Professional Documents
Culture Documents
تمهيد:
إن الرغبة في اكتشاف المبادئ التي تحكم تنظيم الحياة داخل المجتمع هي رغبة قديمة ،فقد كون اإلنسان
على الدوام تصورا معينا لطبيعة المجتمع وطبيعة تنظيمه .لكن مؤرخي علم االجتماع ،وبشكل خاص من
المنظور الغربي ،عادة ما يرجعون الصورة المكتملة لهذه الرغبة ولهذا التصور ،الذي يمكن اعتباره أصال
لعلم االجتماع الحديث ،إلى لحظة معينة من التاريخ الغربي ،أال وهي اللحظة اليونانية وبشكل خاص مرحلة
نشأة المذاهب الفلسفية الكبرى.
يعد هذا التصور شاذا في تاريخ علم االجتماع؛ لذلك من الصعب العثور عليه في األعمال المؤرخة لعلم
االجتماع .وممن يتبنون هذا العمل عالم االجتماع اإلنجليزي توم بوتومور ،يقول بوتومور« :يمكن أن نجد
في كتابات الفال سفة والمفكرين الدينيين والمشرعين في جميع الحضارات وعلى مدى جميع العصور
بعض المالحظات واألفكار التي تتصل بعلم االجتماع الحديث ،ففي الكتب الهندية القديمة أو الكتابات
الفلسفية اإلغريقية (مثل كتاب السياسة ألرسطو) تحلل األنساق السياسية على نحو الزالت له أهميته بالنسبة
1.
لعالم االجتماع »
ـ إن التفكير في المجتمع من حيث طبيعته وما ينبغي أن يكون عليه ومآالته هي أمور لصيقة بجميع
المجتمعات مهما كانت طبيعتها عبر التاريخ ،فالفلسفات القديمة شرقية كانت أو غربية والديانات بكل
أنواعها والمشرعين لكل المجتمعات لهم تصور معين للمجتمع.
ـ إن الحديث هنا عن مثالي الهند واليونان ال يعني اقتصار هذا النوع من التفكير عليهما ،وسبب التمثيل
بهما يعود للتصور الشائع في تاريخ علم االجتماع (مثال أرسطو) ولمن يخاطبهم بوتومور بشكل مباشر
في عمله هذا وهو المجتمع الهندي؛ ألن سبب تأليف بوتومور لعمله يعود إلى طلب اليونسكو "إلعداد كتاب
مدخل في علم االجتماع يمكن أن يقدم مفاهيم ونظريات ومناهج علم االجتماع بالتطبيق على ثقافة المجتمع
الهندي ونظمه االجتماعية ،وكان الرأي أن مثل هذا الكتاب يمكن أن يكون مدخال للموضوع للطلبة
2
الجامعيين الهنود أفيد من كتب المدخل الموجودة ،التي تدور أساسا حول المجتمعات الغربية".
التصور الثاني :المجتمع اليوناني القديم باعتباره أصال للتفكير المنظم في قضايا المجتمع
إن هذا التصور هو الغالب فيما يتعلق بأصل الفلسفة أو العلوم كلها ،أو باختصار أصل التفكير المنظم في
الطبيعة والمجتمع ،فقد تم اعتبار التنظيم االجتماعي للمجتمعات القديمة وخاصة الشرقية منها قائما على
1ـ بوتومور توم .1978 .تمهيد في علم االجتماع ،ترجمة محمد الجوهري وآخرين ،دار المعارف ،ط ،3القاهرة ،ص .29
2ـ المرجع السابق ،ص .25
مبادئ دينية ،كما يعد كذلك امتدادا للعالم العلوي؛ لذلك فهي مجتمعات متميزة بالثبات ما يجعل التفكير أمرا
ممتنعا.
ومن أمثلة هذا التصور ما نجده عند مؤرخ علم االجتماع الفرنسي غاستون بوتول في كتابه تاريخ علم
االجتماع ،حيث يقول:
«إن التقدم الملحوظ الذي كملت صورته في التفكير في دراسة الظواهر االجتماعية يظهر بوضوح في
مراحل أزمة من األزمات عندما تتعدى الحوادث واالضطرابات "األطر" االجتماعية التي تعودها الناس
والحلول التقليدية التي درجوا عليها.
وفي أي دولة نظمها ثابتة وهيكلها االجتماعي موحد وثابت يظل تفكير اإلنسان راكدا بدون أي إثارة .أما
الحوادث غير المرتقبة ،فتفرض مجهودا من التأمل والتفكير والتكيف من جانب المثقفين.
وعلم االجتماع هو العلم الوحيد الذي تابع منذ مولده دراسة الظواهر التي في طريقها إلى التغيير المستمر،
وكل مرحلة من مراحل هذا العلم مرتبطة تمام االرتباط بظاهرة من ظواهر عدم االستقرار االجتماعي.
ولكن ال يكفي أن تنشب أزمة لتثير تلقائيا تطورا أو تقدما ما ،وشرط التفكير االجتماعي وجود نخبة مثقفة
أو "وسط ثقافي" يحاول أن يحلل وأن يتعمق العناصر المباشرة للتجربة ،وأكثر من ذلك عليه أن يصنفها
بشيء من الحرية دون أن يكون خاضعا التجاه واحد مفروض عليه.
وقد وجدت هذه الشروط مجتمعة للمرة األولى في بالد اإلغريق التي ازدهرت فيها كبريات المدارس
الفلسفية مثل مدرسة أفالطون وأرسطو أثناء المرحلة المضطربة التي كان مركزها الحرب البيلوبونيسية
3
»
ـ إن قيام تفكير منظم حول المجتمع يقتضي شرطين اثنين أساسيين ،وهما :أوال :حدوث أزمات اجتماعية
تجعل النظم المعرفية السابقة غير مؤهلة لمعالجتها ،وهذا أمر عام في تاريخ علم االجتماع من المراحل
الممهدة إلى مراحل التأسيس فالتطور .وثانيا :وجود فئة مثقفة في بيئة متميزة بالحرية في مجال التفكير.
ـ إن الشرطين السابقين لم يوجدا معا عبر تاريخ البشرية إال في المجتمع اليوناني في مرحلة التأسيس
للمذاهب الفلسفية الكبرى ،حيث سادت االضطرابات السياسية والحروب الطويلة من ناحية ،وبدأت النظم
الديمقراطية في النشأة من ناحية أخرى.
ـ إن المجتمعات السابقة على هذه المرحلة أو الموجودة بأماكن أخرى في هذه المرحلة لم تكن مؤهلة للنظر
العقلي في قضايا المجتمع ،إما لسكونها وثبات أنظمتها االجتماعية أو لوجود شكل أو أكثر من أشكال
االستبداد السياسي والثقافي واالجتماعي.
ـ إن العودة إلى اليونان هي عودة إلى أسماء محددة ،ومن أهمها على اإلطالق أفالطون وأرسطو.
أ ـ أفالطون
3ـ بوتول ،غاستون ،تاريخ علم االجتماع ،ترجمة غنيم عبدون ،منشورات الدار القومية للطباعة والنشر ،دون تاريخ ،ص .5
إن أفالطون من أهم المفكرين الذين يعدون منطلقا للتفكير المنظم ،لكنه غير علمي ،حول المجتمع .وبالرغم
من صعوبة استخراج تصور أفالطون للمجتمع نظرا لصعوبة طريقة عرضه ألفكاره ،فيمكن الحديث عن
بعض تلك العناصر من خالل الكتاب الثاني من الجمهورية المتعلق بتحديد ماهية العدل ،حيث يؤكد أفالطون
أن "العدل فضيلة للفرد وللدولة ...وأن الدولة أوسع من الفرد ...ويكون العدل في األوسع أكثر غزارة
ومكتشفا بسهولة أكثر؛ لذلك فإننا سنبحث عن طبيعة العدل والظلم كما يظهران في الدولة أوال وفي الفرد
ثانيا ،متقدمين من األكبر إلى األصغر ...وإذا تخيلنا الدولة في بداية تكوينها سنرى العدل والظلم في عملية
4
نشوئها أيضا ...وعندما تكتمل الدولة فمن الممكن إيجاد أمل بأن هدف بحثنا سيكتشف بسهولة أكبر".
إن معنى العدل إذن يتجلى في الكل (الدولة) بشكل أسبق وأوضح وأيسر منه في الجزء(الفرد) ،وهذه الفكرة
هي إحدى مسلمات بعض النظريات السوسيولوجية لعلم االجتماع منذ تأسيه نهاية القرن التاسع عشر إلى
اآلن ،وهي نظريات المذهب الكلي في علم االجتماع.
وقد عمل أفالطون كذلك على البحث عن أصل الدولة مؤكدا أنها " تنبثق من حاجات الجنس البشري؛ (إذ)
ال أحد يمكنه البقاء بنفسه ،بل كلنا لديه عدة متطلبات ...وبما أننا نمتلك عدة احتياجات إذن فسنحتاج
ألشخاص عديدين إلمدادنا بها ،يؤخذ واحد باعتباره مساعدا لغرض ما وآخر لغرض آخر ،وعندما يجمع
هؤالء الشركاء والمساعدون في مسكن موحد معا سندعو هذا الجسم المأهول دولة ...فالمنشئ الحقيقي
5
للدولة هو الضرورة".
إن المجتمع البشري إذن ناتج عن الضرورة والطبيعة ،فحفظ الحياة المتوقف على الغذاء والمسكن والملبس
يقتضي ـ حسب أفالطون ـ ضرورة تأسيس دولة؛ ألنه ال أحد من الناس يستطيع تأمين كل ما يحتاجه لتأمين
بقائه إال بمساعدة غيره فكان تأسيس الدولة راجعا إلى الضرورة.
يؤكد أفالطون أن الواجب يقتضي " أن نستنتج أن كل األشياء تنتج بوفرة وسهولة أكثر وبنوعية أفضل
عندما يعمل الرجل الواحد شيئا واحدا ،وهو الشيء الطبيعي له" 6،والعدل تبعا لذلك أن ينصرف كل شخص
إلى العمل الذي تسمح له به طبيعته الخاصة وأال يتدخل في شؤون غيره .إن أفالطون إذن هو "أول من
أبان أن ليس لالجتماع المدني قاعدة متينة سوى العدل ،وأن أي دولة ال تعرف أن تقوم عليه هي دولة
فاسدة" .إال أن الدولة التي التجأ إليها أفالطون ليست دولة واقعية بل دولة مثالية؛ ألنه ال توجد دولة تجسد
ذلك بتمامه.
ب ـ أرسطو
إذا كان أفالطون يتحدث عن الدولة العقلية ،فإن أرسطو ،على خالف ذلك ،قد عمد إلى تحليل الدولة والدول
التي كانت قائمة بالفعل ،واعتمد االستقراء والمقارنة منهجا له ،حيث قام في كتابه "السياسة" بتحليل ومقارنة
أكثر من مائة وخمسين دستورا ،كما اعتمد على التاريخ في حديثه عن التغيرات التي تصيب الدول أو
المجتمعات وعملت على إصالحها أو فسادها وانهيارها ،فهناك إذن انتقال من التحليل إلى االستقراء ،ومن
المثال إلى الواقع.
4ـ أفالطون ،1994 ،المحاورات الكاملة ،المجلد األول (الجمهورية) ،ترجمه عن اإلنجليزية شوقي تمراز ،بيروت ،األهلية للنشر والتوزيع ،ص
101ـ.102
5ـ المرجع السابق ،ص .103
6ـ المرجع السابق ،ص .104
يؤكد أرسطو أن الطبيعة هي قاعدة االجتماع البشري؛ لذلك كانت "الدولة من عمل الطبع ،وأن اإلنسان
بالطبع كائن اجتماعي ،وأن هذا الذي يبقى متوحشا هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع
8
اإلنساني" 7،أي أنه "بهيمة أو إله".
وعن كيفية نشأة الدولة ينطلق أرسطو أنه في "البداية من الضروري اجتماع كائنين ال غنى ألحدهما عن
اآلخر ،أريد أن أقول اجتماع الجنسين للتناسل ،ليس في هذا شيء من التحكم ،ففي اإلنسان كما في الحيوانات
األخرى وفي النباتات نزعة طبيعية إلى أن يخلف بعده موجودا على صورته" 9،وبناء على ذلك ف "الزوج
والزوجة هما قاعدة العائلة" 10،ثم "إن االجتماع األول لعدة عائالت ...إنما هو القرية" و "اجتماع عدة
قرى يؤلف دولة تامة يمكن أن يقال عليها أنها بلغت حد كفاية نفسها على اإلطالق بعد أن تولدت من
11
حاجات الحياة واستمدت بقاءها من قدرتها على قضاء تلك الحاجات كلها".
إن هذا التصور لتأسيس الدولة يعني أن "الدولة هي بالطبع فوق العائلة وفوق كل فرد؛ ألن الكل هو
بالضرورة فوق الجزء ما دام أنه متى فسد الكل فليس بعد من جزء ،ال أرجل وال أيدي إال أن يكون على
سبيل المجاز؛ ألن اليد متى فصلت عن الجسم ال تبقى يدا على الحقيقة ،وأن األشياء لتعرف على العموم
12
بآثارها".
يستفاد مما سبق أن العصور القديمة قد جعلت من المجتمع موضوعا للتفكير ،لكن الطبيعة الحقيقية لهذا
التفكير قد ظل مجهوال ألسباب متعددة منها غياب التقاليد الكتابية في تلك المجتمعات ،لكن ما نقل عن
مجتمعات الشرق كالمجتمع الصيني القديم يفيد أن هذا التفكير كان متميزا بما يلي:
ـ إنه تفكير غير منظم ،وغير مقصود ،وإنما كان نابعا من تأثير الظروف االجتماعية والحكمة السائدة؛
لذلك كان معبرا عن الفرد أكثر من تعبيره عن المجتمع ،حيث يعكس التجربة الشخصية أو مشاعر الفئة
االجتماعية التي ينتمي لها الفرد المعبر.
ـ إن التفكير في المجتمع لم يكن لمقاصد معرفية ،بل ألهداف نفعية عاجلة ،وهذا ما جعل التفكير في المجتمع
قائما على النصائح العملية ،مستندا إلى األسلوب الخطابي المملوء بالمشاعر والعواطف.
ـ إن التفكير االجتماعي لهذه المجتمعات كان تفكيرا محافظا ،يتميز بغياب الوعي بالتغير والتطور ،كما أن
التفسير االجتماعي كان يقوم على مبادئ خارجة عن القوى البشرية ،فهناك علة واحدة مفسرة لكل شيء
وهي القوى الخارقة13.ما يعني أن المجتمعات الشرقية القديمة "ال يقوم التنظيم االجتماعي فيها على مبادئ
14
دينية فقط ،بل إنه يعتبر كذلك امتدادا مباشرا للعالم العلوي".
ـ إن االنتقال من المجتمعات السابقة إلى المجتمع اليوناني ينظر إليه باعتباره انتقاال من التقاليد الشفهية إلى
التقاليد القائمة على الكتابة ،فأعمال أفالطون وكذا أرسطو كلها مدونة في الكتب ،كما أن هناك نزوعا نحو
التنظيم ،والقصد في الكتابة عن الموضوع لذاته ،وأن اإلحساس بالمجتمع والتعبير عنه قد أصبحا أكثر
7ـ أرسطو ،السياسة ،نقله عن الفرنسية إلى العربية أحمد لطفي ،الدار القومية للطباعة والنشر( ،دون تاريخ) ،ص .96
8ـ المصدر السابق ،ص .97
9ـ المصدر السابق ،ص .93
10ـ المصدر السابق ،ص .94
11ـ المصدر السابق ،ص .95
12ـ المصدر السابق ،ص .97
13ـ محمد عاطف غيث ،دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم االجتماع ،دار النهضة العربية ،بيروت ،1975 ،ص 3ـ.4
14ـ غاستون بوتول ،تاريخ علم االجتماع ،مرجع سابق ،ص .7
وضوحا ،وأن مهمة التفكير متجه بشكل كبير نحو الفهم والتنظير أكثر من العمل؛ لذلك يغلب الطابع العقلي
على الخطاب والتفسير ،وأصبح العقل البشري مرجعا بدل القوى الخارجة عن المجتمع.
لقد دخل التفكير االجتماعي بعد فالسفة اليونان مرحلة سبات عميق ،فالرومان لم ينظر إليهم باعتبارهم
أصحاب نظريات فلسفية أو علمية ،ولكنهم أصحاب إدارة وقانون بسبب اتساع امبراطوريتهم ،لذلك كان
تفكيرهم عمليا ،فنشأ عن ذلك ظهور بعض الرواد في علم األخالق مثل شيشرن .ومع ظهور المسيحية
سيصبح التنظيم المجتمعي قائما على الدين ،وتطفو بعض المفاهيم الجديدة كالمساواة أمام هللا ما يتنافى مع
أنظمة الطبقات التي كانت سائدة بالمجتمعات القديمة منها المجتمع اليوناني الذي اتخذه كل من أفالطون
وأرسطو موضوعا لهما في أعمالهما المشار إليها سابقا ،ومن أهم األعمال في هذه المرحلة عمل سان
أوغستان المسمى "مدينة هللا" ،المؤلف من اثنين وعشرين كتابا ،وقد كتبه بعد اجتياح روما سنة ،410
وقد عزا الوثنيون الرومان هذه الكارثة الشاملة إلى المسيحيين ،ويعتبرون أزمنة الويل والدمار "أزمنة
مسيحية" ،أي تلك التي غيب فيها دور آلهتها بعد أن حرم اإلمبراطور تيودوسيوس سنة 391عبادة آلهة
الرومان ،ولو أنها بقيت تحت رعاية آلهتها لما وقعت الكارثة .وقد عمل أوغستان على دحض ذلك وبين
أن للمسيحية الفضل األكبر في الحفاظ على السكان مسيحيين ووثنيين ،وأن الفضل في تجاوز الرومان لكل
15
األزمات يعود للمسيحية.
يقابل أوغستان بين "مدينة هللا المجيدة" و"مدينة األرض" ،أي بين المتواضعين الذين يستحقون مغفرة هللا
وبين المتكبرين الذين يستحقون تحطيمه ،كما جاء في التشريع اإللهي السامي" :يقاوم هللا المتكبرين ويهب
للمتواضعين نعمته" وأن هللا "يغفر للمنسحقين ويحطم المتكبرين" ،ففي مدينة األرض يوجد األعداء الذين
16
يجب أن نحمي مدينة هللا منهم.
إن تصور أوغستان قد عد تفكيرا دينيا أكثر منه تفكيرا اجتماعيا ،لذلك فلم يأت بجديد فيما يتعلق بتاريخ
علم االجتماع ،وهذا ما جعل بعض مؤرخي النظرية االجتماعية يهملون هذه المرحلة ،ويعدونها مرحلة
فراغ ،وفي هذا السياق يؤكد كلود جيرو أن " القرون الوسطى بالغرب ،فبالرغم من الفلسفة السكوالئية ،و
اجترار التعليقات الالمتناهية عن الفكر األرسطي في احترام تام لمبادئ الفلسفة الكاثوليكية ،فإنها كانت
أرضا قاحلة بين اليونان القديمة و عصر األنوار"17،وعن هاتين المرحلتين الفلسفيتين فقط انبثقت
18
السوسيولوجيا و هما مرجعها أو أصلها.
إن انحسار التفكير االجتماعي في الغرب سيوازيه انبعاث جديد بالشرق مع ظهور وانتشار الحضارة
اإلسالمية التي عمت الجزء األكبر من العالم القديم ،وقد كتب عن المجتمع في قضاياه المتعددة الشيء
الكثير من قبل فئات متعددة ،من أهمها الفقهاء والفالسفة والمؤرخون ،لكن التيارات العربية المهتمة بالتفكير
15ـ يوحنا الحلو ،مقدمة الكتاب األول من كتاب مدينة هللا ،ص 7ـ .8
16ـ سان أوغستان ،مدينة هللا ،المجلد األ ول ،نقله للعربية يوحنا الحلو ،دار المشرق ،بيروت ،2000 ،ص .9
17
- Claude Giraud. 2004. Histoire de la Sociologie, collection Que sais-je ? 3e éd. PUF, Paris, p :19.
18
- Ibid, p :13
االجتماعي في العالم اإلسالمي الوسيط رجحت نوعا خاصا من التفكير االجتماعي على غيره ،وهو التفكير
الفلسفي ومنه التفكير التاريخي ،من الكندي إلى الفارابي وابن سينا شرقا ،وابن باجة وابن طفيل وابن رشد
ثم ابن خ لدون غربا ،اعتمادا على التقليد األوروبي في الكتابة عن تاريخ التفكير االجتماعي المستند إلى
الفكر الفلسفي اليوناني ،فبحث الكتاب العرب عما هو امتداد لليونان في الحضارة العربية اإلسالمية ،أو
بحثوا عن أفالطون وأرسطو في األعمال العربية اإلسالمية ،وأهملوا في مقابل ذلك أعماال ضخمة عن
المجتمع اإلسالمي في المصادر األخرى التي تعد فكيرا أصيال عن المجتمعات العربية اإلسالمية.
إن أهم شخص في تاريخ الفكر االجتماعي العربي اإلسالمي ،بالمعنى السابق ،هو عبد الرحمان بن خلدون،
وهو الشخص األكثر حضورا في التفكير االجتماعي للقرون الوسطى.
لقد عاش ابن خلدون (732ه ـ 1332م808/ه ـ 1406م) في أصعب مراحل التاريخ اإلسالمي؛ حيث عاصر
انهيار الدولة اإلسالمية باألندلس ،ودخول التتار إلى مناطق واسعة بالشرق ،وحدوث اضطرابات واسعة
بشمال إفريقيا ،وقد كان لهذه األحداث دور في كتابته لمقدمة كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام
العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر" ،وهي المعروفة ب "المقدمة".
إن المتأمل في مقدمة ابن خلدون ال يجد فقط تفكيرا منظما في قضايا المجتمع ،بل يجد وعيا بالتأسيس لطريقة
جديدة في تناول القضايا المجتمعية ،فابن خلدون قد تحدث في مقدمته عن تأسيس علم جديد سماه "علم
العمران" ،وجعل موضوعه العام التاريخ ،واعتمد البرهان منهجا لهذا العلم الجديد.
يقول ابن خلدون" :اعلم أن الكالم في هذا الغرض مستحدث الصنعة ،غريب النزعة ،عزيز الفائدة ،أعثر
عليه البحث ،وأدى إليه الغوص ،وليس هو علم الخطابة ،إنما هو األقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور
إلى رأي أو صدهم عنه ،وال هو من علم السياسة المدنية؛ إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما
يجب بمقتضى األخالق والحكمة ...فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه ،وكأنه
19
علم مستنبط النشأة ،ولعمري لم أقف على كالم في منحاه ألحد من الخليقة".
لقد عرف ابن خلدون التاريخ بمعنييه العام والخاص ،فهو بمعناه العام ذو ظاهر وباطن ،ففي "ظاهره ال
يزيد على أخبار عن األيام والدول والسوابق من القرون األول ،تنمو فيه األقوال ،وتضرب فيه األمثال،
وتطرف به األندية إذا غصها االحتفال ،وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها األحوال واتسع للدول النطاق
فيها والمجال ...وفي باطنه نظر وتحقيق ،وتعليل للكائنات ومباديها دقيق ،وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها
عميق"20.فالتاريخ بمعناه العام مع ابن خلدون قد ارتفع من مجرد الحكي والسرد المتعلق باألحداث الماضية
دون تنقيح أو نقد إلى مرتبة العلم ،حيث يتم التدقيق في صحة الخبر اعتمادا على قوانين النقل والعقل ،ثم
البحث عن علل األحداث وأسبابها ،أو بالتعبير المعاصر البحث عن القوانين الكامنة وراءها.
أما التاريخ بمعناه الخاص ،فهو "خبر عن االجتماع اإلنساني الذي هو عمران العالم ،وما يعرض لطبيعة
ذلك العمران من األحوال ،مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض،
وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها ،وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش
والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من األحوال" 21.والتاريخ بهذا المعنى هو
19ـ عبد الرحمان بن خلدون ،المقدمة ،دار يعرب ،دمشق ،2004 ،ص .128
20ـ المصدر السابق ،ص .81
21ـ المصدر السابق ،ص .125
موضوع علم العمران ،وهذا الموضوع يتسم بالعموم؛ إذ المجتمع اإلنساني والعمران البشري كله من الفرد
إلى المجتمع فالدولة ،ومن النشأة إلى التطور فاالنحطاط .ويعرف ابن خلدون العمران بكونه "التساكن
22
والتنازل في مصر أو حلة لألنس بالعشير ،واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش".
وهذا هو معنى االجتماع والمدنية.
إن أصل االجتماع اإلنساني أو العمران يعود إلى طبيعة اإلنسان ،وبيان ذلك "أن هللا سبحانه خلق اإلنسان
وركبه على صورة ال يصح حياتها وبقاؤها إال بالغذاء ،وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة
على تحصيله ،إال أن قدرة الواحد من البشر قاصرة على تحصيل حاجته من ذلك الغذاء ولو فرضنا منه أقل
ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثال فال يحصل إال بعالج كثير من الطحن والعجن والطبخ ،وكل
من هذه األعمال الثالثة إلى مواعين وآالت ال تتم إال بصناعات متعددة ...ويستحيل أن تفي بذلك كله أو
بعضه قدرة الواحد ،فالبد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم...
وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى االستعانة بأبناء جنسه؛ ألن هللا سبحانه لما ركب
الطباع في الحيوانات كلها ،وقسم القدر بينها ،جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من
حظ اإلنسان ،فقدرة الفرس مثال أعظم بكثير من قدرة اإلنسان ...ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل
لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره ،وجعل لإلنسان عوضا من ذلك كله
الفكر واليد ،فاليد مهيأة للصنائع بخدمة الفكر ،والصنائع نحصل له اآلالت التي تنوب له عن الجوارح المعدة
في سائر الحيوانات للدفاع مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة ...وال تفي قدرة الواحد أيضا على
استعمال اآلالت المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها ...فالبد في ذلك كله من التعاون
عليه بأبناء جنسه ،وما لم يكن هذا التعاون فال يحصل له قوت وال غذاء ...ولعاجله الهالك عن مدى حياته
23
ويبطل نوع البشر".
إن الحاجة إلى الغذاء والدفاع عن النفس هما أصل االجتماع اإلنساني ،لكن هذا االجتماع ال يتم عند ابن
خلدون إال بوجود السلطة السياسية؛ ألن الطبيعة العدوانية لإلنسان تجعل كل فرد معرضا لالعتداء عليه من
أبناء جنسه ،ولدفع هذا العدوان نشأت الدولة ،قال ابن خلدون" :ثم إن االجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه،
وتم عمران العالم بهم ،فال بد من زاوع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم،
وليست آلة السالح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم؛ ألنها
موجودة لجميعهم ،فالبد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ،فيكون ذلك الوازع واحدا منهم،
24
يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى ال يصل أحد إلى غيره بعدوان ،وهذا هو معنى الملك".
أما المنهج الذي اتبعه ابن خلدون ،فهو البرهان ،وهذا ما أكده بقوله" :نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر
في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية" 25.والمراد بالبرهان
هنا كل استدالل يقيني سواء اعتمد العقل أو الحس ،وبناء على هذا المنهج رد ابن خلدون على من زعم من
الفالسفة من كون النبوات من تتمة ضرورات االجتماع البشري؛ ألن هذه القضية غير برهانية ،ودليل ذلك
أن "حياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم ...
هناك اتفاق على أهمية ابن خلدون في تاريخ الفكر االجتماعي ،وأنه يمثل أهم ما وصل إليه هذا النوع من
التفكير إلى حدود مطلع القرن الخامس عشر الميالدي ،لكنهم اختلفوا في أهميته في التأسيس لعلم االجتماع
كما نعرفه حاليا ،فإذا كان عالم االجتماع األمريكي سوروكين يعتبره في مرتبة أوجست كونت من حيث
التأسي لعلم االجتماع 27،بل هناك من يعتبره متفوقا على كونت وأن األخير ال يزيد عنه إال باختراع االسم،
وإن كان اسم "العمران البشري" أكثر تعبيرا من السوسيولوجيا .وفي مقابل ذلك يؤكد بوتول على استحالة
28
تأسيس علم االجتماع قبل الخروج من فكر القرون الوسطى ،وهو ما لم يستطعه ابن خلدون.
يراد بالنهضة األوروبية تلك الحركة الواسعة التي عملت على تجديد الحضارة األوروبية في مناحيها المتعددة
بداية من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر الميالديين ،وعن هذه الحركة انتقلت أوروبا من القرون
الوسطى إلى العصر الحديث.
لقد عرفت أوروبا في هذه القرون تبدالت متعددة في كل مناحي الحياة ،ومن ذلك ما يلي:
ـ انفصال عقلية المفكرين عن عقلية عامة الشعب ،فإذا كانت عقلية المفكرين في القرون الوسطى أوروبيا
متطابقة مع عقلية عامة الشعب في المعتقدات واالتجاهات ،فإن الحياة الفكرية قد خرجت عن اإلطار الشعبي
29
في عصر النهضة في مجاالت العلوم والفنون واآلداب باستثناء ميدان الفلسفة الذي تأخر انفصاله.
ـ انتصار اللغات المحلية على اللغة الالتينية الرسمية ،وهي اللغات الممنوعة سابقا حيث حرم ترجمة الكتاب
المقدس لها ،ومن أول ما كتب بهذه اللغات الكتاب المقدس ،وبذلك تم االنتقال من احتكار الكهنة فهم النصوص
الدينية وتفسيرها إلى انتشار الكتاب المقدس بين الماليين من المؤمنين البسطاء ،وقد كان هذا االنتصار
مقدمة لنشأة حركتين هامتين بأوروبا ،وهما :أولهما حركة اإلصالح الديني ،وذلك لكونها أشركت الجماهير
في قراءة نصوص دينها وفهمها ومناقشتها ،وثانيهما اتساع قاعدة الديموقراطية؛ ألنها أشركت الجماهير في
قراءة نصوص القانون والسياسة بعد أن كانت ال تفهم إال من قبل الصفوة 30.وقد نتج عن هذا األمر أن
31
ضعفت المعتقدات الدينية في النفوس خالل القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر.
ـ لقد أدت هذه االنقطاعات إلى طرح المشاكل السياسية ،حيث بدأ التفكير بشكل مختلف في طبيعة السلطة
السياسية وشرعيتها وحدودها والتسلسل االجتماعي ،وهذا ما أدى إلى إضعاف الجامعة الدينية ألوروبا
وظهور الدولة القومية ،وقد كان كل ذلك في ظل نشأة بعض المدن الكبرى بأوروبا.
السبب الثاني :وهذا هو السبب األهم ،وهو كون التفكير متجها بشكل شبه تام نحو الماضي وليس تحو
المستقبل ،وقد تم التوجه نحو نوعين من الماضي ،وهما "الماضي الوثني" ،وذلك قصد رد االعتبار لإلنسان
وللحياة ،وقد أجمع الجميع على رد االعتبار للحضارات "الجاهلية" ال سيما الحضارة اليونانية والرومانية؛
ألنها حضارات اعترفت باإلنسان وبالحياة .و "الماضي العبري ـ المسيحي" ،وما النهضة واإلصالح الديني
في البدء إال حركتان متوازيتان وباتجاه واحد لتتعرف إحداهما بحقيقة الحركة اإلنسانية في العصر القديم،
ولتعيد األخرى الدين المسيحي إلى نقاوته القديمة األولى 32.لذلك كان من الالزم انتظار القرن الثامن عشر
33
لنرى كيف أدت كل هذه االتجاهات في العصور السابقة إلى علم اجتماع موضوعي.
يميز توم بوتمور بين مرحلتين في تأسيس علم االجتماع ،المرحلة التمهيدية ،وتمتد من 1750إلى ،1850
فتبدأ بظهور كتاب روح القوانين لمونتيسكيو وتنتهي بظهور أعمال أوجست كونت .أما المرحلة التالية ،فهي
مرحلة التأسيس العلمي لعلم االجتماع وتشغل النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
لقد ساهمت مجموعة من األسباب في التمهيد لطهور علم االجتماع بداية من النصف الثاني من القرن التاسع
عشر بأوروبا ،ومن أهم ذلك ما يلي:
تعد فلسفة التاريخ أوروبيا وليدة القرن الثامن عشر ،ومن أهم مؤسسي هذا النوع من التفكير اإليطالي جيام
باتيستا فيكو 1668( G. vicoـ .)1744أما صاحب هذا االسم ،فالفيلسوف الفرنسي فولتير ،وكان يقصد
بذلك دراسة التاريخ من وجهة نظر فلسفية ،ومحاولة معرفة األسباب األساسية المتحكمة في سير الوقائع
34
التاريخية ،والعمل على استنباط القوانين العامة الثابتة التي تتطور بموجبها األمم والدول على مر األجيال.
هناك إذن اختالف بين المؤرخ وفيلسوف التاريخ من حيث الهدف والمنهج ،فهدف المؤرخ تسجيل الحدث
والتحقق من صحة تسجيله بأكبر قدر من الموضوعية والنزاهة ،بينما هدف فيلسوف التاريخ فيتجلى في
تفسير مجمل أحداث التاريخ واستخراج القواعد العامة التي يسير وفقها التاريخ اإلنساني .أما من حيث
المنهج ،فإن المؤرخ يعتمد االستقراء ،وفيلسوف التاريخ يعتمد المنهج العقلي ،جيث يعمل الفيلسوف تأمالته
35
للوصول إلى العلة الكلية المفسرة لألحداث الجزئية.
32ـ نور الدين حاطوم ،1985 ،تاريخ عصر النهضة األوروبية ،دار الفكر ،دمشق ،ص .6
33ـ غاستون بوتول ،تاريخ علم االجتماع ،مرجع سابق ،ص.29
34ـ رأفت الشيخ ،1988 ،فلسفة التاريخ ،دار الثقافة للنشر والتوزيع ،القاهرة ،ص .14
35ـ مصطفى النشار ،2004 ،فلسفة التاريخ ،شركة األمل للطباعة والنشر ،القاهرة ،ص .22
وبناء على ما سق ،فالمقوالت األساسية لفلسفة التاريخ هي :الكلية والعلية .
ـ الكلية
إن فلسفة التاريخ ال تهتم بمجتمع محدد ،أو فترة تاريخية معينة ،بل تجعل من تاريخ البشرية في كليته
موضوعا لها ،من الماضي البعيد إلى الحاضر ،وقد يضيف بعض فالسفة التاريخ المستقبل كذلك ،فالموضوع
هو التاريخ العالمي.
ـ العلية
يلجأ فيلسوف التاريخ إلى محاولة اختصار األسباب الجزئية لألحداث التاريخية إلى علة واحدة أو علتين
36
على األكثر ،وعلى ضوء تلك العلة يفسر التاريخ العالمي بأكمله.
يعتبر فيكو أول مبشر بظهور أوجست كونت وقانون "الحاالت الثالث" ،فمن وجهة نظره ،واعتمادا على
التصور المصري القديم ،فإن كل مجتمع ال بد أن يكون قد مر بثالث مراحل متعاقبة 37،وهي:
المرحلة اإللهية ،وتتصف بالتأليه واعتبار كل ما في العالم ملكا لآللهة ،والحكومة نفسها إلهية ،لها إرادة
آمرة ناهية ،وهي تختار من يمثلها على األرض ،وكان الحكم االستبدادي فيها بيد الكهنة الذين يمثلون رجال
الدين ،ويدعون أنهم يحكمون بمقتضى قوانين إلهية يتلقونها عن طريق النبوءات ،وفي هذا العصر اإللهي
سيطرت الخرافة واألساطير على الفكر ،وساد الخوف الذي كان الواقع األول لإلنسان لتصوره اآللهة عن
طريق المخيلة وكاتن اللعة في هذا العصر لغة رمزية سرية كاللغة الهيروغليفية.
المرحلة البطولية ،وهي مرحلة أنصاف اآللهة من البشر الذين يزعمون أنهم يتحدرون من أصل إلهي لينظر
إليهم نظرة التقديس والتأليه ،وقد سمي عصرهم بعصر األبطال ،وقد كان هؤالء األبطال هم آباء األسر
الذين لهم الحق المطلق على أفراد أسرهم كحق الحياة والموت وحق البيع والشراء ،وقد خطت البشرية في
هذا العصر البطولي خطوة إلى األمام ،فتحررت من استعباد اآللهة وانتقلت إلى استعباد اإلنسان لغيره من
بني جنسه ،أما اللغة ،فكانت لغة شعرية تتغنى بالبطولة والشجاعة التي اتسم بها العصر كله.
المرحلة البشرية ،وهي المرحلة األخيرة ،ويسودها المساواة في الحقوق أمام القانون ،وحصول كل إنسان
على حقوقه الطبيعية المشروعة في ظل حكومات ديموقراطية حققت المساواة بين طبقة النبالء وطبقة العامة،
واعترفت بحق هذه الطبقة األخيرة في المشاركة في نظام الحكم ،وكانت اللغة في هذا العصر لغة شعبية
38
غلب عليها النثر.
إن هذه المراحل تعني أن البشرية قد مرت بثالثة أنماط اجتماعية :النمط اإللهي ،والنمط البطولي ،ثم النمط
البشري .وقد أثرت فكرة المراحل التاريخية في الممهدين لعلم االجتماع مثل أوجست كونت وكارل ماركس،
36ـ رأفت الشيخ ،فلسفة التاريخ ،مرجع سابق ،ص 15ـ .16
37ـ غاستون بوتول ،تاريخ علم االجتماع ،مرجع سابق ،ص .45
38ـ عطيات أبو السعود ،2017 ،فلسفة التاريخ عند فيكو ،مؤسسة هنداوي ،المملكة المتحدة ،ص 81ـ .82
كما أن فكرة األنماط االجتماعية قد هيمنت على علم االجتماع إلى اآلن ،كالتقابل بين المجتمع التقليدي
والحديث.
لقد كان التاريخ يفهم على ضوء نظرية العناية اإللهية ،وتقوم هذه النظرية على مبدأ يعطي هللا ـ عز وجل
ـ كل الفعل في األحداث التاريخية ،ويعفي اإلنسان من صنع تاريخه .فاألحداث والظواهر التاريخية تخضع
لمشيئة هللا وحده دون تدخل من اإلنسان المخلوق ،الذي عليه أن يسير دون اختيار في حياته ،فهو مسير
39
وليس مخيرا ،وكل شيء يخضع لمشيئة هللا ،وال وجود ألي صدفة.
إن فكرة العناية اإللهية موجودة في جل المجتمعات القديمة وتتعاظم هذه الفكرة بتعاظم دور الدين في المجتمع.
وبالرغم من كون اليونان قد منحوا العناية اإللهية معنى خاصا؛ حيث لم تعد تعني التدخل في مجرى التاريخ
وتوجيهه توجيها جبريا ،وإنما هي إرادة عليا تدعم إرادة اإلنسان الحرة ،إال أن هذه الفكرة قد أصبحت
مركزية مع المؤرخين المسيحيين في فهم مجرى التاريخ ،فالنشاط اإلنساني تسيره دائما العناية اإللهية،
وجميع األعمال اإلنسانية ما هي إال أدوات في تنفيذ المشيئة األلهية؛ لذلك تم إعفاء اإلنسان من مهمة صنع
40
تاريخه وترك األمر كله هلل.
أما نظرية التقدم المستند للفعل اإلنساني ،فتقوم على مقدرة اإلنسان على أن يتم من اإلنجازات ما يمكنه من
أن يستبدل بالفردوس األخروي فردوسا علمانيا دنيويا ،فالحياة في باريس ولندن وروما أفضل عند فولتير،
أحد أصحاب نظرية التقدم ،من جنة اآلخرة.
يتفق أصحاب نظرية التقدم أن النظم االجتماعية والمجتمعات اإلنسانية تتقدم من البدائية إلى التحضر والتمدن
مرورا بمراحل معينة يختلف عددها وخصائصها من عالم آلخر ،ولكنها تتفق كلها في أن المرحلة الالحقة
تكون أعلى من السابقة وتهيئ الفرصة لقيام مرحلة أرقى منها.
ويؤكد معظم أنصار هذه النظرية على حتمية التقدم الذي يقوم على أساس أن الحياة تتكون من البسيط إلى
المركب إلى األكثر تركيبا طبقا لقانون حتمي ،وأخذ هذه الفكرة المختصون في العلوم االجتماعية فذهبوا
41
إلى القول بأن الصبغة الغالبة على سير الحضارة هي التقدم ،وأن التدهور حالة عرضية مؤقتة.
يرجع الفضل إلى فالسفة التاريخ في ظهور التصور الجديد للمجتمع باعتباره أكثر من مجرد "المجتمع
السياسي" أو الدولة ،وقد امتد اهتمامهم ليشمل كافة النظم االجتماعية ،وفرقوا تفريقا دقيقا بين الدولة وما
أطبقوا عليه "المجتمع المدني".
المصدر األول :االقتناع المتزايد بأن مناهج العلوم الطبيعية ينبغي ،وهي قادرة ،أن تتسع لتغطي مجال
دراسة الشؤون اإلنسانية ،وأن الظواهر اإلنسانية يمكن تصنيفها وقياسها.
المصدر الثاني :االهتمام بمشكلة الفقر ،أو ما عرف في الكتابات األوروبية المثقفة باسم "المسألة
االجتماعية" ،انطالقا من إدراك الحقيقة التي مؤداها أن الفقر في المجتمعات الصناعية لم يعد بعد ظاهرة
طبيعية ـ نقمة من الطبيعة أو من هللا ـ وإنما هو نتيجة الجهل أو االستغالل.
في ظل هذين السببين المؤثرين ،وهما مكانة العلوم الطبيعية والحركات الرامية إلى إصالح المجتمع ،أخذ
43
المسح االجتماعي يحتل مكانة هامة في هذا العلم الجديد لدراسة المجتمع.
لم يقم المسح االجتماعي نتيجة مجرد الطموح في تطبيق مناهج العلوم الطبيعية على العالم اإلنساني ،وإنما
نتيجة وجود تصور جديد للشرور والمشكالت االجتماعية ،تأثر هو نفسه باإلمكانيات المادية للمجتمع
الصناعي ،فالمسح االجتماعي لمشكلة الفقر أو أي مشكلة أخرى ال يمكن أن يكون له معنى إال إذا كان هناك
اعتقاد بأنه من الممكن عمل أي شيء للقضاء على هذه الشرور أو التخفيف من وطأتها ،ومن الممكن أن
انتشار الفقر بين القوى المنتجة الضخمة المتزايدة هو السبب المسؤول عن تغيير النظرة إلى الفقر ،فلم يعد
الفقر مشكلة طبيعية (أو حالة طبيعية) ،وإنما أصبح مشكلة اجتماعية قابلة للدراسة واإلصالح.
ولعل هذا يمثل على األقل عنصرا هاما في االقتناع الذي ساد آنذاك بأنه يمكن استخدام المعلومات الدقيقة
في اإلصالح االجتماعي ،وبأنه إذا كان اإلنسان قد استطاع أن يتحكم تحكما متزايدا في البيئة المادية فإنه
44
يستطيع بالمثل أن يتحكم في بيئته االجتماعية.
لقد تولى هذا العمل إدارات الدولة وبعض الجمعيات العلمية وبعض األفراد ،وانتشر التحقيق االجتماعي
بداية ببريطانيا ثم انتقل إلى فرنسا وفي مراحل الحقة شمل ألمانيا وجل دول أوروبا الغربية ،وتم استخدام
45
كم هائل من األطباء أوال ثم القضاة والكهنة والمعلمون وغيرهم.
ـ تم تطبيق الطريقة العلمية المتمثلة في القياس واستخدام الطرق اإلحصائية ألول مرة علة الوقائع اإلنسانية،
وذلك بعد نجاحها في المجال الطبيعي.
42ـ جون ميشال برتيلو ، 1999 ،بناء علم االجتماع ،ترجمة جورجيت الحداد ،منشورات عويدات ،بيروت ،ص .11
43ـ توم بوتمور ،تمهيد في علم االجتماع ،مرجع سابق ،ص.32
44ـ المرجع السابق ،ص.34
45ـ جون ميشال برتيلو ،بناء علم االجتماع ،مرجع سابق ،ص .11
ـ الظهور ال مبكر ألهم أدوات جمع المعلومات ،حيث بدأ استعمال االستمارة ودليل المقابلة ،ثم التحليل
اإلحصائي للمعلومات كحساب الوسيط والنسب المئوية والجداول ،ولم تظهر فقط أدوات المقاربة الكمية
للظواهر ،بل ظهر كذلك البذور األولى للمقاربة الكيفية ،فتيار "االستكشاف االجتماعي" فضل الدراسة
النوعية المستندة إلى المالحظة.
ـ لقد كانت التحقيقات االجتماعية تخضع لهم مشترك ،وهو المعرفة من أجل العلم ،إال أن إرادة المعرفة هذه
قد كانت لغاية التدخل الذي يصب أساسا في المجال السياسي ،فالوقائع التي سلطت عليها األضواء تستخدم
حججا إلعداد قوانين للحماية االجتماعية ،أو إلدانة النظام السياسي االقتصادي ،فلم يعد األمر يتعلق بتجميع
المعلومات فقط ،وإنما بفهم المبدأ الذي يحكم تنظيم المجتمع؛ لذلك ظهر بالقرن التاسع عشر مجموعة من
التيارات االجتماعية كاالشتراكية واإلصالحية وغيرهما ،والبحث عن هذا المبدأ هو ما يبرز مع الممهدين
46
لعلم االجتماع مثل ألكسيس دو طوكفيل وكارل ماركس.
لقد عرفت أوروبا مجموعة من التحوالت الهامة خالل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ،وقد عملت جميعها
على تفكيك أشكال التنظيم االجتماعي التي عاشت في ظلها البشرية عبر آالف من السنين ،وقد كان هذا
التفكيك كليا وشامال ،ومن أهم أسباب هذا التفكك الثورتان الهامتان اللتان شهدتهما أوروبا خالل القرنين
السابقين ،وهما الثورة السياسية الفرنسية والثورة االقتصادية اإلنجليزية.
إن الثورة الفرنسية قد كانت رمزا للتحوالت السياسية في العصر الحديث ،فهذه الثورة التي اندلعت سنة
1789قد كانت مختلفة عن جميع الثورات السابقة عليها ،فقد ثار الفالحون ،في فترات متعددة من تاريخ
أوروبا ،ضد السادة اإلقطاعيين الذين كانوا يتحكمون فيهم ،لكن المشترك بين كل تلك الثورات كان هو
محاولة استبعاد بعض األفراد من موقع السلطة ،أو تحقيق تخفيض معين في األسعار أو الضرائب .أما
الثورة الفرنسية ،فقد كانت عملية تفكيك تام للنظام االجتماعي القائم بفعل حركة تستهدي مثال عليا علمانية
خالصة ،وهي الجرية والمساواة للجميع ،وبالرغم من عدم التحقق التام لهذه المثل إال أنها قد أثرت بشكل
47
كبير في جميع األنظمة السياسية الالحقة لها إلى اآلن.
وبعد أن ألغت الثورة الفرنسية النظم االجتماعية القديمة فقد شلت في إيجاد نظم بديلة لها؛ لذلك جاء رواد
علم االجتماع في القرن التاسع عشر محاولين إيجاد حلول للمشاكل التي نتجت أو نشأت عن ظروف التحول
الذي عاشته المجتمعات األوروبية ،فقد حاولوا خلق إحساس جديد بالجماعة ،كما حاولوا حل المشاكل
48
المترتبة على.
ترتبط والدة علم االجتماع في إنجلترا باسم هربرت سبنسر ،وقد بدأ مشروعه في أوج تطور الرأسمالية بهذا
البلد ،واكتملت الثورة الصناعية وأصبحت إنجلترا متفوقة على غيرها اقتصاديا .وقد تأثر سبنسر بكل من
داروين (قانون التطور) واالقتصاديين اإلنجليزيين مثل آدم سميث ومالتوس (البقاء لألصلح) .إن سبنسر لم
يعرف المراد بعلم االجتماع ،ولكنه عمل على إثبات إمكانية وجوده العلمي50.وقد كون سبنسر رؤية تطورية
عضوية عن المجتمع.
التطور ،وهو مفهوم بيولوجي ،قانون عام يسري على جميع الكائنات الحية ومنها اإلنسان .وقد الحظ
سبنسر من دراسته للبيولوجيا أن األنواع الدنيا من الحيوان تتكون أجسامها من أجزاء متماثلة ال يتوقف
بعضها على بعض .أما األنواع العليا ،فتتألف من أعضاء متباينة تعتمد في أدائها ألعمالها ووظائفها بعضها
على بعض.
وقد ذهب سبنسر إلى أن هذا األمر وهذا التكوين ينطبق على المجتمع ،فالمجتمع شأنه شأن كل كائن حي
يبدأ متجانسا ثم يميل إلى التعقيد وعدم التجانس ،فالتخصص هو غاية كل تطور وارتقاء في الموجودات،
ويستند هذا القانون عنده على أساسين:
ـ كلما تزايدت درجة التعقد في المركب الحيوي تزايدت درجة التخصص والتنوع.
وحينما يتنقل للحديث عن المجتمع ليطبق عليه هذه القاعدة يقول أن الجماعات البشرية كانت في البداية
تعيش على الفطرة ،وتتكون من أفراد متشابهين من حيث طرق المعيشة واالنتماء للمجتمع ،والغايات
والحاجات ،وال يعتمد كل فرد على غيره في سائر أموره ،فكان الفرد يعد طعامه ويبني مسكنه ويدافع عن
49ـ أنتوني غدنز ،مقدمة نقدية في علم االجتماع ،مرجع سابق ،ص.21
50ـ ايغور سيميونوفيتش كون ،مفاهيم هربرت سبينسر السوسيولوجية ،ترجمة مالك أبوعليا ،في "تاريخ السوسيولوجيا الكالسيكية" ،كتاب
إلكتروني ،ص .24
نفسه ،ثم ظهرت الحياة االجتماعية وانتقلت إلى مرحلة ألكثر ارتقاء ،فظهرت الفروق بين األفراد ،وأمكن
مالحظتها بوضوح ،فأصبح للفرد زوجة وأوالدا يزرعون ويحصدون معا ،ويشتركون في أعمال الزراعة
والصيد والرعي وشؤون الحياة االجتماعية األخرى ،ثم ازداد التخصص واالستقالل في مرحلة تطورية
أحرى فأصبح هناك من يقوم بالزراعة ومن يقوم بغيرها من األعمال كاإلدارة واألمن والحكم ،وهكذا يستمر
التطور في كل شؤون الحياة االجتماعية إلى المجتمعات الحديثة حيث بلغ التخصص مراحل متقدمة جدا
فطهرت تخصصات متعددة في المهنة الواحدة.
إن ظهور التخصص في المجتمع وتطوره ال يعني استقالل الفرد عن المجتمع ،ألن التخصص يتضمن كذلك
التضامن والتعاون ،ويتمثل هذا التعاون في األهداف والغايات التي يسعى إليها كل تنظيم اجتماعي .فاالنتقال
من التشابه إلى التباين عند سبنسر يقوم على مبدأين ،وهما:
ـ التباين ،وهو يعني االنتقال من المتجانس إلى غير المتجانس ،ومن التماثل المطلق إلى التباين المحدد.
ـ التكامل ،وهي ظاهرة مرتبكة بالتباين ،فالتخصص ال يؤدي إلى االستقالل واالنعزال واالكتفاء الذاتي،
ولكنه يؤدي إلى التضامن والتماسك واعتماد األجواء بعضها على بعض.
يري سبنسر أن المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون ،والمجتمع بشبه الجسم الحي ،ويعقد سبنسر مماثلة
من حيث التركيب الداخلي ،فالمجتمع مزود بجهاز للتغذية مثل الكائن الحي ،وهذا الجهاز يتمثل في البيئات
والطبقات المنتجة ،ودورة دموية متمثلة في نظم التوزيع وطرق المواصالت ،ومزود بجهاز هضمي يتمثل
في نظم االستهالك ،وجهاز عصبي يتمثل في الجهاز التنظيمي واإلدارة الحكومية.
إن المجتمع مع ذلك يختلف عن الكائن الحي من حيث التركيب ،فعناصر الكائن الحي نكون كال متماسكا
ومتحدا بصفة مباشرة اتحادا ماديا ملموسا ،أما األسباب المؤدية إلى الوحدة في المجتمع ،فهي خارجة عن
التركيب العضوي في الفرد ،وهذه األسباب هي اللغة والعواطف واالنفعاالت واألفكار والمعتقدات والتقاليد
وغيرها.
ـ مؤثرات داخلية ،وتتمثل في الناحية الفردية ،والتكوين الطبيعي والعاطفي والعقلي لألفراد الذين يؤلفون
المجتمع ،فاألفراد يكونون الظواهر وفقا لهذه الخواص الداخلية.
ـ مؤثرات خارجية ،وتتمثل في البيئة الجغرافية والطبيعية والمناخية لتأثيرها المباشر على األفراد ،وإذا كان
المجتمع مثل الكائن الحي يمر بالضرورة بمراحل النشوء واالرتقاء فإنه يمر أيضا بمرحلة التدهور
واالنحالل ،فهناك مجتمعات تضعف بعد قوة ،وتحل مجتمعات جديدة محلها ،وهكذا فإن هناك خلقا متجددا
51
في الحياة االجتماعية.
51ـ عبد الهادي والي ،مدخل إلى علم االجتماع ،2003 ،ص 33ـ.37
يؤكد بوتول أنه منذ سان أوجستان لم ينل أي مذهب اجتماعي من الحظوة والتقدير مثل ما ناله مذهب كارل
ماركس ،فقد أصبح هذا المذهب ملهما مباشرا لمعظم الحركات السياسية المعاصرة ،وانقسمت المجتمعات
األوروبية إلى اتجاهين اثنين بسبب أفكاره ،وأصبح كذلك بمثابة عقيدة دينية للدولة عند بعض الشعوب ،كما
52
قادت أفكاره رسميا تنظيم دول كثيرة.
إن تأثير كارل ماركس السابق جعل مسألة إجراء تقويم "موضوعي" لمساهمته مهمة حساسة وخطيرة ،فهي
خطيرة بسبب التراث السياسي الثقيل للماركسية ،واستحالة الفصل التام بين التحليل العلمي واإليديولوجيا
السياسية ،وحساسة؛ ألن كتابات ماركس ملتبسة وقابلة لتعدد التفسيرات.
لم يكن ماركس عالم اجتماع ،ولم يعتبر نفسه واحدا منهم رغم أن نطاق عمله كان واسعا بدرجة تحول دون
أن يشمله مصطلح علم االجتماع ،لكن هناك نظرية اجتماعية يمكن العثور عليها في أعمال ماركس .إن
معظم علماء االجتماع األوائل كانوا يعدون عمله قوة سلبية؛ لذلك عملوا منذ البداية على تأسيس علم اجتماع
خاص بهم ونقيض ألفكار ماركس ،وهذا الرفض كان سببا في نشأة مجموعة من النظريات االجتماعية.
يرى ريترز وستيبينسكي أن هناك أسبابا لرفض أعمال ماركس في بداية علم االجتماع ،منها:
السبب األول :سبب إيديولوجي ،لقد رفض ماركس باعتباره عالما إيديولوجيا يهدف إلى التغيير االجتماعي
الجدري (الثورة) ،لكن علماء االجتماع األوائل كانوا إيديولوجيين كذلك؛ حيث عملوا جميعا على كيفية
المحافظة على النظام القائم؛ لذلك فإن الرفض ال يرتبط باإليديولوجيا مطلقا بل بطبيعة اإليديولوجية
الماركسية المناهضة للنظام الرأسمالي.
السبب الثاني :اعتبار كارل ماركس عالم اقتصاد أكثر منه عالم اجتماع ،وبالرغم من االعتراف بأهمية
االقتصاد ،لمنهم يعتبرونه مكونا واحدا من مكونات متعددة للحياة االجتماعية.
السبب الثالث :طبيعة اهتمامات ماركس ،فإذا كان علماء االجتماع األوائل قد تعاملوا مع االضطرابات
الناتجة عن التنوير والثورة الفرنسية ثم الثورة الصناعية ،فإن ماركس لم يكن مستاء من تلك االضطرابات
بقدر ما كان مستاء من قمع النظام الرأسمالي الناشئ بإنجلترا ،وقد حاول ماركس وضع نظرية تشرح أسس
هذا القمع وتساعد على إلسقاط هذا النظام الناشئ .إن ماركس كان مهتما بالثورة بينما علماء االجتماع
53
اآلخرين فكانوا مهتمين باإلصالح.
لقد نظر ماركس إلى علم االجتماع الموجود قبله أو في زمانه باعتباره غير علمي لكونه محكوما بالمثالية.
فالماديون الفرنسيون الذين كانوا يشيرون إلى تأثير الوسط االجتماعي على اإلنسان كانوا ينظرون إلى هذا
الوسط باعتباره نتاجا للعقل البشري "األفكار تسير العالم" ،فهذه هي كلمتهم األخيرة عن المجتمع .أما
المثاليون مثل هيجل ،فقد وصل في النهاية إلى أن اإلرادة اإللهية هي التي تسير العالم" ،هللا يسير العالم".
52ـ غاستون بوتول ،تاريخ علم االجتماع ،مرجع سابق ،ص 87
53ـ جورج ريترز وجيفري ستيبينسكي ، 2021 ،النظريات الحديثة في علم االجتماع ،ترجمة ذيب الدوسري وآخرين ،مكتبة جرير ،ص 65ـ
.66
انطالقا من كون األفكار هي التي تسير العالم ،فقد تم االعتقاد أن حملة هذه األفكار (الملوك ،القادة ،العلماء)...
54
هم وحدهم من صنع التاريخ ،وأن الجماهير الشعبية ال دور لها في ذلك.
تقوم النزعة المادية عند ماركس ،على عكس النزعة المثالية التي تعتبر العالم "تجسيدا" للفكرة المطلقة ،و
"الروح الشامل" و "الوعي" ،على المبدأ القائل بأن العالم بطبيعته مادي .والمراد بالمادة الحقيقة الموضوعية
55
الموجودة خارج عقولنا.
إن مبدأ "المادية" ،المفهوم المادي عن الحياة االجتماعية ،هو أهم مبدأ يقوم في أساس النظرية الماركسية
عن المجتمع ،ويعكس كنهها ويميزها عن مختلف المفاهيم االجتماعية الفلسفية الموجودة سابقا وحاليا.
إن مغزى المادية في المفاهيم عن التاريخ يتلخص في االعتراف بأن حياة المجتمع المادية ،وفي المقام األول
منها العملية االجتماعية لإلنتاج المادي ،ليست مجرد عامل من العوامل الضرورية في الحياة االجتماعية،
بل أيضا األساس المادي لتفاعل جميع الظواهر االجتماعية ،الذي يحدد في آخر المطاف الميدان الروحي
56
من حياة المجتمع وكذلك جميع ظواهرها األخرى.
إن مفهومي "الوجود االجتماعي" و "الوعي االجتماعي" هما المقولتان األساسيتان اللتان تترجم بواسطتهما
57
الفكرة العامة للمادية إلى لغة النظرية االجتماعية.
المسألة الرئيسية للمادية التاريخية هي المتجلة في القانون اآلتي :الوجود االجتماعي هو الذي يحدد الوعي
االجتماعي .والمراد بالوجود االجتماعي الحياة المادية للمجتمع ،وقبل كل شيء نشاط الناس اإلنتاجي
والعالقات االقتصادية التي تنشأ بين الناس في عملية اإلنتاج (البنية األساس أو البنية التحتية) .أما الوعي
االجتماعي ،فهو حياة الناس الفكرية ،األفكار والنظريات واآلراء التي يسترشدون بها في نشاطهم العملي
(البنية الفوقية) .إن الناس قبل أن يهتموا بالعلم والفن والفلسفة وغيرها ،ينبغي عليهم أن يأكلوا ويشربوا
58
ويؤمنوا مسكنهم ولباسهم ،ولتحقيق هذا البد لهم أن يعملوا وأن ينتجوا الخيرات المادية.
تتألف البنية األساس من عنصرين أو بنيتين أخريتين ،وهما :القوى اإلنتاجية وعالقات اإلنتاج
أ ـ القوى اإلنتاجية
يحتاج الناس إلى الغذاء واألحذية والمسكن والمحروقات في معاشه ،ويجب أن ينتج المجتمع هذه الوسائل
المادية لكي يستطيع الحصول عليها ،ويحتاج المجتمع في إنتاجها آلالت خاصة وإلى منتجين ،لذلك فالقوى
المنتجة تتألف مما يلي:
54ـ أفانا سييف ،أسس الفلسفة الماركسية ،الجزء الثاني ،ترجمة عبد الرزاق الصافي ،دار الفارابي ،بيروت ،ص .152
55ـ أبو سيف يوسف ،1946 ،حول الفلسفة الماركسية ،دار القرن العشرين ،القاهرة ،ص .22
56ـ فالديسالف كيلله و ماتفي كوفالسون،المادية التاريخية :دراسة في نظرية المجتمع الماركسية ،ترجمة إلياس شاهين ،دار التقدم موسكو ،ص
.31
57ـ المرجع السابق ،ص .35
58ـ فانا سييف ،أسس الفلسفة الماركسية ،الجزء الثاني ،ترجمة عبد الرزاق الصافي ،دار الفارابي ،بيروت ،ص .153
ـ وسائل اإلنتاج ،وتشمل مادة العمل ،وهي المادة الخام ،وتتمثل في كل ما يتعرض في عملية اإلنتاج لهذا
التعديل أو ذاك ،ليتحول إلى ناتج ضروري لإلنسان ،وأدوات العمل ،وذلك مثل األدوات واآلالت واألرض
واألبنية ووسائل النقل والطرق وغيرها.
ـ الناس الذين يستعملون األدوات والتي ال يمكن استعمالها بدونهم ،ويدخل في ذلك تجربة اإلنتاج التي
اكتسبتها األجيال المتتابعة ،مثل التقاليد المهنية ،والمعارف التقنية والعلمية ،وعادات العمل الخاصة بكل
عامل ،ومهاراته.
إن آالت اإلنتاج هي العنصر األساسي الذي يسمح بتحديد حالة قوى اإلنتاج ،ألن طبيعة هذه األدوات هي
التي تحدد عدد الناس الضروري إلتمام عمل معين ،والمعارف التقنية الضرورية ،وعادات العمل ،كما أن
طابع العمل اليدوي وطابعه الفكري يتعلقان بطبيعة وسائل اإلنتاج.
إن تطور قوى اإلنتاج مشروط بتطور وسائل اإلنتاج ،فقد كانت هذه الوسائل ،في بداية األمر ،عبارة عن
حجرة ضخمة بدائية ،ثم أصبحت سهاما ،مما ساعد على االنتقال من الصيد إلى تأليف الحيوانات وتربية
القطعان عند البدائي ،ثم ظهرت اآلالت المعدنية التي ساعدت على االنتقال إلى تطور الزراعة ،وبعد ذلك
حدثت اختراعات جديدة ساعدت على صنع المواد كصناعة الخزف وصناعة الحديد ثم تطورت المهن ،وتم
انفصالها عن الزراعة ،ومن ثم ظهرت الصناعات اليدوية التي تمتاز بتقسيم العمل إلى مهام جزئية لصنع
منتوج معين ،ثم تم االنتقال من وسائل إنتاج الصناعة اليدوية إلى اآللة التي ساعدت على التطور.
ب ـ عالقات اإلنتاج
إن اإلنتاج هو دائما إنتاج اجتماعي؛ ألن مضال اإلنسان ضد الطبيعة لم يكن أبدا عمال فرديا بل كان منذ
البداية اجتماعيا ،فالمجتمع هو الذي أنقذ اإلنسان من الحيوانية ،وإذا كان اإلنتاج اجتماعيا بالضرورة فالبد
أن تنشأ بعض العالقات بين الناس بصدد هذا اإلنتاج ،وتسمى عالقات اإلنتاج.
الشكل األول :عالقة تعاون وتعاضد ،فيمكن للناس أن يجتمعوا بحرية للقيام معا بعمل مشترك مثل بناء بيت،
فتنشأ بذلك عالقة تعاون وتعاضد بين أناس أحرار من كل استغالل.
الشكل الثاني :عالقة استغالل وسيطرة ،فيمكن لإلنسان في بعض الظروف أن يضطر أخاه اإلنسان لإلنتاج
من أجله ،فيتغير بذلك طابع اإلنتاج تغييرا سياسيا ،فتصبح عالقات سيطرة وخضوع ،ويظهر استغالل عمل
اآلخرين.
الشكل الثالث :عالقات التعاون واالستغالل معا ،يمكن أن يوجد عبر التاريخ مجتمعات يوجد فيها النوعان
السابقان معا من العالقات ،أحدهما في طريق الزوال واآلخر في طريق االشتداد ،فتنشأ عالقات فترة انتقال
59
من صورة ألخرى.
إن معرفة هذه العالقات يقتضي معرفة من يملك أدوات اإلنتاج ،فعالقات اإلنتاج االجتماعية عي أساس
عالقات الملكية ،وتنوع هذه العالقات هو انعكاس لشكل الملكية المحددة تاريخيا ،فإذا كانت وسائل اإلنتاج
59ـ جورج بوليتز وجي بيس موريس كافين ،أصول الفلسفة الماركسية ،الجزء الثاني ،تعريب شعبان بركات ،بيروت ،ص 9ـ.12
في يد المجتمع بأسره فإن أعضاء هذا المجتمع يصبحون متساوين في عالقاتهم بوسائل اإلنتاج ،وإذا كانت
60
ملكا لفئة خاصة ،فإن الملكية سينبثق عنها عالقات السيطرة.
إن عالقات اإلنتاج ناشئة عن قوى اإلنتاج ،فعالقة المنتجين بوسائل اإلنتاج وبملكيتها هي العامل الحاسم في
الشكل الذي تتخذه العالقات االجتماعية اإلنتاجية ،ومستوى معينا من القوى اإلنتاجية يتطلب مستوى يتفق
معه من عالقات اإلنتاج .وإذا كانت قوى اإلنتاج أكثر تغيرا وحركية عبر التاريخ ،فإن عالقات اإلنتاج أكثر
استقرارا ،فأشكال الملكية ال تتغير إال بصعوبة؛ لذلك فعندما تتطور القوى اإلنتاجية لدرجة معينة تزول حالة
التجانس بينها وبين عالقان اإلنتاج ،فيبدأ الصراع بينهما؛ ألن عالقات اإلنتاج تعوق تطور القوى اإلنتاجية،
61
وينتهي ذلك بأن تحل عالقات إنتاجية جديدة تتوافق مع القوى اإلنتاجية التي تطورت ونمت.
المراد بالبنية الفوقية مجموع األشكال السياسية والقانونية وأشكال الوعي االجتماعي أو اإليديولوجيا،
وتتضمن اإليديولوجية مجمل األفكار السياسية والفلسفية والمذاهب األخالقية والتصورات والنظريات
الجمالية ،وتوجد في مقابل اإليديولوجية السائدة اإليديولوجية المقموعة وهي إيديولوجية الفئات المضطهدة
ا لتي تعمل األولى على كبتها والحد من تأثيرها .إن البنية الفوقية إلذن ليست بنية خامدة بل يدور داخلها
صراع يؤثر أيضا على البنية التحتية ،فإذا كانت األشكال اإليديولوجية التي لها السيادة تعمل على تدعيم
البنية األساس القائمة ،فإن أشكال الوعي األخرى تعمل في اتجاه مضاد ،ونتيجة هذا الصراع تؤثر بدورها
62
على البتية التحتية نفسها.
وبناء على ما تقدم ،فقد قسم ماركس التاريخ البشري إلى خمس مراحل تعكس كل منها الدور الذي لعبه
العامل االقتصادي فيها ،وهي كاآلتي:
ـ الشيوعية البدائية أو المجتمع القبلي :ويبدأ تاريخه بظهور اإلنسان الذي يتميز عن الحيوان بقدرته على
صنع واستخدام أدوات العمل ،حيث عاش الناس في جماعات وعشائر ترتكز على روابط الدم في مأوى
مشترك ،ولم يكن هناك شيء يمكن امتالكه ،ومن ثم فإن الملكية الخاصة والطبقات واالستغالل لم يكن لها
وجود ،إال أن الندرة المادية هي التي شكلت المصدر الرئيسي للصراع في تلك الحقبة.
ـ العبودية :في هذه المرحلة تطورت قوى اإلنتاج ،ونشأت الحرف ،ومع النمو المطرد في اإلنتاج والعمل
بدأت العشائر تتجزأ إلى أسر ،ونشأت الملكية الخاصة ،ومع زيادة اإلنتاج عن االستهالك أصبح في اإلمكان
االحتفاظ بالفائض ،وبناء على ذلك ظهرت بوادر االستغالل عن طريق التجارة واالحتكار ،ووجدت عالقات
سيطرة وخضوع ،ترتب عليها انقسام المجتمع إلى طبقتين األسياد والعبيد.
ـ اإلقطاعية :بمرور الزمن أصبح التناقض بين قوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج في المجتمع العبودي حادا
للغاية ،فتوالت االضطرابات بين العبيد وأسيادهم وفي الوقت نفسه استمر التقدم المطرد فظهرت طواحين
الهواء والماء وصناعة الورق والبارود ،وتقدمت الحرف ،وحققت الزراعة تطورا كبيرا بفضل الفصائل
60ـ أحمد القصير ، 2006 ،منهجية علم االجتماع بين الماركسية والوظيفية والبنيوية ،دار العالم الثالث ،القاهرة ،ص .83
61ـ المرجع السابق ،ص 84
62ـ المرجع السابق ،ص .84
الجديدة من الحبوب والفاكهة ،وانتشار األسمدة واتساع تربية الحيوان ،وارتبط العبيد باألرض إال أنهم قد
حققوا ألنفسهم بعض التقدم ،وينحصر العداء الطبقي في هذه المرحلة بين اإلقطاعيين مالك األراضي
(النبالء) والفالحين (األقنان) .إن الهيكل العام للمجتمع اإلقطاعي ال يختلف عن مثيله في المجتمع العبودي
(فيما عدا تطور أدوات اإلنتاج) ،والفرق الوحيد بينهما هو قيام جهاز الدولة والجيش ورجال الدين بالدفاع
عن مصالح اإلقطاعيين والحفاظ على الملكية الخاصة.
ـ الرأسمالية :فمع تطور قوى اإلنتاج أصبحت عالقات اإلنتاج في البناء اإلقطاعي غير فعالة مما أدى إلى
انهياره في مواجهة التحضر ،ونمو برجوازية المدن ،وتزايد الحاجة لالقتصاد الصناعي ،والتأثير العام
للسفر إلى مختلف مناطق العالم وبداية االستعمار .إن نتيجة هذه التطورات هي ظهور الرأسمالية الصناعية
التي سعت إلى إحالل المصانع الضخمة إلى الورش الحرفية ،وتحرر العمال من األرض ولكنهم لم يتحرروا
من سيطرة الرأسمالي؛ ألنهم ال يملكون وسائل اإلنتاج ،فاضطروا إلى بيع قوة عملهم مقابل أجر زهيد،
فنمت الرأسمالية وتحولت إلى استعمار واحتكار عالمي ،ومن هنا ظهرت إيديولوجية الطبقة العاملة جنبا
إلى جنب مع أفكار البرجوازية المستغلة ،وهذا النوع من المجتمع يغلب عليه الصراع بين البرجوازية
والعمال.
ـ االشتراكية ـ الشيوعية :في هذه المرحلة تبدأ الرأسمالية عملية االنحالل الذاتي بسبب تناقضاتها الداخلية،
متجهة بالمجتمع نحو النهاية المحتومة ،بإحالل االشتراكية محل الرأسمالية لتصبح وسائل اإلنتاج مملوكة
ملكية جماعية ،واالشتراكية هي مرحلة انتقالية الزمة في التطور االقتصادي ينتقل المجتمع عبرها من
الرأسمالية إلى الشيوعية ،ويتم الوصول إلى االشتراكية بواسطة الثورة بقيادة العمال التي تصبح طبقة
حاك مة ،وبذلك يتم هدم عالقات اإلنتاج القديمة ،وينشأ النظام االشتراكي عندما تمتلك الدولة جميع وسائل
اإلنتاج ويتم زوال الملكية الفردية أو الخاصة ،ويصبح مقياس االستهالك هو العمل ،وذلك ألن كمية العمل
الذي يؤديه كل فرد هو الذي ونوعه هما اللذان يحددان القدر الذي يجب أن يناله من اإلنتاج االجتماعي،
وهذه الطريقة ـ حسب الماركسية ـ هي الطريقة الوحيدة العادلة لتقدير حقه في االستهالك .إن هذا الوضع
الجديد هو الممهد لظهور المرحلة األخيرة من تاريخ البشرية وهي المرحلة الشيوعية حيث تنعدم الدولة
63
بالمعنى الحقيقي ومفهوم الطبقة في المجتمع وكل أدوات الصراع السابقة لتحل محلها المساواة بين الجميع.
أوجست كونت ،فيلسوف فرنسي ،ولد بمدينة مونبليه ،من أهم مؤلفاته "دروس في الفلسفة الوضعية" الذي
نشره بين سنوات 1830و .1842
لقد أكد كونت أن دروسه حول الفلسفة الوضعية تهدف إلى أمرين اثنين :أولهما ،وهو هدف خاص ،يتعلق
بتشييد السوسيولوجيا .والثاني ،وهو هدف عام ،يتعلق بتنسيق المعرفة الوضعية بكاملها .وتعكس بنية عمله
هذا األمر ،فاألجزاء الثالثة األولى تفحص العلوم األساسية الخمسة الموجودة آنذاك ،الرياضيات والفلك
والفيزياء والكمياء والبيولوجيا ،بينما تتعاطى األجزاء الثالثة األخيرة مع العلوم االجتماعية ،ولم يتطلب
تنفيذ الجزئين القدر نفسه من العمل ،ففي الحالة األولى ،كانت العلوم مشكلة بالفعل وفي حاجة إلى مجرد
63ـ حسام الدين فياض ،2017 ،كارل ماركس وعلم المجتمع ،منشورات نحو علم اجتماع تنويري ،ص من 30إلى .41الرابط
تلخيص لنقاطها المذهبية والمنهجية الرئيسة .أما في الحالة الثانية ،فإن كل شيء كان ال زال يتعين القيام به،
وكان كونت يدرك بشكل تام أنه يؤسس علما جديدا.
لقد قام كونت بتصنيف للعلوم القائمة في زمانه اعتمادا على القانون الذي اكتشفه لتطور العقل اإلنساني ،ثم
64
عمل على تأسيس ما اعتبره نهاية للعلوم كلها وهو علم االجتماع.
يطلق كونت اسم "الالهوت" على طريقة عامة تطبق في فهم مجموعة الظواهر ،وهذه الطريقة تفسر ظهور
هذه الظواهر بالرجوع إلى إرادة اآللهة .فكلمة الهوتي تدل عنده على ما هو "خرافي" و "خيالي" أو
"أسطوري" .فهي تعني أن المرء ينسب إلى اآللهة رغبات وتصرفات إنسانية ،ويرجع إليها في تفسير أسباب
68
الظواهر ،ويطلق على هذه الظاهرة في التفكير اسم مذهب التشبيه.
ومعنى هذا أنه ال يمكن أن يفهم من قانون الحاالت الثالث أن تطور اإلنسانية سيبتعد بها دائما عن الالهوت
ليفضي بها إلى حالة نهائية ال يجد فيها الدين مكانا له .إن تقدم اإلنسانية سيقودها ،على خالف ذلك ،إلى حالة
ستكون دينية بمعنى الكلمة ،وفي هذه الحالة سينظم الدين حياة اإلنسان بأسرها ،فبمعنى ما يمكننا أن نتصور
تاريخ اإلنسانية كما لو كان تطورا يبدأ بالديانة البدائية (الوثنية) وينتهي إلى الديانة النهائية (الوضعية)،
69
ولكن ليس موضوع قانون الحاالت الثالث هو التعبير عن التطور الديني لإلنسانية.
لم يكن باستطاعة اإلنسان أن يبدأ في تفسير الطبيعة إال بفلسفة ذات طبيعة دينية؛ ألن هذه الفلسفة هي الوحيدة
التي تنشأ بصفة تلقائية ،وهي الوحيدة التي ال تفترض وجود فلسفة أخرى قبلها .ففي مبدأ األمر يدرك اإلنسان
64ـ ميشيل بوردو ،2022 ،أوجست كونت ،ترجمة خالد أبو هريرة ،مجلة حكمة ،ص .17
65ـ ليفي بريل ،1952 ،فلسفة أوجست كونت ،ترجمة محمود قاسم والسيد محمد بدوي ،مكتبة األنجلو مصرية ،القاهرة ،ص .35
إن المرحلة الالهوتية هي بداية ما أطلق عليه التاريخ العقلي لإلنسانية ،حيث أصبحت مالحظة الظواهر
أمرا ممكنا بسبب الفلسفة الالهوتية ،وكانت هذه المالحظة سببا في نفاذ فكرة القوانين إلى العقول شيئا
71
فشيئا.
لقد استعمل كونت الميتافيزيقا استعماال خاصا ،مخالفا مدلولها العام الذي يدل على علم الوجود من حيث هو
وجود ،أو علم الجوهر ،أو علم المبادئ األولى 72.إن الميتافيزيقي هو المجرد ،وفيه تخلي العوامل الخارقة
للطبيعة مكانها إلى قوى مجردة ،مثل "الطبيعة" عند اسبينوزا ،و " اإلله المهندس" عند ديكارت ،و "المادة"
عند ديدرو ،و "العقل" في قرن األنوار .فالفكر هنا بقي حبيس تصورات فلسفية مجردة ،ويرد الواقع إلى
73
مبادئ أولية.
إن المرحلة الميتافيزيقية تستخدم باعتبارها مرحلة انتقال فقط؛ ألنه ال يمكن االنتقال من الفلسفة الالهوتية
إلى الفلسفة الوضعية دفعة واحدة ،فالتضاد بينهما عميق جدا ،والذكاء اإلنساني لم يألف مثل هذا التغير
المفاجئ .إن المرحلة الميتافيزيقية بهذا المعنى ال يوجد مبدأ خاص في تعريفها ،فالفلسفة الالهوتية تكفي
نفسها بنفسها ،وتكون كال متجانس األجزاء ،وكذلك ستكون الحالة الوضعية متجانسة تمام التجانس .أما
المرحلة الميتافيزيقية ،فال يمكن تعريفها إال بالمزج بين الحالتين األخريين ،فهي متصلة في آن واحد بعلم
الالهوت وبعلم الطبيعة ،وإذا وجب إرجاع هذه الحالة المتوسطة إلى إحدى الحالتين فإن كونت ال يتردد في
إرجاعها إلى الحالة الالهوتية ،فالميتافيزيقا تستعيض عن "اإلرادات اإللهية" بالقوى ،وعن "الخالق"
بالطبيعة ،لكنها تنسب إلى القوى الطبيعية وظيفة شديدة الشبه بوظيفة اإلرادة اإللهية والخالق...لذلك ال
74
تنطوي هذه الفلسفة على أي ضمان ضد عودة المبادئ الالهوتية إلى الهجوم.
لقد أوضح كونت أن هناك عدة معان لكلمة "وضعية" ،فتدل على1 :ـ الحقيقي أو ما يقف ضد الوهم 2 .ـ
المفيد أو ما يقف ضد غير المجدي 3 .ـ اليقين خالفا للتردد 4 .ـ المحدد أو ما يقف ضد الغامض 5 .ـ اإليجابي
بعكس السلبي (تشير في هذه الحالة إلى أحد أبرز روابط الفلسفة الحديثة الحقة ،بإظهار أنها موجهة ،بحكم
75
طبيعتها ،نحو البناء وليس التدمير).
70ـ فاروق عبد المعطي ،1993 ،أوجست كونت :مؤسس علم االجتماع الحديث ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ص .134
يميز كونت بين نوعين من العلوم :العلوم األساسية أو المجردة ،والعلوم الجزئية أو التطبيقية ،فاألولى تدرس
القوانين العامة لمجموعة من الظواهر الخاصة كالظواهر الهندسية والحسابية والظواهر االجتماعية ،بينما
تعمل العلوم الجزئية على تطبيق تلك القوانين العامة في مجاالت خاصة؛ لذلك تعد األولى سابقة على الثانية،
فعلم األحياء علم أساسي مجرد ،أما الطب ،فعلم جزئي تطبيقي ،وعلم االجتماع يجب أن يكون علما أساسيا
مجردا ،أما االقتصاد ،فعلم تطبيقي جزئي.
إن العلوم الوضعية المجردة ستة ،خمسة قائمة ،وهي الرياضة والفلك والفيزياء والكمياء واألحياء ،والسادس
في طور البناء وهو علم االجتماع .وهذه العلوم كل واحد منها يشترط قيام السابق عليه ،لذلك فمعيار تصنيف
العلوم عند كونت يقوم على مبدأي التعميم أو التجريد ثم البساطة والتعقيد ،فتطور العلوم ينطلق من األقل
تعقيدا واألكثر تجريدا ،ثم إلى األكثر فاألكثر تعقيدا واألقل فاألقل تجريدا ،وبهذا المعنى كانت الرياضيات
أول العلوم ظهورا وعلم االجتماع آخرها ظهورا ،فاألول يتناول الظاهرة األكثر تعميما وتجريدا واألقل
تقعيدا ،أما الثاني ،فيتناول الظاهرة (المجتمع) األقل تعميما وتجريدا واألكثر تعقيدا.
إن هذه العلوم الستة كلها علوم وضعية ،حيث أقلعت جميعها عن السعي وراء الحقيقة المطلقة إلى الحقيقة
76
النسبية ،وعن البحث عن األسباب إلى معرفة القوانين ،وال خالف بين هذه العلوم إال في موضوعاتها.
لقد أطلق كونت في البداية اسم "الطبيعة االجتماعية" على العلم الجديد ،لكن أدولف كيتلي(،)Quetelet
عالم رياضيات وفلك ،قد قام قبله بهدة أشهر بتبني تعبير "الفيزياء االجتماعية" ليطبقه على علم جديد هي
الدراسة اإلحصائية للجماعات البشرية ،حيث اكتشف االستخدام الممكن لإلحصاء من أجل تفسير ظواهر
مثل اإلجرام وتحديد تواتره ضمن الشعب؛ لذلك تخلى كونت ،مكرها ،عن هذا االسم إلى كلمة "علم
االجتماع" سنة 77.1839ويحتل علم االجتماع قمة سلم العلوم الشامل للعلوم كلها ،وهذا ما جعله يتفق معها
في مواطن ويختلف عنها في أخرى .إن علم االجتماع ،حسب تعريف موضوعه ومنهجه ،ينسجم كليا مع
76ـ فاروق عبد المعطي ،1993 ،أوجست كونت :مؤسس علم االجتماع الحديث ،مرجع سابق ،ص .170
77ـ فيليب كابان و جان فرانسوا دورتيه ، 2010 ،علم االجتماع ،من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية ،إعالم وتواريخ وتيارات ،مرجع
سابق ،ص .21ن
باقي أجزاء المعرفة الوضعية ،فإذا كانت الرياضيات تبحث عن قوانين الظواهر الهندسية ،فإن علم االجتماع
يبحث عن القوانين العامة للظواهر االجتماعية ،فال فرق بين علم وضعي وآخر إال في الموضوع ،أي
الظواهر موضوع البحث .لكن العلوم األساسية األخرى كل واحد منها يمهد لما بعده ،أما علم االجتماع ،فهو
علم نهائي ،فكل علم من العلوم الخمسة يجب أن يهتم به فقط بالقدر الضروري الذي يسمح للعلم الالحق له
أن يتخذ الشكل الوضعي ،أما علم االجتماع ،فيضع مبادئ األخالق والسياسة ،وعبر علم االجتماع تكتسب
الطريقة الوضعية صفة العموم .ويختلف علم االجتماع عن غيره من العلوم الوضعية كذلك بأن العلوم
األخرى قد وجدت بالفعل ،أما علم االجتماع فإنه في طور التأسيس فقط ،وهذا ال يعنى أن غير كونت لم يهتم
بهذا التأسيس ،ولكن كل واحد منهم كان ينقصه عنصر معين ،فأرسطو مثال كان عبقريا في الموضوع لكن
كانت تنقصه فكرة التقدم والمعرفة الشاملة المتنوعة للتاريخ ،وعدم نشأة العلوم الوضعية الممهدة باستثناء
الرياضيات .أما مونتيسكيو مثال ،فقد سبق عصره في مسألة تعميم فطرة القانون الطبيعي وإخضاع الظواهر
السياسية والتشريعية واالقتصادية لهذا القانون ،لكنه فهم بعض القوانين الثانوية على أنها قوانين أساسية مثل
القوانين الخاصة بتأثير المناخ.
إن تعريف علم االجتماع عند كونت ال يختلف عن تعريف باقي العلوم الوضعية إال من حيث الموضوع،
فهو العلم الذي يدرس الظواهر االجتماعية دراسة وضعية ،وينصب هذا البحث عن القوانين العامة لتلك
الظواهر ،وال يبحث علم االجتماع في أسباب الظواهر وعللها األولى؛ ألن ذلك بحث الهوتي أو ميتافيزيقي
وليس وضعيا .إن علم االجتماع يتخذ من الظاهرة االجتماعية موضوعا له ،لكن كونت لم يهتم بتعريف
الظاهرة االجتماعية كما فعل مع الظاهرة الكيميائية والحيوية ،ويمكن إرجاع ذلك إلى أمرين اثنين :أولهما:
إن كونت لم يكن مهتما كثيرا بتحديد موضوع علم االجتماع بقدر ما مان مهتما بالدعوة له 78.وثانيهما أن
الظاهرة االجتماعية تعرف نفسها بنفسها ،وذلك بطريق الحذف .فإذا كانت الظواهر االجتماعية هي األكثر
تعقيدا من بين تلك التي يمكن الوقوف عليها ،فإن كل الظواهر التي ال تدرسها العلوم السابقة تكون موضوع
79
علم االجتماع.
يميز كونت بين موضوعين في علم االجتماع ،موضوع يهتم بدراسة شروط وجود المجتمع (أي علم
االجتماع الخاص باالستقرار) واآلخر بدراسة قوانين حركة المجتمع وتطوره (أي علم االجتماع الخاص
بالتطور) ،والتمييز بينهما قائم على التمييز بين فكرتي النظام والتقدم .وبالرغم من تباين موضوع هذين
القسمين إال أنهما ليسا علمين مستقلين 80،لكنهما متالزمان ،حيث يؤكد كونت "أن التقدم دائما وكأنه التطور
81
التدريجي للنظام ،ولصورة معاكسة ،إنه يقدم النظام معبرا عنه بالتقدم".
تحتل "االستاتيكا االجتماعية" مكانا صغيرا جدا بالمقارنة مع الديناميكا االجتماعية .وينطلق كونت في هذا
الباب من فكرة التضامن االجتماعي ،فهي الفكرة التي تسيطر على علم االجتماع الخاص باالستقرار ،فكل
78ـ عبد الباسط عبد المعطي ،1981 ،اتجاهات نظرية في علم االجتماع ،عالم المعرفة ،العدد ،44الكويت ،ص .61
79ـ ـ ليفي بريل ،فلسفة أوجست كونت ،مرجع سابق ،ص .229
80ـ المرجع السابق ،ص .243
81ـ بناء علم االجتماع ،ص .27
عنصر من العناصر التي يتألف منها هذا الكائن (مثل النظام السياسي واالقتصادي والديني والعائلي
والتعليمي وغيرها) يجب أن يدرس على ضوء الصلة التي تربطه بالعناصر األخرى التي تتضامن معه
دائما ،وقد ميز كونت في باب االستقرار االجتماعي بين ثالثة عناصر فقط ،وهي :الفرد واألسرة والمجتمع.
والعنصر االجتماعي األول هو األسرة وليس الفرد ،فالمجتمع اإلنساني يتألف من أسر ال من أفراد ،وهذا
مبدأ أولي في علم االجتماع الخاص باالستقرار ،واألسرة في نظره شيء طبيعي وبديهية أولية ،فال ينبغي
الصعود في البحث إلى أبعد منها ،بل يكفي أن تحدد الشروط البيولوجية لتكوينها ،وينظر كونت إلى الزواج
بالمنظور نفسه ،فهو استعداد طبيعي عام وقاعدة أولية ضرورية في كل مجتمع ،وإضعاف الزواج أو التقليل
من أهميته سيؤدي إلى تفكيك األسرة ومن ثم تقويض العناصر األساسية التي يتكون منها المجتمع ،وهذا ما
جعل كونت يتخذ موقفا مناهضا للطالق ،وفي ذلك تأييد للتصور المسيحي لألسرة ،لكن مع تنقية هذا المفهوم
من جانيه الديني ،فهذه النظم جيدة في أصلها وال يشوب رونقها إال ارتباطها بعقائد آخذة في الزوال .وإذا
ظلت األسرة متمسكة بالمبادئ الدينية باعتبارها قاعدة عقلية لها فإن ذلك سيزيد من إضعافها بضعف تلك
العقائد.
إن المجتمع إذن يتألف من أسر ،ولكنه هو ذاته ليس أسرة كبيرة ،كما أنه ليس مجموعة من األسر المتراصة
التي تعيش معا ،فالمجتمع متميز عن األسرة ،فاألسرة "اتحاد" يتميز بطبيعته الخلقية والعاطفية ،أما الناحية
العقلية فيها فثانوية جدا ،والمبدأ الذي تقوم عليه األسرة يوجد في الوظائف العاطفية كالحنان المتبادل بين
الزوجين وعطف اآلباء على األوالد .أما المجتمع فليس اتحادا بل هو "تعاون" ،ويمتاز بطبيعة عقلية ،أما
الناحية العاطفية فيه فثانوية .ويطلق في زمان كونت على هذا التعاون تقسيم العمل ،والتعاون مبدأ عام قد
يربط الشعوب المختلفة فيما بينها .وتقسيم العمل هو السبب األول في االتساع والتعقيد المستمر الذي يطرأ
82
على الكائن االجتماعي.
يعد هذا الفرع الجزء الرئيسي في علم االجتماع ،ألن مبدأ إمكان وجود علم للظواهر االجتماعية قد اتضح
عند كونت منذ أن كشف عن قانون الحاالت الثالث ،ووظيفة هذا القسم هي اكتشاف قوانين التغير.
قسم كونت األسباب المؤثرة في التطور االجتماعي إلى أساسية وثانوية ،ومن األسباب األساسية والحاسمة
هو التطور الروحي والذهني ،أما المناخ والعرق والعمر ومتوسط حياة الناس ونمو السكان ،فهي عوامل
ثانوية .وقسم أنواع التقدم إلى تقدم مادي (تطور شروط الحياة الخارجية) وطبيعي (استكمال الطبيعة البشرية)
وفكري (تطور الفكر واالنتقال من النظرة الدينية للعالم إلى النظرة الوضعية) وأخالقي (تطور الجماعة
والمشاعر األخالقية) ،واعتبر التطورين األخيرين األكثر أهمية في عملية التقدم؛ لذلك فالتطور االجتماعي
يستند بشكل كبير على تاريخ الروح البشرية.
إن من أهم مؤشرات تطور العقل البشري طبيعة النظم الفلسفية التي تصاحبه ،ولكل مرحلة في تطور العقل
البشري (الالهوتية والميتافيزيقية والوضعية) هناك أشكال متوافقة معها من الفن واالقتصاد والسياسة
والتنظيم االجتماعي ،فالمراحل الثالثة في تطور العقل يقابلها ثالثة مراحل مماثلة في التطور التاريخي.
لقد قسم كونت المرحلة الالهوتية التي تضمنت العصور القديمة والوسطى إلى حدود عام ،1300إلى ثالث
فترات ،وهي :الوثنية ،حيث عزا الناس الحياة لألشياء الخارجية واعتبروها آلهة لهم .والشركية التي كانت
82ـ ليفي بريل ،فلسفة أوجست كونت ،مرجع سابق ،ص 243إلى .253
منتشرة في اليو نان وروما حيث قامت "الكائنات الخيالية" بتفسير كل الظواهر ،وأنشئت في هذه المرحلة
"نظرة شعرية للعالم" شجعت تطور اإلبداع الفني ولكنها لم تكن قادرة على توجيه الممارسة ،وكان هذا
سبب ضعف تطور الثقافة المادية في العصور القديمة .ومرحلة التوحيد ،وهو العصر المسيحي ،حيث غير
دين اإلله الواحد صورة العالم والعالقات السياسية واالجتماعية واألخالق والعادات ،وحصل انسجام كبير
وغير معتاد بين دولة القرون الوسطى والدين.
لقد امتدت المرحلة الميتافيزيقية خالل الفترة المتراوحة بين 1300و ،1300ومن أهم ما ميز هذه المرحلة
اإلخالل بالمع تقدات القديمة وأسس النظام االجتماعي ،وكان اإلصالح وفلسفة التنوير والثورات من أهم
أحداث هذه المرحلة ،فقد قاد النقد السلبي إلى تراجع كل سلطة ،وقوة الطبقات الحاكمة والدين ،ولكن لم تنشئ
الثورة مذهبا يمكنه توحيد العقول بالرغم من تحريرها لألفراد ،فالجهل بالتاريخ وقوانينه قد أغرق المجتمع
في حالة مرضية ،وهذا ما جعل المجتمع المعاصر في حاجة إلى مذهب جديد يحل محل المذهب الخيالي
الوهمي.
إن انتشار العلوم ونمو أهميتها االجتماعية ونشوء النظرية الوضعية تدريجيا كان دليال على أن المجتمع
يدخل مرحلته الوضعية األخيرة ،وقد بدأ النظام الصناعي يحل محل النظام العسكري المميز للعصر
الالهوتي ،واستخدام االكتشافات العلمية لصالح اإلنسانية جمعاء سيضمن تطورا متجانسا ومتساويا لكل
عناصر الحياة ،وبذلك ستنتصر الغيرية على األنانية ،والمشاعر االجتماعية والثقافة المادية ما يضمن حياة
83
سهلة وعدال للجميع ،وهذا ما يميز المرحلة الوضعية.
إن موضوع علم االجتماع هو األشد تعقيدا مقارنه مع موضوعات العلوم األخرى ،وكلما زادت الظواهر
تعقيدا كثرت األساليب المنهجية التي نستعين بها على دراستها ،وعلم االجتماع ،باعتباره علما نهائيا ،يستخدم
المناهج المستعملة في العلوم السابقة والمناهج الخاصة به؛ لذلك فهو وحده الذي يستخدم المنهج الوضعي
في أكمل صوره 84.وقد وجد في العلوم السابقة ،باستثناء الرياضيات التي يأخذ منها عالم االجتماع الفكرة
الوضعية فقط ،ثالثة مناهج ،وهي :المالحظة والتجربة والمقارنة ،وسينشأ مع علم االجتماع المنهج
التاريخي ،فكانت المناهج المستخدمة في علم االجتماع أربعة.
ـ المالحظة
المراد بالمالحظة مراقبة الظاهرة المدروسة مراقبة علمية .ومن مقتضيات مالحظة الظواهر االجتماعية أن
يضع المرء نفسه خارج الشيء الذي يالحظه ،فالظواهر يجب أن تبدو موضوعية ومنفصلة عنا ومستقلة
عن حاالت شعورنا الفردية ،ولضمان هذه الشروط وجب تدخل العقل إلعداد ما يراد مالحظته ،أي أن
85
المالحظة يجب أن تكون مزودة بنظرية سابقة.
ـ التجربة
83ـ ايلينا فالديمير وفونا أوسيبوفا ،أوجست كونت ومنشأ السوسيولوجيا الوضعية ،مرجع سابق ،ص 19ـ .20
84ـ ليفي بريل ،فلسفة أوجست كونت ،مرجع سابق ،ص .233
85ـ المرجع السابق ،ص.234
المراد بالتجربة مجموع اإلجراءات التي تهدف إلى التحقق أو تكذيب الفروض العلمية ،لكن التجربة بهذا
المعنى تظل غير ذات أهمية في علن االجتماع ما لم تكن مسبوقة بنظرية في الموضع ،أي بمعرفة قوانين
تطور العقل والمجتمع.
ـ المقارنة
إن المنهج المقارن كما هو مفيد لعالم الحياة فهو مفيد لعالم االجتماع ،فهو يماثل بين االحاالت المختلفة
للمجتمع اإلنساني ،تلك الحاالت التي توجد في آن واحد في مختلف أجزاء الكرة األرضية ،ويماثل أيضا بين
86
شعوب منفصل بعضها عن بعض.
ـ المنهج التاريخي
تعد الطريقة التاريخية ،وهي طريقة ذات صبغة اجتماعية خالصة ،أسمى مراتب األساليب العلمية في علم
االجتماع ،وبها يكتمل المنهج الوضعي .وإذا كان علم االجتماع علما مجردا ،فإن التاريخ هو وسيلته األساسية
في البحث ،والهدف من المنهج التاريخي ليس سرد األحداث أو التحقق منها ،ولكن الكشف عن القوانين التي
87
تسيطر على النمو االجتماعي للنوع اإلنساني.
خاتمة المحور
ـ لقد كان ذا طابع موسوعي؛ إذ كان يهتم بالحياة االجتماعية لإلنسان في مجموعها وبالتاريخ بأكمله.
ـ ويتميز بالخاصية التطورية ،فقد كان علم االجتماع تحت تأثير فلسفة التاريخ تطوريا ،فكان يسعى
إلى تحديد المراحل الرئيسية للتطور االجتماعي.
ـ ويتميز بالخاصية الوضعية؛ إذ كان الناس يعتبرونه علما وضعيا له نفس طابع العلوم الطبيعية ،فقد
كانت العلوم االجتماعية تفهم بصفة عامة إبان القرن الثامن عشر على أنموذج الفيزياء ،أما علم االجتماع،
88
فقد فهم في القرن التاسع عشر على أنموذج علم الحياة.