You are on page 1of 3

‫تقديم كتاب "الّزاوية والحزب‪ :‬اإلسالم والسياسة في المجتمع المغربي"‬

‫‪ ‬فئة ‪ :‬قراءات في كتب‬

‫‪ ‬حجم الخط ‪+ 18 -‬‬ ‫يناير ‪2021‬‬


‫للنشر‪:‬‬
‫بقلم باسم المكي‬ ‫‪13‬‬
‫قسم‪ :‬الدين وقضايا المجتمع الراهنة‬

‫"الّزاوية والحزب‪ :‬اإلسالم والسياسة في المجتمع المغربي"‬

‫باسم المكّي‬

‫أصدر الباحث المغربي نور الدين الّزاهي سنة ‪ 2001‬كتابا بعنوان "الزاوية والحزب‪ :‬اإلسالم والّس ياسة في المجتمع المغربي"‪ .‬وقد تتالت بعد ذلك‪ ،‬الطبعات لتصل إلى‬

‫الطبعة الثالثة الصادرة بدار أفريقيا الّش رق‪ -‬المغرب سنة ‪ .2011‬نور الدين الّزاهي باحث وأكاديمي مغربي من مواليد سنة ‪ 1962‬متحّص ل على دبلوم الدراسات العليا‬
‫في الفلسفة والعلوم اإلنسانية بجامعة الرباط‪ ،‬وحائز على الدكتوراه في علم االجتماع‪ .‬وقد نال كتابه هذا‪ ،‬جائزة األطلس الكبير سنة ‪ 2002‬من مصلحة التعاون‬

‫الثقافي للسفارة الفرنسّية بالمغرب‪ .‬يشتمل الكتاب على مدخل وثالثة فصول كبرى؛ وقد احتّل الفصل األّو ل المعنون بـ"وعي التأسيس واالنفصال" الحّيز األكبر من‬

‫الكتاب؛ ألّنه امتّد على مئة وعشرين صفحة؛ أي ما يعادل نصف حجم الكتاب‪ .‬في حين أّن الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان "تجّليات التغّير في سياق االستمرارّية" تأّلف‬
‫من أربعين صفحة‪ .‬وال يختلف عنه الفصل الثالث الممتّد على خمسين صفحة تقريبا‪ ،‬وقد عنونه الباحث بـ"تجّليات االستمرارّية في المتغّير"‪.‬‬

‫أّكد المؤّلف منذ فاتحة الكتاب أّن الزاوية قد أّثرت بعمق في تشّكل الحزب السياسي بالمغرب‪ ،‬إذ اضطلعت هذه المؤسسة بأدوار مختلفة في المجتمع المغربي‪،‬‬
‫وعملت على إعادة هيكلته وتحديد سمات مؤسساته المستقبلّية منذ أواخر القرن التاسع عشر‪ .‬فقد ظهر نموذجان بارزان للزاوية؛ هما الزاوية الدرقاوّية والزاوية‬

‫الكّتانّية‪ .‬نشطت الزاوية الدرقاوّية في المجال القروي‪ ،‬وشّجعت أغلب فروعها الحركات القروّية على التمّر د والمقاومة‪ ،‬وحّثت المغاربة على استعادة تراثهم‬

‫الجهادي‪ ،‬وقد بلغ حجم تأثيرها درجة نقد شرعّية السلطان السياسّية والدينّية‪ .‬أّم ا في المجال الحضرّي ‪ ،‬فقد برزت الزاوية الكّتانّية بمدينة فاس‪ .‬وعلى الرغم من‬

‫حداثتها مقارنة بزوايا أخرى كالقادرّية والوّزانّية‪ ،‬فإّنها استطاعت االنتشار معتمدة على إرث الزاوية الدرقاوّية‪ .‬وقد اّتخذت من الدروس الدينّية قناة تواصل مع‬
‫مريديها‪ ،‬حّتى تنّم ي قدرتهم المعنوّية على مواجهة المستعمر‪ .‬ولئن اختارت الزاوية الدرقاوّية العمل خارج دائرة السلطان‪ ،‬فإّن الزاوية الكّتانّية اشتغلت داخل‬

‫المؤسسة المخزنّية‪ ،‬وعملت على التغيير ضمن الدائرة السلطانّية‪ ،‬غير أّن السلطان عبد الحفيظ قد أجهض مكاسبها السياسّية ونضالها الدستوري بعد إخالف عهده‬

‫معها بإقامة نظام سياسي دستوري مستقّل عن االحتالل‪ .‬وقد أنهى صراعه السياسي معها بقتل زعيمها محّم د كبير الكّتاني تحت غطاء دينّي سلفّي ‪.‬‬

‫انطلق المؤلف في الفصل األّو ل من ِس َير المناضلين السياسّية لرصد تمّثالت النخبة السياسّية والكشف عن اآلليات التي حكمت االنتقال من مؤسسة الزاوية إلى مؤسسة‬

‫الحزب‪ ،‬غير أّن هذه السير‪ ،‬في نظره‪ ،‬تشوبها عوائق منهجّية عّد ة أهّم ها االنزالق نحو اإليديولوجيا البيوغرافّية التي تمّجد الّذات‪ ،‬وتبّر ر المواقف وتوّظف األحداث‬

‫الماضية لكسب رهانات سياسّية في الحاضر‪ .‬كما أّن الحضور المكّثف السم صاحب السيرة يدفع القارئ إلى خلق تماثل بينه وبين تاريخه األسري وموقعه الديني‬

‫والسياسي‪ .‬فضال عن أّن السيرة المكتوبة من قبل شخص غير صاحب السيرة يفضي إلى العديد من المزالق من قبيل التزّيد وتأويل األحداث تأويال يخدم صاحب السيرة‬
‫ّث‬
‫وكاتبها‪ .‬ومن أجل تجاوز هذه المآزق‪ ،‬اقترح المؤلف القيام بعمليتين‪ :‬تتمّثل العملّية األولى في إعادة بناء كتابات سير المناضلين‪ .‬أّم ا العملّية الثانّية‪ ،‬فتكمن في‬

‫الكشف عن البنية العميقة المحّر كة لهذه الكتابات‪ .‬وقد أفضت عملّية النظر في هذه السير إلى تبّين انقسام النخب الوطنّية المغربّية من الظاهرة االستعمارّية إلى‬

‫ثالثة أصناف؛ أّو لها واع بضرورة العمل ضمن دائرة الحماية شأن الحاج عمر عبد الجليل الذي كان يطالب باإلصالحات تمهيدا للحصول على االستقالل‪ ،‬وثانيها يمّثل‬
‫أغلبّية النخبة المغربّية‪ ،‬وقد تعامل مع الحماية دون مساءلة حضورها بالمغرب‪ ،‬سواء أكانت فرنسّية بالجنوب أم إسبانّية بالشمال‪ .‬أّم ا الصنف الثالث‪ ،‬فقد كان واعيا‬

‫بعمل النخبة ضمن دائرة الحماية‪ ،‬ولكّنه لجأ إلى تبرير مواقفها وتأويل تصّو راتها شأن عبد الكريم غّالب الذي عّلل لجوء النخبة الوطنّية المغربّية إلى المطالبة‬

‫باإلصالحات عوض المطالبة باالستقالل إلى حداثة الحركة الوطنّية والخوف من رّد ة فعل المتعاطفين مع اإلدارة الفرنسّية‪ ،‬فضال عن أّن الوضع الدولي كان يصّب في‬

‫صالح فرنسا‪ .‬وقد كان تمّثل النخبة المغربّية لمؤسسة المخزن متشابها تقريبا‪ .‬فقد كان الملك عند جميع األحزاب السياسّية رمزا للسيادة الوطنّية‪ ،‬ولذلك حرص‬
‫الزعماء الوطنّيون على تمتين عالقتهم بصاحب العرش؛ غير أّننا نلحظ تباينا كبيرا في مواقف النخبة المغربّية تجاه الزاوية‪ .‬فلئن كان عّالل الفاسي ومحّم د بلحسن‬

‫الوّزاني وقّد ور الورطاسي قد حّم لوا الزوايا مسؤولّية ترّد ي األوضاع بالمغرب في جّل المجاالت‪ ،‬فإّن فريقا آخر من النخبة مثل التهامي الوّزاني ومحّم د داود قد رفض‬

‫الهجمة العنيفة على الزوايا‪ ،‬وعمل على التوفيق بين ممارسة الطقوس الصوفّية وأداء العمل السياسي‪ .‬وهكذا يمكن القول‪ ،‬إّن أّية قراءة لتمّثالت النخبة المغربّية‬
‫على أساس االنسجام لهو ضرب من ضروب التبسيط وإخفاء المسكوت عنه في لحظة تأسيس الوعي الوطني المغربي‪ .‬فضال عن أّن اختزال الحركة الوطنّية المغربّية‬

‫في مرجعيتين شرقّية وأخرى غربّية يعتبر أمرا مجانبا للصواب‪.‬‬

‫من خالل تتّبع السياق االجتماعي والسياسي‪ ،‬نتبّين أّن النخبة المغربّية لم تستعمل مصطلح االستعمار إّال في سياق حديثها عن الزوايا واّتهامها بالتواطؤ مع الحماية‪.‬‬

‫وهذه مغالطة عملت النخبة المغربّية على ترسيخها في األذهان‪ ،‬حتى ُتظهر الطرق والزوايا عدّو ة للعقل والتقّد م‪ .‬وفي الحقيقة‪ ،‬فإّنه ال اختالف بين موقف النخبة‬

‫والزوايا من االستعمار والحماية‪ .‬فإذا كانت الزوايا قد عّو ضت المقاومة بالغيب الديني‪ ،‬فإّن النخبة السياسّية استبدلتها بالغيب السياسي‪ .‬ولعّل النخبة المغربّية في‬
‫محاربتها للظاهرة الطرقّية كانت تحاول منع تحّو ل اإلسالم الطرقي إلى إسالم جهادي مهدوي يقتحم المدن‪ ،‬وهو ما يفّس ر مثال موقفها السلبي من الحركات‬

‫القروّية‪ .‬لقد أبانت الدراسات السوسيولوجية للزوايا أّن اإلسالم الطرقي عمل على ضرب أهداف الظاهرة االستعمارّية ومقاومة عملّية اقتالع الفرد من وسطه وغرسه‬

‫في عمقه الباطني لذلك يعّد الربط بين االستعمار وما تنشره الزوايا من مظاهر التخّلف ضربا من المغالطة سعت النخبة إلى ترسيخها في األذهان‪ ،‬وهي مغالطة‬

‫أملتها عليها مصلحتها المشتركة مع الحماية من جهة‪ ،‬ومع السلطان من جهة أخرى‪ .‬لقد اّتسم موقف النخبة بالّذكاء والبرغماتية السياسّية؛ ألّنها أدخلت السلطان‬

‫في إطار مشروعها السياسي واستغلت "قداسته" لمواجهة إرث الزوايا الضخم‪ .‬وقد خّو ل لها هذا السلوك توطيد أقدامها داخل بنية المجتمع‪ ،‬ولكّنها في المقابل‬

‫ظّلت تابعة للسلطان‪ .‬هكذا‪ ،‬حرصت النخبة على االنخراط داخل "إسالم رسمّي " يمّثله الملك وبحثت عن تحييد دور اإلسالم الطرقي القابل في كّل لحظة أن يتحّو ل إلى‬
‫إسالم جهادي‪.‬‬

‫سعى الباحث في محّطة ثانية إلى تبّين تجّليات تغّير التمّثالت في سياق االستمرار؛ أي البحث عن تمّثالت النخبة الالشعورّية للعمل السّياسي‪ .‬وتنقسم هذه التمّثالت إلى‬
‫مستويين‪ :‬ففي المستوى األّو ل سعت النخبة إلى استبعاد حركة المقاومة القروّية من مجال العمل السياسي‪ ،‬وقد أّو لت مثال تجربة عبد الكريم الخطابي لصالحها‬

‫وقّلصت من إشعاعها بزعمها أّن جيل السالح قد أنهى مهّم ته‪ ،‬وأّن جيل المقاومة السلمّية قد سطع نجمه وصار البديل عن المقاومة المسّلحة‪ ،‬وهي بهذا كّر ست‬

‫فكرة المغرب الجديد وفصلت العمل العسكري عن العمل السياسي‪ ،‬وضمنت مركزية المخزن في العمل السياسي‪ .‬أّم ا المستوى الثاني من تمّثل النخبة للعمل‬

‫السياسي‪ ،‬فإّنه اهتّم بالمرتكز الالشعوري الذي جعل النخبة تربط السياسة بالمدينة ال بالقرية‪ .‬وقد تكّفل السلطان بالحفاظ على هذه الوحدة في المدينة‪ ،‬وصار‬

‫الخروج عن سلطته مروقا عن الدين‪ .‬والحاصل من كّل هذا‪ ،‬أّن النخبة استقت شرعيتها من السلطان الذي استمّد بدوره شرعيته من التصّو ر اإلسالمي السنّي ‪.‬‬

‫بعد ذكر األسس التنظيمّية التي أرستها النخبة المغربّية مثل المدارس والجمعّيات‪ ،‬انتقد المؤّلف األطروحات التي تناولت مسألة الحزب المغربي تناوال سطحّيا‪ .‬فقد‬

‫رفض أن يصّنف الحزب المغربي ضمن خانة الزوايا‪ ،‬كما تصّد ى للقراءات التي تعتبره غير جدير باسم الحزب‪ .‬ولم يطمئّن أيضا للرأي الذي ينفي صلة الحزب بالزاوية‪ .‬لقد‬

‫أثبتت النخبة كفاءتها بتحويلها الزوايا إلى مدارس ومطالبتها بإصالح التعليم في جامع القرويين‪ .‬وعمل النخبة هذا لم يستهدف النسق الثقافي والقيمي الذي‬

‫يقوم عليه اإلسالم الطرقي بقدر ما استهدف قداسة العلماء واألولياء وافتكاك السلطة الرمزية منهم‪ .‬وقد أثبتت النخبة من خالل العمل الجمعياتي قدرتها‬

‫التنظيمّية‪ .‬ففي ظّل منع االستعمار لها من حّق تأسيس مؤسسات حزبّية وسياسّية وجدت في الجمعّيات متنّفسا وهيكال تنظيمّيا نهض بدور أساسي في توحيد الصّف‬
‫وتعبئة الجماهير‪ .‬وقد مّثلت هذه التنظيمات األرضّية المالئمة في ما بعد لتشّكل التنظيم السياسي بعد أن نالت النخبة الحظوة الرمزية‪ .‬وقد اّتخذت أّو ل نواة سياسّية‬

‫سرّية اسم الزاوية ثّم أسماء أخرى‪ ،‬مثل الطائفة ثّم استقّر ت تسمية الحزب خاّص ة في الحزب الوطني‪ .‬ولئن بّر ر بلحسن الوّزاني لجوء النخبة إلى مصطلحات الزاوية‬

‫والطائفة بالحرص على خلق التجانس بين التقليديين والحداثيين‪ ،‬فإّن المؤّلف تصدى لتبريراته وفّندها باعتبار أّن النخبة الوطنّية على اختالف ثقافة أفرادها قد خضعت‬

‫ألساس ثقافي واحد هو األساس اإلسالمّي ‪ .‬ولم تكن فكرة فصل الديني عن السياسي مطروحة‪ ،‬بل إّن منطلق مشروع النخبة السياسّية لم يخرج عن دائرة السلطان‬

‫الجامع للسلطة الدينّية والسياسّية‪ ،‬فضال عن أّنه لم يخرج عن الدائرة التي رسمتها له الحماية‪ .‬لقد أتاح ترجمة مصطلح الديمقراطّية بمصطلح الشورى للنخبة الّتموقع‬
‫السّياسي‪ ،‬وأخذ مكانة أهل الحّل والعقد الذين يعتمدهم السلطان في إدارة شؤون البالد والعباد‪ .‬ومن هذا المنظور‪ ،‬أضحت عقالنّية النخبة صورّية وأداتّية تختزل‬

‫الديمقراطّية في الشورى وإرادة الشعب في اإلجماع وال تختلف إّذاك مطالب النخبة عن مطالب علماء جامع القرويين وال شيوخ الزوايا‪ .‬فاألطر التنظيمّية التي لجأت‬

‫إليها النخبة هي ذاتها التي توختها الزوايا كما أّن عملها داخل دائرة الحماية والسلطان‪ ،‬إن هو إّال اختيار تكتيكّي غايته تحقيق الحظوة داخل المجتمع والتأثير فيه؛‬

‫غير أّن العالقة بين النخبة والمجتمع لن تظّل أحادّية؛ فالجدلّية تفترض التأّثر والتأثير وقد بدا هذا األمر واضحا في وعي النخبة وسلوكها‪ ،‬وتأّكد خاّص ة من خالل‬

‫العودة إلى البنية التنظيمّية للزوايا‪.‬‬

‫وفي معرض البحث عن تجّليات االستمرارّية في سياق المتغّير‪ ،‬سعى المؤلف إلى تبّين مظاهر توظيف النخبة للموروث الدينّي في العمل السياسي؛ فقد اعتمدت النخبة‬

‫قاموسا شديد الصلة بالحقل الداللي الديني مثل اّتخاذ أسماء حركّية مقتبسة من أسماء أبطال اإلسالم‪ ،‬كما الحظ توظيف المصطلحات اإلسالمّية من قبيل الجماعة أو‬

‫اإلخوان‪ .‬فليس من الغريب أن يلّقب عّالل الفاسي بالشيخ أو أن يستخدم بلحسن الوّزاني لقب سيدي بلحسن الوّزاني‪ .‬ولم ينفصل المعجم الديني عن الفضاء السياسي‬

‫في المغرب‪ .‬فقد شّكل المسجد الفضاء األساسي إللقاء الخطب السياسّية والتحفيز على االحتجاجات‪ .‬وهكذا‪ ،‬وجدت النخبة في المسجد اإلطار المناسب إلضفاء‬
‫القداسة على عملها السياسي‪ .‬ولم يكن المستعمر المسؤول الوحيد عن هذا الوضع بمنعه األحزاب من النشاط‪ ،‬بل إّن النخبة ذاتها قد اختارت الفضاءات الدينّية‬
‫لممارسة العمل السياسي‪ .‬لقد كانت النخبة باّتخاذها المساجد ومحافظتها على اللباس التقليدي المغربي والتزامها بمظاهر الهوّية اإلسالمّية تسعى إلى احتكار‬

‫الرأسمال الرمزي في مجتمع ترتكز أسسه بالدرجة األولى على المرجعّية الدينّية‪.‬‬

‫يّتضح من كّل ما سلف ذكره‪ ،‬أّن النخبة الوطنّية قد ظّلت حبيسة النسق الديني والثقافي اإلسالمي وبقيت مشدودة في بنية أفكارها إلى الماضي‪ .‬ولعّل هذا يتجّلى‬

‫خاّص ة في طبيعة اآلليات التي انتهجتها وفي الهياكل التنظيمّية التي توّس لتها وفي قنواتها االّتصالّية وفي فحوى خطابها‪.‬‬

‫يتأّكد هذا االستنتاج عند تأّم ل آليات الّزعامة وأسس المشيخة التي سلكتها النخبة‪ .‬وفي هذا السياق‪ ،‬دحض المؤّلف أطروحة "روبير ريزيت" "‪"Robert Rezette‬؛ فقد‬

‫صّنف "ريزيت" الحزب المغربي في خانة حزب األطر‪ .‬وقد عّلل الزاهي رفضه لهذه األطروحة بانتفاء شروط االنتخاب والتمثيلّية في الحزب المغربّي ؛ ألّن عّالل الفاسي‬

‫على سبيل المثال لم يكن رمزا سياسيا طبقّيا بقدر ما عّد ه المغاربة رمزا ثقافيا دينّيا‪ .‬فهوّية الحزب المغربي محكومة بسياقها االجتماعي التاريخي والثقافّي‬
‫للمجتمع المغربي واإلسالمّي في الوقت نفسه‪ .‬ويسّجل الدين حضوره بقّو ة في المجال السياسي‪ ،‬وهو ما يفضي إلى قيام الزعامة السياسّية على الطاعة والخضوع‪.‬‬

‫لذلك‪ ،‬خّير المؤلف تصنيف الحزب المغربي ضمن حزب الزعماء الذي سيتحّو ل تدريجّيا إلى حزب الزعيم الواحد‪ .‬وقد عّزز رأيه باإلشارة إلى أّن االنشقاق الحاصل في كتلة‬

‫العمل الوطني سنة ‪ 1937‬سببه الصراع حول زعامة الحزب ال الصراعات اإليديولوجية الطبقّية‪ .‬فطبيعة السياق الُم ؤِّطر لتمّثالت الزعماء السياسيين وسلوكهم ال يسمح‬
‫إّال بااللتفاف حول زعيم واحد والسياق ذاته ينسحب على الملوك ومشايخ الزوايا‪ .‬ومثل أّن الزعامة السياسّية محكومة بالنسق الثقافي والديني‪ ،‬فهي كذلك غير‬

‫منفصلة عن سياقها المجتمعي؛ فحّتى األحزاب الغربّية الحديثة لم تقطع مع العالقات االجتماعية التقليدّية‪ ،‬إذ إّن كّل زعيم يستند إلى نسق مرجعي ورموز تاريخّية‪،‬‬

‫وهو فرد من أفراد المجتمع قبل أن يكون رجل سياسة‪ ،‬غير أّن ارتباط السياسي باالجتماعي يزداد عمقا في المجتمعات الكليانّية الشمولّية‪ .‬لذلك‪ ،‬يستثمر الزعيم في‬

‫هذه المجتمعات الوعي الجمعي ويتماهى معه حّتى يصبح رمزا له‪ .‬وهذا ما يفّس ر تشّبه زعماء النخبة الوطنّية المغربّية بقيادات اإلسالم واستلهامهم أنموذج‬

‫القيادة النبوّية‪ .‬فتتماهى حينئذ ذات الزعيم مع الحزب‪ ،‬ويصبح الحزب في ما بعد مغلقا ومقّد سا ال يقبل االختالف مع الزعيم‪.‬‬

‫إّن الحظوة الرمزّية التي تمتع بها جيل النخبة لم تكن من إنتاجهم الخاّص شأنهم في ذلك شأن السالطين وشيوخ الزوايا‪ ،‬وإّنما استمدوها من الرأسمال الرمزي المبنّي‬
‫على جملة من العناصر كاالنتماء الحضري‪ .‬فالمدينة ليست كيانا عمرانيا فحسب‪ ،‬بل هي كيان تاريخي أيضا يؤهل األفراد للقيادة السياسّية‪ .‬وقد استثمر زعماء فاس‬

‫هذا اإلرث للتقّر ب من السلطان من ناحية‪ ،‬ولقيادة المغاربة سياسّيا واجتماعّيا من ناحية أخرى‪ .‬ويعضد االنتساب األسرّي االنتماء الحضري لترسيخ الحظوة الرمزّية وحسم‬

‫الزعامة السياسّية؛ إذ إّن كّل زعيم ينطلق من تراثه األسري الحافل بشرف النسب والكرامة واالحترام واالنتماء إلى الطبقة األرستقراطّية لتدعيم جدارته القيادّية‪ ،‬وهو‬

‫أمر شائع أيضا في النظم الغربّية الحديثة‪ .‬لكّن االنتماء األسري يتضّخم دوره في تحديد زعيم الحزب المغربي‪ ،‬وكذلك ترّؤس مؤسستي السلطنة والزاوية على حّد‬
‫السواء‪.‬‬

‫ويعّد عامال المعرفة والخبرة من العناصر أخرى الحاسمة في تحديد الزعيم السياسي‪ ،‬إذ إّن االنتماء إلى مؤسسة علمّية دينّية يكفل للسياسي حظوظا أوفر للقيادة‪.‬‬
‫ولعّل هذا ما رّجح كّفة عّالل الفاسي على كّفة بلحسن الوّزاني ذي التكوين العصري‪ .‬إضافة إلى أّن استثمار المعرفة الدينّية في الخطاب السياسي يضفي على آراء‬

‫الزعيم ضربا من القداسة واليقينّية تمّكنه من احتكار العمل السياسي وإقصاء منافسيه‪ .‬وتتأّكد هذه الزعامة خاّص ة في حالتي تعّر ض السياسي للسجن أو النفي‪ ،‬إذ‬

‫يكسبه النضال حظوة رمزّية تقّر به من الجمهور‪ ،‬وتحّر ك في الذاكرة الجماعّية تجربة الرسول وهجرته إلى المدينة كما هو الحال بالنسبة إلى عّالل الفاسي الذي‬

‫تحّو ل إلى رمز سياسي مقاوم لفرنسا بعد العودة من منفاه بالغابون‪ ،‬وأصبح مؤهال أكثر من غيره للزعامة السياسّية‪.‬‬

‫والحاصل ّم ما تقّد م‪ ،‬أّن النخبة المغربّية تحركت في إطار الرضوخ للحماية‪ ،‬وهي لم تنافس السلطان حكمه‪ .‬أّم ا في عالقتها بالزاوية‪ ،‬فقد نافستها المرجعّية وحاولت‬

‫سحب السلطة من تحت أقدامها دون أن تخرج النخبة عن النسق الثقافي والديني السائد في الثقافة المغربّية‪ .‬ولذلك‪ ،‬استثمر الحزب إرث الزاوية وطّو ره ليلّف حوله‬

‫المغاربة‪.‬‬

‫ال يمكن في خاتمة هذا العمل‪ ،‬إّال أن نثني على الجهود التي بذلها الباحث للكشف عن البنى الثانوّية في تمّثالت زعماء األحزاب المغاربة للعمل السياسي‪ ،‬وتبّين‬
‫الخيوط الناظمة بين آليات عملهم من جهة‪ ،‬وآليات اشتغال الزوايا من جهة أخرى‪ ،‬إّال أّنه من الواجب أن نسوق بعض المالحظات التي شابت البحث‪ :‬أّو لها أّن الباحث لم‬
‫يراع التوازن بين فصول كتابه؛ وذلك حسب رأينا خلل منهجي يفترض تالفيه‪ .‬وثانيها أّن الخاتمة العاّم ة قد غابت عن العمل‪ ،‬على الرغم من إفراد المؤلف خاتمة خاّص ة‬

‫في كّل فصل‪ .‬وثالث المالحظات تتمّثل في أّن الباحث نفى منافسة الزوايا لنفوذ السلطان إّال عند تخليه عن واجب الجهاد‪ ،‬وهذا األمر ال يمكن االطمئنان إليه؛ ألّن‬
‫الديني والسياسي في النسق الثقافي اإلسالمي متالزمان‪ .‬لذلك‪ ،‬يّتخذ الصراع المؤسساتي دائما الطابع الديني والسياسي في اآلن معا‪ .‬أّم ا آخر مالحظاتنا‪ ،‬فترتبط‬

‫بالتساؤل عن مدى تواصل هذا الجدل بين الديني والسياسي في تجربة األحزاب في المغرب‪ .‬فهل بقي الحزب المغربي مشدودا إلى أطره القديمة‪ ،‬أم إّن األحزاب‬
‫المغربّية اليوم قد تخّلصت من البنى القديمة‪ ،‬وحّد ت من الربط بين الديني والسياسي؟‪.‬‬

You might also like