتقل بعد‬
‫ذلك‪ ،‬إلى تحديد مدى سلطته في البحث عن مضمون القانون األجنبي‪ ،‬في ( فقرة ثانية)‬
‫لنتناول في مرحلة تالية ‪ ،‬سلطة القاضي في تفسير القانون األجنبي في ( فقرة ثالثة )‪.‬‬
‫الفقرة األولى ‪:‬‬
‫سلطة القاضي في إعمال قاعدة اإلسناد‬
‫كان القضاء الفرنسي يعلق التزام القاضي بتطبيق القانون األجنبي الذي تشير قاعدة اإلسناد‬
‫باختصاصه‪ ،‬على شرط تمسك الخصوم بأحكام هذا القانون‪ ،‬وقد فسر البعض هذا التوجه‬
‫من منطلق اعتبار القانون األجنبي مجرد عنصر من عناصر الواقع في فرنسا أو يجب أن‬
‫يعامل على األقل معاملة الوقائع‪.‬‬
‫وبالرجوع إلى قانون المسطرة المدنية‪ ،‬نجد أنه يتأسس على مبدأ أساسي يتمثل في أن‬
‫الخصوم يتوجب عليهم التمسك بوقائع الدعوى‪ ،‬هذا بخالف القانون الذي يكون القاضي‬
‫ملزما بتطبيق أحكامه من تلقاء نفسه‪.‬‬
‫زد على ذلك أن القاضي ال يفترض فيه العلم إال بقانونه الوطني عمال بقاعدة وجوب علم‬
‫القاضي بالقانون استادا إلى قرينة النشر في الجريدة الرسمية بدولة القاضي‪ ،‬وبالتالي فإن‬
‫هذه القاعدة ال تتطبق بالنسبة للقانون األجنبي‪ ،‬فضال عن استحالة علم القاضي بجميع‬
‫القوانين األجنبية‪ ،‬لهذا من الصعب جدا مطالبة القاضي بتطبيق تلك القوانين من تلقاء نفسه‬
‫والتحقق من مضامينها ‪ ،‬وهذا ما يبرر اشتراط تمسك األطراف بأحكام القانون األجنبي‬
‫إلمكانية تطبيقه من طرف القاضي‪.‬‬
‫ولقد غير القضاء الفرنسي موقفه نسبيا بخصوص طبيعة القانون األجنبي‪ ،‬بحيث لم يعد‬
‫ينظر إليه على انه مجرد واقعة وال يعامله معاملة الوقائع منذ سنة ‪ ،2181‬بحيث خول‬
‫القضاء الفرنسي القاضي حق تطبيق القانون األجنبي من تلقاء نفسه‪.‬‬
‫ولقد أكد الفقه الحديث في فرنسا التزام القاضي بإعمال قاعدة اإلسناد من تلقاء نفسه‪ ،‬بحيث‬
‫يكون من واجب القاضي تطبيق أحكام القانون األجنبي المختص دون حاجة لتمسك الخصوم‬
‫بأحكام هذا القانون‪ ،‬ما دام المشرع الوطني قد أمره بذلك بمقتضى قاعدة اإلسناد‪ .‬الوطنية‬
‫التي أضفت على هذا القانون قوته الملزمة أمام القضاء الوطني‪ ،‬من هنا يظهر ارتباط التزام‬
‫القاضي بتطبيق القانون األجنبي بالتزامه بتطبيق القواعد الوطنية‪.‬‬
‫وهناك من يرى أن القاضي ليس ملزما بالبحث عن مضمون القانون األجنبي‪ ،‬ألن التزامه‬
‫بإعمال قاعدة اإلسناد ينتهي عندما يطلب من الخصوم إثبات أحكام األجنبي مادام يستحيل‬
‫عليه معرفة قوانين جميع الدول‪.‬‬
‫الفترة الثانية‪:‬‬
‫سلطة القاضي في البحث عن مضمون القانون األجنبي‬
‫‪20‬‬
‫يرى البعض أنه من الصعب جدا إلزام القاضي بالبحث عن مضمون القانون األجنبي‪،‬‬
‫فاالعتبارات العملية هي التي تبرر لجوء القاضي الفرنسي إلى تحميل االطراف عبد البحث‬
‫عن مضمون القانون األجنبي‪ ،‬فالطرف المتمسك بتطبيق القانون األجنبي هو صاحب‬
‫المصلحة الحقيقية في الكشف عن مضمون هذا القانون‪ ،‬وما دام األمر كذلك‪ ،‬فإنه من‬
‫الطبيعي أن يتحمل الطرف عبء إثبات القانون الذي يتمسك بأحكامه‪.‬‬
‫لكن هناك من يعتقد بأنه يفترض علم القاضي بالقانون األجنبي أسوة بالتشريع الوطني‪ ،‬وال‬
‫يعفى القاضي من التزامه بتطبيق القانون األجنبي إال في حالة ما إذا استحال عليه التوصل‬
‫إلى مضمونه‪ ،‬وليس هناك ما يمنع استعانة القاضي بأطراف النزاع في البحث عن مضمون‬
‫هذا القانون عبر تقديم األدلة التي تمكنه من العلم به‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬إن قيام القاضي بتحديد قواعد القانون األجنبي الواجب التطبيق‪ ،‬التي‬
‫أشارت عليها قاعدة اإلسناد‪ ،‬يعني أن القاضي طبق قواعد اإلسناد الوطنية ‪ ،‬مما يفرض‬
‫التمييز بين أعمال هذه القواعد‪ ،‬وبين تطبيق القانون الذي تشير هذه األخيرة باختصاصه‪،‬‬
‫فإذا كان ال يفترض في القاضي العلم بالقانون األجنبي‪ ،‬فإنه من غير المقبول أن يجهل‬
‫أحكام قواعد اإلسناد الوطنية الصادرة عن السلطة التشريعية لبلده‪ ،‬وبالتالي ال ينبغي على‬
‫القاضي أن ينتظر مطالبة الخصم بإعمال قاعدة اإلسناد ‪ ،‬بل يجب عليه أن يبادر بذلك‪،‬‬
‫وبعد هذه العملية يدخل القاضي في المرحلة التالية المتعلقة بتطبيق القانون الواجب التطبيق‪،‬‬
‫أي القانون األجنبي‪.‬‬
‫من هنا يتبين أن القاضي هو ملزم بإثارة اختصاصه بالنظر في النزاع الذي يتض‪ .‬عنصرا‬
‫أجنبيا‪ ،‬وذلك من تلقاء نفسه‪ ،‬وسواء تمسك به الخصوم أم ال‪ ،‬وال يهم بعدن ما إذا كان هذا‬
‫الوضع سيفضي إلى تطبيق قانونه في حالة ما إذا تعذر عليه معرفة مضمون القانون‬
‫األجنبي‪.‬‬
‫لكن ال ينبغي أن يصل األمر إلى حد استسالم القاضي لصعوبات الكشف عن مضمون هذا‬
‫القانون‪ ،‬ويتخلى عن التزامه بإعمال قاعدة اإلسناد وتطبيق القانون األجنبي الذي تشير‬
‫باختصاصه‪ ،‬فلقد أكد الفقه الحديث أن عدم افتراض علم القاضي بالقانون األجنبي ال ينفي‬
‫التزامه القانوني بالبحث عن مضمون هذا القانون‪ ،‬ذلك أن التزامه هذا يندرج في إطار‬
‫القواعد العامة في قانون اإلجراءات‪ ،‬تلك القواعد التي تقضي بأن يقوم القاضي بتطبيق‬
‫أحكام القانون على وقائع الدعوى دون حاجة إلى تمسك الخصم بأحكامه او الكشف عن‬
‫مضمونه‪.‬‬
‫ولم ينص المشرع المغربي على الطرق الممكن اعتمادها للبحث عن مضمون القانون‬
‫األجنبي‪ ..‬ولذلك‪ ،‬فإن القاضي يستطيع استعمال كافة وسائل العلم بالقانون األجنبي للتوصل‬
‫إلى الكشف عن مضمونه‪ ،‬مثال تقديم شهادة خاصة من طرف جهات معينة (محامين‪،‬‬
‫قناصلة‪ ،‬سفارات‪ /..‬أو اللجوء إلى الخبرة ‪ ،‬عبر استشارة خبراء كاساتذة الجامعات‬
‫والخبراء المتخصصين‪).‬‬
‫وفي حالة استحالة التوصل إلى الكشف عن مضمون القانون األجنبي‪ ،‬فإن جانبا من الفقه‬
‫يرى أن من واجب القاضي التوقف عن الفصل في الدعوى إذا ما تعذر عليه الكشف عن‬

‫‪21‬‬
‫أحكام القانون المختص‪ ،‬لكن هذا الطرح يتعارض مع الدور المنوط به المتمثل في وجوب‬
‫الفصل في الدعوى‪ ،‬وإال يصبح منكرا للعدالة‪.‬‬
‫وبمعنى آخر‪ ،‬إن القاضي هو ملزم دائما بالبحث عن القاعدة الواجبة التطبيق نمنا الصدد‪،‬‬
‫يرى البعض‪ ،‬أن تجاوز ذلك المأزق يقتضي تطبيق أي قانون يكون و إلى القانون الذي‬
‫تعذر الكشف عن مضمونه‪ ،‬فإذا تعذر عليه مثال الكشف عن مضمون القانون األمريكي‪،‬‬
‫فيمكنه تطبيق القانون اإلنجليزي باعتباره ينتمي إلى نفس " العائلة القانونية "‪.‬‬
‫لكن هذا الرأي تعترضه عدة صعوبات‪ ،‬خاصة بمسألة التأكد من مدى التقارب بين‬
‫التشريعات المختلفة‪ ،‬ما دام المشرع غالبا ما يستوحي أحكام قوانينه من عدة تشريعات‪،‬‬
‫وذلك تحت تأثير الظروف االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬مما ال يدع مجاال لتقارب أحكام‬
‫القوانين ولو كانت من نفس العائلة‪.‬‬
‫واتجه جانب آخر من الفقه إلى القول بتطبيق أكثر القوانين ارتباطا بالعالقة الدولية محل‬
‫النزاع‪ ،‬سواء كان قانونا أجنبيا أم قانون القاضي نفسه‪ ،‬ومن بين االنتقادات الموجهة لهذا‬
‫الطرح أنه يخل بمبدأ استقرار المعامالت لكونه يجرد المتقاضين من إمكانية العلم المسبق‬
‫بالقاعدة الواجبة االتباع‪.‬‬
‫ولقد كان لالنتقادات الموجهة إلى الحلول السابقة أثرها في اتجاه الفقه والقضاء في فرنسا‬
‫إلى القول بضرورة تطبيق قانون القاضي‪ ،‬إذا لم يكن هناك قانون آخر أقرب إلى طبيعة‬
‫العالقة الدولية محل النزاع بعد القانون الذي أشارت قاعدة اإلسناد باختصاصه‪ ،‬والذي‬
‫استحال الكشف عن مضمونه‪.‬‬
‫ولقد استقر القضاء الفرنسي في تطبيقه للقانون الوطني على فكرة االختصاص العام لقانون‬
‫القاضي‪ ،‬بوصفه صاحب الوالية العامة لحكم جميع عالقات القانون الخاص‪ ،‬هذا فضال عن‬
‫كون هذا التطبيق يتأسس على اعتبارات عملية‪ ،‬لما لهذا القانون من اختصاص " احتياطي‬
‫" في األحوال التي يتعذر فيها الكشف عن مضمون القانون األجنبي صاحب االختصاص‬
‫األصيل بموجب قواعد القانون الدولي الخاص‪.‬‬

‫الفقرة الثالثة ‪:‬‬


‫سلطة القاضي في تفسير القانون األجنبي‬
‫پری جانب من الفقه أن دور القاضي في تفسير القانون األجنبي ال يختلف عن دوره في‬
‫تفسير قانونه‪ ،‬حيث يبحث عن نية المشرع وما يستهدفه من وراء القواعد التي صدرت‬
‫عنه‪ ،‬ويمكن للقاضي االستئناس في تفسير القوانين األجنبية‪ ،‬بآراء الفقه والقضاء األجنبي‬
‫ومع ذلك فهو غير ملزم باألخذ بها‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ويرى البعض أنه يتعين على القاضي إعمال منهجية التفسير المعتمدة في البلد الذي صدر‬
‫عنه القانون األجنبي‪ ،‬ومن ثم يخضع القاضي في تفسيره لهذا القانون المبادئ هذا األخير‪،‬‬
‫وبمعنى آخر‪ ،‬ينبغي على القاضي أن يتقيد بالتفسير القضائي السائد في البلد الذي يطبق‬
‫قانونه‪.‬‬
‫ويتمتع القاضي بسلطة تقديرية تخول له تمحيص وتدقيق االجتهاد القضائي‬
‫األجنبي وإعمال فكره وتجربته للتوصل إلى حل عادل للنزاع "‪.‬‬
‫فالمحاكم ملزمة بتفسير القانون األجنبي‪ ،‬كما تفسر القانون الداخلي مهتدية برای محكمة‬
‫النقض المغربية التي هي حرة في اللجوء إلى التفسير األجنبي كمجرد وسيلة بحث عن‬
‫الحقيقة‪ ،‬بحيث تستطيع تفسير القانون األجنبي بالكيفية التي ترتئيها وبنفس الكيفية التي يفسر‬
‫بها القانون المغربي الداخلي‪.‬‬
‫كما يمكن للقاضي االستعانة بالفقه لمعرفة القانون األجنبي والكشف عن مضمونه‪ ،‬إذ كثيرا‬
‫ما يستدل القضاة ويستشهدون بآراء الفقهاء في حيثياتهم لتعليل أحكامهم وقراراتهم‪.‬‬
‫المطلب الثاني ‪:‬‬
‫رقابة محكمة النقض على تطبيق وتفسير القانون األجنبي‬
‫لقد تبين لنا مما سبق‪ ،‬أن العالقات الخاصة الدولية‪ ،‬ال تخضع في األصل في تنظيمها‬
‫للقواعد الموضوعية‪ ،‬بل لقواعد اإلسناد‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فإن مهمة محكمة النقض تتمثل في توحيد‬
‫اجتهاداته والتصدي لفرض رقابته على تطبيق وتفسير القانون األجنبي‪ ،‬ومعلوم أن األحكام‬
‫الصادرة عن المحاكم العصرية المغربية‪ ،‬كانت‪ ،‬ترفع للنقض‪ ،‬في عهد الحماية‪ ،‬لدى‬
‫محكمة النقض الفرنسية حتى تأسيس المجلس األعلى المغربي سنة ‪ 2183‬مباشرة بعد‬
‫االستقالل‪.‬‬

‫فعندما تشير قاعدة اإلسناد المغربية بتطبيق قانون أجنبي معين‪ ،‬فإن التساؤل يثور عما إذا‬
‫كان على محكمة النقض أن تفرض رقابتها على تطبيقه وتأويله‪ ،‬أم أن هذه الرقابة ال تدخل‬
‫في اختصاصها ؟‬
‫وبخصوص تحديد مفهوم هذه الرقابة‪ ،‬ينبغي التمييز بين الرقابة على تطبيق قاعدة اإلسناد‬
‫التي تعتبر من القواعد الداخلية للقانون الدولي الخاص المغربي‪ ،‬وبين القانون الواجب‬
‫التطبيق‪ ،‬وهذا ما يجعل مهمة محكمة النقض الرقابية إلى حد ما معقدة‪.‬‬
‫ولقد نص الفصل ‪ 21‬من الظهير المؤسس للمجلس األعلى الصادر بتاريخ ‪/ 11 / 2183‬‬
‫‪ 13‬في فقرته األولى على أن من جملة األسباب التي يمكن ان يبنى عليها طلب النقض‬
‫خرق قانون أجنبي خاص باألحوال الشخصية و بصدور المسطرة المدنية لسنة ‪ 2132‬تم‬
‫حذف هذه العبارة‪.‬‬
‫لذا يتعين دراسة رقابة محكمة النقض على تفسير وتطبيق القانون األجنبي‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫مرحلتين ‪ :‬قبل صدور ظهير ‪ 11‬ششبر‪( 2132‬الفقرة األولى) و بعد صدور ظهير ‪11‬‬

‫‪23‬‬
‫شتنبر ‪( 2132‬الفقرة الثانية)‬

‫الفقرة األولى ‪:‬‬


‫قبل صدور ظهير ‪ 22‬شتنبر ‪1791‬‬
‫لقد نص الفصل ‪ 21‬من الظهير المؤسس للمجلس األعلى على أن خرق قانون أجنبي خاص‬
‫باألحوال الشخصية يدخل ضمن األسباب الموجبة للنقض‪.‬‬
‫يتبين من هذا المقتضى أن رقابة محكمة النقض في تلك الفترة‪ ،‬كانت محصورة في القضايا‬
‫المتعلقة باألحوال الشخصية‪ ،‬وينسحب مفهوم هذه األخيرة إلى كل المسائل التي نظمتها‬
‫مدونة األسرة من زواج وطالق ونسب وحالة األشخاص واألهلية واإلرث والوصية‪.‬‬
‫ويفهم من ذلك أن خرق هذا القانون بشكل سببا للنقض‪ ،‬ويترتب على ذلك أن‬
‫تطبيقه أمر إلزامي‪ ،‬كما أن عدم تطبيق ذلك القانون هو خرق له‪ ،‬فضال عن كونه يشكل‬
‫خرقا لقاعدة اإلسناد ‪ ،‬وعليه إن تطبيق القانون األجنبي لألحوال الشخصية هو بمقتضى‬
‫ظهير ‪ 2183‬من النظام العام الداخلي‪.‬‬
‫وفيما يتعلق بتفسير القانون األجنبي المتعلق باألحوال الشخصية‪ ،‬تفسيرا مخطئا‪ ،‬فإنه يعد‬
‫خرقا لهذا القانون‪ ،‬ويخضع بالتالي لرقابة محكمة النقض‪ ،‬لكن اإلشكال يتمثل في تحديد‬
‫الكيفية التي تمارس بها محكمة النقض هذه الرقابة‪ :‬هل يتعين عليها أن تعتمد التفسير الذي‬
‫استقرت عليه محكمة النقض في بالد ذلك القانون أم أنها تستطيع تفسيره حسب اجتهادها‬
‫الخاص ؟‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬هل محاكم الموضوع نكون ملزمة بالبحث عن ذلك التفسير األجنبي‬
‫وتقيد به كيفما كان‪ ،‬أم أنه يجوز لها أن تجتهد فتفسره كما تفعل بصدد القانون المغربي‬
‫مهتدية باجتهاد محكمة النقض ؟‬
‫يظهر أن جوهر المشكلة يتحدد فيما إذا كان سوء التفسير يكون خطأ قانونيا ليخضع للرقابة‬
‫أم أنه ال يعدو‪-‬على العكس ‪ -‬أن يكون من قبيل تقدير الوقائع ويخضع بذلك للسلطة التقديرية‬
‫لمحكمة الموضوع‪.‬‬
‫يرى األستاذ المرحوم موسى عبود أن المشرع إذ منح المجلس األعلى حق الرقابة على ذلك‬
‫التفسير أراد ان يجعل القانون األجنبي المتعلق باألحوال الشخصية في نفس المرتبة القوانين‬
‫المغربية الداخلية‪ ،‬فالمحاكم الدنيا ملزمة أن تفسره كما تفسر القانون الداخلي مهندية‬
‫بالخصوص برأي المجلس األعلى‪ ،‬وإذا كانت تلتجئ إلى تفسير ذلك القانون حسبما استقرت‬
‫عليه محاكم الدولة األجنبية‪ ،‬فإنما يكون عملها مجرد وسيلة من وسائل البحث ال على سبيل‬
‫اإللزام‪ ،‬ولذلك ال تكون مقيدة بذلك التفسير وينطبق القول نفسه على األسلوب الذي يجب أن‬
‫يسلكه المجلس االعلى"‬
‫الفقرة الثانية ‪:‬‬
‫بعد صدور ظهر ‪ 22‬شتنبر ‪1791‬‬

‫‪24‬‬
‫لقد أحدث هذا الظهير تغييرا جذريا على مستوى الرقابة المفروضة على تطبيق وتفسير‬
‫محاكم الموضوع للقانون األجنبي‪ ،‬حيث تم بموجب الفصل ‪ 181‬من قانون المسطرة‬
‫المدنية حذف عبارة " خرق القانون األجنبي المتعلق باألحوال الشخصية " وذلك في‬
‫معرض حديثها عن أسباب طلب النقض‪ ،‬واقتصر فقط على خرق القانون الداخلي‪.‬‬
‫ويبدو أن إسقاط تلك الفقرة‪ ،‬قد يحمل على االعتقاد بأنه لم يبق لمحكمة النقض حق مراقبة‬
‫تطبيق وتفسير القانون األجنبي‪ ،‬لكن البعض يرى أن "قواعد اإلسناد في مادة األحوال‬
‫الشخصية هي تشريعية (ظهير ‪ 21‬غشت ‪ ،)2121‬ولذلك فإن قانون األحوال الشخصية‬
‫الذي تعينه قاعدة اإلسناد يصبح بالنسبة للقاضي المغربي بمثابة قانون مغربي داخلي ملزم‬
‫له ولألطراف‪ ،‬إذ ال يجوز لهم أن يتنازلوا عنه"‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق بالقوانين األخرى غير األحوال الشخصية‪ ،‬سواء تلك التي يترك فيها‬
‫لألطراف حرية تعيين القانون الواجب التطبيق أو التي يحدد فيها بكيفية إلزامية القانون‬
‫الواجب التطبيق‪ ،‬فإن هذا األخير يعد بمثابة قانون داخلي‪ ،‬ويخضع تطبيقها وتفسيرها‬
‫الرقابة محكمة النقض"‪.‬‬
‫وذلك ألن محكمة النقض تعتبر هيئة عليا تكلف مبدئيا بالنظر في مدى موافقة األحكام‬
‫الصادرة عن المحاكم الدنيا والمطعون فيها أمامها للمبادئ والنصوص القانونية‪.‬‬
‫أو خروجها عن تلك المبادئ والنصوص‪ ،‬وذلك طبقا للمقتضيات الواردة في ظهير ‪2183‬‬
‫‪ 13 / 11 /‬المؤسس للمجلس األعلى وظهير ‪ 11 / 9 / 2132‬بمثابة قانون المسطرة‬
‫المدنية "‬
‫الفصل الثاني ‪:‬‬
‫استبعاد تطبيق القانون األجنبي‬
‫عندما تشير قاعدة اإلسناد على القاضي المعروض عليه النزاع بتطبيق قانون محدد‪ ،‬فإن‬
‫هذا القانون ال يطبق بصفة مطلقة‪ ،‬إذ من غير المقبول أن يطبق القاضي قانونا أجنبيا‬
‫يخالف النظام العام في دولته (المبحث األول)‪ ،‬أي يتعارض مع المثل العليا والمبادئ‬
‫األساسية والجوهرية السائدة في دولة القاضي‪.‬‬

‫وقد يتبين من جهة أخرى‪ ،‬للقاضي‪ ،‬من ظروف الدعوى ومالبساتها أن الخصوم قد تعمدوا‬
‫تغيير ضابط اإلسناد حتى يتمكنوا من اإلفالت من أحكام القانون المختص‪ ،‬ولقد أكد الفقه‬
‫الحديث حق القضاء في التصدي لتحايل الخصوم بإعمال نظرية الغش نحو القانون (المبحث‬
‫الثاني)‪.‬‬
‫المبحث األول ‪:‬‬
‫النظام العام‬

‫‪25‬‬
‫سبق أن أشرنا إلى أن توصل القاضي إلى معرفة األحكام الموضوعية التي تحكم عالقة من‬
‫عالقات القانون الدولي الخاص‪ ،‬ال يتم إال بعد تطبيق قاعدة اإلسناد التي تشير باختصاص‬
‫قانون أجنبي معين‬
‫لكن القاضي قد يكون مجبرا على استبعاد هذا القانون عبر تعطيل قاعدة اإلسناد‪ ،‬وذلك عند‬
‫مخالفته للنظام العام في دولته‪ ،‬ويقوم بتطبيق قانونه الوطني بدل القانون األجنبي المختصة‪،‬‬
‫عندما ال يتفق هذا األخير مع األسس التي يقوم عليها النظام القانوني في دولة القاضي‪،‬‬
‫وبهذا تكون فكرة النظام العام بمثابة صمام األمان الذي يحمي تلك األسس‪.‬‬
‫فما هو مفهوم النظام العام في القانون الدولي الخاص (المطلب األول) وما هي آثاره‬
‫(المطلب الثاني)‪.‬‬
‫المطلب األول ‪:‬‬
‫مفهوم النظام العام في القانون الدولي الخاص‬
‫يلعب النظام العام دورا هاما في مجال تنازع القوانين كأداة الستبعاد القانون األجنبي الذي‬
‫اشارت قاعدة اإلسناد باختصاصه‪ ،‬ولقد دخلت عبارة النظام العام إلى التشريعات الحديثة‬
‫عن طريق القانون المدني الفرنسي الذي نص في مادته السادسة علىأنه " ال يجوز‬
‫للمتعاقدين أن يتفقوا على مخالفة القوانين التي تتعلق بالنظام العام واآلداب السليمة"‪.‬‬
‫لكن المشرع الفرنسي‪ ،‬لم يقم بإعطاء تعريف للنظام العام‪ ،‬ولم يعين ماهية ‪ :‬القوانين التي‬
‫تتعلق به‪ ،‬وقد تطور مفهومه‪ ،‬وأصبح المقصود منه " مجموعة القوانين التي ال يجوز‬
‫مخالفتها او ما يسمى بالقوانين اآلمرة‪ ،‬وبهذا المعنى ينظر إلى قانون األحوال الشخصية‪،‬‬
‫على أنه من النظام العام‪ ،‬أي أنه ال يجوز لألطراف أن يغيروا أحكامه‪ ،‬وال أن يتفقوا على‬
‫عدم تطبيقه‪ ،‬والنظام العام بهذا المعنى يسمى بالنظام العام الداخلي‪.‬‬
‫وفكرة النظام العام بهذا المعنى هي فكرة مرنة ومتطورة‪ ،‬يكتنفها الغموض‪ ،‬وبالتالي‬
‫يصعب تحديد مضمونها على وجه دقيق‪ ،‬ألنه متغير ويختلف باختالف المكان والزمان‪.‬‬
‫مثال حين كان القانون المدني الفرنسي يحرم الطالق على الفرنسيين‪ ،‬لم تكن المحاكم‬
‫الفرنسية تقيل الطالق بالرغم من أن قاعدة االسناد الفرنسية تقبل دعوى طالق األجانب‬
‫الذين يجيز لهم قانونهم الوطني به من أن قاعدة اإلسناد الفرنسية تشير بتطبيق قانونهم في‬
‫هذا الخصوص‪ ،‬بول دعوى الطالق في فرنسا‪ ،‬أمر كان يستكره المجتمع الفرنسي في من‬
‫أجاز القانون الفرنسي الطالق أصبحت المحاكم الفرنسية تقبل دعاوی طالق االجانب‪.‬‬
‫وقد نص قانون االلتزامات والعقود على هذا المفهوم للنظام العام‪ ،‬حيث ينص الفصل ‪31‬‬
‫منه في فقرته الثانية على أنه ‪ " :‬يكون السبب غير مشروع إذا كان مخالفا لألخالق الحميدة‬
‫أو النظام العام أو القانون‪".‬‬
‫أما المفهوم الثاني للنظام العام ‪ ،‬وهو الذي يهمنا في مجال تنازع القوانين‪ ،‬الذي يطلق عليه‬
‫" النظام العام الدولي " او " النظام العام في القانون الدولي الخاص‪ ،‬ويقصد به األسس‬
‫الجوهرية للمجتمع سواء تعلقت بمسائل دينية أو سياسية أو اجتماعية او اقتصادية‪ ،‬التي كلما‬
‫تعارض معها القانون األجنبي الواجب التطبيق إال وجب استبعاده‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬يعرف البعض النظام العام في إطار القانون الدولي الخاص بأنه هو كل ما‬
‫يرتبط بالسياسة التشريعية للدولة التي ال يمكن مخالفتها في إطار النزاعات ذات العنصر‬
‫األجنبي المرفوعة أمام القاضي الوطني‪ ،‬سواء كانت هذه السياسة التشريعية تتعلق بحماية‬
‫المصالح الخاصة أو العامة للدولة‪ ،‬أو تتعلق باإلجراءات القانونية التي يلزم اتباعها عند‬
‫البت في أي نزاع داخلي أو أجنبي‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإذا كانت فكرة النظام العام تستخدم في مجال القانون الداخلي لضمان عدم الخروج‬
‫اإلرادي عن أحكام القواعد القانونية اآلمرة‪ ،‬فإن االستعانة بها في نطاق القانون الدولي‬
‫الخاص بهدف استبعاد تطبيق القانون األجنبي الذي أشارت قواعد اإلسناد باختصاصها‬
‫وبذلك يظهر الطابع االستثنائي لفكرة النظام العام في القانون الدولي الخاص‪ ،‬لكونها أداة‬
‫الستبعاد القانون األجنبي وتطبيق القانون الوطني بصفة استثنائية‪ ،‬خروجا على األصل‬
‫العام الذي يقضي بوجوب تطبيق القانون الذي أشارت قاعدة اإلسناد باختصاصه‪.‬‬
‫من هنا يتبين أن فكرة النظام العام تستخدم للحد من مبدأ سلطان اإلرادة ‪ ،‬وبعبارة أخرى إن‬
‫اإلرادة حرة في الحدود التي يسمح بها المشرع‪ ،‬كما أن نطاق إعمال فكرة النظام العام‬
‫يضيق في مجال تنازع القوانين عنه بالنسبة للقانون الداخلي‪.‬‬
‫المطلب الثاني ‪:‬‬
‫آثار النظام العام في القانون الدولي الخاص‬
‫إن مخالفة القانون األجنبي للنظام العام في دولة القاضي يترتب عنها إثران رئيسيان‪:‬‬
‫‪ -‬أثر سلبي ناتج عن االستبعاد الكلي أو الجزئي ألحكام القانون األجنبي ( الفقرة األولى)‪.‬‬
‫‪ -‬أثر إيجابي يتمثل في حلول قانون القاضي محل القانون األجنبي المستبعد (الفقرة الثانية)‪.‬‬
‫الفترة األولى ‪:‬‬
‫استبعاد القانون األجنبي‬
‫عندما يصطدم تطبيق القانون األجنبي بالنظام العام في دولة القاضي‪ ،‬فإن هذا التعارض‬
‫يحدث أثرا هاما‪ ،‬يعبر عنه الفقه باألثر السلبي‪ ،‬ويتمثل في استبعاد تطبيقه‪ ،‬لكن ثار التساؤل‬
‫حول نطاق هذا االستبعاد ‪ ،‬فهل يتعين استبعاد أحكام القانون األجنبي كليا أم جزئيا‪ ،‬أي في‬
‫الجانب المتعارض فقط مع النظام العام الوطني لقانون القاضي ؟‬
‫يری جانب من الفقه في فرنسا‪ ،‬أن االستبعاد يجب أن يكون كليا‪ ،‬ألن استبعاد جزء من‬
‫القانون األجنبي وتطبيق أجزائه األخرى التي ال تتعارض مع النظام العام الوطني‪ ،‬قد تؤدي‬
‫إلى مسخ القانون األجنبي‪ ،‬فضال عن كونه يخالف قاعدة اإلسناد في دولة القاضي التي‬
‫تهدف إلى تطبيق القانون األجنبي برمته‪.‬‬
‫لكن الفقه الراجح في فرنسا سار في اتجاه الطرح القاضي باستبعاد الجزء الذي يتعارض مع‬
‫النظام العام‪ ،‬وتطبيق الجزء الذي ال يخالف النظام العام‪ ،‬فإذا تعلق النزاع مثال بعقد بيع‬
‫يتضمن شرط الدفع بالذهب‪ ،‬وكان القانون األجنبي الذي يطبق على هذا العقد يجيز هذا‬
‫الشرط‪ ،‬فإنه يتعين على القاضي استبعاد هذا الشرط وحده لمخالفته للنظام العام‪ ،‬وتظل‬
‫الشروط األخرى للعقد خاضعة للقانون األجنبي مادامت ال تخالف النظام العام في المغرب‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫الفترة الثانية ‪:‬‬
‫حلول قانون القاضي محل القانون األجنبي‬
‫عندما يقوم القاضي باستبعاد حكم القانون األجنبي الذي يتعارض مع النظام العام‪ ،‬فإنه يتعين‬
‫عليه سد الفراغ التشريعي الناجم عن هذا االستبعاد‪ ،‬ويرى الفقه‬
‫الفرنسي‪ Lagarde ،‬و ‪ ،Batiffol‬وكذا القضاء الفرنسي‪ ،‬ضرورة تطبيق القانو‬
‫الوطني في هذه الحالة باعتباره األثر اإليجابي للنظام العام‪ ،‬ما دام ال يوجد‬
‫في القانون األجنبي الواجب التطبيق نص بديل للنص الذي تم استبعاده‪.‬‬
‫لكن هذا الحل قد يطرح إشكاال عندما يكون قانون القاضي غير مالئم لطبيعة العالقة الدولية‬
‫المخالفة للنظام العام‪ ،‬و لمعالجة هذا الوضع يقترح البعض أنه يتعين الطبيعي وإال كان‬
‫منكرا للعدالة‪.‬‬
‫على القاضي في هذه الحالة أن يفصل في النزاع في ضوء القواعد المستقرة في‬
‫القانون ويرى البعض أن األثر السلبي للدفع بالنظام العام ال يكفي لوحده‪ ،‬فإذا عرض مثال‬
‫نزاع أمام القضاء المغربي يتعلق بصحة زواج مسلمة بغير مسلم‪ ،‬فال يكفي استبعاد حكم‬
‫القاضي األجنبي الذي يقر بصحة هذا الزواج‪ ،‬فالبد أن يقترن األثر السلبي بأثر إيجابي‪،‬‬
‫فالقاضي عندما يستبعد القانون األجنبي‪ ،‬ويحكم بعدم صحة هذا الزواج فهو يطبق أحكام‬
‫مدونة األسرة المغربية التي ال تعترف بمثل هذا الزواج‪.‬‬
‫المبحث الثاني ‪:‬‬
‫الغش نحو القانون في اطار تنازع القوانين‬
‫لقد سبق أن أشرنا إلى أن كل قاعدة إسناد تعتمد ضابطا معينا يشير على القانون الواجب‬
‫التطبيق‪ ،‬ومن بين هذه الضوابط ما يكون قابال للتغيير بإرادة األفراد‪ ،‬وبعبارة اخرى قد‬
‫يعمد أحد األشخاص إلى تغيير ضابط اإلسناد بهدف التوصل إلى تطبيق قانون معين‬
‫و التهرب بذلك من أحكام القانون الواجب التطبيق‪ ،‬وبذلك فإن إرادته تدخلت بشكل متعمد‬
‫لتغييرذلك الضابط بقصد اإلفالت من اختصاص القانون الواجب التطبيق‪.‬‬
‫ويعتبر هذا النوع من التحايل أو الغش نحو القانون ‪ Fraude a la loi‬أمرا غير‬
‫مشروع‪ ،‬فمثال إذا كان قانون جنسية الزوج ال يسمح له بالطالق أو التطليق‪ ،‬فإن الزوج في‬
‫هذه الحالة قد يلجأ إلى تغيير جنسيته بجنسية دولة يجيز قانونها الطالق‪.‬‬
‫وقد يعمد الشخص أيضا إلى تغيير موقع المنقول‪ ،‬وذلك للتهرب من األحكام المتشددة لقانون‬
‫الموقع األول‪ ،‬والسعي وراء تطبيق قانون آخر أكثر تحقيقا لمصالحه‪ ،‬وقد يكون القانون‬
‫الذي أراد الشخص التهرب من أحكامه هو قانون القاضي‪ ،‬وقد يكون قانونا أجنبيا‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فما هو مفهوم الغش نحو القانون (المطلب األول) وما هي شروط تحققه ( المطلب‬
‫الثاني) وما هي آثاره (المطلب الثالث)‪.‬‬
‫المطلب األول ‪:‬‬
‫مفهوم الغش نحو القانون‬

‫‪28‬‬
‫لقد تبين من خالل األمثلة السابقة أن التغيير الذي يقوم به األفراد في ضابط االسناد لم يكن‬
‫مقصودا لذاته‪ ،‬وإنما قصد به في األساس‪ ،‬اإلفالت من تطبيق قانون معين‪ ،‬فالتغيير يرمي‬
‫إلى التحايل على أحكام قانون معين وهو ما درج الفقه على تسميته تسميته بالغش نحو‬
‫القانون‪.‬‬
‫ولم تتبلور فكرة التحايل على القانون الواجب التطبيق كفكرة قائمة بذاتها‪ ،‬في إطار القانون‬
‫الدولي الخاص‪ ،‬إال في أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬وذلك بمناسبة قضية دوبوفرمون ‪De‬‬
‫‪ Baufremont‬التي تتلخص وقائعها في ان سيدة بلجيكية األصل تزوجت من األمير‬
‫الفرنسي ‪ De Bauffremont‬واكتسبت الجنسية الفرنسية بناء على ذلك‪ ،‬ولما اختلفت‬
‫مع زوجها‪ ،‬أرادت الطالق منه‪ ،‬لكن أحكام القانون الفرنسي الجاري به العمل آنذاك حالت‬
‫دون تحقيق رغبتها‪ ،‬ألن هذا القانون كان يمنع الطالق‪.‬‬
‫وأمام هذا الوضع لجأت هذه األميرة إلى التجنس بجنسية إحدى الواليات األلمانية تسمى‬
‫‪ Duche de saxe Altenburg :‬التي يسمح قانونها بالطالق‪ ،‬واستطاعت بذلك أن‬
‫تحصل على الطالق من زوجها األمير الفرنسي‪ ،‬وتزوجت بأمير روماني يدعى‬
‫" ‪ " Bibesco‬بتاريخ ‪ 12‬أكتوبر ‪.2138‬‬
‫ولم يقبل الزوج األول بهذا الوضع وقام برفع دعوى أمام محكمة السين ‪La‬‬
‫‪ Seine‬مطالبا فيها ببطالن التجنيس الذي حصلت عليه زوجته بدون إذن‪ ،‬من جهة‪ ،‬وكذا‬
‫بطالن الزواج الثاني الذي يحظره القانون الفرنسي‪ ،‬معتبرا تجنس زوجته بمثابة تحايل منها‬
‫على القانون‪ ،‬من جهة ثانية‪.‬‬
‫وقد قضت المحكمة بتاريخ ‪ 21‬مارس ‪ 2133‬ببطالن الزواج الجديد مستجيبة بذلك لطلب‬
‫الزوج األول‪ ،‬وهو الحكم الذي أكدته محكمة النقض الفرنسية بتاريخ ‪ 21‬مارس ‪2131‬‬
‫مستندة في قضائها إلى فكرة التحايل أي الغش نحو القانون والسعي إلى تغيير العالقة‬
‫القانونية من أجل اإلفالت من تطبيق القانون المختص‪ ،‬حيث انتهى القرار إلى التصريح‬
‫بعدم نفاذ الطالق‪ ،‬وكذا عدم نفاذ الزواج الثاني مع بقاء الزواج األول قائما ومشروعا‪.‬‬
‫من هنا تظهر أهمية الدفع بالغش نحو القانون‪ ،‬وذلك لحماية قاعدة اإلسناد واالعتبارات التي‬
‫تقوم عليها‪ .‬ولقد اعتمدت بعض التشريعات الوضعية الحديثة هذا الدفع‪ ،‬وخاصة التشريع‬
‫اإلسباني الذي ينص في الفقرة الرابعة من المادة ‪ 21‬من المجموعة المدنية لسنة ‪2132‬‬
‫على أنه ‪ :‬يعتبر تحايال على القانون استعمال إحدى قواعد اإلسناد بغية التخلص من تطبيق‬
‫قانون إسباني آمرا‪.‬‬
‫وتأسيسا على ما سبق حاول الفقه تعريف الغش نحو القانون بأنه ‪ " :‬هو لجوء أحد أطراف‬
‫النزاع المعروض على القاضي إلى تغيير معيار قاعدة اإلسناد بطرق مشروعة ‪ ،‬وذلك‬
‫بهدف نقل اختصاص القانون الواجب التطبيق الذي تشير قاعدة اإلسناد الوطنية إلى قانون‬
‫آخر بسوء نية للتهرب من الخضوع إلى أحكامه او الوصول إلى نتائج غير مشروعة‪.‬‬
‫ويظهر من هذا التعريف أن الغش أو التحايل هو وسيلة للحيلولة دون تطبيق القانون الذي‬
‫تشير عليه قاعدة اإلسناد الوطنية‪ ،‬لكن اإلشكال الذي واجه الفقه تمثل في معرفة ما إذا كان‬
‫التحايل ينحصر في نطاق قانون القاضي أم يمتد إلى القانون األجنبي؟‬

‫‪29‬‬
‫هناك اتجاه يحصر نطاق التحايل على قانون دولة القاضي وحده‪ ،‬ويمثله جانب من الفقه‬
‫والقضاء الفرنسي‪ ،‬معتبرا أن الدفع بالغش نحو القانون يستهدف حماية النظام القانوني‬
‫الوطني وليس لحماية النظم القانونية األجنبية ‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق باالتجاه الثاني‪ ،‬فهو يرى أن الدفع بالغش نخو القانون يشمل قانون دولة‬
‫القاضي‪ ،‬والقانون األجنبي الواجب التطبيق‪ ،‬على السواء‪ ،‬بناء على فكرة شمولية قاعدة‬
‫اإلسناد لمفهوم القانون الذي تشير به على القاضي المعروض عليه النزاع‪ ،‬سواء كان هذا‬
‫القانون هو قانون دولة القاضي أو أي قانون أجنبي آخر‪ ،‬وإنما يهدف إلى حماية األمر‬
‫التشريعي الذي صدرت بمقتضاه‪.‬‬
‫المطلب الثاني ‪:‬‬
‫شروط تحقق الغش نحو القانون‬
‫يجمع فقه القانون الدولي الخاص على وجوب توفر شرطين أساسيين المكان الدفع بالغش‬
‫نحو القانون وهما ‪ :‬إجراء تغيير إرادي في ضابط اإلسناد باعتباره الركن المادي في عملية‬
‫الغش‪ ،‬من جهة‪ ،‬وتوافر نية الغش نحو القانون‪ ،‬التي تمثل العنصر المعنوي من جهة ثانية‪.‬‬
‫الفترة األولى ‪:‬‬
‫إجراء تغيير ارادي بضابط اإلسناد‬
‫يتحقق هذا الشرط حينما يقوم أطراف العالقة بتغيير ضابط اإلسناد الذي يتحدد بواسطته‬
‫القانون الواجب التطبيق‪ ،‬وهنا تلعب إرادة األطراف دورا أساسيا في تغيير أحد المكونات‬
‫األساسية لقاعدة اإلسناد المتمثلة في معيار أو ضابط اإلسناد‪ ،‬وبشرط أن يكون هذا األخير‬
‫قابال للتغيير بإرادة األطراف‪ ،‬كما في مثال تغيير الجنسية‪ ،‬وتغييرالموطن‪ ،‬والدين‪ ،‬أما إذا‬
‫كان غير ممكن‪ ،‬كما هو الحال في المسؤولية المدنية الناجمة عن حدوث فعل ضار أو في‬
‫حالة التصرف في عقار‪ ،‬ونحن نعلم أن هذا األخير ال يمكن تغيير موقعه‪ ،‬فإن الغش نحو‬
‫القانون ال يمكن قيامه‪.‬‬
‫كما يشترط من جهة أخرى‪ ،‬أن يكون التغيير مشروعا‪ ،‬وبمعنى آخر‪ ،‬إذا كانت الوسيلة‬
‫المستخدمة في التغيير غير مشروعة‪ ،‬كأن يتم تغيير الجنسية عن طريق الغش في الشروط‬
‫المتطلبة الكتسابها ‪ ،‬فإنه ال يجوز االعتداد في هذه الحالة بالجنسية المكتسبة عن طريق‬
‫الغش‪ ،‬إذ يكفي إثبات عدم مشروعية الوسيلة المستخدمة في ذاتها‪.‬‬
‫لكن اإلشكال يطرح في الحالة التي تكون الوسيلة المستعملة مشروعة والتي يهدف من‬
‫ورائها الشخص الوصول إلى نتيجة غير مشروعة‪ ،‬لتأكد أهمية بحث نية التحايل‬
‫او الغش نحو القانون‪.‬‬
‫الفترة الثانية ‪:‬‬
‫نية التحايل أو الغش نحو القانون‬
‫سبق أن أشرنا إلى أنه ال يكفي أن يكون تغيير ضابط اإلسناد فعليا ومشروعا‪ ،‬بل الشخص‬
‫من وراء هذا التغيير اإلفالت من أحكام القانون الواجب التطبيق‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬أن تكون‬

‫‪30‬‬
‫لدى األطراف سوء نية التهرب من أحكام هذا وذلك للحصول على نتائج محددة وغير‬
‫مشروعة ‪ ،‬وهذا هو العنصر المعنوي‬
‫في الغش‪ ،‬أي نية التحايل أو الغش نحو القانون‪.‬‬
‫وترتب على الغش نحو القانون‪ ،‬عادة‪ ،‬إضرار بمصالح المشروعة‪ ،‬وهذا ما تبين لنا من‬
‫خالل مثال تجنس األميرة " ‪ " De Bauffremont‬بالجنسية األلمانية‪ ،‬وكانت النتيجة‬
‫أن الحقت ضررا بالمصلحة المشروعة لزوجها األول‪ ،‬حيث تمكنت من الحصول على‬
‫الطالق وزواجها من أمير آخر من أصل رومانية ‪.‬‬
‫وتدخل مسألة استخالص نية الغش من خالل وقائع الدعوى‪ ،‬ضمن السلطة التقديرية‬
‫للقاضي وال تخضع لرقابة محكمة النقض‪.‬‬
‫ويرى جانب من الفقه أنه ليست ثمة فائدة في اشتراط قصد اإلضرار بالغير‪ ،‬حتى تكتمل‬
‫شروط الغش نحو القانون‪ ،‬مادام الدفع بالغش يهدف أصال إلى حماية الحكم اآلمر الذي‬
‫تتضمنه قاعدة اإلسناد حينما تشير باختصاص قانون معين‪ ،‬لكي يطبق على القضية‬
‫المعروضة أمام القاضي‪ ،‬بحيث يكفى توافر نية اإلفالت من هذا الحكم اآلمر حتى يتحقق‬
‫للغش آثاره‪.‬‬
‫المطلب الثالث ‪:‬‬
‫آثار الدفع بالغش نحو القانون‬
‫في حالة ما إذا تمكن القاضي من الكشف عن التحايل على القانون من خالل النزاع‬
‫المعروض عليه‪ ،‬وتأكد من قيام شروطه‪ ،‬فإنه يتعين عليه استبعاد القانون الذي أصبح‬
‫مختصا بمقتضى هذا التحايل (الفقرة األولى)‪ ،‬وتطبيق القانون الذي كان مختصا بمقتضى‬
‫قاعدة اإلسناد الوطنية (الفقرة الثانية)‪.‬‬
‫الفترة األولى ‪:‬‬
‫استبعاد القانون الذي أصبح مختصا بفعل التحايل‬
‫يرى غالبية الفقه أن الجزاء المترتب على الغش نحو القانون هو استبعاد القانون الذي أصبح‬
‫مختصا بمقتضى التحايل على القانون الواجب التطبيق‪ ،‬فهل يكون االستبعاد مطلقا‪ ،‬سواء‬
‫بالنسبة للوسيلة التي تم بناء التحايل عليها‪ ،‬أو بالنسبة لنتيجة هذا التحايل ؟ ‪.‬‬
‫فبعض الفقه يرى أن االستبعاد يجب أن يكون مطلقا‪ ،‬ألن أثر الغش ال يتناول عدم نفاذ‬
‫النتيجة التي يستهدفها الشخص من وراء تغيير ضابط اإلسناد‪ ،‬بل يشمل أيضا الوسيلة التي‬
‫لجأ إليها الشخص‪ ،‬بينما جانب آخر من الفقه‪ ،‬فيرى استبعاد النتيجة دون الوسيلة أي استبعاد‬
‫القانون الذي أصبح مختصا‪ ،‬باعتباره نتيجة للتحايل على القانون الواجب التطبيق‪ ،‬وذلك‬
‫من غير وقف األثر المترتب عن التغيير في معيار اإلسناد‪ ،‬والذي لجأ إليه األطراف بطرق‬
‫مشروعة‪ ،‬وبالرجوع إلى قضية " دوبو فرمون "‪ ،‬تبين لنا أن القضاء أبطل زواج هذه‬
‫األميرة من زوجها الثاني‪ ،‬دون إبطال جنسيتها األلمانية التي اعتمدت عليها للتطليق من‬
‫زوجها األول وزواجها من األمير الروماني‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ويظهر مما سبق‪ ،‬أن األثر المترتب عن الغش يتحدد في استبعاد تطبيق القانون الذي ثبت له‬
‫االختصاص وفقا للضابط المفتعل‪ ،‬فضال عن إعادة االختصاص إلى القانون الذي أراد‬
‫الشخص التهرب من أحكامه‪.‬‬
‫الفترة الثانية ‪:‬‬
‫تطبيق القانون الذي كان مختصا بمقتضى قاعدة اإلسناد الوطنية‬
‫عندما يتم استبعاد القانون الذي أصبح مختصا بمقتضى التحايل الذي وقع على القانون‬
‫الواجب التطبيق‪ ،‬فإن االختصاص يجب ان يرجع إلى هذا القانون األخير الذي يحل محل‬
‫القانون الذي حاول المتحايل أن يتوصل إلى تطبيقه حينما قام بتغيير ضابط اإلسناد لنزع‬
‫االختصاص عن القانون الذي وقع عليه التحايل‬
‫ففي قضية األميرة " ‪ ،" De Bauffremont‬المذكورة‪ ،‬فإن أثر الغش تمثل أوال في‬
‫استبعاد القضاء الفرنسي ألحكام القانون األلماني الذي يبيح الطالق‪ ،‬وثانيا‪ ،‬تطبيق القانون‬
‫الفرنسي الذي كان مختصا بحكم النزاع‪ ،‬والذي أرادت األميرة أن تتهرب من أحكامه‪،‬‬
‫وبذلك يشكل الغش نحو القانون تعطيال لتطبيق ما تشير عليه قاعدة اإلسناد‪ ،‬األمر الذي‬
‫يحتم إعادة االختصاص إلى القانون الذي أراد المتحايل التهرب من تطبيقه‪ ،‬سواء كان‬
‫قانونا وطنيا أو أجنبيا‪.‬‬

‫‪32‬‬

You might also like