You are on page 1of 15

‫المجتمع المدني‬

‫منبر ‪ :‬عبد القادر العلمي‬

‫مع تراجع دور الدولة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية‪ ،‬أصبحت عدة‬
‫مؤسسات وهيئات دولية تساعد المنظمات غير الحكومية لتقوم بأنشطة تكمل دور‬
‫الدولة‪ ،‬مما شجع على تزايد المبادرات الجماعية لتكوين تنظيمات وجمعيات ذات‬
‫أهداف متنوعة‪ ،‬وعرفت البلاد العربية ودول العالم الثالث عموما في العقود‬
‫الأخيرة حركية ملحوظة في تقوية وتوسيع النسيج الجمعوي الذي يستقطب الأفراد‬
‫للانخراط في أعمال وأنشطة جماعية منظمة‪ ،‬تقوم في الأساس على التطوع في‬
‫مجالات اقتصادية واجتماعية ودينية وثقافية وبيئية ورياضية…لتحقيق أهداف‬
‫مجتمعية‪ ،‬باستقل ال عن الدولة‪ ،‬وفي إطار القوانين المتعلقة بالجمعيات والهيئات‬
‫المدنية‪ ،‬وتعرف هذه الجمعيات في بعض الدول العربية بالمجتمع الأهلي‪ ،‬بينما‬
‫تعرف لدى المؤسسات الدولية‪ ،‬وفي الكتابات العربية الحديثة بالمجتمع المدني‪ ،‬أو‬
‫المنظمات غير الحكومية‪.‬‬

‫غير أن المبادرات التطوعية للأفراد والجماعات المنظمة‪ ،‬والتي تقدم خدمات‬


‫مجتمعية ليست ظاهرة حديثة‪ ،‬ولم ينحصر وجودها في منطقة جغرافية محدودة‪،‬‬
‫مما يجعل التجارب في هذا المجال متعددة ومتباينة‪ ،‬من حيث الأنظمة التي تخضع‬
‫لها‪ ،‬وأساليب عملها‪ ،‬ومستويات تطورها‪ ،‬وأهدافها‪ ،‬والعلاقات التي تربطها بالدولة‬
‫ومكونات المجتمع السياسي‪ ،‬وبالتالي فإن تعميم إطلاق مصطلح المجتمع المدني‬
‫على الهيئات المدنية‪ ،‬بمختلف أشكالها وأنظمتها ومستوياتها‪ ،‬وبقطع النظر عن‬
‫الظروف التي نشأت فيها‪ ،‬والبيئة المحيطة بها‪ ،‬يصطدم بعدة صعوبات‪ ،‬لدرجة أن‬
‫هناك من ا عتبر أن المجتمع المدني ليس واقعا بديهيا قابلا للتعريف‪ ،‬ولكنه قابل‬
‫للدراسة والتفسير والتحليل‪ ،‬ولا يمكن معرفته بصفة مباشرة‪ ،‬وإنما يمكن إخضاعه‬
‫للتأويل ما دام يحمل في أعطافه سيرورة اجتماعية‪ ،‬ونمطا من الروابط يستحفان‬
‫عليه(‪.)1‬‬ ‫تدل‬ ‫أنها‬ ‫على‬ ‫تؤول‬ ‫التي‬ ‫والظواهر‬ ‫الوقائع‬
‫ولمحاولة تذليل الصعوبات التي تعترض وضع تعريف دقيق وشامل للمجتمع‬
‫المدني‪ ،‬لابد من تسليط الضوء على أصل المصطلح‪ ،‬ومدلوله في التربة التي نشأ‬
‫فيها‪ ،‬والبيئة التي تطور في إطارها‪ ،‬قبل التعرض للمقومات التي تشترك فيها‬
‫منظمات المجتمع المدني بمفهومه العام المتداول حاليا على الصعيدين الوطني‬
‫والدولي‪.‬‬

‫مفهوم المجتمع المدني‬

‫لقد ظهر مصطلح المجتمع المدني (‪ )La société civile‬مع تطور الفكر الغربي‬
‫الذي أنتجه‪ ،‬وكان (طوماس الأكويني) في تعليقه على كتاب السياسة ل (أرسطو)‬
‫يدافع عن المكون الجماعاتي للتجمع السياسي‪ ،‬معتبرا المدينة مجالا للتواصل‪ ،‬وأن‬
‫الإنسان حيوان سياسي وأهلي بطبيعته‪ ،‬أي أنه اجتماعي‪ ،‬وهي المعاني التي تشكل‬
‫منها مفهوم(‪ ،)Communicatio Politica‬وعندما ترجم (‪ )Leonardo Bruni‬كتاب‬
‫(أرسطو) المذكور في القرن الخامس عشر‪ ،‬بدأ انتشار مفهوم (‪(Societas Civilis‬‬
‫والانتقال من مفهوم (‪ )Communicatio‬إلى مفهوم (‪ )Societas‬لما يمثله من إشارة‬
‫واضحة لانبثاق النزعة الإنسانية المدنية التي شهدتها مدن إيطاليا (‪.)2‬‬

‫وانشغل بمفهوم المجتمع المدني فلاسفة التنوير في مرحلة مقاومة أنظمة الحكم‬
‫المطلق‪ ،‬ولم تحل النظرة الفلسفية دون إضفاء الطابع السياسي على هذا المفهوم‪،‬‬
‫إذ جعلوه مقابلا للدولة الاستبدادية‪ ،‬وانتشر تداول هذا المصطلح في أوربا في‬
‫القرن السابع عشر مع نشوء الديموقراطيات التي أقيمت على أنقاض الأنظمة‬
‫السياسية التي كان يسودها الحكم المطلق‪ ،‬ونفوذ الكنيسة‪ ،‬وهيمنة الإقطاع؛ وفي‬
‫هذا السياق يأتي كتاب المفكر السكوتلاندي (آدم فرجسون) حول تاريخ المجتمع‬
‫المدني الصادر سنة ‪ ، 1767‬والذي أثار فيه تساؤلات حول تمركز السلطة السياسية‪،‬‬
‫واعتبر أن الحركة الجمعو ية هي النسق الأفضل للدفاع ضد مخاطر الاستبداد‬
‫السياسي؛ وفرق (توماس هوبز) بين الدولة والمجتمع المدني في كتابه حول حقوق‬
‫الإنسان الصادر سنة ‪ ، 1791‬ودعا إلى حكومة محددة الوظائف ومجتمع مدني حر‬
‫وسام‪ ،‬غير أن هذه الدعوة لم تجد صداها مع نمو المجتمع الرأسمالي(‪.)3‬‬
‫وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر الليبرالي بالموازاة مع التطورات‬
‫السياسية والاقتصادية التي عرفها العالم الغربي وبروز نزعة الدفاع عن المصالح‬
‫المشتركة للطبقة البرجوازية؛ وبدأ يتبلور المفهوم الحديث للمجتمع المدني من‬
‫خلال ما كتبه (هيجل) في مؤلفه (مبادئ فلسفة الحق) الصادر سنة ‪ ،1812‬حيث‬
‫أشار فيه إلى أن « المجتمع المدني يقع بين الأسرة والدولة‪ ،‬وأنه يتكون من الأفراد‬
‫والطبقات والجماع ات والمؤسسات‪ ،‬وتنتظم كلها داخل القانون المدني» (‪)4‬؛ أما‬
‫في الفكر الماركسي فإن مفهوم المجتمع المدني ظل يستعمل كسلاح في مواجهة‬
‫السلطة الشمولية‪ ،‬واعتبر (كارل ماركس) أن المجتمع المدني هو « ساحة الصراع‬
‫الطبقي» وعالج المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (‪)1891-1937‬‬
‫موضوع المجتمع المدني من منظور جديد‪ ،‬فاعتبره ليس ساحة للتنافس‬
‫الاقتصادي‪ ،‬وإنما ساحة للتنافس الإيديولوجي‪ ،‬منطلقا من التمييز بين السيطرة‬
‫السياسية‪ ،‬والهيمنة الإيديولوجية‪ ،‬فمع نضج العلاقات الرأسمالية في أوربا في‬
‫القرنين السابع عشر والثامن عشر‪ ،‬وانقسام المجتمع إلى طبقات ذات مصالح‬
‫متفاوتة أو متناقضة‪ ،‬واحتدام الصراع الطبقي كان لابد للطبقة الرأسمالية السائدة‬
‫من بلورة آليات فعالة لإدارة هذا الصراع واحتوائه بما يضمن حماية مصالحها‪،‬‬
‫وتحقيق الاستقرار في المجتمع (‪ ،) 5‬ويقول (غرامشي) أن المجتمع المدني هو‬
‫مجموعة من البنى الفوقية‪ ،‬مثل النقابات‪ ،‬والأحزاب‪ ،‬والصحافة‪ ،‬والمدارس‪،‬‬
‫والكنيسة‪ ،‬ويعتبر أن الفاتيكان أكبر منظمة خاصة في العالم‪ ،‬ويفصل بين أدوار‬
‫ومهام المجتمع المدني ووظائف الدولة‪ ،‬ويفسر ذلك المفكر الألماني المعاصر‬
‫(يورفن هابرماس) بقوله إن وظائف المجتمع المدني في مفهوم (غرامشي) تعني‬
‫الرأي العام غير الرسمي‪ ،‬أي الذي لا يخضع لسلطة الدولـة‪)6( .‬‬

‫ومع اتساع دور المجتمع المدني وتزايد أهميته في المجتمعات الديموقراطية‪ ،‬فقد‬
‫أصبح يحظى باهتمام الكثير من المفكرين والباحثين المعاصرين في الغرب وفي‬
‫العالم العربي‪ ،‬ولذلك نجد أن هناك عدة تعاريف للمجتمع المدني‪ ،‬من بينها‬
‫التعريف الذي يقترحه )‪ ) Dominique Colas‬ويعتبره عمليا فيقول بأن المجتمع‬
‫المدني « يعني الحياة الاجتماعية المنظمة انطلاقا من منطق خاص بها وبخاصة‬
‫الحياة الجمعوية التي تضمن دينامية اقتصادية وثقافية وسياسية» (‪ ،)7‬ويعرفه‬
‫(برتراند بادي) بأنه « كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع‬
‫دون تدخل أو وساطة من الدولة» (‪ ،)8‬ويعرفه (وايت جوردون) بأنه « مملكة‬
‫توسطية تقع بين الدولة والأسرة‪ ،‬وتقطنها منظمات منفصلة عن الدولة‪ ،‬وتتمتع‬
‫باستقلال ذاتي في علاقتها معها‪ ،‬وتتشكل طوعا من أفراد يهدفون إلى حماية‬
‫مصالح أو قيم معينة» (‪ ،)9‬ويعرفـه عبد الغفار شكر بأنـه «مجموعة التنظيمات‬
‫التطوعية الحرة‪ ،‬التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة‪ ،‬لتحقيق مصالح‬
‫أفرادها‪ ،‬ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح‪ ،‬والإدارة‬
‫السلمية للتنوع والاختلاف» (‪ ،)10‬ويعرفه سعد الدين إبراهيم بأنه‪ « :‬المجال الذي‬
‫يتفاعل فيه المواطنون‪ ،‬ويؤسسون بإرادتهم الحرة‪ ،‬تنظيمات مستقلة عن السلطة‪،‬‬
‫للتعبير عن المشاعر‪ ،‬أو تحقيق المصالح‪ ،‬أو خدمة القضايا المشتركة»‪ ،‬ويفيد‬
‫مصطلح المجتمع المدني في التداول السوسيولوجي المعاصر‪ ،‬أو بتعبير آخر في‬
‫الأدبيات السياسية الحديثة‪ ،‬معنى «الوسائط المبادرة» (‪.)11‬‬

‫ويرى محمد عابد الجابري أنه مهما كان الاختلاف في تعريف المجتمع المدني‪ ،‬فإن‬
‫ما هو بديهي ولا يمكن أن يكون محل اختلاف‪ ،‬هو أن المجتمع المدني أولا وقبل كل‬
‫شيء «مجتمع المدن» ‪ ،‬وأن مؤسساته هي التي ينشئها الناس بينهم في المدينة‪،‬‬
‫لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية‪ ،‬فهي إذن مؤسسات إرادية‪ ،‬أو‬
‫شبه إرادية‪ ،‬يقيمها الناس وينخرطون فيها‪ ،‬أو يحلونها‪ ،‬أو ينسحبون منها‪ ،‬وذلك على‬
‫النقيض تماما من مؤسسات المجتمع البدوي التي هي مؤسسات «طبيعية» يولد‬
‫الفرد منتميا إليها‪ ،‬مندمجا فيها‪ ،‬ولا يستطيع الانسحاب منها كالقبيلة والطائفة (‪.)12‬‬

‫وتتفق عدة دراسات أكاديمية وجامعية على أن المجتمع المدني هو « مجموعة‬


‫التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة‪ ،‬أي بين‬
‫مؤسسات القرابة ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختيار في عضويتها‪ ،‬هذه‬
‫التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها‪ ،‬أو لتقديم خدمات‬
‫للمواطنين‪ ،‬أو ممارسة أنشطة إنسانية متنوعة‪ ،‬وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم‬
‫ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح‪ ،‬والمشاركة والإدارة السلمية للتنو ع‬
‫والاختلاف» (‪.)13‬‬
‫وباعتبار أن مصطلح (المجتمع المدني) من إنتاج غربي‪ ،‬ويرتبط بمفاهيم‬
‫الديموقراطية الليبرالية‪ ،‬فإن هناك من ينتقد نقل المفهوم الذي يعبر عنه‬
‫المصطلح‪ ،‬من بيئته الغربية إلى المحيط العربي‪ ،‬الذي يعد المغرب جزءا منه‪ ،‬دون‬
‫تهيئة تربة جديدة ملائمة لغرسه‪ ،‬ويذهب عبد هللا حمودي إلى أن هذا النقل يؤدي‬
‫إلى عدم الأخذ بعين الاعتبار « خصوصية الدولة المغربية وتركيبها‪ ،‬وأسس ونوعية‬
‫العلاقات التي تنبني عليها سلطتها ومشروعيتها‪ ..‬وإغفال ما يمكن تسميته بالشعور‬
‫الذاتي لهذه التنظيمات‪ ،‬والرؤية التي تكونها عن نفسها ومسؤوليتها»‪ ،‬ويضيف أن‬
‫هناك إهمالا لتعريف (هيكل) للمجتمع المدني الذي يركز على فكرة الوسائطية‪،‬‬
‫التي تجعل المجتمع المدني وسيطا بين الأسرة والدولة‪ ،‬مما يستلزم تجاوز البنية‬
‫العلائقية الأسرية والقبلية والعشائرية (‪.)14‬‬
‫وهناك من حاول أن يبحث عن بديل للمصطلح الغربي (المجتمع المدني)‪ ،‬وذلك‬
‫بمحاولة إدراج ما يفيده هذا المصطلح ضمن منظومة « المفاهيم الإسلامية»‬
‫بإطلاق مفهوم (مؤسسات الأمة) التي تتميز عن (مؤسسات السلطة) (‪.)15‬‬

‫غير أنه بالرغم مما يطرحه نقل المفاهيم والمصطلحات الغربية إلى الثقافة العربية‬
‫من إشكاليات‪ ،‬خاصة في المجال المعرفي والفلسفي‪ ،‬فإن ذلك لا يمكن أن يكون‬
‫مبررا لإغلاق الأبواب لمنع دخولها‪ ،‬أو تجنب استعمالها‪ ،‬أو البحث عن بدائل يكتنفها‬
‫الغموض‪ ،‬ولا تستوعب المفهوم المقصود‪ ،‬خاصة وأن هناك ظواهر كونية تشترك‬
‫فيها المجتمعات البشرية‪ ،‬ومن هذه الظواهر نزوع الإنسان بطبيعته للعمل‬
‫الجماعي لتحقيق منافع مشتركة‪ ،‬وفي التراث الإسلامي ما يزكي ذلك‪ ،‬حيث ورد في‬
‫الحديث النبوي‪ «:‬يد هللا مع الجماعة»‪ ،‬وإذا كانت تجليات المجتمع المدني متعددة‬
‫ومتنوعة‪ ،‬وتحمل كل منها خصائص المجتمع الذي انبثقت منه‪ ،‬والمكان والزمان‬
‫الذين ُوجدت فيهما‪ ،‬فإنها لا تخلو من عناصر مشتركة بينها‪ ،‬يعيد إنتاجها العقل‬
‫الإنساني الكوني في أماكن مختلفة‪ ،‬وعصور مغايرة‪ ،‬ويطبعها كل شعب بطابعه‬
‫الخاص انطلاقا من هويته المتميزة‪.‬‬
‫وتجدر الإشارة إلى أن تعميم بعض الكتابات للأحكام التقييمية على الأوضاع في‬
‫مختلف البلدان العربية‪ ،‬فيه كثير من الإجحاف‪ ،‬خاصة حينما يتعلق الأمر ببعض‬
‫الظواهر التي ترتبط بمدى الحريات الفردية والجماعية المتاحة‪ ،‬ومستوى التطور‬
‫نحو الحياة الديموقراطية‪ ،‬بحيث لا مجال للمقارنة في هذا الصدد بين المستوى‬
‫الذي وصل إليه المغرب والوضع في السعودية أو الكويت أو سوريا‪ ،‬وتصعب‬
‫المقارنة حتى داخل بلدان المغرب العربي بسبب الاختلاف في الأنظمة السياسية‬
‫والتفاوت في الأوضاع القائمة بكل دولة‪ ،‬وبالتالي لا يمكن إصدار حكم عام ينفي‬
‫وجود المقومات الأساسية للمجتمع المدني في كل العالم العربي‪ ،‬لأن هذا الحكم‬
‫إذا كان يصح نسبيا في ظل بعض الأنظمة العربية والمغاربية‪ ،‬فإنه لا يصح بالنسبة‬
‫للبعض الآخر ومن ضمنه المغرب الذي عرف منذ زمن طويل‪ ،‬تنظيمات مدنية‬
‫نشأت بعفوية‪ ،‬واستجابة لحاجات مجتمعية‪ ،‬وتتمتع بالاستقلالية؛ وإذا كانت‬
‫الظروف السياسية قد أفرزت بعض الكيانات خارج هذا الإطار‪ ،‬فإن ذلك لم يؤد إلى‬
‫اندثار أو تغييب العمل الجمعوي المنبثق من المجتمع‪ ،‬والذي يعمل انطلاقا من‬
‫وعيه الذاتي‪ ،‬وباستقلال عن الدولة كما سنرى‪.‬‬

‫مقومات المجتمع المدني‬

‫ورغم تعدد واختلاف تعاريف المجتمع المدني فإن معظمها يركز على مقومات‬
‫أساسية يستند عليها في وجوده ويمكن تلخيصها فيما يلي‪:‬‬

‫‪)1‬الطوعية‪:‬‬
‫وتعني أن تنظيمات المجتمع المدني باختلاف أنواعها وأهدافها‪ ،‬تتأسس بناء على‬
‫الرغبة المشتركة لأصحابها‪ ،‬وانطلاقا من إرادتهم الحرة‪ ،‬أو الطوعية‪ ،‬وبالتالي فهي‬
‫غير مفروضة من طرف أي جهة‪ ،‬ولا يتم إحداثها استجابة لتعليمات أو توجيهات‬
‫الحاكمين وذوي النفوذ‪ ،‬أو غيرهم‪ ،‬وتمارس نشاطاتها التي تستجيب للأهداف التي‬
‫خارجي‪.‬‬ ‫تأثير‬ ‫أو‬ ‫ضغط‬ ‫أي‬ ‫عن‬ ‫بعيدا‬ ‫لنفسها‬ ‫سطرتها‬
‫وعادة ما تنبع الرغبة في تكوي ن هيئات المجتمع المدني‪ ،‬من شعور الأفراد‬
‫بانتمائهم للمجتمع الذي يعيشون فيه‪ ،‬وبكونهم معنيين بما يحدث فيه سلبا أو‬
‫إيجابا‪ ،‬ووعيهم بما لهم من مسؤولية تجاهه‪ ،‬وبأهمية الانخراط في قضاياه‬
‫بالاشتراك مع الآخرين‪ ،‬وما يقتضيه ذلك من تطوع وتضامن وتعاضد وتعاون من‬
‫أجل الصا لح العام‪ ،‬ثم الإحساس بلذة تحقيق النتائج‪ ،‬وجني الثمار‪ ،‬التي تعود بالنفع‬
‫على المجتمع ككل‪ ،‬وعلى أفراده من خلال العمل المشترك‪.‬‬

‫‪)2‬التنظيم‪:‬‬
‫إن الحرية والتلقائية التي تطبع تأسيس الجمعيات التي تندرج ضمن مفهوم‬
‫المجتمع المدني‪ ،‬لا تعني العشوائية أو عدم الضبط‪ ،‬لأن وجود كل واحدة من هذه‬
‫الجمعيات يخضع للقوانين السائدة والتي تتيح حرية تأسيسها من جهة‪ ،‬كما تخضع‬
‫في تسييرها وقيامها بمهامها لقوانينها الأساسية‪ ،‬وأنظمتها الداخلية من جهة ثانية‪،‬‬
‫وبذلك تتميز عن الجماعات والمكونات التي عرفتها مجتمعات عربية وإسلامية في‬
‫الماضي كالقبيلة والعشيرة والزاوية‪.‬‬

‫وتقوم العلاقة بين أعضاء الجمعية على أساس التكافؤ واحترام كل الآراء‬
‫والاجتهادات‪ ،‬في إطار العمل الجماعي لفريق يتوخى تحقيق نفس الأهداف‪ ،‬وهي‬
‫علاقات أفقية‪ ،‬وليست رأسية أو عمودية‪ ،‬مثل العلاقة بين الأجير والمؤجر‪ ،‬أو بين‬
‫السلطة والمواطن‪ ،‬أو بين شيخ الزاوية والأتباع‪ ،‬مما يجعل الجمعية إطارا يتيح‬
‫ويشجع كل الأعضاء على الابتكار والإبداع‪ ،‬والمساهمة الإيجابية في الوصول إلى‬
‫الغايات المشروعة المشتركة‪.‬‬

‫‪)3‬الاستقلال عن الدولة‪:‬‬
‫كما أن هيئات المجتمع المدني لا تؤسسها الدولة‪ ،‬ولا ُتحدث بإيعاز منها‪ ،‬فهي لا‬
‫تكون أداة ُتسخر من طرفها لخدمة أهدافها السياسية‪ ،‬إنها منظومة ذاتية التأسيس‬
‫والاشتغال‪ ،‬وحينما تفقد أي جمعية استقلاليتها عن الدولة‪ ،‬وعن نفوذ السلطات‬
‫العمومية‪ ،‬فإنها تفقد بذلك العنصر الجوهري الذي يميز المجتمع المدني الذي‬
‫تتبلور في نسيجه رغبات أفراده‪ ،‬ويخضع لنظام خاص به‪ ،‬وله منهجيته؛ وتأكيدا‬
‫لمبدأ الاستقلالية فإن جمعيات المجتمع المدني تعرف في الأمم المتحدة ووكالاتها‬
‫المتخصصة‪ ،‬وفي المؤسسات الدولية عموما‪ ،‬بالمنظمات غير الحكومية‪ ،‬وتختصر‬
‫إسمها ب (‪.).O.N.G‬‬

‫واستقلال المجتمع المدني عن الدولة لا يعني بالضرورة أنه نقيض أو خصم لها‪ ،‬أو‬
‫لا توجد بينهما أي صلة‪ ،‬وإنما تفيد أن علاقته بها لا تتسم برابطة التبعية‪ ،‬وعندما‬
‫تكون هناك أوراش تساهم فيها الدولة والمجتمع المدني في نفس الوقت‪ ،‬فإن‬
‫طبيعة العلاقة في هذه الحالة تكون مبنية على الشراكة والتعاون‪ ،‬ووظيفة‬
‫المجتمع المدني وإن كانت لا تختلف في مجالات تدخلها عن تلك التي تهتم بها‬
‫مؤسسات الدولة‪ ،‬فإنها قد لا تكون من بين أولوياتها‪ ،‬ولذلك يصف البعض دور‬
‫المجتمع المدني بأنه مكمل للمهام التي تقوم بها مصالح الدولة‪ ،‬ويسد الفراغ أو‬
‫النقص في بعض الخدمات التي تهم العموم‪ ،‬أو تهم فئات معينة‪.‬‬
‫غير أن علاقات التكامل بين المجتمع المدني والدولة على النحو المذكور‪ ،‬لا تتحقق‬
‫إلا في الدولة الديموقراطية التي تكون فيها السيادة للأمة‪ ،‬والشعب مصدر‬
‫السلطات‪ ،‬وتتميز بشفافية تدبير الشأن العام‪ ،‬وتخضع فيها كل العلاقات لسيادة‬
‫القانون‪ ،‬أما إذا كانت الدولة تقيد الحريات‪ ،‬وتن هج أسلوب القمع مع الأفراد‬
‫والجماعات‪ ،‬فإن هيئات المجتمع المدني في هذه الحالة‪ ،‬إن وجدت‪ ،‬تكون قوة‬
‫معارضة‪.‬‬

‫‪ )4‬خدمة الصالح العام‪:‬‬


‫إن أعمال ومبادرات منظمات المجتمع المدني لابد أن تصب في خدمة الصالح‬
‫العام‪ ،‬من خلال تقديم خدمات لفائدة المجتمع‪ ،‬أو بعض الفئات المستهدفة منه‪،‬‬
‫وهناك مجالات كثيرة ومتنوعة لاشتغال المجتمع المدني‪ ،‬في بلد يعاني من‬
‫التخلف‪ ،‬ويعرف الكثير من الاختلالات والخصاص‪ ،‬ومن هذه المجالات‪ :‬الأعمال‬
‫الاجتماعية التي تستهدف الفئات المحتاجة‪ ،‬ورعاية الأشخاص المعاقين‪ ،‬وحماية‬
‫الطفولة‪ ،‬والاهتمام بقضايا المرأة والشباب‪ ،‬ومحاربة الأمية‪ ،‬والوقاية الصحية‪،‬‬
‫والدفاع عن حقوق الإنسان‪ ،‬وتعميم مفاهيمها وثقافتها‪ ،‬ونشر قيم المواطنة‪ ،‬وحماية‬
‫البيئة‪ ،‬والمساهمة في تنمية الحواضر والقرى‪ ،‬ومحاربة الفقر والإقصاء الاجتماعي‪،‬‬
‫وترسيخ مقومات الهوية الوطنية‪ ،‬وما تتميز به من غنى وتنوع‪ ،‬والنهوض بالفنون‪،‬‬
‫والتشجيع على الإبداع‪ ،‬وخلق فضاءات للتنشيط الثقافي والرياضي والترفيهي‪ ،‬وغير‬
‫ذلك من المجالات التي يمكن للمجتمع المدني أن يساهم من خلال الاشتغال بها‬
‫في تنمية المجتمع والنهوض به‪ ،‬دون أن تكون الغاية من وراء ذلك هي التجارة أو‬
‫الربح‪ ،‬أو المصلحة الذاتية للأعضاء‪.‬‬
‫‪ )5‬عدم السعي للوصول إلى السلطة‪:‬‬
‫على الرغم من كون أنشطة وأهداف المجتمع المدني لا تبتعد عن مجالات الشأن‬
‫العام‪ ،‬وأن بعض الجمعيات تشكل أحيانا قوة ضاغطة على السلطات العمومية‪،‬‬
‫وتقوم بانتقاد العمل الحكومي‪ ،‬فإنها لا تسعى من خلال ذلك للوصول إلى السلطة‪،‬‬
‫ومن هذه الزاوية يتميز المجتمع المدني عن الأحزاب السياسية التي من طبيعتها أن‬
‫تعمل للوصول إلى الحكم‪.‬‬
‫وتجدر الإشارة إلى أن هناك من يت وسع في مفهوم المجتمع المدني فيعتبر الأحزاب‬
‫السياسية جزءا منه‪ ،‬غير أن أهداف الأحزاب ومنهج عملها مغايران‪ ،‬فهي تتنافس في‬
‫الاجتهادات والبرامج التي تهم مختلف مجالات الشأن العام‪ ،‬وتقوم بعرضها على‬
‫الرأي العام‪ ،‬وعلى الناخبين لنيل ثقتهم‪ ،‬والوصول بالتالي إلى الحكومة لتنفيذ تلك‬
‫البرامج؛ بينما أي جمعية من المجتمع المدني لا تتدخل في كل المجالات‪ ،‬وإنما تختار‬
‫أن تقدم خدمات معينة في مجال محدد‪ ،‬ولا تدخل في المنافسة الانتخابية التي‬
‫تعني الأحزاب السياسية‪.‬‬

‫‪ )6‬عدم اللجوء إلى العنف‪:‬‬


‫إذا كان من حق منظمات المجتمع المدني أن تقوم بالاحتجاج على السياسة التي‬
‫تتبعها السلطات العمومية في مجال ما‪ ،‬أو في مواجهة إحدى الظواهر السلبية في‬
‫المجتمع‪ ،‬ومن حقها أيضا ممارسة الضغوط لتحقيق فوائد للمجتمع‪ ،‬ومكتسبات‬
‫للشرائح الاجتماعية التي تدافع عن مصالحها‪ ،‬فإنها لا يمكن أن تستعمل في ذلك إلا‬
‫الوسائل السلمية المتحضرة‪ ،‬والمتمثلة في رفع المطالب‪ ،‬وإبداء الملاحظات‪،‬‬
‫والحوار مع الجهات المعنية‪ ،‬واستعمال وسائل الإعلام والاتصال لتوضيح مواقفها‪،‬‬
‫ويمكنها أن تلجأ إلى التظاهر السلمي إذا اقتضى الأمر ذلك؛ ولا يمكنها مطلقا‬
‫اللجوء إلى العنف‪ ،‬لأن المجتمع المدني من المفروض أن يساهم في تهذيب‬
‫السلوك العام‪ ،‬وليس في ترهيب المجتمع‪ ،‬ويعبئ الطاقات لخدمة الصالح العام‪،‬‬
‫ولا يهيج الناس من أجل التخريب‪ ،‬ويعمل على نشر قيم التضامن والتسامح‪ ،‬ولا‬
‫يزرع الحقد والكراهية‪.‬‬

‫ولذلك فإن التنظيمات التي لا تتورع عن استعمال العنف‪ ،‬وتمارس الإرهاب بأي‬
‫شكل من الأشكال‪ ،‬مهما كانت أهدافها المعلنة‪ ،‬لا يمكن أن تندرج ضمن المجتمع‬
‫المدني‪ ،‬لأنها تجعل نفسها ضد أمن وسلامة واستقرار المجتمع‪ ،‬وبالتالي تكون ضد‬
‫الأهداف النبيلة‪ ،‬والرسالة الحضارية التي يضعها المجتمع المدني على عاتقه‪.‬‬

‫مزايا المجتمع المدني ‪:‬‬


‫ويعد المجتمع المدني في العصر الحاضر من المكونات الأساسية لكل مجتمع‬
‫ديموقراطي حداثي‪ ،‬ويضطلع بدور حيوي في تعبئة الطاقات لخدمة الصالح العام‪،‬‬
‫والمساهمة الفعالة في تحقيق التنمية والتقدم‪ ،‬حيث يشتمل في تنظيماته وفي‬
‫أدائه لمهامه على مزايا كثيرة وفوائد متعددة‪ ،‬نشير إلى أهمها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ ) 1‬ترسيخ الثقافة الديموقراطية‪ ،‬والتربية على المواطنة‪ ،‬وما يعني ذلك من حرية‪،‬‬
‫ومسؤولية‪ ،‬وتنظيم‪ ،‬ومشاركة‪ ،‬وتعدد‪ ،‬واختلاف‪ ،‬وحوار‪ ،‬وخضوع للأغلبية‪ ،‬وتسامح‪،‬‬
‫واحترام الرأي الآخر‪ ،‬وتعامل في إطار مؤسساتي وقانوني‪.‬‬
‫‪ )2‬توسيع قاعدة المهتمين بالمصلحة العامة‪ ،‬وتقوية الشعور بالانتماء الوطني‪،‬‬
‫وروح التطوع‪ ،‬والعمل الجماعي المنظم‪ ،‬والحد من النزعة الفردية والأنانية‪ ،‬وتحقيق‬
‫الاندماج والتعاون بين أفراد تجمعهم الرغبة المشتركة في خدمة المجتمع‪.‬‬
‫‪ ) 3‬امتصاص حالات الاحتقان السياسي والاجتماعي‪ ،‬والتنفيس عنها بتفجير الطاقات‬
‫بصورة إيجابية‪ ،‬واعتماد النهج السلمي في اتخاذ المواقف المختلفة‪ ،‬والتعبير‬
‫العلني عن القناعات المتباينة‪.‬‬
‫‪ ) 4‬تلبية الاحتياجات المتعددة والمتنوعة للأفراد من خلال انخراطهم في الأنشطة‬
‫الجمعوية التي تتلاءم مع تخصصاتهم وميولاتهم وتطلعاتهم‪ ،‬وبضمان حرية تكوين‬
‫ال جمعيات‪ ،‬والانخراط فيها بدون تمييز‪ ،‬لا يبقى المجال لأي تيار أو فئة لاحتكار العمل‬
‫في المجالات الاجتماعية والثقافية والحقوقية وغيرها‪.‬‬
‫‪ ) 5‬تكوين النخب وإفراز القيادات الجديدة‪ ،‬حيث تتيح منظمات المجتمع المدني‬
‫لأعضائها التدريب على الخدمة العامة‪ ،‬والتمرس على العمل الجماعي المنظم‪،‬‬
‫ومن خلال أدائها لوظيفتها‪ ،‬تبرز المواهب والكفاءات في التدبير‪ ،‬ويتم اكتساب‬
‫المهارات الجديدة‪ ،‬وتعميق الخبرة والتجربة‪ ،‬كما أن تبوء مواقع المسؤولية‪ ،‬والقيام‬
‫بتوزيع الأدوار‪ ،‬وتنظيم العمل‪ ،‬وتدبير الاختلاف‪ ،‬والتوفيق بين الآراء‪ ،‬يساعد على‬
‫امتلاك فن القيادة‪ ،‬وبذلك يصبح المجتمع المدني منجما للنخب المؤهلة‪ ،‬والقيادات‬
‫المدربة‪.‬‬

‫الديمقراطية كفضاء لنمو المجتمع المدني ‪:‬‬

‫إذا كانت منظمات المجتمع المدني تتأسس بناء على الإرادة الطوعية المشتركة‬
‫لمجموعة من الأفراد الذين يرغبون في القيام بأعمال أو تقديم خدمات لفائدة‬
‫المجتمع‪ ،‬فإن هذه الإرادة إذا لم يتوفر لها الهامش الكافي من الحرية‪ ،‬لا يمكنها أن‬
‫تحقق الغاية المطلوبة من طرف أصحابها‪ ،‬ولذلك يمكن القول بأن المجتمع المدني‬
‫يرى النور بتوفر الحرية‪ ،‬أما نموه وتحقيقه لأهدافه فيبقى مرتبطا بطبيعة المحيط‬
‫الذي يوجد فيه‪ ،‬بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية‪ ،‬وكلما كانت العلاقات التي‬
‫تسود المجتمع مرتكزة على القواعد الديمقراطية المؤسساتية‪ ،‬ومتشبعة بقيم‬
‫التعدد والاختلاف‪ ،‬وروح المواطنة‪ ،‬والتنافس في خدمة المصلحة العامة‪ ،‬وحرية‬
‫الاجتهاد‪ ،‬والمراقبة والمساءلة والنقد‪ ،‬فإن توفر هذه القواعد والقيم يفتح الفضاء‬
‫الطبيعي لنمو المجتمع المدني وتطوره‪.‬‬
‫وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد في ‪ 10‬دجنبر ‪ ،1948‬على الحق‬
‫في تكوين الجمعيات والانخراط فيها‪ ،‬والحق في المشاركة في الحياة السياسية‪،‬‬
‫وفي الحياة العامة‪ ،‬باعتبارها من الحقوق والحريات الأساسية لكل الأفراد‪ ،‬على‬
‫أساس المساواة ودون أي ميز‪ ،‬وتشكل في مجموعها شروطا لا يغني بعضها عن‬
‫الآخر لقيام وتطور البناء الديمقراطي للمجتمع‪.‬‬

‫والارتباط الوثيق بين الديمقراطية والمجتمع المدني‪ ،‬جعل البعض يرى أن المجتمع‬
‫المدني لا يوجد من دون دولة ديمقراطية‪ ،‬كما لا توجد دولة ديمقراطية من دون‬
‫مجتمع مدني(‪ ،) 16‬غير أن هذه الفكرة ليست قطعية‪ ،‬لأن كثيرا من الجمعيات‬
‫المدنية تأسست في ظل أنظمة غير ديمقراطية في دول مختلفة من العالم‪ ،‬وكثيرا‬
‫ما كان المجتمع المدني يستعمل كأداة لمواجهة أنظمة الحكم الاستبدادي المطلق‪،‬‬
‫خاصة في أوربا الغربية قبل أن تنتقل إلى الديمقراطية‪ ،‬وهناك تجربة معروفة في‬
‫الربع الأخير من القرن العشرين‪ ،‬والمتمثلة في الدور الذي قامت به منظمة‬
‫(تضامن) في بولونيا‪ ،‬حيث واجهت النظام الشمولي الذي كان مواليا للاتحاد‬
‫السوفييتي قبل انهياره‪ ،‬وأدت تلك المواجهة إلى نهاية ذلك النظام في بولونيا‪ ،‬كما‬
‫أنه في عدة دول عربية لم يؤد غياب الديمقراطية إلى انعدام الجمعيات المدنية‬
‫ذات الأهداف المتنوعة‪ ،‬وعلى سبيل المثال فإن مصر التي مازالت تبحث عن‬
‫طريقها نحو الديموقراطية‪ ،‬توجد بها حوالي ‪ 17‬ألف جمعية مسجلة‪ ،‬فضلا عن‬
‫الجمعيات غير المسجلة(‪.)17‬‬

‫غير أنه كلما ساد المناخ الديمقراطي في الحياة السياسية‪ ،‬وانتشرت الثقافة‬
‫الديمقراطية‪ ،‬وترسخت قيمها في المجتمع‪ ،‬كلما ساعد ذلك على نمو وتطور‬
‫المجتمع المدني‪ ،‬واتساع مجالات تدخله‪ ،‬وازدياد فعاليته في تحقيق أهدافه‬
‫المجتمعية؛ ويمكن القول باختصار أن الحرية هي التي تساعد المجتمع المدني كي‬
‫يرى النور‪ ،‬والديمقراطية هي الفضاء الطبيعي الذي يتيح له أن يعيش وينمو‬
‫ويتطور‪.‬‬

‫المجتمع المدني في المغرب نبذة تاريخية ‪:‬‬

‫قبل الحماية الفرنسية والإسبانية كانت مؤسسات المجتمع في المغرب ذات شكل‬
‫بدائي‪ ،‬وتتمثل في القبيلة والجماعة والزاوية والعائلة‪ ،‬وكان العمل التطوعي‬
‫للأفراد يتجلى في عملية (الوقف)‪ ،‬وذلك برصد أموال أو عقارات لتأمين خدمات في‬
‫المجالات الدينية‪ ،‬أو الثقافية‪ ،‬أو الاجتماعية‪ ،‬أو البيئية‪ ،‬وبعد أن تمكن الاحتلال من‬
‫القضاء على جيوب المقاومة في الريف والأطلس وبسط نفوذه على مجموع‬
‫التراب المغربي في أواخر العشرينيات من القرن الماضي‪ ،‬بدأ البحث عن أسلوب‬
‫جديد للدفاع عن المقومات الوطنية بشكل منظم‪ ،‬فتأسست بالرباط سنة‪1926‬‬
‫جمعية (الرابطة المغربية)‪ ،‬واتخذت إسما مستعارا هو(أنصار الحقيقة)‪ ،‬وتأسس فرع‬
‫لها بتطوان‪ ،‬وآخر بطنجة‪ ،‬وعملت هذه الجمعية على نشر التعليم‪ ،‬وتأسيس الفرق‬
‫الرياضية والمسرحية‪ ،‬ومناهضة الخرافات‪ ،‬وانحلال الأخلاق‪ ،‬ومقاومة الاستعمار‪،‬‬
‫وكانت هذه الجمعية من الروافد الأولى للحركة الوطنية الاستقلالية (‪.)18‬‬
‫وفي شمال المغرب بمجرد موافقة سلطات الحماية الإسبانية على مطلب‬
‫الوطنيين بإصدار الظهير المتعلق بحرية الاجتماع وتأسيس الجمعيات في ‪23‬‬
‫شتنبر‪ ، 1931‬تم تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية بتطوان بعد ستة أيام من صدور‬
‫هذا الظهير‪ ،‬ثم تأسست جمعية الطالب المغربية بتطوان كذلك برئاسة الأستاذ عبد‬
‫الخالق الطريس في ‪ 23‬مارس ‪ ، 1932‬وأسس الحاج عبد السلام بنونة بنفس المدينة‬
‫سنة ‪ 1933‬عصبة حقوق الإنسان‪ ،‬وكان الطريس من بين أعضائها‪ ،‬وهي الأولى من‬
‫نوعها في المغرب والعالم العربي‪ ،‬وربما في كل العالم الثالث‪.‬‬
‫وتوالى بعد ذلك تأسيس الجمعيات في شتى المدن المغربية‪ ،‬والتي بدأت تشتغل‬
‫في ميادين مختلفة‪ ،‬مع الحضور القوي للحس الوطني‪ ،‬وشكلت في كثير من‬
‫الأحيان ذراعا للحركة الوطنية في نضالها ضد الاستعمار‪.‬‬

‫ومع بداية الاستقلال صدر قانون الحريات العامة في ‪ 15‬نونبر ‪ ،1958‬وساد حماس‬
‫وطني للمشاركة في بناء المغرب المستقل‪ ،‬وأدى ذلك إلى إنشاء العديد من‬
‫الجمعيات باهتمامات متنوعة‪ ،‬كما أدى التنافس بين الأحزاب الوطنية إلى تكوين‬
‫عدة جمعيات قريبة منها‪ ،‬أو موازية لها‪ ،‬كالشبيبة الاستقلالية‪ ،‬وبناة الاستقلال‪،‬‬
‫وفتيات الانبعاث‪ ،‬والعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية‪ ،‬والكشفية‬
‫الحسنية التي انفصل عنها معظم قادتها وأطرها وأسسوا منظمة الكشاف‬
‫المغربي‪ ،‬وكل هذه التنظيمات مرتبطة بحزب الاستقلال‪ ،‬ولعبت دورا أساسيا في‬
‫شق وبناء طريق الوحدة‪ ،‬وفي عمليات التشجير‪ ،‬ومحاربة الأمية‪ ،‬وغيرها من‬
‫الأعمال والأنشطة الاجتماعية والثقافية والبيئية؛ كما كانت هناك جمعيات مرتبطة‬
‫بحزب الشورى والاستقلال‪ ،‬غير أن حضورها كان أضعف نسبيا‪.‬‬
‫وقد أدت التراجعات التي عرفها الحقل السياسي منذ بداية الستينات‪ ،‬والحصار الذي‬
‫ضرب على القوات الحية بصفة عامة‪ ،‬وما صاحب ذلك من قمع ممنهج‪ ،‬ومصادرة‬ ‫ُ‬
‫للحريات العامة‪ ،‬وهيمنة النفوذ المخزني التقليدي كوجه من أوجه الحكم المطلق‪،‬‬
‫هذه العوامل أدت إلى التقليص نسبيا من حركية النسيج الجمعوي التلقائي‪ ،‬وذي‬
‫التوجهات الوطنية الحداثية‪ ،‬ووضعت الحواجز للحيلولة دون توسعه‪.‬‬

‫ولم يؤد الوجه القمعي الذي أبانت عنه الدولة إلى إيقاف حيوية المجتمع‪ ،‬بل كان‬
‫رد الفعل هو أن المجتمع أصبح يرى في الدولة خصما لامجال للتعاون معه‪،‬‬
‫وتأججت ثقافة الصراع‪ ،‬وانعدام الثقة‪ ،‬وأضحت المنظمات النابعة من المجتمع رديفا‬
‫للقوى السياسية الديمقراطية في مواجهة آلة القمع المخزني‪ ،‬والدفاع عن الحريات‪،‬‬
‫وحماية كرامة المواطنين‪ ،‬وفي هذا السياق تأسست العصبة المغربية للدفاع عن‬
‫حقوق الإنسان سنة ‪ ،1972‬ثم الجمعية المغربية لحقوق الإنسان سنة ‪ ،1979‬ثم‬
‫المنظمة المغربية لحقوق الإنسان سنة ‪1988‬؛ وتعددت بعد ذلك المنظمات‬
‫الحقوقية‪ ،‬وتكونت عدة جمعيات نسائية للدفاع عن حقوق المرأة‪ ،‬والمطالبة‬
‫بالمساواة وفق ما تقتضيه الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد‬
‫المرأة‪ ،‬المعتمدة في ‪ 18‬دجنبر ‪1979‬؛ وفي نفس المرحلة عرفت المنظمات‬
‫الوطنية للشباب حركة نشيطة‪ ،‬وفتحت جسور التعاون والتنسيق فيما بينها‪،‬‬
‫وباعتبارها مرتبطة بالقوى الديمقراطية‪ ،‬فقد كان للتنسيق بينها أثرا إيجابيا على‬
‫المشهد الحزبي‪ ،‬حيث بدأ التحول بشكل واضح للثقافة السياسية بتراجع ظواهر‬
‫الأحادية الإقصاء والتنافر‪ ،‬وانفتاح الأحزاب الوطنية على التعاون لبناء المجتمع‬
‫الديمقراطي‪ ،‬بعد أن أدركت القيادات الحزبية أن أي حزب لن يستطيع بمفرده‬
‫تحقيق التغيير المنشود‪.‬‬
‫وفي غمرة الصراع والمواجهات بين الدولة والمجتمع‪ ،‬وتعميقا لتوجه منحرف‪ ،‬قامت‬
‫الإدارة المخزنية باختلاق ما عرف ب (الأحزاب الإدارية)‪ ،‬كما أنشأت «جمعيات»‬
‫جهوية‪ ،‬أصبحت تعرف لدى الرأي العام ب (جمعيات السهول والجبال والوديان‪،)..‬‬
‫و أغدقت عليها بالكثير من الأموال والمساعدات من خزائن الدولة‪ ،‬وذلك في محاولة‬
‫لفك العزلة التي أصبحت تشعر بها سلطات المخزن في مواجهة المجتمع من جهة‪،‬‬
‫ومن أجل تحجيم وإقصاء الأحزاب الديمقراطية والمنظمات المنبثقة من المجتمع‬
‫من جهة أخرى؛ وساهم ذلك في ترسيخ ثقافة الموالاة والتبعية والخضوع‪ ،‬وهي‬
‫الظواهر التي تتنافى مع مبادئ الديموقراطية وقيم المواطنة‪ ،‬وتتعارض مع أحد‬
‫المرتكزات الأساسية التي لا تقوم للمجتمع المدني قائمة بدونها‪ ،‬ألا وهي‬
‫الاستقلالية‪.‬‬

‫تطور المجتمع المدني في المغرب الحديث ‪:‬‬

‫وفي أواخر العقد الثامن وبداية العقد التاسع من القرن الماضي‪ ،‬شكل المجتمع‬
‫المدني‪ ،‬وخاصة مكوناته الحقوقية والنسائية والشبابية‪ ،‬قوة ضاغطة ومؤثرة في‬
‫الحياة السياسية‪ ،‬معززة القوى الديمقراطية في نضالها من أجل التغيير الذي يعيد‬
‫الاعتبار لمؤسسات المجتمع‪ ،‬ويفسح المجال لبناء الديمقراطية الحقة‪ ،‬وإقرار‬
‫واحترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان‪ ،‬وتعبئة الطاقات الوطنية لتدارك‬
‫الزمن الضائع‪ ،‬وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية‪.‬‬

‫وساعدت التحولات السريعة‪ ،‬والتطورات الهامة‪ ،‬التي عرفها المحيط الدولي في‬
‫تلك المرحلة‪ ،‬على خلق مناخ سياسي جديد‪ ،‬وأصبحت السلطات العليا أكثر انفتاحا‬
‫على المجتمع‪ ،‬مع الاتساع النسبي لهامش الحريات‪ ،‬وعرفت منظمات المجتمع‬
‫المدني نتيجة لذلك دينامية جديدة‪ ،‬وتزايد تأثيرها‪ ،‬ويمكن الإشارة على سبيل المثال‬
‫أنه على إثر إعلان خمس منظمات حقوقية عن تحضيرها للميثاق الوطني لحقوق‬
‫الإنسان في بداية سنة ‪ ،1990‬قام الملك الراحل الحسن الثاني بإنشاء المجلس‬
‫الاستشاري لحقوق الإنسان في نفس السنة‪ ،‬ونص دستور سنة ‪ 1992‬على احترام‬
‫المغرب لحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا‪ ،‬وأحدثت سنة ‪ 1993‬وزارة‬
‫لحقوق الإنسان‪ ،‬وصدر العفو الملكي عن عشرات المعتقلين السياسيين‪ ،‬وسمح‬
‫بعودة العديد من المغتربين لأسباب سياسية‪ ،‬ثم وقع الاعتراف بوجود المعتقلات‬
‫السرية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بعد إنكار دام عدة سنوات‪ ..‬كما أن‬
‫حركية الجمعيات النسائية أثمرت بعض التعديلات في مدونة الأحوال الشخصية‪،‬‬
‫في نفس المرحلة قبل أن يتزايد الضغط الجمعوي الذي سيؤدي إلى تغييرات‬
‫جوهرية في المدونة التي أصبحت تحمل إسم مدونة الأسرة سنة ‪ ،2004‬ورفع‬
‫تحفظ الدولة المغربية عن بعض بنود الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال‬
‫التمييز ضد المرأة؛ وأسفرت مبادرات الجمعيات الثقافية الأمازيغية عن تأسيس‬
‫المعهد الملكي للثقافة الأماز يغية‪ ،‬وإدراج اللغة الأمازيغية ضمن مناهج التعليم‪.‬‬

‫ويمكن القول بصفة عامة أنه منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين‪ ،‬اتسعت‬
‫أكثر اهتمامات المجتمع المدني في المغرب‪ ،‬وأصبح يقتحم مختلف المجالات‪،‬‬
‫ويقوم بدور أكثر فاعلية في الحياة العامة‪ ،‬ومن الميادين الجديدة التي أصبح‬
‫المجتمع المدني يهتم بها في هذه المرحلة‪ ،‬محاربة الرشوة وحماية المال العام‪،‬‬
‫وحماية المستهلك؛ وتحقق الجمعيات المتعددة‪ ،‬سواء على مستوى الأحياء‪ ،‬أو على‬
‫صعيد المدن والقرى‪ ،‬عدة إنجازات تنموية‪ ،‬وتقوم بمبادرات إيجابية لحماية البيئة‪،‬‬
‫فضلا عما تقوم به في مجال التربية على المواطنة وحقوق الإنسان‪ ،‬والعمل على‬
‫إقرار المساواة بين المواطنين إناثا وذكورا‪ ،‬واحترام سيادة القانون‪ ،‬ومحاربة الأمية‬
‫والفقر والتهميش‪ ،‬والوقاية الصحية‪ ،‬ومساعدة المرضى من ذوي الاحتياج‪ ،‬والدفاع‬
‫عن مصالح وحقوق مختلف الفئات الاجتماعية‪ ،‬وإشاعة ثقافة التضامن والتعاون من‬
‫أجل الصالح العام‪.‬‬

‫ورغم التطور الذي عرفه النسيج الجمعوي بالمغرب‪ ،‬والحركية الملحوظة‪ ،‬والأنشطة‬
‫المتنوعة لعدة جمعيات‪ ،‬فإن هناك من يعتبر أنه لا يوجد حتى الآن مجتمع مدني‬
‫قائم بذاته وفاعل‪ ،‬لوجود عدة معوقات ذاتية وموضوعية (‪ ،)19‬غير أن قيام‬
‫المجتم ع المدني بمبادرات وأعمال ذات تأثير إيجابي في شتى المجالات‪ ،‬بالرغم من‬
‫وجود المعوقات‪ ،‬ليس مؤشر ضعف‪ ،‬وإنما على العكس من ذلك‪ ،‬يفيد أن المجتمع‬
‫المدني يتوفر على إرادة قوية للعمل‪ ،‬ويبذل الجهد على واجهتين‪ ،‬أولاهما محاولة‬
‫تخطي الصعوبات والعقبات‪ ،‬والثانية العمل على تحقيق الأهداف التي رسمتها كل‬
‫جمعية لنفسها؛ ومن الطبيعي إذا تيسرت الظروف‪ ،‬وتم التغلب على كل المعوقات‪،‬‬
‫أن يتطور المجتمع المدني أكثر‪ ،‬ويصبح ذا فاعلية أقوى‪.‬‬

‫تطور المجتمع المدني على الصعيد الدولي ‪:‬‬

‫لقد أدى تيار العولمة الذي تقوده القوى الاقتصادية العظمى في العالم إلى فرض‬
‫اقتصاد السوق‪ ،‬وحرية تنقل رؤوس الأموال والاستثمارات والبضائع والخدمات دون‬
‫حواجز أو قيود‪ ،‬مما يخدم بالأساس المصالح الاقتصادية للدول الصناعية الكبرى‪،‬‬
‫وأمام قوة هذا التيار الذي فرض على بلدان العالم الثالث ومنها المغرب‪ ،‬إعادة‬
‫الهيكلة‪ ،‬مما جعلها تعاني الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية‪ ،‬وللتخفيف‬
‫من حدة هذه المشاكل‪ ،‬عملت المؤسسات المالية الدولية‪ ،‬كصندوق النقد الدولي‬
‫والبنك الدولي‪ ،‬على توظيف المجتمع المدني في القيام ببعض المهام التي‬
‫تنس حب منها الدولة‪ ،‬أو لا تبقى ضمن أولوياتها‪ ،‬وخاصة في المجال الاجتماعي‬
‫ومحاربة الفقر والتهميش‪.‬‬

‫ويتأكد هذا التوجه من خلال التقارير السنوية للبنك الدولي‪ ،‬التي تشير إلى‬
‫المجتمع المدني كقوة محركة لنشاطات ونمو القطاع الخاص‪ ،‬وأهميته كأداة‬
‫لتحقيق أهداف التكيف الهيكلي فيما يخص تراجع دور الدولة‪ ،‬وخوصصة الثروات‬
‫العامة‪ ،‬والخدمات الاجتماعية (‪ ،)20‬كما تشير إلى الدور الحاسم للمنظمات غير‬
‫الحكومية في التصدي للعوامل التي تحول دون تطور القطاع الخاص (‪.)21‬‬

‫ويعتبر البنك الدولي أن الشراكات بين المجتمع المدني والحكومة والقطاع الخاص‪،‬‬
‫أصبحت أكثر الطرق فعالية في تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي القابل‬
‫للاستمرار‪ ،‬وتتجلى فوائد هذه الشراكات فيما يلي‪:‬‬
‫ـ منح أصحاب المصالح فرص أكثر للتعبير عن آرائهم‪ ،‬مما يضع آراء مختلف الفئات‬
‫الاجتماعية في الاعتبار عند وضع البرامج‪ ،‬واتخاذ القرارات‪.‬‬
‫ـ تعزيز مساءلة وشفافية القطاع العام‪.‬‬
‫ـ تعزيز التعبئة العامة والدعم المحلي لعمليات الإصلاح‪.‬‬
‫ـ تكوين أفكار وحلول جديدة‪.‬‬
‫ـ تقديم الخبرة المهنية‪ ،‬وزيادة القدرة على تقديم الخدمات‪ ،‬خاصة في الحالات التي‬
‫يصبح فيها القطاع العام غير قادر على ذلك (‪.)22‬‬

‫وعرف المجتمع المدني منذ أواخر القرن العشرين تطورا هاما وتوسعا كبيرا‪ ،‬وأصبح‬
‫نشاط بعض المنظمات يتجاوز حدود الدول ليشمل فضاء أرحب‪ ،‬وتكونت‬
‫مجموعات وفيدراليات تعمل على الصعيد الدولي‪ ،‬وارتفع عدد المنظمات غير‬
‫الحكومية الدولية من ‪ 6.000‬منظمة سنة ‪ ،1990‬إلى ‪ 26.000‬منظمة سنة ‪،1999‬‬
‫وأصبحت شر يكا بارزا في عملية المساعدة الإنمائية على مستوى العالم‪ ،‬وتفيد‬
‫منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي‪ ،‬أنه تم في أواخر التسعينات‪،‬‬
‫تقديم مساهمات عن طريق المجتمع المدني‪ ،‬تقدر بمبالغ تتراوح بين ‪ 6‬و ‪ 7‬بلايين‬
‫دولار سنويا (‪.)23‬‬

‫ولعب المجتمع المدني دورا حيويا خلال انعقاد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان‬
‫سنة ‪ 1993‬بفيينا‪ ،‬وأسفر المنتدى الموازي الذي شاركت فيه مئات المنظمات‬
‫الحقوقية من مختلف أنحاء العالم‪ ،‬والمنظمات الحقوقية غير الحكومية الدولية‪ ،‬عن‬
‫عدة توصيات ومقتراحات‪ ،‬منها إحداث المندوبية السامية لحقوق الإنسان‪ ،‬وهو ما‬
‫تقرر في المؤتمر الرسمي لممثلي حكومات الدول الأعضاء في منظمة الأمم‬
‫المتحدة‪.‬‬

‫وما فتئ الاهتمام بالمنظمات غير الحكومية يتزايد على الصعيد الدولي‪ ،‬وفي‬
‫خطاب السيد كوفي عنان الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة‪ ،‬بمناسبة الاجتماع‬
‫الحادي عشر لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ب (ساوباولو) بالبرازيل في ‪5‬‬
‫يونيه ‪ ، 2004‬أكد دور المجتمع المدني في الضغط على القيادات السياسية‬
‫والإدارية‪ ،‬لإحداث تغيير في المجتمعات‪ ،‬قائلا «إن هذه المنظمات تكون أقرب إلى‬
‫المشكلة وإلى الناس ‪ ..‬وهي التي تذكرنا دائما أن المشكلات والتهديدات التي‬
‫تواجه العالم اليوم‪ ،‬لا تنحصر فقط في أسلحة الدمار الشامل والإرهاب‪ ،‬لكنها تتمثل‬
‫(‪.)24‬‬ ‫البيئة»‬ ‫وتدميـر‬ ‫والأيدز‪،‬‬ ‫والحرمان‪،‬‬ ‫الفقر‪،‬‬ ‫في‬ ‫كذلك‬
‫وهناك تيار للمجتمع المدني على الصعيد الدولي‪ ،‬يناهض العولمة المتوحشة‪،‬‬
‫التي لا تهتم إلا بمصالح الشركات العملاقة العابرة للقارات‪ ،‬ومصالح القوى‬
‫الاقتصادية الكبرى في العالم‪ ،‬ويدافع عن القيم الإنسانية‪ ،‬وعن كرامة الشعوب في‬
‫دول الجنوب‪ ،‬ويدعو لحماية مقوماتها الثقافية‪.‬‬

‫ومن المؤسف أن المجتمع المدني العربي والإسلامي بصفة عامة ليس له سوى‬
‫حضور ضعيف نسبيا على الصعيد الدولي‪ ،‬لأنه ما زال يواجه الكثير من الصعوبات‬
‫والعوائق داخل معظم البلدان العربية والإسلامية‪ ،‬بسبب ضيق مجال الحريات‬
‫العامة‪ ،‬وطبيعة الأنظمة السياسية التي تبتعد عن الديمقراطية‪ ،‬ويسودها أشخاص‬
‫بدل المؤسسات‪.‬‬

‫ـــــــــــــــ‬

‫هوامش‪:‬‬

‫‪ ) 1‬محمد الغيلاني‪ ،‬محنة المجتمع المدني‪ ،‬مفارقات الوظيفة ورهانات الاستقلالية‪،‬‬


‫دفاتر وجهة نظر‪ ،‬رقم (‪ ،)6‬ط‪ 2005 ،1‬مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء‪ ،‬ص‪5 :‬‬
‫و‪.6‬‬
‫‪ )2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.49 :‬‬
‫‪ )3‬محمد شخمان‪ ،‬جريدة الصحيفة‪ 26 ،‬فبراير‪ 4-‬مارس ‪ ،1999‬ص‪.12:‬‬
‫‪ ) 4‬أنظر عبد الغفار شكر‪ ،‬المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديموقراطية‪ ،‬سلسلة‬
‫حوارات لقرن جديد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ 1:‬دمشق ‪ ،2003‬ص‪.176:‬‬
‫‪ )5‬عبدالغفار شكر‪ ،‬نشأة وتطورالمجتمع المدني‪،‬‬
‫(‪)/http://www.pyd.be/pyd/arabic‬‬
‫‪ ) 6‬أنظر الحبيب الجنحاني‪ ،‬المجتمع المدني وأبعاده الفكرية‪ ،‬سلسلة حوارات لقرن‬
‫جديد‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،1 :‬دمشق ‪ ،2003‬ص ‪ .18‬وكذلك مصطفى أعراب ومحمد‬
‫الهلالي‪ ،‬ماهو المجتمع المدني‪ ،‬ط ‪ ،1‬الرباط ‪ ،1999‬ص ‪ 5‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪)Glossaire-société civile, (http//www.wolton.cnrs.fr/glossaire/fr)7‬‬
‫‪B.Bertrand, Sociologie politique, Paris, Presses universitaires de France, )8‬‬
‫‪.1997, p:105‬‬
‫‪ )9‬عن ناجح شاهين‪ ،‬المجت مع المدني والديموقراطية‪ ،‬شبكة الأنترنيت للإعلام‬
‫العربي (أمين)‪.‬‬
‫‪ ) 10‬عبد الغفار شكر‪ ،‬المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديموقراطية‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص‪.37:‬‬
‫‪ ) 11‬عن هند عروب‪ ،‬المجتمع المدني المغربي فعالية أم أوهام الفعالية؟ (المغرب‬
‫في مفترق الطرف) منشورات وجهة نطر‪ ،‬ص‪.163 :‬‬
‫‪ ) 12‬محمد عابد الجابري‪ ،‬إشكالية الديموقراطية والمجتمع المدني في الوطن‬
‫العربي‪ ،‬مجلة المستقبل العربي‪ ،‬عدد ‪ ،176‬يناير ‪ ،1993‬ص‪.8:‬‬
‫‪ )13‬عن عبد الغفار شكر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.43 :‬‬
‫‪ ) 14‬عبد هللا حمودي‪ ،‬المجتمع المدني في المغرب العربي‪ ،‬تجارب نظريات وأوهام‬
‫في وعي المجتمع بذاته‪ ،‬عن المجتمع المدني في المغرب العربي‪ ،‬دار توبقال‪،‬‬
‫‪ ،1998‬ص‪.227:‬‬
‫‪ ) 15‬سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل‪ ،‬التجديد السياسي والواقع العربي‬
‫المعاصر‪:‬رؤية إسلامية‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬كلية الاقتصاد والعلوم السياسية‪ ،‬مركز‬
‫البحوث والدراسات السياسية‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية ‪ ،1989‬ص‪.180:‬‬
‫‪ ) 16‬برهان غليون‪ ،‬اختيار الديموقراطية في سورية‪ ،‬دار بترا‪ ،‬دمشق ‪ ،2003‬ص‪:‬‬
‫‪.117‬‬
‫‪ ) 17‬محمد مورو‪ ،‬المجتمع المدني إشكاليات المصطلح والممارسة ـ المجتمع‬
‫الأهلي ودوره في بناء الديموقراطية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.109:‬‬
‫‪ )18‬عبد الكريم غلاب‪ ،‬تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب‪ ،‬الجزء الأول‪ ،‬مطبعة الرسالة‬
‫بالرباط‪ ،1987 ،‬ص‪.38:‬‬
‫‪ ) 19‬سالم الساهل‪ ،‬تصورات عن المجتمع المني والمجتمع السياسي بالمغرب‪ ،‬مجلة‬
‫أبحاث‪ ،‬العدد ‪ 2003 ،55‬ص‪51 :‬و‪.52‬‬
‫‪ )20‬تقرير البنك الدولي عن سنة ‪.1995‬‬

‫‪ )21‬تقرير البنك الدولي عن سنة ‪.1998‬‬


‫‪ )22‬مجموعة البنك الدولي‪ ،‬المجتمع المدني‪،‬‬
‫(‪)org/mn/arabicWeb.nsf.albankaldawli,www‬‬
‫‪ )23‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ ) 24‬عن موقع منظمة الأمم المتحدة على شبكة الأنترنيت‪.‬‬

You might also like