You are on page 1of 28

‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي واالبتكار‬

‫جامعة عبد المالك السعدي‬


‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بتطوان‬
‫مسلك علم االجتماع‬
‫الفصل األول‬
‫وحدة أسس علم االجتماع‬
‫الموسم الجامعي‪( 2023/2022 :‬الدورة الخريفية)‬
‫األستاذ‪ :‬محمد انفيفخ‬
‫المحور األول‪ :‬أصول التفكير السوسيولوجي أو المرحلة ما قبل العلمية‬
‫‪1‬ـ العصور القديمة‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫إن الرغبة في اكتشاف المبادئ التي تحكم تنظيم الحياة داخل المجتمع هي رغبة قديمة‪ ،‬فقد كون اإلنسان‬
‫على الدوام تصورا معينا لطبيعة المجتمع وطبيعة تنظيمه‪ .‬لكن مؤرخي علم االجتماع‪ ،‬وبشكل خاص من‬
‫المنظور الغربي‪ ،‬عادة ما يرجعون الصورة المكتملة لهذه الرغبة ولهذا التصور‪ ،‬الذي يمكن اعتباره أصال‬
‫لعلم االجتماع الحديث‪ ،‬إلى لحظة معينة من التاريخ الغربي‪ ،‬أال وهي اللحظة اليونانية وبشكل خاص مرحلة‬
‫نشأة المذاهب الفلسفية الكبرى‪.‬‬

‫التصور األول‪ :‬التفكير االجتماعي مرتبط بظهور اإلنسان‬

‫يعد هذا التصور شاذا في تاريخ علم االجتماع؛ لذلك من الصعب العثور عليه في األعمال المؤرخة لعلم‬
‫االجتماع‪ .‬وممن يتبنون هذا العمل عالم االجتماع اإلنجليزي توم بوتومور‪ ،‬يقول بوتومور‪« :‬يمكن أن نجد‬
‫في كتابات الفال سفة والمفكرين الدينيين والمشرعين في جميع الحضارات وعلى مدى جميع العصور‬
‫بعض المالحظات واألفكار التي تتصل بعلم االجتماع الحديث‪ ،‬ففي الكتب الهندية القديمة أو الكتابات‬
‫الفلسفية اإلغريقية (مثل كتاب السياسة ألرسطو) تحلل األنساق السياسية على نحو الزالت له أهميته بالنسبة‬
‫‪1.‬‬
‫لعالم االجتماع »‬

‫يستفاد من هذا التصور ما يلي‪:‬‬

‫ـ إن التفكير في المجتمع من حيث طبيعته وما ينبغي أن يكون عليه ومآالته هي أمور لصيقة بجميع‬
‫المجتمعات مهما كانت طبيعتها عبر التاريخ‪ ،‬فالفلسفات القديمة شرقية كانت أو غربية والديانات بكل‬
‫أنواعها والمشرعين لكل المجتمعات لهم تصور معين للمجتمع‪.‬‬

‫ـ إن الحديث هنا عن مثالي الهند واليونان ال يعني اقتصار هذا النوع من التفكير عليهما‪ ،‬وسبب التمثيل‬
‫بهما يعود للتصور الشائع في تاريخ علم االجتماع (مثال أرسطو) ولمن يخاطبهم بوتومور بشكل مباشر‬
‫في عمله هذا وهو المجتمع الهندي؛ ألن سبب تأليف بوتومور لعمله يعود إلى طلب اليونسكو "إلعداد كتاب‬
‫مدخل في علم االجتماع يمكن أن يقدم مفاهيم ونظريات ومناهج علم االجتماع بالتطبيق على ثقافة المجتمع‬
‫الهندي ونظمه االجتماعية‪ ،‬وكان الرأي أن مثل هذا الكتاب يمكن أن يكون مدخال للموضوع للطلبة‬
‫‪2‬‬
‫الجامعيين الهنود أفيد من كتب المدخل الموجودة‪ ،‬التي تدور أساسا حول المجتمعات الغربية"‪.‬‬

‫التصور الثاني‪ :‬المجتمع اليوناني القديم باعتباره أصال للتفكير المنظم في قضايا المجتمع‬

‫إن هذا التصور هو الغالب فيما يتعلق بأصل الفلسفة أو العلوم كلها‪ ،‬أو باختصار أصل التفكير المنظم في‬
‫الطبيعة والمجتمع‪ ،‬فقد تم اعتبار التنظيم االجتماعي للمجتمعات القديمة وخاصة الشرقية منها قائما على‬

‫‪ 1‬ـ بوتومور توم ‪ .1978 .‬تمهيد في علم االجتماع‪ ،‬ترجمة محمد الجوهري وآخرين‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬ط‪ ،3‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫‪ 2‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫مبادئ دينية‪ ،‬كما يعد كذلك امتدادا للعالم العلوي؛ لذلك فهي مجتمعات متميزة بالثبات ما يجعل التفكير أمرا‬
‫ممتنعا‪.‬‬

‫ومن أمثلة هذا التصور ما نجده عند مؤرخ علم االجتماع الفرنسي غاستون بوتول في كتابه تاريخ علم‬
‫االجتماع‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬

‫«إن التقدم الملحوظ الذي كملت صورته في التفكير في دراسة الظواهر االجتماعية يظهر بوضوح في‬
‫مراحل أزمة من األزمات عندما تتعدى الحوادث واالضطرابات "األطر" االجتماعية التي تعودها الناس‬
‫والحلول التقليدية التي درجوا عليها‪.‬‬

‫وفي أي دولة نظمها ثابتة وهيكلها االجتماعي موحد وثابت يظل تفكير اإلنسان راكدا بدون أي إثارة‪ .‬أما‬
‫الحوادث غير المرتقبة‪ ،‬فتفرض مجهودا من التأمل والتفكير والتكيف من جانب المثقفين‪.‬‬

‫وعلم االجتماع هو العلم الوحيد الذي تابع منذ مولده دراسة الظواهر التي في طريقها إلى التغيير المستمر‪،‬‬
‫وكل مرحلة من مراحل هذا العلم مرتبطة تمام االرتباط بظاهرة من ظواهر عدم االستقرار االجتماعي‪.‬‬

‫ولكن ال يكفي أن تنشب أزمة لتثير تلقائيا تطورا أو تقدما ما‪ ،‬وشرط التفكير االجتماعي وجود نخبة مثقفة‬
‫أو "وسط ثقافي" يحاول أن يحلل وأن يتعمق العناصر المباشرة للتجربة‪ ،‬وأكثر من ذلك عليه أن يصنفها‬
‫بشيء من الحرية دون أن يكون خاضعا التجاه واحد مفروض عليه‪.‬‬

‫وقد وجدت هذه الشروط مجتمعة للمرة األولى في بالد اإلغريق التي ازدهرت فيها كبريات المدارس‬
‫الفلسفية مثل مدرسة أفالطون وأرسطو أثناء المرحلة المضطربة التي كان مركزها الحرب البيلوبونيسية‬
‫‪3‬‬
‫»‬

‫يستفاد من هذا التصور ما يلي‪:‬‬

‫ـ إن قيام تفكير منظم حول المجتمع يقتضي شرطين اثنين أساسيين‪ ،‬وهما‪ :‬أوال‪ :‬حدوث أزمات اجتماعية‬
‫تجعل النظم المعرفية السابقة غير مؤهلة لمعالجتها‪ ،‬وهذا أمر عام في تاريخ علم االجتماع من المراحل‬
‫الممهدة إلى مراحل التأسيس فالتطور‪ .‬وثانيا‪ :‬وجود فئة مثقفة في بيئة متميزة بالحرية في مجال التفكير‪.‬‬

‫ـ إن الشرطين السابقين لم يوجدا معا عبر تاريخ البشرية إال في المجتمع اليوناني في مرحلة التأسيس‬
‫للمذاهب الفلسفية الكبرى‪ ،‬حيث سادت االضطرابات السياسية والحروب الطويلة من ناحية‪ ،‬وبدأت النظم‬
‫الديمقراطية في النشأة من ناحية أخرى‪.‬‬

‫ـ إن المجتمعات السابقة على هذه المرحلة أو الموجودة بأماكن أخرى في هذه المرحلة لم تكن مؤهلة للنظر‬
‫العقلي في قضايا المجتمع‪ ،‬إما لسكونها وثبات أنظمتها االجتماعية أو لوجود شكل أو أكثر من أشكال‬
‫االستبداد السياسي والثقافي واالجتماعي‪.‬‬

‫ـ إن العودة إلى اليونان هي عودة إلى أسماء محددة‪ ،‬ومن أهمها على اإلطالق أفالطون وأرسطو‪.‬‬

‫أ ـ أفالطون‬

‫‪ 3‬ـ بوتول‪ ،‬غاستون‪ ،‬تاريخ علم االجتماع‪ ،‬ترجمة غنيم عبدون‪ ،‬منشورات الدار القومية للطباعة والنشر‪ ،‬دون تاريخ‪ ،‬ص ‪.5‬‬
‫إن أفالطون من أهم المفكرين الذين يعدون منطلقا للتفكير المنظم‪ ،‬لكنه غير علمي‪ ،‬حول المجتمع‪ .‬وبالرغم‬
‫من صعوبة استخراج تصور أفالطون للمجتمع نظرا لصعوبة طريقة عرضه ألفكاره‪ ،‬فيمكن الحديث عن‬
‫بعض تلك العناصر من خالل الكتاب الثاني من الجمهورية المتعلق بتحديد ماهية العدل‪ ،‬حيث يؤكد أفالطون‬
‫أن "العدل فضيلة للفرد وللدولة‪ ...‬وأن الدولة أوسع من الفرد‪ ...‬ويكون العدل في األوسع أكثر غزارة‬
‫ومكتشفا بسهولة أكثر؛ لذلك فإننا سنبحث عن طبيعة العدل والظلم كما يظهران في الدولة أوال وفي الفرد‬
‫ثانيا‪ ،‬متقدمين من األكبر إلى األصغر‪ ...‬وإذا تخيلنا الدولة في بداية تكوينها سنرى العدل والظلم في عملية‬
‫‪4‬‬
‫نشوئها أيضا‪ ...‬وعندما تكتمل الدولة فمن الممكن إيجاد أمل بأن هدف بحثنا سيكتشف بسهولة أكبر"‪.‬‬

‫إن معنى العدل إذن يتجلى في الكل (الدولة) بشكل أسبق وأوضح وأيسر منه في الجزء(الفرد)‪ ،‬وهذه الفكرة‬
‫هي إحدى مسلمات بعض النظريات السوسيولوجية لعلم االجتماع منذ تأسيه نهاية القرن التاسع عشر إلى‬
‫اآلن‪ ،‬وهي نظريات المذهب الكلي في علم االجتماع‪.‬‬

‫وقد عمل أفالطون كذلك على البحث عن أصل الدولة مؤكدا أنها " تنبثق من حاجات الجنس البشري؛ (إذ)‬
‫ال أحد يمكنه البقاء بنفسه‪ ،‬بل كلنا لديه عدة متطلبات‪ ...‬وبما أننا نمتلك عدة احتياجات إذن فسنحتاج‬
‫ألشخاص عديدين إلمدادنا بها‪ ،‬يؤخذ واحد باعتباره مساعدا لغرض ما وآخر لغرض آخر‪ ،‬وعندما يجمع‬
‫هؤالء الشركاء والمساعدون في مسكن موحد معا سندعو هذا الجسم المأهول دولة‪ ...‬فالمنشئ الحقيقي‬
‫‪5‬‬
‫للدولة هو الضرورة"‪.‬‬

‫إن المجتمع البشري إذن ناتج عن الضرورة والطبيعة‪ ،‬فحفظ الحياة المتوقف على الغذاء والمسكن والملبس‬
‫يقتضي ـ حسب أفالطون ـ ضرورة تأسيس دولة؛ ألنه ال أحد من الناس يستطيع تأمين كل ما يحتاجه لتأمين‬
‫بقائه إال بمساعدة غيره فكان تأسيس الدولة راجعا إلى الضرورة‪.‬‬

‫يؤكد أفالطون أن الواجب يقتضي " أن نستنتج أن كل األشياء تنتج بوفرة وسهولة أكثر وبنوعية أفضل‬
‫عندما يعمل الرجل الواحد شيئا واحدا‪ ،‬وهو الشيء الطبيعي له"‪ 6،‬والعدل تبعا لذلك أن ينصرف كل شخص‬
‫إلى العمل الذي تسمح له به طبيعته الخاصة وأال يتدخل في شؤون غيره‪ .‬إن أفالطون إذن هو "أول من‬
‫أبان أن ليس لالجتماع المدني قاعدة متينة سوى العدل‪ ،‬وأن أي دولة ال تعرف أن تقوم عليه هي دولة‬
‫فاسدة"‪ .‬إال أن الدولة التي التجأ إليها أفالطون ليست دولة واقعية بل دولة مثالية؛ ألنه ال توجد دولة تجسد‬
‫ذلك بتمامه‪.‬‬

‫ب ـ أرسطو‬

‫إذا كان أفالطون يتحدث عن الدولة العقلية‪ ،‬فإن أرسطو‪ ،‬على خالف ذلك‪ ،‬قد عمد إلى تحليل الدولة والدول‬
‫التي كانت قائمة بالفعل‪ ،‬واعتمد االستقراء والمقارنة منهجا له‪ ،‬حيث قام في كتابه "السياسة" بتحليل ومقارنة‬
‫أكثر من مائة وخمسين دستورا‪ ،‬كما اعتمد على التاريخ في حديثه عن التغيرات التي تصيب الدول أو‬
‫المجتمعات وعملت على إصالحها أو فسادها وانهيارها‪ ،‬فهناك إذن انتقال من التحليل إلى االستقراء‪ ،‬ومن‬
‫المثال إلى الواقع‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ أفالطون‪ ،1994 ،‬المحاورات الكاملة‪ ،‬المجلد األول (الجمهورية) ‪ ،‬ترجمه عن اإلنجليزية شوقي تمراز‪ ،‬بيروت‪ ،‬األهلية للنشر والتوزيع‪ ،‬ص‬
‫‪101‬ـ‪.102‬‬
‫‪ 5‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.103‬‬
‫‪ 6‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫يؤكد أرسطو أن الطبيعة هي قاعدة االجتماع البشري؛ لذلك كانت "الدولة من عمل الطبع‪ ،‬وأن اإلنسان‬
‫بالطبع كائن اجتماعي‪ ،‬وأن هذا الذي يبقى متوحشا هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع‬
‫‪8‬‬
‫اإلنساني"‪ 7،‬أي أنه "بهيمة أو إله"‪.‬‬

‫وعن كيفية نشأة الدولة ينطلق أرسطو أنه في "البداية من الضروري اجتماع كائنين ال غنى ألحدهما عن‬
‫اآلخر‪ ،‬أريد أن أقول اجتماع الجنسين للتناسل‪ ،‬ليس في هذا شيء من التحكم‪ ،‬ففي اإلنسان كما في الحيوانات‬
‫األخرى وفي النباتات نزعة طبيعية إلى أن يخلف بعده موجودا على صورته"‪ 9،‬وبناء على ذلك ف "الزوج‬
‫والزوجة هما قاعدة العائلة"‪ 10،‬ثم "إن االجتماع األول لعدة عائالت ‪ ...‬إنما هو القرية" و "اجتماع عدة‬
‫قرى يؤلف دولة تامة يمكن أن يقال عليها أنها بلغت حد كفاية نفسها على اإلطالق بعد أن تولدت من‬
‫‪11‬‬
‫حاجات الحياة واستمدت بقاءها من قدرتها على قضاء تلك الحاجات كلها"‪.‬‬

‫إن هذا التصور لتأسيس الدولة يعني أن "الدولة هي بالطبع فوق العائلة وفوق كل فرد؛ ألن الكل هو‬
‫بالضرورة فوق الجزء ما دام أنه متى فسد الكل فليس بعد من جزء‪ ،‬ال أرجل وال أيدي إال أن يكون على‬
‫سبيل المجاز؛ ألن اليد متى فصلت عن الجسم ال تبقى يدا على الحقيقة‪ ،‬وأن األشياء لتعرف على العموم‬
‫‪12‬‬
‫بآثارها"‪.‬‬

‫يستفاد مما سبق أن العصور القديمة قد جعلت من المجتمع موضوعا للتفكير‪ ،‬لكن الطبيعة الحقيقية لهذا‬
‫التفكير قد ظل مجهوال ألسباب متعددة منها غياب التقاليد الكتابية في تلك المجتمعات‪ ،‬لكن ما نقل عن‬
‫مجتمعات الشرق كالمجتمع الصيني القديم يفيد أن هذا التفكير كان متميزا بما يلي‪:‬‬

‫ـ إنه تفكير غير منظم‪ ،‬وغير مقصود‪ ،‬وإنما كان نابعا من تأثير الظروف االجتماعية والحكمة السائدة؛‬
‫لذلك كان معبرا عن الفرد أكثر من تعبيره عن المجتمع‪ ،‬حيث يعكس التجربة الشخصية أو مشاعر الفئة‬
‫االجتماعية التي ينتمي لها الفرد المعبر‪.‬‬

‫ـ إن التفكير في المجتمع لم يكن لمقاصد معرفية‪ ،‬بل ألهداف نفعية عاجلة‪ ،‬وهذا ما جعل التفكير في المجتمع‬
‫قائما على النصائح العملية‪ ،‬مستندا إلى األسلوب الخطابي المملوء بالمشاعر والعواطف‪.‬‬

‫ـ إن التفكير االجتماعي لهذه المجتمعات كان تفكيرا محافظا‪ ،‬يتميز بغياب الوعي بالتغير والتطور‪ ،‬كما أن‬
‫التفسير االجتماعي كان يقوم على مبادئ خارجة عن القوى البشرية‪ ،‬فهناك علة واحدة مفسرة لكل شيء‬
‫وهي القوى الخارقة‪13.‬ما يعني أن المجتمعات الشرقية القديمة "ال يقوم التنظيم االجتماعي فيها على مبادئ‬
‫‪14‬‬
‫دينية فقط‪ ،‬بل إنه يعتبر كذلك امتدادا مباشرا للعالم العلوي"‪.‬‬

‫ـ إن االنتقال من المجتمعات السابقة إلى المجتمع اليوناني ينظر إليه باعتباره انتقاال من التقاليد الشفهية إلى‬
‫التقاليد القائمة على الكتابة‪ ،‬فأعمال أفالطون وكذا أرسطو كلها مدونة في الكتب‪ ،‬كما أن هناك نزوعا نحو‬
‫التنظيم‪ ،‬والقصد في الكتابة عن الموضوع لذاته‪ ،‬وأن اإلحساس بالمجتمع والتعبير عنه قد أصبحا أكثر‬

‫‪ 7‬ـ أرسطو‪ ،‬السياسة‪ ،‬نقله عن الفرنسية إلى العربية أحمد لطفي‪ ،‬الدار القومية للطباعة والنشر‪( ،‬دون تاريخ)‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ 8‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫‪ 9‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪ 10‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪ 11‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪ 12‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫‪ 13‬ـ محمد عاطف غيث‪ ،‬دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم االجتماع‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،1975 ،‬ص ‪3‬ـ‪.4‬‬
‫‪ 14‬ـ غاستون بوتول‪ ،‬تاريخ علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫وضوحا‪ ،‬وأن مهمة التفكير متجه بشكل كبير نحو الفهم والتنظير أكثر من العمل؛ لذلك يغلب الطابع العقلي‬
‫على الخطاب والتفسير‪ ،‬وأصبح العقل البشري مرجعا بدل القوى الخارجة عن المجتمع‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ التفكير االجتماعي بعد اليونان‬

‫أ ـ الفكر االجتماعي الروماني ثم المسيحي‬

‫لقد دخل التفكير االجتماعي بعد فالسفة اليونان مرحلة سبات عميق‪ ،‬فالرومان لم ينظر إليهم باعتبارهم‬
‫أصحاب نظريات فلسفية أو علمية‪ ،‬ولكنهم أصحاب إدارة وقانون بسبب اتساع امبراطوريتهم‪ ،‬لذلك كان‬
‫تفكيرهم عمليا‪ ،‬فنشأ عن ذلك ظهور بعض الرواد في علم األخالق مثل شيشرن‪ .‬ومع ظهور المسيحية‬
‫سيصبح التنظيم المجتمعي قائما على الدين‪ ،‬وتطفو بعض المفاهيم الجديدة كالمساواة أمام هللا ما يتنافى مع‬
‫أنظمة الطبقات التي كانت سائدة بالمجتمعات القديمة منها المجتمع اليوناني الذي اتخذه كل من أفالطون‬
‫وأرسطو موضوعا لهما في أعمالهما المشار إليها سابقا‪ ،‬ومن أهم األعمال في هذه المرحلة عمل سان‬
‫أوغستان المسمى "مدينة هللا"‪ ،‬المؤلف من اثنين وعشرين كتابا‪ ،‬وقد كتبه بعد اجتياح روما سنة ‪،410‬‬
‫وقد عزا الوثنيون الرومان هذه الكارثة الشاملة إلى المسيحيين‪ ،‬ويعتبرون أزمنة الويل والدمار "أزمنة‬
‫مسيحية"‪ ،‬أي تلك التي غيب فيها دور آلهتها بعد أن حرم اإلمبراطور تيودوسيوس سنة ‪ 391‬عبادة آلهة‬
‫الرومان‪ ،‬ولو أنها بقيت تحت رعاية آلهتها لما وقعت الكارثة‪ .‬وقد عمل أوغستان على دحض ذلك وبين‬
‫أن للمسيحية الفضل األكبر في الحفاظ على السكان مسيحيين ووثنيين‪ ،‬وأن الفضل في تجاوز الرومان لكل‬
‫‪15‬‬
‫األزمات يعود للمسيحية‪.‬‬

‫يقابل أوغستان بين "مدينة هللا المجيدة" و"مدينة األرض"‪ ،‬أي بين المتواضعين الذين يستحقون مغفرة هللا‬
‫وبين المتكبرين الذين يستحقون تحطيمه‪ ،‬كما جاء في التشريع اإللهي السامي‪" :‬يقاوم هللا المتكبرين ويهب‬
‫للمتواضعين نعمته" وأن هللا "يغفر للمنسحقين ويحطم المتكبرين"‪ ،‬ففي مدينة األرض يوجد األعداء الذين‬
‫‪16‬‬
‫يجب أن نحمي مدينة هللا منهم‪.‬‬

‫إن تصور أوغستان قد عد تفكيرا دينيا أكثر منه تفكيرا اجتماعيا‪ ،‬لذلك فلم يأت بجديد فيما يتعلق بتاريخ‬
‫علم االجتماع‪ ،‬وهذا ما جعل بعض مؤرخي النظرية االجتماعية يهملون هذه المرحلة‪ ،‬ويعدونها مرحلة‬
‫فراغ‪ ،‬وفي هذا السياق يؤكد كلود جيرو أن " القرون الوسطى بالغرب‪ ،‬فبالرغم من الفلسفة السكوالئية‪ ،‬و‬
‫اجترار التعليقات الالمتناهية عن الفكر األرسطي في احترام تام لمبادئ الفلسفة الكاثوليكية‪ ،‬فإنها كانت‬
‫أرضا قاحلة بين اليونان القديمة و عصر األنوار"‪17،‬وعن هاتين المرحلتين الفلسفيتين فقط انبثقت‬
‫‪18‬‬
‫السوسيولوجيا و هما مرجعها أو أصلها‪.‬‬

‫ب ـ الفكر االجتماعي العربي اإلسالمي‬

‫إن انحسار التفكير االجتماعي في الغرب سيوازيه انبعاث جديد بالشرق مع ظهور وانتشار الحضارة‬
‫اإلسالمية التي عمت الجزء األكبر من العالم القديم‪ ،‬وقد كتب عن المجتمع في قضاياه المتعددة الشيء‬
‫الكثير من قبل فئات متعددة‪ ،‬من أهمها الفقهاء والفالسفة والمؤرخون‪ ،‬لكن التيارات العربية المهتمة بالتفكير‬

‫‪ 15‬ـ يوحنا الحلو‪ ،‬مقدمة الكتاب األول من كتاب مدينة هللا‪ ،‬ص ‪7‬ـ ‪.8‬‬
‫‪ 16‬ـ سان أوغستان‪ ،‬مدينة هللا‪ ،‬المجلد األ ول‪ ،‬نقله للعربية يوحنا الحلو‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،2000 ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪17‬‬
‫‪- Claude Giraud. 2004. Histoire de la Sociologie, collection Que sais-je ? 3e éd. PUF, Paris, p :19.‬‬
‫‪18‬‬
‫‪- Ibid, p :13‬‬
‫االجتماعي في العالم اإلسالمي الوسيط رجحت نوعا خاصا من التفكير االجتماعي على غيره‪ ،‬وهو التفكير‬
‫الفلسفي ومنه التفكير التاريخي‪ ،‬من الكندي إلى الفارابي وابن سينا شرقا‪ ،‬وابن باجة وابن طفيل وابن رشد‬
‫ثم ابن خ لدون غربا‪ ،‬اعتمادا على التقليد األوروبي في الكتابة عن تاريخ التفكير االجتماعي المستند إلى‬
‫الفكر الفلسفي اليوناني‪ ،‬فبحث الكتاب العرب عما هو امتداد لليونان في الحضارة العربية اإلسالمية‪ ،‬أو‬
‫بحثوا عن أفالطون وأرسطو في األعمال العربية اإلسالمية‪ ،‬وأهملوا في مقابل ذلك أعماال ضخمة عن‬
‫المجتمع اإلسالمي في المصادر األخرى التي تعد فكيرا أصيال عن المجتمعات العربية اإلسالمية‪.‬‬

‫إن أهم شخص في تاريخ الفكر االجتماعي العربي اإلسالمي‪ ،‬بالمعنى السابق‪ ،‬هو عبد الرحمان بن خلدون‪،‬‬
‫وهو الشخص األكثر حضورا في التفكير االجتماعي للقرون الوسطى‪.‬‬

‫لقد عاش ابن خلدون (‪732‬ه ـ ‪1332‬م‪808/‬ه ـ ‪1406‬م) في أصعب مراحل التاريخ اإلسالمي؛ حيث عاصر‬
‫انهيار الدولة اإلسالمية باألندلس‪ ،‬ودخول التتار إلى مناطق واسعة بالشرق‪ ،‬وحدوث اضطرابات واسعة‬
‫بشمال إفريقيا‪ ،‬وقد كان لهذه األحداث دور في كتابته لمقدمة كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام‬
‫العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر"‪ ،‬وهي المعروفة ب "المقدمة"‪.‬‬

‫إن المتأمل في مقدمة ابن خلدون ال يجد فقط تفكيرا منظما في قضايا المجتمع‪ ،‬بل يجد وعيا بالتأسيس لطريقة‬
‫جديدة في تناول القضايا المجتمعية‪ ،‬فابن خلدون قد تحدث في مقدمته عن تأسيس علم جديد سماه "علم‬
‫العمران"‪ ،‬وجعل موضوعه العام التاريخ‪ ،‬واعتمد البرهان منهجا لهذا العلم الجديد‪.‬‬

‫يقول ابن خلدون‪" :‬اعلم أن الكالم في هذا الغرض مستحدث الصنعة‪ ،‬غريب النزعة‪ ،‬عزيز الفائدة‪ ،‬أعثر‬
‫عليه البحث‪ ،‬وأدى إليه الغوص‪ ،‬وليس هو علم الخطابة‪ ،‬إنما هو األقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور‬
‫إلى رأي أو صدهم عنه‪ ،‬وال هو من علم السياسة المدنية؛ إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما‬
‫يجب بمقتضى األخالق والحكمة‪ ...‬فقد خالف موضوعه موضوع هذين الفنين اللذين ربما يشبهانه‪ ،‬وكأنه‬
‫‪19‬‬
‫علم مستنبط النشأة‪ ،‬ولعمري لم أقف على كالم في منحاه ألحد من الخليقة"‪.‬‬

‫لقد عرف ابن خلدون التاريخ بمعنييه العام والخاص‪ ،‬فهو بمعناه العام ذو ظاهر وباطن‪ ،‬ففي "ظاهره ال‬
‫يزيد على أخبار عن األيام والدول والسوابق من القرون األول‪ ،‬تنمو فيه األقوال‪ ،‬وتضرب فيه األمثال‪،‬‬
‫وتطرف به األندية إذا غصها االحتفال‪ ،‬وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها األحوال واتسع للدول النطاق‬
‫فيها والمجال‪ ...‬وفي باطنه نظر وتحقيق‪ ،‬وتعليل للكائنات ومباديها دقيق‪ ،‬وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها‬
‫عميق"‪20.‬فالتاريخ بمعناه العام مع ابن خلدون قد ارتفع من مجرد الحكي والسرد المتعلق باألحداث الماضية‬
‫دون تنقيح أو نقد إلى مرتبة العلم‪ ،‬حيث يتم التدقيق في صحة الخبر اعتمادا على قوانين النقل والعقل‪ ،‬ثم‬
‫البحث عن علل األحداث وأسبابها‪ ،‬أو بالتعبير المعاصر البحث عن القوانين الكامنة وراءها‪.‬‬

‫أما التاريخ بمعناه الخاص‪ ،‬فهو "خبر عن االجتماع اإلنساني الذي هو عمران العالم‪ ،‬وما يعرض لطبيعة‬
‫ذلك العمران من األحوال‪ ،‬مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض‪،‬‬
‫وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها‪ ،‬وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش‬
‫والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من األحوال"‪ 21.‬والتاريخ بهذا المعنى هو‬

‫‪ 19‬ـ عبد الرحمان بن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬دار يعرب‪ ،‬دمشق‪ ،2004 ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪ 20‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ 21‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫موضوع علم العمران‪ ،‬وهذا الموضوع يتسم بالعموم؛ إذ المجتمع اإلنساني والعمران البشري كله من الفرد‬
‫إلى المجتمع فالدولة‪ ،‬ومن النشأة إلى التطور فاالنحطاط‪ .‬ويعرف ابن خلدون العمران بكونه "التساكن‬
‫‪22‬‬
‫والتنازل في مصر أو حلة لألنس بالعشير‪ ،‬واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش"‪.‬‬
‫وهذا هو معنى االجتماع والمدنية‪.‬‬

‫إن أصل االجتماع اإلنساني أو العمران يعود إلى طبيعة اإلنسان‪ ،‬وبيان ذلك "أن هللا سبحانه خلق اإلنسان‬
‫وركبه على صورة ال يصح حياتها وبقاؤها إال بالغذاء‪ ،‬وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة‬
‫على تحصيله‪ ،‬إال أن قدرة الواحد من البشر قاصرة على تحصيل حاجته من ذلك الغذاء ولو فرضنا منه أقل‬
‫ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثال فال يحصل إال بعالج كثير من الطحن والعجن والطبخ‪ ،‬وكل‬
‫من هذه األعمال الثالثة إلى مواعين وآالت ال تتم إال بصناعات متعددة‪ ...‬ويستحيل أن تفي بذلك كله أو‬
‫بعضه قدرة الواحد‪ ،‬فالبد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم‪...‬‬

‫وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى االستعانة بأبناء جنسه؛ ألن هللا سبحانه لما ركب‬
‫الطباع في الحيوانات كلها‪ ،‬وقسم القدر بينها‪ ،‬جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من‬
‫حظ اإلنسان‪ ،‬فقدرة الفرس مثال أعظم بكثير من قدرة اإلنسان‪ ...‬ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل‬
‫لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره‪ ،‬وجعل لإلنسان عوضا من ذلك كله‬
‫الفكر واليد‪ ،‬فاليد مهيأة للصنائع بخدمة الفكر‪ ،‬والصنائع نحصل له اآلالت التي تنوب له عن الجوارح المعدة‬
‫في سائر الحيوانات للدفاع مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة‪ ...‬وال تفي قدرة الواحد أيضا على‬
‫استعمال اآلالت المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها‪ ...‬فالبد في ذلك كله من التعاون‬
‫عليه بأبناء جنسه‪ ،‬وما لم يكن هذا التعاون فال يحصل له قوت وال غذاء‪ ...‬ولعاجله الهالك عن مدى حياته‬
‫‪23‬‬
‫ويبطل نوع البشر"‪.‬‬

‫إن الحاجة إلى الغذاء والدفاع عن النفس هما أصل االجتماع اإلنساني‪ ،‬لكن هذا االجتماع ال يتم عند ابن‬
‫خلدون إال بوجود السلطة السياسية؛ ألن الطبيعة العدوانية لإلنسان تجعل كل فرد معرضا لالعتداء عليه من‬
‫أبناء جنسه‪ ،‬ولدفع هذا العدوان نشأت الدولة‪ ،‬قال ابن خلدون‪" :‬ثم إن االجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه‪،‬‬
‫وتم عمران العالم بهم‪ ،‬فال بد من زاوع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم‪،‬‬
‫وليست آلة السالح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم؛ ألنها‬
‫موجودة لجميعهم‪ ،‬فالبد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض‪ ،‬فيكون ذلك الوازع واحدا منهم‪،‬‬
‫‪24‬‬
‫يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى ال يصل أحد إلى غيره بعدوان‪ ،‬وهذا هو معنى الملك"‪.‬‬

‫أما المنهج الذي اتبعه ابن خلدون‪ ،‬فهو البرهان‪ ،‬وهذا ما أكده بقوله‪" :‬نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر‬
‫في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية"‪ 25.‬والمراد بالبرهان‬
‫هنا كل استدالل يقيني سواء اعتمد العقل أو الحس‪ ،‬وبناء على هذا المنهج رد ابن خلدون على من زعم من‬
‫الفالسفة من كون النبوات من تتمة ضرورات االجتماع البشري؛ ألن هذه القضية غير برهانية‪ ،‬ودليل ذلك‬
‫أن "حياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم ‪...‬‬

‫‪ 22‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.132‬‬


‫‪ 23‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪137‬ـ‪.138‬‬
‫‪24‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.139‬‬
‫‪ 25‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.131‬‬
‫فأهل الكتاب والمتبعون لألنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم‪ ،‬ومع‬
‫‪26‬‬
‫ذلك فقد كانت لهم الدول واآلثار فضال عن الحياة"‪.‬‬

‫هناك اتفاق على أهمية ابن خلدون في تاريخ الفكر االجتماعي‪ ،‬وأنه يمثل أهم ما وصل إليه هذا النوع من‬
‫التفكير إلى حدود مطلع القرن الخامس عشر الميالدي‪ ،‬لكنهم اختلفوا في أهميته في التأسيس لعلم االجتماع‬
‫كما نعرفه حاليا‪ ،‬فإذا كان عالم االجتماع األمريكي سوروكين يعتبره في مرتبة أوجست كونت من حيث‬
‫التأسي لعلم االجتماع‪ 27،‬بل هناك من يعتبره متفوقا على كونت وأن األخير ال يزيد عنه إال باختراع االسم‪،‬‬
‫وإن كان اسم "العمران البشري" أكثر تعبيرا من السوسيولوجيا‪ .‬وفي مقابل ذلك يؤكد بوتول على استحالة‬
‫‪28‬‬
‫تأسيس علم االجتماع قبل الخروج من فكر القرون الوسطى‪ ،‬وهو ما لم يستطعه ابن خلدون‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الفكر االجتماعي الحديث‬


‫عصر النهضة‬

‫يراد بالنهضة األوروبية تلك الحركة الواسعة التي عملت على تجديد الحضارة األوروبية في مناحيها المتعددة‬
‫بداية من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر الميالديين‪ ،‬وعن هذه الحركة انتقلت أوروبا من القرون‬
‫الوسطى إلى العصر الحديث‪.‬‬

‫لقد عرفت أوروبا في هذه القرون تبدالت متعددة في كل مناحي الحياة‪ ،‬ومن ذلك ما يلي‪:‬‬

‫ـ انفصال عقلية المفكرين عن عقلية عامة الشعب‪ ،‬فإذا كانت عقلية المفكرين في القرون الوسطى أوروبيا‬
‫متطابقة مع عقلية عامة الشعب في المعتقدات واالتجاهات‪ ،‬فإن الحياة الفكرية قد خرجت عن اإلطار الشعبي‬
‫‪29‬‬
‫في عصر النهضة في مجاالت العلوم والفنون واآلداب باستثناء ميدان الفلسفة الذي تأخر انفصاله‪.‬‬

‫ـ انتصار اللغات المحلية على اللغة الالتينية الرسمية‪ ،‬وهي اللغات الممنوعة سابقا حيث حرم ترجمة الكتاب‬
‫المقدس لها‪ ،‬ومن أول ما كتب بهذه اللغات الكتاب المقدس‪ ،‬وبذلك تم االنتقال من احتكار الكهنة فهم النصوص‬
‫الدينية وتفسيرها إلى انتشار الكتاب المقدس بين الماليين من المؤمنين البسطاء‪ ،‬وقد كان هذا االنتصار‬
‫مقدمة لنشأة حركتين هامتين بأوروبا‪ ،‬وهما‪ :‬أولهما حركة اإلصالح الديني‪ ،‬وذلك لكونها أشركت الجماهير‬
‫في قراءة نصوص دينها وفهمها ومناقشتها‪ ،‬وثانيهما اتساع قاعدة الديموقراطية؛ ألنها أشركت الجماهير في‬
‫قراءة نصوص القانون والسياسة بعد أن كانت ال تفهم إال من قبل الصفوة‪ 30.‬وقد نتج عن هذا األمر أن‬
‫‪31‬‬
‫ضعفت المعتقدات الدينية في النفوس خالل القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر‪.‬‬

‫ـ لقد أدت هذه االنقطاعات إلى طرح المشاكل السياسية‪ ،‬حيث بدأ التفكير بشكل مختلف في طبيعة السلطة‬
‫السياسية وشرعيتها وحدودها والتسلسل االجتماعي‪ ،‬وهذا ما أدى إلى إضعاف الجامعة الدينية ألوروبا‬
‫وظهور الدولة القومية‪ ،‬وقد كان كل ذلك في ظل نشأة بعض المدن الكبرى بأوروبا‪.‬‬

‫‪ 26‬ـ المصدر السابق‪ ،‬ص ‪139‬ـ‪.140‬‬


‫‪ 27‬ـ نقال عن مقدمة "مقدمة ابن خلدون" لعبد هللا الدرويش‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪ 28‬ـ غاستون بوتول‪ ،‬تاريخ علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ 29‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ 30‬ـ لويس عوض‪ ، 1987 ،‬ثورة الفكر في عصر النهضة األوروبية‪ ،‬مركو األهرام للترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪ 31‬ـ غاستون بوتول‪ ،‬تاريخ علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫إن عصر النهضة‪ ،‬بالرغم من كونه مقدمة هامة لعصر األنوار الذي يعد مهد ظهور علم االجتماع‪ ،‬هو‬
‫عصر قليل األهمية في تاريخ الفكر االجتماعي‪ ،‬وذلك لسببين اثنين‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫السبب األول‪ :‬استمرار العصر الوسيط في العصر الحديث في جل األنظمة والعالقات‪.‬‬

‫السبب الثاني‪ :‬وهذا هو السبب األهم‪ ،‬وهو كون التفكير متجها بشكل شبه تام نحو الماضي وليس تحو‬
‫المستقبل‪ ،‬وقد تم التوجه نحو نوعين من الماضي‪ ،‬وهما "الماضي الوثني"‪ ،‬وذلك قصد رد االعتبار لإلنسان‬
‫وللحياة‪ ،‬وقد أجمع الجميع على رد االعتبار للحضارات "الجاهلية" ال سيما الحضارة اليونانية والرومانية؛‬
‫ألنها حضارات اعترفت باإلنسان وبالحياة‪ .‬و "الماضي العبري ـ المسيحي"‪ ،‬وما النهضة واإلصالح الديني‬
‫في البدء إال حركتان متوازيتان وباتجاه واحد لتتعرف إحداهما بحقيقة الحركة اإلنسانية في العصر القديم‪،‬‬
‫ولتعيد األخرى الدين المسيحي إلى نقاوته القديمة األولى‪ 32.‬لذلك كان من الالزم انتظار القرن الثامن عشر‬
‫‪33‬‬
‫لنرى كيف أدت كل هذه االتجاهات في العصور السابقة إلى علم اجتماع موضوعي‪.‬‬

‫المحور الثاني‪ :‬الممهدات المباشرة لنشأة علم االجتماع‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫يميز توم بوتمور بين مرحلتين في تأسيس علم االجتماع‪ ،‬المرحلة التمهيدية‪ ،‬وتمتد من ‪ 1750‬إلى ‪،1850‬‬
‫فتبدأ بظهور كتاب روح القوانين لمونتيسكيو وتنتهي بظهور أعمال أوجست كونت‪ .‬أما المرحلة التالية‪ ،‬فهي‬
‫مرحلة التأسيس العلمي لعلم االجتماع وتشغل النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫لقد ساهمت مجموعة من األسباب في التمهيد لطهور علم االجتماع بداية من النصف الثاني من القرن التاسع‬
‫عشر بأوروبا‪ ،‬ومن أهم ذلك ما يلي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أسباب معرفية‬

‫أ ـ ظهور فلسفة التاريخ‬

‫تعد فلسفة التاريخ أوروبيا وليدة القرن الثامن عشر‪ ،‬ومن أهم مؤسسي هذا النوع من التفكير اإليطالي جيام‬
‫باتيستا فيكو ‪1668( G. vico‬ـ ‪ .)1744‬أما صاحب هذا االسم‪ ،‬فالفيلسوف الفرنسي فولتير‪ ،‬وكان يقصد‬
‫بذلك دراسة التاريخ من وجهة نظر فلسفية‪ ،‬ومحاولة معرفة األسباب األساسية المتحكمة في سير الوقائع‬
‫‪34‬‬
‫التاريخية‪ ،‬والعمل على استنباط القوانين العامة الثابتة التي تتطور بموجبها األمم والدول على مر األجيال‪.‬‬

‫هناك إذن اختالف بين المؤرخ وفيلسوف التاريخ من حيث الهدف والمنهج‪ ،‬فهدف المؤرخ تسجيل الحدث‬
‫والتحقق من صحة تسجيله بأكبر قدر من الموضوعية والنزاهة‪ ،‬بينما هدف فيلسوف التاريخ فيتجلى في‬
‫تفسير مجمل أحداث التاريخ واستخراج القواعد العامة التي يسير وفقها التاريخ اإلنساني‪ .‬أما من حيث‬
‫المنهج‪ ،‬فإن المؤرخ يعتمد االستقراء‪ ،‬وفيلسوف التاريخ يعتمد المنهج العقلي‪ ،‬جيث يعمل الفيلسوف تأمالته‬
‫‪35‬‬
‫للوصول إلى العلة الكلية المفسرة لألحداث الجزئية‪.‬‬

‫‪ 32‬ـ نور الدين حاطوم‪ ،1985 ،‬تاريخ عصر النهضة األوروبية‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪33‬ـ غاستون بوتول‪ ،‬تاريخ علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫‪ 34‬ـ رأفت الشيخ‪ ،1988 ،‬فلسفة التاريخ‪ ،‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ 35‬ـ مصطفى النشار‪ ،2004 ،‬فلسفة التاريخ‪ ،‬شركة األمل للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.22‬‬
‫وبناء على ما سق‪ ،‬فالمقوالت األساسية لفلسفة التاريخ هي‪ :‬الكلية والعلية ‪.‬‬

‫ـ الكلية‬

‫إن فلسفة التاريخ ال تهتم بمجتمع محدد‪ ،‬أو فترة تاريخية معينة‪ ،‬بل تجعل من تاريخ البشرية في كليته‬
‫موضوعا لها‪ ،‬من الماضي البعيد إلى الحاضر‪ ،‬وقد يضيف بعض فالسفة التاريخ المستقبل كذلك‪ ،‬فالموضوع‬
‫هو التاريخ العالمي‪.‬‬

‫ـ العلية‬

‫يلجأ فيلسوف التاريخ إلى محاولة اختصار األسباب الجزئية لألحداث التاريخية إلى علة واحدة أو علتين‬
‫‪36‬‬
‫على األكثر‪ ،‬وعلى ضوء تلك العلة يفسر التاريخ العالمي بأكمله‪.‬‬

‫أما اإلسهامات التي قدمتها فلسفة التاريخ‪ ،‬فتتجلى فيما يلي‪:‬‬

‫ـ ظهور فكرة المراحل التاريخية واألنماط االجتماعية‬

‫يعتبر فيكو أول مبشر بظهور أوجست كونت وقانون "الحاالت الثالث"‪ ،‬فمن وجهة نظره‪ ،‬واعتمادا على‬
‫التصور المصري القديم‪ ،‬فإن كل مجتمع ال بد أن يكون قد مر بثالث مراحل متعاقبة‪ 37،‬وهي‪:‬‬

‫المرحلة اإللهية‪ ،‬وتتصف بالتأليه واعتبار كل ما في العالم ملكا لآللهة‪ ،‬والحكومة نفسها إلهية‪ ،‬لها إرادة‬
‫آمرة ناهية‪ ،‬وهي تختار من يمثلها على األرض‪ ،‬وكان الحكم االستبدادي فيها بيد الكهنة الذين يمثلون رجال‬
‫الدين‪ ،‬ويدعون أنهم يحكمون بمقتضى قوانين إلهية يتلقونها عن طريق النبوءات‪ ،‬وفي هذا العصر اإللهي‬
‫سيطرت الخرافة واألساطير على الفكر‪ ،‬وساد الخوف الذي كان الواقع األول لإلنسان لتصوره اآللهة عن‬
‫طريق المخيلة وكاتن اللعة في هذا العصر لغة رمزية سرية كاللغة الهيروغليفية‪.‬‬

‫المرحلة البطولية‪ ،‬وهي مرحلة أنصاف اآللهة من البشر الذين يزعمون أنهم يتحدرون من أصل إلهي لينظر‬
‫إليهم نظرة التقديس والتأليه‪ ،‬وقد سمي عصرهم بعصر األبطال‪ ،‬وقد كان هؤالء األبطال هم آباء األسر‬
‫الذين لهم الحق المطلق على أفراد أسرهم كحق الحياة والموت وحق البيع والشراء‪ ،‬وقد خطت البشرية في‬
‫هذا العصر البطولي خطوة إلى األمام‪ ،‬فتحررت من استعباد اآللهة وانتقلت إلى استعباد اإلنسان لغيره من‬
‫بني جنسه‪ ،‬أما اللغة‪ ،‬فكانت لغة شعرية تتغنى بالبطولة والشجاعة التي اتسم بها العصر كله‪.‬‬

‫المرحلة البشرية‪ ،‬وهي المرحلة األخيرة‪ ،‬ويسودها المساواة في الحقوق أمام القانون‪ ،‬وحصول كل إنسان‬
‫على حقوقه الطبيعية المشروعة في ظل حكومات ديموقراطية حققت المساواة بين طبقة النبالء وطبقة العامة‪،‬‬
‫واعترفت بحق هذه الطبقة األخيرة في المشاركة في نظام الحكم‪ ،‬وكانت اللغة في هذا العصر لغة شعبية‬
‫‪38‬‬
‫غلب عليها النثر‪.‬‬

‫إن هذه المراحل تعني أن البشرية قد مرت بثالثة أنماط اجتماعية‪ :‬النمط اإللهي‪ ،‬والنمط البطولي‪ ،‬ثم النمط‬
‫البشري‪ .‬وقد أثرت فكرة المراحل التاريخية في الممهدين لعلم االجتماع مثل أوجست كونت وكارل ماركس‪،‬‬

‫‪ 36‬ـ رأفت الشيخ‪ ،‬فلسفة التاريخ ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ 15‬ـ ‪.16‬‬
‫‪ 37‬ـ غاستون بوتول‪ ،‬تاريخ علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪38‬ـ عطيات أبو السعود‪ ،2017 ،‬فلسفة التاريخ عند فيكو‪ ،‬مؤسسة هنداوي‪ ،‬المملكة المتحدة‪ ،‬ص ‪ 81‬ـ ‪.82‬‬
‫كما أن فكرة األنماط االجتماعية قد هيمنت على علم االجتماع إلى اآلن‪ ،‬كالتقابل بين المجتمع التقليدي‬
‫والحديث‪.‬‬

‫ـ ظهور فكرة التقدم‬

‫لقد كان التاريخ يفهم على ضوء نظرية العناية اإللهية‪ ،‬وتقوم هذه النظرية على مبدأ يعطي هللا ـ عز وجل‬
‫ـ كل الفعل في األحداث التاريخية‪ ،‬ويعفي اإلنسان من صنع تاريخه‪ .‬فاألحداث والظواهر التاريخية تخضع‬
‫لمشيئة هللا وحده دون تدخل من اإلنسان المخلوق‪ ،‬الذي عليه أن يسير دون اختيار في حياته‪ ،‬فهو مسير‬
‫‪39‬‬
‫وليس مخيرا‪ ،‬وكل شيء يخضع لمشيئة هللا‪ ،‬وال وجود ألي صدفة‪.‬‬

‫إن فكرة العناية اإللهية موجودة في جل المجتمعات القديمة وتتعاظم هذه الفكرة بتعاظم دور الدين في المجتمع‪.‬‬
‫وبالرغم من كون اليونان قد منحوا العناية اإللهية معنى خاصا؛ حيث لم تعد تعني التدخل في مجرى التاريخ‬
‫وتوجيهه توجيها جبريا‪ ،‬وإنما هي إرادة عليا تدعم إرادة اإلنسان الحرة‪ ،‬إال أن هذه الفكرة قد أصبحت‬
‫مركزية مع المؤرخين المسيحيين في فهم مجرى التاريخ‪ ،‬فالنشاط اإلنساني تسيره دائما العناية اإللهية‪،‬‬
‫وجميع األعمال اإلنسانية ما هي إال أدوات في تنفيذ المشيئة األلهية؛ لذلك تم إعفاء اإلنسان من مهمة صنع‬
‫‪40‬‬
‫تاريخه وترك األمر كله هلل‪.‬‬

‫أما نظرية التقدم المستند للفعل اإلنساني‪ ،‬فتقوم على مقدرة اإلنسان على أن يتم من اإلنجازات ما يمكنه من‬
‫أن يستبدل بالفردوس األخروي فردوسا علمانيا دنيويا‪ ،‬فالحياة في باريس ولندن وروما أفضل عند فولتير‪،‬‬
‫أحد أصحاب نظرية التقدم‪ ،‬من جنة اآلخرة‪.‬‬

‫يتفق أصحاب نظرية التقدم أن النظم االجتماعية والمجتمعات اإلنسانية تتقدم من البدائية إلى التحضر والتمدن‬
‫مرورا بمراحل معينة يختلف عددها وخصائصها من عالم آلخر‪ ،‬ولكنها تتفق كلها في أن المرحلة الالحقة‬
‫تكون أعلى من السابقة وتهيئ الفرصة لقيام مرحلة أرقى منها‪.‬‬

‫ويؤكد معظم أنصار هذه النظرية على حتمية التقدم الذي يقوم على أساس أن الحياة تتكون من البسيط إلى‬
‫المركب إلى األكثر تركيبا طبقا لقانون حتمي‪ ،‬وأخذ هذه الفكرة المختصون في العلوم االجتماعية فذهبوا‬
‫‪41‬‬
‫إلى القول بأن الصبغة الغالبة على سير الحضارة هي التقدم‪ ،‬وأن التدهور حالة عرضية مؤقتة‪.‬‬

‫ـ ظهور التصور الجديد للمجتمع‬

‫يرجع الفضل إلى فالسفة التاريخ في ظهور التصور الجديد للمجتمع باعتباره أكثر من مجرد "المجتمع‬
‫السياسي" أو الدولة‪ ،‬وقد امتد اهتمامهم ليشمل كافة النظم االجتماعية‪ ،‬وفرقوا تفريقا دقيقا بين الدولة وما‬
‫أطبقوا عليه "المجتمع المدني"‪.‬‬

‫ب ـ ظهور التحقيق االجتماعي‬

‫‪ 39‬ـ رأفت الشيخ‪ ،‬فلسفة التاريخ ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.75‬‬


‫‪ 40‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص‪.73‬‬
‫‪ 41‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 95‬إلى ‪.98‬‬
‫بخالف العصور السابقة على القرن الثامن التي كان يسودها األعمال الوصفية في مذكرات السفر‪ ،‬فإنه بداية‬
‫من نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ستعرف أوروبا ميالد "التحقيق االجتماعي" أو‬
‫"أجهزة المراقبة االجتماعية"‪ ،‬وقد حصل ألول مرة في التاريخ األوروبي هذا االلتقاء بين المساعي العلمية‬
‫في تطبيق الطرق الرياضية المجربة في العلوم الطبيعية على الوقائع اإلنسانية‪ ،‬ومصالح الدولة في الرقابة‬
‫‪42‬‬
‫االجتماعية‪ ،‬واالهتمامات اإلنسانية والصحية لمساعدة السكان األكثر حرمانا في المجتمع‪.‬‬

‫يرتكز المسح االجتماعي على مصدرين اثنين‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫المصدر األول‪ :‬االقتناع المتزايد بأن مناهج العلوم الطبيعية ينبغي‪ ،‬وهي قادرة‪ ،‬أن تتسع لتغطي مجال‬
‫دراسة الشؤون اإلنسانية‪ ،‬وأن الظواهر اإلنسانية يمكن تصنيفها وقياسها‪.‬‬

‫المصدر الثاني‪ :‬االهتمام بمشكلة الفقر‪ ،‬أو ما عرف في الكتابات األوروبية المثقفة باسم "المسألة‬
‫االجتماعية"‪ ،‬انطالقا من إدراك الحقيقة التي مؤداها أن الفقر في المجتمعات الصناعية لم يعد بعد ظاهرة‬
‫طبيعية ـ نقمة من الطبيعة أو من هللا ـ وإنما هو نتيجة الجهل أو االستغالل‪.‬‬

‫في ظل هذين السببين المؤثرين‪ ،‬وهما مكانة العلوم الطبيعية والحركات الرامية إلى إصالح المجتمع‪ ،‬أخذ‬
‫‪43‬‬
‫المسح االجتماعي يحتل مكانة هامة في هذا العلم الجديد لدراسة المجتمع‪.‬‬

‫لم يقم المسح االجتماعي نتيجة مجرد الطموح في تطبيق مناهج العلوم الطبيعية على العالم اإلنساني‪ ،‬وإنما‬
‫نتيجة وجود تصور جديد للشرور والمشكالت االجتماعية‪ ،‬تأثر هو نفسه باإلمكانيات المادية للمجتمع‬
‫الصناعي‪ ،‬فالمسح االجتماعي لمشكلة الفقر أو أي مشكلة أخرى ال يمكن أن يكون له معنى إال إذا كان هناك‬
‫اعتقاد بأنه من الممكن عمل أي شيء للقضاء على هذه الشرور أو التخفيف من وطأتها‪ ،‬ومن الممكن أن‬
‫انتشار الفقر بين القوى المنتجة الضخمة المتزايدة هو السبب المسؤول عن تغيير النظرة إلى الفقر‪ ،‬فلم يعد‬
‫الفقر مشكلة طبيعية (أو حالة طبيعية)‪ ،‬وإنما أصبح مشكلة اجتماعية قابلة للدراسة واإلصالح‪.‬‬

‫ولعل هذا يمثل على األقل عنصرا هاما في االقتناع الذي ساد آنذاك بأنه يمكن استخدام المعلومات الدقيقة‬
‫في اإلصالح االجتماعي‪ ،‬وبأنه إذا كان اإلنسان قد استطاع أن يتحكم تحكما متزايدا في البيئة المادية فإنه‬
‫‪44‬‬
‫يستطيع بالمثل أن يتحكم في بيئته االجتماعية‪.‬‬

‫لقد تولى هذا العمل إدارات الدولة وبعض الجمعيات العلمية وبعض األفراد‪ ،‬وانتشر التحقيق االجتماعي‬
‫بداية ببريطانيا ثم انتقل إلى فرنسا وفي مراحل الحقة شمل ألمانيا وجل دول أوروبا الغربية‪ ،‬وتم استخدام‬
‫‪45‬‬
‫كم هائل من األطباء أوال ثم القضاة والكهنة والمعلمون وغيرهم‪.‬‬

‫أما عن دور هذه الحركة في علم االجتماع‪ ،‬فيتجلى في األمور اآلتية‪:‬‬

‫ـ تم تطبيق الطريقة العلمية المتمثلة في القياس واستخدام الطرق اإلحصائية ألول مرة علة الوقائع اإلنسانية‪،‬‬
‫وذلك بعد نجاحها في المجال الطبيعي‪.‬‬

‫‪ 42‬ـ جون ميشال برتيلو‪ ، 1999 ،‬بناء علم االجتماع‪ ،‬ترجمة جورجيت الحداد‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪43‬ـ توم بوتمور‪ ،‬تمهيد في علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪ 44‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫‪ 45‬ـ جون ميشال برتيلو‪ ،‬بناء علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫ـ الظهور ال مبكر ألهم أدوات جمع المعلومات‪ ،‬حيث بدأ استعمال االستمارة ودليل المقابلة‪ ،‬ثم التحليل‬
‫اإلحصائي للمعلومات كحساب الوسيط والنسب المئوية والجداول‪ ،‬ولم تظهر فقط أدوات المقاربة الكمية‬
‫للظواهر‪ ،‬بل ظهر كذلك البذور األولى للمقاربة الكيفية‪ ،‬فتيار "االستكشاف االجتماعي" فضل الدراسة‬
‫النوعية المستندة إلى المالحظة‪.‬‬

‫ـ لقد كانت التحقيقات االجتماعية تخضع لهم مشترك‪ ،‬وهو المعرفة من أجل العلم‪ ،‬إال أن إرادة المعرفة هذه‬
‫قد كانت لغاية التدخل الذي يصب أساسا في المجال السياسي‪ ،‬فالوقائع التي سلطت عليها األضواء تستخدم‬
‫حججا إلعداد قوانين للحماية االجتماعية‪ ،‬أو إلدانة النظام السياسي االقتصادي‪ ،‬فلم يعد األمر يتعلق بتجميع‬
‫المعلومات فقط‪ ،‬وإنما بفهم المبدأ الذي يحكم تنظيم المجتمع؛ لذلك ظهر بالقرن التاسع عشر مجموعة من‬
‫التيارات االجتماعية كاالشتراكية واإلصالحية وغيرهما‪ ،‬والبحث عن هذا المبدأ هو ما يبرز مع الممهدين‬
‫‪46‬‬
‫لعلم االجتماع مثل ألكسيس دو طوكفيل وكارل ماركس‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أسباب اجتماعية‬

‫لقد عرفت أوروبا مجموعة من التحوالت الهامة خالل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬وقد عملت جميعها‬
‫على تفكيك أشكال التنظيم االجتماعي التي عاشت في ظلها البشرية عبر آالف من السنين‪ ،‬وقد كان هذا‬
‫التفكيك كليا وشامال‪ ،‬ومن أهم أسباب هذا التفكك الثورتان الهامتان اللتان شهدتهما أوروبا خالل القرنين‬
‫السابقين‪ ،‬وهما الثورة السياسية الفرنسية والثورة االقتصادية اإلنجليزية‪.‬‬

‫أ ـ الثورات السياسية‪ /‬الثورة الفرنسية‬

‫إن الثورة الفرنسية قد كانت رمزا للتحوالت السياسية في العصر الحديث‪ ،‬فهذه الثورة التي اندلعت سنة‬
‫‪ 1789‬قد كانت مختلفة عن جميع الثورات السابقة عليها‪ ،‬فقد ثار الفالحون‪ ،‬في فترات متعددة من تاريخ‬
‫أوروبا‪ ،‬ضد السادة اإلقطاعيين الذين كانوا يتحكمون فيهم‪ ،‬لكن المشترك بين كل تلك الثورات كان هو‬
‫محاولة استبعاد بعض األفراد من موقع السلطة‪ ،‬أو تحقيق تخفيض معين في األسعار أو الضرائب‪ .‬أما‬
‫الثورة الفرنسية‪ ،‬فقد كانت عملية تفكيك تام للنظام االجتماعي القائم بفعل حركة تستهدي مثال عليا علمانية‬
‫خالصة‪ ،‬وهي الجرية والمساواة للجميع‪ ،‬وبالرغم من عدم التحقق التام لهذه المثل إال أنها قد أثرت بشكل‬
‫‪47‬‬
‫كبير في جميع األنظمة السياسية الالحقة لها إلى اآلن‪.‬‬

‫وبعد أن ألغت الثورة الفرنسية النظم االجتماعية القديمة فقد شلت في إيجاد نظم بديلة لها؛ لذلك جاء رواد‬
‫علم االجتماع في القرن التاسع عشر محاولين إيجاد حلول للمشاكل التي نتجت أو نشأت عن ظروف التحول‬
‫الذي عاشته المجتمعات األوروبية‪ ،‬فقد حاولوا خلق إحساس جديد بالجماعة‪ ،‬كما حاولوا حل المشاكل‬
‫‪48‬‬
‫المترتبة على‪.‬‬

‫ب ـ الثورات االقتصادية‪ /‬الثورة االقتصادية اإلنجليزية‬

‫‪ 46‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 17‬و ‪.18‬‬


‫‪ 47‬ـ أنتوني غدنز‪ ،2006 ،‬مقدمة نقدية في علم االجتماع‪ ،‬ترجمة أحمد زايد وآخرين‪ ،‬ط‪ ،2‬مركز البحوث والدراسات االجتماعية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‬
‫‪.20‬‬
‫‪ 48‬ـ بول الزرسفيلد‪ ،1980 ،‬االتجاه ات األساسية في علم االجتماع‪ ،‬ترجمة أحمد النكالوي وعواطف فيصل‪ ،‬مكتبة نهضة الشرق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‬
‫‪.14‬‬
‫إن الثورة الهامة الثانية هي التي أطلق عليها "الثورة الصناعية"‪ ،‬وترجع أصولها إلى بريطانيا أواخر القرن‬
‫الثامن عشر‪ ،‬ثم انتشرت خالل القرن التاسع عشر في سائر أنحاء أوروبا الغربية والواليات المتحدة‬
‫األمريكية‪ ،‬وقد أدى التقدم التقني لهذه الثورة إلى حدوث عالم جديد بشكل شبه تام‪ ،‬ومن أهم تلك التغيرات‬
‫الهجرة الكبيرة ونقل القوة العاملة من القرى إلى قطاعات العمل الصناعية ما أدى بدوره إلى نمو المدن على‬
‫نحو لم يكن معروفا من قبل‪ ،‬وارتفع عدد سكان الدول الصناعية وما ارتبط بذلك من تكدس بالمدن والفقر‬
‫والجريمة وغيرها من الظواهر التي لم تكن مألوفة‪ ،‬وقد أدى كل ذلك إلى إذابة أغلب األشكال االجتماعية‬
‫‪49‬‬
‫التقليدية‪.‬‬

‫ـ الممهدون لعلم االجتماع أو علماء االجتماع األوائل‬


‫إن األسباب المتقدمة متداخلة قد جعلت من فهم المجتمع الذي الزال قيد التشكل مسألة ضرورية‪ ،‬وظهر في‬
‫هذا السياق كبار الممهدين لعلم االجتماع‪ ،‬مثل هربرت سبنسر وكارل ماركس وأوجست كونت‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ هربرت سبنسر(‪)1903-1820‬‬

‫ترتبط والدة علم االجتماع في إنجلترا باسم هربرت سبنسر‪ ،‬وقد بدأ مشروعه في أوج تطور الرأسمالية بهذا‬
‫البلد‪ ،‬واكتملت الثورة الصناعية وأصبحت إنجلترا متفوقة على غيرها اقتصاديا‪ .‬وقد تأثر سبنسر بكل من‬
‫داروين (قانون التطور) واالقتصاديين اإلنجليزيين مثل آدم سميث ومالتوس (البقاء لألصلح)‪ .‬إن سبنسر لم‬
‫يعرف المراد بعلم االجتماع‪ ،‬ولكنه عمل على إثبات إمكانية وجوده العلمي‪50.‬وقد كون سبنسر رؤية تطورية‬
‫عضوية عن المجتمع‪.‬‬

‫أ ـ التصور التطوري للمجتمع‬

‫التطور‪ ،‬وهو مفهوم بيولوجي‪ ،‬قانون عام يسري على جميع الكائنات الحية ومنها اإلنسان‪ .‬وقد الحظ‬
‫سبنسر من دراسته للبيولوجيا أن األنواع الدنيا من الحيوان تتكون أجسامها من أجزاء متماثلة ال يتوقف‬
‫بعضها على بعض‪ .‬أما األنواع العليا‪ ،‬فتتألف من أعضاء متباينة تعتمد في أدائها ألعمالها ووظائفها بعضها‬
‫على بعض‪.‬‬

‫وقد ذهب سبنسر إلى أن هذا األمر وهذا التكوين ينطبق على المجتمع‪ ،‬فالمجتمع شأنه شأن كل كائن حي‬
‫يبدأ متجانسا ثم يميل إلى التعقيد وعدم التجانس‪ ،‬فالتخصص هو غاية كل تطور وارتقاء في الموجودات‪،‬‬
‫ويستند هذا القانون عنده على أساسين‪:‬‬

‫ـ كلما تزايدت درجة التعقد في المركب الحيوي تزايدت درجة التخصص والتنوع‪.‬‬

‫ـ كلما تزايدت درجة التخصص والتنوع في األعضاء ضعفت درجة استقاللها‪.‬‬

‫وحينما يتنقل للحديث عن المجتمع ليطبق عليه هذه القاعدة يقول أن الجماعات البشرية كانت في البداية‬
‫تعيش على الفطرة‪ ،‬وتتكون من أفراد متشابهين من حيث طرق المعيشة واالنتماء للمجتمع‪ ،‬والغايات‬
‫والحاجات‪ ،‬وال يعتمد كل فرد على غيره في سائر أموره‪ ،‬فكان الفرد يعد طعامه ويبني مسكنه ويدافع عن‬

‫‪ 49‬ـ أنتوني غدنز‪ ،‬مقدمة نقدية في علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.21‬‬
‫‪ 50‬ـ ايغور سيميونوفيتش كون‪ ،‬مفاهيم هربرت سبينسر السوسيولوجية‪ ،‬ترجمة مالك أبوعليا‪ ،‬في "تاريخ السوسيولوجيا الكالسيكية"‪ ،‬كتاب‬
‫إلكتروني‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫نفسه‪ ،‬ثم ظهرت الحياة االجتماعية وانتقلت إلى مرحلة ألكثر ارتقاء‪ ،‬فظهرت الفروق بين األفراد‪ ،‬وأمكن‬
‫مالحظتها بوضوح‪ ،‬فأصبح للفرد زوجة وأوالدا يزرعون ويحصدون معا‪ ،‬ويشتركون في أعمال الزراعة‬
‫والصيد والرعي وشؤون الحياة االجتماعية األخرى‪ ،‬ثم ازداد التخصص واالستقالل في مرحلة تطورية‬
‫أحرى فأصبح هناك من يقوم بالزراعة ومن يقوم بغيرها من األعمال كاإلدارة واألمن والحكم‪ ،‬وهكذا يستمر‬
‫التطور في كل شؤون الحياة االجتماعية إلى المجتمعات الحديثة حيث بلغ التخصص مراحل متقدمة جدا‬
‫فطهرت تخصصات متعددة في المهنة الواحدة‪.‬‬

‫إن ظهور التخصص في المجتمع وتطوره ال يعني استقالل الفرد عن المجتمع‪ ،‬ألن التخصص يتضمن كذلك‬
‫التضامن والتعاون‪ ،‬ويتمثل هذا التعاون في األهداف والغايات التي يسعى إليها كل تنظيم اجتماعي‪ .‬فاالنتقال‬
‫من التشابه إلى التباين عند سبنسر يقوم على مبدأين‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫ـ التباين‪ ،‬وهو يعني االنتقال من المتجانس إلى غير المتجانس‪ ،‬ومن التماثل المطلق إلى التباين المحدد‪.‬‬

‫ـ التكامل‪ ،‬وهي ظاهرة مرتبكة بالتباين‪ ،‬فالتخصص ال يؤدي إلى االستقالل واالنعزال واالكتفاء الذاتي‪،‬‬
‫ولكنه يؤدي إلى التضامن والتماسك واعتماد األجواء بعضها على بعض‪.‬‬

‫ت ـ التصور العضوي للمجتمع‬

‫يري سبنسر أن المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون‪ ،‬والمجتمع بشبه الجسم الحي‪ ،‬ويعقد سبنسر مماثلة‬
‫من حيث التركيب الداخلي‪ ،‬فالمجتمع مزود بجهاز للتغذية مثل الكائن الحي‪ ،‬وهذا الجهاز يتمثل في البيئات‬
‫والطبقات المنتجة‪ ،‬ودورة دموية متمثلة في نظم التوزيع وطرق المواصالت‪ ،‬ومزود بجهاز هضمي يتمثل‬
‫في نظم االستهالك‪ ،‬وجهاز عصبي يتمثل في الجهاز التنظيمي واإلدارة الحكومية‪.‬‬

‫إن المجتمع مع ذلك يختلف عن الكائن الحي من حيث التركيب‪ ،‬فعناصر الكائن الحي نكون كال متماسكا‬
‫ومتحدا بصفة مباشرة اتحادا ماديا ملموسا‪ ،‬أما األسباب المؤدية إلى الوحدة في المجتمع‪ ،‬فهي خارجة عن‬
‫التركيب العضوي في الفرد‪ ،‬وهذه األسباب هي اللغة والعواطف واالنفعاالت واألفكار والمعتقدات والتقاليد‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫إن تطور النظم داخل المجتمع تتأثر بنوعين من المؤثرات‪ ،‬وهما‪:‬‬

‫ـ مؤثرات داخلية‪ ،‬وتتمثل في الناحية الفردية‪ ،‬والتكوين الطبيعي والعاطفي والعقلي لألفراد الذين يؤلفون‬
‫المجتمع‪ ،‬فاألفراد يكونون الظواهر وفقا لهذه الخواص الداخلية‪.‬‬

‫ـ مؤثرات خارجية‪ ،‬وتتمثل في البيئة الجغرافية والطبيعية والمناخية لتأثيرها المباشر على األفراد‪ ،‬وإذا كان‬
‫المجتمع مثل الكائن الحي يمر بالضرورة بمراحل النشوء واالرتقاء فإنه يمر أيضا بمرحلة التدهور‬
‫واالنحالل‪ ،‬فهناك مجتمعات تضعف بعد قوة‪ ،‬وتحل مجتمعات جديدة محلها‪ ،‬وهكذا فإن هناك خلقا متجددا‬
‫‪51‬‬
‫في الحياة االجتماعية‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ كارل ماركس (‪)1883-1818‬‬

‫‪ 51‬ـ عبد الهادي والي‪ ،‬مدخل إلى علم االجتماع‪ ،2003 ،‬ص ‪33‬ـ‪.37‬‬
‫يؤكد بوتول أنه منذ سان أوجستان لم ينل أي مذهب اجتماعي من الحظوة والتقدير مثل ما ناله مذهب كارل‬
‫ماركس‪ ،‬فقد أصبح هذا المذهب ملهما مباشرا لمعظم الحركات السياسية المعاصرة‪ ،‬وانقسمت المجتمعات‬
‫األوروبية إلى اتجاهين اثنين بسبب أفكاره‪ ،‬وأصبح كذلك بمثابة عقيدة دينية للدولة عند بعض الشعوب‪ ،‬كما‬
‫‪52‬‬
‫قادت أفكاره رسميا تنظيم دول كثيرة‪.‬‬

‫إن تأثير كارل ماركس السابق جعل مسألة إجراء تقويم "موضوعي" لمساهمته مهمة حساسة وخطيرة‪ ،‬فهي‬
‫خطيرة بسبب التراث السياسي الثقيل للماركسية‪ ،‬واستحالة الفصل التام بين التحليل العلمي واإليديولوجيا‬
‫السياسية‪ ،‬وحساسة؛ ألن كتابات ماركس ملتبسة وقابلة لتعدد التفسيرات‪.‬‬

‫أ ـ موقف علماء االجتماع الممهدين من أعمال ماركس‬

‫لم يكن ماركس عالم اجتماع‪ ،‬ولم يعتبر نفسه واحدا منهم رغم أن نطاق عمله كان واسعا بدرجة تحول دون‬
‫أن يشمله مصطلح علم االجتماع‪ ،‬لكن هناك نظرية اجتماعية يمكن العثور عليها في أعمال ماركس‪ .‬إن‬
‫معظم علماء االجتماع األوائل كانوا يعدون عمله قوة سلبية؛ لذلك عملوا منذ البداية على تأسيس علم اجتماع‬
‫خاص بهم ونقيض ألفكار ماركس‪ ،‬وهذا الرفض كان سببا في نشأة مجموعة من النظريات االجتماعية‪.‬‬

‫يرى ريترز وستيبينسكي أن هناك أسبابا لرفض أعمال ماركس في بداية علم االجتماع‪ ،‬منها‪:‬‬

‫السبب األول‪ :‬سبب إيديولوجي‪ ،‬لقد رفض ماركس باعتباره عالما إيديولوجيا يهدف إلى التغيير االجتماعي‬
‫الجدري (الثورة)‪ ،‬لكن علماء االجتماع األوائل كانوا إيديولوجيين كذلك؛ حيث عملوا جميعا على كيفية‬
‫المحافظة على النظام القائم؛ لذلك فإن الرفض ال يرتبط باإليديولوجيا مطلقا بل بطبيعة اإليديولوجية‬
‫الماركسية المناهضة للنظام الرأسمالي‪.‬‬

‫السبب الثاني‪ :‬اعتبار كارل ماركس عالم اقتصاد أكثر منه عالم اجتماع‪ ،‬وبالرغم من االعتراف بأهمية‬
‫االقتصاد‪ ،‬لمنهم يعتبرونه مكونا واحدا من مكونات متعددة للحياة االجتماعية‪.‬‬

‫السبب الثالث‪ :‬طبيعة اهتمامات ماركس‪ ،‬فإذا كان علماء االجتماع األوائل قد تعاملوا مع االضطرابات‬
‫الناتجة عن التنوير والثورة الفرنسية ثم الثورة الصناعية‪ ،‬فإن ماركس لم يكن مستاء من تلك االضطرابات‬
‫بقدر ما كان مستاء من قمع النظام الرأسمالي الناشئ بإنجلترا‪ ،‬وقد حاول ماركس وضع نظرية تشرح أسس‬
‫هذا القمع وتساعد على إلسقاط هذا النظام الناشئ‪ .‬إن ماركس كان مهتما بالثورة بينما علماء االجتماع‬
‫‪53‬‬
‫اآلخرين فكانوا مهتمين باإلصالح‪.‬‬

‫ب ـ موقف ماركس من علماء االجتماع المعاصرين له‬

‫لقد نظر ماركس إلى علم االجتماع الموجود قبله أو في زمانه باعتباره غير علمي لكونه محكوما بالمثالية‪.‬‬
‫فالماديون الفرنسيون الذين كانوا يشيرون إلى تأثير الوسط االجتماعي على اإلنسان كانوا ينظرون إلى هذا‬
‫الوسط باعتباره نتاجا للعقل البشري "األفكار تسير العالم"‪ ،‬فهذه هي كلمتهم األخيرة عن المجتمع‪ .‬أما‬
‫المثاليون مثل هيجل‪ ،‬فقد وصل في النهاية إلى أن اإلرادة اإللهية هي التي تسير العالم‪" ،‬هللا يسير العالم"‪.‬‬

‫‪ 52‬ـ غاستون بوتول‪ ،‬تاريخ علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪87‬‬
‫‪ 53‬ـ جورج ريترز وجيفري ستيبينسكي‪ ، 2021 ،‬النظريات الحديثة في علم االجتماع‪ ،‬ترجمة ذيب الدوسري وآخرين‪ ،‬مكتبة جرير‪ ،‬ص ‪ 65‬ـ‬
‫‪.66‬‬
‫انطالقا من كون األفكار هي التي تسير العالم‪ ،‬فقد تم االعتقاد أن حملة هذه األفكار (الملوك‪ ،‬القادة‪ ،‬العلماء‪)...‬‬
‫‪54‬‬
‫هم وحدهم من صنع التاريخ‪ ،‬وأن الجماهير الشعبية ال دور لها في ذلك‪.‬‬

‫تقوم النزعة المادية عند ماركس‪ ،‬على عكس النزعة المثالية التي تعتبر العالم "تجسيدا" للفكرة المطلقة‪ ،‬و‬
‫"الروح الشامل" و "الوعي"‪ ،‬على المبدأ القائل بأن العالم بطبيعته مادي‪ .‬والمراد بالمادة الحقيقة الموضوعية‬
‫‪55‬‬
‫الموجودة خارج عقولنا‪.‬‬

‫ج ـ البناء االجتماعي كما تصوره كارل ماركس‬

‫إن مبدأ "المادية"‪ ،‬المفهوم المادي عن الحياة االجتماعية‪ ،‬هو أهم مبدأ يقوم في أساس النظرية الماركسية‬
‫عن المجتمع‪ ،‬ويعكس كنهها ويميزها عن مختلف المفاهيم االجتماعية الفلسفية الموجودة سابقا وحاليا‪.‬‬

‫إن مغزى المادية في المفاهيم عن التاريخ يتلخص في االعتراف بأن حياة المجتمع المادية‪ ،‬وفي المقام األول‬
‫منها العملية االجتماعية لإلنتاج المادي‪ ،‬ليست مجرد عامل من العوامل الضرورية في الحياة االجتماعية‪،‬‬
‫بل أيضا األساس المادي لتفاعل جميع الظواهر االجتماعية‪ ،‬الذي يحدد في آخر المطاف الميدان الروحي‬
‫‪56‬‬
‫من حياة المجتمع وكذلك جميع ظواهرها األخرى‪.‬‬

‫إن مفهومي "الوجود االجتماعي" و "الوعي االجتماعي" هما المقولتان األساسيتان اللتان تترجم بواسطتهما‬
‫‪57‬‬
‫الفكرة العامة للمادية إلى لغة النظرية االجتماعية‪.‬‬

‫المسألة الرئيسية للمادية التاريخية هي المتجلة في القانون اآلتي‪ :‬الوجود االجتماعي هو الذي يحدد الوعي‬
‫االجتماعي‪ .‬والمراد بالوجود االجتماعي الحياة المادية للمجتمع‪ ،‬وقبل كل شيء نشاط الناس اإلنتاجي‬
‫والعالقات االقتصادية التي تنشأ بين الناس في عملية اإلنتاج (البنية األساس أو البنية التحتية)‪ .‬أما الوعي‬
‫االجتماعي‪ ،‬فهو حياة الناس الفكرية‪ ،‬األفكار والنظريات واآلراء التي يسترشدون بها في نشاطهم العملي‬
‫(البنية الفوقية)‪ .‬إن الناس قبل أن يهتموا بالعلم والفن والفلسفة وغيرها‪ ،‬ينبغي عليهم أن يأكلوا ويشربوا‬
‫‪58‬‬
‫ويؤمنوا مسكنهم ولباسهم‪ ،‬ولتحقيق هذا البد لهم أن يعملوا وأن ينتجوا الخيرات المادية‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ البنية األساس‪ /‬التحتية‬

‫تتألف البنية األساس من عنصرين أو بنيتين أخريتين‪ ،‬وهما‪ :‬القوى اإلنتاجية وعالقات اإلنتاج‬

‫أ ـ القوى اإلنتاجية‬

‫يحتاج الناس إلى الغذاء واألحذية والمسكن والمحروقات في معاشه‪ ،‬ويجب أن ينتج المجتمع هذه الوسائل‬
‫المادية لكي يستطيع الحصول عليها‪ ،‬ويحتاج المجتمع في إنتاجها آلالت خاصة وإلى منتجين‪ ،‬لذلك فالقوى‬
‫المنتجة تتألف مما يلي‪:‬‬

‫‪ 54‬ـ أفانا سييف‪ ،‬أسس الفلسفة الماركسية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة عبد الرزاق الصافي‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.152‬‬
‫‪ 55‬ـ أبو سيف يوسف‪ ،1946 ،‬حول الفلسفة الماركسية‪ ،‬دار القرن العشرين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.22‬‬
‫‪ 56‬ـ فالديسالف كيلله و ماتفي كوفالسون‪،‬المادية التاريخية‪ :‬دراسة في نظرية المجتمع الماركسية‪ ،‬ترجمة إلياس شاهين‪ ،‬دار التقدم موسكو‪ ،‬ص‬
‫‪.31‬‬
‫‪ 57‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.35‬‬
‫‪ 58‬ـ فانا سييف‪ ،‬أسس الفلسفة الماركسية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ترجمة عبد الرزاق الصافي‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.153‬‬
‫ـ وسائل اإلنتاج‪ ،‬وتشمل مادة العمل‪ ،‬وهي المادة الخام‪ ،‬وتتمثل في كل ما يتعرض في عملية اإلنتاج لهذا‬
‫التعديل أو ذاك‪ ،‬ليتحول إلى ناتج ضروري لإلنسان‪ ،‬وأدوات العمل‪ ،‬وذلك مثل األدوات واآلالت واألرض‬
‫واألبنية ووسائل النقل والطرق وغيرها‪.‬‬

‫ـ الناس الذين يستعملون األدوات والتي ال يمكن استعمالها بدونهم‪ ،‬ويدخل في ذلك تجربة اإلنتاج التي‬
‫اكتسبتها األجيال المتتابعة‪ ،‬مثل التقاليد المهنية‪ ،‬والمعارف التقنية والعلمية‪ ،‬وعادات العمل الخاصة بكل‬
‫عامل‪ ،‬ومهاراته‪.‬‬

‫إن آالت اإلنتاج هي العنصر األساسي الذي يسمح بتحديد حالة قوى اإلنتاج‪ ،‬ألن طبيعة هذه األدوات هي‬
‫التي تحدد عدد الناس الضروري إلتمام عمل معين‪ ،‬والمعارف التقنية الضرورية‪ ،‬وعادات العمل‪ ،‬كما أن‬
‫طابع العمل اليدوي وطابعه الفكري يتعلقان بطبيعة وسائل اإلنتاج‪.‬‬

‫إن تطور قوى اإلنتاج مشروط بتطور وسائل اإلنتاج‪ ،‬فقد كانت هذه الوسائل‪ ،‬في بداية األمر‪ ،‬عبارة عن‬
‫حجرة ضخمة بدائية‪ ،‬ثم أصبحت سهاما‪ ،‬مما ساعد على االنتقال من الصيد إلى تأليف الحيوانات وتربية‬
‫القطعان عند البدائي‪ ،‬ثم ظهرت اآلالت المعدنية التي ساعدت على االنتقال إلى تطور الزراعة‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫حدثت اختراعات جديدة ساعدت على صنع المواد كصناعة الخزف وصناعة الحديد ثم تطورت المهن‪ ،‬وتم‬
‫انفصالها عن الزراعة‪ ،‬ومن ثم ظهرت الصناعات اليدوية التي تمتاز بتقسيم العمل إلى مهام جزئية لصنع‬
‫منتوج معين‪ ،‬ثم تم االنتقال من وسائل إنتاج الصناعة اليدوية إلى اآللة التي ساعدت على التطور‪.‬‬

‫ب ـ عالقات اإلنتاج‬

‫إن اإلنتاج هو دائما إنتاج اجتماعي؛ ألن مضال اإلنسان ضد الطبيعة لم يكن أبدا عمال فرديا بل كان منذ‬
‫البداية اجتماعيا‪ ،‬فالمجتمع هو الذي أنقذ اإلنسان من الحيوانية‪ ،‬وإذا كان اإلنتاج اجتماعيا بالضرورة فالبد‬
‫أن تنشأ بعض العالقات بين الناس بصدد هذا اإلنتاج‪ ،‬وتسمى عالقات اإلنتاج‪.‬‬

‫يمكن لعالقات اإلنتاج بين الناس أن تتخذ األشكال اآلتية‪:‬‬

‫الشكل األول‪ :‬عالقة تعاون وتعاضد‪ ،‬فيمكن للناس أن يجتمعوا بحرية للقيام معا بعمل مشترك مثل بناء بيت‪،‬‬
‫فتنشأ بذلك عالقة تعاون وتعاضد بين أناس أحرار من كل استغالل‪.‬‬

‫الشكل الثاني‪ :‬عالقة استغالل وسيطرة‪ ،‬فيمكن لإلنسان في بعض الظروف أن يضطر أخاه اإلنسان لإلنتاج‬
‫من أجله‪ ،‬فيتغير بذلك طابع اإلنتاج تغييرا سياسيا‪ ،‬فتصبح عالقات سيطرة وخضوع‪ ،‬ويظهر استغالل عمل‬
‫اآلخرين‪.‬‬

‫الشكل الثالث‪ :‬عالقات التعاون واالستغالل معا‪ ،‬يمكن أن يوجد عبر التاريخ مجتمعات يوجد فيها النوعان‬
‫السابقان معا من العالقات‪ ،‬أحدهما في طريق الزوال واآلخر في طريق االشتداد‪ ،‬فتنشأ عالقات فترة انتقال‬
‫‪59‬‬
‫من صورة ألخرى‪.‬‬

‫إن معرفة هذه العالقات يقتضي معرفة من يملك أدوات اإلنتاج‪ ،‬فعالقات اإلنتاج االجتماعية عي أساس‬
‫عالقات الملكية‪ ،‬وتنوع هذه العالقات هو انعكاس لشكل الملكية المحددة تاريخيا‪ ،‬فإذا كانت وسائل اإلنتاج‬

‫‪ 59‬ـ جورج بوليتز وجي بيس موريس كافين‪ ،‬أصول الفلسفة الماركسية‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬تعريب شعبان بركات‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪9‬ـ‪.12‬‬
‫في يد المجتمع بأسره فإن أعضاء هذا المجتمع يصبحون متساوين في عالقاتهم بوسائل اإلنتاج‪ ،‬وإذا كانت‬
‫‪60‬‬
‫ملكا لفئة خاصة‪ ،‬فإن الملكية سينبثق عنها عالقات السيطرة‪.‬‬

‫ج ـ العالقة بين قوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج‬

‫إن عالقات اإلنتاج ناشئة عن قوى اإلنتاج‪ ،‬فعالقة المنتجين بوسائل اإلنتاج وبملكيتها هي العامل الحاسم في‬
‫الشكل الذي تتخذه العالقات االجتماعية اإلنتاجية‪ ،‬ومستوى معينا من القوى اإلنتاجية يتطلب مستوى يتفق‬
‫معه من عالقات اإلنتاج‪ .‬وإذا كانت قوى اإلنتاج أكثر تغيرا وحركية عبر التاريخ‪ ،‬فإن عالقات اإلنتاج أكثر‬
‫استقرارا‪ ،‬فأشكال الملكية ال تتغير إال بصعوبة؛ لذلك فعندما تتطور القوى اإلنتاجية لدرجة معينة تزول حالة‬
‫التجانس بينها وبين عالقان اإلنتاج‪ ،‬فيبدأ الصراع بينهما؛ ألن عالقات اإلنتاج تعوق تطور القوى اإلنتاجية‪،‬‬
‫‪61‬‬
‫وينتهي ذلك بأن تحل عالقات إنتاجية جديدة تتوافق مع القوى اإلنتاجية التي تطورت ونمت‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ البنية الفوقية‬

‫المراد بالبنية الفوقية مجموع األشكال السياسية والقانونية وأشكال الوعي االجتماعي أو اإليديولوجيا‪،‬‬
‫وتتضمن اإليديولوجية مجمل األفكار السياسية والفلسفية والمذاهب األخالقية والتصورات والنظريات‬
‫الجمالية‪ ،‬وتوجد في مقابل اإليديولوجية السائدة اإليديولوجية المقموعة وهي إيديولوجية الفئات المضطهدة‬
‫ا لتي تعمل األولى على كبتها والحد من تأثيرها‪ .‬إن البنية الفوقية إلذن ليست بنية خامدة بل يدور داخلها‬
‫صراع يؤثر أيضا على البنية التحتية‪ ،‬فإذا كانت األشكال اإليديولوجية التي لها السيادة تعمل على تدعيم‬
‫البنية األساس القائمة‪ ،‬فإن أشكال الوعي األخرى تعمل في اتجاه مضاد‪ ،‬ونتيجة هذا الصراع تؤثر بدورها‬
‫‪62‬‬
‫على البتية التحتية نفسها‪.‬‬

‫وبناء على ما تقدم‪ ،‬فقد قسم ماركس التاريخ البشري إلى خمس مراحل تعكس كل منها الدور الذي لعبه‬
‫العامل االقتصادي فيها‪ ،‬وهي كاآلتي‪:‬‬

‫ـ الشيوعية البدائية أو المجتمع القبلي‪ :‬ويبدأ تاريخه بظهور اإلنسان الذي يتميز عن الحيوان بقدرته على‬
‫صنع واستخدام أدوات العمل‪ ،‬حيث عاش الناس في جماعات وعشائر ترتكز على روابط الدم في مأوى‬
‫مشترك‪ ،‬ولم يكن هناك شيء يمكن امتالكه‪ ،‬ومن ثم فإن الملكية الخاصة والطبقات واالستغالل لم يكن لها‬
‫وجود‪ ،‬إال أن الندرة المادية هي التي شكلت المصدر الرئيسي للصراع في تلك الحقبة‪.‬‬

‫ـ العبودية‪ :‬في هذه المرحلة تطورت قوى اإلنتاج‪ ،‬ونشأت الحرف‪ ،‬ومع النمو المطرد في اإلنتاج والعمل‬
‫بدأت العشائر تتجزأ إلى أسر‪ ،‬ونشأت الملكية الخاصة‪ ،‬ومع زيادة اإلنتاج عن االستهالك أصبح في اإلمكان‬
‫االحتفاظ بالفائض‪ ،‬وبناء على ذلك ظهرت بوادر االستغالل عن طريق التجارة واالحتكار‪ ،‬ووجدت عالقات‬
‫سيطرة وخضوع‪ ،‬ترتب عليها انقسام المجتمع إلى طبقتين األسياد والعبيد‪.‬‬

‫ـ اإلقطاعية‪ :‬بمرور الزمن أصبح التناقض بين قوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج في المجتمع العبودي حادا‬
‫للغاية‪ ،‬فتوالت االضطرابات بين العبيد وأسيادهم وفي الوقت نفسه استمر التقدم المطرد فظهرت طواحين‬
‫الهواء والماء وصناعة الورق والبارود‪ ،‬وتقدمت الحرف‪ ،‬وحققت الزراعة تطورا كبيرا بفضل الفصائل‬

‫‪ 60‬ـ أحمد القصير‪ ، 2006 ،‬منهجية علم االجتماع بين الماركسية والوظيفية والبنيوية‪ ،‬دار العالم الثالث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪61‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪84‬‬
‫‪ 62‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫الجديدة من الحبوب والفاكهة‪ ،‬وانتشار األسمدة واتساع تربية الحيوان‪ ،‬وارتبط العبيد باألرض إال أنهم قد‬
‫حققوا ألنفسهم بعض التقدم‪ ،‬وينحصر العداء الطبقي في هذه المرحلة بين اإلقطاعيين مالك األراضي‬
‫(النبالء) والفالحين (األقنان)‪ .‬إن الهيكل العام للمجتمع اإلقطاعي ال يختلف عن مثيله في المجتمع العبودي‬
‫(فيما عدا تطور أدوات اإلنتاج)‪ ،‬والفرق الوحيد بينهما هو قيام جهاز الدولة والجيش ورجال الدين بالدفاع‬
‫عن مصالح اإلقطاعيين والحفاظ على الملكية الخاصة‪.‬‬

‫ـ الرأسمالية‪ :‬فمع تطور قوى اإلنتاج أصبحت عالقات اإلنتاج في البناء اإلقطاعي غير فعالة مما أدى إلى‬
‫انهياره في مواجهة التحضر‪ ،‬ونمو برجوازية المدن‪ ،‬وتزايد الحاجة لالقتصاد الصناعي‪ ،‬والتأثير العام‬
‫للسفر إلى مختلف مناطق العالم وبداية االستعمار‪ .‬إن نتيجة هذه التطورات هي ظهور الرأسمالية الصناعية‬
‫التي سعت إلى إحالل المصانع الضخمة إلى الورش الحرفية‪ ،‬وتحرر العمال من األرض ولكنهم لم يتحرروا‬
‫من سيطرة الرأسمالي؛ ألنهم ال يملكون وسائل اإلنتاج‪ ،‬فاضطروا إلى بيع قوة عملهم مقابل أجر زهيد‪،‬‬
‫فنمت الرأسمالية وتحولت إلى استعمار واحتكار عالمي‪ ،‬ومن هنا ظهرت إيديولوجية الطبقة العاملة جنبا‬
‫إلى جنب مع أفكار البرجوازية المستغلة‪ ،‬وهذا النوع من المجتمع يغلب عليه الصراع بين البرجوازية‬
‫والعمال‪.‬‬

‫ـ االشتراكية ـ الشيوعية‪ :‬في هذه المرحلة تبدأ الرأسمالية عملية االنحالل الذاتي بسبب تناقضاتها الداخلية‪،‬‬
‫متجهة بالمجتمع نحو النهاية المحتومة‪ ،‬بإحالل االشتراكية محل الرأسمالية لتصبح وسائل اإلنتاج مملوكة‬
‫ملكية جماعية‪ ،‬واالشتراكية هي مرحلة انتقالية الزمة في التطور االقتصادي ينتقل المجتمع عبرها من‬
‫الرأسمالية إلى الشيوعية‪ ،‬ويتم الوصول إلى االشتراكية بواسطة الثورة بقيادة العمال التي تصبح طبقة‬
‫حاك مة‪ ،‬وبذلك يتم هدم عالقات اإلنتاج القديمة‪ ،‬وينشأ النظام االشتراكي عندما تمتلك الدولة جميع وسائل‬
‫اإلنتاج ويتم زوال الملكية الفردية أو الخاصة‪ ،‬ويصبح مقياس االستهالك هو العمل‪ ،‬وذلك ألن كمية العمل‬
‫الذي يؤديه كل فرد هو الذي ونوعه هما اللذان يحددان القدر الذي يجب أن يناله من اإلنتاج االجتماعي‪،‬‬
‫وهذه الطريقة ـ حسب الماركسية ـ هي الطريقة الوحيدة العادلة لتقدير حقه في االستهالك‪ .‬إن هذا الوضع‬
‫الجديد هو الممهد لظهور المرحلة األخيرة من تاريخ البشرية وهي المرحلة الشيوعية حيث تنعدم الدولة‬
‫‪63‬‬
‫بالمعنى الحقيقي ومفهوم الطبقة في المجتمع وكل أدوات الصراع السابقة لتحل محلها المساواة بين الجميع‪.‬‬

‫‪ - 3‬أوجست كونت (‪)1857-1798‬‬


‫تمهيد‪:‬‬

‫أوجست كونت‪ ،‬فيلسوف فرنسي‪ ،‬ولد بمدينة مونبليه‪ ،‬من أهم مؤلفاته "دروس في الفلسفة الوضعية" الذي‬
‫نشره بين سنوات ‪ 1830‬و ‪.1842‬‬

‫لقد أكد كونت أن دروسه حول الفلسفة الوضعية تهدف إلى أمرين اثنين‪ :‬أولهما‪ ،‬وهو هدف خاص‪ ،‬يتعلق‬
‫بتشييد السوسيولوجيا‪ .‬والثاني‪ ،‬وهو هدف عام‪ ،‬يتعلق بتنسيق المعرفة الوضعية بكاملها‪ .‬وتعكس بنية عمله‬
‫هذا األمر‪ ،‬فاألجزاء الثالثة األولى تفحص العلوم األساسية الخمسة الموجودة آنذاك‪ ،‬الرياضيات والفلك‬
‫والفيزياء والكمياء والبيولوجيا‪ ،‬بينما تتعاطى األجزاء الثالثة األخيرة مع العلوم االجتماعية‪ ،‬ولم يتطلب‬
‫تنفيذ الجزئين القدر نفسه من العمل‪ ،‬ففي الحالة األولى‪ ،‬كانت العلوم مشكلة بالفعل وفي حاجة إلى مجرد‬

‫‪ 63‬ـ حسام الدين فياض‪ ،2017 ،‬كارل ماركس وعلم المجتمع‪ ،‬منشورات نحو علم اجتماع تنويري‪ ،‬ص من ‪ 30‬إلى ‪ .41‬الرابط‬
‫تلخيص لنقاطها المذهبية والمنهجية الرئيسة‪ .‬أما في الحالة الثانية‪ ،‬فإن كل شيء كان ال زال يتعين القيام به‪،‬‬
‫وكان كونت يدرك بشكل تام أنه يؤسس علما جديدا‪.‬‬

‫لقد قام كونت بتصنيف للعلوم القائمة في زمانه اعتمادا على القانون الذي اكتشفه لتطور العقل اإلنساني‪ ،‬ثم‬
‫‪64‬‬
‫عمل على تأسيس ما اعتبره نهاية للعلوم كلها وهو علم االجتماع‪.‬‬

‫‪1‬ـ قانون الحاالت الثالثة‬


‫يؤكد كونت أنه " بناء على طبيعة العقل اإلنساني نفسها البد لكل فرع من فروع معلوماتنا من المرور في‬
‫تطوره بثالث حاالت نظرية مختلفة متتابعة‪ :‬الحالة الالهوتية أو الخرافية‪ ،‬والحالة الميتافيزيقية أو المجردة‪،‬‬
‫وأخيرا الحالة العلمية أو الوضعية"‪ 65.‬ثم أضاف في كتابه "دروس الفلسفة الوضعية" قائال‪ " :‬بعبارة أخرى‪،‬‬
‫يستخدم العقل البشري اإلنساني بطبيعته‪ ،‬في كل بحث من بحوثه‪ ،‬ثالث طرق فلسفية متتابعة‪ ،‬يختلف طابعها‬
‫اختالفا جوهريا‪ ،‬بل قد يكون متضادا‪ :‬وهي أوال الطريقة الالهوتية‪ ،‬ثم الطريقة الميتافيزيقية‪ ،‬وأخيرا الطريقة‬
‫الوضعية‪ .‬ومن هنا تنشأ ثالثة أنواع من الفلسفة‪ ،‬أو من المذاهب الفكرية العامة عن مجموع الظواهر‪.‬‬
‫وتتنافى هذه األنواع الثالثة بعضها مع بعض‪ ،‬والفلسفة األولى نقطة بدء ضرورية للذكاء اإلنساني‪ ،‬وأما‬
‫الثالثة‪ ،‬فهي حالته النهائية الثابتة‪ ،‬وأما الثانية‪ ،‬فقد قدر لها أن تستخدم فقط كمرحلة انتقال"‪ 66.‬ينص قانون‬
‫الحاالت الثالثة إذن على أن البشرية‪ ،‬في تطرها‪ ،‬تمر بثالث حاالت متتالية‪ :‬الالهوتية والميتافيزيقية‬
‫‪67‬‬
‫والوضعية‪.‬‬

‫الحالة األولى‪ :‬الحالة الالهوتية‬

‫يطلق كونت اسم "الالهوت" على طريقة عامة تطبق في فهم مجموعة الظواهر‪ ،‬وهذه الطريقة تفسر ظهور‬
‫هذه الظواهر بالرجوع إلى إرادة اآللهة‪ .‬فكلمة الهوتي تدل عنده على ما هو "خرافي" و "خيالي" أو‬
‫"أسطوري"‪ .‬فهي تعني أن المرء ينسب إلى اآللهة رغبات وتصرفات إنسانية‪ ،‬ويرجع إليها في تفسير أسباب‬
‫‪68‬‬
‫الظواهر‪ ،‬ويطلق على هذه الظاهرة في التفكير اسم مذهب التشبيه‪.‬‬

‫ومعنى هذا أنه ال يمكن أن يفهم من قانون الحاالت الثالث أن تطور اإلنسانية سيبتعد بها دائما عن الالهوت‬
‫ليفضي بها إلى حالة نهائية ال يجد فيها الدين مكانا له‪ .‬إن تقدم اإلنسانية سيقودها‪ ،‬على خالف ذلك‪ ،‬إلى حالة‬
‫ستكون دينية بمعنى الكلمة‪ ،‬وفي هذه الحالة سينظم الدين حياة اإلنسان بأسرها‪ ،‬فبمعنى ما يمكننا أن نتصور‬
‫تاريخ اإلنسانية كما لو كان تطورا يبدأ بالديانة البدائية (الوثنية) وينتهي إلى الديانة النهائية (الوضعية)‪،‬‬
‫‪69‬‬
‫ولكن ليس موضوع قانون الحاالت الثالث هو التعبير عن التطور الديني لإلنسانية‪.‬‬

‫لم يكن باستطاعة اإلنسان أن يبدأ في تفسير الطبيعة إال بفلسفة ذات طبيعة دينية؛ ألن هذه الفلسفة هي الوحيدة‬
‫التي تنشأ بصفة تلقائية‪ ،‬وهي الوحيدة التي ال تفترض وجود فلسفة أخرى قبلها‪ .‬ففي مبدأ األمر يدرك اإلنسان‬

‫‪ 64‬ـ ميشيل بوردو‪ ،2022 ،‬أوجست كونت‪ ،‬ترجمة خالد أبو هريرة‪ ،‬مجلة حكمة‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪ 65‬ـ ليفي بريل‪ ،1952 ،‬فلسفة أوجست كونت‪ ،‬ترجمة محمود قاسم والسيد محمد بدوي‪ ،‬مكتبة األنجلو مصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪ 66‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.35‬‬


‫‪ 67‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫‪ 68‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪ 69‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫جميع أنواع النشاط على غرار نشاطه الخاص‪ ،‬وإذا أراد فهم الظواهر ماثل بينها وبين أفعاله التي يعتقد أهن‬
‫يدرك طريقة نشأتها؛ ألنه يشعر بمجهوده وبأفعاله اإلرادية‪ ،‬وهذا التفسير القائم مذهب التشبيه لإلنسان‬
‫‪70‬‬
‫طبيعي جدا إلى درجة أننا على استعداد للركون إليه دون عناء ما‪ ،‬وتلك هي الحال إلى يومنا هذا‪.‬‬

‫إن المرحلة الالهوتية هي بداية ما أطلق عليه التاريخ العقلي لإلنسانية‪ ،‬حيث أصبحت مالحظة الظواهر‬
‫أمرا ممكنا بسبب الفلسفة الالهوتية‪ ،‬وكانت هذه المالحظة سببا في نفاذ فكرة القوانين إلى العقول شيئا‬
‫‪71‬‬
‫فشيئا‪.‬‬

‫الحالة الثانية‪ :‬المرحلة الميتافيزيقية‬

‫لقد استعمل كونت الميتافيزيقا استعماال خاصا‪ ،‬مخالفا مدلولها العام الذي يدل على علم الوجود من حيث هو‬
‫وجود‪ ،‬أو علم الجوهر‪ ،‬أو علم المبادئ األولى‪ 72.‬إن الميتافيزيقي هو المجرد‪ ،‬وفيه تخلي العوامل الخارقة‬
‫للطبيعة مكانها إلى قوى مجردة‪ ،‬مثل "الطبيعة" عند اسبينوزا‪ ،‬و " اإلله المهندس" عند ديكارت‪ ،‬و "المادة"‬
‫عند ديدرو‪ ،‬و "العقل" في قرن األنوار‪ .‬فالفكر هنا بقي حبيس تصورات فلسفية مجردة‪ ،‬ويرد الواقع إلى‬
‫‪73‬‬
‫مبادئ أولية‪.‬‬

‫إن المرحلة الميتافيزيقية تستخدم باعتبارها مرحلة انتقال فقط؛ ألنه ال يمكن االنتقال من الفلسفة الالهوتية‬
‫إلى الفلسفة الوضعية دفعة واحدة‪ ،‬فالتضاد بينهما عميق جدا‪ ،‬والذكاء اإلنساني لم يألف مثل هذا التغير‬
‫المفاجئ‪ .‬إن المرحلة الميتافيزيقية بهذا المعنى ال يوجد مبدأ خاص في تعريفها‪ ،‬فالفلسفة الالهوتية تكفي‬
‫نفسها بنفسها‪ ،‬وتكون كال متجانس األجزاء‪ ،‬وكذلك ستكون الحالة الوضعية متجانسة تمام التجانس‪ .‬أما‬
‫المرحلة الميتافيزيقية‪ ،‬فال يمكن تعريفها إال بالمزج بين الحالتين األخريين‪ ،‬فهي متصلة في آن واحد بعلم‬
‫الالهوت وبعلم الطبيعة‪ ،‬وإذا وجب إرجاع هذه الحالة المتوسطة إلى إحدى الحالتين فإن كونت ال يتردد في‬
‫إرجاعها إلى الحالة الالهوتية‪ ،‬فالميتافيزيقا تستعيض عن "اإلرادات اإللهية" بالقوى‪ ،‬وعن "الخالق"‬
‫بالطبيعة‪ ،‬لكنها تنسب إلى القوى الطبيعية وظيفة شديدة الشبه بوظيفة اإلرادة اإللهية والخالق‪...‬لذلك ال‬
‫‪74‬‬
‫تنطوي هذه الفلسفة على أي ضمان ضد عودة المبادئ الالهوتية إلى الهجوم‪.‬‬

‫الحالة الثالثة‪ :‬المرحلة الوضعية‬

‫لقد أوضح كونت أن هناك عدة معان لكلمة "وضعية"‪ ،‬فتدل على‪1 :‬ـ الحقيقي أو ما يقف ضد الوهم‪ 2 .‬ـ‬
‫المفيد أو ما يقف ضد غير المجدي‪ 3 .‬ـ اليقين خالفا للتردد‪ 4 .‬ـ المحدد أو ما يقف ضد الغامض‪ 5 .‬ـ اإليجابي‬
‫بعكس السلبي (تشير في هذه الحالة إلى أحد أبرز روابط الفلسفة الحديثة الحقة‪ ،‬بإظهار أنها موجهة‪ ،‬بحكم‬
‫‪75‬‬
‫طبيعتها‪ ،‬نحو البناء وليس التدمير)‪.‬‬

‫‪70‬ـ فاروق عبد المعطي‪ ،1993 ،‬أوجست كونت‪ :‬مؤسس علم االجتماع الحديث‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.134‬‬

‫‪ 71‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.137‬‬


‫‪ 72‬ـ ليفي بريل‪ ،‬فلسفة أوجست كونت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪ 73‬ـ فيليب كابان و جان فرانسوا دورتيه‪ ،2010 ،‬علم االجتماع‪ ،‬من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية‪ ،‬إعالم وتواريخ وتيارات‪ ،‬ترجمة إياس‬
‫حسن‪ ،‬دار الفرقد‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪ 74‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.140‬‬
‫‪75‬ـ ايلينا فالديمير وفونا أوسيبوفا‪ ،‬أوجست كونت ومنشأ السوسيولوجيا الوضعية‪ ،‬في تاريخ السوسيولوجيا الكالسيكية‪ ،‬تأليف مجموعة‬
‫من الماركسيين السوفييت‪ ،‬ترجمة مالك أبو عليا‪ ،‬من ص ‪ 11‬إلى ص ‪ ،23‬الحوار المتمدن‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫إن الوضعية إذن معرفة ما هو حقيقي واقعي ال ما هو متوهم متعال‪ ،‬وبالمعرفة المفيدة ال بالتأمل العقيم‪،‬‬
‫وباليقين (وهو غير المطلق) بدل التردد والشك‪ ،‬وبالتنظيم بدل السلب والتدمير‪ ،‬وهدفها اكتشاف العالقات‬
‫الثابتة بين تلك الظواهر‪ ،‬وهي في ذلك تختلف عن البحث عن األسباب‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ تصنيف العلوم‬


‫إن الفكرة المركزية النطالق كونت هي تمييز العلم عن الميتافيزيقا والالهوت‪ ،‬فالعلم يتميز عن غيره بالتخلي‬
‫عن القضايا التي ال يمكن تأكيدها أو نفيها‪ ،‬واالعتماد على الحقائق التي يمكن مالحظتها‪ ،‬فجوهر األشياء‬
‫وأسبابها أمور غير علمية‪ ،‬إن الموضوع األساسي للعلوم هي القوانين التي تفهم على أنها عالقات ثابتة‬
‫ومتكررة بين الظواهر‪.‬‬

‫يميز كونت بين نوعين من العلوم‪ :‬العلوم األساسية أو المجردة‪ ،‬والعلوم الجزئية أو التطبيقية‪ ،‬فاألولى تدرس‬
‫القوانين العامة لمجموعة من الظواهر الخاصة كالظواهر الهندسية والحسابية والظواهر االجتماعية‪ ،‬بينما‬
‫تعمل العلوم الجزئية على تطبيق تلك القوانين العامة في مجاالت خاصة؛ لذلك تعد األولى سابقة على الثانية‪،‬‬
‫فعلم األحياء علم أساسي مجرد‪ ،‬أما الطب‪ ،‬فعلم جزئي تطبيقي‪ ،‬وعلم االجتماع يجب أن يكون علما أساسيا‬
‫مجردا‪ ،‬أما االقتصاد‪ ،‬فعلم تطبيقي جزئي‪.‬‬

‫إن العلوم الوضعية المجردة ستة‪ ،‬خمسة قائمة‪ ،‬وهي الرياضة والفلك والفيزياء والكمياء واألحياء‪ ،‬والسادس‬
‫في طور البناء وهو علم االجتماع‪ .‬وهذه العلوم كل واحد منها يشترط قيام السابق عليه‪ ،‬لذلك فمعيار تصنيف‬
‫العلوم عند كونت يقوم على مبدأي التعميم أو التجريد ثم البساطة والتعقيد‪ ،‬فتطور العلوم ينطلق من األقل‬
‫تعقيدا واألكثر تجريدا‪ ،‬ثم إلى األكثر فاألكثر تعقيدا واألقل فاألقل تجريدا‪ ،‬وبهذا المعنى كانت الرياضيات‬
‫أول العلوم ظهورا وعلم االجتماع آخرها ظهورا‪ ،‬فاألول يتناول الظاهرة األكثر تعميما وتجريدا واألقل‬
‫تقعيدا‪ ،‬أما الثاني‪ ،‬فيتناول الظاهرة (المجتمع) األقل تعميما وتجريدا واألكثر تعقيدا‪.‬‬

‫إن هذه العلوم الستة كلها علوم وضعية‪ ،‬حيث أقلعت جميعها عن السعي وراء الحقيقة المطلقة إلى الحقيقة‬
‫‪76‬‬
‫النسبية‪ ،‬وعن البحث عن األسباب إلى معرفة القوانين‪ ،‬وال خالف بين هذه العلوم إال في موضوعاتها‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ تصور أوجست كونت لعلم االجتماع‬


‫أ ـ مكانة علم االجتماع داخل النظام الوضعي‬

‫لقد أطلق كونت في البداية اسم "الطبيعة االجتماعية" على العلم الجديد‪ ،‬لكن أدولف كيتلي(‪،)Quetelet‬‬
‫عالم رياضيات وفلك‪ ،‬قد قام قبله بهدة أشهر بتبني تعبير "الفيزياء االجتماعية" ليطبقه على علم جديد هي‬
‫الدراسة اإلحصائية للجماعات البشرية‪ ،‬حيث اكتشف االستخدام الممكن لإلحصاء من أجل تفسير ظواهر‬
‫مثل اإلجرام وتحديد تواتره ضمن الشعب؛ لذلك تخلى كونت‪ ،‬مكرها‪ ،‬عن هذا االسم إلى كلمة "علم‬
‫االجتماع" سنة ‪ 77.1839‬ويحتل علم االجتماع قمة سلم العلوم الشامل للعلوم كلها‪ ،‬وهذا ما جعله يتفق معها‬
‫في مواطن ويختلف عنها في أخرى‪ .‬إن علم االجتماع‪ ،‬حسب تعريف موضوعه ومنهجه‪ ،‬ينسجم كليا مع‬

‫‪ 76‬ـ فاروق عبد المعطي‪ ،1993 ،‬أوجست كونت‪ :‬مؤسس علم االجتماع الحديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.170‬‬
‫‪ 77‬ـ فيليب كابان و جان فرانسوا دورتيه‪ ، 2010 ،‬علم االجتماع‪ ،‬من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية‪ ،‬إعالم وتواريخ وتيارات‪ ،‬مرجع‬
‫سابق‪ ،‬ص ‪.21‬ن‬
‫باقي أجزاء المعرفة الوضعية‪ ،‬فإذا كانت الرياضيات تبحث عن قوانين الظواهر الهندسية‪ ،‬فإن علم االجتماع‬
‫يبحث عن القوانين العامة للظواهر االجتماعية‪ ،‬فال فرق بين علم وضعي وآخر إال في الموضوع‪ ،‬أي‬
‫الظواهر موضوع البحث‪ .‬لكن العلوم األساسية األخرى كل واحد منها يمهد لما بعده‪ ،‬أما علم االجتماع‪ ،‬فهو‬
‫علم نهائي‪ ،‬فكل علم من العلوم الخمسة يجب أن يهتم به فقط بالقدر الضروري الذي يسمح للعلم الالحق له‬
‫أن يتخذ الشكل الوضعي‪ ،‬أما علم االجتماع‪ ،‬فيضع مبادئ األخالق والسياسة‪ ،‬وعبر علم االجتماع تكتسب‬
‫الطريقة الوضعية صفة العموم‪ .‬ويختلف علم االجتماع عن غيره من العلوم الوضعية كذلك بأن العلوم‬
‫األخرى قد وجدت بالفعل‪ ،‬أما علم االجتماع فإنه في طور التأسيس فقط‪ ،‬وهذا ال يعنى أن غير كونت لم يهتم‬
‫بهذا التأسيس‪ ،‬ولكن كل واحد منهم كان ينقصه عنصر معين‪ ،‬فأرسطو مثال كان عبقريا في الموضوع لكن‬
‫كانت تنقصه فكرة التقدم والمعرفة الشاملة المتنوعة للتاريخ‪ ،‬وعدم نشأة العلوم الوضعية الممهدة باستثناء‬
‫الرياضيات‪ .‬أما مونتيسكيو مثال‪ ،‬فقد سبق عصره في مسألة تعميم فطرة القانون الطبيعي وإخضاع الظواهر‬
‫السياسية والتشريعية واالقتصادية لهذا القانون‪ ،‬لكنه فهم بعض القوانين الثانوية على أنها قوانين أساسية مثل‬
‫القوانين الخاصة بتأثير المناخ‪.‬‬

‫ب ـ تعريف علم االجتماع وتحديد موضوعه‬

‫إن تعريف علم االجتماع عند كونت ال يختلف عن تعريف باقي العلوم الوضعية إال من حيث الموضوع‪،‬‬
‫فهو العلم الذي يدرس الظواهر االجتماعية دراسة وضعية‪ ،‬وينصب هذا البحث عن القوانين العامة لتلك‬
‫الظواهر‪ ،‬وال يبحث علم االجتماع في أسباب الظواهر وعللها األولى؛ ألن ذلك بحث الهوتي أو ميتافيزيقي‬
‫وليس وضعيا‪ .‬إن علم االجتماع يتخذ من الظاهرة االجتماعية موضوعا له‪ ،‬لكن كونت لم يهتم بتعريف‬
‫الظاهرة االجتماعية كما فعل مع الظاهرة الكيميائية والحيوية‪ ،‬ويمكن إرجاع ذلك إلى أمرين اثنين‪ :‬أولهما‪:‬‬
‫إن كونت لم يكن مهتما كثيرا بتحديد موضوع علم االجتماع بقدر ما مان مهتما بالدعوة له‪ 78.‬وثانيهما أن‬
‫الظاهرة االجتماعية تعرف نفسها بنفسها‪ ،‬وذلك بطريق الحذف‪ .‬فإذا كانت الظواهر االجتماعية هي األكثر‬
‫تعقيدا من بين تلك التي يمكن الوقوف عليها‪ ،‬فإن كل الظواهر التي ال تدرسها العلوم السابقة تكون موضوع‬
‫‪79‬‬
‫علم االجتماع‪.‬‬

‫ج ـ أقسام علم االجتماع‬

‫يميز كونت بين موضوعين في علم االجتماع‪ ،‬موضوع يهتم بدراسة شروط وجود المجتمع (أي علم‬
‫االجتماع الخاص باالستقرار) واآلخر بدراسة قوانين حركة المجتمع وتطوره (أي علم االجتماع الخاص‬
‫بالتطور)‪ ،‬والتمييز بينهما قائم على التمييز بين فكرتي النظام والتقدم‪ .‬وبالرغم من تباين موضوع هذين‬
‫القسمين إال أنهما ليسا علمين مستقلين‪ 80،‬لكنهما متالزمان‪ ،‬حيث يؤكد كونت "أن التقدم دائما وكأنه التطور‬
‫‪81‬‬
‫التدريجي للنظام‪ ،‬ولصورة معاكسة‪ ،‬إنه يقدم النظام معبرا عنه بالتقدم"‪.‬‬

‫القسم األول‪ :‬االستقرار االجتماعي‬

‫تحتل "االستاتيكا االجتماعية" مكانا صغيرا جدا بالمقارنة مع الديناميكا االجتماعية‪ .‬وينطلق كونت في هذا‬
‫الباب من فكرة التضامن االجتماعي‪ ،‬فهي الفكرة التي تسيطر على علم االجتماع الخاص باالستقرار‪ ،‬فكل‬

‫‪ 78‬ـ عبد الباسط عبد المعطي‪ ،1981 ،‬اتجاهات نظرية في علم االجتماع‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،44‬الكويت‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ 79‬ـ ـ ليفي بريل‪ ،‬فلسفة أوجست كونت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.229‬‬
‫‪ 80‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.243‬‬
‫‪ 81‬ـ بناء علم االجتماع‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫عنصر من العناصر التي يتألف منها هذا الكائن (مثل النظام السياسي واالقتصادي والديني والعائلي‬
‫والتعليمي وغيرها) يجب أن يدرس على ضوء الصلة التي تربطه بالعناصر األخرى التي تتضامن معه‬
‫دائما‪ ،‬وقد ميز كونت في باب االستقرار االجتماعي بين ثالثة عناصر فقط‪ ،‬وهي‪ :‬الفرد واألسرة والمجتمع‪.‬‬
‫والعنصر االجتماعي األول هو األسرة وليس الفرد‪ ،‬فالمجتمع اإلنساني يتألف من أسر ال من أفراد‪ ،‬وهذا‬
‫مبدأ أولي في علم االجتماع الخاص باالستقرار‪ ،‬واألسرة في نظره شيء طبيعي وبديهية أولية‪ ،‬فال ينبغي‬
‫الصعود في البحث إلى أبعد منها‪ ،‬بل يكفي أن تحدد الشروط البيولوجية لتكوينها‪ ،‬وينظر كونت إلى الزواج‬
‫بالمنظور نفسه‪ ،‬فهو استعداد طبيعي عام وقاعدة أولية ضرورية في كل مجتمع‪ ،‬وإضعاف الزواج أو التقليل‬
‫من أهميته سيؤدي إلى تفكيك األسرة ومن ثم تقويض العناصر األساسية التي يتكون منها المجتمع‪ ،‬وهذا ما‬
‫جعل كونت يتخذ موقفا مناهضا للطالق‪ ،‬وفي ذلك تأييد للتصور المسيحي لألسرة‪ ،‬لكن مع تنقية هذا المفهوم‬
‫من جانيه الديني‪ ،‬فهذه النظم جيدة في أصلها وال يشوب رونقها إال ارتباطها بعقائد آخذة في الزوال‪ .‬وإذا‬
‫ظلت األسرة متمسكة بالمبادئ الدينية باعتبارها قاعدة عقلية لها فإن ذلك سيزيد من إضعافها بضعف تلك‬
‫العقائد‪.‬‬

‫إن المجتمع إذن يتألف من أسر‪ ،‬ولكنه هو ذاته ليس أسرة كبيرة‪ ،‬كما أنه ليس مجموعة من األسر المتراصة‬
‫التي تعيش معا‪ ،‬فالمجتمع متميز عن األسرة‪ ،‬فاألسرة "اتحاد" يتميز بطبيعته الخلقية والعاطفية‪ ،‬أما الناحية‬
‫العقلية فيها فثانوية جدا‪ ،‬والمبدأ الذي تقوم عليه األسرة يوجد في الوظائف العاطفية كالحنان المتبادل بين‬
‫الزوجين وعطف اآلباء على األوالد‪ .‬أما المجتمع فليس اتحادا بل هو "تعاون"‪ ،‬ويمتاز بطبيعة عقلية‪ ،‬أما‬
‫الناحية العاطفية فيه فثانوية‪ .‬ويطلق في زمان كونت على هذا التعاون تقسيم العمل‪ ،‬والتعاون مبدأ عام قد‬
‫يربط الشعوب المختلفة فيما بينها‪ .‬وتقسيم العمل هو السبب األول في االتساع والتعقيد المستمر الذي يطرأ‬
‫‪82‬‬
‫على الكائن االجتماعي‪.‬‬

‫القسم الثاني‪ :‬التطور االجتماعي‬

‫يعد هذا الفرع الجزء الرئيسي في علم االجتماع‪ ،‬ألن مبدأ إمكان وجود علم للظواهر االجتماعية قد اتضح‬
‫عند كونت منذ أن كشف عن قانون الحاالت الثالث‪ ،‬ووظيفة هذا القسم هي اكتشاف قوانين التغير‪.‬‬

‫قسم كونت األسباب المؤثرة في التطور االجتماعي إلى أساسية وثانوية‪ ،‬ومن األسباب األساسية والحاسمة‬
‫هو التطور الروحي والذهني‪ ،‬أما المناخ والعرق والعمر ومتوسط حياة الناس ونمو السكان‪ ،‬فهي عوامل‬
‫ثانوية‪ .‬وقسم أنواع التقدم إلى تقدم مادي (تطور شروط الحياة الخارجية) وطبيعي (استكمال الطبيعة البشرية)‬
‫وفكري (تطور الفكر واالنتقال من النظرة الدينية للعالم إلى النظرة الوضعية) وأخالقي (تطور الجماعة‬
‫والمشاعر األخالقية)‪ ،‬واعتبر التطورين األخيرين األكثر أهمية في عملية التقدم؛ لذلك فالتطور االجتماعي‬
‫يستند بشكل كبير على تاريخ الروح البشرية‪.‬‬

‫إن من أهم مؤشرات تطور العقل البشري طبيعة النظم الفلسفية التي تصاحبه‪ ،‬ولكل مرحلة في تطور العقل‬
‫البشري (الالهوتية والميتافيزيقية والوضعية) هناك أشكال متوافقة معها من الفن واالقتصاد والسياسة‬
‫والتنظيم االجتماعي‪ ،‬فالمراحل الثالثة في تطور العقل يقابلها ثالثة مراحل مماثلة في التطور التاريخي‪.‬‬

‫لقد قسم كونت المرحلة الالهوتية التي تضمنت العصور القديمة والوسطى إلى حدود عام ‪ ،1300‬إلى ثالث‬
‫فترات‪ ،‬وهي‪ :‬الوثنية‪ ،‬حيث عزا الناس الحياة لألشياء الخارجية واعتبروها آلهة لهم‪ .‬والشركية التي كانت‬

‫‪ 82‬ـ ليفي بريل‪ ،‬فلسفة أوجست كونت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ 243‬إلى ‪.253‬‬
‫منتشرة في اليو نان وروما حيث قامت "الكائنات الخيالية" بتفسير كل الظواهر‪ ،‬وأنشئت في هذه المرحلة‬
‫"نظرة شعرية للعالم" شجعت تطور اإلبداع الفني ولكنها لم تكن قادرة على توجيه الممارسة‪ ،‬وكان هذا‬
‫سبب ضعف تطور الثقافة المادية في العصور القديمة‪ .‬ومرحلة التوحيد‪ ،‬وهو العصر المسيحي‪ ،‬حيث غير‬
‫دين اإلله الواحد صورة العالم والعالقات السياسية واالجتماعية واألخالق والعادات‪ ،‬وحصل انسجام كبير‬
‫وغير معتاد بين دولة القرون الوسطى والدين‪.‬‬

‫لقد امتدت المرحلة الميتافيزيقية خالل الفترة المتراوحة بين ‪1300‬و ‪ ،1300‬ومن أهم ما ميز هذه المرحلة‬
‫اإلخالل بالمع تقدات القديمة وأسس النظام االجتماعي‪ ،‬وكان اإلصالح وفلسفة التنوير والثورات من أهم‬
‫أحداث هذه المرحلة‪ ،‬فقد قاد النقد السلبي إلى تراجع كل سلطة‪ ،‬وقوة الطبقات الحاكمة والدين‪ ،‬ولكن لم تنشئ‬
‫الثورة مذهبا يمكنه توحيد العقول بالرغم من تحريرها لألفراد‪ ،‬فالجهل بالتاريخ وقوانينه قد أغرق المجتمع‬
‫في حالة مرضية‪ ،‬وهذا ما جعل المجتمع المعاصر في حاجة إلى مذهب جديد يحل محل المذهب الخيالي‬
‫الوهمي‪.‬‬

‫إن انتشار العلوم ونمو أهميتها االجتماعية ونشوء النظرية الوضعية تدريجيا كان دليال على أن المجتمع‬
‫يدخل مرحلته الوضعية األخيرة‪ ،‬وقد بدأ النظام الصناعي يحل محل النظام العسكري المميز للعصر‬
‫الالهوتي‪ ،‬واستخدام االكتشافات العلمية لصالح اإلنسانية جمعاء سيضمن تطورا متجانسا ومتساويا لكل‬
‫عناصر الحياة‪ ،‬وبذلك ستنتصر الغيرية على األنانية‪ ،‬والمشاعر االجتماعية والثقافة المادية ما يضمن حياة‬
‫‪83‬‬
‫سهلة وعدال للجميع‪ ،‬وهذا ما يميز المرحلة الوضعية‪.‬‬

‫د ـ مناهج علم االجتماع‬

‫إن موضوع علم االجتماع هو األشد تعقيدا مقارنه مع موضوعات العلوم األخرى‪ ،‬وكلما زادت الظواهر‬
‫تعقيدا كثرت األساليب المنهجية التي نستعين بها على دراستها‪ ،‬وعلم االجتماع‪ ،‬باعتباره علما نهائيا‪ ،‬يستخدم‬
‫المناهج المستعملة في العلوم السابقة والمناهج الخاصة به؛ لذلك فهو وحده الذي يستخدم المنهج الوضعي‬
‫في أكمل صوره‪ 84.‬وقد وجد في العلوم السابقة‪ ،‬باستثناء الرياضيات التي يأخذ منها عالم االجتماع الفكرة‬
‫الوضعية فقط‪ ،‬ثالثة مناهج‪ ،‬وهي‪ :‬المالحظة والتجربة والمقارنة‪ ،‬وسينشأ مع علم االجتماع المنهج‬
‫التاريخي‪ ،‬فكانت المناهج المستخدمة في علم االجتماع أربعة‪.‬‬

‫ـ المالحظة‬

‫المراد بالمالحظة مراقبة الظاهرة المدروسة مراقبة علمية‪ .‬ومن مقتضيات مالحظة الظواهر االجتماعية أن‬
‫يضع المرء نفسه خارج الشيء الذي يالحظه‪ ،‬فالظواهر يجب أن تبدو موضوعية ومنفصلة عنا ومستقلة‬
‫عن حاالت شعورنا الفردية‪ ،‬ولضمان هذه الشروط وجب تدخل العقل إلعداد ما يراد مالحظته‪ ،‬أي أن‬
‫‪85‬‬
‫المالحظة يجب أن تكون مزودة بنظرية سابقة‪.‬‬

‫ـ التجربة‬

‫‪ 83‬ـ ايلينا فالديمير وفونا أوسيبوفا‪ ،‬أوجست كونت ومنشأ السوسيولوجيا الوضعية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪19‬ـ ‪.20‬‬
‫‪ 84‬ـ ليفي بريل‪ ،‬فلسفة أوجست كونت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.233‬‬
‫‪85‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص‪.234‬‬
‫المراد بالتجربة مجموع اإلجراءات التي تهدف إلى التحقق أو تكذيب الفروض العلمية‪ ،‬لكن التجربة بهذا‬
‫المعنى تظل غير ذات أهمية في علن االجتماع ما لم تكن مسبوقة بنظرية في الموضع‪ ،‬أي بمعرفة قوانين‬
‫تطور العقل والمجتمع‪.‬‬

‫ـ المقارنة‬

‫إن المنهج المقارن كما هو مفيد لعالم الحياة فهو مفيد لعالم االجتماع‪ ،‬فهو يماثل بين االحاالت المختلفة‬
‫للمجتمع اإلنساني‪ ،‬تلك الحاالت التي توجد في آن واحد في مختلف أجزاء الكرة األرضية‪ ،‬ويماثل أيضا بين‬
‫‪86‬‬
‫شعوب منفصل بعضها عن بعض‪.‬‬

‫ـ المنهج التاريخي‬

‫تعد الطريقة التاريخية‪ ،‬وهي طريقة ذات صبغة اجتماعية خالصة‪ ،‬أسمى مراتب األساليب العلمية في علم‬
‫االجتماع‪ ،‬وبها يكتمل المنهج الوضعي‪ .‬وإذا كان علم االجتماع علما مجردا‪ ،‬فإن التاريخ هو وسيلته األساسية‬
‫في البحث‪ ،‬والهدف من المنهج التاريخي ليس سرد األحداث أو التحقق منها‪ ،‬ولكن الكشف عن القوانين التي‬
‫‪87‬‬
‫تسيطر على النمو االجتماعي للنوع اإلنساني‪.‬‬

‫خاتمة المحور‬

‫قد تميز علم االجتماع في بدايته بمجموعة من السمات منها‪:‬‬

‫ـ لقد كان ذا طابع موسوعي؛ إذ كان يهتم بالحياة االجتماعية لإلنسان في مجموعها وبالتاريخ بأكمله‪.‬‬

‫ـ ويتميز بالخاصية التطورية‪ ،‬فقد كان علم االجتماع تحت تأثير فلسفة التاريخ تطوريا‪ ،‬فكان يسعى‬
‫إلى تحديد المراحل الرئيسية للتطور االجتماعي‪.‬‬

‫ـ ويتميز بالخاصية الوضعية؛ إذ كان الناس يعتبرونه علما وضعيا له نفس طابع العلوم الطبيعية‪ ،‬فقد‬
‫كانت العلوم االجتماعية تفهم بصفة عامة إبان القرن الثامن عشر على أنموذج الفيزياء‪ ،‬أما علم االجتماع‪،‬‬
‫‪88‬‬
‫فقد فهم في القرن التاسع عشر على أنموذج علم الحياة‪.‬‬

‫‪ 86‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.236‬‬


‫‪87‬ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.237‬‬
‫‪ - 88‬بوتومور توم‪ ،‬تمهيد في علم االجتماع‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪11-10 :‬‬

You might also like