Professional Documents
Culture Documents
اإلشكال المؤطر للمحور :ما هي نتائج تطور التقنية على الطبيعة وعلى اإلنسان؟ وهل استطاع اإلنسان
أن يسيطر على الطبيعة والتقنية أم أن هذه السيطرة انقلب عليه؟
مستوى الفهم:
إذا كانت التقنية هي مجموع الوسال واألدوات التي يخترعها اإلنسان اعتمادا على العلم ،والتي تهدف
إلى توفير خدمات مختلفة لإلنسان وتساعده على التغلب على جوائح الطبيعة وعلى األمراض ومظاهر
النقص وتمكنه من تقليص المسافات واختصار األزمة وتقريب البعيد إلى غير ذلك من الفوائد ،فإن
التطور الهائل الذي واكب التقنية الحديثة قلب المعادلة ،فمع بداية العصر الحديث راودت اإلنسان فكرة
السيطرة على الطبيعة ،قد عبر فرانسيس بيكون عن هذه الرغبة في عبارته الشهيرة " ال يمكن السيطرة
على الطبيعة إال بالخضوع لها والخضوع يقتضي فهمها عن طريق اكتشاف القوانين التي تحكمها وابتكار
األدوات التقنية األولية وصنع اآلالت التقنية الحديثة .كل ذلك يجعلنا أمام مجموعة من التساؤالت:
ما هي أبرز نتائج التطور التقني على الطبيعة واإلنسان على حد سواء؟ هل أفضى التطور التقني
والعلمي إلى تحرير اإلنسان أم إلى استعباده ؟ أال يشكل التطور التقني مصدر خطر ليس على وجود
اإلنسان فحسب ،وإنما على كل مظاهر الحياة؟
مستوى التحليل:
لإلجابة على التساؤالت المطروحة ،يقترح ديكارت أطروحة تقوم على أساس ضرورة تجاوز الفلسفة
النظرية السكوالئية ( المدرسية) ألنها فلسفة عقيمة جوفاء ال فائدة منها وال تقدم لإلنسان أية منافع عملية،
ويدعو في المقابل إلى تبني فلسفة عملية عملية تجعلنا سادة على الطبيعة ومالكين لها ،إذ تؤدي إلى
تحسين ظروف حياتنا ووجودنا.
وفي بناء هذه األطروحة وظف ديكارت مجموعة من المفاهيم ،أبرزها مفهوم الفلسفة النظرية،
والمقصود بها الفلسفة المدرسية ،أي تلك الفلسفة المسيحية التي قامت على أساس شرح نصوص الكتاب
1
المقدس واجترار الكتابات األرسطية ،فهي بالنسبة لديكارت فلسفة ال فائدة منها ،ألنها ال تؤدي إلى خدمة
غايات عملية حياتية .لذلك يدعونا إلى تجاوزها واستبدالها بفلسفة عملية ،أي فلسفة قائمة على العلم
الطبيعي والتي تستند إلى التقنية كأداة لتملك الطبيعة والتحكم في مقدراتها ومواردها ،فهذه الفلسفة تتمتع
بالقدرة على المزاوجة بين الرياضيات والفيزياء عبر ترييض الظواهر الطبيعية ( التعبير عنها بصيغ
رياضية) من أجل معرفة قوانينها وبالتالي تحويلها إلى ما يخدم مصلحة البشر .إن هذه الفلسفة تتأسس
على العلم الطبيعي ،والمقصود به على ليس العلم الذي يتند إلى سلسلة من التجارب واالختبارات كما قد
يوحي لنا المفهوم للوهلة األولى بل العلم الذي يمزج في دراسته لظواهر الطبيعة بين المنطق والرياضيات
من أجل الوصول إلى أقصى درجات اليقين.
وللدفاع عن تصوره استعمل ديكارت مجموعة من اآلليات الحجاجية ،فقد انطلق ديكارت من ضرورة
اإلفصاح عن مبادئ العلم الطبيعي لما لهذا العلم من نجاعة وفائدة في حل مجموعة من المعضالت،
ومن ثمة التخلي عن مبادئ الفلسفة المدرسية المسيحية التي كانت توظف المنطق األرسطي للدخول في
جداالت نظرية ال طائلة من وراءها .لذلك فالحل يكمن في الفلسفة العملية والتي يستنتج صاحب النص
في األخير أنها وحدها القادرة على جعلنا سادة على الطبيعة ومالكين لها ،بل وحفظ الصحة اإلنسانية
باعتبارها الغاية األسمى لكل البشر ،وأساس كل الخيرات التي يسعى إليها اإلنسان في هذه الحياة .لكن
إلى أي حد يمكن القبول بهذه األطروحة؟
مستوى المناقشة:
تتمتع أطروحة ديكارت بقيمة فلسفية تتمثل أساسا في دفاعها عن الفلسفة العملية والعلم الطبيعي فهما
اللذان يضعان مبادئ قابلة للتطبيق وبالتالي تحقيق المنفعة العملية .كما تبرز قيمة موقف ديكارت في
نقده للفلسفة النظرية المدرسية ،التي سادت خالل مرحلة العصور الوسطى ،والتي جعلت هذه الحقبة،
حقبة تكرار واجترار وليس إبداع وتجديد .غير أن هذه األطروحة في المقابل ،إذ تعلي من قيمة الفلسفة
العملية وتدافع عن السيادة على الطبيعة ،فهي تتصور الطبيعة كمستودع للمعادن ،وبالتالي فهي تعطي
الحق في استباحتها دون النظر في النتائج الوخيمة لهذه السيطرة.
إذا كان هذا الموقف الديكارتي يدافع عن فكرة السيطرة على الطبيعة ،على اعتبار أن هذه السيطرة هي
الكفيلة بتحقيق رفاهية اإلنسان ،فإنها هناك في المقابل من يدعو إلى إعادة النظر في عالقة التقنية
بالطبية ،وينادي بضرورة وضع أخالق توافق بين احتياجات اإلنسان وحماية الوسط الطبيعي ،حيث يمثل
هذا الموقف الفيلسوف األلماني هانز يوناس.
2
ففي كتابة المعنون " مبدأ المسؤولية" يقر هانز جوناس بأنه إذا كان العلم (بروميثيوس) قد شكل لحظة
أساسية وشرطا لبقاء اإلنسان ،فقد تحول بروميثيوس مع مرور الزمن إلى " لعنة " وخطر ينذر بفناء
اإلنسان .يتمثل هذا الخطر في الممارسات العلمية والتقنية التي باتت تنتهك الطبيعة وتنزع عنها طابعها
السحري ،لتحولها إلى مجرد مادة قابلة لالستغالل .وال يتوقف األمر عند هذا الحد ،بل يصل إلى حد
التالعب بالجينوم البشري ،وما يمثله من خطر على طبيعة اإلنسان وعلى النوع اإلنساني .لذلك يطرح
هانز يوناس ما يسميه "مبدأ المسؤولية" والمسؤولية هنا ليست قانونية عاجلة ،وليست مسؤولية دينية مؤجلة
( الحساب والعقاب في الدار اآلخرة) بل مسؤولية أخالقية إزاء األجيال المقبلة وإزاء مستقبل الكوكب
والجنس البشري .إنها أخالق تقوم على الخوف من اندثار وفناء نوعنا البشري ،ومن ثمة فهذه األخالق
هي التي من شأنها أن تجعل من ممارسات العلم والتقنية ال تتناقض مع وجود مستقبل آمن من األخطار
واألمراض بالنسبة لألجيال القادمة.
أما ميشال سير فينتقد ميشيل سير الموقف الديكارتي المبني على منطق التحكم في الطبيعة ،هذا
الموقف المرتبط بعصر الحديث والذي بشر بمعرفة الطبيعة تماما كما يعرف المهندس اآللة التي صنعها.
لقد كان من نتائج هذا االتجاه انتشار نوع من العنف الموضوعي كما سماه "ميشيل سير " ليس تجاه
الطبيعة فحسب بل اتجاه اإلنسان نفسه ،وهكذا إذا التحكم في الطبيعة الذي دعا إليه اإلنسان أصبح وباال
على اإلنسان نفسه ،حيث تحولت الطبيعة ضده ،فأصبحت هي التي تهدده ،وتسعى إلى التحكم فيه
القديم. العصر لإلنسان بالنسبة الشأن كان كما محليا وليس عالميا تملكا وتملكه
لذلك أصبح ملحا اآلن العمل على التحكم في تحكمنا كما يقول ميشيل سير حتى ال تتحول السيادة التي
بشر بها ديكارت سابقا إلى عبودية في وقتنا الحاضر.
مستوى التركيب:
يبدو أن التطور التقني قد طرح مواقف وتصورات متباينة ،ما بين من يعتبره شرطا ضروريا لتخليص
اإلنسان من مظاهر النقص وبالتالي تحقيق رفاهيته وسعادته ورفعه إلى منزلة السيادة على الطبيعة ،ومن
يرى في المقابل بأن هذا التقدم خط ار ينذر باندثار الطبيعة وتفككك الجنس البشري ومن ثمة يقترحون
وضع ضوابط قانونية وأخالقية للبحث العلمي والممارسات التقنية.
وعليه ،إذا كانت التطورات التقنية قد حققت لإلنسان مجموعة من المكاسب ،وجعلته يتغلب على
مجموعة من األمراض ويقلص المسافات المتباعدة ،ويحقق مجموعة من االحتياجات التي كانت تشكل
بالنسبة له في القديم أضغاث أحالم فإن هذا التطور التقني البد من أن يكون محكوما بضوابط خاصة
3
عندما يتعلق األمر بضرورة المحافظة على الوسط الطبيعي وعلى طبيعة اإلنسان كما خلقه هللا دون تغيير
أو تبديل.
4