You are on page 1of 7

‫جوانب خفية من مصر القديمة‪ ..

‬كيف كشفت التكنولوجيا الحديثة أسرارالفراعنة؟‬

‫قبل نحو قرن من اآلن‪ ،‬افتتح عالم اآلثار اإلنجليزي هوارد كارتر مقبرة امللك الشاب توت عنخ آمون التي كانت‬
‫ُ َ‬
‫تستكين في حضن الهدوء وتغلق األبواب على أسرارها‪ ،‬واكتشف أنها تزدان بمجوهرات ُمزخرفة‪ ،‬وتحمل بين طياتها أثاثا‬
‫جميال‪ ،‬ومالبس فاخرة‪ ،‬فضال عن قناع الوجه الذهبي الشهير‪ .‬كان كل ش يء منسجما مع طقوس الدفن امللكي في أكثر‬
‫العصور ازدهارا في تاريخ مصر القديمة‪ ،‬بدت جميع األشياء متناسقة باستثناء ش يء واحد فقط كان متواريا وراء أربطة‬
‫املومياء‪ ،‬وهو خنجر ظهر وكأنه في غير محله‪.‬‬
‫وألن طبيعة اإلنسان تنجذب بقوة إلى السعي ملعرفة األشياء التي يحفها الغموض‪ ،‬حاول كارتر استكشاف هذا‬
‫الخنجر‪ ،‬وتبين أن املشكلة لم تكن في غالفه الذهبي‪ ،‬بل في شفرته املصنوعة من الحديد الالمع‪ ،‬وهو معدن لم يتعلم‬
‫املصريون صهره إال بعد قرون من وفاة امللك توت عنخ آمون‪ ،‬لذا افترض كارتر أن الخنجر ربما تم استيراده من اإلمبراطورية‬
‫ُ‬
‫الحيثية القديمة في األناضول‪ ،‬وهي إمبراطورية اشتهرت بصناعتها املبكرة للحديد‪ .‬غير أن نظرية كارتر ‪-‬التي افترضت أن‬
‫صنع في مناطق أبعد بكثير من مصر القديمة‪ -‬لم تجد برهانا إال في عام ‪ ،6102‬وبالفعل تأكدت النظرية حينها‪،‬‬ ‫الحديد ُ‬
‫واكتشف الباحثون أيضا أن هذا الخنجر ينطوي على مستويات عالية من النيكل املرتبط بالحديد النيزكي‪.‬‬

‫"هوارد كارتر" عالم اآلثار اإلنجليزي ومساعد مصري يفحصان تابوت امللك توت عنخ آمون‪ ،‬عثر عليه أثناء التنقيب في قبره‬
‫في وادي امللوك‪ ،‬مصر‪ ،‬أكتوبر ‪ .0261‬تصوير‪ :‬هاري بيرتون‪( .‬شترستوك)‬

‫يميز هذا االكتشاف ويجعله حدثا يستثير االهتمام والفضول هي الطريقة التي اتبعها العلماء لتحليل هذا‬ ‫ما ّ‬
‫ُ‬
‫الخنجر دون إتالفه باستخدام األشعة السينية‪ .‬وت َع ُّد هذه العملية مؤشرا على نهج جديد في علم املصريات ُيشدد على‬
‫الحفاظ على اآلثار من التدمير‪ ،‬حيث أصبح بإمكاننا اآلن دراسة املومياوات دون فك أغلفتها‪ ،‬بل واألهم من ذلك هو قدرتنا‬
‫‪1‬‬
‫على خلق مناظر طبيعية افتراضية للموجودات قبل آالف السنين مع الحفاظ على القطع األثرية سليمة لألجيال القادمة‪.‬‬
‫لطاملا تسللت هذه االكتشافات إلى وجدان كارتر كاألحالم البعيدة التي تحفر سراديبها في أعماقه‪.‬‬
‫قد تعتقد أن املسح الضوئي للمومياء تقنية جديدة لم تعلن عن نفسها سوى مؤخرا‪ ،‬لكن الحقيقة أن األشعة‬
‫السينية اكتشفها العلماء ألول مرة عام ‪ ،0921‬وبعد بضع سنوات في عام ‪ ،0211‬نقل كارتر جثة الفرعون تحتمس الرابع‬
‫البالغة من العمر ‪ 1111‬عام من املتحف املصري على ظهر عربة تجرها خيول إلى مشفى قريب يتمتع بالتكنولوجيا الحديثة‬
‫لتصوير الجثة باألشعة السينية‪ .‬لكن في العقود األخيرة‪ ،‬انبعثت في صدور علماء اآلثار آمال جديدة ملا طرأ من تغيرات كبيرة‬
‫في طريقة استخدامهم لألشعة السينية‪ .‬فبعدما ظلت أعينهم ألزمنة طويلة تنقب في الظلمات عن بارقة أمل‪ ،‬بات من اليسير‬
‫ُ‬
‫طلق األشعة السينية من زوايا متعددة إلنتاج‬ ‫عليهم اآلن الوصول إلى أجهزة التصوير املقطعي املحوسب عالية الدقة‪ ،‬التي ت ِ‬
‫صورة ثالثية األبعاد للبنية الداخلية للكائن‪ ،‬ما يسمح بفحصه وتحليله جيدا قبل أن يغطيه الزمن برداء النسيان‪.‬‬

‫الخراا الرمي لمموميااا‬


‫في عام ‪ ،6160‬أعلن زاهي حواس‪ ،‬وزير اآلثار املصري السابق‪ ،‬بالتعاون مع سحر سليم‪ ،‬وهي دكتورة جامعية‬
‫ُمتخصصة في علم األشعة بجامعة القاهرة‪ ،‬عن "فك أغلفة مومياء أمنحتب األول رقميا" باستخدام التصوير املقطعي‬
‫ُ‬
‫املحوسب‪ .‬وأمنحتب هو الفرعون الذي حكم مصر قبل توت عنخ آمون بقرنين‪ ،‬أي نحو عام ‪ 0111‬قبل امليالد‪ .‬األمر‬
‫املؤسف أن قبر امللك قد سبق وتعرض للنهب في العصور القديمة‪ ،‬وغاص في غموض شامل كأنه تاريخ قديم بال وثائق‪ .‬لكن‬
‫بعد عدة أجيال‪ ،‬أنقذ الكهنة جسد الفرعون وأعادوا دفنه ليصونوه من شوائب الزمن قبل أن يترصده الضياع والفناء‪.‬‬
‫املنقبون فيما بعد في أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬وحفظوه بصورة‬ ‫وبعد أن توارى الجسد عن البصر أزمنة طويلة‪ ،‬اكتشفه ّ‬
‫جميلة داخل تابوت يحمل بين طياته أكاليل الزهور‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أظهرت فحوصات التصوير املقطعي التي أجراها ٌّ‬‫ْ‬
‫كل من حواس وسليم أن املومياء أعيد ترميمها بعناية‪ ،‬وكشفوا‬
‫أيضا عن ‪ 11‬قطعة من الذهب والكوارتز واملجوهرات بأشكال وألوان مختلفة‪ ،‬باإلضافة إلى حزام يتألف من ‪ 13‬خرزة‬
‫ذهبية‪ .‬كان ذلك اختراقا كبيرا‪ ،‬خاصة إذا علمنا أنه عندما حلل كارتر وفريقه مومياء توت عنخ آمون في عام ‪ ،0261‬فقد‬
‫أجروا هذه العملية جراحيا‪ ،‬وقسموا الجسد إلى أجزاء منفصلة لفحصها واكتشاف ما بداخلها‪ .‬لكن الوضع ّ‬
‫تغير اآلن كما‬
‫ُ‬
‫ظهر لك‬‫قال حواس‪" :‬بفضل التقنيات الحديثة‪ ،‬أصبح بإمكاننا اآلن كشف الستار عن وجه املومياء‪ ،‬بل ويمكننا أيضا أن ن ِ‬
‫التمائم الذهبية التي وجدناها في الداخل دون املساس بها"‪ ،‬وكأن هذه العملية املذهلة تتوسط العالقة بين املاض ي والحاضر‬
‫عن طريق تجميد لحظة من عمر الزمن‪.‬‬
‫ّ‬
‫بالطبع قد يفشل املسح الضوئي في توليد اإلحساس نفسه بالتجارب التي يحصلها اإلنسان بنفسه وحواسه‪ ،‬كتلك‬
‫اللحظة التي تتقد فيها أعيننا ويعترينا إحساس بالذهول والرهبة بمجرد رؤيتنا لش يء موجود منذ قديم األزل في صورته‬
‫الحقيقية‪ .‬لكن العديد من الباحثين قرروا حاليا أخذ خطوة أبعد من مجرد التصوير املقطعي‪ ،‬وبدأوا في استخدام البيانات‬
‫التي أظهرها املسح الرقمي‪ ،‬إلعادة خلق املشاهد في صورة مادية نابضة بتفاصيل رائعة باستخدام الطابعات ثالثية األبعاد‪.‬‬
‫يمكن اعتبار هذه العملية جسرا ممهدا يعبره عوام الناس ليصلوا إلى أسرار املاض ي التي أخضعتها التقنيات الحديثة أخيرا‬
‫لالستيعاب والتفسير‪ .‬في عام ‪ ،6101‬عندما رأى الخبراء أن مومياء توت عنخ آمون أضعف وأشد هشاشة من أن تسافر‬
‫لحضور أحد املعارض السياحية الدولية املتجولة‪ ،‬قرر املسؤولون طبع نسخة ثالثية األبعاد من مومياء امللك لتكون هناك‬
‫في املعرض‪ ،‬التي بدت حينها حقيقية وواقعية للغاية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ُ‬
‫الجميل في األمر أن عملية خلق ن َسخ طبق األصل ألجزاء الجسم التي يتعذر علينا الوصول إليها يمكن أن تساعد‬
‫أيضا في الدراسات العلمية‪ .‬في عام ‪ ،6109‬خرج الباحثون بنسخة ثالثية األبعاد لقلب إحدى املومياوات‪ ،‬وكانت غايتهم من‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫امل ّ‬
‫حنطون‪ .‬وفي عام ‪ ،6160‬طبع علماء املصريات في مانشستر باململكة املتحدة ن َسخا‬ ‫ذلك كله هو فهم كيف تعامل معها ِ‬
‫ُ‬
‫لعظام ثالثية األبعاد أجري عليها مسح ضوئي‪ ،‬للتعرف على أنواع العظام املوجودة داخل بعض مومياوات الحيوانات‬
‫املصرية القديمة‪ .‬استخدم كامبل برايس‪ ،‬أمين قسم آثار مصر والسودان في متحف مانشستر‪ ،‬هذه التقنية إلعادة خلق‬
‫توارت عن األنظار‪ُ ،‬ليسفر مسعاه عن مشهد ألربع جماجم لتماسيح قديمة‪ .‬يقول برايس‬ ‫ْ‬ ‫املزيد من املشاهد التي لطاملا‬
‫ّ‬
‫معلقا على ذلك‪" :‬لم تكن لتتمكن أبدا من بلوغ هذا املطلب العسير برؤية أشياء كهذه أو حتى التعامل معها مع التقنيات‬ ‫ِ‬
‫السابقة‪ ،‬ولكن خالل بضعة أجيال فقط‪ ،‬تحدث تغييرات ما كان ألحد أن يتخيلها‪ ،‬وبالفعل تبدل الوضع اآلن وأصبح‬
‫بإمكانك أن تشهد على ذلك كله باستخدام الطباعة ثالثية األبعاد‪".‬‬

‫فحص باألشعة املقطعية ملومياء مصرية من أجل التحقيق في تاريخها في مستشفى بوليكلينيكو في إيطاليا‪( .‬رويترز)‬

‫يقول إنريكو فيراريس‪ ،‬عالم املصريات وأمين املتحف املصري في تورين بإيطاليا‪ ،‬إن التكنولوجيا الجديدة يمكنها‬
‫أيضا أن تساعدنا على رؤية الحياة في مصر القديمة رؤية مختلفة‪ ،‬مشيرا إلى أن الخبراء على مر العصور ظلوا رازحين تحت‬
‫وطأة النظرة التقليدية تجاه األشياء‪ ،‬فلم يستثر انتباههم ش يء أكثر مما فعلت النصوص املكتوبة فقط‪ ،‬حيث يقول‪" :‬في‬
‫َّ‬ ‫العادة‪ ،‬يبذل الخبراء تركيزا أكبر على ما هو مكتوب على ش يء ما‪ ،‬وليس ماهية الش يء الذي ُ‬
‫صنع منه‪ .‬وبالتالي سلط هذا‬
‫النهج الضوء على املعتقدات الدينية املصرية‪ ،‬على غرار الخلود‪ ،‬واملومياوات‪ ،‬واملوت‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬ولم يكترثوا لألمور‬
‫األخرى‪ .‬غير أن العلم بات يلعب اآلن دورا مرشدا في تقديم نظرة إنسانية أشد واقعية وأحفل باملغزى عن هذه الحضارة‬
‫القديمة‪ ،‬مثل تقنيات التصنيع أو الطرق املختلفة التي َّ‬
‫تبناها الحرفيون أثناء العمل‪".‬‬
‫استعان فيراريس بالعلماء في جميع أنحاء العالم الستخدام تقنيات حديثة تشمل "القياس الطيفي الكتلي "‬
‫)‪ ،(Tandem mass spectrometry‬و"فلورية األشعة السينية )‪" (X-ray fluorescence‬إلجراء فحوصات جديدة على مئات‬

‫‪3‬‬
‫العناصر التي ُعثر عليها في عام ‪ 0212‬من مقبرة عمرها ‪ 1311‬عام لرئيس عمال رفيع الشأن ُيدعى "خا"‪ ،‬وزوجته ميريت‪،‬‬
‫ْ‬
‫وصلت دقة األدوات التي تبناها الفريق إلى درجة أنهم عندما حللوا صندوقا‬ ‫وتقع املقبرة بالقرب من األقصر في جنوب مصر‪.‬‬
‫مرسوما في املقبرة‪ ،‬تبين أن الفنان الذي رسم على هذا الصندوق استخدم نوعين من األحبار السوداء املختلفة‪ ،‬أحدهما‬
‫لتلوين املساحات الكبيرة‪ ،‬والنوع اآلخر للمسات النهائية‪ ،‬مثل تلوين النقاط والنقوش بأحجام وأشكال مختلفة‪ .‬وألن‬
‫ُ‬
‫اإلنسان ف ِطر على أن يجد لذة فريدة في الفهم وإخضاع كل ش يء لالستيعاب‪ ،‬يقول فيراريس إن مثل هذه التحريات‬
‫ُ‬
‫والفحوصات ت َع ُّد نقطة انطالق أساسية لفصل جديد في علم املصريات‪.‬‬

‫عوالم افرااضية‬
‫لم يقتصر الدور الذي لعبه هذا االتجاه الرقمي على مساعدة علماء املصريات في إعادة بناء املقابر والقطع األثرية‬
‫فحسب‪ ،‬بل ساعدهم أيضا على خلق نسخ كاملة من مناظر طبيعية زاخرة بالتفاصيل‪ .‬الستكمال هذا املشروع‪ ،‬جمعت‬
‫إيلين سوليفان من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز‪ ،‬البيانات من مصادر عديدة‪ ،‬منها الحفريات وصور من األقمار‬
‫الصناعية والخرائط الطبوغرافية إلنتاج نموذج ثالثي األبعاد في سقارة‪ ،‬عبارة عن مقبرة قديمة مترامية األطراف في جنوب‬
‫القاهرة‪ ،‬وترى سوليفان أن هذه هي الطريقة األمثل لرصد الطبيعة املتغيرة للموقع ذاته على مدار تاريخ مصر بأكمله ‪.‬‬
‫تطور مشهد املقبرة من مجرد مجموعة من املقابر املبعثرة املصنوعة من الطوب اللبن على حافة الصحراء في‬
‫األسرة األولى‪ ،‬نحو ‪ 1111‬عام قبل امليالد‪ ،‬إلى مشهد ضخم مليء باألهرامات واملعابد واملقابر التي استمرت حتى العصر‬
‫الروماني‪ ،‬أي منذ ما يقرب من ‪ 6111‬عام‪ .‬تقول سوليفان‪" :‬ال أعتقد أن أي شخص مهما بلغ عقله من ذكاء وتطور لديه‬
‫القدرة على أن يجعلك تتخيل مئات املباني املختلفة مصطفة معا في مشهد واحد يستوعبه عقلك كما تفعل التكنولوجيا‬
‫الحديثة‪ ،‬فضال عن أن إعادة بناء املشهد بتقنية ثالثية األبعاد تجربة تهدف إلى إطالق سراح عقلك بإتاحة السفر افتراضيا‬
‫املتغيرة للمكان ذاته في لحظات مختلفة من‬ ‫عبر الزمن‪ ،‬بحيث يمكن للمشاهدين أن يخوضوا تجربة االستمتاع باملشاهد ّ‬
‫التاريخ"‬
‫أتاح هذا النموذج أيضا لسوليفان اختبار أفكار جديدة على غرار إعادة تشكيل األصوات والروائح وتأثيرات‬
‫اإلضاءة‪ ،‬لتصبح املشاهد مفعمة ونابضة بالحياة‪ ،‬وتتوقع سوليفان أن تصبح هذه املشاهد االفتراضية أشد واقعية مع‬
‫ُ‬
‫تحسن التكنولوجيا‪ ،‬وبالفعل هذا ما يعمل عليه الباحثون حاليا‪ .‬قبل قرن من الزمان‪ ،‬أحيلت العديد من الكنوز التي‬
‫ُ‬
‫اكتشفها كارتر وأقرانه إلى املتاحف‪ ،‬واليوم يحلم علماء املصريات ببناء عوالم افتراضية تتيح لنا السير في شوارع مصر‬
‫ُ‬
‫القديمة‪ ،‬وتنعش وجداننا تجاه كل ش يء يحيط بنا‪ ،‬بدءا من مداعبة رائحة البخور ألنوفنا في املعابد الكبرى‪ ،‬وصوال إلى‬
‫إحساس القشعريرة الذي يخامرنا بمجرد دخولنا املقابر الباردة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬يساور بعض املتخصصين قلق من إمكانية أن يتخطى العلم حدوده ويلعب دورا أبعد مما يجب‪ .‬تتمثل‬
‫إحدى املشكالت األساسية على سبيل املثال في تصوير الرفات البشري القديم وأخذ عينة منه للبحث عن أدلة على األمراض‬
‫أو معرفة سبب الوفاة‪ .‬رغم أن تقنيات التصوير باألشعة السينية واألشعة املقطعية واختبارات الحمض النووي كانت دائما‬
‫الوقود الذي يغذي األفالم الوثائقية والكتب األكثر مبيعا‪ ،‬فإن العديد من العلماء مع ذلك أعربوا عن شكوكهم إزاء دقة‬
‫النتائج‪ ،‬ومن ضمن هؤالء العلماء كامبل برايس‪ ،‬أمين قسم آثار مصر والسودان في متحف مانشستر الذي أعلن قائال‪:‬‬
‫تلوح بها حتى يتكشف لك عالم املومياوات‬ ‫ّ‬
‫"تكمن املشكلة الرئيسية في اعتقاد الناس أن العلم ما هو إال عصا سحرية‪ ،‬ما إن ِ‬
‫بكل خباياه‪.‬‬
‫لكن من الناحية العملية‪ ،‬ال تسير األمور بهذه البساطة‪ ،‬إذ ليس من اليسير أبدا تحليل البقايا البشرية الهشة‬
‫التي يعود تاريخها إلى آالف السنين‪ ،‬التي مرت بعملية عنيفة من التحنيط‪ .‬يتذكر برايس النقاشات التي دارت بين األطباء‬

‫‪4‬‬
‫وعلماء اآلثار عندما أجروا على املومياوات املحفوظة في متحف مانشستر تصويرا باألشعة املقطعية في أحد املستشفيات‬
‫يتمكن املتخصصون من تحديد ماهية ما يرونه‪ .‬غير أن هناك مسألة أخالقية أخرى حول‬ ‫َّ‬
‫املحلية لألطفال‪ ،‬وحينها لم‬
‫تقديم نتائج املسح إلى الجمهور‪ ،‬فهل تساءلنا يوما عما إذا غالب املصريون القدماء شعورا بعدم االرتياح ملشاركة مثل هذه‬
‫املعلومات مع الناس‪ ،‬وأن ما يفعله الباحثون اآلن ما هو إال ُمنغصات تقض مضاجعهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ُي َع ُّد أقرب دليل على ذلك هو ما تفض ي به الكتابة الهيروغليفية‪ ،‬والصور التي توضح معتقداتهم ورغبتهم العارمة‬
‫بأن يتذكرهم الناس فيما بعد باعتبارهم ملوكا أقوياء مفعمين بالصحة والعافية‪ ،‬ومن هنا سعوا لخلق عالم من الذكريات‬
‫تقل فيه احتمالية أن يكونوا بشرا تعثروا بأذيال املرض وطالتهم أوجه القصور قبل أن يلفظوا أنفاسهم األخيرة‪ .‬ولهذه‬
‫األسباب‪ ،‬قرر معرض املومياوات الذهبية القادم‪ ،‬الذي يستكشف املعتقدات املصرية القديمة حول اآلخرة‪ ،‬عدم عرض‬
‫أي أشعة مقطعية للمومياوات‪ .‬ينضم إلى قائمة العلماء املهتمين بهذا الشأن عالم املصريات البريطاني نيكوالس ريفز‪ ،‬مؤلف‬
‫كتاب بعنوان "توت عنخ آمون الكامل)‪ ،" (The Complete Tutankhamun‬الذي يصب ُجل تركيزه على إمكانات وحدود‬
‫التكنولوجيا الجديدة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وجه ريفز دراسته حول عمليات إعادة البناء االفتراضية للجدران املطلية لغرفة دفن توت عنخ آمون‪ ،‬التي أعيد‬
‫بناؤها باستخدام عمليات املسح الضوئي بالليزر والصور الرقمية‪ .‬نفذت هذه العملية شركة "فاكتوم آرت ‪" (Factum‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫معلقا على ذلك‪" :‬إنه ألمر رائع أن تشهد على عملية بديعة كهذه‪،‬‬ ‫)‪ ،Arte‬وهي شركة فنية متخصصة في مدريد‪ .‬يقول ريفز ِ‬
‫َّ‬
‫إذ ال يهم إلى أي مدى يصل ارتفاع الرسومات على الحائط‪ ،‬ألنك في جميع األحوال ستتمكن من رؤية كل التفاصيل التي‬
‫أبدعتها الفرشاة‪ .‬وتصل دقة هذه العملية لدرجة أنك لن تستمتع باملشهد وأنت تراه على أرض الواقع بقدر املتعة التي‬
‫ستحصلها من املشهد االفتراض ي املفعم بالتفاصيل الدقيقة وأنت جالس على مكتبك ال تحرك ساكنا‪".‬‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫توصل ريفز خالل بحثه إلى شقوق غير مرئية في جدران املقبرة‪ ،‬ما يشير إلى وجود مداخل خفية‪ ،‬كما خلص إلى‬
‫أن العديد من املشاهد املرسومة لجنازة توت عنخ آمون طرأ عليها تغيير‪ ،‬ويعتقد أن الرسومات األصلية أظهرت توت عنخ‬
‫آمون أثناء دفنه مللكة مصرية سابقة‪ ،‬وهي امللكة نفرتيتي‪ .‬في عام ‪ ،6101‬خرج ريفز بفرضية مثيرة لالنتباه‪ ،‬وهي أن وراء‬
‫مقبرة توت عنخ آمون الصغيرة نسبيا واملكونة من أربع غرف‪ ،‬تقع على األقل غرفة واحدة أخرى‪ ،‬وهي مكان دفن امللكة‬
‫نفرتيتي‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ربما يرسم القدر خطة ما ال ينسج فصولها ولم ُي َ‬
‫سدل الستار بعد على فصلها األخير‪ ،‬فقد ال يكون‬ ‫ز‬
‫اكتشاف كارتر املذهل قبل قرن من الزمان هو آخر فصول الرواية‪ ،‬وال تزال هناك مقبرة ملكية أخرى أشد ثراء‪.‬‬

‫حداد التكنولوجيا‪ ..‬اعمق التاريخ‬


‫قد تعتقد أن التركيز الشديد على األدوات العلمية هو الحل األمثل‪ ،‬لكنه مع األسف ال يخلو من املشكالت أيضا‪.‬‬
‫فمنذ عام ‪ ،6101‬حاولت عدة ِف َرق اختراق جدران مقبرة توت عنخ آمون واستكشاف خباياها باستخدام رادار مخترق‬
‫ستخدم نبضاته لتصوير األجسام املدفونة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ظل اكتشاف الغرف املحفورة في عمق الصخور أمرا غاية‬ ‫لألرض‪ُ ،‬ت َ‬
‫َّ‬
‫في الصعوبة‪ ،‬ولم يتمكن الباحثون من االتفاق على كيفية تفسير البيانات‪ ،‬وانتهى املطاف بنفي معظمهم لفكرة وجود مقبرة‬
‫امللكة نفرتيتي في هذا املكان‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يرى ريفز أن العلم التقني في املطلق ينبغي أال يتفوق ببساطة على املتخصص في هذا‬
‫املجال‪ ،‬كعلم املصريات‪ ،‬بقوله‪" :‬ال يجب افتراض أن ما توصلنا إليه إلى اآلن هو آخر فصول الرواية ما دامت هناك أدلة‬
‫أثرية ال يمكن تجاهلها‪".‬‬
‫في سبتمبر‪/‬أيلول من العام املاض ي ‪ ،6166‬أبلغ ريفز عن دليل آخر توصل إليه من الرسومات الجدارية‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬
‫اكتشافه أن بعض الكتابات الهيروغليفية طرأ عليها تغييرات في العصور القديمة‪ .‬فرغم أن الرسومات الحالية تصور امللك‬
‫"آي" خليفة توت عنخ آمون وهو يدفنه‪ ،‬فإن الرسومات األصلية صورت قبل ذلك امللك الشاب توت عنخ آمون وهو يدفن‬

‫‪5‬‬
‫شخصا آخر في املقبرة ذاتها‪ .‬يرى ريفز أنه يمكن اختبار فرضيته بحفر ثقب صغير في أحد جدران املقبرة وإدخال كاميرا‬
‫للتحري عما بداخلها‪ .‬ورغم أن هذه الخطوة ال يمكن تنفيذها إال بموافقة السلطات‪ ،‬فإنها ال تزال مسألة غير محسومة‬
‫بعد‪.‬‬
‫مع تحسن التكنولوجيا طوال الوقت‪ ،‬يرى بعض الباحثين أن البيانات التي حصلت عليها البشرية باستخدام‬
‫قيمة في حال تعرضت االكتشافات األثرية إلى أي ضرر‪ .‬يرى فيراريس أيضا أن األجسام‬ ‫أدوات علمية غير جراحية هي خطوة ّ‬
‫املادية مهما بلغت قوتها ال يمكنها أن تتحدى الزمن الذي باتت في حضرته على درجة أصيلة من الضعف والهشاشة‪ ،‬ما يعني‬
‫عرضة دائما لخطر الكوارث الزاحفة مثل الفيضانات أو الحرائق أو عمليات النهب القادرة‬ ‫أن البقايا املادية من املومياوات ُم ّ‬
‫على التهام صفحة كاملة من تاريخ ثري‪.‬‬
‫في السياق ذاته‪ ،‬يقول فيراريس‪" :‬علينا أن نبذل ما بوسعنا للحفاظ على هذه األشياء في صورتها املادية‪ ،‬ولكن ربما‬
‫ليس هذا هو الهدف النهائي"‪ .‬بمعنى أن الزمن لو أمهلنا قليال للحفاظ على هذه البقايا املادية‪ ،‬فلن يستمر ذلك أبد الدهر‪،‬‬
‫وهنا يظهر دور املعلومات الرقمية التي ال يمكن اقتحام حصنها املنيع بسهولة‪ ،‬وهو ما ُي َع ُّد "نوعا من التأمين" ال بد أن نبذل‬
‫جهودا في سبيل دراسته وتقديره في املستقبل بغض النظر عما سيؤول إليه مصير األجسام املادية‪ .‬لذا فالهدف النهائي من‬
‫ذلك كله هو "اغتنام املعرفة" أو اإلملام بكل ما يتعلق ببقايا األجسام املادية‪ ،‬ليساعدنا فيما بعد على رؤية التاريخ رؤية‬
‫شاملة وغنية‪َ .‬ومن يعلم! فقد يتفق كارتر‪ ،‬الذي أمض ى ‪ 01‬سنوات في تسجيل العناصر التي وجدها في مقبرة توت عنخ آمون‬
‫بدقة‪ ،‬مع هذا الرأي‪.‬‬

‫مقبرة توت عنخ آمون (شترستوك)‬

‫‪6‬‬
‫هل نعرف الحقيقة؟‬
‫رغم كل هذه االكتشافات‪ ،‬فإننا إذا ما أجرينا غوصا عميقا في هذه الشخصيات والكشوف التاريخية‪،‬‬
‫َ‬
‫وقاس بقدر ما حظيت به مومياء امللك توت عنخ آمون‪ .‬في نوفمبر‪/‬تشرين‬ ‫ٍ‬ ‫فسنكتشف أن ًّأيا منها لم يحظ بفحص شامل‬
‫ّ‬
‫الثاني عام ‪ ،0261‬فك عالم التشريح "دوغالس ديري" أغلفة املومياء‪ ،‬وبدأ في إزالة الضمادات املتفحمة واملتهالكة‪ ،‬ثم قطع‬
‫الجسد لنزع مجوهراته‪ ،‬واستخدم سكينا ساخنة لفصل الجمجمة عن القناع الذهبي‪ .‬خلص ديري إلى أن الفرعون مات في‬
‫ريعان شبابه في سن الثامنة عشرة تقريبا‪ ،‬وامتلك رأسا كبيرا‪ ،‬وندبة في خده األيسر‪ ،‬ولم يظهر سبب واضح للوفاة‪.‬‬
‫في عام ‪ ،0229‬قرر عالم التشريح رونالد هاريسون من جامعة ليفربول باململكة املتحدة تصوير املومياء باألشعة‬
‫ترققا في جمجمة توت عنخ آمون‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫وخمن‬ ‫السينية إلنتاج فيلم وثائقي لـ"بي بي س ي ‪" (BBC).‬لكن أثناء هذه العملية‪ ،‬الحظ‬
‫َّ‬
‫أنه قد يكون ناتجا عن ضربة في مؤخرة الرأس‪ ،‬وهو تخمين أدى إلى اندالع العديد من فرضيات القتل‪ ،‬ولكن تبين في النهاية‬
‫أنه ناتج عن عملية التصوير باألشعة السينية‪ .‬أما في عام ‪ ،6111‬تعاونت ناشيونال جيوغرافيك مع فريق من العلماء بقيادة‬
‫عالم اآلثار املصري واألمين العام للمجلس األعلى لآلثار زاهي حواس لتصوير املومياوات امللكية بما فيها توت عنخ آمون‬
‫وخمنوا أن هذا الكسر قد‬ ‫باألشعة املقطعية‪ .‬أظهرت الصور ثالثية األبعاد وجود كسر في عظمة الفخذ األيسر للملك‪َّ ،‬‬
‫يكون ناتجا عن حادث سقوطه من العربة‪.‬‬
‫في عام ‪ ،6101‬أفاد الفريق باالستعانة بعينة من الحمض النووي أن توت عنخ آمون كان ُمصابا باملالريا‪ ،‬وأن‬
‫تبين أن قدمه كانت ُمشوهة‪ .‬في النهاية‪،‬‬ ‫والديه كانا أقرباء‪ .‬وحينما أعادوا تحليل فحوصات التصوير باألشعة املقطعية‪َّ ،‬‬
‫نجحوا في تقديم نسخة جديدة مريضة وعاجزة من امللك الشاب‪ .‬وفي الوقت الذي ألهمت فيه هذه الدراسات املزيد من‬
‫األفالم الوثائقية‪ ،‬أثارت حفيظة علماء آخرين‪ ،‬وانتقدوها مشككين في دقة نتائج الحمض النووي التي ربما تغيرت جراء‬
‫التلوث‪ ،‬أو أن التصوير املقطعي فشل في التمييز بين اإلصابات أو األمراض التي حدثت قبل وفاة امللك وبين األضرار التي‬
‫ُ‬
‫ألحقها الزمن بالجسد منذ ذلك الحين‪ .‬ورغم ذلك استمرت التكهنات حول هذا امللك‪ ،‬آخرها الفرضيات التي تشير إلى أن‬
‫توت عنخ آمون كان مصابا بالصرع‪ ،‬أو أن فرس النهر هاجمه وطالته إثر ذلك يد املوت‪ ،‬فأسلم الروح في النهاية‪.‬‬

‫‪—————————————————————————————-‬‬
‫هذا جزء من املقال مترجم عن ‪New Scientist‬‬
‫ترجمة ‪:‬سمية زاهر‪ .‬موقع ميدان‪ ،‬الجزيرة‬

‫‪7‬‬

You might also like