You are on page 1of 17

‫المبحث األول‪( :‬حج آدم موسى)‬

‫‪:‬وفيه ثالثة مطالب‬

‫‪.‬المطلب األول‪ :‬سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه اإلشكال *‬

‫‪.‬المطلب الثاني‪ :‬أقوال أهل العلم في هذا اإلشكال *‬

‫‪.‬المطلب الثالث‪ :‬الترجيح *‬

‫المطلب األول‪ :‬سياق الحديث المتوهم إشكاله وبيان وجه اإلشكال‬

‫روى البخاري ومسلم عليهما رحمة هللا حديث الُمَح اَّج ة بين آدم وموسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬من عدة طرق عن أبي هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪،-‬‬
‫‪:‬وكلها بألفاظ متقاربة تدل على معنى واحد‪ ،‬ما عدا طريق واحد فقد جاء مخالًفا في معناه للطرق األخرى‪ ،‬وإليك البيان‬

‫أ‪ -‬أما اللفظ األول‪ ،‬والذي جاءت به جميع الطرق ماعدا واحًدا منها‪ ،‬فهو‪ :‬أن موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬الم آدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬على اإلخراج‬
‫‪:‬من الجنة‪ ،‬فاحتج عليه آدم بأن ذلك مقدر عليه قبل أن يخلق بأربعين سنًة‪ ،‬وإليك طرقه وألفاظه‬

‫‪ - ١‬طريق حميد بن عبد الرحمن‪ ،‬ولفظه‪ :‬قال رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪( :-‬احتج آدم وموسى‪ ،‬فقال له موسى‪ :‬أنت آدم الذي‬
‫أخرجتك خطيئتك من الجنة‪ ،‬فقال له آدم‪ :‬أنت موسى الذي اصطفاك هللا برساالته وبكالمه‪ ،‬ثم تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)‬
‫‪ ، .‬فقال رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪( :-‬فحَّج آدم موسى) مرتين (‪)١‬‬

‫‪ - ٢‬طريق محمد بن سيرين‪ ،‬ولفظه‪ :‬عن رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬التقى آدم وموسى (‪ ، )٢‬فقال موسى آلدم‪ :‬أنت الذي‬
‫أشقيت الناس وأخرجتهم من‬

‫متفق عليه‪ :‬البخاري في موضعين‪ :‬في كتاب األنبياء‪ ،‬باب‪ :‬وفاة موسى وذكره بعد (‪ )١٢٥١ /٣‬ح (‪ ، )٣٢٢٨‬وفي كتاب التوحيد‪(١) ،‬‬
‫‪ .‬باب‪ :‬قوله‪َ{ :‬و َك َّلَم ُهَّللا ُم وَس ى َتْك ِليًم ا} (‪ )٢٧٣٠ /٦‬ح (‪)٧٠٧٧‬‬

‫‪ .‬ومسلم‪ :‬كتاب القدر‪ ،‬باب‪ :‬حجاج آدم وموسى ‪-‬عليه السالم‪ )٤٤١ /١٦( -‬ح (‪)٢٦٥٢‬‬

‫‪:‬اختلف أهل العلم في وقت هذه المحاجة وهذا االلتقاء بين آدم وموسى ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬فذكروا فيها عدة أقوال‪ ،‬منها )‪(٢‬‬

‫الجنة‪ ،‬قال آدم‪ :‬أنت موسى الذي اصطفاك هللا برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فوجدتها كتب علي قبل أن‬
‫‪ .‬يخلقني؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬فحج آدم موسى) (‪)١‬‬
‫‪ - ٣‬طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬ولفظه‪ :‬عن النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬حاَّج موسى آدم فقال له‪ :‬أنت الذي أخرجت‬
‫الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم‪ ،‬قال‪ :‬قال آدم‪ :‬يا موسى أنت الذي اصطفاك هللا برسالته وبكالمه‪ ،‬أتلومني على أمر كتبه هللا علي قبل‬
‫أن يخلقني‪ ،‬أو قدره علي‬

‫‪.‬أن ذلك كان في زمان موسى ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬حيث أحيا هللا آدم معجزة له فكلمه ‪= -‬‬

‫‪.‬وقيل‪ :‬بل كشف هللا لموسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬عن قبر آدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬فكلمه ‪-‬‬

‫‪.‬وقيل‪ :‬إن ذلك لم يقع بعد‪ ،‬وإنما يقع في اآلخرة‪ ،‬وأخبر عنه النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬بلفظ الماضي لتحقق وقوعه ‪-‬‬

‫انظر‪ :‬التمهيد (‪ ، )١٦ /١٨‬وكشف المشكل من حديث الصحيحين (‪ ، )٣٨٢ /٣‬والمفهم (‪ ، )٦٦٥ /٦‬وشرح النووي على مسلم (‪[/١٦‬‬
‫وكلها اجتهادات ال دليل عليها‪ ،‬إذ لم يرد في أي من طرق هذا ] ‪ ، )٤٣٩‬وفتح الباري (‪ ، )٥٠٦ /١١‬وطرح التثريب (‪)٢٤٧ /٨‬‬
‫‪.‬الحديث تحديد وقتها وال مكانها وال كيفيتها‪ ،‬وعلى هذا فالواجب الوقوف عند حدود ما ورد‪ ،‬وهللا أعلم‬

‫‪" .‬قال ابن عبد البر في التمهيد (‪" : )١٦ /١٨‬ذلك عندي ال يحتمل تكييًفا‪ ،‬وإنما فيه التسليم‪ ،‬ألنا لم نؤَت من جنس هذا العلم إال قلياًل‬

‫وقال ابن الجوزي في كشف المشكل (‪" : ) ٣٨٣ - ٣٨٢ /٣‬فإن قال قائل‪ :‬كيف اجتمعا ومتى اجتمعا؟ فالجواب‪ :‬أنه يجب اإليمان بكل‬
‫ما نخبر به عن الصادق المصدوق وإن لم نطلع على كيفيته ‪ ...‬وليس هذا بأول خبر يجب علينا اإليمان به وإن جهلنا معناه ‪ ...‬ومتى‬
‫ضاقت الحيل في كشف المشكالت لإلحساس لم يبَق إال فرض التسليم" قلت‪ :‬المعنى واضح غير مجهول‪ ،‬وإنما المجهول الكيفية‪ ،‬وهذا‬
‫‪.‬مراد ابن الجوزي في قوله‪" :‬وإن جهلنا معناه" أي‪ :‬كيفيته كما قد صرح به في أول هذا النقل‪ ،‬وهللا أعلم‬

‫متفق عليه‪ :‬البخاري‪ :‬كتاب التفسير‪ ،‬باب‪ :‬قوله‪َ{ :‬و اْص َطَنْع ُتَك ِلَنْفِس ي (‪ )١٧٦٤ /٤( } )٤١‬ح (‪ ، )٤٤٥٩‬ومسلم‪ :‬كتاب القدر‪(١) ،‬‬
‫‪ .‬باب‪ :‬حجاج آدم وموسى ‪-‬عليه السالم‪ )٤٤٢ /١٦( -‬ح (‪)٢٦٥٢‬‬

‫‪ .‬قبل أن يخلقني) قال رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪( :-‬فحج آدم موسى) (‪)١‬‬

‫‪ - ٤‬طريق طاووس‪ ،‬ولفظه‪ :‬عن النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬احتج آدم وموسى فقال له موسى‪ :‬يا آدم أنت أبونا خيبتنا (‪)٢‬‬
‫وأخرجتنا من الجنة‪ ،‬قال له آدم‪ :‬يا موسى اصطفاك هللا بكالمه وخط لك بيده‪ :‬أتلومني على أمر قدره هللا علي قبل أن يخلقني بأربعين‬
‫‪،‬سنًة (‪ )٣‬؟ فحج آدم موسى‬

‫متفق عليه‪ :‬البخاري‪ :‬كتاب التفسير‪ ،‬باب‪َ{ :‬فاَل ُيْخ ِرَج َّنُك َم ا ِم َن اْلَج َّنِة َفَتْش َقى} (‪ )١٧٦٤ /٤‬ح (‪ ، )٤٤٦١‬ومسلم‪ :‬كتاب القدر‪(١) ،‬‬
‫‪ .‬باب‪ :‬حجاج آدم وموسى ‪-‬عليه السالم‪ )٤٤١ /١٦( -‬ح (‪)٢٦٥٢‬‬

‫‪ .‬أي‪ :‬كنت سبًبا في حرماننا‪ .‬انظر‪ :‬الفتح (‪(٢) )٥٠٨ /١١‬‬


‫اختلف أهل العلم في وقت هذه الكتابة‪ ،‬ألنه قد ثبت في صحيح مسلم (‪ )٤٤٢ /١٦‬ح (‪ )٢٦٥٣‬أن النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪(٣) :‬‬
‫‪( .‬كتب هللا مقادير الخالئق قبل أن يخلق السموات واألرض بخمسين ألف سنة‪ ،‬وكان عرشه على الماء)‬

‫فذهب ابن الجوزي إلى أن المعلومات كلها قد أحاط بها علم هللا القديم قبل وجود المخلوقات كلها‪ ،‬ولكن كتابتها وقعت في أوقات ‪-‬‬
‫متفاوتة‪ ،‬فيجوز أن تكون قصة آدم بخصوصها كتبت قبل خلفه بأربعين سنة‪ ،‬ويجوز أن تكون هذه المدة ‪-‬األربعون سنًة‪ -‬هي مدة لبثه‬
‫طيًنا إلى أن نفخت فيه الروح‪ ،‬فإنه قد ُروي أن ما بين تصويره ونفخ الروح فيه كان مدة أربعين سنة‪ ،‬وال يخالف ذلك كتابة المقادير‬
‫‪ .‬عموًم ا قبل خلق السموات واألرض بخمسين ألف سنة‪[ .‬انظر‪ :‬كشف المشكل (‪ ، )٣٨٣ /٣‬وفتح الباري (‪] )٥٠٨ /١١‬‬

‫وقال ابن القيم في شفاء العليل (‪" : ) ٤٦ /١‬هذا التقدير بعد التقدير األول السابق بخلق السموات بخمسين ألف سنة" ‪ ،‬يعني‪ :‬وهو داخل‬
‫‪ .‬في التقدير األول لم يخرج عنه‪[ .‬انظر‪ :‬شفاء العليل (‪] )٧٣ /١‬‬

‫وقيل‪ :‬يحتمل أن يكون المراد باألربعين سنة‪ ،‬ما بين قوله تعالى‪َ{ :‬وِإْذ َقاَل َر ُّبَك ِلْلَم اَل ِئَك ِة ِإِّني َج اِع ٌل ِفي اَأْلْر ِض َخ ِليَفًة} إلى نفخ ‪-‬‬
‫‪ .‬الروح في آدم‪[ .‬انظر‪ :‬فتح الباري (‪ ، )٥٠٨ /١١‬ومعالم السنن للخطابي (‪] )٢٩٧ /٤‬‬

‫وقال المازري‪ :‬األشبه أنه أراد بقوله‪( :‬قبل أن يخلقني بأربعين سنة) أي‪ :‬كتبه في التوراة‪ ،‬أال تراه يقول في بعض طرقه‪( :‬فبكم ‪-‬‬
‫وجدت هللا كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى‪ :‬بأربعين عاًم ا‪ ،‬قال آدم‪ :‬فهل وجدت فيها‪َ{ :‬و َعَص ى آَد ُم َر َّبُه َفَغ َو ى} ؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫= أفتلومني على أن عملت عماًل كتبه هللا علي أن أعمله‬

‫‪ .‬فحج آدم موسى) ثالًثا (‪)١‬‬

‫‪ - ٥.‬طريق همام بن منبه‪ ،‬أخرجه مسلم وقال‪ :‬بمعنى حديثهم (‪ )٢‬أي‪ :‬بمعنى األحاديث السابقة‬

‫‪ - ٦‬طريق عبد الرحمن بن األعرج‪ ،‬ولفظه‪ :‬أن رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬تحاج آدم وموسى‪ ،‬فحج آدم موسى‪ ،‬فقال‪ :‬له‬
‫موسى‪ :‬أنت آدم الذي أغويت (‪ )٣‬الناس وأخرجتهم من الجنة‪ ،‬فقال آدم‪ :‬أنت الذي أعطاه هللا‬

‫قبل أن يخلقني بأربعين سنة)‪[ .‬انظر‪ :‬المعلم (‪ ، )١٧٨ /٣‬وفتح الباري (‪ ] )٥٠٩ /١١‬وإلى هذا ذهب ابن مفلح ‪-‬رحمه هللا‪ -‬حيث =‬
‫‪" .‬قال في اآلداب الشرعيه (‪" : ) ٢٧٧ /١‬هذه الكتابة في التوراة‪ ،‬كصريح هذه الرواية‪ ،‬ألن علم هللا ‪-‬عز وجل‪ -‬وما قدره وأراده قديم‬

‫‪ .‬وقيل غير ذلك‪[ .‬انظر‪ :‬شرح النووي على مسلم (‪ ، )٤٤١ - ٤٤٠ /١٦‬وفتح الباري (‪- ] )٥٠٩ - ٥٠٨ /١١‬‬

‫‪:‬والذي تدل عليه روايات الحديث‬

‫‪.‬أن التوراة كتبت قبل خلق آدم بأربعين سنة‪ ،‬وفيها ذكر معصية آدم ‪-‬‬
‫‪.‬أن المعصية كتبت قبل خلق آدم بأربعين سنة‪ ،‬وعليه تكون هذه الكتابة كتابة ثانية ‪-‬‬

‫إذ أنها داخلة في كتابة المقادير قبل خلق السموات واألرض بخمسين ألف سنة‪ ،‬كما في الحديث المتقدم ‪-‬فهي من جنس كتابة المَلك ما ‪-‬‬
‫يتعلق بالجنين‪ ،‬من عمله‪ ،‬ورزقه‪ ،‬وأجله‪ ،‬وشقي أو سعيد‪ ،‬كما في حديث ابن مسعود ‪-‬رضي هللا عنه‪ ،-‬أن النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫قال‪( :‬إن أحدكم ُيجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوًم ا‪ ،‬ثم يكون علقة مثل ذلك‪ ،‬ثم يكون مضغة مثل ذلك‪ ،‬ثم يبعث هللا مَلًك ا فيؤمر بأربع‬
‫كلمات‪ُ ،‬و يقال له‪ :‬اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد‪ ،‬ثم ُينفخ فيه الروح) ‪ .‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ )١١٧٤ /٣‬ح (‪، )٣٠٣٦‬‬
‫‪ .‬ومسلم (‪ )٤٢٩ /١٦‬ح (‪)٢٦٤٣‬‬

‫‪ .‬متفق عليه‪ :‬البخاري‪ :‬كتاب القدر‪ ،‬باب‪ :‬تحاج آدم وموسى عند هللا (‪ )٢٤٣٩ /٦‬ح (‪(١) )٦٢٤٠‬‬

‫‪ .‬ومسلم‪ :‬كتاب القدر‪ ،‬باب‪ :‬حجاج آدم وموسى ‪-‬عليه السالم‪ )٤٣٩ /١٦( -‬ح (‪)٢٦٥٢‬‬

‫‪ .‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب القدر‪ ،‬باب‪ :‬حجاج آدم وموسى ‪-‬عليهم السالم‪ )٤٤٢ /١٦( -‬ح (‪(٢) )٢٦٥٢‬‬

‫أي‪" :‬كنت سبًبا لغواية من غوى منهم‪ ،‬وهو سبب بعيد‪ ،‬إذ لو لم يقع األكل من الشجرة‪ ،‬لم يقع اإلخراج من الجنة‪ ،‬ولو لم يقع )‪(٣‬‬
‫"= اإلخراج‪ ،‬ما تسلط عليهم‬

‫‪ .‬علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق) (‪)١‬‬

‫ب‪ -‬وأما اللفظ الثاني‪ :‬ففيه أن موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬الم آدم ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬على اإلهباط إلى األرض‪ ،‬فاحتج عليه آدم بأن معصيته‬
‫‪.‬مكتوبة عليه قبل أن يخلق بأربعين سنة‬

‫وهذا اللفظ تفرد به مسلم عن يزيد بن هرمز وعبد الرحمن بن األعرج ‪-‬علًم ا أنه قد جاء عن ابن األعرج ما يوافق اللفظ األول‪ ،‬كما‬
‫تقدم‪ -‬ونص هذا اللفظ كما عند مسلم‪ :‬قال رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪( :-‬احتج آدم وموسى ‪-‬عليهم السالم‪ -‬عند ربهما‪ ،‬فحج آدم‬
‫موسى‪ ،‬قال موسى‪ :‬أنت آدم الذي خلقك هللا بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك مالئكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك‬
‫إلى األرض‪ ،‬فقال آدم‪ :‬أنت موسى الذي اصطفاك هللا برسالته وبكالمه وأعطاك األلواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجًيا‪ ،‬فبكم وجدت‬
‫هللا كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى‪ :‬بأربعين عاًم ا‪ ،‬قال آدم‪ :‬فهل وجدت فيها‪َ{ :‬و َعَص ى آَد ُم َر َّبُه َفَغ َو ى} [طه‪ ]١٢١ :‬؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬قال‪ :‬أفتلومني على أن عملت عماًل كتبه هللا علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنًة) ‪ ،‬قال رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪:-‬‬
‫‪( .‬فحج آدم موسى) (‪)٢‬‬

‫"‪ .‬الشهوات والشيطان المسبب عنهما اإلغواء‪ ،‬والغي ضد الرشد وهو االنهماك في غير الطاعة "فتح الباري (‪= )٥٠٧ /١١‬‬

‫متفق عليه‪ :‬البخاري تعليًقا‪ :‬كتاب القدر‪ ،‬باب‪ :‬تحاج آدم وموسى عند هللا (‪ )٢٤٣٩ /٦‬ح (‪ . )٦٢٤٠‬ومسلم ‪-‬واللفظ له‪ :-‬كتاب )‪(١‬‬
‫‪ .‬القدر‪ ،‬باب‪ :‬حجاج آدم وموسى ‪-‬عليه السالم‪ )٤٤٠ /١٦( -‬ح (‪)٢٦٥٢‬‬

‫‪ .‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب القدر‪ ،‬باب‪ :‬حجاج آدم وموسى ‪-‬عليهم السالم‪ )٤٤٠ /١٦( -‬ح (‪(٢) )٢٦٥٢‬‬
‫‪ .‬وجاء هذا اللفظ من هذه الطريق عند عبد هللا بن وهب في كتاب القدر (‪ )٥٤ ،٥٣‬ح (‪- )٢ ،١‬‬

‫= وجاء هذا اللفظ أيًض ا من طريق همام بن منبه كما عند اإلمام أحمد في مسنده ‪-‬‬

‫بيان وجه اإلشكال‬

‫أشكل هذا الحديث على كثير من الناس‪ ،‬حيث إن ظاهره قد يوهم أن المحاجة بين آدم وموسى ‪-‬عليهم السالم‪ -‬كانت متوجهة إلى‬
‫المعصية (‪ ، )١‬ولما كانت الحجة آلدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬فقد يفهم البعض ‪-‬بناًء على هذا الوهم‪ -‬جواز االحتجاج بالقدر على فعل المعصية‪،‬‬
‫‪.‬ولذا فقد تباينت اآلراء في توجيه هذا الحديث‪ ،‬كما سيأتي إن شاء هللا تعالى‬

‫قال ابن تيمية عن هذا الحديث‪" :‬لما توهم من توهم أن ظاهره‪ :‬أن المذنب يحتج بالقدر على من المه على الذنب‪ ،‬اضطربوا فيه‪ :‬فكَّذ ب‬
‫" به طائفة من القدرية (‪)٢‬‬

‫‪.‬ح (‪ ، )٨١٤٣‬وحكم عليه أحمد شاكر بالصحة )‪= (٥٦ /١٦‬‬

‫وجاء أيًض ا من طريق أبي صالح‪ ،‬كما عند الترمذي (تحفه ‪ )٣٣٦ /٦‬ح (‪ ، )٢٢١٧‬وحكم األلباني عليه بالصحة‪ ،‬كما في صحيح ‪-‬‬
‫‪" .‬سنن الترمذي (‪ )٢٢٣ /٢‬ح (‪ ، )١٧٣٣‬وكذا عند ابن أبي عاصم في السنة (‪ ، )٦٤ /١‬وقال األلباني‪" :‬إسناده صحيح‬

‫وجاء أيًض ا من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬كما عند الفريابي في كتاب القدر (‪ )٩٤ ،٩٣‬ح (‪ ، )١١٤ ،١١٣‬وابن منده في الرد ‪-‬‬
‫‪ .‬على الجهمية (‪ ، )٧١‬وابن عبد البر في التمهيد (‪)١٢ ،١٧ /١٨‬‬

‫‪ .‬وجاء أيًض ا من طريق حميد بن عبد الرحمن‪ ،‬كما عند الاللكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (‪- )٦٤٢ /٤‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬الروض الباسم البن الوزير (‪(١) )٤٦٥ /٢‬‬

‫‪:‬القدرية‪ :‬تنقسم القدرية النفاة إلى فرقتين )‪(٢‬‬

‫‪ - ١‬القدرية األولى أو الغالة‪ :‬وهم الذين ينكرون سبق علم هللا باألشياء قبل وجودها‪ ،‬ويزعمون أن هللا لم يقدر األمور أزاًل ولم يتقدم‬
‫‪.‬علمه بها وإنما يأتنفها علًم ا حال وقوعها‬

‫‪ - ٢‬الفرقة الثانية‪ :‬وهم الذين يقرون بتقدم علم هللا تعالى ألفعال العباد قبل وقوعها‪ ،‬لكنهم خالفوا السلف في زعمهم أن أفعال العباد‬
‫ليست مخلوقة هلل تعالى وال مقدورة له‪ ،‬وأن العباد هم الموجدون والخالقون ألعمالهم وأفعالهم على جهة االستقالل‪ ،‬وهذا المذهب هو‬
‫‪.‬الغالب عليهم اآلن‬
‫= وأول من أظهر بدعة القدر ‪-‬كما يرجحه كثير من المحققين‪ -‬معبد الجهني‪ ،‬ثم‬

‫كالجبائي (‪ ، )١‬وتأوله طائفة من أهل السنة تأويالت ضعيفة‪ ،‬قصًدا لتصحيح الحديث‪ ،‬ومقصودهم صحيح‪ ،‬لكن طريقهم في رد قول‬
‫"‪.‬القدرية وتفسير الحديث ضعيفة "(‪)٢‬‬

‫‪ .‬وقال ابن كثير‪" :‬احتج به قوم من الجبرية (‪ ، )٣‬وهو ظاهر لهم بادئ الرأي" (‪)٤‬‬

‫بعد ذلك ظهرت المعتزلة فتبنت هذه البدعة ونشرتها‪ ،‬وإن كانت لم تأخذ هذه البدعة بكاملها ألنها آمنت بعلم هللا المتقدم وكتابته =‬
‫السابقة‪[ .‬انظر‪ :‬مسلم بشرح النووي (‪ ، )٢٥٩ ،٢٦٩ /١‬والفرق بين الفرق (‪ ، )٢٥‬ومجموع الفتاوى (‪ ، )٤٥٠ ،٤٢٩ /٨‬ولوامع‬
‫‪ .‬األنوار (‪] )٣٠١ - ٣٠٠ /١‬‬

‫هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب البصري‪ ،‬شيخ المعتزلة وكبيرهم‪ ،‬وأبو شيخ المعتزلة أبي هاشم‪ ،‬له في مذهب االعتزال )‪(١‬‬
‫مقاالت مشهورة‪ ،‬وقد أخذ عنه أبو الحسن األشعري علم الكالم‪ ،‬ثم خالفه ونابذه وتسنن‪ ،‬وللجبائي مصنفات عديدة في االعتزال منها‪:‬‬
‫األصول‪ ،‬والتعديل والتجويز‪ ،‬واألسماء والصفات‪ ،‬توفي بالبصرة سنة (‪[ . )٣٠٣‬انظر‪ :‬وفيات األعيان (‪ ، )٩٧ /٤‬والسير (‪/١٤‬‬
‫‪ ، )١٨٣ .‬والعبر (‪ ، )٤٤٥ /١‬وشذرات الذهب (‪] )٢٤١ /٢‬‬

‫‪ .‬درء التعارض (‪(٢) )٤١٨ /٨‬‬

‫الجبرية‪ُ :‬سموا بذلك نسبة إلى الجبر‪ ،‬وهو نفي الفعل حقيقة عن العبد‪ ،‬وإضافته إلى الرب‪ ،‬فالجبرية تعتقد أن الفاعل حقيقة هو هللا )‪(٣‬‬
‫تعالى‪ ،‬والناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز‪ ،‬كما يقال‪ :‬تحركت الشجرة‪ ،‬ودارت الرحى‪ ،‬وزالت الشمس‪ ،‬دون أن يكون‬
‫لها مشيئة أو اختيار‪ ،‬وهكذا الخلق‪ ،‬فإن هللا تعالى هو الذي جبرهم على اإليمان والكفر‪ ،‬والطاعة والمعصية‪ ،‬فهم كالريشة في مهب‬
‫الريح‪ ،‬مجبورون على أفعالهم‪ ،‬ال قدرة لهم وال اختيار‪ ،‬والذي يمثل هذا المذهب غالة المرجئة كالجهمية ومن نحا نحوهم من الصوفية‬
‫وغيرهم‪ ،‬وهم أصناف‪ :‬فمنهم الجبرية الخالصة‪ ،‬وهم الذين ال يثبتون للعبد فعاًل وال قدرة على الفعل أصاًل ‪ ،‬ومنهم الجبرية الذين‬
‫يثبتون للعبد قدرة غير مؤثرة أصاًل [انظر‪ :‬مقاالت اإلسالميين (‪ ، )٣٣٨ /١‬والملل والنحل (‪ ، )٨٥ /١‬والفرق بين الفرق (‪،١٩٤‬‬
‫‪ ، )٢٩٨ - ٢٩٧ .‬واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (‪ ، )١٠٣‬والبرهان للسكسكي (‪] )٤٣ - ٤٢‬‬

‫‪ .‬البداية والنهاية (‪ ، )٧٨ /١‬وانظر ما نقله ابن حجر عن ابن عبد البر في‪ :‬فتح الباري (‪(٤) )٥٠٩ /١١‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬أقوال أهل العلم في هذا اإلشكال‬

‫‪:‬للناس مع هذا الحديث موقفان‬

‫الموقف األول‪ :‬من فهم منه جواز االحتجاج بالقدر على فعل المعاصي‪ ،‬وهؤالء هم القدرية من المعتزلة (‪ )١‬ومن نحا نحوهم‪ ،‬وكذا‬
‫‪:‬الجبرية من الجهمية ومن وافقهم‪ ،‬وقد نتج عن هذا الفهم رأيان فاسدان‬
‫أحدهما‪ :‬رُّد ه وإنكاره وتكذيبه كما فعل أبو علي الجبائي وغيره من المعتزلة القدرية ومن وافقهم‪ ،‬قالوا‪ :‬لو صح هذا الحديث لبطلت‬
‫‪ .‬نبوات األنبياء‪ ،‬فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل األمر والنهي‪ ،‬وارتفع الذم والعقاب عمن عصى هللا تعالى (‪)٢‬‬

‫المعتزلة‪ :‬فرقة من الفرق الضالة‪ ،‬من رؤوسها ومؤسسيها واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد‪ ،‬تعتقد نفي صفات هللا تعالى األزلية )‪(١‬‬
‫وعدم إثباتها‪ ،‬وأن صاحب الكبيرة في الدنيا في منزلة بين المنزلتين وفي اآلخرة خالد مخلد في النار‪ ،‬وفي باب القدر تعتقد مذهب‬
‫‪.‬القدرية النفاة‪ ،‬أي أن هللا غير خالق ألفعال العباد وأن العباد هم الخالقون لها على جهة االستقالل‬

‫قيل في سبب تسميتهم بالمعتزلة‪ :‬إن واصل بن عطاء كان من منتابي مجلس الحسن البصري‪ ،‬فلما قال بالمنزلة بين المنزلتين علم بذلك‬
‫الحسن البصري فطرده عن مجلسه‪ ،‬فاعتزل عند سارية من سواري المسجد وانضم إليه قرينه في الضاللة عمرو بن عبيد‪ ،‬فقال الناس‬
‫يومئذ فيهما‪ :‬إنهما قد اعتزال قول األمة‪ ،‬وسمي أتباعهما من يومئذ‪ :‬معتزلة‪[ .‬انظر‪ :‬مقاالت اإلسالميين (‪ ، )٢٣٥ ،٢٩٨ /١‬والفرق‬
‫‪ .‬بين الفرق (‪ ، )١١٦ - ١١٢‬واإلرشاد إلى قواطع األدلة في أصول االعتقاد للجويني (‪ ، )٧٩‬والملل والنحل (‪] )٤٦ - ٤٣ /١‬‬

‫= انظر‪ :‬مجموع الفتاوى (‪ ، )٣٠٤ /٨‬ودرء التعارض (‪ ، )٤١٨ /٨‬ومنهاج السنة )‪(٢‬‬

‫والثاني‪ :‬قبوله واالحتجاج به على فعل المعاصي‪ ،‬فكلما عملوا معصية احتجوا بالقدر‪ ،‬فجعلوا هذا الحديث عمدة لهم في سقوط المالم‬
‫‪ .‬عن المخالفين ألمر هللا تعالى ورسوله ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬وإلى هذا ذهبت الجبرية ومن نحا نحوهم من الصوفية وغيرهم (‪)١‬‬

‫وأما الموقف الثاني‪ :‬فهو القطع بعدم جواز االحتجاج به على فعل المعاصي‪ ،‬وإلى هذا ذهب علماء أهل السنة والجماعة‪ ،‬ولكنهم‬
‫‪:‬اختلفوا في تفسير هذا الحديث ‪-‬بعد قبوله واإليمان به‪ -‬على عدة أقوال‪ ،‬منها‬

‫القول األول‪ :‬أن موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬الم آدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬على المصيبة التي حصلت له وذريته‪ ،‬وهي اإلخراج من الجنة والنزول‬
‫إلى األرض دار االبتالء والمحنة‪ ،‬وذلك بسبب فعله وخطيئته‪ ،‬ولذا قال‪( :‬أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم) ‪ ،‬وذكر‬
‫الذنب تنبيًها على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذرية‪ ،‬فاحتج عليه آدم بالقدر على المصيبة‪ ،‬والقدر يحتج به في المصائب دون‬
‫‪ .‬المعائب‪ ،‬أي‪ :‬أتلومني على مصيبة قدرت علَّي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟‬

‫وإلى هذا ذهب ابن تيمية‪ ،‬وابن القيم (‪ ، )٢‬وابن كثير (‪ ، )٣‬وابن أبي العز (‪ ، )٤‬وابن رجب‪ ،‬وابن عثيمين (‪ ، )٥‬وغيرهم‪ ،‬عليهم‬
‫‪.‬رحمة هللا‬

‫والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (‪ ، )٩٨‬وشفاء العليل (‪ ، )٤٦ /١‬والبداية والنهاية (‪ ، )٧٨ /١‬وشرح ‪= (٧٩ /٣) ،‬‬
‫‪ .‬العقيدة الطحاوية (‪ ، )١٣٦‬وفتح الباري (‪)٥١٠ /١١‬‬

‫انظر‪ :‬منهاج السنة (‪ ، )٥٨ /٣‬ومجموع الفتاوى (‪ ، )٣٠٥ /٨‬والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (‪ ، )٩٨‬وشفاء العليل )‪(١‬‬
‫‪ ، )٥٠ - ٤٩ /١( .‬والبداية والنهاية (‪)٧٨ /١‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬شفاء العليل (‪(٢) )٥٦ /١‬‬


‫‪ .‬انظر‪ :‬البداية والنهاية (‪(٣) )٧٩ - ٧٨ /١‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬شرح العقيدة الطحاوية (‪(٤) )١٣٦ - ١٣٥‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬تقريب التدمرية (‪(٥) )١٠٢ - ١٠١‬‬

‫قال ابن تيمية‪" :‬فآدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬إنما حج موسى ألن موسى المه على ما فعل ألجل ما حصل لهم من المصيبة‪ ،‬بسبب أكله من‬
‫الشجرة‪ ،‬لم يكن لومه له ألجل حق هللا في الذنب‪ ،‬فإن آدم كان قد تاب من الذنب كما قال تعالى‪َ{ :‬فَتَلَّقى آَد ُم ِم ْن َر ِّبِه َك ِلَم اٍت َفَتاَب َع َلْيِه}‬
‫[البقرة‪ ، ]٣٧ :‬وقال تعالى‪ُ{ :‬ثَّم اْج َتَباُه َر ُّبُه َفَتاَب َع َلْيِه َو َهَدى (‪[ } )١٢٢‬طه‪ ، ]١٢٢ :‬وموسى ‪-‬ومن هو دون موسى‪- -‬عليه السالم‪-‬‬
‫يعلم أنه بعد التوبة والمغفرة ال يبقى مالم على الذنب‪ ،‬وآدم أعلم باهلل من أن يحتج بالقدر على الذنب‪ ،‬وموسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬أعلم باهلل‬
‫تعالى من أن يقبل هذه الحجة‪ ،‬فإن هذه لو كانت حجة على الذنب لكانت حجة إلبليس عدو آدم‪ ،‬وحجة لفرعون عدو موسى‪ ،‬وحجة لكل‬
‫كافر وفاجر‪ ،‬وبطل أمر هللا ونهيه‪ ،‬بل إنما كان القدر حجة آلدم على موسى ألنه الم غيره ألجل المصيبة التي حصلت له بفعل ذلك‪،‬‬
‫‪ .‬وتلك المصيبة كانت مكتوبة عليه‪ ،‬وقد قال تعالى‪َ{ :‬م ا َأَص اَب ِم ْن ُمِص يَبٍة ِإاَّل ِبِإْذ ِن ِهَّللا َوَم ْن ُيْؤ ِم ْن ِباِهَّلل َيْهِد َقْلَبُه} [التغابن‪)١( " ]١١ :‬‬

‫وقال ابن رجب‪" :‬لما التقى آدم وموسى ‪-‬عليهم السالم‪ ،-‬عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه وذريته من الجنة‪ ،‬فاحتج آدم بالقدر‬
‫السابق‪ ،‬واالحتجاج بالقدر على المصائب حسن‪ ،‬كما قال ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪( :-‬إن أصابك شيء فال تقل‪ :‬لو أني فعلت كذا كان كذا‪،‬‬
‫‪ .‬ولكن قل‪ :‬قدر هللا وما شاء فعل) (‪)٣( " )٢‬‬

‫القول الثاني‪ :‬أن موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬الم آدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬على المعصية لكونها سبب المصيبة‪ ،‬ال لكونها معصية‪ ،‬فاحتج آدم بالقدر‬
‫على المعصية لكونه قد تاب‬

‫مجموع الفتاوى (‪ ، )١٠٨ /٨‬وانظر‪ ، )٣١٩ ،١٧٨ /٨( :‬ودرء التعارض (‪ ، )٤١٩ /٨‬واقتضاء الصراط المستقيم (‪(١) - ٨٥٧ /٢‬‬
‫‪ ، )٨٥٨ .‬والتدمرية (‪ ، )٢٣١ - ٢٣٠‬ومنهاج السنة (‪ ، )٨١ - ٨٠ ،٧٨ /٣‬والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (‪)٩٩ - ٩٨‬‬

‫‪ .‬أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (‪ )٤٥٥ /١٦‬ح (‪(٢) )٢٦٦٤‬‬

‫‪ .‬لطائف المعارف (‪(٣) )٦٢‬‬

‫‪.‬منها‪ ،‬واالحتجاج بالقدر على المعصية بعد وقوعها والتوبة منها وترك معاودتها ال محذور فيه‬

‫‪ .‬وهذا القول جواب آخر البن القيم على هذا الحديث‪ ،‬وكذا الشيخ ابن عثيمين (‪ ، )١‬وبه قال ابن الوزير وعزاه ألهل السنة (‪)٢‬‬

‫قال ابن القيم‪" :‬وقد يتوجه جواب آخر‪ ،‬وهو أن االحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع‪ ،‬فينفع إذا احُتج به بعد‬
‫وقوعه والتوبة منه وترك معاودته‪ ،‬كما فعل آدم‪ ،‬فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما‬
‫ينتفع به الذاكر والسامع‪ ،‬ألنه ال يدفع بالقدر أمًرا وال نهًيا‪ ،‬وال يبطل به شريعة‪ ،‬بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة‬
‫من الحول والقوة‪ ،‬يوضحه أن آدم قال لموسى‪( :‬أتلومني على أن عملت عماًل كان مكتوًبا علي قبل أن أخلق؟ ) فإذا أذنب الرجل ذنًبا ثم‬
‫تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن‪ ،‬فأَّنبه مؤنب عليه والمه‪ ،‬حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك‪ ،‬ويقول‪ :‬هذا أمر كان قد قدر‬
‫"‪.‬علي قبل أن أخلق‪ ،‬فإنه لم يدفع بالقدر حًقا‪ ،‬وال ذكره حجة على باطل‪ ،‬وال محذور في االحتجاج به‬

‫وأما الموضع الذي يضر االحتجاج به ففي الحال والمستقبل‪ ،‬بأن يرتكب فعاًل محرًم ا أو يترك واجًبا فيلومه عليه الئم فيحتج بالقدر‬
‫على إقامته عليه وإصراره‪ ،‬فُيبطل باالحتجاج به حًقا ويرتكب باطاًل ‪ ،‬كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير هللا فقالوا‪:‬‬
‫{َلْو َشاَء ُهَّللا َم ا َأْش َر ْك َنا َو اَل آَباُؤَنا} [األنعام‪َ{ ، ]١٤٨ :‬لْو َشاَء الَّرْح َم ُن َم ا َعَبْد َناُهْم } [الزخرف‪ ، ]٢٠ :‬فاحتجوا به مصِّو بين لما هم‬
‫عليه‪ ،‬وأنهم لم يندموا على فعله‪ ،‬ولم يعزموا على تركه‪ ،‬ولم يقروا بفساده‪ ،‬فهذا ضد احتجاج من تبَّين له خطأ نفسه وندم وعزم كل‬
‫‪.‬العزم على أن ال يعود‪ ،‬فإذا المه الئم بعد ذلك قال‪ :‬كان ما كان بقدر هللا‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬تقريب التدمرية (‪ ، )١٠٣ - ١٠٢‬ومجموع فتاوى ابن عثيمين (‪(١) )١٠٧ /٢‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬الروض الباسم (‪(٢) )٤٦٥ /٢‬‬

‫"‪.‬ونكتة المسألة‪ :‬أن اللوم إذا ارتفع صح االحتجاج بالقدر‪ ،‬وإذا كان اللوم واقًعا فاالحتجاج بالقدر باطل "(‪)١‬‬

‫القول الثالث‪ :‬أن ذلك مخصوص بآدم ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬وكانت له الحجة ألن موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬المه على المعصية والخطيئة بعد أن‬
‫تاب منها‪ ،‬فحسن من آدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬أن يحتج بالقدر على فعل المعصية‪ ،‬ألنه قد تيب عليه منها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬فَتَلَّقى آَد ُم ِم ْن َر ِّبِه‬
‫‪َ .‬ك ِلَم اٍت َفَتاَب َع َلْيِه} [البقرة‪ ، ]٣٧ :‬وإلى هذا القول ذهب ابن عبد البر وغيره (‪)٢‬‬

‫قال ‪-‬رحمه هللا‪" :-‬وأما قوله‪( :‬أفتلومني على أمر قد قدر علي؟ ) ‪ ،‬فهذا ‪-‬عندي‪ -‬مخصوص به آدم‪ ،‬ألن ذلك إنما كان منه ومن موسى‬
‫‪-‬عليه السالم‪ -‬بعد أن تيب على آدم‪ ،‬وبعد أن تلقى من ربه كلمات تاب بها عليه‪ ،‬فحسن منه أن يقول ذلك لموسى‪ ،‬ألنه قد كان تيب‬
‫عليه من ذلك الذنب‪ ،‬وهذا غير جائز أن يقوله اليوم أحد إذا أتى ما نهاه هللا عنه‪ ،‬ويحتج بمثل هذا‪ ،‬فيقول‪ :‬أتلومني على أن قتلت أو‬
‫‪ .‬زنيت أو سرقت‪ ،‬وذلك قد سبق في علم هللا وقدره علي قبل أن أخلق؟ هذا ما ال يسوغ ألحد أن يقوله" (‪)٣‬‬

‫والفرق بين هذا القول والذي قبله‪ ،‬أن هذا القول يجعل لوم موسى آلدم ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬على المعصية لذات المعصية‪ ،‬بينما القول‬
‫‪ .‬السابق يجعل لوم موسى آلدم ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬على المعصية من أجل أنها سبب المصيبة‪ ،‬ال من أجل كونها معصية (‪)٤‬‬

‫القول الرابع‪ :‬أن الحجة توجهت آلدم ألن موسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬المه في غير‬

‫‪ .‬شفاء العليل (‪ ، )٥٧ - ٥٦ /١‬وانظر‪ :‬تقريب التدمرية (‪(١) )١٠٣ - ١٠٢‬‬

‫انظر‪ :‬المفهم للقرطبي (‪ ، )٦٦٨ /٦‬وشرح النووي على مسلم (‪ ، )٤٤٢ - ٤٤١ /١٦‬ومجموع الفتاوى (‪ ، )٣٠٥ /٨‬ودرء )‪(٢‬‬
‫‪ .‬التعارض (‪ ، )٤١٨ /٨‬وشفاء العليل (‪ ، )٤٩ /١‬والبداية والنهاية (‪ ، )٧٨ /١‬وفتح الباري (‪)٥١٠ /١١‬‬

‫‪ .‬التمهيد (‪(٣) )١٥ /١٨‬‬


‫‪ .‬انظر‪ :‬شفاء العليل (‪(٤) )٤٩ /١‬‬

‫‪ .‬دار التكليف ‪-‬بعد أن مات آدم‪ -‬ولو المه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى‪ ،‬ألن األحكام حينئٍذ جارية عليه (‪)١‬‬

‫‪ .‬القول الخامس‪ :‬أن آدم حج موسى ألن الذنب كان في شريعة‪ ،‬واللوم في شريعة أخرى (‪)٢‬‬

‫‪ .‬القول السادس‪ :‬أن آدم أب وموسى ابن‪ ،‬وليس لالبن أن يلوم أباه‪ ،‬ولذا حجه آدم كما يحج الرجل ابنه (‪)٣‬‬

‫***‬

‫انظر‪ :‬مجموع الفتاوى (‪ ، )٣٠٥ /٨‬ودرء التعارض (‪ ، )٤١٨ /٨‬ومنهاج السنة (‪ ، )٧٩ /٣‬وشفاء العليل (‪ ، )٤٩ /١‬والبداية )‪(١‬‬
‫‪ .‬والنهاية (‪ ، )٧٨ /١‬والفتح (‪)٥١١ /١١‬‬

‫انظر‪ :‬مجموع الفتاوى (‪ ، )٣٠٥ /٨‬ودرء التعارض (‪ ، )٤١٨ /٨‬ومنهاج السنة (‪ ، )٨٠ /٣‬وشفاء العليل (‪ ، )٤٩ /١‬والبداية )‪(٢‬‬
‫‪ .‬والنهاية (‪ ، )٧٨ /١‬والفتح (‪)٥١١ /١١‬‬

‫انظر‪ :‬المفهم (‪ ، )٦٦٧ /٦‬ومجموع الفتاوى (‪ ، )٣٠٥ /٨‬ودرء التعارض (‪ ، )٤١٨ /٨‬ومنهاج السنة (‪ ، )٨٠ /٣‬وشفاء العليل ( )‪(٣‬‬
‫‪ ، )٤٨ /١ .‬والبداية والنهاية (‪ ، )٧٨ /١‬وفتح الباري (‪)٥١١ /١١‬‬

‫المطلب الثالث‪ :‬الترجيح‬

‫أما الموقف األول فال ريب في بطالنه‪ ،‬ألنه مبني على فهم فاسد‪ ،‬وهو كون الحديث يدل على جواز االحتجاج بالقدر على فعل‬
‫‪.‬المعاصي‪ ،‬مع أن اإلجماع منعقد على عدم جواز ذلك‬

‫قال ابن تيمية‪" :‬ليس ألحد أن يحتج بالقدر على فعل الذنب باتفاق المسلمين‪ ،‬وسائر أهل الملل‪ ،‬وسائر العقالء‪ ،‬فإن هذا لو كان مقبواًل‬
‫ألمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له‪ ،‬من قتل النفوس وأخذ األموال وسائر أنواع الفساد في األرض‪ ،‬ويحتج بالقدر ‪ ...‬فاالحتجاج بالقدر‬
‫‪ .‬معلوم الفساد في بداية العقول" (‪)١‬‬

‫‪:‬وبناًء على هذا‪ ،‬فإن كَّل ما نتج عن هذا الفهم من آراء‪ ،‬فهي باطلة مردودة‪ ،‬وقد تقدم أن هذا الفهم قد نتج عنه رأيان متناقضان‬

‫أحدهما‪ :‬ما ذهبت إليه القدرية من رد الحديث وتكذيبه‪ ،‬وقد ذهبوا هذا المذهب ألنه يخالف أصلهم الذي أصلوه‪ ،‬وهو نفي القدر السابق‪،‬‬
‫"وكل من أصل أصاًل لم يؤصله هللا ورسوله قاده قسًرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها‪ ،‬فلذلك لم يؤصل حزب هللا ورسوله‬
‫‪ .‬أصاًل غير ما جاء به الرسول‪ ،‬فهو أصلهم الذي عليه يعولون‪ ،‬وجنتهم التي إليها يرجعون" (‪)٢‬‬
‫"قال ابن عبد البر‪" :‬هذا الحديث من أوضح ما روي عن النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬في‬

‫‪ .‬مجموع الفتاوى (‪(١) )١٧٩ /٨‬‬

‫‪ .‬مقتبس من كالم ابن القيم في شفاء العليل (‪(٢) )٤٨ /١‬‬

‫"‪.‬إثبات القدر‪ ،‬ودفع قول القدرية‪ ،‬وباهلل التوفيق والعصمة "(‪)١‬‬

‫‪.‬وتكذيب القدرية لهذا الحديث مردود‪ ،‬ألنه ثابت في الصحيحين وغيرهما من عدة طرق‬

‫قال ابن منده بعدما ساق عدًدا من طرق هذا الحديث‪" :‬هذه أحاديث صحاح ثابتة ال مدفع لها‪ ،‬ولهذا الحديث طرق عن أبي هريرة" (‪)٢‬‬
‫‪.‬‬

‫وقال ابن عبد البر‪" :‬هذا حديث صحيح ثابت من جهة اإلسناد‪ ،‬ال يختلفون في ثبوته‪ ،‬رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين‪ ،‬وروي‬
‫‪ .‬من وجوه عن النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ ،-‬من رواية الثقات األئمة األثبات" (‪)٣‬‬

‫وقال ابن القيم‪" :‬هذا حديث صحيح متفق على صحته‪ ،‬لم تزل األمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرًنا بعد قرن‪ ،‬وتقابله بالتصديق‬
‫‪ .‬والتسليم‪ ،‬ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬أنه قاله‪ ،‬وحكموا بصحته" (‪)٤‬‬

‫‪ .‬وقال ابن حجر عن هذا الحديث‪" :‬وقع لنا من طريق عشرة عن أبي هريرة" (‪)٥‬‬

‫وأما الرأي الثاني‪ :‬وهو ما ذهبت إليه الجبرية من تسويغ االحتجاج بالقدر على فعل المعاصي‪ ،‬واالعتماد في ذلك على هذا الحديث‪،‬‬
‫‪:‬فهو باطل من عدة وجوه‬

‫‪ - ١.‬أن اإلجماع منعقد على بطالن االحتجاج بالقدر على فعل المعاصي‬

‫"قال ابن تيمية‪" :‬االحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتفاق كل ذي‬

‫‪ .‬التمهيد (‪(١) )١٧ /١٨‬‬

‫‪ .‬الرد على الجهمية (‪(٢) )٧٢ - ٧١‬‬


‫‪ .‬التمهيد (‪(٣) )١٢ /١٨‬‬

‫‪ .‬شفاء العليل (‪(٤) )٤٦ /١‬‬

‫‪ .‬فتح الباري (‪ ، )٥٠٦ /١١‬وانظر‪ :‬البداية والنهاية البن كثير (‪(٥) )٧٧ /١‬‬

‫"‪.‬عقل ودين من جميع العالمين "(‪)١‬‬

‫‪ - ٢‬أن األمة قد أجمعت على جواز لوم العاصي ما لم يتب‪ .‬قال ابن عبد البر‪" :‬وقد اجتمعت األمة‪ :‬أن من أتى ما يستحق الذم عليه فال‬
‫‪ .‬بأس بذمه‪ ،‬وال حرج في لومه‪ ،‬ومن أتى ما يحمد له فال بأس بمدحه عليه" (‪)٢‬‬

‫‪ - ٣‬أن هللا تعالى قال‪َ{ :‬سَيُقوُل اَّلِذ يَن َأْش َر ُك وا َلْو َشاَء ُهَّللا َم ا َأْش َر ْك َنا َو اَل آَباُؤَنا َو اَل َح َّر ْم َنا ِم ْن َش ْي ٍء } ‪ ،‬فأبطل هللا حجتهم هذه بقوله‪:‬‬
‫{َك َّذ َب اَّلِذ يَن ِم ْن َقْبِلِهْم َح َّتى َذ اُقوا َبْأَس َنا} [األنعام‪ ، ]١٤٨ :‬وهكذا في آيات ُأخر لم يحِك هللا تعالى االحتجاج في القدر إال عن المشركين‬
‫ُأَل‬
‫أعداء الرسل‪ ،‬وشيخهم في ذلك وإمامهم عدوه األحقر إبليس‪ ،‬حيث احتج عليه بقضائه فقال‪َ{ :‬ر ِّب ِبَم ا َأْغ َو ْيَتِني َز ِّيَنَّن َلُهْم ِفي اَأْلْر ِض‬
‫‪َ .‬و ُأَلْغ ِوَيَّنُهْم َأْج َم ِع يَن } [الحجر‪)٣( ]٣٩ :‬‬

‫‪ - ٤‬أن هللا تعالى قال‪ُ{ :‬رُس اًل ُمَبِّش ِريَن َوُم ْنِذ ِريَن ِلَئاَّل َيُك وَن ِللَّناِس َع َلى ِهَّللا ُحَّج ٌة َبْع َد الُّر ُس ِل } [النساء‪ ، ]١٦٥ :‬ولو كان االحتجاج‬
‫‪ .‬بالقدر على فعل المعاصي سائًغ ا لما كان هناك حاجة إلى إرسال الرسل‪ ،‬ألنهم إنما أرسلوا ألجل إقامة الحجة على الناس (‪)٤‬‬

‫‪ - ٥‬أن رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬أمر الصحابة بالعمل‪ ،‬ونهاهم عن تركه اتكااًل على ما سبق به الكتاب‪ ،‬ففي الصحيحين من‬
‫حديث علي بن أبي طالب أن النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬ما منكم من أحد إال وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة) ‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫‪:‬يا رسول هللا‪ ،‬أفال نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال‬

‫‪ .‬منهاج السنة (‪(١) )٥٥ /٣‬‬

‫‪ .‬التمهيد (‪(٢) )١٥ /١٨‬‬

‫انظر‪ :‬منهاج السنة (‪ ، )٦٠ - ٥٦ ،٥٩ /٣‬والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (‪ ، )٩٦‬وشفاء العليل (‪(٣) ، )٥١ - ٥٠ /١‬‬
‫‪ .‬وتقريب التدمرية (‪)٩٩‬‬

‫‪ .‬انطر‪ :‬تقريب التدمرية (‪ ، )١٠٠‬ولمعة االعتقاد بشرح الشيخ محمد العثيمين (‪(٤) )٩٤‬‬

‫اعملوا فكل ميسر لما خلق له‪ ،‬أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة‪ ،‬وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل (‬
‫الشقاء‪ ،‬ثم قرأ‪َ{ :‬فَأَّم ا َم ْن َأْع َطى َو اَّتَقى (‪َ )٥‬و َص َّد َق ِباْلُحْسَنى (‪َ )٦‬فَس ُنَيِّسُر ُه ِلْلُيْس َر ى (‪َ )٧‬و َأَّم ا َم ْن َبِخ َل َو اْسَتْغ َنى (‪َ )٨‬و َك َّذ َب ِباْلُحْسَنى (‬
‫‪َ )٩ ) (١) .‬فَس ُنَيِّسُر ُه ِلْلُعْس َر ى (‪[ } )١٠‬الليل‪]١٠ - ٥ :‬‬
‫‪" - ٦‬أن هذا المسلك لو صح لبطلت الديانات جملة‪ ،‬وكان القدر حجة لكل مشرك وكافر وظالم‪ ،‬ولم يبَق للحدود معنى‪ ،‬وال يالم جاٍن‬
‫‪ .‬على جنايته وال ظالم على ظلمه‪ ،‬وال ُينكر منكر أبًدا" (‪)٢‬‬

‫‪ - ٧‬أن القدر سر مكتوم‪ ،‬ال يعلمه أحد من الخلق إال بعد وقوعه‪ ،‬فكيف يصح للعاصي أن يحتج به على معصيته‪ ،‬وهو قد فعلها‬
‫مختاًرا‪ ،‬ال يشعر أن أحًدا أكرهه عليها‪ ،‬وال يعلم أنها مقدرة عليه؟ ! ولماذا لم يقدر أن هللا تعالى لم يكتبها عليه فينتهي عنها ويجتنبها؟ !‬
‫‪)٣( .‬‬

‫‪ - ٨‬أنه لو ساغ االحتجاج بالقدر على فعل المعاصي لساغ أن يحتج به إبليس ومن اتبعه من الجن واإلنس‪ ،‬ويحتج به قوم نوح وعاد‬
‫‪ .‬وثمود‪ ،‬وسائر أهل الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ولم يعاقب أحد‪ ،‬وهذا مما ُيعلم فساده باالضطرار شرًعا وعقاًل (‪)٤‬‬

‫‪ - ٩‬أن االحتجاج بالقدر مخاصمة هلل تعالى‪ ،‬واحتجاج من العبد على الرب‪ ،‬وحمل لذنبه على األقدار‪ ،‬وهذا جهل باهلل تعالى وحكمته‬
‫‪ .‬في شرعه (‪)٥‬‬

‫‪ - ١٠‬أن نفس المحتج بالقدر لو اعتدى عليه معتٍد ‪ ،‬أو جنى عليه‬

‫‪ .‬متفق عليه‪ :‬البخاري (‪ )١٨٩١ /٤‬ح (‪ ، )٤٦٦٦‬ومسلم (‪ )٤٣٤ /١٦‬ح (‪(١) )٢٦٤٧‬‬

‫‪ .‬شفاء العليل (‪(٢) )٥٠ /١‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬تقريب التدمرية (‪(٣) )١٠٠‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬اقتضاء الصراط المستقيم (‪ ، )٨٥٨ /٢‬والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (‪(٤) )٩٧‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬مدارج السالكين (‪(٥) )٢٠٤ /١‬‬

‫جاٍن ‪ ،‬ثم احتج عليه بالقدر‪ ،‬فإنه ال يقبل منه هذه الحجة‪ ،‬وهذا تناقض يدل على فساد هذا القول‪ ،‬وأن المحتج بالقدر متبع لهواه‪ ،‬ألن‬
‫‪ .‬القدر إن كان حجة للعاصي فهو أيًض ا حجة للجاني‪ ،‬وإال فليس حجة لهذا وال لهذا‪ ،‬وهذا هو الصواب (‪)١‬‬

‫قال ابن تيمية‪" :‬شر الخلق من يحتج بالقدر لنفسه وال يراه حجة لغيره‪ ،‬يستند إليه في الذنوب والمعائب‪ ،‬وال يطمئن إليه في المصائب‪،‬‬
‫كما قال بعض العلماء‪ :‬أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري‪ ،‬أي مذهب وافق هواك تمذهبت به‪ ،‬وبإزاء هؤالء خير الخلق‬
‫الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعائب‪ ،‬كما قال تعالى‪َ{ :‬فاْص ِبْر ِإَّن َو ْع َد ِهَّللا َح ٌّق َو اْسَتْغ ِفْر ِلَذْنِبَك } [غافر‪ ، ]٥٥ :‬وقال‬
‫تعالى‪َ{ :‬م ا َأَص اَب ِم ْن ُمِص يَبٍة ِفي اَأْلْر ِض َو اَل ِفي َأْنُفِس ُك ْم ِإاَّل ِفي ِكَتاٍب ِم ْن َقْبِل َأْن َنْبَر َأَها ِإَّن َذ ِلَك َع َلى ِهَّللا َيِس يٌر (‪ِ )٢٢‬لَكْياَل َتْأَسْو ا َع َلى‬
‫َم ا َفاَتُك ْم َو اَل َتْفَر ُحوا ِبَم ا آَتاُك ْم } [الحديد‪ ، ]٢٣ ،٢٢ :‬وقال تعالى‪َ{ :‬م ا َأَص اَب ِم ْن ُمِص يَبٍة ِإاَّل ِبِإْذ ِن ِهَّللا َوَم ْن ُيْؤ ِم ْن ِباِهَّلل َيْهِد َقْلَبُه}‬
‫"‪[ ...‬التغابن‪ ، ]١١ :‬قال بعض السلف (‪ : )٢‬هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند هللا فيرضى ويسلم‬
‫وقد ذكر هللا تعالى عن آدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬أنه لما فعل ما فعل قال‪َ{ :‬ر َّبَنا َظَلْم َنا َأْنُفَس َنا َو ِإْن َلْم َتْغ ِفْر َلَنا َو َتْر َح ْم َنا َلَنُك وَنَّن ِم َن اْلَخ اِس ِريَن }‬
‫[األعراف‪ ، ]٢٣ :‬وعن إبليس أنه قال‪ِ{ :‬بَم ا َأْغ َو ْيَتِني ُأَلَز ِّيَنَّن َلُهْم ِفي اَأْلْر ِض َو ُأَلْغ ِوَيَّنُهْم َأْج َم ِع يَن } [الحجر‪ ، ]٣٩ :‬فمن تاب أشبه أباه‬
‫"‪.‬آدم ومن أصَّر واحتج بالقدر أشبه إبليس "(‪)٣‬‬

‫انظر‪ :‬اقتضاء الصراط المستقيم (‪ ، )٨٥٨ /٢‬ومنهاج السنة (‪ ، )٥٧ - ٥٥ /٣‬ومجموع الفتاوى (‪ ، )١٧٩ /٨‬والفرقان بين أولياء )‪(١‬‬
‫‪ .‬الرحمن وأولياء الشيطان (‪ ، )٩٧‬وشفاء العليل (‪)٥٥ /١‬‬

‫‪ .‬هو علقمة بن قيس‪[ .‬انظر‪ :‬جامع البيان (‪ ، )١١٦ /١٢‬ومجموع الفتاوى (‪ ، )١٧٨ /٨‬وتفسير ابن كثير (‪(٢) ] )٥٨٧ /٤‬‬

‫‪ .‬مجموع الفتاوى (‪(٣) )١٠٧ /٨‬‬

‫وقال ابن القيم عن هذا المسلك للجبرية‪" :‬هذا المسلك أبطل مسلك سلك في هذا الحديث‪ ،‬وهو شر من مسلك القدرية في رده‪ ،‬وهم إنما‬
‫ردوه إبطااًل لهذا القول ورًدا على قائليه‪ ،‬وأصابوا في ردهم عليهم وإبطال قولهم‪ ،‬وأخطأوا في رد حديث رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه‬
‫‪ .‬وسلم‪)١( "-‬‬

‫إذا تبَّين هذا‪ ،‬وهو أن الحديث ال يجوز رده أو تكذيبه‪ ،‬كما ال يجوز االحتجاج به على فعل المعاصي‪ ،‬فإن الذي يتعين المصير إليه هو‬
‫أن القدر ُيؤَم ن به وال يحتج به‪ ،‬فالعبد مأمور أن يرجع إليه عند المصائب‪ ،‬ويستغفر هللا عند الذنوب والمعائب‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫{َفاْص ِبْر ِإَّن َو ْع َد ِهَّللا َح ٌّق َو اْسَتْغ ِفْر ِلَذْنِبَك } [غافر‪" ، ]٥٥ :‬وقد أرشد النبي ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪ -‬إلى االحتجاج بالقدر في الموضع‬
‫الذي ينفع العبد االحتجاج به ‪-‬وذلك عند المصيبة‪ -‬فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا ‪-‬صلي هللا عليه وسلم‪:-‬‬
‫(المؤمن القوي خير وأحب إلى هللا من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير‪ ،‬احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن باهلل وال تعجز‪ ،‬وإن أصابك‬
‫‪ .‬شيء فال تقل‪ :‬لو أني فعلت كذا وكذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر هللا وما شاء فعل‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان) (‪)٣( " )٢‬‬

‫قال ابن قدامة‪" :‬وال نجعل قضاء هللا وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬بل يجب أن نؤمن‪ ،‬ونعلم أن هلل علينا الحجة‬
‫‪ .‬بإنزال الكتب وبعثة الرسل‪ ،‬قال هللا تعالى‪ِ{ :‬لَئاَّل َيُك وَن ِللَّناِس َع َلى ِهَّللا ُحَّج ٌة َبْع َد الُّر ُس ِل } [النساء‪)٤( " ]١٦٥ :‬‬

‫‪:‬وأما بخصوص هذا الحديث‪ ،‬فإنه محتمل ألحد أمرين ال ثالث لهما‬

‫األول‪ :‬أن لوم موسى آلدم ‪-‬عليهم السالم‪ِ -‬كان ألجل المصيبة التي حلت به‬

‫‪ .‬شفاء العليل (‪(١) )٤٩ /١‬‬

‫‪ .‬صحيح مسلم (‪ )٤٥٥ /١٦‬ح (‪(٢) )٢٦٦٤‬‬

‫‪.‬شفاء العليل (‪ )٥٨ /١‬بتصرف يسير )‪(٣‬‬


‫‪ .‬لمعة االعتقاد بشرح العثيمين (‪(٤) )٩٣‬‬

‫وبذريته‪ ،‬وهي اإلخراج من الجنة واإلهباط إلى األرض‪ ،‬وروايات الحديث في الصحيحين ‪-‬كما تقدم‪ -‬تشهد لهذا المعنى وتدل عليه‪،‬‬
‫ففيها‪( :‬أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة) ‪ ،‬وفيها‪( :‬أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة) ‪ ،‬وفيها‪( :‬أنت آدم الذي أغويت‬
‫الناس وأخرجتهم من الجنة) ‪ ،‬وفيها‪( :‬أهبطت الناس بخطيئتك إلى األرض) ‪ ،‬فهذه الروايات واأللفاظ كلها تنطق بأن موسى عليه‬
‫‪.‬السالم إنما الم آدم عليه السالم على المصيبة التي وقعت بعد ذنبه‪ ،‬ال على ذنبه‬

‫‪.‬وذكُر موسى عليه السالم للمعصية‪ ،‬كما في بعض الطرق (‪ )١‬للتنبيه على سبب المصيبة‬

‫فاحتج آدم عليه السالم بالقدر على المصيبة‪ ،‬كما هو ظاهر أكثر الروايات‪ ،‬فإنه قال‪( :‬أتلومني على أمر قدره هللا علي قبل أن‬
‫‪.‬يخلقني) ؟ وهذا هو الذي ذهب إليه ابن تيمية وغيره‪ ،‬كما في القول األول‬

‫قال ابن أبي العز‪" :‬فإن قيل‪ :‬فما تقولون في احتجاج آدم على موسى عليه السالم بالقدر؟ ‪ ...‬قيل‪ :‬نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة‪،‬‬
‫لصحته عن رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،-‬وال نتلقاه بالرد والتكذيب لراويه‪ ،‬كما فعلت القدرية‪ ،‬وال بالتأويالت الباردة‪ ،‬بل‬
‫الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب‪ ،‬وهو كان أعلم بربه وذنبه‪ ،‬بل آحاد بنيه من المؤمنين ال يحتج بالقدر‪ ،‬فإنه باطل‪،‬‬
‫وموسى عليه السالم كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم عليه السالم على ذنب قد تاب منه‪ ،‬وتاب هللا عليه‪ ،‬واجتباه وهداه‪ ،‬وإنما وقع‬
‫اللوم على المصيبة التي أخرجت أوالده من الجنة‪ ،‬فاحتج آدم بالقدر على المصيبة‪ ،‬ال على الخطيئة‪ ،‬فإن القدر يحتج به عند المصائب‪،‬‬
‫‪ .‬ال عند المعائب" (‪)٢‬‬

‫انظر‪ :‬المسند (‪ )٤٧ /١٥‬ح (‪ ، )٩٠٩٥‬و (‪ )٥٤ /١٦‬ح (‪ ، )٩٩٨٩‬والقدر للفريابي (‪ )٩٣‬ح (‪ ، )١١٢‬والشريعة لآلجري (‪(١) /٢‬‬
‫‪ ، )٧٧٦ .‬والرد على الجهمية البن منده (‪)٧٠‬‬

‫‪ .‬شرح العقيدة الطحاوية (‪(٢) )١٣٦ - ١٣٥‬‬

‫والثاني‪ :‬أن لوم موسى آلدم عليه السالم‪ ،‬كان على المعصية لكونها سبب المصيبة‪ ،‬ال لكونها معصية ‪-‬على ما جاء في القول الثاني‪-‬‬
‫فإنه يمتنع غاية االمتناع أن يلومه موسى عليه السالم ألجل حق هللا تعالى في المعصية‪ ،‬ألن آدم عليه السالم قد تاب منها‪ ،‬والتائب من‬
‫‪.‬الذنب كمن ال ذنب له‪ ،‬فال يجوز لومه‬

‫‪ .‬قال ابن تيمية‪" :‬ال يجوز لوم التائب باتفاق الناس" (‪)١‬‬

‫فاحتج آدم بالقدر على المعصية ألنه قد تاب منها‪ ،‬وهذا هو ظاهر رواية مسلم‪ ،‬فإنه قال لموسى‪( :‬فهل وجدت فيها ‪-‬أي في التوراة‪:-‬‬
‫‪َ{ .‬و َعَص ى آَد ُم َر َّبُه َفَغ َو ى} ؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬أفتلومني على أن عملت عماًل كتبه هللا علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة)‬

‫وعلى هذا يكون االحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها واإلنابة ال محذور فيه‪ ،‬وقد أشار إلى هذا ابن القيم رحمه هللا تعالى‪،‬‬
‫‪ .‬مستشهًدا بهذه الرواية‪ ،‬كما تقدم (‪)٢‬‬
‫قال الشيخ ابن عثيمين‪" :‬االحتجاج بالقدر على المصائب جائز‪ ،‬وكذلك االحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة جائز‪ ،‬وأما االحتجاج‬
‫‪ .‬بالقدر على المعصية تبريًر ا لموقف اإلنسان واستمراًرا فيها فغير جائز" (‪)٣‬‬

‫‪ .‬والحاصل أن آدم عليه السالم ال سبيل إلى لومه شرًعا ألجل التوبة‪ ،‬وال قدًرا ألجل القضاء والقدر (‪)٤‬‬

‫مناقشة األقوال المرجوحة‬

‫وأما األقوال األخرى في توجيه الحديث فإنها وإن كان مقصود أصحابها صحيًح ا‪ ،‬وهو أن الحديث ال يؤخذ منه جواز االحتجاج بالقدر‬

‫‪ .‬مجموع الفتاوى (‪(١) )١٧٩ /٨‬‬

‫‪.‬انظر‪ :‬ص (‪ )٣٤٣ - ٣٤٢‬من هذا البحث )‪(٢‬‬

‫‪ .‬مجموع فتاوى ابن عثيمين (‪(٣) )١٠٧ /٢‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬مجموع الفتاوى (‪(٤) )٣٢١ ،١٠٩ /٨‬‬

‫على المعاصي‪ ،‬إال أنهم فهموا من الحديث أن اللوم من موسى والحتجاج بالقدر من آدم كالهما متوجه إلى الذنب‪ ،‬ولذا أَّولوا الحديث‬
‫‪:‬تأويالت ضعيفة ال يدل عليها معناه‪ ،‬وإليك بيان ذلك‬

‫أما القول الثالث (‪ : ) ١‬وهو أن الحجة توجهت آلدم ألن موسى المه على المعصية بعد أن تاب منها‪ ،‬والتائب من الذنب ال يجوز لومه‪،‬‬
‫‪ .‬فقد رده ابن تيمية وغيره‪ ،‬ألن موسى عليه السالم أجل قدًرا من أن يلوم أحًدا على ذنب قد تاب منه‪ ،‬وغفر هللا له (‪)٢‬‬

‫‪:‬وذكر ابن القيم أن هذا القول وإن كان أقرب إال أنه ال يصح لثالثة أوجه‬

‫"‪.‬أحدها‪ :‬أن آدم لم يذكر ذلك الوجه‪ ،‬وال جعله حجة لموسى‪ ،‬ولم يقل‪ :‬أتلومني على ذنب قد تبت منه"‬

‫الثاني‪ :‬أن موسى أعرف باهلل سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله‪ ،‬واجتباه بعده وهداه‪،‬‬
‫‪.‬فإن هذا ال يجوز آلحاد المؤمنين أن يفعله‪ ،‬فضاًل عن كليم الرحمن‬

‫"‪.‬الثالث‪ :‬أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وجه الحجة‪ ،‬واعتبار ما ألغاه‪ ،‬فال يلتفت إليه "(‪)٣‬‬
‫‪:‬وأما القول الرابع‪ :‬وهو أن الحجة كانت آلدم ألن موسى المه في غير دار التكليف‪ ،‬فمردود من وجهين‬

‫أحدهما‪ :‬أن آدم لم يقل له‪ :‬لمتني في غير دار التكليف‪ ،‬وإنما قال‪( :‬أتلومني على أمر قدر علَّي قبل أن أخلق) ‪ ،‬فلم يتعرض للدار وإنما"‬
‫"‪.‬احتج في القدر السابق‬

‫‪.‬تقدم أن القول األول والثاني هما اللذان يتعَّين حمل الحديث عليهما )‪(١‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬درء التعارض (‪ ، )٤١٩ /٨‬ومجموع الفتاوى (‪(٢) )٤٥٤ ،٣٢١ ،٣٠٥ ،١٧٨ ،١٠٨ /٨‬‬

‫‪ .‬شفاء العليل (‪(٣) )٤٩ /١‬‬

‫"‪ .‬الثاني‪ :‬أن هللا سبحانه يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف‪ ،‬فيلومهم بعد الموت‪ ،‬ويلومهم يوم القيامة "(‪)١‬‬

‫وأما القول الخامس‪ :‬وهو أن آدم حج موسى عليه السالم‪ ،‬ألن الذنب واللوم كانا في شريعتين مختلفتين‪ ،‬فدعوى ال دليل عليها‪ ،‬ومن أين‬
‫‪ .‬يعلم أنه كان في شريعة آدم أن المخالف يحتج بسابق القدر‪ ،‬وفي شريعة موسى أنه ال يحتج‪ ،‬أو أنه يتوجه له اللوم على المخالف (‪)٢‬‬

‫ثم إن اختالف الشريعتين ال تأثير له في هذه الحجة بوجه‪ ،‬فهذه األمة تلوم األمم المخالفة لرسلها المتقدمة عليها‪ ،‬وإن كان لم تجمعهم‬
‫‪ .‬شريعة واحدة‪ ،‬ويقبل هللا شهادتهم عليهم وإن كانوا من غير أهل شريعتهم (‪)٣‬‬

‫وأما القول السادس‪ :‬وهو أن آدم حج موسى لكونه أباه‪ ،‬فبعيد عن معنى الحديث‪ ،‬وال محصل فيه البتة‪ ،‬ألن حجة هللا يجب المصير إليها‬
‫‪ .‬مع األب كانت أو االبن أو العبد أو السيد‪ ،‬ولو حج الرجل أباه بحق وجب المصير إلى الحجة (‪)٤‬‬

‫***‬

‫‪ .‬شفاء العليل (‪(١) )٤٩ /١‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬فتح الباري (‪(٢) )٥١١ /١١‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬شفاء العليل (‪ ، )٤٩ /١‬ودرء التعارض (‪ ، )٤١٨ /٨‬ومجموع الفتاوى (‪(٣) )٣٠٥ /٨‬‬

‫‪ .‬انظر‪ :‬شفاء العليل (‪ ، )٤٩ /١‬وفتح الباري (‪ ، )٥١١ /١١‬ودرء التعارض (‪ ، )٤١٨ /٨‬ومجموع الفتاوى (‪(٤) )٣٠٥ /٨‬‬

You might also like