You are on page 1of 95

‫مقرر طالبات االنتساب‪ /‬الفصل الدراسي األول ‪1440‬ه‬

‫أستاذ المقرر ‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫د‪ .‬كوثر محمد القاضي‬ ‫‪‬‬

‫أستاذ مشارك األدب الحديث و السعودي بكلية اللغة العربية بجامعة أم القرى ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪dr.kawther-algady@hotmail.com‬‬ ‫‪‬‬

‫‪1‬‬
‫جماليات الخطاب النبوي‬

‫‪ ..‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬أدبني ربي فأحسن تأديبي»‪ ،‬وفيما روى البخاري‬
‫ومس لم أن ه علي ه الص الة والس الم ق ال ‪« :‬بعثت بجوام ع الكلم‪ ،‬ونص رت ب الرعب‪ ،‬وبين ا أن ا‬
‫دي» ‪.‬‬ ‫عت في ي‬ ‫زائن األرض فوض‬ ‫اتيح خ‬ ‫ائم أوتيت بمف‬ ‫ن‬

‫وفي مؤلف من جزأين أعدته الدكتورة أناهيد عبد الحميد حريري وأصدرته بعنوان «جمال‬
‫ة»‪..‬‬ ‫ة داللي‬ ‫ة أدبي‬ ‫لم دراس‬ ‫حيح مس‬ ‫وي في ص‬ ‫اب النب‬ ‫الخط‬

‫تفص يل لروائ ع م ا في الخط اب النب وي من جمالي ات ال تض اهى وذل ك م ا توض حه ال دكتورة‬


‫أناهيد بقولها في المقدمة ‪ :‬الحمد هلل الذي أنزل على عبده الكتاب‪ ،‬والصالة والسالم على‬
‫نبيه محمد أفضل من أوتي الحكمة وفصل الخطاب‪ ،‬وعلى آله وأصحابه أفصح آل‪ ،‬وأبلغ‬
‫أص حاب‪ ،‬وس لم تس ليما كث يرا‪ ،‬وبع د ‪ :‬فالح ديث النب وي يع د المص در الث اني من مص ادر‬
‫التش ريع بع د الق رآن الك ريم‪ ،‬حيث ك ان ال وحي ي نزل على رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم‬
‫وجبريل يمده بالسنة التي تفسر ذلك‪ ،‬فكل ما يصدر عنه صلى اهلل عليه وسلم من قول أو‬
‫فع ل أو تقري ر مص دره ال وحي‪ ،‬ق ال تع الى ‪( :‬وم ا ينط ق عن اله وى إن ه و إال وحي ي وحى)‪.‬‬

‫وق د ك ان ص لى اهلل علي ه وس لم ص احب فص احة وبالغ ة‪ ،‬ب ل ه و أفص ح الع رب بال من ازع‪،‬‬
‫كيف ال ؟ وهو من قريش وتربى في بني سعد‪ ،‬ونزل عليه الكتاب العزيز الذي أعجز الثقلين‬
‫من اإلنس والجن‪ ،‬ولعل ما أوتيه صلى اهلل عليه وسلم جوامع الكلم وفصل الخطاب‪ ،‬حتى‬
‫ج اء في ص فة كالم ه ص لى اهلل علي ه وس لم ق ول أم المؤم نين عائش ة رض ي اهلل عنه ا ‪« :‬ك ان‬
‫كالم رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم كالم ا فص ال يفهم ه ك ل من س معه»‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫وقد كان أسلوب الخطاب من أبرز األساليب النبوية المستخدمة في توجيه الدعوة‪ ،‬وتقويم‬
‫المجتم ع‪ ،‬إذ ك ان الخط اب ــ وال ي زال ــ األس لوب األمث ل في الت أثير على المخ اطبين أو‬
‫المتلقين طالم ا اعتم د على اإلقن اع المنطقي‪ ،‬والتحف يز النفس ي‪ ،‬والتوجي ه ال ديني‪ ..‬إلخ‪ ،‬م ع‬
‫اعتم اده على الوس ائل اللغوي ة المطلوب ة في الت أثير ــ على تع ددها ــ ك ل منه ا في س ياقها‬
‫المناس ب للموض وع المط روح‪ ،‬وق د التفت الق دماء إلى أهمي ة الخط اب وتأثيرات ه في ش تى‬
‫المجاالت‪ ،‬وكانت تأثيرات الخطاب القرآني والنبوي من أبرز التأثيرات‪ ،‬وأعظمها أثرا حتى‬
‫لقد تحول المجتمع الجاهلي إلى مجتمع مختلف‪ ،‬وعمت تأثيراته العالم بأسره‪ ،‬ليسطع نور‬
‫الح ق والخ ير والع دل على اإلنس انية جمع اء م تى م ا أص غت ب وعي ل ذلك الخط اب الرب اني‪،‬‬
‫وتخلت عن آف تي الك بر والعن اد‪ ،‬والتفتت إلي ه بحي دة وموض وعية ص رفة‪ ،‬كم ا فع ل الرعي ل‬
‫األول من الصحابة رضوان اهلل تعالى عليهم أجمعين‪ ،‬ومن ـ هنا ـ جاء اختياري لموضوع هذه‬
‫الدراسة بعنوان ‪( :‬جماليات الخطاب النبوي في فضائل األنبياء والصحابة في صحيح مسلم ـ‬
‫ة)‪.‬‬ ‫ة داللي‬ ‫ة أدبي‬ ‫دراس‬

‫ويختص هذا البحث بدراسة الخطاب النبوي وما امتاز به من وسائل لغوية وجماليات أدبية‬
‫جعلت ه ي تربع على قم ة األس اليب البش رية‪ ،‬وذل ك من خالل األح اديث ال واردة في فض ائل‬
‫األنبياء ومناقبهم‪ ،‬ومنهم النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكذا مناقب الصحابة رضوان اهلل تعالى‬
‫عليهم في صحيح مسلم‪ ،‬حتى يجتمع في هذه الدراسة الوقوف على ما في كالمه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم من الجمال والبيان‪ ،‬والوقوف على فضائل األنبياء عليهم السالم‪ ،‬الذين اختصهم‬
‫اهلل تع الى بحم ل أمان ة التبلي غ عن ه‪ ،‬وك ذا فض ائل الص حابة الك رام رض وان اهلل تع الى عليهم‪،‬‬
‫ذل ك الرعي ل األول ال ذي جاه د في اهلل ح ق الجه اد‪ ،‬م ع مالحظ ة ت أثير الخط اب النب وي في‬
‫توجي ه النفس اإلنس انية من خالل نم اذج بش رية رفيع ة من األنبي اء عليهم الس الم‪ ،‬والص حابة‬
‫رضوان اهلل تعالى عليهم‪.‬‬

‫من جوامع الكلم النبوي‬


‫‪3‬‬
‫خص اهلل نبيه صلى اهلل عليه وسلم بجملة من الخصائص ‪ ,‬من أهمها‬
‫أنه أوتي جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه ‪ ,‬واختصر له الكالم اختصاراً‬
‫فجمع اهلل له المعاني الكثيرة في ألفاظ يسيرة ‪ ,‬وجعل ذلك من أدلة نبوته‬
‫وأعالم رسالته ‪ ,‬ليسهل على السامعين حفظه ‪ ,‬وال يشق عليهم حمله وتبليغه‬
‫وكل هذا من الحفظ الذي تك ّفل اهلل به لهذا الدين ‪.‬‬

‫ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه قال ‪:‬‬
‫سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫ُتيت بمفاتيح خزائن األرض ‪,‬‬
‫( بعثت بجوامع الكلم ‪ ,‬ونصرت بالرعب ‪ ,‬وبينا أنا نائم أ ُ‬
‫فوضعت في يدي )‪.‬‬

‫وفي رواية للترمذي‬


‫ت ‪ ,‬أعطيت جوام ع الكلم ‪ ,‬ونص رت ب الرعب ‪......... ,‬‬
‫ْت على األنبي اء بس ٍّ‬ ‫( فُ ِّ‬
‫ضل ُ‬
‫الحديث ) ‪.‬‬
‫قال الزهري‬
‫" وبلغني أن جوامع الكلم أن اهلل يجمع األمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب‬
‫قبله في األمر الواحد واألمرين أو نحو ذلك " ‪.‬‬

‫وجوامع الكلم التي بعث بها نبينا عليه الصالة والسالم‬


‫تشمل ما جاء في القرآن من اآليات الجامعة ‪ ,‬كقوله عز وجل‬
‫{إن اهلل يأمر بالعدل واإلحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }‬
‫( النحل ‪) 90‬‬

‫‪4‬‬
‫فإن هذه اآلية لم تترك خيراً إال أمرت به وال شراً إال نهت عنه‬
‫وهي مما بعث به صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬

‫وتشمل أيضا ما جاء في كالمه صلى اهلل عليه وسلم مما هو مروي في كتب السنة‬
‫والمقصود هنا الكالم على النوع الثاني ‪ ,‬وهو جوامع الكلم النبوي ‪.‬‬

‫وقد وردت عن األئمة المتقدمين عدة أقوال في تحديد أصول األحاديث النبوية‬
‫أو األحاديث الجامعة التي يدور عليها الدين‬
‫فمن ذلك ما جاء عن اإلمامأحمد ‪-‬رحمه اهلل ‪-‬‬
‫أنه قال‬
‫" أصول اإلسالم على ثالثة أحاديث‬
‫حديثعمر ‪ ( :‬إنما األعمال بالنيات )‬
‫وحديث عائشة ‪ ( :‬من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )‬
‫وحديث النعمان بن بشير ‪ ( :‬الحالل بيِّ ٌن والحرام بيِّن )‬

‫وقال اإلمام أبو داود ‪:‬‬


‫"نظرت في الحديث المسند فإذا هو أربعة آالف حديث‬
‫ثم نظرت فإذا مدار أربعة آالف الحديث على أربعة أحاديث‬
‫والحرام بيِّن )‬ ‫الحالل بيِّ ٌن‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫حديث النعمان بن بشير ‪( :‬‬
‫ُ‬
‫وحديث عمر ‪ ( :‬إنما األعمال بالنيات )‬
‫وح ديث أبي هري رة ‪ ( :‬إن اهلل طيب ال يقب ل إال طيب ا وإن اهلل أم ر المؤم نين بم ا أم ر ب ه‬
‫المرسلين ‪ .........‬الحديث )‬
‫وحديث ‪ ( :‬من حسن إسالم المرء تركه ما ال يعنيه )‬
‫قال ‪ :‬فكل حديث من هذه األربعة ربع العلم "‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وأنشد بعضهم ‪:‬‬

‫عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كالم خير البرية‬


‫اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية‬

‫ويعني بقوله " ازهد " حديث ‪( :‬ازهد في الدنيا يحبك اهلل ‪....‬الحديث ) ‪.‬‬

‫وقد اجتهد أهل العلم في جمع تلك األحاديث الجوامع‬


‫وصنفوا في ذلك المصنفات ‪ ,‬حتى جاء اإلمام النووي‪ -‬رحمه اهلل‬
‫فجمع اثنين وأربعين حديثاً جامعاً عليها مدار الدين‬
‫وهي التي عرفت فيما بعد "باألربعين النووية"‬
‫واشتهرت هذه األربعين وأقبل الناس على حفظها ونفع اهلل بها‬
‫ببركة نية صاحبها وحسن قصده‬
‫وقد شرحها الحافظ ابن رجب الحنبلي شرحا نفيساً في كتابه جامع العلوم والحكم‬
‫وزاد عليها ثمانية أحاديث تمام الخمسين ‪.‬‬

‫فينبغي على المسلم أن يعتني بهذه األحاديث حفظا وفهما ودراسة‬


‫وأن يجعلها من أوائل األحاديث التي يُربَّى عليها األطفال والناشئة‬
‫وسنعرض في المواضيع القادمة بعض هذه األحاديث بشيء من التفصيل والشرح‬
‫واهلل الموفق والهادي إلى سواء السبيل‬

‫من جوامع الكلم النبوي ‪. . . .‬الحالل بيِّن والحرام بيِّن‬

‫‪6‬‬
‫من األحاديث الجامعة التي يذكرها أهل العلم ‪ ,‬ويولونها المزيد من العناية واالهتمام‬
‫حديث النعمان بن بشير رضي اهلل عنه قال ‪:‬‬
‫سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫مشتبهات ال يعلمهن كثير من الناس‬
‫ٌ‬ ‫( إن الحالل بيِّ ٌن وإن الحرام بيِّ ٌن ‪ ,‬وبينهما أمور‬
‫وعرضه ‪ ,‬ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام‬ ‫فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ِ‬
‫حمى‬
‫كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ‪ ,‬أال وإن لكل ملك ً‬
‫محارمه ‪ ,‬أال وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله‬
‫ُ‬ ‫أال وإن حمى اهلل‬
‫فسد الجسد كله ‪ :‬أال وهي القلب )‬
‫فسدت َ‬ ‫وإذا َ‬

‫رواه البخاري ومسلم ‪.‬‬

‫فهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة‬


‫وأحد األحاديث التي يدور عليها الدين وقد عده بعض أهل العلم ثلث اإلسالم أو ربعه‬
‫ويعنون أن اإلسالم يدور على ثالثة أحاديث أو أربعة منها هذا الحديث ‪.‬‬

‫فقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬


‫( إن الحالل بين وإن الحرام بين )‬
‫يعني أن الحالل والحرام الصريح الواضح قد ُبيِّن أمره للناس‬
‫بحيث ال يحتاجون معه إلى مزيد إيضاح وبيان ‪ ,‬وليس لهم عذر في مخالفة األمر‬
‫والنهي بدعوى نقص البيان وعدم الوضوح‬
‫فإن اهلل عز وجل قد أنزل على نبيه الكتاب ‪ ,‬وبين فيه لألمة ما تحتاج إليه من أحكام‬
‫قال تعالى ‪:‬‬
‫ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }‬
‫{ َّ‬
‫(النحل ‪)89‬‬
‫وقال تعالى في آخر آية من سورة النساء بعد أن ذكر فيها كثيرا من األحكام الشرعية‬

‫‪7‬‬
‫{ يبين اهلل لكم أن تضلوا واهلل بكل شيء عليم }‬
‫( النساء ‪. )176‬‬
‫وقال عز وجل ‪:‬‬
‫{ ومالكم أن ال تأكلوا مما ذكر اسم اهلل عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم }‬
‫( األنعام‪. )119‬‬
‫وهذا هو مقتضى عدل اهلل ورحمته بعباده فال يمكن أن يعذب قوما‬
‫قبل البيان لهم وقيام الحجة عليهم‬
‫ولذلك قال سبحانه‬
‫{وما كان اهلل ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون }‬
‫( التوبة ‪. )115‬‬
‫وما لم يرد بيانه مفصالً في كتاب اهلل تعالى فإن النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قد بينه في سنته تحقيق‬
‫لقوله تعالى ‪ { :‬وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }‬
‫( النحل ‪. )44‬‬
‫ولكن هناك أمور تشتبه على كثير من الناس‬
‫فال يعرفون حكمها هل هي من الحالل أم من الحرام ؟‬
‫وأما الراسخون في العلم فال تشتبه عليهم ‪ ,‬ويعلمون من أي القسمين هي‬
‫وهذه هي األمور المشتبهات التي قال عنها صلى اهلل عليه وسلم‬
‫( وبينهما أمور مشتبهات ال يعلمهن كثير من الناس ) ‪.‬‬

‫قسم النبي صلى اهلل عليه وسلم الناس‬


‫ثم َّ‬
‫بالنسبة إلى هذه األمور المشتبهة إلى قسمين‬
‫القسم األول ‪ :‬من يتقي هذه الشبهات ويتركها ‪ ,‬طلبا لمرضاة اهلل عز وجل‬
‫وتحرزا من الوقوع في اإلثم ‪ ,‬فهذا الذي استبرأ لدينه وعرضه‬

‫‪8‬‬
‫أي طلب البراءة لهما ‪ ,‬فحصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي‬
‫وصان عرضه عن كالم الناس فيه ‪ ,‬وفيه دليل على أن من ارتكب الشبهات‬
‫فقد عرض نفسه للقدح والطعن‬
‫كما قال بعض السلف‬
‫يلومن من أساء الظن به " ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عرض نفسه للتُّهم فال‬
‫"من َّ‬

‫والقسم الثاني ‪ :‬من وقع في هذه الشبهات مع علمه بأن هذا األمر فيه شبهة‬
‫فقد أخبر النبي صلى اهلل عليه وسلم أن من فعل ذلك فقد وقع في الحرام‬
‫بمعنى أن اإلنسان إذا تهاون وتسامح في الوقوع في الشبهات ‪ ,‬وأكثر منها‬
‫فإن ذلك يوشك أن يوقعه في الحرام وال بد‬
‫وهو ال يأمن أن يكون ما أقدم عليه حرامَاًًَ في نفس األمر‬
‫فربما وقع في الحرام وهو ال يدري ‪.‬‬

‫ثم ضرب النبي صلى اهلل عليه وسلم مثال لمن يقع في الشبهات‬
‫وهو أن كل ملك من ملوك الدنيا له حمى يُضرب حول ملكه‬
‫ويُمنع الناس من دخوله أو انتهاكه ‪ ,‬ومن دخله فقد عرض نفسه للعقوبة‬
‫فمن رعى أغنامه بالقرب من هذا الحمى فإنه ال يأمن أن تأكل ماشيته منه‬
‫فيكون بذلك قد تعدى على حمى الملك ‪ ,‬ومن احتاط فابتعد‬
‫ولم يقارب ذلك الحمى فقد طلب السالمة لنفسه ‪ ,‬وهذا مثل حدود اهلل ومحارمه‬
‫فإنها الحمى الذي نهى اهلل عباده عن االقتراب منه أو تعديه‬
‫فقال سبحانه ‪ { :‬تلك حدود اهلل فال تقربوها }‬
‫(البقرة ‪)187‬‬
‫وقال ‪:‬‬
‫{ تلك حدود اهلل فال تعتدوها }‬
‫( البقرة ‪) 229‬‬

‫‪9‬‬
‫َح َّل لهم وما َح َّرم عليهم‬ ‫فاهلل عز وجل قد َّ‬
‫حد للعباد حدودا بين فيها ما أ َ‬
‫ونهاهم عن االقترب من الحرام أو تعدي الحالل‬
‫وجعل الواقع في الشبهات كالراعي حول الحمى أو قريبا منه يوشك أن يدخله ويرتع‬
‫فيه‬
‫فمن تعدى الحالل ووقع في الشبهات ‪ ,‬فإنه قد قارب الحرام وأوشك أن يقع فيه ‪.‬‬

‫ثم ختم النبي صلى اهلل عليه وسلم الحديث بذكر السبب الذي يدفع العبد‬
‫إلى اتقاء الشبهات والمحرمات أو الوقوع فيهما‬
‫أال وهو صالح القلب أو فساده ‪ ,‬فإذا صلح قلب العبد صلحت الجوارح واألعمال تبع ا‬
‫لذلك‬
‫وإذا فسد القلب فسدت الجوارح واألعمال ‪ ,‬فالقلب أمير البدن‬
‫وملك الجوارح ‪ ,‬وبصالح األمير أو فساده تصلح الرعية أو تفسد‬
‫فإذا كان القلب سليما حرص العبد على اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات‬
‫وأما إذا كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى والشهوات‬
‫فإن الجوارح سوف تنبعث إلى المعاصي والمشتبهات تبعا له‬
‫فالقلب السليم هو عنوان الفوز عند اهلل عز وجل‬
‫قال تعالى ‪{ :‬يوم ال ينفع مال وال بنون ‪ .‬إال من أتى اهلل بقلب سليم }‬
‫(الشعراء ‪. )89-88‬‬

‫ففي هذا الحديث العظيم حث للمسلم على أن يفعل الحالل‬


‫ويجتنب الحرام ‪ ،‬وأن يجعل بينه وبين الحرام حاجزا وهو اتقاء الشبهات‬
‫وأن يحتاط المرء لدينه وعرضه ‪ ،‬فال يقدم على األمور التي توجب سوء الظن به‬
‫وفيه أيضا تأصيل لقاعدة هامة من قواعد الشريعة‬
‫وهي قاعدة سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها‬
‫وفيه كذلك تعظيم أمر القلب ‪ ,‬فبصالحه تصلح أعمال الجوارح وبفساده تفسد‬

‫‪10‬‬
‫نسأل اهلل أن يصلح قلوبنا وأن يثبتها على دينه‬
‫النصيحة ‪ . . . .‬مفهومها أنواعها شروطها‬

‫للنصيحة شأن عظيم في حياة الفرد واألمة على حد سواء‬


‫فهي أساس بناء األمة ‪ ,‬وهي السياج الواقي بإذن اهلل من الفرقة والتنازع‬
‫والتحريش بين المسلمين ‪ ،‬هذا التحريش الذي رضيه الشيطان‬
‫بعد أن يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب‬
‫كما قال عليه الصالة والسالم في الحديث الذي رواه مسلم‬
‫( إن الش يطان ق د أيس أن يعب ده المص لون في جزي رة الع رب ‪ ,‬ولكن في التح ريش‬
‫بينهم ) ‪.‬‬
‫لقد رضي بالتحريش ألنه بداية طبيعية للعداء والتفرق والتنازع‬
‫المؤدي إلى االقتتال وذهاب الريح ‪.‬‬
‫وأعظم حديث جامع يبين مفهوم النصيحة الشرعية وحدودها‬
‫الحديث الذي رواه اإلمام مسلم عن تميم َّ‬
‫الداري‬

‫أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‬


‫( الدين النصيحة ثالثا ‪ ,‬قلنا ‪ :‬لمن يا رسول اهلل ؟‬
‫وعامتهم ) ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬هلل ولكتابه ولرسوله وألئمة المسلمين َّ‬
‫فهذا الحديث له شأن عظيم ‪ ,‬فهو ينص على أن عماد الدين وقوامه بالنصيحة‬
‫فبوجودها يبقى الدين قائما في األمة‬
‫وبعدمها يدخل النقص على األمة في جميع شؤون حياتها‪.‬‬
‫وقد كان منهج أنبياء اهلل ورسله مع أممهم مبنياً على النصح لهم‬

‫‪11‬‬
‫والشفقة عليهم‬
‫قال نوح عليه السالم مخاطبا قومه‬
‫{ أبلغكم رساالت ربي وأنصح لكم وأعلم من اهلل ما ال تعلمون }‬
‫( األعراف ‪62‬ا ) ‪.‬‬
‫وقال صالح لقومه‬
‫{يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن ال تحبون الناصحين}‬
‫( األعراف ‪79‬ا )‬
‫وقال هود‬
‫{ أبلغكم رساالت ربي وأنا لكم ناصح أمين }‬
‫( األعراف ‪68‬ا ) ‪.‬‬
‫والنصيحة كلمة يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له‬
‫وال يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تحصرها وتجمع معناها غير هذه الكلمة‬
‫وأنواعها خمسة وهي التي ذكرت في الحديث‬

‫األول ‪ :‬النصيحة هلل‬

‫وتكون باالعتراف بوحدانيته وتفرده بصفات الكمال ونعوت الجالل‬


‫والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً‬
‫واإلنابة إليه كل وقت ‪,‬مع التوبة واالستغفار الدائم‬
‫ألن العبد ال بد له من التقصير في شيء من الواجبات و التجرؤ على بعض المحرمات‬
‫س ُّد الخلل‪.‬‬
‫وبالتوبة واالستغفار ينجبر النقص ‪ ,‬ويُ َ‬

‫الثاني‬

‫‪12‬‬
‫النصيحة لكتاب اهلل وتكون بحفظه وتدبره ‪ ،‬وتعلم ألفاظه ومعانيه‬
‫واالجتهاد في العمل به في نفسه وتعليمه غيره ‪.‬‬

‫الثالث‬

‫النصيحة للرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬وتكون باإليمان به ومحبته‬


‫وتقديمه على النفس والمال والولد ‪ ،‬واتباعه في أصول الدين وفروعه‬
‫وتقديم قوله على قول كل أحد ‪ ,‬واالهتداء بهديه ‪ ،‬والنصر لدينه وسنته ‪.‬‬

‫الرابع‬

‫النصيحة ألئمة المسلمين وهم الوالة‬


‫من اإلمام األعظم إلى األمراء والقضاة وجميع من لهم والية عامة أو خاصة‬
‫وتكون هذه النصيحة باعتقاد واليتهم ‪ ,‬والسمع والطاعة لهم‬
‫وحث الناس على ذلك ‪ ،‬وبذل ما يستطاع في إرشادهم للقيام بواجبهم‬
‫وما ينفعهم وينفع الناس‬

‫الخامس‬

‫النصيحة لعامة المسلمين وتكون بمحبة الخير لهم كما يحب المرء لنفسه‬
‫وكراهية الشر لهم كما يكره لنفسه ‪.‬‬
‫والبد في النصيحة من ثالثة أمور‬

‫‪13‬‬
‫أولها‬

‫اإلخالص هلل تعالى في النصيحة ألنه لب األعمال‬


‫وألن النصيحة من حق المؤمن على المؤمن ‪ ,‬فوجب فيها التجرد عن الهوى‬
‫واألغراض الشخصية والنوايا السيئة التي قد تحبط العمل‬
‫وتورث الشحناء وفساد ذات البين ‪.‬‬

‫وثانيها‬

‫الرفق في النصح ‪,‬وإذا خلت النصيحة من الرفق صارت تعنيفا وتوبيخا ال يقبل‬
‫ومن حرم الرفق فقد حرم الخير كله كما أخبر بذلك نبينا عليه الصالة والسالم ‪.‬‬

‫وثالثها‬

‫ِ‬
‫الحلْم بعد النصح ‪ ,‬ألن الناصح قد يواجه من يتجرأ عليه‬
‫أو يرد نصيحته ‪ ,‬فعليه أن يتحلى بالحلم‬
‫ومن مقتضيات الحلم ‪ :‬الستر والحياء وعدم البذاءة ‪ ,‬وترك الفحش ‪.‬‬
‫وإن من الحكمة والبصيرة في النصيحة معرفة أقدار الناس‬
‫وإنزالهم منازلهم ‪ ،‬والترفق مع أهل الفضل والسابقة‬
‫وتخير وقت النصح المناسب ‪ ,‬وتخير أسلوب النصح المتزن البعيد عن االنفعاالت‬
‫وانتقاء الكلم الطيب والوجه البشوش والصدر الرحب‬
‫فهو أوقع في النفس وأدعى للقبول وأعظم لألجر عند اهلل ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫فهذه هي حدود النصيحة الشرعية ‪ ,‬وخالف ذلك هو اإلرجاف والتعيير‬
‫والغش الذي هو من عالمات النفاق عياذا باهلل‬

‫قال على رضي اهلل عنه‬

‫" المؤمنون نصحة والمنافقون غششة "‬

‫وقال غيره ‪:‬‬

‫" المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير" ‪.‬‬

‫فالنبي صلى اهلل عليه وسلم فسر النصيحة بهذه األمور الخمسة‬
‫التي تشمل القيام بحقوق اهلل ‪ ،‬وحقوق كتابه ‪ ،‬وحقوق رسوله‬
‫وحقوق جميع المسلمين على اختالف أحوالهم وطبقاتهم‬
‫فشمل ذلك الدين كله ‪ ،‬ولم يبق منه شيء إال دخل في هذا الكالم الجامع المحيط‬
‫فكان لزاما على المسلمين أخذ النصيحة خلقا بينهم‬
‫فهي القاطعة لفساد ذات البين والتحريش‬
‫والموصلة لمعاني األخوة والمحبة في اهلل‬
‫وهي العامل األهم في تماسك الجماعة واألمة‬

‫األحاديث النبوية ‪ .‬السنة النبوية ‪ .‬أهمية دراستها ‪ .‬تدوين الحديث النبوي الشريف‬

‫أهمية الحديث النبوي الشريف‬

‫لعل علم الحديث رواية ودراية هو مما تتمثل فيه العبقرية اإلسالمية أكثر من غيره من العلوم‬
‫َّ‬

‫‪15‬‬
‫حتى الفلسفة وعلم الطبيعة والرياضيات‪.‬‬
‫وقد يبدو هذا الرأي غريباً في بادئ النظر‪ ،‬ولكن ال غرابة وهذه العلوم قد قيل إن المسلمين‬
‫لم يبتكروا فيها شيئاً‪ ،‬وإنما نقلوها نقالً مجرداً عن األمم السالفة‪ ،‬بخالف علم الحديث‪ ،‬فإنه‬
‫من وضع المسلمين وابتكارهم‪ ،‬وال يستطيع أحد أن يقول غير ذلك وال أن يشكك فيه‪.‬‬
‫وليس ه ذا فق ط‪ ،‬ف إن ال دارس له ذا العلم المتعم ق في ه‪ ،‬ق د يطل ع من ه على آف اق رحيب ة من‬
‫األبح اث المنهجي ة‪ ،‬والدراس ات الموض وعية‪ ،‬في علم األخالق‪ ،‬واالجتم اع‪ ،‬والق انون‪،‬‬
‫والسياسة‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬فال يكون عنده أدنى ريب في أن الحضارة اإلسالمية‪ ،‬مبناها على هذا‬
‫العلم‪ ،‬وأنها إن استفادت من معارف يونان وفارس والهند شيئا فإنها في عناصرها النفسية‪،‬‬
‫إنما ترجع إلى كتاب اهلل‪:‬‬

‫‪ - 1‬أهمية دراسة السنة النبوية‬

‫‪ -2‬أصل علم الحديث‬

‫‪ - 3‬أول من أمر بتدوين الحديث‬

‫‪ - 4‬الموطأ أول مؤلف جامع في الحديث‬

‫‪ - 5‬تدوين السنة في القرن الثالث الهجري‬

‫‪ - 6‬االهتمام باإلسناد‬

‫‪ - 7‬االهتمام بعلم الجرح والتعديل‬

‫‪ - 8‬أهمية هذا المنهج‬

‫‪16‬‬
‫‪ - 9‬علم الحديث وانعكاساته على النهضة العلمية‬

‫‪ - 1‬أهمية دراسة السنة النبوية‪:‬‬

‫والسنة المبينة له‪ ،‬وقد جرى الناس على أن ينظروا لعلم الحديث نظرة دينية بحتة‪ ،‬فهم لذلك‬
‫يسقطونه من الحساب إذا ذكروا العوامل التي أدت إلى نهضة العالم اإلسالمي‪ ،‬تلك النهضة‬
‫التي آتت أكلها الشهي منذ الجيل األول الذي تال ظهور اإلسالم وما زالت تنمو وتعظم حتى‬
‫بلغت في القرن الخامس الهجري إلى ما لم تبلغه في أمة أخرى قبل ذلك‪ ،‬ولكنهم مخطئون‬
‫في هذا النظر‪ :‬ولو شاءوا أن يعرفوا الحقيقة من غير أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في هذا‬
‫الموض وع‪ ،‬القتص روا على التفك ير في أن الرس ول ‪-‬ص لوات اهلل علي ه وس المه‪ ،-‬لبث في‬
‫قوم ه بع د الرس الة ثالث اً وعش رين س نة يتل و عليهم آي ات اهلل‪ ،‬ويعلمهم الكت اب والحكم ة‬
‫ويزكيهم‪ ،‬وقومه هم العرب الذين يعرف الناس أنهم ليسوا بشعب غبي وال بدائي‪ ،‬وهم في‬
‫الوقت نفسه كانوا مكتنفين بشعوب حية وبقوم من يهود ونصارى ال يفتأون يعارضون دعوته‬
‫ويوردون عليها مختلف اإليرادات‪ ،‬فهو لم يقصر دعوته على مسائل الدين فقط‪ ،‬ولم يكن‬
‫يعلم المسلمين أمور العبادات فحسب بل كان يعلمهم آداب السلوك وأحكام المعاملة‪ ،‬من‬
‫ال بيع‪ ،‬والش راء‪ ،‬والص رف‪ ،‬والحوال ة‪ ،‬والس لف‪ ،‬وال رهن‪ ،‬وم ا إلى ذل ك‪ ،‬ويلقنهم أس اليب‬
‫الحرب‪ ،‬وطرق الحكم‪ ،‬ويرشدهم إلى السياسات المختلفة في عالقتهم مع الدول الموالية‬
‫والمعادي ة‪ ،‬ويت ولى قس م األم وال بينهم‪ ،‬وتوزي ع األراض ي المغل ة عليهم‪ ،‬ويعق د المج الس‬
‫االستش ارية كلما حز به أم ر ليقبح لهم االستبداد‪ ،‬ويقفهم على أسباب حياة األمم وهالكها‬
‫ليعرفوا كيف يحافظون على كيانهم إذا صار األمر إليهم من بعده‪ ،‬وهكذا لم يدع شاذة وال‬
‫ف اذة مم ا ب ه ق وام الحي اة‪ ،‬ونظ ام ال دنيا إال علمهم إي اه‪ ،‬ألم يق ل الكف ار لس لمان ‪-‬رض ي اهلل‬
‫عن ه‪« :-‬لق د علمكم ن بيكم ك ل ش يء»(‪ ،)1‬ب ل أن ه في تنزالت ه معهم ك ان يخ اطبهم ب دقائق‬
‫المعارف ويجيب على أسئلتهم الطبية والطبيعية بما لم ينقضه العلم حتى اآلن‪ ،‬ويصحح لهم‬
‫أغالط االخباريين من أهل الكتاب وأغالط عرفائهم في تفسير الظواهر الجوية ونحوها حتى‬
‫لقد دعا ذلك اليهود أن يسألوه عن حقيقة الروح {ويسألونك عن الروح‪ ،‬قل الروح من أمر‬
‫‪17‬‬
‫ربي‪ ،‬وما أوتيتم من العلم إال قليالً} [سورة اإلسراء‪.]85:‬‬

‫إن مجرد استعراض سريع على هذا النمط‪ ،‬لسيرته ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬كاف ليعرف من‬
‫لم يكن يعرف أن علم الحديث هو جماع المعارف اإلسالمية سواء الدينية منها والدنيوية‪،‬‬
‫وإذا كان هذا في عهده ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فما ظنك بهذا العلم وقد تناولته القرائح‬
‫الخصبة واألفكار الناضجة‪ ،‬وكتب العلماء فيه من األبحاث القيمة والدراسات الرائعة ما ال‬
‫يعرف قدره إال من وقف عليه‪.‬‬

‫وإذا كان الحديث عن ذلك يطول‪ ،‬فلنكتف بالكالم على أصل هذا العلم والطريقة التي دون‬
‫بها والجهود التي بذلها العلماء لتمييز صحيحه من سقيمه‪ ،‬وإذا ما يراد بعلم الحديث رواية‬
‫ودراية‪ ،‬وهو وحده دليل ناهض على عبقرية الفكر اإلسالمي الذي يغفل الباحثون عن تتبع‬
‫آثاره في هذه الميادين‪.‬‬

‫‪ - 2‬أصل علم الحديث‪:‬‬

‫أم ا أص ل علم الح ديث فه و أقوال ه ‪-‬ص لى اهلل علي ه وس لم‪ -‬وأفعال ه‪ ،‬ونوم ه‪ ،‬ويقظت ه‪،‬‬
‫وحركاته‪ ،‬وسكوته‪ ،‬وقيامه‪ ،‬وجوده‪ ،‬واجتهاده‪ ،‬وعبادته‪ ،‬وسيرته‪ ،‬وسراياه ومغازيه‪ ،‬ومزاحه‪،‬‬
‫وجده‪ ،‬وخطبه‪ ،‬وأكله‪ ،‬وشربه‪ ،‬ومشيه‪ ،‬ومالطفة أهله‪ ،‬وتأديبه فرسه‪ ،‬وكتبه إلى المسلمين‬
‫والمش ركين‪ ،‬وعه وده ومواثيق ه وألحاظ ه وأنفاس ه وص فاته‪ ،‬مم ا رواه عن ه من الص حابة أربعة‬
‫آالف رج ل وام رأة‪ ،‬كم ا يق ول الح اكم النيس ابوري في كتاب ه «الم دخل إلى الح ديث» (ص‬
‫‪ – 12‬ط‪ .‬لندن) صحبوه نيفاً وعشرين سنة بمكة قبل الهجرة ثم المدينة بعد الهجرة‪ ،‬سوى‬
‫ما حفظوا عنه من أحكام الشريعة وما سألوه عن العبادات والحالل والحرام وتحاكموا إليه‬
‫فيه‪ ،‬وقد تأدى ذلك من الصحابة إلى التابعين فمن بعدهم إلى عصر التدوين‪.‬‬

‫‪ - 3‬أول من أمر بتدوين الحديث‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫وكان عمر بن عبد العزيز أول من أمر بتدوين الحديث خوف ضياعه(‪.)2‬‬

‫وأكد هذا األمر أبو جعفر المنصور فانتدب لذلك ابن شهاب الزهري‪ ،‬وكان سابق الحلبة‪،‬‬
‫إال أن عمل ه إنم ا ك ان ت دويناً مج رداً من غ ير تب ويب وال ت رتيب‪ ،‬وأم ا الجم ع مرتب اً على‬
‫األبواب‪ ،‬فوقع في نصف القرن الثاني‪ ،‬وكان ممن قام بذلك ابن جريج بمكة‪ ،‬ومالك‪ ،‬وابن‬
‫إسحاق بالمدينة‪ ،‬وهشيم بواسط‪ ،‬ومعمر باليمن‪ ،‬وابن المبارك بخرسان‪ ،‬والربيع بن صبيح‪،‬‬
‫وسعيد بن أبي عروية‪ ،‬وحماد بن سلمة بالبصرة‪ ،‬وسفيان الثوري بالكوفة‪ ،‬واألوزاعي بالشام‪،‬‬
‫وجرير ابن عبد الحميد بالري(‪.)3‬‬

‫‪ - 4‬الموطأ أول مؤلف جامع في الحديث‪:‬‬

‫وك ان ال ذي أل ف مال ك ه و كتاب ه «الموط أ» ولعل ه الكت اب الوحي د ال ذي وص لنا بالرواي ة‬


‫الصحيحة من تآليف هذا العصر‪ ،‬ولذلك نتخذه نموذج اً للطريقة التي دون بها علم الحديث‬
‫في أول األمر‪ ،‬والموطأ وإن لم يكن في الواقع كتاب حديث مجرد؛ ألنه يحتوي على كثير‬
‫من الفقه واالستنباط وأقوال السلف ومذاهب الصحابة‪ ،‬إال أنه فيما اشتمل عليه من الحديث‬
‫يعطينا فكرة صادقة عن الجهد الذي بذله اإلمام مالك في تحري األحاديث الصحيحة‪ ،‬وعدم‬
‫الرواية إال عن األعالم األثبات الثقات‪ ،‬فقد قيل أنه لما ألفه أوالً كان يشتمل على نحو عشرة‬
‫آالف حديث‪ ،‬ولم يزل ينتقي منه ويختار حتى لم يبق منه إال نحو ألف حديث‪ ،‬وهذه النسبة‬
‫وهي واح د من عش رة أو ق ل عش رة من مائ ة هي ال تي عم ل عليه ا تقريب اً ج ل الم ؤلفين في‬
‫الحديث بعد ذلك ال سيما أئمة الصحيح‪ ،‬بل أنها لتنزل عند بعضهم إلى أقل من ذلك بكثير‬
‫مع العلم بأنها نسبة على ما ثبت عندهم من األحاديث ووقع لهم فيه اشتباه ما‪ ،‬ال أنها نسبة‬
‫إلى محفوظهم فإن هذا كثير يكاد ال يسلم به أهل هذا العصر الذين ضعفت أو انعدمت فيهم‬
‫ب المرة ملك ة الحف ظ‪ ،‬ناهي ك بم ا قي ل عن اإلم ام أحم د بن حنب ل من أن ه ك ان يحف ظ ملي ون‬
‫حديث(‪.)4‬‬

‫ورتب اإلمام مالك كتابه «الموطأ» على األبواب والمسائل‪ ،‬فهو يخرج الحديث الشاهد في‬

‫‪19‬‬
‫أول الباب أو في أثنائه‪ ،‬ثم يخلل الباب باآلثار واألقوال الثابتة عن الصحابة وأئمة السلف في‬
‫الموضوع ويأتي بباب اسمه الجامع يروي فيه متفرقات من الباب ال تصلح أن تفرد بترجمة‪،‬‬
‫وق د ختم الكت اب ك ذلك بب اب واس ع س ماه الج امع وض منه أح اديث في الس نن واألخالق‬
‫وآداب الس لوك ونح و ذل ك‪ ،‬قي ل وه و أول من ابتك ر ه ذا الص نيع في الت أليف أي جم ع‬
‫المسائل المتفرقة في باب اسمه الجامع‪ ،‬وعلى ما نرى طريقة اإلمام مالك في تأليفه للموطأ‬
‫برغم قدم الزمن هي من أحسن الطرق التي ألفت عليها كتب السنة فيما بعد واتبعها معظم‬
‫المحدثين إلى المائة الثالثة‪.‬‬

‫‪ - 5‬تدوين السنة في القرن الثالث الهجري‪:‬‬

‫وفي المائة الثالثة نشطت حركة جمع الحديث نشاطاً كبيراً‪ ،‬وتناولت مختلف وجوه العمل‬
‫لتأليفه وتبويبه وتخليصه من الزيف والعلة‪ ،‬فألف البخاري «جامعه» الذي هو أول كتاب ألف‬
‫في الصحيح‪ ،‬وكذا مسلم صاحب ثاني الصحيحين‪ ،‬وألف بقية أصحاب الكتب الستة كتبهم‬
‫وهي ال تي تلقاه ا المس لمون ب القبول‪ ،‬ويق ول الس يوطي أن الح ديث إذا أخرج ه أح د ه ؤالء‬
‫المؤلفين الستة فليروه اإلنسان مطمئناً إليه(‪.)5‬‬

‫وك ان الت أليف في ه ذا العص ر على أوض اع مختلف ة منه ا م ا بقي محافظ اً على وض عه األول‬
‫ال ذي ك ان أك ثر العم ل علي ه عن د ب دء الت أليف وه و جم ع أح اديث ك ل را ٍو على ح دة وإن‬
‫اختلفت موضوعاتها‪ ،‬وهذا ما يسمى بالمسند وهو النهج الذي اتبعه اإلمام أحمد ابن حنبل‬
‫في كتاب ه العظيم المس مى بـ«مس ند أحم د»‪ ،‬ومنه ا م ا أل ف على األب واب والمس ائل‪ ،‬وهي‬
‫طريقة مالك في «الموطأ»‪ ،‬ومنه ما يكون عاماً شامالً ألحاديث العبادات والعادات واألحكام‬
‫والحكم والتواريخ والرقاق وغير ذلك وهو المسمى بالجامع ومنه «الجامع الصحيح» لإلم ام‬
‫البخ اري وغ يره‪ ،‬ومن ه م ا يقتص ر على الس نن واألحك ام كـ«س نن أبي داود»‪ ،‬ومن ه م ا يخص‬
‫موض وعاً بعني ه أو مس الة واح دة فق ط كـ«ش عب اإليم ان» لل بيهقي‪ ،‬و«الق راءة في الص الة»‬
‫للبخاري إلى غير ذلك‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫واستمر هذا النشاط وخلص إلى القرون التالية فاتخذ أشكاالً وأنواع اً من العناية بالحديث‪،‬‬
‫س واء من حيث الرواي ة والجم ع أو من حيث الش رح والفهم والتفري ع واالس تنباط‪ ،‬وفي ه ذا‬
‫األمر يقال حدِّث عن البحر وال حرج‪.‬‬

‫‪ - 6‬االهتمام باإلسناد‪:‬‬

‫وعلى كل حال فقد صحب عملية الجمع والتدوين عملية االنتقاء واالختيار‪ ،‬والجهود التي‬
‫بذلها العلماء في ها الصدد ال يوجد لها نظير عند غير المسلمين‪ ،‬ومن ثم قيل «إن اإلسناد‬
‫من خص ائص ه ذه األم ة»(‪ )6‬أي تتب ع رواة الح ديث واح داً فواح داً والبحث عن ح الهم من‬
‫الحفظ والضبط والعدالة إلى النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬قال ابن حزم‪ :‬نقل الثقة حتى‬
‫يبلغ به النبي ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ،-‬ومع االتصال شيء خصص به المسلمون دون جميع‬
‫الملل‪..‬‬

‫وال تغفل عما في هذه الخصيصة من ميزة للدين اإلسالمي ال يشاركه فيها غيره من األديان‪،‬‬
‫وهي ثبوته بالنص القاطع والرواية الصحيحة‪ ،‬فال جرم أن يقول عبداهلل ين المبارك «اإلسناد‬
‫من الدين‪ ،‬ولوال اإلسناد لقال من شاء ما شاء»(‪ ،)7‬وقوله هذا دليل على أن القوم كانوا في‬
‫تمييزهم للحديث الص حيح من السقيم يستبرئون لدينهم كما كانوا يتح رون المنهج العلمي‬
‫الصحيح‪.‬‬

‫وي روى عن عبداهلل بن المب ارك ‪-‬أيض اً‪ -‬أن ه ك ان يق ول‪« :‬بينن ا وبين الق وم الق وائم»(‪ )8‬أي‪:‬‬
‫اإلس ناد‪ ،‬وه ذا ي بين ط ريقتهم العملي ة في نق د الرج ال‪ ،‬ف إنهم جعل وا ق وائم بأس ماء ال رواة‬
‫ورتبوها بحسب القوة والضعف ترتيبا يكون هو الحكم في قبول الحديث أو رده‪ ،‬فإذا لم‬
‫يعرف حال الراوي ترك الحديث وكذا إن سقط من سنده أحد الرواة وإن كان في السند‬
‫ثقات فقد جاء في مقدمة الصحيح لمسلم بن الحجاج‪« :‬وقال محمد ‪-‬يعني ابن عبداهلل بن‬
‫تهزاد‪ :-‬سمعت أبا إسحاق بن إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال قلت لعبداهلل بن المبارك يا أبا‬
‫عبدالرحمن الحديث الذي جاء «إن من البر بعد البر أن تصلي ألبويك مع صالتك وتصوم‬

‫‪21‬‬
‫لهما مع صومك»‪ ،‬فقال عبداهلل يا أبا إسحاق ممن هذا؟ قال‪ :‬قلت له هذا من حديث شهاب‬
‫بن خ راش فق ال‪ :‬ثق ة عمن؟ ق ال‪ :‬قلت عن الحج اج بن دين ار ق ال‪ :‬ثق ة‪ ،‬عمن؟ قلت‪ :‬ق ال‬
‫رس ول اهلل ‪-‬ص لى اهلل علي ه وس لم‪ -‬ق ال ي ا أب ا إس حق إن بين الحج اج بن دين ار وبين الن بي‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي‪ ،‬ولكن ليس في الصدقة اختالف»(‬
‫‪.)9‬‬

‫‪ - 7‬االهتمام بعلم الجرح والتعديل‪:‬‬

‫ون وه األس تاذ (أدم م تز) في كتاب ه «الحض ارة اإلس المية في الق رن الراب ع الهج ري» بال دور‬
‫العظيم الذي قام به علماء الحديث في تدوين السنة النبوية وخدمتها فقال‪« :‬وقد اعتنى نقاد‬
‫الحديث منذ أول األمر بمعرفة رجال الحديث وضبط أسمائهم والحكم عليهم بأنهم ثقات‬
‫أو ض عفاء‪ ،‬ثم نظ روا في األس اس ال ذي ينب ني علي ه ه ذا الحكم أع ني الص فات ال تي يجب‬
‫توفره ا في المح دث الثق ة وه و م ا يع رف ب الجرح والتع ديل‪ ...‬وق د أدت بهم ح اجتهم إلى‬
‫الس ند المتص ل أن يتج اوزوا البحث في حي اة ال رواة والحكم عليهم إلى عم ل ت اريخ كام ل‬
‫لهم‪ ،‬وهك ذا وج دت ت واريخ الق رن الث الث الهج ري مث ل «ت اريخ البخ اري» و«طبق ات ابن‬
‫سعد» الخ‪.)10(..‬‬

‫وقد أثر هذا المنهج بدقته وضبطه على العقلية العربية فظهر مفعوله في علوم أخرى كاللغة‬
‫واألدب والت اريخ‪ ،‬وابن قتيب ة ال ذي يع د من أوائ ل نق اد األدب والش عر خاص ة بم ا كتب ه في‬
‫مقدمة كتابه «الشعر والشعراء» لم يكن إال متأثراً بمعارفه الحديثية واإلخبارية ومنهج النقد‬
‫عند المحدثين الذين هو منهم وإليهم‪.‬‬

‫بل إني ال أشك في استفادة ابن خلدون من منهج أهل الحديث واستمداده من طرق نقدهم‬
‫فيم ا وض عه من قواع د لعلم االجتم اع وفلس فة الت اريخ‪ ،‬إن األمثل ة ال تي أعطاه ا مس لم بن‬
‫الحج اج لمعرف ة المنك ر من الح ديث هي بعينه ا المق اييس ال تي طبقه ا ابن خل دون لتمي يز‬
‫الزائ ف من الص حيح من أخب ار الم ؤرخين‪ ،‬وهك ذا ن رى أن علم الح ديث يبس ط جناح ه على‬

‫‪22‬‬
‫الثقافة اإلس المية ال يمتن ه وروايته فقط ب ل والص طالحه على الثقاف ة وما يس مى عند علمائه‬
‫بعلم الحديث دراية ‪-‬أيضاً‪.-‬‬

‫ومن المعل وم أن ه ذا لم يكن ه و القص د األول من الح ديث وتدوين ه فإن ه إنم ا ج اء عرض اً‬
‫وك ان فتح اً من فتوح ات ه ذا العلم المب ارك ال ذي اس توعب ض روب النش اط الفك ري عن د‬
‫المس لمين‪ ،‬وحف زهم من أول ي وم إلى اقتح ام س بل المعرف ة وطلب العلم ول و بالص ين(‪)11‬‬
‫فوجدت تلك النهضة العلمية الكبرى التي عمت البالد اإلسالمية من شرقها إلى مغربها والتي‬
‫لم تنفصل في أساسها قط عن مدارك القرآن الكريم والحديث الشريف‪ ،‬وهو ما يفسر لنا‬
‫ح رص أعالم الفك ر اإلس المي على األخ ذ بحظهم من ه ذا العلم وتمس كهم ع بر الت اريخ‬
‫بالمش اركة في ه ح تى ول و ان وا من الفالس فة واألطب اء والفلك يين أمث ال ابن س ينا وابن رش د‬
‫ونص ير ال دين الطوس ي وعب د اللطي ف البغ دادي وغ يرهم‪ ،‬ب ل لق د قي ل بتالزم علم الح ديث‬
‫وعلم النبات؛ ألنهما معا مما يدرك بالرحلة وال يبلغ أحد فيهما شأوا إال بالتنقل في البالد‪.‬‬

‫‪ - 8‬أهمية هذا المنهج‪:‬‬

‫لم يكن ه ذا ه و القص د األول من حرك ة ت دوين الح ديث‪ ،‬وإنم ا ك ان ه ذا القص د ه و جم ع‬
‫الحديث خوف ضياعه‪ ،‬فقد جاء فيما كتب به عمر ابن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم في‬
‫الموضوع أنه قال له‪« :‬انظر ما كان من حديث رسول اهلل ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬فاكتبه‬
‫فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء»‪.‬‬

‫والواقع أنها كانت حركة إنقاذ للعلم اإلسالمي الذي لم يكن عند القوم غيره‪ ،‬وكانوا إنما‬
‫يعتمدون فيه على الحفظ واالستظهار‪ ،‬فلما أسرع الموت إلى رجاله ونقلته‪ ،‬خاف الخليفة‬
‫الع ادل من ج راء ذل ك على ه ذا العلم م ا خاف ه الخليف ة األول على الق رآن من الض ياع لم ا‬
‫اس تحر القت ل في الص حابة وأم ر بجم ع المص حف‪ ،‬فك ذلك أم ر عم ر بن عب دالعزيز بكتاب ة‬
‫الحديث وهو بعد الق رآن منتهى علم المس لمين إذ ذاك‪ ،‬فجدوا في األمر واجتهدوا وقاموا‬
‫بما لم تقم به أمة في العمل على حفظ كالم نبيها وأخباره وأحواله‪ ،‬ودونوا ذلك واقتبسوا‬

‫‪23‬‬
‫من ه الحكم واألحك ام والمع ارف واألس رار‪ ،‬ولم ينظ روا إلي ه ق ط تل ك النظ رة الض يقة ال تي‬
‫تحصره في حيز الفكر الديني بل اعتبروه تراث اً علمي اً طائالً درسوه وتعمقوا فيه مدة قرن من‬
‫ال زمن ح تى إذا اتس عت أم امهم آف اق المعرف ة ونقلت إليهم عل وم األوائ ل من فلس فة وطبيع ة‬
‫ورياضيات لم يزدهم ذلك إال توسعاً وتفريع اً ألصوله وتأسيس اً لقواعده‪ ،‬فإنهم لم يقولوا في‬
‫ي وم من األي ام بالفص ل بين العلم والدين وال رجح وا كف ة الم ادة على ال روح؛ ألن ال دين ه و‬
‫اإلسالم‪ ،‬واإلسالم والعلم ال يختلفان‪ ،‬وألن المادة كانت دائم اً وسيلتهم إلى السمو بالروح‪،‬‬
‫والوس ائل عن دهم تعطي حكم المقاص د‪ ،‬فل ذلك ك انوا في المزاوج ة بين المع ارف اإللهي ة‬
‫والعلوم الكونية كالطائر بين جناحين ال يميل مع أحدهما إال كان مهددا بالوقوع‪.‬‬

‫‪ - 9‬علم الحديث وانعكاساته على النهضة العلمية‪:‬‬

‫وهكذا كان عملهم في تدوين الحديث مبادرة علمية بالمعنى العام الذي يشمل علوم الحياة‬
‫بأجمعها مما وصل إليه اجتهادهم‪ ،‬ووعته عقولهم‪ ،‬وال يختص دين اً وال علم اً كم اً‪ ،‬حتى بدأ‬
‫عه د الترجم ة ونش أت تل ك النهض ة العلمي ة الك برى ال تي ك ان علم الح ديث من رواده ا‬
‫الداعين إليها والمشجعين عليها‪ ،‬فتميزت العلوم حينئذ وسار كل في طريقه من غير تقاطع‬
‫وال ت دابر‪ ،‬وال تبجح‪ ،‬ف إن م ا معه ا ه و العلم دون س واه‪ ،‬ب ل إن االع تراف المتب ادل وروح‬
‫التع اون بين الفك ر الفلس في وال ديني كان ا هم ا التقلي د المـتبع ال ذي أدى إلى وج ود فلس فة‬
‫إس المية متم يزة عن الفلس فة العام ة‪ ،‬هي الرش دية ال تي أثبتت ألول م رة في ت اريخ الفك ر‬
‫اإلنساني عدم تعارض العلم والدين على ما نجده عند صاحبها أبي الوليد بن رشد في كتابه‬
‫«فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من االتصال» وغيره من كتبه الفلسفية‪..‬‬

‫وال يفهم من هذا أن الحياة الدينية المحض وما يتعلق بها من الحديث‪ ،‬لم يحظ بعناية خاصة‬
‫من سلف األمة في حركة التدوين‪ ،‬ولم يكن حافزاً لهم على ما قاموا به في هذا الشأن من‬
‫عمل جبار‪ ،‬كال‪ ،‬فإننا عنينا بإبراز الناحية العلمية‪ ،‬وما كان لها من السيطرة على المسلمين‬
‫في تلك الحركة؛ ألنها كثيراً ما تخفى على الباحثين أو ال يعيرونها االهتمام الالزم‪ ،‬وإال فإن‬
‫الح ديث المتعل ق بالواجب ات والس نن والش عائر الديني ة على العم وم ك ان من أول م ا اعت نى‬
‫‪24‬‬
‫المس لمون بحفظ ه وروايت ه‪ ،‬س واء في ذل ك الص حابة والت ابعون فمن بع دهم‪ ،‬ب ل إن من‬
‫الصحابة من تعاطى كتابته كعبداهلل بن عمرو بن العاص وذلك بإذن من النبي ‪-‬صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،-‬فسبق عهد التدوين بزهاء قرن كامل‪ ،‬وفي هذا العهد ‪-‬أيض اً‪ -‬كان الباعث الديني‬
‫من أعظم ما حمل أئمة الحديث وحفاظه على جمعه وكتابته‪ ،‬أال ترى أن منهم من خص بعض‬
‫كتب ه بالمس ائل والقض ايا الديني ة‪ ،‬وق د ألمحن ا إلى ذل ك فيم ا س بق‪ ،‬ككت اب «الق راءة في‬
‫الصالة» للبخاري‪ ،‬وكتاب «شعب اإليمان» للبيهقي‪ ،‬وكتاب «السنن» ألبي داود وإن كان‬
‫هذا جامعاً بين أحكام العبادات والمعامالت‪.‬‬

‫دراسة أدبية لحديث نبوي شريف‬


‫د‪ .‬محمود فؤاد الطباخ‬
‫باحث وأستاذ جامعي في المدينة المنورة‬

‫مقدمةيؤثر في النفس ‪ ،‬ويجمع‬


‫يتميز األدب عن الكالم العادي بأنه يحمل المعنى بأسلوب فني‬
‫لها الفائدة والمتعة ‪.‬‬
‫كبيرا ‪ ،‬ومتعته الجمالية عالية ‪.‬‬
‫وبقدر ما يكون األسلوب بليغًا يكون تأثيره ً‬
‫وال يقتصر األدب على النصوص التي يبدعها الشعراء والكتاب في موضوعات معينة ‪،‬‬
‫بل يمتد ليشمل كل تعبير فني جميل ‪ ،‬وفي مقدمة هذا ( التعبير الفني الجميل ) األحاديث‬
‫النبوي ة ‪ ،‬ال تي جمعت بين ش رف المع نى وروع ة البي ان ‪ ،‬فحلقت به ذين الجن احين الك ريمين‬
‫في سماء األدب ‪ ،‬وص ار لها ‪ -‬إضافة إلى مكانته ا التشريعة الخالدة ‪ -‬مكانة أدبية عالية ‪،‬‬
‫كلما نظرنا فيها تكشفت لها دالالت معنوية عجيبة ‪ ،‬وظهرت لنا آفاق جمالية نتذوق فيها‬
‫سحر البيان ‪ (( ،‬وإن من البيان لسحراً )) ‪.‬‬
‫وسوف أقف في الصفحات التالية عند واحد من تلك األحاديث النبوية البليغة ‪ ،‬وأتتبع‬
‫دالالته المعنوية القريبة والبعيدة فيه ‪ ،‬وأنظر في سياقاته الجمالية ؛ ألصل إلى بعض عطاءاته ‪.‬‬
‫شبِّه المؤمنين بالجسد الواحد ‪.‬‬
‫هذا الحديث هو الحديث النبوي الشريف ‪ ،‬الذي يُ َ‬
‫فق د ج اء في الص حيحين عن النعم ان بن بش ير ‪ ‬ق ال ‪ :‬ق ال رس ول اهلل ‪َ (( : ‬مثَ ُل‬

‫‪25‬‬
‫اعى لَ هُ َس ائُِر‬ ‫س ِد إِذَا ا ْشتَ َكى ِم ْنهُ ُع ْ‬
‫ض ٌو تَ َد َ‬ ‫ِ‬ ‫ِّهم وَتر ِ‬
‫احم ِهم َوَت َعاطُف ِهم ؛ َمثَ ُل َ‬
‫الج َ‬
‫ِ‬
‫ين في َت َواد َ َ ُ‬
‫ِِ‬
‫الم ْؤمن َ‬
‫ُ‬
‫الح َّمى ))(‪. )1‬‬ ‫س ِد بِ َّ‬
‫الس َه ِر َو ُ‬ ‫الج َ‬
‫َ‬
‫دراسة‪:‬‬
‫وإذا تأملنا في هذا الحديث فإننـا نجد أنه يثير فينا قضيتين هما‬
‫الحديث‬
‫أ ‪ -‬قضية اللغة ‪ ،‬ب ـ قضية التمثيل ‪.‬‬
‫قضية‬ ‫‪َ - 1‬مثَل ‪:‬‬
‫الم ْثـل والمثـلاللغةأن ِ‬
‫الم ْثـلين ما تكافآ في الذات ‪،‬‬ ‫قال أبو هالل العسكري ‪ ( :‬الفرق بين ِ‬
‫ََ‬
‫المَّت ُقو َن ‪ ، )2(‬أي ص فة‬ ‫والمثـل بالتحريك ‪ :‬الصفة ‪ ،‬قال اهلل تعالى ‪  :‬مثَل ِ َِّ ِ‬
‫الجنَّة التي ُوع َد ُ‬
‫َ ُ َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬
‫الجن ة ‪ . . .‬وق ال اهلل تع الى ‪َ  :‬ك َمثَ ِل الح َم ا ِر يَ ْح ِم ُل أ ْ‬
‫(‪)3‬‬
‫َس َفاراً ‪ ، ‬وح املو الت وراة ال‬
‫يماثلون الحمار ‪ ،‬ولكن َج َمعهم وإياه صفة فاشتركوا فيها ‪. )4() .‬‬
‫وعلى هذا جاءت (( َمثـَل )) ‪ ،‬لتفيد أن صفة المؤمنين كالجسد ‪ ،‬بمعنى أنهم ليسوا نظير‬
‫الجسد في كل شيء ‪ ،‬وإنما في تواده وتراحمه وتعاطفه‬
‫‪ - 2‬ألف المشاركة ( المفاعلة ) ‪:‬‬
‫إن م ا يلفت االنتب اه في التمثي ل في ه ذا الح ديث الش ريف ؛ أ َّ‬
‫َن المماثل ة ك انت في ‪:‬‬
‫(( ت وادهم وت راحمهم وتع اطفهم )) ومعل وم أن ه ذه األل ف تفي د ح دوث الفع ل من اث نين أو‬
‫مد يده لمصافحة اآلخر ‪ ،‬وكذا‬‫أكثر ‪ ،‬كقولنا ‪ :‬تصافح الرجالن ‪ ،‬بمعنى أن كل واحد منهما َّ‬
‫قولنا ‪ :‬تصالح القوم ‪ ،‬بمعنى أن التصالح في القوم قد وقع من كل فرد ومخاصمه ‪ ،‬ومن كل‬
‫فرقة ومبغضتها ‪ ،‬ولوال ذلك لفقد التصالح معناه ‪.‬‬
‫ق ال ابن قتيب ة ‪ -‬رحم ه اهلل ‪ ( : -‬ت أتي تف اعلت من اث نين بمع نى افتعلت ‪ ،‬تق ول ‪:‬‬
‫(( تض اربنا )) بمع نى اض طربنا ‪ ،‬و (( تقاتلن ا )) بمع نى اقتتلن ا ‪ ،‬و (( تجاورن ا )) بمع نى‬
‫اجتورنا ‪. )5() .‬‬
‫التواد والتراحم والتعاطف بهذه الصيغة ‪ (( :‬تفاعل )) ‪ ،‬جاءت لتؤكد ضرورة‬
‫ِّ‬ ‫فصفات‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح البخاري مع الفتح ‪ ( :‬ج‪ / 10‬كتاب األدب ‪ ، 27 -‬رقم ‪ ، ) 6011‬وصحيح‬
‫مسلم بشرح النووي ‪ ( :‬ج‪ / 16‬كتاب البر والصلة ‪ ، 140 /‬ورقم الحديث في الباب ‪66‬‬
‫)‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() من سورة الرعد ‪ ( :‬اآلية ‪) 35 /‬‬
‫‪3‬‬
‫() من سورة الجمعة ‪ ( :‬اآلية ‪) 5 /‬‬
‫‪4‬‬
‫() الفروق اللغوية ‪. 127 ، 126 /‬‬
‫‪5‬‬
‫() أدب الكاتب ‪ ( :‬كتاب األبنية ‪) 358 /‬‬
‫‪26‬‬
‫أن تنطلق تلك الصفات من كل فرد في مجتمع اإليمان تجاه إخوانه ‪ ،‬وتتوجه كل جماعة‬
‫بهذه المعاني إلى أختها ‪ ،‬فال تقتصر هذه المعاني على طائفة تتمثل بها وحدها ‪ ،‬في حين ال‬
‫يشعر اآلخرون في مجتمع اإليمان بهذه المعاني ‪ ،‬وال يلقون لها باالً ‪ ،‬فض الً عن أن يضمروا‬
‫العداء واالستعالء ‪.‬‬
‫وعلى هذا تظهر أهمية هذه الصيغة في تلك المعاني ‪ ،‬لتجعل المؤمنين جميعاً كالجسد ‪.‬‬
‫‪ - 3‬التواد ‪:‬‬
‫قال ابن فارس ‪ -‬رحمه اهلل ‪َ ( : -‬و َّد ‪ :‬الواو والدال ‪ :‬كلمة تدل على محبة ‪َ .‬و ِد ْدتُه ‪:‬‬
‫فالوتِد )(‪. )6‬‬ ‫ِ‬
‫الو ُّد ‪َ :‬‬
‫أحببتُه ‪ .‬وود ْدت أن ذاك كان ‪ ،‬إذا تمنيته ‪ . . .‬فأما َ‬
‫وقال الراغب األصفهاني ‪ -‬رحمه اهلل ‪ ( : -‬ودد ‪ :‬الود محبة الشيء ‪ ،‬وتمني كونه ‪،‬‬
‫والو ُّد ‪ :‬صنم ُس ِّم َي بذلك ‪ ،‬إما لمودتهم له ‪ ،‬أو‬
‫ويستعمل في كل واحد من المعنيين ‪َ . . .‬‬
‫الوتِد )(‪. )7‬‬
‫والو ُّد ‪َ :‬‬
‫العتقادهم أن بينه وبين الباري مودة ‪ -‬تعالى اهلل عن القبائح ‪َ -‬‬
‫ومن هن ا فق د ك ان التعب ير به ذه اللفظ ة كي ت دل على ه ذه المع اني مجتمع ة في مجتم ع‬
‫الحي ‪ .‬فمعنى الحب واضح في حب المؤمن ألخيه‬
‫اإليمان ‪ ،‬حتى يك ون كالجسد الواحد ّ‬
‫المؤمن ما يحبه لنفسه في صورة نادرة ‪ ،‬ألن إيمان المؤمن ال يكمل إال بهذه المحبة ‪.‬‬
‫قال رسول اهلل ‪ (( : ‬ال يؤمن أحدكم حتى يحب ألخيه ما يحب لنفسه ‪. )8()) .‬‬
‫جلي إذ يتمنى كل مؤمن ألخيه ما يتمنى لنفسه من اآلمال واألماني ‪ ،‬بل‬
‫ومعنى التمني ّ‬
‫وي ؤثره على نفس ه في ص ورة عجيب ة ‪ ،‬وه و م ا امت دح اهلل س بحانه ب ه المؤم نين بقول ه ‪ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اصةٌ ‪. )9(‬‬
‫ص َ‬‫َو ُي ْؤث ُرو َن َعلَى أَْن ُفس ِه ْم َولَو َكا َن بِ ِه ْم َخ َ‬
‫الوتِ د ألخيه المؤمن يشد من أزره ويقويه ‪،‬‬ ‫الوت د نجده في كون المؤمن بمثابة َ‬
‫ومعنى ِ‬
‫َ‬
‫ويثبته على الحق حتى يغدو هذا المجتمع كالطود الشامخ في وجه األعاصير ‪ ،‬وهو ما أشار‬
‫إليه الرسول الكريم ‪ ‬بقوله ‪ (( :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ))(‪. )10‬‬
‫‪ )( 6‬معجم مقاييس اللغة ‪ ( :‬ج‪ / 6‬كتاب الواو )‬
‫‪ )( 7‬مفردات الراغب ‪ /‬باب الواو ‪.‬‬
‫‪ )( 8‬صحيح البخاري مع الفتح ‪ ( :‬ج‪ / 1‬إيمان ــ ‪ ، 7‬رقم ‪ ، ) 13‬وصحيح مسلم بشرح النووي ‪ ( :‬ج‬
‫‪ / 2‬إيمان ‪ ،‬ص ‪ ، 16‬رقم ‪) 71‬‬
‫‪ )( 9‬من سورة الحشر ‪ ( :‬اآلية ‪ . ) 9 :‬وانظر إلى قصة تآخي سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن‬
‫عوف رضي اهلل عنهما ‪.‬‬
‫‪ )( 10‬صحيح البخاري مع الفتح ‪ / 10 ( :‬كتاب األدب ــ ‪ ، 36‬رقم ‪ ، ) 6026‬وصحيح‬
‫‪27‬‬
‫الو ّد ‪ ،‬وهو الصنم الذي عبده المشركون من دون اهلل لمودتهم إياه ‪ ،‬فإن هذه‬
‫أما معنى َ‬
‫المحب ة ت برز عن د الم ؤمن ‪ ،‬وت زداد تج اه خالق ه س بحانه ‪ ،‬ح تى إذا أحب خالق ه ه ذا الحب‬
‫الب الغ ‪ ،‬أحب أحباب ه المؤم نين من أجل ه ‪ ،‬ليق وم مجتم ع اإليم ان على أرقى درج ات الحب ‪.‬‬
‫اهلل أَنْ َداداً ي ِحبُّو َنهم َكح ِّ ِ َّ ِ‬
‫ون ِ‬‫َّخ ُذ ِمن ُد ِ‬
‫َّاس من َّيت ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُ وا‬ ‫ين َ‬‫ب اهلل َوالذ َ‬ ‫ُ ُْ ُ‬ ‫قال اهلل تعالى ‪َ  :‬وم َن الن ِ َ‬
‫أَ َش ُّد حباً ِ‬
‫هلل ‪. )11(‬‬ ‫ُّ‬
‫الم َود َِّة‬ ‫ِ‬
‫س ر ‪ُ  :‬ت ْل ُق و َن إِلَي ِهم ب َ‬
‫ج اء في الق اموس المحي ط ‪ ( :‬والم ودة ‪ :‬الكت اب وب ه فُ ِّ‬
‫‪ )12(‬أي بالكتب )(‪. )13‬‬
‫فمعنى الكتاب هذا نجده متوفراً في أمة اإليمان التي يجمعها التواد ‪ ،‬وذلك في اجتماع‬
‫المؤمنين على الخير ‪ ،‬وتالحم صفوفهم ‪ ،‬وقوة وحدتهم ‪ ،‬بحيث يغدون كالكتاب الذي ما‬
‫وض َّم بعض ها إلى بعض في‬
‫ُس ِّم َي ب ذلك إال الجتم اع حروف ه وكلمات ه وعبارات ه بين دفتي ه ‪ُ ،‬‬
‫تناسق وانسجام ‪.‬‬
‫ج اء في معجم مق اييس اللغ ة ‪ (( ( :‬كتب )) ‪ :‬الكاف والت اء والب اء أص ل صحيح واحد‬
‫(‪)14‬‬
‫يدل على جمع شيء إلى شيء من ذلك الكتاب والكتابة ‪) .‬‬
‫وجاء في لسان العرب ‪ ( :‬وأما قول الشاعر أنشده ابن األعرابي ‪:‬‬
‫جم وم ِ‬
‫الج راء َوقاح اً‬ ‫ددت للح ِ‬
‫رب‬ ‫ُ‬ ‫وأع‬
‫َ َ‬
‫(‪)15‬‬
‫ودودا‬ ‫ةً‬ ‫َخ ْيفان‬
‫ج‬
‫قال ابن سيده ‪ :‬معنى قوله ودوداً أنها باذلة ما عندها من الجري ‪ ،‬ال يصح قوله ودوداً‬
‫إال على ذلك ‪ ،‬ألن الخيل بهائم والبهائم ال ود لها في غير نوعها )(‪. )16‬‬
‫ف إذا ك انت الف رس ال ودود هي ال تي تب ذل جه دها جري اً ‪ ،‬ف إن الم ؤمن أولى ‪ ،‬وه ذا م ا‬

‫مسلم بشرح النووي ‪ ( :‬ج‪ / 16‬كتاب البر والصلة ‪ ،‬ص ‪ ، 139‬رقم ‪) 65‬‬
‫‪ )( 11‬من سورة البقرة ‪ ( :‬اآلية ‪) 165 /‬‬
‫‪ )( 12‬من سورة الممتحنة ‪ ( :‬اآلية ‪) 4 /‬‬
‫‪ )( 13‬الفيروز آبادي ‪ ،‬باب الدال ‪ ،‬فصل الواو ‪.‬‬
‫‪ )( 14‬ابن فارس ‪. 5/158 :‬‬
‫‪ )( 15‬الخيفانة ‪ :‬المقصود بها الفرس ‪ .‬الجموم ‪ :‬التي إذا ذهب عنها جري جاءها جري آخر ‪.‬‬
‫الوَقاح ‪ :‬الصلب ‪.‬‬
‫‪ )( 16‬ابن منظور ‪ ( :‬ج‪ ، ) 454 ، 453 / 3‬مادة ( ودد) ‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫نجده في تواد المؤمنين حيث يبذل المؤمن وسعه في خدمة إخوانه ‪ ،‬ويسعى في مصالحهم ‪،‬‬
‫وتخفي ف آالمهم ‪ ،‬كم ا أخ بر ب ذلك رس ول اهلل ‪ ‬حيث ق ال ‪ (( :‬من مش ى في حاج ة أخي ه‬
‫كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين ‪ ،‬ومن اعتكف يوم اً ابتغاء وجه اهلل جعل اهلل بينه وبين‬
‫النار ثالثة خنادق ‪ ،‬كل خندق أبعد مما بين الخافقين ))(‪. )17‬‬
‫وهك ذا لم ا ب رزت في كلم ة (( ت وادهم )) ك ل تل ك المع اني الس امية ‪ ،‬فق د اختاره ا‬
‫الرسول ‪ ‬دون سواها ‪ ،‬لتمثل حال المؤمنين بالجسد ‪.‬‬
‫‪ - 4‬التراحم ‪:‬‬
‫ج اء في معجم مق اييس اللغ ة ‪ (( ( :‬رحم )) ال راء والح اء والميم أص ل واح د ي دل على‬
‫(‪)18‬‬
‫الرقة والعطف والرأفة ‪) .‬‬
‫وج اء في الق اموس المحي ط ‪ (( ( :‬الرحم ة )) ويح رك ‪ :‬الرق ة والمغف رة والتعط ف ‪،‬‬
‫(‪)19‬‬
‫كالمرحمة ‪) .‬‬
‫وق ال النيس ابوري ‪ -‬رحم ه اهلل ‪ ( : -‬الرحم ة هي ت رك عقوب ة من يس تحقها ‪ ،‬أو إرادة‬
‫الخير ألهله )(‪. )20‬‬
‫مما تقدم يتضح أن الرحمة تشتمل على ‪ :‬الرقة ‪ ،‬والرأفة ‪ ،‬والمغفرة ‪ ،‬وترك العقوبة ‪،‬‬
‫وإرادة الخير ‪ .‬فمعنى الرقة واضح في لين جانب المؤمنين مع بعضهم بعض اً ‪ ،‬حتى يصيروا‬
‫كالجسد الواحد ‪ ،‬ألن األشياء الرقيقة المطواعة حين تجتمع إلى بعضها تلين وتلتصق حتى‬
‫تغدو كتلة واحدة ‪ ،‬لشدة تالحمها وتماسكها ‪ .‬فالمؤمن يلين بأيدي إخوانه كما قال ‪(( : ‬‬
‫ولِينوا بأيدي إخوانكم ‪ ، )) .‬كما يذل لهم ويتواضــع ‪ ،‬كما في قوله سبحانه ‪  :‬أ َِذلَّ ٍة َعلَى‬
‫ك ِمن ِ ِ‬ ‫ض جنَاح َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين ‪. )22(‬‬ ‫ك ل َم ِن َّاتَب َع َ َ ُ‬
‫(‪)21‬‬
‫الم ْؤمن َ‬ ‫ين ‪ ، ‬وقوله ‪َ  : ‬وا ْخف ْ َ َ‬ ‫الم ْؤمن َ‬
‫ُ‬
‫جلي في الشفقة على الضعفاء والمساكين ‪ ،‬كما في قوله سبحانه ‪  :‬فَأ ََّمـا‬ ‫ومعنى الرأفة ٌّ‬

‫‪ )( 17‬رواه الطبراني في األوسط ‪ ،‬وإسناده جيد ‪ .‬مجمع الزوائد ‪ ( :‬ج‪) 195 / 8‬‬
‫‪ )( 18‬ابن فارس ‪ ( :‬ج‪) 498 / 2‬‬
‫‪ )( 19‬الفيروز آبادي ‪ ( :‬ج‪) 119 / 4‬‬
‫‪)( 20‬‬
‫غرائب القرآن ورغائب الفرقان ‪ ( :‬ج‪) 75 / 1‬‬
‫‪ )( 21‬من سورة المائدة ‪ ( :‬اآلية ‪) 54 /‬‬
‫‪ )( 22‬من سورة الشعراء ‪ ( :‬اآلية ‪) 215 /‬‬
‫‪29‬‬
‫السائِ َل فَالَ َت ْن َهر ‪ ، )23(‬وإذا استقرت هذه الرأفة في مجتمع اإليمان ‪،‬‬
‫يم فَالَ َت ْق َهر َوأ ََّما َّ‬‫ِ‬
‫اليَت َ‬
‫رفعت صاحبها إلى رتبة المجاهد ‪ ،‬أو القائم الصائم ‪ ،‬وبذلك أخبر رسول الهدى ‪ ‬بقوله ‪:‬‬
‫(( الس اعي على األرمل ة والمس كين كالمجاه د في س بيل اهلل تع الى ‪ ،‬أو الق ائم اللي ل الص ائم‬
‫النهار ))(‪. )24‬‬
‫ومع نى المغفرة وت رك العقوب ة ‪ ،‬نج ده في العف و والص فح اللَّذيْن تمت از بهم ا أم ة اإليمان‬
‫حتى مع القدرة على االنتقام ‪ ،‬ولو في ساعات الغضب ‪ ،‬وهو الوصف الذي امتدح اهلل به‬
‫ض بُوا ُهم َي ْغ ِف ُرو َن ‪‬‬
‫احش وإِ َذا ما غَ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين يَ ْجتَنبُو َن َكبَائ َر ا ِإلثْ ِم َوال َف َو َ َ َ‬
‫(‪)25‬‬
‫المؤمنين بقوله ‪َ  :‬والذ َ‬
‫ك لَ ِم ْن َع ْزِم األ ُُم ور ‪ ، )26(‬وقول ه ع ز ش أنه ‪ :‬‬ ‫ص َب َر َوغَ َف َر إِ َّن َذلِ َ‬
‫‪ ،‬وقول ه ‪َ  : ‬ولَ َمن َ‬
‫ين ‪ ، )27(‬كما أن هذا المعنى يبرز‬ ‫ِِ‬ ‫َّاس َواهللُ يُ ِح ُّ‬
‫ين َع ِن الن ِ‬ ‫ظو ِ‬ ‫ِِ‬
‫الم ْحسن َ‬
‫ب ُ‬ ‫العاف َ‬
‫ين الغَي َ َ َ‬
‫َوال َكاظم َ‬
‫كل من يعفو ويصفح بقوله ‪ (( :‬وما زاد اهلل عبداً بعفو‬ ‫لبلوغ العزة التي وعد بها الرسول ‪َّ ‬‬
‫(‪)28‬‬
‫إال عزاً ‪)) .‬‬
‫ومعنى إرادة الخير نراه في تقديم كل نافع ومفيد ‪ ،‬تحقيق اً لقوله ‪ (( : ‬من َن َّفس عن‬
‫س َر على ُم ْع ِس ر‬‫مؤمن كربة من كرب الدنيا َن َّفس اهلل عنه كربة من كرب يوم القيامة ‪ ،‬ومن يَ َّ‬
‫يس ر اهلل علي ه في ال دنيا واآلخ رة ))(‪ ، )29‬ون راه في اإلمس اك عن الش ر ‪ ،‬كم ا في قول ه ‪: ‬‬
‫(( على كل مسلم صدقة ‪ .‬قالوا ‪ :‬فإن لم يجد ؟ قال ‪ :‬فيعمل بيديه ‪ ،‬فينفع نفسه ويتص دق ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فإن لم يستطع ‪ ،‬أو لم يفعل ؟ قال ‪ :‬فيعين ذا الحاجة الملهوف ‪ .‬قالوا ‪ :‬فإن لم يفع ل‬
‫؟ ق ال ‪ :‬فلي أمر ب الخير ‪ ،‬أو ق ال ب المعروف ‪ .‬ق الوا ‪ :‬ف إن لم يفع ل ؟ ق ال ‪ :‬فليمس ك عن‬
‫الشر ‪ ،‬فإنه له صدقة ))(‪. )30‬‬
‫وجاء في (( مفردات الراغب )) ‪ ( :‬والرحمة رقة تقتضي اإلحسان إلى المرحوم )(‪. )31‬‬

‫‪ )( 23‬من سورة الضحى ‪ ( :‬اآليتان ‪) 10 /، 9 /‬‬


‫‪ )( 24‬صحيح البخاري مع الفتح ‪ ( :‬ج‪ / 9‬نفقات ــ ‪ ، 1‬رقم ‪ ،) 5353‬ومسلم ‪ ( :‬زهد ‪/‬‬
‫‪. ) 41‬‬
‫‪ )( 25‬من سورة الشورى ‪ ( :‬اآلية ‪) 37 /‬‬
‫‪ )( 26‬من سورة الشورى ‪ ( :‬اآلية ‪) 43 /‬‬
‫‪ )( 27‬من سورة آل عمران ‪ ( :‬اآلية ‪) 134 /‬‬
‫‪ )( 28‬صحيح مسلم بشرح النووي ‪ ( :‬ج‪ / 16‬كتاب البر والصلة ‪ ،‬ص ‪ ، 141‬رقم ‪) 69‬‬
‫‪ )( 29‬أخرجه مسلم ‪. ) 2699 ( :‬‬
‫‪ )( 30‬صحيح البخاري مع الفتح ‪ ( :‬ج‪ / 10‬كتاب األدب ‪ ، 33 -‬رقم ‪) 6022‬‬
‫‪ )( 31‬مفردات الراغب ‪. 192 /‬‬
‫‪30‬‬
‫وعلى هذا فالرحمة تقتضي اإلحسان ‪ ،‬وهذا المعنى متوفر في أمة اإليمان ‪ ،‬حيث يسعد‬
‫المؤمن غاية السعادة حين يحسن إلى إخوانه مدفوعاً بإيمانه ‪ ،‬ويشعر بالتقصير أمام كل ما‬
‫يقدمه مهما عظم ‪.‬‬
‫ج اء في كت اب (( اإلحي اء )) ‪ ( :‬ق ال أب و س ليمان ال داراني ‪ :‬ل و أن ال دنيا كله ا لي ‪،‬‬
‫فجعلتها في فم أخ من إخواني الستقللتها له ‪ ،‬وإني أللقم اللقمة أخاً من إخواني فأجد طعمه ا‬
‫في حلقي )(‪. )32‬‬
‫ف إذا عم اإلحس ان أه ل اإليم ان به ذه الطريق ة العجيب ة ‪ ،‬ت آلفت القل وب على حب من‬
‫أحسن إليها ‪ ،‬وتحولت األمة إلى جسد واحد في سرائها وفي ضرائها ‪ ،‬قال أبو الفتح البُستي‬
‫‪:‬‬
‫فلطــالما اس تعب َد‬ ‫أحس ْن إلى الن ِ‬
‫اس‬
‫ا ُن‬ ‫ا َن إحس‬ ‫اإلنس‬ ‫وب ُه ُم‬
‫َ‬ ‫تعب ْد ُقلُ‬ ‫تس‬
‫ج‬
‫‪ - 5‬التعاطف ‪:‬‬
‫ق ال ابن ف ارس ‪ ( :‬والرج ل يعط ف الوس ادة ‪ :‬يثنيه ا عطف اً إذا ارتف ق به ا ‪ . . ،‬وال رداء‬
‫نفسه عطاف )(‪. )33‬‬
‫وجاء في مجمل اللغة ‪ِ ( :‬‬
‫والعطْفة ‪ :‬خرزة كان نساؤهم ُي َؤ ِّخ ْذ َن بها الرجال )(‪. )34‬‬
‫وقال الراغب في المفردات ‪ ( :‬ويقال ‪ :‬ثنى ِعطفه إذا أعرض وجفا نحو ‪ :‬نأى بجانبه ‪،‬‬
‫وصعر بخده ‪ ،‬ويستعار للميل والشفقة إذا عُ ّدي بعلى ‪ ،‬يقال ‪ :‬عطف عليه ‪ ،‬وظبية عاطفة‬
‫َّ‬
‫ِّي بعن يكون على الضد نحو ‪ :‬عطفت عن فالن )(‪. )35‬‬
‫على ولدها ‪ ،‬وإذا عُد َ‬
‫وقال صاحب اللسان ‪ ( :‬ورجل عاطف وعطوف ‪ :‬عائد بفضله حسن الخلق ‪. )36() .‬‬
‫ه ذه المع اني مجتمع ة نج دها متمثل ة في أم ة اإليم ان ؛ فمع اني الرف ق والش فقة والحن و‬

‫‪ )( 32‬اإلحياء ألبي حامد الغزاليـ ‪ ( :‬ج‪) 153 / 3‬‬


‫‪ )( 33‬معجم مقاييس اللغة ‪ ( :‬ج‪) 351 / 4‬‬
‫‪ )( 34‬ابن فارس ‪ ( :‬ج‪ .) 674 / 3‬والمعنى ‪ :‬يحتلن لألزواج بحيلة أو سحر ‪ ،‬فيعاقوا عن‬
‫معاشرة غيرهن ‪.‬‬
‫انظر ‪ :‬لسان العرب ‪ ، 3/472‬مادة ‪( :‬أخذ) ‪ .‬التحرير ‪.‬‬
‫‪ )( 35‬مفردات الراغب ‪. 338 /‬‬
‫‪ )( 36‬ابن منظور ‪ ( :‬ج‪) 249 / 9‬‬
‫‪31‬‬
‫مس هم بعض‬
‫نج دها في أبهى حلله ا حين يمتلئ قلب الم ؤمن ش فقة وحن واً على إخوان ه إذا َّ‬
‫الضر ‪ ،‬فال تهدأ نفسه حتى يقدم ما في وسعه لكشف ما نزل بإخوانه ‪ .‬تحقيق اً لما روي عنه‬
‫‪ (( : ‬من أص بح وهم ه ال دنيا فليس من اهلل في ش يء ‪ ،‬ومن لم يهتم ب أمر المس لمين فليس‬
‫منهم ))(‪. )37‬‬
‫وإذا كانت الظبية تعطف على ولدها ‪ ،‬فالعطف إذن عطف األمهات على األبناء ‪ ،‬وهكذا‬
‫يستشعر كل مؤمن أن عليه أن يرتفق بإخوانه ‪ ،‬ويحنو عليهم كحنو األمهات على أبنائهن ‪.‬‬
‫فما أجملها من شفقة ‪ ،‬وما أروعه من حنان !‬
‫أم ا مع نى ال رداء ‪ ،‬فإنن ا نلمس ه في مجتم ع اإليم ان ‪ ،‬وذل ك حين يعط ف الم ؤمن على‬
‫أخي ه ‪ ،‬فيلف ه بحنان ه وإحس انه ‪ ،‬فيس تر عورات ه ‪ ،‬ويخفي معايب ه ‪ ،‬وي دفع عن ه الض ر واألذى‬
‫تماماً مثلما يفعل المعطف بصاحبه إذ يستر عورته ‪ ،‬ويرد عنه غائلة البرد ‪ ،‬ويحميه من لفح‬
‫صوره المولى ‪ ‬حين تحدث عن أوثق‬ ‫حرارة الشمس ‪ ،‬وهذا المعنى الراقي في التعاطف َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس لَ ُك ْم َوأَْنتُ ْم لبَ ٌ‬
‫اس‬ ‫عالقة تجمع بين اثنين ‪ ،‬وهي العالقة الزوجية حيث قال تعالى ‪ُ  :‬ه َّن لبَ ٌ‬
‫لَ ُه َّن ‪ ، )38(‬فما أروعه من تصوير !‬
‫ِّي العط ف بعن ‪ ،‬فإن ه أيض اً مت وفر في أم ة اإليمـان ‪،‬‬
‫أم ا مع نى التك بر واإلع راض إذا عُ د َ‬
‫وذلك ‪.‬‬
‫حين ي ترفع الم ؤمن على الباط ل وأهل ه ‪ ،‬ويس تعلي على المنك ر وأتباع ه ‪ ،‬وجن ده‬
‫ات ِ‬
‫اهلل‬ ‫اب أَ ْن إِ َذا س ِم ْعتُم آي ِ‬ ‫وأنص اره ‪ ،‬امتث االً لقول ه س بحانه ‪  :‬وقَ ْد َن َّزل َعلَي ُكم في ِ‬
‫الكتَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫يُ ْك َف ُر بِ َها َويُ ْسَت ْه َزأُ بِ َها فَالَ َت ْقعُ ُدوا َم َع ُه ْم َحتَّى يَ ُخ ُ‬
‫وضوا في َحديث غَي ِره إِنَّ ُك ْم إِ ًذا م ْثلُ ُه ْم إِ َّن اهللَ‬
‫َّم َج ِميعاً ‪. )39(‬‬ ‫ِ‬ ‫ج ِامع ِ ِ‬
‫ين في َج َهن َ‬ ‫ين َوال َكاف ِر َ‬ ‫المنَافق َ‬‫َ ُ ُ‬
‫ونج ده ك ذلك إذا ظه ر االنح راف في بعض أف راد أم ة اإليم ان أو جماعات ه ‪ ،‬ولم تنف ع‬
‫معهم ك ل وس ائل اإلقن اع الحكيم ة الرش يدة ‪ ،‬ف إن التع اطف م ع ه ؤالء إنم ا يك ون‬
‫بمحاص رتهم ‪ ،‬وتض ييق الخن اق عليهم ‪ ،‬ومق اطعتهم ش فقة عليهم ‪ ،‬ح تى يثوب وا إلى رش دهم‬

‫‪ )( 37‬رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد ‪ ( :‬ج‪ ، ) 251 / 10‬وللحديث ما يرتفع‬


‫بدرجته من رواية الحاكم عن ابن مسعود بلفظ قريب كما في جامع األحاديث للسيوطي‬
‫‪ ( :‬ج‪. ) 102 / 6‬‬
‫‪ )( 38‬من سورة البقرة ‪ ( :‬اآلية ‪) 187 /‬‬
‫‪ )( 39‬من سورة النساء ‪ ( :‬اآلية ‪. ) 140 /‬‬
‫‪32‬‬
‫امتث االً لقول ه ‪ (( : ‬لم ا وقعت بن و إس رائيل في المعاص ي نهتهم علم اؤهم فلم ينته وا ‪،‬‬
‫فجالس وهم في مجالس هم ‪ ،‬وواكل وهم وش اربوهم ‪ ،‬فض رب اهلل قل وب بعض هم ببعض ‪،‬‬
‫ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ‪ ،‬فجلس رسول اهلل‬
‫‪ ، ‬وكان متكئاً فقال ‪ :‬ال والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً ))(‪ [ . )40‬قوله‬
‫تأطروهم ‪ :‬أي تعطفوهم ](‪. )41‬‬
‫وعطاف ‪ ،‬يحمي المنهزمين ‪ ... ،‬وربما عطفوا‬ ‫وقال صاحب اللسان ‪ ( :‬رجل عطوف ِ‬
‫ع دة َذ ْود على فص يل واح د ف احتلبوا ألب انهن على ذل ك لي د ِر ْرن ‪ . . . ،‬والعط وف ‪ :‬المحب ة‬
‫(‪)42‬‬
‫لزوجها ‪ ،‬وامرأة عطيف ‪ :‬هينة لينة ذلول مطواع ال كِ ْبر لها ‪) .‬‬
‫وهذه المعاني متوفرة في أمة اإليمان ‪ .‬فمعنى اللين والمطاوعة واضح إذ يطاوع المؤمن‬
‫أخاه في آرائه وأفكاره ‪ ،‬بل ويتنازل عن ذلك كله دفع اً لمفسدة أكبر ‪ ،‬في قضايا تستوجب‬
‫توحيد اآلراء فيها ‪ ،‬خوف اً من أن ينمو الخالف ويشتد ‪ ،‬وهذا ما أشار إليه الرسول الكريم‬
‫‪ ‬بقوله ‪ (( :‬المؤمنون َهِّينُو َن لَِّينُو َن كالجمل األَنِف ‪ ،‬إن قيد انقاد ‪ ،‬وإذا أنيخ على صخرة‬
‫استناخ ))(‪ ، )43‬وهذه المطاوعة آكد في حق الداعين إلى اهلل سبحانه ‪ ،‬ألنهم قدوة هذه األمة‬
‫‪ .‬ل ذا فقد أوصى بها رس ول اهلل ‪ ‬سيدنا معاذ بن جبل وسيدنا أبا موسى األشعري عندما‬
‫وبش را وال تنفرا ‪ ،‬وتطاوعا‬
‫تعس را ّ‬
‫يس را وال ّ‬
‫داعي ْين إلى اليمن حيث قال لهما ‪ّ (( :‬‬
‫أرسلهما َ‬
‫وال تختلفا ))(‪. )44‬‬
‫ومع نى الحماي ة نج ده م اثالً في حي اة المؤم نين إذ يحمي بعض هم بعض اً ‪ ،‬ف ُّ‬
‫يرد عن ه قال ة‬
‫الس وء ‪ ،‬وي دفع عن ه ش ر االعت داء ‪ ،‬وينص ره وال يخذل ه في مواق ف الش دة والب أس ‪ ،‬امتث االً‬
‫ض ‪ ، )45(‬ولقول ه ‪: ‬‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِيَ اءُ َب ْع ٍ‬ ‫الم ْؤ ِمنَ ُ‬
‫ات َب ْع ُ‬ ‫لقول ه س بحانه ‪  :‬و ِ‬
‫الم ْؤمنُ و َن َو ُ‬
‫َ ُ‬
‫(( المسلم أخو المسلم ال يظلمه وال يُ ْسلِمه ‪ )46()) ...‬الحديث ‪.‬‬

‫‪ )( 40‬رواه أبو داود ‪ ، ) 4366 ( :‬والترمذي ‪ ، ) 3050 ( :‬وابن ماجه ‪. ) 4006 ( :‬‬
‫‪ )( 41‬النهاية في غريب الحديث واألثر ‪ ( :‬ج‪. ) 53 / 1‬‬
‫‪ )( 42‬ابن منظور ‪ ( :‬ج‪. ) 250 ، 249 / 9‬‬
‫‪ )( 43‬حديث حسن رواه البيهقي في شعب اإليمان عن ابن عمر كما في صحيح الجامع الصغير ‪ ( :‬ج‬
‫‪ ، 2/1132‬رقم ‪) 6669‬‬
‫‪ )( 44‬صحيح البخاري مع الفتح ‪ ( :‬ج‪ / 6‬كتاب الجهاد ــ ‪ ، 64‬رقم ‪ ، ) 3038‬وصحيح‬
‫مسلم بشرح النووي ‪ ( :‬ج‪ / 12‬كتاب الجهاد ‪ ،‬ص ‪ ، 41‬رقم ‪. ) 6‬‬
‫‪ )( 45‬من سورة التوبة ‪ ( :‬اآلية ‪) 71 /‬‬
‫‪ )( 46‬صحيح البخاري مع الفتح ‪ ( :‬ج‪ ، ) 71 ، 70 / 5‬ومسلم ‪. ) 2580 ( :‬‬
‫‪33‬‬
‫العطوف وهي المحبة لزوجها ‪ ،‬فإنه متوفر على أرقى صوره في مجتمع اإليمان ‪،‬‬
‫ومعنى َ‬
‫ألنه ال يمكن أن تتحقق لهذا المجتمع ألفته ووحدته إال في ظل هذا الحب العميق ‪ ،‬ليرقى‬
‫المؤمنون بهذا الحب إلى محبة اهلل إياهم ‪ ،‬كما أخبر بذلك الرسول الكريم ‪ ‬بقوله ‪ (( :‬ما‬
‫أشدهما حباً لصاحبه ))(‪. )47‬‬ ‫من رجلين تحابَّا في اهلل بظهر الغيب إال كان أحبَّهما إلى اهلل ُّ‬
‫أما المعنى الذي لحظناه من عطف عدة َذ ْو ٍد على فصيل واحد ليحتلبوا ألبانها وي ْد ِر ْرن ‪،‬‬
‫فهو في غاية الروعة في مجتمع اإليمان ‪ ،‬الذي يتعاطف ليبرز فيه هذا المعنى بحيث تنطمس‬
‫في ه ك ل مع اني العنصرية والقبلي ة والعص بية البغيض ة ‪ ،‬لق وم أو ل ون أو عش يرة ‪ ،‬فيك ون خ ير‬
‫المؤمن غير مخصوص على قرابته أو بني جنسه ‪ ،‬وإنما هو خير عام لكل أبناء اإليمان تمام اً‬
‫كم ا ت در الن وق وتُحتلب لفص يل واح د ‪ ،‬فتتع اطف مع ه ‪ ،‬وت در حليبه ا ‪ ،‬ح تى ول و لم يكن‬
‫فص يلها ‪ ،‬وه ذا م ا أش ار إلي ه الرس ول ‪ ‬بقول ه ‪ (( :‬لن تؤمن وا ح تى تراحم وا ‪ .‬ق الوا ‪ :‬ي ا‬
‫رس ول اهلل كلنا رحيم ‪ .‬قال ‪ :‬إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ‪ ،‬ولكنها رحمة الناس رحمة‬
‫العامة ))(‪. )48‬‬
‫فما أجمل اختيار كلمة (( تعاطفهم )) في هذا الحديث الشريف منه ‪!! ‬‬
‫‪ - 6‬اشتكى ‪:‬‬
‫جاء في معجم مقاييس اللغة ‪ ( :‬الشين والكاف والحرف المعتل أصل واحد يدل على‬
‫توجع من شيء )(‪. )49‬‬
‫وجاء في مفردات الراغب ‪ ( :‬والشكاية والشكاة والشكوى ‪ :‬إظهار ِّ‬
‫البث )(‪. )50‬‬
‫وجاء في النهاية في غريب الحديث واألثر ‪ ( :‬الشكو والشكوى والشكاة والشكاية ‪:‬‬
‫المرض )(‪. )51‬‬
‫وجاء في لسان العرب ‪ ( :‬قال الفراء ‪ :‬أشكى إذا صادف حبيبه يشكو ‪ ،‬وروى بعضهم‬

‫‪ )( 47‬رواه الطبراني في األوسط ‪ ،‬ورجاله رجال الصحيح ‪ ،‬غير المعافى بن سليمان وهو ثقة‬
‫‪ .‬مجمع الزوائد ‪ ( :‬ج‪ ، ) 279 /10‬وهو في صحيح الجامع الصغير بلفظ قريب ‪ ( :‬ج‪2‬‬
‫‪ ، 979 /‬رقم ‪. ) 5594‬‬
‫‪ )( 48‬رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ‪ .‬مجمع الزوائد ‪ ( :‬ج‪ ، ) 189 / 8‬وذكره ابن‬
‫حجر في الفتح مرفوعاً عن ابن مسعود ‪ ،‬وقال ‪ :‬أخرجه الطبراني ورجاله ثقات ‪ .‬فتح‬
‫الباري ‪ ( :‬ج‪. ) 438 / 10‬‬
‫‪ )( 49‬ابن فارس ‪ ( :‬ج‪. ) 207 / 3‬‬
‫‪ )( 50‬مفردات الراغب ‪. 266 /‬‬
‫‪ )( 51‬ابن األثير ‪ ( :‬ج‪ 497 / 2‬ــ شكا ) ‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫قول ذي الرمة يصف الربع ووقوفه عليه ‪:‬‬
‫ارهُ‬
‫ُ‬ ‫تُ َكلِّ ُمنِي أ ْ‬
‫َح َج‬ ‫وأُش كيه ‪ ،‬ح تى ك اد‬
‫وم ِ‬
‫العبُه‬ ‫ا أُبِثُّه‬ ‫مم‬
‫ََ‬
‫ج‬ ‫ج‬
‫ق الوا ‪ :‬مع نى أُش كيه أي ‪ :‬أُبِثّ ه ش كواي وم ا أكاب ده من الش وق إلى الظ اعنين عن الرب ع‬
‫شو َق ْتني معاهدهم فيه إليهم )(‪. )52‬‬
‫حتى َّ‬
‫فعلى هذا يكون معنى اشتكى هو ‪ :‬التوجع وإظهار ِّ‬
‫البث ‪ ،‬أو هو المرض نفسه ‪ ،‬أو هو‬
‫بث الشكوى من الشوق إلى الظاعنين عن الربع ‪ ،‬وهذه المعاني كلها إذا حصلت لعضو من‬
‫أعضاء جس د أم ة اإليم ان ‪ ،‬فرداً ك ان أو جماع ة أو بلداً في أمة اإلس الم ‪ ،‬فراح وا يظه رون‬
‫التوجع ‪ ،‬ويبثون أحزانهم إلخوانهم ‪ ،‬فإن األمة عندها تستجيب لهذه الشكاية ‪.‬‬
‫‪ - 7‬تداعى ‪:‬‬
‫ج اء في فتح الب اري ‪ ( :‬قول ه (( ت داعى )) أي ‪ :‬دع ا بعض ه بعض اً إلى المش اركة في‬
‫(‪)53‬‬
‫األلم ‪ ،‬ومنه قولهم ‪ :‬تداعت الحيطان أي ‪ :‬تساقطت أو كادت ‪) .‬‬
‫وفي لس ان الع رب ‪ ( :‬وفي الح ديث (( ت داعت عليكم األمم )) أي ‪ :‬اجتمع وا ودع ا‬
‫بعضهم بعضاً ‪ ...‬وتداعت إبل فالن فهي متداعية إذا تحطمت هزاالً ‪ .‬وقال ذو الرمة ‪:‬‬
‫ت ‪ ،‬وأ ْن أح نى‬
‫داع ْ‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫ت م ني أَ ْن َ‬
‫رأيت‬ ‫تباع ْد َ‬
‫ك قطيع‬ ‫علي‬ ‫تي‬ ‫َحمول‬
‫جج‬
‫ويق ال ‪ :‬ت داعت الس حابة ب البرق والرع د من ك ل ج انب إذا أرع دت وب رقت من ك ل‬
‫(‪)54‬‬
‫جهة ‪) .‬‬
‫مم ا تق دم يتض ح أن الت داعي يع ني ‪ :‬التجم ع ‪ ،‬واإلقب ال ‪ ،‬وال دعوة من ك ل ج انب‬
‫ووجهة ‪ ،‬وكذا ‪ :‬الهزال ‪ ،‬والضعف ‪ ،‬واالنهيار ‪.‬‬
‫وهـذه المعـاني موفورة في أمـة اإليمـان ‪ ،‬بحيث إذا نـزل أقل الضر بالمؤمن فاشتكى ‪ ،‬أو‬

‫‪ )( 52‬ابن منظور ‪ ( :‬ج‪. ) 440 / 14‬‬


‫‪ )( 53‬ابن حجر ‪ ( :‬ج‪) 439 / 10‬‬
‫‪ )( 54‬ابن منظور ‪ ( :‬ج‪) 262 / 14‬‬
‫‪35‬‬
‫حـل البالء بجزء من أمة اإليمان ‪ ،‬تجمع المؤمنون ‪ ،‬ودعا بعضهم بعض اً ‪ ،‬وأقبلوا مسرعين‬
‫كسرعة البرق المنطلق من السحابة ‪ِّ ،‬‬
‫لمد يَد العون ‪ ،‬والمشاركـة الصادقة الجادة ‪ ،‬بعيـداً عن‬
‫التمثي ل ال رخيص ‪ ،‬وإظه ار الحرق ة الكاذب ة ‪ ،‬الس تمالة العواط ف وكس ب المواق ف ‪ ،‬وإنم ا‬
‫كل ما وسعه حسب طاقته وقدرته ‪ ،‬حتى يتوفر ما يكفي لرفع البالء ‪ ،‬ورد االعتداء ‪.‬‬
‫ببذل ٍّ‬
‫وبذا تميزت أمة اإليمان من غيرها من الذين وصفهم اهلل سبحانه ‪ ،‬فذمهم على تقصيرهم‬
‫اض و َن َعلَى طَ َع ِام‬ ‫ِ‬
‫في تع اطفهم م ع إخ وانهم بقوله ‪َ  : ‬كالَّ بَ ل الَّ تُ ْك ِر ُم و َن اليَت َ‬
‫يم ‪َ ،‬والَ تَ َح ُّ‬
‫الم ْس ِكي ِن ‪ ، )55(‬حتى صار هذا الوصف خصيصة المكذبين بالدين ‪ ،‬كما أشار إلى ذلك‬ ‫ِ‬
‫ض َعلَى‬ ‫يم ‪َ ،‬والَ يَ ُح ُّ‬ ‫ِ‬ ‫َيت الَّ ِذي ي َك ِّذب بِال دِّي ِن ‪ ،‬فَ َذلِ َ َّ ِ‬
‫ك الذي يَ ُدعُّ اليَت َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫الح ق س بحانه ‪  :‬أ ََرأ َ‬
‫الم ْس ِكي ِن ‪. )56(‬‬
‫طَ َع ِام ِ‬
‫هك ذا إذن ت برز تل ك الص ورة المش رقة من الت آلف في أم ة اإليم ان ‪ ،‬إذا ن زل الب أس في‬
‫جانب من جوانبها ‪.‬‬
‫لكن ه ذه الص ورة المش رقة من التع اطف في أم ة اإليم ان إذا لم تج د طريقه ا لتوف ير م ا‬
‫يكفي لرف ع البالء ‪ ،‬ورد االعت داء ‪ ،‬لظ روف ص عبة تمر به ا األمة ‪ ،‬بس بب ت داعي أمم الكفر‬
‫عليها قاطبة ‪ ،‬كما تداعى األكلة إلى قصعتها ‪ ،‬فإنها عندئذ تنقلب كسيرة حسيرة ‪ ،‬ويعتريها‬
‫الحمولة أو اإلبل إذ تضمر ويصيبها‬
‫الهم والغم لما أصابها ‪ ،‬تمام اً كما تداعى الحيطان ‪ ،‬أو َ‬
‫الهزال ‪ ،‬ولعلها ال تستطيب طعاماً ‪ ،‬وال تستسيغ شراباً ‪ ،‬بل لعل البسمة ال تجد طريقها إلى‬
‫ثغرها حتى يزول الذي بها نزل ‪ ،‬وتعود العافية إلى كل البدن ‪.‬‬
‫الم ْح َل ع ام الرم ادة لظنن ا أن عم ر يم وت‬
‫ج اء في الطبق ات الك برى ‪ ( :‬ل و لم يرف ع اهلل َ‬
‫هماً بأمر المسلمين )(‪. )57‬‬
‫وجاء في ترجمة صالح الدين األيوبي ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬أثناء حروبه مع الصليبيين لتحرير‬
‫نزه المجالس عن الهزل ‪ ... ،‬ولم يكن‬
‫القــدس في سير أعالم النبـالء ‪ ( :‬قــال العماد ‪َّ ... :‬‬
‫لمزاح عنده نصيب )(‪. )58‬‬
‫لمبطل وال ّ‬
‫وجاء في كتاب ( صالح الدين األيوبي ) ‪ ( :‬قال صاحبه ومرافقه القاضي بهاء الدين بن‬
‫‪ )( 55‬من سورة الفجر ‪ ( :‬اآليتان ‪) 18 ، 17 /‬‬
‫‪ )( 56‬من سورة الماعون ‪ ( :‬اآليات ‪) 3 - 1 /‬‬
‫‪ )( 57‬ابن سعد ‪ ( :‬ج‪) 315 / 3‬‬
‫‪ )( 58‬شمس الدين الذهبي ‪ ( :‬ج‪) 288 ، 287 / 21‬‬
‫‪36‬‬
‫شداد يصف حاله في حروبه للصليبيين ‪ :‬كان رحمه اهلل عنده من القدس أمر عظيم ال تحمله‬
‫الجبال ‪ ...‬وينادي ‪ :‬يا لإلسالم ! وعيناه تذرفان بالدموع ‪ ،‬وكلما نظر إلى عكا ‪ ،‬وما حل‬
‫بها من البالء ‪ ،‬وما يجري على ساكنيها من المصاب العظيم ‪ ،‬اشتد في الزحف والحث على‬
‫أقداح شراب كان يشير بها الطبيب )‬
‫َ‬ ‫القتال ‪ ،‬ولم يَط َْعم في ذلك طعاماً البتة ‪ ،‬وإنما شرب‬
‫(‪. )59‬‬
‫لكن ه ذا الت داعي في أم ة اإليم ان ‪ -‬مهم ا عظم الخطب ‪ -‬ال يجعله ا تفق د أمله ا‬
‫بخالقها ‪ ،‬فتنطق بما ال يرضي ربها ‪ ،‬أو تتصرف بما يخالف عقيدتها ومبائدها ‪ ،‬وإنما يدفعها‬
‫إلع ادة حس اباتها ‪ ،‬وت رتيب أوراقه ا ‪ ،‬بعي داً عم ا ك ان من انحرافه ا ‪ ،‬وانغماس ها في لهوه ا‬
‫وشهواتها ‪.‬‬
‫‪ - 8‬السهر ‪:‬‬
‫قال ابن حجر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ ( : -‬أما السهر فألن األلم يمنع النوم )(‪. )60‬‬
‫وقال ابن فارس ‪ -‬رحمه اهلل ‪ ( : -‬السين والهاء والراء معظم بابه األرق ‪ ،‬وهو ذهاب‬
‫النوم ‪ ،‬ويقال لألرض ‪ :‬الساهرة ‪ ،‬سميت بذلك ألن عملها في النبت دائماً ليالً ونهاراً )(‪. )61‬‬
‫هك ذا أم ة اإليم ان ال تكتح ل عينه ا بن وم ه انئ ‪ ،‬إذا ن زل الض ر ببعض أفراده ا ‪ ،‬أو ح ل‬
‫البالء ببعض أجزائه ا ‪ ،‬أو انتهكت بعض حرماته ا ‪ ،‬أو ُدنِّس ت بعض مقدس اتها ؛ وإذا ك ان‬
‫الهم عند أصحاب الدنيا يمأل صدورهم ‪ ،‬فيحرمهم لذة النوم إذا فقدوا شيئاً من متاع الدنيا‬
‫ُّ‬
‫الفانية ‪ ،‬فإن أمة اإليمان أشد اهتماماً بدينها وأعراضها ومقدساتها ‪.‬‬
‫الح َّمى ‪:‬‬
‫‪ُ -9‬‬
‫الح َّمى فألن فقد النوم يثيرها ‪ ،‬وقد َع َّرف أهل‬
‫قال ابن حجر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ ( : -‬وأما ُ‬
‫الح َّمى بأنه ا ‪ :‬ح رارة غريزي ة تش تعل في القلب ‪ ،‬فتش ب منـه في جمي ع البـدن ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الح ْذق ُ‬
‫فتشتعل اشتعاالً يضر باألفعال الطبيعية )(‪. )62‬‬
‫َحمى الحدي َد في الن ار فه و ُمحمى ‪ ،‬وال تق ل ‪ :‬حماه )‬
‫وج اء في مخت ار الص حاح ‪ ( :‬وأ َ‬

‫الدكتور عبد اهلل علوان ‪. 72 /‬‬ ‫‪)( 59‬‬


‫فتح الباري ‪ ( :‬ج‪. ) 439 / 10‬‬ ‫‪)( 60‬‬
‫معجم مقاييس اللغة ‪ ( :‬ج‪) 108 / 3‬‬ ‫‪)( 61‬‬
‫فتح الباري ‪ ( :‬ج‪) 439 / 10‬‬ ‫‪)( 62‬‬
‫‪37‬‬
‫(‪. )63‬‬
‫وحميّ ا الكأس سورتها وحرارتها ‪ ،‬وعبر عن القوة الغضبية‬
‫وقال الراغب األصفهاني ‪ُ ( :‬‬
‫بالح ِميَّة )(‪. )64‬‬
‫إذا ثارت وكثرت َ‬
‫هكذا إذن تفعل الحمى بالمؤمنين إذا مس الضر بعضاً من إخوانهم ‪ ،‬أو نزل البالء بجزء‬
‫من أوطانهم ‪ ،‬إذ يحسون بأن النار تشب في أجسادهم ‪ ،‬فتكويها ‪ ،‬وتصعد إلى رؤوسهم ‪،‬‬
‫فكأنها ِمرجل تغلي األدمغة فيها ‪.‬‬
‫وبع د ه ذه الدراس ة الم وجزة لمف ردات الح ديث النب وي الش ريف ‪ ،‬واس تنطاق بعض‬
‫أبعاده ا اللغوي ة ‪ ،‬ال يس عنا إال أن نُِق َّر بك ل تق دير واح ترام بس عة ه ذه اللغ ة ‪ ،‬وق درتها على‬
‫التعبير والتص وير ‪ ،‬وأن نعترف بقدرة هذا الرسول الكريم ‪ ‬على اختيار األلفاظ المناسبة‬
‫للمع اني ال تي يري د إبرازه ا ‪ ،‬بحيث ت ؤدي اللفظ ة في مكانه ا المع نى ال ذي يري ده ‪ ‬منه ا ‪،‬‬
‫ِ‬
‫دون أن يتمكن غيرها من األلفاظ لو حل محلها أن يؤدي معناها ‪َ  ،‬و َم ا َي ْنط ُق َع ِن َ‬
‫اله َوى‬
‫‪ ‬صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫وفيه ج واز التش بيه وضرب‬ ‫قال اإلم ام الن ووي ‪ -‬رحم ه اهلل ‪ -‬معلق اً على الح ديث ‪( :‬‬
‫قضية‬
‫التمثيل‬
‫األمثال لتقريب المعاني إلى األفهام )(‪. )65‬‬
‫وق ال ابن حج ر ‪ -‬رحم ه اهلل ‪ ( : -‬فتش بيه المؤم نين بالجس د الواح د تمثي ل ص حيح ‪،‬‬
‫وفي ه تق ريب الفهم ‪ ،‬وإظه ار للمع اني في الص ورة المرئي ة ‪ ،‬وفي ه تعظيم حق وق المس لمين )‬
‫(‪. )66‬‬
‫هكذا إذن يكون تمثيل المؤمنين بالجسد ‪ ،‬إلبراز المعاني الخفية في صورة حية ‪ ،‬كي‬
‫ترتسـم ‪ ،‬في الذهن ‪ ،‬وتنطبع في النفس ‪ ،‬وتستقر في الواقع والسلوك ‪.‬‬
‫قال اإلمام السيوطي ‪ -‬رحمه اهلل ‪ ( : -‬فبحسن األلفاظ واختالفها على المعنى الواحد‬
‫ترص ع المع اني في القل وب ‪ ،‬وتلتص ق بالص دور ‪ ،‬ويزي د حس نه وحالوت ه وطالوت ه بض رب‬
‫األمثلة والتشبيهات المجازية )(‪. )67‬‬

‫‪ )( 63‬مختار الصحاح ‪. 158 /‬‬


‫‪ )( 64‬مفردات الراغب ‪. 132 /‬‬
‫‪ )( 65‬شرح النووي على صحيح مسلم ‪ ( :‬ج‪. ) 140 / 16‬‬
‫‪ )( 66‬فتح الباري على صحيح البخاري ‪ ( :‬ج‪) 439 / 10‬‬
‫‪ )( 67‬المزهر ‪ ( :‬ج‪) 38 ، 37 / 1‬‬
‫‪38‬‬
‫ص ْنو ِ‬
‫ان في أعماق النفس‬ ‫ِ‬
‫جاء في كتاب ( التصوير الفني في القرآن ) ‪ ( :‬والفن والدين َ‬
‫وق رارة الحس ‪ ،‬وإدراك الجم ال الف ني دلي ل اس تعداد لتلقي الت أثير ال ديني ‪ ،‬حين يرتف ع الفن‬
‫إلى هذا المستوى الرفيع ‪ ،‬وحين تصفو النفس لتلقي رسالة الجمال )(‪. )68‬‬
‫وج اء في تفس ير الكش اف ‪ ( :‬وألم ر م ا أك ثر اهلل في كتاب ه الم بين ‪ ،‬وفي س ائر كتب ه‬
‫أمثال ه ‪ ،‬وفش ت في كالم رس ول اهلل ‪ ، ‬وكالم األنبي اء والحكم اء ‪ ...‬ومن س ور اإلنجي ل‬
‫سورة األمثال )(‪. )69‬‬
‫فإذا كان للتمثيل كل هذه األهمية ‪ ،‬فما التمثيل ؟‬
‫إن أغلب علماء البالغة ينظرون إلى التمثيل على أنه التشبيه ‪.‬‬
‫فرقُ وا بين التش بيه‬
‫ج اء في كت اب ( المث ل الس ائر ) ‪ ( :‬وج دت علم اء البي ان ق د َّ‬
‫والتمثيل ‪ ،‬وجعلوا لهذا باب اً ولهذا باب اً مفرداً ‪ ،‬وهما شيء واحد ‪ ... ،‬وما أعلم كيف خفي‬
‫ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه ؟ )(‪. )70‬‬
‫أما عبد القاهر الجرجاني ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬فيرى أن هناك فرق اً لطيف اً بين التمثيل والتشبيه‬
‫يوضحه بقوله ‪ ( :‬فاعلم أن التشبيه عام ‪ ،‬والتمثيل أخص منه ‪ ،‬فكل تمثيل تشبيه ‪ ،‬وليس كل‬
‫تشبيه تمثيالً )(‪. )71‬‬
‫وعلى هذا فالتمثيل الذي نحن بصدده في الحديث الشريف تشبيه بوجه عام ‪ ،‬وتمثيل‬
‫بمع نى أخص ‪ ،‬ألن ه يحت اج إلى تأم ل وإعم ال فك ر ‪ ،‬وبخاص ة ل دى البحث عن أس رار ه ذا‬
‫الجسد الذي تم تمثيل المؤمنين به ‪ ،‬وعلى الطريقة التي يتم فيها التعاون العجيب بين أنسجته‬
‫وأعضائه وسائر أجهزته ‪.‬‬
‫قال ابن أبي جمرة ‪ -‬رحمه اهلل ‪ ( : -‬الحديث يدل على أن المؤمنين كلهم وإن تباينوا‬
‫أو تباعدوا كالجسد الواحد ‪ ،‬كلما أصيب أحدهم بشيء أصاب الجميع منه نسبة )(‪. )72‬‬
‫فإذا وقفنا أمام قضية التمثيل في الحديث الشريف ‪ ،‬نتلمس مواطن الجمال في الصورة‬
‫ش ُّد أبصارنا وتوقظ‬
‫الرائعة ‪ ،‬وجدنا أنها ترسم لمجتمع اإليمان صورة حية بديعة وأخاذة ‪ ،‬تَ ُ‬

‫سيد قطب ‪. 117 /‬‬ ‫‪)( 68‬‬


‫الزمخشري ‪ ( :‬ج‪) 37 / 1‬‬ ‫‪)( 69‬‬
‫ضياء الدين بن األثير ‪. 153 /‬‬ ‫‪)( 70‬‬
‫أسرار البالغة ‪. 84 /‬‬ ‫‪)( 71‬‬
‫بهجة النفوس ‪ ( :‬ج‪. ) 175 / 4‬‬ ‫‪)( 72‬‬
‫‪39‬‬
‫ض مائرنا ‪ ،‬يب دو فيه ا ه ذا المجتم ع ‪ ،‬وق د ت آلفت عناص ره ‪ ،‬وام تزجت جماعات ه في أنح اء‬
‫المعم ورة ‪ ،‬لتش كل جس داً واح داً ‪ ،‬تس ري في ه ال روح ‪ ،‬وتنبض في قلب ه ك ل مع اني الحب‬
‫والعطف والرحمة ‪ ،‬وتنطوي في نفسه كل المشاعر النبيلة ‪ ،‬فهو عند السراء يفرح ويترنم ‪،‬‬
‫وعند الضراء يتأوه ويتألم ‪.‬‬
‫إنه لجسد تتجاذب عواطفه ومشاعره ‪ ،‬حتى إذا سمعت أذنه ما تطرب له من حالل ‪،‬‬
‫بعثت به ‪ -‬حب اً وكرام ة ‪ -‬إلى سائر أنح اء الجس د ‪ ،‬فانبس طت أس ارير وجه ه ‪ ،‬وب دا البشر‬
‫على محياه ‪ ،‬وأرسلت العين دمعة الفرحة على وجنته ‪ ،‬حتى يتملك السرور كل ذرة في هذا‬
‫الجس د ‪ ،‬فيه تز طرب اً ‪ ،‬وينتش ي س روراً ‪ .‬أم ا إذا س معت األذن نب أ كارث ة حلت ببعض‬
‫المسلمين ‪ ،‬أو أبصرت العين منظر فاجعة نزلت بالمستضعفين ‪ ،‬فإن الخيال يسرع إلى رسم‬
‫ه ذه اللوح ة القاتم ة الحزين ة ‪ ،‬فتتمثله ا النفس وال تفارقه ا ‪ ،‬فت دفق أم واج األلم والح زن في‬
‫النفس ‪.‬‬
‫هكذا إذن فإن أمة اإليمان تتحسس ما ينزل بها من ضر وبالء ‪ ،‬فتتألم له وتتوجع ‪ ،‬كما‬
‫يتألم الجسد للضر ينزل ببعض أجزائه ‪.‬‬
‫ثم إنه لما كان تمثيل المؤمنين بالجسد يمثل أروع تصوير ‪ ،‬وأصدق تمثيل ‪ ،‬فإن ه يقودنا‬
‫إلى أن نبحث عن خصائص هذا الجسد ومقوماته ‪ ،‬حتى إذا علمنا أنه ليس جسداً خامالً وال‬
‫بالي اً ‪ ،‬ألن ه يحس ويت ألم ‪ ،‬أدركن ا أن للح ديث إيح اءات ت دفعنا إلى أن نمث ل إيم ان األم ة‬
‫ُخ َّوتِها النابعة من توادِّها وتراحمها وتعاطفها بنبضات‬
‫بالروح في هذا الجسد ‪ ،‬ونمثل معاني أ ُ‬
‫القلب في ه ذا الجس د ‪ ،‬كم ا نمث ل قيادته ا الحكيم ة الرش يدة ال تي تقوده ا إلى ك ل خ ير ‪،‬‬
‫وتبعدها عن كل شر ‪ ،‬بالعقل في هذا الجسد الذي ينظم شؤونه ‪ ،‬ويسعى في مصالحه ‪.‬‬
‫وعليه فإن الجسد حين تفارقه روحه يتحول إلى جثة هامدة ‪ ،‬وتتوقف دقات قلبه تبع اً‬
‫لذلك ‪ ،‬وتفارقه الحياة ‪.‬‬
‫ُخ َّوتها تتأثر بما يحدث‬
‫وهذه حال األمة المؤمنة إذا ضعف إيمانها أو غاب ‪ ،‬فإن معاني أ ُ‬
‫ُخوتِها ‪،‬‬
‫إليمانها ‪ ،‬فتقوى بقوته ‪ ،‬وتضعف بضعفه ‪ ،‬وتموت لفقده ‪ ،‬وإذا اعتلَّت فيها معاني أ َّ‬
‫أو غ ربت َّ‬
‫دل ذل ك على نقص إيمانه ا أو غياب ه ‪ ،‬فحيثم ا وج د اإليم ان ك انت األخ وة ‪ ،‬كم ا‬

‫‪40‬‬
‫الم ْؤ ِمنُو َن إِ ْخ َوةٌ ‪. )73(‬‬
‫قال سبحانه ‪  :‬إِنَّ َما ُ‬
‫ج اء في تفس ير الكش اف ‪ ( :‬والمع نى ‪ :‬ليس المؤمن ون إال إخ وة ‪ ،‬وأنهم خلص ل ذلك‬
‫متمحضون )(‪. )74‬‬
‫وحيثما اعتلت األخوة أو فقدت ثُلم اإليمان ونُكب ‪ .‬وقد جاءت األحاديث توضح هذا‬
‫المعنى ‪ .‬منها ‪:‬‬
‫قوله ‪ (( : ‬ال تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ‪ ،‬وال تؤمنوا حتى تحابوا ))(‪ ، )75‬وقوله عليه‬
‫الصالة والسالم ‪ (( :‬الحياء واإليمان قُرنا جميعاً ‪ ،‬فإذا رفع أحدهما رفع اآلخر ))(‪. )76‬‬
‫وقوله ‪ (( : ‬ال إيمان لمن ال أمانة له ‪ ،‬وال دين لمن ال عهد له ))(‪. )77‬‬
‫وق ال ابن القيم ‪ -‬رحم ه اهلل ‪ ( : -‬وعلى ق در اإليم ان تك ون ه ذه المواس اة ‪ ،‬فكلم ا‬
‫ض عف اإليم ان ض عفت المواس اة ‪ ،‬وكلم ا ق وي ق ويت ‪ ،‬وك ان رس ول اهلل ‪ ‬أعظم الن اس‬
‫مواساة ألصحابه بذلك كله ‪ ،‬فألتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له )(‪. )78‬‬
‫فهذا الترابط بين اإليمان واألخوة في مجتمع اإليمان الذي جعل منهما قرينين ال يفترقان‬
‫‪ ،‬هو مثل الترابط الذي وضحنا صورته بين الروح ونبضات القلب في جسد اإلنسان سواء‬
‫بسواء ‪.‬‬
‫ثم إنه إذا كان ال بد من العقل ليكون اإلنسان سوياً ‪ ،‬وتكون تصرفاته منضبطة ومقبولة ‪،‬‬
‫وإال هام على وجهه ‪ ،‬وضاع مع الضائعين ‪ ،‬فإن الحال كذلك بالنسبة ألمة اإليمان ‪ ،‬ألنها‬
‫بحاجة إلى هذا العقل الذي يدبر شؤونها ‪ ،‬ويرعى مصالحها ‪ ،‬وإال انحرفت في تصرفاتها ‪،‬‬
‫وهلكت مع الهالكين ‪ ،‬وهذا العقل هو قيادتها الحكيمة الرشيدة التي ال بد لها منها ‪ ،‬كي‬
‫تأخذ بيدها إلى ما فيه خيرها وسعادتها ‪.‬‬
‫ق ال اإلم ام ابن تيمي ة ‪ -‬رحم ه اهلل ‪ ( : -‬وله ذا أم ر الن بي ‪ ‬أمت ه بتولي ة والة أم ور‬

‫‪ )( 73‬من سورة الحجرات ‪ ( :‬اآلية ‪) 10 /‬‬


‫‪ )( 74‬الزمخشري ‪ ( :‬ج‪) 12 / 2‬‬
‫‪ )( 75‬صحيح مسلم بشرح النووي ‪ ( :‬ج‪ / 2‬كتاب اإليمان ‪ ،‬ص ‪ ، 35‬رقم ‪. ) 93‬‬
‫‪ )( 76‬رواه الطبراني ‪ ،‬وقال تفرد به عبيدة القرشي ‪ .‬مجمع الزوائد ‪ ، 1/97‬وهو في صحيح‬
‫الجامع الصغير ‪. 1/609‬‬
‫‪ )( 77‬رواه أحمد وأبو يعلى وـاـلـبـزـاـرـ وـاـلـطـبـرـاـنـيـ فـيـ اـألـوـسـطـ ‪،‬ـ وـفـيـهـ أـبـوـ هـالـلـ وـَـثـّـَـقـَـهـ اـبـنـ‬
‫مـعيـنـ وـغيـرـهـ ‪،‬ـ وـضـعـفـهـ اـلـنـسـاـئـيـ وـغـيـرـهـ ‪.‬ـ مـجـمـعـ اـلـزـوـاـئـدـ ‪:‬ـ ( جـ‪/ 1‬ـ ‪. ) 101‬‬
‫‪ )( 78‬الفوائد ‪ ، 167 /‬منشورات المكتبة القيمة ‪ 1400 -‬هـ ‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫عليهم ‪ ،‬وأمر والة األمور أن يردوا األمانات إلى أهلها ‪ ،‬وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا‬
‫بالعدل )(‪. )79‬‬
‫وق ال اإلم ام الم اوردي ‪ -‬رحم ه اهلل ‪ ( : -‬اإلمام ة موض وعة لخالف ة النب وة في حراس ة‬
‫الدين وسياسة الدنيا ‪ ،‬وعقدها لمن يقوم بها في األمة واجب باإلجماع )(‪. )80‬وجاء في كتاب‬
‫(( السياسة الشرعية )) ‪ ( :‬يجب أن يعرف أن والية أم ــر الناس من أعظم واجبات الدين ‪ ،‬بل‬
‫ال قيام للدين وال للدنيا إال بها )(‪. )81‬‬
‫ومن هنا كانت براعة التصوير في تمثيـل المؤمنين بالجسد ‪ ،‬في روحه ‪ ،‬ونبضـات قلبه ‪،‬‬
‫وعقله ‪ .‬فصلى اهلل وسلم على هذا الرسول العظيم ‪ ،‬الذي أوتي جوامع الكلم ‪ ،‬فكان بيانه‬
‫أنصع بيان ‪ ،‬وتمثيله أروع تصوير وأصدقه ‪.‬‬
‫وإذا تابعنا تأملنا لهذا التمثيل ‪ ،‬فإننا سوف نقف أمام ما يذهل عقولنا ‪ ،‬عندما نكتشف‬
‫أسراراً عجيبة في تركيب الجسد الذي تم تمثيل المؤمنين به ‪ ،‬وذلك للتوافق العجيب بين‬
‫تركيب أمة اإليمان ‪ ،‬وتركيب الجسد في اإلنسان ‪.‬‬
‫فحيث تعت بر الخلي ة أساس اً في ت ركيب الجس د ‪ ،‬يعت بر الم ؤمن أساس اً في بن اء مجتم ع‬
‫اإليمان ‪ .‬وحيث تقوم الخاليا بتكوين مجموعات مترابطة يتألف منها نسيج يؤلف مع عدد‬
‫من األنسجة ما يسمى بالعضو ‪ ،‬فإن المؤمن حين يختار زوجه المؤمنة ينشأ عن هذا الزواج‬
‫تجمع اً طيب اً ‪ ،‬يك ون في‬
‫المب ارك أس رة كريم ة تك ِّون م ع األبن اء واألحف اد ومن يل وذ بهم ّ‬
‫تماس كه وتض امنه داخ ل مجتم ع اإليم ان كالعض و في جس د اإلنس ان ‪ .‬وفي ال وقت ال ذي‬
‫يشترك فيه عدد من األعضاء ‪ ،‬لتكوين ما يسمى بالجهاز في هذا الجسد ‪ ،‬كجهاز الهضم ‪،‬‬
‫أو دوران ال دم ‪ ،‬أو التنفس ‪ ،‬وم ا إلى ذل ك ‪ ،‬فإن ه يمكن أن تتالقى األس ر وتتس ع دائرته ا ‪،‬‬
‫لتكون تجمع اً كريم اً في مجتمع اإليمان يطلق عليه اسم القبيلة ‪ ،‬فتكون متماسكة ومتعاونة‬
‫فيما بينها ‪ ،‬كما تتماسك وتتعاون أعضاء أي جهاز في الجسد ‪ .‬ثم إن التقاء هذه األجهزة‬
‫وتعاونه ا فيم ا بينه ا لتك وين الجس د كل ه ه و بمنزل ة التق اء ه ذه القبائ ل المؤمن ة وتعاونه ا ‪،‬‬

‫‪ )( 79‬الحسبة في اإلسالم ‪. 5 /‬‬


‫‪ )( 80‬األحكام السلطانية ‪. 5 /‬‬
‫‪ )( 81‬ابن تيمية ‪. 116 /‬‬
‫‪42‬‬
‫لتش كيل مجتم ع اإليم ان كل ه ‪ ،‬س واء بس واء ‪ .‬وبه ذا يك ون تمثي ل المؤم نين بالجسد تم ثيالً‬
‫ت المماثلة فيها بين كل عنصر في مجتمع اإليمان ‪،‬‬ ‫مركباً ‪ ،‬قُدِّم بشكل لوحة فنية رائعة ‪ ،‬تَ َّم ِ‬
‫ونظيره في جسد اإلنسان ‪.‬‬
‫(‪)82‬‬
‫قال ابن حجر ‪ -‬رحمه اهلل ‪ (( ( : -‬كمثل الجسد )) أي بالنسبة إلى جميع أعضائه )‬
‫‪.‬‬
‫فإلى مزيد من الكشف عن أسرار هذا الجسد ‪ ،‬بحث اً عن تواده وتراحمه وتعاطفه ‪ ،‬في‬
‫خالياه وأعضائه وأجهزته ‪ ،‬وذلك كي نتعرف على حقيقة تواد المؤمنين وتراحمهم وتعاطفهم‬
‫‪ ،‬ألن مثل المؤمنين مثل الجسد ‪ .‬وذلك كي تزداد هذه الصورة حسناً وبهاء ‪ ،‬ويتعمق إيماننا‬
‫بهذا الرسول الكريم ‪ ، ‬وبصدق نبوته ورسالته ‪.‬‬
‫جاء في كت اب ( اهلل يتجلى في عصر العلم ) ‪ ( :‬إن البروتينات من المركبات األساسية‬
‫مثل‬
‫المؤمن كمثل‬
‫الحية ‪ ... ،‬فكيف تتآلف ذرارت هذه الجزئيات ؟ إنها إذا تآلفت بطريقة‬ ‫الخليةجميع الخاليا‬
‫في‬
‫أخرى غير التي تتآلف بها ‪ ،‬تصير غير صالحة للحياة ‪ ،‬بل تصير في بعض األحيان سموماً )‬
‫(‪. )83‬‬
‫وهذا مثل المؤمن إذ تتكون شخصيته من التآلف البديع ‪ ،‬واالنسجام العجيب بين روحه‬
‫ونفس ه وعقل ه وعواطف ه ‪ ،‬بم ا يتناس ب وفطرت ه الس ليمة ال تي فط ره الحكيم الخب ير عليه ا ‪،‬‬
‫بحيث ال يطغى جانب على جانب ‪ ،‬حتى يكون عنصراً صالحاً للحياة الكريمة في مجتمعه ‪،‬‬
‫وعدم تحوله إلى جرثومة فتاكة ‪ ،‬أو سم قاتل إذا اختل فيه هذا التوازن ‪ .‬وهذا ما أشار إليه‬
‫نبي الهدى ‪ ‬فيما جاء في الصحيحين ؛ عن النفر الثالثة الذين سألوا عن عبادة رسول اهلل‬
‫‪ ، ‬وك أنهم تقالُّوه ا ‪ ،‬فق ال رس ول اهلل ‪ (( : ‬أنتم ال ذين قلتم ك ذا وك ذا ؟ أم ا واهلل إني‬
‫ألخش اكم هلل ‪ ،‬وأتق اكم ل ه ‪ ،‬لك ني أص وم وأفط ر ‪ ،‬وأص لي وأرق د ‪ ،‬وأت زوج النس اء ‪ ،‬فمن‬
‫رغب عن سنتي فليس مني ))(‪. )84‬‬
‫وهذا مثل المؤمن الذي يُ ْح ِكم تصرفاته ‪ ،‬ويحدد عالئقه بعقله دون هواه ‪ ،‬ليحافظ على‬
‫الحي اة الكريمة ل ه ‪ ،‬ولمن حوله من إخوان ه وجيران ه ‪ ،‬امتثاالً لقوله ‪ (( : ‬خ ير األص حاب‬

‫‪ )( 82‬فتح الباري على صحيح البخاري ‪ ( :‬ج‪) 439 / 10‬‬


‫‪ )( 83‬لنخبة من العلماء األمريكيين ‪. 16 ، 15 /‬‬
‫‪ )( 84‬أخرجه البخاري ‪ ( :‬نكاح ‪ ، 1 -‬رقم ‪ ، ) 5063‬ومسلم ‪ ( :‬نكاح ‪. ) 5 -‬‬
‫‪43‬‬
‫عند اهلل خيرهم لصاحبه ‪ ،‬وخير الجيران عند اهلل خيرهم لجاره ))(‪. )85‬‬
‫ف إذا ج انب الحكم ة في عالئق ه ‪ ،‬وعطَّل العقل في تص رفاته ‪ ،‬انقلب إلى ش بح مخي ف ‪،‬‬
‫وفارقته الحياة قبل أن تفارقه روحه ‪ ،‬وعُ َّد مع األموات وإن لم يمت ‪.‬‬
‫فما أعظم األمة حين يجتمع أفرادها على الحب والعطف والرحمة في مجتمع اإليمان ‪،‬‬
‫كما تجتمع الخاليا وتأتلف في جسد اإلنسان !!‬
‫كون نسيجاً يتمتع‬
‫تآلفت فإنها تُ ِّ‬
‫إن الخاليا المتفقة في الصفة ‪ ،‬والمتحدة في الغاية ‪ ،‬إذا مثل‬
‫األسرة كمثل‬
‫العضومجموع هذه األنسجة ‪.‬‬
‫بخصائص متميزة ‪ ،‬تنسجم ومتطلبات العضو الذي سيتألف من‬
‫وهذا مثل المؤمن عندما يرغب في الزواج ‪ ،‬لتكوين نسيج صالح في مجتمع اإليمان ‪،‬‬
‫حيث يتهي أ ويس تعد لنم وذج جدي د في حيات ه ‪ ،‬فيعت دل في تص رفاته ‪ ،‬ويقل ل من لعب ه‬
‫وعالقاته ‪ ،‬ليعطي الحياة الزوجية المستقبلية نصيبًا أكبر من اهتماماته ‪ ،‬ثم هو يحسن اختيار‬
‫شريكة حياته ‪ ،‬التي تتفق معه في أهدافه وتطلعاته ‪ ،‬امتثاالً لقوله ‪ (( : ‬فاظفر بذات الدين‬
‫تربت يداك ))(‪ )86‬ثم هو يعطيها حقها ‪ ،‬ويصونها ويرعاها ‪.‬‬
‫جاء في صحيح البخاري ‪ (( :‬آخى النبي ‪ ‬بين سلمان وأبي الدرداء ‪ ،‬فزار سلمان أبا‬
‫الدرداء ‪ ،‬فرأى أم الدرداء متبذلة(‪ ، )87‬فقال لها ‪ :‬ما شأنك ؟ قالت ‪ :‬أخوك أبو الدرداء ليس‬
‫له حاجة في الدنيا ‪ ،‬فجاء أبو الدرداء ‪ ،‬فصنع له طعاماً فقال ‪ :‬كل ‪ ،‬فإني صائم ‪ .‬فقال ‪ :‬ما‬
‫أنا بآكل حتى تأكل ‪ ،‬فأكل ‪ ،‬فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم ‪ ،‬فقال ‪ :‬نم ‪ ،‬فنام ‪ .‬ثم‬
‫ذهب يقوم ‪ ،‬فقال ‪ :‬نم ‪ ،‬فلما كان آخر الليل قال سلمان ‪ :‬قم اآلن ‪ ،‬قال ‪ :‬فصليا ‪ .‬فقال له‬
‫سلمان ‪ :‬إن لربك عليك حق اً ‪ ،‬ولنفسك عليك حق اً ‪ ،‬وألهلك عليك حق اً ‪ِ ،‬‬
‫فأعط كل ذي‬
‫النبي ‪ : ‬صدق سلمان ))(‪. )88‬‬
‫النبي ‪ ‬فذكر ذلك له ‪ ،‬فقال ُّ‬
‫حق حقه ‪ ،‬فأتى َّ‬
‫َس َر ُهم ‪. )89(‬‬
‫اه ْم َو َش َد ْدنَا أ ْ‬
‫قال اهلل تعالى ‪  :‬نَ ْح ُن َخلَ ْقنَ ُ‬
‫ج اء في مف ردات ال راغب ‪ ( :‬األس ر ‪ :‬الش د بالقي د من ق ولهم ‪ :‬أس رت القتب ‪ ،‬وس مي‬
‫‪ )( 85‬أخرجه الترمذي وحسنه ‪ ( :‬بر ‪ ، ) 28 /‬والبخاري في األدب المفرد ‪ ،‬تحت رقم ‪/‬‬
‫‪. 115‬‬
‫‪ )( 86‬البخاري ‪ ( :‬نكاح ‪ ، ) 15 /‬ومسلم ‪ ( :‬رضاع ‪) 53 /‬‬
‫‪ )( 87‬أي ‪ :‬مهملة شأنها وزينتها ‪ ،‬وتاركة رعاية نفسها ‪ ،‬فتظهر بثياب خَلِقَة ‪ ( .‬التحرير )‬
‫‪.‬‬
‫‪ )( 88‬صحيح البخاري مع الفتح ‪ ( :‬ج‪ / 1‬كتاب األدب ــ ‪ ، 86‬رقم ‪) 6139‬‬
‫‪ )( 89‬من سورة اإلنسان ‪. 28 /‬‬
‫‪44‬‬
‫َس َر ُهم ‪ ‬إش ارة إلى‬ ‫األسير بذلك ‪ ...‬وأسرة الرجل من يتقوى به ‪ ...‬قال تعالى ‪َ  :‬و َش َد ْدنَا أ ْ‬
‫حكمته تعالى في تراكيب اإلنسان المأمور بتأملها وتدبرها في قوله تعالى ‪َ  :‬وفِي أَْن ُف ِس ُك ْم‬
‫أَفَال ُت ْب ِ‬
‫ص ُرو َن ‪. )91() )90(‬‬
‫وهك ذا مث ل األس رة ال تي تتض افر فيه ا الجه ود ‪ ،‬لغ رض التربي ة الص الحة ‪ ،‬والتنش ئة‬
‫الطيبة ‪ ،‬لتقديم كل نافع ومفيد ‪ ،‬إلى هذا المجتمع الذي تنتمي إليه ‪ ،‬فتبدأ رحلتها مع األم‬
‫التي تم اختيارها لهذا الغرض ‪ .‬قال حافظ إبراهيم ‪:‬‬
‫أع ددت شعبـــاً طيب‬ ‫ة إذا‬ ‫األم مدرس‬
‫األعـــراق‬ ‫أعددتهـ ـ ـ ــا‬
‫ج‬ ‫ج‬
‫فإذا ُحرم األبناء رعاية األبوين تحولوا إلى ما يشبه األيتام ‪ ،‬كما قال أمير الشعراء ‪:‬‬
‫أ ُّم ـــاً تَ َخلَّت أو أب ـــاً‬ ‫ــم هـو ال ذي‬
‫إن اليتي ـ َ‬
‫مشغـــوال‬ ‫له‬ ‫َت ْل َقى‬
‫ج‬ ‫جج‬
‫فإذا اشتد ساعده امتدت له يد والده ‪ ،‬كي تكمل مسيرة الخير والنماء فيه ‪.‬‬
‫قال رسول اهلل ‪ (( : ‬ما نَحل(‪ )92‬والد من نُحل أفضل من أدب حسن ))(‪. )93‬‬
‫ويتجلى إعجاز اهلل سبحانه في خلق اإلنسان في تعاون أجزاء الجسم ‪ ،‬ما جاء في كتاب‬
‫(( الطب محراب لإليمان )) ‪ ( :‬تقسم األذن إلى ثالثة أقسام ‪ :‬خـارجية ووسطـى وداخلية ‪،‬‬
‫وهي أخط ر األقس ام الثالث ة ‪ ،‬فأم ا األذن الخارجي ة فهي ص يوان األذن الخ ارجي م ع المم ر‬
‫ال ذي يوص ل إلى غش اء الطب ل ‪ ،‬وأم ا األذن الوس طى ففيه ا ثالث عظيم ات (( المطرق ة‬
‫والسندان والركابة )) ‪ ،‬واألذن الباطنة فيها ما يشبه الحلزون ‪ ...‬إن اهتزاز غشاء الطبل يعني‬
‫هز عظيمات السمع الثالثة ‪ ،‬ألن كل عظم متعلق باآلخر ( ومتمفصل ) معه بشكل فني ‪... ،‬‬
‫وأما ( التمفصل ) بين العظيمات فهو في منتهى الروعة ‪ ،‬ألن أدنى صوت أو حفيف أو قرقعة‬

‫‪ )( 90‬من سورة الذاريات ‪. 21 /‬‬


‫‪ )( 91‬المفردات في غريب القرآن ‪. 18 ، 17 /‬‬
‫‪ )( 92‬نحله ‪ :‬أي أعطاه ‪.‬‬
‫‪ )( 93‬أخرجه الترمذي ‪ ( :‬بر ‪ ، ) 33 /‬وأحمد ‪. ) 412 / 3 ( :‬‬
‫‪45‬‬
‫أو همس أو كلمة معناه اهتزاز غشاء الطبل ‪ ،‬واهتزاز العظيمات التي تنقل االهتزار بدورها‬
‫إلى األذن الباطن ة ‪ .‬والعجيب أن أوس اط األذن تناس ب نق ل األص وات تمام اً وهي اله واء في‬
‫المجرى ‪ ،‬واألجسام الصلبة في األذن الوسطى المتمثلة بعظيمات السمع ‪ ،‬واألجسام الصلبة‬
‫والسوائل في داخل األذن الباطنة المتمثلة في الرمال السمعية والبلغم الداخلي والخارجي )‬
‫(‪. )94‬‬
‫وهذا هو َمثَل األسرة المؤمنة ‪ ،‬إذ تهتز ألدنى حركة تصدر عن إحدى األسر التي ترتبط‬
‫معها برباط عائلي حين يصيبها أقل الضرر ‪ ،‬كما يهتز غشاء الطبل في األذن ‪ ،‬فتتجاوب مع‬
‫تل ك الحركة سريعاً بحركة رش يقة ‪ ،‬دون أن تج د أي تثاق ل في ذل ك ‪ ،‬تمام اً كم ا تتجاوب‬
‫عظيمات السمع ألدنى اهتزاز في غشاء الطبل نظراً لخفتها ( وتمفصلها ) ‪ ،‬ثم هي تتصرف‬
‫بحكم ة بالغ ة وف ق ك ل م ا ه و مناس ب ‪ ،‬فتس تخدم ك ل األوس اط المالئم ة ال تي تحق ق الغاي ة‬
‫المنشودة ‪ ،‬حتى ال تعرقلها وال تبطلها ‪ ،‬تماماً كما ينتقل االهتزاز عبر األوساط المناسبة من‬
‫اله واء إلى الس وائل إلى األجس ام الص لبة داخ ل األذن ‪ .‬وعن دها تش عر تل ك األس رة الكب يرة‬
‫بكل الراحة والسعادة ضمن مجتمعها اإليماني الكبير ‪.‬‬
‫وهذا مثل األسرة المؤمنة ‪ ،‬فإنها تجهد نفسها لخدمة كل أبنائها ‪ ،‬فتسهر ليلها قلقة إذا‬
‫مرض أو ابتلي بعض أفرادها ‪ ،‬حتى ترى ثوب العافية وهو يلف فلذات أكبادها ‪:‬‬
‫ــادنَا تَ ْم ِش ي َعلَى‬ ‫أَ ْكبَـ ـ ـ ُ‬ ‫َوإِنَّ َم ا أَوالَ ُدنَ ا َب ْيَننَا‬
‫ض‬‫األ َْر ِ‬ ‫يح َعلَى‬ ‫ِ‬
‫لَ ْو َهبَّت ال ِّر ُ‬
‫ض‬‫ت َع ْينِي ِم َن الغَ ْم ِ‬ ‫الَ ْمَتَن َع ْ‬ ‫ِهم‬ ‫ب ْع ِ‬
‫ض‬ ‫َ‬
‫ج‬ ‫ج‬
‫مثلى َو َج َعلْنَ ا ُك ْم ُش عُوبا َّو َقبَائِ َل‬
‫َّاس إِنَّا َخلَ ْقنَ ا ُكم ِّمن ذَ َك ر َّوأُْنثَ‬
‫ق ال اهلل تع الى ‪  :‬يَ ا أ َُّي َه ا الن ُ‬
‫القبيلة أو‬
‫يم َخبِ ٌير ‪. )95(‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الجماعة كمثل‬ ‫لَت َع َارفُوا إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ع ْن َد اهلل أَْت َقا ُك ْم إِ َّن اهللَ َعل ٌ‬
‫الجهازالمتآلفة المتعاونة ‪ ،‬وكذا فإن‬ ‫إن الجهاز في الجسد يتكون أساساً من عدد من األعضاء‬
‫القبيلة أو الطائفة عبارة عن مجموعات عديدة من األسر تآلفت فيما بينها وتعاونت على إقامة‬

‫‪ )( 94‬الطب محراب لإليمان ‪ ( :‬ج‪ 192 / 1‬ــ ‪. ) 194‬‬


‫‪ )( 95‬من سورة الحجرات ‪ ( :‬اآلية ‪) 13 /‬‬
‫‪46‬‬
‫القبيلة ‪.‬‬
‫فإذا وقفنا عند أحد األجهزة في البدن كجهاز الهضم مثالً ‪ ،‬فإننا نجده مؤلف اً من قناة‬
‫هض مية تب دأ ب الفم ف البلعوم ف المريء فالمع دة فاألمع اء الدقيق ة فاألمع اء الغليظ ة ‪ ،‬ثم‬
‫المستقيم ‪ ...‬فكيف تتعاون هذه األعضاء إلتمام عملية الهضم ؟‬
‫إن اللقمة تدخل عن طريق الفم الذي يمضغ الطعام ‪ ،‬كما يرطب اللعاب ويسهل انزالق‬
‫اللقمة إلى البلعوم ‪ ،‬ويساعد اللسان في دفع اللقمة إلى البلعوم ‪ ،‬فيقوم لسان المزمار بسد‬
‫مج رى اله واء ‪ ،‬ليجبر اللقم ة على السير في طريقه ا في جه از الهض م ‪ ،‬وإال كان الهالك ال‬
‫محال ة ‪ ،‬ثم يم ر الطع ام من الم ريء إلى المع دة ال تي تحول ه إلى ش به س ائل ‪ ،‬ثم ي ذهب إلى‬
‫األمع اء الدقيق ة حيث تص ب في ب دايتها إف رازات الكب د والبنكري اس فيتم فيه ا هض م الم واد‬
‫الغذائية نهائي اً وتحويلها إلى جزيئات صغيرة يسهل امتصاصها ودفعها إلى الدم ‪ ،‬أما المواد‬
‫غ ير المهض ومة ‪ ،‬فتم ر إلى األمع اء الغليظ ة حيث تط رح خ ارج الب دن عن طري ق المس تقيم ‪،‬‬
‫الذي يمتلك عضالت إرادية تتحكم في عملية االطِّراح وقت الحاجة ‪.‬‬
‫َمثَ ل هذا التعاون في هذا الجهاز َمثَ ل التعاون في مجموع األسر التي َك َّونت القبيلة أو‬
‫الطائفة ‪ ،‬إذ تبذل كل ما في وسعها لتوفير الخير والسعادة ألسر قبيلتها ‪ ،‬دون أن يتخلف‬
‫أحد عن واجبه ‪ ،‬أو يقصر في مد يد العون إلخوانه من المحتاجين ضمن ما منحه اهلل إياه من‬
‫م ال وف ير ‪ ،‬أو علم غزي ر ‪ ،‬أو م ا خص ه ب ه م واله من ج اه عظيم ‪ ،‬ومق ام ك ريم ‪ ،‬في عملي ة‬
‫متكامل ة يتحق ق فيه ا للقبيل ة أو الطائف ة م ا تس عى إلي ه من س عادة وطمأنين ة ‪ .‬ف إذا ح دث‬
‫االنحراف والفساد في بعض هذه األسر ‪ ،‬ولم تنفع كل وسائل التوجيه واإلقناع ‪ ،‬كان ال بد‬
‫عزل هذا الجزء وطرحه بعيداً كي يالقي مصيره المشؤوم ‪ ،‬ما دام بقاؤه يسبب الضرر‬
‫مثل‬
‫من‬
‫الجماعاتأمة اإليمان ‪ ،‬تماماً كما تطرح الفضالت بعيداً عن البدن ‪.‬‬
‫لجسدأو‬
‫القبائل‬

‫ألف الجس د من مجم وع أجهزت ه ‪ ،‬فكي ف تتع اون ه ذه األجه زة المختلف ة داخ ل‬ ‫كمثل يت‬
‫األجهزة‬

‫الجسد ‪ ،‬لإلبقاء على حياته ونموه ‪ ،‬وإلمداده بالطاقة الالزمة ‪ ،‬والحرارة المطلوبة ؟‬
‫إن جهاز الهضم والذي تمت فيه عملية هضم األغذية ‪ ،‬يقدم ما حصل عليه من غذاء ‪،‬‬
‫لكل البدن دون أن يحتكر نتاجه لنفسه ‪ ،‬فيطير بنواتج الهضم إلى أجهزة البدن وأعضائه ‪،‬‬
‫وهن اك يتم تأكس دها إلنت اج الطاق ة ‪ ،‬أو تتح د م ع بعض ها مكون ة الم واد الالزم ة للنم و ‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫لتع ويض األنس جة التالف ة ‪ ،‬ثم يع ود ال دم مثقالً بث اني أكس يد الكرب ون ‪ ،‬بس بب عملي ة‬
‫التأكس د ‪ ،‬ليص ب في األُذين اليم نى من القلب ‪ ،‬فيتقبل ه القلب بص در رحب ‪ ،‬ويفتح ل ه‬
‫ص مامه ‪ ،‬لي نزل إلى البُطين اليم نى ‪ ،‬ليض خ من هن اك إلى الرئ تين في جه از التنفس ‪ ،‬لتنقيت ه‬
‫ان ‪ ،‬فم اذا يك ون موقف ه ذا الجهاز وهو يس تقبل دم اً‬‫وتحويله من دم ق اتم إلى دم أحم ر ق ٍ‬
‫تلوث بفعل غيره ؟ إنه يتلقاه بالتكريم والرعاية ‪ ،‬فيقدم له األكسجين الالزم ‪ ،‬ليعيد إليه بريقه‬
‫ولمعانه ‪ ،‬بعد أن يأخذ منه ثاني أكسيد الكربون الذي لوثه ‪ ،‬ليطرحه إلى خارج البدن عن‬
‫طريق ه واء الزف ير ؛ وعندها يرج ع ه ذا ال دم النقي ليص ب من جدي د في األذين اليس رى من‬
‫القلب ‪ ،‬ومنه ا إلى البطين اليس رى ‪ ،‬ومن ثم يض خ من جدي د إلى ك ل أنح اء الب دن ‪ ،‬ليع ود‬
‫بع دها ملوث اً بع د عملي ة احتراق ه إلى األذين اليم نى وهك ذا باس تمرار يت ابع عمل ه فيم ا يع رف‬
‫بالدورة الدموية ‪.‬‬
‫إن هذا التعاون بين أجهزة الهضم والدوران والتنفس في الجسد يمثل صورة من أروع‬
‫صور التعاون ‪ ،‬وهي في غنى عن أي تعليق عليها ‪ ،‬وهذه حال أمة اإليمان ‪ ،‬إذ تقف جميع اً‬
‫مت وادَّة متراحم ة متعاطف ة ‪ ،‬ال تع رف طائف ة منه ا االنحب اس على نفس ها ‪ ،‬أو االنغالق على‬
‫مكاسبها وخيراتها ‪ ،‬مادام ذلك يؤدي إلى موت أخواتها ‪ ،‬أو هالك أمتها ‪.‬‬
‫ج اء في كت اب (( الطب مح راب لإليم ان )) ‪ ( :‬كم ا أن الجس د إذا أراد الوق ود ولم‬
‫يج ده ‪ ،‬ف إن الب دن كل ه بعض الته وعظام ه وأنس جته وبلغم ه ودم ه ومفاص له ي ذوب ت دريجيّاً‬
‫(‪)96‬‬
‫ليعطي الوقود ويستمر الجسم في الحياة ‪) .‬‬
‫هكذا إذن فإن أمة اإليمان أمة الجسد بكل عناصرها وجماعاتها وطاقاتها تستنفر ألي‬
‫ضر ينزل بساحتها ‪ ،‬ألنها أمة واحدة ال تتجزأ ‪ .‬قال سبحانه ‪  :‬إِ َّن ه ِذ ِه أ َُّمت ُكم أ َُّمةً و ِ‬
‫اح َدةً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫دون ‪ )97(‬ثم إن ه ذه األم ة المتآلف ة المتعاطف ة بك ل أفراده ا وجماعاته ا ال‬ ‫وأَنَ ا ربُّ ُكم فَا ْعب ِ‬
‫َ َ ْ ُ‬
‫يغيب عن باله ا أنه ا مث ل الجس د ‪ ،‬فال يض يق ص در بعض ها ببعض ‪ ،‬كم ا ال يمأل الغي ظ قلبه ا‬
‫بس بب التم ايز في وظائفه ا ‪ ،‬أو الفتح ال ذي يجري ه اهلل س بحانه على أي دي من اخت ارهم‬
‫وخص هم بفضله وكرمه ‪ ،‬ليكون وا من ُخلَّص أوليائه ‪ .‬تمام اً كما يح دث بين أعض اء الجسد‬
‫وأجهزته حيث ال يتعالى بعضها على بعض لم ِزيٍَّة خصه اهلل بها ‪ ،‬وال يحقد بعضها على بعض‬
‫‪ )( 96‬الطب محراب لإليمان ‪ ( :‬ج‪. ) 89 / 2‬‬
‫‪ )( 97‬من سورة األنبياء ‪ ( :‬اآلية ‪. ) 92 /‬‬
‫‪48‬‬
‫إن لم يتحقق له ما لغيره ‪.‬‬
‫وأك ثر من ه ذا في أم ة اإليم ان ‪ ،‬فإن ه إذا اقتضت المص لحة العام ة أن يتح ول عضو عن‬
‫مكانت ه المرموق ة في مرك ز القي ادة إلى أن يك ون جن ديّاً ‪ ،‬فإن ه ال ي تردد في االس تجابة ‪ ،‬وال‬
‫يتمرد على األوامر ‪ ،‬مادام عمله هلل سبحانه ‪ ،‬ولمصلحة أمته التي ينتمي إليها ‪ ،‬فال فرق عنده‬
‫بين أن يك ون مس ؤوالً كب يراً ‪ ،‬أو أن يك ون أق ل من ذل ك ‪ ،‬أو العكس ‪ ،‬م ادام ذل ك في‬
‫االتجاه الصحيح نفسه ‪ ،‬ولمصلحة األمة قاطبة ‪ ،‬ألن هذا شأن الجسد عندما يؤخذ منه جزء‬
‫من مكان ما ‪ ،‬ليكون في مكان آخر ‪ ،‬فإنه يتابع عمله كما لو كان في مكانه الذي أخذ منه ‪.‬‬
‫جاء في طبقات ابن سعد ‪ ( :‬قال عمر بن الخطاب ‪ : ‬ألعزلن خالد بن الوليد والمثنى‬
‫بن شيبان حتى يعلما أن اهلل إنما كان ينصر عباده ‪ ،‬وليس إياهما كان ينصر )(‪. )98‬‬
‫وق ال ال دكتور حس ن إب راهيم حس ن ‪ -‬رحم ه اهلل ‪ ( : -‬ولكن خال داً لم يكن بالرج ل‬
‫ال ذي يتم رد على خليف ة رس ول اهلل ‪ ‬أو يع ترض على أم ره ‪ ،‬ألن ه يح رص على وح دة‬
‫المسلمين حتى ينصرفوا إلى جهاد العدو ‪ .‬فإنه لما قرأ كتاب عمر قال ‪ :‬ما أنا بالذي أعصي‬
‫أمير المؤمنين وحارب تحت إمرة أبي عبيدة جنديّاً من جنود اإلسالم )(‪. )99‬‬
‫ولما كان هذا التبديل لمصلحة األمة ‪ ،‬كما رأتها قيادتها الرشيدة ‪ ،‬فقد بقي خالد ‪‬‬
‫يعمل بالطريقة نفسها التي كان يعمل فيها قبل استبداله ‪ ،‬ألن القيادة لم يكن هدفها التشفي‬
‫أو االنتقام ‪ ،‬وإنما مصلحة األمة قاطبة ‪ .‬لذا فقد جاء مع األمر المطالبة باإلبقاء على خالد إلى‬
‫جوار أبي عبيدة رضي اهلل عنهما ‪.‬‬
‫ج اء في كت اب (( ت اريخ اإلس الم )) ‪ ( :‬ف إن فتح اهلل علي ك فانص رف أنت وخال د إلى‬
‫حمص ‪. )100() ...‬‬
‫فأية أمة هذه األمة التي مثلها مثل الجسد في توادِّه وتراحمه وتعاطفه ؟!‬
‫إنه ا أم ة الجس د حق اً في آالمه ا وآماله ا ‪ ،‬وفي أش واقها وتطلعاته ا ‪ ،‬وفي مواقفه ا‬
‫وتحدياتها ‪.‬‬
‫قراءة فى حديث (الحالل بيِّن والحرام بيِّن)‬

‫‪ )( 98‬طبقات ابن سعد ‪ ( :‬ج‪) 284 / 3‬‬


‫‪ )( 99‬تاريخ اإلسالم السياسي والديني والثقافي واالجتماعي ‪ ( :‬ج‪. ) 228 ، 227 / 1‬‬
‫‪ )(100‬الدكتور محمد حسن إبراهيم حسن ‪ ( :‬ج‪. ) 229 ، 228 / 1‬‬
‫‪49‬‬
‫من األح اديث الجامع ة ال تي ي ذكرها أه ل العلم ‪ ,‬ويولونه ا المزي د من العناي ة واالهتم ام ‪,‬‬
‫حديث النعمان بن بشير رضي اهلل عنه قال ‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫تبهات ال يعلمهن كث ير من الن اس ‪ ,‬فمن‬
‫( إن الحالل بيِّ ٌن وإن الح رام بيِّ ٌن ‪ ,‬وبينهما أم ور مش ٌ‬
‫وعرضه ‪ ,‬ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ‪ ,‬كالراعي‬ ‫اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ِ‬
‫حمى ‪ ,‬أال وإن حمى اهلل‬
‫ي رعى ح ول الحمى يوش ك أن يرت ع في ه ‪ ,‬أال وإن لك ل مل ك ً‬
‫فس د‬
‫فس دت َ‬
‫محارم ه ‪ ,‬أال وإن في الجس د مض غةً إذا ص لَحت ص لَح الجس د كل ه ‪ ,‬وإذا َ‬
‫ُ‬
‫الجسد كله ‪ :‬أال وهي القلب ) رواه البخاري ومسلم ‪.‬‬
‫فهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة ‪ ,‬وأحد األحاديث التي يدور عليها الدين‬
‫وقد عده بعض أهل العلم ثلث اإلسالم أو ربعه ‪ ,‬ويعنون أن اإلسالم يدور على ثالثة أح اديث‬
‫أو أربعة منها هذا الحديث ‪.‬‬
‫فقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫( إن الحالل بيِّن وإن الحرام بيِّن )‬
‫يع ني أن الحالل والح رام الص ريح الواض ح ق د ُبيِّن أم ره للن اس بحيث ال يحت اجون مع ه‬
‫إلى مزيد إيضاح وبيان ‪ ,‬وليس لهم عذر في مخالفة األمر والنهي بدعوى نقص البيان وعدم‬
‫الوضوح ‪ ,‬فإن اهلل عز وجل قد أنزل على نبيه الكتاب ‪ ,‬وبين فيه لألمة ما تحتاج إليه من‬
‫ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } النحل ‪ 89‬وقال تعالى في‬
‫أحكام ‪ ,‬قال تعالى ‪َّ { :‬‬
‫آخر آية من سورة النساء بعد أن ذكر فيها كثيرا من األحكام الشرعية ‪:‬‬
‫{ ي بين اهلل لكم أن تض لوا واهلل بك ل ش يء عليم } النس اء ‪ .176‬وق ال ع ز وج ل ‪:‬‬
‫{ ومالكم أن ال تأكلوا مما ذكر اسم اهلل عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } األنعام‪.119‬‬
‫وهذا هو مقتضى عدل اهلل ورحمته بعباده فال يمكن أن يعذب قوما قبل البيان لهم وقيام‬
‫الحجة عليهم ‪ ,‬ولذلك قال سبحانه ‪{ :‬وما كان اهلل ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم‬
‫ما يتقون }التوبة ‪. 115‬‬
‫وما لم يرد بيانه مفص الً في كتاب اهلل تعالى فإن النبي صلى اهلل عليه وسلم قد بينه في‬
‫سنته تحقيقا لقوله تعالى ‪ { :‬وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }النحل ‪. 44‬‬

‫‪50‬‬
‫ولكن هناك أمور تشتبه على كثير من الناس ‪ ,‬فال يعرفون حكمها هل هي من الحالل أم‬
‫من الح رام ؟ ‪ ,‬وأم ا الراس خون في العلم فال تش تبه عليهم ‪ ,‬ويعلم ون من أي القس مين هي ‪,‬‬
‫وهذه هي األمور المشتبهات التي قال عنها صلى اهلل عليه وسلم ( وبينهما أمور مشتبهات ال‬
‫يعلمهن كثير من الناس ) ‪.‬‬
‫قسم النبي صلى اهلل عليه وسلم الناس بالنسبة إلى هذه األمور المشتبهة إلى قسمين ‪:‬‬
‫ثم َّ‬
‫القسم األول ‪ :‬من يتقي هذه الش بهات ويتركه ا ‪ ,‬طلب ا لمرض اة اهلل ع ز وج ل ‪ ,‬وتح رزا‬
‫من الوقوع في اإلثم ‪ ,‬فهذا الذي استبرأ لدينه وعرضه ‪ ,‬أي طلب البراءة لهما ‪ ,‬فحصل له‬
‫ال براءة لدينه من الذم الشرعي ‪ ,‬وص ان عرض ه عن كالم الناس في ه ‪ ,‬وفيه دلي ل على أن من‬
‫ارتكب الش بهات ‪ ,‬فق د ع رض نفس ه للق دح والطعن ‪ ,‬كم ا ق ال بعض الس لف ‪" :‬من ع َّرض‬
‫يلومن من أساء الظن به " ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫نفسه للتُّهم فال‬
‫والقسم الثاني ‪ :‬من وقع في هذه الشبهات مع علمه بأن هذا األمر فيه شبهة ‪ ,‬فقد أخبر‬
‫الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم أن من فع ل ذل ك فق د وق ع في الح رام ‪ ,‬بمع نى أن اإلنس ان إذا‬
‫تهاون وتسامح في الوقوع في الشبهات ‪ ,‬وأكثر منها ‪ ,‬فإن ذلك يوشك أن يوقعه في الحرام‬
‫وال بد ‪ ,‬وهو ال يأمن أن يكون ما أقدم عليه حرام َاًًَ في نفس األمر ‪ ,‬فربما وقع في الحرام‬
‫وهو ال يدري ‪.‬‬
‫ثم ضرب النبي صلى اهلل عليه وسلم مثال لمن يقع في الشبهات ‪ ,‬وهو أن كل ملك من‬
‫مل وك ال دنيا ل ه حمى يُضرب ح ول ملك ه ‪ ,‬ويُمن ع الن اس من دخول ه أو انتهاك ه ‪ ,‬ومن دخله‬
‫فق د ع رض نفس ه للعقوب ة ‪ ,‬فمن رعى أغنام ه ب القرب من ه ذا الحمى فإن ه ال ي أمن أن تأك ل‬
‫ماشيته منه ‪ ,‬فيكون بذلك قد تعدى على حمى الملك ‪ ,‬ومن احتاط فابتعد ولم يقارب ذلك‬
‫الحمى فقد طلب الس المة لنفسه ‪ ,‬وهذا مثل ح دود اهلل ومحارمه ‪ ,‬فإنها الحمى الذي نهى‬
‫اهلل عباده عن االقتراب منه أو تعديه ‪.‬‬
‫فقال سبحانه ‪ { :‬تلك حدود اهلل فال تقربوها } البقرة ‪187‬‬
‫وقال ‪ { :‬تلك حدود اهلل فال تعتدوها } البقرة ‪229‬‬
‫َح َّل لهم وما َح َّرم عليهم ‪ ,‬ونهاهم عن‬ ‫فاهلل عز وجل قد َّ‬
‫حد للعباد حدودا بين فيها ما أ َ‬
‫االقترب من الحرام أو تعدي الحالل ‪ ,‬وجعل الواقع في الشبهات كالراعي حول الحمى أو‬

‫‪51‬‬
‫قريب ا من ه يوش ك أن يدخل ه ويرت ع في ه ‪ ,‬فمن تع دى الحالل ووق ع في الش بهات ‪ ,‬فإن ه ق د‬
‫قارب الحرام وأوشك أن يقع فيه ‪.‬‬
‫ثم ختم الن بي ص لى اهلل علي ه وس لم الح ديث ب ذكر الس بب ال ذي ي دفع العب د إلى اتق اء‬
‫الشبهات والمحرمات أو الوقوع فيهما ‪ ,‬أال وهو صالح القلب أو فساده ‪ ,‬فإذا صلح قلب‬
‫العبد صلحت الجوارح واألعمال تبعا لذلك ‪ ,‬وإذا فسد القلب فسدت الجوارح واألعمال ‪,‬‬
‫ف القلب أم ير الب دن ‪ ,‬وملك الج وارح ‪ ,‬وبصالح األم ير أو فساده تص لح الرعي ة أو تفسد ‪,‬‬
‫فإذا كان القلب سليما حرص العبد على اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات ‪ ,‬وأما إذا كان‬
‫القلب فاس دا ق د اس تولى علي ه اتب اع اله وى والش هوات ‪ ,‬ف إن الج وارح س وف تنبعث إلى‬
‫المعاصي والمشتبهات تبعا له ‪ ,‬فالقلب السليم هو عنوان الفوز عند اهلل عز وجل قال تعالى ‪:‬‬
‫{يوم ال ينفع مال وال بنون ‪ .‬إال من أتى اهلل بقلب سليم } الشعراء ‪. 89-88‬‬
‫(من كتاب " فتح البارى " للحافظ بن حجر العسقالنى)‬
‫ففي ه ذا الح ديث العظيم حث للمس لم على أن يفع ل الحالل ‪ ،‬ويجتنب الح رام ‪ ،‬وأن‬
‫يجعل بينه وبين الحرام حاجزا وهو اتقاء الشبهات ‪ ،‬وأن يحتاط المرء لدينه وعرضه ‪ ،‬فال‬
‫يق دم على األم ور ال تي ت وجب س وء الظن ب ه ‪ ,‬وفي ه أيض ا تأص يل لقاع دة هام ة من قواع د‬
‫الشريعة ‪ ,‬وهي قاعدة سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها ‪ ,‬وفيه ك ذلك تعظيم‬
‫أم ر القلب ‪ ,‬فبص الحه تص لح أعم ال الج وارح وبفس اده تفس د ‪ ,‬نس أل اهلل أن يص لح قلوبن ا‬
‫وأن يثبتها على دينه ‪.‬‬

‫قال الرسول ما من يوم يصبح العباد فيه إال ملكان ينزالن فيقول أحدمها ‪ :‬اللهم أعط منفقا‬
‫خلفا ويقول اآلخر ‪ :‬اللهم أعط ممسكا تلفا ) صحيح مسلم ‪ /‬ج ‪ / 7‬ص ‪83‬‬

‫هذا الحديث الشريف في مضمونه حث على اإلنفاق مما أعطى اهلل من بركات نعمائه ‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫والص ورة الظ اهرة للعي ان كم ا يق ول الرس ول الص ادق األمين أن هنال ك ملك ان ي نزالن‬
‫كلما أصبح صباح ‪ ،‬أحدهم يدعو بالخير للمنفق ( اللهم أعط منفقا خلفا )‪ ،‬واآلخر يدعو‬
‫على من أنعم اهلل عليه وحجب نعمته عن المحتاجين بأن يبدد اهلل نعمته ( اللهم أعط ممسكا‬
‫تلفا )‪.‬‬

‫والحديث الشريف على مستوى رفيع من البالغة ‪ ،‬ونسيج صورته الكلية اجتمعت عليها‬
‫مزايا تتعلق بالمستوى الصوتي ‪،‬بما فيه من تداعي الحروف ‪ ،‬والجناس ‪ ،‬والطباق ‪ ،‬والتكرار‬
‫‪.‬والترصيع ‪.‬‬
‫ومزايا تتعلق بالجانب التركيبي ‪.‬‬

‫فالحديث النبوي الشريف في جزئه األول جاء بأسلوب الخبر من خالل القصر ( ما من‬
‫يوم يصبح العباد فيه إال ملكان ينزالن ) ‪.‬‬
‫وق د ع رف في نق ل الص ورة المتض منة مع نى واس ع بوض عها بين النفي واالس تثناء‬
‫توكيدا ‪،‬وتكثيفا ‪،‬وحصرا بين جملة منفية تقابلها جملة مثبتة ‪ ،‬المقصور( يوم ) مسبوق ب‬
‫(من) الزائدة للتوكيد لتستغرق جنس (يوم) النكرة ‪ ،‬وبهذا يكون المقصور كل أيام الدهر‬
‫‪،‬والمقصور عليه (ملكان ينزالن ) في كل يوم وهو جملة اسمية ؛ صورة فنية لحركة النزول‬
‫الممتدة من السماء إلى األرض تصورها ألف المد في (ملكان ) و (ينزالن ) ‪.‬‬

‫أما المقطع الثاني فهو أسلوب اإلنشاء المبدوء بالدعاء ( اللهم أعط منفقا خلفا ) ( اللهم‬
‫أعط ممسكا تلفا ) الذي كان بين النداء‪ ،‬واألمر المجازي‪.‬‬
‫أما المستوى الصوتي؛ وهو الجوهر الذي يقوم به التقطيع‪ ،‬وبه يوجد التأليف (‪)3‬فقد‬
‫كان الحديث الشريف حافال باإليقاع والتنغيم ؛ وقد كان لجرس األلفاظ أثر كبير في إيضاح‬
‫الص ورة وتجليه ا من خالل التن اغم ال ذي حص ل في ت والي ح رف الميم إح دى عش رة م رة‪،‬‬
‫والالم اثن تي عش رة م رة‪ ،‬وتع اقب الن ون‪ ،‬وأل ف الم د س ت م رات يق ول القاض ي الجرج اني‬
‫( وإنما الكالم أصوات محلها من األسماع محل النواظر من األبصار ) (‪)4‬‬
‫والشك أن التكرار قد ساهم من خالل اللمحة السردية القصصية إلى تثبيت المضمون‬
‫‪53‬‬
‫في نفس المتلقي‪ ،‬وتمكن ه من خالل المقابل ة‪ ،‬والتض اد بين المل ك األول‪ ،‬والمل ك اآلخ ر‬
‫( يقول احدهما ) (يقول اآلخر ) ( اللهم أعط) فالتكرار هنا وثيق االرتباط بالمعنى العام (‬
‫‪ .) 5‬ثم لننظر إلى الترصيع**‪ ،‬والجناس‬
‫في أس ماء الف اعلين (منفق ا )‪ ،‬و ( ممس كا ) ال دالين على الح دث‪ ،‬والح دوث في‬
‫تجددهما بهذا التوازي‪ ،‬والمشاكلة وهما مفعول به أول ‪ ،‬الجناس الناقص ( خلفا ‪ ،‬تلفا )‬
‫وهما مفعول به ثان ؛ وكل هذا قد أشرب في الطباق المتقابل مع ضده (منفقا خلفا) (ممسكا‬
‫تلفا) الذي أضفى على الصورة ألوانا تداخلت مع نغم األلفاظ‪ ،‬وتماهت في ثنايا مضامينها من‬
‫خالل حركة األلفاظ التي نزل إيقاعها مباشرة في آلة خطية باتجاه الشعور لتتعامل مع القلب‬
‫والوجدان ‪.‬‬
‫نستنتج من كل ذلك أن مضمون الحديث السامي تآزرت على تصويره كليا مزايا تتعلق‬
‫بالمستوى التركيبي والمستوى الصوتي ‪.‬‬

‫البنية النحوية والبالغية في الحديث النبوي الشريف‪ /‬محفوظ فرج إبراهيم‬


‫ـــــــــــــــ ــــــــــ ــــــــــــ‬

‫بكل الذي‬
‫الكافر ِّ‬
‫ُ‬ ‫يعلم‬
‫عن ابي هريرة رضي اهلل عنه قال سمعت رسول اهلل يقول ( لو ُ‬
‫بكل ال ذي عن د ِ‬
‫اهلل من العذاب لم‬ ‫ؤمن ِّ‬ ‫ِ‬
‫يعلم الم ُ‬
‫أس من الجن ة ول و ُ‬
‫عن د اهلل من الرحم ة لم َي ْي ْ‬
‫يأم ِن النار)[‪ ]1‬مختصر صحيح البخاري ‪470‬ـ ‪ 471‬فتح الباري شرح صحيح البخاري رقم‬ ‫َ‬
‫‪ 6469‬ج‪256 : 12‬‬

‫حديث نبوي شريف يحدث عن العلم الذي ال يعلمه إال اهلل سبحانه وتعالى الذي علمه‬
‫لرسوله الكريم؛ وهو في كل ذلك جملتان شرطيتان ألداة غير جازمة فعل الشرط والجواب‬
‫فيهم ا مقلوب ان الى الماض ي [‪ ]2‬والجمل ة الثاني ة معطوف ة على األولى والمقابل ة في تل ك‬
‫‪54‬‬
‫الص ورة المتض ادة مقابل ة مؤك دة ألن مع نى المض ي في داللت ه أن الفع ل مقط وع الوق وع‪ ،‬أو‬
‫بعيد وقوعه[‪]3‬‬
‫ألن (إ ْن ) الشرطية قد يكون الفعل فيها غير محتمل الوقوع وغير مقطوع به وعلى الرغم‬
‫من أن ( بكل ) لم تفد التوكيد ألنها أضيفت إلى ظاهر ولم تكن مضافة إلى ضمير لكنها على‬
‫الرغم من ذلك في معناها توكيد في الحالتين وهو إحاطتها بالمعنى المراد ‪ .‬واستشكل هذا‬
‫التركيب لكون كل إذا أضيفت إلى الموصول كانت اذ ذاك لعموم األجزاء ال لعموم األفراد‬
‫والغرض من سياق الحديث تعميم األفراد[‪.]4‬‬
‫والح ديث الش ريف بع د ذل ك يجم ع بين ظ اهرتين هم ا ال تركيب والت وازي[‪ ]5‬ظ اهرة‬
‫التركيب التي تتوسل بأدوات تتركب من خاللها الجملة الواحدة بجملتين وتتكامل عناصرها‬
‫لتعبر عن فكرة كما في األداة ( لو ) التي تركب منها فعل الشرط وجوابه ومع ذلك الحظنا‬
‫ت وازن الجمل تين في المقابل ة ال تي عطفت فيه ا الجمل ة الثاني ة على األولى لتتض ح الص ورة‪،‬‬
‫وتت بين بواس طة واو العطف ‪ .‬وقد ق دم الرسول صلى اهلل عليه وس لم ذكر الك افر الن سعة‬
‫الجنة تقتضي أن يطمع فيها كل أحد[‪]6‬‬
‫ومن خالل الح ديث الش ريف نس تطيع أن نستش ف م دى عناي ة الرس ول ص لى اهلل علي ه‬
‫وس لم في م ا يس مى بالتوص يل للمتلقي وان ه عق د مرم اه في بالغت ه على أن تحف ظ كالم ه‬
‫الشريف صدور المتلقين في أبهى حلة وأسمى عبارة وأجل كلمة سواء أكان ذلك من حيث‬
‫بن اء الجمل ة في تركيبه ا في أن ت رد ش رطية فع ل الش رط مض ارع ( يعلم ) أو الج واب ( لم‬
‫ييأس ) ‪ ( ،‬لم يأمن ) أو ذلك التناضر المتوازن الذي ان تلفظت فعل الشرط وجوابه فالجملة‬
‫الثانية ستتضح دون ِّ‬
‫كد وتفكير حتى وإن لم يحفظها المتلقي ألنه يعلم إنها مقابلة ( المعنى‬
‫وضده ) وذلك ما ينسجم مع ما ُكلِّف به الرسول في انه رحمة للناس كافة؛ ولذلك ال بد أن‬
‫يصل حديثه إلى الناس كافة‬
‫وعلى الرغم من ان المقابلة تقع ضمن علم البديع الذي يراد به تحسين الكالم وتزيينه‪،‬‬
‫وفي ذلك تقع عنايته على الناحية الشكلية إال ان هذه المقابلة الواردة في الحديث فضال عن‬
‫دورها البين في التناظر المتطابق من ناحية الشكل‬
‫فان التشاكل النحوي في تشابه الجملتين يؤدي وظيفتين مهمتين فيخدم البعد اإليقاعي‬

‫‪55‬‬
‫بتك رار ال تركيب‪ ،‬وانتظامه من ج انب‪ ،‬ويه دف من ج انب آخ ر الى تبليغ رس الة م ا ألن مثل‬
‫ذلك التركيب ذو طابع جمالي تأثري فضال عن طبيعته المعنوية والعالقية ومن هذا ال يمكن‬
‫أن تك ون بني ة الت وازي بني ة ش كلية فق ط[‪ ]7‬ان المتوالي ات اإليقاعي ة في الجمل تين س اهمت‬
‫ك ذلك في س مو الفك رة وت ركت أث را في الناحي ة النفس ية ل دى المتلقي في ج رس اللفظ ة‬
‫المفردة والعبارة لما له وقع في السمع يتوافق مع داللة الحديث الشريف[‪]8‬‬

‫ـــــــــــــــ ــــــــــ ــ‬

‫[‪ ]1‬في صحيح مسلم ( لو يعلم المؤمن ما عند اهلل من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو‬
‫يعلم الكافر ما عند اهلل من الرحمة ما قنط من جنته أحد ) صحيح مسلم بشرح النووي رقم‬
‫‪ 2755‬ج ‪19 : 17‬‬

‫[‪ ]2‬شرح ابن عقيل ‪386 /2‬‬

‫[‪]3‬واألص ل في ف رض المح االت كلم ة (ل و) دون ( إن) ألنه ا لم ا ال ج زم لوقوع ه وال‬


‫وقوعه والمحال مقطوع لالوقوعه كليات أبي البقاء ‪/ 51/‬‬

‫[‪ ]4‬فتح الباري شرح صحيح البخاري ج‪257 : 12‬‬

‫[‪]5‬التوازي لغة يقصد به المحاذاة أو المجاورة ‪ /‬ينظر مجلة دراسات ـ العلوم اإلنسانية‬
‫المجلد ‪ 22‬أ العدد ‪ 5‬سنة ‪1995‬م ‪ ،‬ظاهرة التوازي في قصيدة الخنساء موسى رباعية ص‬
‫‪ / 2030‬والموازاة ‪ :‬المقابلة والمواجهة واألصل فيه الهمزة يقال آزيته إذا حاذيته ‪ /‬لسان‬
‫العرب ابن منظور ‪ /207 /15‬وللتوازي اصطالحا تعاريف كثيرة فقد عرف بانه عبارة عن‬
‫تماثل قائم بين طرفين من السلسلة اللغوية نفسها وقد فسر ذلك بأن هذين الطرفين عبارة‬
‫عن جملتين لهما البنية نفسها بحيث يكون بينهما عالقة متينة تقوم على أساس المشابهة أو‬

‫‪56‬‬
‫على أس اس التض اد ‪ /‬ينظ ر مجل ة فك ر ونق د الس نة الثاني ة الع دد ‪ 18‬س نة ‪ 1999‬م الت وازي‬
‫ولغ ة الش عر محم د كن وني ص ‪ 79‬وينظ ر الت وازي التركي بي في الق رآن الك ريم عب د خلي ف‬
‫خضر عبيد الحياني كلية التربية جامعة الموصل‪/‬‬

‫[‪ ]6‬فتح الباري شرح صحيح البخاري ج‪256 : 12‬‬

‫[‪ / ]7‬ينظر علم الداللة دراسة وتطبيق د‪ .‬نور الهدى لورش منشورات جامعة قار يونس‬
‫بنغازي الطبعة األولى ‪ 1995‬م ص ‪ 45‬وينظر في ذلك النقد المنهجي عند العرب د‪ .‬محمد‬
‫مندور ص‪52‬‬

‫[‪ ]8‬ينظر األسس النفسية في البالغة العربية د‪ .‬مجيد عبد الحميد ناجي ص ‪59‬‬

‫بالغة الوصف فى الحديث النبوى من خالل الصحيحين‬


‫دراسة بالغية تحليلية‬

‫الدكتور ‪ /‬محمد أبوالعال أبو العال الحمزاوى‬

‫مقدمة وتمهيد‬
‫الحم د هلل ‪ ,‬والص الة والس الم على ص احب الح وض الم ورود ‪ ,‬والل واء المعق ود ‪ ,‬من‬
‫أوتى جوامع الكلم ‪ ,‬وروائع الحكم ‪ ,‬محمد بن عبد اهلل ‪ ,‬إمام البلغاء ‪ ,‬وسيد الفصحاء ‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫وب ــعد‬
‫ف إن أح اديث نبين ا ص لى اهلل علي ه وس لم ق د ح وت ص نوف البالغ ة ‪ ,‬وأل وان الجم ال‬
‫والفص احة ‪ ,‬وع برت أدق تعب ير عن س مو النفس ال تى خ رجت منه ا ‪ ,‬وبينت المنب ع الع ذب‬
‫الذى نهلت منه ‪ ,‬وكما يقول الجاحظ عن بالغته صلى اهلل عليه وسلم " ‪ ... :‬فلم ينطق إال‬
‫عن ميراث حكمة ‪ ,‬ولم يتكلم إال بكالم قد حف بالعصمة ‪ ,‬وشيد بالتأييد ‪ ,‬ويسر ب التوفيق ‪,‬‬
‫وهو الكالم الذى ألقى اهلل عليه المحبة ‪ ,‬وغشاه بالقبول ‪ ,‬وجمع له بين المهابة والحالوة ‪,‬‬
‫وبين حسن اإلفهام ‪ ,‬وقلة عدد الكالم ‪ , ...‬ثم لم يسمع الناس بكالم قط هو أعم منه نفع اً ‪,‬‬
‫وال أقصد لفظ اً ‪ ,‬وال أعدل وزن اً ‪ ,‬وال أجمل مذهباً ‪ ,‬وال أكرم مطلب اً ‪ ,‬وال أحسن موقع اً ‪,‬‬
‫وال أسهل مخرجاً ‪ ,‬وال أفصح معنى ‪ ,‬وال أبين فحوى من كالمه صلى اهلل عليه وسلم " ( )‬
‫وهذا الجمال الفنى فى بالغته صلى اهلل عليه وسلم إنما يرجع إلى سموه الروحى ‪ ,‬واتصاله‬
‫بالمأل األعلى ‪ ,‬حيث أراد اهلل عز وجل أن يكون النبى بدعوته نقطة تحول فى حياة البشرية‬
‫وتاريخه ا ‪ .‬ولق د ب دأ فى أم ة تنق اد للبي ان ‪ ,‬وتخض ع لس لطان الفص احة ‪ ,‬فال عجب أن ك ان‬
‫أبلغهم وأفص حهم " فكالم ه كلم ا زدت ه فك راً زادك مع نى ‪ ,‬وتفس يره ق ريب ك الروح فى‬
‫جس مها البش رى ‪ ,‬ولكن ه بعي د ك الروح فى س رها اإللهى ‪ , ...‬فه و لس ان وراءه قلب وراءه‬
‫نور وراءه اهلل جل جـالله " ( ) وألجل ذلك بنيت البالغة النبوية على أصول ودعائم ( ) ومع‬
‫مكانة هذا البيان النبوى ‪ ,‬وما له من شرف ومنزلة فى دنيا الناس ‪ ,‬لم نحظ بدراسات بالغية‬
‫كث يرة ل ه فى ت راث اإلس الم الحفي ل تتناس ب م ع مكانت ه ومنزلت ه ‪ ,‬ونج د فى كتب األدب‬
‫والبالغ ة إش ارات م وجزة إلى منزل ة البي ان النب وى ‪ ,‬أو ذك ر لبعض الخطب واألح اديث ال تى‬
‫تشتمل على أسرار بالغية وهى أحاديث معروفة ومشهورة ينقلها الالحق عن السابق ( ) كما‬
‫فى البي ان والتب يين للجاح ظ ‪ ,‬والمث ل الس ائر البن األث ير ‪ ,‬وغيرهم ا من كتب البالغ ة‬
‫واألدب ‪ .‬وك أن بالغت ه ص لى اهلل علي ه تنحص ر فى ه ذه األح اديث دون غيره ا ‪ .‬ولق د ق ام‬
‫بعض الب احثين العص ريين بمح اوالت طيب ة وجه ود مخلص ة لدراس ة البي ان النب وى ( ) ‪ ,‬وهى‬
‫بحاجة إلى إضافة باستمرار لنكشف للناس عن أسرار هذا البيان المبدع ‪ ,‬ولسد العجز فى‬
‫مكتبتن ا العربي ة فى ه ذا الج انب المهم ‪ .‬ولق د الح لى فيم ا يتص ل بناحي ة التص وير فى البي ان‬
‫النب وى ج انب " الوص ف " ‪ ,‬ولق د كتبت ه ذه الص فحات إس هاماً بجه دى المتواض ع لخدم ة‬

‫‪58‬‬
‫البي ان النب وى ‪ .‬ولكن هن اك ع دة أم ور تتص ل بمنهج البحث وخطت ه والب د من بيانه ا قب ل‬
‫الش روع في ه‪.‬أوالً ‪ :‬ه ذا البحث يق وم على دراس ة الوص ف فى البي ان النب وى من خالل‬
‫الص حيحين( البخ ارى ومس لم ) ( ) ‪ ,‬ولق د تتبعت األح اديث ال تى اش تملت على أل وان من‬
‫الوص ف فيهم ا دون غيرهم ا لش هرتهما ‪ ,‬وك ثرة أح اديث الوص ف فيهم ا ‪ ,‬م ع ص حتهما ‪,‬‬
‫ولإليج از فى البحث من ناحي ة أخ رى ‪ ,‬وال أدعى أن نى ألممت بك ل أح اديث الوص ف فيهم ا‬
‫محلالً ومبيناً ‪ ,‬بل أتناول بعضها بالتحليل البالغى مع اإلشارة إلى المواضع األخرى لمن أراد‬
‫التوسع ‪ ,‬ومما تجدر األشارة إليه أن هذا اإليجاز فى البحث الينفى صحة أحاديث الوصف‬
‫األخرى فى كتب السنن وغيرها من دواوين السنة ‪ ,‬ولكن المقام هنا مقام اإلشارة ال الحصر‬
‫‪ ,‬كم ا أن م ا فى الص حيحين مجم ع على ص حته ومق دم على غ يره كم ا ذك ر المحقق ون من‬
‫العلم اء ( ) ثاني اً ‪ :‬منهج التحلي ل لألح اديث المش تملة على الوص ف يق وم على الجم ع بين‬
‫اتجاهين ‪ :‬االتجاه العلمى ‪ ,‬واالتجاه األدبى ‪ ,‬مع ظهور االتجاه األدبى نظراً ألهميته ودوره‬
‫فى إبراز أسرار البيان النبوى ‪ ,‬ولكن العناية بالمظهر الفنى ال تعنى إغفال الج انب العلمى ألن‬
‫إغفاله معناه االنزالق إلى ميدان األهواء واألذواق الساذجة ‪ ,‬وهذا يسلمنا إلى فوضى ال مثيل‬
‫لها ( ) ‪ ,‬وإنما من غايات االتجاه األدبى نقل اإلحساس بجمال النص إلى المتلقى أو القارئ‬
‫بعي داً عن الناحي ة االص طالحية ال تى ال يعرفه ا إال المتخصص ون ‪ ,‬والب واعث الحقيقي ة له ذا‬
‫االتج اه إنم ا ترج ع إلى الق رآن الك ريم ‪ ,‬وأح اديث الن بى لم ا حوي اه من ص نوف الجم ال ‪,‬‬
‫ومخاطبتهما للعقل والوجدان ‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬التطبيق على األحاديث المشتملة على الوصف يسير على ترتيب الكتب واألبواب‬
‫فى الصحيحين ( البخارى ومسلم ) مع تقديم منهج البخارى فى التبويب لما ضمنه فى أبوابه‬
‫من التراجم التى حيرت األفكار بما فيها من الدقة والفقه ‪ ,‬وحسن الترتيب ( ) ‪ ,‬أما إذا كان‬
‫الحديث موضوع البحث فى صحيح مسلم فقط ‪ ,‬فاعتمد على ترتيبه ‪ .‬وهذا المنهج يسهل‬
‫على القارئ الرجوع إلى الحديث فى كتابه أو بابه ‪.‬وبعد هذه المقدمة وهذا التمهيد أنتقل‬
‫إلى فصول البحث ومباحثه ‪ ,‬حيث يتضمن هذا البحث ثالثة فصول ‪ ,‬وخاتمة ‪ ,‬وفهارس ‪.‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬الوصف ومعناه ويتضمن أربعة مباحث ‪:‬‬
‫المبحث األول ‪ :‬الوصف عند اللغويين والبالغيين والنحويين ‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫المبحث الثانى ‪ :‬العالقة بين الوصف والتصوير ‪.‬‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬العالقة بين الوصف والخيال ‪.‬‬
‫المبحث الرابع ‪ :‬تنوع الوصف فى البيان النبوى ‪.‬‬
‫الفص ل الث انى ‪ :‬الوص ف فى الح ديث النب وى من خالل الص حيحين ‪ ,‬وه و الج زء‬
‫التطبيقى من البحث ‪.‬‬
‫الفصل الثالث ‪ :‬خصائص الوصف فى البيان النبوى ‪ ,‬مع بيان مواضع أحاديث الوصف‬
‫األخ رى فى الص حيحين لمن أراد التوس ع ‪ .‬وبع د ذل ك ت أتى الخاتم ة متض منة أهم النت ائج‬
‫بإيجاز ‪ ,‬يليها فهرس المصادر والمراجع ‪ ,‬ثم فهرس الموضوعات ‪.‬‬
‫واهلل أسأل أن يتقبل منا صالح العمل ‪ ,‬وأن يجمع بيننا وبين حبيبه وخليله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فى جنات النعيم ‪ .‬إنه سميع قريب مجيب ‪.‬‬

‫الفصل األول ‪ :‬الوصف ومعناه‬


‫المبحث األول‪ :‬الوصف عند اللغويين والنحويين والبالغيين‪:‬‬
‫الوصف عند اللغويين‪" :‬الوصف من وصف الشئ له وعليه وصفاً وصفة‪َ :‬حالَّه‪ ,‬والهاء‬
‫الحلْي ة‪ ,‬وق ال الليث‪ :‬الوص ف وص فك‬‫والص فة‪ِ :‬‬
‫ع وض من ال واو‪ ,‬وقي ل‪ :‬الوص ف المص در َّ‬
‫الر ْحمن المس َتعا ُن َعلَى م ا تَ ِ‬
‫ص ُفو َن﴾ (‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫الشئ بحليته ونعته‪ ..‬وقوله عز وجل‪َ ...﴿ :‬و َر ُّبنَ ا َّ َ ُ ُ ْ َ‬
‫أراد م ا تص فونه من الك ذب (‪ . )2‬والوص ف‪ :‬م ا ينعت ب ه الش ئ من ص فات ونع وت‪ ,‬وقول ه‬
‫ِ‬ ‫ص ُ ِ‬ ‫تعالى‪ ...﴿ :‬وتَ ِ‬
‫ب ‪ )3( ﴾...‬أى تقول الكذب وتحققه (‪ )4‬ويقال‪ :‬هو‬ ‫ف أَلْس نَُت ُه ُم ال َك ذ َ‬ ‫َ‬
‫م أخوذ من ق ولهم‪ :‬وص ف الث وب الجس م إذا أظه ر حال ه وبين هيئت ه (‪ )5‬والوص ف والص فة‬
‫مترادف ان عن د أه ل اللغ ة‪ ,‬والم راد بالوص ف ليس ص فة عرض ية قائم ة بج وهر كالش باب‬
‫والشيخوخة ونحوهما‪ ,‬بل يتناول جوهراً قائم اً بجوهر آخر يزيد قيامه به حسناً له وكماالً‪,‬‬
‫وي ورث انتقاص ه عن ه قبح اً ل ه ونقص انا ً(‪ )6‬وفى التعريف ات‪ :‬الوص ف‪ :‬عب ارة عم ا دل على‬
‫الذات باعتبار معنى وهو المقصود من جوهر حروفه‪ ,‬أى يدل على الذات بصفة كأحمر فإنه‬
‫بج وهر حروف ه ي دل على مع نى مقص ود وه و الحم رة‪ .‬والوص ف والص فة مص دران كالوع د‬
‫والعدة " (‪ )7‬ومن خالل كالم اللغويين حـول الوصـف يتضـح لنا أن الوصف‪ :‬توضيح الشئ‬

‫‪60‬‬
‫وإظهاره‪ ,‬وبيان حاله وهيئته‪ .‬أماعنالوصف عند البالغيين والنقاد‪ :‬فلقدعرف قدامة بن جعفر‬
‫الوص ف بقول ه‪" :‬ه و ذك ر الش ئ كم ا في ه من األح وال والهيئ ات‪ .‬ولم ا ك ان أك ثر وص ف‬
‫الش عراء إنما يق ع على األش ياء المركب ة من ض روب المعانى ك ان أحس نهم من أتى فى شعره‬
‫ب أكثر المع انى ال تى الموص وف م ركب منه ا ثم أظهره ا في ه وأواله ا‪ ,‬ح تى يحكي ه بش عره‪,‬‬
‫ويمثل ه للحس بنعت ه"( )‪ .‬ويق ول ابن القيم‪" :‬والوص ف أص له الكش ف واإلظه ار من ق ولهم‪:‬‬
‫وصف الثوب الجسم إذا لم يستره ونم عليه‪ .‬وأحسنه ما يكاد يمثل الموصوف عيان اً وألجل‬
‫ذلك قال بعضهم‪" :‬أحسن الوصف ما قلب السمع بصراً‪ ,‬ومنه فى القرآن العظيم كثير مثل‬
‫قوله تعالى فى وصف البقرة التى أمر بنو إسرائيل بذبحها لما سألوا أن توصف لهم بقولهم‪:‬‬
‫ض َوالَ بِ ْك ٌر َع َوا ٌن َب ْي َن‬ ‫ول إَِّن َه ا َب َق َرةٌ الَّ فَ ا ِر ٌ‬ ‫ك ُيَبيِّن لَّنَ ا َم ا ِه َي قَ َ‬
‫ال إِنَّهُ َي ُق ُ‬ ‫﴿قَ الُوا ا ْدعُ لَنَ ا َربَّ َ‬
‫ص ْف َراءُ‬ ‫ول إَِّن َه ا َب َق َرةٌ َ‬
‫ال إِنَّهُ َي ُق ُ‬
‫ك ‪ ) ( ﴾...‬وقوله لما سألوا أن يصف لهم لونها‪ ...﴿ :‬قَ َ‬ ‫ذَلِ َ‬
‫ول إَِّن َه ا َب َق َرةٌ الَّ‬
‫ال إِنَّهُ َي ُق ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ‬
‫ين﴾ ( ) وقول ه لم ا س ألوه بي ان فعله ا‪ ( :‬قَ َ‬ ‫س ُّر النَّاظ ِر َ‬‫فَ اق ٌع ل ْو ُن َه ا تَ ُ‬
‫سلَّ َمةٌ الَّ ِشيَةَ ِف َيها ‪ ) ( ﴾...‬فجمع فى هذه اآلية جميع‬ ‫ث ُم َ‬‫الح ْر َ‬ ‫ِ‬
‫ض َوالَ تَ ْسقي َ‬ ‫ول تُثِ ُير األ َْر َ‬‫ذَلُ ٌ‬
‫األح وال ال تى يض بط به ا وص ف الحي وان‪ ,‬ف إن الحي وان عن د ال بيع واإلج ارة‪ ,‬وس ائر وج وه‬
‫التمليكات يحتاج فيه إلى معرفة سنه ولونه وعمله‪ ,‬ثم يفتقر فيه إلى معرفة عيوبه فنفى اهلل‬
‫سبحانه وتعالى عن تلك البقرة كل عيب بقوله ﴿الَّ ِش يَةَ ِف َيه ا﴾ فجمع فى هذه اآلية جميع‬
‫وج وه الوص ف‪ ,‬فإن ه فى األول وص ف س نها‪ ,‬وفى الث انى وص ف لونه ا‪ ,‬وفى الث الث وص ف‬
‫خلقها وعملها‪ ...‬ومن هذا الباب فى القرآن كثير ال يحصى‪ ,‬وكذلك السنة النبوية‪ ,‬وكذلك‬
‫الشعر‪) ("...‬‬
‫ويك اد النق اد يجمع ون على أن أج ود الوص ف ه و ال ذى يس تطيع أن يحكى الموص وف‬
‫حتى يكاد يمثله عيان اً للسامع‪ ,‬وذلك بأن يأتى الشاعر بأكثر معانى ما يصفه وبأظهرها فيه‬
‫وأواله ا ب أن يمثل ه للحس‪ .‬ول ذا ق ال بعض النق اد‪ :‬أبل غ الوص ف م ا قلب الس مع بص راً" ( )‪.‬‬
‫ومن خالل كالم البالغ يين والنق اد يالح ظ ع دة أم ور‪ :‬أوالً‪ :‬الوص ف ذك ر الش ئ بأحوال ه‬
‫وهيئاته‪ .‬ثانياً‪ :‬أجود الوصف ما اشتمل على أكثر المعانى التى يتركب منها الموصوف ‪.‬ثالث اً‪:‬‬
‫أحسن الوصف هو الذى يستطيع أن يحكى الموصوف حتى يكاد يمثله عيان اً للسمع فيقلب‬
‫السمع بصراً‪ .‬وكالم النقاد وإن كان حول الوصف كغرض من أغراض الشعر إال أنه تحديد‬

‫‪61‬‬
‫دقي ق له ذا الفن من فن ون الكالم؛ وله ذا أخ ذ ب ه ابن القيم وطبق ه على بعض آي ات الق رآن‬
‫موض حاً أن ه كث ير فى الق رآن‪ ,‬والس نة‪ ,‬وكالم الع رب‪ ,‬وم ا يعنين ا هن ا ه و فن "الوص ف فى‬
‫الح ديث الش ريف"‪ .‬وسيتض ح لن ا إن ش اء اهلل تع الى أن فن الوص ف فى الح ديث الش ريف‬
‫ينطب ق عليه م ا ذك ره البالغي ون والنقاد ح ول تعريف ه‪ ,‬كما سيتض ح لنا أثره فى بالغة البيان‬
‫النبوى‪.‬ومما يتصل بالبحث بيان العالقة بين الوصف والتصوير‪.‬‬
‫المبحث الث انى‪ :‬العالق ة بين الوص ف والتص وير‪" :‬الوص ف وس يلة من وس ائل التص وير‬
‫المتعددة‪ ,‬فلقد اعتمد العرب على وسائل كثيرة فى التصوير منها ما كان واضحاً عندهم تمام‬
‫الوض وح كالتش بيه واالس تعارة والكناي ة‪ ,‬وبعض ها لم يكن واض حاً فى نت اجهم األدبى‬
‫كالوص ف‪ ,‬والقص ة‪ ,‬والتجس يم‪ ,‬والتش خيص‪ ,‬والموازن ة‪ ,‬واإلش ارة‪ ,‬والرس م" (‪ .)2‬وه ذه‬
‫الوس ائل نراه ا بوض وح وجالء فى البي ان النب وى‪ ,‬ف النبى ص لى اهلل علي ه وس لم أوتى جوام ع‬
‫الكلم‪ ,‬وأدب ه رب ه فأحس ن تأديب ه؛ وله ذا لم يغف ل البي ان النب وى فى تص ويره ال دقيق ه ذه‬
‫الوسائل (‪ " )3‬والمتتبع لآلثار النبوية يجد صورها الفنية من أحسن المثل لما تنجذب إليه‬
‫النف وس من الق ول لم ا فط ر علي ه ص لى اهلل علي ه وس لم من معرف ة عناص ر الت أثير فى البي ان‬
‫وأوجه الجمال فى اللسان‪ ,‬فجاء حديثه النبوى من البالغة العالمية فى موضع تتطلع نحوه‬
‫األبصار‪ ,‬وتتقاصر دونه األعناق (‪)1‬‬
‫أما عن العالقة بين الوصف والتشبيه‪ " :‬فالوصف قريب من التشبيه إال أن الفرق بينهما‬
‫أن التش بيه مج از‪ ,‬والوص ف راج ع إلى حقيقت ه وذات ه" (‪ .)2‬أم ا عن الخي ال ودوره فى‬
‫التص وير‪ ,‬فالح ديث عنه وعن عالقته بالوص ف من األهمي ة بمك ان ونحن فى س ياق الح ديث‬
‫عن الوصف فى البيان النبوى‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬العالقة بين الوصف والخيال‪:‬‬
‫" الكالم فى وصف الطبيعة والجمال والحب على طريقة األساليب البيانية إنما هو باب‬
‫من األحالم إذ البد فيه من عينى أو نظرة عاشق‪ ,‬وهنا نبى يوحى إليه فال موضع للخيال فى‬
‫أمره إال ما كان تمثيالً يراد به تقوية الشعور اإلنسانى بحقيقة ما فى بعض ما يعرض من باب‬
‫اإلرشاد والموعظة‪ ...‬فعمله أن يهدى اإلنسانية ال أن يزين لها‪ ,‬وأن يدلها على ما يجب فى‬
‫العم ل ال م ا يحس ن فى ص ناعة الكالم‪ ,‬وأن يه ديها إلى م ا تفعل ه لتس مو ب ه ال إلى م ا تتخيل ه‬

‫‪62‬‬
‫لتلهو به‪ .‬والخيال هو الشئ الحقيقى عند النفس فى ساعة االنفعال والتأثر به فقط‪ ,‬ومعنى‬
‫هذا أنه ال يكون أبداً حقيقة ثابتة فال يكون كذباً على الحقيقة‪ ,‬ثم هو صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ليس كغيره من بلغاء الناس بتصل بالطبيعة ليستملى منها‪ ,‬بل هو نبى مرسل متصل بمصدرها‬
‫األزلى ليملى فيها‪.)3( "...‬‬
‫" فوج ود الخي ال فى الح ديث النب وى أم ر غ ير متوق ع إال عن دما يك ون مص دراً للتش بيه‬
‫والتمثيل والتصوير‪ )4( "...‬فالوصف النبوى الذى يعتمد التصوير الذى يعتمد بدوره الخيال‬
‫يأتى فى أعلى درجات الصدق‪ ,‬وعلى ذروة سنام البالغة ألنه متصل بهذه النفس الصافية التى‬
‫تربعت على قمة السمو الروحى ‪ ,‬وهذا يدفعنا للحديث عن الخيال كطريق من طرق التعبير‬
‫عن المعانى الصادقة ‪ ,‬والتص ورات المعقولة طالما نتحدث عن الخيال وصلته بفن الوصف‬
‫فى البيان النبوى‪.‬‬
‫" إن إطالق لفظ التخيل أو الخيال فى صدد الحديث عن المعانى الصادقة‪,‬والتصورات‬
‫المعقولة اليحط من قيمتها أويمس حرمته ابنقيصه‪ ,‬فإن علماءالبالغة أنفسهم قد أطلقوه على‬
‫ماي أتى ب ه البلي غ فى االس تعارة المكني ة ( ) من األم ور الخاص ة بالمش به ب ه ويثبت ه للمش به‬
‫فق الوا ‪ :‬األظف ار أو إض افتها فى قول ك ‪ :‬أنشـبت المني ة أظفاره ا" ( ) تخيي ل أو اس تعارة‬
‫تخيليية‪ ,‬وأطلقوه فى الفصل والوصل حين تكلموا على الجامع بين الجملتين وقسموه إلى‪:‬‬
‫عقلى‪ ,‬ووهمى‪ ,‬وخي الى ‪ ,‬وأطلق وه فى فن الب ديع على تص وير م ا س يظهر فى العي ان بص ورة‬
‫المشاهد‪ ,‬ولم يبالوا أن يضربوا لجميع تلك المباحث أمثلة من آيات الكتاب العزيز ‪ ,‬وغيره‬
‫من األقوال الصادقة‪.‬‬
‫" ولق د ك ان من أس اليب الق رآن فى ال دعوة أن ض رب األمث ال الرائع ة‪ ,‬وص اغ التش ابيه‬
‫الرائقة‪ ,‬واالستعارات الفائقة‪ ,‬والكنايات اللطيفة‪ ,‬ويضاف إلى ذلك ما كان ينطق به الرسول‬
‫ص لى اهلل علي ه وس لم من األق وال الطافح ة بض رب األمث ال واالس تعارات والكناي ات ال تى لم‬
‫تخط ر على قلب ع ربى قبل ه فك ان مطل ع اإلس الم مم ا زاد البلغ اء خ برة فى تص ريف المع انى‬
‫وت رقى بهم فى ص ناعة التخيي ل "( ) " والوص ف ال دقيق الن ابع من البص يرة الناف ذة‪ ,‬وحس ن‬
‫اإلدراك‪ ,‬والت دفق الع اطفى أبل غ من التش بيه أو االس تعارة أو الكناي ة أو الوس ائل المألوف ة فى‬
‫التصوير‪ ,‬إنه ينقل لك أمام عينيك المشهد حتى تكاد تحس به بحواسك وتلمسه بيديك"( )‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫وسيتض ح لن ا من خالل التط بيق أن الوص ف النب وى من أب رز المقوم ات الحيوي ة المباشرة فى‬
‫إقامة الصورة "(‪)3‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬تنوع الوصف فى البيان النبوى‬
‫اس تخدم الن بى ص لى اهلل علي ه وس لم " الوص ف" ألج ل تعليم الن اس وإرش ادهم إلى م ا‬
‫يقربهم إلى ربهم ولبيان حقائق الدين‪ ,‬كما استخدمه فى تحذيرهم وتخويفهم مما يبعدهم عن‬
‫جناب ه ورحمت ه‪ .‬والن بى ص لى اهلل علي ه وس لم داع إلى اهلل ومبش ر‪ ,‬ون ذير‪ ,‬ومبل غ عن ه كم ا‬
‫نطقت ب ذلك آي ات الق رآن‪ ,‬وأحاديث ه ص لى اهلل علي ه وس لم‪ .‬ومن هن ا فلق د ج اء فى البي ان‬
‫النبوى "الوصف" الذى يقلب السمع بصراً‪ ,‬والمعقول محسوساً‪ ,‬والمتخيل مشاهداً‪ ,‬ويحي ط‬
‫بالموصوف من جهاته المختلفة حتى يحكيه ويمثله للعيان‪ .‬وهذه الناحية الفنية والبالغية ال‬
‫تتخل ف فى أى موض وع من الموض وعات فى البي ان النب وى‪ ,‬كم ا ال يلحقه ا الخل ل أو‬
‫االض طراب فى أى ناحي ة من الن واحى‪ .‬فنج د فى البي ان النب وى وص ف اإليم ان فى األم ور‬
‫العقدية والقلبية‪ ,‬ووصف الصالة والزكاة والذكر فى األمور الحسية‪ ,‬ووصف الفتن والجنة‬
‫والن ار فى األم ور الغيبي ة إلى غ ير ذل ك من أل وان الوص ف التىسأش ير إلى بعض ها‪ .‬وه ذه‬
‫اللوحات الوصفية مع تنوعها واختالف موضوعاتها تأتى على درجة واحدة فى البالغة ألنها‬
‫خرجت من مشكاة النبوة (‪ )4‬وسأتناول بمشيئة اهلل تعالى الوصف فى الحديث النبوى على‬
‫ت رتيب الكتب واألب واب فى الص حيحين م ع تق ديم تب ويب البخ ارى نظ راً لم ا فى تبويب ه من‬
‫الدق ة والفق ه وحس ن ال ترتيب كم ا ش هد ب ذلك المحقق ون من العلم اء‪ ,‬وس أبين بع ون اهلل م ا‬
‫ينطوى عليه الوصف النبوى من صور فنية‪ ,‬وأسرار بالغية‪.‬‬
‫الفصل الثانى ‪ :‬الوصف فى الحديث النبوى من خالل الصحيحين‬
‫وصف النخلة وتمثيلها بالمسلم‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬إن من الشجر شجرة ال يسقط ورقها‪ ,‬وإنها َمثَ ُل‬
‫المسلم‪ ,‬فحدثونى ما هى؟ " فوقع الناس فى شجر البوادى‪ ,‬قال عبد اهلل‪ :‬ووقع فى نفسى‬
‫أنها النخلة فاستحييت قالوا‪ :‬حدثنا ما هى يا رسول اهلل؟ قال‪" :‬هى النخلة" ( )‪.‬‬
‫فى هذا الحديث الشريف يضرب النبى صلى اهلل عليه وسلم مثالً للمسلم‪ ,‬وفى ضرب‬
‫األمثال زيادة فى اإلفهام‪ ,‬وتصوير للمعانى لترسخ فى الذهن‪ .‬وهنا جاء الوصف معتمداً على‬

‫‪64‬‬
‫التش بيه ( ) حيث ش بهت النخل ة بالمس لم وج اء الوص ف أوالً للنخل ة لقول ه ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم‪" :‬إن من الشجر شجرة ال يسقط ورقها"‬
‫وهذا الوصف من أبرز أوصاف النخلة التى امتازت به من سائر األشجار أال وهو عدم‬
‫سقوط ورقها‪ ,‬وليست هذه كل صفات النخلة‪ .‬ويبدو لى فى ذلك سر بالغى‪ ,‬فالنبى صلى‬
‫اهلل علي ه وس لم ب ذكره له ذا الوص ف من أوص اف النخل ة يري د أن ي بين أن النخل ة ال ينقط ع‬
‫عطاؤها وخيرها بحال من األحوال‪ ,‬فورقها فيها سواء أخرج منها الثمر أم لم يخرج‪ .‬وفى‬
‫هذا إشارة إلى أن الخير مستمر فى المسلم فى كل حال ألن نفسه مجبولة على حب الخير‬
‫والعطاء‪ ,‬ال يفارقه حب الخير‪ ,‬وال يفارق هو فعل الطاعات‪ ,‬فال ينفصل أحدهما عن اآلخر‪,‬‬
‫كما أن النخلة ال يسقط ورقها بحال من األحوال‪ ,‬ولهذا عقب النبى صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بعد هذا الوصف للنخلة بتمثيلها بالمسلم‪ ,‬وكأنه يلفت األنظار بداية إلى أن هذه الخصيصة‬
‫فى وص ف النخل ة هى أب رز الس مات والص فات ال تى تش ابه فيه ا المس لم‪ ,‬فه ذا ال ترتيب بين‬
‫الوصف أوالً‪ ,‬والتشبيه‪ .‬ثاني اً‪ -‬فيما يبدو لى‪ -‬أمر مقصود فى البيان النبوى‪ ) (.‬وكما سبق‬
‫أن النبى صلى اهلل عليه وسلم ذكر هذه الصفة وحدها من صفات النخلة مع أن لها صفات‬
‫أخرى كثيرة " (‪ )2‬موجودة فى جميع أجزائها‪ ,‬مستمرة فى جميع أحوالها‪ ,‬فمن حين تطلع‬
‫إلى أن تيبس تؤكل أنواعاً‪ ,‬ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها حتى النوى فى علف الدواب‪,‬‬
‫والليف فى الحبال‪ ,‬ومن خشبها وورقها وأغصانها يستعمل جذوعاً وحطب اً وعصياً ومخاصر‬
‫وحص راً وأوانى وغ ير ذل ك" (‪ .)3‬ف اكتفى الن بى ص لى اهلل علي ه وس لم ب ذكر أب رز‬
‫الص فات‪,‬وت رك الب اقى ليرب ط المس لمون بين الص فة الم ذكورة وبين المس لم ثم يبحث ون بع د‬
‫ذلك عن باقى وجوه الشبه بين المسلم وبين النخلة‪ ,‬وإذا كانت الصفات التى سبق ذكرها‬
‫ضرها(‪ )1‬فكذلك المسلم خيره مستمر فى‬‫ضرها وفى حال َخ ْ‬‫موجودة فى النخلة فى حال َخ ِ‬
‫حال حياته وبعد مماته‪ ,‬ففى حياته بالطاعات وفعل الخيرات وغير ذلك من وجوه البر‪ ,‬وبعد‬
‫ورثَه من خير‪ ,‬وبدعوة الناس‬
‫موته بالصدقات الجارية وما كان سبباً فيه فى حال حياته‪ ,‬وما َّ‬
‫له‪ ,‬وبدخوله الجنة ي وم القيامة‪ ,‬فالمؤمن كله خير ومنافع فى حال حياته وبعد مماته‪)2( .‬‬
‫ومن ص فات النخل ة جم ال النب ات‪ ,‬وحس ن هيئ ة ثمره ا‪ ,‬فهى من افع وخ ير وجم ال وك ذلك‬
‫الم ؤمن خ ير كل ه بك ثرة طاعات ه‪ ,‬ومك ارم أخالق ه‪ ,‬ومواظبت ه على ص الته وص يامه وقراءت ه‬

‫‪65‬‬
‫وذك ره وص دقته‪ ,‬وس ائر وج وه ال بر‪ .‬ومن ص فات النخل ة "الثب ات واالرتف اع عن األرض‪,‬‬
‫فكذلك اإليمان ثابت فى قلب المؤمن‪ ,‬وعمله عال مرتفع فى السماء ارتفاع فروع النخلة‪,‬‬
‫وم ا يكس ب من برك ة اإليم ان وثواب ه كم ا يُن ال من ثم رة النخل ة فى أوق ات الس نة كله ا من‬
‫الرطب والبُ ْسر(‪ )3‬والبلح والزهو والتمر والطلع" (‪ )4‬كما أن من صفات النخل‪ :‬االستقامة‬
‫واالعتدال‪ ,‬والمسلم مستقيم على طريق الطاعة معتدل فى أمور دينه ودنياه‪ ,‬وإن كان يوجد‬
‫فى بعض النخ ل إعوج اج فك ذلك بعض المس لمين ق د يك ون فيهم ش ئ من اإلعوج اج فى‬
‫السلوك‪ ,‬وهذا ال ينفى عنهم صفة اإلسالم‪ ,‬والمؤمن ال يعرى من لباس التقوى كما ال تعرى‬
‫النخلة عن الورق‪ ,‬والتقوى خير زاد وخير لباس" وهذا الوصف النبوى الذى اعتمد التشبيه‬
‫قد سلك طريق اإليجاز(‪ )1‬بذكر أبرز الصفات التى تشابه فيها النخلة المسلم ليلفت األنظار‬
‫إلى الص فات األخ رى ال تى لم ت ذكر فى الح ديث‪ ,‬وليش حذ المس لمون أفك ارهم ويت أملوا‬
‫وجوه الشبه بين المسلم والنخلة فيزدادوا معرفة بصفات المسلم من خالل النظر فى صفات‬
‫النخلة‪ ,‬وهذا األسلوب من أساليب توضيح المعقول بالمحسوس(‪ )2‬وحث للفكر على النظ ر‬
‫فيما بين األشياء من وجوه االتفاق ووجوه االختالف وهذا الوصف النبوى إنما هو أثر من‬
‫ش َج َر ٍة طَيِّبَ ٍة‬
‫ب اللَّهُ َمثَالً َكلِ َم ةً طَيِّبَ ةً َك َ‬ ‫ض َر َ‬ ‫ف َ‬ ‫آثار المثل القرآنى فى قوله تعالى‪﴿ :‬أَلَ ْم َت َر َك ْي َ‬
‫ال لِلن ِ‬
‫َّاس‬ ‫ب اللَّهُ األ َْمثَ َ‬
‫ض ِر ُ‬ ‫الس َم ِاء * ُت ْؤتِي أُ ُكلَ َها ُك َّل ِحي ٍن بِِإ ْذ ِن َر ِّب َها َويَ ْ‬
‫ت َو َف ْرعُ َها فِي َّ‬
‫َصلُ َها ثَابِ ٌ‬
‫أْ‬
‫لَ َعلَّ ُه ْم َيتَ َذ َّك ُرو َن﴾( إب راهيم ‪" )25,24 :‬فأكثرالمفس رين على أن الش جرةالطيبةهى النخل ة(‬
‫‪)3‬ولقد قرأ النبى صلى اهلل عليه وسلم قوله تعالى‪﴿ :‬ومثل كلمة طيبة كشجرة كطيبة‪﴾...‬‬
‫طيبة)وقال‪" :‬هى النخلة" (‪ )4‬ولقد وصف هذه الشجرة بأربعة أوصاف‪ :‬األول‪ :‬قوله "طيبة"‬
‫أى كريمة المنبت‪ .‬الثانى‪ :‬رسوخ أصلها وذلك يدل على تمكنها‪ ,‬وأن الرياح ال تقصفها فهى‬
‫بطيئة الفناء‪ ,‬وما كان كذلك حصل الفرح بوجدانه‪ .‬والثالث‪ :‬علو فرعها وذلك يدل على‬
‫تمكن الش جرة ورس وخ عروقه ا‪ ,‬وعلى بع دها من عفون ات األرض‪ ,‬وعلى ص فائها من‬
‫الشوائب‪ .‬الرابع‪ :‬ديمومة وجود ثمرتها وحـضورها فى كل األوقات" (‪ )5‬وهذه األوصاف‬
‫تنطبق على المؤمن تمام االنطباق‪ ,‬فاإليمان راسخ وثابت فى قلب المؤمن ال تزعزعه الباليا‬
‫والمحن‪ ,‬وه و إيم ان مثم ر بالعم ل الص الح ال ذى ي دل على ص الح الم ؤمن المتص ل ب المأل‬
‫األعلى‪ ,‬وهو إيمان يعلو على شهوات الدنيا ومالذها‪ ,‬ويحلق فى آفاق من السمو الروحى‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وه ذه األوص اف فى الش جرة الطيب ة تنطب ق على أوص اف الم ؤمن ال تى س بق ذكره ا تم ام‬
‫االنطباق‪" ,‬فالمقصود بالمثل المؤمن‪ ,‬والنخلة مشبهة به‪ ,‬وهو مشبه بها‪ ,‬وإذا كانت النخلة‬
‫شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك" ( )‪.‬‬
‫فليتأمل المؤمن فى هذا المثل القرآنى‪ ,‬وهذا المثل النبوى‪ ,‬وليتصور هذه المعانى التى‬
‫تحت اج إلى إعم ال العق ل‪ ,‬وينطب ق فيه ا المعق ول على المحس وس تم ام االنطب اق(‪...﴿)2‬‬
‫ال لِلن ِ‬
‫َّاس لَ َعلَّ ُه ْم َيتَ َذ َّك ُرو َن﴾ ( إبراهيم ‪.)25 :‬‬ ‫ب اللَّهُ األ َْمثَ َ‬
‫ض ِر ُ‬
‫َويَ ْ‬
‫وص ف ح ال أول من ي دخلون الجن ة وال ذين يل ونهم ونعيمهم‪ :‬ق ال رس ول اهلل ص لى اهلل‬
‫عليه وسلم " أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على إثرهم كأشد‬
‫كوكب إضاءة‪ ،‬قلوبهم على قلب رجل واحد ال اختالف بينهم وال تباغض‪ ،‬لكل امرئ منهم‬
‫مخ س اقها من وراء لحمها من الحسن‪ .‬يسبحون اهلل بكرة‬
‫زوجتان‪ :‬كل واحدة منهما يُرى ُ‬
‫وعشياً‪ ،‬ال يسقمون وال يمتخطون وال يبصقون‪ ،‬آنيتهم الذهب والفضة‪ ،‬وأمشاطهم الذهب‪،‬‬
‫ووقود مجامرهم األلوة – قال أبو اليمان‪ :‬يعنى العود – ورشحهم المسك" (‪ )3‬إننا هنا أمام‬
‫لوحات وصفية رائعة لمشاهد من عالم الغيب لمنازل المؤمنين وم ا أع د اهلل لهم من النعيم فى‬
‫الجنة‪ .‬ولقد جاء هذا الوصف النبوى الدقيق معتمداً على التشبيه فى بعض أجزائه‪ ،‬ومعتمداً‬
‫على العب ارة الوص فية ال تى ال تعتم د على الص ورة البياني ة المعه ودة من التش بية واالس تعارة‬
‫والكناية فى أجزاء أخرى‪ .‬وبدأ هذا الوصف النبوى بذكر مراحل النعيم التى يمر بها أول‬
‫زمرة تدخل الجنة من بداية دخولهم إلى حين استقرارهم‪ .‬بدأ هذا الوصف بتشبيه صورة أول‬
‫زمرة تدخل الجنة بصورة القمر ليلة البدر وتشبيه الذين يلونهم بصورة أشد كوكب إضاءة‪.‬‬
‫وهن ا س ر بالغى فى الف رق بين التش بيهين‪ :‬فالتش بيه األول ج اء بص ورة " القم ر ليل ة الب در"‬
‫والوج ه في ه الهيئ ة والحس ن والض وء‪ .‬والتش بيه الث انى بـ " أش د ك وكب درى" والوج ه في ه‬
‫اإلضاءة فقط (‪ )1‬وهنا نقف أمام هذا النور الذى يشع من أجسادهم وصورهم‪ ،‬هذا النور‬
‫ال ذى يخط ف األبص ار ويبه ر المت أملين‪ ،‬فص ورة القم ر ليل ة الب در وم ا ه و علي ه من الض وء‬
‫معروف ة بم ا فيه ا من جم ال ش كله وحس ن هيئت ه‪ .‬إنهم حين ي دخلون الجن ة يكون ون فى قم ة‬
‫الجم ال والكم ال والبه اء والحس ن فال يص يبهم أى مظه ر من مظ اهر النقص‪ ،‬فلق د مض ت‬
‫ال دنيا بنقص ها وبالئه ا‪ ،‬وهم الي وم فى دار الكم ال ال النقص ان‪ .‬أم ا ال ذين يل ونهم فص ورتهم‬

‫‪67‬‬
‫معروفة حين ننظر إلى الكوكب الدرى يلمع فى وسط السماء فى الليل ‪ ,‬ولكن التشبيه هنا‬
‫ج اء فى اإلض اءة وح دها ‪ ,‬وه ذا ال يع نى نقص ان ح الهم ولكن يع نى اختالفهم فى درج اتهم‬
‫النعيم م ع اس توائهم فى أص ل الكم ال والبع د عن ك ل مظ اهر النقص‪ )2( .‬لق د وص فهم فى‬
‫الزمرة األولى والذين يلونهم باإلضاءة عند دخولهم الجنة‪ ،‬وهذا النور والضوء إنما هو نور‬
‫وض وء األعم ال الص الحة‪ ،‬فطالم ا ص لوا باللي ل والن اس ني ام (‪ )3‬وطالم ا تحمل وا بالء ال دنيا‬
‫وعناءه ا‪ .‬إن ط اعتهم هلل ق د أثم رت ذل ك الن ور الذى يس عى بين أي ديهم وبأيمانهم حيث بين‬
‫ين‬ ‫ِِ‬
‫الم ْؤمن َ‬ ‫ذل ك الق رآن بإض افة الن ور إليهم فى أك ثر من موض ع فق ال تع الى‪َ  :‬ي ْو َم َت َرى ُ‬
‫َّات تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِ َه ا‬ ‫الي ْو َم َجن ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور ُهم َب ْي َن أَيْ دي ِه ْم َوبِأَيْ َم ان ِهم(‪ )1‬بُ ْش َرا ُك ُم َ‬
‫ِ ِ‬
‫َوال ُْم ْؤمنَ ات يَ ْس َعى نُ ُ‬
‫ول المنَ افِ ُقو َن والْمنَافِ َق ُ ِ ِ‬ ‫ك ه و ال َف و ُز ِ‬ ‫األَْنه ار َخالِ ِد ِ ِ‬
‫آمنُ وا‬ ‫ين َ‬ ‫ات للَّذ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫يم * َي ْو َم َي ُق ُ ُ‬ ‫العظ ُ‬
‫ين ف َيه ا ذَل َ ُ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫انظُرونَ ا َن ْقتبِ ِ‬
‫س و ٍر لَّهُ‬ ‫ِ‬
‫ب َب ْيَن ُهم ب ُ‬ ‫ض ِر َ‬ ‫س وا نُ وراً فَ ُ‬ ‫س من نُّو ِر ُك ْم(‪ )2‬قي َل ْارجعُ وا َو َر َ‬
‫اء ُك ْم فَالْتَم ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫آمنُوا تُوبُ وا‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِِ‬ ‫باب ب ِ‬
‫اطنُهُ فِ ِيه َّ‬
‫ين َ‬ ‫اب)‪ (3‬وقوله تعالى‪ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬ ‫الع َذ ُ‬
‫الر ْح َمةُ َوظَاه ُرهُ من قبَله َ‬ ‫َ ٌ َ‬
‫َّات تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِ َه ا‬ ‫إِلَى اللَّ ِه َتوب ةً نَّص وحاً َعس ى ربُّ ُكم أَن ي َك ِّفر َعن ُكم س يِّئَاتِ ُكم وي ْد ِخلَ ُكم جن ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ْ ُ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫ور ُه ْم يَ ْس َعى َب ْي َن أَيْ ِدي ِه ْم َوبِأَيْ َم انِ ِه ْم َي ُقولُو َن‬
‫آمنُوا َم َعهُ نُ ُ‬
‫ين َ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ار َي ْو َم الَ يُ ْخ ِزي اللَّهُ النَّب َّي َوالذ َ‬ ‫األَْن َه ُ‬
‫ك َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير)‪ (4‬ولم يقف الوصف النبوى الدقيق‬ ‫ورنَا َوا ْغ ِف ْر لَنَ ا إِنَّ َ‬ ‫ِ‬
‫َر َّبنَا أَتْم ْم لَنَا نُ َ‬
‫لهذا المشهد الرائع المهيب عند الصورة الظاهرة وإنما انتقل إلى الصورة الباطنة‪ ،‬فبين أن "‬
‫قل وبهم على قلب رج ل واح د" (‪ )5‬فال اختالف بينهم وال تب اغض‪ .‬إنن ا هن ا أم ام ص ورة‬
‫مكتملة المعالم فى الظاهر والباطن‪ ،‬فى الظاهر بالضياء والحسن والبهاء‪ ،‬والباطن بالطهارة‬
‫والنقاء والصفاء‪ ،‬وهذا يظهر بالغة الوصف فى البيان النبوى‪ ،‬ويؤكد ما سبق ذكره من أنه‬
‫وص ف كاش ف ج امع لك ل مع الم الص ورة! وبع د الح ديث عن كم الهم فى ذاتهم انتق ل إلى‬
‫الح ديث عن النعيم ال ذى أع د لهم‪ ،‬ف ذكر ال زوجين من الح ور العين‪ ،‬وبين ص فاء ورق ة‬
‫بش رتيهما فق ال‪ ":‬لك ل ام رئ منهم زوجت ان(‪ )6‬ك ل واح دة منهم ا ي رى مخ س اقها من وراء‬
‫لحمها من الحسن" إن هاهنا صفاءاً وبياض اً فى عظامهن ولحمهن ظاهراً وباطن اً ليناسب حال‬
‫هؤالء المؤمنين فى الصفاء والنقاء‪ ،‬فيزداد النور والبهاء‪ ،‬والحسن والضياء‪ .‬فما أروع هذه‬
‫الص ورة النبوي ة حين نتخيله ا أم ام أعينن ا وق د ام تزج الن وران بين ه ؤالء ال داخلين إلى الجن ة‬
‫والحور العين الالئى وصفهن القرآن بأنهن‪َ  :‬ك أ ََّن ُه َّن اليَ اقُ ُ‬
‫وت َوال َْم ْر َج ا ُن)‪ (1‬إن هذا النعيم‬

‫‪68‬‬
‫المقيم والعط اء الجزي ل ليلهمهم التس بيح والتكب ير كم ا يلهم ون النفس(‪ )2‬وليس المقص ود‬
‫بالتسبيح بكرة وعشياً الحقيقة لفناء الدنيا‪ ،‬وإنماالمقصود هوالديمومة(‪ )3‬وبعد هذا الوصف‬
‫الدقيق لصورتهم وما أعد لهم من الحور العين انتقل البيان النبوى إلى وصف حالهم "فهم ال‬
‫يس قمون وال يمتخط ون وال يبص قون‪,‬آنيتهم ال ذهب والفض ة‪ ،‬وأمش اطهم ال ذهب "‪.‬م ا أروع‬
‫هذا الوصف الدقيق الجامع‪ ،‬فلقد تناول فى هذا الوصف حالهم فى الداخل‪ ،‬وما يحتاجون‬
‫إلي ه فى الخ ارج من األوانى واألمش اط‪ .‬وهن ا س ر دقي ق فهم ال يس قمون وال يمتخط ون‬
‫واليبصقون‪ ،‬وهذا ما يناسب ما هم عليه من الضياء والنقاء والصفاء والحسن والبهاء ‪ ,‬كما‬
‫أن آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة وفيهما من الصفاء واللمعان والبريق ما هو معلوم‪...‬‬
‫فهنا ضياء ونور وصفاء فى كل شئ‪ ،‬فى ظاهرهم وباطنهم‪ ،‬فى كل ما يحيط بهم(‪ )4‬ويبدو‬
‫لى هن ا لوح ة وصفية يشع الن ور من ك ل أجزائها فى تناسق والتئام وتالحم‪ ،‬ه اهم المؤمنون‬
‫والن ور يش ع منهم‪ ،‬وه ا هى الح ور العين فى ص فائها ونقائه ا‪ ،‬وه ا هى اآلني ة واألمش اط فى‬
‫لمعانه ا وبريقه ا‪ ،‬ه ل بقى ش ئ؟ نعم بقيت المج امر(‪ )1‬وهى " األل ّوة "(‪ )2‬ولكن جعلت‬
‫مج امرهم نفس الع ود ب أن يش تعل بغيرن ار(‪ )3‬ب ل بقول ه‪" :‬كن" لق د أحي ط ه ذا الض ياء به ذه‬
‫الرائح ة الطيب ة م ع رش حهم المس ك فلق د ج اءت الرائح ة الطيب ة من رش حهم ومن ح ولهم‬
‫لتكتم ل مع الم الص ورة‪ ،‬وبهذا يك ون البي ان النب وى قد وص ف لنا حال ه ؤالء ال داخلين إلى‬
‫الجنة وصفاً كاشفاً جامعاً‪ .‬وهو وصف لمشاهد من عالم الغيب عرضها علينا فى إيجاز وفى‬
‫تناس ق وفى تالحم عجيب جم ع في ه بين أج زاء الص ورة ال تى ش اع الن ور وانتش ر فى جمي ع‬
‫أجزائه ا وه ذه الص ور الرائع ة هن اك رواب ط وقواس م مش تركة بينه ا وهى الض ياء‪ ،‬والبه اء‪،‬‬
‫والحسن‪ ،‬واللمعان‪ ،‬والصفاء! لقد جاء نورهم من أعمالهم الصالحة‪ ،‬وجاء حسنهم وبهاؤهم‬
‫من طهارتهم الحسية والمعنوية فى الدنيا‪ ،‬فلينظر كل منا ومن خالل هذا الحديث الرائع إلى‬
‫ور ُهم َب ْي َن أَيْ ِدي ِه ْم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ما قدم من نور لنفسه يوم القيامة‪) :‬ي وم َت رى ِ ِ‬
‫ين َوال ُْم ْؤمنَ ات يَ ْس َعى نُ ُ‬
‫الم ْؤمن َ‬
‫َْ َ َ ُ‬
‫ك ه و ال َف و ُز ِ‬ ‫َّات تَج ِري ِمن تَحتِها األَْنه ار َخالِ ِد ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم)‬
‫العظ ُ‬ ‫ين ف َيه ا ذَل َ ُ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َوبِأَيْ َمان ِهم بُ ْش َرا ُك ُم َ‬
‫الي ْو َم َجن ٌ ْ‬
‫(‪ )4‬فى تصورى مهما أوتى المرء من بالغة وبراعة ال يستطيع أن يصف حال أهل الجنة بأبلغ‬
‫مما وصفه به البيان النبوى ألن النبى صلى اهلل عليه يصف وصف من رأى وسمع مع ما أوتى‬
‫من جوامع الكلم‪ ،‬واالتصال بالمأل األعلى فى كل حين‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫وصف الخوارج‪ :‬عن أبى سعيد قال‪ :‬بعث على رضى اهلل عنه إلى النبى صلى اهلل عليه‬
‫وس لم بذهبي ة فقس مها بين أربع ة األق رع بن ح ابس الحنظلى ثم المجاش عى وعيين ة بن ب در‬
‫الفزارى‪ ،‬وزيد الطائى‪ ،‬ثم أحد بنى نبهان‪ ،‬وعلقمة بن عالثة العامرى‪ ،‬ثم أحد بنى كالب‪.‬‬
‫فغض بت ق ريش واألنص ار ق الوا‪ :‬يعطى ص ناديد أه ل نج د وي دعنا‪ .‬ق ال‪ :‬إنم ا أت ألفهم‪ .‬فأقب ل‬
‫رجل غائر العينين‪,‬مشرف الوجنتين ‪ ,‬كث اللحية‪ ,‬محلوق فقال‪ :‬اتق اهلل يا محمد فقال‪" :‬‬
‫من يط ع اهلل إذا عص يت؟ أي أمننى اهلل على أه ل األرض فال ت أمنونى؟ " فس أله رج ل قتل ه –‬
‫أحس به خال د بن الولي د – فمنع ه فلم ا ولى ق ال‪" :‬إن من ضئض ئ ه ذا – أو فى عقب ه ذا –‬
‫قوم يقرءون القرآن ال يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية‪ ،‬يقتلون‬
‫أه ل اإلس الم ويدعون أهل األوث ان‪ ،‬لئن أدركتهم ألقتلنهم قت ل عاد " (‪ )1‬وفى رواية‪ " :‬إنه‬
‫يخرج من ضئضئ(‪ )2‬هذا قوم يتلون كتاب اهلل رطباً ال يجاوز حناجرهم ‪ ,‬يمرقون من الدين‬
‫كما يمرق السهم من الرمية "‪ ,‬وأظنه قال ‪ " :‬لئن أدركتهم ألقتلنهم قتل ثمود " (‪ )3‬وقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يأتى فى آخر الزمان قوم حدثاء األسنان‪ ،‬سفهاء األحالم‪،‬‬
‫يقولون من قول خير البرية‪ ،‬يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية‪ ،‬ال يجاوز إيمانهم‬
‫حن اجرهم‪ ،‬فأينم ا لقيتم وهم ف اقتلوهم‪ ،‬ف إن قتلهم أج ر لمن قتلهم ي وم القيام ة" (‪ )4‬فى ه ذا‬
‫الح ديث الش ريف نحن أم ام وص ف دقي ق يتخطى ح دود المك ان والزم ان ليكش ف لن ا عن‬
‫أوص اف بعض من ينتس بون إلى المس لمين ولكنهم عبء عليهم‪ ،‬وح رب لهم‪ ،‬وأم ان وس لم‬
‫لع دوهم‪ ،..‬ه ذه الفئ ة ال تى نراه ا ونعايش ها الي وم كم ا ك انت ب األمس وفى الماض ى‪ ،‬وكم ا‬
‫ستكون فى المستقبل وضع لنا البيان النبوى أوصافاً لها تكشف عن حقيقتها وتوضح فكرها‬
‫وم دى فهمه ا لل دين‪ ،‬وع وار ه ذا الفهم‪ ،‬والوص ف النب وى هن ا ينطب ق علي ه الخصيص ة ال تى‬
‫تحدثنا عنها من قبل‪ ،‬وهى أنه وصف يتجاوز حدود الزمان والمكان ليربط الماضى بالحاضر‬
‫والمس تقبل‪ ،‬وذل ك ألن ه خ رج ممن ال ينط ق عن اله وى ‪‬إِ ْن ُه َو إِالَّ َو ْح ٌي يُ َ‬
‫وحى)‪ (1‬ولق د‬
‫ذكر النبى صلى اهلل عليه وسلم أوصافهم فى أكثر من حديث‪ ،‬وسأجمع هذه األوصاف كما‬
‫ج اءت فى الص حيحين وأتناوله ا بالتحلي ل البالغى واألدبى ‪ .‬إنهم ق وم يق رءون الق رآن وفى‬
‫رواي ة يتل ون كت اب اهلل لين اً رطب اً ال يج اوز حن اجرهم‪ .‬ال يج اوز إيم انهم حن اجرهم‪.‬تحق رون‬
‫صالتكم مع صالتهم(‪ )2‬وليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ‪ ،‬وال صيامكم إلى صيامهم بشئ‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫يقول ون من ق ول خ ير البري ة‪ .‬ح دثاء أو أح داث أو ح داث األس نان‪ .‬س فهاء األحالم‪ .‬يقتل ون‬
‫أهل االسالم‪ ،‬ويدعون أهل األوثان‪ .‬هذه عبادتهم كما جاء فى وصفهم‪ :‬يقرءون القرآن لين اً‬
‫رطب اً ال يج اوز حن اجرهم‪ .‬م ا أدق ه ذا الوص ف! فهم ال نص يب لهم من الق رآن إال تردي د‬
‫األلس نة ألن الق رآن لم ينف ذ إلى قل وبهم‪ ،‬إن ه عن د الحن اجر(‪ )3‬ال يتجاوزه ا‪ ،‬فلم تش رب‬
‫قل وبهم حب ة وفهم ه كم ا يجب أن يك ون‪ ،‬إن ه لين(‪ )4‬رطب بالنس بة لهم‪ ،‬س هل عليهم فى‬
‫الحفظ والتالوة‪ ،‬أما فى الفهم والعمل فهم ال رصيد لهم(‪ )1‬فهم يرددونه ويلوون ألسنتهم به‬
‫تحريفاً لمعانيه‪ ،‬وميالً ألهوائهم‪ ،‬فصورتهم وهم يقرءون القرآن صورة خادعة لمن لم يعرف‬
‫حقيق ة فك رهم‪ ،‬فمن رآهم وهم يق رءون الق رآن بس هولة ولين ظنهم من الع المين الف اقهين‬
‫حيث الن القرآن لهم فى التالوة‪ .‬إن صورتهم الخادعة فى العبادة ال تقف عند قراءة القرآن‪،‬‬
‫بل إن من أوصافهم " أنكم تحقرون صالتكم مع صالتهم وقراءتكم مع قراءتهم‪ ،‬وصيامكم‬
‫م ع ص يامهم "‪ ،‬فهم يقوم ون اللي ل‪ ،‬ويص ومون النه ار‪ ،‬ويك ثرون من التالوة للق رآن‪ ،‬ب ل‬
‫ويقولون من خير قول البرية! ولكن ليس لهم روح العبادة وإنما لهم مظاهرها وظاهره ا‪ ،‬فهم‬
‫ال يعرفون من الدين إال القشور وكما جاء فى وصفهم " ال يجاوز إيمانهم حناجرهم"‪ .‬فكما‬
‫أن القرآن لم يستقر فى قلوبهم فهم اً وعمالً كذلك اإليمان إيمان باللسان ال بالجنان‪ ،‬إيمان‬
‫باألقوال ال باألفعال‪ ،‬وما أبعد هذا الصنف من الناس عن حقيقة الدين‪ .‬فاإليمان لم ينفذ إلى‬
‫قلوبهم وإنما وقف عند حالقيمهم‪ ،‬وما وقف عند الحالقيم ال يصل إلى القلب! ولذلك فهم‬
‫" يقولون من خير قول البرية " (‪ )2‬كما وصفهم البيان النبوى‪ ،‬فكالمهم فى الظاهر حسن‬
‫معسول‪ ،‬ولكن فى الباطن فهمهم للدين مدخول‪ ،‬إن عبادتهم كلها ظواهر ال رصيد لها من‬
‫إيم ان أو إخالص‪ ،‬وق راءتهم كله ا حرك ات لأللس نة والحن اجر ال وزن له ا من فهم أو عم ل‬
‫سديد‪ .‬ولكن هل يقف وصفهم عند هذا الحد؟ ال‪ ،‬فهم "أحداث( ‪ )3‬األسنان" صغار السن لم‬
‫يس بروا غ ور العلم‪ ،‬ولم يعيش وا فى رحاب ه وقت اً كافي اً فهم اً وعمالً‪ ،‬ولم يكتس بوا الخ برة‬
‫الكافية لصغر سنهم وضيق عطنهم وأفن عقولهم‪ .‬وعن هذه العقول فحدث وال حرج‪ ،‬ولن‬
‫تج د لوص ف عق ولهم أبل غ من قول ه ص لى اهلل علي ه وس لم‪" :‬س فاء األحالم" (‪ )1‬فعق ولهم‬
‫ضعيفة رديئة صغيرة (‪ )2‬ال قدرة لها على الفهم والتحليل واالستنباط وال عناية لها بمعالى‬
‫األمور وإنما عنايتهم بسفاسف األمور‪ ،‬يهتمون بالقشور ويتركون الجوهر‪ ،‬يهتمون بالظاهر‬

‫‪71‬‬
‫ويغفل ون عن الب اطن‪ ،‬وال ص بر لهم على فهم ال دين والفق ة لمقاص ده‪ ،‬وال ثب ات عن دهم أم ام‬
‫الشبهات‪ ،‬وال رسوخ ألقدامهم فى الحق‪ ،‬فهم متزعزعون عند الفتن‪ ،‬متخبطون فى النوازل‪،‬‬
‫يض عون األدل ة فى غ ير مواض عها‪ ،‬انطلق وا إلى آي ات ن زلت فى الك افرين فجعلوه ا على‬
‫المؤم نين‪.‬وله ذا فهم "يمرق ون من ال دين كم ا يم رق الس هم من الرمي ة " (‪ )3‬وم ا أروع ه ذا‬
‫الوص ف الدقيق لحالهم مع الدين فهم كما يكفرون الن اس على أهون األسباب‪ ،‬ويأثمونهم‬
‫على أصغر األمور‪ ،‬هم كذلك يخرجون من الدين بنفس السرعة التى دخلوه بها‪ ،‬فال ثبات‬
‫لهم على الحق وال نصيب لهم من الصبر(‪ )4‬ويبدو لى فى هذا التصوير النبوى الدقيق أكثر‬
‫من سر بالغى‪ :‬السر األول‪ :‬هو الصالبة والشدة عند هؤالء فى التعامل مع الناس وفى أمور‬
‫الدين‪ ،‬وخاصة فى سفاسف األمور ويبدو ذلك واضحاً من خالل قوله " كمايمرق السهم من‬
‫الرمي ة " وذل ك من ص فات الس هم الص ائب الص لب ألن ه ال يك ون ش ديد الس رعة إال بع د أن‬
‫يك ون ق وى النزع ة! فالص البة فى الس هم والق وة والس رعة فى اندفاع ه تدفع ه إلى الرج وع‬
‫والخروج من الصيد بعد إصابته‪ .‬وهذا وصف دقيق لحالهم‪ ،‬فهم ال رفق عندهم فى التعامل‬
‫مع الناس‪ ،‬ويغلب عليهم جفاف الروح‪ ،‬وتقطيب الجبين‪ ،‬وتعقيد األمور‪ ،‬وتضخيم الصغير‪،‬‬
‫وتص غير الكب ير‪ ،‬وه ذا واق ع يعرف ه من عام ل ه ؤالء وع رف حقيق ة طب اعهم‪ .‬كم ا أن ص البة‬
‫الس هم موج ودة فى آرائهم‪ ،‬فهم ال يتن ازلون عن آرائهم الباطل ة وفهمهم الم دخول‪ ،‬وال‬
‫يزعن ون للح ق(‪ .)1‬فص البة ال رأى من س ماتهم م ع فس اد م ا هم علي ه وه ذه حقيق ة تاريخي ة‬
‫معروف ة عن الخ وارج‪ ،‬وحقيق ة واقعي ة معروف ة عن أش باههم الي وم! فهم ي ؤثرون أن يكون وا‬
‫رؤوس اً فى الباطل على أن يكونوا ذيوالً فى الحق! وهناك سر آخر وهو السرعة واالندفاع‬
‫عند هؤالء‪ ،‬وذلك أيضاً من خالل قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬يمرقون من الدين كما يمرق‬
‫السهم من الرمية " (‪ )2‬والسرعة عندهم فى الحكم على الناس بالفسق والكفر واالندفاع فى‬
‫التعام ل م ع الن اس وع دم الص بر على تحص يل العلم‪ ،‬والس رعة فى اته ام الن اس زوراً وبهتان اً‬
‫ألنهم ال يؤيدونهم فيما يذهبون إليه(‪ .)3‬إنهم يخرجون من الدين بنفس السرعة التى دخلوا‬
‫به ا فيه‪ ،‬وتش اهد كثيرا من ذي ول ه ؤالء فى عصرنا ال يلبث أحدهم فى طريق االل تزام قليالً‬
‫حتى يحيد عن الحق‪ ،‬ويرجع إلى سابق عهده فى الفسق ألنه لم يتعلق من الدين إال بالقشور‪،‬‬
‫بقدر ما يدخل السهم فى الصيد ويخرج منه بسرعة! وليس هناك تصوير دقيق يصور حالهم‬

‫‪72‬‬
‫مع اإليجاز أبلغ من هذا التصوير النبوى‪ ،‬فهذا الحديث باإلضافة إلى أنه معجزة من معجزات‬
‫الن بى ص لى اهلل علي ه وس لم يش تمل على أس رار بالغي ة ووص ف دقي ق لحقيق ة ه ؤالء فى ك ل‬
‫مك ان وزم ان‪ .‬إن أفن عق ولهم‪ ،‬وس وء فهمهم لل دين‪ ،‬وص البتهم فى التمس ك بالباط ل‪،‬‬
‫وان دفاعهم فى رفض الح ق يدفعهم إلى أن "يقتل وا أه ل االس الم‪ ،‬وي دعوا أه ل األوث ان" كما‬
‫وص فهم البي ان النب وى(‪ )4‬وه ذا وص ف دقي ق له ؤالء الم ارقين فى ك ل زم ان ومك ان‪ ،‬فهم‬
‫يفعلون ذلك بالمسلمين استناداً إلى تأويل فاسد آليات القرآن‪ ،‬وفهم مدخول لحقيقة الدين‪،‬‬
‫وهذه حقيقتهم فى عصرنا كما كانت حقيقتهم فى الماضى‪ ،‬وكما ستكون فى المستقبل (‪)1‬‬
‫إن الوص ف النب وى هن ا يتم يز بخصيص ته الظ اهرة وهى أن ه وص ف ج امع كاش ف مرك ز على‬
‫أب رز ص فات ه ؤالء الخ وارج (‪ )2‬وه و وص ف متخطى لح دود الزم ان والمك ان‪ .‬لق د ق ال‬
‫رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم‪ " :‬لئن أدركتهم ألقتلنهم قت ل ع اد " وفى رواي ة " ألقتلنهم‬
‫قتل ثمود " (‪ )3‬وفى رواية‪ ":‬فأينما لقيتموهم فأقتلوهم‪،‬فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيام ة‬
‫"(‪ )4‬وفى ذلك معجزة ظاهرة للنبى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فهم مع نهية عن قتل أصلهم (وهو‬
‫الرجل الذى قال لرسول اهلل اتق اهلل يا محمد) أراد إدراك خروجهم واعتراضهم المسلمين‬
‫بالسيف‪ ،‬ولم يكن ظهر ذلك فى زمانه‪ ،‬وأول ما ظهر فى زمان على رضى اهلل عنه كما هو‬
‫مشهور فهؤالء بسفكهم للدماء‪ ،‬وفهمهم المدخول للدين‪ ،‬وعدم نفاذهم إلى حقيقة االسالم‬
‫يمثل ون خط راً عظيم اً على المس لمين‪ ،‬ألنهم يزعم ون أنهم من المس لمين بينم ا يقتل ون أه ل‬
‫االسالم‪ ،‬ويدعون أهل األوثان(‪ )5‬فهم رأس الفتنة‪ ،‬ومنبع البلوى‪ ،‬ومصيبة المسلمين فيهم‬
‫أك بر من مص يبتهم من أع داء اإلس الم‪ .‬فم ا أروع وأدق ه ذا الوص ف النب وى الم وجز المع بر‬
‫أدق تعبير عن حقيقة هؤالء الخارجين فى كل زمان ومكان(‪)1‬‬
‫وصف قلب المؤمن بالكرم‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ " :‬ويقولون ‪ :‬الكرم‪،‬‬
‫إنما الكرم قلب المؤمن" (‪ )2‬وفى رواية مسلم‪ ... " :‬وال يقولن أحدكم للعنب الكرم‪ ،‬فإن‬
‫الكرم الرجل المسلم " وفى رواية له ‪ " :‬ال يقولن أحدكم الكرم‪ ،‬فإنما الكرم قلب المؤمن"‬
‫(‪ .)3‬نحن هن ا أم ام وص ف من ن وع آخ ر‪ ،‬وش اهدنا فى ه ذا الح ديث قول ه ص لى اهلل علي ه‬
‫وسلم‪ " :‬إنما الكرم قلب المؤمن" وقوله ‪ " :‬فإن الكرم الرجل المسلم " والوصف النبوى‬
‫هن ا ج اء لتص حيح لف ظ طالم ا وض ع لغ ير معن اه الحقيقى فى حي اة الع رب فى ذل ك ال وقت‪،‬‬

‫‪73‬‬
‫وروعى فى تصحيحه الجانب الذهنى والناحية الفكرية عند الناس‪ .‬فلقد كانت العرب تطلق‬
‫لفظة " الكرم " على شجر العنب‪ ،‬وعلى العنب‪ ،‬وعلى الخمر المتخذة من العنب (‪ )4‬فكره‬
‫الشرع هذا االسم ألنه يربط بين العنب والخمر المتخذة منه فى أذهانهم‪ ،‬وألن فيه خطأ فى‬
‫الفهم حيث وص فت الخم ر بغ ير ص فتها‪ ،‬وس ميت بغ ير اس مها‪ ،‬وه ذا مم ا ي ؤدى إلى التب اس‬
‫األم ر على بعض الن اس‪ ،‬ويهيج فى نفوس هم االتج اه إلى مقاربته ا‪ ،‬ول ذلك ج اءهم باالس م‬
‫والحبَل ة(‪ )1‬وبالغ ة الوص ف هن ا فى أن جع ل "‬
‫الحقيقى ال ذى ال يلتبس بغ يره وه و العنب‪َ ،‬‬
‫الكرم " " قلب المؤمن " أو " الرجل المسلم " فلم حول النبى صلى اهلل عليه وسلم الوصف‬
‫هن ا إلى الرج ل المس لم أو قلب ه الم ؤمن؟ ويب دو لى هن ا أك ثر من س ر‪ :‬األول ‪ :‬لفت انتب اه‬
‫المسلم‪ ،‬وتحويل فكره عن كل ما يذكر بالمعصية أو يقاربها وتحويل الفكر إلى كل ما ي ذكر‬
‫بالطاع ة ويحض عليه ا‪ .‬ويب دو ذل ك واض حاً من إرادت ه ص لى اهلل علي ه وس لم أن يص رف‬
‫أذهانهم وأفكارهم عن كل ما يتصل بالخمر من قريب أو بعيد (‪ )2‬وتحويل أفكارهم إلى ما‬
‫يق رب من الطاع ة بربط ه ه ذا االس م بص فة من ص فات المس لم أو قلب ه الم ؤمن‪ ،‬وهى من‬
‫الصفات التى يحبها اهلل‪.‬الثانى‪ :‬ربط المسلم بالقرآن الكريم‪ ،‬فوصف المسلم بـ "الكرم" جاء‬
‫فى الق رآن حيث يق ول تع الى‪...‬إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ِعن َد اللَّ ِه أَْت َق ا ُكم (وفى ه ذا تحوي ل للمس لم إلى‬
‫الوجهة السليمة مع إضافة معان جديدة تتصل بالمسلم‪ ،‬وما يجب أن يكون عليه من تقوى‬
‫اهلل ع ز وج ل‪.‬وه ذا التص ويب النب وى في ه معج زة ظ اهرة‪ ،‬فكم ا ك انت الع رب ق ديماً تس مى‬
‫الخم ر بغ ير اس مها فلق د نبتت نابت ة الي وم تس لك نفس الس بيل (‪ )3‬ومن أس رار جم ال ه ذا‬
‫الحديث وصف المسلم‪ ،‬ووصف قلبه المؤمن بـ " الكرم " فالنبى صلى اهلل عليه وسلم لما‬
‫بين لهم أن الخم ر أم الخب ائث وال رجس ال ذى ه و من عم ل الش يطان ص وب رأى من رأى‬
‫استحقاق هذا بقلب المؤمن الطاهر عن أوضار الرجس واآلثام‪ ،‬وأنه معدن مكارم األخالق‪،‬‬
‫ومنبعه ا‪،‬ومرك ز التق وى‪ ،‬وأح رى أن يس مى كرم اً‪ ،‬ق ال تع الى‪ ...‬فَِإ َّن َه ا ِمن َت ْق َوى ال ُقلُ ِ‬
‫وب)‬
‫وقال‪ ... :‬أَ ْك َر َم ُك ْم ِعن َد اللَّ ِه أَْت َق ا ُك ْم‪ (1) ...‬كأنه صلى اله‪ .‬عليه وسلم نبه المسلمين‬
‫على التحلى بالتقوى‪ ،‬والتزيى به‪ ،‬وأنه رأس مكارم األخالق ال ما ذهب إليه الجاهلية فسمى‬
‫" قلب " المؤمن كرم اً لما فيه من اإليمان‪ ،‬والهدى والنور‪ ،‬والتقوى‪ ،‬والصفات المستحقة‬
‫لهذا االسم‪ ،‬وكذلك الرجل المسلم (‪.)2‬‬

‫‪74‬‬
‫ولإلمام أبى محمد بن أبى جمرة تحليل دقيق حول الوصف فى هذا الحديث وملخصه "‬
‫لما كان اشتقاق الكرم من الكرم‪ ،‬واألرض الكريمة هى أحسن األرض فال يليق أن يعبر بهذه‬
‫الصفة إال عن قلب المؤمن الذى هو خير األشياء ألن المؤمن خير من الحيوان‪ ،‬وخير ما فيه‬
‫قلبه ألنه إذا صلح صلح الجسد كله‪ ،‬وهو أرض لنبات شجرة اإليمان‪ ،‬قال ‪ :‬ويؤخذ منه أن‬
‫ك ل خ ير – باللف ظ أو المع نى أو بهم ا أو مش تقاً من ه أو مس مى ب ه – إنم ا يض اف بالحقيق ة‬
‫الشرعية ألن اإليمان وأهله وإن أضيف إلى ماعدا ذلك فهو بطريق المجاز‪ ،‬وفى تشبيه الكرم‬
‫بقلب المؤمن معنى لطيف‪ ،‬ألن أوصاف الشيطان تجرى مع الكرمة كما يجرى الشيطان فى‬
‫بنى آدم مجرى الدم‪ ،‬فإذا غفل المؤمن عن شيطانه أوقعه فى المخالفة‪ ،‬كما أن من غفل عن‬
‫عص ير كرم ة تخم ر فتنجس‪ ،‬ويق وى التش بيه أيض اً أن الخم ر يع ود خالً من س اعته بنفس ه أو‬
‫بالتخليل فيعود طاهراً‪ .‬وكذا المؤمن يعود من ساعته بالتوبة النصوح طاهراً من خبث الذنوب‬
‫المتقدم ة ال تى ك ان متنجس اً باتص افه به ا إم ا بب اعث من غ يره من موعظ ة ونحوه ا وه و‬
‫كالتخلي ل‪ ،‬أو بب اعث من نفس ه وه و كالتخل ل‪ .‬فينبغى للعاق ل أن يتع رض لمعالج ة قلب ه لئال‬
‫يهلك وهو على الصفة المذمومة (‪.)1‬‬
‫وكم ا ج اء تص حيح االس م والوص ف من الن بى ص لى اهلل علي ه وس لم فى ه ذا الح ديث‬
‫بتحويل الوصف بـ " الكرم " إلى الرجل المسلم‪ ،‬أو قلبه المؤمن جاء وصف آخر فى مقام‬
‫النهى عن وصف النفس بـ " الخبث " فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ ":‬ال يقولن أحدكم خبثت‬
‫نفسى‪,‬ولكن ليقل لقست نفسى " (‪.)2‬فلفظاً"الخبث واللقس" وإن كان المعنى المراد يتأدى‬
‫بكل منهما إال أن لفظ " الخبث" قبيح‪ ،‬ويجمع أموراً زائدة‪ ،‬فالخبث يطلق على الباطل فى‬
‫االعتقاد‪ ،‬والكذب فى المقال‪ ،‬والقبيح فى الفعال‪ ،‬وعلى الحرام‪ ،‬والصفات المذمومة القولية‬
‫والفعلي ة (‪ )3‬فك ره لف ظ " الخبث " لبش اعة االس م‪ ،‬وعلمهم األدب فى األلف اظ‪ ،‬واس تعمال‬
‫حسنها‪ ،‬وهجران خبيثها (‪ )4‬أما" اللقس " فمعناه غثت وضاقت‪ ،‬ويختص بامتالء األمعاء (‬
‫‪ )5‬وهكذا يصحح النبى صلى اهلل عليه وسلم تصورات المسلمين وأفكارهم‪ ،‬وما ينبغى أن‬
‫يوصف به المؤمن حتى ولو كان فى جانب الذم‪ ،‬فال ينبغى أن يصف نفسه أو يصفه غيره بما‬
‫تناهى قبحه ألن المؤمن ال يخلو من خير ‪ ,‬فيجب أن يظهر جانب الخير فيه وينمى ‪.‬‬
‫الفصل الثالث ‪:‬خصائص الوصف فى البيان النبوى ‪ :‬بعد هذه الرحلة الممتعة فى رياض‬

‫‪75‬‬
‫البي ان النب وى أنتقل إلى الحديث عن أبرز خصائص الوص ف فى حديث نبين اً صلى اهلل عليه‬
‫وسلم من خالل ما سبق بحثه‪ ،‬وهذه الخصائص تشمل أحاديث اً أخرى‪ ،‬وهى األحاديث التى‬
‫سأش ير إليه ا وإلى مواض عها فى نهاي ة ه ذا الفص ل‪ .‬ول وال خش ية اإلطال ة لتناولته ا ب البحث‬
‫والتحليل البالغى الذى يكشف عن أسرار جمال الوصف فيها‪ ،‬ولعل هذا العمل يكون فاتحة‬
‫خ ير لى ولغ يرى‪ .‬ومن أب رز خص ائص الوص ف فى البي ان النب وى‪ -1 :‬االقتب اس من الق رآن‪،‬‬
‫وتفص يل م ا أجمل ه الق رآن‪ .‬ولق د اتض ح لن امن خالل األح اديث ال تى س بق تحليله ا كي ف أن‬
‫البيان النبوى يفسر ما أجمله القرآن معتمداً على الوصف البليغ‪ .‬كما فى حديث " وصف‬
‫النخلة وتمثيلها بالمسلم " وجدنا الوصف النبوى تفصيل لمعنى اإليمان واإلخالص فى اآلية‬
‫السابقة‪ -2.‬الوصف النبوى وصف يقلب السمع بصراً‪ ،‬والمعقول محسوس اً‪ ،‬ويصور األمور‬
‫المعنوية فى صورة حسية‪ .‬وذلك كما فى حديث " وصف النخلة وتمثيلها بالمسلم " فقد‬
‫رأين ا كي ف جس د أخالقي ات المس لم من خالل وص ف النخلة‪ -3 .‬الوص ف النب وى‪ ،‬وص ف‬
‫ج امع‪ ،‬وكاش ف‪ ،‬وم وجز‪ .‬وه ذه الخصيص ة من أب رز خص ائص الوص ف ‪ ،‬وق د مض ى أمثل ة‬
‫كث يرة له ا ومنه ا ح ديث‪ " :‬وص ف النخل ة‪ ،‬وتمثيله ا بالمس لم"‪ ،‬فلق د اتض ح لن ا كي ف جم ع‬
‫صفات المسلم‪ ،‬وكشف عن حقيقته من خالل ذكر وصف من أوصاف النخلة‪ ،‬وترك الباقى‬
‫ليرب ط المس لم بين صفاته وصفات النخل ة‪ ،‬وقد سبق فى بداي ة البحث عند تعري ف الوصف‬
‫عن د البالغ يين أن أحس ن الوص ف م ا ج اء ب أكثر المع انى ال تى الموص وف م ركب منه ا ثم‬
‫بأظهرها فيه وأوالها حتى يحكيه ويمثله للحس بنعته‪ ،‬ومن أمثلة هذه الخصيصة أيض اً حديث‬
‫" وصف الخوارج " الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ‪ ...‬كيف أتى على‬
‫أوص افهم فى إيج از دقي ق ج امع كاش ف ال يغ ادر ص فة من ص فاتهم‪ -4 .‬الوص ف النب وى‬
‫وصف مفتوح مع الزمان‪ .‬فالبيان النبوى لكل العصور‪ ،‬ولكل الناس فى كل زمان ومكان‪،‬‬
‫وهذه الخصيصة موجودة فى كثير من األحاديث‪ ،‬وأبرزها األحاديث التى تتعرض للفتن التى‬
‫تك ون بين ي دى الس اعة كم ا فى ح ديث " وص ف الخ وارج " ال ذى س بقت اإلش ارة إلي ه فى‬
‫الخصيصة السابقة‪ -5.‬تالحم الوصف النبوى مع الغرض المقصود‪ .‬وهذه خصيصة بارزة فى‬
‫ك ل مواض ع الوص ف‪ ،‬وأذك ر منه ا ح ديث‪ " :‬وص ف ح ال أه ل الجن ة ونعيمهم" ف النور فى‬
‫ظ اهرهم‪،‬وب اطنهم‪ ،‬وفيم ا ح ولهم ‪ ...‬والض ياء والص فاء واللمع ان والنق اء ش عارهم وح الهم‪،‬‬

‫‪76‬‬
‫وه ذا ه و الغ رض ال ذى ي رمى إلي ه الح ديث‪ ،‬ولق د ج اء الوص ف بلوحات ه الرائع ة ليرس م لن ا‬
‫ص ورة عن ح ال ه ؤالء تتناس ب وتتالحم م ع الغ رض الس ابق‪ -6.‬الوص ف النب وى يعتم د‬
‫التش بيه‪ ،‬واالس تعارة‪ ،‬والكناي ة‪ .‬واألمثل ة على ذل ك كث يرة‪ ،‬فالوص ف وس يلة من وس ائل‬
‫التصوير‪ ،‬إال أن التشبيه مجاز‪ ،‬والوصف راجع إلى حقيقة الشئ وذاتهومثال هذه الخصيصة‬
‫حديث‪ " :‬وصف الخوارج"‪ -7.‬ومن خصائص الوصف فى البيان النبوى‪ :‬واقعيته وانسجامه‬
‫مع البيئة‪ .‬كما فى حديث‪ " :‬وصف النخلة" فإن المعانى التى يشتمل عليها الوصف وصوره‬
‫المس تخدمة من البيئ ة ال تى يعيش فيه ا الن اس‪ ،‬وه ذا مم ا يق رب الوص ف‪ ،‬ويوض حه‪ ،‬ويمثل ه‬
‫للعي ان‪،‬ويرب ط بين المع نى المقص ود والواق ع ال ذى يعيش في ه الن اس‪ ،‬وذل ك من خالل الرب ط‬
‫بين الوصف والمعنى المقصود‪ .‬وبعد هذا العرض الموجز ألبرز خصائص الوصف فى البيان‬
‫النب وى – كم ا ظه رت لى – من خالل التط بيق على األح اديث ال تى س بق ذكره ا أنتق ل إلى‬
‫اإلش ارة إلى بعض أح اديث الوص ف ال تى ج اءت فى الص حيحين مرتب ة على حس ب الكتب‬
‫واألبواب فيهما‪ ،‬وذلك لتكتمل معالم البحث‪ ،‬وليرجع إليها من أراد التوسع فى معرفة أسرار‬
‫هذا الفن من فنون البيان النبوى‪.‬‬
‫من أحاديث الوصف فى ص حيح البخارى‪ *:‬وصف حال المؤمنين والنصارى واليهود‬
‫فى العم ل والتمس ك بال دين – كت اب م واقيت الص الة – ب اب من أدرك ركع ة العص ر قب ل‬
‫الغ روب – ح (‪ *.2/46– )545 ، 544‬وص ف المن افق وآيات ه – كت اب اإليم ان – ب اب‬
‫عالمات المنافق – ح(‪ * .1/111– )33‬وصف جزاء مانع الزكاة – كتاب وجوب الزكاة‬
‫– ب اب إثم م انع الزك اة – ح (‪ * .3/314– )1370‬وص ف حرك ة الش يطان فى جس م ابن‬
‫آدم – أبواب االعتكاف – باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد ؟ – باب‬
‫ه ل ي درأ المعتك ف عن نفس ه ؟‪-‬ح ( ‪ * 4/331 – )1987‬وص ف ن ار جهنم وحره ا –‬
‫كت اب ب دء الخل ق – ب اب ص فة الن ار وأنه ا مخلوق ة ‪ -‬ح (‪ * .6/380– )3149‬وص ف‬
‫الواعظ المنافق وعذابه – كتاب بدء الخلق – باب صفة النار وأنها مخلوقة ‪ -‬ح (‪)3158‬‬
‫–‪ * .6/381‬وصف الرجاء مع الخوف – كتاب الرقاق – باب الرجاء مع الخوف ‪ -‬ح (‬
‫‪.11/307– )6243‬‬
‫من أح اديث الوص ف فى ص حيح مس لم‪ *:‬وص ف حال آخ ر أه ل الن ار خروج اً منها –‬

‫‪77‬‬
‫باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار ‪ * .3/29 -‬وصف من يخرجون من النار –‬
‫ب اب إثب ات الش فاعة وإخ راج الموح دين من الن ار ‪ * .3/51 -‬وص ف وسوس ة الش يطان فى‬
‫الصالة – باب فضل األذان وهرب الشيطان عند سماعه – ‪* 4/92,9‬وصف صالة المنافق‬
‫– باب استحباب التبكير بالعصر ‪ * .5/123 -‬وصف أرواح الشهداء ومكانها – باب فى‬
‫بيان أن أرواح الشهداء فى الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ‪ * .13/31‬وصف الحوض‬
‫– باب إثبات حوض نبينا صلى اهلل عليه وسلم –‪ * .63 -15/53‬وصف حركة الشيطان‬
‫فى جس م ابن آدم – ب اب دف ع ظن الس وء – ب اب بي ان أن ه يس تحب لمن رؤى خالي اً ب امرأة‬
‫وكانت زوجته أو محرماً له أن يقول ‪ :‬هذه فالنة ليدفع ظن السوء به – ‪157 -14/155‬‬
‫* وص ف من ي أتى بع د الق رون الفاض لة – ب اب فض ل الص حابة ثم ال ذين يل ونهم ثم ال ذين‬
‫يل ونهم ‪ * .16/85 -‬وص ف ش جرة فى الجن ة – كت اب الجن ة وص فة نعيمه ا وأهله ا ‪-‬‬
‫‪ * .17/167‬وص ف خيم ة الم ؤمن فى الجن ة – كت اب الجن ة وص فة نعيمه ا وأهله ا ‪-‬‬
‫‪.17/176‬‬
‫الخاتمة ونتائج البحث‬
‫الحمد هلل الذى بنعمته تتم الصالحات‪ ،‬والصالة والسالم على صاحب خاتم الرساالت‬
‫وبعد‬
‫‪ -1‬فلق د اتض ح لن ا من خالل الفص ل األول ومباحث ه مع نى الوص ف عن د‬
‫اللغويين‪،‬والبالغيين‪ ،‬والنحويين‪ ،‬والعالقة بين الوصف والتصوير‪ ،‬وعالقة الوصف بالخيال‪،‬‬
‫وتنوع الوصف فى البيان النبوى‪.‬‬
‫‪ -2‬واتضح لنا من خالل الفصل الثانى ‪ -‬وهو الجانب التطبيقى من البحث على بعض‬
‫أح اديث الوص ف فى الص حيحين‪ -‬أهمي ة االتجاه األدبى فى التحلي ل البالغى للبي ان النب وى‪،‬‬
‫وق د جمعت فى الج انب التط بيقى بين االتج اهين‪ :‬األدبى والعلمى م ع ظه ور االتج اه األول‬
‫ألهميته فى هذا المي دان لألس باب التى س بق ذكرها ‪ ،‬واتض ح لنا كذلك من خالل الج انب‬
‫التطبيقى ارتباط البيان النبوى بمنبعه األصيل وهو البيان القرآنى‪ ،‬وذلك من خالل الربط بين‬
‫أحاديث الوصف‪ ،‬واآليات القرآنية المتفقة معها فى الموضوع‪.‬‬
‫‪ -3‬وفى الفصل الثالث تبين لنا خصائص الوصف فى البيان النبوى‪ ،‬وهذه الخصائص‬

‫‪78‬‬
‫الحظتها من خالل الجانب التطبيقى من البحث‪،‬وبعد ذلك جاءت اإلشارة إلى بعض أحاديث‬
‫الوصف األخرى فى الصحيحين‪ ،‬مرتبة حسب الكتب واألبواب فى الصحيحين حتى يسهل‬
‫الرجوع إليها لمن أراد التوسع فى معرفة أسرار هذا الفن من فنون البيان النبوى‪ .‬واهلل واسأل‬
‫أن يتقب ل من ا ص الح العم ل ‪ ,‬وأن يجنبن ا الزلل ‪ ,‬وأال يحرم نى أج ره‪ ،‬وأن يعلم نى م ا ينفع نى‪،‬‬
‫وينفعنى بما علمنى إنه سميع قريب مجيب‪.‬وصلى اهلل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫المصــادر والمراجع‬
‫القرآن الكريم‬
‫‪ -1‬أدب الك اتب ألبى محم د عب د اهلل بن مس لم بن قتيب ة ال دينورى ت(‪ )276‬هـ ‪-‬‬
‫تحقيق الشيخ‪ /‬محمد محيى الدين عبد الحميد – ط ثانية‪.‬‬
‫‪ -2‬إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم للعالمة أبى السعود محمد العمادى‬
‫ت (‪ )951‬هـ ‪ -‬ط دار الفكر – بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -3‬أساس البالغة للزمخشرى– ط مطبعة دار الكتب – ط ثانية – (‪.)1972‬‬
‫‪ -4‬أس رار البالغة لإلم ام عب د القاهر الجرجانى ت (‪ )471‬هـ تحقيق العالمة‪ /‬محمد‬
‫رشيد رضا – ط دار الكتب العلمية – ط أولى ‪ )1409( -‬هـ (‪)1988‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬أسس النقد األدبى لألستاذ الدكتور‪ /‬أحمد بدوى – ط نهضة مصر – (‪)1996‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬إعجاز القرآن والبالغة النبوية لألستاذ‪ /‬مصطفى صادق الرافعى ‪ -‬ط مكتبة اإليمان‬
‫– ط أولى – (‪)1417‬هـ ‪)1997( -‬م‪.‬‬
‫‪ -7‬أقيسه النبى المصطفى محمد صلى اهلل عليه وسلم لإلمام ناصح الدين عبد الرحمن‬
‫األنص ارى المع روف ب ابن الحنبلى ت (‪ )634‬هـ ‪ -‬تحقي ق األس تاذ‪ /‬أحم د حس ن ج ابر‪،‬‬
‫واألستاذ‪ /‬على أحمد الخطيب – ط المكتبة العصرية – بيروت – (‪)1415‬هـ (‪)1994‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬أمثال الحديث مع تقدمة فى علوم الحديث لألستاذ الدكتور‪ /‬عبد المجيد محمود‬
‫– ط مكتبة التراث – ط أولى‪.‬‬
‫‪ -9‬األمثال فى القرآن البن قيم الجوزية ت (‪ )751‬هـ ‪ -‬تحقيق األستاذ‪ /‬سعيد محمد‬
‫نمر – ط دار المعرفة – بيروت‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫‪ -10‬اإليض اح لتلخيص المفت اح للخطيب القزوي نى ت (‪ )739‬هـ ‪ -‬تحقي ق األس تاذ‪/‬‬
‫عبد المتعال الصعيدى – ط مكتبة االداب – (‪)1417‬هـ ‪)1997( -‬م‪.‬‬
‫‪ -11‬الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث للحافظ بن كثير ت (‪ )774‬هـ ‪-‬‬
‫تحقيق الشيخ ‪ /‬أحمد شاكر – ط مكتبة دار التراث – ( ‪ )1423‬هـ (‪)2002‬م‪.‬‬
‫‪ -12‬البح ر المحي ط ألبى حي ان األندلس ى ت (‪ )754‬هـ ‪ -‬تحقي ق األس تاذ‪ /‬ص دقى‬
‫محمد جميل – ط دار الفكر – بيروت – (‪ )1412‬هـ (‪)1992‬م‪.‬‬
‫‪ -13‬البرهان فى علوم القرآن لبدر الدين الزركشى ت (‪ )794‬هـ ‪ -‬تحقيق األستاذ‪/‬‬
‫محمد أبى الفضل إبراهيم – ط المكتبة العصرية – بيروت‪.‬‬
‫‪ -14‬بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز لإلمام مجد الدين محمد بن يعقوب‬
‫الف يروز آبادى ت (‪ )817‬هـ ‪ -‬تحقيق الش يخ ‪ /‬على النج ار – ط المكتب ة العلمي ة – ب دون‬
‫تاريخ‪.‬‬
‫‪ -15‬بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخارى المسمى جمع النهاية فى بدء الخير‬
‫والغاية البن أبى جمرة األندلسى ت (‪ )699‬هـ ‪ -‬ط مجلة األزهر (‪)1423‬هـ‪.‬‬
‫‪ -16‬البيان فى ضوء أساليب القرآن الكريم لألستاذ الدكتور‪ /‬عبد الفتاح الشين – ط‬
‫دار الفكر العربى – (‪)1420‬هـ (‪)2000‬م‪.‬‬
‫‪ -17‬البيان النبوى لألستاذ الدكتور ‪ /‬محمد رجب البيومى – ط دار الوفاء – ط ثانية‬
‫– (‪)1423‬هـ ‪)2002( -‬م‪.‬‬
‫‪ -18‬البيان والتبيين ألبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ت (‪ )255‬هـ تحقيق األستاذ‪/‬‬
‫عبد السالم هارون – ط دار الجيل – (‪ )1410‬هـ (‪)1990‬م‪.‬‬
‫‪ -19‬تأثير الفكر الدينى فى البالغة العربية لألستاذ الدكتور‪ /‬مهدى صالح السامرائى –‬
‫ط المكتب اإلسالمى‪.‬‬
‫‪ -20‬تحفة األحوذى بشرح جامع الترمذى للعالمة أبى العالء محمد عبد الرحمن بن‬
‫عبد الرحيم المباركفورى ت (‪ )1353‬هـ ‪ -‬ط دار الكتب العلمية – بيروت – ط أولى – (‬
‫‪)1410‬هـ (‪)1990‬م‪.‬‬
‫‪ -21‬ت دريب ال راوى فى ش رح تق ريب الن واوى للعالم ة جالل ال دين الس يوطى ت (‬

‫‪80‬‬
‫‪ )911‬هـ ‪ -‬تحقي ق األس تاذ ال دكتور‪ /‬أحم د عم ر هاش م – ط – دار الكت اب الع ربى – (‬
‫‪)1417‬‬
‫‪ -22‬التص وير الف نى فى الق رآن لألس تاذ‪ /‬س يد قطب – ط دار الش روق – ط الثاني ة‬
‫عشرة – (‪ )1412‬هـ (‪)1992‬م‪.‬‬
‫‪ -23‬التصوير الفنى فى الحديث الشريف لألستاذ الدكتور‪ /‬محمد لطفى الصباغ – ط‬
‫المكتب اإلسالمى – ط اولى – (‪ )1409‬هـ (‪)1988‬م‪.‬‬
‫‪ -24‬التعريف ات لعلى بن محم د الجرجانى ت (‪ )816‬هـ ‪ -‬تحقيق األس تاذ ‪ /‬إبراهيم‬
‫اإلبيارى – ط الريان – بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -25‬تفس ير الق رآن العظيم ألبى الف داء إس ماعيل بن كث ير ت (‪ )774‬هـ ‪ -‬تحقي ق‬
‫األستاذ ‪ /‬خالد محمد محرم – ط المكتبة العصرية – ط أولى (‪)1416‬هـ (‪.)1996‬‬
‫‪ -26‬تلخيص البي ان فى مج ازات الق رآن للش ريف الرض ى ت (‪ )406‬هـ ‪ -‬تحقي ق‬
‫األستاذ ‪ /‬محمد عبد الغنى حسن – ط دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابى الحلبى –‬
‫بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -27‬ج امع الترم ذى لإلم ام أبى عيس ى محمد بن س ورة الترمذى ت (‪ )279‬هـ ‪ -‬ط‬
‫دار الكتب العلمية – بيروت – ط أولى (‪)1410‬هـ (‪)1990‬م‪.‬‬
‫‪ -28‬الجامع ألحكام القرآن لإلمام أبى عبد اهلل بن أحمد القرطبى ت (‪ )671‬هـ ‪ -‬ط‬
‫دار الكتب العلمية – بيروت – ط خامسة – (‪ )1417‬هـ‬
‫‪ -29‬الجمان فى تشبيهات القرآن ألبى القاسم عبد اهلل بن محمد بن ناقيا البغدادى ت‬
‫(‪ )485‬هـ ‪ -‬تحقي ق د‪ /‬محم د رض وان الداي ة – ط دار الفك ر – ب يروت – ط أولى – (‬
‫‪)1423‬هـ‬
‫‪ -30‬حاش ية الدس وقى على مختص ر س عد ال دين التفت ازانى للعالم ة محم د بن أحم د بن‬
‫عرفة الدسوقى المالكى ت (‪ )1230‬هـ ‪ -‬ط دار السرور – بيروت‪.‬‬
‫‪ -31‬حاش ية الشهاب الخفاجى على تفس ير البيض اوى المس ماة عناي ة القاضى وكفاية‬
‫الراض ى للعالم ة ش هاب ال دين الخف اجى ت (‪ )1069‬هـ – ط دار إحي اء ال تراث الع ربى –‬
‫بيروت‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫‪ -32‬الحديث النبوى مصطلحه‪ ،‬بالغته‪ ،‬كتبه‪ ،‬لألستاذ الدكتور‪ /‬محمد لطفى الصباغ‬
‫– ط المكتب اإلسالمى – ط سادسة – (‪ )1411‬هـ (‪)1990‬م‪.‬‬
‫‪ -33‬الخيال فى الشعر العربى لإلمام محمد الخضر حسين – ط تونس – ط ثانية (‬
‫‪392‬ا)هـ ‪.‬‬
‫‪ -34‬سبل السالم الموصلة إلى بلوغ المرام لإلمام محمد بن إسماعيل األمير الصنعانى‬
‫ت (‪ )1182‬هـ ‪ -‬تحقيق الشيخ ‪ /‬طارق عوض اهلل – ط دار العاصمة – الرياض – ط أولى‬
‫– (‪)1422‬هـ (‪)2001‬م‪.‬‬
‫‪ -35‬سلس لة األح اديث الص حيحة للعالم ة محم د ناص ر ال دين األلب انى – ط مكتب ة‬
‫المعارف – الرياض – ط أولى – (‪ )1416‬هـ (‪)1996‬م‪.‬‬
‫‪ -36‬س نن أبى داود لإلم ام س ليمان األش عت السجس تانى ت (‪ )275‬هـ ‪ -‬ط دار‬
‫الكتب العلمية – ط ثانية – (‪)1415‬هـ (‪)1995‬م‪.‬‬
‫‪ -37‬شرح الطيبى على مشكاة المصابيح والمسمى الكاشف عن حقائق السنن لإلمام‬
‫الحسين بن عبد اهلل الطيبى ت (‪ )743‬هـ ‪ -‬ط دار الكتب العلمية – ب يروت – ط أولى – (‬
‫‪ )1422‬هـ (‪)2001‬م‪.‬‬
‫‪ -38‬شرح المفصل للعالمة موفق الدين يعيش بن يعيش النحوى ت (‪ )643‬هـ ‪ -‬ط‬
‫عالم الكتب – بيروت – بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -39‬صحيح البخارى لإلمام أبى عبد اهلل محمد بن إسماعيل البخارى ت (‪ )256‬هـ‬
‫ط الرياض – ط أولى– (‪ )1421‬هـ (‪)2001‬م‬
‫‪ -40‬صحيح مسلم لإلمام أبى الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى ت (‪)261‬هـ ‪ -‬ط‬
‫دار إحياء التراث العربى‪.‬‬
‫‪ -41‬صحيح مسلم بشرح النووى لإلمام يحيى بن شرف النووى ت (‪ )676‬هـ ‪ -‬ط‬
‫دار إحياء التراث العربى‪.‬‬
‫‪ -42‬الص ناعتين الكتاب ة والش عر ألبى هالل الحس ن بن عب د اهلل العس كرى ت (‪)395‬‬
‫تحقيق األستاذ الدكتور‪ /‬مفيد قميحة – ط دار الكتب العلمية – ط ثانية – (‪.)1409‬‬
‫‪ -43‬عروس األفراح فى شرح تلخيص المفتاح لبهاء الدين السبكى ت (‪ )1317‬ط‬

‫‪82‬‬
‫دار السرور – بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -44‬العمدة فى محاسن الشعر وآدابه ونقده ألبى على الحسن بن رشيق القيروانى ت‬
‫(‪ )456‬هـ ‪ -‬تحقيق الشيخ ‪ /‬محمد محيى الدين عبد الحميد – ط دار الجيل – ط خامسة‬
‫– (‪ )1401‬هـ (‪)1981‬م‪.‬‬
‫‪ -45‬عون المعبود شرح سنن أبى داود للعالمة أبى الطيب محمد شمس الحق العظيم‬
‫آبادى – ط دار الكتب العلمية – ط ثانية – (‪ )1415‬هـ (‪)1995‬م‪.‬‬
‫‪ -46‬فتح البارى شرح صحيح البخارى للحافظ ابن حجر العسقالنى ت (‪)852‬هـ ‪-‬‬
‫ط الرياض – ط أولى – (‪)1421‬هـ (‪)2001‬م‪.‬‬
‫‪ -47‬الفتح الري انى ل ترتيب مس ند أحم د بن حنب ل الش يبانى – للش يخ ‪ /‬أحم د عب د‬
‫الرحمن البنا الشهير بالساعاتى – ط دار إحياء التراث العربى – بيروت‪.‬‬
‫‪ -48‬فقه اللغة وسر العربية ألبى منص ور بن عبد الملك الثعالبى ت (‪ )429‬هـ ‪ -‬ط‬
‫دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬
‫‪ - 49‬الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان البن قيم الجوزية ت (‪ )751‬هـ ‪-‬‬
‫تحقيق دكتور ‪ /‬محمد عثمان الخشت – ط مكتبة القرآن‪.‬‬
‫‪ -50‬القص ص فى الح ديث النب وى لألس تاذ ال دكتور‪ /‬محم د حس ن الزي ر – ط مكتب ة‬
‫طيبة – الرياض – ط رابعة‪ )1418( -‬هـ (‪)1997‬م‪.‬‬
‫‪ -51‬قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث لمحمد جمال الدين القاسمى ت (‬
‫‪ )1332‬هـ ‪ -‬ط دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪ -52‬الكش اف عن حق ائق التنزي ل وعي ون األقاوي ل فى وج وه التأوي ل ألبى القاس م‬
‫الزمخش رى ت (‪ )538‬هـ ‪ -‬تحقيق األستاذ ‪ /‬عبد ال رزاق المه دى – ط دار إحياء ال تراث‬
‫العربى – ط أولى – (‪ )1417‬هـ (‪)1997‬م‪.‬‬
‫‪ -53‬الكليات ألبى البقاء الكفوى ت (‪ )1094‬هـ ‪ -‬ط مؤسسة الرسالة – ط أولى (‬
‫‪ )1412‬هـ (‪)1992‬م‪.‬‬
‫‪ -54‬لسان العرب لإلمام جمال الدين محمد بن منظور ت (‪ )711‬هـ ‪ -‬ط دار صادر‬
‫– بيروت – ط ثالثة – (‪ )1414‬هـ (‪)1994‬م‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ -55‬المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر لضياء الدين محمد بن األثير ت (‪)637‬‬
‫– ط بوالق – (‪ )1282‬هـ‪.‬‬
‫‪ -56‬المج ازات النبوي ة للش ريف الرض ى ت (‪ )406‬هـ ‪ -‬تحقي ق األس تاذ ‪ /‬ط ه عب د‬
‫الرؤوف سعد – ط مصطفى البابى الحلبى – ط األخيرة (‪ )1391‬هـ (‪)1971‬م‪.‬‬
‫‪ -57‬المجموع المغيث فى غريبى القرآن والحديث للحافظ أبى موسى محمد بن أبى‬
‫عيسى المدينى ت (‪ )581‬هـ ‪ -‬تحقيق األستاذ ‪ /‬عبد الكريم الغرباوى – ط دار المدنى –‬
‫جدة – ط أولى (‪)1406‬هت (‪)1986‬م‪.‬‬
‫‪ -58‬المختصر لسعد الدين التفتازانى ت (‪ – )791‬ضمن شروح التلخيص – ط دار‬
‫السرور – بيروت – بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -59‬مشكاة المصابيح لإلمام محمد بن عبد اهلل الخطيب التبريزى ت (‪)740‬هـ ‪– -‬‬
‫ط دار الكتب العلمية – بيروت – ط أولى (‪)1422‬هـ (‪)2001‬م‪.‬‬
‫‪ -60‬المصباح المنير لإلمام أحمد بن على الفيومى ت (‪ )770‬هـ ‪ -‬ط مكتبة لبنان (‬
‫‪)1987‬هـ‪.‬‬
‫‪ -61‬معاه د التنص يص على شواهد التلخيص للش يخ ‪ /‬عبد الرحيم بن أحمد العباسى‬
‫ت (‪ )963‬هـ ‪ -‬تحقي ق الش يخ ‪ /‬محم د مح يى ال دين عب د الحمي د – ط ع الم الكتب –‬
‫بيروت – (‪ )1367‬هـ (‪)1947‬م‪.‬‬
‫‪ -62‬معجم األلفاظ واألعالم القرآنية لألستاذ‪ /‬محمد إسماعيل إبراهيم ط دار الفكر‬
‫العربى – ط ثالثة – (‪)1388‬هـ (‪)1968‬م‪.‬‬
‫‪ -63‬المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم لألستاذ ‪ /‬محمد فؤاد عبد الباقى ط دار‬
‫الحديث – ط أولى (‪ )1406‬هت (‪)1971‬م‪.‬‬
‫‪ -64‬المعجم المفهرس أللفاظ الحديث النبوى – تاليف أ‪ .‬ى‪ .‬ونسنك – مطبعة بريل‬
‫– ط ليدن‪.‬‬
‫‪ -65‬المعجم الوسيط – مجمع اللغة العربية – ط الثانية – ط الشروق الدولية – ط‬
‫الرابعة – (‪ )1426‬هـ (‪)2005‬م‪.‬‬
‫‪ -66‬مفتاح العلوم ألبى يعقوب يوسف بن محمد السكاكى ت (‪ )626‬هـ ط مصطفى‬

‫‪84‬‬
‫البابى الحلبى – ط أولى‪.‬‬
‫‪ -67‬المف ردات فى غ ريب الق رآن لل راغب االص فهانى ت (‪ )502‬هـ ‪ -‬تحقي ق‬
‫األستاذ‪ /‬محمد خليل عيتانى – ط دار المعرفة – بيروت – ط ثانية (‪)1998( )1420‬م‪.‬‬
‫‪ -68‬من الخصائص البالغية واللغوية فى أسلوب الحديث النبوى الشريف للدكتورة ‪/‬‬
‫فتحية فرج العقدة – ط مطبعة األمانة‪ -‬ط – أولى (‪ )1414‬هـ (‪)1993‬م‪.‬‬
‫‪ -69‬مواهب الفتاح فى شرح تلخيص المفتاح ألبى يعقوب المغربى ت (‪)1110‬هـ ‪-‬‬
‫ط دار السرور – بيروت – بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -70‬نزهة المتقين فى شرح رياض الصالحين للدكتور‪ /‬مصطفى الخن وآخرين ‪ -‬ط‬
‫مؤسسة الرسالة – ط الثالثة والعشرون – (‪ )1416‬هـ (‪)1996‬م‪.‬‬
‫‪ -71‬نقد الشهر ألبى الفرج قدامة بن جعفر ت (‪ )337‬هـ ‪ -‬تحقيق األستاذ الدكتور‪/‬‬
‫عبد المنعم خفاجى – ط أولى (‪ )1398‬هـ (‪)1978‬م‪.‬‬
‫‪ -72‬نيل األوطار شرح منتقى األخبار لإلمام محمد بن على بن محمد الشوكانى ت (‬
‫‪)1255‬هـ ‪ -‬ط دار الفكر – بيروت – (‪ )1419‬هـ (‪)1998‬م‪.‬‬
‫‪ -73‬هدى السارى مقدمه فتح البارى البن حجر العسقالنى – ط الرياض‪.‬‬
‫‪ -74‬وحى القلم لألستاذ‪ /‬مصطفى صادق الرافعى – ط دار الكتاب بيروت – بدون‬
‫تاريخ‪.‬‬

‫الحديث القدسي‬

‫الح ديث القدس ي ح ديث يروي ه الرس ول ( ص لى اهلل علي ه وس لم) نفس ه عن اهلل تب ارك‬
‫وتعالى‪،‬‬

‫‪85‬‬
‫بأي‬
‫مفوض ا إليه التعبير ّ‬
‫ً‬ ‫مرة بوساطة جبريل عليه السالم‪ ،‬وتارة بالوحي واإللهام والمنام‬
‫عبارة شاء من أنواع الكالم‪ .‬وإنما نسبت األحاديث القدسية إلى ال ُق ُدس إلضافة معناها إلى‬
‫اهلل تعالى وحده‪.‬‬

‫آحادا عنه‬
‫فاألحاديث القدسية هي ما نقل إلينا ً‬

‫مع إسناده لها عن ربّه‪ ،‬فهي من كالمه تعالى فتضاف إلى النبي‬

‫ألنه المخبر بها عن اهلل تعالى‪ .‬فالحديث القدسي إذن‪:‬‬

‫ك ل ح ديث أض افه الن بي إلى اهلل ع ّز وج ّل بنح و قول ه‪ :‬ق ال اهلل ع ز وج ل‪ ،‬ومن ه ق ول‬
‫عز وجل كل عمل ابن آدم له إال الصيام فإنه لي‪ ،‬وأنا أجزي به‪ .‬والصيام‬
‫الرسول ‪ ( :‬قال اهلل ّ‬
‫جن ة‪ .‬وإذا ك ان ي وم صوم أحدكم فال ي رفث وال يص خب ف إن سابّه أح د أو قاتل ه فليق ل إني‬
‫ام رؤ ص ائم‪ .‬وال ذي نفس محم د بي ده لخل وف فم الص ائم أطيب عن د اهلل من ريح المس ك‪.‬‬
‫للصائم فرحتان يفرحهما‪ :‬إذا أفطر فرح بفطره‪ ،‬وإذا لقي ربه فرح بصومه ) رواه البخاري‪.‬‬
‫أو أضافه بقوله‪ :‬يقول اهلل تعالى؛ مثل‪( :‬يقول اهلل تعالى‪ :‬أنا عند ظن عبدي بي‪ ،‬وأنا معه إذا‬
‫ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬وإن ذكرني في مأل ذكرته في مأل خير منهم‪،‬‬
‫باع ا‪ ،‬وإن أت اني‬
‫ذراع ا تق ربت إلي ه ً‬
‫إلي ً‬‫ذراع ا‪ ،‬وإن تق رب ّ‬
‫إلي بش بر تق ربت إلي ه ً‬
‫وإن تق رب ّ‬
‫يمشي أتيته هرولة)‬

‫دمجا في ح ديث آخ ر‪ ،‬فق د‬


‫رواه مس لم عن أبي هري رة‪ .‬وق د ي أتي الح ديث القدس ي من ً‬
‫روى مس لم في ص حيحه من حديث أبي هريرة أن رس ول اهلل ‪ ³‬قال ( قالت المالئك ة‪ :‬رب!‬
‫ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة (وهو أبصر به) فقال‪ :‬أرقبوه‪ ،‬فإن عملها فاكتبوها له بمثلها‪،‬‬
‫جراي)‬
‫وإن تركها فاكتبوها له حسنة؛ إنما تركها من ّ‬

‫‪.‬وق د يعبِّر الن بي بغ ير ق ال أو يق ول‪ ،‬مث ل‪ :‬أوحى اهلل إلى موس ى‪ ،‬أوحى اهلل إلى إب راهيم‪،‬‬
‫‪86‬‬
‫كقوله‬

‫‪ ( :‬ق ال رج ل‪ :‬ال يغف ر اهلل لفالن‪ ،‬ف أوحى اهلل تع الى إلى ن بي من األنبي اء‪ :‬إنه ا خطيئ ة؛‬
‫فليستقبل العمل )‪.‬‬

‫فالح ديث القدس ي ين دمج في الح ديث النب وي‪ ،‬ألن اللف ظ في ه ص ادر من الن بي ‪ ،‬إال أ ّن‬
‫عز وجل فيسمى حديثًا قدسيًا‪ ،‬وتارة ال يضيفه إليه فيسمى حديثًا‬ ‫النبي تارة يضيفه إلى اهلل ّ‬
‫بإطالق؛ لكن من الحديث النبوي ما يقوم الدليل فيه على أنه وحي من اهلل كأحاديث التش ريع‬
‫أيض ا حديث قدسي ولو لم يضف صراحة إلى اهلل عز‬
‫والتفصيل لما أجمل في القرآن فهذا ً‬
‫وجل‪.‬‬

‫وله ذا ي ورد أئم ة الح ديث والرواة الح ديث القدس ي بين األحاديث النبوية في الجوام ع‬
‫والمس انيد‪ ،‬وغيره ا من كتب الس نة المطه رة‪ .‬وألم ر م ا‪ُ ،‬ع ني بعض رج ال الح ديث بجم ع‬
‫األح اديث القدس ية على ح دة‪ ،‬وإبرازه ا في كتب مس تقلة‪ ،‬في الق رن الس ادس الهج ري‪ ،‬إذ‬
‫جمع فيه محيي الدين بن العربي (ت ‪638‬هـ) مائة حديث قدسي‪ ،‬ثم تبعه شيخ اإلسالم علي‬
‫الق اري (ت‪1014‬هـ) حيث جم ع أربعين ح ديثًا قدس يًا في مخط وط‪ ،‬ثم تالهم ا اإلم ام‬
‫المحدِّث عبدالرؤوف المناوي (ت ‪1025‬هـ)‪ ،‬ثم الشيخ عبدالغني النابلسي (ت ‪1143‬هـ)‪،‬‬
‫ثم الش يخ الم دني (ت ‪1200‬هـ) حيث جم ع في كتاب ه االتحاف ات الس نية في األح اديث‬
‫القدسية ثمانية وستين ومائة حديث قدسي‪.‬‬

‫الحديث القدسي والقرآن‪.‬‬

‫الكالم المضاف إلى اهلل عز وجل‪ ،‬يتمثل في أقسام؛‬

‫مر الدهور‬
‫أولها‪ :‬وأشرفها القرآن لتميزه عن البقية بإعجازه‪ ،‬وكونه معجزة باقية على ّ‬
‫‪87‬‬
‫محفوظ ة من التغي ير والتب ديل‪ ،‬ويح رم مس ه للمح دث‪ ،‬وتالوت ه للجنب‪ ،‬وروايت ه ب المعنى‪،‬‬
‫وبتعيّنه في الصالة دون الكالم اآلخر‪ ،‬وبتسميته قرآنًا‪ ،‬وبأن كل حرف منه بعشر حسنات‪،‬‬
‫وبتسمية الجملة منه آية أو سورة‪.‬‬

‫ثانيها‪ :‬كتب األنبياء عليهم الصالة والسالم التي أنزلت عليهم‪ ،‬وأوحيت إليهم‪ ،‬كالتوراة‬
‫واإلنجيل قبل تغييرها‪ ،‬وتبديلها‪.‬‬

‫آحادا عنه مع إسناده لها عن ربّه فهي من‬


‫ثالثها‪ :‬األحاديث القدسية‪ ،‬وهي ما نقل إلينا ً‬
‫كالمه تعالى‪ ،‬فتضاف إلى النبي ألنه المخبر بها عن اهلل تعالى والمعبر بها عما أوحي إليه من‬
‫اهلل في غير القرآن وهو ينسبها إلى اهلل تعالى بخالف القرآن فإنه ال يضاف إال إلى اهلل تعالى‪.‬‬

‫يتمثل الفرق بين القرآن والحديث القدسي في‪:‬‬

‫معجزا‪،‬‬
‫‪ -1‬أن القرآن معجز‪ ،‬والحديث القدسي ال يلزم أن يكون ً‬

‫‪ -2‬أن القرآن متعبد بلفظه بخالف الحديث القدسي‪ ،‬فال يتعبد بلفظه‪،‬‬

‫‪ -3‬أن الصالة ال تكون إال بالقرآن بخالف الحديث القدسي‪،‬‬

‫‪ -4‬أن جاحد القرآن يكفر بخالف جاحد الحديث القدسي‪،‬‬

‫‪ -5‬أن الق رآن الب د في ه ك ون جبري ل علي ه الس الم واس طة بين الن بي وبين اهلل تع الى‬
‫بخالف الحديث القدسي‪،‬‬

‫‪ -6‬أن الق رآن يجب أن يك ون لفظ ه من اهلل تع الى إلى ج انب معن اه‪ ،‬وفي الح ديث‬
‫القدسي فإن لفظه من النبي‬

‫‪88‬‬
‫‪ -7 ،‬أن القرآن ال يمس إال بالطهارة والحديث القدسي يجوز مسه من المحدث‪.‬‬

‫وصفوة القول أن التعبد بتالوة القرآن‪ ،‬والتحدي باإلتيان بسورة مثله يخرج األحاديث‬
‫القدس ية إذا اعتبرن ا أنه ا منزل ة بلفظه ا على الن بي ‪ ،‬ولكن التحقي ق أنه ا من كالم الن بي ‪ ،‬وأن‬
‫معناها موحى به إلى النبي فهي خارجة عن نطاق اللفظ المنزل على محمد ‪ ،‬وهي غير متعبد‬
‫بتالوتها‪.‬‬

‫الحديث القدسي والنبوي‪.‬‬

‫الفارق بين الحديث القدسي والحديث النبوي‪،‬‬

‫هو أن الحديث النبوي غير القدسي على ضربين بحسب محتواه المعنوي؛ غير توقيفي‪،‬‬
‫وتوقيفي‪.‬‬

‫غير التوقيفي‪ .‬وهو الذي استنبطه النبي بفهمه في كتاب اهلل عزوجل أو أدركه بفهم في‬
‫أمر يراه النبي من تلقاء نفسه‪،‬‬

‫علي في ه ذا غ ير ه ذه اآلي ة‬
‫كم ا ورد أن الن بي س ئل عن زك اة الخي ل‪ ،‬فق ال‪ :‬لم ي نزل َّ‬
‫شرا يره ; الزلزلة‪:‬‬
‫خيرا يره¦ ومن يعمل مثقال ذرة ً‬
‫الفاذّة الجامعة ; فمن يعمل مثقال ذرة ً‬
‫‪ 8 ،7‬وهذا يبيّن أنه كان يتكلّم دون توقيف بالوحي‪ ،‬ولكن باالستنباط‪ ،‬والفهم‪ .‬وقد كان‬
‫يش ير ب الرأي فيق ول ل ه بعض الص حابة‪ :‬أوحي أم رأي ي ا رس ول اهلل؟ ف إذا علم أن ه رأي أش ار‬
‫بخالفه‪ ،‬فيعمل النبي بمشورته عمالً بقوله تعالى‪; :‬‬

‫(*وشاورهم في األمر فإذا عزمت فتوكل على اهلل )*; آل عمران‪159 :‬‬

‫‪89‬‬
‫قطعا‪ ،‬فال يشترك مع الحديث القدسي من هذه الناحية‪.‬‬
‫وهذا القسم ليس من الوحي ً‬

‫التوقيفي‪.‬‬

‫وهو ما تلقى النبي مضمونه من الوحي بمعنى يقذفه اهلل سبحانه في قلبه‪ ،‬فيعبر عنه بكالم‬
‫من منطقه ص‪ .‬لكن دون أن ينسبه إلى اهلل عز وجل‪ ،‬وليس مقتضى ذلك أن ينسب القدسي‬
‫إلى الن بي ‪³‬؛ أل ّن القدس ي مقط وع بنس بة معن اه إلى اهلل ع ز وج ل‪ ،‬أم ا النب وي فإن ه يحتم ل أن‬
‫يكون غير توقيفي‪ ،‬فلذلك وجب الوقوف في النسبة إلى اهلل عز وجل بما يصدر عن النبي ‪³‬‬
‫من نسبته إليه سبحانه على أنه ليست هناك نتيجة عملية في االختالف أكثر من بروز الح ديث‬
‫القدسي في إخراج يقتضي مزي ًدا من العناية بأمره‪ ،‬واالهتمام به‪ .‬على أن ما يصدر عن الن بي ‪³‬‬
‫بطريق النظر واالجتهاد فيه‪ ،‬فإنه يجب األخذ به‪ ،‬والعمل بمقتضاه ما لم يعلم أن اهلل سبحانه‬
‫لم يق ره على اجته اده‪ ،‬كم ا في موض وع أُس رى ب در‪ ،‬على أن العم ل باالجته اد في ه ق د س بق‬
‫تكريم ا لحبيب ه م ع التعليم في ش أن غ يره‪ .‬وبن اء على ذل ك ف إن‬
‫ً‬ ‫ال وحي‪ ،‬وعف ا اهلل عم ا س لف‬
‫القدسي من الحديث هو الذي جزم فيه بأنه وحي‪ ،‬وأما غيره فال يخلو من احتمال االجتهاد‪.‬‬

‫وم ا ج زم بأن ه وحي ع دا الق رآن ف إذا ك ان منس وبًا إلى اهلل فه و الح ديث القدس ي كم ا‬
‫سلف وإذا لم ينسب إلى اهلل جاز أن نقول إنه حديث قدسي باعتباره وحيًا وجاز أن نقول إنه‬
‫حديث نبوي باعتباره منسوبًا إلى النبي وما كان من قوله صلى اهلل عليه وسلم‬

‫اجتهادا وأقر عليه من اهلل تعالى أي لم يعاتب بشأنه أخذ حكم الوحي‪ ،‬أو كان‬
‫ً‬ ‫أو فعله‬
‫حكما وإال فال‪.‬‬
‫وحيًا ً‬
‫الفرق بني القرآن واحلديث القدسي‬
‫وبني‬
‫الحديث النبوي والحديث القدسي‬

‫‪90‬‬
‫الفرق بين القرآن والحديث القدسي‬

‫القرآن ‪ :‬نزل به جبريل عليه الصالة والسالم على نبينا محمد عليه الصالة والسالم ‪،‬‬
‫والوحي أنواع ‪.‬‬
‫أما الحديث القدسي فال يُشترط فيه أن يكون الواسطة فيه جبريل ‪ ،‬فقد يكون جبريل‬
‫هو الواسطة فيه ‪ ،‬أو يكون باإللهام ‪ ،‬أو بغير ذلك ‪.‬‬

‫القرآن ‪ :‬قطعي الثبوت ‪ ،‬فهو متواتر كله ‪.‬‬


‫أما الحديث القدسي منه الصحيح والضعيف والموضوع ‪.‬‬

‫فكل حرف بحسنة ‪ ،‬والحسنة بعشر أمثالها ‪.‬‬


‫القرآن ‪ُ :‬متعبّد بتالوته ‪ ،‬فمن قرأه ّ‬
‫أما الحديث القدسي ‪ :‬غير ُمتعبد بتالوته ‪.‬‬

‫القرآن ‪ :‬مقسم إلى سور وآيات وأحزاب وأجزاء ‪.‬‬


‫ـقسم هذا التقسيم ‪.‬‬
‫أما الحديث القدسي ‪ :‬ال يُ ّ‬

‫القرآن ‪ُ :‬معجز بلفظه ومعناه ‪.‬‬


‫أما الحديث القدسي ‪ :‬فليس كذلك على اإلطالق ‪.‬‬

‫القرآن ‪ :‬جاحده يُكفر ‪ ،‬بل من يجحد حرفاً واحداً منه يكفر ‪.‬‬
‫أما الحديث القدسي ‪ :‬فإن من جحد حديثاً أو استنكره نظراً لحال بعض روايته فال يكف ر‬
‫‪.‬‬

‫القرآن ‪ :‬ال تجوز روايته أو تالوته بالمعنى ‪.‬‬


‫أما الحديث القدسي ‪ :‬فتجوز روايته بالمعنى ‪.‬‬

‫القرآن ‪ :‬كالم اهلل لفظاً ومعنى ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫أما الحديث القدسي ‪ :‬فمعناه من عند اهلل ولفظه من عند النبي صلى اهلل عليه على آله‬
‫وسلم ‪.‬‬

‫القرآن ‪ :‬تحدى اهلل العرب بل العالمين أن يأتوا بمثله لفظاً ومعنى ‪.‬‬
‫محل تح ٍّـد ‪.‬‬
‫وأما الحديث القدسي ‪ :‬فليس ّ‬

‫‪----------------------------------------------‬‬
‫‪----------------------------------‬‬

‫الفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي‬

‫الحديث القدسي ‪ :‬ينسبه النبي صلى اهلل عليه على آله وسلم إلى ربه تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫أما الحديث النبوي ‪ :‬فال ينسبه إلى ربه سبحانه ‪.‬‬

‫األحاديث القدسية ‪ :‬أغلبها يتعلق بموضوعات الخوف والرجاء ‪ ،‬وكالم الرب ج ل وعال‬
‫مع مخلوقاته ‪ ،‬وقليل منها يتعرض لألحكام التكليفية ‪.‬‬
‫أما األحاديث النبوية ‪ :‬فيتطرق إلى هذه الموضوعات باإلضافة إلى األحكام ‪.‬‬

‫األحاديث القدسية ‪ :‬قليلة بالنسبة لمجموع األحاديث ‪.‬‬


‫أما األحاديث النبوية ‪ :‬فهي كثيرة جداً ‪.‬‬

‫وعموماً ‪:‬‬
‫األحاديث القدسية ‪ :‬قولية ‪.‬‬
‫واألحاديث النبوية ‪ :‬قولية وفعلية وتقريرية ‪.‬‬

‫يُنظر لذلك ‪ " :‬الصحيح المسند من األحاديث القدسية " للشيخ مصطفى العدوي ‪ ،‬و "‬

‫‪92‬‬
‫مباحث في علوم القرآن " للشيخ مناع القطان – رحمه اهلل – ‪.‬‬

‫‪----------------------------------------------‬‬
‫‪----------------------------------‬‬

‫الفرق بين الحديث واألثـر‬

‫الح ديث إذا أُطل ق في االص طالح فه و أعم من أق وال الن بي ص لى اهلل علي ه على آل ه‬
‫وسلم ‪.‬‬
‫بل يشمل األحاديث القولية التي قالها الرسول صلى اهلل عليه على آله وسلم ‪.‬‬
‫ويشمل األفعال ‪ ،‬فوصف أفعال النبي صلى اهلل عليه على آله وسلم داخلة في مسمى‬
‫الحديث ‪ ،‬كوصف وضوئه أو صالته ‪.‬‬
‫ويشمل أوصافه عليه الصالة والسالم ‪ِ ،‬‬
‫كذكر صفة َخلقية أو ُخلقية ‪.‬‬
‫ويش مل تقري ر الن بي ص لى اهلل علي ه على آل ه وس لم ألم ر من األم ور ‪ ،‬ك إقراره أص حابه‬
‫على أكل الضب والضبع ‪.‬‬

‫وإذا أُطلق الحديث فإنه يشمل أقوال النبي صلى اهلل عليه على آله وسلم وأفعاله كما‬
‫تق ّدم ‪ ،‬ويشمل أقوال الصحابة وأفعالهم ‪ ،‬فيُقال – مثالً – بعد رواية حديث ما ‪ :‬والحديث‬
‫موق وف من ق ول فالن من الص حابة ‪ ،‬ويش مل المقط وع ‪ ،‬وه و م ا ورد عن الت ابعين من‬
‫أقوالهم ‪.‬‬

‫ويش مل ك ذلك ‪ :‬الح ديث الض عيف فيُطل ق علي ه ح ديث ض عيف ‪ ،‬وك ذلك الح ديث‬
‫الموضوع ‪.‬‬
‫ويُطلق على ما تق ّدم الخبر ‪.‬‬
‫السـنـَّـة ‪.‬‬
‫فهو بهذا االعتبار يُرادف لفظ ُّ‬

‫‪93‬‬
‫وأما عند التقسيم االصطالحي ‪ ،‬فيختلف عند بعض العلماء التقسيم إلى ‪:‬‬
‫ح ديث ‪ :‬وهو ما أُثِـر عن رس ول اهلل صلى اهلل علي ه على آله وسلم من ق ول أو فعل أو‬
‫تقرير أو صفة خلقية أو ُخلقية – زاد بعضهم ‪ -‬قبل البعثة أو بعدها ‪.‬‬
‫والصحيح أن لفظ " الحديث " ينصرف في الغالب إلى ما يُروى عن النبي صلى اهلل علي ه‬
‫على آله وسلم بعد النبوة ‪.‬‬

‫المحدِّثين ‪.‬‬
‫وخبر ‪ :‬وهو ُمرادف للحديث عند ُ‬

‫وفرق بعضهم بينهما فقيل ‪:‬‬


‫ّ‬
‫الحديث ما جاء عن النبي صلى اهلل عليه على آله وسلم ‪ ،‬والخبر ما جاء عن غيره ‪.‬‬
‫ولذا قيل لمن يشتغل بالسنة ‪ُ :‬محدِّث ‪ ،‬ولمن يشتغل بالتواريخ إخباري ‪.‬‬

‫فكل حديث خبر ‪ ،‬وليس كل خبر‬


‫وقيل بين الحديث والخبر عموم وخصوص مطلق ‪ّ ،‬‬
‫حديث ‪.‬‬

‫المحدِّثون على المرفوع من حديثه عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وعلى‬


‫وأثر ‪ :‬وهذا قد يُطلقه ُ‬
‫سمى المحدِّث ‪ :‬أثـري ‪ .‬نسبة‬
‫الموقوف من أقوال أصحابه يُطلقون عليها ‪ ( :‬أثـر ) ‪ ،‬ولذا يُ ّ‬
‫لألثر ‪.‬‬
‫ويُقال في الحديث القدسي ‪ :‬في األثر اإللهي ‪.‬‬

‫سمون الموقوف باألثـر ‪ ،‬والمرفوع بالخبر ‪.‬‬


‫إال عند فقهاء خراسان ‪ ،‬فإنهم فإنه يُ ّ‬

‫وخالصة القول في هذا ‪:‬‬


‫إذا أُطلِق لفظ " الحديث " فإنه يُراد به ما أُضيف إلى النبي صلى اهلل عليه على آله وسلم‬
‫‪ ،‬وق د يُ راد ب ه م ا أض يف إلى الص حابي أو إلى الت ابعي ‪ ،‬ولكن ه يُقيّ د – غالب اً – بم ا يُفي د‬
‫تخصيصه بقائله ‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ويُطلق الخبر واألثر ويُراد بهما ما أُضيف إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه على آله وسلم ‪،‬‬
‫فرقوا بينها كما تق ّدم ‪.‬‬
‫وما أُضيف إلى الصحابة والتابعين ‪ ،‬إال أن فقهاء خراسان ّ‬

‫وهذا عند المحدِّثين ‪ ،‬ولذا فإنه ال فرق عندهم بين " حدثني " وبين " أخبرني " ‪.‬‬

‫السـنّـة عند أهل العلم كل بحسب تخصصه وفَـنِّـه ‪.‬‬


‫ويختلف إطالق ُّ‬

‫السـنّـة‬
‫إطالقات ُّ‬
‫السـنّـة على ما يُقابل البدعة ‪ ،‬فيُقال ‪ :‬أهل السنة وأهل البدعة ‪ ،‬ويُقال ‪ :‬طالق‬
‫* تُطلق ُّ‬
‫سني وطالق بدعي ‪.‬‬

‫السـنّـة على ما يُقابل الواجب ‪ ،‬فيُقال ‪ :‬هذا واجب وهذا ُسنّـة ‪.‬‬
‫* وتُطلق ُّ‬

‫السـنّـة على ما يُقابل القرآن ‪ ،‬فيُقال ‪ :‬الكتاب والسنة ‪.‬‬


‫* وتُطلق ُّ‬

‫السـنّـة ويُقصد بها العمل المتّبع ‪ ،‬فيُقال ‪ :‬فعل رسول اهلل كذا ‪ ،‬وفعل أبو بكر‬
‫* و تُطلق ُّ‬
‫كذا ‪ ،‬وكلٌّ ُسنة ‪.‬‬
‫وسنة الخلفاء الراشدين ‪.‬‬
‫ولذا قال عليه الصالة والسالم ‪ :‬عليكم بسنتي ُ‬

‫‪95‬‬

You might also like